عقيدة المسلم في ضوء الكتاب والسنة

سعيد بن وهف القحطاني

عقيدة المسلم في ضوء الكتاب والسُّنَّة المفهوم، والفضائل، والمعنى، والمقتضى، والأركان، والشروط، والنواقص، والنواقض تأليف الفقير إلى الله تعالى د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني الجزء الأول

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذا كتاب في: ((عقيدة المسلم))، بيَّنت فيه كل ما يحتاجه المسلم من العقدية الصحيحة، وما يقوِّيها، ويزيدها رسوخاً في النفوس، وأوضحت ما يضاد وينقض هذه العقيدة، وما يضعفها، وينقصها في النفوس، وقرنت ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، فما كان من صواب فمن الله الواحد المنَّان، وما كان من خطأ أو تقصير، فمني ومن الشيطان، والله تعالى بريء منه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقد استفدت كثيرا من شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله، ورفع منزلته، ومن غيره من المحققين الراسخين في العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام ابن القيم، وأئمة الدعوة ¬

_ (¬1) اقتداء بما قاله عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسمِّ صداقاً حتى مات، برقم 2116، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 397، وانظر: كتاب الروح، لابن القيم، ص 30.

السلفية، كشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ومن سار على نهجهم، كالعلامة الجهبذ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وتلميذه العلامة محمد بن صالح العثيمين، واستفدت كثيراً في الحكم على الأحاديث من العلامة المحدث الشامي محمد ناصر الدين الألباني، رحمة الله عليهم جميعاً، وغفر لهم. وقد كان أصل هذا الكتاب رسائل نشرت بين الناس في موضوعات عدة في العقيدة، فرأيت أن من المناسب أن تُضمّ هذه الرسائل في كتاب واحد على النحو الآتي: الرسالة الأولى: ... العروة الوثقى: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله الرسالة الثانية: ... بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ولزوم اتباعها الرسالة الثالثة: ... اعتقاد الفرقة الناجية في الإيمان، وأسماء الله وصفاته (¬1) الرسالة الرابعة: ... شرح أسماء الله الحسنى الرسالة الخامسة: ... الفوز العظيم والخسران المبين الرسالة السادسة: ... النور والظلمات في الكتاب والسنة الرسالة السابعة: ... نور التوحيد وظلمات الشرك الرسالة الثامنة: ... نور الإخلاص وظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة الرسالة التاسعة: ... نور الإسلام وظلمات الكفر الرسالة العاشرة: ... نور الإيمان وظلمات النفاق الرسالة الحادية عشرة: ... نور السنة وظلمات البدعة الرسالة الثانية عشرة: ... قضية التكفير بين أهل السنة وفرق الضلال الرسالة الثالثة عشرة: ... تبريد حرارة المصيبة الرسالة الرابعة عشرة: ... الاعتصام بالكتاب والسنة ¬

_ (¬1) وهذه الرسالة عبارة عن شرح ميسر للعقيدة الواسطية، وقد نشرت بعنوان: ((شرح العقيدة الواسطية)) في رسالة لطيفة.

وأسأل الله أن يجعل هذا العمل القليل مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، مقرِّباً: لمؤلفه، وقارئه، وطابعه، وناشره من الفردوس الأعلى أعلى جنات النعيم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه سميع، قريب، مجيب، أكرم مأمول، وخير مسؤول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده، ورسوله الأمين، محمد بن عبد الله، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر ضحى يوم الإثنين من شهر صفر 18/ 2/1429هـ‍

الرسالة الأولى: العروة الوثقى: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله

الرسالة الأولى: العروة الوثقى: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله الفصل الأول: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله المبحث الأول: مكانة ومنزلة لا إله إلا الله لا إله إلا الله: كلمةٌ قامت بها الأرضُ والسموات، وخُلقت لأجلها جميع المخلوقات، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (¬1)، [ومن أجلها خلقت الدنيا والآخرة]، وبها أرسل الله رسلَهُ، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه؛ قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (¬2)؛ ولأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، [وفي شأنها تكون الشقاوة والسعادة، فهي منشأُ الخلق والأمر، والثواب والعقاب [وبها تؤخذ الكتب باليمين أو الشمال، ويثقل الميزان أو يخف، وبها النجاة من النار بعد الورود، وبعدم التزامها البقاء في النار] وهي الحقُّ الذي خلقت له الخليقة، [وبها أخذ الله الميثاق] وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب [يوم التلاق]، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نُصِبتِ القِبلةُ، وعليها أُسِّسَتِ الملة؛ وهي حقُّ الله على جميع العباد، قال - صلى الله عليه وسلم -: (( ... حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)) (¬3)، [وهي أعظم نعمة أنعم ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 56. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 25. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب اسم الفرس والحمار، رقم 2856، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، رقم 30.

الله بها على عباده المؤمنين إذ هداهم إليها]، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وبها يُعصم الدم والمال، ومن أجلها جُرِّدت سيوف الجهاد، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)) (¬1)، وهي أول ما يجب أن يُدعى إليه. قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حينما بعثه إلى اليمن: ((إنّك تَقْدَمُ على قومٍ أهلِ كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله)) وفي رواية: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله .. )) (¬2). [وهي أصل الدين وأساسه، ورأس أمره وساق شجرته، وعمود فسطاطه، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)) (¬3)، وهي العروة الوثقى، وهي كلمة الحق، وكلمة التقوى، وهي القول الثابت، والكلمة الطيبة، وأعظم الحسنات]، وشهادة الحق، وكلمة الإخلاص، ودعوة الحق، وأفضل الذكر، وأفضل ما قاله النبيون، وهي أفضل الأعمال، وتعدل عتق الرقاب، وتفتح لقائلها أبواب الجنة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}، برقم 25، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، برقم 22. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، رقم 1458، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم 19. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب (دعاؤكم إيمانكم)، رقم 8، ومسلم في كتاب الإيمان، باب أركان الإسلام ودعائمه العظام، برقم 16.

الثمانية، وهي الكلمة العظيمة التي عنها يُسأل الأولون والآخرون فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يُسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فجواب الأولى: بتحقيق ((لا إله إلا الله)): معرفةً، وإقراراً وعملاً، وجواب الثانية: ((أن محمداً رسول الله)): معرفةً، وإقراراً، وانقياداً، وطاعة (¬1)؛ لأنه عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله الله رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين، فهدى الله به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، [وفتح به أعيناً عُمياً، وقلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، وافترض على العباد طاعته، ونصرته وإعانته، وتوقيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسدَّ الله دون جنته الطرق فلن تفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذِّلّةَ والصَّغار على من خالف أمره، وبحسب متابعته - صلى الله عليه وسلم - تكون الهداية والفلاح والنجاة، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه: الهدى والأمن، والفلاح والعزة، والكفاية والنصرة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه: الذِّلةُ والصَّغار، والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: زاد المعاد، 1/ 34، ومعارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، 2/ 410 - 413، وكلمة الإخلاص وتحقيق معناها للحافظ ابن رجب الحنبلي، ص49 - 51. (¬2) زاد المعاد لابن القيم، 1/ 34 - 36 بتصرف. وانظر: الشفاء في حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 3.

المبحث الثاني: معنى لا إله إلا الله

المبحث الثاني: معنى لا إله إلا الله معنى ((لا إله إلا الله)): لا معبود بحق إلا الله (¬1) فالحق أن معنى كلمة التوحيد: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ} (¬2)، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (¬3)، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (¬4)، {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (¬5)، {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬6)، {مَا اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} (¬7)، {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (¬8)، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ ¬

_ (¬1) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص73، وفتح المجيد، ص47، ومعارج القبول، 2/ 416، وتحفة الإخوان لابن باز، ص23، والأصول الثلاثة وحاشيتها لابن القاسم، ص50، والأصول الثلاثة وحاشيتها لابن عثيمين. انظر فتاوى ابن عثيمين، 6/ 66. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 18. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 25. (¬4) سورة النحل، الآية: 36. (¬5) سورة الزخرف، الآية: 45. (¬6) سورة الحج، الآية: 62. (¬7) سورة المؤمنون، الآية: 91. (¬8) سورة الأنبياء، الآيتان: 21 - 22.

هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬1)، {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً *سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} (¬2)، {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3)، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬4)، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬5)، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّموَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلاّ غُرُورًا} (¬6)، {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّموَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬7)، {قُلْ مَن رَّبُّ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ الله قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 163. (¬2) سورة الإسراء، الآيتان: 42 - 43. (¬3) سورة المائدة، الآية: 73. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 64. (¬5) سورة الزمر، الآية: 38. (¬6) سورة فاطر، الآية: 40. (¬7) سورة الأحقاف، الآية: 4.

دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لله شُرَكَاءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬1)، {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (¬2)، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ الله وَإِنَّ الله لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬3). وهذه الآيات السابقة وغيرها من الآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى تبيّن أن الله هو المعبود بحق وحده لا شريك له ولا رب سواه، فاتضح أن معنى ((الإله)) (¬4) هو المعبود؛ ولهذا قال قوم هود: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (¬5)، ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكفار قريش: ((يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) (¬6)، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (¬7)؛لأنهم قد اعتادوا عبادة الأصنام، والأوثان، والأولياء، والأشجار، والقبور، والذبح لهم، والنذر لهم وطلب ¬

_ (¬1) سورة الرعد، الآية: 16. (¬2) سورة ص، الآيتان: 65 - 66. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 62. (¬4) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص73. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 70. (¬6) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، برقم 964، والطبراني في معجمه الكبير، برقم 4582، وأحمدفي المسند، 3/ 492، 4/ 341، والحاكم في المستدرك، 1/ 15، وابن حبان كما في الموارد، (5/ 293 - 294، برقم 1683). (¬7) سورة ص، الآية: 5.

قضاء الحاجات وتفريج الكروب فاستنكروا هذه الكلمة؛ لأنها تبطل آلهتهم ومعبوداتهم من دون الله تعالى (¬1). {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ الله يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} (¬2). فتضمنت كلمة لا إله إلا الله أن ما سوى الله تعالى ليس بإله وأن إلهية ما سواه من أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، فتضمنت هذه الكلمة نفي الإلهية عما سواه، وإثباتها له وحده لا شريك له، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه إلهاً واحداً والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهاً ... وقد دخل في الإلهية جميع أنواع العبادة الصادرة عن تألّه القلب لله: بالحب والخضوع، والانقياد له وحده لا شريك له (¬3)؛ لأنه الإله الحق الذي تألهه القلوب: محبةً وإجلالاً، وإنابةً، وإكراماً، وتعظيماً، وذلاً، وخضوعاً، وخوفاً، ورجاءً، وتوكلاً (¬4). فيجب إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة: كالدعاء، والخوف، والمحبة، والتوكل، والإنابة، والتوبة، والذبح، والنذر، والسجود، والطواف، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والاستعانة، والاستغاثة، والاستعاذة، وجميع أنواع العبادة، وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، 4/ 5. (¬2) سورة الصافات، الآيتان: 35 - 36. (¬3) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص73. (¬4) انظر: فتح المجيد، ص46.

المبحث الثالث: أركان لا إله إلا الله

الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة (¬1). فيجب صرف ذلك كله لله وحده لا شريك له، فمن صرف شيئاً مما لا يصلح إلا لله من العبادات لغير الله تعالى فهو مشرك ولو نطق بـ ((لا إله إلا الله)) إذا لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص (¬2). المبحث الثالث: أركان لا إله إلا الله الركن الأول: النفي: وهو نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى من جميع المخلوقات كائناً من كان. الركن الثاني: الإثبات: وهو إثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه فهو الإله الحق وما سواه من الآلهة باطل (¬3)، {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬4). وقد أعرب العلماء كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله)) فقالوا: ((لا)) نافية للجنس، و ((إله)) اسمها مبني على الفتح، وخبرها محذوف تقديره، ((حق)) أي: لا إله حق. إلا الله: استثناء من الخبر المرفوع (¬5) فـ ((لا إله إلا الله)) نافياً لجميع ما يعبد من دون الله، فلا يستحق أن يعبد. ((إلا الله)) ¬

_ (¬1) انظر: الأصول الثلاثة لمحمد بن عبد الوهاب وحاشيتها لابن القاسم، ص34. (¬2) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص74. (¬3) انظر: فتح المجيد، ص47،وتيسير العزيز الحميد، ص77، ومعنى لا إله إلا الله للعلامة صالح بن فوزان، ص16. (¬4) سورة لقمان، الآية: 30. (¬5) انظر: معنى لا إله إلا الله للعلامة صالح الفوزان، ص16، وحاشية ثلاثة الأصول للعلامة ابن عثيمين ضمن فتاواه، 6/ 66.

المبحث الرابع: فضل لا إله إلا الله

مثبتاً العبادة لله وحده فهو الإله المستحق للعبادة، فتقدير خبر ((لا)) بحق هو الذي جاءت به النصوص من الكتاب والسنة. أما تقديره بـ ((موجود)) أو ((معبود)) فقط فهو غلط خلاف الصواب، لكن لو نعت اسم ((لا)) بحق فلا بأس: ويكون التقدير ((لا إله حقاً موجود إلا الله)) (¬1)؛ لأنه يوجد معبودات كثيرة من الأصنام والأضرحة، والقبور وغيرها، ولكن المعبود بحق هو الله وحده، وما سواه فمعبود بالباطل وعبادته باطلة، وهذا مقتضى ركني لا إله إلا الله (¬2). المبحث الرابع: فضل لا إله إلا الله كلمة التوحيد لها فضائل عظيمة لا يمكن حصرها، من قالها صادقاً من قلبه وعمل بما دلت عليه كانت له السعادة في الدنيا والآخرة، ومن قالها كاذباً حقنت دمه وحفظت عليه ماله في الدنيا وحسابه على الله - عز وجل -. ومن فضائلها وعظمتها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: 1 - عن معاذ - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) (¬3). 2 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع ¬

_ (¬1) انظر: معارج القبول، 2/ 416. (¬2) انظر: معنى لا إله إلا الله للعلامة صالح الفوزان، ص16، وفتاوى ابن عثيمين، 6/ 66. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب التلقين، برقم 3116، وأحمد في المسند، 5/ 233، 247، والحاكم في المستدرك، 1/ 351، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6479.

الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار. فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((على الفطرة)) ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خرجت من النار)) فنظروا فإذا هو راعي مِعْزى (¬1). 3 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله! أوصني. قال: ((إذا عملت سيئةً فأتبعها حسنة تمحها)). قال قلت: يا رسول الله! أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: ((هي أفضل الحسنات)) (¬2). 4 - وعن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ نوحاً قال لابنه عند موته: ((آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع، لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفّة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كُنّ حلقة مُبهمة قصمتهن لا إله إلا الله)) (¬3). 5 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال موسى - عليه السلام - يا رب علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به، قال: يا موسى قل لا إله إلا الله، قال: يا رب كل عبادك يقول هذا. قال: قل لا إله إلا الله. قال: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان، برقم 382. (¬2) أخرجه أحمد في المسند،5/ 169،وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم1373. (¬3) أخرجه أحمد في المسند 2/ 170، و225، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 548، والبزار، برقم 2998، و3069، وصححه أحمد شاكر في تحقيق المسند، برقم 6583، والحاكم ووافقه الذهبي 1/ 48،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 5/ 133، 142: ((رواه البزار، وأحمد في حديث طويل، تقدم في وصية نوح - عليه السلام - في الوصايا، ورجال أحمد ثقات)).

إنما أريد شيئاً تخصني به. قال: يا موسى لو أن السموات السبع [وعامِرَهن غيري] والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله)) (¬1). 6 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله سيخلِّص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاًّ كلُّ سجلٍ مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقةٌ فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلاّت في كفة والبطاقة في كفَّةٍ فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)) (¬2). 7 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما قال عبدٌ لا إله إلا الله قَطّ مخلصاً إلا فُتحت له أبوابُ السماء حتى تفضي إلى العرش ما ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، 8/ 327 - 328،والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 834، و1141، وأبو يعلى في مسنده، برقم 1393، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 528، وابن حبان، برقم 2324 (موارد)، والبغوي في شرح السنة، 5/ 54، و 55، برقم 1273. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، برقم 2639، وابن ماجه، في كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة برقم 4300، وأحمد، 2/ 213، وابن حبان كما في الموارد، برقم 2524، والحاكم في المستدرك، 1/ 6، وقال: ((صحيح على شرط مسلم))، وفي 1/ 529، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب)). وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 53: ((صحيح)).

اجتنبت الكبائر)) (¬1). 8 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن من أفضل الدعاء الحمد لله، وأفضل الذكر لا إله إلا الله)) (¬2). 9 - وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال: لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. من قالها في مرضه، ثم مات لم تطعمه النار)) (¬3). 10 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب دعاء أم سلمة، برقم 3590، وقال: ((هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه))، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 5648. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، برقم 3383، وابن ماجه في كتاب الأدب، باب فضل الحامدين، برقم 3800، والحاكم في المستدرك، 1/ 503، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي، وقال أبو عيسى الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب))، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1104، وفي لصحيحة، برقم 1497. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما يقول العبد إذا مرض، برقم 3430، وابن ماجه في كتاب الأدب، باب فضل لا إله إلا الله، برقم 3794، وأبو يعلى في مسنده، برقم 6153، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب))، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 713، والصحيحة، برقم 1390. (¬4) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب في دعاء يوم عرفة، برقم 3585، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3274، والصحيحة، برقم 1503.

11 - وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كَتَبَ الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورَفع له ألف ألف درجة)) (¬1). 12 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)) (¬2). 13 - وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرار، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل)) (¬3). 14 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير .. عشر مرات حين يصبح كتب الله له بها مائة حسنة، ومحا عنه بها مائة سيئة، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا دخل السوق، برقم 3428، والحاكم، 1/ 538، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 411، ورواه ابن ماجه، برقم 2235. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم 3293، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم 2691. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل التهليل، برقم 6404، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم 2693.

وكانت له عدل رقبة، وحُفِظ بها يومئذٍ حتى يمسي ومن قالها مثل ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك)) (¬1). 15 - وعن عُمارة بن شبيب أن رجلاً من الأنصار حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال بعد المغرب أو الصبح [لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويُميتُ، وهو على كل شيء قدير] عشر مرات بعث الله له مَسْلَحَة (¬2) يحرسونه [من الشيطان] حتى يصبح، ومن حين يصبح حتى يمسي [وكتب له بها عشر حسنات موجبات، ومحي عنه عشر سيئات موبقات، وكانت له كعدل عشر رقاب مؤمنات])) (¬3). 16 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك، وملائكتك، وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك، أعتق الله ربعه من النار، فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه، ومن قالها ثلاثاً أعتق الله ثلاثة أرباعه، فإن قالها أربعاً أعتقه الله من النار)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده، 2/ 360، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 26، وحسن إسناده سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله كما في تحفة الأخيار، ص 44. (¬2) أي: الحرس. (¬3) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 577، و578، واللفظ من الروايتين، وهو صحيح الإسناد، وجهالة الصحابي لا تضر. انظر: صحيح كتاب الأذكار للنووي، 1/ 253، برقم 2 44/ 182، وعمل اليوم والليلة للنسائي بتحقيق د. فاروق حمادة، ص385. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، برقم 5069، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 1201، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 9، ص70، وقال: ((أعتقه الله ذلك اليوم من النار))، وابن السني، برقم 70، وحسن إسناد أبي داود والنسائي سماحة الشيخ ابن باز في تحفة الأخيار، ص23.

ومن فضل الله تعالى أنه لم يحرم عباده الخير والفضل فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من قالها إذا أصبح مرة واحدة كان له الفضل الآتي: 17 - عن أبي عياش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كانت له عدل رقبة من ولد إسماعيل، وكتب له عشر حسنات، وحُطّ عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح)) (¬1). 18 - وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)) (¬2). 19 - وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله. قال أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال أشهد أن محمداً ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، برقم 5077، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى، برقم 3867، وأحمد، 4/ 60، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 270، وصحيح أبي داود، 3/ 957، وصحيح ابن ماجه، 2/ 331. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، برقم 234، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب ما يقول الرجل إذا توضأ، برقم 169، 170، والترمذي في الطهارة، باب ما بعد الوضوء، برقم 55.

رسول الله. قال أشهد أن محمداً رسول الله. ثم قال حي على الصلاة. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال حي على الفلاح. قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال الله أكبر الله أكبر. قال الله أكبر الله أكبر، ثم قال لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة)) (¬1). 20 - وعن عتبان بن مالك - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( .. فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) (¬2). 21 - وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه)) (¬3). 22 - وعن عبد الله بن بريدة الأسلمي عن أبيه قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو وهو يقول: ((اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد))، فقال: ((والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعيَ به ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسأل الله له الوسيلة، برقم 385،وأبو داود في الصلاة، باب ما يقول إذا سمع المؤذن، برقم 527،والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 40. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، برقم 425، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر، برقم 33/ 263. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسأل الله له الوسيلة، برقم 386.

أجاب، وإذا سُئل به أعطى)) (¬1). 23 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضع (¬2) وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قولُ لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة (¬3) من الإيمان)) (¬4). 24 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة)) (¬5). 25 - وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) وفي رواية: ((أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية شاء)) (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1493، والترمذي في كتاب الدعوات، باب جامع الدعوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3475، وابن ماجه في الدعاء، باب اسم الله الأعظم، برقم 3857، وأحمد في المسند، 5/ 360، وابن حبان كما في الموارد، برقم 2383، والحاكم في المستدرك، 1/ 504، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 432، وفي صحيح سنن أبي داود، 1/ 410. (¬2) بضع: عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع. فتح الباري لابن حجر، 1/ 51. (¬3) شعبة: خصلة. فتح الباري، لابن حجر، 1/ 52. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أمور الدين، برقم 9، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان، برقم 35. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الثياب البيض، برقم 5827، ومسلم في كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات مشركاً دخل النار، برقم 94/ 154. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ}، برقم 3435، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، برقم 28.

26 - قتل أسامة - رضي الله عنه - رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أسامة، قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله))؟ قال: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))؟ وفي رواية: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)) قال: يا رسول الله استغفر لي، قال: ((وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)) فجعل لا يزيده على أن يقول: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة))؟ قال أسامة - رضي الله عنه -: فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ (¬1). وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة، وقد ذكرت منها ستة أحاديث غير هذا في شروط لا إله إلا الله في هذا الكتاب (¬2). وهذه الأحاديث دلّت على أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، ولكن لابد من استكمال شروطها، وأركانها، ومقتضاها، والابتعاد عن نواقضها، فمن أتى بهذه الكلمة وقد سلم من أنواع الظلم الثلاثة: ظلم الشرك، وظلم العباد، وظلم العبد نفسه بالمعاصي فيما دون الشرك فله الأمن التام والهداية التامة، ويدخل الجنة برحمة الله وفضله بغير حساب، ومن جاء ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، برقم 96، وانظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، للمؤلف، ص73. (¬2) حديث عثمان في الشرط الأول، وحديث أبي هريرة في الثاني، وحديث معاذ في الخامس، وحديث أبي هريرة في السادس، وحديث أبي مالك في الثامن.

بهذه الكلمة وقد نقصها بالذنوب التي لم يتب منها؛ فإن كانت صغائر كُفِّرت باجتناب الكبائر كما في قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} (¬1)، وإن كانت كبائر فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة (¬2). وأحسن ما قيل في هذه الأحاديث ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: ((إن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة، وقالها خالصاً من قلبه مستيقناً بها قلبه، غير شاك فيها بصدق ويقين؛ فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب [كلها] توبة نصوحاً فإذا مات على تلك الحال نال ذلك؛ فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة، وتواترت بأن كثيراً ممن يقول: لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليداً أو عادة ولم ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 31. (¬2) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص70، و 71.

المبحث الخامس: لا إله إلا الله تتضمن جميع أنواع التوحيد

يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث: ((سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته))، وغالب أعمال هؤلاء إنما هي تقليد واقتداء بأمثالهم وهم أقرب الناس من قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (¬1) وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث فإذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصراً على ذنب أصلاً؛ فإنَّ كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذاً لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهية لما أمر الله به، وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإنَّ هذا الإيمان وهذه التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة، وهذا اليقين لا يتركون له ذنباً إلا يُمحى كما يُمحى الليل بالنهار (¬2). فتبين بذلك أن لا إله إلا الله لابد من استكمال جميع شروطها، وأركانها، ومقتضاها، والابتعاد عن نواقضها، ونواقصها من المعاصي؛ ولهذا قال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؛ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلاَّ وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح وإلا لم يفتح (¬3). المبحث الخامس: لا إله إلا الله تتضمن جميع أنواع التوحيد الله - سبحانه وتعالى -: هو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، فإفراده تعالى ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 23. (¬2) تيسير العزيز الحميد، ص87، 88 بتصرف يسير. (¬3) أخرجه البخاري معلقاً في كتاب الجنائز، بابٌ في الجنائز ومن كان آخر كلامه ((لا إله إلا الله))، 3/ 109 ((فتح الباري))، انظر: كلمة الإخلاص لابن رجب، ص11.

1 - التوحيد الخبري العلمي الاعتقادي

وحده بالعبادة كلها وإخلاص الدين كله لله هذا هو توحيد الألوهية: وهو معنى (لا إله إلا الله) وهذا التوحيد يتضمن جميع أنواع التوحيد (¬1) ويستلزمها؛ فإن التوحيد نوعان: 1 - التوحيد الخبري العلمي الاعتقادي: وهو توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وهو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتكلمه بكتبه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه، وقدره، وحكمته، وتنزيهه عما لا يليق به. 2 - التوحيد الطلبي القصدي الإرادي: وهو توحيد في الطلب والقصد: وهو توحيد الإلهية أو العبادة (¬2). وتكون أنواع التوحيد على التفصيل ثلاثة أنواع كالآتي: النوع الأول: توحيد الربوبية وهو الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى هو الرب المتفرد بالخلق، والملك، والرزق، والتدبير، الذي ربّى جميع خلقه بالنعم، وربى خواص خلقه - وهم الأنبياء وأتباعهم المخلصون - بالعقائد الصحيحة والأخلاق الجميلة، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، وهذه التربية النافعة للقلوب والأرواح المثمرة لسعادة الدنيا والآخرة. النوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله هو المنفرد بالكمال المطلق من جميع الوجوه، وذلك بإثبات ما أثبته الله ¬

_ (¬1) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص74، والقول السديد للسعدي، ص17، وبيان حقيقة التوحيد للعلامة الفوزان، ص20. (¬2) انظر: معارج القبول، 1/ 98، وفتح المجيد، 17.

النوع الثالث: توحيد الإلهية

لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله، من غير نفي لشيء منها، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف. ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النقائص والعيوب، وعن كل ما ينافي كماله. وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات قد وضحه الله في كتابه كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول سورة آل عمران، وسورة الإخلاص بكاملها، وغير ذلك (¬1). النوع الثالث: توحيد الإلهية، ويقال له: توحيد العبادة، وهو الاعتقاد الجازم - مع العلم والعمل والاعتراف - بأن الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وإفراده وحده بالعبادة كلها، وإخلاص الدين كله لله، وهو يستلزم توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات ويتضمنهما؛ لأن الألوهية التي هي صفة تعمّ أوصاف الكمال، وجميع أوصاف الربوبية والعظمة؛ فإنه المألوه المعبود لما له من أوصاف العظمة والجلال، ولما أسداه إلى خلقه من الفواضل والإفضال، فتوحده سبحانه بصفات الكمال، وتفرده بالربوبية، يلزم منه أن لا يستحق العبادة أحد سواه. وتوحيد الألوهية هو مقصود دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم. وهذا النوع قد تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ¬

_ (¬1) انظر: فتح المجيد، ص17، والقول السديد في مقاصد التوحيد لعبد الرحمن السعدي، ص14 - 17، ومعارج القبول، 1/ 99.

و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬1)، وأول سورة السجدة وآخرها، وأول سورة غافر ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وغالب سور القرآن. وكل سور القرآن قد تضمنت أنواع التوحيد، فالقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير أنواع التوحيد؛ لأن القرآن كله: إما خبر عن الله وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأقواله، فهذا هو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي: ((توحيد الربوبية والأسماء والصفات)). وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما يُعبد من دونه، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي - ((توحيد الألوهية)) -. وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة الله، وذلك من حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا من النصر والتأييد، وما يكرمهم به في الآخرة، وهو جزاء توحيده سبحانه. وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في الآخرة من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه، وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم (¬2). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 64. (¬2) انظر: فتح المجيد، ص17 - 18،والقول السديد، ص16،ومعارج القبول،1/ 98.

المبحث السادس: لا إله إلا الله دعوة الرسل عليهم السلام

المبحث السادس: لا إله إلا الله دعوة الرسل عليهم السلام يجب أن يُبلّغ كل من أشرك بالله تعالى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعوا أقوامهم إلى عبادة الله وحده دون ما سواه، وأن الحجة قد قامت على جميع الأمم، وما من أمة إلا بعث الله فيهم رسولاً، وكلهم يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له (¬1)؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (¬2)، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (¬3)، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (¬4). فبيّن سبحانه في هذه الآيات عن طريق العموم أن جميع الرسل دعوا إلى ((لا إله إلا الله))، وخلع جميع المعبودات من دون الله (¬5)، وفَصَّل ذلك في مواضع أخرى من كتابه، كقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ... } (¬6)، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ ¬

_ (¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 9/ 344،وتفسير ابن كثير،2/ 567، والسعدي، 4/ 202، وأضواء البيان للشنقيطي، 3/ 268. (¬2) سورة النحل، الآية: 36. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 25. (¬4) سورة الزخرف، الآية: 45. (¬5) انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 3/ 268. (¬6) سورة الأعراف، الآية: 59.

المبحث السابع: شروط لا إله إلا الله

هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬1)، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬2)، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬3)، {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (¬4). وهذا بلاغ مبين من الله لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. المبحث السابع: شروط لا إله إلا الله وكلمة التوحيد لا تنفع قائلها إلا إذا عُمِلَ بشروطها، فقد كان المنافقون يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم لم يؤمنوا بها ولم يعملوا بشروطها، وكذلك اليهود تقولها وهم من أكفر الناس لعدم إيمانهم بها، وهكذا عُبّاد القبور والأولياء من هذه الأمة يقولونها بألسنتهم وهم يخالفونها بأقوالهم، وأفعالهم، وعقيدتهم، فلا تنفعهم ولا يكونون بقولها مسلمين؛ لأنهم ناقضوها بأقوالهم، وأعمالهم، وعقائدهم؛ ولهذا ذكر بعض أهل العلم لها سبعة شروط (¬5) ونظمها بعضهم بقوله: العلم، واليقين، والقبول ... والانقياد فادرِ ما أقول ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 65. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 73. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 85. (¬4) سورة المائدة، الآية: 72. (¬5) انظر: فتح المجيد، ص91.

الشرط الأول: العلم بمعناها المنافي للجهل

والصدق، والإخلاص، والمحبه ... وَفَّقكَ الله لما أحبه (¬1) وقد زاد بعضهم شرطاً ثامناً فقال: علم، يقين، وإخلاص، وصدقك مع ... محبة وانقياد والقبول لها وزيد ثامنها الكفران منك بما ... سوى الإله من الأنداد قد أُلِها (¬2) وهذان البيتان قد استوفيا جميع شروطها: الشرط الأول: العلم بمعناها المنافي للجهل وتقدم أن معناها: لا معبود بحق إلا الله تعالى. فجميع الآلهة التي يعبدها الناس سوى الله تعالى كلها باطلة. قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الله} (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)) (¬4). الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك، فلابد في حق قائلها أن يكون على يقين بأن الله تعالى هو المعبود بحق؛ فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن أو التوقف والتردد فكيف إذا دخله الشك، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} إلى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬5). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( .. أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما ¬

_ (¬1) معارج القبول للحافظ الحكمي، 2/ 418. (¬2) تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام، للإمام ابن باز، ص24، والشهادتان للعلامة عبد الله الجبرين، ص77. (¬3) سورة محمد، الآية: 19. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، برقم 26. (¬5) سورة الحجرات، الآية: 15.

الشرط الثالث: القبول المنافي للرد

عبد غير شاكٍّ فيهما إلا دخل الجنة)) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل لأبي هريرة - رضي الله عنه -: (( ... اذهب بنعليَّ هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبُهُ فبشره بالجنة .. )) (¬2). فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقناً بها قلبه غير شاكٍّ فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط (¬3)، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - ((اليقين الإيمان كله والصبر نصف الإيمان)) (¬4). ولا شك أن من كان موقناً بمعنى لا إله إلا الله فإن جوارحه تنبعث لعبادة الرب وحده لا شريك له، ولطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: ((اللهم زدنا إيماناً، ويقيناً وفقهاً)) (¬5)، وذُكِرَ عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: ((لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطار اشتياقاً إلى الجنة وهرباً من النار)) (¬6). الشرط الثالث: القبول المنافي للرد، وذلك أن يقبل ما دلت عليه هذه الكلمة بقلبه ولسانه ويرضى بذلك؛ ولهذا كان المشركون يعرفون معنى لا إله إلا الله ولكنهم لم يقبلوها فذمهم الله تعالى وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، برقم 27. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، برقم 31. (¬3) انظر: معارج القبول، 2/ 420. (¬4) أخرج البخاري الجزء الأول منه من قول ابن مسعود في كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بني الإسلام على خمس))، ص 25، ط بيت الأفكار الدولية، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 1/ 48: ((وصله الطبراني بسند صحيح)). (¬5) ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح، وعزاه لأحمد في الإيمان بإسناد صحيح. انظر: فتح الباري،1/ 48. (¬6) ذكره ابن حجر في فتح الباري، 1/ 48.

الشرط الرابع: الانقياد المنافي للترك

قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} (¬1)، وقال: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تُنبتُ كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلتُ به)) (¬3). الشرط الرابع: الانقياد المنافي للترك، فينقاد لما دلت عليه، ويعبد الله وحده، ويعمل بشريعته، ويؤمن بها ويعتقد أنها الحق، ولعل الفرق بينه وبين القبول: أن الانقياد هو الاتباع بالأفعال والقبول إظهار صحة معنى ذلك بالقول ويلزم منهما جميعاً الاتباع ولكن الانقياد هو الاستسلام والإذعان وعدم الترك لشيء (¬4) من شروط لا إله إلا الله. قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (¬5)، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآية: 35. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 33. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب فضل من علم وعلم، برقم 79، ومسلم في كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهدى والعلم، برقم 2282. (¬4) انظر: (الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما) للعلامة الدكتور عبد الله بن جبرين، ص81، وتحفة الإخوان للإمام العلامة ابن باز، ص26. (¬5) سورة الزمر، الآية: 54.

الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب

أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} (¬1)، {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى الله عَاقِبَةُ الأُمُور} (¬2)، وهذا معنى حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) (¬3)، وهذا هو تمام الانقياد وغايته (¬4). الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب وهو أن يقولها وهو صادق في ذلك صدقاً من قلبه يطابق قلبه لسانه ولسانه قلبه؛ فإن قالها باللسان فقط وقلبه لم يؤمن بمعناها فيكون من جملة المنافقين كما قال سبحانه عنهم أنهم قالوا {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} (¬5)، فكذبهم الله وقال تعالى: {وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}. وقد ثبت اشتراط الصدق في الشهادة في الحديث الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار)) (¬6). الشرط السادس: الإخلاص المنافي للشرك وهو تصفية العمل بصالح ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 125. (¬2) سورة لقمان، الآية: 22. (¬3) ذكره النووي في الأربعين النووية، وعزاه إلى كتاب الحجة، وصحح إسناده، وانظر: الكلام على الحديث في جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص33 8، الحديث الحادي والأربعون. (¬4) انظر: معارج القبول، 2/ 422. (¬5) سورة المنافقون، الآية: 1. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، برقم 128، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، برقم 32.

الشرط السابع: المحبة المنافية للبغض

النية عن جميع شوائب الشرك فيخلص العبد لربه في جميع العبادات، وإذا صرف شيئاً منها لغير الله: من نبي أو ولي، أو ملَكٍ، أو صنم، أو جني أو غير ذلك فقد أشرك بالله ونقض هذا الشرط وهو شرط الإخلاص. قال تعالى: {فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلا لله الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬1)، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)) (¬3). الشرط السابع: المحبة المنافية للبغض، فيجب على العبد أن يحب الله - عز وجل -، فيحب كلمة التوحيد، ويحب ما اقتضته ودلّت عليه، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله} (¬4)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} (¬5)، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬6). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآيتان: 2 - 3. (¬2) سورة البينة، الآية: 5. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، برقم 99. (¬4) سورة البقرة، الآية: 165. (¬5) سورة المائدة، الآية: 54. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 31.

الشرط الثامن: الكفر بما يعبد من دون الله

يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) (¬1)، وإذا أحب العبد الله - عز وجل - فإنه يحب من يحب الله ورسوله؛ لأن من أحب أحداً أحب من يحبه؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)) (¬2)؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى في نونيته (¬3): شَرْطُ المحبَّةِ أن توافِقَ مَنْ ... تُحِبُّ على محبَّتِهِ بلا عِصيان فإذا ادعيتَ له المحبَّةَ مع خلا ... فِكَ ما يُحِبُّ فأنت ذو بهتان أتُحِبُّ أعداء الحبيبِ وتدّعي ... حباً له ما ذَاك في إمكان وكذا تُعادي جاهداً أحبابَهُ ... أين المحبةُ يا أخا الشيطان اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك. الشرط الثامن: الكفر بما يعبد من دون الله، وهو أن يتبرَّأ من عبادة غير الله، ويعتقد أنها باطلة كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬4)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، برقم 16، ومسلم في كتاب الإيمان، باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، برقم 43. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، برقم 4681 من حديث أبي أمامة صُدَيّ بن عجلان، وله شاهد من حديث معاذ بن أنس الجهني أخرجه أحمد، 3/ 438، و 440، والترمذي في كتاب صفة القيامة، باب رقم 60، برقم 2521، وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن))، وصححه الألباني في سلسلته، برقم 380. (¬3) انظر: شرح القصيدة النونية لابن القيم للدكتور محمد خليل الهراس، 2/ 134. (¬4) سورة البقرة، الآية: 256.

الطَّاغُوتَ} (¬1). قال الإمام محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله تعالى: ((فأما صفة الكفر بالطاغوت فهو أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتكفِّر أهلها وتعاديهم .. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع أو مطاع، والطواغيت كثيرة ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عُبِدَ وهو راضٍ، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادّعى شيئاً من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله (¬2). وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبدُ من دون الله، حَرُمَ مالُهُ ودمه وحسابه على الله)) (¬3). وأما من كان لا يرضى بعبادة المخلوقين له من دون الله: كالأنبياء، والصالحين، والملائكة، فإنهم ليسوا بطواغيت وإنما الطاغوت هو الشيطان الذي دعا الناس إلى عبادتهم وزينها للناس. ومن أعظم الأدلة على وجوب الكفر بالطاغوت وجميع ما يعبد من دون الله قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام للكفَّار {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 36. (¬2) الأصول الثلاثة مع حاشيتها لابن قاسم، ص98،وحاشيتها لابن عثيمين ضمن فتاواه،6/ 156. وانظر: مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهّاب، طبع جامعة الإمام محمد، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص376، وقد ذكر لك لكل رأسٍ دليلاً. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 32.

سَيَهْدِينِ} (¬1)، فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر الله سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬2)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: ((من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله)) وهذا من أعظم ما يُبَيِّنُ معنى لا إله إلاَّ الله؛ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يُعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلّها، ويا لَهُ من بيانٍ ما أوضحه، وحجةٍ ما أقطعها للمنازع (¬3). نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة من كل سوء ومكروه (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآيتان: 26 - 27. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 28. (¬3) فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد، ص123. (¬4) وانظر: تحفة الإخوان للعلامة ابن باز، ص27،وفتح المجيد، ص91، ومعارج القبول، 2/ 418، و ((الشهادتان)) للعلامة ابن جبرين، ص77.

الفصل الثاني: تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

الفصل الثاني: تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبحث الأول: معناها ومقتضاها 1 - معنى ((شهادة أن محمداً رسول الله)) هو الإقرار باللسان، والاعتقاد الجازم بالقلب بأن محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي عبد الله ورسوله أرسله إلى جميع الخلق كافة: من الجن والإنس (¬1). 2 - ومقتضى هذه الشهادة: طاعته فيما أمر، وتصديقُهُ فيما أخبر، واجتنابُ ما عنه نهى وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع (¬2). فيجب الإيمان بشريعته - صلى الله عليه وسلم -، والانقياد لها: قولاً، وعملاً، واعتقاداً: من الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، والقيام الكامل بأركان الإسلام: من شهادة، وصلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وغير ذلك مما شرع الله على يده - صلى الله عليه وسلم - كالإحسان بأنواعه (¬3). المبحث الثاني: وجوب معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو الأصل الثالث من الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم معرفتها وهي: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، بن هاشم، وهاشم من قريش وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا ¬

_ (¬1) الأصول الثلاثة وحاشيتها للعلامة محمد العثيمين ضمن فتاواه، 6/ 71. (¬2) الأصول الثلاثة مع حاشيتها لابن القاسم، ص57. (¬3) انظر: مجموع فتاوى العلامة ابن باز، 4/ 12، و 14. (¬4) الأصول الثلاثة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب.

أفضل الصلاة والسلام، وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً، نبئ بـ (اقرأ) وأرسل بالمدثر، وبلده مكة وهاجر إلى المدينة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عُرِجَ به إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أُمِرَ بالهجرة إلى المدينة، فلما استقر بالمدينة أُمِرَ ببقية شرائع الإسلام مثل: الزكاة، والصلاة، والحج، والجهاد، والأذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك أخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه، ودينه باق وهذا دينه، لا خير إلا دلّ أمته عليه، ولا شر إلا حذرها منه، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين لا نبي بعده، وقد بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على الجن والإنس، فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار (¬1). وتحصل معرفته - صلى الله عليه وسلم - بدراسة حياته، وما كان عليه من العبادة، والأخلاق الجميلة، والدعوة إلى الله - عز وجل -، والجهاد في سبيل الله تعالى، وغير ذلك من جوانب حياته - صلى الله عليه وسلم -، فينبغي لكل مسلم يريد أن يزداد معرفة بنبيه وإيماناً به أن يطالع من سيرته ما تيسر: في حربه وسلمه، وشدته ورخائه، وسفره وإقامته، وجميع أحواله نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من المتبعين لرسوله - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً، وأن يثبتنا على ذلك حتى نلقاه وهو راضٍ عنا (¬2). ¬

_ (¬1) الأصول الثلاثة، لمحمد بن عبد الوهّاب رحمه الله تعالى، ص75، و76. (¬2) انظر: فتاوى العلامة محمد بن صالح العثيمين، 6/ 39.

المبحث الثالث: الحجج والبراهين على صدقه - صلى الله عليه وسلم -

المبحث الثالث: الحُجَجُ والبراهين على صدقه - صلى الله عليه وسلم - تمهيد: ظهر على يده - صلى الله عليه وسلم - من الآيات والمعجزات الخارقة للعادات عند التحدي أكثر من سائر الأنبياء، والعهد بهذه المعجزات قريب، وناقلوها أصدق الخلق وأبرّهم، ونَقْلُها ثابت بالتَّواتُر قرناً بعد قرن، وأعظمها مُعجزة: القرآن، لم يتغير ولم يتبدّل منه شيء، بل كأنه منزل الآن، وما أخبر به يقع كل وقت على الوجه الذي أخبر به، كأنه يُشاهدُه عياناً، وقد عجز الأوّلون والآخرون عن الإتيان بمثله {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬1). ولا يمكن ليهودي أن يؤمن بنبوة موسى - صلى الله عليه وسلم - إن لم يؤمن بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يمكن لنصراني أن يُقِرّ بنبوة المسيح - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد إقراره بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن من كفر بنبوة نبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم، ولم ينفعه إيمانه ببعضهم دون بعض، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬2). ولا ينفع أهل الكتاب شهادة المسلمين بنبوة موسى وعيسى عليهما ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 88. (¬2) سورة النساء، الآيات: 150 - 152.

الصلاة والسلام؛ لأن المسلمين آمنوا بهما على يد محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبما جاء به، فلولاه ما عرفنا نبوّتهما، ولا سيما وليس بأيدي أهل الكتاب عن أنبيائهم ما يُوجب الإيمان بهم؛ فلولا القرآن ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ما عرفنا شيئاً من آيات الأنبياء المتقدمين، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكتابه هو الذي قرّر نبوّة موسى وعيسى، لا اليهود والنصارى، بل نفس ظهوره، ومجيئه تصديقاً لنبوتهما؛ فإنهما أخبرا بظهوره، وبشّرا بظهوره: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (¬1)، فلما بُعث كان بعثه تصديقاً لهما، قال تعالى عن محمد - صلى الله عليه وسلم -: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (¬2). فمجيئه تصديق لهما من جهتين: من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به وشهادته بنبوتهم، ولو كان كاذباً لم يصدق من قبله، كما يفعل أعداء الأنبياء (¬3). ومن أعظم الأدلة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لليهود لما بهتوه: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬4)، ولم يجسر أحد منهم على ذلك - مع اجتماعهم على تكذيبه وعداوته - لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك، فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم، وصدقه فيما يخبرهم به ¬

_ (¬1) سورة الصف، الآية: 6. (¬2) سورة الصافات، الآية: 37. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل، 5/ 78 - 83، ودقائق التفسير لابن تيمية، 4/ 34، وإغاثة اللهفان لابن القيم، 2/ 350، 351، وهداية الحيارى، ص635. (¬4) سورة البقرة، الآية: 94.

لسألوا الله الموت لأي الفريقين أكذب، منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة (¬1)، ونظير ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لله مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (¬2). وغير ذلك من دلائل نبوته وصدقه (¬3) - صلى الله عليه وسلم - التي سأذكرها -إن شاء الله تعالى-. ¬

_ (¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 7/ 99، وتفسير ابن كثير، 1/ 128، 129، وتفسير السعدي، 1/ 114. (¬2) سورة الجمعة، الآيتان: 6 - 7. (¬3) ومن دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - في هذا الزمن ما نُشر في صحيفة البلاد السعودية، في عددها رقم 9422، في 15/ 8/1410هـ‍، الموافق 12 مارس 1990م، ودخل في الإسلام بسبب ذلك أربع قُرى نيجيرية، وهذا نص المنشور: لقي أحد الضالين والمستهزئين بالإسلام حتفه أثر تشكيكه في الإسلام والقرآن وإعلانه أمام جمع من الناس قائلاً: إن كان القرآن والإسلام حقاً فإني أسأل الله ألا أرجع إلى بيتي حياً. ويشاء الله أن يلقى هذا الكافر حتفه قبل أن يعود إلى منزله فعلاً!. هذا وقد وقعت هذه الحادثة في (بوب) في ولاية غونفولي بشمال نيجيريا وأسلم على أثرها أهل القرية وثلاث قرى مجاورة. ويقول شهود عيان رأوا الحادثة: إن المكذِّب ويُدعى عمر غيمو وهو قس في كنيسة باتيسي بقرية بوب وقف خطيباً في الكنيسة وبدأ في التطاول على الإسلام والقرآن الكريم وردد العديد من الأكاذيب والأباطيل والافتراءات على الإسلام والقرآن الكريم. ثم قال في نهاية خطبته: ((إن كان القرآن والدين الإسلامي حقاً فأسأل الرب ألا يرجعني إلى بيتي حياً)). وخرج القس من الكنيسة وهو على ثقة تامة بأنه لن يصيبه شيء وسيصل إلى منزله في صحة وعافية ليتخذ ذلك فيما بعد دليلاً يؤكد به للناس افتراءه وأكاذيبه. ويشاء الله - عز وجل - وعلى الرغم من أن الطريق إلى منزله لا توجد به أي أخطار تهدد حياة الإنسان، يشاء الله أن تعثر قدماه وهو يعبر جدول ماء صغير وسقط فيه حتى مات وسارع إليه جماعة من المسيحيين في دهشة وذهول ونقلوه إلى المستشفى والتي رفضت استلامه لوفاته، فذهبوا به إلى مستشفى آخر وثالث وكان التأكيد أنه قد لاقى حتفه ليسقط في أيديهم لحدوث الوفاة بهذه البساطة ودون حدوث أي إصابة أو جرح. والأعجب من ذلك أن أحد المارة كان قد حاول في البداية إنقاذ هذا المستهزئ عند تعثره فلقي مصرعه. تجدر الإشارة إلى أن هذا القس كان مسيحياً، ثم أسلم، وعاش فترة بين المسلمين يتعامل معهم ويتعاملون معه إلا أنه نكص على عقبه وارتد عن الإسلام وأصبح حرباً على دين الله إلى أن لقي مصيره المحتوم.

المطلب الأول: معجزات القرآن العظيم:

ولا شكَّ أن الآيات والبيّنات الدالّة على نبوته - صلى الله عليه وسلم - وعموم رسالته كثيرة متنوعة، وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء، وجميع الأنواع تنحصر في نوعين: أ - منها: ما مضى وصار معلوماً بالخبر الصّادق كمعجزات موسى وعيسى. ب - ومنها: ما هو باق إلى اليوم كالقرآن، والعلم والإيمان اللذين في أتباعه، فإن ذلك من أعلام نبوته، وكشريعته التي أتى بها، والآيات التي يظهرها الله وقتاً بعد وقتٍ من كرامات الصّالحين من أمته، وظهور دينه بالحجّة والبرهان، وصفاته الموجودة في كتب الأنبياء قبله وغير ذلك (¬1)، وهذا باب واسع لا أستطيع حصره؛ ولكن سأقتصر في إثبات نبوته - صلى الله عليه وسلم - على مطلبين على النحو التالي: المطلب الأول: معجزات القرآن العظيم: المعجزة لغة: ما أُعجِزَ به الخصم عند التحدي (¬2). وهي أمر خارق للعادة يعجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الإتيان بمثله، يجعله الله على يد من يختاره لنبوّته؛ ليدلّ على صدقه وصحّة ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 4/ 67 - 71. (¬2) انظر: القاموس المحيط، باب الزاي، فصل العين، ص663.

رسالته (¬1). والقرآن الكريم كلام الله المنزّل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المعجزة العظمى، الباقية على مرور الدّهور والأزمان، المعجز للأولين والآخرين إلى قيام الساعة (¬2)، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من الأنبياء نبيّ إلا أُعطي من الآيات على ما مثله آمن البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) (¬3). وليس المراد في هذا الحديث حصر معجزاته - صلى الله عليه وسلم - في القرآن، ولا أنه لم يؤت من المعجزات الحسّيّة كمن تقدّمه، بل المراد أن القرآن المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره؛ لأن كل نبي أُعطِيَ معجزة خاصة به، تحدّى بها من أُرسِلَ إليهم، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال ¬

_ (¬1) انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني،1/ 66، والمعجم الوسيط، مادة: عجز، 2/ 585، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، للدكتور صالح الفوزان، 2/ 157. والفرق بين المعجزة والكرامة: هو أن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بدعوة النبوَّة والتحدي للعباد. أما الكرامة: فهي أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا التحدي، ولا تكون الكرامة إلا لعبد ظاهره الصلاح، مصحوباً بصحة الاعتقاد والعمل الصالح. أما إذا ظهر الأمر الخارق على أيدي المنحرفين فهو من الأحوال الشيطانية. وإذا ظهر الأمر الخارق على يد إنسان مجهول الحال؛ فإن حاله يعرض على الكتاب والسنة كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: ((إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة)). انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص510، وسير أعلام النبلاء، 10/ 23، والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية للسلمان، ص311. (¬2) انظر: الداعي إلى الإسلام للأنباري، ص393. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، برقم 4981، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، برقم 152.

قومه؛ ولهذا لما كان السحر فاشياً في قوم فرعون جاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السّحرة، لكنها تلقف ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره. ولما كان الأطباء في غاية الظهور جاء عيسى بما حيّر الأطباء، من: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وكل ذلك من جنس عملهم، ولكن لم تصل إليه قدرتهم. ولما كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والخطابة جعل الله سبحانه معجزة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم الذي (¬1) {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬2). ولكن معجزة القرآن الكريم تتميز عن سائر المعجزات؛ لأنه حجة مستمرّة، باقية على مرّ العصور، والبراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها، أما القرآن فلا يزال حجة قائمة كأنما يسمعها السّامع من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولاستمرار هذه الحجة البالغة قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يومَ القيامةِ)) (¬3). والقرآن الكريم آية بيّنة، معجزة من وجوه متعدّدة، من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، والبلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها، ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري، 9/ 6، 7، وشرح النووي على مسلم، 2/ 188، وأعلام النبوة للماوردي، ص53، وإظهار الحق، 2/ 101. (¬2) سورة فصلت، الآية: 42. (¬3) انظر: البداية والنهاية، 6/ 69، وتقدم تخريج الحديث.

الوجه الأول: الإعجاز البياني والبلاغي:

وملائكته، وغير ذلك من الوجوه الكثيرة التي ذكر كل عالم ما فتح الله عليه به منها (¬1)، وسأقتصر على أربعة وجوه من باب المثال لا الحصر بإيجاز كالآتي: الوجه الأول: الإعجاز البياني والبلاغي: من الإعجاز القرآني ما اشتمل عليه من البلاغة والبيان، والتركيب المعجز، الذي تحدّى به الإنس والجنّ أن يأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬2)، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} (¬3). وبعد هذا التحدّي انقطعوا فلم يتقدّم أحد، فمدّ لهم في الحبل وتحدّاهم بعشر سور مثله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬4)،فعجزوا فأرخى لهم في الحبل فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬5)،ثم أعاد التحدي ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الصحيح، 4/ 74، 75، وأعلام النبوة للماوردي، ص53 - 70، والبداية والنهاية، 6/ 54، 65،والبرهان في علوم القرآن للزركشي، 2/ 90 - 124، ومناهل العرفان للزرقاني، 2/ 277 - 308. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 88. (¬3) سورة الطور، الآيتان: 33 - 34. (¬4) سورة يونس، الآية: 38. (¬5) سورة هود، الآية: 13.

في المدينة بعد الهجرة، فقال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (¬1). فقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} أي: فإن لم تفعلوا في الماضي، ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل، فثبت التحدّي وأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بسورة من مثله فيما يستقبل من الزمان، كما أخبر قبل ذلك، وأمر النبي وهو بمكة أن يقول: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬2). فعم بأمره له أن يخبر جميع الخلق معجزاً لهم، قاطعاً بأنهم إذا اجتمعوا لا يأتون بمثل هذا القرآن، ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك، وهذا التحدي لجميع الخلق، وقد سمعه كل من سمع القرآن، وعرفه الخاص والعام، وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوا، ولا أتوا بسورة مثله من حين بُعِثَ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم والأمر على ذلك (¬3). والقرآن يشتمل على آلاف المعجزات؛ لأنه مائة وأربع عشرة سورة، وقد وقع التحدي بسورة واحدة، وأقصر سورة في القرآن سورة الكوثر، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيتان: 23 - 24. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 88. (¬3) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 4/ 71 - 77، والبداية والنهاية، 6/ 95.

الوجه الثاني: الإخبار عن الغيوب:

وهي ثلاث آيات قصار، والقرآن يزيد بالاتفاق على ستة آلاف ومائتي آية، ومقدار سورة الكوثر من آيات أو آية طويلة على ترتيب كلماتها له حكم السورة الواحدة، ويقع بذلك التحدي والإعجاز (¬1)؛ ولهذا كان القرآن الكريم يغني عن جميع المعجزات الحسّيّة والمعنوية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. الوجه الثاني: الإخبار عن الغيوب: من وجوه الإعجاز القرآني أنه اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التي لا علم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بها، ولا سبيل لبشر مثله أن يعلمها، وهذا مما يدلّ على أن القرآن كلام الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬2). والإخبار بالغيوب أنواع: النوع الأول: غيوب الماضي: وتتمثل في القصص، الرائعة وجميع ما أخبر الله به عن ماضي الأزمان. النوع الثاني: غيوب الحاضر: أخبر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغيوب حاضرة، ككشف أسرار المنافقين، والأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين، أو ¬

_ (¬1) انظر: استخراج الجدال من القرآن الكريم لابن نجم، ص100، وفتح الباري، 6/ 582، ومناهل العرفان للزرقاني، 1/ 336، 1/ 231، 232. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 59.

الوجه الثالث: الإعجاز التشريعي:

غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، وأطلع عليه رسوله - صلى الله عليه وسلم -. النوع الثالث: غيوب المستقبل: أخبر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأمور لم تقع، ثم وقعت كما أخبر، فدلّ ذلك على أن القرآن كلام الله، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول الله (¬1). الوجه الثالث: الإعجاز التشريعي: القرآن العظيم جاء بهدايات كاملة تامّة، تفي بحاجات جميع البشر في كل زمان ومكان؛ لأن الذي أنزله هو العليم بكل شيءٍ، خالق البشرية والخبير بما يُصلحها ويُفسدها، وما ينفعها ويضرّها، فإذا شرع أمراً جاء في أعلى درجات الحكمة والخبرة: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬2). ويزداد الوضوح عند التأمل في أحوال الأنظمة والقوانين البشرية التي يظهر عجزها عن معالجة المشكلات البشرية ومسايرة الأوضاع والأزمنة والأحوال، مما يضطر أصحابها إلى الاستمرار في التعديل والزيادة والنقص، فَيُلْغُونَ غداً ما وضعوه اليوم؛ لأن الإنسان محلّ النقص والخطأ، والجهل لأعماق النفس البشرية، والجهل بما يحدث غداً في أوضاع الإنسان وأحواله وفيما يصلح البشرية في كل عصر ومصر. وهذا دليل حسّي مُشاهد على عجز جميع البشر عن الإتيان بأنظمة ¬

_ (¬1) انظر: الداعي إلى الإسلام للأنباري، ص424 - 428، وإظهار الحق، 65 - 107، ومناهل العرفان، 2/ 263، ومعالم الدعوة للديلمي، 1/ 463. وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - بأمور غيبية كثيرة جدّاً. انظر: جامع الأصول لابن الأثير، 11/ 311 - 331. (¬2) سورة الملك، الآية: 14.

تُصْلِحُ الخلق وتقوّمُ أخلاقهم، وعلى أن القرآن كلام الله سليم من كل عيب، كفيل برعاية مصالح العباد، وهدايتهم إلى كلِّ ما يُصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة إذا تمسكوا به واهتدوا بهديه (¬1)، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (¬2). وبالجملة فإن الشريعة التي جاء بها كتاب الله تعالى مدارها على ثلاث مصالح: المصلحة الأولى: درء المفاسد عن ستة أشياء (¬3):حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنّسب، والعرض، والمال. المصلحة الثانية: جلب المصالح (¬4): فقد فتح القرآن الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، وسدّ كل ذريعة تؤدي إلى الضرر. المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فالقرآن الكريم حلَّ جميع المشكلات العالمية التي عجز عنها البشر، ولم يترك جانباً من الجوانب التي يحتاجها البشر في الدنيا والآخرة إلا وضع ¬

_ (¬1) انظر: مناهل العرفان للزرقاني، 2/ 247، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع الإسلامي، من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ص117، ومعالم الدعوة للديلمي، 1/ 426. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 9. (¬3) درء المفاسد هو المعروف عند أهل الأصول بالضروريات. انظر: أضواء البيان، 3/ 448. (¬4) جلب المصالح يعرف عند أهل الأصول بالحاجيات. انظر: أضواء البيان،3/ 448.

الوجه الرابع: الإعجاز العلمي الحديث:

لها القواعد، وهدى إليها بأقوم الطرق وأعدلها (¬1). الوجه الرابع: الإعجاز العلمي الحديث: يتصل بما ذكر من إعجاز القرآن في إخباره عن الأمور الغيبية المستقبلة نوع جديد كشف عنه العلم في العصر الحديث، مصداقاً لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬2). لقد تحقّق هذا الوعد من ربنا في الأزمنة المتأخرة، فرأى الناس آيات الله في آفاق المخلوقات بأدقّ الأجهزة والوسائل: كالطائرات، والغواصات، وغير ذلك من أدقِّ الأجهزة الحديثة التي لم يمتلكها الإنسان إلا في العصر الحديث ... فمن أخبر محمداً - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأمور الغيبية قبل ألف وأربعمائة وخمس عشرة سنة؟ إن هذا يدلّ على أن القرآن كلام الله وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقّاً. وقد اكتُشِفَ هذا الإعجاز العلمي: في الأرض وفي السماء، وفي البحار والقفار، وفي الإنسان والحيوان، والنبات، والأشجار، والحشرات، وغير ذلك، ولا يتّسع المقام لذكر الأمثلة العديدة على ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: أضواء البيان، 3/ 409 - 457، فقد أوضح هذا الجانب بالأدلة العقلية والنقلية جزاه الله خيراً وغفر له. (¬2) سورة فصلت، الآية: 53. (¬3) انظر: أمثلة كثيرة في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم في مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني، 2/ 278 - 284، وكتاب الإيمان، لعبد المجيد الزنداني، ص55 - 59، وكتاب التوحيد للزنداني أيضاً، 1/ 74 - 77.

المطلب الثاني: معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسية:

المطلب الثاني: معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسية: معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسّيّة الخارقة للعادة كثيرة جدّاً (¬1)،لا أستطيع حصرها، وسأقتصر بإيجاز على ذكر تسعة أنواع منها على سبيل المثال، كالآتي: النوع الأول: المعجزات العلوية: 1 - من هذه المعجزات انشقاق القمر: وهذه من أمهات معجزاته - صلى الله عليه وسلم - الدّالّة على صدقه، فقد سأل أهل مكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا جبل حِرَاء بينهما (¬2)، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ... } الآيات (¬3). 2 - صعوده - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء والمعراج إلى ما فوق السموات: وهذا ما أخبر به القرآن الكريم، وتواترت به الأحاديث، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} (¬4). وهذه الآية من أعظم معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، فإنّه أُسرِيَ به إلى بيت المقدس، ¬

_ (¬1) قال ابن تيمية رحمه الله: ((قد جمعت نحو ألف معجزة)). انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية، ص158. ومعجزاته - صلى الله عليه وسلم - تزيد على ألف ومائتين، وقيل: ثلاثة آلاف معجزة. انظر: فتح الباري، لابن حجر، 6/ 583. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب انشقاق القمر، برقم 3868، ومسلم، صفات المنافقين، باب انشقاق القمر، برقم2802. (¬3) سورة القمر، الآيات: 1 - 2. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 1.

النوع الثاني: آيات الجو:

وقطع المسافة في زمن قصير، ثم عُرِجَ به إلى السموات، ثم صعد إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام، ورأى الجنة، وفرضت عليه الصلوات، ورجع إلى مكة قبل أن يُصبح، فكذَّبته قريش، وطلبوا منه علامات تدلّ على صدقه، ومن ذلك علامات بيت المقدس؛ لعلمهم بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ بيت المقدس قبل ذلك، فجلَّى الله له بيت المقدس ينظر إليه ويخبرهم بعلاماته وما سألوا عنه (¬1). وغير ذلك من الآيات العلوية، كحراسة السماء بالشّهب عند بعثته - صلى الله عليه وسلم -. النوع الثاني: آيات الجوّ: 1 - من هذه المعجزات طاعةُ السَّحاب له - صلى الله عليه وسلم -، بإذن الله تعالى في حصوله ونزول المطر وذهابه بدعائه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 2 - ومن هذا النوع نصر الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرِّيح التي قال تعالى عنها: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} (¬3)، وهذه الرِّيحُ هي ريح الصَّبا، أرسلها على الأحزاب، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((نُصِرْتُ بالصّبَا، وأُهْلِكَت عادٌ بالدَّبُور)) (¬4)، وغير ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب حديث الإسراء، برقم 3886، ومسلم في كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، برقم 170. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، برقم 933، ومسلم في كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، برقم 897. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 9. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، برقم 900.

النوع الثالث: تصرفه في الإنس والجن والبهائم:

النوع الثالث: تصرّفه في الإنس والجن والبهائم: وهذا باب واسع، منه على سبيل المثال: أ - تصرفه في الإنس: 1 - كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يشتكي عينيه من وجع بهما، فبصَقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهما ودعا له فبرأ، كأن لم يكن به وجع (¬1). 2 - انكسرت ساق عبد الله بن عتيك - رضي الله عنه - فمسحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكأنها لم تنكسر قطُّ (¬2). 3 - أُصِيبَ سلمة بن الأكوع بضربة في ساقه يوم خيبر، فنفث فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث نفثات، فما اشتكاها سلمة بعد ذلك (¬3). ب - تصرفه في الجنّ والشياطين: 1 - كان - صلى الله عليه وسلم - يُخرِج الجنّ من الإنس بمجرد المخاطبة. فيقول: ((اخرج عدوّ الله أنا رسول الله)) (¬4). 2 - أخرج الشيطانَ من صدر عثمان بن أبي العاص، عندما ضرب صدر عثمان بيده ثلاث مرات وتفل في فمه وقال: ((اخرج عدوّ الله)) فعل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب فضل من أسلم على يديه رجل، برقم 3009، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي - رضي الله عنه -، برقم 2406. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق، برقم 4039. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم 4206. (¬4) أخرجه أحمد، 4/ 170 - 172، ووكيع في الزهد، برقم 508، وهناد في الزهد، برقم 1338، والبيهقي في الدلائل،6/ 21 - 22، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 9/ 6: ((رجال أحمد رجال الصحيح)).

جـ - تصرفه في البهائم:

ذلك ثلاث مرات، فلم يُخالط عثمانَ الشيطانُ بعد ذلك (¬1). جـ - تصرّفه في البهائم: وقد حصل له مراراً، ومن ذلك أنه جاء بعير فسجد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أصحابه: يا رسول الله! تسجد لك البهائم، والشّجر، فنحن أحقّ أن نسجد لك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اعبُدُوا ربَّكمُ، وأكرِمُوا أخَاكُم، ولو كنتُ آمراً أحداً أن يَسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجُدَ لِزَوجِها .. )) (¬2). النوع الرابع: تأثيره في الأشجار والثمار والخشب أ - تأثيره في الأشجار: 1 - جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في سفر. فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، فقال الأعرابي: ومن يشهد لك على ما تقول؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هذه السَّلَمَة)) (¬3)، فدعاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخدّ (¬4) الأرض خَدّاً حتى قامَتْ بين يديه، فأشهدها ثلاثاً، فشهدت ثلاثاً أنه كما قال، ثم رجعَتْ إلى مَنْبَتِهَا (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الطب، باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه، بسند حسن، برقم 3548، وانظر: صحيح ابن ماجه، للألباني، 2/ 273. (¬2) أخرجه أحمد، 6/ 76، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 9/ 9: ((إسناده جيد))، وانظر معجزات من هذا النوع: مسند الإمام أحمد، 4/ 170 - 172، ومجمع الزوائد للهيثمي، 9/ 3 - 12. (¬3) السلمة: شجرة من شجر البادية، انظر: المصباح المنير، مادة ((سلم))، 1/ 286، ومختار الصّحاح، مادة ((سلم))، ص131. (¬4) تخدّ الأرض: أي تشقها أخدوداً. وانظر: المصباح المنير، مادة (خدّ)، 1/ 165، ومختار الصّحاح، مادة (خدّ)، ص72. (¬5) أخرجه الدارمي، في المقدمة، باب ما أكرم الله نبيه من إيمان الشجر به والبهائم والجن، برقم 16، وإسناده صحيح، وانظر: مشكاة المصابيح، برقم 5925، 3/ 1666.

ب - تأثيره في الثمار:

2 - أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقضي حاجته وهو في سفر، فلم يجد ما يستتر به، فأخذ بغصن شجرة وقال: ((انقادي عليَّ بإذنِ الله)) فانقادت معه كالبعير المخشوم (¬1) حتى أتى الشجرةَ الأخرى ففعل وقال كذلك، ثم أمرهما أن تلتئما عليه فالتأمتا، ثم بعد قضاء الحاجة رجعت كل شجرة، وقامت كل واحدة منهما على ساق (¬2). ب - تأثيره في الثّمار: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: بم أعرف أنك نبي؟ قال: ((إن دعوت هذا العِذق من هذه النخلة أتشهد أنّي رسول الله))؟ فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ((ارجع))، فعاد، فأسلم الأعرابي (¬3). جـ - تأثيره في الخشب: كان - صلى الله عليه وسلم - يخطب في المدينة يوم الجمعة على جذع نخل، فلما صُنع له المنبر ورَقِيَ عليه صاحَ الجذعُ صياحَ الصَّبي، [وخارَ كما تَخُورُ البقرة، جزعاً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالتزمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضمَّه إليه - وهو يئنّ - ¬

_ (¬1) البعير المختوم: الذي جُعل في أنفه عود، ويشد فيه حبل ليذلّ وينقاد إذا كان صعباً. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 18/ 146. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، برقم 3012. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، باب حدثنا عباد، برقم 3628، وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن غريب صحيح))، وأحمد، 1/ 123، والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، 2/ 620، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 490: ((صحيح دون قوله: فأسلم الأعرابي))، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة له، رقم 3315.

النوع الخامس: تأثيره في الجبال والأحجار وتسخيرها له:

ومسحه حتى سكن] (¬1). النوع الخامس: تأثيره في الجبال والأحجار وتسخيرها له: أ - تأثيره في الجبال: صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أُحداً، ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فضربه - صلى الله عليه وسلم - برجله، وقال: ((اثبت أحد، فإنما عليك نبي، وصِدّيق، وشهيدان)) (¬2). ب - تأثيره في الحجارة: وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعرف حجراً بمكة كان يُسلِّم عليّ قبل أن أُبعثَ، إنِّي لأعرفه الآن)) (¬3). جـ - تأثيره في تراب الأرض: عندما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معركة حنين، واشتدّ القتال، نزل عن بغلته وقبض قبضة من تراب الأرض، واستقبل به وجوه القوم، فقال: ((شَاهَتِ الوجوهُ))، فما خلق الله إنساناً منهم إلا ملأ عينيه من تلك القبضة، فهزمهم الله وقسم غنائمهم بين المسلمين (¬4). النوع السادس: تفجير الماء، وزيادة الطعام والشراب والثمار: أ - نبع الماء وزيادة الشراب: هذا النوع حصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مراتٍ كثيرة جدّاً (¬5)، ومن ذلك: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم 3584، وما بين المعقوفين عند أحمد في المسند، 2/ 109. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو كنت متخذاً خليلاً ... )،برقم 3675. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم 2277. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، برقم 1777. وحصل له مثل ذلك في معركة بدر. (¬5) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3571 - 3577، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم 681 - 682، وجامع الأصول لابن الأثير، 11/ 334 - 351.

ب - زيادة الطعام وتكثيره لما جعل الله فيه - صلى الله عليه وسلم - من البركة:

1 - عَطشَ الناسُ في الحديبية، فوضع يده - صلى الله عليه وسلم - في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كالعيون، فشربُوا وتوضّؤوا، قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة (¬1). 2 - قدم - صلى الله عليه وسلم - تبوك، فوجد عينها كشراك النّعل، فَغُرِفَ له منها قليلاً قليلاً، حتى اجتمع له شيء قليل، فغسل فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر، وبقيت العين إلى الآن (¬2). 3 - قصة أبي هريرة - رضي الله عنه - وقدح اللّبن، وزيادة القدح حتى شرب منه أضياف الإسلام (¬3). ب - زيادة الطعام وتكثيره لما جعل الله فيه - صلى الله عليه وسلم - من البركة: 1 - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في ألف وأربعمائة من أصحابه في غزوة، فأصابهم مشقة، فأمر - صلى الله عليه وسلم - أن يجمعوا ما معهم من طعام وبسطوا سفرة، وكان الطعام شيئاً يسيراً فبارك فيه، وأكلوا، وحَشوا أوعيتهم من ذلك الطعام (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامة النبوة، برقم 3576، ومسلم في كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، برقم 1856/ 73. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 706. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، برقم 6452. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب حمل الزاد في الغزو، برقم 2982،ومسلم في كتاب اللقطة، باب استحباب خلط الأزواد إذا قلّت، والمواساة فيها، برقم 1729.

جـ - زيادة الثمار والحبوب:

2 - بقي الصّحابة والنبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الخندق ثلاثة أيام لا يذوقون طعاماً، فذبح جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عناقاً، وطحنت زوجته صاعاً من شعير، ثم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم -،فصاح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل الخندق يدعوهم على هذا الطعام اليسير، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وبصقَ في العجين وبارك، وبصقَ في البرمة وبارك، قال جابر رضي الله عنهما: وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغطّ كما هي (¬1)،وإن عجيننا ليخبز كما هو (¬2).وهذا باب واسع لا يمكن حصره. جـ - زيادة الثمار والحبوب: 1 - جاء رجل يستطعم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطعمه شطْرَ وَسْقِ شعيرٍ، فما زال الرجل يأكل منه وأهله حتى كاله، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم)) (¬3). 2 - كان على والد جابر دين، وما في نخله لا يقضي ما عليه سنين، فجاء جابر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحضر الكيل، فحضر، ومشى حول الجرن، ثم أمر جابراً أن يكيل فكال لهم حتى أوفاهم، قال جابر - رضي الله عنه -: ((وبقي تمري وكأنه لم ينقص منه شيء)) (¬4). ¬

_ (¬1) تغط: أي تغلي ويسمع غليانها. انظر: الفتح، 7/ 399. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، برقم 4102، ومسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباع غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، برقم 2039. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2281. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب الكيل على البائع والمعطي، برقم 2127.

النوع السابع: تأييد الله له بالملائكة:

النوع السابع: تأييد الله له بالملائكة: أَيَّد الله رسوله بالملائكة في عدة مواضع، نُصرةً له ولدينه، منها على سبيل المثال: 1 - في الهجرة، قال المولى جل وعلا: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا} (¬1). 2 - في بدر، قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} (¬2). 3 - في أُحدٍ، قاتل جبريل وميكائيل عليهما السلام عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - ويساره (¬3). 4 - في الخندق قال الله - عز وجل -: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} (¬4). 5 - في غزوة بني قُرَيْظَةَ: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن وضع السلاح من غزوة الخندق واغتسل، فقال له جبريل: قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه فاخرج إليهم، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إلى أين))؟ فأشار إلى بني قريظة، فخرج - صلى الله عليه وسلم -، ونصره الله عليهم (¬5). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 40. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 9. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: إذ همت طائفتان، برقم 4045، ومسلم في كتاب الفضائل، باب قتال جبريل وميكائيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، برقم 2306. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 9. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب، 4117، ومسلم في كتاب الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد، برقم 1769.

النوع الثامن: كفاية الله له أعداءه وعصمته من الناس:

6 - في حنين، قال الله - سبحانه وتعالى -: {ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (¬1). النوع الثامن: كفاية الله له أعداءه وعصمته من الناس: هذا النوع من أعظم الآيات الدالّة على صدق رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -،ومن ذلك: 1 - كفاه الله تعالى المشركين والمستهزئين، فلم يصلوا إليه بسوء، قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (¬2). 2 - كفاه الله تعالى أهل الكتاب، قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬3). 3 - وعصمه تعالى من جميع الناس بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬4). وهذا خبر عام بأن الله يعصمه من جميع الناس، فكلُّ من هذه الأخبار الثلاثة قد وقعت كما أخبر الله تعالى، فقد كفاه أعداءه بأنواع عجيبة خارجة عن العادة المعروفة، ونصره مع كثرة أعدائه وقوتهم وغلبتهم، وانتقم ممن عاداه. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 26. (¬2) سورة الحجر، الآيتان: 94 - 95. (¬3) سورة البقرة، الآية: 137. (¬4) سورة المائدة، الآية: 67.

النوع التاسع: إجابة دعواته - صلى الله عليه وسلم -:

ومن ذلك أن رجلاً نصرانيّاً أسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ارتدّ وعاد نصرانيّاً، فكان يقول: ما يَدْرِي محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فدفنه قومه، فأصبح وقد أخرجته الأرض من بطنها، فأعادوا دفنه، وأعمقوا قبره، فأصبح وقد أخرجته الأرض منبوذاً على ظهرها فأعادوا دفنه وأعمقوا له فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أن هذا ليس من الناس فتركوه منبوذاً (¬1). النوع التاسع: إجابة دعواته - صلى الله عليه وسلم -: الأدعية التي دعا بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وشُوهدت إجابتها كالشمس في رابعة النهار كثيرة جدّاً، لا تُحصر ولا يتّسع المقام لذكر أكثرها، ولكن منها على سبيل المثال: 1 - قال - صلى الله عليه وسلم - لأنس - رضي الله عنه -: ((اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته)) (¬2)، [وأطل حياته، واغفر له] (¬3)، قال أنس: فوالله إنّ مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادُّون على نحو المائة اليوم (¬4)، [وحدثتني ابنتي أمينة أنه دُفِنَ لصلبي مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة، برقم 3617، ومسلم، كتاب صفات المنافقين، برقم 2781. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الصيام، باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم، برقم 1982، ومسلم، في فضائل الصحابة، باب فضل أنس برقم 2480. (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، برقم 653، وانظر: فتح الباري، 11/ 145، وسير أعلام النبلاء، 2/ 219. (¬4) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب فضل أنس، برقم 2481/ 143.

ومائة] (¬1). وكان له - رضي الله عنه - بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منها ريح المسك (¬2). 2 - ودعا - صلى الله عليه وسلم - لأم أبي هريرة بالهداية فهداها الله فوراً، وأسلمت (¬3). 3 - وقال - صلى الله عليه وسلم - لعروة بن أبي الجعد البارقي: ((اللهم بارك له في صفقة يمينه))، فكان يقف في الكوفة ويربح أربعين ألفاً قبل أن يرجع إلى أهله (¬4)، [وكان لو اشترى التراب لربح فيه] (¬5). 4 - ودعاؤه - صلى الله عليه وسلم - على بعض أعدائه، فلم تتخلّف الإجابة، كأبي جهل، وأميّة، وعقبة، وعتبة (¬6). 5 – ودعاؤه - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، ويوم حنين، وعلى سراقة بن مالك - رضي الله عنه -، وغير ذلك كثير (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم، برقم 1982. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أنس، برقم 3833، وانظر: صحيح سنن الترمذي، للألباني، 3/ 334. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي هريرة، برقم 2491. (¬4) أخرجه أحمد في المسند، 4/ 376. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب حدثنا محمد بن المثنى، برقم 3642. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة، برقم 240، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين، برقم 1794. (¬7) انظر: دعاء يوم بدر في صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، برقم 1763، ويوم حنين في مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، برقم 1775، وقصة سراقة في البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، برقم 3908.

المبحث الرابع: حقوقه على أمته - صلى الله عليه وسلم -

والحقيقة أن العاقل المنصف يقف أمام هذه الدلائل والبينات مذعوراً، ولا يسعه إلا أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. المبحث الرابع: حقوقه على أمته - صلى الله عليه وسلم - 1 - الإيمان الصادق به - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه فيما أتى به قال تعالى: {فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬1)، {فَآمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬2)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3)، {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} (¬4)،وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به)) (¬5). والإيمان به - صلى الله عليه وسلم - هو تصديق نبوته، وأن الله أرسله للجن والإنس، وتصديقه في جميع ما جاء به وقاله، ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان، بأنه رسول الله، فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة باللسان ثم تطبيق ذلك بالعمل بما جاء به تمَّ الإيمان به - صلى الله عليه وسلم - (¬6). ¬

_ (¬1) سورة التغابن، الآية: 8. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 158. (¬3) سورة الحديد، الآية: 28. (¬4) سورة الفتح، الآية: 13. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، برقم 20/ 34. (¬6) انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - للقاضي عياض، 2/ 539.

2 - وجوب طاعته - صلى الله عليه وسلم - والحذر من معصيته

2 - وجوب طاعته - صلى الله عليه وسلم - والحذر من معصيته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} (¬1)، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (¬2)، {قُلْ أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (¬3)، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬4)، {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬5)، {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} (¬6)، {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (¬7). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله)) (¬8)، وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 20. (¬2) سورة الحشر، الآية: 7. (¬3) سورة النور، الآية: 54. (¬4) سورة النور، الآية: 63. (¬5) سورة الأحزاب، الآية: 71. (¬6) سورة الأحزاب، الآية: 36. (¬7) سورة النساء، الآيتان: 13 - 14. (¬8) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}، برقم 7137، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، برقم 1835.

3 - اتباعه - صلى الله عليه وسلم - واتخاذه قدوة

((كل الناس يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)) (¬1). وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعِلَ رِزقي تحت ظلِّ رمحي، وجُعِلَ الذِّلُّ والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)) (¬2). 3 - اتباعه - صلى الله عليه وسلم - واتخاذه قدوة في جميع الأمور والاقتداء بهديه، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3)، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} (¬4)،وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬5) فيجب السير على هديه والتزام سنته والحذر من مخالفته، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (¬6). 4 - محبته - صلى الله عليه وسلم - أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين، قال الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،برقم 7280. (¬2) أخرجه أحمد في المسند، 2/ 50، وأخرج بعضه البخاري معلقاً في كتاب الجهاد، باب ما قيل في الرماح، ص 560، ط بيت الأفكار الدولية، وأخرج الجزء الأخير منه أبو داود في كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، برقم 4031، وحسنه العلامة ابن باز رحمه الله. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 31. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 158. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، برقم 5063،ومسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، برقم 1401.

تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1)،وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) (¬2). وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته الاجتماع معه في الجنة وذلك عندما سأله رجل عن الساعة فقال: ((ما أعددت لها))؟ قال: يا رسول الله ما أعددت لها كبير صيام، ولا صلاة، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: ((فأنت مع من أحببت)) (¬3).قال أنس فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنك مع من أحببت))،فأنا أحب الله ورسوله، وأبا بكر، وعمر. فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم (¬4). ولما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك))، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الآن يا عمر)) (¬5)، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 24. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان، برقم 15، ومسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من الأهل والولد والناس أجمعين، برقم 44. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، برقم 3688، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب، برقم 2639. (¬4) مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب، برقم 2639/ 163. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 6632.

جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المرء مع من أحب)) (¬1). وعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً)) (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسولُهُ أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) (¬3). ولا شك أن من وفَّقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان ووجد حلاوته، فيستلذ الطاعة ويتحمل المشاق في رضى الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه رضي به رسولاً، وأحبه، ومن أحبه من قلبه صدقاً أطاعه - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا قال القائل: تعصي الإله وأنت تُُظهر حُبَّهُ ... هذا لعمري في القياسِ بديعُ لو كان حُبَّكَ صادقاً لأطعته ... إن المحُبَّ لمن يُحبُّ مُطيعُ (¬4) وعلامات محبته - صلى الله عليه وسلم - تظهر في الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم -، واتباع سنته، وامتثال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، برقم 3688،ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب، برقم 2639. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً فهو مؤمن وإن ارتكب المعاصي الكبائر، برقم 34. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، برقم 16، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، برقم 43. (¬4) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، 2/ 549، و 2/ 563.

5 - احترامه وتوقيره ونصرته

أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه، في الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر، ولا شك أن من أحب شيئاً آثره، وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه ويكون مدّعياً (¬1). ولا شك أن من علامات محبته: النصيحة له؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الدين النصيحة)) قلنا لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬2)، والنصيحة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: التصديق بنبوته، وطاعته فيما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، ومُؤازرته، ونصرته وحمايته حياً وميتاً، وإحياء سنته والعمل بها وتعلمها، وتعليمها والذب عنها، ونشرها، والتخلق بأخلاقه الكريمة، وآدابه الجميلة (¬3). 5 - احترامه وتوقيره ونصرته كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (¬4)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬5)، {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} (¬6). وحرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، وتوقيره لازم كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه وسيرته، وتعلم سنته، والدعوة إليها، ¬

_ (¬1) انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، 2/ 571 - 582. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم 55. (¬3) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - للقاضي عياض، 2/ 582 - 584. (¬4) سورة الفتح، الآية: 9. (¬5) سورة الحجرات، الآية: 1. (¬6) سورة النور، الآية: 63.

6 - الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -

ونصرتها (¬1). 6 - الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( .. من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً)) (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليّ)) (¬5)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلّوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)) (¬6)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)) (¬7)، وقال جبريل ¬

_ (¬1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، 2/ 595، و 612. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 56. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسأل الله له الوسيلة، برقم 384. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم 2042،وأحمد في المسند،2/ 367، والطبراني في المعجم الأوسط، برقم 8026،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 571. (¬5) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رغم أنف رجل، برقم 3546، وأحمد، 1/ 201، والحاكم، 1/ 549، وأبو يعلى، برقم 6776، وابن حبان كما في الموارد، برقم 2388. وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن صحيح غريب))، وقال الحاكم: ((صحيح))، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2878. (¬6) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب في القوم يجلسون ولا يذكرون الله، برقم 3380، وأحمد بن حنبل في المسند، 2/ 446، 453، 481، 484، 495، وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 74. (¬7) أخرجه أحمد في المسند، 1/ 441، والنسائي في كتاب السهو، باب السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1280، وابن حبان في صحيحه، برقم 914، والحاكم في المستدرك، 2/ 421، وقال: ((صحيح ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2174.

- عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رغم أنف عبد - أو بَعُد - ذُكِرتَ عنده فلم يصلّ عليك)) فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((آمين)) (¬1)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام)) (¬2). * وللصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مواطن كثيرة ذكر منها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى واحداً وأربعين موطناً، منها على سبيل المثال: الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - عند دخول المسجد، وعند الخروج منه، وبعد إجابة المؤذن، وعند الإقامة، وعند الدعاء، وفي التشهد في الصلاة، وفي صلاة الجنازة، وفي الصباح والمساء، وفي يوم الجمعة، وعند اجتماع القوم قبل تفرقهم، وفي الخطب: كخطبتي صلاة الجمعة، وعند كتابة اسمه، وفي أثناء صلاة العيدين بين التكبيرات، وآخر دعاء القنوت، وعلى الصفا والمروة، وعند الوقوف على قبره، وعند الهم والشدائد وطلب المغفرة، وعقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه، وغير ذلك من المواطن التي ذكرها رحمه الله في كتابه (¬3). ولو لم يرد في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا حديث أنس - رضي الله عنه - لكفى ((من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، برقم 646، وابن خزيمة في صحيحه، برقم 1888، وأحمد، 2/ 254، والترمذي في كتاب الدعوات، باب قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رغم أنف رجل))،برقم 3545، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3510. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم 2041، وأحمد، 2/ 527، والبيهقي في سننه الكبرى، 5/ 245، والطبراني في الأوسط، برقم 3116، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 2266. (¬3) راجع كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.

7 - وجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه - صلى الله عليه وسلم -

صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه عشر صلوات (¬1)، [كتب الله له بها عشر حسنات] (¬2) وحط عنه بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات)) (¬3). 7 - وجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (¬4)، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (¬5) ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده - صلى الله عليه وسلم -. 8 - إنزاله مكانته - صلى الله عليه وسلم - بلا غلو ولا تقصير، فهو عبد الله ورسوله، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين، وهو سيد الأولين والآخرين، وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود، ولكنه مع ذلك بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله كما قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (¬6)، وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ¬

_ (¬1) السياق يقتضي ((و)). (¬2) هذه الزيادة من حديث طلحة في مسند أحمد، 4/ 29. (¬3) أخرجه أحمد، 3/ 261، وابن حبان، برقم 2390 (موارد)، والحاكم، 1/ 551، وصححه الأرنؤوط في تحقيقه لجلاء الأفهام، ص65. (¬4) سورة النساء، الآية: 59. (¬5) سورة النساء، الآية: 65. (¬6) سورة الأنعام، الآية: 50.

المبحث الخامس: عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - وختمها لجميع النبوات

إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1)، {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (¬2)، وقد مات - صلى الله عليه وسلم - كغيره من الأنبياء ولكن دينه باقٍ إلى يوم القيامة {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (¬3)، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (¬4)، وبهذا يعلم أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬5). المبحث الخامس: عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - وختمها لجميع النبوات إنّ أصل الأصول هو تحقيق الإيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه رسول الله إلى جميع الخلق: إنسهم وجنّهم، عربهم وعجمهم، كتابيِّهم ومجوسيِّهم، رئيسهم ومرؤوسهم، وأنه لا طريق إلى الله - عز وجل - لأحد من الخلق إلا بمتابعته - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً، حتى لو أدركه موسى وعيسى، وغيرهم من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لوجب عليهم اتباعه، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 188. (¬2) سورة الجن، الآيتان: 21 - 22. (¬3) سورة الزمر، الآية: 30. (¬4) سورة الأنبياء، الآيتان: 34 - 35. (¬5) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163.

تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1). قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وهو حيٌّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به، ولينصرنه)) (¬2)؛ ولهذا جاء في الحديث: ((لو كان موسى حيّاً بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتبعني)) (¬3). ومن خالف عموم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخلو من أحد أمرين: 1 - إما أن يكون المخالِفُ مؤمناً بأنه مرسل من عند الله؛ ولكنه يقول رسالته خاصة بالعرب. 2 - وإما أن يكون المخالف منكراً للرسالة جملةً وتفصيلاً. فأما المعترف له بالرسالة؛ ولكنه يجعلها خاصة بالعرب فإنه يلزمه أن يصدقه في كل ما جاء به عن الله تعالى، ومن ذلك عموم رسالته، ونسخها للشرائع قبلها، فقد بيّن - صلى الله عليه وسلم - أنه رسول الله إلى الناس أجمعين، وأرسل رسله، وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى، وقيصر، والنجاشي، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 81 - 82. (¬2) انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية، ص77، 191 - 200، وفتاوى ابن تيمية، 19/ 9 - 65، بعنوان: إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 1/ 31 - 176، وتفسير ابن كثير، 1/ 378، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 2/ 334، ومعالم الدعوة للديلمي، 1/ 454 - 456، والمناظرة بين الإسلام والنصرانية، ص303 - 309. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 3/ 338، وله شواهد وطرق كثيرة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 173 - 174، وانظر: مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني، 1/ 63، 68.

وسائر ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، ثم قاتل من لم يدخل في الإسلام من المشركين، وقاتل أهل الكتاب، وسبى ذراريهم، وضرب الجزية عليهم، وذلك كلّه بعد امتناعهم عن الدخول في الإسلام، أما كونه يؤمن برسول ولا يصدّقه في جميع ما جاء به فهذا تناقض ومكابرة. * وأما المنكر لرسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، فقد قام البرهان القاطع على صدق صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم -، ولا تزال معجزات القرآن تتحدى الإنس والجنّ، فإمَّا أن يأتي بما يُناقض المعجزة القائمة وإلا لزمه الاعتراف بمدلولها، فإن اعترف بالرسالة لزمه التّصديق بكل ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن ذهب يُكابر ويُعاند ليأتي بقرآن مثل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وقع في العجز وفضح نفسه لا محالة؛ لأن أصحاب الفصاحة والبلاغة قد عجزوا عن ذلك، ولا شك أن غيرهم أعجز عن هذا؛ لأن القرآن معجزة قائمة مستمرة خالدة (¬1). وحينئذ يلزم جميع الخلق العمل بما فيه، والتحاكم إليه. وقد صرح القرآن الكريم بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول إلى جميع الناس، وخاتم النبيين، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬2)، وقال ¬

_ (¬1) انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، 1/ 144، 166، ومناهج الجدل في القرآن الكريم، ص303، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للدكتور/ صالح بن فوزان، 2/ 182. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 158.

تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (¬1)، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (¬2). وهذا تصريح بعموم رسالته لكل من بلغه القرآن. وصرح تعالى بشمول رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكتاب، فقال: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (¬3)، {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬4)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (¬5)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (¬6). وبلغ - صلى الله عليه وسلم - الناس جميعاً أنه خاتم الأنبياء، وأن رسالته عامّة، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أعطيت خمساً لم يُعطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي))، وذكر منها: ((وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصّة، وبُعثت إلى الناس كافّةً)) ... الحديث (¬7). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 1. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 19. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 20. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 40. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 107. (¬6) سورة سبأ، الآية: 28. (¬7) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، برقم 438، ومسلم، كتاب المساجد، برقم 521.

المبحث السادس: تحريم الغلو فيه - صلى الله عليه وسلم -

ويقولون: هلاّ وُضِعت هذه اللبنة))؟ قال: ((فأنا اللّبِنةُ، وأنا خاتم النبيين)) (¬1). وعموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - لجميع الإنس والجنّ في كل زمان ومكان من بعثته إلى يوم القيامة، وكونها خاتمة الرسالات، يقضي ويدلّ دلالة قاطعة على أن النبوة قد انقطعت بانقطاع الوحي بعده، وأنه لا مصدر للتشريع والتعبد إلا كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -،وهذا يقتضي وجوب الإيمان بعموم رسالته، واتباع ما جاء به، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) (¬2).وبهذا تقوم الحجة وتثبت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمومها وشمولها لجميع الثقلين: الإنس والجنّ، في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة: {قَدْ جَاءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (¬3)، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ... } (¬4). المبحث السادس: تحريم الغلو فيه - صلى الله عليه وسلم - 1 - الغلو في الصالحين هو سبب الشرك بالله تعالى، فقد كان الناس منذ أُهبِطَ آدم - صلى الله عليه وسلم - إلى الأرض على الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب خاتم النبيين، برقم 3535، ومسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، برقم 2286. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، برقم 153. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 104. (¬4) سورة الكهف، الآية: 29.

((كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام)) (¬1). وبعد ذلك تعلَّق الناس بالصالحين، ودبَّ الشرك في الأرض، فبعث الله نوحاً - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى عبادة الله وحده، وينهى عن عبادة ما سواه (¬2)، وردّ عليه قومه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (¬3). وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدت)) (¬4). وهذا سببه الغلو في الصالحين؛ فإن الشيطان يدعو إلى الغلو في الصالحين وإلى عبادة القبور، ويُلقي في قلوب الناس أن البناء والعكوف عليها من محبة أهلها من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها، وشأن الله أعظم من أن يُسأل بأحد من خلقه، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثناً تُعلّق عليه الستور، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويذبح ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التاريخ، 2/ 546، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 1/ 101، وعزاه إلى البخاري، وانظر: فتح الباري، 6/ 372. (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 1/ 106. (¬3) سورة نوح، الآية: 23. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة نوح، برقم 4920.

2 - وحذر - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ المساجد على القبور

عنده، ثم ينقلهم من ذلك إلى مرتبة رابعة: وهي دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيداً، ثم ينقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تَنقَّصَ أهل هذه الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وعند ذلك يغضبون (¬1). ولهذا حذّر الله عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ورفع المخلوق عن منزلته التي أنزله الله تعالى، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} (¬2)؛ ولهذا حذّر رسول الله عن الإطراء فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله)) (¬3)، وقال: ((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) (¬4). 2 - وحذَّر - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن عبادة الله عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم؛ ولهذا لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري، 29/ 62، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص246. (¬2) سورة النساء، الآية: 171. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ .. }، برقم 3445. (¬4) أخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، برقم 3055، وابن ماجه في كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، برقم 3028، وأحمد، 1/ 347، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 356. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة الحبشة، برقم 3873،ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، برقم 528.

3 - وحذر - صلى الله عليه وسلم - أمته عن اتخاذ قبره وثنا يعبد من دون الله

ومن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته أنه عندما نزل به الموت قال: ((لَعْنَةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا (¬1). وقال قبل أن يموت بخمس: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) (¬2). 3 - وحذّر - صلى الله عليه وسلم - أمته عن اتخاذ قبره وثناً يُعبد من دون الله، ومن باب أولى غيره من الخلق، فقال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬3). ولعن - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ المساجد على القبور؛ لينفِّر عن هذا الفعل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب حدثنا أبو اليمان، برقم 435،و436،ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، برقم 531. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، برقم 532. (¬3) الموطأ للإمام مالك، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة، 1/ 172، وهو عنده مرسل، ولفظ أحمد، 2/ 246: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً، ولعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، وأبو نعيم في الحلية 7/ 317، وانظر: فتح المجيد، ص150، ولفظ الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، 12/ 314، برقم 7358: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، وقال محققو المسند، 12/ 314: ((إسناده قوي)). . (¬4) أخرجه النسائي، كتاب الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور، برقم 2041، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء القبور، برقم 3236، والترمذي، كتاب الصلاة، باب كراهية أن يتخذ على القبر مسجداً، برقم 320،وابن ماجه في الجنائز، باب النهي عن زيارة النساء للقبور، برقم 1575،وأحمد، 1/ 229، 287، 324، و2/ 337، و3/ 442، 443، والحاكم، 1/ 374، وانظر ما نقله صاحب فتح المجيد في تصحيح الحديث عن ابن تيمية، ص276.

ولم يترك - صلى الله عليه وسلم - باباً من أبواب الشرك التي تُوصل إليه إلا سدّه (¬1)،قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) (¬2). وقد بيّن - صلى الله عليه وسلم - أن القبور ليست مواضع للصلاة، وأن من صلى عليه وسلم فستبلغه صلاته سواء كان بعيداً عن قبره أو قريباً، فلا حاجة لاتخاذ قبره عيداً: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلّغوني من أمتي السلام)) (¬4). وإذا كان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيداً، فغيره أولى بالنهي كائناً من كان (¬5). وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يطهر الأرض من وسائل الشرك، فيبعث بعض أصحابه إلى هدم القباب المشرفة على القبور، وطمس الصور، فعن أبي الهياج الأسدي ¬

_ (¬1) انظر: فتح المجيد، ص281. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، برقم 972. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم 2042بإسناد حسن، وأحمد، 2/ 357، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 1/ 383. (¬4) أخرجه النسائي في السهو، باب السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1280، وأحمد، 1/ 452، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 21، ص24، وسنده صحيح، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 410. (¬5) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم، 6/ 165 - 174.

4 - وكما سد - صلى الله عليه وسلم - كل باب يوصل إلى الشرك فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه

قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ((أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) (¬1). 4 - وكما سد - صلى الله عليه وسلم - كل باب يوصّل إلى الشرك فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)) (¬2). فدخل في هذا النهي شدّ الرحال لزيارة القبور والمشاهد، وهو الذي فهمه الصحابة - رضي الله عنهم - من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا عندما ذهب أبو هريرة - رضي الله عنه - إلى الطور، فلقيه بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فقال: من أين جئت؟ قال: من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ... )) (¬3). ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل ينهى عن ذلك)) (¬4). 5 - أنواع زيارة القبور: زيارة القبور نوعان: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، الأمر بتسوية القبر، برقم 969. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم 1189، ومسلم بلفظه، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، برقم 827. (¬3) أخرجه النسائي في كتاب الجمعة، باب الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، 3/ 114، برقم 1428، ومالك في الموطأ، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، 1/ 109، وأحمد في المسند، 6/ 7، 397، وانظر: فتح المجيد، ص289، وصحيح النسائي، للألباني، 1/ 309. (¬4) انظر: فتاوى ابن تيمية، 1/ 234.

- النوع الأول: زيارة شرعية

النوع الأول: زيارة شرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات صلاة الجنازة، ولتذكر الموت - بشرط عدم شدِّ الرِّحال - ولاتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. النوع الثاني: زيارة شركية وبدعية (¬1)، وهذا النوع ثلاثة أنواع: 1 - من يسأل الميت حاجته، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام. 2 - من يسأل الله تعالى بالميت، كمن يقول: أتوسل إليك بنبيك، أو بحق الشيخ فلان، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام، ولا يصل إلى الشرك الأكبر، فهو لا يُخرِجُ عن الإسلام كما يُخرِج الأول. 3 - من يظنّ أن الدعاء عند القبور مُستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، وهذا من المنكرات بالإجماع (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 1/ 233، والبداية والنهاية، 14/ 123. (¬2) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية، 6/ 165 - 174.

الفصل الثالث: نواقض ونواقص الشهادتين

الفصل الثالث: نواقض ونواقص الشهادتين المبحث الأول: أقسام المخالفات كل من أتى بناقض من نواقض الإسلام فقد أبطل كلمة التوحيد في حقه وصار مرتداً كافراً، ولا شك أن المخالفات لأمر الله تعالى قسمان: القسم الأول: يوجب الردة، ويبطل الإسلام بالكلية، ويكون صاحبه كافراً كفراً أكبر، وهو من أتى بناقض من نواقض الإسلام. القسم الثاني: لا يبطل الإسلام ولكن ينقصه ويضعفه ويكون صاحبه على خطر عظيم من غضب الله تعالى وعقابه إذا لم يتب وهو جنس المعاصي التي يعرف صاحبها أنها معاصي كالزنا ولكن لا يستحلها فهذا تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه ثم أدخله الجنة بإيمانه وعمله الصالح وإن شاء غفر له (¬1). المبحث الثاني: أخطر النواقض وأكثرها وقوعاً. أما نواقض الإسلام فهي كثيرة وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في باب حكم المرتد: أن المسلم قد يرتد عن دينه بأمور وأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله ويكون بها خارجاً من الإسلام، ومن أخطرها وأكثرها وقوعاً عشرة نواقض (¬2): ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى سماحة العلامة ابن باز، 4/ 20، و 45. (¬2) ذكرها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأنا أذكرها بنصها، ثم أذكر بعدها بعض التوضيحات لأهل العلم. انظر هذه النواقض في مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص385، ومجموعة التوحيد لشيخي الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأحمد بن تيمية، ص27، 28.

الأول: الشرك في عبادة الله تعالى

الأول: الشرك في عبادة الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (¬1)، وقال سبحانه: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (¬2)، ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو لقبر. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، فقد كفر إجماعاً. الثالث: من لم يكفِّر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر. الرابع: من اعتقد أن هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر. الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو عمل به كفر إجماعاً {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ الله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (¬3). السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ثوابه، أو عقابه، كفر. والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 116. (¬2) سورة المائدة، الآية: 72. (¬3) سورة محمد، الآية: 9. (¬4) سورة التوبة، الآيتان: 65 - 66.

السابع: السحر

السابع: السحر ومنه الصرف (¬1)، والعطف (¬2)، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} (¬3). الثامن: مظاهرة (¬4) المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬5). التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى - عليه السلام - فهو كافر. العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (¬6)، ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل، والجاد، والخائف، إلا المكره، وكلها أعظم ما يكون خطراً وأكثر ما يكون وقوعاً، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (¬7). ¬

_ (¬1) الصرف: عمل سحري يقصد منه تغيير الإنسان وصرفه عما يهواه، كصرف الرجل عن محبة زوجته إلى بغضها. (¬2) العطف: عمل سحري يقصد منه ترغيب الإنسان فيما لا يهواه، فيحبه بطرق شيطانية. (¬3) سورة البقرة، الآية: 102. (¬4) المظاهرة: المناصرة والتعاون معهم على المسلمين. (¬5) سورة المائدة، الآية: 51. (¬6) سورة السجدة، الآية: 22. (¬7) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام: محمد بن عبد الوهاب والشيخ أحمد بن تيمية رحمهما الله، ص27، 28، ومؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص385، 387، ومجموعة فتاوى ابن باز، 1/ 135.

المبحث الثالث: تفصيل الناقض الأول والرابع وأنواع النفاق والبدع

المبحث الثالث: تفصيل الناقض الأول والرابع وأنواع النفاق والبدع. 1 - تفصيل الناقض الأول من هذه النواقض: ((الشرك)): قيل: أشرك بالله: جعل له شريكاً: في ملكه، أو عبادته، فالشرك أن تجعل لله نداً وهو خلقك، وهو أكبر الكبائر، والماحق للأعمال، والمبطل لها، والحارم المانع من ثوابها: فكل من عدل بالله غيره: بالحب، أو العبادة، أو التعظيم، أو اتبع خطواته ومبادئه المخالفة لملة إبراهيم فهو مشرك (¬1). والشرك ثلاثة أنواع: النوع الأول: شرك أكبر يخرج من الملة [وهو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله تعالى]؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (¬2)، وهو أربعة أنواع: 1 - شرك الدعوة: لقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (¬3). 2 - شرك النية والإرادة والقصد: لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ ¬

_ (¬1) انظر: قضية التكفير للمؤلف، ص9. (¬2) سورة النساء، الآية: 116. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 65.

3 - شرك الطاعة

يَعْمَلُونَ} (¬1). 3 - شرك الطاعة: وهي طاعة الأحبار والرهبان وغيرهم في معصية الله تعالى قال سبحانه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬2). 4 - شرك المحبة: لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} (¬3). النوع الثاني من أنواع الشرك: شرك أصغر لا يخرج من الملة [وهو: كل وسيلة: قولية، أو فعلية، أو إرادية توصل إلى الشرك الأكبر، ما لم تبلغ رتبة العبادة]، أو [هو: كل ما جاء في النصوص بتسميته شركاً ولم يصل إلى حدِّ الشرك الأكبر]. ومنه يسير الرياء قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬4)، ومنه الحلف بغير الله؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) (¬5)، ومنه قول الرجل: لولا الله وأنت، أو ما شاء الله؛ وشئت، [أو هذا من الله ومنك، أو ¬

_ (¬1) سورة هود، الآيتان: 15 - 16. (¬2) سورة التوبة، الآية: 31. (¬3) سورة البقرة، الآية: 165. (¬4) سورة الكهف، الآية: 110. (¬5) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، برقم 1535، وأحمد، 2/ 125، والحاكم، 1/ 18، وقال: ((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6204.

النوع الثالث من أنواع الشرك: شرك خفي

أنا بالله وبك، أو توكلت على الله وعليك]. النوع الثالث من أنواع الشرك: شرك خفي: ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل)) (¬1)، وكفارته هي أن يقول العبد: ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم)) (¬2). قال ابن كثير في تفسيره: قال ابن عباس في قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لله أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬3)، قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتِك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلب هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت وقول الرجل: لولا الله وفلان (¬4). أما الحديث الذي تقدم ذكره في الاستدلال للنوع الثاني من أنواع الشرك، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) (¬5)، قال الترمذي رحمه الله: ((فُسِّرَ هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، 4/ 403،وأبو يعلى، برقم 58، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3730. (¬2) انظر: تخريج الحديث السابق، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3731، ومجموعة التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، وابن تيمية، ص6. (¬3) سورة البقرة، الآية: 22. (¬4) تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير، 1/ 32. (¬5) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، برقم 1535، وأحمد، 2/ 125، والحاكم، 1/ 18، وقال: ((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6204، وفي صحيح سنن الترمذي، 2/ 175.

2 - تفصيل الناقض الرابع

فقد كفر أو أشرك على التغليظ والحجة في ذلك حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سمع عمر يقول: وأبي وأبي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)) (¬1). وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال في حلفه: واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله)) (¬2). ولعل الشرك الخفي يدخل في الشرك الأصغر فيكون الشرك شركين: شرك أكبر، وشرك أصغر، وهذا الذي أشار إليه ابن القيم رحمه الله (¬3). 2 - تفصيل الناقض الرابع: ويدخل في القسم الرابع من نواقض الإسلام: من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أنها مساوية لها، أو أنه يجوز التحاكم إليها ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سبباً في تخلف المسلمين، أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شؤون الحياة الأخرى، ويدخل فيه أيضاً من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر، ويدخل في ذلك أيضاً كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرهما وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة؛ لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرم الله إجماعاً وكل من استباح ما حرم الله مما هو معلوم من الدين ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، برقم 1534، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 175. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، برقم 1535، وانظر: صحيح سنن الترمذي للألباني، 2/ 175. (¬3) انظر: الجواب الكافي لابن القيم، ص233.

بالضرورة: كالزنا، والخمر، والربا، والحكم بغير شريعة الله فهو كافر بإجماع المسلمين. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (¬1). والخلاصة أن الحكم بغير ما أنزل الله فيه تفصيل وإليك الصواب في ذلك إن شاء الله تعالى: قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2)، وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬3)، وقال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬4)، قال طاووس وعطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق (¬5) والصواب أن من حكم بغير ما أنزل الله قد يكون مرتداً، وقد يكون مسلماً عاصياً مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب؛ فلهذا نجد أن أهل العلم قد قسموا الكلمات الآتية إلى قسمين، وهي كلمة: كافر، وفاسق، وظالم، ومنافق، ومشرك. فكفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسوق دون فسوق، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك. فالأكبر يخرج من الملة لمنافاته أصل الدين بالكلية. والأصغر ينقص الإيمان وينافي كماله، ولا يخرج صاحبه من الملة؛ ولهذا فصَّل العلماءُ القول في حكم من حكم بغير ما أنزل الله. ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للعلامة ابن باز، 1/ 137. (¬2) سورة المائدة، الآية: 44. (¬3) سورة المائدة، الآية: 45. (¬4) سورة المائدة، الآية: 47. (¬5) تفسير العلي القدير لاختصار ابن كثير، 2/ 55.

وسمعت شيخنا سماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى يقول: من حكم بغير ما أنزل الله فلا يخرج عن أربعة أنواع: 1 - من قال أنا أحكم بهذا لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية فهو كافر كفراً أكبر. 2 - ومن قال أنا أحكم بهذا لأنه مثل الشريعة الإسلامية، فالحكم بهذا جائز وبالشريعة جائز، فهو كافر كفراً أكبر. 3 - ومن قال أنا أحكم بهذا، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز. فهو كافر كفراً أكبر. 4 - ومن قال أنا أحكم بهذا وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز ويقول الحكم بالشريعة الإسلامية أفضل ولا يجوز الحكم بغيرها ولكنه متساهل أو يفعل هذا لأمرٍ صادر من حُكَّامه فهو كافر كفراً أصغر لا يخرج من الملة ويعتبر من أكبر الكبائر (¬1). ولا منافاة بين تسمية العمل فسقاً، أو عامله فاسقاً، وبين تسميته مسلماً وجريان أحكام المسلمين عليه؛ لأنه ليس كل فسق يكون كفراً، ولا كل ما يسمى كفراً، وظلماً، يكون مخرجاً من الملة حتى ينظر إلى لوازمه وملزوماته وذلك؛ لأنَّ كلاًّ من الكفر، والظلم، والفسوق، والنفاق جاءت في النصوص على قسمين: أ - أكبر يُخرج من الملة لمنافاته أصل الدين بالكلية. ¬

_ (¬1) حدثنا بهذا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وهو مسجل في شريط في مكتبتي الخاصة، وانظر: فتاوى سماحته، 1/ 137.

3 - أنواع النفاق

ب - أصغر يُنقص الإيمان ويُنافي كماله، ولا يُخرج صاحبه منه. فكفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسوق دون فسوق، ونفاق دون نفاق. والفاسق بالمعاصي التي لا توجب الكفر لا يخلد في النار، بل أمره مردود إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة برحمته وفضله، وإن شاء عاقبه بقدر الذنب الذي مات مصراً عليه ولا يخلده في النار، بل يُخرجه برحمته ثم بشفاعة الشافعين إن كان مات على الإيمان (¬1). 3 - أنواع النفاق: ويدخل في نواقض لا إله إلا الله جميع أنواع النفاق الاعتقادي؛ فإن النفاق نوعان: (أ) نفاق اعتقادي يُخرج من الملَّة، وهو ستة أنواع: 1 - تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 2 - أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 3 - أو بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 4 - أو بغض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 5 - أو المسرة بانخفاض دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 6 - أو الكراهية لانتصار دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار. (ب) النوع الثاني النفاق العملي لا يخرج من الملَّة، وهو خمسة أنواع: 1 - إذا حدَّث كذب. 2 - وإذا وعد أخلف. ¬

_ (¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم أصول التوحيد، لحافظ الحكمي، 2/ 423.

4 - الأمور المبتدعة عند القبور أنواع:

3 - وإذا ائتُمن خان. 4 - وإذا خاصم فجر. 5 - وإذا عاهد غدر (¬1). وهذا النفاق لا يخرج من الملة فهو (نفاق دون نفاق)؛لحديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع مَن كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) (¬2)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان)) (¬3). 4 - الأمور المبتدعة عند القبور أنواع: النوع الأول: من يسأل الميت حاجته. وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (¬4) الآية: فكل من دعا نبياً، أو ولياً، أو صالحاً وجعل فيه نوعاً من الإلهية فقد تناولته هذه الآية؛ فإنها عامة في كل من دعا من دون ¬

_ (¬1) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام أحمد بن تيمية ومحمد بن عبد الوهّاب، ص7. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم 34، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم 58. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم 33، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم 59. (¬4) سورة الإسراء، الآيتان: 56 - 57.

النوع الثاني

الله مدعواً وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتاً، أو غائباً من الأنبياء، والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة، أو غيرها فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من العبادة مثل: أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أعني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليُعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر. النوع الثاني: أن يسأل الله تعالى بالميت. وهو من البدع المحدثة في الإسلام وهذا ليس كالذي قبله؛ فإنه لا يصل إلى الشرك الأكبر، والعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين كقول أحدهم: أتوسل إليك بنبيك، أو بأنبيائك، أو بملائكتك، أو بالصالحين من عبادك، أو بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، وهذه الأمور من البدع المحدثة المنكرة والذي جاءت به السنة هو التوسل والتوجه بأسمائه، وصفاته، وبالأعمال الصالحة كما ثبت في الصحيحين في قصة الثلاثة (أصحاب الغار)، وبدعاء المسلم الحي الحاضر له. النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عند القبور مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد القبر لذلك؛ فإن هذا من المنكرات إجماعاً ولم نعلم في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين ... وهذا أمر لم يشرعه الله، ولا

المبحث الرابع: أصول نواقض الشهادتين

رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين ولا أئمة المسلمين ... وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجدبوا مرات ودهمتهم نوائب ولم يجيئوا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بل خرج عمر بالعباس فاستسقى بدعائه وقد كان السلف ينهون عن الدعاء عند القبور فقد رأى علي بن الحسين رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيدعو فيها فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تجعلوا قبري عيداً ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا عليَّ وسلموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم)) (¬1) ووجه الدلالة أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيداً فغيره أولى بالنهي كائناً ما كان (¬2) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليَّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيثما كنتم)) (¬3). المبحث الرابع: أصول نواقض الشهادتين جميع نواقض الإسلام تدخل تحت نواقض أربعة: بالقول، أو الفعل، أو الاعتقاد، أو الشك والتوقف. وإلى التفصيل بإيجاز واختصار: قال سماحة العلامة إمام علماء عصره عبد العزيز بن عبد الله ابن باز ¬

_ (¬1) رواه إسماعيل القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص34، وصححه الألباني في المرجع نفسه، وله طرق وروايات ذكرها في كتابه تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، ص140. (¬2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم، 6/ 165 - 174. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم 2042، وأحمد، 2/ 367، وحسنه الشيخ الألباني في كتابه تحذير الساجد، ص142.

القسم الأول

رحمه الله ورفع درجاته: العقيدة الإسلامية لها قوادح وهذه القوادح قسمان: قسم ينقض هذه العقيدة ويبطلها ويكون صاحبه كافراً نعوذ بالله [من ذلك]، وقسم ينقص هذه العقيدة ويضعفها: فالقسم الأول: يُسمَّى ناقضاً ونواقض الإسلام هي الموجبة للردة، والناقض يكون: قولاً، ويكون عملاً، ويكون اعتقاداً، ويكون شكاً. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدل دينه فاقتلوه)) أخرجه البخاري في الصحيح (¬1)، فدلّ ذلك على أن المرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل ويُعجَّل به إلى النار [وهذه النواقض على النحو الآتي]: 1 - الردة القولية: والقول من هذه النواقض مثل سبّ الله، وسبّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو ينسب العيب إلى الله كأن يقول: إن الله فقير، أو إنّ الله ظالم، أو يقول: إنّ الله بخيل، أو يقول: إنّ الله لا يعلم بعض الأمور، أو يقول: إنّ الله لم يوجب علينا الصلاة فهذه ردة يستتاب صاحبها فإن تاب وإلا قتل. 2 - الردة الفعلية: مثل ترك الصلاة فمن ترك الصلاة ولم يصلِّ فقد كفر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، برقم 3017. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم 2621، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، برقم 1079، وأحمد، 5/ 346، والحاكم، 1/ 6، وقال: ((صحيح))، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 4143. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، برقم 82.

3 - الردة العقدية

ومن ذلك لو استهان بالمصحف، أو داسه، ومن ذلك من طاف بالقبور، وعبادة أهلها، فهذه ردة فعلية إلا إذا قصد بذلك عبادة الله فهذه بدعة قادحة في الدين ولا تكون ردة عن الإسلام بل تكون من النوع الثاني (كفر دون كفر) وكذلك الذبح لغير الله من الردة الفعلية. 3 - الردة العقدية: من اعتقد بقلبه أن الله فقير، أو أنه بخيل، أو أنه ظالم فقد كفر ولو لم يتكلم ... أو اعتقد بقلبه أن محمداً كاذب، أو أحد الأنبياء، أو اعتقد بقلبه أنه لا بأس أن يعبد مع الله غيره، فهذه كلها ردة عن الإسلام؛ لأن الله يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (¬1)، ويقول سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬2)، ويقول سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬3)، فمن زعم أنه يجوز أن يعبد مع الله غيره، ونطق بذلك صار كافراً بالقول والعقيدة جميعاً، وإن فعل ذلك صار كافراً: بالقول، والعمل، والعقيدة جميعاً. ومن القوادح القولية، والفعلية، والعقدية، ما يفعله بعض الناس اليوم عند قبور الصالحين من دعائهم، والاستغاثة بهم ... فمن فعل شيئاً من ذلك يستتاب فإذا رجع إلى الحق خلي سبيله وإن لم يتب فإنه يُقتل ويكون مرتداً. ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 62. (¬2) سورة البقرة، الآية: 163. (¬3) سورة الفاتحة، الآية: 5.

4 - الردة بالشك

4 - الردة بالشك: مثل من يقول: أنا لا أدري هل الله حق أو ليس بحق، أو يقول: أنا لا أدري هل محمد صادق، أو كاذب؟ فهذا كافر أو قال: أنا لا أدري هل البعث حق؟ أو غير حق ... فهذا يكون كافراً يستتاب فإن تاب، وإلا قتل ... أما إذا كان بعيداً عن المسلمين بحيث كان في غابات بعيدة عن المسلمين؛ فإنه يبين له فإذا بُيِّن له وأصر فإنه يقتل. وكذلك من شك في شيء من أركان الإسلام ... فما تقدم من القسم الأول يسمى نواقض ويكون صاحبها مرتداً يستتاب فإن تاب وإلا قتل. أما الوسوسة العارضة والخطرات، فإنها لا تضر إذا دفعها المؤمن ولم يسكن إليها ولم تستقر في قلبه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)) (¬1). وعليه أن يعمل الآتي: 1 - يستعيذ بالله من الشيطان (¬2). 2 - ينتهي عما يدور في نفسه (¬3). 3 - يقول آمنت بالله ورسله (¬4). والقسم الثاني من القوادح: قوادح دون كفر تضعف الإيمان مثل: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره، برقم 5269، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، برقم 127. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم 3276، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم 214 - (134). (¬3) انظر: ما قبله. (¬4) انظر: صحيح مسلم، رقم 134.

أكل الربا، وارتكاب المحرمات: كالزنا، والبدع، وغير ذلك مثل: الاحتفال بالمولد وهو ما أحدثه الناس في القرن الرابع وما بعده من الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكون ذلك إضعافاً للعقيدة، إلا إذا كان هناك في المولد استغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن هذه البدعة تكون من النوع الأول المخرج عن الإسلام. ومن النوع الثاني كذلك التّطيّر كما يفعل أهل الجاهلية وقد ردَّ الله عليهم {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} (¬1). فالطيرة شرك دون كفر .. وكذلك الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬2). (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النمل، الآية: 47. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم 2697، ومسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم 1718. (¬3) القوادح في العقيدة للعلامة ابن باز وهي محاضرة ألقاها في الجامع الكبير في شهر صفر عام 1403هـ وهي مسجلة عندي بمكتبتي الخاصة، وقد طبعت ونشرت ضمن مؤلفات الشيخ.

الفصل الرابع: دعوة المشركين والوثنيين إلى كلمة التوحيد

الفصل الرابع: دعوة المشركين والوثنيين إلى كلمة التوحيد تمهيد: الوثني: من يتدين بعبادة الوثن (¬1)، يقال: رجل وَثَنِيٌّ، وقوم وثنيُّون، وامرأة وثنيّة، ونساء وثنيّات (¬2)، واسم الوثن يتناول كل معبود من دون الله. سواء كان ذلك المعبود قبراً، أو مشهداً، أو صورة، أو غير ذلك (¬3). وكل من دعا نبيّاً، أو وليّاً، أو ملكاً، أو جنّيّاً، أو صرف له شيئاً من العبادة فقد اتخذه إلهاً من دون الله (¬4)، وهذا هو حقيقة الشّرك الأكبر الذي ¬

_ (¬1) الوثن: الصنم، والجمع وُثُنٌ وأوثان: وهو التمثال يُعبد، سواء كان من خشب، أو حجر، أو نحاس، أو فضة، أو غير ذلك. وقد كان الوثنيون يزعمون أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى، كما بيّن سبحانه ذلك عنهم بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [الزمر: 3]. انظر: القاموس المحيط، باب النون، فصل الواو، ص1597، وباب الميم، فصل الصاد، ص1460، والمعجم الوسيط، مادة (وثن)، 2/ 1012، ومادة (صنم)، 1/ 526، والمصباح المنير، مادة (وثن)، ص647، 648، ومادة (صنم)، ص349، ومختار الصحاح، مادة (وثن)، ص295، ومادة (صنم)، ص156. (¬2) انظر: المعجم الوسيط، مادة (وثن)، 2/ 1012، والمصباح المنير، مادة (وثن)، ص648.قال ابن الأثير: الفرق بين الوثن والصنم: أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض، أو من خشب، أو من حجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد. والصنم: الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بينهما، وأطلقهما على المعنيين. انظر: النهاية في غريب الحديث، 5/ 151، 4/ 56. ثم قال: وقد يطلق الوثن على غير الصورة، ومنه حديث عدي بن حاتم قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: ((يا عدي اطرح عنك هذا الوثن)). أخرجه الترمذي في كتاب التفسير، باب سورة التوبة،5/ 278،برقم 3095،وانظر: صحيح الترمذي للألباني، 3/ 56. (¬3) انظر: فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهّاب، ص244. (¬4) انظر: فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد، ص242.

المبحث الأول: الحجج العقلية القطعية على إثبات ألوهية الله تعالى

قال الله تعالى فيه: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (¬1). والمشركون يُدعَون إلى الله تعالى بالحكمة القولية على حسب عقولهم وأفهامهم، ويوضح ذلك ويبينه المباحث الآتية: المبحث الأول: الحجج العقلية القطعية على إثبات ألوهية الله تعالى من البراهين القطعية التي ينبغي تبيينها وتوضيحها لمن اتّخذ من دون الله آلهة أخرى، قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬2). فقد أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه آلهة من الأرض، سواء كانت أحجاراً، أو خشباً، أو غير ذلك من الأوثان التي تعبد من دون الله! فهل هم يحيون الأموات ويبعثونهم؟ والجواب: كلا، لا يقدرون على شيء من ذلك، ولو كان في السموات والأرض آلهة تستحق العبادة غير الله لفسدتا وفسد ما فيهما من المخلوقات؛ لأن تعدد الآلهة يقتضي التمانع والتنازع والاختلاف، فيحدث بسببه الهلاك، فلو فُرِضَ وجود إلهين، وأراد أحدهما أن يخلق شيئاً والآخر لا يريد ذلك، أو أراد أن يُعطي والآخر أراد أن يمنع، أو أراد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه، فحينئذ يختل نظام العالم، وتفسد الحياة! وذلك: ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 48. (¬2) سورة الأنبياء، الآيات: 21 - 23.

* يستحيل وجود مرادهما معا

* لأنه يستحيل وجود مرادهما معاً، وهو من أبطل الباطل؛ فإنه لو وجد مرادهما جميعاً للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد حيّاً ميتاً، متحركاً ساكناً. * وإذا لم يحصل مراد واحد منهما لزم عجز كل منهما، وذلك يناقض الربوبية. * وإن وُجِدَ مراد أحدهما ونفذ دون مراد الآخر، كان النافذ مراده هو الإله القادر والآخر عاجز ضعيف مخذول. * واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور غير ممكن. وحينئذ يتعين أن القاهر الغالب على أمره هو الذي يوجد مراده وحده غير ممُانع، ولا مُدافع، ولا مُنازع، ولا مُخالف، ولا شريك، وهو الله الخالق الإله الواحد، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ ولهذا ذكر سبحانه دليل التمانع في قوله - عز وجل -: {مَا اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1). وإتقان العالم العلوي والسفلي، وانتظامه منذ خلقه، واتساقه، وارتباطه بعضه ببعض في غاية الدقة والكمال: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (¬2). وكل ذلك مسخر، ومدبر بالحكمة لمصالح الخلق كلهم يدل على أن مدبره واحد، وربه واحد، وإلهه واحد، لا معبود بحقٍّ غيره، ولا خالق سواه (¬3). ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 91 - 92. (¬2) سورة الملك، الآية: 3. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 9/ 352، 354، 337 - 382، 1/ 35 - 37، وتفسير البغوي، 3/ 241، 316، وابن كثير، 3/ 255، 176، وفتح القدير للشوكاني، 3/ 402، 496، وتفسير عبد الرحمن السعدي، 5/ 220، 374، وأيسر التفاسير لأبي بكر جابر الجزائري، 3/ 99، ومناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر بن عواض الألمعي، ص158 - 161.

المبحث الثاني: ضعف جميع المعبودات من دون الله من كل الوجوه

المبحث الثاني: ضعف جميع المعبودات من دون الله من كل الوجوه من المعلوم عند جميع العقلاء: أن كل ما عُبِدَ من دون الله من الآلهة ضعيف من كل الوجوه، وعاجز ومخذول، وهذه الآلهة لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئاً من ضر أو نفع، أو حياة أو موت، أو إعطاء أو منع، أو خفض أو رفع، أو عزّ أو ذلّ، وأنها لا تتصف بأي صفة من الصفات التي يتصف بها الإله الحق، فكيف يعبد من هذه حاله؟ وكيف يُرجى أو يُخاف من هذه صفاته؟ وكيف يُسأل من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئاً (¬1). وقد بيّن الله - عز وجل - ضعف وعجز كل ما عبد من دونه أكمل بيان، فقال سبحانه: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَالله هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2)، {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 83، 219، 277، 417، 3/ 47، 211، 310، وتفسير السعدي، 2/ 327، 420، 3/ 290، 451، 5/ 279، 457، 6/ 153، وأضواء البيان للشنقيطي، 2/ 482، 3/ 101، 322، 598، 5/ 44، 6/ 268. (¬2) سورة المائدة، الآية: 76.

بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ *إِنَّ وَلِيِّيَ الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ*وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (¬1)، {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} (¬2). وهي مع هذه الصفات لا تملك كشف الضر عن عابديها ولا تحويله إلى غيرهم {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} (¬3). ومن المعلوم يقيناً أن ما يعبده المشركون من دون الله من: الأنبياء، أو الصالحين، أو الملائكة، أو الجن الذين أسلموا، أنهم في شغل شاغل عنهم باهتمامهم بالافتقار إلى الله بالعمل الصالح، والتنافس في القُرْبِ من ربهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، فكيف يُعبَدُ من هذا حاله (¬4)؟ قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (¬5). وقد أوضح وبيَّن سبحانه: أن ما عُبِدَ من دونه قد توافرت فيهم جميع ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآيات: 191 - 198. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 3. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 56. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 48، وتفسير السعدي، 4/ 291. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 57.

المبحث الثالث: ضرب الأمثال

أسباب العجز وعدم إجابة الدعاء من كل وجه؛ فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض لا على وجه الاستقلال، ولا على وجه الاشتراك، وليس لله من هذه المعبودات من ظهير يساعده على ملكه وتدبيره، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (¬1)، قال - عز وجل -: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (¬2)، وقال - سبحانه وتعالى -: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (¬3). المبحث الثالث: ضرب الأمثال ضَرْبُ الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإيضاح والبيان في إبراز الحقائق المعقولة في صورة الأمر المحسوس، وهذا من أعظم ما يُردُّ به على الوثنيين في إبطال عقيدتهم وتسويتهم المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم؛ ولكثرة هذا النوع في القرآن الكريم سأقتصر على ثلاثة أمثلة توضح المقصود على النحو الآتي: 1 - قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 37، وتفسير السعدي، 6/ 274. (¬2) سورة سبأ، الآيتان: 22 - 23. (¬3) سورة فاطر، الآيتان: 13 - 14.

2 - ومن أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك

شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬1). حق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره؛ فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، فالآلهة التي تُعبَد من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئاً مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو أضعف المخلوقات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة الباطلة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟! وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله تعالى في بطلان الشرك وتجهيل أهله (¬2). 2 - ومن أحسن الأمثال وأدلّها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده، قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ} (¬3). فهذا مثل ضربه الله لمن عبد معه غيره يقصد به التعزز والتقوي ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآيتان: 73 - 74. (¬2) انظر: أمثال القرآن لابن القيم، ص47، والتفسير القيم لابن القيم، ص368، وتفسير البغوي، 3/ 298،وابن كثير، 3/ 236،وفتح القدير للشوكاني، 3/ 470، وتفسير السعدي، 5/ 326. (¬3) سورة العنكبوت، الآيات: 41 - 43.

3 - من أبلغ الأمثال التي تبين أن المشرك قد تشتت شمله

والنفع، فبين سبحانه أن هؤلاء ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء من دون الله أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت التي هي من أضعف الحيوانات، اتخذت بيتاً وهو من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفاً، وكذلك من اتخذ من دون الله أولياء؛ فإنهم ضعفاء، وازدادوا باتخاذهم ضعفاً إلى ضعفهم (¬1). 3 - ومن أبلغ الأمثال التي تُبيّن أن المشرك قد تشتت شمله واحتار في أمره، ما بيّنه تعالى بقوله: {ضَرَبَ الله مَثَلًا رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (¬2). فهذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحد، فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شُبِّهَ بعبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون، سيئة أخلاقهم، يتنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، فهو في عذاب. والموحد لما كان يعبد الله وحده لا شريك له، فمثله كمثل عبدٍ لرجلٍ واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه واختلافهم، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتولِّيه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟ والجواب: كلاً، لا يستويان أبداً (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير البغوي،3/ 468،وأمثال القرآن لابن القيم، ص21،وفتح القدير للشوكاني،4/ 204. (¬2) سورة الزمر، الآية: 29. (¬3) انظر: تفسير البغوي، 4/ 78، وابن كثير، 4/ 52، والتفسير القيم، ص423، وفتح القدير للشوكاني، 4/ 462، وتفسير السعدي، 6/ 468، وتفسير الجزائري، 4/ 43.

المبحث الرابع: الكمال المطلق للإله الحق المستحق للعبادة وحده

المبحث الرابع: الكمال المطلق للإله الحق المستحق للعبادة وحده بعد أن عرفنا صفات الآلهة الباطلة، وأنها لا تملك لنفسها ولا لغيرها ضراً ولا نفعاً، فهي لا تستحق العبادة، وإنما الذي يستحق العبادة وحده من يملك القدرة على كل شيءٍ، والإحاطة بكل شيءٍ، وكمال السلطان والغلبة والقهر والهيمنة على كل شيء، والعلم بكل شيء، ويملك الدنيا والآخرة، والنفع والضر، والعطاء والمنع بيده وحده، فمن كان هذا شأنه، فإنه حقيق بأن يُذَكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُطاع فلا يُعصى ولا يُشرك معه غيره (¬1). وصفات الكمال المطلق لله تعالى، لا يحيط بها أحد، ولكن منها على سبيل المثال: 1 - المتفرد بالألوهية: لا يستحق الألوهية إلا الله وحده، الحي الذي لا يموت أبداً، القيُّوم الذي قام بنفسه وقام به غيره، واستغنى عن جميع المخلوقات، وهي مفتقرة إليه في كل شيء، ومن كمال حياته وقيُّوميّته: أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وجميع ما في السموات والأرض عبيده، وتحت قهره وسلطانه: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} (¬2). ومن تمام ملكه، وعظمته، وكبريائه: أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ¬

_ (¬1) انظر: تفسير البغوي،1/ 237،3/ 71،2/ 88، 372،وابن كثير،1/ 309، 2/ 572، 3/ 42، 2/ 127، 435، 570، 1/ 344، 2/ 138،وتفسير السعدي، 1/ 313، 7/ 686، 2/ 381، 3/ 397، 4/ 206، 6/ 364، 1/ 356، 2/ 372، وأضواء البيان، 2/ 187، 3/ 271. (¬2) سورة مريم، الآيتان: 93 - 94.

2 - هو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه

فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له، لا يُقْدِمون على شفاعة حتى يأذن لهم، ولا يأذن إلا لمن ارتضى، وعلمه تعالى محيط بجميع الكائنات، ولا يطلع أحد على شيء من علمه إلا ما أطلعهم عليه، ومن عظمته أن كرسيه وسع السَّموات والأرض، وأنه قد حفظهما وما فيهما من مخلوقات، ولا يثقله حفظهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القاهر لكل شيء، العليُّ بذاته على جميع مخلوقاته، والعليُّ بعظمته وصفاته، العليُّ الذي قهر المخلوقات ودانت له الموجودات، العظيم الجامع لصفات العظمة والكبرياء، وقد دلّ على هذه الصفات العظيمة قوله تعالى: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ... } الآية (¬1). 2 - وهو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه، فانقادت له المخلوقات بأسرها: جماداتها وحيواناتها، وإنسها وجنّها وملائكتها: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (¬2). 3 - وهو الإله الذي بيده النفع والضر، فلو اجتمع الخلق على أن ينفعوا مخلوقاً لم ينفعوه إلا بما كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إذا لم يرد الله ذلك: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 255. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 83.

4 - هو القادر على كل شيء

الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬1). 4 - وهو القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬2). 5 - إحاطة علمه بكل شيء، شامل للغيوب كلها: يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون (¬3): {إِنَّ الله لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} (¬4)، {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬5)، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬6)، {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬7). ولا شك أن من عرف هذه الصفات وغيرها من صفات الكمال والعظمة، فإنه سيعبد الله وحده؛ لأنه الإله المستحق للعبادة. المبحث الخامس: بيان الشفاعة المثبتة والمنفيّة الشفاعة لغة: يُقال شفع الشيء: ضمَّ مثله إليه، فجعل الوتر شفعاً (¬8). ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 107. (¬2) سورة يس، الآية: 82. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 1/ 344، 2/ 138، والسعدي، 2/ 356، 2/ 372. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 5. (¬5) سورة يونس، الآية: 61. (¬6) سورة الأنعام، الآية: 59. (¬7) سورة الأنفال، الآية: 75. (¬8) انظر: القاموس المحيط، باب العين، فصل الشين، ص947، والنهاية في غريب الحديث، 2/ 485، والمعجم الوسيط، 1/ 487.

واصطلاحا

واصطلاحاً: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرَّةٍ (¬1). من الحكمة القولية في دعوة من يتعلّق بغير الله تعالى ويطلب الشفاعة منه أن يبين له أن الشفاعة ملك لله وحده: {قُل لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬2). ويمكن أن يرد على من طلب الشفاعة من غير الله تعالى بالأقوال الحكيمة الآتية: أولاً: ليس المخلوق كالخالق، فكل من قال: إن الأنبياء والصالحين والملائكة أو غيرهم من المخلوقين لهم عند الله جاهٌ عظيمٌ ومقاماتٌ عاليةٌ فهم يشفعون لنا عنده كما يتقرّب إلى الوجهاء والوزراء عند الملوك والسّلاطين؛ ليجعلوهم وسائطَ لقضاء حاجاتهم، فهذا القول من أبطل الباطل؛ لأنه شبَّه الله العظيم ملك الملوك بالملوك الفقراء المحتاجين للوزراء والوجهاء في تكميل ملكهم ونفوذ قوتهم؛ فإن الوسائط بين الملوك وبين الناس على أحد وجوه ثلاثة: 1 - إما لإخبارهم عن أحوال الناس بما لا يعرفونه. 2 - أو يكون الملِكُ عاجزاً عن تدبير رعيته فلابدّ له من أعوان؛ لذُلِّهِ وعجزه. 3 - أو يكون الملك لا يريد نفع رعيته والإحسان إليهم، فإذا خاطبه من ينصحه ويعظه تحركت إرادته وهمّته في قضاء حوائج رعيته. ¬

_ (¬1) انظر: شرح لمعة الاعتقاد للشيخ محمد صالح العثيمين، ص80. (¬2) سورة الزمر، الآية: 44.

والله - عز وجل - ليس كخلقه الضعفاء، فهو تعالى لا تخفى عليه خافية، وغنيٌّ عن كل ما سواه، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، ومعلوم أن الشافع عند ملوك الدنيا قد يكون له ملك مستقل، وقد يكون شريكاً لهم، وقد يكون معاوناً لهم، فالملوك يقبلون شفاعته لأحد ثلاثة أمور: أ - تارة لحاجتهم إليه. ب - وتارة لخوفهم منه. ج‍وتارة لجزاء إحسانه إليهم. وشفاعة العباد بعضهم عند بعض من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة، والله - عز وجل - لا يرجو أحداً ولا يخافه، ولا يحتاج إليه (¬1)؛ ولهذا قطع الله جميع أنواع التعلّقات بغيره، وبيّن بطلانها، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (¬2). فقد سدّت هذه الآية على المشركين جميع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك أبلغ سد وأحكمه؛ فإن العابد إنما يتعلّق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وحينئذ فلابد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينتفع بها عابده، أو يكون شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من ¬

_ (¬1) انظر فتاوى ابن تيمية، 1/ 126 - 129. (¬2) سورة سبأ، الآيتان: 22 - 23.

ثانيا: الشفاعة شفاعتان: مثبتة ومنفية:

كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده (¬1). ثانياً: الشفاعة شفاعتان: مثبتة ومنفية: 1 - الشفاعة المثبتة: وهي التي تُطلب من الله، ولها شرطان: الشرط الأول: إذن الله للشّافع أن يشفع؛ لقوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (¬2). الشرط الثاني: رضا الله عن الشّافع والمشفوع له؛ لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى} (¬3)؛ ولقوله جلَّ وعلا: {يَومَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً} (¬4). 2 - الشفاعة المنفية: وهي التي تُطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والشفاعة بغير إذنه ورضاه، والشفاعة للكفار: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (¬5)،ويُستثنى شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في تخفيف عذاب أبي طالب (¬6). ثالثاً: الاحتجاج على من طلب الشفاعة من غير الله: بالنص والإجماع، فلم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الأنبياء من قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة، أو الأنبياء، أو الصالحين، ولا يطلبوا منهم الشفاعة، ولم يفعل ذلك أحد ¬

_ (¬1) انظر: التفسير القيم، لابن القيم، ص408. (¬2) سورة البقرة، الآية: 255. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 28. (¬4) سورة طه، الآية: 109. (¬5) سورة المدثر، الآية: 48. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، برقم 3883، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذاباً، برقم 209، 210.

المبحث السادس: الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده

من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولم يستَحِبّ ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا مجتهد يعتمد على قوله في الدين، ولا من يعتبر قوله في مسائل الإجماع، فالحمد لله رب العالمين (¬1). المبحث السادس: الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده من الحكمة في دعوة المشركين إلى الله تعالى لفت أنظارهم وقلوبهم إلى نعم الله العظيمة: الظاهرة، والباطنة، والدينية، والدنيوية. فقد أسبغ على عباده جميع النعم: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} (¬2)، وسخَّر هذا الكون وما فيه من مخلوقات لهذا الإنسان. وقد بيّن سبحانه هذه النعم، وامتنَّ بها على عباده، وأنه المستحق للعبادة وحده، ومما امتنَّ به عليهم ما يأتي: أولاً: على وجه الإجمال: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ... } (¬3)، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} الآية (¬4). {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية،1/ 112، 158، 14/ 399 - 414، 1/ 108 - 165، 14/ 380، 409، 1/ 160 - 166، 195، 228، 229، 241، ودرء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، 5/ 147، وأضواء البيان، للشنقيطي، 1/ 137. (¬2) سورة النحل، الآية: 53. (¬3) سورة البقرة، الآية: 29. (¬4) سورة لقمان، الآية: 20.

ثانيا: على وجه التفصيل:

فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). فقد شمل هذا الامتنان جميع النعم: الظاهرة والباطنة، الحسيّة والمعنوية، فجميع ما في السموات والأرض قد سُخّر لهذا الإنسان، وهو شامل لأجرام السموات والأرض، وما أودع فيهما من: الشمس، والقمر، والكواكب، والثوابت والسيارات، والجبال، والبحار، والأنهار، وأنواع الحيوانات، وأصناف الأشجار والثمار، وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو من مصالح بني آدم، ومصالح ما هو من ضروراتهم: للانتفاع، والاستمتاع، والاعتبار. وكل ذلك دالّ على أن الله وحده هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذلّ والمحبة إلا له، وهذه أدلة عقلية لا تقبل ريباً ولا شكَّاً على أن الله هو الحق، وأن ما يُدعى من دونه هو الباطل (¬2): {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬3). ثانياً: على وجه التفصيل: ومن ذلك قوله تعالى: {الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ ¬

_ (¬1) سورة الجاثية، الآية: 13. (¬2) انظر: تفسير البغوي، 1/ 59، 3/ 72، وابن كثير، 3/ 451، 4/ 149، والشوكاني، 1/ 60، 4/ 420، والسعدي، 1/ 69، 6/ 161، 7/ 21، وفي ظلال القرآن، 1/ 53، 5/ 2792، وأضواء البيان للشنقيطي، 3/ 225 - 253. (¬3) سورة الحج، الآية: 62، وانظر: سورة لقمان، الآية: 30.

تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (¬1). وقال - عز وجل - بعد أن ذكر نعماً كثيرة: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬2). أفمن يخلق هذه النعم وهذه المخلوقات العجيبة كمن لا يخلق شيئاً منها؟ ومن المعلوم قطعاً أنه لا يستطيع فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه، أو حاسة من حواسه، فكيف بما عدا ذلك من النعم؟ في جميع ما خلقه في بدنه، وكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوعها واختلاف أجناسها؟ (¬3). ولا يسع العاقل بعد ذلك إلا أن يعبد الله الذي أسدى لعباده هذه النعم، ولا يشرك به شيئاً؛ لأنه المستحق للعبادة وحده سبحانه. قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (¬4). والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد بن عبدالله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآيات: 32 - 34. (¬2) سورة النحل، الآيات: 14 - 18، وانظر: الآيات: 3 - 12 من السورة نفسها. (¬3) انظر: فتح القدير، 3/ 154، 3/ 110، وأضواء البيان، 3/ 253. (¬4) سورة قريش، الآيتان: 3 - 4.

الرسالة الثانية: بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ولزوم اتباعها

الرسالة الثانية: بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ولزوم اتباعها المبحث الأول: مفهومُ عقيدة أهلِ السنةِ والجماعة أولاً: مفهوم العقيدة لغةً: كلمة ((عقيدة)) مأخوذة من العقد والرَّبط والشّدِّ بقوة، ومنه الإحكام والإبرامُ، والتماسك والمراصّة، يقال: عقد الحبل يعقده: شدّه، ويقال: عقد العهدَ والبيعَ: شدّه، وعقد الإزارَ: شده بإحكام، والعقدُ: ضد الحل (¬1). ثانياً: مفهوم العقيدة اصطلاحًا: العقيدة تُطلق على الإيمان الجازم والحكم القاطع الذي لا يتطرق إليه شكٌّ، وهي ما يؤمن به الإنسانُ ويعقد عليه قلبَه وضميرَه، ويتخذه مذهبًا ودينًا يدين به؛ فإذا كان هذا الإيمان الجازم والحكم القاطع صحيحًا كانت العقيدة صحيحة، كاعتقاد أهل السنة والجماعة، وإن كان باطلاً كانت العقيدةُ باطلة كاعتقاد فرق الضَّلال (¬2). ثالثاً: مفهوم أهل السُّنَّة: السنة في اللغة: الطَّريقة والسِّيرة، حسنة كانت أم قبيحة (¬3)، وهي في اصطلاح علماء العقيدة الإسلامية: الهدي الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه: علمًا واعتقادًا، وقولاً، وعملاً، وهي السنة التي يجب اتباعها، ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الدال، فصل العين، 3/ 296،والقاموس المحيط للفيروز آبادي، باب الدال، فصل العين، ص383،ومعجم المقاييس في اللغة لابن فارس، كتاب العين، ص679. (¬2) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للشيخ الدكتور ناصر العقل، ص9 - 10. (¬3) لسان العرب، لابن منظور، باب النون فصل السين، 13/ 225.

رابعا: مفهوم الجماعة:

ويُحمد أهلُها، ويُذمُّ من خَالَفها؛ ولهذا قيل: فلان من أهل السنة: أي من أهل الطريقة الصحيحة المستقيمة المحمودة (¬1). رابعاً: مفهوم الجماعة: الجماعة في اللغة مأخوذة من مادَّة جمع وهي تدور حول الجمع والإجماع والاجتماع وهو ضد التفرق، قال ابن فارس رحمه الله: ((الجيم والميم والعين أصل واحد يدل على تضام الشيء، يقال: جمعت الشيء جمعًا)) (¬2)، والجماعة في اصطلاح علماء العقيدة الإسلامية: هم سلف الأمة من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين اجتمعوا على الحق الصَّريح (¬3) من الكتاب والسنة (¬4). خامساً: أسماءُ أهلِ السُّنَّة وصِفَاتُهُم: 1 - أهل السنة والجماعة: هم من كان على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه، وهم المتمسِّكون بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم الصحابة، والتابعون، وأئمة الهدى المُتَّبِعون لَهُم، وهم الذين استقاموا على الاتِّباع وابتعدوا عن ¬

_ (¬1) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة، ص13. (¬2) معجم المقاييس في اللغة، لابن فارس، كتاب الجيم، باب ما جاء من كلام العرب في المضاعف والمطابق أوله جيم، ص224. (¬3) وتطلق الجماعة على من وافق الحق، قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك))، قال نعيم بن حماد: ((يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ)). ذكره الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان، 1/ 70، وعزاه إلى البيهقي. (¬4) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، ص68، وشرح العقيدة الواسطية، لابن تيمية، تأليف العلامة محمد خليل هراس، ص61.

2 - الفرقة الناجية

الابتداع في أي مكان وفي أيِّ زمان، وهم باقون منصورون إلى يوم القيامة (¬1)، وسمُّوا بذلك لانتسابهم لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واجتماعهم على الأخذ بها: ظاهرًا وباطنًا، في القول، والعمل، والاعتقاد (¬2). فعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فِرقةً فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقتِ النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون فرقةً في النار وواحدة في الجنة، والذي نفسُ محمدٍ بيده لَتَفتَرِقَنَّ أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، واحدةٌ في الجنة واثنتان وسبعون في النار))، قيل يا رسول الله، من هم؟ قال: ((الجماعة)) (¬3)، وفي رواية الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قالوا: ومن هي يا رسول الله، قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (¬4). 2 - الفرقة الناجية: أي الناجية من النار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثناها عندما ذكر الفرق، وقال: ((كُلُّها في النار إلاّ واحدة))،أي ليست في النار (¬5). 3 - الطائفة المنصورة: فعن معاوية - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تزالُ طائفةٌ من أمتي قائمةً بأمر الله لا يضرُّهم من خذلهم أو ¬

_ (¬1) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، ص13 - 14. (¬2) انظر: فتح رب البرية بتلخيص الحموية، للعلامة محمد بن صالح العثيمين، ص10، وشرح العقيدة الواسطية، للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، ص10. (¬3) أخرجه ابن ماجه بلفظه، في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، برقم 3992، وأبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة، برقم 4596، وابن أبي عاصم، في كتاب السنة، 1/ 32، برقم 63، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 364. (¬4) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، برقم 2641. (¬5) انظر: من أصول أهل السنة والجماعة، للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، ص11.

4 - المعتصمون المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -

خالفهُم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)) (¬1)، وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - نحوه (¬2)، وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) (¬3)، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - نحوه (¬4). 4 - المعتصمون المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؛ ولهذا قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (¬5)، أي هم من كان على مثلِ ما أنا عليه وأصحابي. 5 - القدوة الصالحة الذين يهدون إلى الحق وبه يعملون، قال أيوب السختيَانِي رحمه الله: ((إنَّ من سعادةِ الحَدَث (¬6)، والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة)) (¬7)، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: ((إن لله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، بابٌ: حدثنا محمد بن المثنى، برقم 3641، ومسلم بلفظه، في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، برقم 1037. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، بابٌ: حدثنا محمد بن المثنى، برقم 3640، ومسلم في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، برقم 1921. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، برقم 1920. (¬4) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، برقم 1923. (¬5) سنن الترمذي، برقم 2641، وتقدم تخريجه. (¬6) الحَدَث: الشاب. النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الحاء مع الدال، مادة: ((حدث))،1/ 351. (¬7) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/ 66، برقم 30.

6 - خيار الناس

عبادًا يُحيي بِهمُ العباد والبِلادَ وهم أصحاب السنة ومن كان يعقل ما يَدخُلُ جَوفَه من حله كان من حزب الله)) (¬1). 6 - أهل السنة خيار الناس ينهون عن البدع وأهلِها، قيل لأبي بكر بن عياش: مَن السنّي؟ قال: ((الذي إذا ذُكِرَتِ الأهواء لم يتعصب لشيء منها)) (¬2)، وذكر ابن تيمية رحمه الله: أن أهل السنة هم خيار الأمة ووسطها الذين على الصراط المستقيم: طريق الحق والاعتدال (¬3). 7 - أهل السنة هم الغرباء إذا فسد الناس، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء)) (¬4)، وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قيل: ومن الغرباء؟ قال: ((النُّزَّاع (¬5) من القبائل)) (¬6)، وفي رواية عند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقيل: ومن الغرباء يا رسول الله، قال: ((أُنَاسٌ صالحون في أُناسِ سوءٍ كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهُم)) (¬7)، وفي رواية من طريق آخر: ((الذين ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 1/ 72، برقم 51، وحلية الأولياء لأبي نعيم، 8/ 104. (¬2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي 1/ 72، برقم 53. (¬3) انظر: فتاوى ابن تيمية، 3/ 368 - 369. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، برقم 145. (¬5) النزَّاع: هو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته: أي بَعُدَ وغاب، والمعنى: طوبى للمهاجرين الذين هجروا أوطانهم في الله تعالى. النهاية لابن الأثير، 5/ 41. (¬6) أخرجه الدارمي في كتاب الرقاق، باب إن الإسلام بدأ غريباً، برقم 2758، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب بدأ الإسلام غريباً، برقم 3988، وأحمد في المسند، 1/ 397، وأبو يعلى في المسند، 8/ 388، برقم 4975. (¬7) المسند، 2/ 177 و222.

8 - يحملون العلم ويحزن الناس لفراقهم

يصلحون إذا فسد الناس)) (¬1)، فأهل السنة الغرباء بين جموع أصحاب البدع والأهواء والفرق. 8 - أهل السنة هم الذين يحملون العلم ويَحزنُ الناسُ لِفِراقِهم، أهل السنة: هم الذين يحملون العلم، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ ولهذا قال ابن سيرين رحمه الله: ((لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فيُنظَرُ إلى أهل السنّةِ فيؤخذ حديثُهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم)) (¬2)، وأهل السنة هم الذين يحزن الناس لفراقهم؛ ولهذا قال أيوب السّختياني رحمه الله: ((إني أُخبَرُ بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي)) (¬3)،وقال: ((إن الذين يتمنون موتَ أهلِ السُّنّةِ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتِمّ نوره ولو كره الكافرون)) (¬4). المبحث الثاني: أصولُ أهلِ السُّنّةِ والجماعة إن أهل السنة يسيرون على أصول ثابتة وواضحة، في الاعتقادِ والعمل والسلوكِ، وهذه الأصول مُستمدَّةٌ من كتاب الله - عز وجل -، وسُنةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه سلفُ هذه الأمةِ: من الصحابة، والتابعين، ومن تبعهم من القرون الثلاثة المفضلة، ومن سار على نهجهم بإحسان إلى يوم الدين، وهذه الأصول على النحو الآتي: ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد، 4/ 73. (¬2) مسلم، في المقدمة، باب الإسناد من الدين، 1/ 15. (¬3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي،1/ 66،برقم 29،وأبو نعيم في الحلية، 3/ 9. (¬4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/ 68، برقم 35.

الأصل الأول: الإيمان بالله - عز وجل -

الأصل الأول: الإيمان بالله - عز وجل -: الإيمانُ بالله تعالى: هو الاعتقاد الجازم الذي لا يتطرقُ إليه شك بأن الله - عز وجل - ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكه، وأنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه وأن يُفردَ بالعبادة مع كمال المحبة والذُّلِّ والخضوع، وأنه المتّصف بصفات الكمال فله الأسماءُ الحسنى والصِّفاتُ العُلا، وهو سبحانه منزَّهٌ عن كل عيب ونقص. فظهر من ذلك أن الإيمان بالله - عز وجل - يتضمنُ أربعة أمور (¬1): الأول: الإيمان بوجود الله - عز وجل -، وقد دلّ على ذلك الفطرة، والعقل، والشرع، والحس. 1 - أما دلالة الفطرة على وجوده، فإنَّ كلَّ مخلوقٍ قد فُطِر على الإيمان بخالقه من غير تفكير أو تعليم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه)) (¬2). 2 - أما دلالة العقل على وجود الله - عز وجل -؛ فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها لابد لها من خالق أوجدها على هذا النظام البديع؛ ولهذا ذكر الله هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي فقال - عز وجل -: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ ¬

_ (¬1) انظر: شرح العقيدة الواسطيّة لشيخ الإسلام ابن تيمية، شرحه العلامة محمد بن صالح العثيمين، 1/ 55 - 59، ويرى سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: أن الإيمان بوجود الله - عز وجل - يدخل في الإيمان بالربوبية، ذكر ذلك في تعليقه على هذه المحاضرة. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يُصلَّى عليه؟ وهل يُعرض على الصبي الإسلام؟ برقم 1358، ومسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطر، وحكم أطفال الكفار وأطفال المسلمين، برقم 2658.

3 - دلالة الشرع

شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ*أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} (¬1)، ولما سمع جُبير بنُ مُطعِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآيات وكان مشركًا قال: ((كاد قلبي أن يطير وذلك أولُ ما وقر الإيمان في قلبي)) (¬2). 3 - أما دلالة الشرع على وجود الله - عز وجل -؛ فلأن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب السماوية تنطق بذلك. 4 - أما دلالة الحِسّ على وجود الله - عز وجل - فمن وجهين: (أ) أننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين وغوث المكروبين ما يدل دلالة قاطعة على وجود الله - عز وجل -، قال - سبحانه وتعالى -: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (¬3)، وغير ذلك. وفي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً أعرابيًّا دخل يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيالُ فادعُ الله يغيثنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)) قال أنس - رضي الله عنه -: فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحابُ أمثالَ الجبالِ، ثم لم ينزل من منبره حتى رأيتُ المطرَ يتحادرُ على لحيته، فمطرنا فوالله ما رأينا الشمس سبتًا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في ¬

_ (¬1) سورة الطور، الآيات: 35 - 37. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، سورة الطور، بابٌ: حدثنا عبد الله بن يوسف، برقم 4854، ومسلم بنحوه في كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح، برقم 463. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 76.

الثاني: الإيمان بالربوبية

الجمعة المقبلة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فقال: يا رسولَ الله، هلكت الأموال وانقطعت السُّبُلُ فادع الله يمسكها عنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا))، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت (¬1). (ب) أن آيات الأنبياء التي تُسمَّى المعجزات دليل قاطع على وجود الله - عز وجل -؛لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر يجريها الله تأييدًا لرسله ونصرًا لهم. الثاني: الإيمان بالربوبية، وأن الله - عز وجل - هو الرب الخالق، المالكُ المدبر، قال - عز وجل -: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} (¬2)، ولم يُعلم أن أحدًا من الخلق أنكر ربوبية الله - سبحانه وتعالى - إلا أن يكون مكابرًا، قال - عز وجل - عن آل فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (¬3)، وهذا توحيد الربوبية: هو إفراد الله تعالى بأفعاله. الثالث: الإيمان بالألوهية، وأن الله - عز وجل - هو الإله الحق المستحق للعبادة دون ما سواه؛ لكونه خالق العباد والمحسن إليهم، والقائم بأرزاقهم، والعالم بسرهم وعلانيتهم، والقادر على إثابة مطيعهم، وعقاب عاصيهم؛ ولهذه العبادة خلق الله الثقلين، قال - عز وجل -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة، برقم 1014، ومسلم، في كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، برقم 897. (¬2) سورة فاطر، الآية: 13. (¬3) سورة النمل، الآية: 14.

وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لله أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2)،وقد أرسل الله - عز وجل - الرسل وأنزل الكتب لبيان هذا التوحيد ((توحيد العبادة)) والدعوة إليه، قال - عز وجل -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (¬3)،وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (¬4)،وقال - عز وجل -: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬5)،وكل من اتخذ إلهًا من دونه فإلهيته باطلة، قال - عز وجل -: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬6)، وقال - عز وجل -: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآيات: 56 - 58. (¬2) سورة البقرة، الآيتان: 21 - 22. (¬3) سورة النحل، الآية: 36. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 25. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 18. (¬6) سورة الحج، الآية: 62. (¬7) سورة البقرة، الآية: 163.

الرابع: الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا

وقد أبطل الله - عز وجل - اتخاذ المشركين آلهة من دونه فبيّن ضَعفَها من كلِّ وجه، فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (¬1)، فالعبادة حق الله - عز وجل -؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه -: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)) (¬2)، وهذا كله: توحيد الألوهية: وهو إفراد الله تعالى بالعبادة. الرابع: الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا: أهل السنّةِ والجماعة يُثبتون ما أثبتَهُ الله - عز وجل - لنفسه، وما أثبتَه له رسولُهُ - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، ويُمِرّونها كما جاءت مع الإيمان بما دلّت عليه من المعاني العظيمة، فكل ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسولُهُ من جميع الأسماء والصفات أثبتوه على الوجه اللاَّئق به تعالى، إثباتًا مفصلاً على حدِّ قوله سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وينفون عنه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - نفيًا إجماليًّا غالبًا على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} والنفي يقتضي إثباتَ ما يُضادُّه من الكمال، فكل ما نفى الله عن نفسه من النقائص فإن ذلك يدل على ضِدِّهِ من أنواع الكمال، وقد جمع الله النفي والإثبات في آية واحدة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فهذه الآية تضمنّتْ تنزيه الله من مُشابَهةِ خلقه: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وفي أولها ردٌّ على المشبِّهَةِ وهو قوله ¬

_ (¬1) سورة سبأ، الآيتان: 22 - 23. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب من جاهد نفسه في طاعة الله، برقم 6500، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، برقم 30.

تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وفي آخرها ردّ على المعطلة وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وفي أولها نفي مُجمل، وفي آخرها إثبات مفصل. وقال الله - عز وجل -: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لله الأَمْثَالَ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1)،وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم بإحسان. نَقَلَها عنهم أئمةُ أهل السُّنّةِ (¬2)،قال الوليد بن مسلم رحمه الله: سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية فقالوا: ((أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف)) (¬3)،وقد ذكر أهل السنة كلام الأئمة على قوله - عز وجل -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأن ذلك يدل على علوِّ الله على خلقه كما قال - سبحانه وتعالى -: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬4)،وقال - عز وجل -: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} (¬5)،قال أبو القاسم اللالكائي رحمه الله: ((فدلت هذه الآية أنَّهُ تعالى في السماء وعلمه مُحيطٌ بكلِّ مكان من أرضه وسمائه، وقال: وروى ذلك من الصحابة: عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأمُّ سلمة - رضي الله عنهم -، ومن التابعين ربيعةُ بن أبي عبدالرحمن، وسليمان التيمي، ومقاتل بن حيان، وبه قال من الفقهاء مالك بن أنس، وسفيان ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 74. (¬2) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، 3/ 582، برقم 875، و930. (¬3) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 3/ 582. (¬4) سورة فاطر، الآية: 10. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 61.

الثوري، وأحمد بن حنبل (¬1). وسئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ومِنَ الله الرِّسالة، وعلى الرَّسول البلاغ، وعلينا التَّصديق)) (¬2)، وقال رجل للإمام مالك رحمه الله: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال: ((الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالاًّ وأَمَر به فَأُخرِج)) (¬3). وقيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله: الله - عز وجل - فوق السماء السابعة على عرشه بائنٌ من خلقه، وقدرتُه وعلمه في كل مكان؟ قال: ((نعم على العرش وعلمه لا يخلو منه مكان)) (¬4)، وفي رواية: ((أنه سئل عن قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} فقال الكلام السابق. وهذه النقولات تدل على أن أهل السنة يثبتون الأسماء والصفات وما دلَّت عليه من المعاني العظيمة مع إمرارها كما جاءت بلا كيف. والمعيَّة معيتان: معيَّة عامة لجميع الناس، ومعيَّة خاصة تقتضي التوفيق (¬5). ¬

_ (¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، 3/ 430. (¬2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، 3/ 442، برقم 665. (¬3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، 3/ 441 برقم 664، وجوّد إسناده ابن حجر في فتح الباري، 13/ 406. (¬4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، 3/ 446، برقم 674. (¬5) والإلهام، والنُّصرة.

الأصل الثاني: الإيمان بالملائكة

الأصل الثاني: الإيمان بالملائكة: الإيمان بالملائكة يتضمَّن أربعة أمور (¬1): 1 - الإيمان بوجودهم. 2 - الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه، ومن لم نعلم اسمه نؤمن به إجمالاً. 3 - الإيمان بما علمنا به من صفاتهم، كصفة جبريل فقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رآه على صفته التي خُلِقَ عليها وله ستمائة جناح كل جناح قد سدَّ الأُفق. 4 - الإيمان بما علمنا من أعمالهم التي يقومون بها بأمر الله - عز وجل -. كتسبيحه تعالى كما قال - عز وجل -: {وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (¬2)، وعن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - يرفعه: ((إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطَّتِ السماء وحُقَّ لها أن تئِطَّ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله .. )) (¬3)، وهذا يدل على كثرتهم وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رُفع له البيت المعمور في السماء يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك بلا رجعة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: شرح أصول الإيمان، للعلامة محمد بن صالح العثيمين، ص27. (¬2) سورة الأنبياء، الآيتان: 19 - 20. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً))، برقم 2312، وحسنه، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، برقم 4190،وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي،2/ 268، وصحيح سنن ابن ماجه، 2/ 407. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم 3207، ولفظه: ((فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم))، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات وفرض الصلوات، برقم 164، ولفظه: ((فقلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كُلَّ يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخرُ ما عليهم)).

الأصل الثالث: الإيمان بالكتب

ومن أعمالهم: أن جبريل أمين الوحي، وإسرافيل الموكّل بالنفخ في الصور، وملك الموت الموكّل بقبض الأرواح وغير ذلك. الأصل الثالث: الإيمان بالكتب: يجب الإيمان بالكتب إجمالاً وأن الله - عز وجل - أنزلها على أنبيائه ورسله لبيان حقيقة التوحيد والدعوة إليه، قال - عز وجل -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (¬1). ونؤمن على سبيل التفصيل بما سَمَّى الله منها: كالتوراة، والإنجيل، والزَّبور، والقرآن العظيم، والقرآن أفضلُها وخاتَمها والمُهَيمِنُ عليها، والمصدِّقُ لها، وهو الذي يجب على جميع العباد اتباعه وتحكيمه، مع ما صحَّت به السُّنّة (¬2). الأصل الرابع: الإيمان بالرسل: الإيمان بالرسل، فيُصدّق المُسلم تَصدِيقًا جازمًا بأن الله - عز وجل - أرسل ¬

_ (¬1) سورة الحديد، الآية: 25. (¬2) فظهر أن الإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور: 1 - الإيمان بأنها من عند الله - عز وجل -. 2 - الإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه. 3 - تصديق ما صحّ من أخبارها. 4 - العمل بأحكام ما لم يُنسخ منها والرضا والتسليم به، وجميع الكتب منسوخة بالقرآن الكريم، فهو الذي يجب العمل بما فيه. انظر: شرح أصول الإيمان، للعلامة العثيمين، ص32.

الأصل الخامس: الإيمان باليوم الآخر

الرسل؛ لإخراج الناس من الظُّلمات إلى النُّور، فيجب الإيمان بهم إجمالاً وتفصيلاً، فيجب الإيمان بهم على وجه الإجمال، ويجب الإيمان بمن سَمَّى الله منهم على وجه التفصيل، قال الله - عز وجل -: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا} (¬1)، فيؤمن العبد أن من أجاب الرسل فاز بالسعادة ومن خالفهم باء بالخيبة والندامة، وخاتمهم وأفضلهم هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬2). الأصل الخامس: الإيمان باليوم الآخر: الإيمان باليوم الآخر يدخل فيه الإيمان بكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت ومن ذلك ما يأتي: 1 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدِّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتَها كلُّ شيءٍ إلاَّ الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق)) (¬3)، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 165. (¬2) والإيمان بالرسل يتضمن أربعة أمور: 1 - الإيمان بأن رسالتهم حق من عند الله - عز وجل -. 2 - الإيمان بمن علمنا اسمه منه باسمه. 3 - تصديق ما صح عنهم من أخبارهم. 4 - العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم وهو خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد نَسَخَت شريعته جميع الشرائع السابقة. انظر: شرح أصول الإيمان، للعلامة محمد العثيمين، ص36. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب حمل الرجال الجنازة دون النساء، برقم 1314، وباب قول الميت على الجنازة: ((قدموني))، برقم 1316).

2 - الإيمان بفتنة القبر

((أسرعوا بالجنازة فإن تكُ صالحةً فخير تقدمونها إليه وإن تَكُنْ غير ذلك فشرٌّ تضعونَهُ عن رقابكم)) (¬1). 2 - الإيمان بفتنة القبر وأن الناس يمتحنون في قبورهم بعد الموت فيقال للإنسان: مَن ربُّك وما دينك ومن نبيُّك؟ فالمؤمن يقول: رَبِّي الله وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم -، والفاجر يقول: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيُضرب بمطرقةٍ من حديد فيصيح صيحةً يسمعها كلَّ شيء إلاَّ الإنسان، وفي رواية: ((يسمعها من يليه إلا الثَّقلين)). قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} (¬2). 3 - الإيمان بنعيم القبر وعذابه: فقد ثبت بالكتاب والسنة وهو حق يجب الإيمان به، والعذاب يجري على الروح والجسد تبع له ويوم القيامة على الروح والبدن جميعًا. فعذاب القبر ونعيمه حق دلّ عليه كتاب الله وسنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، برقم 1315، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، برقم 944. (¬2) انظر: صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، برقم 1369، 1374، ومسند الإمام أحمد، 4/ 287، 288، 295، 296، ومستدرك الحاكم 1/ 37 - 40، والآية من سورة إبراهيم: 27. (¬3) انظر: الروح لابن القيم، 1/ 263، 311.

4 - القيامة الكبرى

4 - القيامة الكبرى: حين ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى ثم ينفخ نفخة البعث والنشور فتعاد الأرواح إلى أجسادها فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (¬1). 5 - الميزان الذي توزن به الأعمال، ويوزن العاملُ وعملُه {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (¬2). 6 - الدَّواوين وتطاير الصُّحف، فآخذ كتابه وصحائِفَ أعماله بيمينه، وآخذ كتابه بشماله من وراءِ ظهره: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَة * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} (¬3)، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} (¬4). 7 - الحساب؛ فإن الله يوقف عباده على أعمالهم قبل الانصراف من المحشر فيرى كلُّ إنسان عمله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ ¬

_ (¬1) سورة عبس، الآيات: 24 - 27. (¬2) سورة المؤمنون، الآيتان: 102 - 103. (¬3) سورة الحاقة، الآيات: 19 - 29. (¬4) سورة الانشقاق، الآيات: 10 - 12.

8 - الحوض

مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (¬1)، {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬2). 8 - الحوض؛ فيجب التصديق الجازم بأنَّ حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة ماءُهُ أشدُّ بياضًا من اللَّبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، وطوله شهر وعرضه شهر، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا (¬3)، وهذا مختصّ بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولكل نبي حوض ولكن أعظمها حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -. 9 - الصِّراط؛ وبعده القنطرة بين الجنة والنار يجب الإيمان بذلك وهو منصوب على متن جهنم، يمر عليه الأولون والآخِرون، وهو أحدُّ من السيف وأدقُّ من الشعر، يمرّ عليه الناس على حسب أعمالهم: فمنهم من يتجاوزه كلمح البصر، وكالبرق، وكالريح، وكالفرس الجواد، وكركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشي، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يسقط في جهنم، وعلى حافة الجسر كلاليب تخطف من أمرت بخطفه، فإذا تجاوز المؤمنون وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 30. (¬2) سورة الكهف، الآية: 49. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، بابٌ في الحوض، وقول الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، من حديث عبد الله بن عمرو قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه شربة فلا يظمأ أبداً))، برقم 6579، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2292.

10 - الشفاعة وهي سؤال الخير للغير

فيقتص لبعضهم من بعض فإذا نُقُّوا أُذِنَ لهم في دخول الجنة (¬1). 10 - الشفاعة وهي سؤال الخير للغير، وهي أنواع (¬2)، منها: الشفاعة العظمى لأهل الموقف، والشفاعة في أهل الجنة أن يدخلوها والشفاعة في تخفيف العذاب عن أبي طالب، وهذه الثلاثة خاصة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. والشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها، وهذه الشفاعة يشترك فيها النَّبيُّون، والصِّدّيقون، والشُّهداء، والصَّالحون، وهي تتكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع مرات: 1 - يشفع فيمن كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان. 2 - يشفع فيمن كان في قلبه مثقال ذرة أو خردل من إيمان. 3 - ثم فيمن كان في قلبه أدنى حبة من خردل من إيمان. 4 - ثم فيمن قال: لا إله إلاّ الله. ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب قصاص المظالم، برقم 2440، وكتاب الرقاق، باب القصاص يوم القيامة، برقم 6533 - 6335،وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، برقم 182 - 195. (¬2) وقد أوصلها ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية إلى ثمانية أقسام: 1 - شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - العظمى لفصل القضاء. 2 - الشفاعة في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم. 3 - الشفاعة في أقوام أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها. 4 - الشفاعة في رفع درجات من دخل الجنة. 5 - الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب. 6 - شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب. 7 - شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن يؤذن لجميع المؤمنين بدخول الجنة. 8 - الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص:252 - 262.

11 - الجنة والنار

ثم يخرج الله - عز وجل - من النار أقواماً بغير شفاعة، بل برحمته، وفضله، وإحسانه، فيقول الله تعالى: ((شفعت الملائكة وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط)) (¬1). 11 - الجنة والنار، يجب الاعتقاد بأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، والجنة دار أوليائه، والنار دار أعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون وأهل النَّار من الكفار مخلدون، والجنة والنار موجودتان الآن، وقد رآهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف، وليلة المعراج، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الموت يُجاء به في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ويُذبح ويُقال: ((يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت ويا أهل النار خلودٌ فلا موت)) (¬2). الأصل السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره: ويتضمن الإيمان بأمور أربعة: 1 - الإيمان بأنَّ الله تعالى علم أحوالَ عباده، وأرزاقَهم، وآجالهم، وأعمالهم، وما كان ويكون، لا يخفى عليه شيء: {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3)، {لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، برقم 7439، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم 183، واللفظ لمسلم. (¬2) انظر: صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم 6548، وصحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، برقم 2849، 2850. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 62.

2 - كتابته - عز وجل - لكل المقادير

شَيْءٍ عِلْمًا} (¬1). 2 - كتابتهُ - عز وجل - لكل المقادير (¬2)، قال - عز وجل -: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} (¬3)، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} (¬4)، وفي صحيح مسلم: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)) (¬5). 3 - الإيمان بمشيئة الله النافذة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال - عز وجل -: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬6)، وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، الآية: 12. (¬2) الإيمان بكتابة المقادير يدخل فيه خمسة تقادير: 1 - التقدير الشامل لجميع المخلوقات، بمعنى أن الله - عز وجل -: علمها، وكتبها، وشاءها، وخلقها، وهذه مراتب القدر الأربع. 2 - كتابة الميثاق، لقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا}. 3 - التقدير العُمُري: تقدير رزق العبد، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد في بطن أمه بنهاية الشهر الرابع. 4 - التقدير السنوي؛ فإنه يكتب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة: من الخير، والشر، والأرزاق. 5 - التقدير اليومي، لقوله - عز وجل -: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فيغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين. وهذا التقدير اليومي تفصيل من التقدير الحولي، والحولي تفصيل من التقدير العُمري عند نفخ الروح في الجنين في بطن أمه، والعُمري تفصيل من التقدير العُمري الأول يوم الميثاق، وهو تفصيل من التقدير الذي خطه القلم في الإمام المبين. انظر: معارج القبول، لحافظ ابن أحمد الحكمي، 3/ 928 - 940. (¬3) سورة يس، الآية: 12. (¬4) سورة الحج، الآية: 70. (¬5) صحيح مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى، برقم 2653، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬6) سورة التكوير، الآية: 29.

4 - الإيمان بأن الله هو الخالق لكل شيء وما سواه مخلوق له

أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1). 4 - الإيمان بأن الله هو الخالق لكل شيء وما سواه مخلوق له، قال - عز وجل -: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬2). أمور تدخل في الإيمان بالله - عز وجل -: 1 - يدخل في الإيمان بالله الإيمان الصادق بجميع ما أوجبه الله على عباده وفرضه عليهم، كأركان الإسلام الخمسة، وغيرها مما أوجب الله على عباده. 2 - ومن الإيمان بالله: الاعتقاد بأن الإِيمان قول وعمل، [يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية]. 3 - ومن الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله (¬3). المبحث الثالث: وسطيّةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة أولاً: أهل السنة وسط في باب صفات الله - عز وجل - بين أهل التعطيل وأهل التمثيل: قال الله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} فأهل الإسلام وسط بين الملل، وأهل السنة وسط بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام، فهم وسط بين أهل التعطيل الذين ينفون صفات الله - عز وجل - وبين أهل التمثيل الذين أثبتوها وجعلوها مماثلة لصفات المخلوقين. فأهل السنة أثبتوا صفات الله إثباتًا بلا تمثيل، وينزِّهون الله - عز وجل - عن مشابهة المخلوقين تنزيهًا ¬

_ (¬1) سورة يس، الآية: 82. (¬2) سورة الزمر، الآية: 62. (¬3) انظر: العقيدة الصحيحة وما يُضادُّها، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمهُ الله، ص20.

ثانيا: أهل السنة وسط في باب أفعال العباد بين الجبرية والقدرية

بلا تعطيل، فجمعوا بين التنزيه والإثبات وقد ردَّ الله على الطائفتين بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رَدٌّ على المشبهة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ردّ على المعطّلة (¬1). ثانياً: أهل السنة وسط في باب أفعال العباد بين الجبرية والقدرية: فالجبرية: الذين هم أتباع جهم بن صفوان يقولون: إن العبد مجبور على فعله كالرِّيشة في مهب الريح، والقدرية الذين هم المعتزلة أتباع معبد الجهني ومن وافقهم قالوا: إن العبد هو الخالق لأفعاله دون مشيئة الله وقدرته، وهدى الله أهلَ السنة والجماعة لأن يكونوا وسطًا بين هاتين الفرقتين فقالوا إن الله هو الخالق للعباد وأفعالِهِم، والعبادُ فاعلون حقيقة ولهم قدرة على أعمالهم، والله خالقهم وخالق أعمالهم وقدراتهم {وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬2)،وأثبتوا للعبد مشيئة واختيارًا تابعين لمشيئة الله - عز وجل -: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬3) والله المستعان (¬4). ثالثاً: أهل السنة وسط في باب وعيد الله بين الوعيدية والمرجئة: فالمرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فعندهم أن الأعمال ليست داخلة في مُسمَّى الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، وهذا باطل. ¬

_ (¬1) انظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس، ص126،والكواشف الجلية عن معاني الواسطية، لعبد العزيز بن سلمان، ص494، وشرح العقيدة الواسطية للكاتب، ص49. (¬2) سورة الصافات، الآية: 96. (¬3) سورة التكوير، الآية: 29. (¬4) انظر: شرح العقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، بقلم الكاتب، ص50.

رابعا: أهل السنة وسط في باب أسماء الدين والإيمان والأحكام بين الخوارج والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية

والوعيدية: هم الذين قالوا: إن الله يجب عليه عقلاً أن يُعذَّب العاصي كما يجب عليه أن يُثيب الطائع فمن مات على كبيرة ولم يتب منها فهو خالد مخلد في النار، وهذا أصل من أصول المعتزلة، وبه تقول الخوارج. أما أهل السنة فقالوا: مرتكب الكبيرة إذا لم يستحلها، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان، وإن ماتَ ولم يتب فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه برحمته، وإن شاء عذبه بعدله بقدر ذنوبه ثم يخرجه، قال الله سبحانه (¬1): {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (¬2). رابعاً: أهل السنة وسط في باب أسماء الدين والإيمان والأحكام بين الخوارج والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية: المراد بأسماء الدين هنا: مثل مؤمن، مسلم، كافر، فاسق، والمراد بالأحكام: أحكام أصحابها في الدنيا والآخرة: 1 - الخوارج عندهم أنه لا يُسمَّى مؤمنًا إلا من أدَّى جميع الواجبات واجتنب الكبائر ويقولون: إن الدين والإيمان: قول، وعمل، واعتقاد، ولكنه لا يزيد ولا ينقص فمن أتى كبيرة كفر في الدنيا، وهو في الآخرة خالد مخلد في النار إن لم يتب قبل الموت. 2 - المعتزلة قالوا بقول الخوارج، إلا أنه وقع الاتفاق بينهم في موضعين: ¬

_ (¬1) انظر: شرح العقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، بقلم الكاتب، ص51. (¬2) سورة النساء، الآية: 48.

* نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة، وخلوده في النار مع الكافرين. ووقع الخلاف بينهم في موضعين: * الخوارج سموه في الدنيا كافرًا، والمعتزلة قالوا في منزلة بين المنزلتين: فهو خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر. والخوارج استحلوا دمه وماله والمعتزلة لم يستحلوا ذلك. 3 - المرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فهم يقولون: إن الإيمان مُجَرَّد التَّصديق بالقلب فمرتكب الكبيرة عندهم كامل الإيمان ولا يستحق دخول النار، وهذا يُبيّن أن إيمان أفسق الناس عندهم كإيمان أكمل الناس. 4 - الجهمية وافقوا المرجئة في ذلك تمامًا، فالجهم قد ابتدع التعطيل، والجبر، والإرجاء كما قال ابن القيم رحمه الله. 5 - أما أهل السنة فوفقهم الله للوسطية بين هذين المذهبين الباطلين فقالوا: الإيمان قول وعمل: قول القلب واللِّسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فقول القلب تصديقه وإيقانه، وقول اللسان النطق بالشهادتين والإقرار بلوزامها، وعمل القلب: النِّيّة، والإخلاص، والمحبة، والانقياد، والإقبال على الله - عز وجل -، والتوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه، وكل ما هو من أعمال القلوب، وعمل اللسان، ما لا يُؤدَّى إلا به: كتلاوة القرآن، وسائر الأذكار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله - عز وجل -، وغير ذلك، وعمل الجوارح: القيام بالمأمورات، واجتناب المنهيات، ومن ذلك

خامسا: أهل السنة وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الروافض والخوارج

الركوع والسجود وغير ذلك. فمرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا ينفون عنه الإيمان أصلاً كالخوارج والمعتزلة، ولا يقولون: بأنه كامل الإيمان كالمرجئة والجهمية، أما حُكْمُهُ في الآخرة فهو تحت مشيئة الله - عز وجل - إن شاء أدخله الجنة من أول وهلةٍ رحمةً منه وفضلاً وإن شاء عذبه بقدر معصيته عدلاً منه سبحانه ثم يخرجه بعد التطهير ويدخله الجنة. هذا إن لم يأتِ بناقض من نواقض الإسلام (¬1). خامساً: أهل السُّنّة وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الروافض والخوارج: الرافضة غلوا في علي - رضي الله عنه - وأهل البيت، ونصبوا العداوة لجمهور الصحابة كالثلاثة، وكفَّروهم ومن والاهم، وكفَّروا من قاتل عليًّا، والخوارج قابلوا هؤلاء فَكَفَّرُوا عليًّا ومعاوية ومن معهما من الصحابة. والنواصب نصبوا العداوة لأهل البيت وطعنوا فيهم. أما أهل السنة فهداهم الله للحق فلم يغلوا في عليٍّ وأهل البيت، ولم ينصبوا العداوة للصحابة - رضي الله عنهم -، ولم يكفروهم، ولم يفعلوا كما فعل النواصب من عداوة أهل البيت، بل يعترفون بحق الجميع وفضلهم، ويدعون لهم، ويوالونهم، ويَكُفُّون عن الخوض فيما جرى بينهم، ويترحَّمون على جميع الصحابة فكانوا وسطًا بين غلوِّ الرافضة وجفاء الخوارج، ويقول أهل السنة أفضل الصحابة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، ثم يُرتِّبون الصحابة على ¬

_ (¬1) انظر: شرح العقيدة الواسطية، للهراس، ص131، والكواشف الجلية عن معاني الواسطية، ص502، وشرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، بقلم الكاتب، ص53 - 56.

سادسا: أهل السنة وسط في التعامل مع العلماء:

حسب مراتبهم ومنازلهم - رضي الله عنهم - (¬1). سادساً: أهل السنة وسط في التعامل مع العلماء: أهل السنة يُحِبُّون علماءَهم، ويتأدبون معهم، ويذبُّون عن أعراضهم، وينشرون محامدَهم، ويأخذون عنهم العلمَ بالأدلة، ويرون أن العلماء من البشر غير معصومين، إلا أنه إذا حصل شيء من الخطأ والنسيان والهوى لا ينقص ذلك من قدرهم؛ لأنهم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر، فلا يجوز سبَّهم ولا التشهير بهم، ولا تَتَبُّع عَثَراتِهم ونشرها بين الناس؛ لأن في ذلك فسادًا كبيرًا (¬2)، وقد أحسن ابن عساكر رحمه الله فيما نُقل عنه أنه قال: ((اعلم يا أخي - وفقني الله وإياك لمرضاتِهِ وجعلني وإياك ممن يتقيه حق تقاته - أن لحومَ العلماءِ مسمومة، وعادةُ الله في هتكِ أستار منتقصيهم معلومة) (¬3) وأنَّ من أطال لسانَه في العلماءِ بالثَّلبِ بلاه الله قبل موته بموت القلب {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الكواشف الجلية عن معاني الواسطية، للسلمان، ص505، وشرح العقيدة الواسطية، بقلم الكاتب، ص57 - 58. (¬2) انظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ضمن الفتاوى، جمع عبد الرحمن القاسم، 20/ 231 - 293، وقواعد في التعامل مع العلماء، للدكتور عبد الرحمن اللويحق، ص19 - 184. (¬3) تبيين كذب المفتري، ص29 - 30. (¬4) سورة النور، الآية: 63

سابعا: أهل السنة وسط في التعامل مع ولاة الأمور

سابعاً: أهل السنة وسط في التعامُلِ مع ولاة الأمور: فهم وسط بين المُفْرِطِين والمفرِّطين، فأهل السنة يُحرِّمون الخروج على أئمة المسلمين، ويوجبون طاعتهم والسمع لهم في غير معصية الله، ويدعون لِوُلاتهم بالتوفيق والسداد؛ لأن الله أمر بطاعتهم فقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (¬1). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((على المرء المسلم السمعُ والطاعةُ فيما أحب وكره إلا أن يُؤمَر بمعصية فلا سمعَ ولا طاعة)) (¬2). وعن حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه: ((يكون بعدي أئمةٌ لا يهتدون بِهُداي ولا يستنُّون بسنَّتِي، وسيقوم فيهم رجال قلوبُهم قُلوبُ الشياطين في جُثماِن إنس))، قال قلت: كيف أصنعُ يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: ((تسمَعُ وتطيعُ للأمير وإن ضرب ظهرَك وأخذ مالَك فاسمع وأطع)) (¬3)، وقد حثَّ أهل السنة والجماعة على ذلك. قال الإمام أبو الحسن علي بن خلف البَربَهاري رحمه الله في كتابه شرح السنة: ((إذا رأيتَ الرجلَ يَدعُو على السلطان فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ هَوَىً، وَإِذَا رأيتَ الرجلَ يدعو ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 59. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، برقم 7144، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، برقم 1839. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، برقم 1847.

المبحث الرابع: أخلاق أهل السنة والجماعة

للسُّلطان بالصَّلاح فاعلم أنه صاحِبُ سُنَّةٍ إن شاء الله)) (¬1). وساق بسنده عن الفضيل بن عياض أنه قال: ((لو أن لي دعوةً مستجابة ما جعلتُها إلا في السلطان))، قيل له: ((يا أبا علي فسّر لنا هذا؟)) قال: ((إذا جعلتُها في نفسي لم تَعْدُني، وإذا جعلتُها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد)) (¬2). المبحث الرابع: أخلاق أهل السنة والجماعة من أعظم أخلاق أهل السنة والجماعة ما يأتي: أولاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (¬4). ثانياً: النَّصيحة: لله، وكتابه، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأئمة المسلمين، وعامتهم، وأن المؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا. ثالثاً: يرحمون إخوانهم المسلمين ويحثُّون على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويأمرون بالصبر والإحسان إلى عباد الله على حسب أحوالهم، ¬

_ (¬1) شرح السنة، للبربهاري، ص116. (¬2) شرح السنة، للبربهاري، ص117. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 104 (¬4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، برقم 49.

وما يجب لهم من أقارب، وأيتام، وفقراء، وغير ذلك من مكارم الأخلاق (¬1). نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من الفرقة الناجية التي لا يضرُّها من خذلها ولا من خالفها حتى يأتي أمر الله؛ إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: شرح العقيدة الواسطية، لابن تيمية، للعلامة محمد خليل الهراس، ص258، وشرح العقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، بقلم الكاتب، ص86 - 87. (¬2) هذه نبذة مختصرة في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ولزوم اتباعها، ولم أزد عليها رغبة في الاقتصار على ما سمعه سماحة الوالد العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله في هذه المحاضرة، ومن أراد المزيد فعليه بالرجوع إلى أصول السنة، لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، المتوفى سنة 241هـ، وكتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد، المتوفى سنة 290هـ، وكتاب السنة للحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك المتوفى 287هـ، وكتاب التوحيد للإمام ابن خزيمة، المتوفى 311هـ، ومقالات الإسلاميين للإمام أبي الحسن الأشعري، المتوفى 330هـ، وشرح السنة للإمام أبي محمد الحسن بن علي البربهاري المتوفى 329هـ، والإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، للإمام ابن بطة، المتوفى 387هـ، وكتاب الإيمان لابن منده، المتوفى 395هـ، وأصول أهل السنة لابن زمنين، المتوفى 399هـ، وكتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله - عز وجل - وصفاته على الاتفاق والتفرد للحافظ ابن منده، المتوفى 395هـ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام أبي القاسم اللالكائي، المتوفى 418هـ، والعقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي، المتوفى 321هـ، وشرح السنة للإمام البغوي، المتوفى 516هـ، ولمعة الاعتقاد، للإمام عبد الله بن أحمد بن قدامة، المتوفى سنة 620هـ، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، المتوفى 792هـ، والعقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، المتوفى 728هـ، وهو مطبوع ضمن الفتاوى له 3/ 129 - 159، والفتوى الحموية له، وهو مطبوع ضمن الفتاوى له أيضًا 5/ 5 - 120، وكتاب التوحيد، للإمام محمد بن عبد الوهاب، المتوفى 1206هـ، وشرحه فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، المتوفى 1285هـ، ومن المؤلفات الحديثة النافعة لأصحاب الفضيلة العلماء: شرح العقيدة الواسطية للعلامة محمد خليل الهراس، والعقيدة الصحيحة وما يضادها للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله، وعقيدة أهل السنة والجماعة للعلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، وشرح أصول الإيمان له، ومفهوم عقيدة أهل السنة والجماعة للدكتور ناصر العقل، ومباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة له، ومن أصول عقيدة أهل السنة والجماعة للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، ومجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر العقل، وعقيدة أهل السنة والجماعة: مفهومها وخصائصها، وخصائص أهلها للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد بتقديم سماحة العلامة ابن باز رحمه الله.

الرسالة الثالثة: اعتقاد الفرقة الناجية في الإيمان، وأسماء الله وصفاته

الرسالة الثالثة: اعتقاد الفرقة الناجية في الإيمان، وأسماء الله وصفاته (¬1) المبحث الأول: تعريف الفرقة الناجية: ((أهل السنة والجماعة)) الفِرقة بكسر الفاء: الطائفة من الناس. ووصفت بأنها الناجية المنصورة إشارة إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)) (¬2). وأهل السنة والجماعة بدل من الفرقة، والمراد بالسنة: الطريقة التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة. والجماعة: في الأصل القوم المجتمعون، والمراد بهم في هذه العقيدة: سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وإن كان واحداً قد ثبت على الحق الذي كانت عليه الجماعة المذكورة (¬3). قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((الجماعة من وافق الحق وإن كنت وحدك)) (¬4). وعن عوف بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت اليهود على ¬

_ (¬1) وهذه الرسالة عبارة عن شرح ميسر للعقيدة الواسطية، وقد نشرت بعنوان: ((شرح العقيدة الواسطية)) في رسالة لطيفة. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب رقم 28، برقم 3641، ومسلم في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، برقم 1920، 1921، 1037. (¬3) انظر: الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية، لزيد بن فياض، ص 14، وشرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل الهراس، ص16. (¬4) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم، 1/ 70.

المبحث الثاني: أركان الإيمان عند الفرقة الناجية

إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار. وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة. فإحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقنَّ أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار)) (¬1). المبحث الثاني: أركان الإيمان عند الفرقة الناجية أولاً: الإيمان بالله تعالى: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق، الرازق، المحيي، المميت، وأنه المستحق للعبادة دون ما سواه، وأن يُفرد بالعبادة والذل، والخضوع وجميع أنواع العبادات، وأن الله هو المتصف بصفات الكمال والعظمة، والجلال، المنزَّه عن كل عيب ونقص (¬2). ثانياً: الإيمان بالملائكة: وهو الاعتقاد الجازم بأن لله ملائكة موجودون مخلوقون من نور، وهم كما وصفهم الله عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الله الليل والنهار لا يفترون، وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله بها كما تواترت بذلك النصوص من الكتاب والسنة، فكل حركة في السموات والأرض فهي ناشئة عن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، برقم 3992، وللحديث شواهد أخرى عن أبي هريرة، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب شرح السنة، برقم 4596، والترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، برقم 2640، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 203، 1492. (¬2) الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية، ص15،والأجوبة الأصولية، ص16،والطحاوية، ص335. والإيمان بالله تعالى يشمل أربعة أمور: 1 - الإيمان بوجوده سبحانه. 2 - الإيمان بربوبيته. 3 - الإيمان بألوهيته. 4 - الإيمان بأسمائه وصفاته.

ثالثا: الإيمان بالكتب

الملائكة الموكلين بالسموات والأرض امتثالاً لأمر الله - عز وجل -. فيجب الإيمان بمن سَمَّى الله منهم على وجه التفصيل، ومن لم يسمِّ منهم فيجب الإيمان به على وجه الإجمال (¬1). ثالثاً: الإيمان بالكتب: وهو التصديق الجازم بأن لله كتباً أنزلها على أنبيائه ورسله، وهي من كلامه حقيقة، وأنها نور وهدى، وأن ما تضمنته حق، ولا يعلم عددها إلا الله، ويجب الإيمان بها جملة إلا ما سمَّى الله منها فيجب الإيمان به على وجه التفصيل وهي: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، ويجب مع الإيمان بالقرآن وأنه من عند الله الإيمان بأن الله تكلم به كما تكلم بالكتب المنزَّلة، كما يجب مع هذا كله اتباع ما فيه من أوامر، واجتناب ما فيه من زواجر، وأنه مُهَيْمِن على الكتب السابقة، وأنه مخصوص من الله بالحفظ من التبديل والتغيير، فهو كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود (¬2). رابعاً: الإيمان بالرسل: وهو التصديق الجازم بأن الله أرسل رسلاً لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، واقتضت حكمته تعالى أن يرسلهم إلى خلقه مبشرين ومنذرين، فيجب الإيمان بهم جميعاً على وجه الإجمال، ويجب الإيمان بمن سمَّى الله منهم على وجه التفصيل وهم: خمسة وعشرون ذكرهم الله في القرآن الكريم، ويجب الإيمان بأن لله رسلاً غيرهم وأنبياء لا يُحصي عددهم إلا الله، ولا يعلم أسماءهم إلا هو جل ¬

_ (¬1) الروضة الندية، ص16، والعقيدة الطحاوية، ص350. (¬2) الأجوبة الأصولية، ص16، و17.

خامسا الإيمان بالبعث بعد الموت

وعلا كما يجب الإيمان بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أفضلهم وخاتمهم، وأن رسالته عامة للثقلين ولا نبي بعده - صلى الله عليه وسلم - (¬1). خامساً: الإيمان بالبعث بعد الموت: وهو الاعتقاد الجازم بأن هناك داراً آخرة يجازي الله فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويغفر الله ما دون الشرك لمن يشاء. والبعث شرعاً: هو إعادة الأبدان وإدخال الأرواح فيها، فيخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر أحياء مهطعين إلى الداعي، فنسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة (¬2). سادساً: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى: وهو التصديق الجازم بأن كل خير وشر هو بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها أزلاً قبل إيجادها ثم أوجدها بقدرته، ومشيئته على وِفْقِ ما علمه منها، وأنه كتبها في اللوح المحفوظ قبل إحداثها (¬3). والأدلة على هذه الأركان الستة من الكتاب والسنة كثيرة منها: قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ... الآية (¬4)، وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في ¬

_ (¬1) انظر: الكواشف الجلية عن معاني الواسطية، ص66. (¬2) انظر: المرجع السابق. (¬3) شرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل الهراس، ص19. (¬4) سورة البقرة، الآية: 177. (¬5) سورة القمر، الآية: 49.

المبحث الثالث: مذهب أهل السنة والجماعة في صفات الله تعالى إجمالا

حديث جبريل. (( ... أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (¬1). المبحث الثالث: مذهب أهل السنة والجماعة في صفات الله تعالى إجمالاً أهل السنة والجماعة يثبتون صفات الله تعالى: بلا تعطيل، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تكييف، ويمرُّونها كما جاءت مع الإيمان بمعانيها وما تدل عليه. أولاً: التحريف: هو لغة التغيير والتبديل. واصطلاحاً. تغيير ألفاظ الأسماء الحسنى والصفات العلا أو معانيها. وهو ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: تحريف اللفظ بزيادة، أو نقص، أو تغيير شكل وذلك كقول الجهمية ومن تبعهم في استوى: استولى. بزيادة اللام. وكقول اليهود: حنطة لَمّا قيل لهم: قولوا حطة، وكقول بعض المبتدعة بنصب لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬2). والقسم الثاني: تحريف المعنى وهو إبقاء اللفظ على حاله وتغيير معناه وذلك كتفسير بعض المبتدعة: الغضب بإرادة الانتقام، والرحمة بإرادة الإنعام، واليد بالنعمة. ثانياً: التعطيل: هو لغة: الترك. والمراد به نفي الصفات الإلهية عن الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري بلفظ قريب في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، برقم 50، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله - سبحانه وتعالى -، برقم 8 - 10، واللفظ له. (¬2) سورة النساء، الآية: 164.

أنواع التعطيل

تعالى وإنكار قيامها بذاته تعالى أو إنكار بعضها. فيكون الفرق بين التحريف والتعطيل هو أن التعطيل نفي للمعنى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة، والتحريف: هو تفسير النصوص بالمعاني الباطلة. أنواع التعطيل التعطيل أنواع: 1 - تعطيل الله عن كماله المقدس، وذلك بتعطيل أسمائه وصفاته أو تعطيل شيء من ذلك كما فعلت الجهمية والمعتزلة. 2 - تعطيل الله بترك معاملته، وذلك بترك عبادته أو بعضها، أو عبادة غيره معه. 3 - تعطيل المخلوق عن خالقه، وذلك مثل قول القائلين: إن الطبيعة هي التي أوجدت الأشياء، وإنها تتصرف بطبيعتها. وكل محرف معطل، وليس كل معطل محرفاً. فمن أثبت المعنى الباطل، ونفى المعنى الحق، فهو محرِّف ومعطِّل. أما من نفى الصفات فهو معطل وليس بمحرف. ثالثاً: التكييف: هو السؤال بكيف. والمراد به تعيين وتحديد كنه الصفة بحيث يجعل لها كيفية معلومة، وليس المراد بنفي الكيفية تفويض المعنى المراد من الصفات؛ بل المعنى معلوم من لغة العرب، وهذا مذهب السلف كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى حينما سئل عن كيفية الاستواء فقال رحمه الله تعالى: ((الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)) (¬1). فكل صفة من صفات الله تعالى تدل على ¬

_ (¬1) فتاوى ابن تيمية، 5/ 144.

رابعا: التمثيل

معنى حقيقي ثابت نؤمن به ونثبته لله، ولكننا لا نعرف كيفيتها، وهيئتها وصورتها. فالواجب إثبات الصفات حقيقة ومعنى، وتفويض الكيفية بخلاف الواقفة الذين يفوضون معانيها. رابعاً: التمثيل: هو بمعنى التشبيه بحيث يُجعل لله شبيهٌ في صفاته الذاتية أو الفعلية، وهو قسمان: أ - تشبيه المخلوق بالخالق، كما شبهت النصارى المسيح بن مريم بالله تعالى، وكما شبهت اليهود عزيراً بالله. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ب - تشبيه الخالق بالمخلوق، كما فعلت المشبهة الذين يقولون: له وجه كوجه المخلوق، ويد كيد المخلوق، وسمع كسمع المخلوق، ونحو ذلك من التشبيه الباطل تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً (¬1) (¬2). المبحث الرابع: الإلحاد في أسماء الله وصفاته: الإلحاد في أسماء الله تعالى: هو العدول بها وبحقائقها، ومعانيها عن الحق الثابت لها. والإلحاد إما أن يكون بجحدها أو إنكارها بالكلية، وإما بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويل الفاسد، وإما بجعلها أسماء لبعض المبتدعات كإلحاد أهل الاتحاد، فيدخل في الإلحاد: التحريف، والتعطيل، والتكييف، والتمثيل، والتشبيه (¬3). ¬

_ (¬1) الكواشف الجلية عن معاني الواسطية، ص86. (¬2) قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: ((وهناك تشبيه ثالث وهو تشبيه الخالق بالمعدومات، والمستحيلات، والناقصات، أو الجمادات، وهذا الذي وقع فيه الجهمية والمعتزلة)). (¬3) انظر: الأجوبة الأصولية، ص32، وشرح العقيدة الواسطية للهراس، ص24.

المبحث الخامس: طريقة أهل السنة والجماعة في النفي والإثبات

المبحث الخامس: طريقة أهل السنة والجماعة في النفي والإثبات أهل السنة والجماعة يثبتون ما أثبته الله لنفسه مفصلاً على حد قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، فكل ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأسماء والصفات أثبتوه لله على الوجه اللائق به تعالى. وأهل السنة والجماعة ينفون ما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - نفياً إجمالياً غالباً على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬1). والنفي يقتضي إثبات ما يضاده من الكمال فكل ما نفى الله عن نفسه من النقائص ومشاركة أحد من خلقه في شيء من خصائصه فإنها تدل على ضدها من أنواع الكمال. وجمع الله النفي والإثبات في آية واحدة - أعني النفي الإجمالي والإثبات المفصل - وهي قوله - سبحانه وتعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، فهذه الآية تضمنت تنزيه الله عن مشابهة خلقه لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وفي أول هذه الآية رد على المشبهة وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وفي آخرها رد على المعطلة وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، وفي أول هذه الآية نفي مجمل، وفي آخرها إثبات مفصّل، وفيها رد على الأشاعرة الذين يقولون ببعض الصفات وينفون البعض الآخر، وفيها رد على المعتزلة الذين يقولون سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر (¬2). وقد ساق المؤلف رحمه الله تعالى (¬3) الآية السابقة، وسورة الإخلاص، وآية الكرسي لتضمن ¬

_ (¬1) سورة الشورى، الآية: 11. (¬2) الأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية، ص26. (¬3) شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية.

المبحث السادس: مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته تفصيلا

هذه السورة - وما ذكر معها من الآيات - النفي والإثبات (¬1)، فسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن كما بين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وذكر العلماء من تفسير ذلك أن القرآن أنزل على ثلاثة أنواع: توحيد، وقصص، وأحكام. وهذه السورة تدل على التوحيد بأنواعه الثلاثة: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ لذا قيل إنها تعدل ثلث القرآن (¬3). وآية الكرسي آية عظيمة، وهي أعظم آية في كتاب الله تعالى (¬4)، وما ذلك إلا لما اشتملت عليه من الأسماء الحسنى والصفات العلا، فقد اجتمع فيها ما لم يجتمع في غيرها، فآية احتوت على هذه المعاني العظيمة يحق أن تكون أعظم آية في كتاب الله تعالى (¬5). المبحث السادس: مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته تفصيلاً أهل السنة مذهبهم مذهب سلف هذه الأمة رحمهم الله تعالى، وهو أنهم يؤمنون بكل ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه، وبكل ما أخبر به عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إيماناً سالماً من التحريف والتعطيل، ومن التكييف والتمثيل، ¬

_ (¬1) الروضة الندية، ص120، وشرح العقيدة الواسطية للهراس، ص31. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}، برقم 5015، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}، برقم 811. (¬3) شرح العقيدة الواسطية للهراس، ص21. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي، برقم 810، وأبو داود في كتاب الوتر، باب ما جاء في آية الكرسي، برقم 1460، وأحمد في المسند، 5/ 142. (¬5) الأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية، ص40.

المبحث السابع: آيات الصفات وأحاديثها

ويجعلون الكلام في صفات الله وذاته باباً واحداً فالقول في الصفات كالقول في الذات، فإن كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف، فكذلك إثبات الصفات. فيجب عندهم الإيمان بأسماء الله وصفاته التي ثبتت بالكتاب والسنة الصحيحة أو بأحدهما ويجب أن تُمرّ كما جاءت بلا تكييف مع الإيمان بما دلّت عليه من المعاني العظيمة التي هي أوصاف لله - عز وجل - يجب وصفه بها على الوجه اللائق به بلا تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل (¬1). وأهل السنة والجماعة لا يقيسون الله بخلقه، فلا يجوز عندهم استعمال الأقيسة التي تقتضي المماثلة، والمساواة بين المقيس والمقيس عليه في الشؤون الإلهية، فلا يستخدمون قياس التمثيل، ولا قياس الشمول في حق الله تعالى. إنما يستخدمون في حقه سبحانه قياس الأَوْلى. ومضمون هذا القياس أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق به أولى، وكل نقص تنزّه عنه المخلوق فالخالق أحقّ بالتنزيه عنه. المبحث السابع: آيات الصفات وأحاديثها بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله تعالى (¬2) عقيدة الفرقة الناجية إجمالاً: من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى، شرع في ذلك على وجه التفصيل، فذكر رحمه الله أن ¬

_ (¬1) انظر العقيدة الصحيحة وما يضادها، للشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمهُ الله، ص7، ط الإفتاء، وشرح العقيدة الواسطية للهراس، ص25 .. (¬2) شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية.

1 - صفة العزة

من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. ثم ذكر رحمه الله جملة من الآيات، وجملة من الأحاديث الصحيحة التي أثبت فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفات الله - عز وجل - على الوجه اللائق به تعالى. وأراد المؤلف بهذا الإثبات أنه لا طريق لمعرفة الإنسان المسلم صفات ربه العلا، وأسمائه الحسنى إلا عن طريق الوحي. وأسماء الله وصفاته توقيفية فما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله - صلى الله عليه وسلم - أثبتناه، وما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - نفيناه. وحسبنا ما جاء في هذا القرآن وصحيح السنة. ومما ذكر رحمه الله ما يلي: 1 - صفة العزة: قال الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1)، فسبح الله نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. 2 - صفة الإحاطة: قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬2)، وقد فسر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)) (¬3)، وهذا ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآيات: 180 - 181. (¬2) سورة الحديد، الآية: 3. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم 2713، وانظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس، ص42.

3 - صفة العلم

يدل على الإحاطة الزمانية {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} ويدل على الإحاطة المكانية قوله تعالى: {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}. 3 - صفة العلم، 4 - صفة الحكمة، 5 - صفة الخبرة: قال الله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬1)، وقال تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬2)، وعلم الله تعالى من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله، فهو قد أحاط بكل شيء علماً جملة وتفصيلاً. والله تعالى له الحكم في الدنيا والآخرة، وهو سبحانه إذا أحكم شيئاً لا يتطرّق إليه الفساد فقد أحكم هذا الخلق وأوجده وهو سبحانه الحكيم العليم (¬3). 6 - صفة الرزق، 7 - والقوة، 8 - والمتانة: قال الله تعالى: {إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬4)، والرزاق هو كثير الرزق واسعه كما تدل عليه صيغة المبالغة، وكل ما في الكون من رزق فهو من الله تعالى. والرزق رزقان: رزق يستمر نفعه في الدنيا والآخرة، وهو رزق القلوب، الذي هو العلم والإيمان والرزق الحلال. والرزق الثاني وهو الرزق العام لسائر الخلق برَّهم وفاجرهم والبهائم وغيرها. والله تعالى موصوف بالقوة، والقوي شديد القوة، فَعُلِمَ أن ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 100. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 18. (¬3) انظر الأجوبة الأصولية، ص42. (¬4) سورة الذاريات، الآية: 58.

9 - صفة السمع

القوي من أسمائه ومعناه الموصوف بالقوة. والمتين البالغ في القوة والقدرة نهايتهما (¬1). 9 - صفة السمع، 10 - صفة البصر: قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬2)، من صفات الله الذاتية: السمع والبصر. فله تعالى سمع وبصر يليق بجلاله لا كسمع خلقه ولا بصرهم، بل قد أحاط سمعه بجميع المسموعات، وهو يشاهد، ويرى كل شيء وإن خفي ظاهراً وباطناً (¬3) وقد قال الشاعر: يا من يرى مدَّ البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى مناط عروقها في نحرها ... والمخَّ في تلك العظام النحَّل امننْ عليَّ بتوبةٍ تمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأوّل 11 - صفة الإرادة، 12 - والمشيئة: قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (¬4)، وقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (¬5)،والإرادة نوعان: 1 - إرادة كونية ترادفها المشيئة وهما تتعلقان بكل ما يشاء الله فعله ¬

_ (¬1) الروضة الندية، ص74. (¬2) سورة الشورى، الآية: 11. (¬3) انظر: الروضة الندية، ص74، وص112. (¬4) سورة البقرة، الآية: 253. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 125.

2 - إرادة شرعية

وإحداثه، فهو سبحانه إذا أراد شيئاً وشاءه كان عقب إرادته له كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1)، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. 2 - إرادة شرعية تتعلق بما أمر الله به عباده مما يحبه ويرضاه، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2). الفرق بين الإرادتين: الإرادة الكونية القدرية عامة تشمل جميع الحوادث وكل ما يقع في هذا الكون من خير وشر، وكفر، وإيمان، وطاعة ومعصية. أما الإرادة الدينية الشرعية فتختص بما يحبه الله ويرضاه مما جاء في الكتاب والسنة. فتجتمعان في حق المطيع وتنفرد الكونية القدرية في حق العاصي والكافر. ومعنى ذلك أن طاعة المطيع أرادها الله ديناً، وشرعاً، وكوناً، وقدراً. أما كفر الكافر فأراده الله كوناً وقدراً، ولم يرده ديناً وشرعاً (¬3). 13 - صفة المحبة، 14 - والمودة: قال الله تعالى: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬4)، ومحبة الله تليق بجلاله كما تقدم، وهي من الصفات الفعلية وسببها امتثال ما أمر الله به من الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله. وكذلك صفة المودة لقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ ¬

_ (¬1) سورة يس، الآية: 82. (¬2) سورة البقرة، الآية: 185. (¬3) العقيدة الطحاوية، ص116، وشرح الواسطية للهراس، ص52، والأجوبة الأصولية، ص48. (¬4) سورة البقرة، الآية: 195.

15 - صفة الرحمة،

الْوَدُودُ} (¬1)، والود صفاء المحبة وخالصها. 15 - صفة الرحمة، 16 - والمغفرة: قال الله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (¬2)،وقال سبحانه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3) في الآية الأولى أثبت الله لنفسه صفة الرحمة، وفي الآية الثانية أثبت سبحانه لنفسه صفة المغفرة، ونحن نثبت ما أثبت الله لنفسه على الوجه اللائق به - سبحانه وتعالى -. 17 - صفة الرضى، 18 - والغضب، 19 - والسخط، 20 - واللعن، 21 - والكراهية، 22 - والأسف، 23 - والمقت: قال الله تعالى: {رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬4)، وقال سبحانه: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} (¬5)،وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ الله وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} (¬6)، وقال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (¬7)، وقال سبحانه: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (¬8)، وقال سبحانه: {وَلَكِن كَرِهَ الله انبِعَاثَهُمْ} (¬9)، في هذه الآيات وصف الله نفسه بالغضب، والسخط، والرضى، واللعن، ¬

_ (¬1) سورة البروج، الآية: 14. (¬2) سورة غافر، الآية: 7. (¬3) سورة يونس، الآية: 107. (¬4) سورة البينة، الآية: 8. (¬5) سورة النساء، الآية: 93. (¬6) سورة محمد، الآية: 28. (¬7) سورة الزخرف، الآية: 55. (¬8) سورة الصف، الآية: 3. (¬9) سورة التوبة، الآية: 46.

24 - مجيء الله

والكراهية، والأسف، والمقت. وهذه كلها من صفات الأفعال التي يفعلها جل وعلا متى شاء إذا شاء، فكما أثبت أهل السنة الصفات الذاتية لله كذلك أثبتوا أفعاله الاختيارية على ما يليق بجلاله - سبحانه وتعالى - (¬1). 24 - مجيء الله، 25 - وإتيانه: قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} (¬2)، وقال تعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬3). في هذه الآيات التي ذكر المؤلف وفي غيرها إثبات صفة المجيء، وصفة الإتيان، والنزول على ما يليق بالله تعالى. وهذه الأفعال الاختيارية المتعلقة بالمشيئة والقدرة. 26 - صفة الوجه، 27 - واليدين، 28 - والعينين: قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬4)، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (¬5)، وقال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬6)، في هذه الآيات إثبات صفة الوجه، واليدين، والعينين لله تعالى على ما يليق به. ويدل على صفة العينين من السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن ¬

_ (¬1) انظر: الكواشف الجلية، ص210، والروضة الندية، ص94. (¬2) سورة البقرة، الآية: 210. (¬3) سورة الفجر، الآيتان: 21 - 22. (¬4) سورة الرحمن، الآية: 27. (¬5) سورة الطور، الآية: 48. (¬6) سورة ص، الآية: 45.

29 - صفة المكر

ربكم ليس بأعور)) (¬1). 29 - صفة المكر، 30 - والكيد: قال الله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬2)، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} (¬3)، وقال تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} (¬4)، أثبت الله لنفسه هذه الصفات المذكورة في الآيات. وهي: المكر، والكيد، والمماحلة، وهذه صفات فعلية تثبت لله كما يليق بجلاله وعظمته، ولا يجوز أن يشتق له من هذه الصفات الفعلية اسم، فلا يُقال: من أسمائه الماكر، ولا الكائد؛ لأن ذلك لم يرد، بل نقف عندما ورد من أنه سبحانه خير الماكرين، وأنه يكيد لأعدائه الكافرين. فوصف الله نفسه بالمكر، والكيد على وجه الجزاء والمقابلة، نحو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (¬5)، وقيل على بابه: وهو إيصال المكر والكيد لمن يستحقه عقوبة له: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل} (¬6)، والله تعالى أطلق على نفسه أفعالاً لم يتسمَّ فيها بأسماء الفاعل: كأراد، وشاء، وأحدث، ولم يُسمَّ بالمريد، والشائي، والمُحدث، كما لم يُسمِّ نفسَه بالصانع، والفاعل، والمتقن، وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء. ولكن ما أثبته الله لنفسه أثبتناه، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، برقم 3057، ومسلم في كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، برقم 169/ 274. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 54. (¬3) سورة الطارق، الآيتان: 15 - 16. (¬4) سورة الرعد، الآية: 13. (¬5) سورة الشورى، الآية: 40. (¬6) سورة الفيل، الآيتان: 1 - 2.

31 - صفة العفو

يُرِيدُ} (¬1)، وكقوله: {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2). 31 - صفة العفو، 32 - والمغفرة، 33 - والعزة، 34 - والقدرة: قال الله تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (¬3)، وقال تعالى: {وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬4)، وقوله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬5)، ففي هذه الآيات أثبت الله لنفسه صفة العفو، وصفة المغفرة، وصفة العزة، وصفة القدرة فنحن نثبتها لله على الوجه اللائق به تعالى لا يشبه في ذلك شيئاً من خلقه)) (¬6). 35 - صفة الاستواء، 36 - والعلو: قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬7)، ذكر الله ذلك في سبعة مواضع من كتابه، فنحن نثبت ما أثبته الله لنفسه فنقول: إنه استوى حقيقة استواء يليق بجلاله، فالاستواء معلومٌ، والكيف مجهولٌ، والإيمان به واجبٌ، والسؤال عنه بدعةٌ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة (¬8). ¬

_ (¬1) سورة البروج، الآية: 16. (¬2) سورة النمل، الآية: 88. (¬3) سورة النساء، الآية: 149. (¬4) سورة المنافقون، الآية: 8. (¬5) سورة النور، الآية: 22. (¬6) الروضة الندية، ص115، والكواشف الجلية، ص267، ومختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم، 2/ 31 - 35. (¬7) سورة طه، الآية: 50. (¬8) فتاوى ابن تيمية، 5/ 144.

37 - صفة المعية

وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬1)، والعلوُّ وصفٌ ذاتيٌّ لله تعالى: فله العلوُّ المطلق: علوُّ الذاتِ وعلوُّ القدر، وعلوُّ القهر (¬2)، وفي الحديث: ((والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه)) (¬3). 37 - صفة المعيّة لله تعالى: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬4)، وقال تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (¬5)، نجد في هذه الآيات أن الله تعالى أثبت لنفسه معيّةً، وهذه المعيّة معيّتان: 1 - معيّة الله لجميع المخلوقات ومقتضاها العلم، والإحاطة، والاطلاع، ودليل ذلك ما جاء في آية سورة الحديد السابقة. ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 10. (¬2) الروضة الندية، ص131. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، برقم 3191 عن عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء))، وعند أبي داود: ((إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته)). أخرجه في كتاب السنة، باب في الجهمية والمعتزلة، برقم 4726، وعند الترمذي في كتاب التفسير، باب ومن سورة هود من حديث أبي رزين، برقم 3109: ((كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء)). وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن)). وصححه الألباني في مختصر العلو للعلي الغفار، ص103. (¬4) سورة الحديد، الآية: 4. (¬5) سورة النحل، الآية: 128.

2 - معية خاصة لأهل الإيمان

2 - معيّة خاصة لأهل الإيمان والتقوى ومقتضاها الحفظ، والعناية، والنصرة ... والمعيّة العامّة من الصفات الذاتية، والمعيّة الخاصّة من الصفات الفعلية. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنّ أحدكم إذا قام في صلاته فإنّه يناجي ربه أو إنّ ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقنّ أحدكم قِبَلَ وجهه، [ولا عن يمينه] ولكن عن يساره أو تحت قدمه [وفي رواية] أو تحت قدمه اليسرى)) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم)) (¬2). 38 - صفة الكلام لله تعالى: قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬3)، هذه الآية وغيرها من الآيات التي ذكرها المؤلف، وهي كثيرة جداً، تدل على أن الله يتكلّم حقيقة على ما يليق بجلاله، فهو سبحانه يتكلّم إذا شاء بما شاء متى شاء، فهو تعالى قد تكلّم بالقرآن، والكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والقرآن كلامه تعالى مُنَزَّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وإذا قرأ الناس القرآن أو كتبوه في المصاحف لم يخرجه ذلك عن أن يكون كلام الله؛ فإنّ الكلام إنّما يضاف إلى من قاله أولاً أي مبتدئاً لا إلى من بلّغه مؤدياً والله تكلم بحروفه، ومعانيه بلفظ نفسه سبحانه ليس شيء منه لغيره، فالله تعالى متكلّم بكلامٍ قديم النوع حادث الآحاد، وأنه لم يزل متكلّماً بحرف وصوت بكلام ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد، برقم 405، وباب لا يبصق عن يمينه في الصلاة، برقم 412، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها، برقم 551. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، برقم 2704/ 46. (¬3) سورة النساء، الآية: 164.

39 - رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

يُسْمِعُه من شاء من خلقه وهو سبحانه يكلّم المؤمنين يوم القيامة ويكلّمونه، وكلامه قائم بذاته وهو صفة ذات وفعل فهو لم يزل ولا يزال متكلماً إذا شاء على ما يليق بجلاله (¬1)، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)) (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله - عز وجل -: ((يا آدم فيقول: لبيك وسعديك، والخيرُ في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعةً وتسعين. قال: فذاك حين يشيب الصغير، وتضعُ كل ذات حملٍ حملها، وترى الناس سُكارَى، وما هم بسُكارَى ولكن عذاب الله شديد ... )) (¬3) الحديث. 39 - رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة: قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬4)، ذكر المؤلف رحمه الله تعالى تحت هذا الباب آيات تدل على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة عِياناً بأبصارهم على الوجه اللائق بالله تعالى، لا يشبه في ذلك شيء من خلقه، وقد وردت السنة بذلك أيضاً قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ قال يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا، ألم تدخلنا ¬

_ (¬1) الروضة الندية، 146، والأجوبة الأصولية، 93، وشرح الواسطية للهراس، ص96. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، برقم 6539، ومسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم 1016/ 67. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، برقم 3348، ومسلم في كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، برقم 222. (¬4) سورة القيامة، الآيتان: 22 - 23.

40 - نزول الله إلى السماء الدنيا كل ليلة

الجنة وتنجنا من النار؟، قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل -))، ثم تلا هذه الآية: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (¬1) (¬2)، وقد اتفق على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة: الأنبياء، والمرسلون، وجميع الصحابة، والتابعون، وأئمة الإسلام على تتابع القرون. والمخالفون في ذلك: الجهمية، والمعتزلة، ومن تبعهم، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامّون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وصلاةٍ قبل غروب الشمس فافعلوا)) (¬4). 40 - نزول الله إلى السماء الدنيا كل ليلة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) (¬5)، وهذا الحديث المتفق على صحته دليل صحيح صريح في إثبات نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، ونزوله تعالى يليق بجلاله، وعظمته، والنزول من الصفات الفعلية ينزل ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 26. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم - سبحانه وتعالى -، برقم 181. (¬3) الكواشف الجلية، ص401. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم 554، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، برقم 633. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب أبواب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، برقم 1145، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، برقم 758.

42 - صفة الفرح

إذا شاء متى شاء فالنزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك (¬1). 41 - صفة الفرح لله تعالى: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة)) (¬2)، وهذه الصفة من الصفات الفعلية وهي تليق بالله - عز وجل -. 42 - صفة الضحك لله تعالى: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر: كلاهما يدخل الجنة))، فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: ((يقاتل هذا في سبيل الله - عز وجل - فَيُسْتَشْهَد ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله - عز وجل - فيستشهد)) (¬3)، في هذا الحديث دليل صحيح صريح على إثبات صفة الضحك لله على الوجه اللائق بجلاله تعالى، لا يشبه أحداً من خلقه، وهذه الصفة من الصفات الفعلية التي يفعلها الله إذا شاء متى شاء كيف شاء على الوجه اللائق به ¬

_ (¬1) شرح حديث النزول لابن تيمية ص33 والروضة الندية ص172. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب التوبة (رقم 6309)، ومسلم في كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، برقم 2747/ 8، وهذا لفظ البخاري بينما عند مسلم: ((إذا استيقظ على بعيره))، ولفظ الحديث للبخاري. وانظر: الكواشف الجلية، ص457، والروضة الندية، ص175. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل، برقم 2826، ومسلم في كتاب الإمارة، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، برقم 1890.

43 - صفة العجب

سبحانه (¬1). 43 - صفة العجب: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد عجب الله - عز وجل - أو ضحك من فلان وفلانة فأنزل الله - عز وجل -: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ})) (¬2)، وفي هذا الحديث الصحيح إثبات صفة العجب، وهي من الصفات الفعلية، فالله تعالى يعجب متى شاء إذا شاء على ما يليق بجلاله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}. 44 - صفة قَدَم الرحمن: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه -[وفي رواية] عليها قدمه - فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قط قط)) (¬3)، وفي هذا إثبات صفة قدم الرحمن على ما يليق بجلاله كما تقدم (¬4). الصفات تنقسم إلى فعلية وذاتية القسم الأول: الصفات الذاتية: وهي التي لا تنفك عن الله تعالى، فهو لم يزل ولا يزال متصفاً بها: كالعلم، والحياة، والقدرة، والسمع، والبصر، والوجه، واليدين، والعينين، والرجل، والملك، والعظمة، والكبرياء، ¬

_ (¬1) انظر الروضة الندية، ص175، والكواشف الجلية، ص457. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ}، برقم 4889، واللفظ له، ومسلم بلفظ مختلف في كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، برقم 2054. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلامه، برقم 6661، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم 2848. (¬4) انظر مختصر الأجوبة الأصولية، ص103.

القسم الثاني

والعزة، والعلو، والإصبع، والقدم، والغنى، والرحمة، والكلام. القسم الثاني: الصفات الفعلية: وهي التي تتعلق بالمشيئة والقدرة: كالاستواء، والنزول، والمجيء، والضحك، والرضى، والعجب، والسخط، والإتيان، والإحياء، والإماتة، والفرح، والغضب، والكره، والحب، فهذه صفات يقال لها قديمة النوع حادثة الآحاد، وهذه الصفات وغيرها تتعلق بالمشيئة إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها (¬1). قد تكون الصفات ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام فإنّه باعتبار أصله صفة ذاتية؛ لأنّه لم يزل ولا يزال متكلماً، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية؛ لأنّ الكلام يتعلق بمشيئته يتكلم إذا شاء بما شاء، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وكل صفة تتعلق بمشيئة الله تعالى فإنّها تابعة لحكمته، وقد تكون الحكمة معلومةً لنا، وقد نعجز عن إدراكها، لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء شيئاً إلا وهو موافق للحكمة، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬2) (¬3). المبحث الثامن: وسطية أهل السنة والجماعة أولاً: توسط أهل السنة بين فرق الضلال في باب صفات الله تعالى الأمة الإسلامية وسط بين الملل، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ ¬

_ (¬1) انظر: مختصر الأجوبة الأصولية، ص30. (¬2) سورة الدهر، الآية: 30. (¬3) انظر: القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، ص24.

ثانيا: توسط أهل السنة في باب أفعال العباد بين الجبرية والقدرية

أُمَّةً وَسَطًا} (¬1)، وأهل السنة وسط بين الفرق المنتسبة للإسلام. فهم وسط بين الجهمية الذين ينفون صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى، فعطَّلوا الله عن صفاته، فبذلك أطلق عليهم اسم أهل التعطيل، وبين أهل التمثيل وهم طائفة عارضت الجهمية، فأثبتوا الصفات لله غير أنهم جعلوها كصفات المخلوقين، فقالوا: يد كيد المخلوق، وسمع كسمع المخلوق. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون الصفات إثباتاً بلا تمثيل، وينزهون الله عن مشابهة المخلوقين تنزيهاً بلا تعطيل، فهم جمعوا بين التنزيه والإثبات. وقد ردّ الله على الطائفتين بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ردٌّ على المشبِّهة. وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ردٌّ على المعطِّلة (¬2). ثانياً: توسّط أهل السنة في باب أفعال العباد بين الجبرية والقدرية وأهل السنة وسط في باب أفعال العباد بين الجبرية والقدرية وغيرهم. فالجبرية الذين هم الجهمية أتباع الجهم بن صفوان يقولون: إن العبد مجبورٌ على فعله وحركاته وأفعاله كلها كحركات المرتعش والعروق النابضة [وكالريشة في مهب الريح] والكل فعل الله. أما القدرية الذين هم المعتزلة أتباع معبد الجهني ومن وافقهم فقالوا: إنّ العبد هو الخالق لأفعاله دون مشيئة الله وقدرته، فأنكروا أن يكون الله ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 143. (¬2) الكواشف الجلية، ص494، وشرح الواسطية للهراس، ص126.

ثالثا: أهل السنة وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية

هو الخالق لأفعال العباد، وقالوا: إنّ الله لم يُرِدْها ولم يشأْها. وهدى الله أهل السنة والجماعة لأن يكونوا وسطاً بين هاتين الفرقتين، فقالوا: إنّ الله تعالى هو خالق العباد وأفعالهم، والعباد فاعلون حقيقة ولهم قدرة على أعمالهم، والله خالقهم وخالق قدراتهم قال الله تعالى: {وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬1)، وأثبتوا للعبد مشيئة واختياراً تابعين لمشيئة الله تعالى، قال الله تعالى: {لمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬2). ثالثاً: أهل السنة وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية المرجئة: نسبة إلى الإرجاء وهو التأخير، وسُمُّوا بذلك لأنهم أخَّروا الأعمال عن الإيمان حيث قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فعندهم أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان غير مُعرَّض للوعيد، ومذهبهم باطل بالكتاب والسنة. والوعيدية هم الذين قالوا: إنّ الله يجب عليه عقلاً أن يُعذِّب العاصي، كما يجب عليه أن يثيب الطائع، فمن مات على كبيرة ولم يتب منها فهو خالد مُخلَّد في النار، وهذا أصل من أصول المعتزلة، وبه تقول الخوارج، قالوا: لأنَّ الله لا يخلف الميعاد. ومذهبهم باطل مخالف للكتاب والسنة، قال الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمَن ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآية: 96. (¬2) سورة التكوير، الآيتان:28 - 29.

رابعا: أهل السنة وسط في باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية، والمعتزلة، وبين المرجئة، والجهمية

يَشَاء} (¬1). أما أهل السنة والجماعة فهم وسط في باب وعيد الله بين هاتين الطائفتين حيث قالوا: إنّ مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أو مؤمن ناقص الإيمان، وإن مات ولم يتب فهو تحت مشيئة الله إن شاء عفا عنه برحمته وفضله وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه بعدله بقدر ذنوبه في النار، ولكنه لا يخلد فيها بل يخرج بعد التطهير والتمحيص من الذنوب والمعاصي، ويدخل الجنة بشفاعة أو بفضل الله ورحمته، وكلٌّ من فضل الله تعالى. وقال أهل السنة: وإخلاف الوعيد كرم بخلاف إخلاف الوعد؛ فإنّه يمدح بإخلاف الوعيد بخلاف [إخلاف] الوعد. قال الشاعر: وإنِّي وإن أَوعدتُُه أو وعدتُُه ... لمخلفُُ إيعادي ومنجزُ موعدي (¬2) رابعاً: أهل السُّنَّة وسط في باب أسماء الإيمان والدِّين بين الحرورية، والمعتزلة، وبين المرجئة، والجهمية المراد بالأسماء هنا أسماء الدِّين مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق. والمراد بالأحكام: أحكام أصحابها في الدنيا والآخرة. 1 - الحرورية طائفة من الخوارج نسبوا إلى حروراء، وهو موضع قريب من الكوفة اجتمعوا فيه حين خرجوا على علي - رضي الله عنه - فعندهم أنَّه لا يُسمَّى مؤمناً إلا من أدَّى الواجبات واجتنب الكبائر. ويقولون: إنّ ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 48. (¬2) انظر: الروضة الندية، ص252، والكواشف، ص501.

2 - المعتزلة

الدين والإيمان قول، وعمل، واعتقاد. ولكنه لا يزيد ولا ينقص، فمن أتى كبيرة كفر في الدنيا وهو في الآخرة خالد مخلد في النار إن لم يتب قبل الموت. 2 - المعتزلة هم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد سُمُّوا بذلك لمّا اعتزلوا مجلس الحسن البصري، وقيل غير ذلك. فعندهم أنه لا يُسمَّى مؤمناً إلا من أدى الواجبات واجتنب الكبائر، ويقولون: إن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد، ولكنه لا يزيد ولا ينقص، فمن أتى كبيرة صار في منزلة بين المنزلتين - خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر - هذا حكمه عندهم في الدنيا،، وحكمه في الآخرة خالد مُخَلَّدٌ في النار. فوقع الخلاف بين الخوارج والمعتزلة في موضعين ووقع الاتفاق بينهم في موضعين. وقع الاتفاق بينهم في: أ - نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة. ب - خلوده في النار مع الكفار. ووقع الخلاف بينهم في: أ - الخوارج سَمُّوه كافراً، والمعتزلة قالوا في منزلة بين المنزلتين. ب - الخوارج استحلُّوا دمه وماله، والمعتزلة لم يفعلوا ذلك. 3 - المرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فهم يقولون: إن الإيمان مُجرَّد التصديق بالقلب. فمرتكب الكبيرة عندهم كامل الإيمان ولا يستحق دخول النار. فعلى هذا يكون إيمان أفسق الناس كإيمان أكمل الناس.

4 - الجهمية

4 - وكذا قال الجهمية. فالجهم قد ابتدع التعطيل، والجبر، والإرجاء كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله، فمرتكب الكبيرة عند هؤلاء كامل الإيمان ولا يستحق دخول النار. 5 - أما أهل السنة والجماعة فهداهم الله للحق، فقالوا: إنّ الإيمان قول باللِّسان، وعمل بالجوارح، واعتقاد بالقلب، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن ناقص الإيمان، قد نقص من إيمانه بقدر ما ارتكب من معصية، فلا ينفون عنه الإيمان أصلاً كالخوارج والمعتزلة، ولا يقولون: بأنَّه كامل الإيمان كالمرجئة والجهمية. أما حكمهُ في الآخرة فهو تحت مشيئة الله إن شاء أدخله الجنة من أول مرَّة رحمة منه وفضلاً، وإن شاء عذبه بقدر معصيته عدلاً منه سبحانه ثم بعد التطهير يخرجه من النار ويدخله الجنة. هذا إن لم يأت بناقض من نواقض الإسلام، أو يستحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله. وحكم أهل السنة على عدم تخليد المؤمن في النار وسط كذلك بين الخوارج والمعتزلة لقولهم بخلوده في النار، وبين المرجئة والجهمية الذين قالوا لا يستحق على المعصية عقاباً (¬1). خامساً: أهل السنة وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة والخوارج والنواصب الرافضة هم طائفة من الشيعة غلوا في علي - رضي الله عنه - وأهل البيت، ونصبوا العداوة لجمهور الصحابة كالثَّلاثة، وكفّروهم، ومن والاهم، وكفّروا ¬

_ (¬1) انظر: الروضة الندية شرح الواسطية، ص253، والكواشف الجلية، ص502، وشرح الواسطية للهراس، ص131، والتعليقات المفيدة على الواسطية، ص49.

المبحث التاسع: اليوم الآخر

من قاتل علياً وقالوا: إنّ علياً إمام معصوم، وسبب تسميتهم بهذا الاسم أنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين، حينما قالوا: تبرّأْ من الشيخين: أبي بكر وعمر، فقال: معاذ الله، وزيرا جدي، فرفضوه فسموا رافضة. وأما الزيدية فقالوا: نتولاهما، ونتبرّأ ممن تبرّأ منهما، وتبعوا زيداً فسُمّوا بالزيدية. والخوارج قابلوا هؤلاء فكفروا علياً، ومعاوية، ومن معهما من الصحابة، وقاتلوهم، واستحلوا دماءهم، وأموالهم. والنواصب: هم الذين نصبوا العداوة لأهل البيت ويطعنون فيهم. أما أهل السنة والجماعة فهداهم الله تعالى للحق والصواب، فلم يغلوا في علي وأهل البيت، ولم ينصبوا العداوة للصحابة - رضي الله عنهم - ولم يكفّروهم، ولم يفعلوا كما فعل النواصب من عداوة أهل البيت. بل يعترفون بحق الجميع وفضلهم، ويوالونهم ويرتبونهم في الفضل والأفضليَّة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضي الله عنهم -،ويكفون عن الخوض فيما جرى بينهم، ويترحَّمون على جميع الصحابة، فكانوا وسطاً بين غلو الرافضة، وجفاء الخوارج (¬1). المبحث التاسع: اليوم الآخر الإيمان باليوم الآخر هو أحد أركان الإيمان السِّتة، وقد تقدم ذكر الإيمان باليوم الآخر إجمالاً، وهاهنا أراد مؤلف العقيدة (¬2) رحمه الله ذكر ¬

_ (¬1) انظر: الكواشف الجلية، ص505. (¬2) شيخ الإسلام ابن تيمية، والمقصود: ((العقيدة الواسطية)).

أولا: الإيمان بفتنة القبر

بعض تفاصيل ذلك اليوم العظيم. وخلاصة مذهب أهل السنة في الإيمان باليوم الآخر على النحو الآتي: أولاً: الإيمان بفتنة القبر. يجب الإيمان بأنَّ الناس يمتحنون في قبورهم بعد الموت، وهذا الامتحان أو الاختبار يقال له فتنة القبر، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يمتحنون في قبورهم فيقال للإنسان: ((مَن ربُّك؟ وما دينُك؟ ومن نبيُّك؟. فالمؤمن يقول: ربِّي الله وديني الإسلام، ونبيّيَ محمد - صلى الله عليه وسلم - والفاجر يقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقال له: لا دريت ولا تليت، فَيُضرب بمطرقةٍ من حديد فيصيح صيحةً يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها لصعق)) (¬1). قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} (¬2). ثانياً: نعيم القبر وعذابه: ورد به الكتاب والسنة، وأنه حق يجب الإيمان به. فإنّه بعد الفتنة في القبر نعوذ بالله من فتنة القبر وعذابه، بعد هذه الفتنة إما عذاب، وإما نعيم، فمن أجاب على أسئلة الامتحان في القبر نجا وسعد في قبره، ويوم حشره، ومن لم يجب على هذه الأسئلة فقد خسر خسراناً مبيناً نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. والنعيم أو العذاب في القبر يجري على الروح والجسد تبع له، وفي يوم القيامة على الروح والبدن جميعاً، والخلاصة أنّ عذاب القبر ونعيمه حقٌّ دلَّ عليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة الإسلامية. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب الميت يسمع خفق النعال، برقم 1338. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 27.

ثالثا: القيامة الكبرى

ثالثاً: القيامة الكبرى: يجب الإيمان بأنّه بعد انتهاء مُدَّة الحياة الدنيا تقوم القيامة الكبرى حين ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، ثم ينفخ نفخة البعث والنشور فتعاد الأرواح إلى أجسادها فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين: حفاة، عراة، غرلاً {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً} (¬1)، {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ*وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} (¬2)، وأول من ينشقّ عنه القبر محمد - صلى الله عليه وسلم -. وتدنو من العباد الشمس في هذا اليوم ويلجمهم العرق على حسب أعمالهم، ومنهم من يظله الله في ظله يوم لا ظلَّ إلاّ ظلُّه. رابعاً: الميزان: وتُنصب الموازين يوم القيامة فتوزن فيها أعمال العباد {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬3)، {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (¬4)، وهذا الميزان حقيقي له لسان وكفتان، ويوزن العامل وعمله. خامساً: الدواوين وتطاير الصحف: وفي هذا اليوم تُنشر الدواوين وتفتح، فآخذٌ كتابه وصحائفَ أعماله بيمينه، فهذا له السعادة الأبدية التي لا يشقى بعدها أبداً، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} (¬5)، نسأل الله من فضله، وأن ¬

_ (¬1) سورة المعارج، الآية: 43. (¬2) سورة العاديات، الآيتان: 9 - 10. (¬3) سورة الزلزلة، الآيتان: 7 - 8. (¬4) سورة المؤمنون، الآيتان: 102 - 103. (¬5) سورة الحاقة، الآيات: 19 - 23.

سادسا: الحساب

يجعلنا منهم. ومنهم آخذٌ كتابه بشماله من وراء ظهره، فهذا له الشقاوة، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} (¬1) الآيات، نعوذ بالله من غضبه وعقابه. سادساً: الحساب: ويجب الإيمان بذلك؛ لأنَّ الله أخبر بذلك وأخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فإنّ الله يوقف عباده على أعمالهم قبل الانصراف من المحشر، فيرى كل إنسان عمله سواء كان خيراً أو شراً، قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (¬2). وقال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬3)، ويُسأل الإنسان في هذا اليوم العظيم عن أربع: ((عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه فيم فعل)) (¬4)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه تُرجمان، فينظر أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاءَ وجهه، فاتقوا ¬

_ (¬1) سورة الحاقة، الآيات: 25 - 33. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 30. (¬3) سورة الكهف، الآية: 49. (¬4) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة، باب في القيامة، برقم 2417، وأبو يعلى في مسنده، 13/ 428، برقم 7434، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 946، وفي صحيح الجامع، برقم 7300.

سابعا: الحوض المورود

النار ولو بشِقِّ تمرة)) (¬1)، ويقول الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2)، والكفار لا يحاسبون حساب من توزن حسناتهم، وإنما يوقفون على أعمالهم ويقرُّون بها؛ فإنّهم لا حسنات لهم. نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. سابعاً: الحوض المورود: ومن مذهب أهل السنة التصديق الجازم بأنّ حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة، ((وأنَّ ماءه أشدُّ بياضاً من اللَّبن، وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء، وطوله شهر وعرضه شهر، من شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبداً)) (¬3)، وهذا الحوض مُختصٌّ بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. والأنبياء كل له حوض، ولكن الحوض الأعظم هو لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحوض في الأرض، ويصب فيه ميزابان من الجنة من الكوثر، ومنبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حوضه. ثامناً: الصِّراط وبعده القنطرة بين الجنة والنار: يجب الإيمان بذلك وأنه حقّ، وهو الجسر المنصوب على متن جهنم بين الجنة والنار، يمرّ عليه الأوّلون والآخرون، وهذا الصّراط أحدُّ من السيف، وأدقُّ من الشعرة. فنسأل الله الثبات. والناس يمرُّون عليه على حسب أعمالهم. فمنهم من يتجاوزه كلمح البصر، ومنهم من يمرُّ كالبرق، ومنهم من يمرُّ كالريح، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الصدقة قبل الرد، برقم 1413، ومسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم 1016/ 67. (¬2) سورة الحجر، الآيتان: 92 - 93. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب في الحوض، برقم 6579، ومسلم في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، برقم 2292.

تاسعا: الشفاعة

ومنهم من يمرُّ كالفرس الجواد، ومنهم من يمرُّ كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عَدْواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يسقط في جهنم، وعلى حافة الجسر كلاليب تخطف من أُمِرَتْ بخطفه، فإذا تجاوز المؤمنون وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعضٍ، فإذا نُقُّوا أُذِن لهم في دخول الجنة (¬1). تاسعاً: الشفاعة هي سؤال الخير للغير، وقد ذكر المؤلف رحمه الله ثلاثة أقسام من الشفاعة: ثنتان خاصتان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والثالثة يشفع هو وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي على النحو الآتي: 1 - الشَّفاعة العظمى وهي شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأهل الموقف حتى يُقضى بينهم حين يتراجع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 2 - شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في أهل الجنة أن يدخلوها (¬2). وهاتان الشفاعتان خاصتان به - صلى الله عليه وسلم -. 3 - شفاعته - صلى الله عليه وسلم -، والنبيين، والصِّدِّيقين، والشُّهداء، والصَّالحين، وغيرهم فيمن استحق النار من المؤمنين أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها. ويخرج الله من النار بغير شفاعة بل بفضله ورحمته أقواماً، ويبقى في الجنة فضل عن من دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب قصاص المظالم، برقم 2440، ومسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم 195. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعاً، برقم 196، 197.

وقد أوصلها في شرح الطحاوية إلى ثمانية أقسام هي: 1 - الشفاعة العظمى لفصل القضاء. 2 - الشفاعة في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم. 3 - الشفاعة في أقوام أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها. 4 - الشفاعة في رفع درجات من دخل الجنة. 5 - الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب. 6 - شفاعته في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه. 7 - شفاعته لأن يُؤذن لجميع المؤمنين بدخول الجنة. وهي خاصة به كما تقدم. 8 - شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار فيخرجون منها وهذه الشفاعة يشاركه غيره فيها. وهي تتكرر منه - صلى الله عليه وسلم - أربع مرات: أ - يشفع فيمن كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان. ب - ثم فيمن كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان. ج‍‍ثم فيمن كان في قلبه أدنى حبة من خردل من إيمان. د - ثم فيمن قال لا إله إلا الله (¬1)، وفي الصحيح قال فيقول الله تعالى: ((شفعت الملائكة وشفع النبيُّون، وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط)) (¬2)، وبعضهم أوصل الشفاعة إلى ستة أقسام: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، برقم 44، ومسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم 193/ 325. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم 183.

عاشرا: الجنة والنار

1 - الشفاعة العظمى. 2 - الشفاعة في دخول الجنة. 3 - الشفاعة فيمن استحقَّ النار أن لا يدخلها. 4 - الشفاعة فيمن دخلها أن يخرج منها. 5 - الشفاعة في رفع درجات أقوام ممن دخل الجنة. 6 - الشفاعة في تخفيف العذاب عن أبي طالب (¬1). وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) (¬2) والشفاعة المثبتة لها شرطان: الشرط الأول: إذن الله للشَّافع. الشرط الثاني: رِضى الله عن المشفوع له. عاشراً: الجنة والنار. ومذهب أهل السنة في الجنة والنار هو الاعتقاد الجازم بأنّ الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة دار أوليائه والنار دار أعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون، وأهل النار من الكفار فيها مخلدون، وأنَّ النار والجنة موجودتان وقد رآهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أنَّ الموت يجاء به في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ويُذبح ويقال: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت، ويا ¬

_ (¬1) انظر الروضة الندية، ص530، وشرح الطحاوية، 199، تحقيق الأرنؤوط. وانظر: الكواشف الجلية، ص589. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في الشفاعة، برقم 4739،والترمذي في كتاب صفة القيامة، باب رقم 11،برقم 2435،وأحمد في المسند،3/ 213،والحاكم في المستدرك، 2/ 382، قال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن صحيح غريب))، وقال الحاكم: ((على شرط الشيخين)).وقال الذهبي: ((على شرط مسلم)).وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3714.

المبحث العاشر: القدر ومراتبه

أهل النار خلودٌ فلا موت (¬1). المبحث العاشر: القدر ومراتبه القدر هو أحد أركان الإيمان الستة، وقد تقدم ذكر الإيمان بالقدر إجمالاً ثم ذكره المؤلف رحمه الله هنا تفصيلاً. والقدر هو تقدير الله تعالى للأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنَّها ستقع في أوقات معلومة عنده وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته له ووقوعها على حسب ما قدَّرها وخلقه لها (¬2)، وللقدر أربع مراتب يجب الإيمان بها كما آمن بها أهل السنة، على النحو الآتي. المرتبة الأولى: الإيمان بأنّ الله تعالى علم بما الخلق عاملون به بعلمه الأزلي الأبد، فقد علم جميع أحوالهم: من الطاعات، والأرزاق، والآجال، فهو سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان قال تعالى: {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬3)، {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4). المرتبة الثانية: كتابة الله لجميع الأشياء في اللَّوح المحفوظ: الدقيقة والجليلة، ما كان، وما سيكون، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم 2849. (¬2) انظر: الأجوبة الأصولية، ص121. (¬3) سورة الطلاق، الآية: 12. (¬4) سورة العنكبوت، الآية: 62.

المرتبة الثالثة: المشيئة النافذة التي لا يردها شيء

يَسِيرٌ} (¬1)، وقال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (¬2). المرتبة الثالثة: المشيئة النافذة التي لا يردها شيء، والقدرة التي لا يعجزها شيء، فجميع الحوادث وقعت بمشيئة الله وقدرته فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬3). المرتبة الرابعة: الخلق كُلُّهُ لله تعالى، فهو الخالق وكل ما سواه مخلوق له. لا إله غيره، ولا رب سواه، قال الله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬4) (¬5)، وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} (¬6)، فالله الخالق لكل شيء وقع، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ونهاهم عن معصيته وهو سبحانه يحب المحسنين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، وهو الحكيم العليم، وقد جمع بعضهم مراتب القدر في بيت واحد قال فيه: علمُ كتابة مولانا مشيئتهُ ... وخلقه وهو إيجاد وتكوين ¬

_ (¬1) سورة الحديد، الآية: 22. (¬2) سورة يس، الآية: 22. (¬3) سورة التكوير، الآية: 29. (¬4) سورة الزمر، الآية: 62. (¬5) انظر: الكواشف الجلية، ص621. (¬6) سورة فاطر، الآية: 3.

الإيمان بكتابة المقادير يدخل فيه خمسة تقادير

والإيمان بكتابة المقادير يدخل فيه خمسة تقادير: 1 - التقدير الشَّامل لجميع المخلوقات بمعنى أنَّ الله علمها، وكتبها، وشاءها وخلقها، وتقدم ذكر ذلك بأدلته في المراتب الأربع. 2 - التقدير الثاني كتابة الميثاق حينما قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (¬1) الآيات. 3 - التقدير العُمُري: تقدير رزق العبد، وأجله، وعمله، وشقي، أو سعيد في بطن أمه. ودليله حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬2). 4 - التقدير السَّنوي {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (¬3)،قال ابن عباس: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر، والأرزاق (¬4). 5 - التقدير اليومي قال الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (¬5)، فالله تعالى كل يوم يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين (¬6)، وهذا التقدير هو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها فيما سبق. وهذا التقدير اليومي تفصيل من التقدير الحولي، والحولي تفصيل من ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 172. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، برقم 2643. (¬3) سورة الدخان، الآية: 4. (¬4) ذكره في الدر المنثور، 6/ 25 بنحوه، وعزاه إلى محمد بن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (¬5) سورة الرحمن، الآية: 29. (¬6) انظر: معارج القبول، 2/ 345.

أقلام المقادير التي دلت عليها السنة

التقدير العمري عند نفخ الروح في الجنين في بطن أمه، والعمري تفصيل من التقدير العمري الأول يوم الميثاق، وهو تفصيل من التقدير الذي خطه القلم في الإمام المبين (¬1)، وأقلام المقادير التي دلت عليها السنة أربعة أقلام: 1 - القلم الأول العام الشامل لجميع المخلوقات. 2 - القلم الثاني حين خلق آدم وهو قلم عام أيضاً لكنه لبني آدم. 3 - القلم الثالث حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه ويكتب به الأربع الكلمات. 4 - القلم الرابع الموضوع على العبد عند بلوغه الذي بأيدي الكرام الكاتبين، وهذا القلم يكتبون به ما يفعله بنو آدم (¬2). وإذا علم العبد أن كلاً من عند الله فالواجب إفراده سبحانه بالعبادة والتَّقوى (¬3). فعلى العبد أن يبذل الأسباب، ويسأل الله التوفيق والهداية، ويعلم أنَّه لا يصيبه إلا ما كتبه الله له ويعلم علماً يقيناً أنّ الله لا يضيع أجر ¬

_ (¬1) انظر: معارج القبول، 2/ 347. (¬2) قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((الأقلام لا يحصيها إلا الله جل وعلا فالجزم بالأربعة ليس بجيد، وقد ذكر ابن القيم في بعض كتبه الأقلام الأربعة، ولكن ليس المعنى أنه ليس هناك قلم آخر، وقد قيل: إنّ هناك قلماً خامساً، وهو ما يكتب به ما يحدث في السنة في ليلة القدر .. والحاصل أنّ الأقلام لا يجوز الجزم بأنَّها أربعة فقط، فالأقلام كثيرة، والله الذي يعلمها ويحصيها، ولهذا قال في حديث المعراج: ((يسمع فيه صريف الأقلام ... ))، فقد تكون أربعة، وقد تكون مائة، وقد تكون ألفاً، وقد يكون لكل شيء قلم خاص، فربنا هو العالم بها - سبحانه وتعالى -)). سمعته منه أثناء تقريره على شرح العقيدة الطحاوية وهو مسجل في 32 شريطاً. (¬3) شرح العقيدة الطحاوية بتحقيق الأرنؤوط، ص235.

المبحث الحادي عشر: مذهب أهل السنة في الإيمان والدين

المحسنين، ولا يظلم مثقال ذرة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1). المبحث الحادي عشر: مذهب أهل السنة في الإيمان والدين الدين والإيمان عند أهل السنة هو: قول، وعمل، واعتقاد. قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان، والجوارح. وأنّ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. قول القلب تصديقه وإيقانه، وقول اللسان: النطق بالشهادتين والإقرار بلوازمهما، وعمل القلب: النِّيّة، والإخلاص والمحبة، والانقياد والإقبال على الله، والتوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه، وكل ما هو من أعمال القلوب. وعمل اللِّسان: هو ما لا يُؤدَّى إلا به كتلاوة القرآن، وسائر الأذكار من التسبيح، والتحميد، والتكبير، والدعاء، والاستغفار، وغير ذلك. وعمل الجوارح هو ما لا يُؤدَّى إلا بها مثل القيام، والركوع، والسجود، والمشي في مرضاة الله، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر (¬2). وأما زيادة الإيمان ونقصانه؛ فلقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة)) (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الزلزلة، الآيتان: 7 - 8. (¬2) معارج القبول، 2/ 17. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 2. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، برقم 44، ومسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم 193/ 325.

الظالم لنفسه

ومن الأدلة لزيادة الإيمان ونقصانه أن الله قسّم المؤمنين ثلاثة أقسام، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (¬1). والظَّالم لنفسه هو المفرِّط يفعل بعض الواجبات ويرتكب بعض المحرمات. والمقتصد هو المؤدِّي للواجبات التارك للمحرمات. وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات. والسَّابق بالخيرات، وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، والتارك للمحرمات والمكروهات (¬2). وأهل السنة والجماعة لا يكفِّرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر ما لم يستحل الذنب من الفاعل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلَّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم)) (¬3)، فكل من ارتكب كبيرةً أو أصرَّ على صغيرةٍ يسمى عاصياً، وفاسقاً، وهو كسائر المؤمنين لا يخرج من الإيمان بمعصيته ما لم يستحلَّها. فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 32. (¬2) مختصر ابن كثير، 3/ 554 للرفاعي، وابن كثير، 3/ 554، وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي. في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الآية. وهم الذين تركوا بعض واجبات الإيمان وفعلوا بعض المحرمات انظر التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، ص17. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة، برقم 391، وانظر: الروضة الندية، ص382.

المبحث الثاني عشر: مذهب أهل السنة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه وأهل بيته

أو مؤمن ناقص الإيمان. فلا يُعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم. أما حكمه في الآخرة فهو تحت مشيئة الله تعالى إذا مات ولم يتب، فإن شاء الله عذبه بقدر ذنبه ومصيره إلى الجنة، وإن شاء غفر له من أول وهلة وأدخله الجنة برحمته وفضله. أما مرتكب الكبيرة عند الخوارج والمعتزلة فهو مخلَّد في النار في الآخرة، وفي الدنيا كافر عند الخوارج مُستحَلُّ الدم والمال، أما المعتزلة ففي منزلة بين المنزلتين: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر. وعند الجهمية والمرجئة: كامل الإيمان ولا يستحق العذاب. وسبق التفصيل في هذا في توسط أهل السنة. المبحث الثاني عشر: مذهب أهل السُّنَّة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه وأهل بيته من أصول أهل السنة سلامة قلوبهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحقد والبغض، والعداوة، وسلامة ألسنتهم من الطَّعن، والسَّبِّ. وهم يترضون عنهم ويدعون لهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (¬1)، وهم يمتثلون أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفَه)) (¬2)، ويقبلون ما جاء في الكتاب والسنة من فضائلهم، ويفضِّلون من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ويُقدِّمون المهاجرين على الأنصار، وكل العشرة المشهود لهم بالجنة من المهاجرين، ويؤمنون بأنَّ الله اطَّلع على أهل بدر وهم ثلاثمائةٍ وبضعةَ عشرَ رجلاً فقال: ((اعملوا ما ¬

_ (¬1) سورة الحشر، الآية: 10. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنت متخذاً خليلاً))، برقم 3673، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة - رضي الله عنهم -،برقم 2540.

شئتم فقد غفرت لكم)) (¬1)، ويؤمنون بأنَّه لا يدخل النار أحدٌ بايع تحت الشجرة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل النار أحدٌ بايع تحت الشجرة)) (¬2)، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كثابت بن قيس بن شماس، فقد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وكالعشرة المشهود لهم بالجنة. وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن مالك بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد (¬4)، ويُقِرِّون بأن خير هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضي الله عنهم - (¬5)، ويتبرؤون من طريق الروافض - وقد سبق بيان مذهبهم - ومن طريق النواصب الذين يكفّرون آل البيت ويطعنون فيهم، وقد نصبوا العداوة لأهل البيت ويمسك أهل السنة عما شجر بين الصحابة، وما صحَّ من أخبارهم فهم معذورون؛ لأنهم إمّا مجتهدون مصيبون، وإمّا مجتهدون مخطئون. وأهل السنة يعتقدون أنه لا أحد معصوم من الكبائر إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والصحابة تجوز عليهم الذنوب، ولكن لهم من السوابق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، برقم 3007، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر - رضي الله عنهم - وقصة حاطب بن أبي بلتعة، برقم 2494. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان - رضي الله عنهم -، برقم 2496. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله، برقم 119. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في الخلفاء، رقم 4649، والترمذي في كتاب المناقب، باب مناقب عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، برقم 3747، وابن ماجه في المقدمة، باب فضائل العشرة - رضي الله عنهم -، برقم 133،وأحمد في المسند، 1/ 187، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 50، 4010. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي بكر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3655.

المبحث الثالث عشر: مذهب أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء وأهل السنة يؤمنون بكرامات الأولياء

والفضائل الشيء الكثير، وهذا يمحو السيئة، وهم خير القرون (¬1)، وقد يكون أن من صدر منه ذنب قد تاب منه، وهم أسعد الناس بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأهل السنة يحبون آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لوصيته بهم (¬2)، ويوالون أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويترضَّون عنهنَّ، ويؤمنون أنَّهنَّ أزواجه في الآخرة، وأنَّهنَّ أمهات المؤمنين في الاحترام والتعظيم، وتحريم النكاح، وأنَّهنَّ مطهرات مبرآت من كل سوء، ويتبرؤون ممن آذاهن، أو سبهنَّ، ويحرمون طعنهن وقذفهنّ، وقد ورد في فضلهنَّ أحاديث كثيرة فلتراجع (¬3)، فرضيَ الله عنهن وعن جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. المبحث الثالث عشر: مذهب أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء وأهل السنة يؤمنون بكرامات الأولياء. والكرامة هي خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة، فإذا اقترن بدعوى النبوة كان معجزة، ولا يكون الأمر الخارق كرامة إلا لعبد ظاهره الصلاح، ومصحوباً بصحة الاعتقاد والعمل الصالح. فإذا ظهر الأمر الخارق على يد المنحرفين فهو من الأحوال الشيطانية، وإذا ظهر الأمر الخارق على يد إنسان مجهول لا يعرف حاله فإنَّ حاله ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، برقم 2533. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -،برقم 2408. (¬3) انظر: ما أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها، برقم 3768 - 3775، وفي كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة وفضلها رضي الله عنها، رقم 3815 - 3821. ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، برقم 2430، 2437، وفي باب فضائل عائشة رضي الله تعالى عنها، برقم 2438 - 2447.

المبحث الرابع عشر: طريقة أهل السنة الاتباع

يعرض على الكتاب والسنة كما رُوي عن الشافعي أنه قال: إذا رأيتم الرجل يسير على الماء، ويطير في الهواء، فلا تصدقوه حتى تعرضوا حاله على الكتاب والسنة. أو كما قال رحمه الله (¬1). وأهل السنة يؤمنون ويعتقدون اعتقاداً جازماً بكرامات الأولياء، وما جرى على أيديهم من الخوارق للعادات في العلوم، والمكاشفات، وأنواع القدرة، والتأثير، ومن ذلك قصة أصحاب الكهف، والنوم الطويل الذي أوقعه الله بهم. ومن ذلك ما أكرم الله به مريم بنت عمران من إيصال الرزق إليها وهي في المحراب. ومن ذلك قول عمر بن الخطاب وهو على المنبر: ((يا سارية الجبل))، ورؤيته لجيش سارية وهو بنهاوند، وسمع سارية مع بُعد المسافة (¬2)، وغير ذلك لا يحصى ولا يُعَدُّ. وقد رأيت كثيراً من ذلك في كتاب الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية المسمَّى: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)). المبحث الرابع عشر: طريقة أهل السنة الاتّباع أهل السنة يتبعون أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله، وتقريراته، وهذا هو المقصود باتباع آثاره، أما اتباع آثاره الحسِّيّة التي ليست من الدين ¬

_ (¬1) أورده ابن حجر الهيتمي في فتاويه، 4/ 240، وقال: ((ذكره أبو نعيم))، وأورده الشيخ صالح الشامي في كتاب مواعظ الإمام الشافعي، ص 19. (¬2) رواه عبد الرزاق، 2/ 138، برقم 2806، والبيهقي في دلائل النبوة، برقم 2655، وابن عساكر في تاريخ دمشق، 20/ 24، وحسن إسناد القصة الحافظ ابن حجر في الإصابة، 2/ 3، وقال عنها الألباني في السلسلة الصحيحة، 3/ 101: ((صحيح)).

المبحث الخامس عشر: أصول أهل السنة

كمواضع بوله، ونومه، ومشيه، فلا يجوز تتبّع ذلك؛ لأنّ ذلك وسيلة إلى الشرك. ومن طريقة أهل السنة اتّباع أقوال الصحابة عند خفاء سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أما إذا وُجدَ النص من الكتاب أو من السنة، فإنه يجب تقديمه على رأي كل أحد من الناس، قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (¬1). وأهل السنة يتبعون وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسنته وسنة الخلفاء الراشدين، ويعضُّون عليها بالنَّواجذ ويتمسَّكون بها امتثالاً لأمره - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وهم يُقدِّمون كلام الله ثم يُقدِّمون هَدْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا سُمُّوا بأهل السنة والجماعة. المبحث الخامس عشر: أصول أهل السنة التي يَزِنُونَ بها جميع ما عليه الناس أهل السنة يعتمدون على ثلاثة أصول يزنون بها جميع ما عليه الناس من أعمال، وأفعال ظاهرة، أو باطنة مما له تعلَّق بالدين، وهذه الأصول هي: 1 - كتاب الله - عز وجل - الذي هو خير الكلام، فمن قال به صدق، ومن ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 59. (¬2) انظر: حديث العرباض بن سارية فقد أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم 4607، والترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم 2676، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، برقم 42، 43، وأحمد في المسند، 4/ 126، والحاكم في المستدرك، 1/ 96. وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 4369، وفي السلسلة الصحيحة، برقم 937. وانظر: الأجوبة الأصولية، ص140، وشرح الطحاوية بتحقيق الأرنؤوط، ص495.

2 - سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

حكم به عدل، ومن تمسك به هُدي إلى صراطٍ مستقيمٍ، ومن عدل عنه رغبة عنه ضلَّ وشقيَ في دنياه وأُخراه. وأهل السنة لا يقدِّمون على كلام الله قول أحدٍ من الناس. 2 - سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يقدمون على ما صحَّ منها كلام أحد من خلق الله. 3 - ما وقع عليه إجماع الصدر الأول من هذه الأمة قبل التفرق والانتشار وظهور البدع والمقالات، وما جاءهم بعد ذلك من المقالات وزنوها بهذه الأصول الثلاثة، فإن وافقها قبلوه، وإن خالفها ردّوه أيّاً كان قائله وهذا هو المنهج السليم والطريق القويم. المبحث السادس عشر: من أخلاق أهل السنة والجماعة ختم المؤلف رحمه الله تعالى عقيدته (¬1) ببعض الصفات الحميدة التي يتصف بها أهل السنة والجماعة، فمن محاسنهم، ومكارم أخلاقهم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف ما حسنه الشرع والعقل، والمنكر هو كل قبيح شرعاً وعقلاً، قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2)؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف ¬

_ (¬1) شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية، كما تقدم. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 104.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الإيمان)) (¬1). وهذه الأمور الثلاثة هي مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - اليد، ثم اللسان، ثم القلب -. ومن مكارم أخلاق أهل السنة: الإدانة بالنصيحة لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم (¬2). وأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص (¬3)، ويرحمون إخوانهم المسلمين (¬4)، ويحثُّون على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويأمرون بالصبر والإحسان إلى عباد الله على حسب أحوالهم، وما يجب لهم من أقارب، وأيتام، وفقراء، وينهون عن الفخر، والخيلاء، وكلما يفعلونه إنما هم فيه متّبِعون للكتاب والسنة فنسأل الله أن يجعلنا من الطَّائفة التي لا تزال على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة (¬5)، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان ... ، برقم 49. (¬2) أخرجه البخاري معلقاً في كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))، قبل الحديث رقم 57، ومسلم مرفوعاً من حديث تميم الداري في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم 55. (¬3) انظر: ما أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، برقم 481، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، برقم 2585. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم 6011، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، برقم 2586. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)) (رقم 7311)، ومسلم في كتاب الإماة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم)) (رقم 1920، 1921). وانظر شرح العقيدة الواسطية للهراس ص181 والأسئلة والأجوبة الأصولية ص146.

وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الرسالة الرابعة: شرح أسماء الله الحسنى

الرسالة الرابعة: شرح أسماء الله الحسنى تمهيد: إن الله قد جعل لكل مطلوب سبباً وطريقاً يوصل إليه. والإيمان هو أعظم المطالب وأهمها. وقد جعل الله له أسباباً تجلبه وتقوِّيه، كما كان له أسباب تُضعِفه وتُوهيه. * ومن أعظم ما يُقوّي الإيمان ويَجلبُهُ معرفة أسماء الله الحُسنى الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبد لله بها، قال الله تعالى: {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1)، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً مائةً إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)) (¬2) أي من حفظها، وفهم معانيها ومدلولها، وأثنى على الله بها، وسأله بها، واعتقدها دخل الجنة. والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون. فَعُلِمَ أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان، وقوَّته وثباته. ومعرفة الأسماء الحُسنى - بمراتبها الثلاث: إحصاء ألفاظها وعددها، وفهم معانيها ومدلولها، ودعاء الله بها. دعاء الثناء والعبادة، ودعاء المسألة - هي أصل الإيمان والإيمان يرجع إليها؛ لأن معرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 180. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار، برقم 2736، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، برقم 2677.

الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي روح الإيمان، وأصله وغايته، فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانُه، وقوي يقينهُ. فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الله بأسمائه، وصفاته، وأفعاله. من غير تعطيل، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تكييف. بل تكون المعرفة مُتلقَّاة من الكتاب والسنة، وما رُويَ عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فهذه هي المعرفة النافعة التي لا يزال صاحبها في زيادة في إيمانه، وقوة يقينه، وطُمأنينة في أحواله، ومحبة لربه، فمن عرف الله بأسمائه، وصفاته، وأفعاله أحبه لا محالة؛ ولهذا كانت المعطلة، والفرعونية، والجهميّة قُطَّاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى محبة الله تعالى (¬1). * ومن الأمور التي تُقوِّي الإيمان وتجلبه تَدَبُّر القرآن الكريم، فإن المُتدبِّر للقرآن لا يزالُ يستفيد من علومه، ومعارفه ما يزداد به إيماناً، وكذلك إذا نظر إلى انتظامه، وإحكامه، وأنه يُصَدِّق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً ليس فيه تناقض ولا اختلاف. فإذا قرأه العبد بالتدبر، والتفهم لمعانيه، وما أريد به كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه، ليتفهم مراد صاحبه منه. فهذا من أعظم مُقَوِّيات الإيمان. وحسن التأمل لما يرى العبد، ويسمع من الآيات المشهودة، والآيات المتلوَّة، يثمر صحة البصيرة. وملاك ذلك كله هو أن ينقل العبد قلبه من وطن الدنيا، ويسكنه وطن الآخرة. ثم يقبل به كلّه على معاني القرآن، ويتدبر معانيه، ¬

_ (¬1) انظر: مدراج السالكين لابن القيم، 3/ 17، والتوضيح والبيان لشجرة الإيمان لعبد الرحمن السعدي، ص39، وبدائع الفوائد لابن القيم، 1/ 164.

ويفهم ما يراد منه، وما أُنزِل لأجله، ويأخذ نصيبه وحظه من كل آية من آياته وينزلها على داء قلبه. فهذه طريقة مختصرة قريبة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى. وهي من أقرب الطرق لتدبر القرآن الكريم (¬1). * وكذلك معرفة أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وما تدعو إليه من علوم الإيمان وأعماله. وكل ذلك من مُحصِّلات الإيمان ومقوِّياته. فكلَّما ازداد العبد معرفة بكتاب الله وسنة رسوله ازداد إيمانه ويقينه، وقد يصل في علمه وإيمانه إلى مرتبة اليقين. * ومن طرق موجبات الإيمان وأسبابه: معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكريمة؛ فإن من عرفه حق المعرفة لم يَرْتَبْ في صدقه وصدق ما جاء به: من الكتاب والسنة والدين الحق. * ومن أسباب الإيمان ودواعيه: التفكر في الكون: في خلق السموات والأرض، وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان وما هو عليه من الصفات، فإن ذلك داعٍ قَويٌّ للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمة الخَلق الدَّال على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام والإحكام - الذي يُحيِّر العقول - الدال على سعة علم الله وشمول حكمته. وكذلك النظر إلى فقر المخلوقات كلها، واضطرارها إلى ربها من كل الوجوه، وأنها لا تستغني عن الله طرفة عين ... وذلك يوجب للعبد ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 28.

كمال الخضوع، وكثرة الدعاء، والافتقار إلى الله في جلب ما يحتاجه من منافع دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ويوجب له قوة التوكل على الله، وشدة الطمع في بره، وإحسانه، وكمال الثقة بوعد الله. وبهذا يتحقق الإيمان ويقوى. وكذلك التفكر في كثرة نعم الله التي لا يخلو منها مخلوق طرفة عين. * ومن الأسباب التي تقوي الإيمان الإكثار من ذكر الله تعالى ومن الدعاء الذي هو العبادة، ويكون هذا الذكر على كل حال: باللسان، والقلب، والعمل، والحال. فنصيب العبد من الإيمان على قدر نصيبه من هذا الذكر. * ومن الأسباب أيضاً معرفة محاسن الإسلام؛ فإن الدين الإسلامي كله محاسن: عقائده أصح العقائد وأصدقها، وأنفعها، وأخلاقه أجمل الأخلاق، وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها. وبهذا النظر يزين الله الإيمان في قلب العبد، ويحببه إليه. * ومن أعظم مقويات الإيمان الاجتهاد في الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى خلق الله، فيجتهد العبد في عبادة الله كأنه يشاهده فإن لم يَقْوَ على ذلك استحضر أن الله يشاهده ويراه، فيجتهد في العمل وإتقانه ولا يزال العبد يجاهد نفسه حتى يقوى إيمانه ويقينه، ويصل في ذلك إلى حق اليقين الذي هو أعلى مراتب اليقين، فيذوق حلاوة الطاعات ... * ومن مقويات الإيمان الدعوة إلى الله وإلى دينه، والتواصي بالحق، والتواصي، وبذلك يُكمِّل العبدُ بنفسه ويُكمِّلُ غيرَه.

المبحث الأول: أسماء الله تعالى توقيفية

* ومن أهم أسباب تقوية الإيمان الابتعاد عن شعب الكفر، والنفاق، والفسوق والعصيان. * ومن الأسباب التي تقوي الإيمان التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وتقديم ما يحبه الله على كل ما سواه عند غلبة الهوى. * ومن ذلك الخلوة بالله وقت نزوله، لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم خَتْمُ ذلك بالاستغفار والتوبة. * ومن الأسباب المقوية للإيمان مجالسة العلماء الصادقين المخلصين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما يُنْتَقَى أطايب الثمر. * ومن ذلك الابتعاد عن كل سبب يحول بين قلب العبد وبين الله تبارك وتعالى (¬1). ومعرفة أسماء الله الحُسنى بمراتبها الثلاث هي من أعظم مقويات الإيمان؛ بل معرفة الله بأسمائه وصفاته هي أصل الإيمان، والإيمان يرجع إلى هذا الأصل العظيم. المبحث الأول: أسماء الله تعالى توقيفية أسماء الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها، وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص؛ ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 3/ 17، والتوضيح والبيان لشجرة الإيمان للسعدي، ص40 - 62.

المبحث الثاني: أركان الإيمان بالأسماء الحسنى

لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء فوجب الوقوف في ذلك على النص لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (¬1). وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬2)؛ ولأن تسميته تعالى بما لم يُسمِّ به نفسه، أو إنكار ما سَمَّى به نفسه جناية في حقه تعالى فوجب سلوك الأدب في ذلك، والاقتصار على ما جاء به النص (¬3). المبحث الثاني: أركان الإيمان بالأسماء الحُسنى 1 - الإيمان بالاسم. 2 - الإيمان بما دل عليه الاسم من المعنى. 3 - الإيمان بما يتعلق به من الآثار. فنؤمن بأن الله رحيمٌ ذو رحمة وسعت كل شيء، ويرحم عباده. قدير ذو قدرة، ويقدر على كل شيءٍ. غفور ذو مغفرة ويغفر لعباده (¬4). المبحث الثالث: أقسام ما يوصف به الله تعالى قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ما يجري صفة أو خبراً على الرب تبارك وتعالى أقسام: ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 36. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 33. (¬3) القواعد المُثلَى في صفات الله وأسمائه الحُسنى، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص13، وانظر: بدائع الفوائد لابن القيم، 1/ 162. (¬4) مختصر الأجوبة الأصولية شرح العقيدة الواسطية، لعبد العزيز السلمان، ص27.

أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات كقولك: ذات، وموجود، وشيء. الثاني: ما يرجع إلى صفات معنوية كالعليم، والقدير، والسميع. الثالث: ما يرجع إلى أفعاله نحو: الخالق، والرزَّاق. الرابع: ما يرجع إلى التنزيه المحض، ولابد من تضمنه ثبوتاً؛ إذ لا كمال في العدم المحض كالقدوس السلام. الخامس: ولم يذكره أكثر الناس، وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة مُعَيَّنة، بل هو دال على معناه لا على معنى مفرد، نحو: المجيد، العظيم، الصمد؛ فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا فإنه موضوع للسعة، والكثرة، والزيادة، فمنه استمجد المرخ والغفار، وأمجد الناقة علفاً. ومنه ((رب العرش المجيد)) صفة للعرش لسعته وعِظَمِهِ وشرفه (¬1). وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترناً بطلب الصلاة من الله على رسوله كما علمناه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء وكثرته ودوامه، فأتى في هذا المطلوب باسم تقتضيه كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، ولا يَحسن إنك أنت السميع البصير، فهو راجع إلى المتوسل إليه بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه. ومنه الحديث الذي في المسند والترمذي: ((ألظُّوا بياذا الجلال والإكرام)) (¬2)، ومنه: ¬

_ (¬1) قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: ((المجيد فيه قراءتان: الرفع على أنه صفة للرب - عز وجل -، والجر على أنه صفة للعرش، وكلاهما معنى صحيح))، 4/ 497. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب 91، برقم 3525، وأحمد في المسند، 4/ 177، والحاكم في المستدرك، 1/ 499، وقال: ((صحيح الإسناد)). ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في الصحيحة، برقم 1536، وفي صحيح الجامع، برقم 1158.

((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام)) (¬1)، فهذا سؤال له وتوسل إليه وبحمده، وأنه الذي لا إله إلا هو المنَّان، فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته، وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعاً عند المسؤول، وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد أشرنا إليه إشارة، وقد فُتِحَ لمن بصَّره الله. ولنرجع إلى المقصود وهو وصفه تعالى بالاسم المتضمن لصفات عديدة. فالعظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال. وكذلك الصمد، قال ابن عباس: هو السيد الذي كَمُلَ في سؤدده، وقال ابن وائل: هو السيد الذي انتهى سُؤدده. وقال عكرمة: الذي ليس فوقه أحد وكذلك قال الزجاج: الذي ينتهي إليه السؤدد فقد صمد له كل شيء. وقال ابن الأنباري: لا خلاف بين أهل اللغة أنَّ الصمد السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يَصْمُدُ إليه الناس في حوائجهم وأمورهم. واشتقاقه يدل على هذا فإنه من الجمع والقصد الذي اجتمع القصد نحوه واجتمعت فيه صفات السؤدد وهذا أصله في اللغة كما قال: ألاَ بَكَر الناعي بخير بني أسدْ ... بعمرِو بن مسعودٍ وبالسيدِ الصَّمَدْ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1495، والترمذي في كتاب الدعوات، باب 99، برقم 3544، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، برقم 3858، والنسائي في كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر، برقم 1298، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 1495.

والعرب تُسَمِّي أشرافها بالصمد؛ لاجتماع قصد القاصدين إليه، واجتماع صفات السيادة فيه. السادس صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو: الغني الحميد، العفو القدير، الحميد المجيد. وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن؛ فإن الغنى صفة كمال، والحمد كذلك، واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك العفوّ القدير، والحميد المجيد، والعزيز الحكيم، فتأمله فإنه من أشرف المعارف. وأما صفات السلب المحض فلا تدخل في أوصافه تعالى إلا أن تكون متضمنة لثبوت: كالأحد المتضمن لانفراده بالربوبية والإلهية، والسلام المتضمن لبراءته من كل نقص يضاد كماله، وكذلك الإخبار عنه بالسلوب هو لتضمنها ثبوتاً كقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} (¬1)، فإنه متضمن لكمال حياته وقيّوميته، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} (¬2)، متضمن لكمال قدرته، وكذلك قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} (¬3) متضمن لكمال علمه، وكذلك قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (¬4)، متضمن لكمال صَمَدِيَّتِهِ وغناه، وكذلك قوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬5)، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 255. (¬2) سورة ق، الآية: 38. (¬3) سورة يونس، الآية: 61. (¬4) سورة الإخلاص، الآية: 3. (¬5) سورة الإخلاص، الآية: 4.

المبحث الرابع: دلالة الأسماء الحسنى ثلاثة أنواع:

متضمن لتفرُّده بكماله، وأنه لا نظير له. وكذلك قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (¬1) متضمن لعظمته، وأنه جل عن أن يدرك بحيث يحاط به، وهذا مطّرد في كل ما وصف به نفسه من السلوب (¬2). المبحث الرابع: دلالة الأسماء الحُسنى ثلاثة أنواع: أسماء الله كلها حُسنى، وكلها تدل على الكمال المطلق والحمد المطلق، وكلها مشتقة من أوصافها، فالوصف فيها لا ينافي العلمية، والعلمية لا تنافي الوصف، ودلالتها ثلاثة أنواع: دلالة مطابقة إذا فسرنا الاسم بجميع مدلوله. ودلالة تَضمُّن إذا فسرناه ببعض مدلوله. ودلالة التزام إذا استدللنا به على غيره من الأسماء التي يتوقف هذا الاسم عليها. فمثلاً ((الرحمن)) دلالته على الرحمة والذات دلالة مطابقة. وعلى أحدهما دلالة تضمن؛ لأنها داخلة في الضمن، ودلالته على الأسماء التي لا توجد الرحمة إلا بثبوتها كالحياة، والعلم، والإدارة، والقدرة، ونحوها دلالة التزام، وهذه الأخيرة تحتاج إلى قوة فكر وتأمل، ويتفاوت فيها أهل العلم، فالطريق إلى معرفتها أنك إذا فهمت اللفظ وما يدل عليه من المعنى وفهمته فهماً جيداً، فَفَكَّر فيما يتوقف عليه ولا يتم بدونه. وهذه القاعدة تنفعك في جميع النصوص الشرعية، فدلالاتها الثلاث كلها ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 103. (¬2) بدائع الفوائد، 1/ 159 - 161، ثم قال: يجب أن يعلم هنا أمور، وذكر عشرين فائدة تكتب بماء الذهب فارجع إليها في 1/ 159 - 170.

المبحث الخامس: حقيقة الإلحاد في أسماء الله تعالى

حجة لأنها معصومة محكمة (¬1). المبحث الخامس: حقيقة الإلحاد في أسماء الله تعالى وحقيقة الإلحاد فيها هو الميل بها عن الاستقامة: إما بإثبات المشاركة فيها لأحدٍ من الخلق، كإلحاد المشركين الذين اشتقوا لآلهتهم من صفات الله ما لا يصلح إلا لله، كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنَّان، وكل مشرك تعلق بمخلوق اشتق لمعبوده من خصائص الربوبية والإلهية ما برَّر له عبادته. وأعظم الخلق إلحاداً طائفة الاتحادية الذين من قولهم: إن الرب عين المربوب، فكل اسم ممدوح أو مذموم يطلق على الله عندهم، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وإما أن يكون الإلحاد بنفي صفات الله وإثبات أسماء لا حقيقة لها، كما فعل الجهمية ومن تفرع عنهم، وإما بجحدها وإنكارها رأساً إنكاراً لوجود الله، كما فعل زنادقة الفلاسفة، فهؤلاء الملحدون قد انحرفوا عن الصراط المستقيم ويمموا طرق الجحيم (¬2). قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قال تعالى: {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬3)، والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها، وهو مأخوذ من الميل كما تدل عليه مادته (ل ح د)، فمنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط، ومنه الْمُلحِد في الدين ¬

_ (¬1) توضيح الكافية الشافية، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، ص132. (¬2) المرجع السابق، ص33. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 180.

المائل عن الحق إلى الباطل. قال ابن السِّكِّيت: الملحد المائل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه. ومنه الملتحد وهو مفتعل من ذلك. وقوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (¬1) أي من تعدل إليه وتهرب إليه وتلتجئ إليه وتبتهل إليه فتميل إليه عن غيره. تقول العرب: التحد فلان إلى فلان إذا عدل إليه. إذا عُرِفَ هذا فالإلحاد في أسمائه تعالى أنواع: أحدها: أن تُسمَّى الأصنام بها كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز. وتسميتهم الصنم إلهاً، وهذا إلحاد حقيقة؛ فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة. الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أباً، وتسمية الفلاسفة له موجباً بذاته، أو علة فاعلة بالطبع ونحو ذلك. ثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود: إنه فقير. وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه. وقولهم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} (¬2)، وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته. ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني فيطلقون عليه اسم السميع، والبصير، والحي، والرحيم، والمتكلم، والمريد، ويقولون: لا حياة له، ولا سمع له، ولا بصر له، ولا كلام، ولا إرادة ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 27. (¬2) سورة المائدة، الآية: 64.

تقوم به وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً، وشرعاً، ولغة، وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين؛ فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها، فكلاهما ملحد في أسمائه، ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب. وكل من جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله فقد ألحد في ذلك فليستقلّ أو ليستكثر. وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علواً كبيراً. فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، فإن أولئك نفوا صفة كماله وجحدوها، وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقه، وبرَّأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظاً ولا معنىً؛ بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم بريئاً من التشبيه، وتنزيههم خالياً من التعطيل، لا كمن شبّه حتى كأنه يعبد صنماً، أو عطَّل حتى كأنه لا يعبد إلا عدماً. وأهل السنة وسط في النِّحل، كما أن أهل الإسلام وسط في الملل، توقد مصابيح معارفهم من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء. فنسأل الله تعالى أن يهدينا لنوره، ويُسَهِّل لنا السبيل إلى الوصول إلى

المبحث السادس: إحصاء الأسماء الحسنى أصل للعلم

مرضاته ومتابعة رسوله، إنه قريب مجيب (¬1). المبحث السادس: إحصاء الأسماء الحُسنى أصلٌ للعلم إحصاء الأسماء الحُسنى والعلم بها أصلٌ للعلم بكل معلوم، فإن المعلومات سواه إما أن تكون خلقاً له تعالى أو أمراً. إما علم بما كوّنه أو علم بما شرعه، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه، فالأمر كله مصدره عن أسمائه الحسنى، وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد، والرأفة، والرحمة بهم، والإحسان إليهم بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فأمره كله مصلحة، وحكمة، ورحمة، ولُطف، وإحسان؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، وفعله كله لا يخرج عن العدل، والحكمة، والمصلحة، والرحمة، إذ مصدره أسماؤه الحسنى فلا تفاوت في خلقه، ولا عبث، ولم يخلق خلقه باطلاً، ولا سُدىً، ولا عبثاً. وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود من سواه تابع لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم بها أصل للعلم بكل ما سواه ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد، لابن القيم رحمه الله تعالى بتصرف يسير جداً، 1/ 169 - 170، وقد ذكر رحمه الله عشرين فائدة في أسماء الله الحُسنى قال في نهايتها: ((فهذه عشرون فائدة مضافة إلى القاعدة التي بدأنا بها في أقسام ما يوصف به الرب تبارك وتعالى، فعليك بمعرفتها ومراعاتها، ثم اشرح الأسماء الحسنى إن وجدت قلباً عاقلاً، ولساناً قائلاً، ومحلاً قابلاً، وإلا فالسكوت أولى بك، فجناب الربوبية أجلّ وأعزّ مما يخطر بالبال، أو يعبر عنه المقال {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} حتى ينتهي العلم إلى من أحاط بكل شيء علماً. وعسى الله أن يعين بفضله على تعليق شرح الأسماء الحُسنى مراعياً فيه أحكام هذه القواعد، بريئاً من الإلحاد في أسمائه وتعطيل صفاته، فهو المنان بفضله والله ذو الفضل العظيم)). وانظر: بدائع الفوائد، 1/ 159 - 170.

المبحث السابع: أسماء الله كلها حسنى

فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم؛ إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى؛ ولهذا لا تجد فيها خللاً ولا تفاوتاً؛ لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله إما أن يكون لجهله به أو لعدم حكمته. وأما الرب تعالى فهو العليم الحكيم، فلا يلحق فعله ولا أمره خلل، ولا تفاوت، ولا تناقض (¬1). المبحث السابع: أسماء الله كلها حُسنى أسماء الله كلها حُسنى، ليس فيها اسم غير ذلك أصلاً، وقد تقدم أن من أسمائه ما يطلق عليه باعتبار الفعل نحو الخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، وهذا يدل على أن أفعاله كلها خيرات محض لا شر فيها، لأنه لو فعل الشر لاشتقّ له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حُسنى، وهذا باطل، فالشر ليس إليه، فكما لا يدخل في صفاته ولا يلحق ذاته، ولا يدخل في أفعاله، فالشر ليس إليه، لا يُضاف إليه فعلاً ولا وصفاً، وإنما يدخل في مفعولاته. وفرق بين الفعل والمفعول، فالشر قائم بمفعوله المباين له، لا بفعله الذي هو فعله، فتأملْ هذا فإنه خَفِيَ على كثير من المتكلمين وزلَّت فيه أقدامٌ، وضلَّت فيه أفهامٌ، وهدى الله أهل الحق لما اختلفوا فيه بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (¬2). ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد لابن القيم، 1/ 163. (¬2) بدائع الفوائد لابن القيم، 1/ 163.

المبحث الثامن: أسماء الله تعالى منها ما يطلق عليه مفردا ومقترنا بغيره ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده بل مقرونا بمقابله

المبحث الثامن: أسماء الله تعالى منها ما يطلق عليه مفرداً ومقترناً بغيره ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده بل مقروناً بمقابله إن أسماءه تعالى منها ما يطلق عليه مفرداً ومقترناً بغيره وهو غالب الأسماء. فالقدير، والسميع، والبصير، والعزيز، والحكيم، وهذا يسوغ أن يُدعَى به مفرداً ومقترناً بغيره، فتقول: يا عزيزُ يا حليمُ، يا غفورُ يا رحيمُ، وأن يفرد كل اسم وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه بما يسوغ لك الإفراد والجمع. ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده بل مقروناً بمقابله كالمانع، والضار، والمنتقم، فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله فإنه مقرون بالمُعطي، والنافع، والعفوّ، فهو المعطي المانع، الضارُّ النافعُ، المنتقمُ العفوّ، المعزّ المذلّ، لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله؛ لأنه يراد به أنه المنفرد بالربوبية، وتدبير الخلق، والتصرف فيهم عطاءً، ومنعاً، ونفعاً، وضراً، وعفواً، وانتقاماً. وأما أن يثنى عليه بمجرد المنع، والانتقام، والإضرار، فلا يسوغ. فهذه الأسماء المزدوجة تُجرى الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض، فهي وإن تعدّدت جارية مجرى الاسم الواحد؛ ولذلك لم تجئ مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة، فاعلمه ((فلو قلت)) يا مُذلُ، يا ضارُّ، يا مانعُ، وأخبرت بذلك لم تكن مثنياً عليه ولا حامداً له حتى تذكر مقابلها (¬1). ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد، لابن القيم رحمه الله تعالى، 1/ 167.

المبحث التاسع: من أسماء الله الحسنى ما يكون دالا على عدة صفات

المبحث التاسع: من أسماء الله الحُسنى ما يكون دالاً على عدة صفات قال الإمام ابن القيم رحمه الله: من أسمائه الحُسنى ما يكون دالاً على عدة صفات. ويكون ذلك الاسم متناولاً لجميعها تناول الاسم الدال على الصفة الواحدة لها ... كاسمه العظيم، والمجيد، والصمد، كما قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن أبي حاتم في تفسيره: الصمد السيد الذي قد كَمُلَ في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع شرفه وسؤدده وهو الله سبحانه. وهذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفواً أحد، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار. هذا لفظه. وهذا مما خَفِيَ على كثير ممن تعاطَى الكلام في تفسير الأسماء الحسنى، ففسَّر الاسم بدون معناه، ونقصه من حيث لا يعلم، فمن لم يُحط بهذا علماً بخس الاسم الأعظم حقه وهضمه معناه فتدبره (¬1). المبحث العاشر: الأسماء الحُسنى التي ترجع إليها جميع الأسماء والصفات قال ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير سورة الفاتحة: اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال، وتضمنتها أكمل تضمن، فاشتملت على التعريف بالمعبود - تبارك وتعالى - بثلاثة أسماء مرجع الأسماء الحسنى، والصفات العليا إليها، ومدارها عليها ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد، للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، 1/ 168، نشر مكتبة الرياض الحديثة، بتصرف يسير جداً.

وهي: الله، والرَّب، والرَّحمنُ. وبُنيت السورة على الإلهية، والربوبية، والرحمة، فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مبني على الإلهية، و {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على الربوبية، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة. والحمد يتضمن الأمور الثلاثة: فهو المحمود في إلهيته، وربوبيته، ورحمته، والثناء والمجد كمالان لجده ... وتضمنت - يعني سورة الفاتحة - إثبات النبوات من جهات عديدة: 1 - كون الله ((رب العالمين)). فلا يليق به أن يترك عباده سُدى هَمَلاً لا يُعرِّفَهم ما ينفعهم في معاشهم، ومعادهم، وما يضرهم فيهما فهذا هَضْمٌ للربوبية، ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به، وما قدره حق قدره من نسبة إليه. 2 - من اسم ((الله)) وهو المألوه المعبود ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله عليهم الصلاة والسلام. 3 - من اسمه ((الرحمن)) فإن رحمته تمنع إهمال عباده، وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم. فمن أعْطى اسم ((الرحمن)) حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل، وإنزال الكتب، أعظم من تضمنه إنزال الغيث، وإنبات الكلأ، وإخراج الحب، فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح، لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظّ البهائم والدواب. وأدرك منه أُولُو الألباب أمراً وراء ذلك ... (¬1). ¬

_ (¬1) مدارج السالكين، 1/ 8، وذكر بعد ذلك رحمه الله تعالى جهات عديدة لتضمن سورة الفاتحة لإثبات النبوات ولكني أقتصر على ما يختص بالأسماء الحُسنى.

واشتملت سورة الفاتحة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم. وهي: 1 - التوحيد العلمي - سُمِّي بذلك لتعلقه بالأخبار والمعرفة - ويسمى أيضاً بـ ((توحيد الأسماء والصفات)). 2 - التوحيد القصدي الإرادي - سُمِّيَ بذلك لتعلقه بالقصد والإرادة - وهذا الثاني نوعان: توحيد في الربوبية، وتوحيد في الإلهية فهذه ثلاثة أنواع. فأما التوحيد العلمي [توحيد الأسماء والصفات] فمداره على إثبات صفات الكمال، وعلى نفي التشبيه، والمثال، والتنزيه عن العيوب والنقائص، وقد دل على هذا شيئان: أ – مجمل. ... ب - مفصل. أ - أما المجمل فإثبات الحمد لله سبحانه. ب - وأما المفصل فذكر صفة ((الإلهية، والربوبية، والرحمة، والملك)) وعلى هذه الأربعة مدار الأسماء والصفات. * فأما تضمن الحمد لذلك فإن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله، ونعوت جلاله، مع محبته والرضا عنه، والخضوع له. فلا يكون حامداً من جحد صفات المحمود، ولا من أعرض عن محبته والخضوع له، وكلما كانت صفات المحمود أكثر كان حمده أكمل، وكلما

نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها. ولهذا كان الحمد كله لله حمداً لا يحصيه سواه لكمال صفاته وكثرتها؛ ولأجل هذا لا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه لما له من صفات الكمال ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) (¬1) .. فهذه دلالة على توحيد الأسماء والصفات. * وأما دلالة الأسماء الخمسة عليها ((أي على الأسماء والصفات)) وهي: ((الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والملك)) فمبني على أصلين: الأصل الأول: أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله فهي مشتقة من الصفات. فهي أسماء وهي أوصاف، وبذلك كانت حُسنى؛ إذْ لو كانت ألفاظاً لا معاني فيها لم تكن حُسنى، ولا كانت دالةً على مدح ولا كمال، ولساغ وقوع أسماء الانتقام، والغضب في مقام الرحمة والإحسان، وبالعكس فيقال: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر إنك أنت المنتقم. واللهم أعطني فإنك أنت الضار المانع، ونحو ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ونفي معاني الأسماء الحُسنى من أعظم الإلحاد فيها قال تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬2)؛ ولأنها لو لم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 486. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 180.

تدل على معانٍ وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها. لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم -. كقوله تعالى: {إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬1)، فعُلِم أن ((القوي)) من أسمائه ومعناه الموصوف بالقوة. وكذلك قوله تعالى: {فَلله الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬2)، فالعزيز من له العزة، فلولا ثبوت القوة والعزة لم يُسمَّ قوياً، ولا عزيزاً، وكذلك قوله تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬3) ... وأجمع المسلمون أنه لو حلف بحياة الله، أوسمعه، أو بصره، أو قوته أو عزته، أو عظمته انعقدت يمينه وكانت مكفرة؛ لأن هذه صفات كماله التي اشتقَّتْ منها أسماؤه. وأيضاً لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معانٍ وصفات لم يسُغ أن يخبر عنه بأفعالها. فلا يقال: يسمع، ويرى، ويعلم، ويقدر، ويريد؛ فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها، فإذا انتفى أصل الصفة استحال ثبوت حكمها ... فنفي معاني أسمائه سبحانه من أعظم الإلحاد فيها، والإلحاد فيها أنواع هذا أحدها. الأصل الثاني: الاسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدلّ على الذات والصفة التي اشتقّ منها بالمطابقة؛ فإنّه يدلّ عليه دلالتين أُخرَيَيْن بالتضمن واللزوم. فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن، وكذلك على الذات المجردة عن ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 58. (¬2) سورة فاطر، الآية: 10. (¬3) سورة النساء، الآية: 166.

الصفة، ويدل على الصفة الأُخرى باللزوم. فإن اسم ((السميع)) يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة. وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده بالتضمن، ويدل على اسم ((الحي)) وصفة الحياة بالالتزام. وكذلك سائر أسمائه وصفاته، ولكن يتفاوت الناس في معرفة اللزوم وعدمه .. * إذا تقرر هذان الأصلان فاسم ((الله)) دالٌّ على جميع الأسماء الحُسنى والصفات العُلا بالدلالات الثلاث ((المطابقة، والتضمن، واللزوم)). فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له، مع نفي أضدادها عنه. وصفات الإلهية - يعني أن الله الإله الحق وحده لا شريك له - هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والتمثيل، وعن العيوب والنقائص، ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحُسنى إلى هذا الاسم العظيم، كقوله تعالى: {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ويقال: ((الرحمن، والرحيم، والقدوس، والسلام، والعزيز، والحكيم)) من أسماء الله ولا يقال: الله من أسماء الرحمن، ولا من أسماء العزيز. ونحو ذلك. فعُلِمَ أن اسمه ((الله)) مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دالٌّ عليها بالإجمال، والأسماء الحُسنى تفصيل، وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم ((الله))، واسم ((الله)) دالٌّ على كونه مألوهاً معبوداً، تألَّهَهُ الخلائق محبةً، وتعظيماً، خضوعاً وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك والحمد. وإلهيته

وربوبيته، ورحمانيته، وملكه، مستلزم لجميع صفات كماله. إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعَّالٍ لما يريد، ولا حكيم في أفعاله. * وصفات الجلال والجمال: أخص باسم ((الله)). * وصفات الفعل، والقدرة، والتفرّد بالضرّ والنفع، والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة، وكمال القوة، وتدبير أمر الخليقة أخص باسم ((الربّ)). * وصفات الإحسان، والجود، والبّر، والحنّان، والمنّة، والرأفة، واللّطف، أخص باسم ((الرحمن)). وكرر إيذاناً بثبوت الوصف، وحصول أثره، وتعلقه بمتعلقاته. فالرحمن الذي الرحمة وصفه، والرحيم: الراحم لعباده؛ ولهذا يقول تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (¬1)،ولم يجئ رحمان بعباده ولا رحمان بالمؤمنين، مع ما في اسم ((الرحمن)) الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف، وثبوت جميع معناه الموصوف به ... فبناء فعلان للسعة والشمول. ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيراً كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬2)؛لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬3)،وفي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 43. (¬2) سورة طه، الآية: 5. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 156.

((لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش: ((إن رحمتي تغلب غضبي))،وفي لفظ: ((فهو عنده على العرش)) (¬1). فتأملْ اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة، ووضعه عنده على العرش، وطابقْ بين ذلك وبين قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (¬2) ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهيم. * وصفات العدل، والقبض والبسط، والخفض والرفع، والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال، والقهر والحكم، ونحوها أخص باسم ((المَلِك)) وخصّه بيوم الدين وهو الجزاء بالعدل؛ لتفرده بالحكم فيه وحده؛ ولأنه اليوم الحق، وما قبله كساعة؛ ولأنه الغاية وأيام الدنيا مراحل إليه. وفي ذكر هذه الأسماء بعد الحمد في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬3)، وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها ما يدل على أنه محمود في إلهيته، محمود في ربوبيته، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، برقم 3194، ومسلم في كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، برقم 2751. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 59. (¬3) سورة الفاتحة، الآيات: 1 - 3.

محمود في رحمانيته، محمود في ملكه، وأنه إله محمود، ورب محمود، وملِك محمود. فله بذلك جميع أقسام الكمال: كمال من هذا الاسم بمفرده، وكمال من الآخر بمفرده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر. مثال ذلك قوله تعالى: {وَالله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (¬1)، {وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2)، {وَالله قَدِيرٌ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3)، فالغنى صفة كمال والحمد صفة كمال، واقتران غناه بحمده كمال أيضاً، وعلمه كمال، وحكمته كمال، واقتران العلم بالحكمة كمال أيضاً. وقدرته كمال، ومغفرته كمال، واقتران القدرة بالمغفرة كمال، وكذلك العفو بعد القدرة: {إِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (¬4). فما كل من قدر عفا، ولا كل من عفا يعفو عن قدرة، ولا كل من علم يكون حليماً، ولا كل حليم عالم في قرن شيء إلى شيءٍ أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة، ومن ملك إلى حمد، ومن عزة إلى رحمة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (¬5). وفي هذا أظهر دلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف ومعانٍ قامت به، وإن كل اسم يناسب ما ذكر معه واقترن به من فعله ¬

_ (¬1) سورة التغابن، الآية: 6. (¬2) سورة النساء، الآية: 26. (¬3) سورة الممتحنة، الآية: 7. (¬4) سورة النساء، الآية: 43. (¬5) سورة الشعراء، الآية: 191.

وأمره، والله الموفق للصواب (¬1). إذا قال السائل: ((اللهم إني أسألك)) كأنه قال: أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العُلا بأسمائه وصفاته. فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم، إيذاناً بسؤاله تعالى بأسمائه كلها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((ما أصاب عبداً همٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللهمّ إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حُزني، وذهاب همّي وغمّي، إلا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحاً)) قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلمهنّ؟ قال: ((بلى، ينبغي لمن سمعهنّ أن يتعلمهنّ)) (¬2). فالداعي مندوب إلى أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته كما في الاسم الأعظم: ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنّان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حيُّ يا قيوم)) (¬3). ¬

_ (¬1) مدارج السالكين، لابن القيم رحمه الله تعالى، 1/ 24 - 37 بتصرف. (¬2) أخرجه أحمد، 1/ 391، وأبو يعلى، 9/ 198 - 199، برقم 5297، والحاكم، 1/ 509 - 510، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 339، 340، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، 1/ 337. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1495، والترمذي في كتاب الدعوات، باب 99، برقم 3544، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، برقم 3858، والنسائي في كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر، برقم 1298، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 1495.

والدعاء ثلاثة أقسام: 1 - أن تسأل الله بأسمائه وصفاته. 2 - أن تسأله بحاجتك وفقرك وذُلِّك فتقول: أنا العبد الفقير المسكين الذليل المستجير، ونحو ذلك. 3 - أن تسأل حاجتك ولا تذكر واحداً من الأمرين، فالأول أكمل من الثاني، والثاني أكمل من الثالث، فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكمل. وهذه عامة أدعية النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالدعاء الذي علّمه صدِّيق الأمة - رضي الله عنه - ذكر الأقسام الثلاثة: 1 - فإنه قال في أوله: ((اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً)) (¬1)، وهذا حال السائل. 2 - ثم قال: ((ولا يغفر الذنوب إلا أنت))، وهذا حال المسؤول. 3 - ثم قال: ((فاغفر لي)) فذكر حاجته، وختم الدعاء باسمين من الأسماء الحُسنى تناسب المطلوب وتقتضيه، ثم قال ابن القيم رحمه الله: وهذا القول الذي اخترناه قد جاء عن غير واحد من السلف. قال الحسن البصري: ((اللهم)) مجمع الدعاء، وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قوله: ((اللهم)) فيها تسعة وتسعون اسماً من أسماء الله تعالى. وقال النضر بن شميل: من قال: ((اللهم)) فقد دعا الله بجميع أسمائه (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، برقم 834، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، رقم 2705. (¬2) التفسير القيم لابن القيم، ص210 - 211 بتصرف يسير جداً.

المبحث الحادي عشر: أسماء الله وصفاته مختصة به، واتفاق الأسماء لا يوجب تماثل المسميات

المبحث الحادي عشر: أسماء الله وصفاته مختصة به، واتفاق الأسماء لا يوجب تماثل المسميات. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((سمّى الله نفسه بأسماء، وسمّى صفاته بأسماء، فكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه، لا يشركه فيها غيره، وسمّى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص، لا اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص. فقد سمَّى الله نفسه حيّا، فقال: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬1)، وسمَّى بعض عباده حيّاً، فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (¬2)، وليس هذا الحيّ مثل هذا الحيّ؛ لأن قوله ((الحيّ)) اسم الله مختص به، وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أُطلقا وجُرِّدا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمَّى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسميين، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق. ولابدّ من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يُفهم منها ما دلّ عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دلّ عليه بالإضافة والاختصاص المانعة ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 255. (¬2) سورة الروم، الآية: 19.

من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه - سبحانه وتعالى -. وكذلك سمَّى الله نفسه عليماً حليماً، وسمّى بعض عباده عليماً، فقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} (¬1)، يعني إسحاق وسمّى آخر حليماً، فقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} (¬2)، يعني إسماعيل، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم. وسمَّى نفسه سميعاً بصيراً، فقال: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ الله كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬3)، وسمّى بعض خلقه سميعاً بصيراً فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬4)، وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير. وسمَّى نفسه بالرؤوف الرحيم، فقال: {إِنَّ الله بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬5)، وسمّى بعض عباده بالرؤوف الرحيم، فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬6)، وليس الرؤوف كالرؤوف، ولا الرحيم كالرحيم. ¬

_ (¬1) سورة الذاريات الآية 28. (¬2) سورة الصافات، الآية: 101. (¬3) سورة النساء، الآية: 58. (¬4) سورة الإنسان، الآية: 2. (¬5) سورة البقرة، الآية: 143. (¬6) سورة التوبة، الآية: 128.

وسمَّى نفسه بالملك، فقال: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (¬1)، وسمّى بعض عباده بالملك، فقال: {وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (¬2)، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} (¬3)، وليس الملك كالملك. وسمَّى نفسه بالمؤمن، فقال: {الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} (¬4)، وسمى بعض عباده بالمؤمن، فقال: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} (¬5)، وليس المؤمن كالمؤمن. وسمَّى نفسه بالعزيز، فقال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} (¬6)، وسمّى بعض عباده بالعزيز، فقال: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} (¬7)،وليس العزيز كالعزيز. وسمَّى نفسه الجبار المتكبر، وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر، فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (¬8)، وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر. ونظائر هذا متعددة. وكذلك سمَّى صفاته بأسماء، وسمّى صفات عباده بنظير ذلك، فقال: ¬

_ (¬1) سورة الحشر، الآية: 23. (¬2) سورة الكهف، الآية: 79. (¬3) سورة يوسف، الآية: 50. (¬4) سورة الحشر، الآية: 23. (¬5) سورة السجدة، الآية: 18. (¬6) سورة الحشر، الآية: 23. (¬7) سورة يوسف، الآية: 51. (¬8) سورة غافر، الآية: 35.

{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} (¬1)، وقال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬2)، وقال: {إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬3)، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬4). وسمَّى صفة المخلوق علماً وقوة، فقال: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬5)، وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (¬6)، وقال: {فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} (¬7)، وقال: {الله الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (¬8)، وقال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (¬9)، وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (¬10)، أي: بقوة، وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} (¬11) أي: ذا القوة، وليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة. وكذلك وصف نفسه بالمشيئة، ووصف عبده بالمشيئة، فقال: {لِمَن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 255. (¬2) سورة النساء، الآية: 166. (¬3) سورة الذاريات، الآية: 58. (¬4) سورة فصلت، الآية: 15. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 85. (¬6) سورة يوسف، الآية: 76. (¬7) سورة غافر، الآية: 83. (¬8) سورة الروم، الآية: 54. (¬9) سورة هود، الآية: 52. (¬10) سورة الذاريات، الآية: 47. (¬11) سورة ص، الآية: 17.

شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1). وقال: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬2). وكذلك وصف نفسه بالإرادة، ووصف عبده بالإرادة، فقال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَالله يُرِيدُ الآخِرَةَ وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬3). ووصف نفسه بالمحبة، [ووصف عبده بالمحبة] فقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (¬4)، وقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} (¬5). ووصف نفسه بالرضا، ووصف عبده بالرضا، فقال: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} (¬6). ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه. وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ ¬

_ (¬1) سورة التكوير، الآيتان: 28 - 29. (¬2) سورة الإنسان، الآيتان: 29 - 30. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 67. (¬4) سورة المائدة، الآية: 54. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 31. (¬6) سورة المائدة، الآية: 119.

إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} (¬1)، وليس المقت مثل المقت. وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} (¬2)،وقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} (¬3)، وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد. ووصف نفسه بالعمل، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (¬4)، ووصف عبده بالعمل، فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬5)، وليس العمل كالعمل. ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة، في قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (¬6)، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} (¬7)، وقوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} (¬8)، ووصف عبده بالمناداة والمناجاة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (¬9)، وقال: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} (¬10)، ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآية: 10. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 30. (¬3) سورة الطارق، الآيتان: 15 - 16. (¬4) سورة يس، الآية: 71. (¬5) سورة السجدة، الآية: 17. (¬6) سورة مريم، الآية: 52. (¬7) سورة القصص، الآية: 62. (¬8) سورة الأعراف، الآية: 22. (¬9) سورة الحجرات، الآية: 4. (¬10) سورة المجادلة، الآية: 12.

وقال: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1)، وليس المناداة كالمناداة، ولا المناجاة كالمناجاة. ووصف نفسه بالتكليم في قوله: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬2)، وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (¬3)، وقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ الله} (¬4)، ووصف عبده بالتكليم في مثل قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} (¬5)، وليس التكليم كالتكليم. ووصف نفسه بالتنبئة، [ووصف بعض الخلق بالتنبئة]، فقال: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} (¬6)، وليس الإنباء كالإنباء. ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم، فقال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (¬7)، وقال: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} (¬8)، وقال: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً ¬

_ (¬1) سورة المجادلة، الآية: 9. (¬2) سورة النساء، الآية: 164. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 143. (¬4) سورة البقرة، الآية: 253. (¬5) سورة يوسف، الآية: 54. (¬6) سورة التحريم، الآية: 3. (¬7) سورة الرحمن، الآيات: 1 - 4. (¬8) سورة المائدة، الآية: 4.

مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬1)، وليس التعليم كالتعليم. وهكذا وصف نفسه بالغضب في قوله: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} (¬2)، ووصف عبده بالغضب في قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} (¬3)، وليس الغضب كالغضب. ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر في سبع آيات (¬4) من كتابه أنه استوى على العرش، ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره، في مثل قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} (¬5)، وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (¬6)، وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (¬7)، وليس الاستواء كالاستواء. ووصف نفسه ببسط اليدين، فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 164. (¬2) سورة الفتح، الآية: 6. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 150. (¬4) وهذه الآيات هي: 1 - {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} الأعراف، الآية: 54. 2 - {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يونس الآية: 3. 3 - {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} الرعد، الآية: 2. 4 - {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه، الآية 5. 5 - {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} الفرقان، الآية: 59. 6 - {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} السجدة، الآية: 4. 7 - {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} الحديد، الآية: 4. (¬5) سورة الزخرف، الآية: 13. (¬6) سورة المؤمنون، الآية: 28. (¬7) سورة هود، الآية: 44.

غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (¬1)، ووصف بعض خلقه ببسط اليد، في قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (¬2)، وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم. ونظائر هذا كثيرة. فلابد من إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه، فمن قال: ليس لله علم، ولا قوة، ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحب، ولا يرضى، ولا نادى، ولا ناجى، ولا استوى -كان معطلاً، جاحداً، ممثلاً لله بالمعدومات والجمادات. ومن قال: [له] علم كعلمي، أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، أو رضىً كرضاي، أو يدان كيديَّ، أو استواء كاستوائي - كان مشبِّها، ممثلاً لله بالحيوانات، بل لابد من إثباتٍ بلا تمثيل، وتنزيهٍ بلا تعطيل (¬3). وقد بيَّن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((أن الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاثة اعتبارات: الاعتبار الأول: اعتبار من حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالرب تبارك وتعالى أو العبد. الاعتبار الثاني: اعتباره مضافاً إلى الرب مختصاً به. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 64. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 29. (¬3) التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ص21 - 30.

الاعتبار الثالث: اعتباره مضافاً إلى العبد مقيداً به. فما لزم الاسم لذاته وحقيقته كان ثابتاً للرب والعبد، وللرب منه ما يليق بكماله، وللعبد منه ما يليق به. وهذا كاسم السميع الذي يلزم إدراك المسموعات، والبصير الذي يلزمه رؤية المبصرات، والعليم والقدير وسائر الأسماء؛ فإن شرط صحة إطلاقها حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها، فما لزم هذه الأسماء لذاتها فإثباته للرب تعالى لا محذور فيه بوجه؛ بل يثبت له على وجه لا يماثل فيه خلقه ولا يشابههم، فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق ألحد في أسمائه، وجحد صفات كماله. ومن أثبته له على وجه يماثل فيه خلقه فقد شبَّهه بخلقه، ومن شبَّه الله بخلقه فقد كفر، ومن أثبته له على وجه لا يماثل فيه خلقه؛ بل كما يليق بجلاله وعظمته، فقد برئ من فرث التشبيه ودم التعطيل، وهذا طريق أهل السنة، وما لزم الصفة لإضافتها إلى العبد وجب نفيه عن الله، كما يلزم حياة العبد من النوم والسِّنة والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك. وكذلك ما يلزم إرادته من حركة نفسه في جلب ما ينتفع به ودفع ما يتضرر به. وكذلك ما يلزم علوّه من احتياجه إلى ما هو عالٍ عليه، وكونه محمولاً به، مفتقراً إليه، محاطاً به. كل هذا يجب نفيه عن القدوس السلام تبارك وتعالى، وما لزم صفة من جهة اختصاصه تعالى بها، فإنه لا يثبت للمخلوق بوجهٍ، كعلمه الذي يلزمه القدم والوجوب والإحاطة بكل معلوم وقدرته وإرادته وسائر صفاته، فإن ما يختصَّ به منها لا يمكن إثباته للمخلوق، فإذا أحطتَ بهذه القاعدة خبراً، وعقلتَها كما ينبغي، خلصتَ من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين: آفة التعطيل، وآفة

التشبيه، فإنكَ إذا وفَّيْتَ هذا المقام حقه من التصور أثبتَّ لله الأسماء الحسنى، والصفات العُلا حقيقة، فخلصتَ من التعطيل، ونفيتَ عنها خصائص المخلوقين ومشابهتهم، فخلصتَ من التشبيه، فتدبّرْ هذا الموضع، واجعلْه جنَّتك التي ترجع إليها في هذا الباب والله الموفق للصواب (¬1). وقال ابن القيم رحمه الله أيضاً: اختلف النظَّار في الأسماء التي تطلق على الله وعلى العباد كالحي، والسميع، والبصير، والعليم، والقدير، والملك ونحوها فقالت طائفة من المتكلمين: هي حقيقة في العبد مجاز في الرب، وهذا قول غلاة الجهمية، وهو أخبث الأقوال وأشدها فساداً. الثاني مقابله وهو أنها حقيقة في الرب مجاز في العبد، وهذا قول أبي العباس الناشى. الثالث أنها حقيقة فيهما، وهذا قول أهل السنة وهو الصواب. واختلاف الحقيقتين فيهما لا يخرجها عن كونها حقيقة فيهما. وللرب تعالى منها ما يليق بجلاله، وللعبد منها ما يليق به (¬2). ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد، للعلامة ابن القيم رحمه الله، 1/ 165 - 166 بتصرف يسير جداً، وانظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم، 2/ 37، فقد قال: ((إن هذه الألفاظ التي تستعمل في حق المخلوق والخالق لها ثلاثة اعتبارات: أحدها: أن تكون مقيدة بالخالق: كسمع الله وبصره، ووجهه ويديه واستوائه ونزوله وعلمه وقدرته وحياته. الثاني: أن تكون مقيدة بالمخلوق: كيد الإنسان، ووجهه، واستوائه. الثالث: أن تجرد عن كلا الإضافتين وتوجد مطلقة ... ))، ثم شرح ذلك شرحاً جيداً. انظر: مختصر الصواعق، 2/ 37. (¬2) بدائع الفوائد، 1/ 164 ببعض التصرف.

المبحث الثاني عشر: أمور ينبغي أن تعلم

المبحث الثاني عشر: أمور ينبغي أن تُعْلَم الأمر الأول: أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته كالشيء، والموجود، والقائم بنفسه؛ فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العلا. الثاني: أن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه؛ بل يطلق عليه منها كمالها، وهذا كالمريد، والفاعل، والصانع؛ فإن هذه الألفاظ لا تدخل من أسمائه، ولهذا غلط من سماه بالصانع عند الإطلاق، بل هو الفعال لما يريد، فإن الإرادة والفعل والصنع منقسمة، ولهذا إنما أطلق على نفسه من ذلك أكمله فعلاً وخبراً. الثالث: أنه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيداً أن يشتق له منه اسم مطلق، كما غلط فيه بعض المتأخرين فجعل من أسمائه الحسنى المضل، الفاتن، الماكر، تعالى الله عن قوله؛ فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة، فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة، والله أعلم. الرابع: أن أسماءه الحسنى هي أعلامٌ وأوصافٌ، والوصف بها لا يُنافي العلمية، بخلاف أوصاف العباد، فإنها تنافي علميتهم؛ لأن أوصافهم مشتركة، فنفتها العلمية المختصة بخلاف أوصافه تعالى. الخامس: أن أسماءه الحسنى لها اعتباران: اعتبار من حيث الذات، واعتبار من حيث الصفات، فهي بالاعتبار الأول مترادفة، وبالاعتبار الثاني متباينة. السادس: أن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما

يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفياً كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه. فهذا فصل الخطاب في مسألة أسمائه هل هي توقيفية، أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض ما لم يرد به السمع. السابع: أن الاسم إذا أطلق عليه جاز أن يشتق منه المصدر والفعل فيخبر به عنه فعلاً ومصدراً نحو السميع، البصير، القدير، يطلق عليه منه السمع والبصر والقدرة، ويخبر عنه بالأفعال من ذلك نحو ((قَدْ سَمِعَ الله))، ((فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ)) هذا إن كان الفعل متعدياً. فإن كان لازماً لم يخبر عنه به نحو الحي؛ بل يطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل، فلا يقال: حيي. الثامن: أن أفعال الرب تبارك وتعالى صادرة عن أسمائه وصفاته، وأسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم، فالرب تبارك وتعالى فعاله عن كماله. والمخلوق كماله عن فعاله، فاشتقت له الأسماء بعد أن كمل بالفعل. فالرب لم يزل كاملاً، فحصلت أفعاله عن كماله؛ لأنه كامل بذاته وصفاته، فأفعاله صادرة عن كماله كَمُلَ ففعل، والمخلوق فَعَل فكَمُلَ الكمال اللائق به (¬1). التاسع: أن الصفات ثلاثة أنواع: صفات كمال، وصفات نقص، وصفات لا تقتضي كمالاً ولا نقصاً، وإن كانت القسمة التقديرية تقتضي قسماً رابعاً، وهو: ما يكون كمالاً ونقصاً باعتبارين، والرب تعالى منزه عن الأقسام الثلاثة، وموصوف بالقسم الأول، وصفاته كلها صفات كمال محض، فهو موصوف من الصفات بأكملها وله من الكمال أكمله. وهكذا أسماؤه الدالة على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها ولا يؤدي معناها، وتفسير ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله، 1/ 161 - 162 بتصرف يسير.

المبحث الثالث عشر: مراتب إحصاء أسماء الله الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة

الاسم منها بغيره ليس تفسيراً بمرادفٍ محضٍ؛ بل هو على سبيل التقريب والتفهيم. وإذا عرفتَ هذا فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمَّه معنى، وأبعده وأنزهه عن شائبة عيب أو نقص، فله من صفة الإدراكات العليم الخبير دون العاقل الفقيه، والسميع البصير دون السامع والباصر والناظر. ومن صفات الإحسان البر، الرحيم، الودود، دون الشفوق ونحوه. وكذلك العلي العظيم دون الرفيع الشريف. وكذلك الكريم دون السخي، والخالق البارئ المصور دون الفاعل الصانع المشكل، والغفور العفوّ دون الصفوح الساتر. وكذلك سائر أسمائه تعالى يُجري على نفسه منها أكملها وأحسنها، وما لا يقوم غيره مقامه، فتأملْ ذلك، فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا تعدِلْ عما سمّى به نفسه إلى غيره، كما لا تتجاوزْ ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله إلى ما وصفه به المبطلون والمعطلون (¬1). المبحث الثالث عشر: مراتب إحصاء أسماء الله الحُسنى التي من أحصاها دخل الجنة هذا بيان مراتب إحصاء أسمائه التي من أحصاها دخل الجنة، وهذا هو قطب السعادة، ومدار النجاة والفلاح. المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها. المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها. المرتبة الثالثة: دعاؤه بها كما قال تعالى: {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬2)، وهو مرتبتان. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد، 1/ 167 - 168 بتصرف يسير جداً. (¬2) سورة الأعراف، آية: 180.

المبحث الرابع عشر: الأسماء الحسنى لا تحد بعدد

إحداهما: ثناء وعبادة. والثاني: دعاء طلب ومسألة، فلا يُثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وكذلك لا يُسئل إلا بها، فلا يقال: يا موجود، أو يا شيء، أو يا ذات اغفر لي وارحمني؛ بل يُسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسلاً إليه بذلك الاسم. ومن تأمل أدعية الرسل، ولا سيما خاتمهم وإمامهم، وجدها مطابقة لهذا، وهذه العبارة أولى من عبارة من قال: يتخلق بأسماء الله، فإنها ليست بعبارة سديدة، وهي منتزعة من قول الفلاسفة بالتشبه بالإله قدر الطاقة. وأحسن منها عبارة أبي الحكم بن برهان، وهي التعبد، وأحسن منها العبارة المطابقة للقرآن، وهي الدعاء المتضمن للتعبد والسؤال. فمراتبها أربعة أشدها إنكاراً عبارة الفلاسفة وهي التشبه. وأحسن منها عبارة من قال: التخلق. وأحسن منها عبارة من قال: التعبد. وأحسن من الجميع الدعاء، وهي لفظ القرآن (¬1). المبحث الرابع عشر: الأسماء الحسنى لا تُحدُّ بعدد الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده، لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل كما في الحديث الصحيح: ((أسألك بكل اسم هو لك سمَّيتَ به نفسك، أو علّمتَه أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)) (¬2)، فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: قسم سمَّى به نفسه ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، 1/ 164. (¬2) أخرجه أحمد، 1/ 391، وأبو يعلى، 9/ 198 - 199، برقم 5297، والحاكم، 1/ 509 - 510، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 339 - 340، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني. انظر: تخريج الكلم الطيب، ص73.

فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه، وقسم أنزل به كتابه فتعرّف به إلى عباده، وقسم استأثر به في علم غيبه فلم يطَّلِع عليه أحد من خلقه، ولهذا قال: ((استأثرتَ به)) أي انفردت بعلمه، وليس المراد انفراده بالتسمِّي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل بها كتابه. ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: ((فيفتح عليّ من محامده بما لا أحسنه الآن)) (¬1)، وتلك المحامد هي تفي بأسمائه وصفاته. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) (¬2)، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) (¬3)، فالكلام جملة واحدة. وقوله: ((من أحصاها دخل الجنة)) صفة لا خبر مستقبل. والمعنى له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة. وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها. وهذا كما تقول: لفلان مائة مملوك قد أعدهم للجهاد، فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم معدون لغير الجهاد، وهذا لا خلاف بين العلماء فيه (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم 193، 194. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 486. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار، برقم 2736، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باقي أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، برقم 2677، وقد شرحه ابن حجر في الفتح، 11/ 214 - 228، والحديث في آخره: ((وهو وتر يحب الوتر)). (¬4) بدائع الفوائد للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله، 1/ 166 - 167، وانظر أيضاً: فتاوى ابن تيمية، 6/ 379 - 382.

المبحث الخامس عشر: شرح أسماء الله الحسنى

المبحث الخامس عشر: شرح أسماء الله الحُسنى (¬1) 1 - الأوَّلُ، 2 - الآخِرُ، 3 - الظاهِرُ، 4 - الباطِنُ قال الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (¬2)، هذه ¬

_ (¬1) جمعت ما يسر الله لي من الأسماء الحسنى، وذكرت لكل اسم دليلاً من الكتاب، أو السنة، ثم عرضت هذه الأسماء كلها على شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله، فما أقرّه أثبتّه، وما توقّف عنه أو نفاه أسقطته، حتى اجتمع لي أكثر من مائة اسم بالأدلة الصحيحة، ثم اخترت من هذه الأسماء الحسنى تسعة وتسعين اسماً، وشرحتها شرحاً مختصراً، وقد نقلت الشرح من مصادر أهل التحقيق، والعلماء الراسخين في علم العقيدة: كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وغيرهم. ومن الأسماء التي عرضتها على شيخنا ابن باز رحمه الله فأقرها، ولم أدخلها في هذا الشرح: المستعان، والمسعِّر، والطيب، والوتر. وقد جاء في بعض الأحاديث أسماء لم أعرضها على شيخنا، ولم يتيسر إدخالها في هذا الشرح، ومنها ما يأتي: 1 - الجواد؛ لحديث: ((إن الله جواد يحب الجود)) [أخرجه أبو نعيم في الحلية، 3/ 263، و5/ 29، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 1/ 395، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 17، برقم 1627، وحجاب المرأة المسلمة، ص 11]. 2 - الديَّان؛ لحديث: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاةً، عراة، غرلاً ... ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعُد، كما يسمعه من قرُب: أنا الملك، أنا الديَّان ... )). [أحمد، 3/ 495، والحاكم، 4/ 574، وصححه، ووافقه الذهبي، وابن أبي عاصم في السنة، 1/ 225، برقم 514، والبيهقي في الأسماء والصفات، 1/ 139 - 140، وقال الألباني في تخريجه لكتاب السنة لابن أبي عاصم: ((صحيح))، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 1/ 209، و13/ 465]. * ومعنى الديّان: القهّار. [النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 2/ 149]. 3 - المحسن؛ لحديث: ((إن الله تعالى محسن يحب المحسنين))، وفي لفظ: ((إن الله محسن يحب الإحسان)). [أخرجه الطبراني في الكبير، 7/ 332، وعبد الرزاق في المصنف، برقم 8603، وذكره الألباني في صحيح الجامع، 1/ 374، برقم 1819، ورقم 1820، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 761، برقم 470. (¬2) سورة الحديد، الآية: 3.

الأسماء الأربعة المباركة قد فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسيراً جامعاً واضحاً فقال يخاطب ربه: ((اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيء، وأنت الظاهرُ فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)) (¬1) إلى آخر الحديث، ففسّر كل اسم بمعناه العظيم، ونفى عنه ما يُضاده ويُنافيه. فتدبّر هذه المعاني الجليلة الدّالة على تفرّد الرب العظيم بالكمال المطلق والإحاطة الزمانية في قوله: ((الأوّلُ والآخرُ))،والمكانية في ((الظاهر والباطن)). ((فالأول)) يدلّ على أنّ كل ما سواه حادث كائن بعد أنْ لم يكن، ويوجب للعبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية، إذ السبب والمسبب منه تعالى. ((والآخر)) يدل على أنه هو الغاية، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتألُّهها، ورغبتها، ورهبتها، وجميع مطالبها. ((والظاهر)) يدل على عظمة صفاته، واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات على علوّه. ((والباطن)) يدلّ على اطّلاعه على السرائر، والضمائر، والخبايا، والخفايا، ودقائق الأشياء، كما يدلّ على كمال قربه ودنوّه. ولا يتنافى الظاهر والباطن؛ لأن الله ليس كمثله شيء في كل النعوت (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم 2713. (¬2) الحق الواضح المبين، ص25، وشرح النونية للهراس، 2/ 67.

5 - العلي

5 - العَليُّ، 6 - الأعلى، 7 - المتعالِ قال الله تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬1)، وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (¬2)،وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (¬3)،وذلك دالّ على أن جميع معاني العلوّ ثابتة لله من كل وجه. فله علوّ الذات؛ فإنه فوق المخلوقات، وعلى العرش استوى: أي علا، وارتفع. وله علوّ القدر: وهو علوّ صفاته وعظمتها، فلا يماثله صفة مخلوق، بل لا يقدر الخلائق كلهم أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته، قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (¬4).وبذلك يُعلم أنه ليس كمثله شيء في كل نعوته. وله علوّ القهر؛ فإنه الواحد القهّار الذي قهر بعزّته وعلوه الخلق كلهم، فنواصيهم بيده، وما شاء كان لا يمانعه فيه ممانع، وما لم يشأ لم يكنْ، فلو اجتمع الخلق على إيجاد ما لم يشأهُ الله لم يقدروا، ولو اجتمعوا على منع ما حكمت به مشيئته لم يمنعوه، وذلك لكمال اقتداره، ونفوذ مشيئته، وشدة افتقار المخلوقات كلها إليه من كل وجه (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 255. (¬2) سورة الأعلى، الآية: 1. (¬3) سورة الرعد، الآية: 13. (¬4) سورة طه، الآية: 110. (¬5) الحق الواضح المبين، ص26، وشرح النونية للهراس، 2/ 68.

8 - العظيم

8 - العظيمُ قال الله تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬1). الله تعالى عظيم له كل وصف ومعنى يوجب التعظيم، فلا يقدر مخلوق أن يثني عليه كما ينبغي له، ولا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يُثني عليه عباده. واعلم أن معاني التعظيم الثابتة لله وحده نوعان: النوع الأول: أنه موصوفٌ بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله، وأعظمه، وأوسعه، فله العلم المحيط، والقدرة النافذة، والكبرياء والعظمة، ومن عظمته أن السموات والأرض في كفِّ الرحمن أصغر من الخردلة كما قال ذلك ابن عباس وغيره، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬2)، وقال تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} (¬3). وقال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬4)، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} (¬5) الآية. وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله يقول: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 255. (¬2) سورة الزمر، الآية: 67. (¬3) سورة فاطر، الآية: 41. (¬4) سورة البقرة، الآية: 255 (¬5) سورة الشورى، الآية: 5.

9 - المجيد

منهما عذبته)) (¬1) فلله تعالى الكبرياء والعظمة، الوصفان اللذان لا يُقدَّر قدرهما، ولا يُبلغ كنههما. النوع الثاني من معاني عظمته تعالى أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يُعظّم كما يُعظّم الله، فيستحق جلّ جلاله من عباده أن يعظِّموه بقلوبهم، وألسنتهم، وجوارحهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته، ومحبته، والذُّلِّ له، والانكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته. ومن تعظيمه أن يُتقى حقَّ تقاته، فيُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكَر فلا يُكفَر. ومن تعظيمه تعظيم ما حرّمه وشرعه من زمان ومكان وأعمال {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬2)، وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} (¬3). ومن تعظيمه أن لا يُعترض على شيء مما خلقه أو شرعه (¬4). 9 - المجيدُ ((المجيد)) الذي له المجد العظيم، والمجد هو عظمة الصفات وسعتها، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الكبر، برقم 2620. (¬2) سورة الحج الآية 32. (¬3) سورة الحج الآية 30. (¬4) الحق الواضح المبين، ص27 - 28، وشرح القصيدة النونية للهراس، 2/ 68، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم، لأحمد بن إبراهيم بن عيسى، 2/ 214.

10 - الكبير

فكل وصف من أوصافه عظيم شأنه: فهو العليم الكامل في علمه، الرّحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، القدير الذي لا يعجزه شيء، الحليم الكامل في حلمه، الحكيم الكامل في حكمته، إلى بقية أسمائه وصفاته (¬1) التي بلغت غاية المجد، فليس في شيء منها قصور أو نقصان (¬2)، قال الله تعالى: {رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (¬3). 10 - الكبيرُ وهو - سبحانه وتعالى - الموصوف بصفات المجد، والكبرياء، والعظمة، والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجل وأعلى. وله التعظيم والإجلال، في قلوب أوليائه وأصفيائه. قد ملئت قلوبهم من تعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لكبريائه (¬4)، قال الله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لله الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (¬5). 11 - السَّميعُ قال الله تعالى: {وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬6)، وكثيراً ما يقرن الله بين صفة السمع والبصر، فكل من السمع والبصر محيط بجميع متعلقاته ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص33، وشرح النونية للهراس، 2/ 71. (¬2) شرح النونية للهراس، 2/ 71. (¬3) سورة هود، الآية: 73. (¬4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 5/ 622. (¬5) سورة غافر، الآية: 12. (¬6) سورة النساء، الآية: 134.

الظاهرة، والباطنة، فالسميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرَّها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد، لا تختلط عليه الأصوات، ولا تخفى عليه جميع اللغات، والقريب منها والبعيد، والسرّ والعلانية عنده سواء {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (¬1)، {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى الله وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (¬2)، قالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشتكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا في جانب الحجرة، وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها، فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (¬3) الآية. وسَمْعُه تعالى نوعان: النوع الأول: سَمْعُه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة، الخفيّة والجلية، وإحاطته التامة بها. النوع الثاني: سَمْعُ الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (¬4)، وقول المصلي ((سمع الله لمن حمده)) أي استجاب. ¬

_ (¬1) سورة الرعد، الآية: 10. (¬2) سورة المجادلة، الآية: 1. (¬3) سورة المجادلة، الآية: 1. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 39.

12 - البصير

12 - البصيرُ الذي أحاط بصره بجميع المُبصِرات في أقطار الأرض والسموات، حتى أخفى ما يكون فيها، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصّماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة، وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها، وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقَّتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك. فسبحان من تحيّرت العقول في عظمته، وسعة متعلقات صفاته، وكمال عظمته، ولطفه، وخبرته بالغيب، والشهادة، والحاضر والغائب، ويرى خيانات الأعين، وتقلبات الأجفان، وحركات الجنان، قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1)، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (¬2)، {وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬3)،أي مطَّلع ومحيط علمه وبصره وسمعه بجميع الكائنات (¬4). 13 - العَليمُ، 14 - الخبيرُ قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬5). {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآيات: 218 - 220. (¬2) سورة غافر، الآية: 19. (¬3) سورة البروج، الآية: 9. (¬4) الحق الواضح المبين، ص34 - 36، وشرح النونية للهراس، 2/ 72. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 18. (¬6) سورة الأنفال، الآية: 75.

فهو العليم المحيط علمه بكل شيء: بالواجبات، والممتنعات، والممكنات، فيعلم تعالى نفسه الكريمة، ونعوته المقدسة، وأوصافه العظيمة، وهي الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها، ويعلم ما يترتّب على وجودها لو وُجدت. كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلهَةٌ إِلاّ الله لَفَسَدَتَا} (¬1). وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬2). فهذا وشبهه من ذكر علمه بالممتنعات التي يعلمها، وإخباره بما ينشأ عنها لو وُجدت على وجه الفرض والتقدير، ويعلم تعالى الممكنات، وهي التي يجوز وجودها وعدمها ما وجد منها وما لم يوجد مما لم تقتض الحكمة إيجاده، فهو العليم الذي أحاط علمه بالعالم العلوي والسفلي، لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان، ويعلم الغيب والشهادة، والظواهر والبواطن، والجليّ والخفيّ. قال الله تعالى: {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3)، والنصوص في ذكر إحاطة علم الله وتفصيل دقائق معلوماته كثيرة جداً لا يمكن حصرها ولا إحصاؤها، وأنّه لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه لا يغفل ولا ينسى، وأنّ علوم الخلائق على سعتها وتنوعها إذا نسبت إلى علم الله اضمحلت وتلاشت، كما أن قُدرَهم إذا نسبت إلى قدرة الله لم يكن لها نسبة إليها بوجهٍ من الوجوه، فهو الذي علّمهم ما لم يكونوا يعلمون، ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 22. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 91. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 75.

15 - الحميد

وأقدرهم على ما لم يكونوا عليه قادرين. وكما أن علمه محيط بجميع العالم العلوي والسفلي، وما فيه من المخلوقات: ذواتها، وأوصافها، وأفعالها، وجميع أمورها، فهو يعلم ما كان وما يكون في المستقبلات التي لا نهاية لها، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، ويعلم أحوال المكلفين منذ أنشأهم وبعد ما يُميتهم وبعد ما يُحييهم، قد أحاط علمه بأعمالهم كلها: خيرها وشرها، وجزاء تلك الأعمال وتفاصيل ذلك في دار القرار (¬1). والخلاصة أن لله تعالى هو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات، والمستحيلات، والممكنات، وبالعالم العلوي، والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء (¬2). 15 - الحميدُ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬3). وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن الله حميد من وجهين: أحدهما: أنّ جميع المخلوقات ناطقة بحمده، فكل حمد وقع من أهل ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص37 - 38، وشرح القصيدة النونية للهراس، 2/ 73، وتفسير السعدي، 5/ 621. (¬2) تفسير العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، 5/ 621. (¬3) سورة فاطر، الآية: 15.

السموات والأرض الأوّلين منهم والآخرين، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة، وكل حمد لم يقع منهم بل كان مفروضاً ومقدّراً حيثما تسلسسلت الأزمان واتصلت الأوقات، حمداً يملأ الوجود كله العالم العلوي والسفلي، ويملأ نظير الوجود من غير عدٍّ ولا إحصاءٍ، فإنّ الله تعالى مستحقة من وجوه كثيرة: منها أن الله هو الذي خلقهم، ورزقهم، وأسدى عليهم النعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيويّة، وصرف عنهم النقم والمكاره، فما بالعباد من نعمة فمن الله، ولا يدفع الشرور إلاّ هو، فيستحق منهم أن يحمدوه في جميع الأوقات، وأن يثنوا عليه ويشكروه بعدد اللحظات. الوجه الثاني: أنه يحمد على ما له من الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا، والمدائح والمحامد والنعوت الجليلة الجميلة، فله كلّ صفة كمال وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها، فكلّ صفة من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد والثناء، فكيف بجميع الأوصاف المقدسة، فله الحمد لذاته، وله الحمد لصفاته، وله الحمد لأفعاله؛ لأنها دائرة بين أفعال الفضل والإحسان، وبين أفعال العدل والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد، وله الحمد على خلقه، وعلى شرعه، وعلى أحكامه القدريّة، وأحكامه الشرعيّة، وأحكام الجزاء في الأولى والآخرة، وتفاصيل حمده وما يُحمد عليه لا تُحيط بها الأفكارُ، ولا تُحصيها الأقلام (¬1). ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص39 - 40، وشرح القصيدة النونية للهراس، 2/ 75، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد، 2/ 215.

16 - العزيز

16 - العزيزُ،17 - القديرُ،18 - القادرُ،19 - المُقتدرُ،20 - القويُّ،21 - المتينُ هذه الأسماء العظيمة معانيها متقاربة، فهو تعالى كامل القوة، عظيم القدرة، شامل العزّة {إِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا} (¬1)، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (¬2)، فمعاني العزة الثلاثة كلها كاملة لله العظيم: 1 - عزّة القوة الدالّ عليها من أسمائه القوي المتين، وهي وصفه العظيم الذي لا تُنسَب إليه قوة المخلوقات وإنْ عَظُمَتْ. قال الله تعالى: {إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬3)، وقال: {وَالله قَدِيرٌ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (¬5). وقال تعالى: {وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} (¬6). وقال - عز وجل -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬7). 2 - وعزة الامتناع فإنه هو الغنيّ بذاته، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العبادُ ضرّه فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، بل هو الضار النافع المعطي المانع. 3 - وعزة القهر والغلبة لكل الكائنات، فهي كلها مقهورة لله خاضعة ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 65. (¬2) سورة هود، الآية: 66. (¬3) سورة الذاريات، الآية: 58. (¬4) سورة الممتحنة، الآية: 7. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 65. (¬6) سورة الكهف، الآية: 45. (¬7) سورة القمر، الآيتان: 54 - 55.

لعظمته منقادة لإرادته، فجميع نواصي المخلوقات بيده، لا يتحرك منها متحرّك ولا يتصرّف متصرّف إلا بحوله وقوته وإذنه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به. فمن قوته واقتداره أنّه خلق السموات والأرض وما ببينهما في ستة أيام، وأنّه خلق الخلق ثم يميتهم ثم يُحييهم ثم إليه يُرجعون {مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (¬1)، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (¬2)، ومن آثار قدرته أنك ترى الأرض هامدة، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ومن آثار قدرته ما أوقعه بالأمم المكذّبين والكُفّار الظالمين من أنواع العقوبات وحلول المثلات، وأنه لم يغنِ عنهم كيدهم ومكرهم ولا أموالهم ولا جنودهم ولا حصونهم من عذاب الله من شيء لمّا جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب، وخصوصاً في هذه الأوقات، فإنّ هذه القوة الهائلة، والمخترعات الباهرة التي وصلت إليها مقدرة هذه الأمم هي من إقدار الله لهم وتعليمه لهم ما لم يكونوا يعلمونه، فمن آيات الله أنّ قواهم وقُدرهم ومخترعاتهم لم تغنِ عنهم شيئاً في صدّ ما أصابهم من النكبات والعقوبات المهلكة، مع بذل جدِّهم واجتهادهم في توقي ذلك، ولكنَّ أمر الله غالب، وقدرته تنقاد لها عناصر العالم العلوي والسفلي. ومن تمام عزته وقدرته وشمولهما أنه كما أنه هو الخالق للعباد فهو ¬

_ (¬1) سورة لقمان، الآية: 28. (¬2) سورة الروم، الآية: 27.

22 - الغني

خالق أعمالهم وطاعتهم ومعاصيهم، وهي أيضاً أفعالهم، فهي تضاف إلى الله خلقاً وتقديراً، وتضاف إليهم فعلاً ومباشرة على الحقيقة، ولا منافاة بين الأمرين، فإنّ الله خالق قدرتهم وإرادتهم، وخالق السبب التام خالق للمسبب، قال تعالى: {وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬1). ومن آثار قدرته ما ذكره في كتابه من نصره أولياءه، على قلَّة عددهم وعُددهم على أعدائهم الذين فاقوهم بكثرة العَدد والعُدّة، قال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} (¬2). ومن آثار قدرته ورحمته ما يحدثه لأهل النار وأهل الجنة من أنواع العقاب وأصناف النعيم المستمر الكثير المتتابع الذي لا ينقطع ولا يتناهى (¬3). فبقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبّرها، وبقدرته سوّاها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وبقدرته يقلِّب القلوب ويصرفها على ما يشاء الذي إذا أراد شيئاً قال له: {كُن فَيَكُونُ} (¬4). قال الله تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬5). 22 - الغَنِيُّ قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (¬6). وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآية: 96. (¬2) سورة البقرة، الآية: 249. (¬3) الحق الواضح المبين، ص45 - 46،وانظر شرح النونية للهراس،2/ 78،وتفسير السعدي،5/ 624. (¬4) تفسير العلامة السعدي، 5/ 624، والآية من سورة يس: 82. (¬5) سورة البقرة، الآية: 148. (¬6) سورة النجم، الآية: 48.

النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬1). فهو تعالى (الغني) الذي له الغنى التام المطلق من كل الوجوه لكماله وكمال صفاته التي لا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكون إلا غنياً، فإنّ غناه من لوازم ذاته، كما لا يكون إلا محسناً، جواداً، براً، رحيماً كريماً، والمخلوقات بأسرها لا تستغني عنه في حال من أحوالها، فهي مفتقرة إليه في إيجادها، وفي بقائها، وفي كل ما تحتاجه أو تضطر إليه، ومن سعة غناه أن خزائن السموات والأرض والرحمة بيده، وأن جوده على خلقه متواصل في جميع اللحظات والأوقات، وأن يده سحاء الليل والنهار، وخيره على الخلق مدرار. ومن كمال غناه وكرمه أنّه يأمر عباده بدعائه، ويعدهم بإجابة دعواتهم وإسعافهم بجميع مراداتهم، ويؤتيهم من فضله ما سألوه وما لم يسألوه، ومن كمال غناه أنه لو اجتمع أول الخلق وآخرهم في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلاً منهم ما سأله وما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه مثقال ذرّة. ومن كمال غناه وسعة عطاياه ما يبسطه على أهل دار كرامته من النعيم واللذات المتتابعات، والخيرات المتواصلات، مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ومن كمال غناه أنه لم يتخذ صاحبةً، ولا ولداً، ولا شريكاً في الملك، ولا ولياً من الذل، فهو الغني الذي كمل بنعوته وأوصافه، المغني لجميع ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 15.

23 - الحكيم

مخلوقاته (¬1). والخلاصة أن الله الغني الذي له الغنى التام المطلق من كل الوجوه، وهو المغني جميع خلقه، غنىً عاماً، والمغني لخواص خلقه، بما أفاض على قلوبهم، من المعارف الربانية، والحقائق الإيمانية (¬2). 23 - الحكيمُ قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬3). وهو تعالى ((الحكيم)) الموصوف بكمال الحكمة وبكمال الحكم بين المخلوقات، فالحكيم هو واسع العلم والاطّلاع على مبادئ الأمور وعواقبها، واسع الحمد، تام القدرة، غزير الرحمة، فهو الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلْقه وأمره، فلا يتوجه إليه سؤال، ولا يقدح في حكمته مقال. وحكمته نوعان: النوع الأول: الحكمة في خلقه؛ فإنه خلق الخلق بالحق ومشتملاً على الحق، وكان غايته والمقصود به الحق، خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته وهيئته، فلا يرى أحد في خلقه خللاً، ولا نقصاً، ولا فطوراً، فلو ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص47 - 48، وشرح النونية للهراس، 2/ 78. (¬2) تفسير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 5/ 629. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 18.

اجتمعت عقول الخلق من أولهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرحمن أو ما يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن والانتظام والإتقان لم يقدروا، وأنّى لهم القدرة على شيء من ذلك، وحسب العقلاء الحكماء منهم أن يعرفوا كثيراً من حكمه، ويطَّلعوا على بعض ما فيها من الحسن والإتقان. وهذا أمر معلوم قطعاً بما يُعلم من عظمته وكمال صفاته، وتَتَبُّع حكمه في الخلق والأمر، وقد تحدَّى عباده وأمرهم أن ينظروا ويكرّروا النظر والتأمل هل يجدون في خلقه خللاً أو نقصاً، وأنه لابد أن ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شيء من مخلوقاته. النوع الثاني: الحكمة في شرعه وأمره، فإنه تعالى شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العباد ويعبدوه، فأي حكمة أجلّ من هذا، وأيّ فضل وكرم أعظم من هذا، فإنّ معرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له وحمده، وشكره والثناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق، وأجلّ الفضائل لمن يمنّ الله عليه بها. وأكمل سعادة وسرور للقلوب والأرواح، كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية والنعيم الدائم، فلو لم يكن في أمره وشرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، ولأجلها خلقت الخليقة وحق الجزاء، وخلقت الجنة والنار، لكانت كافية شافية. هذا وقد اشتمل شرعه ودينه على كل خير، فأخباره تملأ القلوب علماً، ويقيناً، وإيماناً، وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب ويزول

انحرافها، وتثمر كل خلق جميل وعمل صالح وهدى ورشد. وأوامره ونواهيه محتوية على غاية الحكمة والصلاح والإصلاح للدِّين والدنيا، فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مضرّته خالصة أو راجحة. ومن حكمة الشرع الإسلامي أنه كما أنه هو الغاية لصلاح القلوب، والأخلاق، والأعمال، والاستقامة على الصراط المستقيم، فهو الغاية لصلاح الدنيا، فلا تصلح أمور الدنيا صلاحاً حقيقياً إلا بالدين الحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مشاهد محسوس لكل عاقل، فإنّ أُمّة محمد لما كانوا قائمين بهذا الدين أصوله وفروعه وجميع ما يهدي ويرشد إليه، كانت أحوالهم في غاية الاستقامة والصلاح، ولمّا انحرفوا عنه وتركوا كثيراً من هداه، ولم يسترشدوا بتعاليمه العالية، انحرفت دنياهم كما انحرف دينهم. وكذلك انظر إلى الأمم الأخرى التي بلغت في القوة، والحضارة، والمدنية مبلغاً هائلاً، ولكن لمّا كانت خالية من روح الدين ورحمته وعدله، كان ضررها أعظم من نفعها، وشرها أكبر من خيرها، وعجز علماؤها وحكماؤها وساستها عن تلافي الشرور الناشئة عنها، ولن يقدروا على ذلك ما داموا على حالهم؛ ولهذا كان من حكمته تعالى أنّ ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الدين والقرآن أكبر البراهين على صدقه وصدق ما جاء به؛ لكونه محكماً كاملاً لا يحصل إلا به. وبالجملة فالحكيم متعلقاته المخلوقات والشرائع، وكلها في غاية

24 - الحليم

الإحكام، فهو الحكيم في أحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية، وأحكامه الجزائية، والفرق بين أحكام القدر وأحكام الشرع أن القدر متعلّق بما أوجده وكوّنه وقدّره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأْ لم يَكُنْ، وأحكام الشرع متعلقة بما شرعه، والعبد المربوب لا يخلو منهما أو من أحدهما، فمن فعل منهم ما يحبّه الله ويرضاه فقد اجتمع فيه الحكمان، ومن فعل ما يضادّ ذلك فقد وجد فيه الحكم القدري؛ فإنّ ما فعله واقع بقضاء الله وقدره ولم يوجد في الحكم الشرعي لكونه ترك ما يحبه الله ويرضاه. فالخير، والشر والطاعات، والمعاصي كلها متعلقة وتابعة للحكم القدري، وما يحبه الله منها هو تابع الحكم الشرعي ومتعلّقه. والله أعلم (¬1). 24 - الحَليمُ قال الله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬2). الذي يَدِرُّ على خلقه، النعم الظاهرة والباطنة، مع معاصيهم وكثرة زلاَّتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم. ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا (¬3). وهو الذي له الحلم الكامل الذي وسع أهل الكفر والفسوق، ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص48 - 54،وانظر: شرح النونية للهراس،2/ 80،وتفسير السعدي،5/ 621، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم، لأحمد بن إبراهيم بن عيسى، 2/ 226. (¬2) سورة البقرة، الآية: 235. (¬3) تفسير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 5/ 630.

25 - العفو،

والعصيان حيث أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا، ولو شاء لأخذهم بذنوبهم فور صدورها منهم؛ فإن الذنوب تقتضي ترتب آثارها عليها من العقوبات العاجلة المتنوعة، ولكن حلمه سبحانه هو الذي اقتضى إمهالهم (¬1) كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (¬2)، وقال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (¬3). 25 - العفوُّ، 26 - الغفورُ، 27 - الغفَّارُ قال الله تعالى: {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (¬4). الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده، موصوفاً. كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه. وقد وعد بالمغفرة والعفو، لمن أتى بأسبابها، قال تعالى (¬5): {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬6). ¬

_ (¬1) شرح النونية للهراس، 2/ 86. (¬2) سورة فاطر، الآية: 45. (¬3) سورة النحل، الآية: 61. (¬4) سورة الحج، الآية: 60. (¬5) تفسير السعدي، 5/ 623. وانظر أيضاً: الحق الواضح المبين، ص56. (¬6) سورة طه، الآية: 82.

والعفوّ هو الذي له العفو الشامل الذي وسع ما يصدر من عباده من الذنوب، ولا سيما إذا أتوا لما يسبب العفو عنهم من الاستغفار، والتوبة، والإيمان، والأعمال الصالحة فهو سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو عفوٌ يحب العفو ويحب من عباده أن يسعوا في تحصيل الأسباب التي ينالون بها عفوه: من السعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه، ومن كمال عفوه أنه مهما أسرف العبد على نفسه ثم تاب إليه ورجع، غفر له جميع جرمه: صغيره، وكبيره، وأنه جعل الإسلام يجُبُّ ما قبله، والتوبة تجبُّ ما قبلها (¬1)، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬2)، وفي الحديث ((إن الله يقول: ((يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) (¬3)، وقال تعالى: {إنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ} (¬4)، وقد فتح الله - عز وجل - الأسباب لنيل مغفرته بالتوبة، والاستغفار، والإيمان، والعمل الصالح، والإحسان إلى عباد الله، والعفو عنهم، وقوة الطمع في فضل الله، وحسن الظن بالله، وغير ذلك مما جعله الله مقرِّباً لمغفرته (¬5). ¬

_ (¬1) شرح القصيدة النونية للهراس، 2/ 86، والحق الواضح المبين، ص56. (¬2) سورة الزمر، الآية: 53. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب خلق الله مائة رحمة، برقم 3540، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 5/ 548 .. (¬4) سورة النجم، الآية: 32. (¬5) الحق الواضح المبين، ص73 - 74.

28 - التواب

28 - التَّوَّابُ قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬1). ((التَّوَّابُ)) الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، فكل من تاب إلى الله توبة نصوحاً، تاب الله عليه. فهو التائب على التائبين: أولاً بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه. وهو التائب عليهم بعد توبتهم، قبولاً لها، وعفواً عن خطاياهم (¬2). وعلى هذا تكون توبته على عبده نوعين: أحدهما: يُوقع في قلب عبده التوبة إليه والإنابة إليه، فيقوم بالتوبة وشروطها من الإقلاع عن المعاصي، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها. واستبدالها بعمل صالح. والثاني: توبته على عبده بقبولها وإجابتها ومحو الذنوب بها؛ فإن التوبة النصوح تجبّ ما قبلها (¬3). قال الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} (¬4). 29 - الرَّقيبُ الرقيب: المطَّلع على ما أكنَّته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت. قال الله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 104. (¬2) تفسير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 5/ 623. (¬3) الحق الواضح المبين، ص74. (¬4) سورة النصر، الآية: 3. (¬5) سورة النساء، الآية: 1.

30 - الشهيد

والرقيب هو سبحانه الذي حفظ المخلوقات وأجراها، على أحسن نظام وأكمل تدبير (¬1). 30 - الشَّهيدُ الشهيد: أي المطَّلع على جميع الأشياء. سمع جميع الأصوات، خفيّها وجليها. وأبصر جميع الموجودات، دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، الذي شهد لعباده، وعلى عباده، بما عملوه (¬2). قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: ((الرقيب)) و ((الشهيد)) مترادفان، وكلاهما يدلُّ على إحاطة سمع الله بالمسموعات، وبصره بالمبصرات، وعلمِه بجميع المعلومات الجليّة والخفية، وهو الرقيب على ما دار في الخواطر، وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان، قال تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3)، {وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬4). ولهذا كانت المراقبة التي هي من أعلى أعمال القلوب هي التعبّد لله باسمه الرقيب الشهيد، فمتى علم العبد أن حركاته الظاهرة والباطنة قد أحاط الله بعلمها، واستحضر هذا العلم في كل أحواله، أوجب له ذلك حراسة باطنة عن كل فكر وهاجس يبغضه الله، وحفظ ظاهره عن كل قول أو فعل يسخط الله، وتعبّد بمقام الإحسان ¬

_ (¬1) تفسير السعدي، 5/ 623. (¬2) المرجع السابق، 5/ 628،وانظر: شرح اسم (الشهيد) و (المؤمن) في مدارج السالكين، 3/ 466. (¬3) سورة النساء، الآية: 1. (¬4) سورة المجادلة، الآية: 6.

31 - الحفيظ

فعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه (¬1). فإذا كان الله رقيباً على دقائق الخفيات، مطلعاً على السرائر والنيات، كان من باب أولى شهيداً على الظواهر والجليات. وهي الأفعال التي تفعل بالأركان: أي الجوارح (¬2). 31 - الحفيظ قال الله تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (¬3) ((للحفيظ)) معنيان: المعنى الأول: أنه قد حفظ على عباده ما عملوه من خير وشر وطاعة ومعصية؛ فإن علمه محيط بجميع أعمالهم ظاهرها وباطنها، وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ، ووكَّل بالعباد ملائكة كراماً كاتبين ((يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ))، فهذا المعنى من حفظه يقتضي إحاطة علم الله بأحوال العباد كلها ظاهرها وباطنها وكتابتها في اللوح المحفوظ وفي الصحف التي في أيدي الملائكة، وعلمه بمقاديرها، وكمالها، ونقصها، ومقادير جزائها في الثواب والعقاب ثم مجازاته عليها بفضله وعدله. والمعنى الثاني: من معنيي ((الحفيظ)) أنه تعالى الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون، وحفظه لخلقه نوعان: عام، وخاص. النوع الأول: حفظه العام لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيتها ويحفظه بنيتها، وتمشي إلى هدايته وإلى مصالحها بإرشاده وهدايته العامة التي قال عنها: ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص58 - 59. (¬2) شرح القصيدة النونية للهراس، 2/ 88. (¬3) سورة هود، الآية: 57.

{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬1)، أي هدى كل مخلوق إلى ما قدّر له، وقضى له من ضروراته وحاجاته، كالهداية للمأكل والمشرب والمنكح، والسعي في أسباب ذلك، وكدفعه عنهم أصناف المكاره والمضارّ، وهذا يشترك فيه البرّ والفاجر، بل الحيوانات وغيرها، فهو الذي يحفظ السموات والأرض أن تزولا، ويحفظ الخلائق بنعمه، وقد وكّل بالآدمي حفظةً من الملائكة الكرام يحفظونه من أمر الله، أي يدفعون عنه كل ما يضرّه مما هو بصدد أن يضرّه لولا حفظ الله. والنوع الثاني: حفظه الخاص لأوليائه سوى ما تقدم، يحفظهم عما يضرّ إيمانهم أو يزلزل إيقانهم من الشبه والفتن والشهوات، فيعافيهم منها ويخرجهم منها بسلامة وحفظ وعافية، ويحفظهم من أعدائهم من الجن والإنس، فينصرهم عليهم ويدفع عنهم كيدهم، قال الله تعالى: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬2)، وهذا عام في دفع جميع ما يضرّهم في دينهم ودنياهم، فعلى حسب ما عند العبد من الإيمان تكون مدافعة الله عنه بلطفه، وفي الحديث: ((احفظ الله يحفظك)) (¬3)، أي احفظ أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم تعدّيها، يحفظك في نفسك، ودينك، ومالك، وولدك، وفي جميع ما آتاك الله من فضله (¬4). ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 50. (¬2) سورة الحج، الآية: 38. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة، باب 59، برقم 2516، والحاكم، 3/ 541، وقال: ((هذا حديث كبير عال)). وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 7957. (¬4) الحق الواضح المبين، ص60 - 61.

32 - اللطيف

32 - اللَّطيفُ قال الله تعالى: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيز} (¬1)، وقال تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} (¬2). ((اللطيف)) من أسمائه الحسنى، وهو الذي يلطف بعبده في أموره الداخلية المتعلقة بنفسه، ويلطف بعبده في الأمور الخارجية عنه، فيسوقه ويسوق إليه ما به صلاحه من حيث لا يشعر. وهذا من آثار علمه وكرمه ورحمته؛ فلهذا كان معنى اللطيف نوعين: النوع الأول: أنه الخبير الذي أحاط علمه بالأسرار والبواطن والخبايا والخفايا ومكنونات الصدور ومغيبات الأمور، وما لطف ودقَّ من كل شيء. النوع الثاني: لطفه بعبده ووليِّه الذي يريد أن يُتم عليه إحسانه، ويشمله بكرمه ويُرقِّيه إلى المنازل العالية فييسّره لليُسرى ويجنبه العُسرى، ويجري عليه من أصناف المحن التي يكرهها وتشق عليه، وهي عين صلاحه والطريق إلى سعادته، كما امتحن الأنبياء بأذى قومهم وبالجهاد في سبيله، وكما ذكر الله عن يوسف - صلى الله عليه وسلم - وكيف ترقت به الأحوال ولطف الله به وله بما قدّره عليه من تلك الأحوال التي حصل له في عاقبتها حسن العُقبى في الدنيا والآخرة، وكما يمتحن أولياءه بما يكرهونه ليُنيلهم ما يُحبون. ¬

_ (¬1) سورة الشورى، الآية: 19. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 103.

33 - القريب

فكم لله من لُطْفٍ وكرمٍ لا تدركه الأفهام، ولا تتصوره الأوهام، وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا من ولاية، أو رياسة، أو سبب من الأسباب المحبوبة، فيصرفه الله عنها ويصرفها عنه رحمةً به لئلا تضره في دينه، فيظل العبدُ حزيناً من جهله وعدم معرفته بربِّه، ولو علم ما ذخر له في الغيب وأريد إصلاحه فيه لحمد الله وشكره على ذلك؛ فإنّ الله بعباده رؤوف رحيم لطيف بأوليائه، وفي الدعاء المأثور (¬1): ((اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أُحبُّ فاجعله فراغاً لي فيما تُحبُّ)) (¬2). 33 - القريبُ قال الله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (¬3). من أسماء الله تعالى: ((القريب))، وقربه نوعان: النوع الأول: قرب عام وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وهو بمعنى المعية العامة. النوع الثاني: وقرب خاص بالداعين والعابدين المحبين، وهو قرب يقتضي ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص61 - 62، وانظر: شرح النونية للهراس، 2/ 91، وتوضيح المقاصد، 2/ 228. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب 73، برقم 4391، وحسنه، وقال عبد القادر الأرنؤوط: ((وهو كما قال)). انظر: جامع الأصول، 4/ 341، بينما ضعّف الحديث الشيخ الألباني في ضعيف الجامع، برقم 1172. (¬3) سورة هود، الآية: 61.

34 - المجيب

المحبة، والنصرة، والتأييد في الحركات والسكنات، والإجابة للداعين، والقبول والإثابة للعابدين (¬1). قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬2). وإذا فُهِمَ القرب بهذا المعنى في العموم والخصوص لم يكن هناك تعارض أصلاً بينه وبين ما هو معلوم من وجوده تعالى فوق عرشه، فسبحان من هو عليٌّ في دنوّه، قريب في علوَه)) (¬3). 34 - المُجيبُ من أسماء الله تعالى ((المجيب)) لدعوة الداعين وسؤال السائلين وعبادة المستجيبين، وإجابته نوعان: النوع الأول: إجابة عامة لكل من دعاه: دعاء عبادة، أو دعاء مسألة، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬4)، فدعاء المسألة أن يقول العبد: اللهم أعطني كذا، أو اللهم ادفع عني كذا، فهذا يقع من البرّ والفاجر، ويستجيب الله فيه لكل من دعاه بحسب الحال المقتضية، وبحسب ما تقتضيه حكمته. وهذا يستدلّ به على كرم المولى وشمول إحسانه للبرّ والفاجر، ولا يدلّ بمجرّده على حسن حال الداعي الذي أجيبت دعوته إنْ لم يقترن بذلك ما يدلّ عليه وعلى صدقه وتعيّن الحق ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص64، وشرح النونية للهراس، 2/ 92. (¬2) سورة البقرة، الآية: 186. (¬3) شرح النونية للهراس، 2/ 92، وتوضيح المقاصد، 2/ 229. (¬4) سورة غافر، الآية: 60.

معه، كسؤال الأنبياء ودعائهم لقومهم وعلى قومهم فيُجيبهم الله؛ فإنه يدلّ على صدقهم فيما أخبروا به، وكرامتهم على ربهم؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يدعو بدعاء يشاهد المسلمون وغيرهم إجابته، وذلك من دلائل نبوّته وآيات صدقه، وكذلك ما يذكرونه عن كثير من أولياء الله من إجابة الدعوات؛ فإنه من أدلة كراماتهم على الله. النوع الثاني: أما الإجابة الخاصة فلها أسباب عديدة، منها دعوة المضطر الذي وقع في شدّة وكربة عظيمة، فإن الله يجيب دعوته، قال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (¬1)، وسبب ذلك شدة الافتقار إلى الله، وقوة الانكسار وانقطاع تعلّقه بالمخلوقين، ولسعة رحمة الله التي يشمل بها الخلق بحس حاجتهم إليها، فكيف بمن اضطر إليها، ومن أسباب الإجابة طول السفر، والتوسل إلى الله بأحب الوسائل إليه من أسمائه وصفاته ونعمه، وكذلك دعوت المريض، والمظلوم، والصائم، والوالد على ولده أو له، وفي الأوقات والأحوال الشريفة (¬2) مثل أدبار الصلوات، وأوقات السحر، وبين الأذان والإقامة، وعند النداء، ونزول المطر واشتداد البأس، ونحو ذلك (¬3). {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة النمل، الآية: 62. (¬2) الحق الواضح المبين، ص65 - 66، وشرح النونية للهراس، 2/ 93. (¬3) شرح النونية للهراس، 2/ 93 - 49، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد، 2/ 229. (¬4) سورة هود، الآية: 61.

35 - الودود

35 - الوَدودُ قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (¬1). وقال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (¬2)، والودّ مأخوذ من الوُدّ بضم الواو بمعنى خالص المحبة، فالودود هو المحب المحبوب بمعنى وادّ مودود، فهو الواد لأنبيائه، وملائكته، وعباده المؤمنين، وهو المحبوب لهم، بل لا شيء أحب إليهم منه، ولا تعادل محبة الله من أصفيائه محبة أخرى، لا في أصلها، ولا في كيفيتها، ولا في متعلّقاتها، وهذا هو الفرض والواجب أن تكون محبة الله في قلب العبد سابقة لكل محبة، غالبة لكل محبة، ويتعيّن أن تكون بقية المحابّ تبعاً لها. ومحبة الله هي روح الأعمال، وجميع العبودية الظاهرة والباطنة ناشئة عن محبة الله. ومحبة العبد لربه فضلٌ من الله وإحسان، ليست بحول العبد ولا قوته، فهو تعالى الذي أحب عبده فجعل المحبة في قلبه، ثم لمّا أحبه العبد بتوفيقه جازاه الله بحبٍّ آخر، فهذا هو الإحسان المحض على الحقيقة، إذ منه السبب ومنه المسبّب، ليس المقصود منها المعاوضة، وإنما ذلك محبة منه تعالى للشاكرين من عباده ولشكرهم، فالمصلحة كلها عائدة إلى العبد، فتبارك الذي جعل وأودع المحبة في قلوب المؤمنين، ثم لم يزل يُنميها ويُقويها حتى وصلت في قلوب الأصفياء إلى حالة تتضاءل عندها ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 90. (¬2) سورة البروج، الآية: 14.

36 - الشاكر،

جميع المحابّ، وتُسلِّيهم عن الأحباب، وتُهوِّن عليهم المصائب، وتلذّذ لهم مشقّة الطاعات، وتثمر لهم ما يشاءون من أصناف الكرامات التي أعلاها محبة الله والفوز برضاه والأنس بقربه. فمحبة العبد لربه محفوفة بمحبتين من ربه: فمحبة قبلها صار بها محباً لربه، ومحبة بعدها شكراً من الله على محبة صار بها من أصفيائه المخلصين. وأعظم سبب يكتسب به العبد محبّة ربه التي هي أعظم المطالب، الإكثار من ذكره والثناء عليه، وكثرة الإنابة إليه، وقوة التوكّل عليه، والتقرب إليه بالفرائض والنوافل، وتحقيق الإخلاص له في الأقوال والأفعال، ومتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً (¬1) كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله} (¬2). 36 - الشَّاكرُ، 37 - الشَّكورُ قال الله تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (¬3)، وقال تعالى: {إِن تُقْرِضُوا الله قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله شَكُورٌ حَلِيمٌ} (¬4)، {وَكَانَ الله شَاكِرًا عَلِيمًا} (¬5). من أسمائه تعالى: ((الشاكرُ الشَّكور)) الذي لا يضيع سعي العاملين ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص69 - 70، وشرح النونية للهراس، 2/ 96، وتوضيح المقاصد، 2/ 230. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 31. (¬3) سورة البقرة، الآية: 158. (¬4) سورة التغابن، الآية: 17. (¬5) سورة النساء، الآية: 147.

لوجهه بل يضاعفه أضعافاً مضاعفة؛ فإن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، وقد أخبر في كتابه وسنّة نبيِّه بمضاعفة الحسنات الواحدة بعشر إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وذلك من شكره لعباده، فبعينه ما يحتمل المتحمّلون لأجله ومن فعل لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن ترك شيئاً لأجله عوّضه خيراً منه، وهو الذي وفّق المؤمنين لمرضاته ثم شكرهم على ذلك وأعطاهم من كراماته، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكل هذا ليس حقاً واجباً عليه، وإنّما هو الذي أوجبه على نفسه جوداً منه وكرماً (¬1). وليس فوقه سبحانه من يوجب عليه شيئاً، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬2)،فلا يجب عليه سبحانه إثابة المطيع، ولا عقاب العاصي، بل الثواب محض فضله وإحسانه، والعقاب محض عدله وحكمته؛ ولكنه سبحانه الذي أوجب على نفسه ما يشاء فيصير واجباً عليه بمقتضى وعده الذي لا يخلف كما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3)، وكما قال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4)، ومذهب أهل السنة أنه ليس للعباد حق واجب على الله، وأنه مهما يكن من حق فهو الذي أحقه، وأوجبه ولذلك لا يضيع عنده عملٌ قام على الإخلاص ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص70. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 23. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 54. (¬4) سورة الروم، الآية: 47.

38 - السيد

والمتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهما الشرطان الأساسيان لقبول الأعمال (¬1). فما أصاب العباد من النعم ودفع النقم، فإنه من الله تعالى فضلاً منه وكرماً، وإن نعّمهم فبفضله وإحسانه، وإن عذّبهم فبعدله وحكمته، وهو المحمود على جميع ذلك (¬2). 38 - السَّيِّدُ، 39 - الصَّمدُ قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصَّمَدُ} (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((السَّيِّدُ الله تبارك وتعالى)) (¬4) و ((السيد)) يطلق على الرّب، والمالك، والشريف، والفاضل، والكريم، والحليم، والرئيس، والزوج، ومُتَحَمِّل أذى قومه، والله - عز وجل - هو السيد الذي يملك نواصي الخلق ويتولاهم، فالسؤدد كله حقيقة لله والخلق كلهم عبيده. وهذا لا يُنافي السِّيادة الإضافية المخصوصة بالأفراد الإنسانية، فسيادة الخالق تبارك وتعالى ليست كسيادة المخلوق الضعيف (¬5). ((الصمدُ)) المعنى الجامع الذي يدخل فيه كل ما فسّر به هذا الاسم ¬

_ (¬1) شرح النونية للهراس، 2/ 98، وانظر: توضيح المقاصد وتصحيح القواعد، 2/ 231. (¬2) الحق الواضح المبين، ص72. (¬3) سورة الإخلاص، الآيتان: 1 - 2. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في كراهية التمادح، برقم 4806، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 387، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 245، وأحمد، 4/ 24، 25، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3700، وإسناده صحيح، وانظر: فتح المجيد، ص613، بتحقيق الأرنؤوط. (¬5) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير،2/ 418،وانظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/ 161.

40 - القاهر،

الكريم، فهو الصمد الذي تَصْمُدُ إليه أي تقصده جميع المخلوقات بالذلّ والحاجة والافتقار، ويفزع إليه العالم بأسره، وهو الذي قد كَمُلَ في علمه، وحكمته، وحلمه، وقدرته، وعظمته، ورحمته، وسائر أوصافه، فالصمد هو كامل الصفات، وهو الذي تقصده المخلوقات في كل الحاجات (¬1). فهو السيد الذي قد كُمل في سؤدده، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كَمُلَ في جبروته، والشريف الذي قد كمُلَ في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله - عز وجل - هذه صفته لا تنبغي إلا له، وليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار (¬2). 40 - القاهِرُ، 41 - القهَّارُ قال الله تعالى: {قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬3). وقال تعالى: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬4). وقال - عز وجل -: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬5). وهو الذي قهر جميع الكائنات، وذلّت له جميع المخلوقات، ودانت ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص75. (¬2) شرح نونية ابن القيم للهراس، 2/ 100، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد، 2/ 232. (¬3) سورة الرعد آية 16. (¬4) سورة غافر، الآية: 16. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 18.

لقدرته ومشيئته مواد وعناصر العالَم العلوي والسفلي، فلا يحدث حادث ولا يسكن ساكن إلا بإذنه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وجميع الخلق فقراء إلى الله عاجزون، لا يملكون لأنفسهم نفعاً، ولا ضراً، ولا خيراً ولا شراً، وقهره مستلزم: لحياته، وعزته، وقدرته، فلا يتم قهره للخليقة إلا بتمام حياته وقوة عزّته واقتداره (¬1). إذ لولا هذه الأوصاف الثلاثة لا يتم له قهر ولا سلطان (¬2). 42 - الجبَّارُ قال الله تعالى: {هُوَ الله الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} (¬3). للجبار من أسمائه الحسنى ثلاثة معانٍ كلها داخلة باسمه ((الجبار)): المعنى الأول: أنه الذي يجبر الضعيف وكل قلب منكسر لأجله، فيجبر الكسير، ويُغني الفقير، ويُيسّر على المعسر كل عسير، ويجبر المصاب بتوفيقه للثبات والصبر، ويعوِّضُهُ على مصابه أعظم الأجر إذا قام بواجبها، ويجبر جبراً خاصاً قُلوبَ الخاضعينَ لعظمته وجلاله، وقلوب المحبين بما يفيض عليها من أنواع كراماته، وأصناف المعارف والأحوال الإيمانية، فقلوب المنكسرين لأجله جبرها دان قريب وإذا دعا الداعي، فقال: ((اللهم أجبرني)) فإنه يريد هذا الجبر الذي حقيقته إصلاح العبد ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص76. (¬2) شرح النونية للهراس، 2/ 101. (¬3) سورة الحشر، الآية: 23.

43 - الحسيب

ودفع جميع المكاره عنه. 2 - والمعنى الثاني: أنه القهَّار لكل شيء، الذي دان له كلُّ شيء، وخضع له كلُّ شيء. 3 - والمعنى الثالث: أنَّهُ العليُّ على كل شيء. فصار الجبار مُتضمناً لمعنى الرؤوف القهَّار العليّ. 4 - وقد يُرادُ به معنى رابع وهو المتكبر عن كل سوء ونقص، وعن مماثلة أحد، وعن أن يكون له كفؤ أو ضد أو سمي أو شريك في خصائصه وحقوقه (¬1). 43 - الحَسيبُ قال الله تعالى: {وَكَفَى بِالله حَسِيبًا} (¬2)، وقال سبحانه: {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (¬3)، والحسيبُ: 1 - هو الكافي للعباد جميع ما أهمّهم من أمر دينهم ودنياهم من حصول المنافع ودفع المضارّ. 2 - والحسيب بالمعنى الأخصّ هو الكافي لعبده المتَّقي المتوكِّل عليه كفاية خاصة يصلح بها دينه ودنياه. 3 - والحسيب أيضاً هو الذي يحفظ أعمال عباده من خير وشرٍّ ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص77، وانظر: شرح النونية للهراس، 2/ 102، وتوضيح المقاصد، 2/ 233. (¬2) سورة النساء، الآية: 4. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 62.

44 - الهادي

ويحاسبهم، إنْ خيراً فخير، وإن شراً فشر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، أي كافيك وكافي أتباعك. فكفاية الله لعبده بحسب ما قام به من متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً، وقيامه بعبودية الله تعالى (¬2). 44 - الهادي قال الله تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (¬3). وقال تعالى: {وَإِنَّ الله لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬4). [الهادي] أي: الذين يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع، وإلى دفع المضار، ويُعلِّمهم ما لا يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويُلْهِمُهُم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة إليه، منقادة لأمره (¬5). والهداية: هي دلالةٌ بلُطفٍ، وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه (¬6): الأول: الهداية التي عم بجنسها كل مُكلفٍ من العقل، والفطنة، والمعارف الضرورية التي أعمّ منها كل شيءٍ بقدرٍ فيه حسْبَ احتماله كما ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 64. (¬2) الحق الواضح المبين، ص78، وشرح النونية للهراس، 2/ 103. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 31. (¬4) سورة الحج، الآية: 54. (¬5) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 5/ 631. (¬6) بدائع الفوائد، 2/ 36 - 38.

قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬1). الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك وهو المقصود بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}. الثالث: التوفيق الذي يختصُّ به من اهتدى وهو المعْنيُّ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}، وقوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ... الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعنيُّ بقوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} ... وقوله: {الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}،وهذه الهداياتُ الأربع مترتِّبةٌ، فإنّ من لم تحصل له الأولى لا تحصل له الثانية، بل لا يصحُّ تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث التي قبلها، ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله. ثم ينعكس فقد تحصل الأولى ولا يحصل له الثاني، ولا يحصل الثالث، والإنسان لا يقدر أن يهدي أحداً إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون سائر أنواع الهدايات وإلى الأول أشار بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}، أي داع. وإلى سائر الهدايات أشار بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 50. (¬2) المفردات في غريب القرآن للأصفهاني، ص538، والآية من سورة القصص: 56.

فهو الذي قوله رشد، وفعله كله رشد، وهو مرشد الحيران الضّال فيهديه إلى الصراط المستقيم بياناً، وتعليماً، وتوفيقاً، فأقواله القدرية التي يُوجد بها الأشياء ويُدبر بها الأمور، كلُّها حقٌّ لاشتمالها على الحكمة والحسن والإتقان، وأقواله الشرعية الدينية هي أقواله التي تكلّم بها في كتبه، وعلى ألسنة رسله المشتملة على الصدق التام في الإخبار، والعدل الكامل في الأمر والنهي، فإنه لا أصدق من الله قيلاً، ولا أحسن منه حديثاً: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} (¬1) في الأمر والنهي، وهي أعظم وأجلّ ما يرشد بها العباد، بل لا حصول إلى الرشاد بغيرها، فمن ابتغى الهدى من غيرها أضله الله، ومن لم يسترشد بها فليس برشيد، فيحصل بها الرشد العلمي وهو بيان الحقائق، والأصول، والفروع، والمصالح والمضار الدينية والدنيوية، ويحصل بها الرشد العملي؛ فإنها تُزكي النفوس، وتطهر القلوب، وتدعو إلى أصلح الأعمال وأحسن الأخلاق، وتحثّ على كُل جميل، وتُرهِّب عن كل ذميم رذيل، فمن استرشد بها فهو المهتدي، ومن لم يسترشد بها فهو ضال، ولم يجعل لأحد عليه حجة بعد بعثته للرسل، وإنزاله الكتب المشتملة على الهدى المطلق، فكم هَدَى بفضله ضالاً وأرشد حائراً، وخصوصاً مَنْ تعلَّق به وطلب منه الهدى من صميم قلبه، وعلم أنّه المنفرد بالهداية (¬2). وكل هداية ذكر الله - عز وجل - أنّه منع الظالمين والكافرين فهي: الهداية الثالثة [وهي هداية التوفيق والإلهام] الذي يختص به المهتدون، والرابعة ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 115. (¬2) الحق الواضح المبين، ص78 - 79، وانظر: شرح النونية للهراس، 2/ 103.

45 - الحكم

التي هي الثواب في الآخرة وإدخال الجنة كقوله - عز وجل -: {وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. وكل هداية نفاها الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن البشر فهي ما عدا المختص من الدعاء وتعريف الطريق، وذلك كإعطاء العقل، والتوفيق، وإدخال الجنة كقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ}، فأسال الله أن يهدينا لما يحبه ويرضاه وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلى بالله (¬1). 45 - الحَكمُ قال الله تعالى: {فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (¬2)، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} (¬3) وقال تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (¬4)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله هو الحكمُ وإليه الحكم)) (¬5). ¬

_ (¬1) المفردات في غريب القرآن للأصفهاني، ص539 بتصرف يسير. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 87. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 115. (¬4) سورة النحل، الآية: 90. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح، برقم 4955، والنسائي في كتاب آداب القضاة، باب إذا حكَّموا رجلاً فقضى بينهم، برقم 5384، والحاكم، 1/ 23، والطبراني في الكبير، 22/ 179، 180، ورقم 466، 470، وابن حبان كما في الموارد، 6/ 214، برقم 1937، وإسناده جيد. انظر: فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد، لابن عبد الوهاب، بتحقيق عبد القادر الأرنؤوط، ص517. وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1845.

وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} (¬1) الآية. والله سبحانه هو الذي يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة بعدله وقسطه، فلا يظلم مثقال ذرة، ولا يحمّل أحداً وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه، ويؤدي الحقوق إلى أهلها. فلا يدع صاحب حق إلا وصَّل إليه حقه. وهو العدل في تدبيره وتقديره (¬2)، وهو سبحانه موصوف بالعدل في فعله، وأفعاله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة، ليس فيها شائبة جور أصلاً، فهي كلها بين الفضل والرحمة، وبين العدل والحكمة كما قدمنا. وما ينزله سبحانه بالعصاة والمكذبين من أنواع الهلاك والخزي في الدنيا، وما أعده لهم من العذاب المهين في الآخرة فإنما فعل بهم ما يستحقونه، فإنه لا يأخذ إلا بذنب، ولا يعذب إلا بعد إقامة الحجة، وأقواله كلها عدل، فهو لا يأمرهم إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة، ولا ينهاهم إلا عمَّا مضرته خالصة أو راجحة، وكذلك حكمه بين عباده يوم فصل القضاء، ووزنه لأعمالهم عدلٌ لا جور فيه (¬3)،كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬4). وهو سبحانه ((الحكم)) بالعدل في وصفه وفي فعله وفي قوله وفي ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 114. (¬2) تفسير العلامة السعدي، 5/ 627. (¬3) شرح النونية للهراس، 2/ 104. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 47.

46 - القدوس

حكمه بالقسط. وهذا معنى قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬1)؛ فإنّ أقواله صدق، وأفعاله دائرة بين العدل والفضل، فهي كلها أفعال رشيدة، وحكمه بين عباده فيما اختلفوا فيه أحكام عادلة لا ظلم فيها بوجه من الوجوه، وكذلك أحكام الجزاء والثواب والعقاب (¬2). 46 - القُدُّوسُ، 47 - السَّلامُ قال الله تعالى: {هُوَ الله الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} الآية (¬3). ((القدوس السلام)) معناهما متقاربان؛ فإن القدوس مأخوذ من قدّس بمعنى: نزّهه وأبعده عن السوء مع الإجلال، والتعظيم، والسلام مأخوذ من السلامة. فهو سبحانه السالم من مماثلة أحد من خلقه، ومن النقص، ومن كل ما ينافي كماله (¬4). فهو المقدَّس المعظَّم المنزّه عن كل سوء، السالم من مماثلة أحد من خلقه ومن النقصان، ومن كل ما ينافي كماله. فهذا ضابط ما ينزّه عنه: ينزّه عن كل نقص بوجه من الوجوه، وينزّه ويعظّم أن يكون له مثيل، أو شبيه، أو كفؤ، أو سمي، أو ندّ، أو مضادّ، وينزّه عن نقص صفة من صفاته التي هي أكمل الصفات وأعظمها وأوسعها. ومن تمام تنزيهه عن ذلك إثبات صفات الكبرياء والعظمة له؛ فإنَّ التنزيه مرادٌ لغيره، ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 56. (¬2) الحق الواضح المبين، ص80. (¬3) سورة الحشر، الآية: 23. (¬4) شرح النونية للهراس، 2/ 105.

ومقصودٌ به حفظ كماله عن الظنون السيئة. كظنّ الجاهلية الذين يظنون به ظنَّ السوء، ظنّاً غير ما يليق بجلاله، وإذا قال العبد مثنياً على ربه: ((سبحان الله))، أو ((تقدّس الله))، أو ((تعالى الله)) ونحوها كان مثنياً عليه بالسلامة من كل نقص وإثبات كل كمال (¬1). قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في اسم ((السلام)): [الله] أحق بهذا الاسم من كل مسمىً له؛ لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو السلام الحق بكل اعتبار، والمخلوق سلام بالإضافة، فهو سبحانه سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وَهْمٌ، وسلام في صفاته من كل عيب ونقص، وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة، بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار، فَعُلِمَ أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه، وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزّه به نفسه، ونزّهه به رسوله، فهو السلام من الصاحبة والولد، والسلام من النظير والكفء والسمي والمماثل، والسلام من الشريك؛ ولذلك إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاماً مما يضاد كما لها: فحياته سلام من الموت ومن السِّنةِ والنوم، وكذلك قيّوميّته وقدرته سلام من التعب واللغوب، وعلمه سلام من عزوب شيء عنه، أو عروض نسيان أو حاجة إلى تَذَكُّرٍ وتَفَكُّرٍ، وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة، وكلماته سلام من الكذب والظلم، بل تمت ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص81 - 82.

كلماته صدقاً وعدلاً، وغناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجه ما، بل كل ما سواه محتاج إليه وهو غنى عن كل ما سواه، وملكه: سلام من منازع فيه، أو مشارك، أو معاون مظاهر، أو شافع عنده بدون إذنه، وإلاهيته سلام من مشارك له فيها، بل هو الله الذي لا إله إلا هو، وحلمه وعفوه وصفحه ومغفرته وتجاوزه سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذل أو مصانعة كما يكون من غيره، بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه، وكذلك عذابه وانتقامه وشدة بطشه وسرعة عقابه سلام من أن يكون ظلماً، أو تشفيَّاً، أو غلظة، أو قسوة، بل هو محض حكمته وعدله ووضعه الأشياء مواضعها، وهو مما يستحق عليه الحمد والثناء كما يستحقه على إحسانه، وثوابه، ونعمه، بل لو وضع الثواب موضع العقوبة لكان مناقضاً لحكمته ولعزّته، فوضعه العقوبة موضعها هو من عدله، وحكمته، وعزته، فهو سلام مما يتوهَّم أعداؤه الجاهلون به من خلاف حكمته. وقضاؤه وقدره سلام من العبث والجور والظلم، ومن توهّم وقوعه على خلاف الحكمة البالغة. وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وخلاف مصلحة العباد ورحمتهم والإحسان إليهم وخلاف حكمته، بل شرعه كله حكمة، ورحمة، ومصلحة، وعدل، وكذلك عطاؤه سلام من كونه معاوضة أو لحاجة إلى المعطى. ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق، بل عطاؤه إحسان محض لا لمعاوضة ولا لحاجة، ومنعه عدل محض وحكمة لا يشوبه بخل ولا

عجز. واستواؤه وعلوّه على عرشه سلام من أن يكون محتاجاً إلى ما يحمله أو يستوي عليه، بل العرش محتاج إليه وحملته محتاجون إليه، فهو الغني عن العرش وعن حملته وعن كل ما سواه، فهو استواء وعلوّ لا يشوبه حصر ولا حاجة إلى عرش ولا غيره ولا إحاطة شيء به سبحانه وتعالى، بل كان سبحانه ولا عرش، ولم يكن به حاجة إليه وهو الغني الحميد، بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلى عرش ولا غيره بوجهٍ ما. ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا سلام مما يضادّ علوّه، وسلام مما يضاد غناه. وكماله سلام من كل ما يتوهّم معطّل أو مشبّه، وسلام من أن يصير تحت شيء أو محصوراً في شيء، تعالى الله ربنا عن كل ما يضادّ كماله. وغناه وسمعه وبصره سلام من كل ما يتخيّله مشبّه أو يتقوّله معطّل. وموالاته لأوليائه سلامٌ من أن تكون عن ذلّ كما يوالي المخلوق المخلوق، بل هي موالاة رحمة، وخير، وإحسان، وبرّ كما قال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لله الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا * وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (¬1)، فلم ينف أن يكون له وليّ مطلقاً، بل نفى أن يكون له وليٌّ من الذلّ. وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من كونها محبة حاجة إليه، أو تَمَلُّقٍ له، أو انتفاع بقربه، وسلام ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 111.

48 - البر،

مما يتقوّله المعطّلون فيها. وكذلك ما أضافه إلى نفسه من اليد والوجه، فإنّه سلام عما يتخيَّله مشبّه أو يتقوَّله معطّل. فتأمل كيف تضمّن اسمه السلام كلّ ما نُزّه عنه تبارك وتعالى. وكم ممن حفظ هذا الاسم لا يدري ما تضمنه من هذه الأسرار والمعاني والله المستعان (¬1). 48 - البَرُّ، 49 - الوَهَّابُ قال الله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (¬2)، وقال سبحانه: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (¬3). من أسمائه تعالى: ((البرّ الوهّاب)) الذي شمل الكائنات بأسرها ببرّه وهباته وكرمه، فهو مولى الجميل ودائم الإحسان وواسع المواهب، وصفُه البرّ وآثار هذا الوصف جميع النعم الظاهرة والباطنة، فلا يستغني مخلوق عن إحسانه وبرّه طرفة عين. وإحسانه عام وخاص: ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله، 2/ 150 - 152، والطبعة المصرية، نشر مكتبة القاهرة، الطبعة التي طبعتها مكتبة الرياض الحديثة، 2/ 135 - 137 بتصرف يسير جداً. (¬2) سورة الطور، الآية: 28. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 8.

1 - فالعامّ المذكور في قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (¬1)، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2)، وقال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} (¬3)، وهذا يشترك فيه البرُّ والفاجر وأهل السماء وأهل الأرض والمكلّفون وغيرهم. 2 - والخاصّ رحمته ونعمه على المتقين حيث قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} الآية (¬4)، وقال: {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬5)، وفي دعاء سليمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (¬6)، وهذه الرحمة الخاصة التي يطلبها الأنبياء وأتباعهم، تقتضي التوفيق للإيمان، والعلم، والعمل، وصلاح الأحوال كلها، والسعادة الأبدية، والفلاح، والنجاح، وهي المقصود الأعظم لخواص الخلق (¬7). وهو سبحانه المتصف بالجود: وهو كثرة الفضل والإحسان، وجوده تعالى أيضاً نوعان: النوع الأول: جودٌ مطلق عمَّ جميع الكائنات وملأها من فضله وكرمه ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآية: 7. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 156. (¬3) سورة النحل، الآية: 53. (¬4) سورة الأعراف، الآيتان: 155 - 156. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 56. (¬6) سورة النمل، الآية: 19. (¬7) الحق الواضح المبين، ص82 - 83، وانظر: شرح النونية للهراس، 2/ 106.

50 - الرحمن،

ونعمه المتنوعة. النوع الثاني: وجودٌ خاص بالسائلين بلسان المقال أو لسان الحال من برٍّ وفاجرٍ ومسلمٍ وكافرٍ، فمن سأل الله أعطاه سؤله وأناله ما طلب، فإنه البرّ الرحيم: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (¬1). ومن جوده الواسع ما أعدَّه لأوليائه في دار النعيم مما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (¬2). 50 - الرَّحمنُ، 51 - الرَّحيمُ، 52 - الكريمُ، 53 - الأكرمُ، 54 - الرَّءوفُ قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} (¬3). الآيات، وقال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (¬4)، وقال سبحانه: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَالله رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} (¬5). قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: الرحمنُ، الرحيمُ، والبرُ، الكريمُ، الجوادُ، الرؤوفُ، الوهابُ - هذه الأسماء تتقارب معانيها، وتدلّ كلُّها على اتصاف الرب، بالرحمة، والبر، والجود، والكرم، وعلى سعة رحمته ومواهبه التي عمَّ بها جميع الوجود بحسب ما تقتضيه حكمته. وخصَّ المؤمنين منها، بالنصيب الأوفر، والحظ الأكمل، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 53. (¬2) الحق الواضح المبين، ص66 - 67، وشرح النونية للهراس، 2/ 94. (¬3) سورة الفاتحة، الآيتان: 1 - 2. (¬4) سورة النمل، الآية: 40. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 30.

يَتَّقُونَ} (¬1) الآية. والنعم والإحسان، كله من آثار رحمته، وجوده، وكرمه. وخيرات الدنيا والآخرة، كلها من آثار رحمته (¬2). وقال ابن تيمية رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬3)، سمّى ووصف نفسه بالكرم، وبأنه الأكرم بعد إخباره أنه خلق ليتبين أنه ينعم على المخلوقين ويوصلهم إلى الغايات المحمودة كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (¬4)، {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬5)، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} (¬6)، فالخلق يتضمن الابتداء والكرم تضمن الانتهاء. كما قال في سورة الفاتحة: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، ولفظ الكرم جامع للمحاسن والمحامد لا يراد به مجرد الإعطاء بل الإعطاء من تمام معناه؛ فإن الإحسان إلى الغير تمام والمحاسن والكرم كثرة الخير ويسرته ... والله سبحانه أخبر أنه الأكرم بصيغة التفضيل والتعريف لها. فدل على أنه الأكرم وحده بخلاف ما لو قال: ((وربك الأكرم)) فإنه لا يدل على الحصر. وقوله: {الأَكْرَمُ} يدل على الحصر، ولم يقل: ((الأكرم من كذا)) بل أطلق الاسم، ليبين أنه الأكرم مطلقاً غير مقيّد، فدلّ على أنه ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 156. (¬2) تفسير العلامة السعدي، 5/ 621. (¬3) شورة العلق، الآيات: 3 - 5. (¬4) سورة الأعلى، الآيتان: 2 - 3. (¬5) سورة طه، الآية: 50. (¬6) سورة الشعراء، الآية: 78.

55 - الفتاح

متصف بغاية الكرم الذي لا شيء فوقه ولا نقص فيه (¬1). 55 - الفتَّاحُ قال الله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} (¬2). الفاتح: الحاكم، والفتاح من أبنية المبالغة. فالفتّاح هو الحكم المحسن الجواد، وفَتْحهُ تعالى قسمان: القسم الأول: فتحه بحكمه الديني وحكمه الجزائي. القسم الثاني: الفتاح بحكمه القدري. ففتحه بحكمه الديني هو شرعه على ألسنة رسله جميعَ ما يحتاجه المكلفون، ويستقيمون به على الصراط المستقيم. وأما فتحه بجزائه فهو فتحه بين أنبيائه ومخالفيهم وبين أوليائه وأعدائه بإكرام الأنبياء وأتْباعِهم ونجاتهم، وبإهانة أعدائهم وعقوباتهم. وكذلك فتحه يوم القيامة وحكمه بين الخلائق حين يوفّى كل عامل ما عمله. وأما فتحه القدري فهو ما يقدّره على عباده من خير وشر ونفع وضرّ وعطاء ومنع، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬3)، فالربّ تعالى هو الفتاح العليم الذي يفتح لعباده الطائعين خزائن جوده وكرمه، ¬

_ (¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 16/ 293 - 296 بتصرف يسير. (¬2) سورة سبأ، الآية: 26. (¬3) سورة فاطر، الآية: 2.

56 - الرزاق

ويفتح على أعدائه ضد ذلك، وذلك بفضله وعدله (¬1). 56 - الرَّزاقُ، 57 - الرَّازقُ وهو مبالغة من: رازق للدلالة على الكثرة، والرزاق من أسمائه سبحانه. قال تعالى: {إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ} (¬2)، {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله هوَ المسَعِّرُ القابضُ الباسطُ الرَّازِقُ)) (¬4) ورزقه لعباده نوعان: عام، وخاص. 1 - فالعام إيصاله لجميع الخليقة جميع ما تحتاجه في معاشها وقيامها، فسهَّل لها الأرزاق، ودبّرها في أجسامها، وساقَ إلى كل عضوٍ صغير وكبير ما يحتاجه من القوت، وهذا عام للبرِّ والفاجر والمسلم والكافر، بل للآدميين والجن والملائكة والحيوانات كلها. وعام أيضاً من وجه آخر في حق المكلّفين؛ فإنه قد يكون من الحلال الذي لا تبعة على العبد فيه، وقد يكون من الحرام ويسمى رزقاً ونعمة بهذا الاعتبار، ويقال: ((رزقه الله)) سواء ارتزق من حلال أو حرام، وهو مطلق الرزق. 2 - وأما الرزق المطلق فهو النوع الثاني، وهو الرزق الخاص، وهو ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص83، وانظر: شرح النونية للهراس، 2/ 107. (¬2) سورة الذاريات، الآية: 58. (¬3) سورة هود، الآية: 6. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع والإجارات، باب في التسعير، برقم 3451، والترمذي في كتاب البيوع، باب في التسعير، برقم 1314، وابن ماجه في كتاب التجارات، باب من كره أن يسعر، برقم 2200، وأحمد في المسند، 3/ 156، وصححه الترمذي، وكذا الألباني في صحيح الجامع، برقم 1846.

58 - الحي،

الرزق النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة، وهو الذي على يد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو نوعان: النوع الأول: رزق القلوب بالعلم والإيمان وحقائق ذلك، فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمة بالحق مريدة له متألّهة لله متعبّدة، وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها. النوع الثاني: رزق البدن بالرزق الحلال الذي لا تبعة فيه؛ فإنَّ الرزق الذي خصَّ به المؤمنين والذي يسألونه منه شامل للأمرين، فينبغي للعبد إذا دعا ربه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه هذين الأمرين، فمعنى ((اللهم ارزقني)) أي ما يصلح به قلبي من العلم والهدى والمعرفة ومن الإيمان الشامل لكل عمل صالح وخلق حسن، وما به يصلح بدني من الرزق الحلال الهنيّ الذي لا صعوبة فيه ولا تبعة تعتريه (¬1). 58 - الحيُّ، 59 - القيُّومُ قال الله تعالى: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬2)، وقال سبحانه: {الم * الله لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلمًا} (¬4)، الحيُّ القيُّوم من أسماء الله الحُسنى. ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص85 - 86، وانظر شرح النونية للهراس، 2/ 108، وتوضيح المقاصد، 2/ 234. (¬2) سورة البقرة، الآية: 255. (¬3) سورة آل عمران، الآيتان: 1 - 2. (¬4) سورة طه، الآية: 111.

60 - نور السموات والأرض

و ((الحي القيوم)) جمعهما في غاية المناسبة كما جمعهما الله في عدة مواضع في كتابه، وذلك أنهما محتويان على جميع صفات الكمال، فالحي هو كامل الحياة، وذلك يتضمن جميع الصفات الذاتية لله: كالعلم، والعزّة، والقدرة، والإرادة، والعظمة، والكبرياء، وغيرها من صفات الذات المقدسة، والقيّوم هو كامل القيّوميّة وله معنيان: المعنى الأول: هو الذي قام بنفسه، وعظمت صفاته، واستغنى عن جميع مخلوقاته. المعنى الثاني: هو الذي قامت به الأرض والسموات وما فيهما من المخلوقات، فهو الذي أوجدها وأمدَّها وأعدَّها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها، فهو الغنيّ عنها من كل وجه وهي التي افتقرت إليه من كل وجه، فالحيُّ والقيُّوم من له صفة كل كمال وهو الفَعَّالُ لما يريد (¬1). 60 - نورُ السمواتِ والأرض (¬2) قال تعالى: {الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء} (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص87 - 88، وانظر: شرح النونية للهراس، 2/ 109، وتوضيح المقاصد، 2/ 236. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية، فقد تكلم كلاماً نفيساً في هذا، 6/ 382 - 396. (¬3) سورة النور، آية: 35.

لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ... )) (¬1) الحديث. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفَعُهُ، يُرفَعُ إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابُهُ النورُ لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصرُهُ من خلقه)) (¬2). قال العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: من أسمائه جلّ جلاله ومن أوصافه ((النور)) الذي هو وصفه العظيم، فإنه ذو الجلال والإكرام، وذو البهاء والسبحات الذي لو كشف الحجاب عن وجهه الكريم لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره من خلقه، وهو الذي استنارت به العوالم كلها، فبنور وجهه أشرقت الظلمات، واستنار به العرش والكرسي والسبع الطباق وجميع الأكوان. والنور نوعان: 1 - حسيٌّ كهذه العوالم التي لم يحصل لها نور إلا من نوره. 2 - ونور معنوي يحصل في القلوب والأرواح بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الله وسنة نبيّه. فعلم الكتاب والسُّنَّة والعمل بهما ينير القلوب والأسماع والأبصار، ويكون نوراً للعبد في الدنيا والآخرة: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} (¬3)، لما ذكر أنه نور السموات والأرض، وسمّى الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه بالليل، برقم 6317، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 769. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله لا ينام، برقم 179. (¬3) سورة النور، آية: 35.

كتابه نوراً، ورسوله نوراً، ووحيه نوراً ... ثم إن ابن القيم رحمه الله حذّر من اغترار من اغترّ من أهل التصوف، الذين لم يفرّقوا بين نور الصفات وبين أنوار الإيمان والمعارف؛ فإنّهم لمّا تألّهوا وتعبّدوا من غير فرقان وعلم كامل، ولاحت أنوار التعبد في قلوبهم؛ لأنّ العبادات لها أنوار في القلوب، فظنّوا هذا النور هو نور الذات المقدسة، فحصل منهم من الشطح والكلام القبيح ما هو أثر هذا الجهل والاغترار والضلال. وأما أهل العلم والإيمان والفرقان فإنهم يفرِّقون بين نور الذات والصفات، وبين النور المخلوق الحسي منه والمعنوي، فيعترفون أن نور أوصاف الباري ملازم لذاته لا يفارقها، ولا يحلّ بمخلوق، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأما النور المخلوق فهو الذي تتصف به المخلوقات بحسب الأسباب والمعاني القائمة بها. والمؤمن إذا كَمُلَ إيمانه أنار الله قلبه، فانكشفت له حقائق الأشياء، وحصل له فرقان يفرّق به بين الحق والباطل، وصار هذا النور هو مادة حياة العبد وقوته على الخير علماً وعملاً، وانكشفت عنه الشبهات القادحة في العلم واليقين، والشهوات الناشئة عن الغفلة والظلمة، وكان قلبه نوراً، وكلامه نوراً، وعمله نوراً، والنور محيط به من جهاته. والكافر، أو المنافق، أو المعارض، أو المعرض الغافل كل هؤلاء يتخبّطون في الظلمات، كل له من الظلمة بحسب ما معه من موادها

61 - الرب

وأسبابها، والله الموفق وحده (¬1). 61 - الرَّبُّ قال الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2). الله - عز وجل - هو: المربِّي جميع عباده، بالتدبير، وأصناف النعم. وأخص من هذا، تربيته لأصفيائه، بإصلاح قلوبهم، وأرواحهم وأخلاقهم، ولهذا كثر دعاؤهم له بهذا الاسم الجليل؛ لأنهم يطلبون منه هذه التربية الخاصة. 62 - الله والله - عز وجل - هو المألوه المعبود، ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال، وقد تقدم أن هذا الاسم ترجع إليه جميع الأسماء، فيُقال: الرحمن من أسماء الله، ولا يُقال: الله من أسماء الرحمن، وهكذا في جميع الأسماء، واسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، والصفات العُلا (¬3). 63 - الملِكُ، 64 - المليكُ، 65 - مالكُ الملكِ قال الله تعالى: {فَتَعَالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص93 - 95، وانظر: توضيح المقاصد، 2/ 237، وشرح النونية للهراس، 2/ 114 بتصرف يسير. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 164. (¬3) انظر: بدائع الفوائد، لابن القيم، 2/ 249.

الْكَرِيمِ} (¬1). وقال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬2)، وقال سبحانه: {قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬3). فهو الموصوف، بصفة الملك. وهي صفات العظمة والكبرياء، والقهر والتدبير، الذي له التصرف المطلق، في الخلق، والأمر، والجزاء. وله جميع العالم، العلوي والسفلي، كلهم عبيد ومماليك، ومضطرون إليه (¬4). فهو الربّ الحقّ، الملك الحقّ، الإله الحقّ، خلقهم بربوبيّته، وقهرهم بملكه، واستعبدهم بإلاهيته، فتأملْ هذه الجلالةَ وهذه العظمةَ التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق. رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى، أما تضمنها لمعاني أسمائه الحُسنى فإنّ ((الربّ)): هو القادر، الخالق، البارئ، المصوِّرُ، الحيّ، القيّوم، العليم، السميع، البصير، المحسن، المنعم، الجواد، المعطي المانع، الضارّ النافع، المقدِّم، المؤخِّر، الذي يُضلُّ من يشاء، ويهدي من ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآية: 116. (¬2) سورة القمر، الآية: 55. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 26. (¬4) تفسير العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 5/ 620.

يشاء، ويُسعد من يشاء، ويُشقي ويُعزّ من يشاء، ويُذلّ من يشاء، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقّه من الأسماء الحُسنى. وأما ((الملك)) فهو الآمر، الناهي، المعزّ، المذلّ، الذي يُصرِّفُ أمور عباده كما يحبّ، ويقلّبهم كما يشاء، وله من معنى الملك ما يستحقّه من الأسماء الحسنى كالعزيز، الجبار، المتكبر، الحكَم، العدل، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، العظيم، الجليل، الكبير، الحسيب، المجيد، الوليّ، المتعالي، مالك الملك، المقسط، الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك. وأما ((الإله)): فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح إن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذَّ منهم، وإنّ اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلا، فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى، فكان المستعيذ بها جديراً بأن يُعاذ، ويُحفظ، ويُمنع من الوسواس الخناس، ولا يُسَلَّط عليه (¬1). وإذا كان وحده هو ربنا، وملكنا، وإلهنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره، فلا ينبغي أن يُدعى، ولا يُخاف، ولا يُرجى، ولا يُحب سواه، ولا يُذل لغيره، ولا يُخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه؛ لأن من ترجوه، وتخافه، وتدعوه، وتتوكل ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد لابن القيم رحمه الله، 2/ 249.

66 - الواحد،

عليه إما أن يكون مربيك، والقيّم بأمورك، ومتولّي شأنك، وهو ربّك فلا ربّ سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحقّ، فهو ملك الناس حقاً، وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك، وروحك، وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه فمن كان ربهم، وملكهم، وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، ولا يلجؤوا إلى غير حماه، فهو كافيهم، وحسبهم، وناصرهم، ووليّهم، ومتولّي أمورهم جميعاً بربوبيته، وملكه، وإلاهيته لهم. فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عدوّه به إلى ربه، ومالكه، وإلهه؟ (¬1). 66 - الواحِدُ، 67 - الأحدُ قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} (¬2)، وقال سبحانه: {قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬3). وهو الذي توحّد بجميع الكمالات، بحيث لا يشاركه فيها مشارك. ويجب على العبيد توحيده، عقداً، وقولاً، وعملاً، بأن يعترفوا بكماله المطلق، وتفرّده بالوحدانية، ويفردوه بأنواع العبادة (¬4). والأحد، يعني: الذي تفرّد بكل كمال، ومجد وجلال، وجمال وحمد، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 2/ 248. (¬2) سورة الإخلاص، الآية: 1. (¬3) سورة الرعد، الآية: 16. (¬4) تفسير العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 5/ 620.

68 - المتكبر

وحكمة ورحمة، وغيرها من صفات الكمال. فليس له فيها مثيل ولا نظير، ولا مناسب بوجه من الوجوه. فهو الأحد في حياته وقيّوميّته، وعلمه وقدرته، وعظمته وجلاله، وجماله وحمده، وحكمته ورحمته، وغيرها من صفاته، موصوف بغاية الكمال ونهايته، من كل صفة من هذه الصفات. ومن تحقيق أحديته وتفرّده بها أنه ((الصمد))، أي: الرب الكامل، والسيد العظيم، الذي لم يبقَ صفة كمال إلا اتّصف بها. ووُصف بغايتها وكمالها، بحيث لا تُحيط الخلائق ببعض تلك الصفات بقلوبهم، ولا تُعبّر عنها ألسنتهم (¬1). 68 - المُتَكَبِّرُ قال الله تعالى: {هُوَ الله الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬2). فهو سبحانه المتكبر عن السوء، والنقص والعيوب، لعظمته وكبريائه. 69 - الخالقُ، 70 - البارئُ، 71 - المُصوِّرُ، 72 - الخلاَّقُ قال تعالى: {هُوَ الله الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬3). ¬

_ (¬1) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار، ص291، لعبد الرحمن السعدي. (¬2) سورة الحشر، الآية: 23. (¬3) سورة الحشر، الآية: 24.

74 - المهيمن

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} (¬1). الذي خلق جميع الموجودات وبرأها، وسوّاها بحكمته، وصوّرها بحمده وحكمته، وهو لم يزل، ولا يزال على هذا الوصف العظيم. 73 - المُؤمنُ الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال، وبكمال الجلال والجمال، الذي أرسل رسله، وأنزل كتبه بالآيات والبراهين. وصدق رسله بكل آية وبرهان، يدلّ على صدقهم وصحة ما جاءوا به. 74 - المُهيمِنُ المطلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً (¬2). وقال البغوي: الشهيد على عباده بأعمالهم وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، يقال: هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيباً على الشيء ... (¬3). 75 - المُحيطُ قال الله تعالى: {وَلله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا} (¬4). وقال - عز وجل -: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية: 86. (¬2) تفسير السعدي، 5/ 624. (¬3) تفسير البغوي، 4/ 326. (¬4) سورة النساء، الآية: 126.

76 - المقيت

إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬1). وهو الذي أحاط بكل شيء علماً، وقدرة، ورحمة، وقهراً. وقد أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المبصرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفذت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسموات، وقهر بعزّته كل مخلوق، ودانت له جميع الأشياء (¬2). 76 - المُقيتُ قال الله تعالى: {وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} (¬3)، فهو سبحانه الذي أوصل إلى كل موجود ما به يقتات، وأوصل إليها أرزاقها وصَّرفها كيف يشاء، بحكمته وحمده (¬4). قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: ((القوت ما يمسك الرَّمق، وجمعه: أقوات، قال تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} (¬5)، وقاتَهُ يقوتُهُ قوتاً: أطعمه قوتَهُ. وأقاتهُ يُقيتُهُ جعل له ما يقوتُهُ، وفي الحديث: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيِّع من يقوتُ)) (¬6)، قال تعالى: {وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا}، قيل: ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 120. (¬2) تفسير العلامة السعدي، 2/ 179. (¬3) سورة النساء، الآية: 85. (¬4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 5/ 625. (¬5) سورة فصلت، الآية: 10. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم، برقم 1692، وأحمد في المسند، 2/ 160، والحاكم في المستدرك، 1/ 415، وقال: ((صحيح)). ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 4481. وأصل الحديث عند مسلم بلفظ: ((كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمَّن يملك قوته)) في كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم، برقم 996.

77 - الوكيل

مقتدراً، وقيل: شاهداً. وحقيقته قائماً عليه يحفظُهُ ويُقيتهُ ... )) (¬1)، وقال في القاموس المحيط: ((المُقيتُ: الحافظ للشيء، والشاهد له، والمقتدر، كالذي يعطي كل أحد قوته)) (¬2)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: مقتدراً، أو مجازياً، وقال مجاهد: شاهداً، وقال قتادة: حافظاً، وقيل: معناه على كل حيوان مقيتاً: أي يوصل القوت إليه (¬3)، وقال ابن كثير: {وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} أي حفيظاً، وقال مجاهد: شهيداً، وفي رواية عنه: حسيباً، وقيل: قديراً، وقيل: المقيت: الرازق، وقيل: مقيت لكل إنسان بقدر عمله (¬4). 77 - الوَكيلُ قال الله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬5)، فهو سبحانه المتولّي لتدبير خلقه، بعلمه، وكمال قدرته، وشمول حكمته، الذي تولى أولياءه، فيسَّرهم لليُسرى، وجنّبهم العُسرى، وكفاهم الأمور. فمن اتخذه وكيلاً كفاه: {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} (¬6). ¬

_ (¬1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، ص414. (¬2) القاموس المحيط، ص202. (¬3) تفسير البغوي، 1/ 457. (¬4) تفسير ابن كثير، 1/ 531، بتصرف يسير. (¬5) سورة الزمر، الآية: 62. (¬6) سورة البقرة، الآية: 257.

78 - ذو الجلال والإكرام

78 - ذو الجلالِ والإكرامِ أي: ذو العظمة والكبرياء، وذو الرحمة، والجود، والإحسان العام والخاص. المكرم لأوليائه وأصفيائه، الذين يُجلُّونه، ويُعظمونه، ويُحبونه (¬1). قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬2). 79 - جامعُ الناسِ ليومٍ لا ريبَ فيه قال الله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬3). فالله - سبحانه وتعالى - هو جامع الناس، وجامع أعمالهم وأرزاقهم، فلا يترك منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وجامع ما تفرق واستحال من الأموات الأولين والآخرين، بكمال قدرته، وسعة علمه (¬4). 80 - بديعُ السموات والأرض قال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (¬5). أي: خالقهما ومبدعهما، في غاية ما يكون من الحسن والخلق البديع، ¬

_ (¬1) تيسر الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 5/ 626. (¬2) سورة الرحمن، الآية: 78. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 9. (¬4) تفسير السعدي، 5/ 627. (¬5) سورة البقرة، الآية: 117.

81 - الكافي

والنظام العجيب المحكم. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (¬1) ابتدأ خلقهم، ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً، ثم يعيدهم، ليجزي الذين أحسنوا بالحُسنى، ويجزي المسيئين بإساءتهم. وكذلك، هو الذي يبدأ إيجاد المخلوقات شيئاً فشيئاً، ثم يعيدها كل وقت. وقال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (¬2)، وقال سبحانه: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (¬3). وهذا من كمال قوته، ونفوذ مشيئته، وقدرته، أن كل أمر يريده يفعله بلا ممانع، ولا معارض. وليس له ظهير ولا عوين، على أيّ أمر يكون. بل إذا أراد شيئاً قال له: ((كن فيكون)). ومع أنه الفعّال لما يريد، فإرادته، تابعة لحكمته وحمده. فهو موصوف بكمال القدرة، ونفوذ المشيئة. وموصوف بشمول الحكمة، لكل ما فعله ويفعله (¬4). 81 - الكافي قال الله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} (¬5)، فهو سبحانه الكافي عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه. الكافي كفاية خاصة، من آمن به، وتوكل عليه، واستمد منه حوائج دينه ودنياه. ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 27. (¬2) سورة هود، الآية: 107. (¬3) سورة البروج، الآيتان: 15 - 16. (¬4) تيسير الكريم الرحمن، 5/ 628 - 629. (¬5) سورة الزمر، الآية: 36.

82 - الواسع

82 - الواسِعُ قال الله تعالى: {وَالله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬1). فهو - سبحانه وتعالى - واسع الصفات، والنعوت، ومتعلّقاتها، بحيث لا يُحصِي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه. واسع العظمة، والسلطان، والملك، واسع الفضل، والإحسان، عظيم الجود والكرم. 83 - الحقُّ الله - عز وجل - هو الحق في ذاته وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به، فهو الذي لم يزل، ولا يزال، بالجلال، والجمال، والكمال، موصوفاً، ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفاً. فقوله حق، وفعله، حق، ولقاؤه حق، ورسله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له، هي الحق، وكل شيء ينسب إليه، فهو حق (¬2). {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬3). {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 268. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 5/ 631 - 632، بتصرف يسير. (¬3) سورة الحج، الآية: 62. (¬4) سورة الكهف، الآية: 29.

84 - الجميل

{فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} (¬1)، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (¬2). وقال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (¬3). فأوصافه العظيمة حق، وأفعاله هي الحق، وعبادته هي الحق، ووعده حق، ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه (¬4). 84 - الجَميلُ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله جميلٌ يحبُ الجمال)) (¬5)، فهو سبحانه جميلٌ بذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فلا يُمكن مخلوقاً أن يعبر عن بعض جمال ذاته، حتى أن أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم، واللذّات والسرور والأفراح التي لا يقدّر قدرها، إذا رأوا ربّهم، وتمتعوا بجماله، نسوا ما هم فيه من النعيم، وتلاشى ما هم فيه من الأفراح، وودّوا أنْ لو تدوم هذه الحال، واكتسبوا من جماله ونوره جمالاً إلى جمالهم، وكانت قلوبهم في شوق دائم ونزوع إلى رؤية ربِّهم، ويفرحون بيوم المزيد فرحاً تكاد تطير له القلوب. وكذلك هو الجميل في أسمائه؛ فإنها كلها حسنى، بل أحسن الأسماء ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 32. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 81. (¬3) سورة النور، الآية: 25. (¬4) تفسير السعدي، 5/ 405، وابن كثير، 3/ 277. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، برقم 91.

على الإطلاق وأجملها، قال تعالى {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬1)، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (¬2)، فكلها دالّة على غاية الحمد والمجد والكمال، لا يُسمّى باسم منقسم إلى كمال وغيره. وكذلك هو الجميل في أوصافه؛ فإنّ أوصافه كلها أوصاف كمال، ونعوت ثناء وحمد، فهي أوسع الصفات وأعمّها وأكثرها تعلقاً، خصوصاً أوصاف الرحمة، والبرّ، والكرم، والجود. وكذلك أفعاله كلها جميلة؛ فإنها دائرة بين أفعال البرّ والإحسان التي يحمد عليها، ويُثنى عليه ويُشكَر، وبين أفعال العدل التي يُحمد عليها لموافقتها للحكمة والحمد، فليس في أفعاله عبث، ولا سفه، ولا سدى، ولا ظلم، كلها خير، وهدى، ورحمة، ورشد، وعدل: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬3)، فلكماله الذي لا يُحصي أحد عليه به ثناء كملت أفعاله، فصارت أحكامه من أحسن الأحكام، وصنعه وخلقه أحسن خلق وصنع: أتقن ما صنعه: {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬4)، وأحسن ما خلقه. {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (¬5)، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 180. (¬2) سورة مريم، الآية: 65. (¬3) سورة هود، الآية: 56. (¬4) سورة النمل، الآية: 88. (¬5) سورة السجدة، الآية: 7. (¬6) سورة المائدة، الآية: 50.

والأكوان محتوية على أصناف الجمال، وجمالها من الله تعالى فهو الذي كساها الجمال، وأعطاها الحسن، فهو أولى منها لأن مُعطي الجمال أحقّ بالجمال، فكل جمال في الدنيا والآخرة باطني وظاهري، خصوصاً ما يعطيه المولى لأهل الجنّة من الجمال المفرط في رجالهم ونسائهم، فلو بدا كفّ واحدة من الحور العين إلى الدنيا، لطمس ضوءَ الشمس كما تطمس الشمس ضوءَ النجوم، أليس الذي كساهم ذلك الجمال، ومنّ عليهم بذلك الحُسْنِ والكمال، أحقّ منهم بالجمال الذي ليس كمثله شيء، فهذا دليل عقلي واضح مُسلَّم المقدمات على هذه المسألة العظيمة وعلى غيرها من صفاته، قال تعالى: {وَلله الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} (¬1)، فكل ما وجد في المخلوقات من كمال لا يستلزم نقصاً، فإنّ معطيه وهو الله أحقُّ به من المُعطَى بما لا نسبة بينه وبينهم، كما لا نسبة لذواتهم إلى ذاته، وصفاتهم إلى صفاته، فالذي أعطاهم السمع، والبصر، والحياة، والعلم، والقدرة، والجمال، أحقّ منهم بذلك، وكيف يعبّر أحد عن جماله وقد قال أعلم الخلق به: ((لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) (¬2)،وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) (¬3)، فسبحان الله وتقدّس عما يقوله الظالمون النافون لكماله علواً كبيراً، وحسبهم مقتاً وخساراً أنهم حُرموا من الوصول إلى معرفته ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 60. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 486. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله - عليه السلام -: إن الله لا ينام، برقم 179.

85 - الرفيق

والابتهاج بمحبته (¬1). قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((لا أحد أصبر على أذىً سمعه من الله، يجعلون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم)) (¬2)، وقال أيضاً في الصحيح: قال الله تعالى: ((كذَّبني ابن آدم، ولم يكُن له ذلك. وشتمني ابن آدم، ولم يكُن له ذلك. فأما تكذيبه إيَّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: إنَّ لي ولداً، وأنا الأحد الصَّمد الذي لم يلد ولم يولدْ، ولم يكُن له كفواً أحد)) (¬3)، فالله تعالى يدرّ على عباده الأرزاق المطيع منهم والعاصي، والعصاة لا يزالون في محاربته وتكذيبه وتكذيب رسله والسعي في إطفاء دينه، والله تعالى حليم على ما يقولون وما يفعلون، يتتابعون في الشرور، وهو يتابع عليهم النعم، وصبره أكمل صبر لأنّه عن كمال قدرة، وكمال غنىً عن الخلق، وكمال رحمة وإحسان، فتبارك الربُّ الرحيم الذي ليس كمثله شيء، الذي يحب الصابرين ويعينهم في كل أمرهم (¬4). 85 - الرَّفيقُ مأخوذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((إن الله رفيق يحب ¬

_ (¬1) توضيح الحق المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص29 - 32، بتصرف يسير. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}، برقم 7378، ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لا أحد أصبر على أذى من الله - عز وجل -، برقم 2804. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب سورة الإخلاص، برقم 4974. (¬4) الحق الواضح المبين، ص57 - 58، بتصرف يسير.

الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه)) (¬1)، فالله تعالى رفيق في أفعاله، خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيئاً فشيئاً بحسب حكمته ورفقه، مع أنه قادر على خلقها دفعة واحدة وفي لحظة واحدة. ومن تدبّر المخلوقات، وتدبّر الشرائع كيف يأتي بها شيئاً بعد شيء شاهد من ذلك العجب العجيب، فالمتأني الذي يأتي الأمور برفق وسكينة ووقار، اتباعاً لسنن الله في الكون، واتّباعاً لنبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنّ هذا هديه وطريقه تتيسر له الأمور، وبالأخصّ الذي يحتاج إلى أمر الناس ونهيهم وإرشادهم، فإنه مضطر إلى الرفق واللين، وكذلك من آذاه الخلق بالأقوال البشعة وصان لسانه عن مشاتمتهم، ودافع عن نفسه برفق ولين، اندفع عنه من أذاهم ما لا يندفع بمقابلتهم بمثل مقالهم وفعالهم، ومع ذلك فقد كسب الراحة والطمأنينة والرزانة والحلم (¬2). والله - عز وجل - يغيث عباده إذا استغاثوا به سبحانه، فعن أنس بن مالك أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ... ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب ... ثم قال: يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل فادعُ الله يغيثنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 2593، وأخرج البخاري الجزء الأول منه في كتاب استتابة المرتدين، باب إذا عرَّض الذمي وغيره بسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 6927. (¬2) الحق الواضح المبين، ص63. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة، برقم 1014، ومسلم في كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، برقم 897.

86 - الحيي،

فالله - عز وجل - يغيث عباده في الشدائد والمشقات، فهو يغيث جميع المخلوقات عندما تتعسّر أمورها وتقع في الشدائد والكربات: يُطعم جائعهم، ويكسو عاريهم، ويخلص مكروبهم، ويُنزّل الغيث عليهم في وقت الضرورة والحاجة‍، وكذلك يُجيب إغاثة اللهفان، أي دعاء من دعاه في حالة اللهف والشدة والاضطرار، فمن استغاثه أغاثه. وفي الكتاب والسنة من ذكر تفريجه للكربات، وإزالته الشدائد، وتيسيره للعسير شيء كثير جداً معروف (¬1). 86 - الحَييُّ، 87 - السِّتِّيرُ هذا مأخوذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله حيي يستحي من عبده إذا مدَّ يديه إليه أن يردهما صفراً)) (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - حليمٌ، حييٌ ستِّيرٌ يُحبّ الحياءَ والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)) (¬3)، وهذا من رحمته، وكرمه، وكماله، وحلمه أن العبد يجاهره بالمعاصي مع فقره الشديد إليه، ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص67. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1488، والترمذي في كتاب الدعوات، باب 104، برقم 3556، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء، برقم 3865، وأحمد في المسند، 5/ 438، والحاكم في المستدرك، 1/ 497، وقال: ((إسناده صحيح على شرط الشيخين)). ووافقه الذهبي. وقال أبو عيسى الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب)). وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1757. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الحمّام، باب النهي عن التعري، برقم 4012، والنسائي في كتاب الغسل، باب الاستتار عند الاغتسال، برقم 404، وأحمد، 4/ 224، والبيهقي في سننه الكبرى، 1/ 198، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1756، وفي إرواء الغليل، برقم 2335.

حتى أنه لا يمكنه أن يعصي إلا أن يتقوى عليها بنعم ربه، والرب مع كمال غناه عن الخلق كلِّهم من كرمه يستحيي من هتكه وفضيحته وإحلال العقوبة به، فيستره بما يقيض له من أسباب الستر، ويعفو عنه ويغفر له، فهو يتحبب إلى عباده بالنعم وهم يتبغَّضون إليه بالمعاصي، خيره إليهم بعدد اللحظات [نازل]، وشرّهم إليه صاعد، ولا يزال الملك الكريم يصعد إليه منهم بالمعاصي وكل قبيح. ويستحي تعالى ممن شاب في الإسلام أن يعذبه، وممن يمدّ يديه إليه أن يردّهما صفراً، ويدعو عباده إلى دعائه ويعدهم بالإجابة، وهو الحيي السِّتِّير يحب أهل الحياء والستر، ومن ستر مسلماً ستر الله عليه في الدنيا والآخرة؛ ولهذا يكره من عبده إذا فعل معصية أن يذيعها، بل يتوب إليه فيما بينه وبينه ولا يظهرها للناس، وإن من أمقت الناس إليه من بات عاصياً والله يستره، فيصبح يكشف ستر الله عليه، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (¬1)، وهذا كله من معنى اسمه ((الحليم)) الذي وسع حلمه أهل الكفر والفسوق والعصيان، ومنع عقوبته أن تحلَّ بأهل الظلم عاجلاً، فهو يمهلهم ليتوبوا، ولا يهملهم إذا أصرّوا واستمروا في طُغيانهم ولم يُنيبوا (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 19. (¬2) الحق الواضح المبين، ص54 - 55.

88 - الإله

88 - الإلهُ اسم الإله: هو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فقد دخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى؛ ولهذا كان القول الصحيح أنَّ ((الله)) أصله ((الإله))، وأن اسم ((الله)) هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا، والله أعلم (¬1). قال الله تعالى: {إِنَّمَا الله إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلاً} (¬2). 89 - القابضُ، 90 - الباسِطُ، 91 - المُعطي قال الله تعالى: {وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله هو المُسعِّرُ، القابضُ، الباسطُ، الرَّازقُ .. )) (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، والله المعطي وأنا القاسم ... )) (¬5). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفَعُهُ، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص 54 - 55. (¬2) سورة النساء، الآية: 171. (¬3) سورة البقرة، الآية: 245. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع والإجارات، باب في التسعير، برقم 3451، والترمذي في كتاب البيوع، باب في التسعير، برقم 1314، وابن ماجه في كتاب التجارات، باب من كره أن يسعر، برقم 2200، وأحمد في المسند، 3/ 156، وصححه الترمذي. وكذا الألباني في صحيح الجامع، برقم 1846. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، برقم 71، ومسلم في كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم 1037/ 100.

عمل الليل ... )) (¬1) الحديث. وقال تعالى: {قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يرفعُ بهذا الكتاب أقواماً ويضَعُ به آخرين)) (¬3)، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقول بعد السلام من الصلاة حينما ينصرف إلى الناس: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمدُ وهو على كل شيءٍ قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ)) (¬4). هذه الصفات الكريمة من الأسماء المتقابلات التي لا ينبغي أن يُثنى على الله بها إلا كل واحد منها مع الآخر؛ لأن الكمال المطلق من اجتماع الوصفين، فهو القابض للأرزاق والأرواح والنفوس، والباسط للأرزاق والرحمة والقلوب، وهو الرافع لأقوام قائمين بالعلم والإيمان، الخافض لأعدائه، وهو المعزّ لأهل طاعته، وهذا عز حقيقي؛ فإن المطيع لله عزيز وإن كان فقيراً ليس له أعوان، المذلّ لأهل معصيته وأعدائه ذلاًّ في الدنيا والآخرة. فالعاصي وإن ظهر بمظاهر العز فقلبه حشوه الذلّ وإنْ لم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله - عليه السلام -: ((إن الله لا ينام))، برقم 179. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 26. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، برقم 817، وابن ماجه في المقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه، برقم 218، والدارمي في كتاب فضائل القرآن، باب إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع آخرين، برقم 3368. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، برقم 844، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 593.

92 - المقدم،

يشعر به لانغماسه في الشهوات؛ فإنّ العزّ كلّ العزّ بطاعة الله، والذلّ بمعصيته: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (¬1)، {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلله الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬2)، {وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬3). وهو تعالى المانع المعطي فلا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، وهذه الأمور كلها تبع لعدله وحكمته وحمده؛ فإنّ له الحكمة في خفض من يخفضه ويذلّه ويحرمه، ولا حجّة لأحد على الله، كما له الفضل المحض على من رفعه وأعطاه وبسط له الخيرات، فعلى العبد أن يعترف بحكمة الله، كما عليه أن يعترف بفضله ويشكره بلسانه وجنانه وأركانه. وكما أنه هو المنفرد بهذه الأمور وكلها جارية تحت أقداره، فإن الله جعل لرفعه وعطائه وإكرامه أسباباً، ولضد ذلك أسباباً من قام بها ترتبت عليه مسبباتها، وكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسّرون لعمل أهل الشقاوة، وهذا يُوجب للعبد القيام بتوحيد الله، والاعتماد على ربِّه في حصول ما يحبّ، ويجتهد في فعل الأسباب النافعة فإنها محلّ حكمة الله (¬4). 92 - المُقَدِّمُ، 93 - المُؤَخِّرُ كان من آخر ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - بين التشهد والتسليم: ((اللهم اغفر لي ما قدّمت، وما أخَّرت، وما أسررتُ، وما أعلنتُ، وما أسرفت، وما أنت ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 18. (¬2) سورة فاطر، الآية: 10. (¬3) سورة المنافقون، الآية: 8. (¬4) الحق الواضح المبين، ص89 - 90.

أعلمُ به مني. أنتَ المقدِّمُ، وأنت المؤخِّرُ. لا إله إلا أنت)) (¬1). المقدِّمُ والمؤخِّر هما كما تقدم من الأسماء المزدوجة المتقابلة التي لا يطلق واحد بمفرده على الله إلا مقروناً بالآخر؛ فإن الكمال من اجتماعهما، فهو تعالى المقدّم لمن شاء والمؤخّر لمن شاء بحكمته. وهذا التقديم يكون كونياً كتقديم بعض المخلوقات على بعض، وتأخير بعضها على بعض، وكتقديم الأسباب على مسبباتها، والشروط على مشروطاتها. وأنواع التقديم والتأخير في الخلق والتقدير بحر لا ساحل له، ويكون شرعياً كما فضّل الأنبياء على الخلق، وفضّل بعضهم على بعض، وفضّل بعض عباده على بعض، وقدّمهم في العلم، والإيمان، والعمل، والأخلاق، وسائر الأوصاف، وأخّر من أخّر منهم بشيء من ذلك، وكل هذا تبع لحكمته. وهذان الوصفان وما أشبههما من الصفات الذاتية لكونهما قائمين بالله والله متصف بهما، ومن صفات الأفعال؛ لأن التقديم والتأخير متعلق بالمخلوقات ذواتها، وأفعالها، ومعانيها، وأوصافها، وهي ناشئة عن إرادة الله وقدرته. فهذا هو التقسيم الصحيح لصفات الباري، وإنّ صفات الذات ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 771، وأخرجه بنحوه البخاري في كتاب الدعوات، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت))، برقم 6398، وليس فيه: ((بين التشهد والتسليم)).

94 - المبين

متعلقة بالذات، وصفات أفعاله متصفة بها الذات، ومتعلقة بما ينشأ عنها من الأقوال والأفعال (¬1). قال الله - عز وجل -: {(وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (¬2)، وقال الله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬3). وصفة الضر والنفع هما كما تقدم من الأسماء المزدوجة المتقابلة، فالله تعالى النافع لمن شاء من عباده بالمنافع الدينية والدنيوية، الضار لمن فعل الأسباب التي توجب ذلك، وكل هذا تبع لحكمته وسننه الكونية وللأسباب التي جعلها موصلة إلى مسبباتها، فإن الله تعالى جعل مقاصد للخلق وأموراً محبوبة في الدين والدنيا، وجعل لها أسباباً وطرقاً، وأمر بسلوكها ويسّرها لعباده غاية التيسير، فمن سلكها أوصلته إلى المقصود النافع، ومن تركها أو ترك بعضها، أو فوَّت كماله أو أتاها على وجه ناقص ففاته الكمال المطلوب، فلا يلومنّ إلا نفسه، وليس له حجة على الله؛ فإن الله أعطاه السمع، والبصر، والفؤاد، والقوة، والقدرة، وهداه النجدين، وبين له الأسباب، والمسببات، ولم يمنعه طريقاً يوصل إلى خير ديني ولا دنيوي، فتخلّفه عن هذه الأمور يوجب أن يكون هو الملوم عليها المذموم على تركها. ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين، ص100. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 17. (¬3) سورة الفتح، الآية: 11.

واعلم أن صفات الأفعال كلها متعلقة وصادرة عن هذه الصفات الثلاث: القدرة الكاملة، والمشيئة النافذة، والحكمة الشاملة التامة، وهي كلها قائمة بالله، والله متصف بها، وآثارها ومقتضياتها جميع ما يصدر عنها في الكون كله من التقديم والتأخير، والنفع والضر، والعطاء والحرمان، والخفض والرفع، لا فرق بين محسوسها ومعقولها، ولا بين دينها ودنيويها. فهذا معنى كونها أوصاف أفعال لا كما ظنه أهل الكلام الباطل (¬1). 94 - المُبينُ المُبينُ: اسم الفاعل من أبان يُبينُ فهو مُبين، إذا أظهر وبَيَّن إما قولاً، وإما فعلاً. والبيِّنة هي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، والبيان هو الكشف عن الشيء ... وسمّي الكلام بياناً لكشفه عن المقصود وإظهاره، نحو: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ}. فالله - عز وجل - هو الُمبيّن لعباده سبيل الرشاد، والموضِّح لهم الأعمال التي يستحقون الثواب على فعلها، والأعمال التي يستحقون العقاب عليها، وبيّن لهم ما يأتون، وما يذرون، يقال: أبان الرجل في كلامه ومنطقه فهو مُبينٌ والبيان: الكلام، ويقال: بان الكلامُ وأبان بمعنىً واحد، فهو: مُبيِّنٌ ومُبينٌ (¬2)، وقد سمى الله نفسه بالمبين: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الْحَقَّ ¬

_ (¬1) توضيح الكافية الشافية للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص131 - 132. (¬2) انظر مفردات القرآن للراغب الأصفهاني، ص68و69، واشتقاق الأسماء للزجاجي، ص180.

وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (¬1). وهو سبحانه الذي بيّن لعباده طرق الهداية وحذّرهم، وبين لهم طرق الضلال، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب ليبين لهم، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} (¬2)، وهذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب من بعدما بينه الله تعالى في كتبه التي أنزلها على رسله عليهم الصلاة والسلام. وقال - عز وجل -: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬3)، {كَذَلِكَ يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (¬4)، {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬5)، وقال - عز وجل -: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 25. (¬2) سورة البقرة، الآية: 195. (¬3) سورة البقرة، الآية: 118. (¬4) سورة البقرة، الآية: 266. (¬5) سورة النساء، الآية: 26. (¬6) سورة المائدة، الآيتان: 15 - 16.

95 - المنان

ويقول - عز وجل -: {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬1). {وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيَاتِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2)، والله - عز وجل - يُبيِّن للناس الأحكام الشرعية ويوضّحها، ويُبيِّن الحكم القدرية، وهو عليم بما يصلح عباده، حكيم في شرعه وقدره (¬3)، فله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة. وقال - عز وجل -: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬4)، وقال: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬5)، يخبر الله عن نفسه الكريمة وحكمه العادل أنه لا يضل قوماً إلا بعد إبلاغ الرسالة إليهم حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة (¬6). 95 - المنَّانُ المنّان من أسماء الله الحسنى التي سماه بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول: ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [وحدك لا شريك لك] المنّان، [يا] بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حيُّ يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سُئل ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 75. (¬2) سورة النور، الآية: 18. (¬3) تفسير ابن كثير، 3/ 274. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 103. (¬5) سورة التوبة، الآية: 115. (¬6) تفسير ابن كثير، 2/ 396.

به أعطى، وإذا دُعي به أجاب)) (¬1). قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: ((المنّان)) هو المنعم المعطي من المنِّ: العطاء، لا من المنة. وكثيراً ما يرد المنّ في كلامهم: بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه، فالمنّان من أبنية المبالغة ... كالوهاب (¬2). ومنه الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنه ليس من الناس أحدٌ أمنَّ عليَّ في نفسه وما له من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خُلَّةُ الإسلام أفضل)) (¬3)، ومعنى ((إن من أمنّ الناس)) أكثرهم جوداً لنا بنفسه، وماله، وليس هو من المنّ الذي هو الاعتداد بالصنيعة)) (¬4). والله - عز وجل - هو المنَّان: من المن العطاء، والمنّان: هو عظيم المواهب؛ فإنه أعطى الحياة، والعقل، والنطق، وصوّر فأحسن، وأنعم فأجزل، وأسنى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1493 - 1495، والترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في جامع الدعوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3475، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، برقم 3857، 3858، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب)). وانظر: صحيح النسائي للألباني، 1/ 279، وصحيح ابن ماجه، 2/ 329، وصفة الصلاة للألباني، ص204. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، 4/ 365. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد، برقم 467، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، برقم 2382. (¬4) فتح الباري، 1/ 558.

النعم، وأكثر العطايا والمنح)) (¬1)، قال وقوله الحق: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (¬2). ومن أعظم النعم، بل أصل النعم التي امتن الله بها على عباده الامتنان عليهم بهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أنقذهم الله به من الضلال، وعصمهم به من الهلاك (¬3). قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬4). فالله - عز وجل - هو الذي منّ على عباده: بالخلق، والرزق، والصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان، وأسبغ عليهم النعم الظاهرة والباطنة، ومن أعظم المنن وأكملها وأنفعها - بل أصل النعم - الهداية للإسلام ومنته بالإيمان، وهذا أفضل من كل شيء (¬5). ومعنى ((لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)) أي تفضّل على المؤمنين المصدقين والمنان: المتفضل)) (¬6). والمنة: النعمة العظيمة. قال الأصفهاني: المنة: النعمة الثقيلة، وهي على نوعين: ¬

_ (¬1) الأسماء والصفات للبيهقي، 1/ 120. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 34. (¬3) تفسير العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، 1/ 449. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 164. (¬5) انظر تفسير السعدي، 7/ 142. (¬6) الأسماء والصفات للبيهقي، 1/ 49.

النوع الأول: أن تكون هذه المنَّة بالفعل فيقال: منَّ فلانٌ على فلان إذا أثقله بالنعمة، وعلى ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ} (¬1)، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬2)، وقال - عز وجل -: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} (¬3)، {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} (¬4)، {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (¬5)، {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (¬6)، {وَلَكِنَّ الله يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (¬7). وهذا كله على الحقيقة لا يكون إلا من الله تعالى، فهو الذي منّ على عباده بهذه النعم العظيمة، فله الحمد حتى يرضى، وله الحمد بعد رضاه، وله الحمد في الأولى والآخرة. النوع الثاني: أن يكون المنّ بالقول. وذلك مستقبح فيما بين الناس، ولقبح ذلك قيل: المنة تهدم الصنيعة، قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬8)، فالمنَّة من الله عليهم بالفعل وهو هدايتهم ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 164. (¬2) سورة النساء، الآية: 94. (¬3) سورة الصافات، الآية: 114. (¬4) سورة طه، الآية: 37. (¬5) سورة القصص، الآية: 5. (¬6) سورة الطور، الآية: 27. (¬7) سورة إبراهيم، الآية: 11. (¬8) سورة الحجرات، الآية: 17.

للإسلام (¬1)، والمنَّة منهم بالقول المذموم، وقد ذم الله في كتابه ونهى عن المنّ المذموم: وهو المنَّة بالقول فقال: {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (¬2)، قال ابن كثير: ((لا تمنن بعملك على ربك تستكثره)) (¬3)، وقيل غير ذلك. وقال الله - عز وجل -: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَالله غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬4). وقد ذمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنَّ بالعطية، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم))، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات. قال أبو ذرٍّ: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: ((المُسبلُ، والمنانُ، والمنفق سلعته بالحلِفِ الكاذب)) (¬5). هذا هو المنّ المذموم، أما المنّ بمعنى العطاء، والإحسان، والجود، ¬

_ (¬1) مفردات غريب القرآن للأصفهاني، ص474. (¬2) سورة المدثر، الآية: 6. (¬3) تفسير ابن كثير، 4/ 242. (¬4) سورة البقرة، الآيات: 262 - 264. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية، برقم 106.

96 - الولي

فهو المحمود. والخلاصة: أنّ الله تبارك وتعالى هو المنّان الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو عظيم المواهب، أعطى الحياة، والعقل، والنطق، وصوّر فأحسن، وأنعم فأجزل، وأكثر العطايا، والمنح، وأنقذ عباده المؤمنين، ومنّ عليهم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بمنّه وفضله، ومنّ على عباده أجمعين: بالخلق، والرزق، والصحة، والأمن لعباده المؤمنين. وأسبغ على عباده النعم مع كثرة معاصيهم وذنوبهم. فاللهمّ منَّ علينا بنعمة الإيمان، واحفظنا وأجزل لنا من كل خير، واصرف عنا كل شرّ، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، يا كريم يا منّان، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. 96 - الوليُّ الولي: يطلق على كل من وَلي أمراً أو قام به، والنصير، والمُحبّ، والصديق، والحليف، والصهر، والجار، والتابع، والمُعتِق، والمُطيع، يُقال: المؤمنُ وليُّ الله، والمطر يسقط بعد المطر، والولي ضد العدو، والناصر والمتولي لأمور العالم والخلائق، ويقال للقيِّم على اليتيم: الوَلي، وللأمير الوالي (¬1). ¬

_ (¬1) انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، 5/ 227، والمعجم الوسيط، ص1058، والقاموس المحيط، ص1732، والمصباح المنير، ص672، ومختار الصحاح، ص306.

قال الراغب الأصفهاني: الولاءُ والتَّوالي يطلق على القرب من حيث المكان، ومن حيث النسب، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة، ومن حيث النُّصرة، ومن حيث الاعتقاد، والولاية النصرة، والولاية تولِّي الأمر ... والوليُّ والموْلى يستعملان في ذلك كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي المُوالِي، وفي معنى المفعول أي المُوالَى، يقال للمؤمن: هو وليُّ الله، ويقال الله وليُّ المؤمنين (¬1). وولاية الله - عز وجل - ليست كغيرها: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬2). فهو سبحانه الولي الذي تولّى أمور العالم والخلائق، وهو مالك التدبير، وهو الوليّ الذي صرف لخلقه ما ينفعهم في دينهم وأخراهم)) (¬3). وقد سمّى الله تعالى نفسه بهذا الاسم، فهو من الأسماء الحسنى، قال الله - عز وجل -: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَالله هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (¬5). فالله - عز وجل - هو الولي الذي يتولاه عبده بعبادته وطاعته والتقرب إليه بما أمكن من القُربات، وهو الذي يتولى عباده عموماً بتدبيرهم، ونفوذ ¬

_ (¬1) مفردات الراغب الأصفهاني، ص533. (¬2) سورة الشورى، الآية: 11. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 116، و1/ 277، وتفسير العلامة السعدي، 6/ 617، و6/ 595. (¬4) سورة الشورى، الآية: 9. (¬5) سورة الشورى، الآية: 28.

القدر فيهم، ويتولّى عباده بأنواع التدبير. ويتولى عباده المؤمنين خصوصاً بإخراجهم من الظلمات إلى النور، ويتولّى تربيتهم بلطفه، ويعينهم في جميع أمورهم وينصرهم، ويؤيّدهم بتوفيقه، ويسدّدهم، قال الله - عز وجل -: {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالله وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (¬2). فالله - عز وجل - هو نصير المؤمنين وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه، ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان .. وإنما جعل الظلمات للكفر مثلاً؛ لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجب لأبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان، والعلم بصحته وصحة أسبابه، فأخبر - عز وجل - عباده أنه وليّ المؤمنين، ومُبَصِّرُهم حقيقة الإيمان، وسبله، وشرائعه، وحججه، وهاديهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتر أبصار القلوب (¬3). والخلاصة: أن الله تعالى أخبر أن الذين آمنوا بالله ورسله، وصدقوا إيمانهم بالقيام بواجبات الإيمان، وتَرْك كل ما ينافيه، أنه وليّهم، يتولاّهم بولايته الخاصة، ويتولّى تربيتهم فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 257. (¬2) سورة الجاثية، الآية: 19. (¬3) تفسير الطبري ببعض التصرف، 3/ 14.

والمعاصي، والغفلة، والإعراض، إلى نور العلم، واليقين، والإيمان والطاعة، والإقبال الكامل على ربهم، وينوِّر قلوبهم بما يقذف فيها من نور الوحي والإيمان، وييسّرهم لليُسرى، ويجنّبهم العُسرى، ويجلب لهم المنافع، ويدفع عنهم المضارّ، فهو يتولّى الصالحين: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (¬1) الذين صلحت نياتهم، وأقوالهم، فهم لمَّا تولَّوا ربهم بالإيمان والتقوى، ولم يتولَّوا غيره ممن لا ينفع ولا يضر، تولاّهم الله ولطف بهم، وأعانهم على ما فيه، الخير، والمصلحة في دينهم ودنياهم ودفع عنهم بإيمانهم كل مكروه (¬2)،كما قال - عز وجل -: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬3). وأما الذين كفروا، فإنهم لما تولَّوا غير وليّهم، ولاّهم الله ما تولَّوا لأنفسهم، وخذلهم ووكلهم إلى رعاية من تولاهم ممن ليس عنده نفع ولا ضر، فأضلّوهم، وأشقوهم، وحرموهم هداية العلم النافع، والعمل الصالح، وحرموهم السعادة الأبدية وصارت النار مثواهم خالدين فيها مخلّدين: اللهم تولّنا فيمن تولّيت (¬4). والله - عز وجل - يحب أولياءه وينصرهم ويسدّدهم، والوليّ لله هو العالم بالله، ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 196. (¬2) تفسير العلامة السعدي ببعض التصرف، 1/ 318، و 3/ 132، وانظر: تفسير ابن كثير، 1/ 312. (¬3) سورة الحج، الآية: 38. (¬4) تفسير العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، 1/ 318، وانظر: تفسير ابن كثير، 1/ 312، والأسماء والصفات للبيهقي، 1/ 123، تحقيق عماد الدين أحمد.

97 - المولى

المواظب على طاعته، المخلص في عبادته، المبتعد عن معصية الله. ومن عادى هذا الوليَّ لله فالله - عز وجل - يعلمه بالحرب، قال - صلى الله عليه وسلم -: فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: ((إن الله يقول: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن أستعاذني لأعيذنّه، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته)) (¬1). والمعنى أنه إذا كان ولياً لله - عز وجل - فالله يحفظه ويسدّده، ويوفّقه حتى لا يسمع إلاّ إلى ما يرضي مولاه، ولا ينظر إلاّ إلى ما يحبه مولاه، ولا تبطش يداه إلاّ فيما يرضي الله، ولا تمشي قدماه إلاّ إلى الطاعات، فهو مُوفَّق مُسدّد مُهتدٍ مُلْهَم من المولى وهو الله - عز وجل -، ولهذا فسّر هذا الحديث بهذا أهل العلم كابن تيمية وغيره؛ ولأنه جاء في رواية الحديث رواية أخرى: ((فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش وبي .. يمشي)) (¬2)، هذا يدل على نصرة الله لعبده، وتأييده، وإعانته، فيوفقه الله للأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله - عز وجل - (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم 6502. (¬2) فتح الباري، 11/ 344. (¬3) فتح الباري، 11/ 344.

97 - المَوْلَى ((المولى)) اسم يقع على جماعة كثيرة، فهو: الربُّ، والمالكُ، والسَّيدُ، والمُنعمُ، والمُعتِقُ، والناصرُ، والمُحبُّ، والتابعُ، والجارُ، وابنُ العم، والحليفُ، والصِّهرُ، والعبدُ، والمنعمُ عليه، وأكثرها قد جاء في الحديث، فيضاف كل واحدٍ إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه، وكل من ولي أمراً أو قام به فهو مولاهُ، ووَليُّهُ، وقد تختلف مصادر هذه الأسماء: فالوَلايةُ - بالفتح - في النسب، والنصرة والمُعتِق. والوِلاية - بالكسر- في الإمارة، والوَلاءُ المُعتق، والموالا من والى القوم (¬1). والله - عز وجل - هو المولى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬2)، فهو المولى، والربُّ، الملكُ، السيدُ، وهو المأمول منه النصر والمعونة؛ لأنه هو المالك لكل شيء، وهو الذي سمى نفسه - عز وجل - بهذا الاسم، فقال - سبحانه وتعالى -: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِالله هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬3). وقال الله - سبحانه وتعالى -: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬4)، وقال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (¬5). ¬

_ (¬1) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، 5/ 228، وانظر: القاموس المحيط، ص1782، والمعجم الوسيط، ص1058، والمصباح المنير، 2/ 672. (¬2) سورة الشورى، الآية: 11. (¬3) سورة الحج، الآية: 78. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 40. (¬5) سورة محمد، الآية: 11.

98 - النصير

والله - سبحانه وتعالى - هو مولى الذين آمنوا، وهو سيدهم وناصرهم على أعدائهم، فنعم المولى ونعم النصير (¬1)، فالله - عز وجل - هو الذي يتولّى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم مصالحهم، وييسّر لهم منافعهم الدينية والدنيوية ((وَنِعْمَ النَّصِيرُ)) الذي ينصرهم، ويدفع عنهم كيد الفجار وتكالب الأشرار، ومن كان الله مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومن كان الله عليه فلا عِزّ له ولا قائمة تقوم له (¬2). فالله سبحانه هو مولى المؤمنين فيدبرهم بحسن تدبيره فنعم المولى لمن تولاّه فحصل له مطلوبه، ونعم النصير لمن استنصره فدفع عنه المكروه))، وقال الله - عز وجل -: {بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} (¬3)، ومن دعاء المؤمنين لربهم تبارك وتعالى ما أخبر الله عنهم بقوله: {أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬4)، أي أنت ولينا وناصرنا وعليك توكَّلْنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك (¬5). وقال - عز وجل -: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬6). وقال: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَالله مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬7). ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير، 4/ 310. (¬2) انظر تفسير العلامة السعدي، 3/ 168، و5/ 331، وتفسير ابن كثير، 4/ 310، و2/ 238، و1/ 344. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 150. (¬4) سورة البقرة، الآية: 286. (¬5) تفسير ابن كثير، 1/ 344. (¬6) سورة التحريم، الآية: 4. (¬7) سورة التحريم، الآية: 2.

وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة حينما قال لهم أبو سفيان لنا العُزى ولا عُزى لكم فقال: ((قولوا الله مولانا ولا مولى لكم)) (¬1). 98 - النَّصِيرُ النصير: فعيل بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصرٌ ومنصورٌ وقد نصره ينصره نصراً إذا أعانه على عدوه وشدّ منه (¬2). والنصير هو الموثوق منه بأن لا يسلم وليه ولا يخذله (¬3). والله - عز وجل - النصير، ونصره ليس كنصر المخلوق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬4)، وقد سمى نفسه تبارك وتعالى باسم النصير فقال: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (¬5)، وقال تعالى: {وَالله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِالله وَلِيًّا وَكَفَى بِالله نَصِيرًا} (¬6)، وقال - عز وجل -: {وَاعْتَصِمُوا بِالله هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬7)، وقال سبحانه: {فَاعْلَمُواْ أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬8). والله - عز وجل - هو النصير الذي ينصر عباده المؤمنين ويعينهم كما قال - عز وجل -: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه، برقم 3039، وفي كتاب المغازي، باب غزوة أحد، برقم 4043. (¬2) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 5/ 64. (¬3) الأسماء والصفات للبيهقي، بتحقيق الشيخ عماد الدين أحمد، 1/ 127 - 128. (¬4) سورة الشورى، الآية: 11. (¬5) سورة الفرقان، الآية: 31. (¬6) سورة النساء، الآية: 45. (¬7) سورة الحج، الآية: 78. (¬8) سورة الأنفال، الآية:40.

{إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬1). وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬2)، وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (¬3)، وقال جلَّ وعلا: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (¬4)، وقال سبحانه: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬5)، وقال - عز وجل -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬6)، وقال تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (¬7). ونُصرةُ الله للعبد ظاهرة من هذه الآيات وغيرها، فهو ينصر من ينصره، ويعينه ويسدّده. أما نُصْرَة العبد لله فهي: أن ينصر عباد الله المؤمنين والقيام بحقوق الله - عز وجل -، ورعاية عهوده، واعتناق أحكامه، والابتعاد عما حرّم الله عليه، فهذا من نصرة العبد لربه، كما قال - عز وجل -: {إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ} وقال: {كُونُوا أَنصَارَ الله} (¬8)، وقال: {وَأَنزَلْنَا ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 160. (¬2) سورة محمد، الآية: 7. (¬3) سورة غافر، الآية: 51. (¬4) سورة الروم، الآيتان: 4 - 5. (¬5) سورة الحج، الآية: 40. (¬6) سورة الروم، الآية: 47. (¬7) سورة الحج، الآية: 15. (¬8) سورة الصف، الآية:14.

الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬1)، ومن نصر الله بطاعته والابتعاد عن معصيته نصره الله نصراً مؤزّراً (¬2). والله - عز وجل -: ينصر عباده المؤمنين على أعدائهم، ويبين لهم ما يحذرون منهم، ويعينهم عليهم، فولايته تعالى فيها حصول الخير، ونصره فيه زوال الشر (¬3). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا غزا: ((اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أجُول وبك أصول، وبك أقاتل)) (¬4). والله - عز وجل - ينصر عباده المؤمنين في قديم الدهر وحديثه في الدنيا، ويُقرُّ أعينهم ممن آذاهم، ففي صحيح البخاري يقول الله تبارك وتعالى: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) (¬5)؛ ولهذا أهلك الله قوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الرس، وقوم لوط، وأهل مدين، وأشباههم ممن كذَّب الرسل وخالف الحق، وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين، فلم يهلك منهم أحداً، وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً. ¬

_ (¬1) سورة الحديد، الآية: 25. (¬2) انظر مفردات الأصفهاني، ص495. (¬3) تفسير السعدي، 2/ 76. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب ما يدعى عند اللقاء، برقم 2623، والترمذي في كتاب الدعوات، باب في الدعاء إذا غزا، برقم 3584، وقال: ((هذا حديث حسن غريب)). وانظر: صحيح الترمذي، 3/ 183. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم 6502.

وهكذا نصر الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على من خالفه وكذبه، وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان ... ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وانتشر دين الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها (¬1). وقد وعد الله من ينصره بالنصر والتأييد، فمن نصر الله بالقيام بدينه والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، وقصد بذلك وجه الله، نصره الله وأعانه وقوّاه، والله وعده وهو الكريم، وهو أصدق قيلاً، وأحسن حديثاً، فقد وعد أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسّر له أسباب النصر من الثبات وغيره (¬2).وقد بيّن الله - عز وجل - علامة من ينصر الله فمن ادّعى أنّه ينصر الله وينصر دينه، ولم يتصف بهذا الوصف، فهو كاذب. قال - عز وجل -: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (¬3)،فهذه علامة من ينصر الله وينصره الله (¬4). وقد أمر الله عباده المؤمنين بنصره - عز وجل - فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ الله}، ومن نصرِ دين الله تعلُّم كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬5). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، 4/ 84. (¬2) تفسير العلامة السعدي، 6/ 66. (¬3) سورة الحج، الآيتان: 40 - 41. (¬4) انظر: تفسير السعدي، 5/ 302. (¬5) المرجع السابق، 7/ 374.

99 - الشافي

99 - الشَّافِي الشفاء في اللغة هو البرء من المرض. يقال: شفاه الله يشفيه، واشتفى افتعل منه، فنقله من شفاء الأجسام إلى شفاء القلوب والنفوس (¬1). والله - سبحانه وتعالى - هو الشافي، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعوِّذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: ((اللهم ربّ الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)) (¬2). وقال أنس - رضي الله عنه - لثابت البناني حينما اشتكى إليه: ألا أرقيك برقية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بلى. قال: ((اللهم ربّ الناس، مذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يُغادِرُ سَقماً)) (¬3). فالله - عز وجل - هو الشافي من الأمراض والعلل والشكوك، وشفاؤه شفاءان أو نوعان: النوع الأول: الشفاء المعنوي الروحي، وهو الشفاء من علل القلوب. النوع الثاني: الشفاء المادي، وهو الشفاء من علل الأبدان. وقد ذكر الله - عز وجل - هذين النوعين في كتابه، وبيّن ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) (¬4). ¬

_ (¬1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 2/ 488، وانظر: مختار الصحاح، ص144. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 5743، ومسلم في كتاب السلام، باب استحباب رقية المريض، برقم 2191. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 5742. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم 5678.

النوع الأول: شفاء القلوب والأرواح

النوع الأول: شفاء القلوب والأرواح. قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (¬1). والموعظة: هي ما جاء في القرآن الكريم من الزواجر عن الفواحش، والإنذار عن الأعمال الموجبة لسخط الله - عز وجل - المقتضية لعقابه، والموعظة هي الأمر والنهي بأسلوب الترغيب والترهيب، وفي هذا القرآن الكريم شفاءٌ لما في الصدور من أمراض الشُّبَهِ، والشكوك، والشهوات، وإزالة ما فيها من رجسٍ ودنسٍ. فالقرآن الكريم فيه الترغيب والترهيب، والوعد، والوعيد، وهذا يوجب للعبد الرغبة والرهبة، وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة عن الشرّ، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحبّ إلى العبد من شهوة نفسه. وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرّفها الله غاية التصريف، وبينها أحسن بيان مما يزيل الشُّبَهَ القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين. وإذا صلح القلب من مرضه تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده. وهذا القرآن هدى ورحمة للمؤمنين. وإنما هذه الهداية والرحمة للمؤمنين المصدقين كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 57.

لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (¬1)، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (¬2)، فالهدى هو العلم بالحقّ، والعمل به، والرحمة ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل، لمن اهتدى بهذا القرآن العظيم. فالهدى أجلُّ الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يهتدى به، ولا يكون رحمة إلا في حقّ المؤمنين، وإذا حصل الهدى، وحصلت الرحمة الناشئة عن الهدى حصلت السعادة، والربح، والنجاح، والفرح والسرور؛ ولذلك أمر الله بالفرح بذلك فقال: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬3). والقرآن مشتملٌ على الشفاء والرحمة، وليس ذلك لكل أحد، وإنما ذلك كله للمؤمنين به، المصدقين بآياته، العاملين به. أما الظالمون بعدم التصديق به، أو عدم العمل به، فلا تزيدهم آياته إلا خساراً، إذ به تقوم عليهم الحجة. والشفاء الذي تضمنه القرآن شفاء القلوب ... وشفاء الأبدان من آلامها وأسقامها. فالله - عز وجل - يهدي المؤمنين: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} يهديهم ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 82. (¬2) سورة فصلت، الآية: 44. (¬3) سورة يونس، الآية: 58.

لطريق الرشد، والصراط المستقيم، ويعلمهم من العلوم النافعة ما به تحصل الهداية التامة. ويشفيهم الله تبارك وتعالى بهذا القرآن من الأسقام البدنية، والأسقام القلبية؛ لأن هذا القرآن يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال، ويحث على التوبة النصوح التي تغسل الذنوب، وتشفي القلوب. وأما الذين لا يؤمنون بالقرآن ففي آذانهم صَمَمٌ عن استماعه، وإعراض، وهو عليهم عمىً، فلا يبصرون به رشداً ولا يهتدون به، ولا يزيدهم إلا ضلالاً. وهم يُدعون إلى الإيمان فلا يستجيبون، وهم بمنزلة الذي يُنادى وهو في مكان بعيد لا يسمع داعياً، ولا يجيب منادياً، والمقصود: أن الذين لا يؤمنون بالقرآن، لا ينتفعون بهداه، ولا يبصرون بنوره، ولا يستفيدون منه خيراً؛ لأنهم سدّوا على أنفسهم أبواب الهدى بإعراضهم وكفرهم (¬1). ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان، وفي كل بيئة، فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فينشئها إنشاءً، ويحييها إحياءً، ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها، وفيما حولها، وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم، ولا يزيدهم إلا صمماً وعمىً، وقلوبهم مطموسة لا تستفيد من هذا القرآن. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 3/ 363، و4/ 309، و6/ 584، وتفسير ابن كثير، 2/ 422، و3/ 60، و4/ 104، وتفسير الجزائري أبو بكر، 2/ 286.

النوع الثاني شفاء الله للأجساد والأبدان:

وما تَغَيَّرَ القرآنُ، ولكن تغيرت القلوب (¬1). والله - عز وجل - يشفي صدور المؤمنين بنصرهم على أعدائهم وأعدائه، قال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ الله عَلَى مَن يَشَاءُ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2). فإن في قلوب المؤمنين الحنق والغيظ عليهم، فيكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغمِّ، والهمِّ؛ إذ يرون هؤلاء الأعداء محاربين لله ولرسوله، ساعين في إطفاء نور الله، فيزيل الله ما في قلوبهم من ذلك، وهذا يدل على محبة الله للمؤمنين، واعتنائه بأحوالهم (¬3). النوع الثاني شفاء الله للأجساد والأبدان: والقرآن كما أنه شفاء للأرواح والقلوب فهو شفاء لعلل الأبدان كما تقدم؛ فإن فيه شفاء الأرواح والأبدان. فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنّ ناساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا على حي من أحياء العرب، فلم يُقْرُوهم، فبينما هم كذلك إذ لُدِغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راقٍ؟ فقالوا إنكم لم تُقْرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الشاء فجعل يقرأُ بأم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ، فأتوا بالشاء فقالوا: لا نأخذ حتى نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه، فضحك وقال: ((وما أدراك ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن، 5/ 3128. (¬2) سورة التوبة، الآيتان: 14 - 15. (¬3) تفسير العلامة السعدي رحمه الله، 3/ 206.

أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم)) (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها)) (¬2). والمعوذات هي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. قال ابن القيم رحمه الله: ((ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة، فما الظنُّ بكلام رب العالمين الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام والعصمة النافعة، والنور الهادي والرحمة العامة، الذي لو أُنزِلَ على جبل لتصدع من عظمته وجلالته، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (¬3)، ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا هو أصحُّ القولين)) (¬4). وعلى هذا فالقرآن فيه شفاءٌ لأرواح المؤمنين، وشفاء لأجسادهم. والله - عز وجل - هو الشافي من أمراض الأجساد، وعلل الأبدان، قال - عز وجل -: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الرقى بفاتحة الكتاب، برقم 5736، ومسلم في السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، برقم 2201. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الرقى بالقرآن والمعوذات، برقم 5735، ومسلم في كتاب السلام، باب رقية المريض بالمعوذات والنفث، برقم 2192. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 82. (¬4) زاد المعاد لابن القيم، 4/ 177.

يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}: ما بين أبيض، وأصفر، وأحمر، وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها، وقوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}، أي في العسل شفاء للناس من أدواء تعرض لهم. قال بعض من تكلم على الطب النبوي لو قال: فيه الشفاء لكان دواء لكل داء، ولكن قال فيه شفاء للناس، أي يصلح لكل أحدٍ من أدواءٍ باردة؛ فإنه حارٌ، والشيء يُداوى بضده ... والدليل على أن المراد بقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} هو العسل، ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخي استطلق بطنه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اسقه عسلاً)) فسقاه، ثم جاءه فقال: إني سقيتُهُ فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال له ثلاث مرات، ثم جاءه الرابعة فقال: ((اسقه عسلاً))،فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صدق الله وكذب بطن أخيك)) فسقاه فَبَرأَ (¬2). قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلاً وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالاً فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه، فازداد، ثم سقاه ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآيتان: 68 - 69. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، برقم 5684، ومسلم في كتاب السلام، باب التداوي بسقي العسل، برقم 2217.

فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه، وصلح مزاجه، واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته عليه الصلاة والسلام (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((الشفاء في ثلاث: شربةِ عسلٍ، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي)) (¬2) رفع الحديث. والله - عز وجل - هو الذي هدى النحلة الصغيرة هذه الهداية العجيبة، ويسّر لها المراعي ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها وهدايته لها، ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة، فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى وتمام لطفه بعباده، وأنه الذي ينبغي أن لا يُحُب ولا يُدعى سواه (¬3). وأخبر الله - عز وجل - عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (¬4). قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}: أسند إبراهيم عليه الصلاة والسلام المرض إلى نفسه، وإن كان ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، 2/ 576. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاث، برقم 5680، موقوفاً. ورقم 5681 مرفوعاً. (¬3) تفسير العلامة السعدي، 4/ 218. (¬4) سورة الشعراء، الآيات: 78 - 80.

عن قدر الله وقضائه، وخلقه، ولكنه أضافه إلى نفسه أدباً. ومعنى ذلك: إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يُقدِّر تبارك وتعالى من الأسباب الموصلة إلى الشفاء (¬1). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرشد الأمة إلى طلب الشفاء من الله الشافي الذي لا شفاء إلا شفاءه، ومن ذلك ما رواه مسلم وغيره عن عثمان بن العاص أنه اشتكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذِر)) (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال سبع مرات: أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يشفيك، إلاّ عافاه الله من ذلك المرض)) (¬3). فهذا من تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن يعتمدوا على ربهم مع الأخذ بالأسباب المشروعة؛ فإن الله - عز وجل - هو الشافي، لا شفاء إلا شفاءه، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه بالشفاء؛ لأنه هو الذي يملك الشفاء، والشفاء بيده تبارك وتعالى، قال - صلى الله عليه وسلم - لسعدٍ: ((اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً، ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير بتصرف، 3/ 339. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء، برقم 2202. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب الدعاء للمريض عند العيادة، برقم 3106، والترمذي في كتاب الطب، باب 32، برقم 2083، وأحمد، 1/ 239، وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن غريب)). وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6388.

اللهم اشف سعداً)) (¬1). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرقي بعض أصحابه، ويطلب الشفاء من الله الشافي: ((بسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يُشفى سقيمنا بإذن ربنا)) (¬2). وقد أوضح - صلى الله عليه وسلم - أن الله هو الذي ينزل الدواء وهو الشافي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاءً)) (¬3). وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لكل داء دواءٌ، فإذا أصيب دواءُ الداءِ بَرأَ بإذن الله - عز وجل -)) (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواءً، فتداووا، ولا تداووا بحرام)) (¬5). وجاءت الأعراب فقالت: يا رسول الله ألا نتداوى؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً أو دواءً، إلا داءً واحداً)) فقالوا يا رسول الله ما هو؟ قال: ((الهرم)) (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المرضى، باب وضع اليد على المريض، برقم 5659، ومسلم في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم 1628/ 8. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 5745، ومسلم في كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، برقم 2194. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم 5678. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي، برقم 2204. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة، برقم 3874. قال المنذري: ((في إسناده إسماعيل بن عياش فيه مقال)). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم 1569، ويغني عنه ما تقدم من الأحاديث، وما سيأتي. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى، برقم 3855،والترمذي في كتاب الطب، باب ما جاء في الدواء والحث عليه، برقم 2038،وابن ماجه في كتاب الطب، باب ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، برقم 3436، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2930.

وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أنزل الله من داء إلا قد أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله)) (¬1). قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ((فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، ويجوز أن يكون قوله: ((لكل داء دواء)) على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن للطبيب أن يبرئها، ويكون الله - عز وجل - قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلا؛ ً لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله ... )) (¬2). فالله - عز وجل - هو الشافي الذي يشفي من يشاء ويطوي علم الشفاء عن الأطباء إذا لم يرد الشفاء. فنسأل الله الذي لا إله إلا هو بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يشفي قلوبنا وأبداننا من كل سوء، ويحفظنا بالإسلام، وجميع المسلمين؛ إنه ولّي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد،1/ 377، وبتريب الشيخ شاكر، 5/ 201، برقم 3578، وصححه. والحميدي في المسند، 1/ 50، برقم 90، وأبو يعلى في المسند، 9/ 113، برقم 5183، وابن ماجه في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم 3438، 3439 مختصراً. والحاكم، 4/ 196 - 197، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وصحح الألباني رواية ابن ماجه في صحيح الجامع، برقم 5558، 5559. (¬2) زاد المعاد في هدي خير العباد، 4/ 14.

المبحث السادس عشر: من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في الأسماء الحسنى

المبحث السادس عشر: من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في الأسماء الحسنى فتوى رقم 11865 وتاريخ 30/ 3/1409هـ الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الأسئلة المقدمة من د. مروان إبراهيم العيش إلى سماحة الرئيس العام والمحالة إليها برقم 169 في 8/ 1/1409هـ، وأجابت عن كل منها عقبه فيما يلي: س1: صفات الذات التي وردت في الكتاب والسنة، هل تعني الواحدة منها معنى واحداً في كل النصوص التي وردت بها، أم أن لكل سياق معناه الخاص به. يرجى تزويدنا بما تعنيه صفات الذات الآتية في السياق الخاص بها: أ - اليد: ما المراد بها في كل نص من النصوص الآتية: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1)، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله} (¬2) الآية، ((يد الله مع الجماعة))، وفي حديث آخر: ((يد الله على الجماعة)) حديث، وفي آية كريمة: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (¬3)، وما المراد بجمع اليدين في قوله: {بِأَيْدٍ} (¬4). ب - العين: ما المراد بها في كل نص من النصوص الآتية: {وَاصْنَعِ ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآية: 88. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 73. (¬3) سورة الفتح، الآية: 10. (¬4) سورة الذاريات، الآية: 47.

الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (¬1)، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (¬2)، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (¬3)، وما الدليل على أن لله تعالى عينين؟ ج‍الوجه: ما المراد بالوجه في كل نص من النصوص الآتية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} (¬4)، {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله} (¬5)، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} (¬6)، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬7)، من المفيد أن تتضمن الإجابة عن هذه الأسئلة مراجع نرجع إليها لمزيد من العلم المفيد؟ ج1: أ - كلمة (يد) في النصوص المذكورة في فقرة ((أ)) يراد بها معنى واحد هو إثبات صفة اليد لله تعالى حقيقة على ما يليق بجلاله دون تشبيه ولا تمثيل لها بيد المخلوقين، ودون تحريف لها ولا تعطيل، فكما أن له تعالى ذاتاً حقيقة لا تشبه ذوات العباد، فصفاته لا تشبه صفاتهم، وقد وردت نصوص أخرى كثيرة تؤيد هذه النصوص في إثبات صفة اليد لله مفردة ومثناة ومجموعة، فيجب الإيمان بها على الحقيقة مع التفويض في ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 37. (¬2) سورة الطور، الآية: 48. (¬3) سورة طه، الآية: 39. (¬4) سورة البقرة، الآية: 115. (¬5) سورة البقرة، الآية: 272. (¬6) سورة الإنسان، الآية: 9. (¬7) سورة الرحمن، الآية: 27.

كيفيتها عملاً بالنصوص كتاباً وسنة، واتّباعاً لما عليه أئمة سلف الأمة. وأما كلمة - بأيد - في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، فهي مصدر (فعله) آد يئد أيداً، ومعناه القوة، ويضعّف فيقال: أيّده تأييداً، ومعناه قوّاه، وليس جمعاً ليد، فليست من آيات الصفات المتنازع فيها بين مثبتة الصفات ومؤوّليها لأن وصف الله سبحانه بالقوة ليست محل نزاع. وأما معنى الجمل في هذه النصوص فمختلف باختلاف سياقها وما اشتملت عليه من قرائن فقوله: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} يدل على كمال قدرة الله من جهة جعل ملكوت كل شيء بيده، ومن جهة سياق الكلام سابقه ولاحقه، وقوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله} يدل على أن الفضل والإنعام إلى الله وحده. وقوله: ((يد الله على الجماعة)) يراد به الحث على التآلف والاجتماع والوعد الصادق برعاية الله لهم، وتأييدهم ونصرهم على غيرهم إذا اجتمعوا على الحق. وقوله: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يراد به توثيق البيعة وإحكامها بتنزيل بيعتهم للرسول منزلة بيعتهم لله تعالى، وذلك لا يمنع من إثبات اليد لله حقيقة على ما يليق به، كما لا يمنع من إثبات الأيدي حقيقة للمبايعين لرسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما يليق بهم (¬1). ج‍ ب - كلمة (بأعيننا وبعيني) في النصوص المذكورة في فقرة - ¬

_ (¬1) كتاب التوحيد لابن خزيمة، وكتاب التدمرية لابن تيمية، مختصر الصواعق المرسلة للموصلي، 2/ 153، وشرح النونية 2/ 307.

ب - يراد بها إثبات صفة العين لله حقيقة على ما يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل لها بعين المخلوقين، ولا تحريف لها عن مسماها في لغة العرب، فسياق الكلام لا تأثير له في صرف تلك الكلمات عن مسماها، وإنما تأثيره في المراد بالجمل التي وردت فيها هذه الكلمات، فالمقصود بهذه الجمل كلها هو: أولاً: أمر نوح - عليه السلام - أن يصنع السفينة وهو في رعاية الله وحفظه. وثانياً: أمر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن يصبر على أذى قومه حتى يقضي الله بينه وبينهم بحكمه العدل، وهو مع ذلك بمرأى من الله وحفظه ورعايته. وثالثاً: إخبار موسى عليه الصلاة والسلام بأن الله تعالى قد منّ عليه مرة أخرى إذ أمر أمّه بما أمرها به ليربيه تربية كريمة في حفظه تعالى ورعايته، ثم يدلّ على أن لله تعالى عينين كلمة - بأعيننا - في النصوص المذكورة في السؤال، فإن لفظ عينين إذا أضيف إلى ضمير الجمع جمع كما يجمع مثنى قلب إذا أضيف إلى ضمير مثنى أو جمع، كما في قوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬1)، ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله وعن الدجال ((من أن الدجال أعور)) (¬2)، وأن الله ليس بأعور، فقد استدل به أهل السنة على إثبات العينين لله ¬

_ (¬1) سورة التحريم، الآية:4. (¬2) فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بُعِثَ نبيٌّ إلا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور ... ))، أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، برقم 7131، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفة ما معه، برقم 2933.

سبحانه (¬1). ج‍كلمة (وجه الله) في الجملة الأولى يراد بها قبلة الله كما ذكر مجاهد والشافعي رحمهما الله تعالى، فإن دلالة الكلام في كل موضع بحسب سياقه، وما يحفّ به من قرائن، وقد دلّ السياق والقرائن على أن المراد بالوجه في هذه الجملة - القبلة -؛ لقوله تعالى: {وَلله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} (¬2)، فذكر تعالى الجهات والأماكن التي يستقبلها الناس، فتكون هذه الآية كآية: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (¬3)، وإذن فليس الآية من آيات الصفات المتنازع فيها بين المثبتة والنفاة، وأما كلمة (وجه) في الجمل الباقية في السؤال فالمراد بها إثبات صفة الوجه لله تعالى حقيقة على ما يليق بجلاله سبحانه؛ لأن الأصل الحقيقة، ولم يوجد ما يصرف عنها، ولا يلزم تمثيله بوجه المخلوقين؛ لأن لكل وجهاً يخصه ويليق به (¬4). س2: تسمية الخلق بأسماء الخالق، ما الأدلة على تحريمها؟ وإن كانت مباحة فهل هناك قيود معينة؟ إنني أقصد الأسماء لا الصفات. إذ من المعلوم أنه يجوز وصف الخلق بصفات الخالق، وقد ورد ذلك كثيراً في كتاب الله تعالى، وسؤالي عن التسمية لا الوصف. فهل لكم أن تبينوا ¬

_ (¬1) كتاب التوحيد لابن خزيمة، وكتاب التدمرية لابن تيمية، ومختصر الصواعق المرسلة للموصلي، 1/ 34 - 37. (¬2) سورة البقرة، الآية: 115. (¬3) سورة البقرة، الآية: 148. (¬4) كتاب مختصر الصواعق المرسلة للموصلي،2/ 299 - 307.

القواعد الفاصلة في الموضوع؟ أولاً: الفرق بين الاسم والصفة أن الاسم ما دلّ على الذات، وما قام بها من صفات، وأما الصفة فهي ما قام بالذات مما يميزها عن غيرها من معان ذاتية كالعلم والقدرة، أو فعليه كالخلق والرزق والإحياء والإماتة. ثانياً: قد يسمى المخلوق بما سمى الله به نفسه، كما يوصف بما وصف سبحانه به نفسه، لكن على أن يكون لكل من الخصائص ما يليق به، ويُمَيزُ به عن الآخر، فلا يلزم تمثيل الخلق بخالقهم، ولا تمثيله بهم، وإن حصلت الشركة في التعبير والمعنى الكلي للفظ؛ لأن المعنى الكلي ذهني فقط لا وجود له في الخارج. ومن ذلك أن الله سمّى نفسه حياً، فقال: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬1)،وسمّى بعض عباده حياً، فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} (¬2)، وليس الحي كالحي، بل لكل منهما في الخارج ما يخصه وسمّى أحد ابني إبراهيم حليماً، وابنه الآخر عليمًا عليهم الصلاة والسلام، كما سمّى نفسه عليما حليماً، ولم يلزم ذلك من التمثيل؛ لأن لكل مسمّى بذلك ما يخصه ويميز به في خارج الأذهان، وإن اشتركوا في مطلق التسمية والتعبير، وسمّى نفسه سميعاً وبصيراً، فقال: {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬3)، وسمّى بعض خلقه سميعاً بصيراً، فقال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬4)، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 254. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 95. (¬3) سورة النساء، الآية: 58. (¬4) سورة الإنسان، الآية: 2.

ولم يلزم التمثيل؛ لأن لكل مسمى ما يخصه ويتميز به عن الآخر كما تقدم إلى أمثال ذلك. ومن ذلك أن الله وصف نفسه بالعلم فقال: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}، ووصف بعض عباده بالعلم فقال: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬1)، ووصف نفسه بالقوة فقال: {إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬2)، ووصف بعض عباده بالقوة فقال: {الله الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} (¬3) الآية، وليست القوة كالقوة، وإن اشتركا في العبارة والمعنى الكلي، لكن لكل من الموصوفين ما يخصه ويليق به، إلى أمثال ذلك من الصفات (¬4). س3: هل يصح ما يأتي دليلاً على تحريم تسمية الخلق بأسماء الخالق؟ أ - حيث إن تسمية المخلوق بالاسم العلم (الله) ممنوعة، كانت تسمية المخلوق بأسماء الخالق الأخرى أيضاً ممنوعة؛ إذ لا وجود للتفرقة بين أسماء الله تعالى؟ ب - من المعلوم في اللغة أن الجار والمجرور إذا سبق المعرفة أفاد القصر، فملاحظ ذلك في قوله تعالى: {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، فتفيد الآية قصر الأسماء الحسنى على الله، وعدم جواز تسمية الخلق بها، فهل ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 85. (¬2) سورة الذاريات، الآية: 58. (¬3) سورة الروم، الآية: 54. (¬4) كتاب التوحيد لابن خزيمة وكتاب التدمرية لابن تيمية، ومختصر الصواعق المرسلة للموصلي، 2/ 37.

يصح هذا دليلاً؟ ج‍: ما كان من أسماء الله تعالى علم شخص كلفظ (الله) امتنع تسمية غير الله به؛ لأن مسماه معين لا يقبل الشركة، وكذا ما كان من أسمائه في معناه في عدم قبول الشركة كالخالق والبارئ، فإن الخالق من يوجد الشيء على غير مثال سابق، والبارئ من يوجد الشيء بريئاً من العيب، وذلك لا يكون إلا من الله وحده، فلا يسمى به إلا الله تعالى، أما ما كان له معنى كلي تتفاوت فيه أفراده من الأسماء والصفات، كالملك، والعزيز، والجبار، والمتكبر، فيجوز تسمية غيره بها، فقد سمى الله نفسه بهذه الأسماء، وسمّى بعض عباده بها، مثال: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ}، وقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}، إلى أمثال ذلك، ولا يلزم التماثل؛ لاختصاص كل مسمى بسمات تميزه عن غيره، وبهذا يعرف الفرق بين تسمية الله بلفظ الجلالة، وتسميته بأسماء لها معانٍ كلية تشترك أفرادها فيها، فلا تقاس على لفظ الجلالة. أما الآية: {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، فالمراد منها قصر كمال الحسن في أسمائه تعالى؛ لأن كلمة الحسنى اسم تفضيل، وهي صفة للأسماء، لا قصر مطلق أسمائه عليه تعالى. كما في قوله تعالى: {وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، فالمراد قصر كمال الغِنى والحمد عليه تعالى، لا قصر اسم الغَني والحميد عليه، فإن غير الله يسمى غنياً وحميداً. س4: إذا ثبت أن أسماء الله تعالى لا يجوز تسمية الخلق بها، فهل من أسماء الله تعالى ما لا يجوز تسمية الخلق بها؟ وهل يدخل ضمن هذا المنع

الرحمن، والقيوم، وهل هناك أسماء أخرى لا يجوز وصف الخلق بها؟ ج‍: تقدم في جواب السؤال الثاني والثالث بيان الضابط مع أمثلة لما يجوز تسمية المخلوق به من أسماء الله تعالى وما لا يجوز، وبناء على ذلك لا يجوز تسمية المخلوق بالقيوم؛ لأن القيوم هو المستغني بنفسه عن غيره، المفتقر إليه كل ما سواه، وذلك مختص بالله لا يشركه فيه غيره، قال ابن القيم رحمه الله في النونية: هذا ومن أوصافه القيوم ... والقيوم في أوصافه أمران إحداهما القيوم قام بنفسه ... والكون قام به هما الأمران فالأول استغناؤه عن غيره ... والفقر من كل إليه الثاني وكذا لا يسمى المخلوق - بالرحمن - لأنه بكثرة استعماله اسماً لله تعالى صار علماً بالغلبة عليه، مختصاً به، كلفظ الجلالة، فلا يجوز تسمية غيره به (¬1). اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله ابن باز ¬

_ (¬1) تفسير آية ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم)) لابن كثير،1/ 278،وغيره، مختصر الصواعق المرسلة للموصلي، 2/ 110، وكتاب النونية لابن القيم مع شرحها للشيخ أحمد بن عيسى، 2/ 236.

فتوى رقم 3862 وتاريخ 12/ 8/ 1401هـ

فتوى رقم 3862 وتاريخ 12/ 8/1401هـ الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: فقد اطّلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من معالي وزير المعارف السعودية إلى سماحة الرئيس العام، والمحال إليها برقم 818 في 3/ 5/1401هـ، ونصه: ((أحيل لسماحتكم استفسار إدارة الامتحانات في الوزارة رقم 2121، وتاريخ 7/ 4/1401هـ مع جدول لأسماء الله الحسنى بشأن الاستفسار حول اسم ((الفضيل)) هل هو من أسماء الله الحسنى؟ وماذا يعمل مع من اسمه عبد الفضيل، هل يعدل الاسم أم يبقى على حالته؟ وحيث إن الاستفسار قد بدأ يتكرر من كثير من الجهات حول الأسماء الحسنى نتيجة لوجود عدد من المتعاقدين يحملون من الأسماء ما لا يقره الشرع، مثل: عبد النبي، وعبد الإمام، وعبد الزهراء، وغيرها من الأسماء. آمل موافاتنا ببيان تحدد فيه الأسماء التي تجوز إضافة ((العبد)) إليها، والتسمي بها، خاصة وإن كثيراً من الكتب تشير إلى أن أسماء الله تعالى لا تنحصر في التسعة والتسعين اسماً، بل إن الروايات تختلف حتى في تعداد هذه الأسماء التسعة والتسعين، ويتجه بعض العلماء إلى أن أسماء الله فوق الحصر، مستشهدين بالحديث: ((اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ... )) الحديث. وأجابت بما يلي: أولاً: قال الله تعالى: {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ

يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1)، فأخبر سبحانه عن نفسه بأنه اختص بالأسماء الحسنى المتضمنة لكمال صفاته، ولعظمته وجلاله، وأمر عباده أن يدعوه بها تسمية له بما سمى به نفسه، وأن يدعوه بها تضرعاً وخفية في السراء والضراء، ونهاهم عن الإلحاد فيها بجحدها أو إنكار معانيها، أو بتسميته بما لم يسمِّ به نفسه، أو بتسمية غيره بها، وتوعّد من خالف في ذلك بسوء العذاب. وقد سمّى الله نفسه بأسماء في محكم كتابه، وفيما أوحاه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - من السنة الثابتة، وليس من بينها اسم الفضيل، وليس لأحد أن يسميه بذلك؛ لأن أسماءه تعالى توقيفية؛ فإنه سبحانه هو أعلم بما يليق بجلاله، وغيره قاصر عن ذلك، فمن سماه بغير ما سمّى به نفسه، أو سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد ألحد في أسمائه، وانحرف عن سواء السبيل، وليس لأحد من خلقه أن يُعبِّد أحداً لغيره من عباده، فلا تجوز التسمية بعبد الفضيل، أو عبد النبي، أو عبد الرسول، أو عبد علي، أو عبد الحسين، أو عبد الزهراء، أو غلام أحمد، أو غلام مصطفى، أو نحو ذلك من الأسماء التي فيها تعبيد مخلوق لمخلوق؛ لما في ذلك من الغلو في الصالحين والوجهاء، والتطاول على حق الله؛ ولأنه ذريعة إلى الشرك والطغيان، وقد حكى ابن حزم إجماع العلماء على تحريم التعبيد لغير الله، وعلى هذا يجب أن يغير ما ذكر في السؤال من الأسماء وما شابهها. ثانياً: ثبت عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله تسعاًَ ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 180.

وتسعين اسما مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)) رواه البخاري ومسلم (¬1). وروى هذا الحديث الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم، وزادوا فيه تعيين الأسماء التسعة والتسعين، مع اختلاف في تعيينها، وللعلماء في ذلك مباحث: أ - منها - أن المراد بإحصائها معرفتها وفهم معانيها، والإيمان بها، والثقة بمقتضاها، والاستسلام لما دلت عليه، وليس المراد مجرد حفظ ألفاظها وسردها عدّاً. ب - ومنها أن المعوّل عليه عند العلماء أن تعيين التسعة والتسعين اسماً مدرج في الحديث استخلصه بعض العلماء من القرآن فقط، أو من القرآن والأحاديث الصحيحة، وجعلوها بعد الحديث كتفسير له وتفصيل للعدد المجمل فيه، وعملاً بترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحصائها رجاء الفوز بدخول الجنة. ج‍ومنها أنه ليس المقصود من الحديث حصر أسماء الله في تسعة وتسعين اسماً - لأن صيغته ليست من صيغ الحصر - وإنما المقصود الإخبار عن خاصة من خواص تسعة وتسعين اسماً من أسماء الله تعالى، وبيان عظم جزاء إحصائها، ويُؤيِّده ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ ¬

_ (¬1) البخاري، برقم 2736، ومسلم، برقم 2677.

حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحاً)) فقيل: يا رسول الله، أفلا نتعلمها؟ فقال: ((بل ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها)) (¬1). فبين - صلى الله عليه وسلم - أنه استأثر بعلم بعض أسمائه فلم يطلع عليها أحداً من خلقه، فكانت من الغيبيات التي لا يجوز لأحد أن يخوض فيها بخرص ولا تخمين؛ لأن أسماءه تعالى توقيفية كما سيجيء إن شاء الله. د - ومنها أن أسماء الله توقيفية فلا يسمَّى سبحانه إلا بما سمى به نفسه، أو سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز أن يُسمَّى باسم عن طريق القياس أو الاشتقاق من فعل ونحوه، خلافاً للمعتزلة والكرامية، فلا يجوز تسميته بَنَّاءً، ولا ماكراً، ولا مستهزئاً أخذاً من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ}، وقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله}، وقوله: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ}، ولا يجوز تسميته زارعاً، ولا ماهداً، ولا فَالِقاً، ولا منشئاً، ولا قابلاً، ولا شديداً، ونحو ذلك أخذا من قوله تعالى: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُون}، وقوله: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}، وقوله: {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ}، وقوله تعالى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، 1/ 391، وأبو يعلى، 9/ 198 - 199، برقم 5297، والحاكم، 1/ 509 - 510، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 339، 340، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 199.

وقوله: {قَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ}؛ لأنها لم تستعمل في هذه النصوص إلا مضافة، وفي أخبار على غير طريق التسمي، لا مطلقة فلا يجوز استعمالها إلا على الصفة التي وردت عليها في النصوص الشرعية. فيجب ألا يعبَّد في التسمية إلا لاسم من الأسماء التي سمى الله بها نفسه صريحاً في القرآن، أو سماه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت عنه من الأحاديث، كأسمائه التي في آخر سورة الحشر، والمذكورة في أول سورة الحديد، والمنشورة في سور أخرى من القرآن. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الرسالة الخامسة: الفوز العظيم والخسران المبين

الرسالة الخامسة: الفوز العظيم والخسران المبين تمهيد لا شك أن الفوز الحقيقي: هو الفوز بالجنة، والنجاة من النار، قال الله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬1). وذلك أعظم المطالب؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لِرَجُلٍ: ((ما تقول في الصلاة))؟ قال: أتشهَّدُ، ثم أسال الله الجنة، وأعوذ به من النار. أمَا والله ما أُحسِنُ دَنْدنَتَكَ، ولا دندنة معاذ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((حَولَها نُدَنْدِنُ)) (¬2). والمعنى: حول سؤال الله الجنة، والاستعاذة به من النار ندندن وندعو الله تعالى. ومما يدل على ما وصل إليه الصحابة من الكمال البشري، والرغبة العظيمة، ورجاحة العقل ما فعله ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه -، قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سَلْ))، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ((أوْ غير ذلك))؟ قلت: هو ذاك. قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)) (¬3)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُرغِّب أصحابه وأمته في الجنة، ويُحذِّرهم وينذرهم من النار؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وُضِعَتِ الجنازة فاحتملها الرجالُ على أعناقهم، فإن كانت صالحةً قالت: قدموني، قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 185. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة، برقم 792، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يقال في التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 910. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، برقم 489.

المبحث الأول: مفهوم الفوز العظيم والخسران المبين

أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لَصَعِقَ)) (¬1) (¬2). ولهذه الأهمية العظيمة الكبيرة البالغة في علوِّ مكانة الفوز العظيم، وسعادة من وفقه الله لهذه المكانة بدخول جنات النعيم: دار السلام ودار المتقين - جعلنا الله منهم -، وخسارة وغَبْن من حُرِمَ هذا الفوز الكبير، وخسره بدخول دار البوار: النار، وبئس القرار، وبئس مثوى المتكبرين - نعوذ بالله منها، ومن كل عمل يقرب إليها -؛ لهذا كلِّه كتبت بتوفيق الله تعالى المباحث الآتية:. المبحث الأول: مفهوم الفوز العظيم والخسران المبين أولاً: مفهوم الفوز العظيم: الفوز: الظَّفَرُ بالخير مع حصول السلامة والنجاة من كل مكروه، أو هلاك (¬3). العظيم: يُقال عَظُمَ الشيءُ: أصله كَبُرَ عظْمُهُ، ثم استعير لكل كبير، فأُجرِيَ مجراه محسوساً كان أو معقولاً، عيناً كان أو معنىً، قال الله تعالى: ¬

_ (¬1) لَصَعِقَ: أي لغُشِيَ عليه من شدة ما يسمعه، وربما أُطلق الصعْقُ على الموت، انظر: الفتح،3/ 185. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب حمل الرجال الجنائز دون النساء، برقم 1314، وفي باب قول الميت وهو على الجنازة: قدموني، برقم 1316، وفي باب كلام الميت على الجنازة، برقم 1380، والنسائي في كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، برقم 1882، 1883. (¬3) انظر: القاموس المحيط، ص669، ومختار الصحاح، ص215، ومفردات غريب القرآن للأصفهاني، ص647.

{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} (¬1)، وقال تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} (¬2)،والعظيمُ إذا استُعمل في الأعيان فأصله أن يُقال في الأجزاء المتصلة (¬3)،والكثير يُقال في المنفصلة، ثم قد يُقال في المنفصل عظيم، نحو: جيش عظيم، ومال عظيم، وذلك في معنى الكثير (¬4). قال الله تعالى عن الفوز العظيم الكبير: {وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬5)، وقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬6). وقد بيّن الله تعالى في القرآن الكريم أن من أُدْخِلَ الجنة فقد حصل وحاز، وظَفُرَ بالفوز العظيم، ولِعِظَمِ ((الفوز العظيم)) ذكره الله - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم في ستة عشر موضعاً (¬7)، ووصف هذا الفوز العظيم بالفوز الكبير في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ¬

_ (¬1) سورة ص، الآيتان: 67 - 68. (¬2) سورة النبأ، الآيتان: 1 - 2. (¬3) أي يُقال في الأجزاء المتصلة عظيم: أي كبير. انظر: المعجم الوسيط، 1/ 609. (¬4) مفردات غريب القرآن للأصفهاني، ص573. (¬5) سورة التوبة، الآية: 72. (¬6) سورة التوبة، الآية: 100. (¬7) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص527.

ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} (¬1)، ووصفه تعالى بالفوز المبين في قوله - سبحانه وتعالى -: {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} (¬2). وفي قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} (¬3). فالفوز العظيم الكبير المبين: هو النجاة من النار، ودخول الجنة، كما قال - عز وجل -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} (¬4). وقال تعالى في كلام بعض أهل الجنة: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} (¬5). وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ ¬

_ (¬1) سورة البروج، الآية: 11. (¬2) سورة الأنعام، الآيتان: 15 - 16. (¬3) سورة الجاثية، الآية: 30. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 185. (¬5) سورة الصافات، الآيات: 58 - 61.

ثانيا: الخسران المبين:

الْعَظِيمُ} (¬1)، وقال - عز وجل - في الصادقين، ومنهم عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم -: {قَالَ الله هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2)، وغير ذلك من الآيات (¬3). وقد بيّن - سبحانه وتعالى - طريق هذا الفوز العظيم، والعمل الذي يُوصل إليه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬4)، وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬5). وقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬6). ثانياً: الخسران المبين: خَسِرَ: خسْراً، وخَسَرَاً، وخُسْراً، وخُسُراً، وخُسْراناً، وخَسارَةً، وخَسَاراً: ضل فهو خاسرٌ وخسيرٌ، يقال: خَسِرَ التاجر: غُبِنَ في تجارته، ¬

_ (¬1) سورة الدخان، الآيات: 51 - 57. (¬2) سورة المائدة، الآية: 119. (¬3) انظر: سورة التوبة، الآيات: 100، 119، و111، وسورة الحديد، الآية: 12، والصف، الآية: 12، والتغابن الآية 9. (¬4) سورة الأحزاب، الآيتان: 70 - 71. (¬5) سورة النساء، الآية: 13. (¬6) سورة النور، الآية: 52.

ونقص ماله فيها، ويُقال: خسر فلانٌ: هلك وضل فهو خاسر، ويُستعمل ذلك في المقتنيات الخارجة: كالمال، والجاه: وهو الأكثر، وفي المقتنيات النفسية: كالصحة والسلامة، والعقل، والإيمان، والثواب: وهو الذي جعله الله تعالى الخسران المبين (¬1)، فقال سبحانه: {قُل إنَّ الخاسرينَ الذينَ خَسِروا أنفُسَهُم وأهليهِم يومَ القيامةِ ألا ذلكَ هُوَ الخُسرانُ المُبينُ} (¬2). وقال - سبحانه وتعالى - في الظالمين: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} (¬3)، وقال - عز وجل - في العمل الذي يوصل إلى هذا الخسران المبين: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (¬4)، وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} (¬5)، وقال تعالى: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} (¬6)، وقال - عز وجل -: {ومَن يَكفُرْ بالإيمَانِ فقدْ حبِطَ عمَلُهُ وهُوَ في الآخِرةِ منَ ¬

_ (¬1) انظر: القاموس المحيط، ص491، والمعجم الوسيط، 1/ 233، ومفردات غريب القرآن للأصفهاني، ص282، ومختار الصحاح، ص74. (¬2) سورة الزمر، الآية: 15. (¬3) سورة الشورى، الآيتان: 44 - 45. (¬4) سورة النساء، الآية: 14. (¬5) سورة التوبة، الآية: 63. (¬6) سورة النساء، الآية: 119.

المبحث الثاني: التبشير بالجنة والإنذار من النار

الخاسِرينَ} (¬1)، وقد بيَّن الله - عز وجل - في مواضع كثيرة من كتابه العزيز (¬2) أن جميع أنواع الخسارة في الدنيا والآخرة بسبب معصية الله ورسوله. المبحث الثاني: التبشير بالجنة والإنذار من النار أولاً: الترغيب في الجنة: قال الله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (¬3). وقال سبحانه بعد أن ذكر شهوات الدنيا: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 5. (¬2) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص231 - 232. (¬3) سورة آل عمران، الآيات: 133 - 136. (¬4) سورة آل عمران، الآيات: 15 - 17.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله تعالى: أعددتُ لعباديَ الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قلب بشر، ذخراً بَلْهَ (¬1) ما أطلعكم الله عليه، فاقرأوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (¬2) (¬3). وعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((موضع سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها)) (¬4). وعن أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولَقابُ (¬5) قوسِ أحدكم أو موضع قدم من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطّلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها على رأسها - يعني خمارها - خير من الدنيا وما فيها)) (¬6). ¬

_ (¬1) بَلْهَ ما أطلعكم الله عليه: دع عنك ما أطلعكم الله عليه، فالذي لم يطلعكم عليه أعظم. (¬2) سورة السجدة، الآية: 17. (¬3) أخرجه البخاري في تفسير القرآن، باب قوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، برقم 4780، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب، برقم 2824/ 4. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم 3250، وفي كتاب الرقاق، باب مثل الدنيا في الآخرة، برقم 6415، والترمذي في كتاب فضائل الجهاد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل الله، برقم 1648. (¬5) لقاب قوس أحدكم: أي قدره، والقاب معناه القدر، وكذلك القيد، فتح الباري، 6/ 14. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الحور العين وصفتهن، برقم 2796، وفي كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، رقم 6568، وأخرج مسلم الفقرة الأولى منه في كتاب الإمارة، باب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، برقم 1880، 1881.

ثانيا: الإنذار من النار:

ثانياً: الإنذار من النار: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬1). والمعنى: اعملوا بطاعة الله، وانتهوا عما نهاكم عنه، ومروا أهليكم بالخير، وانهوهم عن الشر، وعلِّموهم وأدِّبوهم، وساعدوهم على فعل الخير، وأعينوهم عليه، وأوصوهم بتقوى الله تعالى (¬2). وقال سبحانه: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (¬3). وقال - عز وجل -: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما أُنزلت هذه الآية: {وأَنذِرْ عشِيرَتَكَ الأَقرَبينَ} (¬5) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً فاجتمعوا، فعمَّ وخصَّ فقال: ((يا بني كعب ابن لؤي: أنقذوا أنفسكم من النار ... )) [وذكر في الحديث أنه نادى قريشاً بطناً بطناً إلى أن قال]: (( ... يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رَحِماً سأبُلُّها ¬

_ (¬1) سورة التحريم، الآية: 6. (¬2) انظر: تفسير الإمام ابن كثير، 4/ 392، وتفسير البغوي، 4/ 367. (¬3) سورة البقرة، الآية: 24. (¬4) سورة الليل، الآيات: 14 - 16. (¬5) سورة الشعراء، الآية: 214.

بِبِلالها (¬1) ... )) (¬2). وعن أنس، عن أبي طلحة رضي الله عنهما أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقُذفوا في طويٍّ من أطواء بدر (¬3) خَبيث مُخبثٍ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليالٍ، فلما كان ببدرٍ اليوم الثالث أمر براحلته، فشُدَّ عليها رحلها، ثم مشى وتبعه أصحابه، وقالوا: ما نُرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفةِ الركيّ، فجعل يناديهم بأسمائهم، وأسماء آبائهم: ((يا فلانُ ابن فلانٍ، ويا فُلانُ ابن فلانٍ، أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنَّا وجدنا ما وعدنا ربنا حقَّاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّاً؟)) فقال عمر: يا رسول الله ما تُكلِّم من أجسادٍ لا أرواح لها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفس محمدٍ بيده ما أنت بأسمعَ لِمَا أقولُ منهم)). قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخاً، وتصغيراً، ونقمةً، وحسرةً وندماً (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَثَلي كمَثَل رجلٍ استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراشُ وهذه الدوابُّ التي في النار ¬

_ (¬1) سأبلها ببلالها: سأصلها. شبهت قطيعة الرحم بالحرارة، ووصلها بإطفاء الحرارة ببرودة، ومنه: ((بلوا أرحامكم ((أي: صلوها. شرح النووي على مسلم، 3/ 80. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: {وأَنذِرْ عشِيرَتَكَ الأَقرَبينَ}، برقم 204، وبنحوه أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب، برقم 2753. (¬3) طويّ: بئر مطوية بالحجارة، والركي: البئر قبل أن تطوى. قالوا: فكأنها كانت مطوية ثم استهدمت كالركي. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، برقم 3976، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، برقم 2873 - 2875.

المبحث الثالث: أسماء الجنة وأسماء النار

يقعن فيها، وجعل يَحْجُزُهُنَّ ويَغْلِبْنَهُ فيَتَقَحَّمْنَ فيها (¬1). قال: فذلكم مَثَلي ومَثَلُكُم أنا آخذٌ بحُجَزِكُم عن النار، هلمَّ عن النَّار، هلمَّ عن النار، فتَغْلِبُوني تقحَّمون فيها)) (¬2). المبحث الثالث: أسماء الجنة وأسماء النار أولاً: أسماء الجنة: 1 - الجنة، وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار، وما اشتملت عليه من أنواع النعيم، واللذَّة، والبهجة، والسرور، وقرّة العين، وأصل اشتقاق هذه اللفظة من الستر والتغطية، ومنه سُمِّيَ الجنين لاستتاره في البطن، ومنه سُمِّي البستان: جَنة؛ لأنه يستر داخله بالأشجار ويغطيه، ولا يستحق هذا الاسم إلا موضع كثير الأشجار مختلف الأنواع (¬3). والجنة: الحديقة ذات الشجر والنخل، وجمعها جنات، والجنة كل بستان يستر بأشجاره الأرض (¬4)، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} (¬5)، والحديقة: جمع ((حدائق))، ¬

_ (¬1) التقحم: هو الإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت، والحجز: جمع حجزة، وهي: معقد الإزار والسراويل، شرح النووي، 15/ 55. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم، برقم 2284/ 18. (¬3) انظر: حادي الأرواح لابن القيم، ص111. (¬4) انظر: لسان العرب، 13/ 99، ومفردات القرآن للأصفهاني، ص204، والمصباح المنير، 1/ 112. (¬5) سورة سبأ، الآية: 15.

وهي الروضة ذات الشجر والنخيل، وهي البستان، وسُميت حديقة تشبيهاً بحدقة العين في الهيئة، وحصول الماء فيها (¬1). قال الله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} (¬2)، وقد ذكر الله تعالى الجنة في القرآن الكريم بلفظ المفرد ((جنة)) ستاً وستين مرة، ولفظ الجمع ((جنات)) تسعاً وستين مرة (¬3). 2 - دار السلام، قال سبحانه: {لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ} (¬4). {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} (¬5). فهي دار سلامٍ من كل بليَّةٍ وآفة (¬6). 3 - دار الخلد، وسُمْيت بذلك؛ لأن أهلها لا يظعنون عنها أبداً، قال الله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (¬7)، أي غير مقطوع. وقال تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (¬8)، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} (¬9). 4 - دار المقامة، قال الله تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا ¬

_ (¬1) انظر: مفردات غريب القرآن للأصفهاني، ص223، والقاموس المحيط، ص1127، وتفسير ابن كثير، 4/ 466. (¬2) سورة النبأ، الآيتان: 31 - 32. (¬3) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص 80 - 82. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 127. (¬5) سورة يونس، الآية: 25. (¬6) حادي الأرواح، ص113. (¬7) سورة هود، الآية: 108. (¬8) سورة ق، الآية: 34. (¬9) سورة ص، الآية: 54.

يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (¬1). 5 - جنة المأوى، قال تعالى: {عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأوَى} (¬2). 6 - جنات عدن، قال سبحانه: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} (¬3). 7 - الفردوس، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬4). والفردوس: هو البستان الذي يجمع كل شيء يكون في البساتين (¬5). 8 - جنات النعيم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} (¬6)، وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (¬7). 9 - المقام الأمين، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (¬8). والمقام: موضع الإقامة. والأمين: الآمن مِنْ كل سوءٍ، وآفةٍ، ومكروهٍ، وهو الذي قد جمع صفات الأمن كله (¬9). ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 35. (¬2) سورة النجم، الآية: 15. (¬3) سورة مريم، الآية: 16. (¬4) سورة المؤمنون، الآيتان: 10 - 11. (¬5) فتح الباري، 6/ 13، والقاموس المحيط، ص725. (¬6) سورة لقمان، الآية: 8. (¬7) سورة القلم، الآية: 34. (¬8) سورة الدخان، الآية: 51. (¬9) حادي الأرواح لابن القيم، ص116.

ثانيا: أسماء النار:

10 - مقعد صدق، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬1)، سمَّى الله تعالى الجنة مقعد صدقٍ؛ لحصول كل ما يُراد من المقعد الحسن فيها، كما يُقال مودة صادقة، إذا كانت ثابتة تامة (¬2). ثانياً: أسماء النار: 1 - النار، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3)،وقد ذكر الله - عز وجل - النار في القرآن الكريم بلفظ ((النار)) مائة وستاً وعشرين مرة، وبلفظ ((ناراً)) تسع عشرة مرة (¬4)، كقوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَب} (¬5). 2 - جهنم، قال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} (¬6). 3 - الجحيم، قال - عز وجل -: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} (¬7). 4 - السعير، قال تبارك وتعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (¬8). 5 - سقر، قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} (¬9). 6 - الحطمة، قال تعالى: {كَلا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} (¬10). ¬

_ (¬1) سورة القمر، الآيات: 54 - 55. (¬2) حادي الأرواح لابن القيم، ص117. (¬3) سورة البقرة، الآية: 39. (¬4) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص723 - 725. (¬5) سورة المسد، الآية: 3. (¬6) سورة النبأ، الآيتان: 21 - 22. (¬7) سورة النازعات، الآية: 36. (¬8) سورة الشورى، الآية: 7. (¬9) سورة المدثر، الآيتان: 27 - 28. (¬10) سورة الهمزة، الآية: 4.

المبحث الرابع: مكان الجنة ومكان النار

7 - الهاوية، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} (¬1). 8 - دار البوار، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (¬2). قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (( ... وأما دار البوار فهي جهنم)) (¬3)، وأشار إلى ذلك الإمام البغوي رحمه الله تعالى (¬4). المبحث الرابع: مكان الجنة ومكان النار أولاً: مكان الجنة: قال الله تعالى: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} (¬5). عليون: قال ابن عباس: الجنة، وقيل: علّيون في السماء السابعة تحت العرش (¬6)، وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: ((والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظُم واتَّسع؛ ولهذا قال تعالى معظِّماً أمره، ومفخِّماً شأنه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} (¬7)، وقال - عز وجل -: {وَفِي السَّمَاءِ ¬

_ (¬1) سورة القارعة، الآيات: 8 - 11. (¬2) سورة إبراهيم، الآيتان: 28 - 29. (¬3) تفسير ابن كثير، 2/ 539. (¬4) تفسير البغوي، 3/ 35. (¬5) سورة المطففين، الآيتان: 18 - 19. (¬6) انظر: تفسير البغوي، 4/ 460، وتفسير ابن كثير، 4/ 487. (¬7) تفسير ابن كثير، 4/ 487.

ثانيا: مكان النار:

رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (¬1). قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} ((وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ)) يعني المطر، ((وَمَا تُوعَدُونَ)) يعني الجنة (¬2)، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الجنة تحت العرش فوق السماء السابعة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ... فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة)) (¬3). ثانياً: مكان النار: قال الله تعالى: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} (¬4). والمعنى أن مأواهم ومصيرهم لفي سجِّين، فعيل من السجن، وهو الضيق، كما يُقال: فتِّيق، وشرِّيب، وخمّير، وسكِّير، ونحو ذلك؛ ولهذا عظم أمره فقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} أي هو أمرٌ عظيم، وسجن مقيم، وعذاب أليم (¬5)، وقد ذكر الإمام البغوي، والإمام ابن كثير، والإمام ابن رجب الحنبلي رحمهم الله آثاراً، تُبيِّن وتذكر أن سجِّين ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 22. (¬2) تفسير ابن كثير، 4/ 236. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، برقم 2790، وفي كتاب التوحيد، باب {(وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، برقم 7423. (¬4) سورة المطففين، الآيات: 7 - 9. (¬5) تفسير ابن كثير، 4/ 485، وتفسير البغوي، 4/ 458.

تحت الأرض السابعة: أي تحت سبع أرضين، كما أن الجنة فوق السماء السابعة (¬1). وقال ابن كثير: والصحيح أن سجِّيناً مأخوذ من السجن، وهو الضيق؛ فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق، وكل ما تعالى منها اتَّسع؛ فإن الأفلاك السَّبعة كُلُّ واحدٍ منها أوسع، وأعلى من الذي دونه، وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها، حتى ينتهي السفول المطلق، والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة (¬2). ثم ذكر رحمه الله تعالى: ((أن مصير الفجار إلى جهنم، وهي أسفل سافلين كما قال تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (¬3). وقال هَهنا: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}، وهو يجمع الضيق والسفول، كما قال تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (¬4). وقوله تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} ليس تفسيراً لقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}، وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين، أي مرقوم، مكتوب، مفروغ منه، لا يُزاد فيه أحد، ولا يُنقص ¬

_ (¬1) انظر: تفسير البغوي، 4/ 458 - 459، وتفسير ابن كثير، 4/ 485 - 486، والتخويف من النار لابن رجب، ص62 - 63. (¬2) تفسير ابن كثير، 4/ 446. (¬3) سورة التين، الآيتان: 5 - 6. (¬4) سورة الفرقان، الآية: 13.

المبحث الخامس: وجود الجنة والنار الآن

منه أحد)) (¬1). قال ابن رجب رحمه الله: ((وقد استدلَّ بعضهم لهذا (¬2) بأن الله تعالى أخبر أن الكفار يُعرضون على النار غدواً وعشيَّاً - يعني في مدة البرزخ - وأخبر أنه لا تفتح لهم أبواب السماء، فدل على أن النار في الأرض ... وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة قبض الروح، قال في روح الكافر: ((حتى يُنتهى به إلى السماء الدنيا، فَيُسْتَفْتَحُ له، فلا يُفتَحُ له))، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (¬3)، فيقول الله - عز وجل -: ((اكتبوا كتابه في سجِّين في الأرض السُّفلى)) ثم قال: (( ... فَتُطْرَحُ رُوحُه طرحاً ... )) الحديث (¬4) بطوله (¬5). المبحث الخامس: وجود الجنة والنار الآن عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإسراء أنه قال: (( ... ثم انطلق بي جبريلُ حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، 4/ 486. (¬2) وقد استدل بعضهم لهذا: أي على أن النار في الأرضين السبع في الأرض السابعة السفلى. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 40. (¬4) التخويف من النار، والتعريف بحال دار البوار، ص63. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب المسألة في القبر وعذاب القبر، برقم 4753، والنسائي في كتاب الجنائز، باب مسألة الكافر، برقم 2059، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، برقم 4269، وأحمد في المسند، 4/ 287، 295، 296، والحاكم في المستدرك، 1/ 37 - 38، وهناد في الزهد، برقم 339، وقد جمع طرقه واعتنى بتخريجه وتصحيحه العلامة الألباني في أحكام الجنائز، ص158.

ما هي، قال: ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ (¬1)، وإذا ترابها المسك)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبرائيل إلى الجنة فقال: انظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فجاء فنظر إليها، وإلى ما أعدّ الله لأهلها فيها ... ثم قال: اذهب إلى النار فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضاً ... )) (¬3) الحديث. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أحدكم إذا مات عُرِضَ عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يُقالُ هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)) (¬4). وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما نَسَمَةُ المؤمن ¬

_ (¬1) الجَنَابِذ: هي القباب، واحدتها: جنبذة، ووقع في كتاب الأنبياء من صحيح البخاري كذلك. وفي هذا الحديث دلالة لمذهب أهل السنة والجماعة: أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن الجنة في السماء. والله أعلم. انظر: شرح النووي، 2/ 579. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، برقم 349، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات وفرض الصلوات، برقم 163. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب صفة الجنة، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات، برقم 2560، وأبو داود في كتاب السنة، باب في خلق الجنة والنار، برقم 4744، والنسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله تعالى، برقم 3761، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال عنه الشيخ الألباني ((صحيح))، صحيح سنن الترمذي، برقم 2698. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة، والعشي، برقم 1379، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، برقم 2866.

المبحث السادس: السوق إلى الجنة وإلى النار

طائرٌ يَعْلُقُ في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه)) (¬1). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عندما سُئل عن قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (¬2) قال: أمَا إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال: ((أرواحهم في جوف طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديل معلقةٌ بالعرش تسرحُ من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربُّهم اطلاعةً فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، فعل ذلك بهم ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا، قالوا: يا ربِّ نريدُ أن تردّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى ... )) الحديث (¬3). المبحث السادس: السَّوْقُ إلى الجنة وإلى النار أولاً: سَوْقُ المؤمنين إلى الجنة: قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب أرواح المؤمنين، برقم 2071، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، برقم 4271، وأحمد، 3/ 455، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 2/ 445، وصحيح ابن ماجه، 2/ 423، والأحاديث الصحيحة، 2/ 730 برقم 995، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره، 4/ 302 بعد أن ذكر إسناد الإمام أحمد لهذا الحديث: ((وهذا إسناد عظيم ومتن قويم)). (¬2) سورة آل عمران، الآية: 169. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، برقم 1887.

ثانيا: سوق الكافرين إلى النار:

الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دُرّيٍّ في السماء إضاءةً، لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوّة الألنجوج عود الطيب، وأزواجهم الحور العين، على خَلْقِ رجُلٍ واحدٍ، على صورة أبيهم آدم ستون ذِراعاً في السماء)) (¬2). ثانياً: سَوْقُ الكافرين إلى النار: قال الله - عز وجل -: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} (¬3). وقال سبحانه: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآيتان: 73 - 74. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، برقم 3327، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، برقم 2834. (¬3) سورة الزمر، الآيتان: 71 - 72.

كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} (¬1). وقال سبحانه: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (¬2). وقال تعالى: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} (¬3). وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (¬4). وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} (¬5). وقال - عز وجل -: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِالله الْعَظِيمِ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الملك، الآيات: 6 - 11. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 13. (¬3) سورة الإسراء، الآيتان: 97 - 98. (¬4) سورة القمر، الآيتان: 47 - 48. (¬5) سورة غافر، الآيات: 70 - 72. (¬6) سورة الحاقة، الآيات: 30 - 33.

المبحث السابع: أبواب الجنة وأبواب النار

المبحث السابع: أبواب الجنة وأبواب النار أولاً: أبواب الجنة ثمانية: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فُتِحَتْ له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء)) (¬1). وعن عتبة بن غزوان - رضي الله عنه - في حديثه في الدنيا والجنة والنار قال: ((ولقد ذُكِرَ لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتينَّ عليها يومٌ وهي كظيظٌ من الزحام)) (¬2). وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((في الجنة ثمانية أبواب، فيها بابٌ يُسمَّى الريَّان، لا يدخله إلا الصائمون)) (¬3). وقد يدخل المسلم من تلك الأبواب كلِّها، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله نُودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خيرٌ، فمن كان من أهل الصلاة دُعِيَ من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعيَ من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعيَ من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعيَ من باب الصدقة)). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، برقم 234. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، برقم 2967. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة أبواب الجنة، برقم 3257، ومسلم في كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم 1152.

ثانيا: أبواب النار:

فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دُعيَ من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أَحَدٌ من تلك الأبواب كلِّها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)) (¬1). ثانياً: أبواب النار: قال الله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} (¬2). وتفتح أبواب جهنم لأهلها عند وصولهم إليها، قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (¬3). وهي مغلقة على أهلها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} (¬4). وقال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} (¬5). يقال: أوْصدْت الباب وآصدتُهُ: أي أطبقته، وأحكمته (¬6)، فأبواب النار على أهلها مطبقة مغلقة، لا يدخل فيها سرور، ولا يخرج منها غم (¬7). وأبواب النار تغلق في رمضان، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الريان للصائمين، برقم 1897، ومسلم في كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر، برقم 1027. (¬2) سورة الحجر، الآيتان: 43 - 44. (¬3) سورة الزمر، الآية: 71. (¬4) سورة البلد، الآيتان: 19 - 20. (¬5) سورة الهمزة، الآيتان: 8 - 9. (¬6) مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، ص872. (¬7) تفسير الإمام البغوي، 4/ 491، 524، وتفسير ابن كثير، 4/ 516، 549.

المبحث الثامن: حجاب الجنة وحجاب النار

((إذا كان أوّلُ ليلةٍ من شهر رمضان صُفِّدت الشياطين، ومَرَدَةُ الجنّ، وغُلِّقت أبوابُ النار، فلم يُفتح منها بابٌ، وفُتِّحت أبواب الجنة، فلم يُغْلَقْ منها بابٌ، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقْبِلْ، ويا باغي الشر أقصِرْ، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة)) (¬1). المبحث الثامن: حجاب الجنة وحجاب النار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَمَّا خلق الله الجنة والنار، أرسل جبرائيل إلى الجنة فقال: انظر إليها، وإلى ما أعددتُ لأهلها فيها، قال: فجاءها فنظر إليها، وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه، قال: وعِزَّتِكَ لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها، فأمر بها فَحُفَّتْ بالمكاره، فقال: ارجعْ إليها، فانظرْ إليها، وإلى ما أعددتُ لأهلها فيها، قال: فرجع إليها، فإذا هي قد حُفَّت بالمكاره، فرجع إليه، فقال: وعِزَّتِكَ لقد خفتُ أن لا يدخلَها أحد، قال: اذهب إلى النار فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضاً، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع فانظر إليها، [فرجع إليها] فنظر إليها فإذا هي قد حُفَّت بالشهوات، فرجع وقال: وعِزَّتِكَ لقد خشيتُ أن لا ينجوَ منها أحدٌ إلا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل شهر رمضان، برقم 682، والنسائي في كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على معمر فيه، برقم 2105، وابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في فضل شهر رمضان، برقم 1642. وأصل الحديث عند البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم 3277، ومسلم في كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان، برقم 1079.

دخلها)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((حُجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكارِه)) (¬2). والمراد بالشهوات هنا ما أُمر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلاً وتركاً، كالإتيان بالعبادات على وجهها، والمحافظة عليها، واجتناب المنهيات، قولاً وفعلاً (¬3). وهذا الحديث من بديع الكلام، وفصيحه، وجوامعه التي أوتيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التمثيل الحسن، ومعناه لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار بارتكاب الشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهَتْكُ حجاب الجنة بارتكاب المكاره، وهَتْكُ حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها: الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقّها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات، ونحو ذلك. وأما الشهوات التي حُفَّت وحُجبت بها النار، فالظاهر أنها الشهوات ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب صفة الجنة، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات، برقم 2560، والنسائي وغيرهما، وما بين المعقوفين من لفظ الترمذي، وحسنه الألباني في صحيح النسائي، 2/ 797، برقم 3523، وفي صحيح الترمذي، 2/ 318، برقم 2075. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، برقم 6487، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، برقم 2822، 2823. (¬3) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 11/ 320.

المبحث التاسع: أول من يدخل الجنة وأول من يدخل النار

المحرمة كالخمر، والزنا، والنظر إلى الأجنبية، والغيبة، والنميمة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك. أما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه، لكن لا يكثر منها مخافة أن يجره ذلك إلى المحرَّمة، أو يقسِّي القلب، أو يشغل عن الطاعة، أو يُحْوِجُ إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا (¬1). المبحث التاسع: أول من يدخل الجنة وأول من يدخل النار أولاً: أول داخل إلى الجنة: 1 - أول من يدخل الجنة: محمد - صلى الله عليه وسلم -. عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول محمد، فيقول: بك أُمِرتُ لا أفتحُ لأحدٍ قبلك)) (¬2). وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أكثر الأنبياء تَبَعاً يومَ القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة)) (¬3). 2 - أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نحن الآخِرون الأوَّلون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بَيْدَ أنهم أُوتوا الكتاب من قَبْلِنا، وأُوتيناه من بعدهم، فاختلفوا، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي، 17/ 165. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أول الناس يشفع في الجنة ... ))،برقم 197. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أول الناس يشفع في الجنة ... ))، برقم 196.

3 - الفقراء

يومهم الذي اختلفوا فيه، هدانا الله له (قال: يوم الجمعة)، فاليوم لنا، وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى)) (¬1). 3 - الفقراء: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، نصف يوم)) (¬2). وفي لفظ: ((يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمائة عام)) (¬3). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يدخل فقراء المسلمين قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً)) (¬4). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً)) (¬5). والجمع بين الحديثين، والله أعلم: أن الفقراء منهم من يسبق الأغنياء ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم 855. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، برقم 2353، 2354، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب منزلة الفقراء، برقم 4122، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 275، وفي صحيح ابن ماجه، 2/ 396. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، برقم 2354، وقال عنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، 2/ 1342: ((صحيح)). (¬4) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، برقم 2355، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 275، وتحفة الأحوذي، 7/ 18 – 23، وقال الألباني: ((صحيح بلفظ: ((فقراء المهاجرين)). (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، برقم 2979.

ثانيا: أول من يقضى عليه يوم القيامة

بخمسمائة عام، ومنهم من يسبق بأربعين عام، بحسب أحوال الفقراء والأغنياء، كما يتأخر مكث العصاة الموحِّدين بحسب أحوالهم. ولا يلزم من سبق الفقراء في الدخول ارتفاعُ منازلهم عليهم؛ بل قد يكون المتأخر أعلى منزلةً، وإن سبقه غيره في الدخول، فالغني إذا حوسب على غناه فوُجِدَ قد شكر الله تعالى فيه، وتقرّب إليه بأنواع البر، والخير، والصدقة، والمعروف كان أعلى درجة من الفقير الذي سبقه في الدخول، ولم يكن له تلك الأعمال، ولا سيما إذا شاركه الغني في أعماله، وزاده عليه فيها، والله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً. فالمزيَّة مزيتان: السبق، والرفعة، وقد يجتمعان وينفردان، فيحصل لواحد السبق والرفعة، ويعدمهما آخر، ويحصل لآخر السبق دون الرفعة، ولآخر الرفعة دون السبق، وهذا بحسب المقتضى للأمرين، أو لأحدهما، وعدمه، وبالله التوفيق (¬1). ثانياً: أول من يُقضى عليه يوم القيامة ثلاثة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أول من يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأُتي به، فعرَّفه نِعَمَهُ فعرَفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدتُ، قال: كذبت، ولكنك قاتلت، لأن يقال جريءٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقي في النار. ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم، وعلمتُهُ، ¬

_ (¬1) انظر حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح للإمام ابن القيم، ص134.

المبحث العاشر: تحية أهل الجنة وتحية أهل النار

وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنك تعلمتَ العلم ليُقالَ: عالم، وقرأت القرآن ليُقالَ: هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل وسَّعَ الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحبُّ أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليُقال هو جوادٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه ثم أُلقي في النار)) (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم - في الغازي، والعالم، والجواد، وعقابهم على فعلهم ذلك لغير الله، وإدخالهم النار، دليل على تغليظ تحريم الرياء، وشدة عقوبته، وعلى الحث على وجوب الإخلاص في الأعمال، وفيه أن العمومات الواردة في فضل الجهاد إنما هي لمن أراد الله تعالى بذلك مخلصاً، وكذلك الثناء على العلماء، وعلى المنفقين في وجوه الخيرات، كله محمولٌ على من فعل ذلك لله تعالى مخلصاً (¬2). والله أسأل لي ولجميع المسلمين الإخلاص في القول والعمل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. المبحث العاشر: تحية أهل الجنة وتحية أهل النار أولاً: تحية أهل الجنة: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، برقم 1905. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 13/ 54، بتصرف يسير.

ثانيا: تحية أهل النار:

بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1). وقال تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ*وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ* وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ*جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ*سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (¬2)، فينبغي للمؤمن أن يرغب في هذا الخير العظيم {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (¬3). ثانياً: تحية أهل النار: قال الله تعالى في تحية أهل النار: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُِولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} (¬4). وقال تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآيتان: 9 - 10. (¬2) سورة الرعد، الآيات: 20 - 24. (¬3) سورة الشرح، الآية: 8. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 38.

المبحث الحادي عشر: أكثر أهل الجنة وأكثر أهل النار

قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} (¬1). وقال تعالى في أهل النار: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ الله أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} (¬2). المبحث الحادي عشر: أكثر أهل الجنة وأكثر أهل النار أولاً: أكثر أهل الجنة: 1 ـ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله تعالى: ياآدم! فيقول: لبيك وسَعْدَيكَ والخيرُ في يديكَ، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعةً وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سُكارى وما هم بِسُكارى، ولكن عذاب الله شديد))، فاشتد ذلك عليهم، قالوا: يا رسول الله! وأيّنا ذلك الواحد؟ قال: ((أبشروا فإن منكم رجلاً، ومن يأجوج ومأجوج ألف)). ثم قال: ((والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا رُبُعَ أهل الجنة)). فكبرنا فقال: ((أرجو أن تكونوا ثُلُثَ أهل الجنة))،فكبرنا، فقال: ((أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة))، فكبرنا، فقال: ((ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلدِ ثورٍ أبيض، أو ¬

_ (¬1) سورة ص، الآيات: 55 - 60. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 25.

2 ـ الفقراء:

كشعرة بيضاء في جلدِ ثور أسودَ)) (¬1). 2 ـ الفقراء: عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اطَّلعت في الجنة فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء، واطَّلعت في النار فرأيتُ أكثر أهلها النساء)) (¬2). 3 ـ النساء: النساء أكثر أهل الجنة بإضافة الحور العين إلى نساء الدنيا في الجنة، أما نساء الدنيا فهن أقل أهل الجنة، وأكثر أهل النار (¬3). ففي صحيح مسلم أن ابن عُلية قال: أخبرنا أيوب عن محمد قال: إما تفاخروا وإما تذاكروا: الرجالُ في الجنة أكثر أم النساء؟ فقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: أو لم يقل أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشدّ كوكب دُريٍّ في السماء إضاءة، لكل امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، يُرى مُخُّ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، برقم 3348، ومسلم في كتاب الإيمان، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة، برقم 221. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم 3241، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، برقم 2737. (¬3) حادي الأرواح لابن القيم، ص142. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم 3246، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ... ، برقم 2834 واللفظ له.

ثانيا: أكثر أهل النار:

ثانياً: أكثر أهل النار: 1 ـ يأجوج ومأجوج: لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن الله ينادي آدم أن يخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، ثم بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من أمته واحد، ومن يأجوج ومأجوج ألف (¬1). 2 ـ النساء: أكثر أهل النار النساء؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تُكْثِرْنَ اللَّعنَ، وتَكْفُرْنَ العشير)) (¬2). وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اطّلعتُ في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطّلعتُ في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)) (¬3). ¬

_ (¬1) الحديث تقدم تخريجه، وهو في البخاري، برقم 6530، ومسلم، برقم 222. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، برقم 304، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق، برقم 79. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم 3241، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء ... ، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، برقم 2737.

المبحث الثاني عشر: درجات الجنة ودركات النار

المبحث الثاني عشر: درجات الجنة ودركات النار أولاً: درجات الجنة: قال الله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَفَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬1). وقال - عز وجل -: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ الله كَمَن بَاءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (¬2). وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬3). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر (¬4) من الأفق من المشرق أو من المغرب لِتَفَاضُلِ ما بينهم)). قالوا: يا رسول ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآيتان: 95 - 96. (¬2) سورة آل عمران: الآيتان: 162 - 163. (¬3) سورة الأنفال، الآيات: 2 - 4. (¬4) الغابر: الذاهب الماشي الذي تدلى للغروب وبعد عن العيون.

الله! تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم. قال: ((بلى والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين)) (¬1). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يُقال لصاحب القرآن يوم القيامة إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه)) (¬2). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُقال لصاحب القرآن: اقرأْ، وارقَ، ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقّاً على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها)). قالوا: يا رسول الله! ألا ننبئ الناس بذلك؟ قال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم 3256، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يرى الكوكب في السماء، برقم 2831. (¬2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب ثواب القرآن، برقم 3780،وأحمد في المسند، 3/ 40، وأبو يعلى في المسند، برقم 1094،وقال الألباني عنه في صحيح ابن ماجه، برقم 3780: ((صحيح)). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم 1464، والترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب 18، برقم 2914، وأحمد، 2/ 191، وابن حبان كما في الموارد، برقم 1790، والحاكم، 1/ 552 - 553، وصححه، ووافقه الذهبي. وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن صحيح))، وقال الألباني عنه في صحيح الجامع الصغير، 2/ 1029: ((صحيح)).

ثانيا: دركات النار وعمقها:

فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجنة)) (¬1). وأعلى درجات الجنة الوسيلة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإنه من صلى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله ليَ الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة)) (¬2)، وسُمّيت درجة النبي - صلى الله عليه وسلم - الوسيلة؛ لأنها أقرب الدرجات إلى عرش الرحمن، وهي أقرب الدرجات إلى الله تعالى (¬3). ثانياً: دركات النار وعمقها: الدرج إذا كان بعضها فوق بعض، والدرك إذا كان بعضها أسفل من بعض، فالجنة درجات، والنار دركات، وقد تُسمَّى النار درجات أيضاً (¬4). كما قال الله تعالى بعد أن ذكر أهل الجنة وأهل النار: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، برقم 2790، وفي كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ}، برقم 7423. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 384. (¬3) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم، ص99. (¬4) انظر: التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، لابن رجب، ص69. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 132.

وقال - عز وجل - في المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (¬1). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((أنه رأى في النوم كأن ملكين أخذاه فذهبا به إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، قال: وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملكٌ آخر فقال: لم تُرَعْ، قال: فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((نِعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)). فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً (¬2). وعن عتبة بن غزوان قال عن قعر جهنم: (( ... فإنه قد ذُكِرَ لنا أن الحجر يُلقى من شفةِ جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً، لا يدرك لها قعراً، ووالله لتملأن أفعجبتم))؟ (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ سمع وجبة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتدرون ما هذا؟)) قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هذا حجر رُميَ به في النار مُنذُ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها)) (¬4). ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 145. (¬2) أخرجه البخاري في أبواب التهجد، باب فضل قيام الليل، برقم 1121 - 1122. ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، برقم 2479. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، برقم 2967. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، برقم 2844.

المبحث الثالث عشر: أدنى أهل الجنة منزلة، وأهون أهل النار عذابا

المبحث الثالث عشر: أدنى أهل الجنة منزلةً، وأهون أهل النار عذاباً أولاً: أدنى أهل الجنة منزلة: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله تبارك وتعالى: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فَيُخَيَّل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة، قال: فيأتيها فَيُخَيَّل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك عشرة أمثال الدنيا، قال فيقول: أتسخر بي [أو تضحك بي] وأنت الملك))؟ قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه، قال: ((فكان يقال: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة)) (¬1). وفي حديث ابن مسعود وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قصة صاحب الشجرة، وهو أدنى أهل الجنة منزلة، وفيه: ((ويُذَكِّره الله: سل كذا، وكذا، فإذا انقطعت به الأماني قال الله: هو لك وعشرةُ أمثاله، ثم يدخل بيته فتدخل عليه زوجتاهُ من الحور العين، فتقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك، فيقول: ما أُعطي أحدٌ مثل ما أُعطيتُ)) (¬2). وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - يرفعه: ((سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم 6571، ومسلم في كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجاً، برقم 186. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجاً، رقم 187.

ثانيا: أهون أهل النار عذابا وشدة حرارتها، وتفاوتهم فيها:

منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أُدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: أي ربِّ كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم (¬1)؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيتُ ربِّ، فيقول: لك ذلك ومثلُهُ، ومثلُهُ، ومثلُهُ، ومثلُهُ، فقال في الخامسة: رضيت ربِّ، فيقول: هذا لك وعشرةُ أمثالِه، ولك ما اشتهت نفسك، ولذَّت عينُكَ، فيقول: رضيت ربِّ ... )) الحديث (¬2). ثانياً: أهون أهل النار عذاباً وشدة حرارتها، وتفاوتهم فيها: عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي الْمِرْجَل (¬3) بالقُمْقُمْ)) (¬4)، وفي رواية لمسلم: ((ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً)) (¬5). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((ناركم هذه التي يُوقد ابنُ آدم سبعين جزءاً من حَرِّ جهنم، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله! قال: فإنها ¬

_ (¬1) أخذوا أخذاتهم: هو ما أخذوه من كرامة مولاهم وحصلوه. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم 189. (¬3) الْمِرْجَل: قِدر من نحاس، وهو الإناء الذي يُغلى فيه الماء، والميم زائدة؛ لأنه إذا نصب كأنه أقيم على أرجل، ويقال لكل إناء يُغلى فيه الماء من أي صنف كان. والقمقم: معروف من آنية العطار، ويقال: هو إناء ضيق الرأس، يسخن فيه الماء، ويكون من نحاس وغيره، ورواه بعضهم: ((كما يغلي المرجل والقمقم))، وهو أبين إن ساعدته صحة الرواية. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 4/ 110، 315، وفتح الباري لابن حجر، 11/ 430 - 431. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم 6562، ومسلم في كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذاباً، برقم 213، واللفظ للبخاري. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذاباً، برقم 213/ 364.

فُضِّلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اشتكت النارُ إلى ربها فقالت: يا ربِّ أكل بعضي بعضاً، فأذِنَ لها بنفسين: نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف، فهو أشدُّ ما تجدون من الحرِّ، وأشد ما تجدون من الزمهرير)) (¬2). وعن شقيق عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يُؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف مَلَكٍ يجرونها)) (¬3). وعن سمرة - رضي الله عنه - أنه سمع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حُجْزَته (¬4)، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقُوَتِهِ (¬5) (¬6). وهذا الحديث نص في تفاوت عقاب أهل النار، نعوذ بالله منها ومن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم، وبُعد قعرها، وما تأخذ من المعذبين، برقم 2843. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم 3260، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة ويناله الحر في طريقه، برقم 617، والزمهرير: شدة البرودة. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب في شدة حر نار جهنم، وبُعد قعرها، برقم 2842. (¬4) حُجزته: هي معقد الإزار والسراويل. (¬5) ترقُوته: العظم الذي بين ثغر النحر والعاتق، شرح النووي، 17/ 186. (¬6) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب في شدة حر نار جهنم وبُعد قعرها، برقم 2845.

المبحث الرابع عشر: لباس أهل الجنة ولباس أهل النار

كل ما يقرب إليها من قول أو عمل (¬1). المبحث الرابع عشر: لباس أهل الجنة ولباس أهل النار أولاً: لباس أهل الجنة: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} (¬2). وقال سبحانه: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (¬3). وقال - عز وجل -: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (¬4). وقال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (¬5). ¬

_ (¬1) شرح الأبي على صحيح مسلم، 9/ 287. (¬2) سورة الكهف، الآيتان: 30 - 31. (¬3) سورة الإنسان، الآية: 21. (¬4) سورة الحج، الآية: 23. (¬5) سورة فاطر، الآية: 33.

الإستبرق: ما غلظ من الحرير والإبريسم (¬1)، وقيل: هو الديباج الغليظ، أو ديباج يعمل بالذهب، أو ثياب حرير صِفاقٌ نحو الديباج (¬2). الديباج: الثياب المتخذة من الإبريسم (¬3). السندس: نوع من رقيق الديباج (¬4). الدُّرةُ: اللؤلؤة العظيمة (¬5). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) (¬6). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أول زمرة يدخلون الجنة كأن وجوهَهم ضوءُ القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على لون أحسن كوكب دُرِّيّ في السماء، لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين، على كل زوجة سبعون حلة يُرَى مُخُّ سُوقِها من وراء لحومها وحللها، كما يُرَى الشرابُ الأحمرُ في الزجاجة البيضاء)) (¬7). ¬

_ (¬1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 1/ 47. (¬2) القاموس المحيط، ص1120. (¬3) النهاية في غريب الحديث، 2/ 96. (¬4) القاموس المحيط، ص710. (¬5) الدُّرةُ: بالضم هي اللؤلؤ العظيمةُ، وبالكسر ((الدِّرَّةُ: التي يُضرب بها. ودُرِّيٌّ: مضيءٌ، يقال دُرِّيّ السيف: تلألؤهُ وإشراقه)). القاموس المحيط، ص550، والمعجم الوسيط، 1/ 279. (¬6) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، برقم 250. (¬7) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير، 10/ 198،برقم 10321،والبزار كما في الكشف،4/ 202، برقم 3536، وقال ابن القيم في كتابه حادي الأرواح، ص215: ((وهذا الإسناد على شرط الصحيح))، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 411: ((وإسناد ابن مسعود صحيح)).

ثانيا: لباس أهل النار:

أُهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريرٌ، فجعلوا يعجبون من لينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تعجبون من هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسنُ من هذا)) (¬1). ثانياً: لباس أهل النار: بيَّن الله تعالى لباس أهل النار - أعاذنا الله منها - وبيَّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك: قال الله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} (¬2). وقال سبحانه: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} (¬3). قُطِّعَتْ لهم ثياب من نار: أي فُصِّلتْ لهم مقطعات من النار. قال سعيد بن جبير: من نحاس، وهو أشد حرارة إذا حُمِّي. يُصبُّ من فوق رؤوسهم الحميم: وهو الماء الحار في غاية الحرارة، وقال سعيد بن جبير: هو النحاس المذاب، أذاب ما في بطونهم من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم 3249، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل سعد بن معاذ - رضي الله عنه -، برقم 2468، 2469. (¬2) سورة الحج، الآيتان: 19 - 20. (¬3) سورة إبراهيم، الآيتان: 49 - 50.

المبحث الخامس عشر: فرش أهل الجنة وفرش أهل النار

الشحم والأمعاء، وتذوب جلودهم وتتساقط (¬1). مقرنين في الأصفاد: أي القيود بعضهم إلى بعضٍ، قد جُمِعَ بين النظراء، أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف (¬2). سرابيلهم: أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران: وهو الذي تُطلى به الإبل، وقال ابن عباس: القَطِرَانُ: هو النحاس المذاب الحار (¬3). وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وقال: والنائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) (¬4). المبحث الخامس عشر: فُرُشُ أهل الجنة وَفُرُشُ أهل النار أولاً: فرش أهل الجنة جعلنا الله من أهلها: قال الله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} (¬5). وقال سبحانه: {وفُرُشٍ مرفُوعةٍ} (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 213، 4/ 42، 465، وتفسير البغوي، 4/ 67، 438. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 545. (¬3) انظر: المرجع السابق، 2/ 546. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، برقم 934. (¬5) سورة الرحمن، الآية: 54. (¬6) سورة الواقعة، الآية: 34.

ثانيا: فرش أهل النار ولحفهم:

وقال - عز وجل -: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} (¬1). وقال تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (¬2). النمارق: الوسائد (¬3). العبقريّ: قيل: البسط، وقيل: كل شيء من البسط عبقريّ، وصار العبقريّ اسماً ونعتاً لكل ما بُولغ في صفته (¬4). الزرابيّ: البسط. الرفرف: قيل: الوسائد، وقيل: المحابس، وقيل: طرف البساط (¬5). ثانياً: فرش أهل النار ولحفهم: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (¬6). وقال تعالى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ ¬

_ (¬1) سورة الرحمن، الآية: 76. (¬2) سورة الغاشية، الآيات: 13 - 16. (¬3) تفسير ابن كثير، 4/ 504، وحادي الأرواح لابن القيم، ص220. (¬4) حادي الأرواح، ص221، وتفسير ابن كثير، 4/ 281. (¬5) حادي الأرواح لابن القيم، ص220، وتفسير ابن كثير، 4/ 281. (¬6) سورة الأعراف، الآيتان: 40 - 41.

المبحث السادس عشر: طعام أهل الجنة وطعام أهل النار

يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} (¬1). {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ}: أي فرش (¬2). {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}: أي لُحُف (¬3). {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}: أي قطع عذاب كالسحاب العظيم، وأطباق من النار، ودخان، ولهب، وحر من فوقهم ومن تحتهم (¬4). المبحث السادس عشر: طعام أهل الجنة وطعام أهل النار أولاً: طعام أهل الجنة: قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} (¬5). وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 16. (¬2) تفسير ابن كثير، 2/ 215، وتفسير البغوي، 2/ 160. (¬3) انظر: المرجعين السابقين، 2/ 215، 2/ 160. (¬4) تفسير البغوي، 4/ 74، وأيسر التفاسير للجزائري، 4/ 34، وتيسير الكريم الرحمن للسعدي، 6/ 457. (¬5) سورة الزخرف، الآيات: 70 - 73.

ثانيا: طعام أهل النار:

تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} (¬1). وقال - عز وجل -: {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} (¬2). وقال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (¬3). ثانياً: طعام أهل النار: 1 - طعام الزقوم: قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ* لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} (¬4). وقال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الطور، الآيات: 17 - 23. (¬2) سورة الواقعة، الآيتان: 20 - 21. (¬3) سورة الواقعة، الآيات: 18 - 24. (¬4) سورة الواقعة، الآيات: 51 - 56. (¬5) سورة الدخان، الآيات: 43 - 46.

الزقوم: شجرة خبيثة كريهة الطعم، يُكره أهلُ النار على تناوُلِها، فهم يتزقّمونها على أشد كراهة. ومنه قولهم: ... تزقّم الطعام إذا تناوله على كره ومشقّة (¬1). طعام الأثيم: أي الفاجر صاحب الإثم (¬2). كالمهل يغلي في البطون: كعكر الزيت يغلي كغلي الماء الحار إذا اشتدّ غليانه (¬3). 2 - طعام الغِسلين: قال الله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِؤُونَ} (¬4). والغسلين هو: غسالة أبدان الكفار في النار. وقيل: صديد أهل النار كأنه غسالة جروحهم وقروحهم. وقيل: الماء والدم يسيل من لحوم أهل النار (¬5). 3 - طعام ذا غصة: قال سبحانه: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} (¬6). ذا غصة: يأخذ بالحلق، فينشب في الحلق، فلا يدخل ولا يخرج، ¬

_ (¬1) تفسير البغوي، 4/ 154. (¬2) المرجع السابق، 4/ 146 - 154. (¬3) تفسير البغوي، 4/ 154، وتفسير ابن كثير، 4/ 146. (¬4) سورة الحاقة، الآيات: 35 - 37. (¬5) غريب القرآن للأصفهاني، ص361، وتفسير البغوي، 4/ 390، وابن كثير، 4/ 417. (¬6) سورة المزمل، الآيتان: 12 - 13.

المبحث السابع عشر: شراب أهل الجنة وأنهارها وشراب أهل النار

وقيل: هو الزقّوم، والضَّريع (¬1). 4 - طعام الضريع: قال الله تعالى: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِن ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ} (¬2). الضَّريع: قيل هو نبت ذو شوك، تُسَمِّيه قريش الشبرق، فإذا يبس سُمِّي الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه (¬3). المبحث السابع عشر: شراب أهل الجنة وأنهارها وشراب أهل النار أولاً: شراب أهل الجنة وأنهارها: 1 - شراب أهل الجنة: قال الله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} (¬4). فقوله تعالى: {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}، أي: يشربون من كأس فيه شراب كان مزاجه كافوراً: وقد عُلِمَ ما في الكافور من الرائحة الطيبة والتبريد، مع ما يُضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة (¬5). وقيل: يمزج بالكافور، ويختم بالمسك (¬6). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، 4/ 438، وتفسير البغوي، 4/ 410. (¬2) سورة الغاشية، الآيتان: 6 - 7. (¬3) انظر: غريب القرآن للأصفهاني، ص290، وتفسير البغوي، 4/ 478. (¬4) سورة الإنسان، الآيتان: 5 - 6. (¬5) تفسير ابن كثير، 4/ 455. (¬6) تفسير البغوي، 4/ 427.

{يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}: يقودونها، ويتصرفون فيها حيث شاءوا من قصورهم ومجالسهم (¬1). وقال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} (¬2). {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا}: أي يسقون في هذه الأكواب خمراً ممزوجاً بالزنجبيل، فتارةً يُمزج لهم الشراب بالكافور، وهو بارد، وتارةً بالزنجبيل، وهو حارّ. {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً}: اسم عين في الجنة، سلسلة، منقادة لهم، يُصَرِّفُونَها حيث شاءوا (¬3). وقال سبحانه: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ*خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ*وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ*عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (¬4). الرحيق: أي يسقون من خمر من الجنة، والرحيق: من أسماء الخمر، ختامه مسك: أي ممزوج. ختامه: أي آخر طعمه وعاقبته مسك. وقيل: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم (¬5). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، 4/ 455، وتفسير البغوي، 4/ 428. (¬2) سورة الإنسان، الآيات: 15 - 18. (¬3) تفسير ابن كثير، 4/ 457، والبغوي، 4/ 430. (¬4) سورة المطففين، الآيات: 25 - 28. (¬5) ابن كثير، 4/ 487، 488، والبغوي، 4/ 461.

2 - أنهار الجنة:

{وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ}: أي ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم ... أي من شراب يقال له تسنيم، وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه؛ ولهذا قال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}: أي يشرب المقربون التسنيم خالصاً صِرْفاً، وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً (¬1). 2 - أنهار الجنة: قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} (¬2). {مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}: أي غير متغير (¬3). - ونهر الكوثر الذي أُعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حوضي مسيرة شهر، ماؤهُ أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، فمن شرب منه فلا يظمأ أبداً)) (¬4). - وطوله وعرضه سواء: أي طوله مسيرة شهر، وعرضه مسيرة شهر (¬5). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، 4/ 488، والبغوي، 4/ 462. (¬2) سورة محمد، الآية: 15. (¬3) تفسير ابن كثير، 4/ 177، والبغوي، 4/ 181. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب في الحوض، برقم 6579، ومسلم في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، برقم 2292. (¬5) انظر: شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للمؤلف، ص64.

ثانيا: شراب أهل النار أعاذنا الله منها:

وعن أنس - رضي الله عنه - قال: لَمّا عُرِجَ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء قال: ((أتيتُ على نهرٍ حافَّتاه قباب اللؤلؤ مُجوَّفٌ، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر)) (¬1)، وفي رواية: ((بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهرٍ حافتاه قبابُ الدُّرِّ المجوَّف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربُّك، فإذا طينه أو طيبه مِسكٌ أذفر)) (¬2). قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} (¬3)، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليَرِدنَّ عليَّ أناسٌ من أصحابي الحوض)) وفي رواية: ((أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم فأقول: إنهم مني، فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقاً سُحقاً لمن غيَّر بعدي)) وقال ابن عباس: سُحقاً: بُعداً (¬4). ثانياً: شراب أهل النار أعاذنا الله منها: 1 - الحميم: قال الله تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (¬5):أي حاراً شديد الحرارة لايُستطاع، فقطَّع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء (¬6). {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب سورة الكوثر، برقم 4964. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب في الحوض، برقم 6581. (¬3) سورة الكوثر، الآيات: 1 - 3. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب في الحوض، برقم 6583، ومسلم في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، برقم 2290، 2291. (¬5) سورة محمد، الآية: 15. (¬6) تفسير ابن كثير، 4/ 176.

وَالْجُلُودُ} (¬1). 2 - الصديد: قال الله - عز وجل -: {وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} (¬2). والصديد: قيل: هو ما يسيل من أبدان الكفار، وأجوافهم، من القيح والدم (¬3). وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كلّ مُسكرٍ حرامٌ، إنّ على الله - عز وجل - عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)) قالوا: يا رسول الله! وما طينة الخبال؟ قال: ((عَرَقُ أهل النار، أو عُصارة أهل النار)) (¬4). 3 - الماء الذي كالمهل: والمهل: هو: دُرْدِيُّ الزيت (¬5)، وهو ماءٌ غليظٌ، أسود، حارٌّ، منتنٌ، إذا أراد الكافر أن يشربه وَقَرَّبَهُ من وجهه شواه حتى تسقط جلدة وجهه فيه (¬6). قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآيتان: 19 - 20. (¬2) سورة إبراهيم، الآيات: 15 - 17. (¬3) تفسير ابن كثير، 2/ 537، والبغوي، 3/ 29. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، برقم 2002، وانظر: أحاديث في الموضوع صحيح الترمذي، 2/ 169، وصحيح أبي داود، 2/ 701. (¬5) مفردات غريب القرآن للأصفهاني، ص476. (¬6) تفسير ابن كثير، 3/ 82، 4/ 421.

مُرْتَفَقًا} (¬1). 4 - الغَسَّاق: قال تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} (¬2). والغسَّاق: هو البارد الذي لا يُستطاع من شدة برده، يحرقهم ببَرْدِهِ، كما تحرقهم النار بحرّها، وهو الزمهرير، وهو ما اجتمع من صديد أهل النار، وعرقهم، وجروحهم، ودمعهم، فهو بارد مُنْتِنٌ (¬3). 5 - عينٌ آنية: قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} (¬4). و ((آنية)) متناهية في الحرارة والغليان (¬5). وقال تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} (¬6). وكانت العرب تقول للشيء إذا انتهى حرّه حتى لا يكون أحرَّ منه: قد آنَ حرُّهُ (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 29. (¬2) سورة النبأ، الآيات: 24 - 30. (¬3) تفسير ابن كثير، 4/ 42/465، والبغوي، 4/ 67، 438. (¬4) سورة الغاشية، الآيات: 2 - 5. (¬5) تفسير ابن كثير، 4/ 503، وتفسير البغوي، 4/ 478. (¬6) سورة الرحمن، الآية: 44. (¬7) التخويف من النار، لابن رجب الحنبلي، ص150.

المبحث الثامن عشر: قصور أهل الجنة ومساكن أهل النار

المبحث الثامن عشر: قصور أهل الجنة ومساكن أهل النار أولاً: قصور أهل الجنة وخيامهم وغرفهم: قال الله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله الْمِيعَادَ} (¬1). قال ابن كثير رحمه الله: أخبر - عز وجل - عن عباده السعداء أن لهم غرفاً في الجنة، وهي القصور الشاهقة، من فوقها غرف مبنيَّة، طباق فوق طباق، مبنيَّات محكمات، مزخرفات عاليات (¬2). وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ في الجنة غُرفاً يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنُها من ظاهرها، أعدّها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألانَ الكلام، وتابع الصيام، وأفشى السلام، وصلّى بالليل والناس نيام)) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرتك فوليتُ مدبراً))، فبكى عمر وقال: ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 20. (¬2) تفسير ابن كثير، 4/ 50. (¬3) أخرجه أحمد في المسند، 5/ 343، وابن حبان (موارد)، برقم 641، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم 3892، عن أبي مالك الأشعري، والترمذي عن علي - رضي الله عنه - في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في قول المعروف، برقم 1984، وفي كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها، برقم 2527، وقال في الموضعين: هذا حديث غريب، وأحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو، 2/ 173، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 311، وفي صحيح الجامع، 2/ 220، برقم 2119.

((أعليك أغار يا رسول الله؟)) (¬1). وعن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((دخلت الجنة فإذا أنا بقصرٍ من ذهب، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لرجل من قريش، فما منعني أن أدخله يا ابن الخطاب إلا ما أعلمه من غيرتك)). قال: ((وعليك أغار يا رسول الله؟)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا رسول الله! هذه خديجة قد أتتك معها إناءٌ فيه إدامٌ، أو طعام، أو شراب، فإذا هي أتتك (¬3) فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشَّرها ببيتٍ في الجنة من قَصَبٍ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَب)) (¬4). قوله: من قصب: أي من لؤلؤة مجوفة، واسعة، كالقصر المنيف، وقيل بيت من القصب المنظوم بالدر، واللؤلؤ، والياقوت (¬5). وقال الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم 3242، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر - رضي الله عنه -، برقم 2395. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التعبير، باب القصر في المنام، برقم 7024، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر - رضي الله عنه -، برقم 2394. (¬3) أتتك: أي وصلتك. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة وفضلها رضي الله عنها، برقم 3820، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، برقم 2432. (¬5) فتح الباري، 7/ 138.

ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا} (¬1). وعن عبد الله بن قيس عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((في الجنة خيمة من لؤلؤةٍ مُجوَّفةٍ عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن)). وفي رواية لمسلم: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤةٍ واحدةٍ مُجوَّفةٍ، طولُها في السماء ستون ميلاً)) (¬2). ولا منافاة بين طولها وعرضها في الروايتين، فعرضها في مساحة أرضها ستون ميلاً، وطولها في السماء ستون ميلاً في العلو، فطولها وعرضها متساويان (¬3). وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بنى مسجداً لله بنى الله له بيتاً في الجنة)) (¬4). ويقول الله - عز وجل - لمن حَمِدَ واسترجع عند موت ولده: ((ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمُّوه بيتَ الحمد)) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 10. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ في الخِيَام}، برقم 4879، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب في صفة خيام الجنة، وما للمؤمنين فيها من الأهلين، برقم 2838. (¬3) شرح الإمام النووي، 17/ 175. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب من بنى مسجداً، برقم 450، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل بناء المساجد والحث عليها، برقم 533. (¬5) أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب فضل المصيبة إذا احتسب، برقم 1021، وقال: ((حسن غريب))، وأحمد في المسند، 4/ 415، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة، 3/ 399، برقم 1408: ((فالحديث بمجموع طرقه حسن على أقل الأحوال)).

وعن أمِّ حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مسلم يصلي لله كلَّ يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلاَّ بنى الله له بيتاً في الجنة، أو إلاّ بُني له بيتٌ في الجنة)) (¬1). وقد فسرها الترمذي أنها السنن الرواتب. وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2). وفي حديث أبي هريرة الطويل عندما اشتكوا قلوبهم إذا فارقوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أنهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بناء الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لبنةٌ من فضة، ولبنة من ذهب، ومِلاطها المسك الأذفر (¬3)، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم)). ثم قال: ((ثلاثة لا تُردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها فوق الغمام، ويفتح لها أبوب السماء، ويقول الرب تبارك ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، برقم 728/ 103. (¬2) سورة الصف، الآيات: 10 - 12. (¬3) ملاطها: الطين الذي يملط به الحائط، أي يخلط، وفي الحديث: ((إن الإبل يمالطها الأجرب)). أي يخالطها. النهاية في غريب الحديث، 4/ 357.

ثانيا: مساكن أهل النار وسلاسلهم وأنكالهم ومقامعهم:

وتعالى: وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين)) (¬1). ثانياً: مساكن أهل النار وسلاسلهم وأنكالهم ومقامعهم: قال الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} (¬2). {مُقَرَّنِينَ}: أي مكتفين قد قُرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال (¬3). {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}: أي دعوا بالويل، والحسرة، والهلاك، والخيبة، والخسارة، والدمار (¬4). وقال - عز وجل -: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} (¬5). {الأَغْلالُ}: جمع غِلٍّ، وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه، والمعنى أن الأغلال في أعناقهم، والسلاسل متصلة بالأغلال بأيدي الزبانية، يسحبونهم على وجوههم، تارةً إلى الجحيم، وتارةً إلى الحميم (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة غرف الجنة، برقم 2526، وأحمد، 2/ 305، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 311. (¬2) سورة الفرقان، الآيات: 11 - 14. (¬3) تفسير ابن كثير، 3/ 312، والبغوي، 3/ 362. (¬4) انظر: المرجعين السابقين، 3/ 312، 3/ 362. (¬5) سورة غافر، الآيتان: 71 - 72. (¬6) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 3/ 380، وتفسير ابن كثير، 4/ 89.

وقال تبارك وتعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِالله الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِؤُونَ} (¬1). وقال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا} (¬2). وقال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا} (¬3). والأنكال: هي القيود العظام لا تنفك أبداً، وقيل: أغلالاً من حديد (¬4). وقال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (¬5). والمقامع: جمع مِقْمَع، وهو ما يُضرب به ويُذلّل، يقال: قمعته فانقمع (¬6)، وهي سياط من حديد، واحدتها مقمعة، من قولهم: قمعتُ ¬

_ (¬1) سورة الحاقة، الآيات: 30 - 37. (¬2) سورة الإنسان، الآية: 4. (¬3) سورة المزمل، الآية: 12. (¬4) تفسير ابن كثير، 4/ 438، وتفسير البغوي، 4/ 410. (¬5) سورة الحج، الآيات: 19 - 22. (¬6) مفردات غريب القرآن للأصفهاني، ص684.

المبحث التاسع عشر: عظم أجسام أهل الجنة، وعظم أجسام أهل النار

رأسه: إذا ضربته ضرباً عنيفاً (¬1). المبحث التاسع عشر: عِظم أجسام أهل الجنة، وعِظم أجسام أهل النار أولاً: عظم أجسام أهل الجنة، وأعمارهم، وقُوَّتهم: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة أهل الجنة، وفيه: ((أزواجهم الحور العين على خَلْقِ رجلٍ واحدٍ على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء)) (¬2). وعن معاذ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة جُرداً مُرداً، مكحلين، أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة)) (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُعطَى المؤمنُ في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع)). قيل: يا رسول الله أوَ يُطيق ذلك؟ قال: ((يعطى قوة مائة)) (¬4). ثانياً: عظم أجسام أهل النار وأضراسهم وغلظ جلودهم: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما بين منكبي الكافر مسيرة ¬

_ (¬1) تفسير الإمام البغوي، 3/ 281، وتفسير ابن كثير، 3/ 213. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب آدم وذريته، برقم 3327، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، برقم 2834. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في سن أهل الجنة، برقم 2545، وقال: ((هذا حديث حسن غريب)). وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 313 - 314. (¬4) أخرجه الترمذي في كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة جماع أهل الجنة، برقم 2536، وقال: ((هذا حديث صحيح غريب)). وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 313.

ثلاثة أيام للراكب المسرع)) (¬1). وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ضِرسُ الكافر أو ناب الكافر مثل أُحدٍ، وغِلَظُ جلده مسيرة ثلاث)) (¬2). وقال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} (¬3). وقال سبحانه: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} (¬4)، قد بدت أسنانهم ككلوح الرأس النضيج، أو المُشَيَّط بالنار، حتى بدت أسنانهم، وتقلَّصت شفاههم (¬5). وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولاْ} (¬6). وإنَّما عَظُمَ خَلْق الكافر في النار ليعظُم عذابُه، ويُضاعَف ألمه وعقابه، ولا شكّ أن أهل النار يتفاوتون في العذاب، كما عُلِمَ من الكتاب والسنة، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم 6551، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم 2852. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم 2851. (¬3) سورة النساء، الآية: 56. (¬4) سورة المؤمنون، الآية: 104. (¬5) التخويف من النار لابن رجب، ص171. (¬6) سورة الأحزاب، الآية: 66.

المبحث العشرون: أشجار الجنة وظلها، وأشجار النار وظلها

بدليل الحديث الآخر (¬1)، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرّ في صور الرجال، يغشاهم الذُّلُّ من كل مكان، يُساقون إلى سِجْنٍ في جهنم، يُسمَّى بولس، تعلوهم نارُ الأنيار، يُسقون من عصارة أهل النار طينة الخَبَال)) (¬2). المبحث العشرون: أشجار الجنة وظلّها، وأشجار النار وظلها أولاً: أشجار الجنة وظلها: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة شجرةً يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام ما يقطعها)) (¬3). قال الله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ *، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} (¬4). قال العلماء: المراد بظلها: كنفها، وذراها، وهو ما يستر أغصانها (¬5). وقال تعالى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} (¬6). ¬

_ (¬1) فتح الباري، 11/ 423. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة، باب 47، برقم 2492، وأحمد، 2/ 179، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 304، وفي صحيح الجامع، 6/ 327. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم 6553، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، برقم 2828. (¬4) سورة الواقعة، الآيات: 27 - 33. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 167. (¬6) سورة المرسلات، الآيتان: 41 - 42.

وقال سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} (¬1). وقال - عز وجل - في الجنة الأخرى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (¬2). وقال تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} (¬3)، وقال سبحانه: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (¬4)، وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا * جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} (¬5). وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي صلاة الكسوف عناقيد العنب، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك، ثم رأيناك كففت؟ قال: ((إني رأيت الجنة فتناولت منها عُنقوداً، ولو أخذتُه لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أرَ كاليوم منظراً قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء)) (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الرحمن، الآيات: 46 - 52. (¬2) سورة الرحمن، الآية: 68. (¬3) سورة الإنسان، الآية: 14. (¬4) سورة الحاقة، الآيات: 21 - 24. (¬5) سورة النبأ، الآيات: 31 - 36. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف جماعة، برقم 1052، ومسلم في كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، برقم 907.

ثانيا: أشجار النار وظلها:

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوماً يُحدِّث وعنده رجل من أهل البادية: ((أن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزَّرع فقال: أو لست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحبُّ الزرع، فأسرع وبذر فتبادر الطرفَ نباتُهُ واستواؤُه، واستحصاؤه، وتكويره أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: دونك يا ابن آدم؛ فإنه لا يشبعك شيء))، فقال الأعرابي: يا رسول الله لا تجدُ هذا إلا قُرشياً أو أنصارياً؛ فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرعٍ، فضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وهذا الحديث يبيّن أن كل ما اشتهاه أهل الجنة يحصل لهم؛ لأن لهم فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذّ الأعين، وهم فيها خالدون، جعلنا الله منهم (¬2). ثانياً: أشجار النار وظلها: قال الله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} (¬3). وقال سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} (¬4). وقال سبحانه: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع أهل الجنة، برقم 7519. (¬2) انظر: فتح الباري، 5/ 27. (¬3) سورة الدخان، الآيات: 43 - 46. (¬4) سورة الواقعة، الآيات: 51 - 55.

المبحث الحادي والعشرون: خدم أهل الجنة، وزبانية أهل النار

رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ} (¬1). وقال تبارك وتعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيم *، إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} (¬2). وقوله تعالى: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ}: ظل الدخان كقوله تعالى: {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} (¬3). والظل المذكور هو الدخان الأسود المنتن، لا ظليل هو نفسه، ولا يغني من اللهب: يعني: ولا يقيهم حر اللهب (¬4). وقوله: {فِي سَمُومٍ} هو الهواء الحار، {وَحَمِيْمٍ} وهو الماء الحار (¬5). المبحث الحادي والعشرون: خدم أهل الجنة، وزبانية أهل النار أولاً: خدم أهل الجنة وخزنتها: قال الله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآيات: 64 - 67. (¬2) سورة الواقعة، الآيات: 41 - 46. (¬3) سورة المرسلات، الآيات: 30 - 34. (¬4) تفسير ابن كثير، 4/ 461، 495. (¬5) تفسير ابن كثير، 4/ 295.

تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1). وقال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} (¬2). وقال سبحانه: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} (¬3). وقال سبحانه: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} (¬4). وقال الله تعالى في السابقين: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلاً سَلامًا سَلامًا} (¬5). وقال تعالى في خزنة الجنة: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحت أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 71. (¬2) سورة الإنسان، الآيتان: 15 - 16. (¬3) سورة الإنسان، الآية: 19. (¬4) سورة الطور، الآية: 24. (¬5) سورة الواقعة، الآيات: 10 - 26.

ثانيا: زبانية أهل النار وخزنتها

فَادْخَلوها خالِدِينَ} (¬1). ثانياً: زبانية أهل النار وخزنتها: قال الله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (¬2). وقد وصف الله الملائكة الذين على النار بالغلط والشِّدّة، والقوّة، فقال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬3). وقال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} (¬4). والزبانية هم ملائكة العذاب، جمع زبنيّ، مأخوذ من الزبن، وهو الدفع، وأصلها: الشُرَط، وسُمِّي بها بعض ملائكة العذاب؛ لأنهم يدفعون أهل النار إليها (¬5). وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} (¬6). وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 73. (¬2) سورة المدثر، الآيتان: 30 - 31. (¬3) سورة التحريم، الآية: 6. (¬4) سورة العلق، الآيتان: 17 - 18. (¬5) انظر: القاموس المحيط، ص1552، والمعجم الوسيط، 1/ 388، وتفسير البغوي، 4/ 508، وتفسير ابن كثير، 4/ 526. (¬6) سورة الزخرف، الآيتان: 77 - 78.

المبحث الثاني والعشرون: اجتماع المؤمنين بأحبتهم، وفراق أهل النار لأحبتهم

رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬1). وقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ* قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} (¬2). المبحث الثاني والعشرون: اجتماع المؤمنين بأحبتهم، وفراق أهل النار لأحبتهم أولاً: اجتماع المؤمنين بأهليهم وذرياتهم: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (¬3). وقد فسّر ذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: بأن الله تعالى يرفع ذرية المؤمن الذي يموتون على الإيمان في درجته، وإن كانوا دونه في العمل؛ لتقرَّ بهم عينه، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بفضله وكرمه (¬4). وهذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا ربِّ أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك)) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 71. (¬2) سورة غافر، الآيتان: 49 - 50. (¬3) سورة الطور، الآية: 21. (¬4) تفسير ابن كثير 4/ 242. (¬5) أخرجه أحمد في المسند، 2/ 209، قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، 4/ 243: ((إسناده صحيح)).

ثانيا: فراق أهل النار لأحبتهم وأهليهم:

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له)) (¬1). ثانياً: فراق أهل النار لأحبتهم وأهليهم: قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (¬2). وقال سبحانه: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} (¬3): أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبداً، وسواء ذهب أهلوهم إلى الجنة، وذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع في النار أُسكِنُوها، ولكن لا اجتماع لهم، ولا سرور، وهذا هو الخسران المبين الواضح الظاهر؛ لأنهم ذُهِبَ بهم إلى النار، وخسروا لذتهم في دار الأبد، وخسروا أنفسهم، وفُرِّقَ بينهم وبين أحبابهم، وأصحابهم، وأهاليهم، وقراباتهم فخسروهم (¬4). المبحث الثالث والعشرون: نعيم أهل الجنة النفسي، وعذاب أهل النار النفسي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم 1631. (¬2) سورة الزمر، الآية: 15. (¬3) سورة الشورى، الآيتان: 44 - 45. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 49، 121.

أولا: النعيم النفسي لأهل الجنة

أولاً: النعيم النفسي لأهل الجنة: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من خلقك، فيقول: ألا أُعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون؟ يا ربِّ! وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) (¬1). وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيُوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون (¬2)، وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت، ويُقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون ويقولون: نعم هذا الموت، فيؤمر به فيُذْبَح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار خلودٌ فلا موتٌ)) (¬3). وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه وقال: ((فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حُزْناً إلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم 6549، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبداً، برقم 2829. (¬2) يشرئبون: أي يرفعون رؤوسهم إلى المنادي. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، برقم 2849.

ثانيا: العذاب النفسي لأهل النار

حُزْنِهم)) (¬1). ثانياً: العذاب النفسي لأهل النار: قال الله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). وقال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬3). وقال - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ * ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لله الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، برقم 2850. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 22. (¬3) سورة المؤمنون، الآيات: 105 - 111. (¬4) سورة غافر، الآيات: 10 - 12.

المبحث الرابع والعشرون: أعظم نعيم أهل الجنة، وأعظم نعيم أهل النار

وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} (¬1). وقال سبحانه: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} (¬2). وقال تبارك وتعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ} (¬3). وقال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالُواْ إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (¬4). المبحث الرابع والعشرون: أعظم نعيم أهل الجنة، وأعظم نعيم أهل النار أولاً: أعظم نعيم أهل الجنة: قال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآيتان: 49 - 50. (¬2) سورة الزخرف، الآيتان: 77 - 78. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 44. (¬4) سورة الأعراف، الآيتان: 50 - 51. (¬5) سورة يونس، الآية: 26.

فالحُسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم (¬1). وقال تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (¬2). والمزيد هو: النظر إلى وجه الله الكريم (¬3). وقال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن ناساً قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تُضارُّون في القمر ليلة البدر (¬5)؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فهل تُضارُّون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك)) (¬6). وعن جرير - رضي الله عنه - قال: كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس، وصلاةٍ قبل ¬

_ (¬1) انظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح للإمام ابن القيم، ص288. (¬2) سورة ق، الآية: 35. (¬3) انظر: حادي الأرواح، ص291. (¬4) سورة القيامة، الآيتان: 22 - 23. (¬5) هل تضارّون، وفي الرواية الأخرى: هل تضامون، وروي تضارّون بتشديد الراء وبتخفيفها، والتاء مضمومة فيهما، ومعنى المشدد: هل تضارّون غيركم في حالة الرؤية بزحمة أو مخالفة في الرؤية، أو غيرها، لخفائه، كما تفعلون أول ليلة من الشهر. ومعنى المخفف: هل يلحقكم في رؤيته ضير: وهو الضرر، ورُويَ أيضاً تضامّون بتشديد الميم وتخفيفها، فمن شدَّدها فتح التاء، ومن خففها ضم التاء، ومعنى المشدد: هل تتضامّون وتتلطفون في التوصل إلى رؤيته، ومعنى المخفف: هل يلحقكم ضيم، وهو المشقة والتعب. شرح النووي، 3/ 21. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، برقم 7437، ومسلم في كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم 182.

غروب الشمس، فافعلوا)) (¬1). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: ((هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ قلنا: لا، قال: فإنكم لا تضارُّون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما)) (¬2). وعن صهيب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيِّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتُنجِّنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل -)) (¬3). وعن أنس يرفعه: ((إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، برقم 7434، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، برقم 633. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، برقم 7439، ومسلم في كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم 183. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم - سبحانه وتعالى -، برقم 181. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال، برقم 2833.

ثانيا: أعظم عذاب أهل النار:

وعن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) (¬1). ثانياً: أعظم عذاب أهل النار: من أعظم عذاب أهل النار حجابهم عن ربهم تبارك وتعالى. قال تعالى: {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمّئِذ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} (¬2). ومن أعظم عذابهم العذاب المتواصل للكفار والمنافقين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (¬3). وقال تعالى: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} (¬4). وقال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} (¬5). وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}، برقم 4878، ومسلم في كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم - سبحانه وتعالى -، برقم 180. (¬2) سورة المطففين، الآيات: 15 - 17. (¬3) سورة الزخرف، الآيتان: 74 - 75. (¬4) سورة النبأ، الآية: 30. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 100. (¬6) سورة هود، الآية: 106.

المبحث الخامس والعشرون: الطريق إلى الجنة، والطرق إلى النار

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (¬1). وعن عبد الله بن قيس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أهل النار ليبكون حتى لو أُجريت السفن في دموعهم لجرت، وإنهم ليبكون الدم)) يعني مكان الدمع (¬2). المبحث الخامس والعشرون: الطريق إلى الجنة، والطُّرُق إلى النار أولاً: الطريق إلى الجنة: الطريق إلى الجنة: هو طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (¬3). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} (¬4). وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآيتان: 36 - 37. (¬2) أخرجه الحاكم، 4/ 605، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 245، برقم 1679. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 24. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 20.

الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1). وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (¬2). وقال سبحانه: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ الله الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). وقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬4). وقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬5)، وقد أفلح من زكَّى نفسه بطاعة الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (¬6). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلّ أمّتي يدخلون الجنة إلا من أبى)). قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) (¬7). وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن ¬

_ (¬1) سورة الحشر، الآية: 7. (¬2) سورة النور، الآية: 54. (¬3) سورة النور، الآية: 63. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 71. (¬5) سورة النساء، الآية: 13. (¬6) سورة الشمس، الآية: 9. (¬7) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 7280.

عصاني فقد عصى الله)) (¬1). ومن أعظم وأجلّ الأعمال التي تُوصِلُ إلى الجنة: طلب العلم النافع: علم الكتاب والسنة، والعمل بما فيهما، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة)) (¬2)، فالعبد إذا عمل أعمال أهل الجنة وصل إلى الجنة بتوفيق الله تعالى، وقد قال الله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} (¬3)، ومن هذه الأعمال على وجه التفصيل والإيجاز ما يأتي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر: خيره، وشره، والعمل بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، وأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وَصِدْق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، والوفاء بالوعد، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، واليتيم والمسكين، والمملوك من الآدميين، والبهائم، وإكرام الضيف، وتنفيس الكُرَب عن المكروب من المسلمين، والتيسير على المعسر، وستر المسلم، وإعانته، والإخلاص لله، والتوكل عليه، والمحبة له ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، برقم 7137، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، برقم 1835. (¬2) أخرجه البخاري معلقاً في كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل ووصله مسلم من حديث أبي هريرة في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم 2699. (¬3) سورة الضحى، الآية: 4.

ثانيا: الطرق إلى النار:

وخشية الله، ورجاء رحمته، والتوبة والإنابة إليه، والصبر على حكمه، والشكر لنعمه، وقراءة القرآن، وذكر الله، ودعاؤه، ومسألته، والرغبة إليه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين، وأن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فإن الله أعد الجنة للمتقين: {الذينَ يُنفِقونَ في السَّراءِ والضَّراءِ والكاظِمينَ الغيظَ والعافينَ عنِ الناسِ والله يُحبُّ المُحسنينَ} (¬1). والعدل في جميع الأمور وعلى جميع الخلق حتى على الكفار، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام، وحسن الخُلُقِ، والدعوة إلى الله، والنصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، وغير ذلك من أمثال هذه الأعمال التي هي أعمال أهل الجنة، وبها بتوفيق الله يصل العبدُ إلى جنات النعيم وذلك هو الفوز العظيم (¬2). ولا يمكن تفصيل كل الأعمال التي يصل بها الإنسان والجان إلى الجنة؛ لكن أعمال أهل الجنة كلها تدخل في طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬3). ثانياً: الطُّرُقُ إلى النار: الطُّرُقُ إلى النار كثيرة، ويجمعها معصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 134. (¬2) انظر: معظم هذه الأعمال في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية عندما سئل عن أعمال أهل الجنة وأعمال أهل النار فأجاب على ذلك، 10/ 422 - 423. (¬3) سورة النساء، الآية: 13.

الطريق هو الذي يجمع أعمال أهل النار، ويَصِلُ به العبد إلى الخسران المبين، فلا بدّ من الابتعاد عن جميع أعمال أهل النار، ومن هذه الأعمال على وجه التفصيل والإيجاز ما يأتي: الإشراك بالله تعالى، والتكذيب بالرسل، والكفر، والحسد، والكذب، والفجور، والخيانة، والظلم، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، والشح، واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله تعالى، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، ورجاء المخلوق دون الخالق، والتوكل على المخلوق دون الخالق، والعمل رياءً وسمعةً، ومخالفة الكتاب والسنة، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب بالباطل، والاستهزاء بآيات الله، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة، والسحر، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وإعطاء الرشوة وأخذها، وأكل أموال الناس بالباطل، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، وشرب الخمر، والكبر، والخيلاء، والسرقة، واليمين الغموس، وتشبّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، والمنّ بالعطية، وإنفاق السلعة بالحلف الكاذبة، وتصديق الكاهن والمنجم، والتصوير لذوات الأرواح، واتخاذ القبور مساجد، والنياحة على الميت، وإسبال الإزار، ولبس الحرير أو الذهب للرجال، وأذى

الجار، وإخلاف الوعد، وغير ذلك من أمثال هذه الأعمال التي يصل بها الإنسان والجان إلى جهنم نعوذ بالله منها (¬1). ولا يمكن تفصيل الأعمال التي توصل إلى النار، لكن أعمال أهل النار كلها تدخل في معصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (¬2)، وقال الله تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} (¬3). ويجمع ما تقدم كله قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬4). والله أسال بأسمائه الحُسنى، وصفاته العُلا، أن يهدينا سواء السبيل، ونسأل الله الجنة دار أهل الفوز العظيم، وما يقرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بالله من النار دار أهل الخسران المبين، وما يقرب إليها من قول أو عمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 10/ 423 - 424، والكبائر للذهبي، وتنبيه الغافلين وتحذير السالكين من أفعال الهالكين، لأحمد بن إبراهيم النحاس. (¬2) سورة النساء، الآية: 14. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 36. (¬4) سورة العصر، الآيات: 1 - 3.

الرسالة السادسة: النور والظلمات في الكتاب والسنة

الرسالة السادسة: النور والظلمات في الكتاب والسنة التمهيد: لا ريب أن الله - عز وجل - أنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الوحي، وسمّاه روحاً؛ لأن الروح يحيا به الجسد، والقرآن تحيا به القلوب والأرواح، وتحيا به مصالح الدين والدنيا والآخرة، وجعله الله نوراً يهدي به من يشاء من عباده، فيستضيئون به في ظلمات الكفر، والشبهات والضلال، ويهتدون به إلى صراط مستقيم، قال الله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى الله تَصِيرُ الأمُورُ} (¬1). والله - عز وجل - يُخْرِجُ الناس بالوحي من ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة إلى نور العلم والإيمان والأخلاق الحسنة، قال - عز وجل -: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬2). وسأبيِّن ذلك بالتفصيل والإيجاز في المبحثين الآتيين: المبحث الأول: النور والظلمات في الكتاب الكريم جاء في كتاب الله - عز وجل - ذكر النور والظلمات في آيات كثيرة، وهذا فيه دلالة على الترغيب في العمل لاكتساب النور، وسؤال الله ذلك، والترهيب من ¬

_ (¬1) سورة الشورى، الآيتان: 52 - 53. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 1.

1 - {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}

الظلمات والاستعاذة بالله من ذلك، ومن هذه الآيات ما يأتي: 1 - قال الله - عز وجل - في شأن المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (¬1). جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة، ومقاتل، والضّحاك، والسُّدّي أن هذه الآيات نزلت في المنافقين، يقول: مَثَلُهم في نفاقهم كمَثَلِ رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة، فاستدفأ ورأى ما حوله، فاتقى مما يخاف، فبينما هو كذلك إذ طَفئت نارُه، فبقي في ظلمة خائفاً متحيِّراً، فكذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أَمِنوا على أموالهم، وأولادهم، وناكحوا المؤمنين، ووارثوهم، وقاسموهم الغنائم، فذلك نورهم، فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف (¬2). واختار الإمام ابن جرير الطبري هذا القول، فقال: ((وأولى التأويلات بالآية: ما قاله قتادة، والضحاك، وما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس)) (¬3)، وذكر رحمه الله أن هؤلاء المنافقين أظهروا إيمانهم بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، حتى حُكِمَ لهم بذلك في الدنيا: في حقن الدماء والأموال، والأمن على الذرِّية، كمثل استضاءة الموقد للنار بالنار، حتى إذا انتفع بضيائها، وأبصر ما حوله خمدت النار، فذهب نوره، وعاد في ظلمة وحيرة، فالله - عز وجل - يُطفئ نورهم يوم القيامة، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيتان: 17 - 18. (¬2) تفسير البغوي، 1/ 53. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 1/ 324، وذكر سنده لقولهم في: 1/ 323.

فيستنظروا المؤمنين؛ ليقتبسوا من نورهم، فيقال لهم: ((ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً)) (¬1)، فقد حصل لهم في الآخرة ظلمة القبر، وظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة المعاصي على اختلاف أنواعها (¬2). واختار الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى أن هؤلاء آمنوا ثم كفروا فقال: ((وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله، وانتفع بها، وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، واستأنس بها، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يُبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصمُّ لا يسمع، أبكمُ لا ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغيّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا)) (¬3)، وقال رحمه الله: ((وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} (¬4)، والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينافي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سُلبوه، وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن،1/ 326،والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 1/ 230. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص27. (¬3) تفسير القرآن العظيم، 1/ 51. (¬4) سورة البقرة، الآية: 8.

ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} (¬1) انتهى (¬2). قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: ((مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد ناراً: أي كان في ظلمة عظيمة، وحاجة إلى النار شديدة، فاستوقدها من غيره، ولم تكن عنده مُعدَّةً، بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله، ونظر المحل الذي هو فيه، وما فيه من المخاوف، وأمنها، وانتفع بتلك النار، وقرت بها عينه، وظن أنه قادر عليها، فبينما هو كذلك ذهب الله بنوره، فزال عنه النور، وذهب معه السرور، وبقي في الظلمة العظيمة، والنار محرقة فذهب ما فيها من الإشراق، وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، والظلمة الحاصلة بعد النور، فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون، استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين، ولم تكن صفةً لهم، فاستضاؤوا بها مؤقتاً، وانتفعوا، فحُقنت بذلك دماؤهم، وسَلِمت أموالهم، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم كذلك إذ هجم عليهم الموتُ فسلبهم الانتفاع بذلك النور، وحصل لهم كلُّ همٍّ وغمٍّ وعذاب، وحصل لهم: ظلمة القبر، وظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة المعاصي، على اختلاف أنواعها، وبعد ذلك ظلمة النار وبئس القرار؛ فلهذا قال تعالى: {صُمٌّ} أي عن سماع الخير، {بُكْمٌ} أي عن النطق به، {عُمْيٌ} أي عن رؤية الحق، {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}؛ لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه، فلا ¬

_ (¬1) سورة المنافقون، الآية: 3. (¬2) تفسير القرآن العظيم، 1/ 51.

يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل، فإنه لا يعقل، وهو أقرب رجوعاً منهم)) (¬1). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((شبَّه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا ناراً؛ لتضيء لهم، وينتفعوا بها، فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين، فهم قوم سَفَر ضلُّوا الطريق فأوقدوا النار تضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم وأبصروا وعرفوا طفئت تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون، وقد سُدّت عليهم أبواب الهدى الثلاثة؛ فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: مما يسمعه بأذنه، ويراه بعينه، ويعقله بقلبه، وهؤلاء قد سُدَّت عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم شيئاً، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها)) (¬2). وبيَّن رحمه الله تعالى أن الله - سبحانه وتعالى -: ((سَمَّى كتابه نوراً، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - نوراً، ودينه نوراً، وهُدَاه نوراً، ومن أسمائه النور، والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم ذهاب بهذا كله)) (¬3)، وبيّن رحمه الله: ((أن الخارجين عن طاعة الرسل يتقلَّبون في عشر ظلمات: ظلمة الطبع، وظلمة الجهل، وظلمة الهوى، وظلمة القول، وظلمة العمل، وظلمة المدخل، وظلمة المخرج، وظلمة القبر، وظلمة القيامة، وظلمة دار القرار، فالظلمة لازمة لهم في دورهم الثلاث، وأتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص27. (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية، 2/ 63. (¬3) المرجع السابق، 2/ 35، وانظر: 2/ 44.

2 - {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق}

يتقلبون في عشرة أنوار، ولهذه الأمة ونبيها - صلى الله عليه وسلم - من النور ما ليس لأمة غيرها، ولنبيها - صلى الله عليه وسلم - من النور ما ليس لنبي غيره)) (¬1). 2 - وقول الله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ والله مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} (¬2)، وهذا مثل آخر ضربه الله - عز وجل - للمنافقين، بمعنى: إن شئت مثِّلْهم بالمستوقد، وإن شئت بأهل الصيِّب، وهو المطر الذي يصوب: أي ينزل من السماء إلى الأرض، وقيل: {أَوْ} بمعنى الواو، يريد: وكصيِّبٍ {فِيهِ ظُلُمَاتٌ} أي: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، {وَرَعْدٌ}: وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، {وَبَرْقٌ}، وهو الضوء اللامع المشاهد مع السحاب {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} البرق في تلك الظلمات {مَّشَوْاْ فِيهِ}، {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ}: أي وقفوا متحيرين (¬3). فالله تعالى شَبَّههم في كفرهم ونفاقهم بقومٍ كانوا في مفازةٍ وسوادٍ في ليلةٍ مظلمة، أصابهم فيها مطرٌ فيه ظلمات، من صفتها أن السَّاري لا ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 2/ 43. (¬2) سورة البقرة، الآيتان: 19 - 20. (¬3) انظر: جامع البيان عن تأويل القرآن، للطبري، 1/ 333 - 362، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 1/ 233 - 242، وتفسير البغوي، 1/ 53 - 54، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 1/ 53، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص27.

يمكنه المشي فيها، وصواعق من صفتها أن يضم السامعون أصابعهم إلى آذانهم من هولها، وقوة صوتها المخيفة، وبرق من صفته أن يقرب من خطف أبصارهم، ويعميها من شدة توقُّده. فهذا مَثَلٌ ضربه الله للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه، فالمطر: القرآن؛ لأنه حياة القلوب، كما أن المطر حياة الأبدان، والظلمات: الكفر والشرك الذي حذَّر عنه القرآن، والرعد ما خوِّفوا به من الوعيد، وذكر النار، والبرق ما فيه من الهدى والبيان، والوعد، وذكر الجنة، فالمنافقون يسدُّون آذانهم عند قراءة القرآن، مخافةَ ميل القلب إليه؛ لأن الإيمان عندهم كفر، والكفر موت {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}: أي يبهر قلوبهم (¬1). وقال العلامة السعدي رحمه الله بعد أن ذكر تفسير الآية: ((فهكذا حالة المنافقين إذا سمعوا القرآن، وأوامره، ونواهيه، ووعده، ونهيه، ووعيده جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، فيروعهم وعيده، وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم، ويكرهونها كراهة صاحب الصيِّب الذي يسمع الرعد فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت، فهذا ربما حصلت له السلامة، وأما المنافقون فأنَّى لهم السلامة، وهو تعالى محيط بهم: قدرةً، وعلماً، فلا يفوتونه، ولا يعجزونه، بل يحفظ عليهم أعمالهم، ويجازيهم عليها أتمَّ الجزاء، ولَمّا كانوا مُبتلين بالصَّمَمِ، والبكم، والعمى المعنوي، ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ¬

_ (¬1) تفسير البغوي، 1/ 54.

3 - {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}

وَأَبْصَارِهِمْ} أي الحسية، ففيه تخويف لهم، وتحذير من العقوبة الدنيوية؛ ليحذروا فيرتدعوا عن بعض شرهم، ونفاقهم {إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئاً فعله من غير ممانع ولا معارض)) (¬1). وقد تكلَّم الإمام ابن القيم رحمه الله كلاماً نفيساً بعد أن ذكر المثل الناري للمنافقين، فقال: ((ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي، فشبههم بأصحاب صيِّب، وهو المطر الذي يصوَّب: أي ينزل من السماء، فيه ظلمات، ورعد، وبرق؛ فلضعف بصائرهم وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن، ووعده، ووعيده، وتهديده، وأوامره، ونواهيه، وخطابه الذي يشبه الصواعق، فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة، ورعد، وبرق؛ فلضعفه وخوفه جعل أصبعيه في أذنيه خشيةً من صاعقة تصيبه)) (¬2). 3 - قال الله - عز وجل -: {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3). لا شك أن الله - عز وجل - نصير المؤمنين، وظهيرهم، ويتولاهم بعونه وتوفيقه، ويخرجهم من ظلمات: الكفر، والشرك، والضلالة، إلى نور: ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص27. (¬2) أمثال القرآن، ص18، وانظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم، 2/ 68، ففيه كلام عظيم النفع. (¬3) سورة البقرة، الآية: 257.

4 - {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم}

الإيمان، والتوحيد، والهداية، وقد جعل سبحانه الظلمات للكفر مثلاً؛ لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجبٌ أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحة أسبابه، فالله - عز وجل - وليُّ المؤمنين، ومُبصِّرهم حقيقة الإيمان، وسبله، وشرائعه، وحججه، وهاديهم فموفِّقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظُلَمِ سواتره عن إبصار القلوب، والذين كفروا بجحد وحدانيته، نُصَراؤهم وظُهراؤهم الذين يتولونهم {الطَّاغُوتُ} وهم: الأنداد، والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله، يخرجونهم من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر، وشكوكه الحائلة دون إبصار القلوب، ورؤية ضياء الإيمان وحقائق أدلته وسُبُله (¬1). 4 - وقال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِالله وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} (¬2). فبيّن الله - عز وجل - أنه قد جاء جميع الناس حجة منه سبحانه، وبرهان قاطع للعذر، والحجة المزيلة للشبهة، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي جعله الله حجة قطع بها أعذار الناس، وأنزل الله معه النور الواضح المبين ((وهو القرآن الكريم)) الذي يُبيّن الحجة الواضحة، والسبل الهادية إلى ما فيه النجاة من ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 1/ 318، و5/ 424، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 3/ 282. (¬2) سورة النساء، الآيتان: 174 - 175.

5 - {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين}

عذاب الله، وأليم عقابه، لمن سلكها واستنار بضوئها (¬1). والله - عز وجل - قد جعل النور في كتبه التي أنزلها على رسله، قال الله - عز وجل -: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} (¬2)، وقال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} (¬3)، وقال تعالى في عيسى - صلى الله عليه وسلم -: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} (¬4)، وقد أنزل الله - عز وجل - القرآن الكريم، وختم به هذه الأنوار، فهو النور الأعظم، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله} (¬5). 5 - وقال الله - عز وجل -: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} (¬6): يعني بالنور محمداً - صلى الله عليه وسلم - الذي أنار الله به الحق، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به، يُبيّن الحق، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (¬7)، ومن إنارته - صلى الله عليه وسلم - للحق تبيينه لليهود كثيراً مما كانوا يخفون من الكتاب، وقوله تعالى: {وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} يعني كتاباً فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم: من توحيد الله، وحلاله، وحرامه، وشرائع دينه، وهو القرآن الذي أنزله ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 9/ 427،وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 1/ 560. (¬2) سورة المائدة، الآية: 44. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 91. (¬4) سورة المائدة، الآية: 46. (¬5) سورة المائدة، الآية: 48. (¬6) سورة المائدة، الآيتان: 15 - 16. (¬7) سورة الأحزاب، الآيتان: 45 - 46.

6 - {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض}

على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يُبين للناس ما بهم الحاجة إليه من أمر دينهم، ويوضحه لهم، حتى يعرفوا حقَّه من باطله (¬1). {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} سبل السلام: طرق السلام، والسلام هو الله - عز وجل -، وسبيل الله الذي شرعه لعباده، ودعاهم إليه، وابتعث به رسله: هو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا به، ويخرجهم من الظلمات إلى النور: يعني من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإسلام وضيائه (¬2). وقال السعدي رحمه الله: ((ظلمات: الكفر، والبدعة، والمعصية، والجهل والغفلة، إلى نور: الإيمان، والسنة، والطاعة، والعلم والذكر)) (¬3). 6 - وقال - عز وجل -: {الْحَمْدُ لله الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} (¬4)، قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: ((واختلف العلماء في المعنى المراد بالظلمات والنور، فقال السدي، وقتادة، وجمهور المفسرين: المراد سواد الليل، وضياء النهار، وقال الحسن: الكفر، والإيمان، قلت: اللفظ يعمُّه)) (¬5)، وقال السعدي رحمه الله: ((فحَمِد نفسه على خلق السموات والأرض ¬

_ (¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 10/ 143. (¬2) المرجع السابق، 10/ 145. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص188. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 1. (¬5) الجامع لأحكام القرآن، 6/ 361.

7 - {أو من كان ميتا فأحييناه}

الدّالّة على كمال قدرته، وسَعَة علمه، ورحمته، وعموم حكمته، وانفراده بالخلق والتدبير، وعلى جعله الظلمات والنور، وذلك شامل للحسِّي من ذلك: كالليل والنهار، والشمس والقمر، والمعنوي: ظلمات: الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة، ونور العلم، والإيمان، واليقين، والطاعة، وهذا كله يدلّ دلالة قاطعة أنه تعالى هو المستحق للعبادة وإخلاص الدين له (¬1). 7 - وقال - سبحانه وتعالى -: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬2). هذا مثل ضربه الله للمؤمن الذي كان ميتاً: أي في الضلالة حائراً، فأحيا الله قلبه بالإيمان، وهداه له ووفقه لاتِّباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، فقد كان ميِّت القلب بعدم روح العلم والهدى والإيمان، وبجهله بتوحيد الله وشرائع دينه، وتَرْكِهِ العمل لله بما يؤدي إلى نجاته، فأحياه الله بروح أخرى غير الروح التي أحيا بها بدنه، وهي روح هدايته للإسلام، ومعرفة الله وتوحيده، ومحبته، وعبادته وحده لا شريك له، وجعل له نوراً يمشي به بين الناس، وهو نور القرآن والإسلام، فهل يستوي هذا بمن هو في الظلمات: ظلمات الجهل، والكفر، والشرك، والشكّ، والغيّ والإعراض، والمعاصي؟ ليس بخارجٍ منها؛ قد التبست عليه الطرق ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص212. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬3) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 2/ 163.

8 - {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم}

وأظلمت عليه المسالك، فحضره الهمُّ، والغمُّ، والحزن، والشقاء، فنبه - عز وجل - العقول بما تدركه وتعرفه، أنه لا يستوي هذا ولا هذا، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، والأحياء والأموات، فكأنه قيل: فكيف يُؤثِر من له مسكة من عقل أن يكون بهذه الحالة، وأن يبقى في الظلمات متحيِّراً؛ فأجاب بأنه {زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، فلم يزل الشيطان يُحَسِّن لهم أعمالهم، ويُزَيِّنُها في قلوبهم، حتى استحسنوها ورأوها حقاً، وصار ذلك عقيدة في قلوبهم، وصفة راسخة ملازمة لهم (¬1). 8 - وقال - سبحانه وتعالى -: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬2). بيّن وأوضح - سبحانه وتعالى - أن اليهود والنصارى ومن معهم من المشركين {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ} ونور الله: دينه الذي أرسل به محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وسمّاه الله نوراً؛ لأنه يستنار به في ظلمات الجهل، والأديان الباطلة؛ فإنه علمٌ بالحق، وعملٌ بالحق، ويدخل في هذا النور حجج الله على توحيده؛ فإنّ البراهين نور لما فيها من البيان، فهؤلاء اليهود والنصارى ومن ضاهاهم من المشركين يريدون أن يطفئوا نور الله بمجرد أقوالهم الباطلة، وجدالهم، وافترائهم، فمثلهم كمثل من يريد أنْ يُطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه، وهذا لا سبيل إليه، فلا على ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 12/ 88، ومدارج السالكين، لابن القيم، 3/ 258، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 2/ 163، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص234. (¬2) سورة التوبة، الآية: 32.

9 - {قل هل يستوي الأعمى والبصير}

مرادهم حصلوا، ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها (¬1)، قال الله - عز وجل -: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬2). 9 - وقال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (¬3)، قال قتادة: ((أما الأعمى والبصير: فالكافر والمؤمن، وأما الظلمات والنور: فالهدى والضلالة)) (¬4). 10 - وقال - عز وجل -: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬5)، قال قتادة: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي: من الضلالة إلى الهدى)) (¬6)، قال السعدي رحمه الله: ليخرج الناس من ظلمات الجهل، والكفر، والأخلاق السيئة، وأنواع المعاصي إلى نور العلم، والإيمان، والأخلاق الحسنة)) (¬7). 11 - وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 14/ 213 - 214، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 8/ 614، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 2/ 334، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص295، وص797. (¬2) سورة الصف، الآيتان: 7 - 8. (¬3) سورة الرعد، الآية: 16. (¬4) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 16/ 407. (¬5) سورة إبراهيم، الآية: 1. (¬6) جامع البيان عن تأويل أي القرآن، للطبري، 16/ 512. (¬7) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص375.

12 - {الله نور السموات والأرض}

مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (¬1): أي ادعهم من الضلالة إلى الهدى (¬2). وقال السعدي رحمه الله: ((أي ظلمات الجهل والكفر، وفروعه إلى نور العلم والإيمان وتوابعه)) (¬3). 12 - وقال الله - عز وجل -: {الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4). وقد فُسِّرَ قوله تعالى: {الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} فقيل في تفسير ذلك أقوال: 1 - الله هادي أهل السموات والأرض. 2 - الله يُدبِّر الأمر في السموات والأرض: نجومها، وشمسها، وقمرها، فهو سبحانه مُنوِّر السموات والأرض. 3 - الله ضياء السموات والأرض (¬5). ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية: 5. (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 16/ 518. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص316. (¬4) سورة النور، الآية: 35. (¬5) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، 19/ 177، وتفسير البغوي، 3/ 345، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 11/ 258، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 280، واجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، 2/ 44.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلِّها)) (¬1). فالله - عز وجل - هادي أهل السموات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من الضلالة ينجون، وهو سبحانه منوِّر السموات والأرض، ومُدَبِّر الأمر فيهما: بنجومها، وشمسها، وقمرها، وهو - عز وجل - نور؛ فقد سمَّى نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله نوراً، ودينه نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نوراً تتلألأ (¬2). قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (({الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، الحسي والمعنوي، وذلك أنه تعالى بذاته نور، وحجابه نور، الذي لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبه استنار العرش، والكرسي، والشمس، والقمر، والنور، وبه استنارت الجنة. وكذلك المعنوي يرجع إلى الله: فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور، فلولا نوره تعالى لتراكمت الظلمات؛ ولهذا كل محل يفقد نوره فَثمَّ الظلمة والحصر)) (¬3). والنور يضاف إلى الله - عز وجل - على وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله، فالأول كقوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ ¬

_ (¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 46. (¬2) انظر: المرجع السابق، 2/ 44. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص517.

رَبِّهَا} (¬1)، فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء (¬2)، وقد ثبتت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات صفة النور والفعل لله - عز وجل -، وأنه نور السموات والأرض وما فيهما، ومُنوِّرهما وما فيهما، وهي على النحو الآتي: الحديث الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام يتهجَّد من الليل قال: ((اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيِّم السموات والأرض ومن فيهن ... )) الحديث (¬3). الحديث الثاني: حديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات فقال: ((إن الله - عز وجل - لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابُه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) (¬4). فالله - عز وجل - لا ينام وهو منزه عن ذلك، قال الله - عز وجل -: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} (¬5)، والسِّنة: النعاس. وهو - عز وجل - يخفض الميزان ويرفعه، وسُمِّي الميزان قسطاً؛ لأن القسط العدل وبالميزان ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 69. (¬2) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 45. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب التهجد بالليل، 1/ 532، برقم 1120، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 769. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا ينام))، 1/ 162، برقم 179. (¬5) سورة البقرة، الآية: 255.

يقع العدل. والمراد أن الله تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة، ويوزن من أرزاقهم النازلة، وقيل: المراد بالقسط: الرزق الذي هو قسط كل مخلوق يخفضه فيقتره، ويرفعه فيوسعه، والله أعلم (¬1)، وهو - عز وجل - يُرفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار الذي بعده، وعمل النهار قبل عمل الليل الذي بعده؛ فإن الملائكة الحَفَظَة يصعدون بأعمال الليل بعد انقضائه في أول النهار، ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول الليل، والله أعلم (¬2)، والله تبارك وتعالى حجابه النور: أي الحجاب المانع والساتر من رؤيته النور، وسبحات وجهه: نوره وجلاله، ولو كشف وأزال الحجاب المُسمَّى نوراً، وتجلّى لخلقه لأحرقت سبحات وجهه جميع مخلوقاته؛ لأن بصره - عز وجل - محيط بجميع الكائنات (¬3). الحديث الثالث: حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:هل رأيت ربك؟ قال: ((نورٌ أنَّى أراه))،وفي رواية: ((رأيتُ نوراً)) (¬4)،والمعنى حجابه النور فكيف أراه (¬5)،قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (( ... سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ((معناه كان ثَمَّ نور، أو حال دون رؤيته نور، فأنّى أراه)) (¬6). وقوله - عز وجل -: {مَثَلُ نُورِهِ} قيل في تفسير ((الهاء)) أقوال على النحو الآتي: ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 16. (¬2) انظر: المرجع السابق، 3/ 17. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 17. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نور أنى أراه)) 1/ 161، برقم 178. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 15. (¬6) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 47.

القول الأول: مثل نور الله: أي مثل: هدى الله في قلب المؤمن. القول الثاني: مثل نور المؤمن الذي في قلبه من القرآن والإيمان. القول الثالث: مثل نور محمد - صلى الله عليه وسلم -. القول الرابع: مثل نور القرآن (¬1). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والصحيح أنه يعود على الله - عز وجل -، والمعنى: مثل نور الله - سبحانه وتعالى - في قلب عبده، وأعظم عباده نصيباً من هذا النور رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا مع تضمُّن عود الضمير إلى المذكور، وهو وجه الكلام، يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتمّ معنىً ولفظاً، وهذا النور يضاف إلى الله تعالى إذ هو معطيه لعبده، وواهبه إياه، ويُضاف إلى العبد إذ هو محله وقابله، فيضاف إلى الفاعل والقابل، ولهذا النور فاعل، وقابل، ومحل، وحامل، ومادة، وقد تضمَّنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل: فالفاعل هو الله تعالى، مُفيض الأنوار، الهادي لنوره من يشاء، والقابل العبد المؤمن، والمحل قلبه، والحامل: همته، وعزيمته، وإرادته، والمادة: قوله وعمله)) (¬2). وقوله - عز وجل -: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} فيه أقوال النحو الآتي: القول الأول: المشكاة: كلّ كُوَّةٍ لا منفذ لها، وهذا مثل ضربه الله ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 19/ 178 - 179، وتفسير البغوي، 3/ 345، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 11/ 261، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 280. (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 49 - 50.

لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والمصباح قلبه، والزجاجة صدره. القول الثاني: المشكاة: صدر المؤمن، والمصباح القرآن والإيمان، والزجاجة قلبه. القول الثالث: هو مثل للمؤمن غير أن المصباح وما فيه مثل لفؤاده، والمشكاة مثل لجوفه، ومعنى نور على نور: يعني إيمانه وعمله. القول الرابع: مثل القرآن في قلب المؤمن. واختار الإمام ابن جرير رحمه الله أن أولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلوب أهل الإيمان به، فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد الذي أنزله إليهم، فآمنوا به وصدّقوا بما فيه، في قلوب المؤمنين مثل مشكاة، وهي عمود القنديل الذي في الفتيلة، وذلك هو نظير الكوّة التي تكون في الحيطان لا منفذ لها، وإنما جعل ذلك العمود مشكاة لأنه غير نافذ، وهو أجوف مفتوح الأعلى، فهو كالكوّة التي في الحائط لاتنفذ، {فِيهَا مِصْبَاحٌ}: والمصباح هو السراج، وجعل السراج هو المصباح مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}: يعني أن السراج الذي في المشكاة في القنديل: وهو الزجاجة وذلك مثل القرآن، يقول القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله قلبه في صدره، ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله، والشك فيه واستنارته بنور القرآن، واستضاءته بآيات ربه البينات، ومواعظه فيها بالكوكب الدّريّ، فقال:

{الزُّجَاجَةُ}، وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه، كأنه كوكب دُرّيّ)) (¬1). وقوله تعالى: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ}، وفي تفسيرها أقوال: 1 - قيل: شرقية غربية تطلع عليها الشمس بالغداة، وتغرب عليها، فيصيبها حر الشمس بالغداة والعشي، وهذا أجود لزيتها. 2 - وقيل: هي شجرة وسط الشجر ليست من الشرق ولا من الغرب. 3 - وقيل: هي شجرة ليست من شجر الدنيا. قال الإمام الطبري رحمه الله: ((وأولى هذه الأقوال قول من قال: إنها شرقية غربية، وقال: ومعنى الكلام: ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب، فهي شرقية غربية)) (¬2). وقوله تعالى: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. والمعنى: هذا القرآن نور من عند الله أنزله إلى خلقه يستضيئون به {عَلَى نُورٍ} على الحجج والبيان الذي قد نصبه لهم قبل مجيء القرآن، مما يدل على حقيقة وحدانيته، وذلك بيان من الله، ونور على البيان، والنور ¬

_ (¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 184، بتصرف يسير. (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 187، وانظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 11/ 261، وتفسير البغوي، 3/ 347، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 281، واجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 51، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص517.

الذي كان وضعه لهم ونصبه قبل نزوله، والله - عز وجل - يوفق لاتّباع نوره من يشاء من عباده، ويُمثّل الأمثال والأشباه للناس، كما مثل لهم هذا القرآن في قلب المؤمن بالمصباح في المشكاة، وسائر ما في هذه الآية من الأمثال، وهو سبحانه يضرب الأمثال عن علم سبحانه - عز وجل - (¬1). وذكر ابن كثير رحمه الله أن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال في تفسير: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} [إيمان العبد وعمله]: ((فهو يتقلب في خمسة أنوار: فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة)) (¬2). وتكلّم العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله على تفسير: {مَثَلُ نُورِهِ} الذي يهدي إليه، وهو نور الإيمان والقرآن في قلب المؤمن {كَمِشْكَاةٍ} أي كوة {فِيهَا مِصْبَاحٌ}؛ لأن الكوة تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق ذلك {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ} من صفائها وبهائها {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي مضيء إضاءة الدُّرّ، {يُوقَدُ} ذلك المصباح الذي في تلك الزجاجة الدرية {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ}: أي يوقد من زيت الزيتون، الذي ناره من أنور ما يكون {لا شَرْقِيَّةٍ} فقط، فلا تصيبها الشمس آخر النهار، {وَلا غَرْبِيَّةٍ} فقط، فلا تصيبها الشمس أول النهار، وإذا انتفى عنها الأمران، كانت متوسطة من الأرض كزيتون الشام، تصيبه الشمس أول النهار وآخره، فيحسن ويطيب، ويكون أصفى لزيتها؛ ولهذا قال: {يَكَادُ زَيْتُهَا} من صفائها {يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 19/ 188. (¬2) تفسير القرآن العظيم، 3/ 281، وانظر: تفسير البغوي، 3/ 347.

تَمْسَسْهُ نَارٌ} فإذا مسته النار أضاء إضاءة بليغة {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} أي نور النار ونور الزيت ووجه هذا المثل الذي ضربه الله، وتطبيقه على حالة المؤمن ونور الله في قلبه، أن فطرته التي فُطِر عليها بمنزلة الزيت الصافي، ففطرته صافية، مستعدة للتعاليم الإلهية، والعمل المشروع، فإذا وصل إليه العلم والإيمان اشتعل ذلك النور في قلبه، بمنزلة إشعال النار فتيلة ذلك المصباح، وهو صافي القلب: من سوء القصد، وسوء الفهم عن الله، إذا وصل إليه الإيمان أضاء إضاءةً عظيمة؛ لصفائها من الكدورات، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدّريّة، فيجتمع له: نور الفطرة، ونور الإيمان، ونور العلم، وصفاء المعرفة، ونور على نوره، ولما كان هذا من نور الله تعالى، وليس كل أحد يصلح له ذلك قال: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} ممن يعلم زكاءه وطهارته، وأنه يزكى معه وينمو، {وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} ليعقلوا عنه، ويفهموا لطفاً منه بهم، وإحساناً إليهم؛ وليتضح الحق من الباطل، فإن الأمثال تُقرِّب المعاني المعقولة من المحسوسة، فيعلمها العباد علماً واضحاً {وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فعلمه محيط بجميع الأشياء، فَلْتَعْلموا أن ضربه الأمثال ضربُ من يعلم حقائق الأشياء، وتفاصيلها، وأنها مصلحة للعباد، فليكُن اشتغالكم بتدبُّرها وتعقُّلها، لا بالاعتراض عليها، ولا بمعارضتها، وأنتم لا تعلمون)) (¬1)، وهذه الآية من أولها إلى آخرها فيها فوائد عظيمة، وأمثال حكيمة بليغة؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني، وإظهار تمام نعمته على عبده ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص517.

المؤمن بما أناله من نوره ما تقرُّ به عيون أهله، وتبتهج به قلوبُهم، وفي التشبيه لأهل المعاني طريقتان: أحدهما: طريقة التشبيه المركب، وهي أقرب مأخذاً، وأسلم من التكلف، وهي أن تشبه الجملة برمّتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبَّه، ومقابلته بجزء من المشبَّه به، وعلى هذا عامة أمثال القرآن الكريم، فتأمّل صفة مشكاة، وهو كوّة لا تنفذ لتكون أجمع للضوء، وقد وضع فيها مصباح، وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدّرّيّ في صفائها وحسنها، ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقوداً من زيت شجرة {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ}: بحيث تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار، بل تصيبها الشمس أعدل إصابة، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائه وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار، فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به. والطريقة الثانية: طريقة التشبيه المفصَّل، فقيل: المشكاة: صدر المؤمن، والزجاجة قلبه، وشُبِّه قلبه بالزجاجة لرقّتها، وصفائها، وصلابتها، وكذلك قلب المؤمن، فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة: فهو يرحم، ويحسن، ويتحنّن، ويُشفق على الخلق برأفته، وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه، ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء، وبصلابته يشتدّ في أمر الله تعالى، ويتصلّب في ذات الله تعالى، ويغلظ على أعداء الله تعالى، ويقوم بالحق لله تعالى، وقد جعل الله القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف: ((القلوب آنية الله في

13 - {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء}

أرضه، وأحبها إليه: أرقّها وأصلبها وأصفاها)) (¬1)، والمصباح: هو نور الإيمان في قلبه، والشجرة المباركة: هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى، ودين الحق، وهي مادة المصباح، التي يَتَّقِد منها، والنور على النور: نور الفطرة الصحيحة، والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب، فينضاف أحد النورين إلى الآخر، فيزداد العبد نوراً على نور؛ ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه من الأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه، ونطق به، فيتفق عنده شاهد العقل، والشرع، والفطرة، والوحي، فيريه عقله، وفطرته، وذوقه أن الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة، بل يتصادقان ويتوافقان، فهذا علامة النور على النور عكس من تلاطمت في قلبه أمواج الشُّبَه الباطلة، والخيالات الفاسدة (¬2). 13 - وضرب الله - عز وجل - مثلين لبُطلان عمل الكفار فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ ¬

_ (¬1) عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة يرفعه: ((إن لله تبارك وتعالى في الأرض آنية، وأحب آنية الله إليه ما رقّ منها وصفا، وآنية الله في الأرض قلوب عباده الصالحين)). أحمد في الزهد، ص283، برقم 827، وصححه الألباني بعد أن ذكر طرقه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 263، برقم 1691. (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 49 - 52، بتصرف يسير.

نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (¬1). فالمثل الأول ضربه الله - عز وجل - لأعمال الكفرة الذين جحدوا توحيده، وكذّبوا بالقرآن وبما جاء به، مَثَلُ أعمالهم التي عملوها كسرابٍ بقِيعةٍ - جمع قاعٍ - يحسبه العطشان ماءً، حتى إذا جاءه ملتمساً ماءً يستغيث به من عطشه لم يجد السراب شيئاً، فكذلك الكافرون بالله من أعمالهم التي عملوها في غرور، يحسبون أنها منجيتهم عند الله من عذابه كما حسب الظمآن السراب ماءً، فظنه يرويه من ظمئه، حتى إذا هلك وصار إلى الحاجة إلى عمله الذي كان يرى أنه نافعه عند الله لم يجده ينفعه شيئاً؛ لأنه عمله على كفرٍ بالله، ووجد هذا الكافرُ اللهَ عند هلاكه بالمرصاد، فوفّاه يوم القيامة حساب أعماله التي عملها في الدنيا، وجازاه بها جزاءه الذي يستحقه عليها منه. والمثل الثاني: ضربه الله - عز وجل - في بطلان أعمال الكفار، مثل ظلمات في بحر عميق كثير الماء، يغشاه موج، ومن فوق الموج موج آخر يغشاه، ومن فوق الموج الثاني سحاب، فجعل الظلمات مثلاً لأعمالهم، والبحر اللُّجّيِّ مثلاً لقلب الكافر الذي مثل عمله مثل هذه الظلمات: يغشاه الجهل بالله؛ لأن الله ختم عليه فلا يعقل عن الله، وختم على سمعه فلا يسمع مواعظ الله، وجعل على بصره غشاوة فلا يبصر به حق الله، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض (¬2)، وهذا كقوله - عز وجل -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ ¬

_ (¬1) سورة النور، الآيتان: 39 - 40. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 19/ 195 - 199، وأمثال القرآن، لابن القيم، ص22، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 286.

الناس قسمان:

هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلا تَذَكَّرُون} (¬1)، قال السعدي رحمه الله: ((فالكفار تراكمت على قلوبهم الظلمات: ظلمة الطبيعة التي لا خير فيها، وفوقها ظلمة الكفر، وفوق ذلك ظلمة الجهل، وفوق ذلك ظلمة الأعمال الصادرة عما ذكر، فبقوا في الظلمة متحيّرين، وفي غمرتهم يعْمَهُون، وعن الصراط المستقيم مُدبرون، وفي طرق الغي والضلال يتردّدون، وهذا؛ لأن الله خذلهم فلم يُعطِهم من نوره)) (¬2). وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله كلاماً نفيساً بعد أن فسَّر الآيات من قول الله تعالى: {الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}، هذا مضمونه: فانظر كيف تضمنت هذه الآيات طوائف بني آدم كلّهم أتمّ انتظام، واشتملت عليهم أكمل اشتمال؛ فإن الناس قسمان: القسم الأول: أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله، وأن كل ما عارضه فشبهات تشتبه على من قلّ نصيبه من العقل والسمع ... وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح. القسم الثاني: أهل الجهل والظلم، وهؤلاء قسمان: 1 - الذين يحسبون أنهم على علم وهدى، وهم أهل الجهل المركب ¬

_ (¬1) سورة الجاثية، الآية: 23. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص519.

2 - أصحاب الظلمات، وهم المنغمسون في الجهل،

الذين يجهلون الحق ويعادونه ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالونه ويوالون أهله، وهم يحسبون أنهم على شيء {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}. 2 - أصحاب الظلمات، وهم المنغمسون في الجهل، بحيث قد أحاط بهم من كل جهة، فهم بمنزلة الأنعام، بل هم أضل سبيلاً، فأعمالهم التي عملوها على غير بصيرة، كظلمات: ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظلم واتباع الهوى، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق؛ فإن المعرض عما بعث الله تعالى به محمداً - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق يتقلّب في خمس ظلمات: قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمة: فقلبه مظلم، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلم (¬1). ثم ذكر رحمه الله أن شيخه ابن تيمية قال: الناس في الهدى الذي بعث الله تعالى به رسوله - صلى الله عليه وسلم - أربعة أقسام: * القسم الأول: قبلوه ظاهراً وباطناً، وهم نوعان: - النوع الأول: أهل الفقه فيه، والفهم، والتعليم، وهم الأئمة الذين عقلوا عن الله تعالى كتابه، وفهموا مراده، وبلّغوه إلى الأمة، واستنبطوا أسراره، وكنوزه، فهؤلاء كمثل الأرض الطيبة التي قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فرعى الناس فيه ورعت أنعامهم، وأخذوا من ذلك الكلأ الغذاء والقوت، والدواء، وسائر ما يصلح لهم. - النوع الثاني: حفظوه، وضبطوه وبلّغوا ألفاظه إلى الأمة، فحفظوا ¬

_ (¬1) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على المعطلة والجهمية، 2/ 53 - 58.

القسم الثاني: من رده ظاهرا وباطنا، وكفر به ولم يرفع به رأسا وهؤلاء أيضا نوعان:

عليهم النصوص، وليسوا من أهل الاستنباط والفقه في مراد الشارع، فهم أهل حفظ وضبط، وأداء لِمَا سمعوه، وهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس، فوردوه، وشربوا منه، وسقوا منه أنعامهم، وزرعوا به. * القسم الثاني: من ردّه ظاهراً وباطناً، وكفر به، ولم يرفع به رأساً، وهؤلاء أيضاً نوعان: النوع الأول: عرفه وتيقَّن صحته، وأنه حق، ولكن حمله الحسد، والكِبر، وحب الرئاسة، والملك، والتقدم بين قومه على جحده، ودفعه بعد البصيرة واليقين. النوع الثاني: أتباع هؤلاء الذين يقولون هؤلاء سادتنا وكبراؤنا، وهم أعلم منا بما يقبلونه وما يردونه، ولنا أسوة بهم، ولا نرغب بأنفسنا عن أنفسهم، ولو كان حقاً لكانوا هم أهله، وأولى بقبوله، وهؤلاء بمنزلة الدوّابّ والأنعام، يساقون حيث يسوقهم راعيهم (¬1). * القسم الثالث: الذين قبلوا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وآمنوا به ظاهراً، وجحدوه وكفروا به باطناً، وهم المنافقون، وهم أيضاً نوعان: النوع الأول: من أبصر ثم عمي، وعلم ثم جهل، وأقرّ ثم أنكر، وآمن ثم كفر، فهؤلاء رؤوس أهل النفاق، وسادتهم، وأئمتهم، ومثلهم مثل من استوقد ناراً، ثم حصل بعدها على الظلمة. النوع الثاني: ضعفاء البصائر الذين أعشى بصائرهم ضوء البرق ¬

_ (¬1) انظر: وصف الله لهم في سورة البقرة، الآيتان: 166 - 167، وسورة الأحزاب، الآيات: 66 - 68، وسورة غافر، الآيتان: 47 - 48، وسورة ص، الآيات: 57 - 61.

القسم الرابع: يكتمون إيمانهم في أقوامهم، ولا يتمكنون من إظهاره،

فكاد أن يخطفها، لضعفها وقوته، وأصمّ آذانهم صوت الرعد، فهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق، فلا يقربون من سماع القرآن والإيمان؛ بل يهربون منه، ويكون حالهم حال من يسمع الرعد الشديد، فمن شدة خوفه منه يجعل أصابعه في أذنيه. * القسم الرابع: يكتمون إيمانهم في أقوامهم، ولا يتمكنون من إظهاره، ومن هؤلاء مؤمن آل فرعون، الذي يكتم إيمانه، ومن هؤلاء النجاشي الذي صلَّى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه كان ملك نصارى الحبشة، وكان في الباطن مؤمناً، وغير هؤلاء كثير (¬1). 14 - وقال - عز وجل -: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (¬2): أي الله - عز وجل - الذي يذكركم ويثني عليكم، وملائكته يدعون لكم، ويستغفرون لكم، وبسبب رحمته بكم وثنائه عليكم، ودعاء ملائكته لكم، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال، والكفر، والمعاصي والذنوب إلى نور الهدى والإيمان، واليقين، والتوفيق، والعلم والعمل (¬3)، قال القرطبي رحمه الله: ((ومعنى هذا التثبيت على الهداية، لأنهم كانوا في وقت الخطاب على الهداية)) (¬4). 15 - وقال - سبحانه وتعالى -: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا ¬

_ (¬1) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 72 - 76، بتصرف يسير. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 43. (¬3) انظر: جامع البيان، للطبري، 2/ 280، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 446، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص614. (¬4) الجامع لأحكام القرآن، 14/ 193.

النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} (¬1). هذه أمثال ضربها الله - عز وجل - للمؤمن والإيمان، والكافر والكفر، كما أن هذه الأشياء المذكورات المتباينة المختلفة لا تتساوى، فكذلك فلتعلموا أن عدم تساوي المتضادات المعنوية أولى وأولى، فلا يستوي الكافر والمؤمن، والجاهل والعالم، والضال والمهتدي، ولا أصحاب النار وأصحاب الجنة، ولا أموات القلوب وأحياؤها؛ فإن بين هذه الأشياء من التفاوت ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فإذا علمت المراتب، وميزت الأشياء، وبان الذي ينبغي أن يُتنافس في تحصيله من ضدّه، فليختر الحازم لنفسه ما هو أولى وأحق بالإيثار (¬2). وقد جاء هذا التفسير عن السلف الصالح، فقد ذكر الإمام ابن جرير رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}، قال: ((هو مثل ضربه الله لأهل الطاعة وأهل المعصية، يقول: وما يستوي الأعمى، والظلمات، والحرور، ولا الأموات، فهو مثل أهل المعصية، ولا يستوي البصير، والنور، ولا الظل، والأحياء، فهو مثل أهل الطاعة)) (¬3)، وقال قتادة: (( ... خلقاً فُضِّل بعضه على بعض، فأما المؤمن فَعَبْدٌ حي الأثر، حي البصر، حي النية، ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآيات: 19 - 22. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 20/ 457، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 14/ 327، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 530، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص634. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 20/ 458.

16 - {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه}

حي العمل، وأما الكافر فعًبْدٌ ميت: ميت البصر، ميت القلب، ميت العمل)) (¬1) فاتضح بذلك أن الأعمى عن دين الله لا يستوي هو والذي قد أبصر دينه، وعلم وعمل، قال الله - عز وجل -: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬2). وقد قال الله - عز وجل - عن أصحاب الظلمات: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ الله يُضْلله وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬3)،فهم صم عن سماع الحق، بكم عن النطق به، فلا ينطقون إلا بالباطل، في الظلمات منغمسون: ظلمات الجهل، والكفر، والشرك، والظلم، والعناد، والإعراض، والمعاصي، وهذا من إضلال الله إيَّاهم؛ فإنه المنفرد بالهداية والإضلال بحسب ما اقتضاه فضله، وحكمته، وعدله (¬4). 16 - وقال الله - عز وجل -: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ الله أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (¬5)، يقول تعالى: أفمن فسح الله قلبه، وشرح صدره لمعرفته، والإقرار بوحدانيته، والإذعان لربوبيته، والخضوع لطاعته، فهو على نور من ربه، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 20/ 458. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 39. (¬4) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 11/ 350، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص218. (¬5) سورة الزمر، الآية: 22.

17 - {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا}

وعلى بصيرة مما هو عليه، ويقين بتنوير الحق في قلبه، فهو لذلك الأمر متَّبع، وعما نهاه الله عنه منتهٍ، وقد انشرح صدره للإسلام، فاتَّسع لتلقّي أحكام الله والعمل بها، منشرحاً قرير العين، كمن أقسى الله قلبه فأخلاه من ذكره، وضيَّقه عن استماع الحق، واتّباع الهدى، والعمل بالصواب، فهو لا يلين لكتاب الله، ولا يتذكر آياته، ولا يطمئن بذكره؛ بل هو معرض عن ربه ملتفت إلى غيره، فهذا له الويل الشديد، والشر الكبير (¬1)، قال الله - عز وجل -: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (¬2). 17 - وقال الله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى الله تَصِيرُ الأمُورُ} (¬3). كما كان الله - عز وجل - يوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كذلك أوحى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا القرآن العظيم، وسمّاه روحاً؛ لأن الروح يُحْيى به الجسد، والقرآن تَحْيا به القلوب والأرواح، وتحيا به مصالح الدنيا ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 21/ 277، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 15/ 236، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 51، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص668. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 125. (¬3) سورة الشورى، الآيتان: 52 - 53.

والدين؛ لِمَا فيه من الخير الكثير والعلم الغزير، وما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل نزول القرآن يدري ما شرائع الإيمان ومعالمه على التفصيل الذي شرع له في القرآن، ولكن جعل الله القرآن نوراً يرشد به، ويهدي من يشاء من عباده، فيستضيئون بهذا القرآن في ظلمات الكفر، والشبهات، والضلال، والبدع، والشرك، والشهوات، والأهواء المردية، ويعرفون به الحقائق، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم (¬1)، كقوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (¬2). فهذا القرآن يعظ عن الأعمال الموجبة لسخط الله المقتضية لعقابه، ويحذر عنها ببيان آثارها ومفاسدها، وهو شفاء لِمَا في الصدور من أمراض الشهوات الصادرة عن [عدم] (¬3) الانقياد للشرع، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني؛ فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد مما يوجب للعبد الرغبة في الخير، والرهبة عن الشر (¬4)، وكقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 21/ 599 - 561، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 16/ 53 - 59، وتفسير البغوي، 4/ 132، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 124، واجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، 2/ 87 - 88، والضوء المنير على التفسير، من كتب ابن القيم، جمع: علي الصالحي، 5/ 323. (¬2) سورة يونس، الآية: 57. (¬3) زيادة يقتضيها السياق، أو الصادرة عن الانقياد للشرع. (¬4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص323.

لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (¬1)، فالقرآن مشتمل على الشفاء والرحمة للمؤمنين به، المصدقين بآياته، العاملين بها، وأما الظالمون بعدم التصديق به، أو عدم العمل به، فلا تزيدهم آياته إلا خساراً؛ لأن الحجة تقوم عليهم به، فالشفاء الذي تضمنه القرآن عام لشفاء القلوب من الشُّبَه، والجهالات، والآراء الفاسدة، والانحراف السيئ، والقصود الرديئة؛ لأنه مشتمل على العلم اليقين الذي تزول به كل شبهة وجهالة، والوعظ والتذكير الذي يزول به كل شهوة تخالف أمر الله، ولشفاء الأبدان من آلامها وأسقامها، فمتى عمل به العبد فاز بالرحمة والسعادة الأبدية، والثواب العاجل والآجل (¬2)، كقوله - عز وجل -: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (¬3)، فهو يهديهم لطريق الرشد، والصراط المستقيم، ويعلمهم من العلوم النافعة ما به تحصل الهداية التامة، وهو شفاء لهم من الأسقام القلبية؛ لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق، ويحث على التوبة النصوح، التي تغسل الذنوب، وتشفي القلوب، أما الذين لا يؤمنون بالقرآن ففي آذانهم صمم عن استماعه وإعراض عنه، وهو عليهم عمى، فلا يبصرون به رشداً، ولا يهتدون به، ولا يزيدهم إلا ضلالاً؛ لأنهم إذا ردّوا الحق ازدادوا عمىً إلى عماهم، وغيّاً إلى غيهم، وينادون إلى الإيمان ويدعون إليه فلا يستجيبون، بمنزلة الذي يُنادى وهو ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 82. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص416. (¬3) سورة فصلت، الآية: 44.

في مكان بعيد لا يسمع داعياً، ولا يجيب منادياً، والمقصود أن الذين لا يؤمنون بالقرآن لا ينتفعون بهداه، ولا يبصرون بنوره، ولا يستفيدون منه خيراً، لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى، بإعراضهم وكفرهم (¬1). وفي قوله - عز وجل - في أول الآية: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} مال الإمام ابن جرير رحمه الله إلى أن الروح هنا هو القرآن الكريم، وجزم به الحافظ ابن كثير رحمه الله، والسعدي رحمه الله، وقيل: إن الروح هنا: النبوة، وقيل: الرحمة، وقيل: الوحي (¬2). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في تفسير هذه الآية: ((أي جعلنا ذلك الروح نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، فَسمَّى وحيه روحاً، لِمَا يحصل به من حياة القلوب والأرواح، التي هي الحياة الحقيقية، ومن عدمها فهو ميت لا حي، والحياة الأبدية السرمدية في دار النعيم هي ثمرة حياة القلب بهذا الروح الذي أوحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فمن لم يحيَ به في الدنيا فهو ممن له جهنم، لا يموت فيها ولا يحيا، وأعظم حياة في الدور الثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الجزاء أعظمهم نصيباً من هذه الحياة بهذه الروح، وسمّاه نوراً لِمَا يحصل به من استنارة القلوب، وإضاءتها، وكمال الروح بهاتين الصفتين: بالحياة، والنور، ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والاهتداء بما بعثوا به، وتلقي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم، وإلا فالروح ميتة مظلمة، فإن كان ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص697. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 559، وتفسير البغوي، 4/ 132، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 16/ 53، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 124.

العبد مشاراً إليه: بالزهد، والفقه، والفضيلة؛ فإن الحياة والاستنارة بالروح الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجعله نوراً يهدي به من يشاء من عباده وراء ذلك كله، فليس العلم كثرة النقل، والبحث، والكلام، ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها، وحقها من باطلها، وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال)) (¬1). وقد أمر الله - عز وجل - بالإيمان بهذا النور العظيم فقال: {فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬2). ولا شك أن ما في الكتاب الكريم من الأحكام، والشرائع، والأخبار أنوار يهتدى بها في ظلمات الجهل؛ ولهذا سماه الله نوراً (¬3). وقد كتب الله الفوز والفلاح لمن آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ونصره، واتَّبع النور الذي أُنزل معه، فقال - عز وجل -: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4)، ومع هذا البيان الواضح، والنور الساطع فقد كذَّب المشركون واليهود النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فعزَّاه الله مُسلِّياً له (¬5) فقال: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا ¬

_ (¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية، 2/ 88. (¬2) سورة التغابن، الآية: 8. (¬3) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 23/ 419، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 18/ 132، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص803. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 157. (¬5) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 7/ 450، 17/ 459، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 4/ 304، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 1/ 434، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص126.

18 - {هو الذي ينزل على عبده آيات بينات}

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (¬2). وقد ذم الله - عز وجل - من يجادل بالباطل بغير علم صحيح، ولا هدى، ولا كتاب منير يوضح الحق ويبينه، فلا عقل مرشد، ولا متبوع مهتدٍ، ولا حجة عقلية ولا نقلية، قال الله - عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (¬3). 18 - وقال الله - سبحانه وتعالى -: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬4)، الله - عز وجل - الذي ينزل على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - آياتٍ واضحات، وحججاً دامغاتٍ، ودلائل باهراتٍ، وبراهين قاطعات، وأعظمها القرآن الكريم؛ ليخرج الناس بإرسال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما أنزله عليه من الكتاب والحكمة: من ظلمات الضلالة، والشرك والكفر، والجهل، والآراء المتضادة، إلى نور الإيمان والتوحيد، والعلم والهدى، وهذا من رحمته بعباده وإحسانه إليهم، فله الشكر والحمد والثناء الحسن، لا إله غيره ولا رب سواه (¬5)، وهذا كقوله - سبحانه وتعالى -: ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 184. (¬2) سورة فاطر، الآية: 25. (¬3) سورة الحج، الآية: 8، وسورة لقمان، الآية: 2، وانظر: تفسير السعدي، ص483، 598. (¬4) سورة الحديد، الآية: 9. (¬5) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 23/ 173، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 17/ 230، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 307، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص778.

19 - {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم}

{فَاتَّقُوا الله يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬1). 19 - وقال - عز وجل -: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ*يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُم بِالله الْغَرُورُ*فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬2). وفي قوله سبحانه: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} جاء عن الضحاك أن معنى ذلك: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى هداهم بين أيديهم، وبأيمانهم كتبهم (¬3). وقيل: {وَبِأَيْمَانِهِم} الباء بمعنى في: أي في أيمانهم، أو بمعنى عن: أي عن أيمانهم (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، الآيتان: 10 - 11. (¬2) سورة الحديد، الآيات: 12 - 15. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 23/ 179، واختاره ابن جرير في هذا الموضع. (¬4) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 17/ 235.

الحديث الأول

وقال أكثر المفسرين يعطي الله المؤمنين نوراً يوم القيامة على قدر أعمالهم، يمشون به على الصراط، ويُعطى المنافقون أيضاً نوراً خديعة لهم، كما قال - سبحانه وتعالى -: {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (¬1). وقيل: إنما يعطون النور؛ لأن جميعهم أهل دعوة دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره؛ لنفاقه، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين، ولا يُعطَون النور، فبينما هم يمشون إذ بعث الله فيهم ريحاً وظلمة، فأطفأ بذلك نور المنافقين، فيخشى المؤمنون أن يُسْلَبوا نورهم كما سُلبه المنافقون، فيسألون الله - عز وجل - أن يتمَّ لهم نورهم، قال سبحانه عن ذلك: {يَوْمَ لا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2)، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} (¬3). وقد جاء في هذا النور أحاديث وآثار كثيرة، منها ما يأتي: الحديث الأول: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سئل عن ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 142. (¬2) سورة التحريم، الآية: 8. (¬3) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 23/ 178 - 187، و493 - 496، وتفسير البغوي، 4/ 295، و367، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 17/ 233 - 239، و18/ 191، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 308 - 310، و392، واجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، 3/ 86، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص779 - 809.

الحديث الثاني

الورود، وفيه رؤية الله تعالى: ((فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلِقُ بهم ويتبعونه، ويُعطَى كل إنسانٍ منهم - منافق أو مؤمن - نوراً، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله، ثم يُطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون، فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألفاً لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضواء نجم في السماء ... )) (¬1). الحديث الثاني: حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}، قال: ((يُؤتَوْن نورهم على قدر أعمالهم: فمنهم من يُؤتى نوره كالجبل، ومنهم من يُؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يُؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه يطفأُ مرة ويَقِدُ مرة)) (¬2). الحديث الثالث: حديث بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أن إكثار المشي في الظلم إلى المساجد يُثمر إعطاء النور التام يوم القيامة، فعن بريدة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((بشّر المشَّائين في الظّلم إلى المساجد بالنُّور التَّامّ يوم القيامة)) (¬3). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة، 1/ 178، برقم 191. (¬2) أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 23/ 179، والحاكم، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي على شرط البخاري، 2/ 478. (¬3) أخرجه أبو داود، في كتاب الصلاة، باب ما جاء في المشي إلى الصلاة، 1/ 154، برقم 561، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة، 1/ 435، برقم 223، وقال: ((هو صحيح مسند موقوف إلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -)). وأخرجه ابن ماجه من حديث سهل بن سعد، وأنس رضي الله عنهما، في كتاب المساجد والجماعات، باب المشي إلى الصلاة 1/ 256، برقم 780، ورقم 781، والحاكم في المستدرك، 1/ 53، وقال الإمام المنذري عن رواية أبي داود والترمذي: ((ورجال إسناده ثقات)) الترغيب والترهيب، 1/ 289، وقال العلامة الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح للتبريزي، 1/ 224: ((الحديث صحيح لشواهده الكثيرة، عن جماعة من الصحابة جاوزوا العشرة، وقد خرجتها في صحيح أبي داود، برقم 570)).

الحديث الرابع

الحديث الرابع: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -،أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله ليضيء للذين يتخلّلون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة)) (¬1)، وذكر الطيبي، والمناوي، ثم المباركفوري: أن هذا النور يحيط بالمشَّائين إلى المساجد في الظُّلَم من جميع جوانبهم على الصراط، لمَّا قاسوا مشقة المشي في ظلمة الليل جوزوا بنور يضيء لهم ويحيط بهم على الصراط ووصف النور بالتامّ، وتقييده بيوم القيامة تلميح إلى وجه المؤمنين يوم القيامة، وقولهم فيه: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}، وإلى قصة المنافقين وقولهم للمؤمنين: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ}، وفيه أن من انتهز هذه الفرص، وهي المشي إلى المساجد في الظلم في الدنيا كان مع النبيين، والذين آمنوا: من الصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً (¬2). ولا شك أن سرعة المرور على الصراط بحسب النور، فمن كان نوره أعظم كان مروره على الجسر أسرع، وهو أحدُّ من السيف، وأدقُّ من الشعر، فمن الناس من يمرّ عليه ويتجاوزه كلمح البصر، ومنهم من يمرّ كالبرق، ومنهم من يمرّ كالريح، ومنهم من يتجاوزه كالطير، ومنهم من ¬

_ (¬1) الطبراني في المعجم الأوسط، 2/ 43، برقم 680، [مجمع البحرين في زوائد المعجمين]، وقال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 290: ((رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن))، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ((وإسناده حسن)) 2/ 30. (¬2) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 3/ 941 - 942، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، 3/ 201، وتحفة الأحوذي، للمباركفوري، 2/ 14.

يمرّ كالفرس الجواد، ومنهم من يمرّ كركاب الإبل (¬1)، ومنهم من يزحف زحفاً (¬2) حتى يجيء آخرهم يسحب سحباً (¬3). وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن الأنوار تقسم دون الجسر على حسب الأعمال، فيُعطَى العبد من النور هناك بحسب قوة نوره، وإيمانه، ويقينه، وإخلاصه، ومتابعته للرسول - صلى الله عليه وسلم - في دار الدنيا، فقال رحمه الله: ((فمنهم من يكون نوره كالشمس (¬4)، ودون ذلك كالقمر، ودونه كأشدِّ كوكبٍ في السماء إضاءة، ومنهم من يكون نوره كالسراج في قوّته وضعفه، وما بين ذلك، ومنهم من يُعطَى نوراً على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، بحسب ما كان معه من نور الإيمان في دار الدنيا، فهو هذا النور الذي بعينه أبرزه الله لعبده في الآخرة ظاهراً يُرى عِياناً بالأبصار، ولا يستضيء به غيره، ولا يمشي أحدٌ إلا في نور نفسه، إن كان له نور مشى في نوره، وإن لم يكن له نورٌ أصلاً لم ينفعه نور غيره، ولما كان المنافق في الدنيا قد حصل له نور ظاهر غير مستمر ولا متصل بباطنه، ولا له مادة من الإيمان أُعطي في الآخرة نوراً ظاهراً لا مادة له، ثم يُطفأ عنه ¬

_ (¬1) هذه الدرجات الست في صحيح مسلم، كتاب الإيمان، معرفة طريقة الرؤية، 1/ 169، برقم 183، قال أبو سعيد الخدري: ((بلغني أن الجسر أدق من الشعر، وأحد من السيف))، مسلم، 1/ 171، رواية الحديث رقم 183، والبخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، 8/ 228، برقم 7439. (¬2) من رواية لمسلم، 1/ 187، برقم 195. (¬3) من رواية للبخاري، برقم 7439، وانظر: معارج القبول، للشيخ حافظ الحكمي، 2/ 850 - 857. (¬4) انظر: مسند الإمام أحمد، 2/ 77، 2/ 222، وشرح أحمد شاكر للمسند، برقم 6650، 7072.

20 - {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله}

أحوج ما كان إليه)) (¬1). وبيّن رحمه الله أن مشي الناس على الصراط بحسب سرعتهم في الخير في الدنيا، فقال: ((مشيهم على الصراط في السرعة والبطء بحسب سرعة سيرهم وبطئه على صراط الله المستقيم في الدنيا، فأسرعهم سيراً هنا أسرعهم هناك، وأبطأهم هنا أبطأهم هناك، وأشدهم ثباتاً على الصراط المستقيم هنا أثبتهم هناك، ومن خطفته كلاليب الشهوات، والشبهات، والبدع المضلّة هنا خطفته الكلاليب التي كأنها شوك السعدان هناك، ويكون تأثير الكلاليب فيه هناك على حسب تأثير كلاليب الشهوات والشبهات والبدع فيه هاهنا، فناج مُسَلَّم، ومخدوش مُسَلَّم، ومخزول - أي مقطع بالكلاليب - مُكردس في النار كما أثَّرت فيه تلك الكلاليب في الدنيا {جَزَاءً وِفَاقًا}، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (¬2). 20 - وقال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3). ضَمِن الله - عز وجل - للمؤمنين بالتقوى ثلاثة أمور: الأمر الأول: أعطاهم نصيبين من رحمته: نصيباً في الدنيا ونصيباً في الآخرة، وقد يضاعف لهم نصيب الآخرة فيصير نصيبين. الأمر الثاني: أعطاهم نوراً يمشون به في الظلمات. ¬

_ (¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، 2/ 86. (¬2) المرجع السابق، 2/ 86 - 87. (¬3) سورة الحديد، الآية: 28.

الأمر الثالث: مغفرة ذنوبهم، وهذا غاية التيسير، فقد جعل سبحانه التقوى سبباً لكل يسر، وتَرْكَ التقوى سبباً لكل عسر (¬1). وهذا الخطاب في هذه الآية فيه قولان لأهل التفسير: 1 - قيل تُحمل على مؤمني أهل الكتاب، وأنهم يُؤتَوْن أجرهم مرتين؛ لإيمانهم بأنبيائهم، ثم إيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فيُعطَون بذلك: نصيبين من الأجر، كما قال - سبحانه وتعالى -: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (¬2). فلا شك أن من آمن من أهل الكتاب بنبيه، ثم آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه يُعطَى أجرين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به، واتّبعه، وصدّقه، فله أجران، وعبد مملوك أدَّى حقّ الله تعالى، وحقَّ سيّده فله أجران، ورجل كانت له أمةٌ فغذَّاها فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها وتزوّجها، فله أجران)) (¬3). 2 - وقيل: هي في حق هذه الأُمَّة؛ لِمَا ذكره سعيد بن جبير أن أهل الكتاب افتخروا بأنهم يؤتون أجرهم مرتين، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية في ¬

_ (¬1) الضوء المنير على التفسير، من كتب ابن القيم، للصالحي، 5/ 624. (¬2) سورة القصص، الآية: 54. (¬3) متفق عليه من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الجهاد، باب فضل من أسلم من أهل الكتابين، 4/ 25، برقم 3011، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 134، برقم 154، واللفظ له.

حق هذه الأمة (¬1). ومما يؤيّد هذا القول ما رواه أبو موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجُلٍ استأجر قوماً يعملون له يوماً إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا له نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم، وخذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم هذا، ولكم الذي شرطتُ لهم من الأجر، فعملوا، حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال لهم: أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا، فاستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومَثَل ما قبلوا من هذا النور)) (¬2). قال العلامة السعدي رحمه الله: ((ويُحتمل أن يكون الأمر عاماً يدخل فيه أهل الكتاب وغيرهم، وهذا هو الظاهر، وأن الله أمرهم بالإيمان والتقوى الذي يدخل فيه جميع الدين: ظاهره وباطنه، أصوله وفروعه، وأنهم إن امتثلوا هذا الأمر العظيم أعطاهم {كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ}: لا يعلم قدرهما ولا وصفهما إلا الله تعالى: أجر على الإيمان، وأجر على التقوى، وأجر على امتثال الأوامر، وأجر على اجتناب النواهي، أو أن التثنية المراد ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير بسنده، في جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 23/ 209. (¬2) البخاري، كتاب الإجارة، باب الإجارة من العصر إلى الليل، 3/ 69، برقم 2271.

بها تكرار الإيتاء مرة بعد أخرى)) (¬1). وقوله تعالى: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}: وفي هذا أقوال: 1 - قيل: النور هنا: القرآن الكريم. 2 - وقيل: الهدى. قال الإمام الطبري رحمه الله: ((وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذِكْرُهُ: وعد هؤلاء القوم أن يجعل لهم نوراً يمشون به، والقرآن مع اتِّباع النبي - صلى الله عليه وسلم - نور لمن آمن بهما، وصدّقهما، وهدىً؛ لأن من آمن بذلك فقد اهتدى)) (¬2). وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ((يعني هدى يتبصّرون به من العمى والجهالة، ويغفر لكم، ففضلهم بالنور والمغفرة ... وهذه الآية (¬3) كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬4). وقال العلامة السعدي رحمه الله: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}: أي يُعطيكم علماً، وهدىً، ونوراً تمشون به في ظلمات الجهل، ويغفر لكم السيئات {وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، فلا يستغرب كثرة هذا الثواب على فضل ذي الفضل العظيم، الذي عمّ فضله أهل السموات والأرض، فلا ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص782. (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 23/ 213. (¬3) تفسير القرآن العظيم، 4/ 318. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 29.

المبحث الثاني: النور والظلمات في السنة النبوية

يخلو مخلوق من فضله طرفة عين، ولا أقلّ من ذلك)) (¬1). وقوله تعالى: {تَمْشُونَ بِهِ}، قيل: تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام (¬2). وقيل: تمشون به على الصراط (¬3). وقد جمع بين هذين القولين الإمام ابن القيم رحمه الله، فقال: ((وفي قوله: {تَمْشُونَ بِهِ} إعلام بأن تصرفهم وتقلّبهم الذي ينفعهم إنما هو بالنور، وأنّ مشيهم بغير نور غير مجدٍ عليهم، ولا نافع لهم، بل ضرره أكثر من نفعه، وفيه أن أهل النور هم أهل المشي، ومن سواهم أهل الزمانة والانقطاع، فلا مشي لقلوبهم، ولا لأحوالهم، ولا لأقوالهم، ولا لأقدامهم إلى الطاعات، وكذلك لا تمشي على الصراط، إذا مشت بأهل الأنوار أقدامهم، وفي قوله تعالى: {تَمْشُونَ بِهِ} نكتة بديعة، وهي أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم، كما يمشون بها بين الناس في الدنيا، ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدماً عن قدم على الصراط، فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه)) (¬4). المبحث الثاني: النور والظلمات في السنة النبوية جاء في أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر النور والحث على اكتسابه والترغيب ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص783. (¬2) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 17/ 256. (¬3) تفسير البغوي، 4/ 302. (¬4) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 43.

1 - اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي لساني نورا

فيه، وسؤال الله - عز وجل - ذلك، وجاء ذكر الظلمات والتحذير من أسباب ذلك، ومن الأحاديث والآثار في ذلك ما يأتي: 1 - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه في آخر الليل إذا ذهب إلى الصلاة في المسجد: ((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً، وعظِّم لي نوراً، واجعل لي نوراً، واجعلني نوراً، اللهم أعطني نوراً، واجعل في عصبي نوراً، وفي لحمي نوراً، وفي دمي نوراً، وفي شعري نوراً، وفي بشري نوراً)) (¬1). قال ابن الأثير رحمه الله: ((أراد ضياء الحق، وبيانه، كأنه قال: اللهم استعمل هذه الأعضاء منِّي في الحق، واجعل تصرفي وتقلّبي فيها على سبيل الصواب والخير)) (¬2). وقال الإمام النووي رحمه الله: ((قال العلماء سأل النور في أعضائه، وجسمه، وتصرفاته، وتقلباته، وحالاته، وجملته في جهاته الست، حتى لا يزيغ شيء منها عنه)) (¬3). ويزيد لك وضوحاً ما بيّنه الإمام القرطبي رحمه الله حيث قال: ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه من الليل، 7/ 191، برقم 6316، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، 1/ 525، برقم 763. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب النون مع الواو، مادة ((نور)) 5/ 125. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 291، وانظر: فتح الباري، لابن حجر، 11/ 118.

((يمكن أن تحمل على ظاهرها، فيكون معنى سؤاله: أن يجعل الله له في كل عضو من أعضائه نوراً يوم القيامة يستضيء به في تلك الظلم، هو ومن تبعه، أو من شاء الله ممن تبعه، والأولى أن يقال: هذه الأنوار هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (¬1)، وكما قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} (¬2) أي علماً وهداية))، ثم قال: ((والتحقيق في معنى النور مظهرٌ ما ينسب إليه، وهو يختلف بحسبه، فنور الشمس: مظهرٌ للمبصرات، ونور القلب: كاشفٌ عن المعلومات، ونور الجوارح: ما يبدو عليها من أعمال الطاعات، فكأنه دعا بإظهار الطاعات عليها دائماً، والله أعلم)) (¬3). وذكر الطيبي رحمه الله: أن معنى طلب النور للأعضاء: عضواً عضواً، أن يتحلَّى بأنوار المعرفة والطاعة، ويتعرّى عن ظلمة الجهالة والمعاصي؛ فإن الشياطين تحيط بالجهات الست بالوساوس، فكان التخلص منها بالأنوار السادَّة لتلك الجهات، وكل هذه الأنوار راجعة إلى الهداية، والبيان، وضياء الحق، وإلى مطالع هذه الأنوار يرشد قوله تعالى (¬4): {الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 22. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬3) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 395. (¬4) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 4/ 1183، وفتح الباري، لابن حجر، 11/ 118.

2 - الطهور شطر الإيمان

الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} (¬1). 2 - عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاة نور ... )) الحديث (¬2). قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والصلاة نور))، قال الإمام القرطبي رحمه الله في شرح ذلك: ((معناه: أن الصلاة إذا فُعِلَت بشروطها: المصححة، والمكملة نوَّرت القلب؛ بحيث تُشرق فيه أنوار المكاشفات والمعارف، حتى ينتهي أمر من يراعيها حق رعايتها أن يقول ((وجعلت قُرّة عيني في الصلاة)) (¬3)، أيضاً: فإنها تنوِّر بين يدي مراعيها يوم القيامة في تلك الظلم، وأيضاً: تنوِّر وجه المصلي يوم القيامة، فيكون ذا غُرّةٍ وتحجيل)) (¬4). وقال الإمام النووي: ((وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والصلاة نور)) فمعناه: أنها تمنع صاحبها من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب، كما أن النور يُستضاء به، وقيل: معناه: أن يكون أجرها نوراً لصاحبها يوم القيامة، وقيل: لإشراق أنوار المعارف، وانشراح القلب، ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها، وإقباله إلى الله تعالى، بظاهره ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 35. (¬2) أخرجه مسلم، في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، 1/ 203، برقم 223. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند، 3/ 128، 199، 285، والنسائي في كتاب عشرة النساء، باب: حب النساء، 7/ 62. (¬4) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1/ 476.

3 - أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك

وباطنه، وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (¬1). وقيل: معناه: أنها تكون نوراً ظاهراً على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضاً على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصلِّ، والله أعلم)) (¬2)، قلت: النور يشمل ذلك كله في كل ما ذُكِرَ والله أعلم. 3 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبريل قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضاً (¬3) من فوقه، فرفع رأسه فقال: ((هذا باب من السماء فُتح اليوم لم يُفتَح قطّ إلاّ اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أو تيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلاّ أُعطيته)) (¬4). وقد بيّن الإمام القرطبي رحمه الله معنى ذلك: وأن قول الملك: ((أبشر بنورين)) أي أبشر بأمرين عظيمين، نيِّرين، تنير لقارئهما، وتنوِّره، وخُصّت الفاتحة بهذا؛ لأنها تضمّنت جملة معانٍ: الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلى الجملة فهي آخذة بأصول القواعد الدينية، والمعاقد المعارفية، وخُصّت خواتيم سورة البقرة بذلك، لِمَا تضمّنته من الثناء على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أصحابه - رضي الله عنهم -، بجميل انقيادهم لمقتضاها، وتسليمهم لمعناها، وابتهالهم إلى الله، ورجوعهم إليه في جميع أمورهم، ولِمَا حصل ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 45. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 103. (¬3) نقيضاً: أي صوتاً كصوت الباب إذا فتح. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 339. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، 1/ 554، برقم 806.

4 - إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها

فيها من إجابة دعواتهم، بعد أن علموها، فخفَّف عنهم، وغفر لهم، ونُصِروا، وفيها غير ذلك مما يطول تتبُّعه)) (¬1). 4 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً على أهلها، وإن الله - عز وجل - ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم)) (¬2). قال الطيبي رحمه الله: ((أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً)) إلى آخره، فكالأسلوب الحكيم، يعني ليس النظر في الصلاة على الميت إلى حقارته ورفعة شأنه، بل هي بمنزلة الشفاعة له، لينوَّر قبره ... )) (¬3). 5 - وعن أمِّ سلمة رضي الله عنها في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي سلمة عند إغماضه: ((اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديّين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربّ العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه)) (¬4)، وهذا دعاء عظيم لأبي سلمة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له برفع الدرجة: أي: ارفع درجته واجعله في زمرة الذين هديتهم للإسلام، وكن الخليفة على من يتركه من عقبه: كأهله وأولاده، فاحفظ أمورهم ومصالحهم، ولا تكِلْهم إلى غيرك؛ فإنهم عقبة: أي الذين تأخروا عنه، ويعني بالغابرين: الباقين، كما قال الله - عز وجل -: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ ¬

_ (¬1) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 434. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، 2/ 659، برقم 956. (¬3) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 4/ 1395، وانظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، 4/ 17. (¬4) مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر، 2/ 634، برقم 920.

6 - وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله

كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} (¬1): أي من الباقين في العذاب، وغبر من الأضداد، يأتي بمعنى بقي، وبمعنى ذهب (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه)) أي وسّع في قبره، وادفع عنه ظلمة القبر)) (¬3). 6 - وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فينا خطيباً بماءٍ يُدعى خُمّاً بين مكة والمدينة، فَحِمَد الله، وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثم قال: ((أمّا بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله: فيه الهدى والنور [وهو حبل الله المتين، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة] فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) فحث على كتاب الله ورغّب فيه .. )) الحديث (¬4). قال الإمام النووي رحمه الله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((هو حبل الله)) قيل: ((المراد بحبل الله: عهده، وقيل: السبب الموصل إلى رضاه، ورحمته، وقيل: هو نوره الذي يهدي به)) (¬5). ولا شك أن العمل بكتاب الله يوصل إلى رحمته، ورضاه، وهدايته ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 83. (¬2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 573، وشرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 478، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 4/ 1374. (¬3) انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، 4/ 87. (¬4) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، 4/ 1873، برقم 2408. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم، 15/ 191.

7 - ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين،

وتوفيقه، والله المستعان. 7 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فتنة القبر، وإجابة المسلم على الأسئلة: ((ثم يُفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم يُنوّر له فيه)) (¬1)، والمعنى أنه يُوسَّع له في قبره سبعون ذراعاً في الطول وسبعون ذراعاً في العرض، ثم يجعل له النور في هذا القبر الذي وُسِّع له (¬2). 8 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نتف الشيب وقال: ((إنه نور المسلم)) (¬3). 9 - وعن كعب بن مُرّة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَنْ شاب شيبةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة)) (¬4). ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر 4/ 274، برقم 1071، وابن أبي عاصم، في كتاب السنة، 2/ 416، برقم 864، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 369، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1243. (¬2) انظر: تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، 4/ 683. (¬3) الترمذي، كتاب الأدب، باب ما جاء في النهي عن نتف الشيب، 5/ 125، برقم 2821، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب نتف الشيب، 2/ 1226، برقم 3721، وأحمد في المسند، 2/ 179، 207، 210، 212،وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي،2/ 369،وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1243. (¬4) الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل من شاب شيبة في سبيل الله، 4/ 172، برقم 1634، والنسائي، في كتاب الزينة، باب النهي عن نتف الشيب، 8/ 136، برقم 5068، وابن حبان في صحيحه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، 7/ 251، برقم 2983، وأبو داود بنحوه، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، في كتاب الترجّل، بابٌ: في نتف الشيب، 4/ 85، برقم 4202، وأحمد في المسند، 4/ 413، 236، 6/ 20، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 248، برقم 1244، وفي صحيح سنن الترمذي، 2/ 126.

10 - من شاب شيبة في سبيل الله

10 - وعن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة)) (¬1). 11 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجلٌ شيبةً في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة، ورُفِع بها درجة)) (¬2). 12 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نورٌ يوم القيامة، ومن شاب شيبة في الإسلام، كُتب له بها حسنة، وحُطّ عنه بها خطيئة، ورُفِع له بها درجة)) (¬3). وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في هذا المعنى عن أكثر من عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الأحاديث الخمسة السابقة تبيّن فضل الشيب، وأنه لا يُنتف؛ لأنه نور المسلم، ووقاره؛ لأن الوقار يمنع الشخص عن الغرور والطرب، ويميل إلى الطاعة والتوبة، وتنكسر نفسه عن الشهوات، فيصير ذلك نوراً يسعى بين يديه في ظلمات الحشر إلى أن ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل من شاب شيبة في سبيل الله، 4/ 172، برقم 1635، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، وأخرجه ابن حبان من حديث أبي نجيح السلمي، 7/ 252، برقم 2984. (¬2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، 5/ 205، برقم 6387، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1243. ورواه أبو داود بنحوه، في كتاب الترجل، باب في نتف الشيب، 4/ 85، برقم 4202. (¬3) ابن حبان في صحيحه 7/ 253، برقم 2985، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 247، برقم 1243.

يدخله الجنة (¬1). فالشيب يصير نفسه نوراً يهتدي به صاحبه، ويسعى بين يديه يوم القيامة، والشيب وإن لم يكن من كسب العبد، لكنه إذا كان بسبب من نحو جهاد أو خوف من الله ينزل منزلة سعيه، فيُكره نتف الشيب من نحو: لحية، وشارب، وعنفقة، وحاجب، قال النووي: لو قيل يحرم لم يبعد (¬2). ومن غيّر بالسواد لا يحصل على هذا النور إلاّ أن يتوب أو يعفو الله عنه (¬3). وهذا الشعر الأبيض يؤدي إلى نور الأعمال الصالحة، فيصير نوراً في قبر المسلم، ويسعى بين يديه في ظلمات حشره (¬4)، ويحصل هذا الفضل بشعرة واحدة بيضاء، تكون ضياء ومخلصاً عن ظلمات الموقف، وشدائده (¬5). وهذا الفضل في هذه الأحاديث يرغِّب المسلم في ترك نتف الشيب، وأعظم من النتف التغيير بالسواد، فقد نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذّر منه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غيِّروا هذا بشيء واجتنبوا السواد)) (¬6)، والثغامة نبت أبيض الزهر، والثمر، شُبِّه بياض الشيب به، ¬

_ (¬1) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 9/ 2934. (¬2) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، 6/ 156. (¬3) انظر: المرجع السابق، 6/ 157. (¬4) انظر: مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري، 8/ 235. (¬5) انظر: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، للمباركفوري، 5/ 261. (¬6) صحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه بالسواد، 3/ 1663، برقم 4212.

وقيل: شجرة تبيضّ كأنها الثلجة، أو كأنها الملح (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((غيّروا هذا بشيء)) أمرٌ بتغيير الشيب، قال به جماعة من: الخلفاء، والصحابة، لكن لم يَصِر أحد إلى أنه للوجوب، وإنما هو مستحبٌّ (¬2). قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((أما قولهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخضب فليس بصحيح، بل قد صحّ عنه أنه خضب بالحنّاء، وبالصّفرة)) (¬3)، ولعل القرطبي رحمه الله يشير إلى حديث أبي رمثة - رضي الله عنه - حيث قال: ((أتيت أنا وأبي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد لطّخ لحيته بالحنّاء)) (¬4). وعنه - رضي الله عنه - قال: ((أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأيته قد لطّخ لحيته بالصّفرة)) (¬5). وعن زيد بن أسلم قال: ((رأيت ابن عمر يُصفِّر لحيته، فقلت: ¬

_ (¬1) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 5/ 418. (¬2) المرجع السابق، 5/ 418، وسمعت شيخنا العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله أثناء تقريره على الحديث رقم 5073، من سنن النسائي في: 21/ 8/1418هـ يقول: ((الخضاب سنة مؤكدة وليس واجباً)). (¬3) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 5/ 418. (¬4) النسائي، في كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم، 8/ 140، برقم 5083، وأبو داود، كتاب الترجل، باب في الخضاب، 4/ 86، برقم 4206، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 3/ 1044. (¬5) النسائي، كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم، 8/ 140، برقم 5084، وأبو داود في كتاب الترجل، باب في الخضاب، 4/ 86، برقم 4208، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 3/ 1044، وفي مختصر الشمائل المحمدية، ص40 - 41، برقم 36 - 37.

يا أبا عبد الرحمن، تُصفِّر لحيتك بالخلوق؛ قال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصفِّر بها لحيته ولم يكن شيء من الصبغ أحب إليه منها)) (¬1)، وهذا من فعله - صلى الله عليه وسلم -، أما من قوله فقد ثبت عنه أحاديث: فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحسن ما غيرتم به الشيب: الحناءُ والكتم)) (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل قد خضب بالحناء فقال: ((ما أحسن هذا؟))، قال: فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم فقال: ((هذا أحسن من هذا))، قال: فمر آخر قد خضب بالصفرة فقال: ((هذا أحسن من هذا كله)) (¬3). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال السبتية، ويصفِّر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعله)) (¬4). وسمعت شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله ¬

_ (¬1) النسائي، كتاب الزينة، باب الخضاب بالصفرة، 8/ 140، برقم 1085، وصححه الألباني، في صحيح سنن النسائي، 3/ 1044. (¬2) النسائي، كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم، 8/ 139، برقم 5077 - 5080، ومن حديث عبد الله بن بريدة، برقم 5081 - 5082، وأخرجه أبو داود، كتاب الترجل، باب الخضاب، 4/ 85، برقم 4205. (¬3) أبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب الصفرة، 4/ 86، برقم 4211، وقال العلامة الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح: ((وإسناده جيد))، 2/ 1266. (¬4) النسائي، كتاب الزينة، باب تصفير اللحية بالورس والزعفران، 8/ 186، برقم 5244، وأبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب الصفرة، 4/ 86، برقم 4210، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 3/ 1065، برقم 4839، وصحيح سنن أبي داود، 2/ 792.

يقول: ((وقد جاء التصفير عن ابن عمر في الصحيحين، ويستثنى من التزعفر: ما كان في اللحية، أو الشارب، أو الرأس)) (¬1)، وسمعته أيضاً يقول: ((والسنة الخضاب بالحناء أو بالصفرة، أو بالحناء والكتم)) (¬2). قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((وأما الصباغ بالحناء بحتاً، وبالحناء والكتم، فلا ينبغي أن يختلف فيه؛ لصحة الأحاديث بذلك، غير أنه قد قال بعض العلماء: إن الأمر في ذلك محمول على حالين: * أحدهما: عادة البلد، فمن كانت عادة موضعه ترك الصبغ فخروجه عن المعتاد شهرة تَقْبُح وتكره. * وثانيهما: اختلاف حال الناس في شيبهم، فربَّ شيبة نقية هي أجمل بيضاء منها مصبوغة، وبالعكس فمن قبَّحه الخضاب اجتنبه، ومن حسنه استعمله، وللخضاب فائدتان: إحداهما: تنظيف الشعر مما يتعلق به من الغبار والدخان. والأخرى: مخالفة أهل الكتاب (¬3)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)) (¬4)، ثم قال رحمه الله: ((ولكن هذا الصباغ بغير ¬

_ (¬1) سمعته من سماحته، يوم الأحد بعد المغرب، في جامع الأميرة سارة أثناء شرحه لحديث رقم 5244، من سنن النسائي، بتاريخ 10/ 11/1418هـ. (¬2) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 5085، من سنن النسائي في المكان السابق، بتاريخ 24/ 8/1418هـ. (¬3) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 420. (¬4) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 4/ 175، برقم 3462، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب في مخالفة اليهود في الصبغ، 3/ 6316، برقم 2103.

السواد، تمسكاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((واجتنبوا السواد))، والله أعلم (¬1)، وقال رحمه الله: ((وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((واجتنبوا السواد)) أمر باجتناب السواد، وكرهه جماعة منهم: علي بن أبي طالب، ومالك، وهو الظاهر من هذا الحديث، وقد عُلِّلَ ذلك بأنه من باب التدليس على النساء؛ وبأنه سواد في الوجه، فيكره؛ لأنه تشبه بسيما أهل النار)) (¬2)، ثم ذكر رحمه الله جماعة كثيرة من السلف كانوا يخضبون بالسواد، وقال: ((ولا أدري عذر هؤلاء عن حديث أبي قحافة ما هو؟ فأقل درجاته الكراهة كما ذهب إليه مالك)) (¬3). قلت: أما عذر السلف الذين كانوا يخضبون بالسواد، فيحمل على أنه لم يبلغهم حديث النهي الصريح عن الصبغ بالسواد، والله أعلم. وقال الإمام النووي رحمه الله: ((ومذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة، أو حمرة، ويحرم خضابه بالسواد على الأصح)) (¬4). ويؤكد اختيار الإمام النووي ومن سلك مسلكه في تحريم الخضاب بالسواد ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة)) (¬5)، وسمعت سماحة العلامة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ¬

_ (¬1) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 420. (¬2) المرجع السابق، 5/ 419. (¬3) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 419. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 14/ 325. (¬5) أبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب السواد، 4/ 87، برقم 4212، والنسائي في كتاب الزينة، باب النهي عن الخضاب بالسواد، 8/ 138، برقم 5075، وأحمد في المسند، 1/ 273، وقال ابن حجر في فتح الباري، 6/ 499: ((إسناده قوي))، وصحح إسناده العلامة الألباني في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، وقال: على شرط الشيخين، ص84.

ابن باز رحمه الله يقول عن هذا الحديث: ((إسناده جيد، وهذا يدل على تحريم تغيير الشيب بالسواد، ويقتضي أنه كبيرة؛ لأنه وعيد)) (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كحواصل الحمام)) أي كصدور الحمام في الغالب؛ لأن صدور بعض الحمام ليست بسود (¬2). ومما يدل على قُبح الخضاب بالسواد ما بيَّنه بعض السلف الذين كانوا يخضبون بالسواد حيث قيل: إنه قال: نُسَوِّدُ أعلاها وتأبى أصُولُها ... ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل (¬3) وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((والصواب أن الأحاديث في هذا الباب لا اختلاف بينها بوجه؛ فإن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من تغيير الشيب أمران: أحدهما: نتفه. والثاني: خضابه بالسواد ... والذي أذن فيه: هو صبغه وتغييره بغير السواد: كالحناء والصفرة، وهو الذي عمله الصحابة - رضي الله عنهم - ... ¬

_ (¬1) سمعته منه أثناء شرحه لحديث رقم 5075، من سنن النسائي، في جامع الأميرة سارة بالبديعة، بعد مغرب يوم الأحد الموافق 21/ 8/1418هـ. (¬2) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 9/ 2933، ومرقاة المفاتيح، للملاّ علي القاري، 8/ 232. (¬3) شرح مشكل الآثار، للطحاوي، 9/ 314.

وأما الخضاب بالسواد فكرهه جماعة من أهل العلم، وهو الصواب بلا ريب لِمَا تقدم، وقيل للإمام أحمد: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله، وهذه المسألة من المسائل التي حلف عليها ... ورخص فيه آخرون، منهم أصحاب أبي حنيفة، وروي ذلك عن الحسن، والحسين، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن جعفر، وعقبه بن عامر، وفي ثبوته عنهم نظر، ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنته أحق بالاتباع، ولو خالفها من خالفها)) (¬1). ويستخلص من الأحاديث الواردة في الشيب وخضابه ما يأتي: أولاً: الشيب نور المسلم في الدنيا والآخرة. ثانياً: المنع من نتف الشيب ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثالثاً: الشيب تُزاد به الحسنات. رابعاً: الشيب تُرفع به الدرجات. خامساً: الشيب تُحطّ به الخطايا. سادساً: تحريم صبغ الشيب بالسواد. سابعاً: صبغ الشيب بالحناء، أو الصفرة، أو الحناء والكتم سنة مؤكدة. ثامناً: الحناء: لونه أحمر، والحناء والكتم: لونه بين السواد والحمرة. تاسعاً: من صبغ الشيب بالسواد من السلف فلا دليل له من كتاب ولا سنة. عاشراً: لا قول لأحد مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كائناً من كان. الحادي عشر: الشيب له أسباب غير كبر السن، فقد يكون مبكراً؛ لخوف ¬

_ (¬1) تهذيب ابن القيم المطبوع مع معالم السنن للخطابي، 6/ 104.

13 - فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به

الله - عز وجل -، أو لغيره من الأسباب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله قد شبت؟ قال: ((شيبتني هودٌ، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كوِّرت)) (¬1). وعن أبي جحيفة - رضي الله عنه -، قال: قالوا: يا رسول الله، نراك قد شبت؟ قال: ((شيبتني هودٌ وأخواتها)) (¬2)، والله - عز وجل - الموفق للصواب. 13 - وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: ((كنت أرجو أن يعيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يَدْبُرنا - يريد بذلك أن يكون آخرهم - فإن يك محمد - صلى الله عليه وسلم - قد مات فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). والمقصود بالنور الذي قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:هو القرآن العظيم؛ لأن فيه الهدى والنور، فمن عمل بما فيه كان على الصراط المستقيم وعلى الحق المبين (¬4). 14 - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله - عز وجل - خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله)) (¬5)، وهذا الحديث يبيّن أن الله - عز وجل - خلق الخلق في ظلمة، وألقى ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الواقعة، 5/ 402، برقم 3297، وحسنه، وصححه الألباني مختصر شمائل الترمذي، ص40، برقم 34. (¬2) أخرجه الترمذي في الشمائل، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، ص40، برقم 35. (¬3) البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، 8/ 160، برقم 7219. (¬4) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 13/ 209، وإرشاد الساري، للقسطلاني، 15/ 180. (¬5) الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 5/ 26، برقم 2642، وقال: ((هذا حديث حسن))، وأخرجه أحمد، 2/ 176، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 30، وصحح إسناده العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1076.

15 - وإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا فتفرق النور معهما

عليهم شيئاً من نوره، فمن أصابه شيء من ذلك النور اهتدى إلى طريق الجنة، ومن أخطأه ذلك النور وجاوزه ولم يصل إليه ضل وخرج عن طريق الحق؛ لأن الاهتداء والضلال قد جرى على علم الله وحكم به في الأزل لا يتغير ولا يتبدل، وجفاف القلم عبارة عنه. وقيل: من أجل عدم تغير ما جرى في الأزل تقديره: من الإيمان، والطاعة، والكفر، والمعصية، أقول: جف القلم (¬1). 15 - عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلين خرجا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة، وإذا نور بين أيديهما حتى تفرّقا فتفرّق النور معهما))، وقال معمر عن ثابت عن أنس: ((إن أسيد بن حضير ورجلاً من الأنصار))، وقال حماد: أخبرنا ثابت عن أنس: ((كان أسيد بن حُضير وعبّاد بن بشر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((فأما رواية معمر فوصلها عبد الرزاق في مصنفه عنه، ومن طريقه الإسماعيلي بلفظ: ((إن أسيد بن حضير ورجلاً من الأنصار تحدثا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب من الليل ساعة في ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل واحد منهما عُصية فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر فمشى كل منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله))، ¬

_ (¬1) تحفة الأحوذي، للمباركفوري، 7/ 401. (¬2) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب منقبة أسيد بن حضير وعباد بن بشر،3/ 270،برقم 3805.

16 - من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور

وأما رواية حماد بن سلمة فوصلها أحمد والحاكم في المستدرك بلفظ: ((إن أسيد بن حضير وعباد بن بشر كانا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة ظلماء حندس، فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما فمشيا في ضوئها، فلما افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر)) (¬1). وهذه من كرامات الأولياء؛ فإن أهل الصلاح إذا حصل لهم أمر خارق للعادة فهي كرامة، أما إذا حصل ذلك لفاسق فهي من عمل الشيطان، وإذا حصل لإنسان مجهول مستور فيعرض أمره على الكتاب والسنة. وهذا النور الذي حصل لهذين الصحابيين مبني على نور الإيمان والتقوى، فاستنار الباطن، وجعل الله نوراً في عصا كل واحد منهما، فاستنار الظاهر، وليس من شرطٍ أن يحصل ذلك لكل مؤمن، وإنما ذلك راجع إلى الله - عز وجل -. 16 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) (¬2). ذكر العلامة الملاّ علي القاري أن معنى: ((أضاء له من النور)) أي: في قلبه، أو قبره، أو يوم حشره في الجمع الأكبر، ((ما بين الجمعتين)) أي: مقدار الجمعة التي تليها من الزمان، وهكذا كل جمعة تلا فيها هذه السورة)) (¬3). ¬

_ (¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7/ 125. (¬2) البيهقي 3/ 249، والحاكم في المستدرك وصحح إسناده، 2/ 368، والدارمي موقوفاً في حكم الرفع، في فضائل القرآن، باب في فضل سورة الكهف، 2/ 326، برقم 3410، وصححه الألباني بطرقه، في إرواء الغليل، 3/ 94، برقم 626. (¬3) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 4/ 678.

17 - إن الله يحيي القلوب بنور الحكمة،

قال الطيبي رحمه الله: ((أضاء له)) يجوز أن يكون لازماً، وقوله: ((ما بين الجمعتين)) ظرف، فيكون إشراق ضوء النور فيما بين الجمعتين، بمنزلة إشراق النور نفسه مبالغة، ويجوز أن يكون متعدياً، والظرف مفعول به)) (¬1). 17 - وذكر مالك رحمه الله: أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: ((يا بنيّ جالس العلماء وزاحمهم بالركب، فإن الله يُحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء)) (¬2). فقوله: ((جالس العلماء وزاحمهم بالركب)) عبارة عن مزيد القرب منهم، وقوله: ((فإن الله يحيي الأرض بنور الحكمة)) هي تحقيق العلم وإتقان العمل، والإصابة في القول والفعل، وهي العلم المشتمل على الفقه في الدين، والمعرفة بالله مع نفاذ البصيرة، وتحقيق الحق للعمل، والكف عن الباطل (¬3). فالله سبحانه يحيي القلوب بذلك كما يحيي الأرض بالمطر، وهذا يؤكد على فضل العلم النافع والعمل الصالح؛ ولهذا الفضل قال محمد بن سيرين رحمه الله: ((إن قوماً تركوا طلب العلم، ومجالسة العلماء، وأخذوا في الصلاة، والصيام حتى يبس جلدُ أحدهم على عظمه، ثم خالفوا السنة فهلكوا، وسفكوا دماء المسلمين، فوالذي لا إله غيره ما عمل أحد عملاً على جهل إلا كان يفسد أكثر مما يصلح)) (¬4). ¬

_ (¬1) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 5/ 1675. (¬2) موطأ الإمام مالك، 2/ 1002. (¬3) انظر: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك،4/ 553،والحكمة في الدعوة إلى الله - عز وجل -،لسعيد بن علي بن وهف القحطاني، ص27. (¬4) أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار بسنده، 27/ 434، برقم 41779.

18 - حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة

18 - وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً، فأيُّ قلب أُشربها نُكت فيه نكتٌ سوداءٌ، وأيُّ قلب أنكرها نكت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا لا تضّرهُ فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسودُ مربادّاً كالكُوز مجخيّاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرِب من هواه)) (¬1). الفتنة أصلها في كلام العرب: الابتلاء، والامتحان، والاختبار، ثم صارت في عرف الكلام لكل أمر كشفه الاختبار عن سوء، فقيل: فُتن الرجل إذا وقع في الفتنة وتحوّل من حال حسنة إلى سيئة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((تُعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عُوداً عُوداً)) والمعنى أن الفتن تلصق بعرض القلوب: أي بجانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم، ويؤثر فيه شدة التصاقها به، وتُعاد وتُكرر شيئاً بعد شيء، فأي قلب أُشربها فدخلت فيه دخولاً تاماً وألزمها وحلّت منه محلّ الشراب نقط فيه نقطة سوداء، ولا يزال هذا القلب يشرب الفتن كلما عُرضت عليه كما يشرب الإسفنج الماء حتى يسودّ وينتكس، فيكون كالكُوز المائل المنكوس، ((والكوز هو ما اتَّسع رأسه من أواني الشرب إذا كانت بِعُرى وآذان، فإن لم يكن لها عُرى فهي أكواب)) (¬2). فإذا انتكس القلب وصار مكبوباً منكوساً عرض له اشتباه المعروف عليه بالمنكر، وربما استحكم عليه المرض حتى يعتقد المعروف منكراً ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً،1/ 128،برقم 144. (¬2) مشارق الأنوار، للقاضي عياض، 1/ 349.

والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقاً، وبذلك يحكم هواه على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وينقاد له ويتبعه. والقلب الآخر: قلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتن أنكرها، وردّها فازداد نوره، وإشراقه، وقوته؛ ولقوة هذا القلب وشدّته على عقد الإيمان، وسلامته من الخلل شُبِّه بالحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء، فهذا القلب لا تلصق به الفتن ولا تؤثر فيه، بخلاف القلب الأسود المربادّ ((والمربادّ: هو الذي بين البياض والسواد والغبرة، مثل لون الرمادة)) (¬1)، فهذا القلب قد اسودَّ، وقُلِبَ، ونُكِسَ حتى لا يعلق به خير ولا حكمة، فَشُبِّهَ بالكوز المنحرف الذي لا يثبت فيه الماء، فإنه قد دخل قلبه بكل معصية تعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن، وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز فإذا انكبّ انصبّ ما فيه ولم يدخله شيء بعد ذلك (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات، وفتن الشبهات، وفتن الغي والضلال، وفتن المعاصي، والبدع: فتن الظلم والجهل، فالأولى: توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد)) (¬3)،وقال رحمه الله: ((وقد قسم الصحابة - رضي الله عنهم - القلوب إلى أربعة كما صح عن حذيفة بن ¬

_ (¬1) انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض، 1/ 279. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 530 - 531، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم، 1/ 16. (¬3) المرجع السابق، 1/ 17.

القلوب أربعة

اليمان - رضي الله عنه - قوله (¬1): ((القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس، فذلك قلب المنافق عرف ثم أنكر، وقلب فيه مادتان: إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدّها ماء طيب، ومثل النفاق مثل قرحة يمدّها قيح ودم، فأيهما غلب عليه غلب)) (¬2). فالقلب الأجرد: المتجرِّد مما سوى الله - سبحانه وتعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد تجرَّد وسلم مما سوى الحق، وفيه سراج يزهر، وهو مصباح الإيمان ونوره، فهو متجرّد سالم من شبهات الباطل وشهوات الغي، وقد أشرق واستنار بنور العمل والإيمان. والقلب الأغلف: قلب الكافر، لأنه داخل في غلافه وغشائه، فلا يصل إليه نور العلم والإيمان، فإذا ذكر له تجريد التوحيد وتجريد المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولَّى مدبراً. والقلب المنكوس المكبوب: قلب المنافق وهذا شر القلوب وأخبثها؛ فإنه يعتقد الباطل حقاً ويوالي أصحابه، والحق باطلاً ويعادي أهله، ومع ذلك يُبطن الكفر، ويُظهر الإيمان. ¬

_ (¬1) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، 1/ 17. (¬2) ذكره ابن تيمية موقوفاً على حذيفة - رضي الله عنه -، وعزاه إلى أبي داود السجستاني وذكر إسناده، ثم قال: وقد روي مرفوعاً، وهو في المسند مرفوعاً. كتاب الإيمان لابن تيمية، ص288، قلت: هو في المسند، 2/ 17، وقال العلامة الألباني: ((قلت: والمرفوع إسناده ضعيف، والصحيح موقوف))، كتاب الإيمان لابن تيمية، ص288 ح.

19 - سيأتي أناس من أمتي يوم القيامة نورهم كضوء الشمس

وأما القلب الذي له مادتان: فهو القلب الذي لم يتمكّن فيه الإيمان، ولم يُزهر فيه سراجه، حيث لم يتجرّد للحق المحض، الذي بعث الله - عز وجل - به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر، والحكم للغالب وإليه يرجع (¬1). 19 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يرفعه: ((طوبى للغرباء)) فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ((أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) قال: وكنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً آخر حين طلعت الشمس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سيأتي أناس من أمتي يوم القيامة نورهم كضوء الشمس)) قلنا: من أولئك يا رسول الله؟ فقال: ((فقراء المهاجرين الذين تُتَّقَى بهم المكاره، يموت أحدهم وحاجته في صدره، يُحشرون في أقطار الأرض)) (¬2)، وهذا النور أعظم ما ورد للمؤمن يوم القيامة؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله عند ذكره لنور المؤمنين يوم القيامة، وأنه يكون على حسب قوة إيمانهم، ويقينهم، وإخلاصهم: ((فمنهم من يكون نوره كالشمس، ودون ذلك القمر، ودونه كأشدِّ كوكب في السماء إضاءة ... )) (¬3). 20 - قال يهودي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أين يكون الناس يوم تُبدَّل الأرض غير ¬

_ (¬1) انظر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، 1/ 18 - 19. (¬2) أخرجه أحمد في المسند، 2/ 177، وصححه الألباني بطرقه، في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 153، برقم 1619، وصححه أحمد محمد شاكر، في ترتيبه وشرحه للمسند، 10/ 135 - 136، برقم 6650، و12/ 28، برقم 7072، و12/ 79، برقم 7072. (¬3) اجتماع الجيوش الإسلامية لغزو المعطلة والجهمية، 2/ 86.

الأرض والسموات؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هم في الظلمة دون الجسر)) (¬1)، قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((والجَسر - بفتح الجيم وكسرها - ما يُعبر عليه، وهو الصراط هنا، و ((دون)) بمعنى فوق، كما قال في حديث عائشة رضي الله عنها: ((على الصراط)) (¬2)، وقد جاءت الأحاديث التي تدلّ على أن الناس عند تبديل الأرض غير الأرض يكونون على الصراط بألفاظ متقاربة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله - عز وجل -: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ}، فأين يكون الناس يومئذٍ يا رسول الله؟ فقال: ((على الصراط)) (¬3)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وفي رواية الترمذي ((على جسر جهنم))؛ ولأحمد من طريق ابن عباس عن عائشة: ((على متن جهنم)) (¬4)، فظاهر الأدلة تقتضي أنه يذهب بهذه الأرض ويُؤتى بأرض أخرى (¬5)، وقد جاء الحديث الصحيح في صفة الأرض المبدَّلة، وأنها بيضاء عفراء، فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد)) (¬6)، والأرض ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب صفة مني الرجل والمرأة وأن الولد مخلوق من مائهما، 1/ 252، برقم 315. (¬2) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1/ 574، 7/ 352، وانظر: إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للأبي، 2/ 156. (¬3) مسلم، كتاب صفة القيامة، والجنة والنار، باب في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة، 4/ 2150، برقم 2791، والآية: 48، من سورة إبراهيم. (¬4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11/ 376، ورواية الترمذي هي في سننه، برقم 3121. (¬5) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 7/ 351. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب قبض الله الأرض يوم القيامة،4/ 248، برقم 6521، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة، 4/ 2150، برقم 2790.

21 - اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة،

العفراء: البيضاء بياضاً ليس ناصعاً بل يضرب إلى الحمرة، وقوله ((كقرصة النقي)) القرصة: الخبزة، والنقي: هي النقي من الغش والنخال، وقوله: ((ليس فيها علم لأحد)): أي ليس فيها علامة لأحد، ولا علامة سكنى، ولا بناء، ولا أثر، ولا شيء من العلامات التي يُهتدى بها في الطرقات: كالجبل، والصخرة البارزة، وفيه تعريض بأرض الدنيا، وأنها ذهبت (¬1). 21 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشحّ، فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم)) (¬2). قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((ظاهره أن الظالم يعاقب يوم القيامة، بأن يكون في ظلمات متوالية، يوم يكون المؤمنون في نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، حين يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ}، فيقال لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا})) (¬3)، ¬

_ (¬1) انظر: الفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 7/ 350، وشرح النووي على صحيح مسلم، 17/ 140، وفتح الباري، لابن حجر، 11/ 375. (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، 4/ 1996، برقم 2578، وأخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب الظلم ظلمات يوم القيامة، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بلفظ: ((الظلم ظلمات يوم القيامة))، 3/ 136، برقم 2447. (¬3) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 6/ 556، والآية: 13 من سورة الحديد، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 370، وإكمال إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم، للأبي، 8/ 534.

وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من غيرها؛ لأنه لا يقع غالباً إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب؛ لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئاً)) (¬1)، وقوله: ((اتقوا الشحّ، فإنّ الشحّ أهلك من كان قبلكم)) قال جماعة: الشحّ: أشدّ البخل، وأبلغ في المنع من البخل، وقيل: هو البخل مع الحرص، وقيل: الشحّ: الحرص على ما ليس عندك، والبخل: الامتناع عن إخراج ما حصل عندك (¬2). ولا شك أن الظلم ثلاثة أنواع: 1 - ظلم الشرك، 2 - ظلم المعاصي، 3 - ظلم النفس، وبمعنى أوضح: نوعان: ظلم العبد نفسه، وهو نوعان: الظلم بالشرك، والظلم بالمعاصي، وظلم العبد غيره. والله - عز وجل - الموفق والمعين والهادي إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 5/ 100. (¬2) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 6/ 557، وشرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 171، وإكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم، للأبي، 8/ 534.

الرسالة السابعة: نور التوحيد وظلمات الشرك

الرسالة السابعة: نور التوحيد وظلمات الشرك التمهيد لا شك أن التوحيد نور يوفق الله له من يشاء من عباده، والشرك ظلمات بعضها فوق بعض يُزيَّن للكافرين، قال الله - عز وجل -: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1)، وقد بيّن الله - عز وجل - أنه أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - الآيات الواضحات، والدلائل الباهرات، وأعظمها القرآن الكريم؛ ليخرج الناس بإرسال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبما أنزل عليه من الكتاب والحكمة: من ظلمات الضلالة، والشرك، والجهل، إلى نور الإيمان والتوحيد، والعلم والهدى، قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬2). وسأبين ذلك بالتفصيل، في المبحثين الآتيين: المبحث الأول: نور التوحيد المطلب الأول: مفهوم التوحيد: التوحيد المطلق: هو: العلم والاعتراف المقرون بالاعتقاد الجازم، بتفرّد الله - عز وجل - بالأسماء الحسنى، وتَوَحُّدِهِ بِصفات الكمال، والعظمة ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬2) سورة الحديد، الآية: 9.

المطلب الثاني: البراهين الساطعات في إثبات التوحيد

والجلال، وإفراده وحده بالعبادة (¬1)، قال - سبحانه وتعالى -: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬2). قال العلامة السعدي رحمه الله: ((أي متوحد منفرد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فليس له شريك: في ذاته، ولا سَمِيٌّ له، ولا كفءٌ، ولا مثلٌ، ولا نظيرٌ، ولا خالقُ ولا مدبرُ غيره؛ فإذا كان كذلك فهو المستحق؛ لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة، ولا يشرك به أحد من خلقه)) (¬3). والتوحيد على هذه المعاني: هو إفراد الله تعالى بما يختص به: من الأسماء، والصفات، والألوهية، والربوبية. المطلب الثاني: البراهين الساطعات في إثبات التوحيد البراهين الساطعات، والبينات الواضحات في كتاب الله - عز وجل -، وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - على إثبات التوحيد كثيرة لا تحصر، ولكن منها على سبيل المثال ما يأتي: أولاً: قال الله - عز وجل -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬4) والمعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا ليُوحِّدونِ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد، للسعدي، ص18. (¬2) سورة البقرة، الآية: 163. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص60. (¬4) سورة الذاريات، الآيات: 56 - 58. (¬5) الجامع لأحكام القرآن الكريم، للقرطبي، 17/ 57.

ثانيا: قال - سبحانه وتعالى -: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا}

ثانياً: قال - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوت فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (¬1): يخبر الله - عز وجل - أن حجته قامت على جميع الأمم، وأنه ما من أمّة متقدّمة، أو متأخرة إلا وبعث الله فيها رسولاً، وكلهم متفقون على دعوة واحدة، ودين واحد، وهو: عبادة الله وحده لا شريك له، فانقسمت الأمم بحسب استجابتها لدعوة الرسل قسمين: {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله} فاتبعوا المرسلين، {وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} فاتبع سبيل الغي (¬2). ثالثاً: قال - عز وجل -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (¬3)، فكل الرسل عليهم الصلاة والسلام قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -: زبدة رسالتهم وأصلها: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وبيان أنه الإله الحق المعبود، وأن عبادة ما سواه باطلة (¬4)؛ ولهذا قال الله - عز وجل -: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون} (¬5). رابعاً: قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬6)، فالله - عز وجل - قَضَى، وَوَصَّى، وحَكَم، وأمر بالتوحيد فقال: ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 36. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص393. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 25. (¬4) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 18/ 427، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص470. (¬5) سورة الزخرف، الآية: 45. (¬6) سورة الإسراء، الآية: 23.

خامسا: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقولون لأممهم: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}

{وَقَضَى رَبُّكَ} قضاءً دينيًا، وأمراً شرعيًّا، {أَلاَّ تَعْبُدُواْ} أحدًا: من أهل الأرض والسموات، الأحياء، والأموات، {إِلاَّ إِيَّاهُ}؛ لأنه الواحد الأحد، الفرد الصمد (¬1). خامساً: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقولون لأممهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬2)، والمعنى: اعبدوا الله وحده؛ لأنه الخالق، الرازق، المدبر لجميع الأمور، وما سواه مخلوق مُدبَّر ليس له من الأمر شيء (¬3)، فهو المستحق للعبادة وحده. سادساً: قال - سبحانه وتعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬4). سابعاً: قال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬5): أمر الله - عز وجل - نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمشركين: إن صلاتي وذبحي، وحياتي، وما آتيه فيها، وما يجريه الله عليَّ، وما يُقَدِّر عليَّ فالجميع لله رب العالمين، لا شريك له في العبادة، كما أنه لا شريك له في الملك والتدبير، وبذلك أمرني ربي، وأنا أول من أقرَّ، وأذعن، وخضع من هذه الأمة لربه (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 17/ 413، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 3/ 34، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص407. (¬2) سورة الأعراف، الآيات: 59 - 65. (¬3) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص255. (¬4) سورة البينة، الآية: 5. (¬5) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163. (¬6) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 12/ 283، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص245.

ثامنا: عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: له: ((يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده))؟

ثامناً: عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: له: ((يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده))؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا))، ثم سار ساعة ثم قال: ((يا معاذ، هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟)) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((حقّ العباد على الله أن لا يعذِّبَ من لا يشرك به شيئًا)) (¬1)، وهذا الحديث العظيم يبيّن أن حقّ الله على عباده أن يعبدوه وحده لا شريك له بما شرعه لهم من العبادات، ولا يشركوا معه غيره، وأن حق العباد على الله - عز وجل - أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا، ولا شك أن حق العباد على الله: هو ما وعدهم به من الثواب، فحق ذلك ووجب بحكم وعده الصدق، وقوله الحق، الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر، ولا الخلف في الوعد، فهو حق جعله الله سبحانه على نفسه، تفضلاً، وكرمًا، فهو سبحانه الذي أوجب على نفسه حقًّا لعباده المؤمنين، كما حرّم الظلم على نفسه، لم يوجب ذلك مخلوق عليه، ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم رحمته، وعدله، كتب على نفسه الرحمة، وحرّم على نفسه الظلم (¬2). تاسعاً: عن عتبان بن مالك - رضي الله عنه -، يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( .. فإن الله حرّم ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف الرجل، 7/ 89، برقم 5967، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، قطعًا، 1/ 58، برقم 30، واللفظ للبخاري، برقم 2856، ورقم 6500. (¬2) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 1/ 203، وشرح النووي على صحيح مسلم، 1/ 345، ومجموع فتاوى ابن تيمية، 1/ 213.

المطلب الثالث: أنواع التوحيد

على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)) (¬1). المطلب الثالث: أنواع التوحيد الله - سبحانه وتعالى -: هو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، فإفراده تعالى وحده بالعبادة كلها وإخلاص الدين كله لله، هذا هو توحيد الألوهية: وهو معنى ((لا إله إلا الله))، وهذا التوحيد يتضمن جميع أنواع التوحيد (¬2) ويستلزمها؛ فإن التوحيد نوعان: النوع الأول: التوحيد الخبري العلمي الاعتقادي (¬3): وهو توحيد في المعرفة والإثبات، وهو: توحيد الربوبية، والأسماء، والصفات، وهو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتكلّمه بكتبه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه، وقدره، وحكمته، وتنزيهه عمَّا لا يليق به. النوع الثاني: التوحيد الطلبي القصدي الإرادي: وهو توحيد في الطلب والقصد: وهو توحيد الإلهية أو العبادة (¬4). وتكون أنواع التوحيد على التفصيل ثلاثة أنواع على النحو الآتي: ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت،1/ 125،برقم 425،ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، 1/ 455،برقم 33. (¬2) انظر: تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ص74، والقول السديد، للسعدي، ص17، وبيان حقيقة التوحيد، للشيخ صالح الفوزان، ص20. (¬3) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 3/ 449. (¬4) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم، 2/ 94، ومعارج القبول، لحافظ الحكمي، 1/ 98، وفتح المجيد، لعبد الرحمن بن حسن، ص 17.

النوع الأول: توحيد الربوبية

النوع الأول: توحيد الربوبية، وهو: الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى هو الرب المتفرّد بالخلق، والملك، والرِّزْق، والتدبير، الذي ربّى جميع خلقه بالنعم، وربّى خواص خلقه - وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم المخلصون - بالعقائد الصحيحة، والأخلاق الجميلة، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، وهذه التربية النافعة للقلوب والأرواح المثمرة لسعادة الدنيا والآخرة. وتوحيد الربوبية باختصار: هو توحيد الله تعالى بأفعاله. النوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله هو المنفرد بالكمال المطلق من جميع الوجوه، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله من غير نفيٍ لشيءٍ منها، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف. ونفي ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النقائص والعيوب، وعن كل ما ينافي كماله. وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات قد وضَّحه الله في كتابه كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول سورة آل عمران، وسورة الإخلاص بكاملها، وغير ذلك (¬1). النوع الثالث: توحيد الإلهية، ويقال له: توحيد العبادة، وهو الاعتقاد ¬

_ (¬1) انظر: فتح المجيد، ص17، والقول السديد في مقاصد التوحيد لعبد الرحمن السعدي، ص14 - 17، ومعارج القبول، 1/ 99.

الجازم - مع العلم والعمل والاعتراف - بأن الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وإفراده وحده بالعبادة كلها، وإخلاص الدين كله لله، وهو يستلزم توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات ويتضمنهما؛ لأن الألوهية التي هي صفة تعمُّ أوصاف الكمال، وجميع أوصاف الربوبية والعظمة؛ فإنه المألوه المعبود لما له من أوصاف العظمة والجلال، ولما أسداه إلى خلقه من الفواضل والإفضال، فتوحُّدُهُ سبحانه بصفات الكمال، وتفرّدُه بالربوبية، يلزم منه أن لا يستحقّ العبادة أحد سواه. وتوحيد الألوهية باختصار: هو إفراد الله تعالى بعبادة العباد. وتوحيد الألوهية: هو مقصود دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم. وهذا النوع قد تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬1)، وأول سورة السجدة وآخرها، وأول سورة غافر ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وغالب سور القرآن. وكل سور القرآن قد تضمنت أنواع التوحيد، فالقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير أنواع التوحيد؛ لأن القرآن كله: إما خبر عن الله تعالى وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأقواله، فهذا هو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي: ((توحيد الربوبية والأسماء ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 64.

المطلب الرابع: ثمرات التوحيد وفوائده

والصفات)). وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما يُعبد من دونه، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي - ((توحيد الألوهية)) -. وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة الله، وذلك من حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد، وما فعل بهم في الدنيا من النصر والتأييد، وما يكرمهم به في الآخرة، وهو جزاء توحيده سبحانه. وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحلّ بهم في الآخرة من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه، وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم (¬1). المطلب الرابع: ثمرات التوحيد وفوائده التوحيد له فضائل عظيمة، وآثار حميدة، ونتائج جميلة، ومن ذلك ما يأتي: أولاً: خير الدنيا والآخرة من فضائل التوحيد وثمراته. ثانياً: التوحيد هو السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة، يدفع الله به العقوبات في الدارين، ويبسط به النعم والخيرات. ثالثاً: التوحيد الخالص يثمر الأمن التام في الدنيا والآخرة، قال الله ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 3/ 450، وفتح المجيد، ص17 - 18، والقول السديد، ص16، ومعارج القبول، 1/ 98.

رابعا: يحصل لصاحبه الهدى الكامل والتوفيق لكل أجر وغنيمة

- عز وجل -: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬1). رابعاً: يحصل لصاحبه الهدى الكامل، والتوفيق لكل أجر وغنيمة. خامساً: يغفر الله بالتوحيد الذنوب، ويكفّر به السيئات، ففي الحديث القدسي عن أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) (¬2). سادساً: يدخل الله به الجنة، فعن عبادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) (¬3). وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة)) (¬4). سابعاً: التوحيد يمنع دخول النار بالكلية إذا كمل في القلب، ففي حديث عتبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ... فإن الله حرم على النار من قال: لا ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 82. (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب فضل التوبة والاستغفار، 5/ 548، برقم 3540، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 176، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 127، 128. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} 4/ 168، برقم 3252، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/ 57، برقم 28. (¬4) مسلم، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، 1/ 94، برقم 93.

ثامنا: يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى حبة

إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) (¬1). ثامناً: يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى حبة من خردل من إيمان (¬2). تاسعاً: التوحيد هو السبب الأعظم في نيل رضا الله وثوابه، وأسعد الناس بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه)) (¬3). عاشراً: جميع الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها، وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمّت. الحادي عشر: يُسَهِّل على العبد فعل الخيرات، وترك المنكرات، ويسلِّيه عن المصائب، فالموحِّد المخلص لله في توحيده تخفُّ عليه الطاعات؛ لِمَا يرجو من ثواب ربه ورضوانه، ويهوِّن عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي؛ لِمَا يخشى من سخط الله وعقابه. الثاني عشر: التوحيد إذا كَمُل في القلب حبّب الله لصاحبه الإيمان، وزيّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، 1/ 126، برقم 425، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، 1/ 455 - 456، برقم 33. (¬2) انظر: صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، برقم 7410، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، 1/ 170، برقم 183، ورقم 193. (¬3) البخاري، كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، 1/ 38، برقم 99.

الثالث عشر: التوحيد يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام

الراشدين. الثالث عشر: التوحيد يخفف عن العبد المكاره، ويهوِّن عليه الآلام، فبحسب كمال التوحيد في قلب العبد يتلقَّى المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة، وتسليمٍ ورضًا بأقدار الله المؤلمة، وهو من أعظم أسباب انشراح الصدر. الرابع عشر: يحرِّر العبد من رِقّ المخلوقين والتعلُّقِ بهم، وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا هو العزُّ الحقيقي، والشرف العالي، ويكون مع ذلك متعبِّدًا لله لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إيَّاه، وبذلك يتمُّ فلاحه، ويتحقّق نجاحه. الخامس عشر: التوحيد إذا كَمُلَ في القلب، وتحقَّق تحققًا كاملاً بالإخلاص التامّ فإنه يصير القليل من عمل العبد كثيرًا، وتُضاعف أعماله وأقواله الطيبة بغير حصر، ولا حساب. السادس عشر: تكفَّل الله لأهل التوحيد بالفتح، والنصر في الدنيا، والعزّ والشرف، وحصول الهداية، والتيسير لليسرى، وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال. السابع عشر: الله - عز وجل - يدفع عن الموحِّدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة، ويمنُّ عليهم بالحياة الطيبة، والطمأنينة إليه، والأُنس بذكره. قال العلامة السعدي رحمه الله: ((وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة، والله أعلم)) (¬1). ¬

_ (¬1) القول السديد في مقاصد التوحيد، ص25.

المبحث الثاني: ظلمات الشرك

وقال ابن تيمية رحمه الله: ((وليس للقلوب سرور ولذة تامة إلا في محبة الله تعالى، والتقرّب إليه بما يحبّه، ولا تتمّ محبّة الله إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله)) (¬1). المبحث الثاني: ظلمات الشرك المطلب الأول: مفهوم الشرك الشِّرْكُ، والشِّرْكَةُ بمعنىً، وقد اشتركا، وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر، وأشرك بالله: كفر، فهو مشركٌ ومشركي، والاسم الشرك فيهما، ورغبنا في شرككم: مشاركتكم في النسب (¬2)، وأشرك بالله: جعل له شريكًا في ملكه، أو عبادته، فالشرك: هو أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، وهو أكبر الكبائر، وهو الماحق للأعمال، والمبطل لها، والحارم المانع من ثوابها، فكل من عدل بالله غيره: بالحب، أو التعظيم، أو اتبع خطواته، ومبادئه المخالفة لملة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فهو مشرك (¬3). والشرك هو: مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله تعالى، كما في قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين} (¬4). والشرك شركان: شرك أكبر يخرج من المِلَّة، وشرك أصغر لا يخرج ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى، 28/ 32. (¬2) انظر: القاموس المحيط، باب الكاف، فصل الشين، ص1240. (¬3) الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة، لعبد الرحمن الدوسري، ص41. (¬4) سورة الشعراء، الآيتان: 97 - 98.

المطلب الثاني: البراهين الواضحات في إبطال الشرك

من الملة (¬1). وذكر العلامة السعدي رحمه الله أن حدَّ الشرك الأكبر الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعًا أو فردًا من أفراد العبادة لغير الله، فكل: اعتقاد، أو قول، أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر، وهذا ضابط للشرك الأكبر لا يشذ عنه شيء. وأما حدّ الشرك الأصغر فهو: كل وسيلة وذريعة يتطرّق منها إلى الشرك الأكبر، من: الإرادات، والأقوال، والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة (¬2). المطلب الثاني: البراهين الواضحات في إبطال الشرك الأدلّة القاطعة الواضحة في إبطال الشرك، وذمّ أهله كثيرة، منها ما يأتي: أولاً: كل من دعا نبيًّا، أو وليًّا، أو مَلَكًا، أو جنيًّا، أو صرف له شيئًا من أنواع العبادة فقد اتخذه إلهًا من دون الله (¬3)، وهذا هو حقيقة الشّرك الأكبر الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (¬4). ثانياً: من البراهين القطعية التي ينبغي تبيينها وتوضيحها لمن اتَّخَذَ من دون الله آلهة أخرى، قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ¬

_ (¬1) انظر: قضية التكفير، للمؤلف، ص119. (¬2) انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد، لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص31، 32، 54. (¬3) انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص242. (¬4) سورة النساء، الآية: 48.

* لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬1). فقد أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه آلهة من الأرض، سواء كانت أحجارًا أو خشبًا، أو غير ذلك من الأوثان التي تعبد من دون الله! فهل هم يحيون الأموات ويبعثونهم؟ الجواب: كلا، لا يقدرون على شيء من ذلك، ولو كان في السَّموات والأرض آلهة تستحق العبادة غير الله لفسدتا وفسد ما فيهما من المخلوقات؛ لأن تعدد الآلهة يقتضي التمانع والتنازع والاختلاف، فيحدث بسببه الهلاك، فلو فُرِضَ وجود إلهين، وأراد أحدهما أن يخلق شيئًا والآخر لا يريد ذلك، أو أراد أن يُعطي والآخر أراد أن يمنع، أو أراد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه، فحينئذ يختل نظام العالم، وتفسد الحياة! وذلك: * لأنه يستحيل وجود مرادهما معًا، وهو من أبطل الباطل؛ فإنه لو وجد مرادهما جميعًا للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد حيًّا ميتًا، متحركًا ساكنًا. * وإذا لم يحصل مراد واحد منهما لزم عجز كل منهما، وذلك يناقض الربوبية. * وإن وُجِدَ مراد أحدهما ونفذ دون مراد الآخر، كان النافذ مراده هو الإله القادر، والآخر عاجز ضعيف مخذول. * واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور غير ممكن. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآيات: 21 - 23.

ثالثا: من المعلوم عند جميع العقلاء أن كل ما عبد من دون الله من الآلهة ضعيف من كل الوجوه

وحينئذ يتعيَّن أن القاهر الغالب على أمره هو الذي يوجد مراده وحده غير مُمانع ولا مُدافع، ولا مُنازع، ولا مُخالف، ولا شريك، وهو الله الخالق الإله الواحد، لا إله إلا هو، ولا ربَّ سواه؛ ولهذا ذكر سبحانه دليل التمانع في قوله - عز وجل -: {مَا اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1). وإتقان العالم العلوي والسفلي، وانتظامه منذ خلقه، واتساقه، وارتباط بعضه ببعض في غاية الدقة والكمال: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (¬2). وكل ذلك مُسخَّر، ومُدَبَّر بالحكمة لمصالح الخلق كلِّهم، يدل على أن مُدبِّره واحد، وربّه واحد، وإلهه واحد، لا معبود غيره، ولا خالق سواه (¬3). ثالثاً: من المعلوم عند جميع العقلاء أن كل ما عُبِدَ من دون الله من الآلهة ضعيف من كل الوجوه، وعاجز ومخذول، وهذه الآلهة لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئًا من ضر أو نفع، أو حياة أو موت، أو إعطاء أو منع، أو خفض أو رفع، أو عزّ أو ذلّ، وأنها لا تتصف بأي صفة من ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 91 - 92. (¬2) سورة الملك، الآية: 3. (¬3) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 9/ 352، 354، 337 - 382، 1/ 35 - 37، وتفسير البغوي، 3/ 241، 316،وابن كثير، 3/ 255، 176،وفتح القدير للشوكاني، 3/ 402، 496، وتفسير عبد الرحمن السعدي، 5/ 220، 374، وأيسر التفاسير لأبي بكر جابر الجزائري، 3/ 99، ومناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر بن عواض الألمعي، ص158 - 161.

الصفات التي يتصف بها الإله الحق، فكيف يعبد من هذه حاله؟ وكيف يُرجى أو يُخاف من هذه صفاته؟ وكيف يُسئَل من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا (¬1). وقد بيّن الله - عز وجل - ضعف وعجز كل ما عبد من دونه أكمل بيان، فقال سبحانه: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَالله هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2)، وقال - عز وجل -: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 83، 219، 277، 417، 3/ 47، 211، 310، وتفسير السعدي، 2/ 327، 420، 3/ 290، 451، 5/ 279، 457، 6/ 153، وأضواء البيان للشنقيطي، 2/ 482، 3/ 101، 322، 598، 5/ 44، 6/ 268. (¬2) سورة المائدة، الآية: 76. (¬3) سورة الأعراف، الآيات: 191 - 198.

رابعا: من المعلوم يقينا أن ما يعبده المشركون من دون الله

وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} (¬1). وهي مع هذه الصفات لا تملك كشف الضر عن عابديها ولا تحويله إلى غيرهم: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} (¬2). رابعاً: من المعلوم يقينًا أن ما يعبده المشركون من دون الله: الأنبياء، أو الصالحين، أو الملائكة، أو الجن الذين أسلموا، أنهم في شغلٍ شاغل عنهم باهتمامهم بالافتقار إلى الله بالعمل الصالح، والتنافس في القُرْبِ من ربهم يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فكيف يُعبَدُ من هذا حاله؟ (¬3) قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (¬4). خامساً: وقد أوضح الله تعالى، وبيّن سبحانه أن ما عُبِدَ من دونه قد توافرت فيهم جميع أسباب العجز وعدم إجابة الدعاء من كل وجه؛ فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السَّمَوات ولا في الأرض لا على وجه الاستقلال، ولا على وجه الاشتراك، وليس لله من هذه المعبودات من ظهير يساعده على ملكه وتدبيره، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (¬5)، قال - عز وجل -: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 3. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 56. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 48، وتفسير السعدي، 4/ 291. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 57. (¬5) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 37، وتفسير السعدي، 6/ 274.

سادسا: قال الله - عز وجل -: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله}

ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَه ُ} (¬1)، وقال - سبحانه وتعالى -: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (¬2). سادساً: قال الله - عز وجل -: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬3). سابعاً: قال - سبحانه وتعالى -: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} (¬4)، وهذا وصف لكل مخلوق، وأنه لا ينفع ولا يضرّ، وإنما النافع الضارّ هو الله، ومن دعا ما لا يضرّه ولا ينفعه فقد ظلم نفسه بالوقوع في الشرك الأكبر، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لو دعا غير الله لكان من الظالمين المشركين، فكيف بغيره (¬5)؟، فالنافع الضار هو المستحق للعبادة وحده {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة سبأ، الآيتان: 22 - 23. (¬2) سورة فاطر، الآيتان: 13 - 14. (¬3) سورة الزمر، الآية: 38. (¬4) سورة يونس، الآيتان: 106 - 107. (¬5) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص331. (¬6) سورة الأنعام، الآية: 17.

ثامنا: قال الله - عز وجل -: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله}

ثامناً: قال الله - عز وجل -: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُون* وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِين} (¬1)، فهل هناك أضلُّ من هؤلاء الذين يعبدون من لا يستجيب لهم مدة مقامهم في الدنيا، لا ينتفعون بهم مثقال ذرة، وهم لا يسمعون منهم دعاءً، ولا يجيبون لهم نداءً، وهذا حالهم في الدنيا، ويوم القيامة يكفرون بشركهم، ويكونون لهم أعداء يلعن بعضهم بعضًا، ويتبرأ بعضهم من بعض (¬2). تاسعاً: ضرب الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإيضاح والبيان في إبراز الحقائق المعقولة في صورة الأمر المحسوس، وهذا من أعظم ما يُردُّ به على الوثنيين في إبطال عقيدتهم وتسويتهم المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم؛ ولكثرة هذا النوع في القرآن الكريم سأقتصر على ثلاثة أمثلة توضح المقصود على النحو الآتي: 1 - قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬3). حقٌّ على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره؛ فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، فالآلهة التي تُعبَد من دون الله لن تقدر على خلق ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، الآيتان: 5 - 6. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص724. (¬3) سورة الحج، الآيتان: 73 - 74.

2 - ومن أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك

الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئًا مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو أضعف المخلوقات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة الباطلة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟! وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله تعالى في بطلان الشرك وتجهيل أهله (¬1). 2 - ومن أحسن الأمثال وأدلّها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده، قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} (¬2). فهذا مثل ضربه الله لمن عبد معه غيره يقصد به التعزُّز والتقوي والنفع، فبيّن سبحانه أن هؤلاء ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء من دون الله أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت التي هي من أضعف الحيوانات، اتخذت بيتًا وهو من ¬

_ (¬1) انظر: أمثال القرآن، لابن القيم، ص47، والتفسير القيم، لابن القيم، ص368، وتفسير البغوي، 3/ 298، وتفسير ابن كثير، 3/ 236، وفتح القدير للشوكاني، 3/ 470، وتفسير السعدي، 5/ 326. (¬2) سورة العنكبوت، الآيات: 41 - 43.

3 - ومن أبلغ الأمثال التي تبين أن المشرك قد تشتت شمله

أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفًا، وكذلك من اتخذ من دون الله أولياء، فإنهم ضعفاء، وازدادوا باتخاذهم ضعفًا إلى ضعفهم (¬1). 3 - ومن أبلغ الأمثال التي تُبيّن أن المشرك قد تشتّت شمله، واحتار في أمره، ما بيّنه تعالى بقوله: {ضَرَبَ الله مَثَلًا رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (¬2). فهذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحِّد، فالمشرك لمّا كان يعبد آلهة شتى شُبِّهَ بعبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون، سيئة أخلاقهم، يتنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، فهو في عذاب. والموحِّد لمّا كان يعبد الله وحده لا شريك له، فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه واختلافهم، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟ والجواب: كلا، لا يستويان أبدًا (¬3). عاشراً: الذي يستحق العبادة وحده من يملك القدرة على كل شيء، والإحاطة بكل شيءٍ، وكمال السلطان والغلبة والقهر والهيمنة على كل ¬

_ (¬1) انظر: تفسير البغوي، 3/ 468، وأمثال القرآن لابن القيم، ص21، وفتح القدير للشوكاني، 4/ 204. (¬2) سورة الزمر، الآية: 29. (¬3) انظر: تفسير البغوي 4/ 78، وابن كثير 4/ 52، والتفسير القيم، لابن القيم، ص423، وفتح القدير للشوكاني، 4/ 462، وتفسير السعدي، 6/ 468، وتفسير الجزائري، 4/ 43.

1 - المتفرد بالألوهية

شيءٍ، والعلم بكل شيء، ويملك الدنيا والآخرة، والنفع والضر، والعطاء والمنع بيده وحده، فمن كان هذا شأنه فإنه حقيق بأن يُذكَر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُطاع فلا يُعصى، ولا يُشرك معه غيره (¬1). وصفات الكمال المطلق لله تعالى، لا يحيط بها أحد، ولكن منها على سبيل المثال، ما يأتي: 1 - المتفرِّد بالألوهية: لا يستحق الألوهية إلا الله وحده، الحيّ الذي لا يموت أبدًا، القيّوم الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع المخلوقات، وهي مفتقرة إليه في كل شيء، ومن كمال حياته وقيّوميّته أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وجميع ما في السَّموات والأرض عبيده، وتحت قهره وسلطانه: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} (¬2). ومن تمام ملكه وعظمته وكبريائه أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له، لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم، ولا يأذن إلا لمن ارتضى، وعلمه تعالى محيط بجميع الكائنات، ولا يطّلع أحد على شيء من علمه إلا ما أطلعهم عليه، ومن عظمته أن كُرْسِيَّه وسع السَّموات والأرض، وأنه قد حفظهما وما فيهما من مخلوقات، ولا ¬

_ (¬1) انظر: تفسير البغوي، 1/ 237، 3/ 71، 2/ 88، 372، وتفسير ابن كثير، 1/ 309، 2/ 572، 3/ 42، 2/ 127، 435، 570، 1/ 344، 2/ 138، وتفسير السعدي، 1/ 313، 7/ 686، 2/ 381، 3/ 397، 4/ 204، 6/ 364، 1/ 356، 2/ 372، وأضواء البيان، 2/ 187، 3/ 271. (¬2) سورة مريم، الآيتان: 93 - 94.

2 - وهو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه

يثقله حفظهما، بل ذلك سهل عليه، يسير لديه، وهو القاهر لكل شيء، العلي بذاته على جميع مخلوقاته، والعلّي بعظمته وصفاته، العلي الذي قهر المخلوقات، ودانت له الموجودات، العظيم الجامع لصفات العظمة والكبرياء، وقد دلّ على هذه الصفات العظيمة قوله تعالى: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬1). 2 - وهو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه، فانقادت له المخلوقات بأسرها: جماداتها، وحيواناتها، وإنسها، وجنّها، وملائكتها {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (¬2). 3 - وهو الإله الذي بيده النفع والضرّ، فلو اجتمع الخلق على أن ينفعوا مخلوقًا لم ينفعوه إلا بما كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضرّوه بشيء لم يضرّوه إذا لم يرد الله ذلك: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3). 4 - وهو القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 255. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 83. (¬3) سورة يونس، الآية: 107.

5 - إحاطة علمه بكل شيء

شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1). 5 - إحاطة علمه بكل شيء، شامل للغيوب كلها: يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون (¬2): {إِنَّ الله لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} (¬3)، {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬4)، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬5)، {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬6). ولا شك أن من عرف هذه الصفات وغيرها من صفات الكمال والعظمة، فإنه سيعبد الله وحده؛ لأنه الإله المستحق للعبادة. المطلب الثالث: الشفاعة أولاً: مفهوم الشفاعة لغةً: يُقال شفع الشيء: ضمَّ مثله إليه، فجعل الوتر شفعًا (¬7). ¬

_ (¬1) سورة يس، الآية: 82. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير، 1/ 344، 2/ 138، والسعدي، 2/ 356، 372. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 5. (¬4) سورة يونس: الآية: 61. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 59. (¬6) سورة الأنفال، الآية: 75. (¬7) انظر: القاموس المحيط، باب العين، فصل الشين، ص947، والنهاية في غريب الحديث، 2/ 485، والمعجم الوسيط، 1/ 487.

ثانيا: يرد على من طلب الشفاعة من غير الله تعالى بالأقوال الحكيمة الآتية

واصطلاحًا: التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرّةٍ (¬1). من الحكمة القولية في دعوة من يتعلّق بغير الله تعالى، ويطلب الشفاعة منه أن يُبيَّن له أن الشفاعة ملكٌ لله وحده: {قُل لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬2). ثانيًا: يُرَدُّ على من طلب الشفاعة من غير الله تعالى بالأقوال الحكيمة الآتية: 1 - ليس المخلوق كالخالق، فكل من قال: إن الأنبياء والصالحين والملائكة أو غيرهم من المخلوقين لهم عند الله جاهٌ عظيمٌ، ومقاماتٌ عاليةٌ، فهم يشفعون لنا عنده، كما يُتقرّب إلى الوجهاء والوزراء عند الملوك والسّلاطين، ليجعلوهم وسائط لقضاء حاجاتهم، فهذا القول من أبطل الباطل؛ لأنه شبَّه اللهَ العظيم ملك الملوك بالملوك الفقراء المحتاجين للوزراء والوجهاء في تكميل ملكهم ونفوذ قوتهم؛ فإن الوسائط بين الملوك وبين الناس على أحد وجوه ثلاثة: الوجه الأول: إما لإخبارهم عن أحوال الناس بما لا يعرفونه. الوجه الثاني: أو يكون الملِكُ عاجزًا عن تدبير رعيته، فلا بد له من أعوان؛ لذُلِّهِ وعجزه. الوجه الثالث: أو يكون الملك لا يُريدُ نفع رعيته والإحسان إليهم، فإذا خاطبه من ينصحه ويعظه تحركت إرادته وهمّته في قضاء حوائج رعيته. ¬

_ (¬1) انظر: شرح لمعة الاعتقاد للشيخ محمد صالح العثيمين، ص80. (¬2) سورة الزمر، الآية: 44.

والله - عز وجل - ليس كخلقه الضعفاء، فهو تعالى لا تخفى عليه خافية، وغني عن كل ما سواه، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، ومعلوم أن الشافع عند ملوك الدنيا قد يكون له ملك مستقل، وقد يكون شريكًا لهم، وقد يكون معاونًا لهم، فالملوك يقبلون شفاعته لأحد ثلاثة أمور: أ - تارة لحاجتهم إليه. ب - وتارة لخوفهم منه. جـ - وتارة لجزاء إحسانه إليهم. وشفاعة العباد بعضهم عند بعض من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة، والله - عز وجل - لا يرجو أحدًا ولا يخافه، ولا يحتاج إليه (¬1)؛ ولهذا قطع الله جميع أنواع التعلّقات بغيره، وبيّن بطلانها، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬2). فقد سدّت هذه الآية على المشركين جميع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك أبلغ سدٍّ وأحكمه؛ فإن العابد إنما يتعلّق بالمعبود لِمَا يرجو من نفعه، وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود مالكًا للأسباب التي ينتفع بها عابده، أو يكون شريكًا لمالكها، أو ظهيرًا، أو وزيرًا، أو معاونًا له، أو ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 1/ 126 - 129. (¬2) سورة سبأ، الآيتان: 22 - 23.

2 ـ الشفاعة: شفاعتان

وجيهًا ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت موادِّه (¬1). 2 - الشفاعة: شفاعتان: الشفاعة الأولى: الشفاعة المثبتة: وهي التي تطلب من الله ولها شرطان: الشرط الأول: إذن الله للشّافع أن يشفع، لقوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (¬2). الشرط الثاني: رضا الله عن الشّافع والمشفوع له، لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} (¬3)، {يَومَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً} (¬4). الشفاعة الثانية: الشفاعة المنفية: وهي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والشفاعة بغير إذنه ورضاه، والشفاعة للكفار: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (¬5)،ويستثنى شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في تخفيف عذاب أبي طالب (¬6). 3 - الاحتجاج على من طلب الشفاعة من غير الله بالنص والإجماع، ¬

_ (¬1) انظر: التفسير القيم، لابن القيم، ص408. (¬2) سورة البقرة، الآية: 255. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 28. (¬4) سورة طه، الآية: 109. (¬5) سورة المدثر، الآية: 48. (¬6) انظر: البخاري مع الفتح، مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، 7/ 193، برقم 3883، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذابًا، 1/ 195، برقم 211.

المطلب الرابع: مسبغ النعم المستحق للعبادة

فلم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الأنبياء من قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة، أو الأنبياء، أو الصالحين، ولا يطلبوا منهم الشفاعة، ولم يفعل ذلك أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولم يستَحِبّ ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا مجتهد يعتمد على قوله في الدين، ولا من يعتبر قوله في مسائل الإجماع، فالحمد لله رب العالمين (¬1). المطلب الرابع: مسبغ النعم المستحق للعبادة من الحكمة في دعوة المشركين إلى الله تعالى لفت أنظارهم وقلوبهم إلى نعم الله العظيمة: الظاهرة والباطنة، والدينية والدنيوية. فقد أسبغ على عباده جميع النعم: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} (¬2)، وسخر هذا الكون وما فيه من مخلوقات لهذا الإنسان. وقد بيّن سبحانه هذه النعم، وامتنَّ بها على عباده، وأنه المستحق للعبادة وحده، ومما امتنّ به عليهم ما يأتي: أولاً: على وجه الإجمال: قال الله - عز وجل -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (¬3)، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (¬4)، {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية،1/ 112،158، 14/ 399 - 414، 1/ 108 - 165، 14/ 380، 409، 1/ 160 - 166، 195، 228، 229، 241، ودرء تعارض العقل والنقل، له، 5/ 147، وأضواء البيان، 1/ 137. (¬2) سورة النحل، الآية: 53. (¬3) سورة البقرة، الآية: 29. (¬4) سورة لقمان، الآية: 20.

ثانيا: على وجه التفصيل

السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). فقد شمل هذا الامتنان جميع النعم: الظاهرة والباطنة، الحسّيّة والمعنوية، فجميع ما في السموات والأرض قد سُخِّر لهذا الإنسان، وهو شامل لأجرام السموات والأرض، وما أودع فيهما من: الشمس والقمر، والكواكب، والثوابت، والسيارات، والجبال، والبحار، والأنهار، وأنواع الحيوانات، وأصناف الأشجار والثمار، وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو من مصالح بني آدم، ومصالح ما هو من ضروراتهم للانتفاع والاستمتاع والاعتبار. وكل ذلك دالّ على أن الله وحده هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذلّ والمحبة إلا له، وهذه أدلّة عقلية لا تقبل ريبًا ولا شكًا على أن الله هو الحق، وأن ما يُدعَى من دونه هو الباطل (¬2): {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬3). ثانيًا: على وجه التفصيل: ومن ذلك قوله تعالى: {الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ ¬

_ (¬1) الجاثية، الآية: 13. (¬2) انظر: تفسير البغوي، 1/ 59، 3/ 72، وابن كثير، 3/ 451، 4/ 149، والشوكاني، 1/ 60، 4/ 420، والسعدي، 1/ 69، 6/ 161، 7/ 21، وأضواء البيان للشنقيطي، 3/ 225 - 253. (¬3) سورة الحج، الآية: 62، وانظر: سورة لقمان، الآية: 30.

المطلب الخامس: أسباب ووسائل الشرك

كَفَّارٌ} (¬1). وقال - عز وجل - بعد أن ذكر نعمًا كثيرة: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬2). أفمن يخلق هذه النعم وهذه المخلوقات العجيبة كمن لا يخلق شيئًا منها؟ ومن المعلوم قطعًا أنه لا يستطيع فرد من أفراد العباد أن يُحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه، أو حاسّة من حواسّه، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه في بدنه، وكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوّعها واختلاف أجناسها؟ (¬3). ولا يسع العاقل بعد ذلك إلا أن يعبد الله الذي أسدى لعباده هذه النعم ولا يشرك به شيئًا؛ لأنه المستحق للعبادة وحده سبحانه. المطلب الخامس: أسباب ووسائل الشرك حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كل ما يوصل إلى الشرك ويسبب وقوعه، وبيّن ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآيات: 32 - 34. (¬2) سورة النحل، الآيات: 14 - 18، وانظر: الآيات: 3 - 12 من السورة نفسها. (¬3) انظر: فتح القدير، 3/ 154، 3/ 110، وأضواء البيان، 3/ 253.

أولا: الغلو في الصالحين هو سبب الشرك بالله تعالى

ذلك بيانًا واضحًا، ومن ذلك على سبيل الإيجاز ما يأتي: أولاً: الغلو في الصالحين هو سبب الشرك بالله تعالى، فقد كان الناس منذ أُهبِطَ آدم - صلى الله عليه وسلم - إلى الأرض على الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام)) (¬1). وبعد ذلك تعلّق الناس بالصالحين، ودبّ الشرك في الأرض، فبعث الله نوحًا - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى عبادة الله وحده، وينهى عن عبادة ما سواه (¬2)، وردّ عليه قومه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (¬3). وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وَسَمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدت (¬4). وهذا سببه الغلوّ في الصالحين؛ فإن الشيطان يدعو إلى الغلوّ في الصالحين، وإلى عبادة القبور. ثم يُلقي في قلوب الناس أن البناء والعكوف عليها من محبة أهلها من ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التاريخ، 2/ 546، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 1/ 101، وعزاه إلى البخاري، وانظر: فتح الباري، 6/ 372. (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 1/ 106. (¬3) سورة نوح، الآية: 23. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة نوح، 8/ 667، برقم 4920.

ثانيا: الإفراط في المدح والتجاوز فيه

الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب. ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها، والإقسام على الله بها، وشأن الله أعظم من أن يُسأل بأحد من خلقه. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنًا تُعلَّق عليه الستور، ويُطاف به، ويُستلم ويُقبّل، ويُذبح عنده. ثم ينقلهم من ذلك إلى مرتبة رابعة: وهي دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدًا. ثم ينقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تَنَقَّصَ أهل هذه الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وعند ذلك يغضبون (¬1). ولهذا حذّر الله عباده من الغلوّ في الدين، والإفراط بالتعظيم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ورفْع المخلوق عن منزلته التي أنزله الله تعالى، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} (¬2). ثانياً: الإفراط في المدح والتجاوز فيه، والغلو في الدين: حذّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإطراء في المدح فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري، 29/ 62، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص246. (¬2) سورة النساء، الآية: 171.

ثالثا: بناء المساجد على القبور وتصوير الصور فيها

مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله)) (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والغلوّ في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين)) (¬2). ثالثاً: بناء المساجد على القبور، وتصوير الصُّوَر فيها: حذَّر - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ المساجد على القبور، وعن اتخاذها مساجد؛ لأن عبادة الله عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم؛ ولهذا لَمَّا ذكرت أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال: ((إن أولئكِ إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئكِ شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (¬3). وَمِنْ حرصِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على أمته أنه عندما نزل به الموت قال: ((لَعْنَةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).قالت عائشة رضي الله عنها: يُحذِّر ما صنعوا (¬4). وقال قبل أن يموت بخمس: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون ¬

_ (¬1) البخاري مع الفتح بلفظه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ .. }، 6/ 478، 12/ 144، وانظر: شرحه في الفتح، 12/ 149. (¬2) النسائي، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، 5/ 260، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، 2/ 1008، وأحمد، 1/ 347. (¬3) البخاري مع الفتح، كتاب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، 1/ 523، 3/ 208، 7/ 187، وأخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 375. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب: حدثنا أبو اليمان، 1/ 532، 3/ 200، 6/ 494، 7/ 186، 8/ 140، 10/ 277، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، 1/ 337.

رابعا: اتخاذ القبور مساجد

قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) (¬1). رابعاً: اتخاذ القبور مساجد: حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن اتخاذ قبره وثنًا يُعبد من دون الله، ومن باب أولى غيره من الخلق، فقال: ((اللهمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬2). خامساً: إسراج القبور وزيارة النساء لها: حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إسراج القبور؛ لأن البناء عليها، وإسراجها، وتجصيصها، والكتابة عليها، واتخاذ المساجد عليها من وسائل الشرك، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) (¬3). سادساً: الجلوس على القبور والصلاة إليها: لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بابًا من أبواب الشرك التي تُوصِّل إليه إلاّ سدَّه (¬4)، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 377. (¬2) الموطأ للإمام مالك، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة، 1/ 172، وهو عنده مرسل، ولفظ أحمد، 2/ 246: ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، وأبو نعيم في الحلية، 7/ 317، وانظر: فتح المجيد، ص150. (¬3) النسائي، كتاب الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور، 4/ 94، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء القبور، 3/ 218، والترمذي، كتاب الصلاة، باب كراهية أن يتخذ على القبر مسجدًا، 2/ 136،وابن ماجه في الجنائز، باب النهي عن زيارة النساء للقبور،1/ 502، وأحمد، 1/ 229، 287، 324، 2/ 337، 3/ 442، 443، والحاكم، 1/ 374، وانظر ما نقله صاحب فتح المجيد في تصحيح الحديث عن ابن تيمية، ص276. (¬4) انظر: فتح المجيد، ص281.

سابعا: اتخاذ القبور عيدا وهجر الصلاة في البيوت

تجلسوا على القبور، ولا تصلّوا إليها)) (¬1). سابعاً: اتخاذ القبور عيدًا، وهجر الصلاة في البيوت، بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن القبور ليست مواضع للصلاة، وأن من صلى عليه وسلم فستبلغه صلاته، سواء كان بعيدًا عن قبره أو قريبًا، فلا حاجة لاتخاذ قبره عيدًا: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬2). وقال النبي الرحيم - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله ملائكة سياحين يبلّغوني من أمتي السلام)) (¬3). فإذا كان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدًا، فغيره أولى بالنهي كائنًا من كان (¬4). ثامناً: الصور وبناء القباب على القبور: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطهِّر الأرض من وسائل الشرك، فيبعث بعض أصحابه إلى هدم القباب المشرفة على القبور، وطمس الصور، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ((ألا تدع تمثالاً إلاّ ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، 2/ 668، برقم 972. (¬2) أبو داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، 2/ 218 بإسناد حسن، وأحمد، 2/ 357، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 1/ 383. (¬3) النسائي في السهو، باب السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، 3/ 43، وأحمد، 1/ 452، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 21، ص24، وسنده صحيح. (¬4) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم، 6/ 165 - 174.

تاسعا: شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة

طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلاّ سويته)) (¬1). تاسعاً: شدّ الرّحال إلى غير المساجد الثلاثة: وكما سدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل باب يوصّل إلى الشرك فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشدّوا الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)) (¬2). فدخل في هذا النهي شدّ الرحال لزيارة القبور والمشاهد، وهو الذي فهمه الصحابة - رضي الله عنهم - من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا عندما ذهب أبو هريرة - رضي الله عنه - إلى الطور، فلقيه بصرة بن أبي بصرة الغفاري: فقال: من أين جئت؟ قال: من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تُعمل المطيّ إلاّ إلى ثلاثة مساجد ... )) (¬3). ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل يُنهى عن ذلك)) (¬4). عاشراً: الزيارة البدعية للقبور من وسائل الشرك؛ لأن زيارة القبور ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر، 2/ 666، برقم 969. (¬2) البخاري مع الفتح، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، 3/ 63، ومسلم بلفظه، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، 2/ 976، برقم 827. (¬3) النسائي، كتاب الجمعة، باب الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، 3/ 114، ومالك في الموطأ، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، 1/ 109، وأحمد في المسند، 6/ 7، 397، وانظر: فتح المجيد، ص289، وصحيح النسائي، 1/ 309. (¬4) انظر: فتاوى ابن تيمية، 1/ 234.

النوع الأول: زيارة شرعية

نوعان: النوع الأول: زيارة شرعية يُقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات صلاة الجنازة؛ وَلِتذكِّر الموت - بشرط عدم شدِّ الرِّحال -؛ ولاتّباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. النوع الثاني: زيارة شركية وبدعية (¬1)، وهذا النوع ثلاثة أنواع: 1 - من يسأل الميت حاجته، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام. 2 - من يسأل الله تعالى بالميت، كمن يقول: أتوسل إليك بنبيك، أو بحقّ الشيخ فلان، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام، ولا يصل إلى الشرك الأكبر، فهو لا يُخرج عن الإسلام كما يُخرِج الأول. 3 - من يظنّ أن الدعاء عند القبور مُستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، وهذا من المنكرات بالإجماع (¬2). الحادي عشر: الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها من وسائل الشرك؛ لِمَا في ذلك من التشبّه بالذين يسجدون لها في هذين الوقتين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)) (¬3). والخلاصة: أن وسائل الشرك التي تُوصل إليه: هي كل وسيلة وذريعة تكون طريقًا إلى الشرك الأكبر، ومن الوسائل التي لم تُذكر هنا: ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 1/ 233، والبداية والنهاية، 14/ 123. (¬2) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية، 6/ 165 - 174. (¬3) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها،1/ 568،برقم 828.

المطلب السادس: أنواع الشرك وأقسامه

تصوير ذوات الأرواح، والوفاء بالنذر في مكان يُعبد فيه صنم، أو يُقام فيه عيد من أعياد الجاهلية، وغير ذلك من الوسائل (¬1). المطلب السادس: أنواع الشرك وأقسامه أولاً: الشرك أنواع، منها ما يأتي: النوع الأول: شرك أكبر يُخرج من الملّة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (¬2)، وهو أربعة أقسام: القسم الأول: شرك الدعوة: لقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (¬3). القسم الثاني: شرك النية والإرادة والقصد: لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬4). القسم الثالث: شرك الطاعة: وهي طاعة الأحبار والرهبان وغيرهم في معصية الله تعالى، قال سبحانه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن ¬

_ (¬1) انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص54 - 70، 113 - 152. (¬2) سورة النساء، الآية: 116. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 65، وانظر: الجواب الكافي لابن القيم، ص230 - 244، ومدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 339 - 346. (¬4) سورة هود، الآيتان: 15 - 16، وانظر: سورة الإسراء، الآية: 8، وسورة الشورى، الآية: 20.

القسم الرابع: شرك المحبة

دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1). القسم الرابع: شرك المحبة: لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} (¬2). والخلاصة: أن الشرك الأكبر هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله - عز وجل -: كأن يدعو غير الله، أو يذبح لغير الله، أو ينذر لغير الله، أو يتقرّب لأصحاب القبور، أو الجن والشياطين بشيء من أنواع العبادة، أو يخاف الموتى أن يضرّوه، أو يرجو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصرف إلا لله - عز وجل - (¬3). النوع الثاني: شرك أصغر لا يُخرج من الملة، وهو: كل وسيلة وذريعة توصل إلى الشرك الأكبر: من الإرادات، والأقوال، والأفعال، التي لم تبلغ رتبة العبادة. وهو أيضاً: كل ما ورد في الشرع تسميته شركاً، ولم يصل إلى حدّ الشرك الأكبر. ومنه يسير الرياء، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 31. (¬2) سورة البقرة، الآية: 165. (¬3) انظر: كتاب التوحيد للعلامة الفوزان، ص11. (¬4) سورة الكهف، الآية: 110.

ومنه الحلف بغير الله؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) (¬1). ومنه قول الرجل: لولا الله وأنت، أو ما شاء الله وشئت. ومن أنواع الشرك: شرك خفي: ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاةٍ سوداء في ظلمة الليل)) (¬2)، وكفارته هي أن يقول العبد: ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم)) (¬3)، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لله أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬4)، قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاةٍ سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتِك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان (¬5). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) (¬6)، قال الترمذي: فُسِّرَ عند بعض أهل العلم أن قوله: فقد كفر أو أشرك على ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وحسنه عن ابن عمر رضي الله عنهما، في كتاب النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، 4/ 110، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 99. (¬2) أخرجه الحكيم الترمذي، انظر: صحيح الجامع، 3/ 233،وتخريج الطحاوية للأرنؤوط، ص83. (¬3) أخرجه الحكيم الترمذي، وانظر: صحيح الجامع، 3/ 233، ومجموعة التوحيد لمحمد بن عبدالوهاب، وابن تيمية، ص6. (¬4) سورة البقرة، الآية: 22. (¬5) ذكره ابن كثير في تفسيره، 1/ 56، وعزاه إلى ابن أبي حاتم. (¬6) رواه الترمذي عن ابن عمر،4/ 110، وتقدم تخريجه.

الشرك الأصغر قسمان:

التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سمع عمر يقول: وأبي وأبي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)) (¬1). وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله)) (¬2). * ولعل الشرك الخفي يدخل في الشرك الأصغر، فيكون الشرك شركين: شرك أكبر، وشرك أصغر، وهذا الذي أشار إليه ابن القيم رحمه الله (¬3). والخلاصة: أن الشرك الأصغر قسمان: القسم الأول: شرك ظاهر، وهونوعان: ألفاظ، وأفعال: النوع الأول: الألفاظ: كالحلف بغير الله، وقول: ما شاء الله وشئت، أو لولا الله وأنت، أو هذا من الله ومنك، أو هذا من بركات الله وبركاتك، ونحو ذلك. والصواب أن يقول: ما شاء الله وحده، أو ما شاء الله ثم شئت، ولولا الله وحده، أو لولا الله ثم أنت، وهذا من الله وحده، أو هذا من الله ثم منك. النوع الثاني: الأفعال: مثل: لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه، وتعليق التمائم خوفًا من العين أو الجنّ، فمن فعل ذلك يعتقد أن هذه ¬

_ (¬1) رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما، في كتاب النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، 4/ 110، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 92. (¬2) رواه الترمذي عن أبي هريرة في الكتاب والباب المشار إليهما آنفًا، 4/ 110، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 92. (¬3) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص233.

النوع الثاني: إرادة الإنسان بعمله الدنيا

الأشياء ترفع البلاء بعد نزوله، أو تدفعه قبل نزوله، فقد أشرك شركًا أكبر، وهو شرك في الربوبية؛ حيث اعتقد شريكًا مع الله في الخلق والتدبير، وشرك في العبودية حيث تألَّه لذلك، وعلّق به قلبه طمعًا ورجاءً لنفعه، وإن اعتقد أن الله - عز وجل - الدافع للبلاء، والرافع له وحده، ولكن اعتقدها سببًا يستدفع بها البلاء، فقد جعل ما ليس سببًا شرعيًا ولا قدريًا سببًا، وهذا محرّم وكذب على الشرع وعلى القدر: أما الشرع؛ فإنه نهى عن ذلك أشد النهي، وما نهى عنه فليس من الأسباب النافعة. وأما القدر: فليس هذا من الأسباب المعهودة ولا غير المعهودة التي يحصل بها المقصود، ولا من الأدوية المباحة النافعة، وهو من جملة وسائل الشرك؛ فإنه لابد أن يتعلق قلب متعلقها بها، وذلك نوع شرك ووسيلة إليه. القسم الثاني من الشرك الأصغر: شرك خفي وهو الشرك في الإردات، والنيات، والمقاصد، وهو نوعان: النوع الأول: الرياء، والسمعة، والرياء: إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها، فيحمدوه عليها، والفرق بين الرياء والسمعة: أن الرياء لِمَا يُرى من العمل: كالصلاة، والصدقة، والحج، والجهاد، والسمعة لِمَا يُسمع: كقراءة القرآن، والوعظ، والذكر، ويدخل في ذلك تحدّث الإنسان عن أعماله، وإخباره بها. النوع الثاني: إرادة الإنسان بعمله الدنيا: وهو إرادته بالعمل الذي يُبتغى به وجه الله عَرَضًا من مطامع الدنيا، وهو شرك في النيات

ثانيا: الفروق بين الشرك الأكبر والأصغر

والمقاصد، وينافي كمال التوحيد، ويحبط العمل الذي قارنه (¬1). نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. ثانيًا: الفروق بين الشرك الأكبر والأصغر: 1 - الشرك الأكبر يخرج من الإسلام، والأصغر لا يُخرج من الإسلام. 2 - الشرك الأكبر يُخلّد صاحبه في النار، والأصغر لا يُخلّد صاحبه في النار إن دخلها. 3 - الشرك الأكبر يُحبط جميع الأعمال، والشرك الأصغر لا يحبط جميع الأعمال وإنما يُحبط الرياء والعمل للدنيا العمل الذي خالطه. 4 - الشرك الأكبر يُبيح الدم والمال، والأصغر ليس كذلك (¬2). 5 - الشرك الأكبر يوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز للمؤمنين موالاته، ولو كان أقرب قريب، وأما الشرك الأصغر فإنه لا يمنع الموالاة مطلقًا، بل صاحبه يُحبّ ويُوالَى بقدر ما معه من التوحيد، ويُبغض ويُعادى بقدر ما فيه من الشرك الأصغر (¬3). المطلب السابع: أضرار الشرك وآثاره الشرك له آثار خطيرة، ومفاسد جسيمة، وأضرار مهلكة، منها على سبيل الاختصار والإجمال، ما يأتي: ¬

_ (¬1) انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد، للسعدي، ص43، والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص240، وكتاب التوحيد للعلامة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، ص11 - 12، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد له، ص134 - 143. (¬2) انظر: كتاب التوحيد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص12. (¬3) انظر: المرجع السابق، ص15.

أولا: شر الدنيا والآخرة من أضرار الشرك وآثاره

أولاً: شرّ الدنيا والآخرة من أضرار الشرك وآثاره. ثانياً: الشرك هو السبب الأعظم لحصول الكربات في الدنيا والآخرة. ثالثاً: الشرك يسبب الخوف، وينزع الأمن في الدنيا والآخرة. رابعاً: يحصل لصاحب الشرك الضلال في الدنيا والآخرة، قال الله - عز وجل -: {وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (¬1). خامساً: الشرك الأكبر لا يغفره الله إذا مات صاحبه قبل التوبة، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (¬2). سادساً: الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، قال الله - عز وجل -: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬3)، وقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬4). سابعاً: الشرك الأكبر يوجب الله لصاحبه النار ويحرم عليه الجنة، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار)) (¬5). وقد قال الله - عز وجل -: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 116. (¬2) سورة النساء، الآية: 48. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 88. (¬4) سورة الزمر، الآية: 65. (¬5) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات مشركًا دخل النار، 1/ 94، برقم 93.

ثامنا: الشرك الأكبر يخلد صاحبه في النار

النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (¬1). ثامناً: الشرك الأكبر يخلد صاحبه في النار، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (¬2). تاسعاً: الشرك أعظم الظلم والافتراء، قال الله - سبحانه وتعالى - يحكي قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬3)، وقال سبحانه: {وَمَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (¬4). عاشراً: الله تعالى بريء من المشركين ورسولُهُ - صلى الله عليه وسلم -، قال - عز وجل -: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ الله بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (¬5). الحادي عشر: الشرك هو السبب الأعظم في نيل غضب الله وعقابه، والبعد عن رحمته نعوذ بالله من كل ما يغضبه. الثاني عشر: الشرك يطفئ نور الفطرة؛ لأن الله - عز وجل - فطر الناس على توحيده وطاعته، قال سبحانه: {فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (¬6). قال النبي ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 72. (¬2) سورة البينة، الآية: 6. (¬3) سورة لقمان، الآية: 13. (¬4) سورة النساء، الآية: 48. (¬5) سورة التوبة، الآية: 3. (¬6) سورة الروم، الآية: 30.

الثالث عشر: يقضي على الأخلاق الفاضلة

- صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مولود إلا يولد على الفطر، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)) (¬1)، وفي الحديث القدسي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يرويه عن ربه تعالى: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا)) (¬2). الثالث عشر: يقضي على الأخلاق الفاضلة؛ لأن أخلاق النفس الفاضلة من الفطرة، وإذا كان الشرك يقضي على الفطرة فمن باب أولى أن يقضي على ما انبنى على فطرة الله من الأخلاق الطيّبة الحسنة. الرابع عشر: يقضي على عزّة النفس؛ لأن المشرك يذلّ لجميع طواغيت الأرض كلّها؛ لأنه يعتقد أنه لا معتصم له إلا هم، فيذلّ ويخضع لمن لا يسمع ولا يرى، ولا يعقل، فيعبد غير الله، ويذلّ له، وهذا غاية الإهانة والتعاسة، نسأل الله العافية. الخامس عشر: الشرك الأكبر يبيح الدم والمال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، 2/ 119، برقم 1358، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، 4/ 2047، برقم 2658. (¬2) مسلم، كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها أهل الجنة وأهل النار، 1/ 2197، برقم 2865.

السادس عشر: الشرك الأكبر يوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين

وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)) (¬1). السادس عشر: الشرك الأكبر يوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز لهم موالاته ولو كان أقرب قريب. السابع عشر: الشرك الأصغر يُنقص الإيمان، وهو من وسائل الشرك الأكبر. الثامن عشر: الشرك الخفي، وهو شرك الرياء، والعمل لأجل الدنيا، يُحبط العمل الذي قارنه، وهو أخوف من المسيح الدجال؛ لعظم خفائه، وخطره على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (¬2). فاحذر يا عبد الله الشرك كلَّه: كبيره، وصغيره، نعوذ بالله منه، ونسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}، 1/ 14، برقم 25، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، 1/ 53، برقم 20. (¬2) سورة الماعون، الآيات: 4 - 7.

الرسالة الثامنة: نور الإخلاص وظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة

الرسالة الثامنة: نور الإخلاص وظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة التمهيد لا شك أن الإخلاص سبب للنصر، والنجاة من عذاب الله، ورفْع المنزلة في الدنيا والآخرة، والفوز بحب الله، ثم حب أهل السموات والأرض للمخلص، وهذا في الحقيقة نور يقذفه الله في قلب من شاء من عباده: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (¬1). وإرادة الدنيا بعمل الآخرة، ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض؛ لأن ذلك يُنافي كمال التوحيد، ويُحبط العمل الذي قارنه، قال الله - عز وجل -: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬2). وسأبين ذلك بالتفصيل في المبحثين الآتيين: المبحث الأول: نور الإخلاص المطلب الأول: مفهوم الإخلاص الإخلاص في اللغة: خَلَص يخلص خلوصًا: صفا وزال عنه شوبه، ويقال: خلص من ورطته: سلم منها، ونجا، ويقال: خلَّصه تخليصًا: أي نجّاه. والإخلاص في الطاعة: ترك الرياء (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 40. (¬2) سورة هود، الآيتان: 15 - 16 (¬3) المعجم الوسيط، 1/ 249، ومختار الصحاح، ص77.

حقيقة الإخلاص

وحقيقة الإخلاص: هو أن يريد العبد بعمله التقرب إلى الله تعالى وحده. وقد ذكر أهل العلم تعريفات بعضها قريب من بعض: فقيل: الإخلاص: إفراد الحق - سبحانه - بالقصد في الطاعة. وقيل: الإخلاص: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيرًا من باطنه، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعْمَرَ من ظاهره. وقيل: تصفية العمل من كل ما يشوبه (¬1). وعلى ما تقدّم: يتّضح أن الإخلاص: صرف العمل والتقرّب به إلى الله وحده، لا رياءً ولا سمعةً، ولا طلبًا للعَرَض الزائل، ولا تصنّعًا، وإنما يرجو ثواب الله، ويخشى عقابه، ويطمع في رضاه. ولهذا قال القاضي عياض: ((تَرْك العمل من أجل الناس رياءٌ، والعملُ من أجل الناس شركٌ، والإخلاصُ أن يعافيَكَ الله منهما)) (¬2). والإخلاص: في حياة المسلم أن يَقصد بعمله، وقوله، وسائر تصرفاته، وتوجيهاته وتعليمه وجه الله تعالى وحده لا شريك له ولا رب سواه. المطلب الثاني: أهمية الإخلاص لقد خلق الله الخلق: الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له، وأمر جميع المكلفين بالإخلاص: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ ¬

_ (¬1) مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 91. (¬2) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 91.

قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله}

الدِّينَ} (¬1)، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين *، أَلا لله الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬2)، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬3)، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (¬4). قال الفضيل بن عياض: هو أخلَصُهُ وأصوَبُهُ. قالوا: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: ((إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة (¬5). ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬6)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} (¬7). فإسلام الوجه: إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه: متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته (¬8). ¬

_ (¬1) سورة البينة، الآية: 5. (¬2) سورة الزمر، الآيتان: 2 - 3. (¬3) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163. (¬4) سورة الملك، الآية: 2. (¬5) مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 89. (¬6) سورة الكهف، الآية: 110. (¬7) سورة النساء، الآية: 125. (¬8) مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 90.

ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم

وقد ثبت في الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تُحيط من ورائهم)) (¬1). والإخلاص هو روح عمل المسلم، وأهم صفاته، فبدونه يكون جهده وعمله هباءً منثورًا. والإخلاص من أهم أعمال القلوب باتفاق أئمة الإسلام، ولاشك أن أعمال القلوب هي الأصل: لمحبة الله ورسوله، والتوكل عليه، والإخلاص له، والخوف منه، والرجاء له، وأعمال الجوارح تَبَعٌ؛ فإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح مات، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح. فيجب على المسلم أن يكون مخلصًا لله - عز وجل - لا يريد رياءً ولا سمعة، ولا ثناء الناس ولا مدحهم وحمدهم، إنما يعمل الصالحات، ويدعو إلى الله يريد وجهه - تعالى - كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله} (¬2)، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله} (¬3). والإخلاص أعظم الصفات التي تجب على جميع المسلمين، فيريدون بدعوتهم وعملهم وجه الله والدار الآخرة، ويريدون إصلاح الناس ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي، في كتاب العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع، 5/ 34، برقم 2658 من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وأخرجه أحمد، 5/ 183 من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، 1/ 78. (¬2) سورة يوسف، الآية: 108. (¬3) سورة فصلت، الآية: 33.

المطلب الثالث: مكانة النية الصالحة وثمراتها

وإخراجهم من الظلمات إلى النور (¬1). المطلب الثالث: مكانة النية الصالحة وثمراتها النية: أساس العمل وقاعدته، ورأس الأمر وعموده، وأصله الذي عليه بُنِيَ؛ لأنها روح العمل، وقائده، وسائقه، والعمل تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يحصل التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة (¬2)؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى ... )) (¬3). وقال الله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬4). وهذا يدل على أهمية ومكانة النية، وأن الدعاة إلى الله وغيرهم من المسلمين بحاجة إلى إصلاح النية، فإذا صلحت أُعطي العبد الأجر الكبير، والثواب العظيم، ولو لم يعمل إنما نوى نية صادقة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له مثلُ ما كان يعمل مقيمًا ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 1/ 349 و4/ 229. (¬2) انظر: النية وأثرها في الأحكام الشرعية للدكتور صالح بن غانم السدلان، 1/ 151. (¬3) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 9، برقم 1. ومسلم، كتاب الإمارة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنية))، 3/ 1515، برقم 1907. (¬4) سورة النساء، الآية: 114.

قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من امرئ تكون له صلاة بليل فيغلبه عليها نوم "

صحيحًا)) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من امرئٍ تكون له صلاة بليل فيغلبه عليها نوم إلا كُتبَ له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة)) (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر، لا ينقص ذلك من أجره شيئًا)) (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)) (¬4). وهذا يدل على فضل الله - سبحانه وتعالى -، وإحسانه إلى عباده؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك: ((لقد تركتم بالمدينة أقوامًا ما سِرتم مسيرًا ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه))، قالوا: يا رسول الله كيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: ((حَبَسهُمُ العذر)) (¬5). وبالنية الصالحة يضاعف الله الأعمال اليسيرة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، بابٌ: يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة،4/ 200،برقم 2996. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب من نوى القيام فنام، 2/ 24، برقم 1314. والنسائي، كتاب قيام الليل، وتطوع النهار، باب من كان له صلاة بليل فغلبه عليها نوم، 3/ 275، برقم 1784. وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 204، وصحيح الجامع، 5/ 160 برقم 5567. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيمن خرج يريد الصلاة فسبق بها، 1/ 154، برقم 564. والنسائي، كتاب الإمامة، باب حد إدراك الجماعة، 2/ 111، برقم 855. وقال ابن حجر في فتح الباري: ((إسناده قوي))، 6/ 137. (¬4) مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، 3/ 1517، برقم 1909. (¬5) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من حبسه العذر عن الغزو، 3/ 280، برقم 2839، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب الرخصة في القعود من العذر، 3/ 12، برقم 2058، واللفظ له.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عمل قليلا وأجر كثيرا

لرجل جاء إليه مقنع بالحديد، فقال يا رسول الله: أقاتل أو أسلم؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسلم ثم قاتل))، فأسلم ثم قاتل فَقُتِلَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عمل قليلاً وأُجر كثيرًا)) (¬1). وجاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل في الإسلام، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمه الإسلام وهو في مسيره، فدخل خُفّ بعيره في جحر يربوع فوقصه بعيره فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عمل قليلاً وأُجر كثيرًا)) قالها حماد ثلاثًا (¬2). وبالنية الصالحة يُبارك الله في الأعمال المباحة، فيثاب عليها العبد؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة)) (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ((إنك لن تُنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها حتى ما تجعلُ في في امرأتك)) (¬4). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الدنيا لأربعة نفرٍ: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقّي فيه ربه، ويَصِلُ فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث البراء - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الجهاد والسير، بابٌ: عمل صالح قبل الجهاد، 3/ 271، برقم 2808، واللفظ له. ومسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3/ 1509، برقم 1900. (¬2) مسند الإمام أحمد، 4/ 357. (¬3) متفق عليه من حديث أبي مسعود - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، 1/ 24، برقم 55. ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، والزوج، والأولاد، 2/ 625، برقم 1002. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية، 1/ 24، برقم 56. ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، 3/ 1250، برقم 1628.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: إن الله - عز وجل - كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك

وعبدٍ رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبدٍ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهو بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء)) (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ((إن الله - عز وجل - كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك، فمن همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ... )) (¬2). المطلب الرابع: ثمار الإخلاص وفوائده الإخلاص له ثمرات حميدة وفوائد جليلة عظيمة، منها ما يأتي: أولاً: خير الدنيا والآخرة من فضائل الإخلاص وثمراته. ثانياً: الإخلاص هو السبب الأعظم في قبول الأعمال مع متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثالثاً: الإخلاص يُثمر محبة الله للعبد، ثم محبة الملائكة، ووضع القبول في الأرض. ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، 4/ 562، برقم 2325، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب النية، برقم 4228، وأحمد، 4/ 130، وصححه الألباني، في صحيح الترمذي، 2/ 270. (¬2) متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الرقاق، باب من همّ بحسنة أو سيئة، 7/ 239، برقم 6491، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إذا همّ العبد بحسنة كتبت له وإذا همّ بسيئة لم تكتب، 1/ 117، برقم 131.

رابعا: الإخلاص أساس العمل وروحه

رابعاً: الإخلاص أساس العمل، وروحه. خامساً: يُثمر الأجر الكبير والثواب العظيم بالعمل اليسير، والدعاء القليل. سادساً: يُكتب لصاحب الإخلاص كل عمل يقصد به وجه الله، ولو كان مباحًا. سابعاً: يُكتب لصاحب الإخلاص ما نوى من العمل ولو لم يعمله. ثامناً: إذا نام أو نسي كُتب له عمله الذي كان يعمله. تاسعاً: إذا مرض العبد أو سافر كُتب له بإخلاصه ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا. عاشراً: ينصر الله الأمة بالإخلاص. الحادي عشر: الإخلاص يُثمر النجاة من عذاب الآخرة. الثاني عشر: تفريج كروب الدنيا والآخرة من ثمرات الإخلاص. الثالث عشر: رفع المنزلة في الآخرة يحصل بالإخلاص. الرابع عشر: الإنقاذ من الضلال. الخامس عشر: الإخلاص سبب لزيادة الهدى. السادس عشر: الصِّيت الطيب عند الناس من ثمار الإخلاص. السابع عشر: طمأنينة القلب والشعور بالسعادة. الثامن عشر: تزيين الإيمان في النفس. التاسع عشر: التوفيق لمصاحبة أهل الإخلاص. العشرون: حسن الخاتمة. الحادي والعشرون: استجابة الدعاء. الثاني والعشرون: النعيم في القبر والتبشير بالسرور.

الثالث والعشرون: دخول الجنة والنجاة من النار

الثالث والعشرون: دخول الجنة والنجاة من النار. وهذه الثمرات والفوائد أدلتها كثيرة من الكتاب والسنة (¬1). فأسأل الله لي ولإخواني المسلمين الإخلاص في القول والعمل. المبحث الثاني: ظلمات إرادة الدنيا بعمل الآخرة المطلب الأول: خطر إرادة الدنيا بعمل الآخرة من الخطر العظيم أن يعمل الإنسان عملاً صالحًا يريد به عرضًا من الدنيا، وهذا شِرْكٌ يُنافي كمال التوحيد الواجب، ويُحبط العمل، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذرًا من هذا وهذا. والفرق بين الرياء، وإرادة الإنسان بعمله الدنيا: هو أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً، يجتمعان في أن الإنسان إذا أراد بعمله التزين عند الناس؛ ليروه ويعظِّموه، ويمدحوه، فهذا رياء، وهو أيضًا إرادة للدنيا؛ لأنه تصنّع عند الناس، وطلب الإكرام منهم والمدح والثناء. أما العمل للدنيا فهو أن يعمل الإنسان عملاً صالحًا لا يقصد به الرياء للناس، وإنما يقصد به عرضًا من الدنيا: كمن يحجّ عن غيره؛ ليأخذ مالاً، أو يجاهد للمغنم، أو غير ذلك، فالمرائي عمل لأجل المدح والثناء من الناس، والعامل للدنيا يعمل العمل الصالح يريد به عرض ¬

_ (¬1) يدل على ذلك ما تقدم في المطلبين السابقين، وانظر: كتاب الإخلاص لحسين العوايشة، ص64.

قال الله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها}

الدنيا، وكلاهما خاسر، نعوذ بالله من مُوجبات غضبه، وأليم عقابه (¬1). وقد جاءت النصوص تدل على خسران صاحب هذا العمل في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬2). وقال - عز وجل -: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} (¬3). وقال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (¬4). وقال - سبحانه وتعالى -: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} (¬5). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعلم علمًا ما يُبتغى به وجه الله - عز وجل - لا يتعلمُهُ إلا ليُصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة)) يعني ريحها (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: فتح المجيد، ص442، وتيسير العزيز الحميد، ص534. (¬2) سورة هود، الآية: 16. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 17. (¬4) سورة الشورى، الآية: 20. (¬5) سورة البقرة، الآية: 200. (¬6) أبو داود، كتاب العلم، باب: في طلب العلم لغير الله،3/ 323،برقم 3664،وابن ماجه، في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم، 1/ 93، برقم 252،وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،1/ 48.

وعن جابر - رضي الله عنه - يرفعه: لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء

وعن جابر - رضي الله عنه - يرفعه: ((لا تعلَّموا العلم لتُباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتخيّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار)) (¬1). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((لا تعلَّموا العلم لثلاث: لتُماروا به السفهاء، وتُجادلوا به العلماء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم ما عند الله؛ فإنه يدوم ويبقى، وينفد ما سواه)) (¬2). ولهذا تَكَفَّل الله بالسعادة لمن عمل لله، فعن أنس يرفعه: ((من كانت الآخرة همّهُ جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له)) (¬3). المطلب الثاني: أنواع العمل للدنيا العمل للدنيا أنواع متعددة، وقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى أنه جاء عن السلف في ذلك أربعة أنواع: النوع الأول: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه ¬

_ (¬1) ابن ماجه 1/ 93، في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 93، برقم 254، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 48، وصحيح الترغيب للألباني، 1/ 46، وفي الموضعين أحاديث أخرى. (¬2) الدرامي، 1/ 70 موقوفًا، وابن ماجه عن أبي هريرة، في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، 1/ 96، برقم 260، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 48، وصحيح الترغيب والترهيب، 1/ 48. (¬3) الترمذي، كتاب صفة القيامة، بابٌ: حدثنا قتيبة، 4/ 642، برقم 2465، وابن ماجه بنحوه من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، كتاب الزهد، 2/ 1375، برقم 4105، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 5/ 351، والأحاديث الصحيحة، 950.

النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة

الله تعالى: من صدقةٍ، وصلاةٍ، وإحسانٍ إلى الناس، وردِّ ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان، أو يتركه خالصًا لله تعالى؛ لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، وإنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله، وتنميته، أو حفظه أهله وعياله، أو إدامة النعم عليه وعليهم، ولا همّةَ له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يُعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب. وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة. وهو ما ذكر عن مجاهد رحمه الله تعالى. النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً، مثل أن يحج عن غيره لمال يأخذه، ولا يقصد بذلك وجه الله ولا الدار الآخرة، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو يجاهد لأجل المغنم، أو يتعلَّم العلم ليحصل على الشهادة وعلى الجاه، ولا يقصد بذلك وجه الله مطلقًا، أو يتعلَّم القرآن، ويواظب على الصلاة؛ لأجل وظيفة المسجد، أو غيره من الوظائف الدينية، ولا يريد بذلك ثوابًا مطلقًا. النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصًا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يُكَفِّره كفرًا يخرجه عن الإسلام، كمن يأتي بناقض من نواقض الإسلام. ذُكِرَ ذلك عن أنس - رضي الله عنه - وغيره (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص444، وتسير العزيز الحميد، ص536، والقول السديد في مقاصد التوحيد، للسعدي، ص126.

المطلب الثالث: خطر الرياء وآثاره

فليحذر المسلم مما يحبط عمله، ويعرّضه لسخط الله وغضبه، وليحذر جميع المسلمين من هذه الأنواع الفاسدة، نعوذ بالله منها. المطلب الثالث: خطر الرياء وآثاره الرياء خطره عظيم جدًّا على الفرد والمجتمع والأمة؛ لأنه يُحبط العمل والعياذ بالله ويظهر خطره في الأمور الآتية: أولاً: الرياء أخطر على المسلمين من المسيح الدجال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟: الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيصلي، فيزيّن صلاته لما يرى من نظر رجل)) (¬1). ثانياً: الرياء أشدّ فتكًا من الذئب في الغنم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسَدَ من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) (¬2). وهذا مثل ضربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيّن فيه أن الدين يفسد بالحرص على المال، وذلك بأن يشغله عن طاعة الله، وبالحرص على الشرف في الدنيا بالدين، وذلك إذا قصد الرياء والسمعة. ثالثاً: خطورة الرياء على الأعمال الصالحة خطر عظيم؛ لأنه يذهب بركتها، ويُبطلها والعياذ بالله: {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب: الرياء والسمعة، 2/ 1406، برقم 4204، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 410. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، بابٌ: حدثنا سويد، برقم 2376، 4/ 588، وأحمد، 3/ 456، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 280.

صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬1). هذه هي آثار الرياء تمحق العمل الصالح محقًا في وقت لا يملك صاحبه قوة ولا عونًا، ولا يستطيع لذلك ردًّا. قال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (¬2). فهذا العمل الصالح أصله كالبستان العظيم كثير الثمار، فهل هناك أحد يحب أن تكون له هذه الثمار والبستان العظيم، ثم يرسل عليها الرياء فيمحقها محقًّا، وهو في أشدِّ الحاجة إليها!! ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عَمِلَ عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) (¬3). وفي الحديث: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة، ليومٍ لا ريب فيه نادى منادٍ: من كان أشرك في عَمَلٍ عَمِلَهُ لله أحدًا فليطلب ثوابه من عند غير الله؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك)) (¬4). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 264. (¬2) سورة البقرة، الآية: 266. (¬3) مسلم، كتاب الزهد، باب: من أشرك في عمله غير الله، 4/ 2289، برقم 2985. (¬4) الترمذي، كتاب تفسير القرآن، بابٌ: ومن سورة الكهف،5/ 314،برقم 3154،من حديث أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري - رضي الله عنه -،وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة، 2/ 1406، برقم 4203،وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب،1/ 18،وفي صحيح الترمذي، 3/ 74.

رابعا: يسبب عذاب الآخرة

رابعاً: يسبب عذاب الآخرة؛ ولهذا أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدّق بماله، الذين فعلوا ذلك ليُقال: فلانٌ قارئ، فلانٌ شجاعٌ، فلانٌ كريم متصدّق. ولم تكن أعمالهم خالصةً لله تعالى (¬1). خامساً: الرياء يُورث الذلّ والصّغار والهوان والفضيحة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من سمَّع سمَّع الله به، ومن يُرائي يُرائي الله به)) (¬2). سادساً: الرياء يحرم ثواب الآخرة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بشر هذه الأمة بالسناء (¬3) والدين، والرفعة، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب)) (¬4). سابعاً: الرياء سبب في هزيمة الأمة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم)) (¬5)، وهذا يبيّن أن الإخلاص لله سبب في نصر الأمة على أعدائها، وأن الرياء سبب في هزيمة الأمة! ثامناً: الرياء يزيد الضلال، قال الله تعالى عن المنافقين: {يُخَادِعُونَ الله ¬

_ (¬1) انظر: الحديث في صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، 3/ 1514، برقم 1905. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة، 7/ 242، برقم 6499. ومسلم، كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله، 4/ 2289، برقم 2986. (¬3) معناه: ارتفاع المنزلة؛ لأن السناء هو الرفعة. انظر: المصباح المنير، 1/ 293. (¬4) مسند أحمد، 5/ 134، والحاكم، 4/ 418، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 15. (¬5) رواه النسائي بلفظه، كتاب الجهاد، باب الاستنصار بالضعيف، 6/ 45، برقم 3178، وأصله في صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، 3/ 296، برقم 2896، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 6.

المطلب الرابع: أنواع الرياء ودقائقه

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (¬1). المطلب الرابع: أنواع الرياء ودقائقه أبواب الرياء كثيرة نعوذ بالله من ذلك وهذه الأنواع على النحو الآتي: أولاً: أن يكون مراد العبد غير الله، ويريد ويحب أن يعرف الناس أنه يفعل ذلك، ولا يقصد الإخلاص مطلقًا، نعوذ بالله من ذلك، فهذا نوع من النفاق. ثانياً: أن يكون قصد العبد ومراده لله تعالى، فإذا اطّلع عليه الناس نشط في العبادة وزيّنها، وهذا شرك السرائر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر))، قالوا: يا رسول الله: وما شرك السرائر؟ قال: ((يقوم الرجل فيصلِّي فيُزيِّن صلاته جاهدًا لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شِرْك السرائر)) (¬2). ثالثاً: أن يدخل العبد في العبادة لله، ويخرج منها لله، فَعُرِفَ بذلك ومُدِح، فسكن قلبه إلى ذلك المدح، ومنّى النفس بأن يحمدوه ويمجِّدوه، وينال ما يريده من الدنيا، وهذا السرور والرغبة في الازدياد منه، والحصول على مطلوبه يدل على رياء خفي. رابعاً: وهناك رياء بدني: كمن يظهر الصّفار والنّحول، ليُرِيَ الناس بذلك أنه صاحب عبادة قد غلب عليه خوف الآخرة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيتان: 9 - 10. (¬2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، 2/ 67، برقم 937، وأخرجه البيهقي في السنن، 2/ 291، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 7.

خامسا: رياء من جهة اللباس أو الزي

وقد يكون الرياء بخفض الصوت، وذبول الشفتين؛ ليدل الناس على أنه صائم. خامساً: رياء من جهة الِّلباس أو الزي: كمن يلبس ثيابًا مرقعة؛ ليقول الناس إنه زاهد في الدنيا، أو من يلبس لباسًا معيَّنًا يرتديه ويلبسه طائفة من الناس يَعدُّهم الناس علماء، فيلبس هذا اللباس ليقال عالم. سادساً: الرياء بالقول: وهو على الغالب رياء أهل الدين بالوعظ والتذكير، وحفظ الأخبار والآثار؛ لأجل المحاورة، والمجادلة، والمناظرة، وإظهار غزارة العلم. سابعاً: الرياء بالعمل: كمراءاة المصلِّي بطول الصلاة والركوع والسجود، وإظهار الخشوع، والمراءاة في الصوم والحجّ والصدقة. ثامناً: الرياء بالأصحاب والزائرين: كالذي يكلَّف أن يستزير عالمًا؛ ليقال إن فلانًا قد زار فلانًا، ودعوة الناس لزيارته كي يُقال: إن أهل الدين يتردّدون عليه. تاسعاً: الرياء بذمّ النفس بين الناس: ويريد بذلك أن يُرِيَ الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء. عاشراً: ومن دقائق الرياء وخفاياه: أن يخفي العامل طاعته بحيث لا يريد أن يطّلع عليها أحدٌ، ولا يُسرَّ بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام، وأن يُقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يُثنوا عليه، وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يُسامحوه في البيع

الحادي عشر: ومن دقائق الرياء أن يجعل الإخلاص وسيلة لما يريد من المطالب

والشراء، فإن لم يجد ذلك وجد ألمًا في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها. الحادي عشر: ومن دقائق الرياء أن يجعل الإخلاص وسيلة لما يريد من المطالب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((حُكِيَ أن أبا حامد الغزالي بلغه أن من أخلص لله أربعين يومًا تفجَّرت الحكمة من قلبه على لسانه. قال: فأخلصت أربعين يومًا، فلم يتفجَّر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين، فقال لي: إنك أخلصت للحكمة، لم تُخلص لله)) (¬1)، وذلك أن الإنسان قد يكون مقصوده نيل الحلم والحكمة، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم له، أو غير ذلك من المطالب. وهذا لم يحصل بالإخلاص لله وإرادة وجهه؛ وإنما حصل هذا العمل لنيل ذلك المطلوب. المطلب الخامس: أقسام الرياء وأثره على العمل الرياء أعاذنا الله منه أقسام ودركات، ينبغي لكل مسلم أن يعرف هذه الأقسام؛ ليهرب منها وهي على النحو الآتي: أولاً: أن يكون العمل رياء محضًا، ولا يُراد به إلا مراءاة المخلوقين، كحال المنافقين: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} (¬2)، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمنٍ في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج ¬

_ (¬1) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 6/ 66، ومنهاج القاصدين، ص214 - 221، والإخلاص للعوايشة، ص24، والإخلاص والشرك الأصغر للدكتور عبد العزيز بن عبداللطيف، ص9، والرياء لسليم الهلالي، ص17. (¬2) سورة النساء، الآية: 142.

ثانيا: أن يكون العمل لله ويشاركه الرياء من أصله

وغيرهما من الأعمال الظاهرة، وهذا العمل لا شك في بطلانه، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، والعياذ بالله. ثانياً: أن يكون العمل لله ويشاركه الرياء من أصله - أي من أوّله إلى آخره - فالنصوص الصحيحة تدل على بُطلانه وحُبوطه أيضًا. ثالثاً: أن يكون أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء أثناء العبادة، فهذه العبادة لا تخلو من حالين: 1 - أن لا يرتبط أوّل العبادة بآخرها، فأولها صحيح بكل حال، وآخرها باطل. مثل ذلك: إنسان عنده عشرون ريالاً يريد أن يتصدّق بها، فتصدق بعشرة خالصة لله، ثم طرأ عليه الرياء في العشرة الباقية، فالصدقة الأولى صحيحة مقبولة، والثانية صدقة باطلة لاختلاط الرياء فيها بالإخلاص. 2 - أن يرتبط أوّل العبادة بآخرها، فلا يخلو الإنسان حينئذ من أمرين: الأمر الأول: أن يكون هذا الرياء خاطرًا، ثم دفعه الإنسان ولم يسكن إليه، وأعرض عنه وكرهه، فإنه لا يضرّه بغير خلاف؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم يتكلَّموا أو يعملوا)) (¬1). الأمر الثاني: أن يسترسل معه الرياء ويطمئن إليه، ولا يُدافعه ويُحبّه، فتبطل جميع العبادة على الصحيح؛ لأن أولها مرتبط بآخرها، مثال ذلك من ابتدأ الصلاة مخلصًا بها لله تعالى، ثم طرأ عليه الرياء في الركعة الثانية واسترسل معه إلى نهاية صلاته، ولم يُدافعه، فتبطل الصلاة كلها لارتباط ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب: تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، 1/ 116، برقم 127.

رابعا: أن يكون الرياء بعد الانتهاء من العبادة

أولها بآخرها (¬1). رابعاً: أن يكون الرياء بعد الانتهاء من العبادة (¬2). وأما إذا عمل المسلم العمل لله خالصًا، ثم ألقى الله الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك لم يضرَّه ذلك، فقد سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يعمل العمل لله من الخير، ثم يحمدهُ الناس عليه، فقال: ((تلك عاجل بُشرَى المؤمن)) (¬3). المطلب السادس: أسباب الرياء ودوافعه أصل الرياء حبّ الجاه والمنزلة، ومن غلب على قلبه حُبّ هذا صار مقصور الهَمِّ على مراعاة الخلق، مشغوفًا بالترّدد إليهم، والمراءاة لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله وتصرّفاته ملتفتًا إلى كل ما يعظِّم منزلته عند الناس، وهذا أصل الداء والبلاء؛ فإن من رغب في ذلك احتاج إلى الرياء في العبادات، واقتحام المحظورات. وهذا باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله، العارفون به، المحبون له. وإذا فُصِّل هذا السبب والمرض الفتاك رجع إلى ثلاثة أصول: أولاً: حب لذّة الحمد والثناء والمدح. ثانياً: الفرار من الذمّ. ¬

_ (¬1) انظر: هذه الأقسام بالتفصيل في جامع العلوم والحكم لابن رجب، 1/ 79 - 84، وفتح المجيد، ص438، وفتاوى ابن عثيمين، 2/ 29. (¬2) انظر: فتاوى ابن عثيمين، 2/ 30. (¬3) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، 4/ 2034، برقم 2642.

ثالثا: الطمع فيما في أيدي الناس

ثالثاً: الطمع فيما في أيدي الناس (¬1). ويشهد لهذا ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) (¬2). فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقاتل شجاعة)) أي ليُذكر، ويُشكر، ويُمدح، ويُثنى عليه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقاتل حمية)) أي يأنف أن يُغلب ويُقهر أو يُذمّ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقاتل رياءً)) أي ليُرى مكانه، وهذا هو لذّة الجاه والمنزلة في القلوب. وقد يرغب الإنسان في المدح ولكنه يحذر من الذمّ كالجبان بين الشجعان، فإنه يثبت ولا يفرّ؛ لئلا يذمّ، وقد يُفتي الإنسان بغير علم حذرًا من الذم بالجهل، فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرّك إلى الرياء وتدعو إليه فاحذرها! المطلب السابع: طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء قد عُرِفَ أن الرياء مُحبط للعمل، وسبب لغضب الله ومقته، وأنه من المهلكات، وأشدّ خطرًا على المسلم من المسيح الدجال. ¬

_ (¬1) انظر: مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة، ص221 - 222. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، 3/ 272، برقم 2810، ومسلم، كتاب الصلاة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، 3/ 1512، برقم 1904.

أولا: معرفة أنواع العمل للدنيا وأنواع الرياء

ومَن هذه حاله فهو جدير بالتشمير عن ساق الجدّ في إزالته وعلاجه، وقطع عروقه وأصوله. ومن هذا العلاج الذي يُزيل الرياء ويُحصِّل الإخلاص بإذن الله تعالى ما يأتي: أولاً: معرفة أنواع العمل للدنيا، وأنواع الرياء، وأقسامه، ودوافعه، وأسبابه ثم قطعها وقلع عروقها، وتقدّمت هذه الدوافع والأسباب. ثانياً: معرفة عظمة الله تعالى، بمعرفة: أسمائه، وصفاته، وأفعاله معرفةً صحيحةً مبنية على فهم الكتاب والسنة، على مذهب أهل السنة والجماعة؛ فإن العبد إذا عرف أن الله وحده هو الذي ينفع ويضرّ، ويُعزّ ويّذلّ، ويخفض ويرفع، ويّعطي ويمنع، ويُحيي ويُميت، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، إذا عرف ذلك، وعلم بأن الله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فسيُثمرُ ذلك إخلاصًا وصدقًا مع الله، فلابد من معرفة أنواع التوحيد كلّها معرفةً صحيحة سليمة. ثالثاً: معرفة ما أعدّه الله في الدار الآخرة من نعيم وعذاب، وأهوال الموت، وعذاب القبر؛ فإن العبد إذا عرف ذلك وكان عاقلاً هرب من الرياء إلى الإخلاص. رابعاً: الخوف من خطر العمل للدنيا والرياء المحبط للعمل؛ فإن من خاف أمرًا بقي حَذِرًا منه فينجو؛ ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة. فينبغي للمرء، بل يجب عليه، إذا هاجت رغبته إلى آفة حبّ الحمد والمدح أن يُذَكِّرَ نفسه بآفات الرياء، والتعرّض لمقت الله، ومن عرف فقر الناس وضعفهم استراح كما قال بعض السلف: ((جاهد نفسك في دفع

خاف الصحابة والتابعون وأهل العلم والإيمان من هذا البلاء الخطير

أسباب الرياء عنك، واحرص أن يكون الناس عندك كالبهائم والصبيان، فلا تفرِّق في عبادتك بين وجودهم وعدمهم، وعلمهم بها أو غفلتهم عنها، واقْنَعْ بعلم الله وحده)) (¬1). وبالله وحده، ثم بالخوف من حُبوط العمل نجا أهل العلم والإيمان من الرياء وحبوط العمل، فعن محمد بن لبيد - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله - عز وجل - لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)) (¬2). ولهذا الخطر العظيم خاف الصحابة والتابعون وأهل العلم والإيمان من هذا البلاء الخطير، ومن ذلك الأمثلة الآتية: 1 - قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (¬3)، قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله: أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر؟ قال: ((لا يا بنت أبي بكر (أو يا بنت الصدّيق) ولكنه الرجل يصوم، ويتصدّق، ويصلّي وهو يخاف ألا يُتقبَّل منه)) (¬4). 2 - قال ابن أبي مُليكة: ((أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلُّهم ¬

_ (¬1) انظر: الإخلاص والشرك الأصغر، ص15. (¬2) أحمد في المسند، 5/ 428، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 2/ 45. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 60. (¬4) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب: التوقي في العمل، 2/ 1404، برقم 4198، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، بابٌ: ومن سورة ((المؤمنون))، 5/ 327، برقم 3175، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 162، وفي صحيح ابن ماجه، 2/ 409.

3 - ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا

يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل)) (¬1). 3 - وقال إبراهيم التيميّ: ((ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مُكذِّبًا)) (¬2). 4 - ويُذكر عن الحسن أنه قال: ((ما خافه إلا مؤمن، ولا أمِنه إلا منافق)) (¬3). 5 - وقال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما: ((نشدتك بالله هل سمّاني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم - يعني من المنافقين - قال: لا. ولا أُزَكِّي بعدك أحدًا)) (¬4). 6 - ويُذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: ((اللهمّ إني أعوذ بك من خشوع النفاق))، قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: ((أن ترى البدن خاشعًا والقلب ليس بخاشع)) (¬5). 7 - ويُذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: ((لئن أستيقن أن الله تقبَّل لي صلاة واحدة أحب إليَّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله ¬

_ (¬1) البخاري معلقًا مجزومًأ به، قال ابن حجر: وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه. انظر: فتح الباري، 1/ 110. (¬2) البخاري مع الفتح معلقًا ومجزومًا به. قال ابن حجر: وصله المصنف في التاريخ. انظر: فتح الباري، 1/ 110. (¬3) البخاري مع الفتح، وقال ابن حجر: وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافقين، وصححه. انظر: الفتح، 1/ 111. (¬4) ابن كثير بنحوه، في البداية والنهاية، 5/ 19، وانظر: صفات المنافقين لابن القيم، ص36. (¬5) ذكره ابن القيم في صفات المنافقين، ص36.

8 - وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬1). 8 - وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: ((أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يُسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم رجل إلا ودَّ أن أخاه كفاه)) (¬2). خامساً: الفرار من ذم الله؛ فإن من أسباب الرياء الفرار من ذم الناس، ولكن العاقل يعلم أن الفرار من ذم الله أولى؛ لأن ذمه شين، كما قال رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إن مدحي زينٌ، وذمّي شينٌ. فقال - صلى الله عليه وسلم - ((ذاك الله)) (¬3). ولا شكّ أن العبد إذا خاف الناس وأرضاهم بسخط الله سخط الله عليه، وغضب وأسخط الناس عليه. فهل أنت تخشى غضب الناس؟ فالله أحق أن تخشاه إن كنت صادقًا. سادساً: معرفة ما يفرّ منه الشيطان؛ لأن الشيطان منبع الرياء، وأصل البلاء، والشيطان يفرّ من أمور كثيرة، منها: الأذان، وقراءة القرآن، وسجود التلاوة، والاستعاذة بالله منه، والتسمية عند الخروج من البيت والدخول في المسجد مع الذكر المشروع في ذلك، والمحافظة على أذكار ¬

_ (¬1) ذكره ابن كثير في تفسيره، 2/ 41، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والآية: 27 من سورة المائدة. (¬2) الدارمي في سننه، 1/ 53، وابن المبارك في الزهد، 1/ 140، برقم 49. (¬3) أحمد في المسند، 3/ 488، 6/ 394، من حديث الأقرع بن حابس - رضي الله عنه -، وإسناده حسن، ورواه الترمذي وحسنه، برقم 3263.

سابعا: الإكثار من أعمال الخير والعبادات غير المشاهدة

الصباح والمساء، وأدبار الصلوات، وجميع الأذكار المشروعة (¬1). سابعاً: الإكثار من أعمال الخير والعبادات غير المشاهدة، وإخفاؤها: كقيام الليل، وصدقة السر، والبكاء خاليًا من خشية الله، وصلاة النوافل، والدعاء للإخوة في الله بظهر الغيب، والله - عز وجل - يحب العبد التقيّ الخفيّ، قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله يحبّ العبد التقيّ الغنيّ الخفيّ)) (¬2). ثامناً: عدم الاكتراث بذمّ الناس ومدحهم؛ لأن ذلك لا يضرّ ولا ينفع، بل يجب أن يكون الخوف من ذمّ الله، والفرح بفضل الله {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬3). فيا عبد الله أقبل على حب المدح والثناء فازهد فيهما زهد عُشَّاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذلك سَهُل عليك الإخلاص (¬4). ويسهِّلُ الزهدَ في حب المدح والثناء: العلمُ يقينًا أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضرّ ذمّه ويشين إلا الله وحده، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذمِّ من لا يشينك ذمّهُ، وارغب في مدح مَنْ كلُّ الزين في مدحه، وكلُّ الشَّين في ذمّه، ولن يُقدَر على ذلك إلا بالصبر واليقين، ¬

_ (¬1) انظر التفصيل في ذلك: كتاب مقامع الشيطان في ضوء الكتاب والسنة لسليم الهلالي، وهو مهم جدًّا، والإخلاص لحسين العوايشة، ص57 - 63. (¬2) مسلم، كتاب الزهد، 4/ 2277، برقم 2965. (¬3) سورة يونس، الآية: 58. (¬4) الفوائد لابن القيم، ص67.

تاسعا: تذكر الموت وقصر الأمل

فمن فقد الصبر واليقين كان كمن أراد السفر في البحر بغير مركب (¬1). وانظر إلى من ذمَّك فإن يك صادقًا قاصدًا النصح لك فاقبل هديته ونصحه؛ فإنه قد أهدى إليك عيوبك، وإن كان كاذبًا فقد جنى على نفسه وانتفعتَ بقوله؛ لأنه عرَّفك ما لم تكن تعرف، وذكَّرك من خطاياك ما نسيتَ، وإن كان ذلك افتراءً عليك، فإنك إن خلوتَ من هذا العيب لم تخلُ من غيره، فاذكر نعمة الله عليك إذ لم يُطْلِعْ هذا المفتري على عيوبك، وهذا الافتراء كفّارات لذنوبك إن صبرتَ واحتسبتَ، وعليك أن تعلم أن هذا الجاهل جنى على نفسه، وتعرّض لمقت الله تعالى، فكن خيرًا منه: فاعفُ واصفحْ، واستغفر له {أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬2). تاسعاً: تذكّرِ الموت وقَصْر الأمل {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬3)، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬4). عاشراً: الخوف من سوء الخاتمة، فعلى العبد أن يخاف أن تكون أعمال الرياء هي خاتمة عمله، ونهاية أجله، فيخسر خسارة فادحة عظيمة؛ لأن الإنسان يُبعث يوم القيامة على ما مات عليه، والناس يُبعثون على نياتهم، ¬

_ (¬1) انظر: الفوائد لابن القيم، ص268. (¬2) سورةالنور، الآية: 22. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 185. (¬4) سورة لقمان، الآية: 34.

الحادي عشر: مصاحبة أهل الإخلاص والتقوى

وخير الأعمال خواتمها. الحادي عشر: مصاحبة أهل الإخلاص والتقوى؛ فإن الجليس المخلص لا يعدمك الخير، وتجد منه قدوة لك صالحة، وأما المرائي والمشرك فيحرقك في نار جهنم إن أخذت بعمله. الثاني عشر: الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى، وقد علَّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقال: ((يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل))، فقال بعض الصحابة: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: اللهمّ إنا نعوذ بك أن نُشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لِمَا لا نعلمه)) (¬1). الثالث عشر: حبّ العبد ذكر الله له وتقديم حبّ ذكره له على حبّ مدح الخلق {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (¬2)،وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرَّب إليّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إلي ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)) (¬3)، والله المستعان (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، 4/ 403، وإسناده جيد، وغيره، وانظر: صحيح الجامع، 3/ 233، وصحيح الترغيب والترهيب للألباني، 1/ 19. (¬2) سورة البقرة، الآية: 152. (¬3) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري واللفظ له، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ}، 8/ 216، برقم 7405، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله، 4/ 2061، برقم 2675. (¬4) انظر ما تقدم في: منهاج القاصدين، ص221 - 223، وكتاب الإخلاص لحسين العوايشة، ص41 - 64، والرياء ذمه وأثره السيئ في الأمة لسليم الهلالي، ص61 - 72، والإخلاص والشرك الأصغر للدكتور عبد العزيز بن عبد اللطيف، ص13.

الرابع عشر: عدم الطمع فيما في أيدي الناس

الرابع عشر: عدم الطمع فيما في أيدي الناس؛ فإن الإخلاص لا يجتمع في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما في أيدي الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس مما في أيدي الناس، ويسهِّل ذبح الطمع العلم يقينًا أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يُؤتي العبد منها شيئًا سواه (¬1). الخامس عشر: معرفة ثمرات الإخلاص وفوائده وعواقبه الحميدة في الدنيا والآخرة، ومن ذلك أن الإخلاص سبب لنصر الأمة، والنجاة من عذاب الله، ورفْع المنزلة والدرجة في الدنيا والآخرة، والسلامة من الضلال في الدنيا، والفوز بحب الله للعبد، وحب أهل السماء والأرض، والصِّيت الطيِّب، وتفريج كروب الدنيا والآخرة، والطمأنينة والشعور بالسعادة والتوفيق، وتحمّل المتاعب والمصاعب، وتزيين الإيمان في القلوب، واستجابة الدعاء، والنعيم في القبر والتبشير بالسرور، والله الموفق سبحانه (¬2). فالمسلم الذي يريد رضى الله، والفوز بنجاته ومحبة الله له، عليه أن يعمل جاهدًا في تحصيل الإخلاص والفرار من الرياء، أسأل الله أن ¬

_ (¬1) انظر: الفوائد لابن القيم، ص267 - 268. (¬2) انظر: كتاب الإخلاص للعوايشة، ص64 - 66.

يعصمني وإياك وجميع دعاة المسلمين وأئمتهم وعامتهم من هذا البلاء الخطير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الرسالة التاسعة: نور الإسلام وظلمات الكفر

الرسالة التاسعة: نور الإسلام وظلمات الكفر التمهيد: لا شك أن الله تعالى أرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس جميعًا، وسماه نورًا؛ لأنه أنار به الحق، وأظهر به الإسلام، ومحق به الكفر، قال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (¬1)، وبيّن الله سبحانه أنه يهدي بكتابه من اتبع رضوانه طرق السلام، ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، قال - سبحانه وتعالى -: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬2)، وبيّن - سبحانه وتعالى - أن من شرح صدره للإسلام، ومعرفته، والإقرار بوحدانية الله تعالى، والخضوع لطاعته، فهو على نور من ربه، وعلى بصيرة مما هو عليه، ويقين بتنوير الحق في قلبه، فهو لذلك الأمر مُتّبع، وعمّا نهاه عنه مُنتهٍ، قال سبحانه: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ الله أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (¬4). وسأبين ذلك بالتفصيل والإيجاز في المبحثين الآتيين: ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآيتان: 45 - 46. (¬2) سورة المائدة، الآيتان: 15 - 16. (¬3) سورة الزمر، الآية: 22. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 125.

المبحث الأول: نور الإسلام

المبحث الأول: نور الإسلام المطلب الأول: مفهوم الإسلام الإسلام لغة: الانقياد والإذعان، أما في الشرع، فلإطلاقه حالتان: الحالة الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان، فهو حينئذٍ يُراد به الدين كله: أصوله، وفروعه: من اعتقاداته، وأقواله، وأفعاله، فتبيّن بذلك أن الإسلام عند إطلاقه مفردًا: هو الاعتراف باللسان، والاعتقاد بالقلب، والاستسلام لله في جميع ما قضى وقدَّر، كما ذُكِرَ عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في قوله (¬1): {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2)، وكقوله - عز وجل -: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ} (¬3)، وقوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬4)، وقوله - سبحانه وتعالى -: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬5). فظهر أن الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. الحالة الثانية: أن يطلق الإسلام مقترنًا بذكر الإيمان، فهو حينئذ يراد به الأعمال، والأقوال الظاهرة، وبه يحقن الدم، سواء حصل معه الاعتقاد، ¬

_ (¬1) انظر: مفردات ألفاظ القرآن، للعلامة الراغب الأصفهاني، مادة ((سلم))، ص423، ومعارج القبول، للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، 2/ 595. (¬2) سورة البقرة، الآية: 131. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 19. (¬4) سورة المائدة، الآية: 3. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 85.

المطلب الثاني: مراتب دين الإسلام

أو لم يحصل معه (¬1)؛ كقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (¬2). المطلب الثاني: مراتب دين الإسلام لا شكّ أن أصول الدين التي يجب على كل مسلم معرفتها والعمل بها ثلاثة: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. فالإسلام هو الأصل الثاني من أصول الدين، وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان. وكل مرتبة من هذه المراتب لها أركان على النحو الآتي: أولاً: مرتبة الإسلام، وأركانه خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في جوابه لجبريل - عليه السلام -: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)) (¬3)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: مفردات ألفاظ القرآن، للعلامة الراغب الأصفهاني، مادة ((سلم))، ص423، وجامع العلوم والحكم لابن رجب، 1/ 104، ومعارج القبول، للشيخ حافظ الحكمي، 2/ 596. (¬2) سورة الحجرات: الآية: 14. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان، والإسلام، والإحسان،1/ 37، برقم 8،من حديث عمر - رضي الله عنه -. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((بني الإسلام على خمس))، 1/ 9، برقم 8، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أركان الإسلام ودعائمه العظام، 1/ 45، برقم 16، وانظر: ثلاثة الأصول، للشيخ محمد بن عبد الوهاب المطبوع مع حاشية ابن القاسم، ص25، و47، فقد ذكر لكل ركن من هذه الأركان دليلاً من الكتاب، ودليلاً من السنة.

ثانيا: مرتبة الإيمان

ثانيًا: مرتبة الإيمان، وهو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، وأركانه ستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره؛ لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (¬1). ثالثًا: مرتبة الإحسان، وهو ركن واحد، وهو أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك؛ لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل حينما سأله عن الإحسان فقال: ((أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬2). ولا شكّ أن معنى الإحسان في اللغة: إجادة العمل وإتقانه، وإخلاصه، وفي الشرع: هو ما فسّره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). والمقصود أنه - صلى الله عليه وسلم - فسّر الإحسان بتحسين الظاهر والباطن، وأن يستحضر قُرب الله - عز وجل -، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية، والخوف، والهيبة، والتعظيم، ويوجب النصح في العبادة بتحسينها، وبذل ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه في حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل.

الجهد في إتمامها، وإكمالها (¬1). ولأهمية الإحسان فقد جاء ذكره في القرآن في مواضع: تارة مقرونًا بالإيمان، وتارة مقرونًا بالإسلام، وتارة مقرونًا بالتقوى، وتارة مقرونًا بالعمل. فالمقرون بالإيمان كقول الله - عز وجل -: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬2). والمقرون بالإسلام كقوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} (¬3)، وقوله: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (¬4). والمقرون بالتقوى كقوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (¬5). وقد يذكر مفردًا كقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (¬6)، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله ¬

_ (¬1) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 126،ومعارج القبول، لحافظ الحكمي، 2/ 611، وثلاثة الأصول للشيخ محمد بن عبد الوهاب المطبوع مع حاشية ابن القاسم، ص62،وص65، فقد ذكر لجميع أركان الإيمان، وركن الإحسان دليلاً من الكتاب، ودليلاً من السنة لكل ركن. (¬2) سورة المائدة، الآية: 93. (¬3) سورة البقرة، الآية: 112. (¬4) سورة لقمان، الآية: 22. (¬5) سورة النحل، الآية: 128. (¬6) سورة يونس، الآية: 26.

المطلب الثالث: ثمرات الإسلام ومحاسنه

- عز وجل - في الجنة (¬1)،وهذا مناسب لجعله جزاءً لأهل الإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاءُ ذلك النظر إلى الله عِيانًا في الآخرة (¬2). المطلب الثالث: ثمرات الإسلام ومحاسنه الإسلام له فضائل عظيمة، وآثار حميدة، ونتائج كريمة، منها ما يأتي: أولاً: الإسلام الصحيح يثمر كل خير في الدنيا والآخرة. ثانياً: أعظم أسباب الحياة الطيّبة والسعادة في الدنيا والآخرة. قال الله - عز وجل -: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬3). ثالثاً: الإسلام يخرج الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام والإيمان. رابعاً: الإسلام يغفر الله به جميع الذنوب والسيئات؛ لقول الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (¬4)، وفي حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في قصة إسلامه، قال: ((فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ابسط يمينك، فلأُبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ((مالك يا عمرو؟)) قال: قلت: أردت أن أشترط. قال: ((تشترط بماذا؟))، قلت: أن يُغفَرَ لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم - سبحانه وتعالى -،1/ 163،برقم 180. (¬2) انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 126. (¬3) سورة النحل، الآية: 97. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 38.

خامسا: إذا أحسن المسلم الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في كفره

يهدم ما كان قبله؟)) (¬1). خامساً: إذا أحسن المسلم الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في كفره؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل سأله: ((إذا أحسنتَ في الإسلام لم تُؤاخذ بما عملت في الجاهلية، وإذا أسأتَ في الإسلام أُخذتَ بالأوّل والآخر)) (¬2). سادساً: الإسلام يجمع الله به للعبد حسناته في الكفر والإسلام؛ لحديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ أشياء كنتُ أتحنّثُ بها في الجاهلية، من: صدقةٍ، وعتاقٍ، وصلة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسلمتَ على ما سلفَ لك من خيرٍ)) (¬3). سابعاً: الإسلام يُدخل الله به الجنة، ففي حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رسالته، وعن الصلوات الخمس، والزّكاة، والصّوم، والحجّ، وهذه أركان الإسلام، فقال الرجل: والذي بعثك بالحقّ لا أزيد عليهنّ، ولا أنقص منهنّ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لئن صدق ليدخلنَّ الجنة)) (¬4). ثامناً: سبب في النجاة من النار، فقد ثبت في حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ((كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: ((أسلم))، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطِعْ أبا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسلام يهدم ما قبله، 1/ 112، برقم 121. (¬2) أخرجه أحمد في المسند،1/ 379،وصححه أحمد محمد شاكر في شرحه للمسند،5/ 309،برقم 3596. (¬3) البخاري، كتاب الزكاة، باب من تصدق في الشرك ثم أسلم، 2/ 146، برقم 1436، ورقم 2220، و2538، و5992. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام، 1/ 41، برقم 12، وانظر: حديث رقم 13، في الكتاب نفسه.

تاسعا: الفلاح والفوز العظيم من ثمرات الإسلام

القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمَ، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار)) (¬1). وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنّه لا يدخل الجنة إلاّ نفسٌ مسلمةٌ، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) (¬2). تاسعاً: الفلاح والفوز العظيم من ثمرات الإسلام، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قد أفلح مَنْ أسلمَ، ورُزِقَ كفافًا، وقَنَّعه الله بما آتاه)) (¬3). عاشراً: الإسلام يضاعف الله به الحسنات، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتبُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة تكتب له بمثلها حتى يلقى الله)) (¬4). الحادي عشر: يكون العمل القليل كثيرًا بالإسلام الصحيح؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل جاء إليه مقنّع بالحديد، فقال: يا رسول الله، أُقاتلُ أو أسلمُ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسلمْ ثم قاتلْ))، فأسلم ثم قاتل فَقُتِلَ، ¬

_ (¬1) البخاري، في كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام، 2/ 118، برقم 1356. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد، بابٌ: إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر، برقم 3062، وكتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 5/ 89، برقم 4203، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 105، برقم 111. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الكفاف والقناعة، 2/ 730، برقم 1054. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إذا همّ العبد بحسنة كتبت، وإذا همّ بسيئة لم تكتب،1/ 118، برقم 129.

الثاني عشر: الخير كله في الإسلام، ولا خير في العرب ولا في العجم إلا بالإسلام

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عَمِل قليلاً وأُجر كثيرًا)) (¬1). الثاني عشر: الخير كله في الإسلام، ولا خير في العرب، ولا في العجم إلا بالإسلام، وقد ثبت في الحديث: ((أيما أهل بيتٍ من العرب أو العجم أراد الله بهم خيرًا أدخل عليهم الإسلام)) (¬2). الثالث عشر: الإسلام يثمر الخيرات والبركات في الدنيا والآخرة، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً يُعطَى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسناتِ ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها)) (¬3). الرابع عشر: الإسلام يشرح الله به صدر صاحبه، قال الله - عز وجل -: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (¬4). الخامس عشر: الإسلام يثمر النور لصاحبه في الدنيا والآخرة، قال الله - عز وجل -: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ الله أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث البراء - رضي الله عنه -، البخاري كتاب الجهاد والسير، بابٌ: عمل صالح قبل الجهاد، 3/ 371، برقم 2808، واللفظ له، ومسلم كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، 3/ 1509، برقم 1900. (¬2) أحمد في المسند، 3/ 477، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 34، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 51. (¬3) صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا، 4/ 2162، برقم 2808. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 125. (¬5) سورة الزمر، الآية: 22.

السادس عشر: الإسلام يجعل لصاحبه المكانة العالية عند الله

السادس عشر: الإسلام يجعل لصاحبه المكانة العالية عند الله - عز وجل -، فقد ثبت عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَزَوال الدنيا أهونُ على الله من قتل رجلٍ مسلم)) (¬1). السابع عشر: الإسلام الكامل يثمر لصاحبه حلاوة الإيمان، فعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ثلاث مَنْ كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: مَنْ كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار)) (¬2). وعن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ذاق طعم الإيمان: من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً)) (¬3) - صلى الله عليه وسلم -. الثامن عشر: الإسلام صراط الله المستقيم، ومن سلكه كان من الفائزين، فعن النوَّاس بن سمعان - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ضرب الله مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مُفتحة، وعلى الأبواب ستور مُرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجُّوا، وداعٍ يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك لا ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن، 4/ 16، برقم 1395، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 56. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان، 1/ 13، برقم 21، ومسلم، كتاب الإيمان، باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، 1/ 66، برقم 43. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً فهو مؤمن، 1/ 62، برقم 34.

التاسع عشر: من رضي بالإسلام دينا أرضاه الله في الدنيا والآخرة

تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه، والصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله - عز وجل -، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم)) (¬1)، زاد الترمذي: {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬2). التاسع عشر: من رضي بالإسلام دينًا أرضاه الله في الدنيا والآخرة، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال حين يُمسي وحين يُصبح: رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا ثلاث مرات إلاّ كان حقًا على الله أن يرضيه)) (¬3). العشرون: الإسلام هو الدين الذي كمَّله الله ورضيه، فختم به الأديان، قال الله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬4). الحادي والعشرون: الإسلام يأمر بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شر وضرر، فما من مصلحة دقيقة ولا جليلة إلا أرشد إليها، ولا خير إلا ¬

_ (¬1) أحمد في المسند، 4/ 182، 183، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 73، والترمذي، في كتاب الأمثال، باب ما جاء في مثل الله لعباده، 5/ 144، برقم 2859، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، 1/ 67. (¬2) سورة يونس، الآية: 25. (¬3) أحمد في المسند، 4/ 367، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 4، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 68، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 518، وأبو داود، برقم 5072، والترمذي، برقم 3389، وحسنه ابن باز في تحفة الأخيار، ص39. (¬4) سورة المائدة، الآية: 3.

الثاني والعشرون: اختص الإسلام بخصائص عظيمة كريمة منها:

دلَّ عليه، ولا شرٍّ إلا حذّر منه: فهو يأمر بتوحيد الله، والإيمان به، ويحثّ على العلم والمعرفة، ويأمر بالعدل والصّدق في الأقوال والأفعال، وبالبرّ والصِّلة والإحسان إلى الأقارب والجيران والأصحاب وجميع الخلق، وينهى عن الكذب، والظلم، والقسوة، والعقوق، والبخل، وسوء الخلق، ويأمر بالوفاء، وينهى عن الغدر، والغشِّ، ويأمر بالنّصح، والاجتماع، والتآلف، والتّحابب والإنفاق، وينهى عن التّعادي والتّباغض والافتراق، والمعاملات السيئة، وأكل المال بالباطل، ويأمر بأداء الحقوق، وينهى عن ضدها، ويأمر بكل معروف، وطيِّب، ونافع، ومستحسن شرعًا، وعقلاً، وفطرةً، وينهى عن كل فاحشة، ومنكر، وخبيث شرعًا، وعقلاً، وفطرةً، ويأمر بالتعاون على البر والتقوى، وينهى عن التعاون على الإثم والعدوان، والتعلّق بالمخلوقين والعمل لأجلهم، ويأمر بعبادة الله وحده، ويحفظ الدين، والنفس، والعِرْض، والعقل، والمال، وهذا الدين صالح لكل زمان، ومكان، ولكل أمّةٍ، ونبيُّ هذا الدين محمد - صلى الله عليه وسلم - هو أعلى الخلق في كل صفة كمال إنساني، ولذلك صار سيِّدَ الخلق - صلى الله عليه وسلم - (¬1). الثاني والعشرون: اختصّ الإسلام بخصائص عظيمة كريمة، منها: 1 - الإسلام من عند الله، قال الله - عز وجل - يمدح نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (¬2). 2 - شامل لجميع نظم الحياة، وسلوك الإنسان شمولاً تامًا. ¬

_ (¬1) انظر: وجوب التعاون بين المسلمين، للسعدي، ص22. (¬2) سورة النجم، الآيتان: 3 - 4.

3 - عام لكل مكلف من الجن والإنس في كل زمان ومكان

3 - عام لكلِّ مُكلَّف من الجن والإنس في كل زمان ومكان، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬1). 4 - والإسلام من حيثُ الثواب والعقاب ذو جزاء أخروي، بالإضافة إلى جزائه الدنيوي. 5 - الإسلام يحرص على إبلاغ الناس أعلى مستوى ممكن من الكمال الإنساني، وهذه مثالية الإسلام، ولكنه لا يغفل عن طبيعة الإنسان وواقعه، وهذه هي واقعية الإسلام. 6 - الإسلام وسط: في عقائده، وعباداته، وأخلاقه، وأنظمته، قال الله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬2)، وهذه خصائص جميلة (¬3). المطلب الرابع: نواقض الإسلام نواقض الإسلام كثيرة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في باب حكم المرتدّ أن المسلم قد يرتدّ عن دينه بأمور وأنواع كثيرة من النواقض التي تُحلّ دمه وماله، ويكون بها خارجًا من الإسلام، ومن أخطرها وأكثرها وقوعًا عشرة نواقض (¬4): الأول: الشرك في عبادة الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 158. (¬2) سورة البقرة، الآية: 143. (¬3) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله، للمؤلف، ص 117. (¬4) انظر: هذه النواقض في مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص385، ومجموعة التوحيد لشيخي الإسلام أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، ص27، ص28.

الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم

بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (¬1)، وقال سبحانه: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (¬2)، ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجنّ أو للقبر. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، فقد كفر إجماعًا. الثالث: من لم يكفِّر المشركين، أو شكّ في كفرهم، أو صحّح مذهبهم كَفَر. الرابع: من اعتقد أنّ هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أكملُ من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه - كالذين يفضّلون حكم الطواغيت على حكمه - فهو كافر. ويدخل في هذا الناقض: من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنّها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أنها مساوية لها، أو أنه يجوز التحاكم إليها، ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سببًا في تخلّف المسلمين، أو أنه يُحصر في علاقة المرء بربه، دون أن يتدخّل في شؤون الحياة الأخرى، ويدخل فيه أيضًا من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق، أو رجم الزاني المحصن، لا يناسب العصر الحاضر، ويدخل في ذلك أيضًا كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات، أو الحدود، أو غيرهما وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة؛ ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 116. (¬2) سورة المائدة، الآية: 72.

لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرم الله إجماعًا، وكلّ من استباح ما حرم الله مما هو معلوم تحريمه من الدين بالضرورة: كالزنا، والخمر، والربا، والحكم بغير شريعة الله، فهو كافر بإجماع المسلمين. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (¬1). والخلاصة أن الحكم بغير ما أنزل الله فيه تفصيل، وإليك الصواب في ذلك إن شاء الله تعالى: قال الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2). وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬3). وقال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬4). قال طاووس وعطاء: كُفر دون كُفر، وظُلم دون ظُلم، وفسق دون فسق (¬5)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((هي به كُفر، وليس كُفرًا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله)) (¬6). وقال - رضي الله عنه -: ((من جحد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم: فهو ظالم فاسق)) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للعلامة ابن باز، 1/ 137. (¬2) سورة المائدة، الآية: 44. (¬3) سورة المائدة، الآية: 45. (¬4) سورة المائدة، الآية: 47. (¬5) تفسير ابن كثير، 2/ 58، وانظر: تفسير الطبري، 10/ 355 - 358. (¬6) تفسير ابن جرير، 10/ 356. (¬7) المرجع السابق، 10/ 356.

والصواب أن من حكم بغير ما أنزل الله قد يكون مرتدًا، وقد يكون مسلمًا عاصيًا مرتكبًا لكبيرة من كبائر الذنوب؛ فلهذا نجد أن أهل العلم قد قسموا الكلمات الآتية إلى قسمين، وهي كلمة: كافر، وفاسق، وظالم، ومنافق، ومشرك. فكُفر دون كُفر، وظُلم دون ظُلم، وفسوق دون فسوق، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك. فالأكبر يُخرج من الملّة، لمنافاته أصل الدين بالكلّية، والأصغر ينقص الإيمان، ويُنافي كماله، ولا يُخرج صاحبه من الملّة؛ ولهذا فصَّل العلماءُ القول في حكم من حكم بغير ما أنزل الله تعالى: قال سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى: ((من حكم بغير ما أنزل الله فلا يخرج عن أربعة أنواع: 1 - من قال أنا أحكم بهذا لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية، فهو كافر كفرًا أكبر. 2 - ومن قال أنا أحكم بهذا لأنه مثل الشريعة الإسلامية، فالحكم بهذا جائز وبالشريعة جائز، فهو كافر كفرًا أكبر. 3 - ومن قال أنا أحكم بهذا، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل، لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز، فهو كافر كفرًا أكبر. 4 - ومن قال أنا أحكم بهذا، وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز، ويقول: الحكم بالشريعة الإسلامية أفضل، ولا يجوز الحكم بغيرها، ولكنه متساهل، أو يفعل هذا لأمرٍ صادر من حُكَّامه، فهو

الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو عمل به

كافر كفرًا أصغر لا يخرج من الملّة، ويُعتبر من أكبر الكبائر)) (¬1). ولا مُنافاة بين تسمية العمل فسقًا، أو عامله فاسقًا، وبين تسميته مسلمًا وجريان أحكام المسلمين عليه؛ لأنه ليس كل فسق يكون كفرًا، ولا كل ما يسمى كفرًا، وظلمًا، يكون مخرجًا من الملة حتى ينظر إلى لوازمه وملزوماته؛ وذلك لأنَّ كلاً من الكفر، والشرك، والظلم، والفسوق، والنفاق جاءت في النصوص على قسمين: القسم الأول: أكبر يُخرج من الملّة لمنافاته أصل الدين. القسم الثاني: أصغر يُنقص الإيمان ويُنافي كماله، ولا يُخرج صاحبه منه، فكُفر دون كُفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، وفسوق دون فسوق، ونفاق دون نفاق. والفاسق بالمعاصي التي لا تُوجب الكفر لا يخلد في النار، بل أمره مردود إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة برحمته وفضله، وإن شاء عاقبه بقدر الذنب الذي مات مصرًا عليه، ولا يُخلده في النار، بل يُخرجه برحمته، ثم بشفاعة الشافعين، إن كان مات على الإيمان (¬2). الخامس: من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو عمل به كفر ¬

_ (¬1) حدثنا بهذا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وهو مسجل في شريط في مكتبتي الخاصة، وانظر: فتاوى سماحته رحمه الله، 1/ 137، وانظر التفصيل، ومتى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرًا أكبر: كتاب ((نواقض الإيمان القولية والعملية))، للدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف، ص249 - 343. (¬2) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم أصول التوحيد، للشيح حافظ الحكمي، 2/ 423.

السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -

إجماعًا؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ الله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (¬1). السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو ثوابه، أو عقابه، كفر. والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬2). السابع: السحر، ومنه: الصرف (¬3)، والعطف (¬4)، فمن فعله، أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} (¬5). الثامن: مظاهرة (¬6) المشركين، ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬7). التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى - عليه السلام - فهو كافر. العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه، ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 9. (¬2) سورة التوبة، الآيتان: 65 - 66. (¬3) الصرف: عمل سحري يقصد منه تغيير الإنسان وصرفه عما يهواه، كصرف الرجل عن محبة زوجته إلى بغضها. (¬4) العطف: عمل سحري يقصد منه ترغيب الإنسان فيما لا يهواه، فيحبه بطرق شيطانية. (¬5) سورة البقرة، الآية: 102. (¬6) المظاهرة: المناصرة والتعاون معهم على المسلمين. (¬7) سورة المائدة، الآية: 51.

المبحث الثاني: ظلمات الكفر

مُنتَقِمُونَ} (¬1)، ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل، والجادّ، والخائف، إلا المُكره، وكلها أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعًا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (¬2). المبحث الثاني: ظلمات الكفر المطلب الأول: مفهوم الكفر أولاً: الكفر: بالفتح: الستر والتغطية، يُقال: كفر الزارع البذر في الأرض: إذا غطّاه بالتراب. وبالضم: ضِدُّ الإيمان، وكفر نعمة الله، وبها كُفُورًا وكفرانًا: جحدها، وسترها، وكافره حقه: جحده، والمكفَّرُ كَمُعَظَّمٍ: المجحُودُ النِّعمةِ مع إحسانِهِ. وكَافرٌ: جاحدٌ لأنْعُمِ الله تعالى (¬3). فالكفر: هو الستر، وجحود الحق، وإنكاره، والكافر: ضدّ المسلم، والمرتدّ: هو الذي كفر بعد إسلامه؛ بقول، أو فعل، أو اعتقاد، أو شكّ، وحدُّ الكفر الجامع لجميع أجناسه، وأنواعه، وأفراده: هو جحد ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو جحد بعضه، كما أن الإيمان: اعتقاد ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والتزامه، والعمل به جملة وتفصيلاً (¬4)، والكفر هو: أوّل ما ذُكِرَ من المعاصي في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ¬

_ (¬1) سورة السجدة، الآية: 22. (¬2) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام: أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله، ص27، 28، ومؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص385، 387، ومجموعة فتاوى ابن باز، 1/ 135. (¬3) القاموس المحيط، فصل الكاف، باب الراء، والمعجم الوسيط، ص791. (¬4) إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، للسعدي رحمه الله، ص191.

ثانيا: الإلحاد

أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (¬1)، وهو أكبر الكبائر على الإطلاق، فلا كبيرة فوق الكفر (¬2)، والكفر كفران: الكفر الأول: كُفر يُخرج من الملّة، وهو ((الكفر الأكبر)). الكفر الثاني: كفر لا يُخرج من الملّة، وهو ((الكفر الأصغر)) أو كُفر دون كفر (¬3). ثانيًا: الإلحاد: إلحاد ولحود، ولحد القبر كمنع، وألحده، عمل له لحدًا، والميت دفنه، وإليه مال كالْتحد. وألْحدَ مالَ، وعدلَ، ومارَى، وجادل (¬4)، ويلاحظ أن المعاجم الحديثة استعملت كلمة إلحاد، وفسرتها بأنها الكفر. وفَهمُ المفسرين لمادة ((لحد)) في القرآن الكريم، يمكن تلخيصه في أنه الميل عن دين الله إلى درجة الكفر، وفسّروا الإلحاد في سورة الحجّ، بأنه أيّ معصيةٍ في الحرم، ولكن المعصية في الحرم إذا قيست بغيرها في مكان آخر كانت شديدة جدًا (¬5). قال فضيلة الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله: ((الإلحاد هو الميل عن الحق والانحراف عنه بشتى الاعتقادات، والتأويلات، ولذا سُمّي لحد القبر لحدًا، لميله عن وسطه إلى أحد جوانبه، فالمنحرف عن صراط الله، والمعاكس لحكمه بالتأويل الفاسد، وإبداء التشكيك، يُسمَّى ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 6. (¬2) الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة، ص5. (¬3) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام: أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، ص6. (¬4) القاموس المحيط، فصل اللام، باب الدال، والمعجم الوسيط، ص817. (¬5) جهود المفكرين المسلمين المحدثين في مقاومة التيار الإلحادي، ص21.

المطلب الثاني: أنواع الكفر

مُلحدًا ... وأول الناس إلحادًا المشركون الذين اشتقّوا لآلهتهم من أسماء الله، كالّلات، والعُزّى، ومن الإلّ الذي هو الإله ... ثم كلّ من ألحد في أسمائه، وصفاته، وصرفها عن ظاهرها ... فهو ملحد)) (¬1). المطلب الثاني: أنواع الكفر أولاً: الكفر الأكبر المُخرج من الملّة: وهو خمسة أنواع (¬2): النوع الأول: كفر التكذيب، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} (¬3). النوع الثاني: كفر الإباء والاستكبار مع التّصديق، والدليل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (¬4). النوع الثالث: كفر الشك، وهو كفر الظنّ، والدليل قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ ¬

_ (¬1) الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة لعبد الرحمن الدوسري، ص40. (¬2) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 335 - 338. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 68. (¬4) سورة البقرة، الآية: 34.

النوع الرابع: كفر الإعراض

سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} (¬1). النوع الرابع: كفر الإعراض، والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} (¬2). النوع الخامس: كفر النفاق، والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} (¬3). ثانيًا: كفر أصغر لا يُخرج من الملّة: وهو كفر النعمة: والدليل قوله تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (¬4)، والله المستعان (¬5). ومما يدل من السُّنة على الكفر الذي لا يُخرج من الملّة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (¬6)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)) (¬7)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى حائضًا، أو امرأة ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآيات: 35 - 38. (¬2) سورة الأحقاف، الآية: 3. (¬3) سورة المنافقون، الآية: 3. (¬4) سورة النحل، الآية: 112. (¬5) مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ ابن تيمية رحمهما الله، ص6. (¬6) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الأدب، باب ما يُنهى عنه من السباب واللعن، 7/ 110، رقم 6044، ومسلم، في كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))، 1/ 81، برقم 64. (¬7) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: البخاري، كتاب الأدب، باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، 7/ 126، برقم 6104، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال من قال لأخيه المسلم: يا كافر، 1/ 79، 60.

ثالثا: الفروق بين الكفر الأكبر والأصغر:

في دبرها ... فقد كفر بما أُنزل على محمد)) (¬1)، ونظائر ذلك كثيرة. وهذا النوع لا يُبطل الإسلام ولكن يُنقصه ويُضعفه، ويكون صاحبه على خطر عظيم من غضب الله تعالى وعقابه إذا لم يتب، وهو جنس المعاصي التي يعرف صاحبها أنها معاصي، كالزنا، ولكن لا يستحلّها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه ثم أدخله الجنة بإيمانه وعمله الصالح وإن شاء غفر له (¬2). ثالثًا: الفروق بين الكفر الأكبر والأصغر: 1 - الكفر الأكبر يُخرج من الملّة، والأصغر لا يُخرج من الملّة. 2 - الكفر الأكبر يُحبط جميع الأعمال، والأصغر لا يُحبطها لكنه يُنقصها. 3 - الكفر الأكبر يُخلّد في النار، والأصغر لا يُخلّد، وهذا إذا دخلها فإن الله قد يعفو عنه. 4 - الكفر الأكبر يُبيح الدم والمال، والكفر الأصغر لا يُبيح الدم والمال. 5 - الكفر الأكبر يُوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين، ولا يجوز للمؤمنين محبته وموالاته، ولو كان أقرب قريب، وأما الكفر الأصغر فإنه لا يمنع الموالاة مطلقًا، بل صاحبه يُحَبُّ ويُوالَى بقدر ما معه من الإيمان، ويُبغض ويُعادَى بقدر ما فيه من العصيان (¬3). ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد، 2/ 408، وصححه الألباني في آداب الزفاف، ص31. (¬2) انظر: فتاوى سماحة العلامة ابن باز، 4/ 20، و45. (¬3) انظر: كتاب التوحيد للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص15.

المطلب الثالث: خطورة التكفير

المطلب الثالث: خطورة التكفير الذي ينبغي أن نؤصّله هنا: أن الحكم بالكفر على إنسان ما حكم خطير، لِمَا يترتب عليه من آثار، هي غاية في الخطر، منها: أولاً: أنه لا يحلّ لزوجته البقاء معه، ويجب أن يفرّق بينها وبينه؛ لأن المسلمة لا يصحُّ أن تكون زوجة لكافر بالإجماع المتيقّن. ثانياً: أن أولاده لا يجوز أن يبقوا تحت سلطانه؛ لأنه لا يُؤتمن عليهم، ويُخشى أن يؤثِّر عليهم بكفره، وبخاصة أن عودهم طريّ؛ وهم أمانة في عنق المجتمع الإسلامي كلّه. ثالثاً: إنه فقد حق الولاية والنصرة من المجتمع الإسلامي بعد أن مرق منه وخرج عليه بالكفر الصريح، والرّدَّة البواح. رابعاً: أنه يجب أن يُحاكم أمام القضاء الإسلامي؛ ليُنفَّذ فيه حكم المرتدّ، بعد أن يُستتاب، وتُزال من ذهنه الشبهات، وتُقام عليه الحجة. خامساً: أنه إذا مات على ردّته لا تُجرى عليه أحكام المسلمين، فلا يُغسّل، ولا يُصلّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُورث، كما أنه لا يرث إذا مات مورِّث له قبله. سادساً: أنه إذا مات على حاله من الكفر يستوجب لعنة الله، وطرده من رحمته، والخلود الأبدي في نار جهنم، وهذه الأحكام الخطيرة تُوجب على من يتصدى للحكم بتكفير أحدٍ من المسلمين، أن يتريَّث مراتٍ ومراتٍ قبل أن يقول ما يقول (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، 6/ 49، وقد قرأتُ هذه المسائل على معالي الشيخ الدكتور صالح الفوزان، في 20/ 6/1417، فأقرّها جزاه الله خيرًا.

المطلب الرابع: أصول المكفرات

سابعاً: أنه لا يُدعى له بالرحمة، ولا يُستغفر له؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬1)، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: ((الكفر حقّ الله ورسوله، فلا كافر إلا من كفَّره الله ورسوله)) (¬2). المطلب الرابع: أصول المكفِّرات أولاً: الكفّار نوعان: النوع الأول: الكفّار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام، ولا انتسبوا للإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من: أُميين، ومشركين، وأهل كتاب، من: يهود ونصارى، ومن: مجوس، وعبدة أوثان، ودهريين، وفلاسفة ... وغيرهم من أصناف الكفار، فهؤلاء الجنس، دلّ الكتاب والسنة، وإجماع المسلمين، على كفرهم، وشقائهم، وخلودهم في النار، وتحريم الجنة عليهم، ولا فرق بين عالمهم وجاهلهم، وأُمِّيهم، وكتابيِّهم، وعوامِّهِم، وخواصِّهِم، وهذا أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام. النوع الثاني: الذين ينتسبون لدين الإسلام، ويزعمون أنهم مؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم يصدر منهم ما يناقض هذا الأصل، ويزعمون بقاءهم على دين الإسلام، وأنهم من أهله، فهؤلاء لتكفيرهم أسباب متعددة ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 113. (¬2) إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، ص198.

ثانيا: جميع المكفرات تدخل تحت نواقض أربعة

ترجع كلها إلى تكذيب الله ورسوله، وعدم التزام دينه ولوازم ذلك (¬1). ثانيًا: جميع المكفِّرات تدخل تحت نواقض أربعة: القول، أو الفعل، أو الاعتقاد، أو الشك والتوقف. قال سماحة العلامة إمام علماء هذا العصر، عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله ورفع درجاته: ((العقيدة الإسلامية لها قوادح، وهذه القوادح قسمان: قسم ينقض هذه العقيدة ويبطلها، ويكون صاحبه كافرًا نعوذ بالله، وقسم ينقص هذه العقيدة ويضعفها: القسم الأول: القوادح المكفِّرة: نواقض الإسلام هي الموجبة للرِّدَّة، هذه تسمى نواقض، والناقض يكون قولاً، ويكون عملاً، ويكون اعتقادًا، ويكون شَكًّا. فقد يرتدُّ الإنسان بقولٍ يقوله، أو بعملٍ يعمله، أو باعتقادٍ يعتقده، أو بشكٍّ يطرؤ عليه، وهذه الأمور الأربعة كلُّها يأتي منها الناقض الذي يقدح في العقيدة ويبطلها، وقد ذَكَرَها أهل العلم في كتبهم، وسَمَّو بابها: ((باب حكم المرتد))، فكلُّ مذهب من مذاهب العلماء، وكلُّ فقيهٍ من الفقهاء ألَّفَ كُتُبًا - في الغالب - عندما يذكر الحدود - يذكر باب حكم المرتدّ، وهو الذي يكفر بعد الإسلام، وهذا مرتدّ، يعني أنه رَجَع عن دين الله وارتدَّ عنه، قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدَّل دينَهُ فاقتلوه)) خرَّجه ¬

_ (¬1) انظر: إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأسر الأسباب، للسعدي، ص191 - 193.

1 - الردة بالقول

البخاري في ((الصحيح)) (¬1). وفي ((الصحيحين)) (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه - إلى اليمن، ثم أتْبَعَهُ معاذ بن جبل، فلما قَدِمَ عليه قال: انزل، وألقى له وسادة، وإذا رجلٌ عنده مُوثَق، قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديًّا فأسلم، ثم راجع دينه – دين السَّوء – فتهوَّد، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء الله ورسوله، فقال: اجلس، نعم، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به فَقُتِل. فدلَّ ذلك على أن المرتدّ عن الإسلام يُقتل، إذا لم يتب، يُستتاب فإن تاب ورجع فالحمد لله، وإن لم يرجع وأصرَّ على كفره وضلاله يُقْتَل، ويُعجَّل به إلى النار لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدَّل دينه فاقتلوه)) (¬3). 1 - الرّدّة بالقول: النواقض التي تنقض الإسلام كثيرة، منها قولٌ، مثل: سبّ الله: هذا قولٌ ينقض الدين، وسب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يعني: اللعن، والسّبّ لله ولرسوله، أو العيب، مثل أن يقول: إنَّ الله ظالم، إنَّ الله بخيل، إنَّ الله فقير، إنَّ الله – جل وعلا – لا يعلم بعض الأمور، أو لا يقدر على بعض الأمور، كُلُّ هذه الأقوال رِدَّةٌ عن الإسلام. ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الجهاد، باب: لا يعذَّب بعذاب الله، 4/ 27، برقم 3017. (¬2) متفق عليه من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب استتابة المرتدين، 8/ 64، برقم 6923، ومسلم، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة، 3/ 1456، برقم 1733. (¬3) رواه البخاري، برقم 3017، وتقدم تخريجه.

2 - الردة بالفعل

من انتقص الله، أو سبَّه، أو عابه بشيء فهو كافر مرتدٌّ عن الإسلام – نعوذ بالله – هذه ردّةٌ قولية، إذا سبَّ الله، أو استهزأ به، أو تنقَّصه، أو وصفه بأمرٍ لا يليق، كما تقول اليهود: إن الله بخيل، إن الله فقير ونحن أغنياء، وهكذا لو قال: إن الله لا يعلم بعض الأمور، أو لا يقدر على بعض الأمور، أو نفى صفات الله ولم يؤمن بها، فهذا يكون مرتدًا بأقواله السيئة. أو قال مثلاً: إنَّ الله لم يوجب علينا الصلاة، هذه ردّة عن الإسلام، من قال إن الله لم يوجب الصلاة فقد ارتدَّ عن الإسلام بإجماع المسلمين، إلا إذا كان جاهلاً بعيدًا عن المسلمين لا يعرف، فيُعلَّم، فإنْ أصرَّ كَفَر. وأما إذا كان بين المسلمين، ويعرف أمور الدِّين، فإن قال: ليست الصلاة بواجبة؛ فهذه رِدَّة، يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل. أو قال: الزكاة غير واجبة على الناس، أو قال: صوم رمضان غير واجب على الناس، أو الحج مع الاستطاعة غير واجب على الناس، من قال هذه المقالات كَفَر إجماعًا، ويُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل – نعوذ بالله-. وهذه الأمور ردَّةٌ قولية. 2 - الرّدّة بالفعل: والردة الفعلية: مثل: ترك الصلاة، فكونه لا يصلي، وإن قال: إنها واجبة – لكن لا يصلي – هذه رِدَّة على الأصحِّ من أقوال العلماء؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((العَهْدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تَرَكَها فقد كفر)) رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه بإسناد

صحيح (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (¬2). وقال شَقِيقُ بن عبد الله العُقَيلي التابعي المتّفق على جلالته – رحمه الله -: ((كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفرٌ غير الصلاة)) رواه الترمذي (¬3)، وإسناده صحيح. وهذه ردّةٌ فعلية، وهي ترك الصلاة عمدًا. ومن ذلك: لو استهان بالمصحف الشريف، وقعد عليه مستهينًا به، أو لطَّخه بالنجاسة عمدًا، أو وطأه بقدمه يستهين به، فإنه يرتدّ بذلك عن الإسلام. ومن الرِّدَّة الفعلية: كونه يطوف بالقبور يتقرَّب لأهلها بذلك، أو يصلّي لهم، أو للجنّ، وهذه رِدَّةٌ فعلية. أما دعاؤه إيَّاهم والاستعانة بهم والنذر لهم: فردَّة قولية. أما من طاف بالقبور يقصد بذلك عبادة الله، فهو بدعةٌ قادحةٌ في الدِّين، لا يكون رِدَّة، إنما يكون بدعة قادحة في الدين، إذا لم يقصد التقرّب إليه بذلك، وإنما فعل ذلك تقرّبًا إلى الله سبحانه جهلاً منه. ¬

_ (¬1) المسند، 5/ 346، وسنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، 5/ 14، برقم 2621، وسنن النسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، 1/ 231، 232، برقم 463، وسنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، 1/ 342، برقم 1079، من حديث بريدة - رضي الله عنه -، وانظر: صحيح الترمذي، 3/ 329. (¬2) كتاب الإيمان، باب: بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، 1/ 88، برقم 82. (¬3) السنن، كتاب الإيمان، باب: ما جاء في ترك الصلاة، 5/ 14، برقم 2622.

3 - الردة بالاعتقاد

ومن الكفر الفعلي: كونه يذبح لغير الله ويتقرب لغيره سبحانه بالذبائح، يذبح البعير أو الشاة أو الدجاجة أو البقرة لأصحاب القبور تقربًا إليهم يعبُدُهم بها، أو للجِنِّ يعبدهم بها، أو للكواكب يتقرب إليها بذلك، وهذا ما أُهِلَّ به لغير الله، فيكون ميتةً، ويكون كفرًا أكبر – نسأل الله العافية -. هذه كلُّها من أنواع الردة عن الإسلام والنواقض الفعلية. 3 - الرّدّة بالاعتقاد: ومن أنواع الرّدّة العقدية: التي يعتقدُها بقلبه وإن لم يتكلم، ولم يفعل – بل بقلبه يعتقد – إذا اعتقد بقلبه أنَّ الله جل وعلا فقيرٌ، أو أنه بخيل، أو أنه ظالم، ولو أنه ما تكلم، ولو لم يفعل شيئًا، هذا كفر بمجرد هذه العقيدة بإجماع المسلمين. أو اعتقد بقلبه أنه لا يُوجد بعثٌ ولا نشور، وأن كلَّ ما جاء هذا ليس له حقيقة، أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد جَنَّة أو نار، ولا حياة أخرى، إذا اعتقد ذلك بقلبه، ولو لم يتكلم بشيء، هذا كفرٌ ورِدَّةٌ عن الإسلام – نعوذ بالله –، وتكون أعمالُهُ باطلة، ويكون مصيره إلى النار بسبب هذه العقيدة. وهكذا لو اعتقد بقلبه – ولو لم يتكلم – أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس بصادق، أو أنَّه ليس بخاتم الأنبياء، وأنَّ بعده أنبياء، أو اعتقد أنَّ مُسيلمة الكذَّاب نبيٌّ صادق، فإنه يكون كافرًا بهذه العقيدة. أو اعتقد – بقلبه – أنَّ نوحًا، أو موسى، أو عيسى، أو غيرهم من الأنبياء عليهم السلام أنهم كاذبون، أو أحدًا منهم، فهذا رِدّةٌ عن الإسلام.

أو اعتقد أنه لا بأس أنْ يُدعى مع الله غيره، كالأنبياء أو غيرهم من الناس، أو الشمس والكواكب أو غيرها، إذا اعتقد بقلبه ذلك صار مُرتدًّا عن الإسلام؛ لأن الله تعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (¬1)، وقال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬2)، وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬3)، وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (¬4). وقال: {فَادْعُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬5). وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬6)، والآيات في هذا المعنى كثيرة. فمن زَعَم أو اعتقد أنه يجوزُ أن يُعْبَدَ مع الله غيرُهُ من مَلَكٍ، أو نبيٍّ، أو شجرٍ، أو جِنٍّ، أو غير ذلك فهو كافر وإذا نطق وقال بلسانه ذلك صار كافرًا بالقول والعقيدة جميعًا، وإن فعل ذلك ودعا غير الله، واستغاث بغير الله، صار كافرًا بالقول والعمل والعقيدة جميعًا، نسأل الله العافية. ومما يدخل في هذا ما يفعله عُبَّاد القبور اليوم في كثير من الأمصار من دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وطلب المَدَدِ منهم، فيقول بعضهم: ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 62. (¬2) سورة البقرة، الآية: 163. (¬3) سورة الفاتحة، الآية: 5. (¬4) سورة الإسراء، جزء من الآية: 23. (¬5) سورة غافر، جزء من الآية: 14. (¬6) سورة الزمر، الآية: 65.

4 - الردة بالشك

يا سيدي المَدَدَ المَدَدَ، يا سيدي الغوثَ الغوثَ، أنا بجوارك، اشفِ مريضي، ورُدَّ غائبي وأصلح قلبي. يخاطبون الأموات الذين يُسمّونهم الأولياء، ويسألونهم هذا السؤال، نَسُوا الله وأشركوا معه غيره – تعالى الله عن ذلك -. فهذا كفرٌ قوليٌّ، وعقديٌّ، وفعليّ. وبعضُهم ينادي من مكانٍ بعيد وفي أمصارٍ متباعدة: يا رسول الله انصرني ... ونحو هذا، وبعضهم يقول عند قبره: يا رسول الله اشفِ مريضي، يا رسول الله المدد المدد، انصرنا على أعدائنا، أنت تعلم ما نحن فيه، انصُرنا على أعدائنا. والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب، لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه، هذا من الشرك القولي العملي، وإذا اعتقد مع ذلك أن هذا جائز، وأنه لا بأس به، صار شركًا قوليًّا، وفعليًّا، وعقديًّا، نسأل الله العافية. 4 - الرّدّة بالشك: عَرَضْنَا للرِّدَّة التي تكون بالقول، والرّدّة في العمل، والرّدة في العقيدة، أما الرّدّة بالشكّ، فمثل الذي يقول: أنا لا أدري هل الله حقٌّ أم لا؟ ... أنا شاكٌّ، هذا كافرٌ كُفْرَ شكٍّ، أو قال: أنا لا أعلم هل البعث حقٌّ أم لا؟ أو قال: أنا لا أدري هل الجنة والنار حقٌّ أم لا؟ ... أنا لا أدري، أنا شاكٌّ؟. فمثلُ هذا يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل كافرًا لشكِّه فيما هو معلومٌ من الدِّين بالضرورة، وبالنَّصِّ، والإجماع.

فالذي يشكّ في دينه ويقول: أنا لا أدري هل الله حقٌّ، أو هل الرسول حقٌّ، وهل هو صادق أم كاذب؟ أو قال: لا أدري هل هو خاتم النبيين، أو قال: لا أدري مسيلمة كاذب أم لا؟ أو قال: ما أدري هل الأسود العنسي – الذي ادَّعى النبوة في اليمن – كاذبٌ أم لا؟ هذه الشكوك كلُّها ردَّةٌ عن الإسلام يُستتاب صاحبها، ويُبيَّن له الحقّ، فإن تاب وإلا قُتِل. ومثل لو قال: أشك في الصلاة هل هي واجبةٌ أم لا؟ والزكاة هل هي واجبةٌ أم لا؟ وصيام رمضان هل هو واجبٌ أم لا؟ أو شك في الحج مع الاستطاعة هل هو واجبٌ في العُمُرِ مَرَّةً أم لا؟ فهذه الشكوك كلها كفر أكبر، يُستتاب صاحبها، فإن تاب وآمن وإلا قُتِلَ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدّل دينه فاقتلوه)) رواه البخاري في ((الصحيح)) (¬1). فلا بُدَّ من الإيمان بأنَّ هذه الأمور - أعني الصلاة والزكاة والصيام والحج - كلها حقّ، وواجبة على المسلمين بشروطها الشرعية (¬2). أما الوسوسة العارضة والخطرات، فإنها لا تضرّ إذا دفعها المؤمن، ولم يسكن إليها، ولم تستقرّ في قلبه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)) (¬3). وعليه أن يعمل الآتي: ¬

_ (¬1) ورقمه (3017)، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: القوادح في العقيدة ووسائل السلامة منها لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله، ص27 - 42، بتصرف يسير جدًا. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، 1/ 116.

القسم الثاني: قوادح دون الكفر

1 - يستعيذ بالله من الشيطان. 2 - ينتهي عما يدور في نفسه (¬1). 3 - يقول آمنت بالله ورسله (¬2). القسم الثاني: قوادح دون الكفر: تضعف الإيمان وتنقصه، وتجعل صاحبها معرضًا للنار وغضب الله، لكن لا يكون صاحبها كافرًا، مثل: أكل الربا، وارتكاب المحرَّمات: كالزنا، والبدع، إذا آمن بأن ذلك حرام، ولم يستحلَّه، أما إذا اعتقد أن ذلك حلالٌ صار كافرًا، وغير ذلك مثل الاحتفال بالمولد، وهو ما أحدثه الناس في القرن الرابع وما بعده من الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكون ذلك إضعافًا للعقيدة، إلا إذا كان هناك في المولد استغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذه البدعة تكون من النوع الأول المُخرِج عن الإسلام. ومن النوع الثاني كذلك التطيّر كما يفعل أهل الجاهلية، وقد ردَّ الله عليهم: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} (¬3). فالطيرة شرك دون كفر ... وكذلك الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)) (¬4)، ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 4/ 110، برقم 3276، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، 1/ 120، برقم 134. (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، وما قوله من وجدها، 1/ 119، برقم 134. (¬3) سورة النمل، الآية: 47. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، 3/ 222، برقم 2697. ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ومحدثات الأمور، 3/ 1344، برقم 718.

المطلب الخامس: آثار الكفر وأضراره

انتهى ملخصًا (¬1). المطلب الخامس: آثار الكفر وأضراره الكفر له آثار خطيرة، وأضرار جسيمة، منها ما يأتي: أولاً: شرّ الدنيا والآخرة من أضرار الكفر وآثاره. ثانياً: الكفر يُسبِّب لصاحبه الضّلال، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (¬2). ثالثاً: الكفر الأكبر لا يغفره الله لمن مات عليه، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا} (¬3). رابعاً: الكفر أعظم أسباب الخزي والعار، قال الله - عز وجل -: {وَأَنَّ الله مُخْزِي الْكَافِرِينَ} (¬4). خامساً: يوجب الله لصاحبه النار قال - عز وجل -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (¬5). سادساً: يُحبط جميع الأعمال، قال الله - عز وجل -: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ ¬

_ (¬1) القوادح في العقيدة للعلامة ابن باز وهي محاضرة ألقاها في الجامع الكبير في شهر صفر عام 1403هـ، وهي مسجلة عندي بمكتبتي الخاصة، ثم طبعت والحمد لله تعالى في عام 1416هـ، بعنوان: القوادح في العقيدة ووسائل السلامة منها، اعتنى بنشرها وعرضها على مؤلفها: خالد بن عبد الرحمن الشايع جزاه الله خيرًا. (¬2) سورة النساء، الآية: 167. (¬3) سورة النساء، الآيتان: 168 - 169. (¬4) سورة التوبة، الآية: 2. (¬5) سورة فاطر، الآية: 36.

سابعا: يوجب الخلود في النار

عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} (¬1)، وقال سبحانه: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2)، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} (¬4). سابعاً: يوجب الخلود في النار، قال الله - عز وجل -: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (¬5). ثامناً: يسبب الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، قال الله سبحانه: {إِنَّ الله لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} (¬6). تاسعاً: أعظم أسباب غضب الله وأليم عقابه، قال الله - عز وجل -: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 23. (¬2) سورة المائدة، الآية: 5. (¬3) سورة النور، الآية: 39. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 18. (¬5) سورة البقرة، الآية: 167. (¬6) سورة الأحزاب، الآية: 64. (¬7) سورة النحل، الآية: 106.

عاشرا: الكفر يجعل صاحبه أضيق الناس صدرا

عاشراً: الكفر يجعل صاحبه أضيق الناس صدرًا، قال الله - عز وجل -: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (¬1). الحادي عشر: الكفر يطبع على القلب، قال الله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬2). الثاني عشر: الكفر الأكبر يُبيح الدم والمال عن طريق الجهاد، أو عن طريق ولاة أمر المسلمين. الثالث عشر: الكفر الأكبر يُوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين، ولا يجوز للمؤمنين محبته، ومُوالاته، ولو كان أقرب قريب. الرابع عشر: الكفر الأصغر يُنقص الإيمان ويُضعفه، ويكون صاحبه على خطر عظيم من غضب الله تعا لى وعقابه إذا لم يتب، وهو جنس المعاصي (¬3). وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 125. (¬2) سورة النساء، الآية: 155. (¬3) انظر: فتاوى سماحة العلامة ابن باز، 4/ 20، 45.

الرسالة العاشرة: نور الإيمان وظلمات النفاق

الرسالة العاشرة: نُورُ الإِيمان وظلمات النِّفَاق التمهيد: لاشك أن الله - عز وجل - نصير المؤمنين، يتولاهم بعونه وتوفيقه، ويخرجهم من ظلمات الكفر، والنفاق، والضلال، والجهل، إلى نور العلم، والإِيمان، والهداية، قال - سبحانه وتعالى -: {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} (¬1). وبيّن الله - عز وجل - أن الذين كفروا نصراؤهم الذين يتولونهم ((الطاغوت))، وهم الأنداد، والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله، وكلُّ من عُبِدَ من دون الله وهو راضٍ، وهذه الطواغيت تُخرج من عَبَدَها من نور الإِيمان إلى ظلمات الجهل، والكفر، والنفاق، والغفلة، قال الله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬2). وسأبين ذلك في المبحثين الآتيين: المبحث الأول: نور الإِيمان المطلب الأول: مفهوم الإِيمان أولاً: مفهوم الإِيمان: لغةً واصطلاحاً: الإِيمان لغةً: التصديق، قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} (¬3) أي بمصدّق لنا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، جزء من الآية: 257. (¬2) سورة البقرة، جزء من الآية: 257. (¬3) سورة يوسف، الآية: 17.

وحقيقة الإِيمان: أنه مُركّب من قولٍ وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب، واللسان، والجوارح. فهذه أربعة أمور جامعة لأمور دين الإسلام: الأول: قول القلب: وهو تصديقه، وإيقانه، واعتقاده. الثاني: قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بلوازمها. الثالث: عمل القلب: وهو النيّة، والإخلاص، والمحبّة، والانقياد، والإقبال على الله - عز وجل -، والتوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه. الرابع: عمل اللسان والجوارح: فعمل اللسان ما لا يؤدَّى إلا به: كتلاوة القرآن، وسائر الأذكار، والدعاء، والاستغفار، وغير ذلك. وعمل الجوارح ما لا يؤدَّى إلا بها، مثل: القيام، والركوع، والسجود، والمشي في مرضاة الله، كنقل الخطا إلى المساجد، وإلى الحج، والجهاد في سبيل الله - عز وجل -، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يشمله حديث شعب الإِيمان (¬1). قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: ((الإِيمان ... التصديق الجازم، والاعتراف التام بجميع ما أمر الله ورسوله بالإِيمان به، ¬

_ (¬1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، ص373، ومعارج القبول شرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، للشيخ حافظ الحكمي، 2/ 587 - 591، وأصول وضوابط في التكفير، للعلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، ص 34، وكتاب الإيمان لابن منده، 1/ 300، 341.

ثانيا: الفرق بين الإيمان والإسلام:

والانقياد ظاهراً وباطناً، فهو تصديق القلب، واعتقاده المتضمن لأعمال القلوب، وأعمال البدن، وذلك شامل للقيام بالدين كله؛ ولهذا كان الأئمة والسلف يقولون: الإِيمان: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وهو: قول، وعمل، واعتقاد، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فهو يشمل عقائد الإِيمان، وأخلاقه، وأعماله)) (¬1). ثانياً: الفرق بين الإِيمان والإسلام: في الشرع: أن الإِيمان على حالتين: الحالة الأولى: أن يُطلق الإِيمان على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام، فحينئذٍ يراد به الدين كله، كقوله - عز وجل -: {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} (¬2)، وهذا المعنى هو الذي قصده السلف بقولهم رحمهم الله: ((إن الإِيمان اعتقاد، وقول، وعمل، وإن الأعمال كلها داخلة في مُسمَّى الإِيمان)). والحالة الثانية: أن يطلق الإِيمان مقروناً بالإسلام، وحينئذٍ يُفَسَّر الإِيمان بالاعتقادات الباطنة: كالإِيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، كقوله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} (¬3). ¬

_ (¬1) التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، ص9، وانظر: كتاب الإيمان لابن منده، 1/ 341، وفتاوى ابن تيمية، 7/ 505. (¬2) سورة البقرة، الآية: 257. (¬3) سورة النساء، الآية:57.

المطلب الثاني: طرق تحصيل الإيمان وزيادته

ويُفسَّر الإسلام بأعمال الجوارح الظاهرة: كالنطق بالشهادتين والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغير ذلك من الأعمال (¬1) , كقوله - عز وجل -: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬2) الآية، فالإِيمان والإسلام إذا افترقا اجتمعا، وإن اجتمعا افترقا، وذلك كالفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كان لكل واحدٍ مسمى يخصه (¬3). المطلب الثاني: طرق تحصيل الإِيمان وزيادته الإِيمان كمال العبد، وبه ترتفع درجاته في الدنيا والآخرة، وهو السبب والطريق لكل خيرٍ عاجلٍ وآجلٍ، ولا يحصل ولا يقوى، ولا يتمّ إلا بمعرفة ما منه يستمدّ؛ فإنه يحصل ويقوى ويزيد بأمور كثيرة، منها: أولاً: معرفة أسماء الله الحسنى، الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبُّد لله بها، قال الله - عز وجل -: {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬4) , وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله تسعاً وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة)) (¬5)، أي من حفظها، وفهم معانيها، واعتقدها، وتعبَّد لله بها، دخل ¬

_ (¬1) انظر فتاوى ابن تيمية، 7/ 13 - 15، و551 - 555، ومعارج القبول، للشيخ حافظ الحكمي، 2/ 597 - 608. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 35. (¬3) انظر فتاوى ابن تيمية، 7/ 551، 575 - 623، وجامع العلوم والحكم، لابن رجب، 1/ 104. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 180. (¬5) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الشروط، باب ما يجوز في الاشتراط والثنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم، 3/ 242، برقم 2736، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، 4/ 2063، واللفظ له.

ثانيا: تدبر القرآن على وجه العموم

الجنة، فَعُلِمَ أن ذلك أعظم ينبوع الإِيمان، ومادّة لحصوله، وقوته، وثباته؛ ومعرفة أسماء الله - عز وجل -: هي أصل الإِيمان، وتتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي روح الإِيمان، وأصله وغايته، فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه، وقوي يقينه، فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومُستطاعه في معرفة الأسماء والصفات، بلا تمثيلٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تحريفٍ (¬1). ثانياً: تدبّر القرآن على وجه العموم، فإن المتدبِّر لا يزال يستفيد من علوم القرآن، ومعارفه ما يزداد به إيماناً، وكذلك إذا نظر إلى انتظامه وأحكامه، وأنه يُصدِّق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً، ليس فيه تناقض ولا اختلاف، إذا فعل ذلك تيقَّن أنه من عند الله، وهذا من أعظم مقويّات الإِيمان (¬2). ثالثاً: معرفة أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما تدعو إليه من علوم الإِيمان، وأعماله، كل ذلك من مُحصِّلات الإِيمان ومقويّاته، فكلّما ازداد العبد معرفة بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ازداد إيمانه ويقينه. رابعاً: معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة؛ فإن من عرفه حق المعرفة لم يَرْتَبْ في صدقه، ¬

_ (¬1) انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للعلامة السعدي، ص40. (¬2) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم،2/ 28،والتوضيح والتبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص41.

خامسا: التفكر في الكون

وصدق ما جاء به من الكتاب والدين الحق. خامساً: التفكر في الكون: في خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان وما هو عليه من الصفات؛ فإن ذلك داعٍ قويٌّ للإيمان؛ لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدالة على قدرة خالقها، وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام، والإحكام الذي يُحيِّر العقول، وكذلك النظر إلى فقر المخلوقات كلِّها، واضطرارها إلى ربها من كل الوجوه، وأنها لا تستغني عنه طرفة عين، وذلك يوجب للعبد كمال الخضوع، وكثرة الدعاء، والافتقار إلى الله، والتضرّع إليه في جلب ما يحتاجه من منافع دينه ودنياه، ودفع ما يضرّه في دينه ودنياه، ويوجب له قوة التوكل على ربه، وكمال الثقة بوعده، وشدّة الطّمع في برّه وإحسانه، وبهذا يتحقق الإِيمان ويقوى. وكذلك التفكر في كثرة نعم الله العامّة والخاصّة التي لا يخلو منها مخلوق طرفة عين. سادساً: الإِكثار من ذكر الله كل وقت، ومن الدعاء الذي هو العبادة؛ فإن الذكر يغرس شجرة الإِيمان في القلب، ويُغذِّيها، ويقوّيها، وكلّما ازداد العبد ذكراً لله قوي إيمانه، ويكون الذكر على كلّ حال: باللسان، والقلب، والعمل، والحال؛ فنصيب العبد من الإيمان على قدر نصيبه من هذا الذكر. سابعاً: معرفة محاسن الإسلام؛ فإن الدين الإسلامي كله محاسن: عقائده أصحّ العقائد، وأصدقها، وأنفعها، وأخلاقه أجمل الأخلاق،

ثامنا: الاجتهاد في الإحسان في عبادة الله - عز وجل -

وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها، وبهذا النظر يزيّن الله الإيمان في قلب العبد، ويحبّبه إليه، فيجد حلاوة الإيمان، فيتجمّل الباطن بأصول الإيمان، وحقائقه، ويتجمّل الظاهر بأعمال الإيمان. ثامناً: الاجتهاد في الإِحسان في عبادة الله - عز وجل -، والإِحسان إلى خلقه؛ فيجتهد الإِنسان في عبادة الله كأنه يشاهده، فإن لم يقوَ على ذلك استحضر أن الله يشاهده ويراه، فيجتهد في إكمال العمل وإتقانه، وكذلك الإِحسان إلى الخلق: بالقول، والفعل، والمال، والجاه، وأنواع المنافع، فإذا أحسن عبادة الخالق، وأحسن إلى خلقه، وواظب على ذلك قوي إيمانه، ويقينه، ويصل ذلك إلى حقِّ اليقين، الذي هو أعلى مراتب اليقين، فيذوق حلاوة الطاعات، ويجد ثمرة المعاملات، وهذا هو الإيمان الكامل. تاسعاً: الاتّصاف بصفات المؤمنين؛ من الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها، وأداء الزكاة، والإِعراض عن اللغو الذي هو كلُّ كلامٍ لا خير فيه، وكل فعلٍ لا خير فيه، بل يقول المسلم الخير، ويفعله، ويترك الشرّ: قولاً، وفعلاً، لاشكّ أن ذلك كله يزيد الإيمان، ويقوِّيه، وكذلك العِفَّة عن الفواحش، ورعاية الأمانات والعهود، وحفظها من علامات الإيمان. عاشراً: الدعوة إلى الله وإلى دينه، والتّواصي بالحقّ والتواصّي بالصّبر، والدعوة إلى أصل الدين، والتزام شرائعه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبذلك يُكَمِّل العبد نفسه، ويكمِّل غيره. الحادي عشر: الابتعاد عن شُعَبِ الكفر والنفاق، والفسوق والعصيان؛ فإنه لابدّ في الإيمان من فعل جميع الأسباب المقويّة المنميّة له، ولابدّ مع

الثاني عشر: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض

ذلك من دفع الموانع والعوائق، وهي الإقلاع عن المعاصي، والتوبة مما يقع منها، وحفظ الجوارح كلها عن المحرمات، ومقاومة فتن الشبهات القادحة في علوم الإيمان المضعفة له، والشهوات المضعفة لإرادات الإيمان. الثاني عشر: التقرُّب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وتقديم كل ما يحبّه الله على ما سواه عند غَلَبة الهوى. الثالث عشر: الخلوة بالله وقت نزوله؛ لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدّب بآداب العبودية بين يديه، ثم خَتْمُ ذلك بالاستغفار والتوبة. الرابع عشر: مجالسة العلماء الصادقين المخلصين؛ وانتقاء أطايب ثمرات كلامهم كما يُنتقى أطايب الثمر (¬1). المطلب الثالث: ثمرات الإيمان وفوائده الإيمان له فوائد وثمرات لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، فكم له من ذلك في القلب، والبدن، والراحة، والحياة الطيّبة، في الدنيا والآخرة، ومُجملها أن خيرات الدنيا والآخرة، ودفع الشرور كلّها من ثمرات الإيمان، ومن هذه الثمرات والفوائد ما يأتي: أولاً: الاغتباط بولاية الله - عز وجل -، قال الله - عز وجل -: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 3/ 17، والتوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص40 - 62.

ثانيا: الفوز برضا الله

يَتَّقُونَ} (¬1) , وقوله - عز وجل -: {الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} (¬2) أي: يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعات، ومن ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة والذكر. ثانياً: الفوز برضا الله، قال الله - عز وجل -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (¬3) , فنالوا رضوان الله ورحمته، والفوز بهذه المساكن الطيبة، بإيمانهم الذي كمَّلوا به أنفسهم، وكمَّلوا غيرهم بقيامهم بطاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحصلوا على أعظم الفوز والفلاح. ثالثاً: الإيمان الكامل يمنع من دخول النار، والإيمان الضعيف يمنع من الخلود فيها، فإنّ من آمن إيماناً أدّى به جميع الواجبات، وترك جميع المحرَّمات؛ فإنه لا يدخل النار، كما أنه لا يُخلّد في النار من كان في قلبه شيء من الإيمان. ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآيتان: 62 - 63. (¬2) سورة البقرة, الآية: 257. (¬3) سورة التوبة، الآيتان: 71 - 72.

رابعا: إن الله يدافع عن الذين آمنوا جميع المكاره

رابعاً: إن الله يدافع عن الذين آمنوا جميع المكاره، وينجيهم من الشدائد، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1) أي: يدافع عنهم كل مكروه، وشرّ شياطين الإنس والجنّ، ويدافع عنهم الأعداء، ويدافع عنهم المكاره قبل نزولها، ويرفعها أو يخفّفها بعد نزولها، قال الله - عز وجل -: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). وقال - عز وجل -: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). وقال - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (¬4). وقال - عز وجل -: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا} (¬5) , أي من كل ما ضاق على الناس {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬6)، فالمؤمن المتقي يُيسِّر الله له أموره، ويُيسِّره لليُسرَى، ويجنِّبه العُسْرَى، ويُسهِّل عليه الصعاب، ويجعل له من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وشواهد هذا كثيرة من الكتاب والسنة. ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 38. (¬2) سورة الأنبياء، الآيتان: 87 - 88. (¬3) سورة يونس، الآية: 103. (¬4) سورة الصافات، الآيات: 171 - 173. (¬5) سورة الطلاق، الآية: 2. (¬6) سورة الطلاق، الآية: 4.

خامسا: الإيمان يثمر الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة

خامساً: الإيمان يثمر الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، قال الله - عز وجل -: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1)، وذلك أنه من خصائص الإيمان أنه يثمر طمأنينة القلب، وراحته، وقناعته بما رزقه الله، وعدم تعلقه بغيره، وهذه هي الحياة الطيّبة، فإن أصل الحياة الطيّبة: راحة القلب وطمأنينته، وعدم تشوّشه مما يتشوّش منه الفاقد للإيمان الصحيح (¬2) , والحياة الطيّبة تشمل: الرِّزق الحلال الطيِّب، والقناعة، والسعادة، ولذَّة العبادة في الدنيا، والعمل بالطاعة والانشراح بها (¬3). قال الإمام ابن كثير: ((والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله)) (¬4) , قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافاً، وقنَّعه الله بما آتاه)) (¬5) , وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يظلم المؤمن حسنةً يُعطى بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسناتِ ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها)) (¬6). سادساً: إن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمل بحسب ما يقوم ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 97. (¬2) التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص68. (¬3) انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 2/ 566. (¬4) المرجع السابق، 2/ 566. (¬5) مسلم، كتاب الزكاة، باب الكفاف والقناعة, 2/ 730، برقم 1054. (¬6) مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا، 4/ 2162، برقم 2808.

سابعا: صاحب الإيمان يهديه الله إلى الصراط المستقيم

بقلب صاحبها؛ من الإيمان والإخلاص، قال الله - عز وجل -: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} (¬1) , أي لا يُجحد سعيه، ولا يضيع عمله، بل يُضاعف بحسب قوة إيمانه، وقال - عز وجل -: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (¬2) , والسعي للآخرة، هو العمل بكل ما يقرب إليها من الأعمال التي شرعها الله على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. سابعاً: صاحب الإيمان يهديه الله إلى الصراط المستقيم، ويهديه في الصراط المستقيم إلى علم الحقّ، والعمل به، وإلى تلقّي المحابّ والمسارّ بالشكر، وتلقّي المكاره والمصائب بالرّضا والصّبر، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} (¬3) , قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((يُحتمل أن تكون الباء هنا سببية، فتقديره: أي بحسب إيمانهم في الدنيا، يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم، حتى يجوزوه، ويخلصوا إلى الجنة، ويُحتمل أن تكون للاستعانة))، كما قال مجاهد: ((يهديهم ربهم بإيمانهم)) قال: ((يكون لهم نوراً يمشون به)) (¬4) , وقيل: يُمثّل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة، إذا قام من قبره يُعارض صاحبه، ويُبشّره بكل خير، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 94. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 19. (¬3) سورة يونس، الآية: 9، وانظر: سورة الحج، الآية: 54، وانظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص70. (¬4) تفسير القرآن العظيم، 2/ 390.

ثامنا: الإيمان يثمر محبة الله للعبد ويجعل محبته في قلوب المؤمنين

عملك، فيجعل له نوراً من بين يديه، حتى يُدخله الجنة (¬1). ثامناً: الإيمان يثمر محبّة الله للعبد، ويجعل محبّته في قلوب المؤمنين، ومن أحبّه الله، وأحبّه المؤمنون حصلت له السعادة، والفلاح، والفوائد الكثيرة من محبّة المؤمنين: من الثناء الحسن، والدعاء له حيّاً وميتاً، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (¬2). تاسعاً: حصول الإمامة في الدين، وهذا من أجمل ثمرات الإيمان، أن يجعل الله للمؤمنين الذين كملوا إيمانهم بالعلم والعمل لسان صدق، ويجعلهم أئمةً يهدون بأمره، ويُقتدى بهم، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬3) , فبالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين؛ لأن رأس الإيمان وكماله: الصبر واليقين. عاشراً: حصول رفع الدرجات، قال الله - عز وجل -: {يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} (¬4)، فهم أعلى الخلق درجة عند الله، وعند عباده في الدنيا والآخرة، وإنما نالوا هذه الرفعة بإيمانهم الصحيح، وعلمهم ويقينهم. الحادي عشر: حصول البشارة بكرامة الله والأمن التام من جميع الوجوه، كما قال - عز وجل -: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬5) ,فأطلقها ليعمَّ الخير العاجل والآجل، ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، 15/ 27، وأسنده إلى قتادة. (¬2) سورة مريم، الآية: 96. (¬3) سورة السجدة، الآية: 24. (¬4) سورة المجادلة، الآية: 11. (¬5) سورة البقرة، الآية: 223، وسورة التوبة، الآية: 112، وسورة يونس، الآية: 87، وسورة الأحزاب، الآية: 47، وسورة الصف، الآية: 13.

الثاني عشر: يحصل بالإيمان الثواب المضاعف

وقيّدها في مثل قوله - عز وجل -: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} (¬1) ,فلهم البشارة المُطلقة والمُقيّدة، ولهم الأمن المطلق في الدنيا والآخرة في مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬2)، ولهم الأمن المقيد في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬3) , فنفى عنهم الخوف لما يستقبلونه، والحزن مما مضى، وبذلك يتمُّ لهم الأمن، فالمؤمن له الأمن التام في الدنيا والآخرة، وله البشارة بكلّ خير (¬4). الثاني عشر: يحصل بالإيمان الثواب المضاعف، وكمال النور الذي يمشي به العبد في حياته، ويمشي به يوم القيامة، ففي الدنيا: يسير بنور علمه وإيمانه، وإذا طفئت الأنوار يوم القيامة مشى بنوره على الصراط حتى يجوز به إلى دار الكرامة والنعيم، وكذلك رتَّب الله المغفرة على الإيمان، ومن غفر سيئاته سلم من العقاب، ونال أعظم الثواب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬5). الثالث عشر: حصول الفلاح والهدى للمؤمنين بسبب إيمانهم، قال الله ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 25. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 82. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 48. (¬4) انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص77 - 88. (¬5) سورة الحديد, الآية: 28، وانظر: سورة الأنفال، الآية:29.

الرابع عشر: الانتفاع بالمواعظ من ثمرات الإيمان

- عز وجل - بعد ذكره إيمان المؤمنين بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما أنزل على من قبله، والإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1) , فهذا هو الهدى التامّ، والفلاح الكامل، فلا سبيل إلى الهدى والفلاح إلا بالإيمان التامّ. الرابع عشر: الانتفاع بالمواعظ من ثمرات الإيمان، قال الله - عز وجل -: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2) , وهذا؛ لأن الإيمان يحمل صاحبه على التزام الحق، واتباعه، علماً وعملاً، ومعه الآلة العظيمة، والاستعداد لتلقّي المواعظ النافعة، وليس عنده مانع يمنعه من قبول الحق، ولا من العمل به. الخامس عشر: الإيمان يحمل صاحبه على الشكر في حالة السرَّاء، والصبر في حالة الضرَّاء، وكسب الخير في كلّ أوقاته، قال الله - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬3) , وقال - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬4) , ولو لم يكن من ثمرات الإيمان إلا أنه يُسلِّي صاحبه عن المصائب والمكاره التي كلُّ أحدٍ عرضة لها في كل وقت، ومصاحبة الإيمان واليقين أعظم مسلٍّ عنها؛ قال النبي ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 5. (¬2) سورة الذاريات، الآية: 55. (¬3) سورة الحديد، الآيتان: 22 - 23. (¬4) سورة التغابن، الآية: 11.

السادس عشر: الإيمان الصحيح يدفع الريبة والشك

- صلى الله عليه وسلم -: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سرّاءُ شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر، فكان خيراً له)) (¬1) , والشكر والصبر هما جماع كلّ خير، فالمؤمن مغتنم للخيرات في كل أوقاته، رابح في كل حالاته، ويجتمع له عند النّعم والسرّاء، نعمتان: نعمة حصول المحبوب، ونعمة التوفيق للشّكر الذي هو أعلى من ذلك، وبذلك تتمّ عليه النعمة، ويجتمع له عند حصول الضرّاء ثلاث نِعَمٍ: نعمة تكفير السيئات، ونعمة حصول مرتبة الصبر التي هي أعلى من ذلك، ونعمة سهولة الضراء عليه؛ لأنه متى عرف حصول الأجر، والثواب، والتمرّن على الصبر هانت عليه المصيبة (¬2). السادس عشر: الإيمان الصحيح يدفع الريبة والشك، ويقاوم ويقطع جميع الشكوك التي تعرض لكثير من الناس فتضرّهم في دينهم، وليس لعلل الشكوك التي تُلْقيها شياطين الإنس والجنّ، والنّفوس الأمّارة بالسّوء دواء إلا تحقيق الإيمان، قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (¬3). وعلاج هذه الوساوس بأربعة أمور: 1 - الانتهاء عن هذه الوساوس الشيطانية. 2 - الاستعاذة من شرّ من ألقاها، وهو الشيطان. 3 - الاعتصام بعصمة الإيمان فيقول: ((آمنت بالله)). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير، 4/ 2295، برقم 2999. (¬2) انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، ص71، و88. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 15.

السابع عشر: الإيمان بالله عز وجل ملجأ المؤمنين في كل ما يلم بهم

4 - الانتهاء عن التفكير فيها (¬1). السابع عشر: الإيمان بالله - عز وجل - ملجأ المؤمنين في كل ما يلمُّ بهم: من سرور، وحزن، وخوفٍ، وأمنٍ، وطاعة، ومعصية، وغير ذلك من الأمور التي لابدّ لكل أحد منها، فعند المحابّ والسّرور يلجؤون إلى الإيمان، فيحمدون الله، ويُثنون عليه، ويستعملون النعم فيما يحبّ، وعند المكاره والأحزان يلجؤون إلى الإيمان من جهات عديدة: يتسلَّون بإيمانهم وحلاوته، ويتسلَّون بما يترتّب على ذلك, من الثواب، ويقابلون الأحزان والقلق براحة القلب، والرجوع إلى الحياة الطيبة المقاومة للأحزان، ويلجؤون إلى الإيمان عند الخوف، فيطمئنّون إليه ويزيدهم إيماناً، وثباتاً، وقوة، وشجاعة، ويضمحلُّ الخوف الذي أصابهم، كما قال الله تعالى عن الصحابة - رضي الله عنهم -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ الله وَالله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (¬2). الثامن عشر: الإيمان الصحيح يمنع العبد من الوقوع في المُوبقات المُهلكة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ... )) (¬3) ,ومن وقع منه ذلك؛ فلضعف إيمانه، وذهاب نوره، ¬

_ (¬1) انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص83. (¬2) سورة آل عمران، الآيتان: 173 - 174. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه، 3/ 146، برقم 2475، ومسلم واللفظ له، كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بالمعاصي، 1/ 76، برقم 57.

التاسع عشر: خير الخليقة قسمان هم أهل الإيمان

وزوال الحياء من الله، وهذا معروف مُشاهد، والإيمان الصحيح الصادق، يصحبه الحياء من الله، والحبّ له، والرّجاء القويّ لثوابه، والخوف من عقابه، ورغبته في اكتساب النور، وهذه الأمور تأمر صاحبها بكل خير، وتزجره عن كل شرّ. التاسع عشر: خير الخليقة قسمان: هم أهل الإيمان، فعن أبي موسى - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجَّة ريحها طيّب، وطعمها طيّب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلوٌ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيّب وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح، وطعمها مرّ)) (¬1) , فالناس أربعة أقسام: القسم الأول: خير في نفسه، متعدٍ خيره إلى غيره، وهو خير الأقسام، فهذا المؤمن الذي قرأ القرآن، وتعلّم علوم الدين، فهو نافع لنفسه، نافع لغيره، مبارك أينما كان. القسم الثاني: طيّب في نفسه، صاحب خير، وهو المؤمن الذي ليس عنده من العلم ما يعود به على غيره، فهذان القسمان هما خير الخليقة، والخير الذي فيهم عائد إلى ما معهم من الإيمان القاصر، والمتعدي نفعه إلى الغير بحسب أحوال المؤمنين. القسم الثالث: من هو عادم للخير، ولكنه لا يتعدَّى ضرره إلى غيره. ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب فضيلة حافظ القرآن، 1/ 549، برقم 797.

القسم الرابع: من هو صاحب شر على نفسه وعلى غيره

القسم الرابع: من هو صاحب شر على نفسه وعلى غيره، فهذا شرّ الأقسام. فعاد الخير كله إلى الإيمان وتوابعه، وعاد الشر إلى فقد الإيمان والاتّصاف بضدِّه (¬1). العشرون: الإيمان يثمر الاستخلاف في الأرض، قال الله - عز وجل -: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬2). الحادي والعشرون: الإيمان ينصر الله به العبد، قال الله - عز وجل -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). الثاني والعشرون: الإيمان يثمر للعبد العزّة، قال الله - عز وجل -: {وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (¬4). الثالث والعشرون: الإيمان يثمر عدم تسليط الأعداء على المؤمنين، قال الله - عز وجل -: {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (¬5). الرابع والعشرون: الأمن التامّ والاهتداء، قال الله - عز وجل -: {الَّذِينَ آمَنُواْ ¬

_ (¬1) انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للسعدي، ص63 - 90. (¬2) سورة النور، الآية: 55. (¬3) سورة الروم، الآية: 47. (¬4) سورة المنافقين، الآية: 8. (¬5) سورة النساء، الآية: 141.

الخامس والعشرون: حفظ سعي المؤمنين

وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬1). الخامس والعشرون: حفظ سعي المؤمنين؛ قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} (¬2). السادس والعشرون: زيادة الإيمان للمؤمنين؛ قال الله - عز وجل -: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (¬3). السابع والعشرون: نجاة المؤمنين، قال الله - عز وجل - في قصة يونس: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬4). الثامن والعشرون: الأجر العظيم لأهل الإيمان، قال الله - عز وجل -: {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬5). التاسع والعشرون: معيّة الله لأهل الإيمان، وهي المعية الخاصة: معية التوفيق والإلهام والتسديد، قال الله - عز وجل -: {وَأَنَّ الله مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬6). الثلاثون: أهل الإيمان في أمنٍ منَ الخوف والحزن، قال الله - عز وجل -: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 82. (¬2) سورة الكهف، الآية: 30. (¬3) سورة التوبة، الآية: 124. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 88. (¬5) سورة النساء، الآية: 146. (¬6) سورة الأنفال، الآية: 19.

الحادي والثلاثون: الأجر الكبير

{فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1). الحادي والثلاثون: الأجر الكبير: قال الله - عز وجل -: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (¬2). الثاني والثلاثون: الأجر غير الممنون، قال الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (¬3). الثالث والثلاثون: القرآن إنما هو هُدىً ورحمةٌ للمؤمنين (¬4) , وشفاءٌ ورحمة (¬5)، وهو لهم هدى وشفاء (¬6). الرابع والثلاثون: أهل الإيمان: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬7). المطلب الرابع: شُعَب الإيمان الإيمان له شُعَبٌ كثيرة، وهذا يدلّ على أن الإيمان إذا أُفرد شمل الدين كله، وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - شُعب الإيمان إجمالاً وتفصيلاً. أمّا الإجمال، فقد ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان))، وفي رواية: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 48. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 9. (¬3) سورة فصلت، الآية: 8. (¬4) انظر: سورة يونس، الآية: 57. (¬5) انظر سورة الإسراء، الآية: 82. (¬6) انظر سورة فصلت، الآية: 24. (¬7) سورة الأنفال، الآية: 4.

1 - الإيمان بالله - عز وجل -

((الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستّون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (¬1). وقد ذكر الإمام أبو بكر البيهقي سبعاً وسبعين شعبة من شعب الإيمان (¬2)، وهذه الشعب باختصار على النحو الآتي: 1 - الإيمان بالله - عز وجل -. 2 - الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام. 3 - الإيمان بالملائكة. 4 - الإيمان بالقرآن الكريم، وجميع الكتب المنزلة. 5 - الإيمان بالقدر خيره وشره من الله - عز وجل -. 6 - الإيمان باليوم الآخر. 7 - الإيمان بالبعث بعد الموت. 8 - الإيمان بحشر الناس بعدما يبعثون من قبورهم إلى الموقف. 9 - الإيمان بأن دار المؤمنين الجنة، ودار الكافرين النار. 10 - الإيمان بوجوب محبة الله - عز وجل -. 11 - الإيمان بوجوب الخوف من الله - عز وجل - (¬3). 12 - الإيمان بوجوب الرجاء من الله - عز وجل -. ¬

_ (¬1) متفق عليه، واللفظ لمسلم: البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، 1/ 10، برقم 9، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان، 1/ 63، برقم35. (¬2) ذكر ذلك في سبعة مجلدات، وشرحها شرحاً نفيساً بالأحاديث بسنده. (¬3) هذه الشعب في المجلد الأول من شعب الإيمان للبيهقي، 1/ 103 - 463.

13 - الإيمان بوجوب التوكل على الله - عز وجل -

13 - الإيمان بوجوب التوكل على الله - عز وجل -. 14 - الإيمان بوجوب محبّة النبي - صلى الله عليه وسلم -. 15 - الإيمان بوجوب تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتبجيله، وتوقيره بدون غلوّ. 16 - حبّ المرء لدينه حتى يكون القذف في النار أحبّ إليه من الكفر. 17 - طلب العلم: وهو معرفة الله، ودينه، ونبيّه - صلى الله عليه وسلم - بالأدلّة. 18 - نشر العلم، وتعليمه للناس. 19 - تعظيم القرآن الكريم: بتعلّمه، وتعليمه، وحفظ حدوده، وأحكامه، وعلم حلاله، وحرامه، وتبجيل أهله، وحفظه (¬1). 20 - الطهارة والمحافظة على الوضوء. 21 - المحافظة على الصلوات الخمس. 22 - أداء الزكاة. 23 - الصيام: الفرض والنفل. 24 - الاعتكاف. 25 - الحج (¬2). 26 - الجهاد في سبيل الله - عز وجل -. 27 - المرابطة في سبيل الله - عز وجل -. 28 - الثبات للعدو وترك الفرار من الزّحف. 29 - أداء الخُمس من المغنم إلى الإمام، أو نائبه على الغانمين. 30 - العتق بوجه التقرّب إلى الله - عز وجل -. ¬

_ (¬1) هذه الشعب من رقم 12 - 19، في المجلد الثاني من شعب الإيمان للبيهقي، 2/ 3 - 548. (¬2) هذه الشعب من رقم 20 - 25، في المجلد الثالث من شعب الإيمان للبيهقي، 3/ 3 - 494.

31 - الكفارات الواجبة بالجنايات

31 - الكفّارات الواجبة بالجنايات، وهي في الكتاب والسنة أربع: كفّارة القتل، وكفّارة الظهار، وكفّارة اليمين، وكفّارة المسيس في صوم رمضان. 32 - الإيفاء بالعقود. 33 - تعديد نعم الله - عز وجل -، وما يجب من شكرها. 34 - حفظ اللسان عمّا لا يُحتاج إليه. 35 - حفظ الأمانات، ووجوب أدائها إلى أهلها. 36 - تحريم قتل النفس، والجنايات عليها. 37 - تحريم الفروج وما يجب فيها من التعفّف. 38 - قبض اليد عن الأموال المحرّمة، ويدخل فيها: تحريم السرقة، وقطع الطريق، وأكل الرّشاء، وأكل ما لا يستحقّه شرعاً (¬1). 39 - وجوب التورّع في المطاعم والمشارب، واجتناب ما لا يحلّ منها. 40 - ترك الملابس والزّيّ والأواني المحرّمة والمكروهة. 41 - تحريم الملاعب والملاهي المخالفة للشريعة. 42 - الاقتصاد في النفقة، وتحريم أكل المال بالباطل. 43 - ترك الغلّ والحسد. 44 - تحريم أعراض الناس، وما يلزم من ترك الوقوع فيها. 45 - إخلاص العمل لله - عز وجل -، وترك الرّياء. 46 - السرور بالحسنة، والاغتمام بالسيئة. 47 - معالجة كلّ ذنبٍ بالتّوبة النصوح. ¬

_ (¬1) هذه الشعب من رقم 26 - 38، في المجلد الرابع من شعب الإيمان للبيهقي، 4/ 3 - 398.

48 - القرابين وجملتها: الهدي، والأضحية، والعقيقة

48 - القرابين وجملتها: الهدي، والأضحية، والعقيقة (¬1). 49 - طاعة أولي الأمر. 50 - التمسك بما عليه الجماعة. 51 - الحكم بين الناس بالعدل. 52 - الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. 53 - التعاون على البر والتقوى. 54 - الحياء. 55 - برّ الوالدين. 56 - صلة الأرحام. 57 - حسن الخلق. 58 - الإحسان إلى المماليك. 59 - حقّ السّادة على المماليك. 60 - القيام بحقوق الأولاد والأهلين. 61 - مقاربة أهل الدين، وموادتهم، وإفشاء السلام، والمصافحة لهم. 62 - ردّ السلام. 63 - عيادة المريض (¬2). 64 - الصلاة على من مات من أهل القبلة. 65 - تشميت العاطس. 66 - مباعدة الكفار والمفسدين، والغلظة عليهم. ¬

_ (¬1) هذه الشعب من رقم 39 - 48، في المجلد الخامس من شعب الإيمان للبيهقي، 5/ 3 - 485. (¬2) هذه الشعب من رقم 49 - 63، في المجلد السادس من شعب الإيمان للبيهقي، 6/ 3 - 547.

67 - إكرام الجار

67 - إكرام الجار. 68 - إكرام الضيف. 69 - الستر على أصحاب الذّنوب. 70 - الصبر على المصائب وعما تنزع النفس إليه من لذَّة وشهوةٍ. 71 - الزّهد، وقصر الأمل. 72 - الغيرة، وترك المذاء. 73 - الإعراض عن الغلوّ. 74 - الجود والسّخاء. 75 - رحمة الصغير، وتوقير الكبير. 76 - إصلاح ذات البين. 77 - أن يحبّ المرء لأخيه المسلم ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، ويدخل فيه إماطة الأذى عن الطريق، المشار إليه في الحديث (¬1). المطلب الخامس: صفات المؤمنين المؤمنون لهم صفات كريمة وأعمال عظيمة، وصفهم الله بها، وأثنى عليهم، ومن هذه الصفات على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: أولاً: قال الله - عز وجل -: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ¬

_ (¬1) هذه الشعب من رقم 64 - 77، في المجلد السابع من شعب الإيمان للبيهقي، 7/ 3 - 540.

ثانيا: قول الله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}

يُنفِقُونَ} (¬1). وقد ظهر في هذه الآيات صفات عظيمة من صفات المؤمنين وهي: 1 - طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. 2 - خوف الله ورهبته وخشيته - عز وجل -. 3 - زيادة الإيمان عند سماع القرآن، لتدبرهم له. 4 - التوكل والاعتماد على الله - عز وجل - مع العمل بالأسباب. 5 - إقام الصلاة: من فرائض ونوافل بأعمالها الظاهرة والباطنة. 6 - الإنفاق الواجب: كالزكوات، والكفّارات، والنفقة على من تجب نفقته، والصّدقة في طريق الخير. ثانياً: قول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬2). ففي هذه الآية صفات عظيمة اتصف بها المؤمنون وهي: 1 - موالاة المؤمنين، ومحبّتهم في الله تعالى، ونصرتهم. 2 - الأمر بالمعروف، وهو اسم جامعٌ لكلّ ما عُرف حسنه: من العقائد الحسنة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة. 3 - النهي عن المنكر، وهو كلّ ما خالف المعروف، وناقضه: من العقائد الباطلة، والأعمال الخبيثة، والأخلاق الرذيلة. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآيات: 1 - 3. (¬2) سورة التوبة، الآية: 71.

ثالثا: قال الله - عز وجل -: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}

4 - إقام الصلاة بأعمالها الظاهرة والباطنة، من فرضٍ ونفل. 5 - إعطاء الزكاة لأهلها بأصنافهم الثمانية. 6 - طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وملازمة ذلك في جميع الأحوال. ثالثاً: قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). فظهر في هاتين الآيتين صفات عظيمة من صفات أهل الإيمان، وهي على النحو الآتي: 1 - القتال في سبيل الله، وبذل الجهد والطاقة في ذلك. 2 - التوبة من جميع الذنوب وملازمتها في جميع الأوقات. 3 - العبودية لله - عز وجل - بالقيام بجميع الواجبات، والمستحبّات، والابتعاد عن جميع المحرّمات والمكروهات في كل وقت، فبذلك يكون العبد من العابدين. 4 - الحمد لله في السّراء والضرّاء، والثناء عليه بنعمه، والاعتراف بالنعم الظاهرة والباطنة. 5 - السياحة في السفر بطلب العلم، والحجّ والعمرة، والجهاد، وصلة ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآيتان: 111 - 112.

رابعا: قال الله - عز وجل -: {قد أفلح المؤمنون}

الأقارب ونحو ذلك، كصيام النفل المشروع. 6 - الإكثار من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود. 7 - الأمر بالمعروف، ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبّات. 8 - النهي عن المنكر: ويدخل فيه كل ما نهى عنه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. 9 - تعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لذلك فعلاً وتركاً. رابعاً: قال الله - عز وجل -: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1) , وهذه الصفات في هذه الآيات على النحو الآتي: 1 - الخشوع في الصلاة، وحضور القلب بين يدي الله - عز وجل - فيها. 2 - الإعراض عن اللغو الذي لا خير فيه؛ فإن من أعرض عن ذلك كان إعراضه عن المحرّم من بابِ أولى. 3 - تأدية زكاة الأموال وتزكية النفوس من أدناس الأخلاق، وذلك بتركها. 4 - حفظ الفروج عن الزنا، وتجنّب ما يكون وسيلة إلى ذلك: كالنظر، ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآيات: 1 - 11.

المبحث الثاني: ظلمات النفاق

والخلوة، واللّمس. 5 - حفظ الأمانات سواء كانت من حقوق الله أو حقوق العباد، والآية عامة. 6 - حفظ العهود والمواثيق بين العبد وبين الله وبين الإنسان وبين العباد. 7 - المحافظة على الصلاة بأركانها وشروطها وواجباتها ومستحبّاتها. وغير ذلك من صفات المؤمنين في كتاب الله - عز وجل -، وأسأل الله - عز وجل - أن يوفقني وجميع المسلمين للاتّصاف بهذه الصفات الكريمة. المبحث الثاني: ظلمات النفاق المطلب الأول: مفهوم النفاق أولاً: مفهوم النفاق لغةً وشرعاً: النفاق: لغةً: النفق سرب في الأرض، مشتق إلى موضع آخر، وفي التهذيب: له مخلص إلى مكان آخر، والنفقة والنافقاء، جحر الضبّ واليربوع، وقيل: النفقة والنافقاء موضع يرققه اليربوع من جحره، فإذا أُتيَ من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فخرج، ونفِق اليربوع ونَفق ((بالفتح)) وانتفق، ونفق: خرج منه. ونفق اليربوع تنفيقاً، ونافق، أي دخل في نافقائه، ومنه اشتقاق المنافق في الدين، والنِّفاق بالكسر، فعل النافق، والنفاق الدخول في الإسلام من وجه والخروج عنه من وجه آخر (¬1). وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لتتبعُنَّ سنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضبٍّ لاتَّبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله، اليهود ¬

_ (¬1) النفاق وآثاره ومفاهيمه، تأليف الشيخ عبد الرحمن الدوسري، ص105 - 106.

ثانيا: مفهوم الزنديق:

والنصارى؟ قال: ((فمَنْ؟)) (¬1). والنفاق: شرعاً: كما قال ابن كثير رحمه الله: ((النفاق: هو إظهار الخير، وإسرار الشرّ، وهو أنواع: اعتقاديٌّ، وهو الذي يخلّد صاحبه في النار، وعمليٌّ وهو أكبر من الذنوب، قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسرّه علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه)) (¬2). والنفاق نوعان: أكبر يُخرج من الملّة، وأصغر لا يُخرج من الملّة (¬3). ثانياً: مفهوم الزنديق: الزنديق: الزنديق بالكسر من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو من لا يؤمن بالآخرة، وبالرّبوبية، أو من يُبطن الكفر ويُظهر الإيمان (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((الزنديق في عُرْف الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أن يُظهر الإسلام، ويُبطن غيره، سواء أبطن ديناً من الأديان، كدين اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطِّلاً جاحداً للصانع، والمعاد، والأعمال الصالحة. ومن الناس من يقول: الزنديق هو الجاحد المعطِّل، وهذا يُسمَّى في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة، ونقلة مقالات الناس، ولكن ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، 4/ 2054، برقم 2669. (¬2) تفسير ابن كثير، 1/ 48 عند تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، وانظر: تفسير ابن جرير الطبري، 1/ 268 - 272. (¬3) انظر: قضية التكفير، للمؤلف، ص68، 132 - 134. (¬4) القاموس المحيط، فصل الزاي، باب القاف، ص1151.

المطلب الثاني: أنواع النفاق

الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه هو الأوّل؛ لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر، وغير الكافر، والمرتدّ وغير المرتدّ، ومن أظهر ذلك أو أسرَّه. وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفّار، والمرتدّين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة؛ فإن الله أخبر بزيادة الكفر، كما أخبر بزيادة الإيمان بقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (¬1) , وتارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكبي الكبائر، كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفّار على بعض في الآخرة بقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} (¬2). فهذا أصل ينبغي معرفته؛ فإنه مهمٌّ في هذا الباب؛ فإن كثيراً ممن تكلّم في ((مسائل الإيمان والكفر)) لتكفير أهل الأهواء لم يلحظوا هذا الباب، ولم يُميِّزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن تدبَّر هذا علم أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع قد يكون: مؤمناً مخطئاً، جاهلاً ضالاً عن بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقد يكون منافقاً زنديقاً يظهر خلاف ما يبطن)) (¬3). المطلب الثاني: أنواع النفاق النفاق: نفاقان: نفاق دون نفاق، أو نفاق مُخْرِجٌ من الملّة، ونفاق لا ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 37. (¬2) سورة النحل، الآية: 88. (¬3) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 7/ 471.

أولا: النفاق الأكبر:

يُخرج من الملّة (¬1). أولاً: النفاق الأكبر: وهو أن يُظهر الإنسان الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ويُبطن ما يُناقض ذلك كلّه أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن بذمِّ أهله وتكفيرهم، وأخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار (¬2). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعض صور النفاق الأكبر فقال: ((فمن النفاق ما هو أكبر يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أُبيٍّ وغيره، بأن يُظهر: تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو جحود بعض ما جاء به، أو بُغضه، أو عدم اعتقاد وجوب طاعته، أو المسرّة بانخفاض دينه، أو المساءَة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدواً لله ورسوله، وهذا القدر كان موجوداً في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومازال بعده، بل هو بعده أكثر منه على عهده - صلى الله عليه وسلم - ... )) (¬3). وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: (( ... فأما النفاق الاعتقاديّ فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بغض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو المسرّة بانخفاض دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو الكراهية بانتصار دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 347 - 359. (¬2) جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب رحمه الله تعالى، 2/ 480، وانظر: صفات المنافقين لابن القيم، ص4. (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، 28/ 434.

1 - تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -

فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدّرك الأسفل من النار)) (¬1). فيتحصل مما ذكره هذان الإمامان أنواعٌ أو صفاتٌ للنفاق الأكبر، وهي على النحو الآتي: 1 - تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 2 - تكذيب بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 3 - بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 4 - بغض بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 5 - المسرَّة بانخفاض دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 6 - الكراهية لانتصار دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 7 - عدم اعتقاد وجوب تصديقه - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به. 8 - عدم اعتقاد وجوب طاعته - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر به. وغير ذلك مما دلّ القرآن الكريم أو السنة المطهَّرة على أنه من النفاق الأكبر المخرج من ملّة الإسلام (¬2). ثانياً: النفاق الأصغر: وهو النفاق العملي: وهو أن يظهر الإنسان علانيةً صالحةً، ويُبطن ما يُخالف ذلك وأصول هذا النفاق ترجع إلى حديث عبد الله بن عمر، وعائشة - رضي الله عنهم -، وهي خمسة أنواع: ¬

_ (¬1) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام أحمد بن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ص7. (¬2) انظر: نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف، للدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي،2/ 160.

1 - أن يحدث بحديث لمن يصدقه به وهو كاذب له

1 - أن يحدّث بحديث لمن يصُدّقه به، وهو كاذبٌ له. 2 - إذا وعد أخلف، وهو على نوعين: النوع الأول: أن يعِدَ ومن نيّته أن لا يفي بوعده، وهذا أَشرُّ الخلف، ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى، ومن نيّته أن لا يفعل كان كذباً وخُلْفاً. قاله: الأوزاعي. النوع الثاني: أن يعِدَ ومن نيته أن يفي، ثم يبدو له، فيخلف من غير عذر له في الخلف. 3 - إذا خاصم فجر، ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمداً حتى يصير الحق باطلاً، والباطل حقاً، وهذا مما يدعو إلى الكذب. 4 - إذا عاهد غدر ولم يفِ بالعهد، والغدر حرام في كل عهدٍ بين المسلمين وغيرهم، ولو كان المعاهَد كافراً. 5 - الخيانة في الأمانة، فإذا اؤتمن المسلم أمانة، فالواجب عليه أن يؤدّيها. وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كُلّه يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، واختلاف القلب واللسان، واختلاف الدخول والخروج؛ ولهذا قالت طائفة من السلف: خشوع النفاق: أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع (¬1). وهذا النفاق لا يُخرج من الملّة، فهو ((نفاق دون نفاق))؛ لحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من ¬

_ (¬1) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، 2/ 480 - 495، فقد أعطى الموضوع حقه، وذكر فوائد جمة فلتراجع. وانظر: مجموعة التوحيد، ص7.

ثالثا: الفروق بين النفاق الأكبر والنفاق الأصغر:

النفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) (¬1)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان)) (¬2). ثالثاً: الفروق بين النفاق الأكبر والنفاق الأصغر: 1 - النفاق الأكبر يُخرج من الملّة، والأصغر لا يُخرج من الملّة (¬3). 2 - النفاق الأكبر يُحبط جميع الأعمال. 3 - النفاق الأكبر اختلاف السرّ والعلانية في الاعتقاد، والأصغر اختلاف السرّ والعلانية في الأعمال دون الاعتقاد (¬4). 4 - النفاق الأكبر يُخلّد صاحبه في النار إذا مات عليه، والأصغر لا يُخلده. 5 - النفاق الأكبر لا يصدر من مؤمن، أما النفاق الأصغر فقد يصدر من المؤمن. 6 - النفاق الأكبر في الغالب لا يتوب صاحبه (¬5)، وإذا تاب فقد اختلف في توبته في الظاهر عند الحاكم؛ لكون ذلك لا يُعلَم، إذْ هم دائماً يُظهرون الإسلام (¬6). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، 1/ 17، برقم 34، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 78، برقم 58. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، 1/ 16، برقم 33، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، 1/ 78، برقم 59. (¬3) انظر؛ كتاب التوحيد، للدكتور، صالح الفوزان، ص18. (¬4) انظر: كتاب التوحيد، للفوزان، ص18. (¬5) انظر: كتاب التوحيد، للفوزان، ص18. (¬6) انظر: فتاوى ابن تيمية، 28/ 334.

المطلب الثالث: صفات المنافقين

المطلب الثالث: صفات المنافقين المنافقون لهم صفات كثيرة، بيّنها الله - عز وجل - في كتابه الكريم، وبيّنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولاشك أن ذكر الله - عز وجل - لصفات المنافقين فيه فوائد عظيمة، منها: 1 - نعمة الله - عز وجل - على المؤمنين بإخبارهم عن أحوال المنافقين وصفاتهم حتى يبتعدوا عنها. 2 - تهديد المؤمنين من سلوك مسالك المنافقين والتحذير من الاتصاف بصفاتهم. 3 - حض المؤمنين على الصدق مع الله، وتصفية سرائرهم، وإسلام وجوههم لله. وصفات المنافقين كثيرة، منها على سبيل المثال ما يأتي: أولاً: قال الله - عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1)، فظهر في هذه الآيات أن من صفات المنافقين هذه الخصال القبيحة الآتية: 1 - يقولون آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ. 2 - يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا. 3 - فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ. 4 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. 5 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ. 6 - وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى كبرائهم ورؤسائهم ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيات: 8 - 20.

ثانيا: قال الله - عز وجل -: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا}

قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ. 7 - يشترون الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ. ثانياً: قال الله - عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ الله عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَالله لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (¬1)، فظهر من صفات المنافقين في هذه الآيات ما يأتي: 1 - حُسن القول المُعجب الذي يكون له وقع في القلوب. 2 - توسيط الله بجعله شاهداً على هذا القول، وموثقاً له، وهذا من أعظم الجناية على الله - عز وجل -. 3 - المهارة في الجدل، وقوة الإقناع؛ لقمع كل معارضة تقف أمامه. 4 - إذا اختفى عن الناس وذهب عنهم وانصرف، اجتهد في عمل المعاصي التي هي فساد في الأرض. 5 - إذا أُمر بتقوى الله تكبّر، وأخذته العزّة بالإثم، فجمع بين العمل بالجرائم والتكبر. ثالثاً: قال الله - عز وجل -: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا} (¬2) , فمن صفات المنافقين في هاتين الآيتين ما يأتي: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيات: 204 - 206. (¬2) سورة النساء، الآيتان: 138 - 139.

رابعا: قال الله تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم}

1 - أنهم يوالون الكفار، ويحبّونهم وينصرونهم. 2 - يعتزّون بالكفّار، ويستنصرون بهم. رابعاً: قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (¬1) , فظهر في هاتين الآيتين أن من صفات المنافقين ما يأتي: 1 - يخادعون الله، وهو خادعهم. 2 - إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى. 3 - يراؤن الناس بأعمالهم. 4 - لا يذكرون الله إلا قليلاً. 5 - متردِّدون بين فريقٍ من المؤمنين وفريقٍ من الكافرين. خامساً: قال الله تعالى في شأن المنافقين: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} (¬2) , فظهر في هاتين الآيتين صفات قبيحة من صفات المنافقين، هي على النحو الآتي: 1 - وصفهم الله بالفسق فقال: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}. 2 - كفروا بالله وبرسوله. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآيتان: 142 - 143. (¬2) سورة التوبة، الآيتان: 53 - 54.

سادسا: قال الله - عز وجل -: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة}

3 - لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى. 4 - لا ينفقون إلا وهم كارهون. وفي هذه الصفات غاية الذمّ للمنافقين ولمن فعل فعلهم، فينبغي لكل أحد أن يبتعد عن الفسق، ويُؤمن بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويأتي الصلاة وهو نشيط البدن والقلب، ويُنفق وهو مُنشرح الصدر، ثابت القلب، يرجو ذخرها وثوابها من الله وحده، ولا يتشبّه بالمنافقين. سادساً: قال الله - عز وجل -: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} (¬1) , فالمنافقون يستهزئون بالله ورسوله، والمؤمنين، وقد فضحهم الله - عز وجل - وبيّن صفاتهم للمؤمنين. سابعاً: قال الله - عز وجل -: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (¬2) , فظهر في هاتين الآيتين بعض صفات المنافقين الآتية: 1 - المنافقون بعضهم من بعض: يتولّى بعضهم بعضاً. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآيات: 64 - 66. (¬2) سورة التوبة، الآيتان: 67 - 68.

ثامنا: قال الله - عز وجل -: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات}

2 - يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. 3 - يقبضون أيديهم عن الصدقة وطرق الإحسان، فهم من أبخل الناس. 4 - نسوا الله فلا يذكرونه إلا قليلاً، فنسيهم من رحمته، فلا يوفّقهم لخير. 5 - إن المنافقين هم الفاسقون. ثامناً: قال الله - عز وجل -: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1)، فالمنافقون ظهر لهم صفات في هاتين الآيتين، منها ما يأتي: 1 - يلمزون المطوّعين في الصدقات: يلمزون المكثر في الصدقة فيقولون: قصد بنفقته الرياء، والسّمعة، ويلمزون المقلّ الفقير فيقولون: إن الله غنيٌّ عن صدقة هذا. 2 - السخرية بالمؤمنين. 3 - كفروا بالله ورسوله. تاسعاً: قال الله - عز وجل -: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} (¬2) , فالمنافقون إذا أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض جازمين على ترك ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآيتان: 79 - 80. (¬2) سورة التوبة، الآية: 127.

عاشرا: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس "

العمل بها، وينتظرون الفرصة في الاختفاء عن أعين المؤمنين، ثم انصرفوا مُتسلّلين، وانقلبوا مُعرضين، فجازاهم الله بعقوبةٍ من جنس عملهم، فكما انصرفوا عن العمل صرف الله قلوبهم، وصدّها عن الحق، وخذلها بأنهم قوم لا يفقهون فقهاً ينفعهم؛ فإنهم لو فقهوا، لكانوا إذا أُنزلت سورة آمنوا بها، وانقادوا لأمرها (¬1) , كما قال - عز وجل -: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (¬2). وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (¬3). عاشراً: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)) (¬4) , فظهر في هذا الحديث صفتان من صفات المنافقين، هما: 1 - تأخير الصلاة عن وقتها. 2 - ينقر الصلاة، ولا يذكر الله فيها إلا قليلاً. الحادي عشر: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ أثقل الصلاة على المنافقين صلاة ¬

_ (¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص313. (¬2) سورة محمد، الآية: 16. (¬3) سورة الجاثية، الآية: 23. (¬4) أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، 1/ 434, برقم 622.

صفات المنافقين إجمالا

العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوها ولو حبواً ... )) (¬1). فظهر أن صفات المنافقين إجمالاً على النحو الآتي: 1 - يدَّعون الإيمان، وهم كاذبون. 2 - يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم. 3 - في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضاً. 4 - يدَّعون الإصلاح، وهم المفسدون. 5 - يرمون المؤمنين بالسَّفَه. 6 - يستهزئون بالمؤمنين، ويسخرون منهم. 7 - يشترون الضلالة بالهدى. 8 - قولهم حسن، وهم ألدُّ الخصام. 9 - يُشهدون الله على ما في قلوبهم، وهم كاذبون. 10 - ماهرون في الجدل بالباطل. 11 - إذا اختفوا عن الناس اجتهدوا في الباطل. 12 - إذا قيل لهم اتّقوا الله أخذتهم العزة بالإثم. 13 - يوالون الكفار، وينصرونهم، ويخدمونهم. 14 - يعتزّون بالكفار، ويستنصرون بهم. 15 - إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى. 16 - يراؤن الناس بأعمالهم. ¬

_ (¬1) متفق عليه، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل صلاة العشاء في جماعة، 1/ 181، برقم 658، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، 1/ 451، برقم 651.

17 - لا يذكرون الله إلا قليلا

17 - لا يذكرون الله إلا قليلاً. 18 - متردِّدون بين الكفار والمؤمنين. 19 - يكفرون بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. 20 - المنافقون هم الفاسقون. 21 - لا ينفقون إلا وهم كارهون. 22 - المنافقون يتولّى بعضهم بعضاً. 23 - يقبضون أيديهم فلا ينفقون في طرق الخير. 24 - يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. 25 - نسوا الله فنسيهم. 26 - يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات. 27 - يؤخّرون الصلاة عن وقتها. 28 - ينقرون الصلاة، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلاً. 29 - أثقل الصلوات عليهم العشاء والفجر. 30 - يتأخّرون عن صلاة الجماعة. 31 - قلوبهم قاسية، وعقولهم قاصرة. 32 - لم يرضوا بالإسلام ديناً. 33 - يأخذون من الدين ما وافق رغباتهم. 34 - يقولون ما لا يفعلون. 35 - يُظهرون الشجاعة في السلم، وجبناء في الحرب. 36 - لا يتحاكمون إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. 37 - يجدون الحرج والضيق في أنفسهم من حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.

38 - يخذلون المؤمنين عن الجهاد

38 - يُخذِّلون المؤمنين عن الجهاد. 39 - ييأسون من رحمة الله، وينقطع أملهم في نصره. 40 - يقصدون بجهادهم الدنيا، وإذا يئسوا من ذلك تثاقلوا. 41 - يفجرون في المخاصمة. 42 - يحاربون الإسلام وأهله عن طريق الخفية والتسمِّي به. 43 - لا يهمّهم إلا مصالحهم الذاتية. 44 - يطعنون في العلماء المخلصين بالكذب وتغيير الحقائق. 45 - يُثيرون الشبهات حول الإسلام، ليصدّوا الناس عن الدخول فيه. 46 - يُبغضون أنصار الدين. 47 - يكذبون في الحديث. 48 - يخونون الله ورسوله والمؤمنين. 49 - يُخلفون الوعد. 50 - لكل واحد منهم وجهان: وجه للمؤمنين، ووجه لأعداء الدين. 51 - لا يعقلون ما ينفعهم، ولا يسمعون ما يُفيدهم، ولا ينظرون إلى آيات الله التي تدلّ على قدرته. 52 - تسبق يمين أحدهم كلامه لعلمه أن قلوب المؤمنين لا تطمئن إليه. 53 - قلوبهم عن الخير لاهية، وأجسادهم إليه ساعية. 54 - أخبث الناس قلوباً، وأحسنهم أجساماً. 55 - يُسِرُّون سرائر النفاق، فأظهرها الله على وجوههم وألسنتهم. 56 - ينقضون العهد من أجل الدنيا. 57 - يسخرون بالقرآن الكريم.

المطلب الرابع: آثار النفاق وأضراره

فهذه صفات المنافقين، فاحذرها أيها المسلم قبل أن تنزل بك القاضية. وهذه الصفات من باب الأمثلة (¬1) , وصفات المنافقين كثيرة في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. المطلب الرابع: آثار النفاق وأضراره النفاق له آثار خطيرة، وأضرار مُهلكة، منها ما يأتي: 1 - النفاق الأكبر يسبّب الخوف والرّعب في القلوب، قال الله - عز وجل -: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} (¬2). 2 - النفاق الأكبر يُوجب لعنة الله تعالى، قال الله - عز وجل -: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (¬3). وقال سبحانه: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا} (¬4). 3 - النفاق الأكبر يُخرج صاحبه من الإسلام؛ لأنه إسرار الكفر، وإظهار ¬

_ (¬1) وانظر: صفات المنافقين لابن القيم، ص4، والمنافقون في القرآن الكريم للدكتور عبد العزيز الحميدي، ص441. (¬2) سورة التوبة، الآية: 64. (¬3) سورة التوبة: الآية: 68. (¬4) سورة الأحزاب، الآيتان: 60 - 61.

4 - النفاق الأكبر لا يغفره الله إذا مات عليه صاحبه

الخير، بل هو أشدُّ من الكفر الظاهر، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (¬1). 4 - النفاق الأكبر لا يغفره الله إذا مات عليه صاحبه؛ لأنه أشدُّ من الكفر الظاهر الذي قال الله تعالى في أصحابه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا} (¬2). 5 - النفاق الأكبر يوجب لصاحبه النار، ويُحرِّم عليه الجنة، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (¬3). 6 - النفاق الأكبر يُخلِّد صاحبه في النار، فلا يخرج منها أبداً؛ لقول الله - عز وجل -: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} (¬4). 7 - النفاق الأكبر يُسبّب نسيان الله لصاحبه، قال الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬5). 8 - النفاق الأكبر يُحبط جميع الأعمال، قال الله - عز وجل -: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 145. (¬2) سورة النساء، الآيتان: 168 - 169. (¬3) سورة النساء، الآية: 140. (¬4) سورة التوبة، جزء من الآية: 68. (¬5) سورة التوبة، الآية: 67.

9 - النفاق الأكبر يطفئ الله نور أصحابه يوم القيامة

كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} (¬1). 9 - النفاق الأكبر يُطفئ الله نور أصحابه يوم القيامة، قال الله - عز وجل -: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (¬2). 10 - النفاق الأكبر يَحرِمُ العبد دعاء المؤمنين والصلاة عليه عند موته، قال الله - عز وجل -: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬3). 11 - النفاق الأكبر يُسبّب عذاب الدنيا والآخرة, قال الله تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (¬4). 12 - النفاق الأكبر إذا أظهره صاحبه وأعلنه كان مرتدّاً عن الإسلام، فيكون حلال الدم والمال، وتُطبّق عليه أحكام المرتدّ، إلا أن قبول توبته عند الحاكم فيها خلاف في الظاهر؛ لأن المنافقين يُظهرون الإسلام دائماً (¬5). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآيتان: 53 - 54. (¬2) سورة الحديد، الآية: 13. (¬3) سورة التوبة، الآية: 84. (¬4) سورة التوبة، الآية: 55. (¬5) انظر: فتاوى ابن تيمية، 28/ 334.

13 - النفاق الأكبر إذا أظهر صاحبه كفره يوجب العداوة بين صاحبه والمؤمنين

أما إذا أخفى المنافق نفاقه وكفره؛ فإنه معصوم الدم والمال بما أظهر من الإيمان، والله يتولى السّرائر (¬1). 13 - النفاق الأكبر إذا أظهر صاحبه كفره يُوجب العداوة بين صاحبه والمؤمنين، فلا يُوالونه ولو كان أقرب قريب، وأما إذا لم يُظهر كفره فيُعامل بالظاهر، والله يتولَّى السّرائر. 14 - النفاق الأصغر، وهو النفاق العملي، ينقص الإيمان ويضعفه، ويكون صاحبه على خطر من عذاب الله تعالى. 15 - النفاق الأصغر صاحبه على خطر؛ لئلا يجرّه إلى النفاق الأكبر. ونعوذ بالله من غضبه، ومن جميع أنواع النفاق صغيره وكبيره، ونسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ¬

_ (¬1) انظر: المنافقون في القرآن، للدكتور عبد العزيز الحميدي، ص450.

الرسالة الحادية عشرة: نور السنة وظلمات البدعة

الرسالة الحادية عشرة: نور السنة وظلمات البدعة التمهيد: لا شك أن السنة هي الحياة والنور اللذان بهما سعادة العبد وهداه، والسنة تقوم بأهلها، وإن قعدت بهم أعمالهم، {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬1).قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((تبيّض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسودّ وجوه أهل البدعة والتفرّق)) (¬2)،وصاحب السنة حيّ القلب، مستنير القلب، قد انقاد لأمر الله، واتّبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً. أما صاحب البدعة فهو ميت القلب، مظلمه، والظلمة مستولية على أصحاب البدع: فقلوبهم مظلمة، وأحوالهم كلها مظلمة، فمن أراد الله به السعادة أخرجه من هذه الظلمات إلى نور السنة (¬3). وسأبين ذلك في مبحثين على النحو الآتي: المبحث الأول: نور السنة المطلب الأول: مفهومها السنة لها أهل، ولهم عقيدة، واجتماع على الحق، فمن المناسب أن أذكر التعريف لهذه الكلمات الثلاث: ((عقيدة أهل السنة والجماعة)). أولاً: مفهوم العقيدة لغةً واصطلاحاً: العقيدة لغةً: كلمة ((عقيدة)) مأخوذة من العقد والربط، والشدّ بقوة، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، جزء من الآية: 106. (¬2) ذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 39. (¬3) انظر: المرجع السابق، 2/ 38 - 41.

ثانيا: مفهوم أهل السنة:

ومنه الإحكام والإبرام، والتماسك والمراصّة، يقال: عقد الحبل يعقده: شدّه، ويقال: عقد العهدَ والبيع: شدّه، وعقد الإزارَ: شدّه بإحكام، والعقد: ضدّ الحل (¬1). مفهوم العقيدة اصطلاحاً: العقيدة تطلق على الإيمان الجازم، والحكم القاطع الذي لا يتطرّق إليه شكٌّ، وهي ما يُؤمن به الإنسانُ، ويعقد عليه قلبه وضميره، ويتخذه مذهباً وديناً يدين به؛ فإن كان هذا الإيمان الجازم، والحكم القاطع صحيحاً كانت العقيدة صحيحةً كاعتقاد أهل السنة والجماعة، وإن كان باطلاً كانت العقيدة باطلةً كاعتقاد فرق الضلالة (¬2). ثانياً: مفهوم أهل السنة: السنة في اللغة: الطريقة والسيرة، حسنة كانت أم قبيحة (¬3). والسنة في اصطلاح علماء العقيدة الإسلامية: الهدي الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: علماً واعتقاداً، وقولاً، وعملاً، وهي السنة التي يجب اتباعها ويُحمد أهلُها، ويُذمُّ من خَالَفها؛ ولهذا قيل: فلان من أهل السنة: أي من أهل الطريقة الصحيحة المستقيمة المحمودة (¬4). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((والسنة هي الطريقة المسلوكة، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - هو وخلفاؤه الراشدون: من ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الدال، فصل العين،3/ 296،والقاموس المحيط للفيروز آبادي، باب الدال، فصل العين، ص383،ومعجم المقاييس في اللغة لابن فارس، كتاب العين، ص 679. (¬2) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للشيخ الدكتور ناصر العقل ص 9 - 10. (¬3) لسان العرب، لابن منظور، باب النون، فصل السين، 13/ 225. (¬4) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة، للدكتور ناصر العقل، ص13.

ثالثا: مفهوم الجماعة:

الاعتقادات، والأعمال، والأقوال، وهذه هي السُّنة الكاملة)) (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه؛ بأنه طاعة لله ورسوله، سواء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو فُعِل في زمانه، أو لم يفعله ولم يفعل على زمانه، لعدم المقتضى حينئذٍ لفعله، أو وجود المانع منه)) (¬2)، وبهذا المعنى تكون السنة: ((اتّباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باطناً وظاهراً، واتّباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار)) (¬3). ثالثاً: مفهوم الجماعة: الجماعة في اللغة: مأخوذة من مادة جمع، وهي تدور حول الجمع والإجماع والاجتماع، وهو ضدّ التفرق، قال ابن فارس رحمه الله: ((الجيم والميم والعين أصل واحد يدل على تضامّ الشيء، يقال: جمعت الشيء جمعاً)) (¬4). والجماعة في اصطلاح علماء العقيدة الإسلامية: هم سلف الأمة: من الصحابة، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين اجتمعوا على الحق الصريح من الكتاب والسنة (¬5). ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم، 1/ 120. (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية، 21/ 317. (¬3) مجموع فتاوى ابن تيمية، 3/ 157. (¬4) معجم المقاييس في اللغة، لابن فارس، كتاب الجيم، باب ما جاء من كلام العرب في المضاعف والمطابق أوله جيم، ص 224. (¬5) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، ص68، وشرح العقيدة الواسطية لابن تيمية، تأليف العلامة محمد خليل هراس، ص61.

المطلب الثاني: أسماء أهل السنة وصفاتهم:

وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك))، قال نُعيم بن حمّاد: ((يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة، قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذٍ)) (¬1). المطلب الثاني: أسماء أهل السُّنَّةِ وصِفَاتِهم: 1 - أهل السنة والجماعة: هم من كان على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهم المتمسكون بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم الصحابة، والتابعون، وأئمة الهدى المُتَّبِعون لَهُم، وهم الذين استقاموا على الاتِّباع وابتعدوا عن الابتداع في أي مكان وفي أي زمان، وهم باقون منصورون إلى يوم القيامة (¬2)، وسُمُّوا بذلك لانتسابهم لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واجتماعهم على الأخذ بها: ظاهراً وباطناً، في القول، والعمل، والاعتقاد (¬3). فعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقةً، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعين فرقة في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفسُ محمدٍ بيده لَتَفْتَرِقَنَّ أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، واحدةٌ في الجنة، واثنتان وسبعون في النار))، قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: ¬

_ (¬1) ذكره الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان، 1/ 70، وعزاه إلى البيهقي. (¬2) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، ص 13 - 14. (¬3) انظر: فتح رب البرية بتخليص الحموية، للعلامة محمد بن عثيمين رحمه الله، ص 10، وشرح العقيدة الواسطية، للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، ص 10.

2 - الفرقة الناجية

((الجماعة)) (¬1)، وفي رواية الترمذي عن عبد الله بن عمرو: قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (¬2). 2 - الفرقة الناجية: أي الناجية من النار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثناها عندما ذكر الفرق، وقال: ((كلها في النار إلا واحدة)) أي ليست في النار (¬3). 3 - الطائفة المنصورة: فعن معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تزال طائفةٌ من أمتي قائمةٌ بأمر الله لا يضرُّهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)) (¬4)، وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - نحوه (¬5)، وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) (¬6)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما نحوه (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه بلفظه، في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، 2/ 321، برقم 3992، وأبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/ 197، برقم 4596، وابن أبي عاصم، في كتاب السنة، 1/ 32، برقم 63، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 364. (¬2) سنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 5/ 26، برقم 2641. (¬3) انظر: من أصول أهل السنة والجماعة، للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، ص 11. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب المناقب، بابٌ: حدثنا محمد بن المثنى، 4/ 225، برقم 3641، ومسلم بلفظه، في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم)) 2/ 1524، برقم 1037. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب المناقب، بابٌ: حدثنا محمد بن المثنى، 4/ 225، برقم 3640، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم)) 2/ 1523، برقم 1921. (¬6) صحيح مسلم، كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم)) 2/ 1523، برقم 1920. (¬7) صحيح مسلم، كتاب الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم))، 2/ 1523، برقم 1923.

4 - المعتصمون المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله

4 - المعتصمون المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؛ ولهذا قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (¬1)، أي هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. 5 - هم القدوة الصالحة الذين يهدون إلى الحق وبه يعملون، قال أيوب السختياني رحمه الله: ((إن من سعادة الحدَث (¬2)، والأعجمي أن يوفقهما الله لعالِمٍ من أهل السنة)) (¬3)، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: ((إن لله عباداً يُحيي بِهمُ البلادَ، وهم أصحاب السنة، ومن كان يعقل ما يَدخُلُ جَوفَهُ من حلّه كان من حزب الله)) (¬4). 6 - أهل السنة خيار الناس ينهون عن البدع وأهلها، قيل لأبي بكر بن عياش مَنِ السُّنّي؟ قال: ((الذي إذا ذُكِرَتِ الأهواء لم يتعصبْ إلى شيءٍ منها)) (¬5). وذكر ابن تيمية رحمه الله: أن أهل السنة هم خيار الأمة، ووسطها الذين على الصراط المستقيم: طريق الحق والاعتدال (¬6). ¬

_ (¬1) سنن الترمذي، برقم 2641، وتقدم تخريجه. (¬2) الحَدَث: الشاب. النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الحاء مع الدال، مادة: ((حدث))،1/ 351. (¬3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/ 66، برقم 30. (¬4) المرجع السابق، 1/ 72، برقم 51. (¬5) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/ 72، برقم 53. (¬6) انظر: فتاوى ابن تيمية، 3/ 368 - 369.

7 - أهل السنة هم الغرباء إذا فسد الناس

7 - أهل السنة هم الغرباء إذا فسد الناس: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء)) (¬1)، وفي رواية عند الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قيل: ومن الغرباء؟ قال: ((النُّزَّاع (¬2) من القبائل)) (¬3)، وفي رواية عند الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ((أناس صالحون في أناس سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) (¬4)، وفي رواية من طريق آخر: ((الذين يصلحون إذا فسد الناس)) (¬5)، فأهل السنة الغرباء بين جموع أصحاب البدع والأهواء والفرق. 8 - أهل السنة هم الذين يحملون العلم: أهل السنة هم الذين يحملون العلم، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ ولهذا قال ابن سيرين رحمه الله: ((لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فَيُنْظَرُ إلى أهل السنة فيُؤخَذ حديثُهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخَذ حديثهم)) (¬6). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، 1/ 130، برقم 145. (¬2) هو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته: أي بَعُدَ وغاب، والمعنى طوبى للمهاجرين الذين هجروا أوطانهم في الله تعالى. النهاية لابن الأثير، 5/ 41. (¬3) المسند، 1/ 398. (¬4) المسند، 2/ 177، و222. (¬5) مسند الإمام أحمد، 4/ 173. (¬6) مسلم، في المقدمة، باب الإسناد من الدين، 1/ 15.

9 - أهل السنة هم الذين يحزن الناس لفراقهم:

9 - أهل السنة هم الذين يحزنُ الناسُ لفراقهم: قال أيوب السختياني رحمه الله: ((إني أُخْبَرُ بموت الرجل من أهل السنة فكأنما أفقد بعض أعضائي)) (¬1)، وقال: ((إن الذين يتمنون موتَ أهل السُّنَّةِ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتِمّ نوره ولو كره الكافرون)) (¬2). المطلب الثالث: السنة نعمةٌ مطلقة النعمة نعمتان: نعمة مطلقة، ونعمة مقيدة: أولاً: النعمة المطلقة: هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي: نعمة الإسلام، والسنة؛ فإن سعادة الدنيا والآخرة، مبنية على أركان ثلاثة: الإسلام، والسنة، والعافية في الدنيا والآخرة. ونعمة الإسلام والسنة هي النعمة التي أمرنا الله - عز وجل - أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط أهلها، ومن خصهم بها، وجعلهم أهل الرفيق الأعلى حيث يقول تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬3). فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها المعنيون بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬4)، فكان الكمال في جانب الدين، والتمام في ¬

_ (¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/ 66، برقم 29. (¬2) المرجع السابق، 1/ 68، برقم 35. (¬3) سورة النساء، الآية: 69. (¬4) سورة المائدة، الآية: 3.

ثانيا: النعمة المقيدة

جانب النعمة، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ((إن للإيمان حدوداً، وفرائض، وسنناً، وشرائع، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان)) (¬1). ودين الله هو شرعه المتضمِّن لأمره ونهيه، ومحابّه، والمقصود أن النعمة المطلقة هي التي اختُصَّت بالمؤمنين، وهي نعمة الإسلام والسنة، وهذه النعمة هي التي يُفرح بها في الحقيقة، والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه، قال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬2)، وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته: ((الإسلام والسنة، وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخ فيهما كان قلبه أشدَّ فرحاً، حتى أن القلب ليرقص فرحاً إذا باشر روح السنة أحزن ما يكون الناس وهو ممتلىء أمناً أخوف ما يكون الناس)) (¬3). ثانياً: النعمة المقيدة: كنعمة الصحة، والغنى، وعافية الجسد، وبسط الجاه، وكثرة الولد، والزوجة الحسنة، وأمثال هذا، فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر، والمؤمن والكافر؛ وإذا قيل: لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو حق، والنعمة المقيدة تكون استدراجاً للكافر والفاجر، ومآلها إلى العذاب والشقاء لمن لم يُرزق النعمة المطلقة (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري معلقاً، في كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بني الإسلام على خمس))، 1/ 9. (¬2) سورة يونس، الآية: 58. (¬3) مقتبس من كلام الإمام ابن القيم في كتابه: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 33 - 36، و38. (¬4) مقتبس من كلام الإمام ابن القيم في كتابه: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/ 36.

المطلب الرابع: منزلة السنة

المطلب الرابع: منزلة السنة السنة: حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين، وبابه الأعظم الذي من دخله كان إليه من الواصلين، وهي تقوم بأهلها وإن قعدت بهم أعمالهم، ويسعى نورها بين أيديهم إذا طفئت لأهل البدع والنفاق أنوارهم، وأهل السنة هم المبيَّضة وجوههم إذا اسودَّت وجوه أهل البدعة، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬1)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((تبيَضُّ وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والتفرُّق)) (¬2). والسنة هي الحياة والنور اللذان بهما سعادة العبد وهداه وفوزه، قال الله جل وعلا: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬3)، والله الموفق (¬4). المطلب الخامس: منزلة صاحب السنة وصاحب البدعة أولاً: منزلة صاحب السنة: صاحب السنة حيُّ القلب، مستنير القلب، وقد ذكر الله - عز وجل - الحياة ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 106. (¬2) ذكره ابن القيم، في اجتماع الجيوش، 2/ 39، وابن كثير في تفسيره، 1/ 369، وانظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير، 7/ 93. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬4) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم، 2/ 38.

ثانيا: علامات أهل السنة

والنور في كتابه في غير موضع، وجعلهما صفة أهل الإيمان؛ فإن القلب الحي المستنير: هو الذي عقل عن الله، وأذعن، وفهم عنه، وانقاد لتوحيده، ومتابعة ما بعث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل الله تعالى أن يجعل له نوراً: في قلبه، وسمعه، وبصره، ولسانه، ومن فوقه، ومن تحته، وعن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه ومن أمامه، وأن يجعل له نوراً، وأن يجعل ذاته نوراً، وفي بشره، ولحمه، وعظمه، ولحمه، ودمه، فطلب - صلى الله عليه وسلم - النور لذاته، ولأبعاضه، ولحواسه الظاهرة والباطنة، ولجهاته الست، والمؤمن مدخله نور، ومخرجه نور، وقوله نور، وعمله نور، وهذا النور بحسب قوته وضعفه يظهر لصاحبه يوم القيامة، فيسعى بين يديه، و [عن] يمينه، فمن الناس من يكون نوره: كالشمس، وآخر كالنجم، وآخر كالنخلة الطويلة، وآخر كالرجل القائم، وآخر دون ذلك، حتى أن منهم من يُعطى نوراً على رأس إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، كما كان نور إيمانه ومتابعته في الدنيا كذلك، فهو هذا بعينه يظهر هناك للحسّ، والعيان (¬1). ثانياً: علامات أهل السنة كثيرة، يدركها العقلاء من البشر، ومن أهمّ تلك العلامات: 1 - الاعتصام بالكتاب والسنة، والعضّ على ذلك بالنواجذ. 2 - التحاكم إلى الكتاب والسنة في الأصول والفروع. 3 - حبهم لأهل السنة والمتمسّكين بها، وبُغضهم لأهل البدع. 4 - لا يستوحشون من قلّة السالكين؛ لأن الحق ضالة المؤمن، يأخذ به ¬

_ (¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم، 2/ 38 - 41 بتصرف.

ثالثا: منزلة صاحب البدعة:

ولو خالفه الناس. 5 - الصدق في الأقوال والأفعال، بالتطبيق الصحيح لهدي الكتاب والسنة. 6 - التأسّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان خلقه القرآن (¬1). ثالثًا: منزلة صاحب البدعة: صاحب البدعة ميت القلب، مظلمه، وقد جعل الله الموت والظلمة صفة من خرج عن الإيمان، والقلب الميت المظلم الذي لم يعقل عن الله، ولا انقاد لما بُعث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا وصف الله - سبحانه وتعالى - هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها؛ ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم في جميع حياتهم، فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأعمالهم مظلمة، وأقوالهم مظلمة، وأحوالهم كلها مظلمة، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة، وإذا قسمت الأنوار يوم القيامة دون الجسر للعبور عليه بقوا في الظلمات، ومدخلهم في النار مظلم، وهذه الظلمة، التي خلق فيها الخلق أولاً، فمن أراد الله - سبحانه وتعالى - به السعادة أخرجه منها إلى النور، ومن أراد به الشقاوة تركه فيها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: عقيدة السلف وأصحاب الحديث، للإمام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، ص 147، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار، للدكتور صالح بن سعد السحيمي، ص 264. (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، 2/ 39 - 40 بتصرف.

المبحث الثاني: ظلمات البدعة

المبحث الثاني: ظلمات البدعة المطلب الأول: مفهومها البدعة: لغة: الحدث في الدين بعد الإكمال، أو ما استحدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأهواء والأعمال (¬1)، ويقال: ((ابتدعتُ الشيء، قولاً أو فعلاً إذا ابتدأته عن غير مثال سابق)) (¬2)، وأصل مادة ((بدع)) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (¬3)، أي: مخترعهما من غير مثال سابق متقدم (¬4). والبدعة في الاصطلاح الشرعي لها عدة تعريفات عند العلماء ويكمِّل بعضها بعضاً، منها: 1 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((البدعة في الدين: هي ما لم يشرعْه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب، ولا استحباب)) (¬5). ((والبدعة نوعان: نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات، وهذا الثاني يتضمَّن الأوّل، كما أن الأوّل يدعو إلى ¬

_ (¬1) القاموس المحيط، باب العين، فصل الدال، ص 906، ولسان العرب، 8/ 6، وفتاوى ابن تيمية، 35/ 414. (¬2) معجم المقاييس في اللغة لابن فارس، ص 119. (¬3) سورة البقرة، الآية: 117، وسورة الأنعام، الآية: 101. (¬4) الاعتصام للشاطبي،1/ 49،وانظر: مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة ((بدع))، ص 111. (¬5) فتاوى ابن تيمية، 4/ 107 - 108.

الثاني)) (¬1). ((وكان الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم: أن الأعمال عبادات وعادات))، فالأصل في العبادات أنه لا يُشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أنه لا يحظر منها إلا ما حظر الله)) (¬2). وقال أيضاً: ((والبدعة ما خالف الكتاب والسنة، أو إجماع سلف الأمة: من الاعتقادات، والعبادات: كأقوال الخوارج، والروافض، والقدرية، والجهمية، وكالذين يتعبّدون بالرقص والغناء في المساجد، والذين يتعبّدون بحلق اللحى، وأكل الحشيشة، وأنواع ذلك من البدع التي يتعبّد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة، والله أعلم)) (¬3). 2 - قال الشاطبي رحمه الله تعالى: ((البدعة: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي (¬4) الشرعيَّة، يُقصدُ بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله سبحانه)). وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصُّها بالعبادات، وأما على رأي من أدخل الأعمال العاديّة في معنى البدعة، فيقول ((البدعة: طريقة في الدِّين مخترعةٌ، تضاهي الشّرعيّة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية)) (¬5). ثم قرّر رحمه الله تعالى على تعريفه الثاني أن العادات من حيث هي ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 22/ 306. (¬2) المرجع السابق، 4/ 196. (¬3) فتاوى ابن تيمية، 18/ 346، وانظر: 35/ 414 من المرجع نفسه. (¬4) تضاهي: يعني أنها تشبه الطريقة الشرعية من غير أن تكون الحقيقة كذلك بل هي مضادة لها. انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 53. (¬5) الاعتصام، 1/ 50 - 56.

عادية لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبّد بها، أو تُوضع وضع التّعبُّد تدخلها البدعة، فحصل بذلك أنه جمع بين التعريفين، ومثل للأمور العادية التي لابدّ فيها من التعبُّد: بالبيع، والشراء، والنكاح، والطلاق، والإيجارات، والجنايات ... لأنها مقيّدة بأمور وشروط وضوابط شرعية لا خيرة للمكلَّف فيها (¬1). 3 - وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى (¬2): ((والمراد بالبدعة ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعاً، وإن كان بدعةً لغةً، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدِّين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة. أما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر - رضي الله عنه - لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك قال: ((نعمة البدعة هذه)) (¬3) ... ومراده - رضي الله عنه - أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها. فمنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على قيام رمضان، ويرغِّب فيه، وكان ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 2/ 568، 569، 570، 594. (¬2) جامع العلوم والحكم، 2/ 127 - 128 بتصرف يسير جداً. (¬3) انظر: صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان،2/ 308،برقم 2010.

المطلب الثاني: شروط قبول العمل

الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحداناً، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك مُعلِّلاً، بأنه خشي أن يُكتب عليهم فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أُمن بعده - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ومنها: ((أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتّباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين)) (¬2). والبدعة بدعتان: بدعة مكفِّرة تُخرج عن الإسلام، وبدعة مُفَسِّقة لا تُخرج عن الإسلام (¬3). المطلب الثاني: شروط قبول العمل لا يقبل أي عمل مما يُتقرّب به إلى الله - عز وجل - إلا بشرطين: الشرط الأول: إخلاص العمل لله وحده لا شريك له، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى)) (¬4). الشرط الثاني: المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان،2/ 309،برقم 2012. (¬2) جامع العلوم والحكم، 2/ 129. (¬3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 2/ 516. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 9، برقم 1،ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات))،2/ 1515،برقم 1907. (¬5) مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، 3/ 1344، برقم 1718، ولفظ البخاري، ومسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، البخاري، برقم 2697، ومسلم، برقم 1718.

فمن أخلص أعماله لله، متّبعاً في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الذي عمله مقبول، ومن فقد الإخلاص، والمتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أحدهما فعمله مردود داخل في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} (¬1)، ومن جمع الأمرين فهو داخل في قوله - عز وجل -: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} (¬2)، وفي قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬3)، فحديث عمر - رضي الله عنه -: ((إنما الأعمال بالنيات)) ميزان للأعمال الباطنة، وحديث عائشة رضي الله عنها: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ميزان للأعمال الظاهرة، فهما حديثان عظيمان يدخل فيهما الدين كلّه: أصوله، وفروعه، ظاهره وباطنه، أقواله، وأفعاله (¬4). وقد تكلّم الإمام النووي على حديث عائشة رضي الله عنها كلاماً نفيساً، قال فيه: ((قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))، وفي الرواية الثانية: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ))،قال أهل العربية: الردّ هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتدٍّ به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه صريح في ردِّ كل البدع، والمخترعات (¬5)،وفي الرواية الثانية زيادة وهي: أنه ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 23. (¬2) سورة النساء، الآية: 125. (¬3) سورة البقرة، الآية: 112. (¬4) انظر: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، للسعدي، ص 10. (¬5) المخترعات: أي في الدين.

المطلب الثالث: ذم البدعة في الدين

قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سُبِقَ إليها، فإذا احتُجَّ عليه بالرواية الأولى يقول: أنا ما أحدثت شيئاً، فيُحتجّ عليه بالثانية التي فيها التصريح بردّ كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل، أو غيره سبق بإحداثها)) (¬1). المطلب الثالث: ذم البدعة في الدين جاء في ذمّ البدعة نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، وحذّر منها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن ذلك على سبيل الإيجاز ما يأتي: أولاً: من القرآن: 1 - قال الله - عز وجل -: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} (¬2)، وقد ذكر الشاطبي رحمه الله آثاراً تدل على أن هذه الآية في الذين يجادلون في القرآن، وفي الخوارج ومن وافقهم (¬3). 2 - وقال - عز وجل -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬4)، فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة، والسبل هي سبل أهل ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 14/ 257، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 6/ 171. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 7. (¬3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 70 - 76. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 153.

الاختلاف الحائدين عن الصراط وهم أهل البدع (¬1)، فهذه الآية تشمل النهي عن جميع طرق أهل البدع (¬2). 3 - وقال - سبحانه وتعالى -: {وَعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬3)، فالسبيل: القصد هو: طريق الحق، وما سواه جائر عن الحق: أي عادل عنه، وهي طرق البدع والضلالات (¬4). 4 - وقال - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (¬5)، وهؤلاء هم أصحاب الأهواء، والضلالات، والبدع من هذه الأمة (¬6). 5 - وقال - عز وجل -: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (¬7). 6 - وقال - سبحانه وتعالى -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬8). 7 - وقال - عز وجل -: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ ¬

_ (¬1) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 76. (¬2) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 78. (¬3) سورة النحل، الآية: 9. (¬4) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 78. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 159. (¬6) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 179. (¬7) سورة الروم، الآيتان: 31 - 32. (¬8) سورة النور، الآية: 63.

ثانيا: من السنة النبوية:

أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} (¬1). 8 - وقال الله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (¬2)، والله - عز وجل - أعلم (¬3). ثانياً: من السنة النبوية: جاءت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذم البدع والتحذير منها، ومن ذلك ما يأتي: 1 - حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬4). 2 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) (¬5). 3 - وفي رواية النسائي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: ((من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلله فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور مُحدَثاتُها، وكل مُحدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 65. (¬2) سورة هود، الآيتان: 118 - 119. (¬3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 70 - 91. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 2697، ومسلم، برقم 1718، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 1/ 592، برقم 867.

في النار)) (¬1). 4 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) (¬2). 5 - وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ)) (¬3). 6 - وعن العِرْباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وَجِلَتْ منها القلوب، وذَرَفَتْ منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فأوصنا؟ قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد، فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)) (¬4). ¬

_ (¬1) أصله في صحيح مسلم في الحديث السابق، وأخرجه النسائي بلفظه، في كتاب صلاة العيدين، باب كيف الخطبة، 3/ 188، برقم 1578. (¬2) مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، 4/ 2060، برقم 2674. (¬3) مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، 2/ 705، برقم 1017. (¬4) أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4/ 201، برقم 4707، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/ 44 برقم 2676، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، 1/ 15 - 16، برقم 42، 43، 44، وأحمد، 4/ 46 - 47.

7 - وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم))، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دَخَنٌ))، قلت: وما دَخَنُهُ؟ قال: ((قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتُنكر))، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: ((نعم، دُعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها))، فقلت: يا رسول الله، صِفْهم لنا، قال: ((نعم: قومٌ من جِلدتنا، يتكلّمون بألسنتنا))، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزلْ تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (¬1)، قال الإمام النووي رحمه الله: قوله: ((يهدون بغير هديي)) الهدي الهيئة، والسيرة، والطريقة، قوله: ((دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها))، قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعون إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج، والقرامطة، ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، 8/ 119، برقم 7084، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة، ومفارقة الجماعة، 3/ 1475، برقم 1847.

ثالثا: من أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - في البدع:

وأصحاب المحنة)) (¬1). 8 - وفي حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أما بعد، ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، [هو حبل الله المتين من اتّبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة] فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به))، فحثَّ على كتاب الله، ورغَّب فيه (¬2). 9 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يكون في آخر الزمان دجّالون كذّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يُضلّونكم ولا يفتنونكم)) (¬3). ثالثاً: من أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - في البدع: 1 - ذكر ابن سعد رحمه الله بإسناده أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: ((أيها الناس إنما أنا متّبع، ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوِّموني)) (¬4). 2 - وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ((إيّاكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلُّوا ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 479. (¬2) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، 4/ 1873، برقم 2408. (¬3) مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، 1/ 12، برقم 6، 7، وابن وضاح في ما جاء في البدع، ص 67، برقم 65. (¬4) الطبقات الكبرى، 3/ 136.

رابعا: من أقوال التابعين وأتباعهم بإحسان:

وأضلُّوا)) (¬1). 3 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم، كل بدعة ضلالة)) (¬2). رابعاً: من أقوال التابعين وأتباعهم بإحسان: 1 - كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى رجل فقال: ((أما بعد، أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتّباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته)) (¬3). 2 - وقال الحسن البصري رحمه الله: ((لا يصحُّ القول إلا بعمل، ولا يصحُّ قول وعمل إلا بنية، ولا يصحُّ قول وعمل ونية إلا بالسنة)) (¬4). 3 - وقال الإمام الشافعي رحمه الله: ((حُكْمي في أصحاب الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويُحملوا على الإبل، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ¬

_ (¬1) أخرجه اللالكائي، في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/ 139، برقم 201، والدارمي في سننه، 1/ 47، برقم 121، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1041، برقم 2001، ورقم 2003، ورقم 2005. (¬2) أخرجه ابن وضاح في ما جاء في البدع، ص43، برقم 14، 12، والطبراني في المعجم الكبير، 9/ 154، برقم 8770، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 1/ 181: ((ورجاله رجال الصحيح))، وأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/ 96، برقم 102، وانظر: آثارًا أخرى عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في ما جاء في البدع لابن وضاح، ص 45، ومجمع الزوائد، 1/ 181. (¬3) سنن أبي داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة، 4/ 203، برقم 4612، وانظر: صحيح سنن أبي داود، للألباني، 3/ 873. (¬4) أخرجه اللالكائي، في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/ 63، برقم 18.

خامسا: البدع مذمومة من وجوه:

ويُقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام)) (¬1). 4 - وقال الإمام مالك رحمه الله: ((من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬2)، فما لم يكن يومئذ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً)) (¬3). 5 - وقال الإمام أحمد رحمه الله: ((أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين)) (¬4). خامساً: البدع مذمومة من وجوه: 1 - قد عُلم بالتجارب أن العقول غير مستقلة بمصالحها دون الوحي، والابتداعُ مضادّ لهذا العمل. 2 - الشريعة جاءت كاملة، لا تحمل الزيادة ولا النقصان. 3 - المبتدع معاند للشرع ومشاقّ له. 4 - المبتدع متّبع لهواه؛ لأن العقل إذا لم يكن متَّبِعاً للشرع لم يبق له إلا اتّباع الهوى. 5 - المبتدع قد نزَّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 9/ 116. (¬2) سورة المائدة، الآية: 3. (¬3) الاعتصام، للإمام الشاطبي، 1/ 65. (¬4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/ 176.

المطلب الرابع: أسباب البدع

الشرائع، وألزم المكلَّفين بالجري على سننها (¬1). المطلب الرابع: أسباب البدع البدع لها أسباب أدت إليها ومن هذه الأسباب (¬2) ما يأتي: أولاً: الجهل، فهو آفة خطيرة، قال الله - عز وجل -: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (¬3)، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬4)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله لا ينتزع العلم من الناس انتزاعاً، ولكن يقبض العلماء، فيرفَعُ العلم معهم، ويُبقي في الناس رُؤوساً جُهَّالاً يفتون بغير علم، فَيَضِلُّون ويُضِلُّون)) (¬5). ثانياً: اتباع الهوى، من الأسباب الخطيرة التي توقع الناس في البدع، والأهواء، قال الله - عز وجل -: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله إِنَّ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) انظر: الاعتصام، للشاطبي، 1/ 61 - 70. (¬2) انظر كثيراً من هذه الأسباب: الاعتصام للشاطبي، 1/ 287 - 365. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 36. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 33. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، 8/ 187، برقم 7307، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن آخر الزمان، 4/ 2058، برقم 2673.

ثالثا: التعلق بالشبهات

يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (¬1)، وقال سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (¬2). وقال الله - عز وجل -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (¬3). وقال - عز وجل -: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله} (¬4). وقال - عز وجل -: {إِن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} (¬5). ثالثاً: التعلق بالشبهات: فإن المبتدعة يتعلقون بالشبهات فيقعون في البدع، قال الله - عز وجل -: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (¬6). رابعاً: الاعتماد على العقل المجرَّد، فإن من اعتمد على عقله وترك ¬

_ (¬1) سورة ص، الآية: 26. (¬2) سورة الكهف، الآية: 28. (¬3) سورة الجاثية، الآية: 23. (¬4) سورة القصص، الآية: 50. (¬5) سورة النجم، الآية: 23. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 7.

خامسا: التقليد والتعصب

النص من القرآن والسنة أو من أحدهما ضلّ، والله - عز وجل - يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} (¬2). خامساً: التقليد والتعصب: فإن أكثر أهل البدع يقلِّدون آباءهم ومشايخهم، ويتعصبون لمذاهبهم، قال الله - عز وجل -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (¬3)، وقال - عز وجل -: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (¬4)، وأهل البدع زُيِّنت لهم أعمالهم، قال الله - عز وجل -: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (¬5)، وقال الله - عز وجل - مُبَيِّناً حال أهل البدع والأهواء: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولاْ * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الحشر، الآية: 7. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 36. (¬3) سورة البقرة، الآية: 170. (¬4) سورة الزخرف، الآية: 22. (¬5) سورة فاطر، الآية: 8. (¬6) سورة الأحزاب، الآيات: 66 - 68.

سادسا: مخالطة أهل الشر ومجالستهم

سادساً: مخالطة أهل الشر ومجالستهم، من الأسباب المؤدية إلى الوقوع في البدع وانتشارها بين الناس، وقد بين الله - عز وجل - أن المُجالِس لأهل السوء يندم، قال - سبحانه وتعالى -: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬2)، وقال - سبحانه وتعالى -: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة)) (¬4). سابعاً: سكوت العلماء وكتم العلم، من أسباب انتشار البدع والفساد بين الناس، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآيات: 27 - 29. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 68. (¬3) سورة النساء، الآية: 140. (¬4) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، 6/ 287، برقم 5534، ومسلم، في كتاب البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين، ومجانبة قرناء السوء، 4/ 2026، برقم 2628.

وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2)، وقال - سبحانه وتعالى -: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (¬3)، وقد أوجب الله على طائفة من الأمة الدعوة إلى الله - عز وجل - والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال - سبحانه وتعالى -: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4)، وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬5)، وهذا الحديث يبيّن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على كل أحدٍ على حسب هذه الدرجات. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من نبيّ بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حورايُّون وأصحاب، يأخذون بسنّته ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيتان: 159 - 160. (¬2) سورة البقرة، الآية: 174. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 187. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 104. (¬5) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، 1/ 69، برقم 49.

ثامنا: التشبه بالكفار وتقليدهم

ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبهم فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّةُ خرْدل)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سُئِلَ عن علم يعلمُهُ فكتمه أُلجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار)) (¬2). ثامناً: التشبه بالكفار وتقليدهم من أعظم ما يُحدث البدع بين المسلمين، ومما يدل على ذلك حديث أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين، ونحن حديثو عهدٍ بكفر، وكانوا أسلموا يوم الفتح، قال: فمررنا بشجرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ وكان للكفار سدرة يعكفون حولها، ويعلِّقون بها أسلحتهم، يدعونها ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الله أكبر وقلتم، والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (¬3)، لتركبنَّ سنن من كان قبلكم)) (¬4)، وهذا الحديث فيه دلالة واضحة على أن التشبه ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، 1/ 70، برقم 50. (¬2) الترمذي، في كتاب العلم، باب ما جاء في كتمان العلم، 5/ 29، برقم 2649، وأبو داود، في العلم، باب كراهية منع العلم، 3/ 321، برقم 3658، وابن ماجه، في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه، 1/ 98، برقم 266، ومسند أحمد، 2/ 263، 305، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 336، وصحيح سنن ابن ماجه، 1/ 49. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 138. (¬4) أخرجه بلفظه، أبو عاصم في كتاب السنة، 1/ 37، برقم 76، وحسن إسناده الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة، المطبوع مع كتاب السنة، 1/ 37، وأخرجه الترمذي بنحوه، في كتاب الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، 4/ 475، برقم 2180، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، وانظر: النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد، لجاسم بن فهيد الدوسري، ص64 - 65.

بالكفار هو الذي حمل بني إسرائيل على أن يطلبوا هذا الطلب القبيح، وهو الذي حمل أصحاب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - على أن يسألوه أن يجعل لهم شجرة يتبَّركون بها من دون الله - عز وجل -، وهكذا غالب الناس من المسلمين، قلّدوا الكفار في عمل البدع والشركيات، كأعياد المواليد، وبدع الجنائز، والبناء على القبور، ولا شك أن اتباع السَّنَن باب من أبواب الأهواء، والبدع (¬1) ويزيد ذلك وضوحاً حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لَتتَّبِعُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم: شِبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراعٍ، حتى لو دخلوا في جحر ضبٍّ لاتّبعتموهم)) قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن))؟ (¬2)، قال الإمام النووي رحمه الله: ((السَّنَن، بفتح السين والنون: وهو الطريق، والمراد بالشبر، والذراع، وجحر الضب: التمثيل بشدّة الموافقة في المعاصي والمخالفات، لا في الكفر، وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فقد وقع ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص147، ورسائل ودراسات في الأهواء والافتراق والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر العقل، 2/ 170، وكتاب التوحيد، للدكتور العلامة صالح الفوزان، ص87. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم))، 8/ 191، برقم 7320، ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، 4/ 2054، برقم 2669. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 460.

تاسعا: الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والموضوعة

فظهر أن الشبر، والذراع، والطريق، ودخول الجحر تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمّه (¬1)، وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبّه بغير أهل الإسلام، فقال: ((بُعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلُّ والصغار على من خالف أمري، ومن تشبّه بقوم فهو منهم)) (¬2). تاسعاً: الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، من الأسباب التي تؤدّي إلى البدع وانتشارها؛ فإن كثيراً من أهل البدع اعتمدوا على الأحاديث الواهية الضعيفة، والمكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها، وردّوا الأحاديث الصحيحة التي تخالف ما هم عليه من البدع، فوقعوا بذلك في المهالك والعطب، والخسارة، ولا حول ولا قوة إلا بالله (¬3). عاشراً: الغلو أعظم أسباب انتشار البدع، وظهورها، وهو سبب شرك البشر؛ لأن الناس بعد آدم عليه الصلاة والسلام كانوا على التوحيد عشرة قرون، وبعد ذلك تعلَّق الناس بالصالحين، وغلَوا فيهم حتى عبدوهم من دون الله - عز وجل -؛ فأرسل الله تعالى نوحاً - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 13/ 301. (¬2) أحمد في المسند، 2/ 50، 92، وصحح إسناده أحمد محمد شاكر في شرحه للمسند، برقم 5114، 5115، 5667، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) انظر: فتاوى ابن تيمية، 22/ 361 - 363، والاعتصام للشاطبي، 1/ 287 - 294، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص848، ورسائل ودراسات في الأهواء والافتراق والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر العقل، 2/ 180.

التوحيد، ثم تتابع الرسل عليهم الصلاة والسلام (¬1)، والغلوّ يكون: في الأشخاص، كتقديس الأئمة، والأولياء، ورفعهم فوق منازلهم، ويصل ذلك في النهاية إلى عبادتهم، ويكون الغلوّ في الدين، وذلك بالزيادة على ما شرعه الله، أو التشدّد والتكفير بغير حق، والغلوّ في الحقيقة: هو مجاوزة الحد في الاعتقادات، والأعمال، وذلك بأن يزاد في حمد الشيء، أو يُزاد في ذمّه على ما يستحق (¬2)، وقد حذَّر الله عن الغلوّ فقال - عز وجل - لأهل الكتاب: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} (¬3)، وحذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغلوّ في الدين، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إياكم والغلوّ في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين)) (¬4)، فظهر أن الغلوّ في الدين من أعظم أسباب الشرك، والبدع، والأهواء (¬5)؛ ولخطر الغلوّ في الدين حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإطراء فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ¬

_ (¬1) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير، 1/ 106. (¬2) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، 1/ 289. (¬3) سورة النساء، الآية: 171. (¬4) النسائي، كتاب المناسك، باب التقاط الحصى، 5/ 268، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، 2/ 1008، وأحمد 1/ 347، وصحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، 1/ 289. (¬5) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، 1/ 289، والاعتصام للشاطبي، 1/ 329 - 331، ورسائل ودراسات في الأهواء والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر العقل، 1/ 171، 183، والغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، للدكتور عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص77 - 81، والحكمة في الدعوة إلى الله - عز وجل -، لسعيد بن علي [المؤلف]، ص379.

المطلب الخامس: أقسام البدع

ورسوله)) (¬1). المطلب الخامس: أقسام البدع البدع أقسام مختلفة باعتبارات مختلفة، وإليك التفصيل بإيجاز واختصار: القسم الأول: البدعة الحقيقية والإضافية: 1 - البدعة الحقيقية: وهي التي لم يدلّ عليها دليل شرعي لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا استدلالٍ مُعتبَر عند أهل العلم، لا في الجملة، ولا في التفصيل؛ ولذلك سمّيت بدعة؛ لأنها شيء مُخترع في الدين على غير مثال سابق (¬2)، ومن أمثلة ذلك: التقرّب إلى الله - عز وجل - بالرّهبانية: أي اعتزال الخلق في الجبال ونبذ الدنيا ولذّاتها تعبّداً لله - عز وجل -، والذين فعلوا ذلك ابتدعوا عبادة من عند أنفسهم، وألزموا أنفسهم بها (¬3)، ومن أمثلة ذلك: تحريم ما أحلّ الله من الطيّبات تعبّداً لله - عز وجل - (¬4)، وغير ذلك من الأمثلة (¬5). 2 - البدعة الإضافية: وهي التي لها جهتان أو شائبتان: إحداهما: لها من الأدلة متعلَّق، فلا تكون من تلك الجهة بدعة. ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ... }،4/ 171،برقم 3445. (¬2) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 367. (¬3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 370، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/ 316، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص 782. (¬4) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 417. (¬5) انظر: المرجع السابق، 1/ 370 - 445.

والأخرى: ليس لها متعلَّق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية: أي أنها بالنسبة لإحدى الجهتين سنة لاستنادها إلى دليل، وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل، ولأنها مستندة إلى شيء، والفرق بينهما من جهة المعنى أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات، أو الأحوال، أو التفاصيل لم يقم عليها، مع أنها محتاجة إليه؛ لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العادات المحضة (¬1)، ومن أمثلة ذلك: الذكر أدبار الصلوات، أو في أي وقت على هيئة الاجتماع بصوت واحد، أو يدعو الإمام والناس يؤمِّنون أدبار الصلوات، فالذكر مشروع، ولكن أداءه على هذه الكيفية غير مشروع، وبدعة مخالفة للسنة (¬2)، ومن ذلك تخصيص يوم النصف من شعبان بصيام، وليلته بقيام، وصلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من رجب، وهذه بدع منكرة، وهي بدعة إضافية؛ لأن عبادات الصلاة والصيام الأصل فيها المشروعية، لكن يأتي الابتداع في تخصيص الزمان، أو المكان، أو الكيفية؛ فإن ذلك لم يأت في كتاب ولا سنة، فهي مشروعة باعتبار ذاتها، بدعة باعتبار ما عَرَض لها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 367، 445. (¬2) انظر: المرجع السابق، 1/ 452، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص 96. (¬3) انظر: أصول في البدع والسنن، للشيخ العدوي، ص30، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للسحيمي، ص96.

القسم الثاني: البدعة الفعلية والتركية:

القسم الثاني: البدعة الفعلية والتَّركية: 1 - البدعة الفعلية: تدخل في تعريف البدعة: فهي طريقة في الدين مُخترَعة، تشبه الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه (¬1)، ومن أمثلة ذلك: الزيادة في شرع الله ما ليس منه، كمن يزيد في الصلاة ركعة، أو يدخل في الدين ما ليس منه، أو يفعل العبادة على كيفية يخالف فيها هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، أو يخصّص وقتاً للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع: كتخصيص يوم النصف من شعبان بصيام وليلته بقيام (¬3). 2 - البدعة التَّركية: تدخل في عموم تعريف البدعة، من حيث إنها ((طريقة في الدين مخترعة)) (¬4)، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك، أو غير تحريم؛ فإن الفعل ((مثلاً)) قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه، أو يقصد تركه قصداً، فهذا الترك إما أن يكون لأمر يُعتبر شرعاً، أو لا: فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه؛ لأنه ترك ما يجوز تركه، أو ما يُطلب بتركه، كالذي يمنع نفسه من الطعام الفلاني من أجل أنه يضرّه في جسمه، أو عقله، أو دينه، وما أشبه ذلك، فلا مانع هنا من الترك، وهذا راجع إلى الحمية من المضرّات، وأصله قوله ¬

_ (¬1) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 50 - 56. (¬2) انظر: المرجع السابق،1/ 367 - 445،وتنبيه أولي الأبصار، للدكتور صالح السحيمي، ص99، وحقيقة البدعة وأحكامها، لسعيد الغامدي، 2/ 37، وأصول في البدع والسنن للعدوي، ص70، وعلم أصول البدع، لعلي بن حسن الأثري، ص107. (¬3) انظر: كتاب التوحيد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص82. (¬4) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 57.

- صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)) (¬1)، وكذلك لو ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وهذا كترك المشتبه حذراً من الوقوع في الحرام، واستبراءً للدين والعرض. وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تديُّناً أو لا؛ فإن لم يكن تديناً فالتارك عابث بتحريمه الفعل، أو بعزيمته على الترك، ولا يسمى هذا الترك بدعة؛ لأنه لا يدخل تحت لفظ الحدّ، إلا على الطريقة الثانية القائلة: إن البدعة تدخل في العادات، وأما على الطريقة الأولى، فلا يدخل، لكن هذا التارك يكون مخالفاً بتركه، أو باعتقاده التحريم فيما أحلَّ الله، وإثم المخالفة يختلف باختلاف درجات المتروك: من حيث: الوجوب، والندب. أما إن كان الترك تديُّناً فهو الابتداع في الدين، سواءً كان المتروك مباحاً، أو مأموراً به، وسواءً كان في العبادات، أو المعاملات، أو العادات: بالقول، أو الفعل، أو الاعتقاد، إذا قصد بتركه التعبّد لله كان مبتدعاً بتركه (¬2)، ومن الأدلّة على أن الترك في مثل ذلك يكون بدعة: قصة الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها، فكأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، 2/ 280، برقم 1905، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنته، 2/ 1018، برقم 1400. (¬2) انظر: الاعتصام، للشاطبي، 1/ 58.

له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له؛ لكني: أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (¬1). والمراد بالسنة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء: الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: من ترك طريقتي، وأخذ بطريقة غيري فليس مني (¬2). واتّضح مما سبق أن البدعة على قسمين: بدعة فعلية، وبدعة تركية، كما ظهر أن السنة على قسمين: سنة فعلية وسنة تركية، فسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تكون بالفعل تكون بالترك، فكما كلفنا الله باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله الذي يتقرب به إلى الله - إذا لم يكن من باب الخصوصيات -، كذلك طالبنا باتباعه في تركه، فيكون الترك سنة، والفعل سنة، وكما لا نتقرّب إلى الله بترك ما فعل، لا نتقرّب إليه بفعل ما ترك، فالفاعل لما ترك، كالتارك لما فعل، ولا فرق بينهما (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، 6/ 142، برقم 5063، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، 2/ 1020، برقم 1401. (¬2) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 9/ 105. (¬3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 57 - 60، و 479، 485، 498، والأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع، لجلال الدين السيوطي، ص205، وأصول في البدع، للشيخ محمد أحمد العدوي، ص70، وحقيقة البدعة وأحكامها، لسعيد بن ناصر الغامدي، 2/ 37 - 58، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص97، وعلم أصول البدع للشيخ علي بن حسن الأثري، ص107، وتحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين، للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي، ص83.

القسم الثالث: البدعة القولية الاعتقادية، والبدعة العملية:

القسم الثالث: البدعة القولية الاعتقادية، والبدعة العملية: 1 - البدعة القولية الاعتقادية: كمقالات الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، وسائر الفرق الضالّة، واعتقاداتهم، ويدخل في ذلك الفرق التي ظهرت كالقاديانية، والبهائية، وجميع فرق الباطنية المتقدمة: كالإسماعيلية، والنصيرية، والدروز، والرافضة وغيرهم. 2 - البدعة العملية وهي أنواع: النوع الأول: بدعة في أصل العبادة، كأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع، كأن يحدث صلاة غير مشروعة، أو صياماً غير مشروع، أو أعياداً غير مشروعة، كأعياد المواليد وغيرها. النوع الثاني: ما يكون من الزيادة على العبادة المشروعة، كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلاً. النوع الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة المشروعة، بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، وكذلك أداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة، وكالتعبد بالتشديد على النفس في العبادات إلى حدٍّ يخرج عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. النوع الرابع: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع: كتخصيص يوم النصف من شعبان بصيام، وليلته بقيام؛ فإن

المطلب السادس: حكم البدعة في الدين

أصل الصيام والقيام مشروع، ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل (¬1). المطلب السادس: حكم البدعة في الدين لاشك أن كل بدعة في الدين ضلالة، ومحرّمة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم ومُحدَثات الأمور، فإن كل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬3)، فدل الحديثان على أن كل مُحدَثٍٍ في الدين فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة مردودة، فالبدع في العبادات محرمة، ولكن التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة: فمنها: ما هو كفر: كالطواف بالقبور تقرّباً إلى أصحابها، وتقديم الذبائح والنذور لها، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وكأقوال غلاة الجهمية، والمعتزلة، والرافضة. ومنها: ما هو من وسائل الشرك: كالبناء على القبور، والصلاة والدعاء عندها. ومنها: ما هو من المعاصي: كبدعة التبتل ((ترك الزواج))، والصيام قائماً ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 18/ 346، 35 - 414، وكتاب التوحيد للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص 81 - 82، ومجلة الدعوة، العدد 1139، 9 رمضان، 1408، مقال الدكتور صالح الفوزان في أنواع البدع، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص 100. (¬2) أبو داود، 4/ 201، برقم 4607، والترمذي، 5/ 44، برقم 2676، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، 3/ 222،برقم 2697،ومسلم، 3/ 1343، برقم 1718، وتقدم تخريجه.

في الشمس، والخصاء بقصد قطع الشهوة، وغير ذلك (¬1)، وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله: أن إثم المبتدع ليس على رتبة واحدة، بل هو على مراتب مختلفة، واختلافها يقع من جهات، على النحو الآتي: 1 - من جهة كون صاحب البدعة مُدَّعياً للاجتهاد أو مقلداً. 2 - من جهة وقوعها في الضروريات: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال أو غيرها. 3 - من جهة كون صاحبها مستتراً بها أو معلناً. 4 - من جهة كونه داعياً إليها أو غير داعٍ لها. 5 - من جهة كونه خارجاً على أهل السنة أو غير خارج. 6 - من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية. 7 - من جهة كون البدعة بيِّنة أو مشكلة. 8 - من جهة كون البدعة كفراً أو غير كفر. 9 - من جهة الإصرار على البدعة أو عدمه. وبيّن رحمه الله أن هذه المراتب تختلف في الإثم على حسب النظر إلى دركاتها (¬2). وأوضح رحمه الله أن هذه المراتب منها ما هو محرم، ومنها ما هو مكروه، وأن وصف الضلال ملازم لها، وشامل لأنواعها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: كتاب التوحيد للعلامة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، ص 82. (¬2) انظر: الاعتصام، 1/ 216 - 224، و2/ 515 - 559. (¬3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 2/ 530.

ولا شك أن البدع تنقسم على حسب مراتبها في الإثم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: كفر بواح (¬1). القسم الثاني: كبيرة من كبائر الذنوب (¬2). القسم الثالث: صغيرة من صغائر الذنوب (¬3)، وللبدعة الصغيرة شروط، هي: الشرط الأول: لا يداوم عليها، فإن المداومة تنقلها إلى كبيرة في حقه. الشرط الثاني: لا يدعو إليها؛ فإن ذلك يعظم الذنب لكثرة العمل بها. الشرط الثالث: لا يفعلها في مجتمعات الناس، ولا في المواضع التي تقام فيها السنن. الشرط الرابع: لا يستصغرها ولا يستحقرها، فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب (¬4). واسم الضلالة يقع على هذه الأقسام الثلاثة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل كل بدعة ضلالة، وهذا يشمل البدعة المكفرة، والبدعة المفسقة: سواء كانت كبيرة أو صغيرة (¬5). ومنهم من قسم البدع إلى أقسام أحكام الشريعة الخمسة: فقال: قسم من البدع واجب، وقسم محرم، وقسم مندوب إليه، والقسم الرابع: ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، 2/ 516. (¬2) انظر: الاعتصام للشاطبي، 2/ 517 و 2/ 543 - 550. (¬3) انظر: المرجع السابق، 2/ 517، و 2/ 539، 543 - 550. (¬4) انظر هذه الشروط مع شرحها النفيس: الاعتصام للشاطبي، 2/ 551 - 559. (¬5) انظر: المرجع السابق، 2/ 516.

المطلب السابع: أنواع البدع عند القبور

بدعة مكروهة، والقسم الخامس: البدع المباحة. وهذا التقسيم مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) (¬1). وقد رد على هذا التقسيم الإمام الشاطبي رحمه الله بعد أن ذكر التقسيم وصاحبه: ((والجواب أن هذا التقسيم أمر مُخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو في نفسه متدافع؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي: لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هناك ما يدل من الشرع على وجوبٍ، أو ندبٍ، أو إباحةٍ؛ لما كان ثَمَّ بدعة، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخيّر فيها، فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها، أو ندبها، أو إباحتها جمع بين متنافيين، أما المكروه منها والمحرم، فمسلَّمٌ من جهة كونها بدعاً، لا من جهةٍ أخرى (¬2). المطلب السابع: أنواع البدع عند القبور النوع الأول: من يسأل الميت حاجته (¬3)، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، وقد قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (¬4)، فكل من دعا نبياً، أو ولياً، أو صالحاً، وجعل فيه ¬

_ (¬1) أبو داوود، 4/ 201، برقم 4607، والترمذي، 5/ 44، برقم 2676، وتقدم تخريجه. (¬2) الاعتصام، 1/ 246. (¬3) انظر: تعريف البدعة لغة واصطلاحاً، في المطلب الأول من المبحث الثاني من هذا الكتاب. (¬4) سورة الإسراء، الآيتان: 56 - 57.

النوع الثاني: أن يسأل الله تعالى بالميت

نوعاً من الإلهيّة، فقد تناولته هذه الآية؛ فإنها عامة في كل من دعا من دون الله مدعوّاً، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، فكل من دعا مَيِّتاً، أو غائباً: من الأنبياء، والصالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة، أو غيرها فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من العبادة مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أعني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يُستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل، فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليُعبد وحده، ولا يُجعل معه إله آخر. النوع الثاني: أن يسأل الله تعالى بالميت، وهو من البدع المحدثة في الإسلام، وهذا ليس كالذي قبله فإنه لا يصل إلى الشرك الأكبر. والعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين كقول أحدهم: أتوسل إليك بنبيك، أو بأنبيائك، أو بملائكتك، أو بالصالحين من عبادك، أو بحقّ الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، وهذه الأمور من البدع المحدثة المنكرة، والذي جاءت به السنة هو التوسّل والتوجّه بأسماء الله تعالى، وصفاته، وبالأعمال الصالحة، كما ثبت في الصحيحين في قصة الثلاثة (أصحاب الغار)، وبدعاء المسلم الحي الحاضر لأخيه المسلم. النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عند القبور مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك.

المطلب الثامن: البدع المنتشرة المعاصرة

فإن هذا من المنكرات إجماعاً، ولم نعلم في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين، وهذا أمر لم يشرعه الله، ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين ولا أئمة المسلمين، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجدبوا مرات، ودهمتهم نوائب، ولم يجيئوا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل خرج عمر بالعباس فاستسقى بدعائه، وقد كان السلف ينهون عن الدعاء عند القبور، فقد رأى علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فيها، فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا تجعلوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليَّ، وسلّموا حيثما كنتم، فسيبلغني سلامكم وصلاتكم)) (¬1)، ووجه الدلالة أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيداً فغيره أولى بالنهي كائناً ما كان (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلُّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬3). المطلب الثامن: البدع المنتشرة المعاصرة البدع المنتشرة المعاصرة كثيرة جداً، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: ¬

_ (¬1) رواه إسماعيل القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص34، وصححه الألباني في المرجع نفسه، وله طرق وروايات ذكرها في كتابه تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، ص140. (¬2) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم، 6/ 165 - 174. (¬3) رواه أبو داود، واللفظ له، في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، 2/ 218، برقم 2042، وأحمد، 2/ 367، وحسنه الشيخ الألباني في كتابه: تحذير الساجد، ص142.

أولا: بدعة الاحتفال بالمولد النبوي:

أولاً: بدعة الاحتفال بالمولد النبوي: الاحتفال بالمولد بدعة منكرة، وأول من أحدثها العبيديون في القرن الرابع الهجري، وقد بيّن العلماء قديماً وحديثاً بطلان هذه البدعة والرد على من ابتدعها وعمل بها، فلا يجوز الاحتفال بالمولد، لأمور وبراهين منها: أولاً: الاحتفال بالمولد من البدع المحدثة في الدين التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرعه لا بقوله، ولا فعله، ولا تقريره، وهو قدوتنا وإمامنا، قال الله - عز وجل -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو وَاتَّقُوا الله إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1)،وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} (¬2)،وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) (¬3). ثانياً: الخلفاء الراشدون ومن معهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتفلوا بالمولد، ولم يدعوا إلى الاحتفال به، وهم خير الأمة بعد نبيها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حق الخلفاء الراشدين: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور، فإن كل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (¬4). ثالثاً: الاحتفال بالمولد من سنة أهل الزيغ والضلال؛ فإن أول من أحدث الاحتفال بالمولد الفاطميون، العبيديون في القرن الرابع الهجري، ¬

_ (¬1) سورة الحشر، الآية: 7. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 2697، ومسلم، برقم 1718، وتقدم تخريجه. (¬4) أبو داود، برقم 4607، والترمذي، برقم 2676، وتقدم تخريجه.

وقد انتسبوا إلى فاطمة رضي الله عنها ظلماً وزوراً، وبهتاناً؛ وهم في الحقيقة من اليهود، وقيل من المجوس، وقيل من الملاحدة (¬1)، وأولهم المعز لدين الله العبيدي المغربي الذي خرج من المغرب إلى مصر في شوال سنة 361هـ، وقدم إلى مصر في رمضان سنة 362هـ (¬2)، فهل لعاقل مسلم أن يقلد الرافضة، ويتّبع سنتهم ويخالف هدي نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -؟. رابعاً: إن الله - عز وجل - قد كمَّل الدين، فقال - سبحانه وتعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬3)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلّغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة، ويُباعد من النار إلا بيَّنه للأمة، ومعلوم أن نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل الأنبياء، وخاتمهم، وأكملهم بلاغاً، ونصحاً لعباد الله، فلو كان الاحتفال بالمولد من الدين الذي يرضاه الله - عز وجل - لبيَّنه - صلى الله عليه وسلم - لأمته، أو فعله في حياته، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدلّ أمّته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرّ ما يعلمه ¬

_ (¬1) انظر: الإبداع في مضار الابتداع، للشيخ علي محفوظ، ص251، والتبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع، ص359 - 373، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص232. (¬2) انظر: البداية والنهاية: لابن كثير، 11/ 272 - 273، 345، 12/ 267 - 268، و 6/ 232، 11/ 161، 12/ 13، 63، 266، وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 15/ 159 - 215، وذكر أن آخر ملوك العبيدية: العاضد لدين الله، قتله صلاح الدين الأيوبي سنة 564هـ، قال: ((تلاشى أمر العاضد مع صلاح الدين إلى أن خلعه وخطب لبني العباس واستأصل شأفة بني عبيد ومحق دولة الرفض، وكانوا أربعة عشر متخلفاً لا خليفة، والعاضد في اللغة: القاطع، فكان هذا عاضداً لدولة أهل بيته))، 15/ 212. (¬3) سورة المائدة، الآية: 3.

لهم)) (¬1). خامساً: إحداث مثل هذه الموالد البدعية يُفهم منه أن الله تعالى لم يُكمل الدين لهذه الأمة، فلا بد من تشريع ما يكمل به الدين! ويفهم منه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يُبلّغ ما ينبغي للأمة حتى جاء هؤلاء المبتدعون المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به سبحانه، زاعمين أن ذلك يقرّبهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على الله - عز وجل -، وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والله - عز وجل - قد أكمل الدين، وأتمّ على عباده نعمته. سادساً: صرّح علماء الإسلام المحقّقون بإنكار الموالد، والتحذير منها عملاً بالنصوص من الكتاب والسنة، التي تحذّر من البدع في الدين، وتأمر باتّباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتحذّر من مخالفته في القول وفي الفعل والعمل. سابعاً: إن الاحتفال بالمولد لا يحقّق محبّة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يحقّق ذلك: اتّباعه، والعمل بسنته، وطاعته - صلى الله عليه وسلم -، قال الله - عز وجل -: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬2). ثامناً: الاحتفال بالمولد النبوي، واتخاذه عيداً فيه تشبه باليهود والنصارى في أعيادهم، وقد نُهينا عن التشبه بهم، وتقليدهم (¬3). تاسعاً: العاقل لا يغترّ بكثرة من يحتفل بالمولد من الناس في سائر ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء: الأول فالأول،2/ 1473،برقم 1844. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 31. (¬3) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، 2/ 614 - 615، وزاد المعاد، لابن القيم، 1/ 59.

البلدان، فإن الحقّ لا يُعرف بكثرة العاملين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (¬2)، وقال سبحانه: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬3). عاشراً: القاعدة الشرعية: ردّ ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (¬4)، وقال - عز وجل -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} (¬5)، ولا شك أن من ردّ الاحتفال بالمولد إلى الله ورسوله يجد أن الله يأمر باتّباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (¬6)، ويبين - سبحانه وتعالى - أنه قد أكمل الدين، وأتمّ النعمة على المؤمنين، ويجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بالاحتفال بالمولد، ولم يفعله، ولم يفعله أصحابه، فعلم بذلك أن الاحتفال بالمولد ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة. الحادي عشر: إن المشروع للمسلم يوم الإثنين أن يصوم إذا أحبّ، ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 116. (¬2) سورة يوسف، الآية: 103. (¬3) سورة سبأ، الآية: 13. (¬4) سورة النساء، الآية: 59. (¬5) سورة الشورى، الآية: 10. (¬6) سورة الحشر، الآية: 7.

لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: ((ذاك يومٌ ولدت فيه، ويومٌ بعثت، أو أُنزل عليَّ فيه)) (¬1)، فالمشرع التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في صيام يوم الإثنين، وعدم الاحتفال بالمولد. الثاني عشر: عيد المولد النبوي لا يخلو من وقوع المنكرات والمفاسد غالباً، ويعرف ذلك من شاهد هذا الاحتفال، ومن هذه المنكرات على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: 1 - أكثر القصائد والمدائح التي يتغنَّى بها أهل المولد لا تخلو من ألفاظ شركية، والغلوّ، والإطراء الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله)) (¬2). 2 - يحصل في الاحتفالات بالموالد في الغالب بعض المحرمات الأخرى: كاختلاط الرجال بالنساء، واستعمال الأغاني والمعازف، وشرب المسكرات والمخدرات، وقد يحصل فيها الشرك الأكبر كالاستغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -،أو غيره من الأولياء، والاستهانة بكتاب الله - عز وجل -، فيشرب الدخان في مجلس القرآن، ويحصل الإسراف والتبذير في الأموال، وإقامة حلقات الذكر المحرَّف في المساجد أيام الموالد، مع ارتفاع أصوات المنشدين مع التصفيق القوي من رئيس الذاكرين، وكل ذلك غير ¬

_ (¬1) صحيح مسلم عن أبي قتادة - رضي الله عنه -، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة وعاشوراء، والإثنين والخميس، 2/ 819، برقم 1162. (¬2) البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ... } 4/ 171،برقم 3445.

مشروع بإجماع علماء أهل الحق (¬1). 3 - يحصل عمل قبيح في الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يكون بقيام البعض عند ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم - إكراماً له وتعظيماً، لاعتقادهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحضر المولد في مجلس احتفالهم؛ ولهذا يقومون له محيِّين ومرحبِّين، وهذا من أعظم الباطل، وأقبح الجهل؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة (¬2)، كما قال الله - عز وجل -: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (¬3)، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشقّ عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفّع)) (¬4)، فهذه الآية، والحديث الشريف، وما جاء في هذا المعنى من الآيات والأحاديث، كلّها تدلّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة. قال سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين، ليس فيه نزاعٌ بينهم)) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: الإبداع في مضار الابتداع، للشيخ علي محفوظ، ص 251 - 257. (¬2) انظر: التحذير من البدع، لسماحة العلامة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله، ص13. (¬3) سورة المؤمنون، الآيتان: 15 - 16. (¬4) مسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلائق،4/ 1782، برقم 2278. (¬5) التحذير من البدع، ص7 - 14، وانظر: الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ ص250 - 258، والتبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع، ص358 - 373، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، ص228 - 250.

ثانيا: بدعة الاحتفال بأول ليلة جمعة من شهر رجب:

ثانياً: بدعة الاحتفال بأول ليلة جمعة من شهر رجب: الاحتفال بأول ليلة جمعة من شهر رجب بدعة منكرة، فقد ذكر الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: أنه أخبره أبو محمد المقدسي فقال: ((وأما صلاة رجب فلم تحدث عندنا في بيت المقدس إلا بعد سنة ثمانين وأربعمائة [480هـ]، وما كُنَّا رأيناها، ولا سمعنا بها قبل ذلك)) (¬1). وقال الإمام أبو شامة رحمه الله: ((وأما صلاة الرغائب فالمشهور بين الناس اليوم أنها هي التي تُصلى بين العشائين ليلة أول جمعة من شهر رجب)) (¬2). وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((فأما الصلاة فلم يصحَّ في شهر رجب صلاة مخصوصة، تختصُّ به، والأحاديث المرويّة في صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذبٌ وباطل لا تصحّ، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء)) (¬3). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معيَّن، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه، حديث صحيح يصلح للحجة)) (¬4)، ثم بيّن رحمه الله أن الأحاديث ¬

_ (¬1) الحوادث والبدع، لأبي بكر الطرطوشي، ص267، برقم 238. (¬2) كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، للإمام أبي شامة، ص138. (¬3) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، ص228. (¬4) تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، ص23.

الواردة في فضل رجب، أو فضل صيامه، أو صيام شيء منه على قسمين: ضعيفة، وموضوعة (¬1)، ثم ذكر حديث صلاة الرغائب، وفيه: أنه يصوم أول خميس من رجب ثم يصلي بين العشائين ليلة الجمعة اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرةً، و {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ثلاثَ مراتٍ، و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} اثنتي عشرة مرّةً، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، ثم ذكر كلاماً طويلاً في صفة التسبيح والاستغفار، والسجود، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم بيّن بأن هذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيّن أن من يصلِّيها يحتاج إلى أن يصوم، وربما كان النهار شديد الحر، فإذا صام لم يتمكن من الأكل حتى يصلي المغرب، ثم يقف في صلاته، ويقع في ذلك التسبيح الطويل، والسجود الطويل، فيتأذّى غاية الأذى، وقال: ((وإني لأغار لرمضان ولصلاة التراويح كيف زوحم بهذه، بل هذه عند العوام أعظم وأجلّ؛ فإنه يحضرها من لا يحضر الجماعات)) (¬2). وقال الإمام ابن الصلاح رحمه الله، في صلاة الرغائب: ((حديثها موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي بدعة حدثت بعد أربعمائة من الهجرة)) (¬3). وأفتى الإمام العزّ بن عبد السلام سنة سبع وثلاثين وستمائة [637هـ] أن صلاة الرغائب بدعة منكرة، وأن حديثها كذب على ¬

_ (¬1) انظر: تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، ص23. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص54. (¬3) كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، للإمام أبي شامة، ص145.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). وأختم كلام الأئمة بتلخيصٍ لكلام الإمام أبي شامة في بطلان صلاة الرغائب ومفاسدها، فقد بيَّن رحمه الله ذلك على النحو الآتي: 1 - مما يدلّ على ابتداع هذه الصلاة أن العلماء الذين هم أعلام الدين وأئمة المسلمين: من الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، وغيرهم ممّن دوَّن الكتب في الشريعة، مع شدّة حرصهم على تعليم الناس الفرائض والسنن، لم ينقل عن واحدٍ منهم أنه ذكر هذه الصلاة، ولا دوّنها في كتابه، ولا تعرّض لها في مجلسه، والعادة تحيل أن تكون هذه سنة، وتغيب عن هؤلاء الأعلام. 2 - هذه الصلاة مخالفة للشرع من وجوهٍ ثلاثة: الوجه الأول: مخالفة لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصّوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) (¬2)، فلا يجوز أن تُخصّ ليلة الجمعة بصلاة زائدة على سائر الليالي لهذا الحديث (¬3)، وهذا يعمُّ أوّل ليلة جمعة من رجب وغيرها. الوجه الثاني: صلاة رجب وشعبان صلاتا بدعة قد كُذِبَ فيهما على ¬

_ (¬1) تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، ص 149. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، 2/ 303، برقم 1985، ومسلم، كتاب الصيام، باب كراهة صوم يوم الجمعة منفرداً، 2/ 801، برقم 1144. (¬3) انظر: كتاب الباعث على إنكار البدع، لأبي شامة، ص 156.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بوضع ما ليس من حديثه، وكُذِبَ على الله بالتقدير عليه في جزاء الأعمال ما لم يُنَزِّل به سلطاناً، فمن الغيرة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - تعطيل ما كُذِبَ فيه على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهجره، واستقباحه، وتنفير الناس عنه؛ فإنه يلزم من الموافقة على ذلك مفاسد، هي: المفسدة الأولى: اعتماد العوام على ما جاء في فضلها وتكفيرها، فيحمل كثيراً منهم على أمرين: أحدهما: التفريط في الفرائض. والثاني: الانهماك في المعاصي، وينتظرون مجيء هذه الليلة ويصلون هذه الصلاة، فيرون ما فعلوه مجزئاً عما تركوه، وماحياً ما ارتكبوه، فعاد ما ظنه واضع الحديث في صلاة الرغائب حاملاً على مزيد الطاعات: مكثراً من مزيد ارتكاب المعاصي والمنكرات. المفسدة الثانية: أن فعل البدع مما يغري المبتدعين في إضلال الناس إذا رأوا رواج ما وضعوه، وانهماك الناس عليه، فينقلونهم من بدعة إلى بدعة، أما ترك البدع ففيه زجر للمبتدعين والواضعين عن وضع البدع. المفسدة الثالثة: أن الرجل العالم إذا فعل هذه البدعة كان موهماً للعامة أنها من السنن، فيكون كاذباً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلسان الحال، ولسان الحال قد يقوم مقام لسان المقال، وأكثر ما أُوتي الناس في البدع بهذا السبب. المفسدة الرابعة: أن العالم إذا صلَّى هذه الصلاة المبتدعة كان متسبِّباً إلى أن تكذب العامة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون هذه سنة من السنن.

الوجه الثالث: أن هذه الصلاة البدعية مشتملة على مخالفة سنن الشرع في الصلاة لأمور: الأمر الأول: مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة بسبب عدد السجدات، وعدد التسبيحات، وعدد قراءة سورتي: ((القدر))،و ((الإخلاص)) في كل ركعة. الأمر الثاني: مخالفة لسنة خشوع القلب وخضوعه وحضوره في الصلاة، وتفريغه لله، والوقوف على معاني القرآن. الأمر الثالث: مخالفة لسنة النوافل في البيوت؛ لأن فعلها في البيوت أولى من فعلها في المساجد، وفعلها على الانفراد، إلا صلاة التراويح في رمضان. الأمر الرابع: أن من كمال هذه الصلاة البدعية عند واضعيها صيام يوم الخميس ذلك اليوم، فيلزم بذلك تعطيل سنتين: سنة الإفطار، وسنة تفريغ القلب من ألم الجوع والعطش. الأمر الخامس: أن سجدتي هذه الصلاة بعد الفراغ منها سجدتان لا سبب لهما (¬1). وكل ما تقدم من الأدلّة، وأقوال الأئمة، وأوجه البطلان، وأقسام المفاسد يُبيِّن للعاقل أن صلاة الرغائب بدعة منكرة قبيحة، محدثة في الإسلام. ¬

_ (¬1) انظر: كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، لأبي شامة، ص 153 - 196، وهذه المفاسد، وأوجه البطلان تشمل صلاة الرغائب في أول جمعة من رجب، وليلة النصف من شعبان، كما صرح بذلك أبو شامة في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص174.

ثالثا: بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج:

ثالثاً: بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج: ليلة الإسراء والمعراج من آيات الله - عز وجل - العظيمة الدالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعظم منزلته عند الله، وعلى عظم قدرة الله الباهرة، وعلى علوِّه - عز وجل - على جميع خلقه، قال - عز وجل -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} (¬1). وتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه عُرج به إلى السماء، وفُتحت له أبوابها، حتى جاوز السماء السابعة، فكلّمه ربّه - عز وجل - كما أراد - سبحانه وتعالى -، وفرض عليه الصلوات الخمس، وكان الله - عز وجل - فرضها خمسين صلاة، فلم يزل نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يراجع ربه، ويسأله التخفيف، حتى جعلها خمساً في الفرض، وخمسين صلاة في الأجر؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها، فلله الحمد والشكر على جميع نعمه التي لا تعد ولا تحصى (¬2). وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء لا يُحتفَل بها، ولا تُخصّ بشيء من أنواع العبادة التي لم تُشرع؛ لأمور منها: أولاً: هذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ خبر صحيح في تحديدها، ولا تعيينها، لا في رجب ولا في غيره، فقيل: إنها كانت بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر شهراً، وقيل: ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة، وقيل: كان ذلك بعد مبعثه بخمس ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 1. (¬2) انظر: التحذير من البدع، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، ص16.

سنين (¬1) وقيل: ليلة سبعة وعشرين من شهر ربيع الأول (¬2)، وقال الإمام أبو شامة رحمه الله: ((وذكر عن بعض القُصَّاص أن الإسراء كان في رجب، وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب)) (¬3)، وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن ليلة الإسراء لا يُعرف أيّ ليلة كانت (¬4). قال العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله: ((وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ في الأحاديث الصحيحة تعيينها، لا في رجب ولا في غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها)) (¬5)، ولو ثبت تعيينها لم يجز أن تُخصَّ بشيءٍ من أنواع العبادة بدون دليل (¬6). ثانياً: لا يعرف عن أحد من المسلمين: أهل العلم والإيمان أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة عن غيرها؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والتابعين وأتباعهم بإحسان لم يحتفلوا بها، ولم يخصّوها بشيء من العبادة، ولم يذكروها، ولو كان الاحتفال بها أمراً مشروعاً؛ لبيّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأمة: إما بالقول، وإما بالفعل، ولو وقع أمر من ذلك؛ لعرف واشتهر، ونقله ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 267 - 268. (¬2) انظر: كتاب الحوادث والبدع، لأبي شامة، ص232. (¬3) المرجع السابق، ص232،وانظر: تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، لابن حجر، ص 9، 19، 52، 64، 65. (¬4) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، 1/ 58. (¬5) التحذير من البدع، ص17. (¬6) المرجع السابق، ص17.

رابعا: الاحتفال بليلة النصف من شعبان:

الصحابة - رضي الله عنهم - إلينا (¬1). ثالثاً: قد أكمل الله لهذه الأمة دينها، وأتمّ النعمة، قال الله - عز وجل -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬2)، وقال - سبحانه وتعالى -: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). رابعاً: حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من البدع، وصرّح بأن كل بدعة ضلالة، وأنها مردودة على صاحبها، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) (¬4)، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) (¬5). وحذّر السلف الصالح من البدع؛ لأنها زيادة في الدين وشرعٌ لم يأذن به الله، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتشبُّه بأعداء الله: من اليهود والنصارى في زياداتهم في دينهم (¬6). رابعاً: الاحتفال بليلة النصف من شعبان: أخرج الإمام محمد بن وضَّاح القرطبي بإسناده عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال: لم أدرك أحداً من مشيختنا، ولا فقهائنا يلتفتون إلى ¬

_ (¬1) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 58، والتحذير من البدع، للعلامة ابن باز، ص17. (¬2) سورة المائدة، الآية: 3. (¬3) سورة الشورى، الآية: 21. (¬4) البخاري 3/ 222، برقم 2697، ومسلم، 3/ 344، برقم 1718، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، 3/ 344، برقم 1718، وتقدم تخريجه. (¬6) انظر: التحذير من البدع، لابن باز، ص19.

ليلة النصف من شعبان، ولم ندرك أحداً منهم يذكر حديث مكحول (¬1) ولا يرى لها فضلاً على ما سواها من الليالي)) (¬2). وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ((وأخبرني أبو محمد المقدسي، قال: ((لم تكن عندنا ببيت المقدس قطُّ صلاة الرغائب هذه التي تُصلّى في رجب وشعبان، وأوّل ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة [448هـ]، قَدِمَ علينا في بيت المقدس رجل من أهل نابلس يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام فصلَّى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، فأحرم خلفه رجل ثم انضاف إليهم ثالث، ورابع، فما ختمها إلا وهم في جماعة كبيرة، ثم جاء في العام القابل فصلّى معه خلق كثير، ثم جاء من العام القابل فصلَّى معه خلق كثير، وشاعت في المسجد، وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى وبيوت ¬

_ (¬1) يعني بحديث مكحول ما أخرجه ابن أبي عاصم في السنة، برقم 512، وابن حبان برقم 5665 [12/ 481]، والطبراني في الكبير 20/ 109، برقم 215، وأبو نعيم في الحلية، 5/ 191، والبيهقي في شعب الإيمان، 5/ 272 برقم 6628، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يرفعه: ((يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشركٍ أو مشاحن))، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: حديث صحيح روي عن جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضاً، وهم: معاذ بن جبل، وأبو ثعلبة الخشني، وعبد الله بن عمرو، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأبو بكر الصديق، وعوف بن مالك، وعائشة - رضي الله عنهم -، ثم خَرَّج هذه الطرق الثمانية، وتكلم على رجالها في أربع صفحات. قلت: فإن صحّ هذا الحديث في فضل ليلة النصف من شعبان كما يقول الألباني رحمه الله فليس فيه ما يدل على تخصيص ليلتها بقيام ولا يومها بصيام، إلا ما كان يعتاده المسلم من العبادات المشروعة في أيام السّنَة؛ لأن العبادات توقيفية. (¬2) كتاب فيه ما جاء في البدع، للإمام ابن وضَّاح، المتوفى سنة 287هـ ص100، برقم 119.

الناس، ومنازلهم ثم استقرّت كأنها سُنَّة إلى يومنا هذا)) (¬1). وأخرج الإمام ابن وضاح بسنده أن ابن أبي مليكة قيل له إن زياداً النميري يقول: إن ليلة النصف من شعبان أجرها كأجر ليلة القدر، فقال ابن أبي مليكة: ((لو سمعته منه وبيدي عصاً لضربته بها، وكان زيادٌ قاضياً)) (¬2). وقال الإمام أبو شامة الشافعي رحمه الله: ((وأما الألفية فصلاة النصف من شعبان سُمِّيت بذلك لأنها يُقرأ فيها ألف مرة {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} لأنها مائة ركعة, في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة, وسورة الإخلاص عشر مرات، وهي صلاة طويلة مستثقلة لم يأتِ فيها خبر, ولا أثر, إلا ضعيف أو موضوع, وللعوامّ بها افتتان عظيم, والتزم بسببها كثرة الوقيد في جميع مساجد البلاد, التي تصلَّى فيها، ويستمر ذلك الليل كله, ويجري فيه الفسوق والعصيان, واختلاط الرجال بالنساء, ومن الفتن المختلفة ما شهرته تُغني عن وصفه, وللمتعبّدين من العوامِّ فيها اعتقاد متين, وزيّن لهم الشيطانُ جَعْلَها من أصل شعائر المسلمين)) (¬3). وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد كلام نفيس: ((وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام: كخالد بن معدان, ومكحول, ¬

_ (¬1) كتاب الحوادث والبدع، للطرطوشي، المتوفى سنة 474هـ، ص266، برقم 238. (¬2) كتاب فيه ما جاء في البدع، لابن وضاح، ص101، برقم 120، ورواه الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع عن ابن وضاح، ص263، برقم 235. (¬3) كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، لعبد الرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة، المتوفى سنة 665هـ، ص124.

ولقمان بن عامر, وغيرهم يعظّمونها ويجتهدون فيها في العبادة, وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها, وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثارٌ إسرائيلية, فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختُلف في تعظيمها، فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عبّاد أهل البصرة، وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم: عطاء، وابن أبي مليكه، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة، واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين: أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعةً في المساجد، كان خالد بن معدان، ولقمان بن عامر، وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم، ويتبخّرون، ويكتحلون، ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد ليس ذلك ببدعة، نقله عنه حرب الكرماني في مسائله. والثاني: أنه يُكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة، والقصص، والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي، إمام أهل الشام، وفقيههم، وعالمهم، وهذا الأقرب إن شاء الله تعالى ... ))، ثم قال: ((ولا يُعرف للإمام أحمد كلامٌ في ليلة نصف شعبان، ويُخرَّج في استحباب قيامها عنه روايتان، من الروايات عنه في قيام ليلة العيد؛ فإنه في رواية لم يستحبّ قيامها جماعةً؛ لأنه لم يُنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، واستحبّها في رواية؛ لفعل عبد الرحمن بن زيد بن

خامسا: التبرك:

الأسود لذلك، وهو من التابعين، فكذلك قيام ليلة النصف من شعبان، لم يثبت فيها شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام)) (¬1). قال الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله: ((وأما ما اختاره الأوزاعي رحمه الله من استحباب قيامها للأفراد، واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول فهو غريب وضعيف؛ لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعاً لم يجزْ للمسلم أن يحدثه في دين الله، سواء فعله مفرداً أو جماعةً، وسواءً أسرّه أو أعلنه، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬2)، وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها)) (¬3). فمما تقدم من كلام الإمام ابن وضاح، والإمام الطرطوشي، والإمام عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة، والحافظ ابن رجب رحمهم الله، وإمام هذا الزمان عبد العزيز ابن باز رحمه الله، يتضح أن تخصيص ليلة النصف من شعبان بصلاة أو غيرها من العبادة غير المشروعة بدعة لا أصل لها من كتاب، ولا سنة، ولا عملها أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. خامساً: التبرّك: التّبرُّك: هو طلب البركة، والتبرّك بالشيء: طلب البركة بواسطته (¬4). ¬

_ (¬1) لطائف المعارف، لابن رجب، ص263. (¬2) مسلم، 3/ 344، برقم 1718، وتقدم تخريجه. (¬3) التحذير من البدع، ص26. (¬4) انظر: النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، باب الباء مع الراء، مادة ((برك))، 1/ 120، والتبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص30.

والأمور المباركة أنواع، منها:

ولا شك أن الخير والبركة بيد الله - عز وجل -، وقد اختص الله - عز وجل - بعض خلقه بما شاء من الفضل والبركة، وأصل البركة: الثبوت واللزوم، وتطلق على النماء والزيادة، والتبريك: الدعاء، يقال: برَّك عليه: أي دعا له بالبركة، ويقال: بارك الله الشيءَ، وبارك فيه، أو بارك عليه: أي وضع فيه البركة، وتبارك لا يوصف به إلا الله تبارك وتعالى، فلا يُقال: تبارك فلان؛ لأن المعنى عَظُمَ وهذه صفة لا تنبغي إلا الله - عز وجل -، واليُمْنُ: هو البركة: فالبركة واليُمن لفظان مترادفان، وقد ظهر من معاني ألفاظ القرآن الكريم أن المقصود بالبركة عدة أمور، منها: 1 - ثبوت الخير ودوامه. 2 - كثرة الخير وزيادته، واستمراره شيئاً بعد شيء. 3 - وتبارك لا يوصف بها إلا الله، ولا تسند إلا إليه، وذكر ابن القيم رحمه الله أن تباركه - سبحانه وتعالى -: دوام جوده، وكثرة خيره، ومجده وعلوِّه، وعظمته وتقدّسه، ومجيء الخيرات كلها من عنده، وتبريكه على من شاء من خلقه، وهذا هو المعهود من ألفاظ القرآن أنها تكون دالة على جملة معان (¬1). والأمور المباركة أنواع، منها: 1 - القرآن الكريم مبارك: أي كثير البركات والخيرات؛ لأن فيه خير الدنيا والآخرة، وطلب البركة من القرآن يكون بتلاوته حق تلاوته، ¬

_ (¬1) انظر: جلاء الأفهام ص180، وتيسير الكريم الرحمن في تفسيره كلام المنان، للسعدي، 3/ 39.

2 - الرسول - صلى الله عليه وسلم -

والعمل بما فيه على الوجه الذي يرضي الله - عز وجل -. 2 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبارك، جعل الله فيه البركة، وهذه البركة نوعان: (أ) بركة معنوية: وهي ما يحصل من بركات رسالته في الدنيا والآخرة؛ لأن الله أرسله رحمة للعالمين، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور, وأحلّ لهم الطيبات، وحرّم عليهم الخبائث، وختم به الرسل، ودينه يحمل اليسر والسماحة. (ب) بركة حسّيّة، وهي على نوعين: النوع الأول: بركة في أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، وهي ما أكرمه الله به من المعجزات الباهرة الدالّة على صدقه. النوع الثاني: بركة في ذاته، وآثاره الحسية: وهي ما جعل الله له - صلى الله عليه وسلم - من البركة في ذاته؛ ولهذا تبرّك به الصحابة في حياته، وبما بقي له من آثار جسده بعد وفاته (¬1). والتبرّك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته لا يقاس عليه أحد من خلق الله - عز وجل -؛ لما جعل الله فيه من البركة، ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد جعل الله فيهم البركة، وكذا الملائكة، والصالحين، ولكن لا يُتبرَّك بهم لعدم الدليل؛ وكذلك بعض الأماكن مباركة: كالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ثم سائر المساجد، وقد جعل الله في بعض الأزمنة بركة: كرمضان، وليلة القدر، وعشر ذي ¬

_ (¬1) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص21 - 96.

3 - أشياء مباركة: كماء زمزم

الحجة، والأشهر الحرم، ويوم الإثنين والخميس، والجمعة، ووقت النزول الإلهي في الثلث الآخر من الليل، وغير ذلك من الأزمنة المباركة، التي لا يتبرّك بها المسلم، وإنما يطلب البركة من الله - عز وجل - بقيامه بالأعمال الصالحة المشروعة فيها (¬1). 3 - هناك أشياء مباركة: كماء زمزم، وكالمطر؛ لأن من بركاته: شرب الناس منه والأنعام والدوابّ، وإنبات الثمار والأشجار، وشجرة الزيتون مباركة، واللبن مبارك، والخيل مباركة، والغنم مباركة، والنخيل مباركة (¬2). والتبرّك المشروع يكون بأمور، منها ما يأتي: 1 - التبرّك بذكر الله، وتلاوة القرآن الكريم، ويكون ذلك على الوجه المشروع، وهو طلب البركة من الله - عز وجل - بذكر القلب، واللسان، والعمل بالقرآن والسنة على الوجه المشروع؛ لأن من بركات ذلك اطمئنان القلب، وقوة القلب على الطاعة، والشفاء من الآفات، والسعادة في الدنيا والآخرة، ومغفرة الذنوب، ونزول السكينة، وأن القرآن يكون شفيعاً لأصحابه يوم القيامة، ولا يُتبرّك بالمصحف كوضعه في البيت أو في السيارة وإنما التبرّك يكون بالتلاوة، والعمل به (¬3). 2 - التبرّك المشروع بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبارك في ¬

_ (¬1) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص70 - 182. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص 183 - 197. (¬3) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص 201 - 241.

ذاته، وما اتصل بذاته؛ ولهذا تبرك الصحابة - رضي الله عنهم - بذاته - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك، ما ثبت عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال: ((خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك)) (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى مِنىً، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: ((خذ))، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس))، وفي رواية: ((ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر)) (¬2)، فقال: ((احلق)) فحلقه، فأعطاه أبا طلحة فقال: ((اقسمه بين الناس)) (¬3). وكان الصحابة يتبركون بثياب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواضع أصابعه، وبماء وضوئه، وبفضل شربه، وهو كثير (¬4)، ويتبركون بالأشياء المنفصلة منه: كالشعر، والأشياء التي استعملها وبقيت بعده: كالثياب، والآنية، والنعل، وغير ذلك مما اتصل بجسده - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، 4/ 200، برقم 3553. (¬2) أي: ناول الحلاق. (¬3) مسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق، والابتداء في الحلق بالجانب الأيمن من رأس المحلوق، 2/ 947، برقم 1305. (¬4) انظر: التبرك، أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 248 - 250. (¬5) انظر: التبرك، أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 252 - 260.

3 - التبرك بشرب ماء زمزم

ولا يقاس عليه غيره - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه لم يؤثر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالتبرك بغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - أو غيرهم، ولم ينقل أن الصحابة - رضي الله عنهم - فعلوا ذلك مع غيره لافي حياته ولا بعد مماته، ولم يفعلوه مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا مع الخلفاء الراشدين المهديين، ولا مع العشرة المشهود لهم بالجنة، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: ((الصحابة - رضي الله عنهم - بعد موته عليه الصلاة والسلام، لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر - رضي الله عنه -، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريقٍ صحيح معروف أن متبرّكاً تبرّك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها)) (¬1)، ولا شكَّ أنَّ الانتفاع بعلم العلماء، والاستماع إلى وعظهم، ودعائهم، والحصول على فضل مجالس الذكر معهم فيها من الخير والبركة والنفع الشيء العظيم، ولكن لا يُتبرّك بذواتهم، وإنما يُعمل بعلمهم الصحيح، ويُقتدى بأهل السنة منهم (¬2). 3 - التبرّك بشرب ماء زمزم؛ لأنه أفضل مياه الأرض، ويُشبع من شربه، ويكفيه عن الطعام، ويُستشفى بشربه مع النية الصالحة من الأسقام؛ لأنه لما شرب له؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ماء زمزم: ((إنها مباركة، إنها ¬

_ (¬1) الاعتصام للشاطبي،2/ 8، 9،ونظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص261 - 269. (¬2) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 269 - 278.

4 - التبرك بماء المطر

طعام طعم [وشفاء سقيم])) (¬1)، وعن جابر - رضي الله عنه - يرفعه: ((ماء زمزم لما شرب له)) (¬2)، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يحمل ماء زمزم في الأداوي والقرب، فكان يصبّ على المرضى ويسقيهم)) (¬3). 4 - التبرّك بماء المطر، لا شك أن المطر مبارك لما جعل الله فيه من البركة: من شرب الناس منه، والأنعام، والدوابّ، وإنبات الأشجار، والثمار، وأحيى به الله كل شيء، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: أصابنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطر. قال: فحسر (¬4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: ((لأنه حديثُ عهدٍ بربه)) (¬5)، قال الإمام النووي رحمه الله: ((ومعنى حديث عهد بربه: أي بتكوين ربه إياه، ومعناه أن المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها، فيُتبرّك بها)) (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذر - رضي الله عنه -، 4/ 1922، برقم 2473، وما بين المعقوفين عند البزار، والبيهقي، والطبراني، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: ((رجاله ثقات))، 3/ 286. (¬2) أخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الشرب من زمزم، 2/ 1018، برقم 3062، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 183، وإرواء الغليل، 4/ 320. (¬3) الترمذي بنحوه، عن عائشة رضي الله عنها، كتاب الحج، بابٌ: حدثنا أبو كريب، 3/ 286، برقم 963، والبيهقي، 5/ 202، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 284، والأحاديث الصحيحة، 2/ 572. (¬4) أي: كشف بعض بدنه. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 448. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، 2/ 615، برقم 898. (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 448.

والتبرك الممنوع منه ما يأتي:

والتبرّك الممنوع منه ما يأتي: 1 - التبرّك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته ممنوع إلا في أمرين: الأمر الأول: الإيمان به، وطاعته واتباعه، فمن فعل ذلك حصل له الخير الكثير، والأجر العظيم، والسعادة في الدنيا والآخرة. الأمر الثاني: التبرك بما بقي من أشياء منفصلة عنه - صلى الله عليه وسلم -: كثيابه، أو شعره، أو آنيته، وقد تقدّم بيان ذلك. وما عدا ذلك من التبرك فلا يُشرع، فلا يُتبرّك بقبره، ولا تشد الرحال لزيارة قبره، وإنما تُشدّ الرحال لزيارة أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي، وإنما تُستحب الزيارة لقبره لمن كان في المدينة، أو زار المسجد ثم زار قبره، وصفة الزيارة: إذا دخل المسجد صلى تحية المسجد، ثم يذهب إلى القبر ويقف بأدبٍ مستقبلاً الحجرة، فيقول بأدب وخفض صوت: ((السلام عليك يا رسول الله))، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يزيد على ذلك، وإن زاد ((السلام عليك يارسول الله، يا خيرة الله من خلقه، أشهد أنك رسول الله حقاً، وأنك قد بلَّغت الرسالة، وأدّيت الأمانة، وجاهدت في الله حق جهاده، ونصحت الأمة))، فلا بأس بذلك لأن ذلك من صفاته (¬1)، ولا يدعو عند القبر؛ لظنه أن الدعاء عنده مُستجاب، ولا يطلب منه الشفاعة، ولا يتمسح بالقبر، ولا يقبّله، ولا شيء من جدرانه، ولا يتبرّك بالمواضع التي جلس فيها أو صلى فيها، ولا بالطرق التي سار عليها، ولا بالمكان الذي أنزل ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن باز في الحج والعمرة، 5/ 289.

2 - التبرك بالصالحين

عليه فيه الوحي، ولا بمكان ولادته، ولا بليلة مولده، ولا بالليلة التي أُسري به فيها، ولا بذكرى الهجرة، ولا غير ذلك مما لم يشرعه الله، ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 2 - من التبرك الممنوع: التبرك بالصالحين، فلا يُتبرّك بذواتهم، ولا آثارهم، ولا مواضع عباداتهم، ولا مكان إقامتهم، ولا بقبورهم، ولا تُشدّ الرحال إلى زيارتها، ولا يُصلّى عندها، ولا تُطلب الحوائج عند قبورهم، ولا يُتمسح بها، ولا يُعكف عندها، ولا يُتبرّك بمواليدهم، وغير ذلك ومن فعل شيئاً من ذلك تقرباً إليهم فقد أشرك بالله شركاً أكبر، إذا اعتقد أنهم يضرون أو ينفعون، أو يعطون أو يمنعون، أما من فعل ذلك يرجو البركة من الله بالتبرك بهم فقد ابتدع بدعة نكراء، وعمل عملاً قبيحاً (¬2). 3 - من التبرك الممنوع: التبرك بالجبال والمواضع؛ لأن ذلك يخالف ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتبرك بذلك يسبب تعظيم هذه الجبال والمواضع، ولا يجوز القياس على تقبيل الحجر الأسود، أو الطواف بالبيت؛ فإن ذلك عبادة لله - عز وجل - توقيفية، ولا يمسح غير الحجر الأسود والركن اليماني من الكعبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين باتفاق العلماء (¬3)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((ليس عل وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه وتحط الأوزار فيه غير الحجر الأسود ¬

_ (¬1) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 315 - 380. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص 381 - 418. (¬3) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، 2/ 799.

والركن اليماني)) (¬1). وقال رحمه الله عند كلامه على خصائص مكة: ((ليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيها غيرها)) (¬2). وقال شيخ الإسلام في حكم الطواف بغير الكعبة: ((وأما الطواف بذلك فهو من أعظم البدع المحرمة، ومن اتخذه ديناً يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل)) (¬3). ولا يجوز التمسّح، ولا تقبيل مقام إبراهيم، ولا الحجر، ولا شيئاً من جدران المسجد، ولا يُتبرّك بجبل حراء، ويُسمَّى جبل النور، ولا تشرع زيارته، ولا الصعود إليه، ولا قصده للصلاة، ولا يُتبرّك بجبل ثور، ولا تُشرع زيارته، ولا جبل عرفات، ولا جبل أبي قبيس، ولا جبل ثبير، ولا يُتبرّك بالدور: كدار الأرقم ولا غيرها، ولا تشرع زيارة جبل الطور، ولا تُشدّ الرحال إليه، ولا يُتبرّك بالأشجار والأحجار ونحوها (¬4). وأسباب التبرك الممنوع: الجهل بالدين، والغلو في الصالحين، والتشبه بالكفار، وتعظيم الآثار المكانية (¬5). وآثار التبرك الممنوع كثيرة منها: الشرك الأكبر، وهو أعظم الآثار، ¬

_ (¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد، 1/ 48. (¬2) زاد المعاد، 1/ 48. (¬3) مجموع فتاوى ابن تيمية، 26/ 121. (¬4) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص419 - 464. (¬5) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 420 - 481.

وأشدها خطراً، إذا كان التبرّك في حد ذاته شركاً، وإذا كان التبرّك يؤدّي إلى الشرك فيكون من وسائل الشرك الأكبر. ومن آثار التبرّك الممنوع الابتداع في الدين، واقتراف المعاصي، والوقوع في أنواع الكذب، وتحريف النصوص، وتحميلها ما لا تحمل، وإضاعة السنن، والتغرير بالجهال، وإضاعة الأجيال، كل هذه الأمور من آثار التبرك المحرم المذموم. أما وسائل مقاومة التبرك الممنوع، فمنها: نشر العلم، والدعوة إلى منهج الحق، وإزالة وسائل الغلو ومظاهر التبرك، وتحطيم كل وسيلة من هذه الوسائل (¬1). قال العلامة السعدي رحمه الله في تعليقه على كتاب التوحيد: باب من تبرك بشجرة أو حجرة أو نحوهما: ((أي فإن ذلك من الشرك، ومن أعمال المشركين؛ فإن العلماء اتفقوا على أنه لا يشرع التبرك بشيء من الأشجار، والأحجار، والبقع، والمشاهد وغيرها؛ فإن هذا التبرك غلوٌّ فيها، وذلك يتدرّج به إلى دعائها وعبادتها وهذا هو الشرك الأكبر كما تقدم انطباق الحديث عليه، وهذا عام في كل شيء حتى مقام إبراهيم، وحجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصخرة بيت المقدس، وغيرها من البقع الفاضلة. وأما استلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني من الكعبة المشرّفة، فهذا عبودية لله، وتعظيم لله، وخضوع لعظمته، فهو روح ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، ص 483 - 506، واقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، ص 795 - 802، وكتاب التوحيد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص 93.

سادسا: بدع منكرة مختلفة، كثيرة جدا:

التّعبُّد. فهذا تعظيم للخالق وتَعبُّدٌ له، وذلك تعظيم للمخلوق، وتألُّه له. والفرق بين الأمرين كالفرق بين الدعاء لله الذي هو إخلاصٌ وتوحيدٌ، والدعاء للمخلوق الذي هو شرك وتنديد)) (¬1). سادساً: بدع منكرة مختلفة، كثيرة جداً: منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: 1 - الجهر بالنيّة: كأن يقول المسلم: نويت أن أصلي لله كذا وكذا، أو نويت أن أصوم هذا اليوم فرضاً، أو نفلاً لله تعالى، أو يقول نويت أن أتوضأ، أو نويت أن أغتسل، أو نحو ذلك، وهذا التلفّظ بالنيّة بدعة؛ لأن ذلك ليس من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأن الله - عز وجل - يقول: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ وَالله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬2)، والنية محلّها القلب، فهي عمل قلبي لا عمل لساني، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ((النية هي: قصد القلب ولا يجب التلفظ بما في القلب في شيء من العبادات)) (¬3). 2 - الذكر الجماعي بعد الصلوات؛ والمشروع أن يقول كل واحد الذكر الوارد منفرداً، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله - عز وجل - أدبار الصلوات، وكما عمله الصحابة - رضي الله عنهم -؛ لأنهم المطبّقون لسنته عليه الصلاة والسلام، فلا شك أن الذكر الجماعي بدعة مخالفة لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) القول السديد في مقاصد التوحيد، ص51. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 16. (¬3) جامع العلوم والحكم، 1/ 92.

3 - طلب قراءة الفاتحة على أرواح الأموات

3 - طلب قراءة الفاتحة على أرواح الأموات، أو تقرأ على الأموات، أو قراءتها بعد الدعاء للأموات، أو عند خطبة النكاح، كل ذلك من البدع المنكرة التي لم ترد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يفعلها الصحابة - رضي الله عنهم -، وهم أعلم الناس بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعُلم بذلك أن هذا الفعل بدعة مُحدثة مُنكرة. 4 - إقامة المآتم على الأموات، وصناعة الأطعمة، واستئجار المقرئين لقراءة القرآن، يزعمون أن ذلك من باب العزاء، وأنه ينفع الميت، وكل ذلك من البدع، والأغلال التي ما أنزل الله بها من سلطان. 5 - الأذكار الصوفية بأنواعها التي تخالف هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، سواء كانت المخالفة في الصيغة، أو الهيئة، أو الوقت، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬1). 6 - البناء على القبور: واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، ودفن الأموات فيها، والصلاة إلى القبور، وزيارتها لأجل التبرّك بها، والتوسّل بأصحابها، أو غيرهم من الموتى، والتبرك بالصلاة عند قبورهم، أو الدعاء عندها، وزيارة النساء للقبور، واتّخاذ السّرُج عليها، كلّ ذلك من البدع المنكرة القبيحة (¬2). المطلب التاسع: توبة المبتدع لاشك أن البدعة أخطر من المعاصي؛ فإن المعاصي إذا اجتمعت على الإنسان، وأصرّ عليها أهلكته، والبدعة أشدّ إهلاكاً من المعاصي، كما قال ¬

_ (¬1) مسلم، 3/ 344، برقم 1718، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: كتاب التوحيد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص94.

سفيان الثوري رحمه الله: ((البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها)) (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((ومعنى قولهم: إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله ولا رسوله قد زُيِّن له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، وبأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب، أو استحباب؛ ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسناً، وهو سيئ في نفس الأمر؛ فإنه لا يتوب)) (¬2)، ثم قال: ((ولكن التوبة ممكنة وواقعة بأن يهديه الله، ويرشده حتى يتبيّن له الحقّ، كما هدى - سبحانه وتعالى - من هدى من الكفار والمنافقين، وطوائف أهل البدع والضلال)) (¬3)، وقال رحمه الله: ((ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقاً فقد غلط غلطاً منكراً)) (¬4)، فقد فسّر شيخ الإسلام حديث حجب التوبة عن صاحب البدعة بكلامه هذا تفسيراً واضحاً ولله الحمد، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله حجب التوبة عن صاحب كل بدعة)) (¬5)، وقد وضح المعنى لهذا ¬

_ (¬1) شرح السنة، للبغوي، 1/ 216. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 10/ 9. (¬3) المرجع السابق، 10/ 9 - 10. (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 11/ 685. (¬5) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، 8/ 62، برقم 4713 [مجمع البحرين في زوائد المعجمين. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ((ورجاله رجال الصحيح، غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة))، 10/ 189، وصحح إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 154، برقم 1620، وذكر طرقه الأخرى.

المطلب العاشر: آثار البدع وأضرارها

الحديث في كلام ابن تيمية رحمه الله آنفاً، ولا شك أن النصوص يُفسّر بعضها بعضاً، والله - عز وجل - بيّن لعباده أنه يقبل توبة التائبين إذا أقلعوا عن جرائمهم، وندموا وعزموا على أن لا يعودوا، وردّوا الحقوق إلى أهلها إن وجدت، فقال سبحانه بعد أن ذكر المشركين، والقتلة، والزناة، وتوعّدهم بالإهانة: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬1). وقال - عز وجل -: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬2). وقال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3). وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬4). وهذه التوبة تعمُّ من تاب من الملحدين، والكافرين، والمشركين، والمبتدعين، وغيرهم ممن تاب من أهل المعاصي، إذا اكتملت شروط التوبة، ولله الحمد. المطلب العاشر: آثار البدع وأضرارها البدع لها آثار خطيرة، وعواقب وخيمة، وأضرار مهلكة، منها ما يأتي: ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 70. (¬2) سورة طه، الآية: 82. (¬3) سورة الزمر، الآية: 53. (¬4) سورة النساء، الآية: 110.

1 - البدع بريد الكفر

1 - البدع بريد الكفر، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراعٍ)) فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ((ومن الناس إلا أولئك)) (¬1). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لتتبعُنَّ سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراعٍ، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم)) قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟)) (¬2). 2 - القول على الله بغير علم؛ لأن الناظر في سير المبتدعة يجدهم أكثر الناس كذباً على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد حذر الله تعالى عن التّقوُّل عليه فقال - سبحانه وتعالى -: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (¬3). وحذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكذب عليه، وتوعّد من فعل ذلك بالعذاب الشديد، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعمَّد علي كذباً فليتبوَّأْ مقعده من النار)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم))، 8/ 191، برقم 7319. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم))، 8/ 191، برقم 7320، ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، 4/ 2054، برقم 2669. (¬3) سورة الحاقة، الآيات: 44 - 46. (¬4) متفق عليه من حديث أنس - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 41، برقم 108، ومسلم في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 7، برقم 2.

3 - بغض المبتدعة للسنة وأهلها

3 - بُغض المبتدعة للسنة وأهلها، وهذا مما يدل على خطورة البدع، قال الإمام إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رحمه الله: ((وعلامات أهل البدع ظاهرة على أهلها بادية، وأظهر آياتهم وعلاماتهم: شدّة معاداتهم لحَمَلَةِ أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، واحتقارهم لهم)) (¬1). 4 - رد عمل المبتدع؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))،وفي رواية للمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) (¬2). 5 - سوء عاقبة المبتدع؛ لأن الشيطان يريد أن يظفر بالإنسان في عقبة من عدة عقبات: العقبة الأولى: الشرك بالله تعالى، فإن نجا العبد من هذه العقبة طلبه الشيطان على عقبة البدعة، وهذا يؤكّد أن البدع أخطر من المعاصي (¬3)؛ ولهذا قال سفيان الثوري رحمه الله: ((البدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها)) (¬4)، وهذا في الغالب، والله - عز وجل - يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. 6 - انعكاس فهم المبتدع، فيرى الحسنة سيئة، والسيئة حسنة، والسنة بدعة، والبدعة سنة، فعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: ((والله لتفشُوَنَّ البدع، حتى إذا تُرِكَ منها شيء قالوا: تُرِكت السنة)) (¬5). ¬

_ (¬1) عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث، ص299. (¬2) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: البخاري، 1/ 9، برقم 1، ومسلم، 2/ 1515، برقم: 1907، وتقدم تخريجه. (¬3) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 222. (¬4) شرح السنة، للبغوي، 1/ 216. (¬5) أخرجه الإمام محمد بن وضاح، في كتاب فيه ما جاء في البدع، ص124، برقم 162، وانظر: آثاراً في ذلك لابن وضاح في كتابه هذا، ص124 - 156.

7 - عدم قبول شهادة المبتدع وروايته

7 - عدم قبول شهادة المبتدع وروايته، فقد أجمع أهل العلم من المحدِّثين والفقهاء وأصحاب الأصول على أن المبتدع الذي يكفر ببدعته لا تقبل روايته، وأما الذي لا يكفر ببدعته فاختلفوا في قبول روايته، ورجح الإمام النووي رحمه الله أن روايته تقبل إذا لم يكن داعية إلى بدعته، ولا تقبل إذا كان داعية (¬1). 8 - المبتدعة أكثر من يقع في الفتن، وقد حذّر الله - عز وجل - من الفتن فقال: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2)، وقال - عز وجل -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3)، فهل هناك فتنة أخطر من مخالفة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعصيان أمره؟. وقد حثَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأعمال الصالحة قبل وقوع الفتن فقال: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) (¬4). 9 - المبتدع استدرك على الشريعة؛ لأنه ببدعته نصب نفسه مشرّعاً مكمِّلاً للدين، والله - عز وجل - قد أكمل الدين، وأتمَّ النعمة، قال - سبحانه وتعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 1/ 176. (¬2) سورةالأنفال، الآية: 25. (¬3) سورة النور، الآية: 63. (¬4) أخرجه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، 1/ 110، برقم 118.

10 - المبتدع يلتبس عليه الحق بالباطل

دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬1)، وبيَّن - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم كل شيء، قال - عز وجل -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (¬2). 10 - المبتدع يلتبس عليه الحقّ بالباطل؛ لأن العلم نور يهدي الله به من يشاء من عباده، والمبتدع حُرِمَ التقوى التي يُوفَّقُ صاحبها لإصابة الحق، قال الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬3). 11 - المبتدع يحمل إثمه، وإثم من تبعه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) (¬4). 12 - البدعة تُدخِل صاحبها في اللعنة، ففي الحديث الذي رواه أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فيمن أحدث في المدينة: ((من أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدِثاً، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) (¬5)، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: ((وهذا الحديث في ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 3. (¬2) سورة النحل، الآية: 89. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬4) مسلم، 4/ 2060، برقم 2674، وتقدم تخريجه. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام، باب إثم من آوى محدثاً، 8/ 187، برقم 7306، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة، ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبركة، 2/ 994، برقم 1366.

13 - المبتدع يحال بينه وبين الشرب من حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -

سياق العموم، فيشمل كل حدث أُحدث فيها مما يُنافي الشرع، والبدع من أقبح الحدث)) (¬1). 13 - المبتدع يحال بينه وبين الشرب من حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، يوم القيامة، فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أنا فرطكم على الحوض، من وَرَد شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردنَّ عليَّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم)) (¬2)، وفي لفظ فأقول: ((إنهم مني)) فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: ((سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي)) (¬3)، وعن شقيق عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا ربّ أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) (¬4). وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليَّ منكم، وسيؤخذ ناسٌ من دوني فأقول: يا ربِّ مني ومن أمتي فيقال: هل شَعَرْت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم))، فكان ابن أبي مليكة يقول: ((اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو أن نُفتن في ديننا)) (¬5). ¬

_ (¬1) الاعتصام، 1/ 96. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب في حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، 7/ 264، برقم 6583، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، 4/ 1793، برقم 2290. (¬3) البخاري، كتاب الرقاق، باب في حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، 7/ 264، برقم 6583. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقائق، باب في حوض - صلى الله عليه وسلم -، 7/ 262، برقم 6575، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم -، 4/ 1796، برقم 2297. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقائق، باب في حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، 7/ 266، برقم 6593، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، 4/ 1794، برقم 2293.

14 - المبتدع معرض عن ذكر الله

14 - المبتدع مُعْرِضٌ عن ذكر الله؛ لأن الله - عز وجل - شرع لنا أذكاراً ودعوات في كتابه، وعلى لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمنها ما هو مقيّد: كأذكار أدبار الصلوات، وأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم والاستيقاظ منه، ومنها ما هو مُطلق لم يحدَّد بزمان ولا مكان، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (¬1)، فالمبتدعة معرضون عن هذه الأذكار: إما بانشغالهم ببدعهم وافتتانهم بها، وإما باستبدال الأذكار المشروعة بأذكار بدعية، استغنوا بها عما شرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فأعرضوا بها عن ذكر الله تعالى (¬2). 15 - المبتدعة يكتمون الحقّ، ويُخفونه على أتباعهم، وقد توعّد الله هؤلاء وأمثالهم باللعنة، قال - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} (¬3). 16 - عمل المبتدع يُنَفِّر عن الإسلام، فإذا عمل بخرافات بدعته سَبَّبَ ذلك سخرية أعداء الإسلام بالدين الإسلامي، وهو من هذه البدع بريء (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآيتان: 41 - 42. (¬2) انظر: تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار، للدكتور صالح بن سعد السحيمي، ص189 (¬3) سورة البقرة، الآية: 159. (¬4) انظر: تنبيه أولي الأبصار، للدكتور صالح السحيمي، ص195.

17 - المبتدع يفرق الأمة

17 - المبتدع يفرّق الأمة؛ فإنه ببدعته يفرّق هو وأتباعه المسلمين، فيوجد بسبب ذلك أحزاباً وشيعاً متفرّقة، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (¬1). 18 - المبتدع المجاهر ببدعته تجوز غيبته؛ لتحذير الأمة من بدعته، ولاشك أن من أظهر بدعته فهو أشدّ خطراً ممن أظهر فسقه، والغيبة محرّمة بالكتاب والسنة، ولكن تُباح بغرض شرعي لستة أسباب (¬2): التظلّم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، وتحذير المسلمين من الشرّ، وإذا جاهر بفسقه، وبدعته، والتعريف (¬3)، وقد جمع بعضهم هذه الأمور الستة في قوله: القدحُ ليس بغيبةٍ في ستةٍ ... متظلِّمٍ ومعرِّفٍ ومحذِّرٍ ومجاهر فسقاً ومستفتٍ ومن ... طلب الإعانة في إزالة منكر (¬4) 19 - المبتدع متبع لهواه معاند للشرع، ومشاقّ له (¬5). 20 - المبتدع قد نزَّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الله وضع الشرائع، وألزم المكلفين بالجري على سننها (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 159. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 142، وانظر: تنبيه أولي الأبصار، للدكتور السحيمي، ص 153 - 198. (¬3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 10/ 471، 7/ 86. (¬4) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، مقدمة الألباني، ص43. (¬5) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/ 61. (¬6) انظر: المرجع السابق، 1/ 61 - 70.

والله أسأل لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الرسالة الثانية عشرة: قضية التكفير بين أهل السنة وفرق الضلال

الرسالة الثانية عشرة: قضيّةُ التَّكفير بين أهل السُّنَّة وفِرَق الضلال الباب الأول: أصولٌ وضوابطٌ وموانعٌ في التكفير تمهيد: قبل أن أشرع في هذا الموضوع الخطير أبدأ ببيان أمور ينبغي أن تُعْلَم وتُفهم؛ لأن فهمها يزيل إشكالاتٍ كثيرةً، ويوضّح الحق لمن لا يفهمه، وما أحسن ما قاله القائل: وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم ويكون ذلك في الفصول الآتية: الفصل الأول: تحريم الخروج على أئمة المسلمين ووجوب طاعتهم في المعروف المبحث الأول: وجوب السمع والطاعة بالمعروف إن طاعة ولاة أمر المسلمين واجبة في المعروف؛ لأدلة كثيرة منها: 1 - قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (¬1). وولاة الأمر هم: العلماء، والولاة، والأمراء (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة؛ لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 59. (¬2) انظر: تفسير الإمام ابن جرير الطبري،8/ 497،وتفسير القرطبي،5/ 261،وتفسير ابن كثير، 1/ 519،وفتاوى ابن تيمية،11/ 551،و28/ 70،والضوء المنير على التفسير،2/ 234 - 251.

ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق)) (¬1). ولا شك أن الولاية مهمة عظيمة وأمانة كبيرة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكِلتَ إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعِنْتَ عليها)) (¬2)؛ ولهذه الأهمية العظيمة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّا والله لا نولّي على هذا العمل أَحَداً سأله، ولا أحداً حرص عليه)) (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حينما قال: يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكب أبي ذر ثم قال: ((يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها)) (¬4)، وهذا يؤكّد وجوب طاعة ولاة أمر المسلمين وإعانتهم على هذا الأمر العظيم طاعة لله تعالى؛ لأن عليهم حملاً عظيماً وأمانة عظيمة. 2 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى ¬

_ (¬1) فتاوى ابن تيمية، 35/ 16 - 17، وانظر خلاصة ما قاله رحمه الله في طاعة ولاة الأمر والإحالة على ذلك في الفتاوى، 37/ 170. (¬2) البخاري، كتاب: الإيمان والنذور، باب {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}، برقم 6622، ومسلم في كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، برقم 1652. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة، برقم 7149، ومسلم، في كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، برقم 1733. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، برقم 1825.

أميري فقد عصاني)) (¬1). 3 - وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليك السّمعُ والطّاعةُ في عُسْرِك، ويُسرِك، ومَنشطك ومَكرهك (¬2)، وأثرةٍ (¬3) عليكَ)) (¬4). 4 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: ((إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً مجدع الأطراف)) (¬5). 5 - وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع وهو يقول: ((ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)) (¬6). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأحكام: باب قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}،برقم 7137، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، برقم 1835. (¬2) ((في عُسرك ويسرك))، قال العلماء: تجب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس وغيره مما ليس بمعصية، فإن كانت المعصية فلا سمع ولا طاعة كما صرح به - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الباقية، فتحمل هذه الأحاديث المطلقة لوجوب طاعة ولاة الأمور على موافقة تلك الأحاديث المصرحة بأنه لا سمع ولا طاعة في المعصية: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) شرح الإمام النووي، 12/ 465 - 466. (¬3) ((وأثرة عليك)) والمعنى الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم، أي: اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم. شرح النووي، 12/ 465 - 466، وقال النووي رحمه الله تعالى: ((وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال، وسببها اجتماع كلمة المسلمين؛ فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم))، شرح النووي، 12/ 465 - 466. (¬4) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية الله وتحريمها في المعصية، برقم 1836. (¬5) مسلم، كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، برقم 1837. (¬6) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، برقم 1838.

6 - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره، إلا أن يُؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) (¬1)،. 7 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)) (¬2). 8 - وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة: في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله (¬3). قال: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)) (¬4). 9 - وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها ستكون بعدي أثرةٌ وأمورٌ تنكرونها))،قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منّا ذلك؟ قال: ((تُؤدّون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم)) (¬5). 10 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في حديثه الطويل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الأحكام: باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، برقم 7144، ومسلم، كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، برقم 1839. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، برقم 7257، ومسلم، كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، برقم 1840. (¬3) وفي رواية لمسلم (( .. وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)). مسلم، برقم 1709. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب: الفتن، باب ((سترون بعدي أموراً تنكرونها))، برقم 7056، ومسلم، كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، برقم 1709/ 42. (¬5) أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم 3603، ومسلم، كتاب الإمارة: باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، برقم 1843.

يرفعه: (( ... فمن أحبَّ أن يُزحزَح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منَّيتُهُ وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحبّ أن يُؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)) (¬1). 11 - وعن حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه: ((يكون بعدي أئمة لا يهتدون بِهُدَاي ولا يستنّون بسنّتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس)) قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركتُ ذلك؟ قال: ((تسمعُ وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع)) (¬2). 12 - وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً وَجِلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فأوصِنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبدٌ؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّو عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة: باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، برقم 1844. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، برقم 1847/ 52. (¬3) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم 4607، والترمذي في كتاب العلم، باب في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم 2676، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، برقم 42، وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2549.

المبحث الثاني: تحريم الخروج على الإمام المسلم

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: ((أما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم)) (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((وقد استفاض وتقرر في غير هذا الموضع ما قد أمر به - صلى الله عليه وسلم -، من طاعة الأمراء في غير معصية الله، ومناصحتهم، والصبر عليهم في حكمهم، وقسمهم، والغزو معهم، والصلاة خلفهم، ونحو ذلك من متابعتهم في الحسنات التي لا يقوم بها إلاَّ هُم؛ فإنه من باب التعاون على البر والتقوى، وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم، وإعانتهم على ظلمهم، وطاعتهم في معصية الله ونحو ذلك، مما هو من باب التعاون على الإثم والعدوان)) (¬2). المبحث الثاني: تحريم الخروج على الإمام المسلم قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (( ... ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعة، ونرى طاعتهم من طاعة الله - عز وجل - فريضة، ما لم يأمروا بمعصيةٍ وندعو لهم بالصلاح والمعافاة ... )) (¬3). ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم، 2/ 117. (¬2) فتاوى شيخ الإسلام، 35/ 20 - 21. (¬3) العقيدة الطحاوية بتعليق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، ص22، وانظر: أصول أهل السنة لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، شرح وتحقيق الوليد بن محمد بن نبيه، ص64، نشر مكتبة ابن تيمية. وشرح السنة للإمام الحسن بن علي البربهاري بتحقيق خالد بن قاسم الردادي، الفقرات: 29، 31، 33، 34، 35، 36، 138، 159.

13 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات مِيتةً جاهليةً (¬1)، ومن قاتل تحت راية عُمِّيَّةٍ (¬2) يغضب لعصبةٍ، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة (¬3)، فقُتل فَقِتْلَةٌ جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برَّها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها (¬4)، ولا يفي لذي عهدٍ عهده، فليس مني ولست منه)) (¬5). 14 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبراً (¬6) فمات فَمِيتَةٌ جاهلية)) (¬7). 15 - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له (¬8)، ومن مات ¬

_ (¬1) أي على صفة موت الجاهلية من حيث هم فوضى لا إمام لهم. شرح النووي، 12/ 481، وليس المراد أنه يموت كافراً، بل يموت عاصياً. فتح الباري، 13/ 7. (¬2) عُمِّيَّةٍ: هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، كذا قاله أحمد والجمهور. انظر: شرح النووي، 12/ 481. (¬3) والمعنى: يقاتل عصبية لقومه وهواه. انظر: شرح النووي، 12/ 482. (¬4) والمعنى: لا يكترث بما يفعله فيها، ولا يخاف وباله وعقوبته. شرح النووي، 12/ 483. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ... ،برقم 1848. (¬6) قوله: ((شبراً)) كناية عن معصية السلطان ومحاربته، والمراد بالمفارقة السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكنى عنها بمقدار الشبر؛ لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق. انظر: فتح الباري، 13/ 7. (¬7) أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سترون بعدي أموراً تنكرونها))، برقم 7054، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، برقم 1851. (¬8) أي لا حجة له في فعله، ولا عذر له ينفعه. شرح النووي، 12/ 483.

وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية)) (¬1). 16 - وعن عرفجة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أتاكم وأمركم جميعٌ (¬2) على رجل واحد يريد أن يشقَّ عصاكم (¬3)، أو يُفرّق جماعتكم فاقتلوه)) (¬4). 17 - وسأل سلمةُ بنُ يزيد الجُعفي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله أرأيتَ إن قامت علينا أمراءُ يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حُمِّلُوا، وعليكم ما حملتم)) (¬5). 18ـ وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنه سيستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع))،قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: ((لا ما صلّوا)) (¬6). 19 - وعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خيار أئمتكم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن .. ،برقم 1851. (¬2) أي مجتمع. (¬3) يشق عصاكم: يفرق جماعتكم كما تفرق العصا المشقوقة، وهو عبارة عن ((اختلاف الكلمة وتنافر النفوس))، شرح النووي، 12/ 484. (¬4) مسلم، كتاب: الإمارة، باب حكم من فرّق أمر المسلمين وهو مجتمع، برقم 1852. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق، برقم 1846. (¬6) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، وترك قتالهم ما صلوا، برقم 1854.

الذين تحبّونهم ويحبّونكم، ويُصلُّون عليكم وتُصَلُّون عليهم (¬1)، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)) قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: ((لا. ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من وُلاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة)) (¬2). 20 - وعن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيدَ بن معاوية جمع ابن عمر حَشَمه (¬3) وولده، فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يُنْصَبُ لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة))، وإنَّا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإنِّي لا أعلم غدراً (¬4) أعظم من أن يبايع رجُلٌ على بيع الله ورسوله ثم يُنْصَبُ له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه، ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه (¬5). قال ابن حجر رحمه الله: ((وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه ولو جار في حكمه، وأنه لا ¬

_ (¬1) يصلّون عليكم: أي يدعون لكم وتدعون لهم. شرح النووي، 12/ 487. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم، برقم 1855. (¬3) ((حشمه)):الحشمة العصبة، والمراد هنا خدمه ومن يغضب له، وفي رواية: أهله وولده. الفتح،13/ 71. (¬4) وفي رواية: ((وإن من أعظم الغدر بعد الإشراك بالله أن يبايع رجل رجلاً ... الحديث))، انظر: فتح الباري، 13/ 71. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب إذا قال عند قوم شيئاً ثم خرج فقال بخلافه، برقم 7111، وأخرج الفقرة الأولى منه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، برقم 1735/ 10.

المبحث الثالث: النصيحة بالحكمة

ينخلع بالفسق)) (¬1). المبحث الثالث: النَّصيحة بالحكمة 21 - قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها، وبلّغها، فَرُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفْقَهُ منه، ثلاثٌ لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم)) (¬2). فقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبهجة ونضارة الوجه والحُسن الذي يُكسى به الوجه من آثار الإيمان وابتهاج الباطن به، وفرح القلب وسروره به، وَالْتِذَاذِهِ لمن سمع كلامه، ووعاه، وحفظه، وبلّغه غيره، فمن قام بهذه المراتب الأربع دخل تحت هذه الدعوة النبوية المتضمّنة لجمال الباطن والظاهر (¬3). قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الحديث: ((وقوله: - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث لا يغِلُّ عليهن قلب مسلم ... )) أي لا يحمل الغِلَّ، ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة؛ فإنها تنفي الغل والغش وفساد القلب، وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصهُ يمنعُ غِلَّ قلبه، ويخرجه ويزيله جُملةً؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبقَ فيه موضع للغش. ¬

_ (¬1) فتح الباري، 13/ 71 - 72. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، برقم 2658، وابن ماجه في المقدمة، باب من بلّغ علماً، برقم 230، وفي كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر، برقم 3056، وأحمد، 1/ 437، وصححه الألباني صحيح الجامع، برقم 6766. (¬3) انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 274، و276 بتحقيق علي بن حسن بن عبد الحميد.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومناصحة أئمة المسلمين ... )) هذا أيضًا منافٍ للغل والغش؛ فإن النصيحة لا تجامع الغلَّ، إذ هي ضدُّهُ، فمن نصح الأئمة والأمة فقد برئ من الغل. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولزوم جماعتهم ... )) هذا أيضاً مما يُطَهِّر القلب من الغلِّ والغشِّ، فإن صاحبه - للزومه جماعة المسلمين - يُحبُّ لهم ما يحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكرَهُ لها، ويسوؤهُ ما يسوؤهم، ويسرّه ما يسرّهم، وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذّمِّ، كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم؛ فإن قلوبهم مُمتلئةٌ غِلاًّ وغِشَّاً؛ ولهذا تجد الرافضة أبعد الناس من الإخلاص، وأغشَّهم للأئمة والأُمَّة، وأشدَّهم بُعداً عن جماعة المسلمين. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم ... )) هذا من أحسن الكلام وأوجزه، وأفخمه معنىً، شبَّه دعوة المسلمين بالسور والسِّياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوِّهم عليهم، فتلك الدعوة التي هي دعوةُ الإسلام - وهم داخلوها - لَمّا كانت سوراً وسياجاً عليهم أخبر أن من لزم جماعة المسلمين أحاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام كما أحاطت بهم، فالدعوةُ تجمع شمل الأمة، وتلمُّ شَعَثَها، وتحيط بها، فمن دخل جماعتها أحاطت به وشَمِلَتْهُ)) (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور، ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم ¬

_ (¬1) مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 275 - 278 بتصرف يسير.

يعاهدهم عليه، وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكّدة، كما تجب عليه الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، وحج البيت، وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة، فإذا حلف على ذلك كان ذلك توكيداً وتثبيتاً لِمَا أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور، ومناصحتهم، فالحالف على هذه الأمور لا يحل له أن يفعل خلاف المحلوف عليه ... فإن ما أوجبه الله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب وإن لم يحلف عليه، فكيف إذا حلف عليه، وما نهى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن معصيتهم وغشهم محرم، وإن لم يحلف على ذلك)) (¬1). والنصيحة لولاة الأمر تكون سرّاً بين الناصح وبينهم: برفقٍ ولينٍ، وحكمةٍ وموعظةٍ حسنة، وأسلوبٍ مناسب. 22 - فعن عياض بن غنم أنه قال لهشام بن حكيم رضي الله عنهما: ألم تسمع بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه)) (¬2). 23 - وعن تميم الداري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدِّينُ النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، ¬

_ (¬1) فتاوى ابن تيمية، 35/ 9 - 10. (¬2) أخرجه عمرو بن أبي عاصم في كتابه: كتاب السنة، 2/ 521، وأخرجه أحمد، 3/ 403 - 404، والحاكم، 3/ 290، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ((رواه أحمد ورجاله ثقات))، 5/ 229. وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة، 2/ 521.

وعامَّتهم)) (¬1). قال ابن رجب رحمه الله تعالى: ((أما النصيحة لأئمة المسلمين: فحبُّ صلاحهم ورُشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله - عز وجل -، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحبّ إعزازهم في طاعة الله - عز وجل -)) (¬2). وقال في موضع آخر: ((والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفقٍ ولطفٍ، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك)) (¬3). وقال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: ((وأما النصيحة لأئمة المسلمين: وهم ولاتهم من السلطان الأعظم إلى الأمير إلى القاضي، فهؤلاء لمّا كانت مهماتهم وواجباتهم أعظمَ من غيرهم، وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم، وذلك باعتقاد إمامتهم، والاعتراف بولايتهم، ووجوب طاعتهم بالمعروف، وعدم الخروج عليهم، وحث الرعية على طاعتهم، ولزوم أمرهم الذي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم 55، والحديث أخرجه البخاري معلقاً في كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الدين النصيحة))، ص 35، ط بيت الأفكار الدولية. (¬2) جامع العلوم والحكم، 1/ 222. (¬3) جامع العلوم والحكم، 1/ 223، وانظر: كلمات تكتب بماء الذهب في طاعة ولاة أمور المسلمين: فتاوى ابن تيمية، 28/ 390 - 391، ومنهاج السنة النبوية، 3/ 390، ومفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 62، والجامع الفريد من كتب ورسائل أئمة الدعوة الإسلامية، ص281، والعقيدة الطحاوية، ص368.

لا يخالف أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبذل ما يستطيع الإنسان من نصيحتهم، وتوضيح ما خفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم، كل أحد بحسب حاله، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق؛ فإن صلاحهم صلاح لرعيتهم، واجتناب سبِّهم، والقدح فيهم، وإشاعة مثالبهم؛ فإن في ذلك شرّاً، وضرراً، وفساداً كبيراً. فمن نصيحتهم الحذر والتحذير من ذلك، وعلى من رأى منهم ما لا يحل أن ينبههم سرّاً لا علناً، بلطفٍ وعبارة تليق بالمقام، ويحصل بها المقصود؛ فإن هذا هو المطلوب في حق كل أحد، وبالأخص ولاة الأمور؛ فإن تنبيههم على هذا الوجه فيه خير كثير، وذلك علامة الصدق والإخلاص، واحذر أيها الناصح لهم - على هذا الوجه المحمود - أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس فتقول لهم: إني نصحتهم، وقلت وقلت؛ فإن هذا عنوان الرياء، وعلامة ضعف الإخلاص، وفيه أضرار أُخر معروفة)) (¬1). 24 - وعن زياد بن كُسيب العدوي قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب، وعليه ثياب رقاق، فقال: أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفُسّاق، فقال أبو بكرة: اسكت، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله)) (¬2)، ولفظ الإمام أحمد بدون ذكر القصة: ((من أكرم سلطان الله تبارك وتعالى في الدنيا ¬

_ (¬1) الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، ص38 - 49. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب الفتن، باب 47، برقم 2224، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2297، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 245.

أكرمه الله يوم القيامة، ومن أهان سلطان الله تبارك وتعالى في الدنيا أهانه الله يوم القيامة)) (¬1)؛ ولهذا قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: ((لا يزال الناس بخير ما عظَّموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفّوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم)) (¬2). 25 - وقيل لأسامة بن زيد رضي الله عنهما: لو أتيت فلاناً (¬3) فكلَّمته، قال: ((إنكم لترون أني لا أُكلِّمُه إلا أُسْمِعُكم، إني أُكلِّمه في السِّر [وفي رواية لمسلم: والله لقد كلَّمته فيما بيني وبينه] دون أن أفتح باباً لا أكون أول من فتحه ... )) (¬4). فقد استخدم أسامة - رضي الله عنه - أسلوب الحكمة مع الأمير العظيم عثمان - رضي الله عنه - وأرضاه؛ لِأَنَّ النصيحة لولي أمر المسلمين لا بد فيها من مراعاة مركزه، وحاله؛ لأن إنزال الناس منازلهم من صميم الحِكمة؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((وفي الحديث تعظيم الأمراء، والأدب معهم، وتبليغهم ما يقول الناس فيهم (¬5)؛ ليكفُّوا ويأخذوا حذرهم بلطفٍ، ¬

_ (¬1) أحمد، 5/ 48 - 49، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 5/ 215: رواه أحمد والطبراني باختصار، وزاد في أوله: ((الإمام ظل الله في الأرض ... ))، ورجال أحمد ثقات)). وحسنه الألباني كما تقدم، وفي صحيح الجامع، برقم 5987. (¬2) تفسير القرطبي، 5/ 262. (¬3) هو عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، كما في رواية الإمام مسلم، برقم 2989. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم 3267،ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله، برقم، 2989. (¬5) وليس المراد تبليغهم ما يقول الناس فيهم على وجه النميمة والإفساد.

وحسن تأدية، بحيث يبلغ المقصود من غير أذيَّة للغير)) (¬1). وإنكار المنكر مشروط بأن لا يحصل منكر أنكر؛ لأن إنكار المنكر له أربع درجات كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: الأولى: أن يزول، ويخلفه ضده. الثانية: أن يقل، وإن لم يزل بجملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه شر منه. فالدرجتان الأولَيَان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرّمة (¬2). وقال النووي رحمه الله تعالى على قول أسامة: ((دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه)): ((يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان - رضي الله عنه -، وفيه الأدب مع الأمراء، واللطف بهم، ووعظهم سرّاً، وتبليغهم ما يقول الناس فيهم، ليكفّوا عنه ... )) (¬3). ولا شك أن الإنكار على ولي أمر المسلمين جهاراً أمام الرعية، وبحضرتهم يسبّب شرّاً كثيراً في الغالب، وربما حصل بذلك فرقة، أو خروج على إمام المسلمين، وولي الأمر لا بد له أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ثم لا يأمن أن يقع منه تقصير؛ لأنه بشر، ولكن ¬

_ (¬1) فتح الباري، 13/ 53، وانظر: شرح النووي، 18/ 328. (¬2) إعلام الموقعين عن رب العالمين، 3/ 16، وانظر هناك فوائد عظيمة. (¬3) شرح النووي، 18/ 329.

المبحث الرابع: الدعاء لولاة الأمر من المسلمين

يعالج سرّاً، وبالحكمة والمداراة المحمودة، ويُتلطف به، ويُنصح برفق ولين، وذلك أجدر بالقبول (¬1). قال سماحة العلامة الإمام المحقق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله: ((ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الانقلاب، وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخروج الذي يضرّ ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير، وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل، فينكر الزنى، وينكر الخمر، وينكر الربا، من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلاناً يفعلها: لا حاكم ولا غير حاكم .. )) (¬2). المبحث الرابع: الدعاء لولاة الأمر من المسلمين ومن حقوق السلطان على رعيته الدعاء له؛ ولهذا كان السلف الصالح: كالفضيل بن عياض، والإمام أحمد بن حنبل، وغيرهما يقولون: ((لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان)) (¬3)، وما ذلك إلا لأن ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري، 13/ 52، وعمدة القاري، 15/ 166. (¬2) انظر: فتوى لسماحة الشيخ مطبوعة في آخر رسالة ((حقوق الراعي والرعية))، ص27 - 28، وانظر: فوائد الآداب مع السلطان لنصيحته: الآداب الشرعية للإمام محمد بن مفلح المقدسي، 1/ 196 - 208، بتحقيق شعيب الأرنؤوط، وتنبيه الغافلين لابن النحاس، ص59 - 68، بتحقيق عماد الدين عباس. (¬3) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 28/ 391، وطبقات الحنابلة، 2/ 36.

السلطان إذا صلح صلحت الرعية، وإذا فسد فسدت، ولهذا يُذكر عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه قال: ((إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن))، ولهذا قال الإمام الحسن بن علي البربهاري رحمه الله: ((إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله تعالى)) (¬1). وقال الفضيل بن عياض: ((لو كان لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا للسلطان، قيل له: يا أبا علي فَسِّر لنا هذا؟ قال: إذا جعلتها في نفسي لم تعْدُني، وإذا جعلتها في السلطان صلح، فصلح بصلاحه العباد والبلاد، فأُمرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم، وإن جاروا وظلموا؛ لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين)) (¬2). وهكذا أيضاً تكون النصيحة والدعاء للعلماء إذا حصل منهم قصور أو نسيان؛ لأنهم بشر وغير معصومين، وهم من أعظم ولاة أمر المسلمين، فلا يجوز سبهم، ولا التشهير بهم، ولا تتبع عثراتهم ونشرها بين الناس؛ لأن في ذلك فساداً كبيراً؛ ولهذا قال ابن عساكر رحمه الله تعالى: ((اعلم يا أخي - وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني وإياك ممن يتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أسرار منتقصهم معلومة، وأن من أطال لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ ¬

_ (¬1) كتاب شرح السنة للإمام الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى، ص51. (¬2) كتاب شرح السنة للإمام الحسن بن علي بن خلف البربهاري المتوفى 329هـ بتحقيق خالد بن قاسم الردادي، ص116،مكتبة الغرباء. وانظر: طبقات الحنابلة،2/ 36،وحلية الأولياء،8/ 91.

المبحث الخامس: الخارجون على الأئمة وصفاتهم

يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1)، والله المستعان، وعليه التكلان (¬2). المبحث الخامس: الخارجون على الأئمة وصفاتهم الخارجون على الإمام المسلم أربعة أصناف: 1 - قوم امتنعوا عن طاعة الإمام، وخرجوا عن قبضته، فهؤلاء قطاع طريق، ساعون في الأرض بالفساد. 2 - قوم لهم تأويل إلا أنهم نفر يسير لا منعة لهم: كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم، فهؤلاء قطاع طريق في قول أكثر الحنابلة، وهو مذهب الشافعي، وقيل: لا فرق بين القليل والكثير، وحكمهم حكم البغاة إذا خرجوا عن قبضة الإمام. 3 - قوم من أهل الإسلام يخرجون عن قبضة الإمام ويريدون خلعه؛ لتأويل سائغ، وفيهم منعة يحتاجون إلى جمع الجيش، فهؤلاء البغاة. 4 - الخوارج الذين يكفّرون بالذنب، ويكفّرون عثمان، وعليّاً، وطلحة، والزبير، وكثيراً من الصحابة - رضي الله عنهم - (¬3). والخوارج يكفّرون أصحاب الكبائر، ويستحلُّون دماءَهم، وأموالهم، ويخلدونهم في النار، ويرون اتّباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب - وإن كانت متواترة - ويكفّرون من خالفهم، ويستحلّون منه ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 63. (¬2) انظر: رسالة لحوم العلماء مسمومة، ص14. (¬3) انظر هذا التفصيل في المغني لابن قدامة رحمه الله، 12/ 237 - 242.

- لارتداده عندهم - ما لا يستحلّونه من الكافر الأصلي (¬1)، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقّاً واجباً (¬2)، وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - صفاتهم (¬3)، وأوضحها للناس، ومن ذلك أن رجلاً منهم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم غنيمةً بالجعرانه -: يا محمد اعدل. قال: ((ويلك ومن يعدلُ إذا لم أكن أعدل، لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أكن أعدل))، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: دعني يا رسول الله، فأقتل هذا المنافق؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((معاذ الله أن يتحدَّث الناس أني أقتل أصحابي. إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرميَّة)) (¬4). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم ذهباً، فجاء إليه رجل فقال: ((اتقِّ الله يا محمد))! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن يطع الله إن عصيته! أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني))، ثم قال: ((إن من ضئضئِ هذا (¬5) قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوزُ حناجرهم (¬6) يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان، ¬

_ (¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 3/ 335. (¬2) الملل والنحل، للشهرستاني، 1/ 115. (¬3) انظر التفصيل في رأي الخوارج وفرقهم، المبحث الأول، من الفصل الأول، من الباب الثالث، من هذه الرسالة، والرد عليهم ومناقشتهم. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب: فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، برقم 3138، ومسلم، كتاب: الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم 1063. (¬5) ((من ضئضئ هذا)) أي من أصله، وضئضئ الشيء أصله. شرح النووي، 7/ 168. (¬6) ((لا يجاوز حناجرهم)): لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما يتلونه، ولا لهم حظ سوى تلاوة الفم والحنجرة والحلق إذ بهما تقطيع الحروف، وقيل معناه: لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة ولا يقبل. شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 165.

يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميَّة (¬1)، لئن أدركتهم لأقتلنَّهم قتل عاد)) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يخرج فيكم قومٌ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرميَّة)) (¬3). وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((سيخرج في آخر الزمان قومٌ أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام (¬4)، يقولون من خير قول البريَّة (¬5)، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرميَّة، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة)) (¬6). ¬

_ (¬1) ((يمرقون من الإسلام))، وفي رواية ((الدين)): والمعنى يخرجون من الدين كما يخرج السهم إذا نفذ الصيد من جهة أخرى ولم يتعلق به شيء منه، والرميّة: هي الصيد المرمي. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 166. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب: الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودا} برقم 3344، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم 1064. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب من رايا بقراءة القرآن أو تآكل به، أو فخر به، برقم 5058، ومسلم، كتاب: الزكاة، باب الخوارج وصفاتهم، برقم 1064. (¬4) معناه: صغار الأسنان صغار العقول. شرح الإمام النووي، 7/ 175. (¬5) معناه في ظاهر الأمر، كقولهم: لا حكم إلا لله ونظائره من دعائهم إلى كتاب الله تعالى والله أعلم. شرح النووي، 7/ 175. (¬6) أخرجه البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب من راءى بقراءة القرآن، برقم 5057، ومسلم، كتاب: الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، 2/ 746، برقم 1066.

الفصل الثاني: أصول في التكفير

الفصل الثاني: أُصولٌ في التكفير هناك أصولٌ لا بد من إتقانها، ومنها الأصول التالية: 1 - إن السنة والأحاديث النبوية هي المبيِّنة للأحكام القرآنية، وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله تعالى في باب معرفة حدود ما أنزل الله، لمعرفة: المؤمن والكافر، والمشرك والموحد، والفاجر والبر، والتقي والظالم، وما يُراد بالموالاة والتولي، ونحو ذلك من الحدود ... وغيرها من أمور الشريعة. فمن أهمل هذا وأضاعه فقد سدّ على نفسه باب العلم والإيمان، ومعرفة معاني التنزيل والقرآن (¬1). 2 - إن الإيمان أَصْلٌ له شُعَب متعددة كل شعبةٍ منها تسمى إيماناً، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فمنها ما يزول بزواله الإيمان إجماعاً، كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزواله إجماعاً كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق، ويكون إليها أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالفٌ للنصوص وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. وكذلك الكفر أيضاً ذو أصلٍ وشُعَب، فكما أن شُعَب الإيمان إيمانٌ، فشُعَب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شُعَب الكفر، كما أن الطاعات ¬

_ (¬1) انظر: أصول وضوابط في التكفير للعلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، بتحقيق الشيخ عبد السلام بن برجس، ص31.

3 - إن الإيمان مركب من قول وعمل

كلها من شُعَب الإيمان، ولا يسوّى بينهما في الأسماء والأحكام. وفرق بين من أشرك بالله أو استهان بالمصحف وبين من يسرق ويزني، أو يشرب الخمر، فمن سوّى بين شُعَب الكفر في ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء. 3 - إن الإيمان مُركَّب من قولٍ وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، هذه أربعة أمور جامعة لأمور الإسلام: الأول: قول القلب: وهو تصديقه وإيقانه واعتقاده. الثاني: قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين، والإقرار بلوازمهما. الثالث: عمل القلب: وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد، والإقبال على الله - عز وجل -، والتوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه. الرابع: عمل اللسان والجوارح: فعمل اللسان ما لا يُؤَدَّى إلا به: كتلاوة القرآن، وسائر الأذكار والدعاء والاستغفار وغير ذلك، وعمل الجوارح ما لا يُؤَدَّى إلا بها مثل: القيام، والركوع، والسجود، والمشي في مرضاة الله، كنقل الخطى إلى المساجد، وإلى الحج والجهاد في سبيل الله تعالى ... وغير ذلك (¬1). فإذا زال تصديق القلب ورضاه ومحبته لله زال الإيمان. ¬

_ (¬1) انظر: أصول وضوابط في التكفير، ص34، ومعارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، للشيخ حافظ الحكمي رحمه الله، 2/ 588 - 591.

4 - الكفر نوعان

وإذا زال شيء من أعمال الجوارح فهذا فيه تفصيل عند أهل السنة وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها (¬1). 4 - إن الكفر نوعان: كفر أكبر كالشرك بالله تعالى، أو جحد ما أخبر به، أو سبّ الله، أو سبّ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مضادّ للإيمان من كل وجه. وكفر أصغر لا يُخرج من الملة، كالمعاصي التي دون الكفر الأكبر (¬2). وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى وبيان أن كلاً من: الكفر، والنفاق، والشرك، والظلم، والفسوق، والبدعة، ينقسم إلى قسمين: أكبر وأصغر (¬3). 5 - إنه لا يلزم من قيام شعبة من شُعَب الإيمان بالعبد أن يُسمّى مؤمناً، ولا يلزم من قيام شعبة من شُعَب الكفر أن يُسمّى كافراً، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزءٍ من أجزاء العلم، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يُسمّى: عالماً، أو طبيباً، أو فقيهاً. وأما الشعبة نفسها فيطلق عليها اسم الكفر كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)) (¬4)، ولكنه كفر دون كفر، فلا يستحق اسم الكفر على الإطلاق، فمن عرف هذا عرف فقه السلف، وعمق علومهم، وقلَّةَ تكلُّفهم؛ ولهذا قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((من كان متأسِّياً فليتأسَّ بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم أبرُّ ¬

_ (¬1) انظر: أصول وضوابط في التكفير، ص35. (¬2) انظر: أصول وضوابط في التكفير، ص36 - 45. (¬3) انظر: أصول وضوابط التكفير، ص20. (¬4) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة، برقم 67.

الفصل الثالث: ضوابط التكفير

هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلُّها تكلّفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)) (¬1). الفصل الثالث: ضوابط التكفير إن التكفير له ضوابط لا بد من معرفتها، ومنها الضوابط الآتية: 1 - الحكم بالظاهر، فإن أهل السنة لا تكون أحكامهم مبنية على الظنون والأوهام؛ ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة - رضي الله عنه - عندما قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله: ((أقال لا إله إلا الله وقتلته؟)) قال: قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟)) فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ (¬2)، وهذا فيه دليل على القاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يعمل فيها بالظاهر، والله يتولى السرائر (¬3). 2 - الاحتياط في تكفير المعين؛ فإن مذهب أهل السنة وسط بين من يقول: لا نُكفِّر من أهل القبلة أحداً، وبين من يكفر المسلم بكل ذنبٍ دون النظر إلى توفر شروط التكفير، وانتفاء موانعه، فأهل السنة يقولون: من استحلَّ ما هو معلوم من الدِّين بالضرورة كفر، ومن قال: القرآن مخلوق، أو إن الله لا يُرى في الآخرة كفر، لكن الشخص الذي قال مقالة الكفر، أو فعل فعل الكفر، لا يحكم بكفره حتى تتوفر شروط الكفر، ¬

_ (¬1) انظر: أصول في التكفير لعبد اللطيف آل الشيخ، ص46. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، برقم 96. (¬3) شرح النووي، 2/ 466.

3 - ما تقوم به الحجة

وتنتفي موانعه (¬1). فإذا توفرت الشروط وانتفت الموانع حكم بردته، فيُستتاب فإن تاب وإلاّ قُتل (¬2). 3 - ما تقوم به الحجة: اتفق السلف على عدم تكفير المعين إلا بعد قيام الحجة، فلا بد من معرفة ما تقوم به الحجة، وما الفرق بين بلوغ الحجة وفهمها؟ وما الأدلة على ذلك؟ وهذا يحتاج إلى تفصيل وعناية دقيقة من طالب العلم لا يتّسع المقام لذكرها هنا (¬3). 4 - عدم التكفير بكل ذنب؛ ولهذا قال الطحاوي رحمه الله: ((ولا نُكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله))، والمراد لا يكفّر بكل ذنب، فأهل السنة لا يُكفِّرون المسلم الموحِّد المؤمن بالله واليوم الآخر بذنب يرتكبه: كالزنا، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، وأمثال ذلك، ما لم يستحل ذلك، فإن استحله كفر؛ لكونه بذلك مُكذِّباً لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، خارجاً عن دينه، أما إذا لم يستحلَّ ذلك فإنه لا يكفر بل يكون ضعيف الإيمان، وله حكم ما تعاطاه من المعاصي في التفسيق، وإقامة الحدود، وغير ذلك حسبما جاء في الشرع المُطهَّر (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 35/ 165، ونواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف للدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي، 1/ 209، ونواقض الإيمان القولية والعملية للدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف، ص52. (¬2) انظر: التفصيل في نواقض الإيمان الاعتقادية للوهيبي، 1/ 209 - 217. (¬3) راجع التفصيل بالأدلة في المرجع السابق، 1/ 218، وانظر: نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز آل عبد اللطيف، ص55 - 70. (¬4) العقيدة الطحاوية بتعليق سماحة الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، ص16، وانظر: نواقض الإيمان الاعتقادية للوهيبي، 1/ 221.

الفصل الرابع: موانع التكفير

الفصل الرابع: موانع التكفير إن التكفير له موانع لا بد من فهمها، ومنها الموانع الآتية: 1 - الجهل، ولكن العذر بالجهل له حالات؛ لأنه يختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص يختلفون: فمنهم من قامت عليه الحجَّة، ومنهم من لم تقم عليه، باعتباره - مثلاً -: حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، وكذلك الجهل يختلف إن كان جهلاً بما هو معلوم من الدين بالضرورة أو ما دون ذلك. ولا يعني أن الجهل عذر مقبول لكل من ادّعاه؛ فإن من العلم ما لا يسع المسلم البالغ غير المغلوب على عقله جهله مثل: الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، وزكاةً في أموالهم، وأن الله حرّم عليهم الزنا والقتل، والسرقة والخمر، وما كان في هذا المعنى، والمقصود أن العذر بالجهل يحتاج إلى تفصيل وعناية وفهم دقيق ليس هذا مقامها (¬1). 2 - الخطأ، قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬2)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ ¬

_ (¬1) انظر: التفصيل في نواقض الإيمان القولية والعملية للدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف، ص59 - 70 ونواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف للدكتور محمد الوهيبي،1/ 225 - 302، وهناك رسالة قيمة بعنوان: ((الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه)) لعبد الرزاق معاش، وهي رسالة ماجستير بإشراف العلامة محمد بن ناصر البراك، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 5.

3 - الإكراه

والنسيان وما استكرهوا عليه)) (¬1). لكن ينبغي أن يُعلم أن لذلك ضوابط وشروطاً يعرفها أهل العلم لا يتسع المقام لذكرها هنا (¬2). 3 - الإكراه، للحديث السابق؛ ولقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِالله مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬3). والإكراه له أنواع وشروط وضوابط يعرفها العلماء ليس هذا موضع ذكرها (¬4). 4 - التأويل، المقصود به هنا: التلبس والوقوع في الكفر من غير قصد لذلك، وسببه القصور في فهم الأدلة الشرعية دون تعمّدٍ للمخالفة، بل يعتقد أنه على حق. قال ابن تيمية رحمه الله: ((والتكفير من الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيباً لَمَا قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم 2043، ورقم 2045، بلفظ: ((إن الله وضع .. ))، والحاكم، 2/ 198، والطبراني في معجمه الكبير، 11/ 134، برقم 11274، وقال الحاكم: ((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1731، 1836. (¬2) انظر: نواقض الإيمان الاعتقادية لمحمد الوهيبي، 1/ 302 - 313. (¬3) سورة النحل، الآية: 106. (¬4) انظر: التفصيل في نواقض الإيمان الاعتقادية للشيخ محمد الوهيبي، 2/ 5 - 20.

5 - التقليد

سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً)) (¬1)، ولكن التأويل الذي يعذر صاحبه له حدود وشروط وضوابط يعرفها العلماء لا يتسع المقام لذكرها (¬2). 5 - التقليد، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((والذي عليه جماهير الأمة: أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد، ويُحرِّمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد، ويُحرِّمون الاجتهاد، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد، فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد، إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور الدليل له؛ فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه، وانتقل إلى بدله وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء، وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد؛ فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزي والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز ... )) (¬3). ويظهر من كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله: أنه يُعذر من وقع في الكفر تقليداً إن كان جاهلاً لا بصيرة له ولا فقه، فهو معذور حتى تقوم عليه ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية، 3/ 231، وانظر: 2/ 263 - 268، و3/ 282، 12/ 523. (¬2) انظر: التفصيل في نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز آل عبد اللطيف، ص75 - 84، ونواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد الوهيبي، 2/ 20 - 38. (¬3) فتاوى ابن تيمية، 20/ 203 - 204، وانظر: أضواء البيان للشنقيطي،7/ 487 - 489، ونواقض الإيمان الاعتقادية، 2/ 41 - 43.

الفصل الخامس: خطورة التكفير

الحجة (¬1). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وأمَّا أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام، ولكنهم مخالفون في بعض الأصول فهؤلاء أقسام: ((أحدها: الجاهل المقلّد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يُكفَّر، ولا يُفَسَّق، ولا تُردُّ شهادته إذا لم يكن قادراً على تعلم الهدى، وحُكْمُهُ حكم المستضعفين من الرجال والنساء والوِلْدَان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوّاً غفوراً)) (¬2). والتقليد في الحقيقة: هو اتباع قول من ليس قوله حجة، والخلاصة أن العذر بالتقليد له ضوابط وشروط لا بد من إتقانها، ولا يتسع المقام لذكرها هنا. والله المستعان (¬3). الفصل الخامس: خطورة التكفير والذي ينبغي أن نُؤَصِّلَهُ هنا: أن الحكم بالكفر على إنسان ما: حكم خطير؛ لِمَا يترتّب عليه من آثار، هي غاية في الخطر، منها الأخطار الآتية: 1 - أنَّه لا يحل لزوجته البقاءُ معه، ويجب أن يُفَرَّقَ بينها وبينه؛ لأن المسلمة لا يصح أن تكون زوجة لكافر بالإجماع المتيقَّن. 2 - أنَّ أولاده لا يجوز أن يبقوا تحت سلطانه؛ لأنَّه لا يُؤتَمَن عليهم، ¬

_ (¬1) انظر فتاوى ابن تيمية، 2/ 106، 107، 2/ 131 - 133، 378، و20/ 32 - 33، و23/ 349، و19/ 261. (¬2) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم رحمه الله، ص174. (¬3) انظر: التفصيل: نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف، 2/ 39 - 51.

ويُخشى أن يُؤثِّر عليهم بكفره، وبخاصة أن عُودَهم طريّ، وهم أمانة في عنق المجتمع الإسلامي كله. 3 - أنَّه فقد حق الولاية والنُّصرة من المجتمع الإسلامي بعد أن مرق منه وخرج عليه بالكفر الصريح، والرِّدَّة البَوَاح. ولهذا يجب أن يُقاطع، ويُفرَض عليه حصار أدبي من المجتمع، حتى يفيق لنفسه، ويثوب إلى رشده. 4 - أنَّه يجب أن يُحاكم أمام القضاء الإسلامي، ليُنفَّذَ فيه حكم المرتدِّ، بعد أن يُستتاب وتُزال من ذهنه الشبهات وتُقام عليه الحجة. 5 - أنَّه إذا مات لا تُجرى عليه أحكام المسلمين، فلا يُغسَّل، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُورث، كما أنه لا يرث إذا مات مورِّث له. 6 - أنَّه إذا مات على حاله من الكفر يستوجب لعنة الله وطرده من رحمته، والخلود الأبدي في نار جهنم. وهذه الأحكام الخطيرة توجب على من يتصدَّى للحكم بتكفير خلق الله أن يتريَّث مرات ومرات قبل أن يقول ما يقول (¬1). 7 - أنَّه لا يُدعَى له بالرَّحمة، ولا يُستغفر له؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ ¬

_ (¬1) ظاهرة الغلو في التكفير، ص 23، د. يوسف القرضاوي، دار الجهاد، ودار الاعتصام، وقرأتها على معالي الشيخ الدكتور صالح بن فوزان، في 20/ 6/ 1417هـ.

الفصل السادس: تعاريف ومفاهيم

مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬1). قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: ((الكفر حق الله ورسوله، فلا كافر إلا من كفَّره الله ورسوله)) (¬2). الفصل السادس: تعاريف ومفاهيم 1ـ الكفر 2ـ الشرك 3ـ الإلحاد 4ـ النفاق 5ـ الزندقة 6ـ البدعة 1 - الكَفر: بالفتح: الستر والتغطية، يقال: كَفَر الزارع البذر في الأرض: إذا غطَّاه بالتُّراب. وبالضم: ضِدُّ الإيمان، وكفر نعمة الله وبها كُفُوراً وكفراناً: جحدها، وسترها، وكافره حقه: جحده، والمكفَّرُ كَمُعَظَّم: المجحُودُ النِّعمةِ مع إحسانِهِ، وكافرٌ جاحدٌ لأنْعُمِ الله تعالى (¬3). فالكفر: هو الستر وجحود الحق وإنكاره، والكافر: ضدّ المسلم، والمرتدُّ: هو الذي كفر بعد إسلامه؛ بقولٍ، أو فعلٍ، أو اعتقادٍ، أو شكٍّ، وحدّ الكفر الجامع لجميع أجناسه وأنواعه وأفراده: هو جحد ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو جحد بعضه، كما أن الإيمان: اعتقاد ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتزامه، والعمل به جملة وتفصيلاً (¬4). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 113. (¬2) إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، ص198. (¬3) القاموس المحيط، فصل الكاف، باب الراء، والمعجم الوسيط، ص791. (¬4) إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، للسعدي رحمه الله، ص191.

2 - الشرك

والكفر هو: أول ما ذُكِرَ من المعاصي في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (¬1)، وهو أكبر الكبائر على الإطلاق، فلا كبيرة فوق الكفر (¬2) والكفر كفران: أ- كُفرٌ يُخرِج من الملَّة، وهو (الكفر الأكبر). ب- كفر لا يُخرج من الملة، وهو (الكفر الأصغر)، أو كفر (¬3) دون كفر (¬4). 2 - الشرك: الشرك والشركة، بكسرهما وضمّ الثاني، بمعنى وقد اشتركا، وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر، وأشرك بالله، فهو مشرك، ومشركيٌّ، والاسم: الشرك فيهما، ورغبنا في شِرْككم: مشاركتكم في النسب (¬5)، وأشرك بالله: جعل له شريكاً في ملكه أو عبادته، فالشرك: هو أن تجعل لله نداً وهو خلقك، وهو أكبر الكبائر، وهو الماحق للأعمال، والمبطل لها، والحارم المانع من ثوابها، فكل من عدل بالله غيره بالحب، أو العبادة، أو التعظيم، أو تبع خطواته، ومبادئه المخالفة لملة إبراهيم، فهو مشرك (¬6). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 6. (¬2) الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة، ص5. (¬3) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام، أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، ص6. (¬4) سيأتي بيان ذلك إن شاء الله، عند الكلام على أنواع الكفر. انظر: الفصل الثاني، المبحث الأول من هذا الكتاب. (¬5) القاموس المحيط، فصل الشين، باب الكاف، والمعجم الوسيط، ص480. (¬6) الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة، ص41.

3 - الإلحاد

فظهر مما تقدم: أن الشرك في اللغة: النصيب: أي جعل لغير الله نصيباً في عبادته سبحانه. والشرك في الاصطلاح الشرعي: هو أن تجعل لله ندَّاً وهو خلقك، أو هو: مساواة غير الله فيما هو من خصائص الله تعالى: من الأسماء أو الصفات أو الربوبية أو الألوهية. والشرك شركان: شرك أكبر يُخرِج من الملة، وهو: صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله تعالى. شرك أصغر لا يُخرِج من الملّة (¬1): وهو كل وسيلة قوليّة، أو إراديَّة توصل إلى الشرك الأكبر ما لم تبلغ حدّ الشرك الأكبر. أو هو كل ما ورد في النصوص تسميته بالشرك، ولم يصل إلى حدّ الشرك الأكبر. 3 - الإلحاد: إلحاد ولحود، ولحد القبر كمنع، وألحده، عمل له لحداً، والميت دفنه وإليه مال كالتحد. وألحد مال، وعدل، ومارى، وجادل (¬2)، يلاحظ أن المعاجم الحديثة استعملت كلمة إلحاد، وفسرتها بأنها الكفر. وفَهمُ المفسرين لمادة ((لحد)) في القرآن الكريم، يمكن تلخيصه في أنه الميل عن دين الله إلى درجة الكفر، وفسّروا الإلحاد في سورة الحج، بأنه أي معصية في الحرم، ولكن المعصية في الحرم إذا قيست بغيرها في مكان آخر ¬

_ (¬1) انظر: التفصيل لأنواع الشرك في المطلب الثاني من المبحث الثاني في الفصل الثاني. (¬2) القاموس المحيط، فصل اللام، باب الدال، والمعجم الوسيط، ص817.

4 - النفاق

كانت شديدة جداً (¬1). قال فضيلة الشيخ عبد الرحمن الدوسري (رحمه الله): ((الإلحاد هو الميل عن الحق، والانحراف عنه بشتى الاعتقادات، والتأويلات؛ ولذا سُمّيَ لحد القبر لحداً، لميله عن وسطه إلى أحد جوانبه. فالمنحرف عن صراط الله، والمعاكس لحكمه بالتأويل الفاسد، وإبداء التشكيك، يُسمَّى مُلْحِداً ... وأول الناس إلحاداً المشركون الذين اشتقوا لآلهتهم من أسماء الله. كاللات، والعزى، من الإل الذي هو الإله ... ثم كل من ألحد في أسمائه وصفاته وصرفها عن ظاهرها .. فهو ملحد)) (¬2). 4 - النفاق: لغة: النفق سرب في الأرض، مشتق إلى موضع آخر، وفي التهذيب له مخلص إلى مكان آخر، والنفقة والنافقاء، جحر الضب واليربوع، وقيل النفقة والنافقاء موضع يرققه اليربوع من جحره، فإذا أُتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فخرج ونفق اليربوع، ونَفَق (بالفتح) وانتفق، ونفق خرج منه. ونفق اليربوع تنفيقاً، ونافق أي دخل في نافقائه، ومنه اشتقاق المنافق في الدين، والنِّفاق بالكسر، فعل النافق، والنفاق الدخول في الإسلام من وجه، والخروج عنه من وجه آخر (¬3)، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لتتبعُنَّ سنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم)) قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ¬

_ (¬1) جهود المفكرين المسلمين المحدثين في مقاومة التيار الإلحادي، ص21. (¬2) الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة لعبد الرحمن الدوسري، ص40. (¬3) النفاق آثاره ومفاهيمه، تأليف الشيخ عبد الرحمن الدوسري، ص105 - 106.

5 - الزندقة

((فمن؟)) (¬1). النفاق: شرعاً: كما قال ابن كثير: النفاق، هو إظهار الخير، وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب. قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه (¬2). والنفاق نوعان: أكبر يُخرج من الملّة، وأصغر لا يُخرج من الملّة (¬3). 5 - الزندقة: الزنديق بالكسر من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو من لا يؤمن بالآخرة، وبالربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((الزنديق في عُرف الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن ديناً من الأديان كدين اليهود والنصارى أو غيرهم. أو كان معطِّلاً جاحداً للصانع، والمعاد، والأعمال الصالحة. ومن الناس من يقول: الزنديق هو الجاحد المعطل، وهذا يسمى في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة، ونقلة مقالات الناس، ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه هو الأول، لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر، وغير الكافر، والمرتدّ وغير المرتدّ، ومن أظهر ذلك أو أسرَّه، وهذا الحكم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، برقم 2669. (¬2) تفسير ابن كثير، 1/ 48 عند تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة، الآية:8]، وانظر: تفسير ابن جرير الطبري، 1/ 268 - 272. (¬3) وسيأتي إن شاء الله تعالى التفصيل لأنواع النفاق. (¬4) القاموس المحيط، فصل الزاي، باب القاف، ص1151.

6 - البدعة

يشترك فيه جميع أنواع الكفار، والمرتدين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والرِّدَّة، فإن الله أخبر بزيادة الكفر، كما أخبر بزيادة الإيمان بقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (¬1). وتارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكبو الكبائر. كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} (¬2). فهذا أصل ينبغي معرفته؛ فإنه مهم في هذا الباب؛ فإن كثيراً ممن تكلم في (مسائل الإيمان والكفر) لتكفير أهل الأهواء ((لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن تدبَّر هذا علم أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمناً مخطئاً، جاهلاً ضالاً عن بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقد يكون منافقاً زنديقاً يُظهِر خلافَ ما يُبطِن)) (¬3). 6 - البِدعَةُ: لغة: الحدث في الدين بعد الإكمال، أو ما استُحدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأهواء والأعمال (¬4)، ويُقال: ((ابتدعتُ الشيء، قولاً أو فعلاً ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 37. (¬2) سورة النحل، الآية: 88. (¬3) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 7/ 471. (¬4) القاموس المحيط، باب العين، فصل الدال، ص906، ولسان العرب، 8/ 6، وفتاوى ابن تيمية، 35/ 414.

إذا ابتدأته عن غير مثال سابق)) (¬1). وأصل مادة ((بدع)) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (¬2)، أي: مخترعهما من غير مثال سابق متقدم (¬3). والبدعة في الاصطلاح الشرعي لها عدة تعريفات عند العلماء يكمل بعضها بعضاً، ومنها: (أ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((البدعة في الدين: هي ما لم يشرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب)) (¬4). ((والبدع نوعان: نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات، وهذا الثاني يتضمن الأول، كما أن الأول يدعو إلى الثاني)) (¬5). ((وكان الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم: أن الأعمال عبادات وعادات))، فالأصل في العبادات أنه لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أنه لا يحظر منها إلا ما حظر الله (¬6). وقال أيضاً: ((والبدعة ما خالف الكتاب والسنة، أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات: كأقوال الخوارج، والروافض، والقدرية، والجهمية، وكالذين يتعبَّدون بالرّقص والغناء في المساجد، والذين ¬

_ (¬1) معجم المقاييس في اللغة لابن فارس، ص119. (¬2) سورة البقرة، الآية: 117، سورة الأنعام، الآية: 101. (¬3) الاعتصام للشاطبي، 1/ 49. (¬4) فتاوى ابن تيمية، 4/ 107 - 108. (¬5) فتاوى ابن تيمية، 22/ 306. (¬6) فتاوى ابن تيمية، 4/ 196.

يتعبّدون بحلق اللحى، وأكل الحشيشة، وأنواع ذلك من البدع التي يتعبّد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة، والله أعلم)) (¬1). (ب) وقال الشاطبي رحمه الله تعالى: ((البدعة: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعيّة، يُقصدُ بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله سبحانه)). وهذا على رأي من لا يُدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصُّها بالعبادات، وأما على رأي من أدخل الأعمال الاعتياديَّة في معنى البدعة، فيقول: ((البدعة: طريقة في الدين مخترعةٌ، تُضاهي الشرعيّة، يُقصد بالسلوك عليها ما يُقصد بالطريقة الشرعية)) (¬2). ثم قرّر رحمه الله تعالى على تعريفه الثاني أن العادات من حيث هي معتادة لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبّد بها، أو تُوضع وضع التعبُّد تدخلها البدعة، فحصل بذلك أنه جمع بين التعريفين، ومثّل للأمور المعتادة التي لا بد فيها من التعبُّد: بالبيع، والشراء، والنكاح، والطلاق، والإجارات، والجنايات ... ؛ لأنها مقيدة بأمور وشروط وضوابط شرعية لا خيرة للمكلف فيها (¬3). (ج) وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: (¬4) ((والمراد بالبدعة ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه، فأما ما كان له أصل من ¬

_ (¬1) فتاوى ابن تيمية، 18/ 346، وانظر: المرجع نفسه، 35/ 414. (¬2) الاعتصام لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، 1/ 50 - 56. (¬3) الاعتصام لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، 2/ 568، 569، 570، 594. (¬4) جامع العلوم والحكم، 2/ 127 - 128 بتصرف يسير جداً.

الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعاً، وإن كان بدعةً لغةً، فكلّ من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة، أما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر - رضي الله عنه - لمّا جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك قال: ((نعمت البدعة هذه)) (¬1)، ومراده - رضي الله عنه - أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحثّ على قيام رمضان، ويُرغِّب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرقة ووحداناً، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك مُعلِّلاً، بأنه خشي أن يُكتب عليهم فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أُمِنَ بعده - صلى الله عليه وسلم - (¬2) ... ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتّباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين (¬3). والبدعة بدعتان: بدعة مُكفِّرة تُخرج عن الإسلام، وبدعة مُفسّقة لا تخرج عن الإسلام (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، برقم 2010. (¬2) انظر: صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، برقم 2012، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، برقم 761. (¬3) جامع العلوم والحكم، 2/ 129. (¬4) انظر: الاعتصام للشاطبي، 2/ 516.

الباب الثاني: مذهب أهل السنة والجماعة في قضية التكفير

الباب الثاني: مذهب أهل السنة والجماعة في قضية التكفير الفصل الأول: مذهب أهل السنة ومعتمدهم المبحث الأول: مذهب أهل السنة والجماعة أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بافتراق أمته بعده إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأخبر أن فرقة واحدة منها ناجية، وباقي الفِرَق في النار، فَسُئل عن الفرقة الناجية، وعن صفتها فأخبر أنهم من كان على مثل ما هو عليه وأصحابه، ولسنا نجد اليوم من فرق الأمة من هم على موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - غير أهل السنة والجماعة (¬1)، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفسي بيده لتفترِقنّ أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار)) (¬2). وأهل السنة والجماعة هم أهل الحق، ومن عداهم فأهل بدعة، وأهل السنة والجماعة هم الصحابة - رضي الله عنه -، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمة الله عليهم، ثم أصحاب الحديث، ومن اتبعهم من الفقهاء، جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض ¬

_ (¬1) الفرق بين الفرق لعبد القاهر بن طاهر البغدادي ببعض التصرف، ص318. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب شرح السنة، برقم 4596، 4597، والترمذي في كتاب الإيمان، باب افتراق هذه الأمة، برقم 2640، 2641، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، برقم 3992،وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1083.

وغربها رحمة الله عليهم (¬1). وأهل السنة والجماعة في باب أسماء الله، وآياته، وصفاته، وسط بين (أهل التعطيل) الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويُعطِّلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى شَبَّهوه بالمعدوم والأموات، وبين (أهل التمثيل) الذين يضربون له الأمثال، ويشبهونه بالمخلوقات، فيؤمنُ أهل السنة والجماعة، بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف، و [لا] تعطيل، ومن غير تكييف و [لا] تمثيل، وهم في باب خلقه وأمره، وسط بين المكذبين بقدرة الله، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة، ومشيئته الشاملة، وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله، الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة، ولا عمل. فيعطلون الأمر، والنهي، والثواب، والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (¬2). فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير، فيقدر أن يهدي العباد، ويقلب قلوبهم، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد، ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات، والحركات. ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة، وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبوراً، إذ المجبور من أُكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل ¬

_ (¬1) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، 2/ 113. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 148.

العبد مختاراً لما يفعله، فهو مختار مريد، والله - سبحانه وتعالى - خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير؛ فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وهم في ((باب الأسماء، والأحكام، والوعد، والوعيد)) وسط بين الوعيدية، الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والأعمال الصالحة ليست من الدين، ويكذبون بالوعيد، والعقاب بالكلية. [و] يؤمن أهل السنة والجماعة بأن فُسَّاق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ادَّخَرَ شفاعته لأهل الكبائر من أمته. وهم أيضاً في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و - رضي الله عنهم - وسط بين الغالية، الذين يغالون في علي - رضي الله عنه -، فَيُفضِّلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا، وفَسَّقوا، وكفَّروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبياً أو إلهاً، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان رضي الله عنهما، ويستحلّون دماءهما ودماء من تولاهما، ويستحبّون سبَّ علي وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي - رضي الله عنه - وإمامته. وكذلك في سائر (أبواب السنة) هم وسط لأنهم متمسكون

بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)) (¬1). أما مذهب أهل السنة والجماعة في التكفير، فهم وسط بين مذهبي: الإرجاء، والوعيدية. فأهل السنة والجماعة يقولون: إن العبد إذا تاب من الذنب غُفِر له، وإن لم يتب فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عَذَّبه؛ لقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (¬2) الآية. فهذا مذهب بين مذهبين: بين من يقول: لا يضر مع الإيمان ذنب، وبين من يقول بالوعيد بأن صاحب الكبيرة من الخالدين في النار. ويقول أهل السنة والجماعة: العباد مأمورون بالطاعة، ومنهيُّون عن المعصية، يستحقّون العقاب على فعل المعصية، ويستحقّون الثواب على فعل الطاعة، فالمعصية إذا لم يتوبوا منها فهم معذَّبون عليها، أو يتوب الله عليهم. والإيمان عند أهل السنة والجماعة، يزيد وينقص، زيادته بالطاعة، ونقصه بالمعصية (¬3)، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ ¬

_ (¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 3/ 373 - 375. (¬2) سورة الزمر، الآيتان: 53 - 54. (¬3) الأجوبة المفيدة على أسئلة العقيدة، ص58.

يَسْتَبْشِرُونَ} (¬1) ومرتكب الكبيرة ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وكما أن أهل السنة وسط في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقولون: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم عدول، ولا يُبرئونهم من الذنوب التي هي دون الكفر؛ لكن لهم من الحسنات ما يُغطّيها، ويُنزلونهم منازلهم التي أنزلهم الله إيَّاها ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يَغلون في علي، ولا يكفِّرون أبا بكر وعمر، ويحبّونهم، ولا يضلّلون عليّاً ومعاوية، بل إن أفضل الأمة، أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي (¬2). قال الطحاوي رحمه الله: ((ولا نُكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلّه (¬3)، ولا نقول: لا يضرّ مع الإيمان ذنب لمن عمله، ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم، والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة)) (¬4). وقال الطحاوي أيضاً: ((نُسمّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 124. (¬2) الأجوبة المفيدة على أسئلة العقيدة، ص60. (¬3) يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب، وإلا فقد امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج. (¬4) شرح العقيدة الطحاوية، ص355.

بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين))، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا)) (¬1). ويشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحلّه، والمراد بقوله أهل قبلتنا: من يدَّعي الإسلام ويستقبل الكعبة، وإن كان من أهل الأهواء أو من أهل المعاصي، ما لم يُكذِّب بشيء مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وأهل السنة متفقون أن مرتكب الكبيرة لا يَكْفُر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج، إذ لو كَفَر كفراً ينقل عن الملّة، لكان مرتدّاً يُقْتَلُ على كل حال، ولا يُقبل عفو ولي القصاص، ولا تُجْرى الحدود في الزنا، والسرقة وشرب الخمر. وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام، ومُتَفقون على أنَّه لا يُخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحقّ الخلود مع الكافرين كما قالت المعتزلة (¬3). أما من ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب: كالزنا، أو شرب الخمر، أو أكل الربا، أو قتل النفس التي حرّم الله بغير حقّ، مستحلاًّ لذلك فإنه يكفر بإجماع المسلمين، فمن ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب كالزنا أو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة، برقم 391، 393. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية ص350، الطبعة الرابعة، بتحقيق جماعة من العلماء. (¬3) شرح العقيدة الطحاوية، ص360 - 361.

غيره مستحلاًّ لذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدّاً عن دين الإسلام. وقد يكون مع الإنسان من الإيمان وفروعه ما يستحقّ به المدح والثواب، ومعه من شعب الكفر والنفاق ما يستحق عليه الذمّ والعقاب، ومراد الفقهاء في الكلام على المرتدّ: هو الذي لا يبقى معه من الإيمان ما يحقن دمه. والكفّار نوعان: أحدهما الكفار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام، ولا انتسبوا للإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من أُمّيين، ومشركين، وأهل كتاب من يهود ونصارى، ومجوس، وعبدة أوثان، ودهريِّين، وفلاسفة ... وغيرهم من أصناف الكفار، فهؤلاء الجنس، دلّ الكتاب والسنة، وإجماع المسلمين، على كفرهم، وشقائهم، وخلودهم في النار، وتحريم الجنة عليهم، ولا فرق بين عالمهم وجاهلهم، وأُمِّيهم، وكتابيِّهم وعوامِّهم وخواصِّهم، وهذا أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام، فهذا القسم ليس الكلام فيه، إنما الكلام في القسم الثاني الذين ينتسبون لدين الإسلام، ويزعمون أنهم مؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم يصدر منهم ما يناقض هذا الأصل، ويزعمون بقاءهم على دين الإسلام، وأنهم من أهله، فهؤلاء لتكفيرهم أسباب متعددة ترجع كلها إلى تكذيب الله ورسوله، وعدم التزام دينه ولوازم ذلك، ومن هذه الأسباب الأسباب الآتية: السبب الأول: الشرك بالله تعالى والشرك بالرسول - صلى الله عليه وسلم -: 1ـ فالشرك بالله تعالى إما شرك في الربوبية، بأن يعتقد أن أحداً شريكاً

له، في الملك، أو التدبير، أو الخلق لبعض المخلوقات وغير ذلك. وإما شرك في ألوهيته، وعبادته بأن يصرف نوعاً من أنواع العبادات لغير الله تعالى، بأن يدعو غير الله، أو يسجد لغير الله، أو يذبح لغير الله، أو ينذر لغير الله، أو يعتقد أن أحداً يستحق الألوهية والعبادة مع الله تعالى، أو يجعل بينه وبين الله وسائط، يتقرّب إليهم ليقرّبوه إلى الله تعالى، كما هو شرك المشركين الذين أخبر الله عنهم في كتابه، وأمثلة هذا لا تحصى لكن هذا أصله الذي يرجع إليه. 2 - أما الشرك بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فمنه، أنه لا يتم الإيمان بالرسول حتى يُعتَقَد أنه رسول الله إلى الإنس والجن، والعرب وغيرهم في أصول الدين وفروعه، وفي جميع أبواب الدين، وأنه خاتم النبيين لا نبي بعده، فمن اعتقد أنه رسول إلى الإنس دون الجن، أو إلى العرب دون غيرهم ... أو ادَّعَى لنفسه أنه رسول، أو صدّق من ادَّعَى ذلك، فكل هذه الأمور وشبهها شرك بالرسول، وكفر بالله، وتكذيب لله ولرسوله، وخروج عن الدين (¬1). السبب الثاني من أسباب الكفر: عدم الإيمان بالكتاب والسنة، وذلك أنه لا يؤمن عبد حتى يعتقد أن القرآن كلام الله تعالى، صدق كله، وحق كله، وواجب التزامه، فمن جحد القرآن أو شيئاً منه ولو آية أو امتهنه، أو استهزأ به، أو ادَّعَى أنه مُفترَى، أو مُختلق، أو ادَّعى فيه ما ادَّعاه زنادقة ¬

_ (¬1) إرشاد أولى البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب لعبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله ببعض التصرف، ص191 - 193.

الملاحدة من أهل الوحدة، والفلسفة من أنه تشريع للجمهور والعوام، وأنه تخيل للأمور ورموز إليها، ولم يُصرّح بالحقيقة، فكل هذا كفر بالقرآن، وخروج عن الدِّين كذلك. وكذلك من زعم أن له خروجاً عما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشرع العظيم، والصراط المستقيم، وكذلك من أنكر أحداً من الأنبياء الذين نصَّ الله عليهم، أو نصَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليهم، أو شيئاً من كتب الله المذكورة في الكتاب والسنة، فهو مُكذِّب للقرآن والسّنّة، بل طريقة المؤمنين الإيمان بجميع الكتب المنزَّلة على أنبيائه ورسله إلى الخلق، لا يفرِّقون بين أحد من رسله ولا كتبه، ومن أنكر البعث، والجزاء، والجنة، والنار، فهو مُكذِّب للكتاب والسنة، ومن جحد وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو الصيام، أو الحج، فهو مُكذِّب لله ولرسولِهِ وإجماع المسلمين، وهو خارج من الدِّين بإجماع المسلمين، ومن أنكر حكماً من أحكام الكتاب والسنة ظاهراً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً، كمن ينكر حل الخبز، والبقر، والغنم ونحوها، مما هو ظاهر، أو ينكر تحريم الزنا، أو القذف، أو شرب الخمر، فضلاً عن الأمور الكفرية، والخصال الشركية، فهو كافر مُكذِّب لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مُتَّبع غير سبيل المؤمنين، وكذلك من جحد خبراً أخبر الله به صريحاً، أو أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو حديث صحيح صريح، فهو كافر بالله ورسوله، كذلك من شكَّ في شيء من ذلك، بعد علمه به، ومثله لا يجهله، فهو كافر لأنه تارك لما وجب عليه من الإيمان،

مُكذِّب لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). تقييد لا بد منه وهو أن المتأوِّلين من أهل القبلة الذين ضلّوا وأخطؤوا في فهم ما جاء به الكتاب والسنة، مع إيمانهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - واعتقادهم صدقه في كل ما قال: وأنَّ ما قاله كله حقّ، والتزموا ذلك، لكنهم أخطؤوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية، فهؤلاء قد دلّ الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين ... وذلك لأجل تأويلهم وجهلهم. والقول الفصل في أمثال هؤلاء المبتدعة المخالفين لما ثبتت به النصوص الصريحة والصحيحة أنهم في هذا الباب أنواع: من كان منهم عارفاً بأن بدعته مخالفة للكتاب والسنة، فتبعها ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهره، وشاقّ الله ورسوله من بعد ما تبين له الحقّ، فهذا لا شك في تكفيره. ومن كان منهم راضياً ببدعته، معرضاً عن طلب الأدلّة الشرعية، وطلب ما يجب عليه من العلم الفارق بين الحقّ والباطل ناصراً لها، رادّاً ما جاء به الكتاب والسنة مع جهله، وضلاله، واعتقاده أنه على الحق فهذا ظالم، فاسق، بحسب تركه ما أوجب الله عليه، وتَجَرُّئِهِ على ما حرم الله تعالى، ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم من هو حريص على اتباع الحق واجتهد في ذلك، ولم يتيسّر له من يبيّن له ذلك، فأقام على ما هو ¬

_ (¬1) إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، ص194.

عليه ظانَّاً أنه صوابٌ من القول، غير متجرئٍ على أهل الحق بقوله ولا فعله، فهذا ربما كان مغفوراً له خطؤه، والله أعلم. والمقصود أنه لا بد من هذا الملحظ في هذا المقام؛ لأنه وجد بعض التفاصيل التي كَفَّر أهل العلم فيها من اتّصف بها، وثَمَّ آخرُ من جنسها لم يكفِّروه بها، والفرق بين الأمرين: أن التي جزموا بكفره بها لعدم التأويل المسوّغ، وعدم الشبهة المقيمة لبعض العذر، والتي فصّلوا فيها القول لكثرة التأويلات الواقعة فيها. ومما يدخل في هذا الأصل الكفر بالملائكة، والجن؛ فإن الإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان الستة، وهو في سور كثيرة من القرآن الكريم، والسنة مملوءة منه، فمن لم يؤمن بذلك لم يؤمن بالكتاب ولا بالسنة. وكذلك الجنّ ذكرهم الله في القرآن في عدّة مواضع، وذكر من تكليفهم وصفاتهم ما ذكره، فالكفر بهم كفر بالكتاب والسنة. وكذلك الاستهزاء بالقرآن، أو بالسنة، أو بالدين فإنه كفر وزيادة، فالكفر عدم الإيمان سواء أعرض أو عارض، وهذا معارض. وكذلك من لم يُكَفِّر من دان بغير دين الإسلام من أي دين كان، أو شكّ في كفرهم لمناقضة ذلك نصوص الكتاب والسنة. وكذلك من قذف عائشة رضي الله عنها بما برّأها الله منه، أو أنكر صحبة أبي بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لتصريحه بتكذيب الكتاب.

والحاصل أن من كذَّب الله، أو كذَّب رسوله في شيء مما أخبر (الله ورسوله) به فهو كافر، أو لم يلتزم ما أمر الله به ورسوله؛ لأن هذا كله مناقض للإيمان بالقرآن والسنة، وكل ما ذكره الفقهاء من تفاصيل المكفِّرات الصحيحة فإنه يعود إلى هذا السبب، فالكفر حق الله ورسوله، فلا كافر إلا من كفَّره الله ورسوله، فهو جحد ما جاء به الرسول، أو جحد بعضه، والله تعالى أعلم (¬1). وخلاصة مذهب أهل السنة في قضية التكفير: أنهم يقولون: إنّ الفاسق من أهل القبلة لا يُنفى عنه مطلق الإيمان بفسوقه، ولا يوصف بالإيمان التام، فيقولون: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يُعطى الاسم المطلق، ولا يُسلب مطلق الاسم، والمراد بالفسق هنا هو الأصغر، وهو عمل الذنوب الكبائر التي سمَّاها الله ورسوله فسقاً، وكفراً، وظلماً، مع إجراء أحكام المؤمنين على عاملها؛ فإن الله تعالى سمى الكاذب فاسقاً قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (¬2)، ومع ذلك لم يُخرج ذلك الرجل من الدين بالكلية، ولم يُنفَ عنه الإيمان المطلق، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (¬3)، وقد استبَّ كثير من الصحابة على عهده ¬

_ (¬1) إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، ص194 - 198 بتصرف. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 6. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، برقم 48، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))، برقم 64.

- صلى الله عليه وسلم - فوعظهم وأصلحهم، ولم يكفِّرهم، بل بقوا أنصاره ووزراءه في الدين، قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله} (¬1)، فسمَّى الله تعالى كلاً من الطائفتين مؤمنة وأمر بالإصلاح بينهما ولو بقتال الباغية، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬2)، ولم ينف عنهم الأُخوَّة أُخوَّة الإيمان لا فيما بين المقاتلين، ولا فيما بينهما وبين بقيَّة المؤمنين، بل أثبت لهم أُخوّة الإيمان مطلقاً. وكذلك في آية القصاص أثبت الإيمان للقاتل والمقتول من المؤمنين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَان} (¬3)، وكذلك الذين قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) (¬4)، سماهم أيضاً مسلمين بعد أن رجعوا كذلك، فقال في صفة الخوارج: ((تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق)) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، الآية: 9. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 10. (¬3) سورة البقرة، الآية: 178. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الإنصات للعلماء، برقم 121، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً))، برقم 65. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم 1065/ 150.

ومعلوم أن أصحاب علي بن أبي طالب وأهل الشام هما الفرقتان اللتان مرقت الخوارج من بينهما، قد اقتتلا اقتتالاً عظيماً، فسمّى الجميع مسلمين. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبطه الحسن: ((إن ابني هذا سيد، وسَيُصلِح الله تعالى به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (¬1)، فأصلح الله تعالى به بين الفرقتين بعد موت أبيه رضي الله عنهما، في عام الجماعة. ولله الحمد والمنة. ولا منافاة بين تسمية العمل فسقاً، أو عامله فاسقاً، وبين تسميته مسلماً، وجريان أحكام المسلمين عليه؛ لأنه ليس كل فسق يكون كفراً، ولا كل ما يُسمَّى كفراً وظلماً، يكون مخرجاً من الملّة حتى ينظر إلى لوزامه وملزوماته، وذلك؛ لأن كلاً من الكفر، والشرك، والبدعة، والظلم، والفسوق، والنفاق، جاءت في النصوص على قسمين: أ- أكبر يُخرج من الملّة لمنافاته أصل الدين بالكليَّة. ب- وأصغر ينقص الإيمان وينافي كماله، ولا يخرج صاحبه منه. فكفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، وفسوق دون فسوق، ونفاق دون نفاق، والفاسق بالمعاصي التي لا توجب الكفر لا يخلد في النار، بل أمره مردود إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلةٍ برحمته وفضله، وإن شاء عاقبه بقدر الذنب الذي مات مُصِرّاً عليه، ولا يُخلّده في النار بل يخرجه برحمته ثم بشفاعة الشافعين إن كان مات على الإيمان (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي - رضي الله عنه -، برقم 2704. (¬2) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم أصول التوحيد، 2/ 423.

وقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن المعاصي صغرت أم كبرت إذا كانت دون الشرك لا تؤدّي بذاتها إلى الحكم على المسلم بالكفر، إنما يكون الكفر بسبب استحلال المعصية المُجمع على أنها معصية بتحليل ما حرّم الله، أو تحريم ما أحلَّ الله تعالى، وهذه مسألة لا يختلف فيها اثنان من العلماء، فالله تعالى يقول: {إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1). أما الإصرار على المعصية، فإن الكافر يدخل في الإسلام بالنطق بالشهادتين، وبعد هذا الإعلان تُجرَى عليه أحكام المسلمين حتى لو كان يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر إلا إذا قال، أو فعل ما يقتضي الرِّدَّة؛ لأنّ الله تعالى أمرنا في هذه الدنيا أن نأخذ بظاهر أحوال الناس، وأن نترك البواطن لحكم الله تعالى في الآخرة، ولقد أنكر الله على من ردَّ الظاهر، فقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} (¬2) الآية. كما جعل الله القول سبباً في المغفرة، فقال تعالى: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (¬3)، ولكن إذا صدر عن هذا المسلم أقوال، أو أفعال تُعَدُّ من الكفر حسب تحديد الإسلام لِمَا يدخل في (باب الكفر)، وجب أن نحدِّد موقفنا من هذا الشخص، ويختلف الأمر بين الحاكم والمحكوم. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 116، وكذلك آية: 48 من السورة نفسها. (¬2) سورة النساء، الآية: 94. (¬3) سورة المائدة، الآية: 85.

أ- موقف الحاكم من المارقين والعصاة: الحاكم المسلم مُكلَّف شرعاً بإقامة الحجة على هؤلاء، وذلك بمجادلتهم بالتي هي أحسن، ثم يُنفِّذ فيهم الحكم الشرعي (حكم الله ورسوله). 1 - فإن ادَّعوا أنهم مؤمنون، ولكن الإيمان لا يُلزمهم بالصلاة، أو الحج، أو الزكاة، أو الصوم؛ لأن هذه ليست من فرائض الإسلام وأركانه، أو صلُّوا ثم استحلوا الزنا، أو الربا، أو الخمر، أو الانضمام إلى حزب يدعو إلى الكفر، والشرك، ونبذ حكم الله، وكانوا على بيِّنة من كل ذلك، وجب أن يقيم الحاكم عليهم الحدَّ الشرعي، وذلك بعد استتابتهم شرعاً؛ لأنهم ارتدُّوا إلى الكفر بعد إيمانهم. 2 - وإن أقرُّوا بفرضيّة هذه العبادات وزعموا أنهم لا يطيقون الالتزام بها كلّها، ووعدوا بالطاعة، فقد عصموا أنفسهم من حكم الردّة والكفر، وعلى الحاكم أن يضع الوسائل العملية الكفيلة بزوال هذه الظاهرة. 3 - ولكن إن ظلّوا على حالهم يقرُّون بالفرائض وجميع أمور الدين، ولا يعملون بذلك أو يعملون بخلافها، وجب على الحاكم أن يقاتلهم. ففي صحيح البخاري ومسلم أنه لما انتقل الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - إلى ربِّه امتنع أقوام عن أداء الزكاة، فقاتلهم أبو بكر، وضمَّهم إلى المرتدِّين من حيث ضرورة مقاتلتهم حتى يتوبوا، وقد استنكر عمر ذلك القتال وقال: كيف نقاتلهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني

دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها))،فقال أبو بكر: ألم يقل إلا بحقّها؟ والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحقّ (¬1). ب- أما موقف الشعب (المحكومين) من المضلَّلين والجاهلين، فليس أمام المسلم من أفراد الشعب إلا الدعوة، بالحكمة، والموعظة الحسنة، ومجادلة هؤلاء العصاة، والمضلّلين بإقامة الحجة عليهم، حتى يفصح هؤلاء عن واقعهم، ويقرّروا الصلاحية للإسلام الذي أعلنوا تبعيتهم له، أو يتّضح إصرارهم على الضلال، وادِّعاء عدم صلاحية الإسلام؛ ليسهل الحكم عليهم بالردة عنه؛ لأن المسلم والحال هذه لا يملك أن يطلق الحكم بالكفر على هؤلاء جملة، بل يكون الحكم لكل فرد حسب ما أفصح عنه عمله، واستبان به أمره من خلال أحواله، وأقواله، وأعماله؛ لأن الإسلام لم يأمر بالبحث عمّا في نفوس الناس، وليس لأحد سلطة حرمان أحد من جنة الله، أو الحكم عليه بالكفر كوسيلة لسحله، أو جرده، أو طرده، وحرمانه ... فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: بعث علي - رضي الله عنه - وهو باليمن بذُهيبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقسمها بين أربعة، فقال رجل: اتق الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ويلك ألست أحقَّ أهل الأرض أن يتقي الله))؟، ثم ولَّى الرجل فقال خالد - رضي الله عنه -: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: ((لا. لعله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ}، برقم 25، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة .. ، برقم 20.

المبحث الثاني: معتمد أهل السنة والجماعة فيما ذهبوا إليه

أن يكون يصلي))، فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لم أُومر أن أُنقّب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم)) (¬1). وهذا الذي اعترض على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في القسمة لم يقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم عليه حدّ الرّدّة، وهو القتل لاحتمال أن يكون ممن يُصلِّي، وبالتالي تشهد له الصلاة بالإيمان. ولما قال خالد - رضي الله عنه -: كم من مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، ردّنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى القاعدة الذهبيَّة، وهي الأخذ بالظَّاهر؛ لأنّ الله تعالى لم يأمر بشقّ بطون الناس حتى يعلم حقيقة ما في قلوبهم ونواياهم، بل أمره بالأخذ بالظاهر، وترك ما عداه لحساب الآخرة؛ لأن الله هو الذي يعلم السرائر وما في القلوب (¬2)، وهذا ما لم يظهر منه ما يناقض الإسلام. المبحث الثاني: معتمد أهل السنة والجماعة فيما ذهبوا إليه استند أهل السنة والجماعة فيما ذهبوا إليه من عدم تكفير أحد من أهل القبلة بأي ذنب ما لم يستحلّ ذلك الذنب إلى: الكتاب، والسنة، والإجماع: أولاً: من الكتاب: وقد جاء فيه آيات كثيرة منها: 1 - قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم 1064/ 144. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 169، والحكم وقضية تكفير المسلم، ص186.

إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} (¬1). 2 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً} (¬2). 3 - قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬3). 4 - قوله تعالى: {إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬4). 5 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (¬5)، فلم يُخرج تبارك وتعالى، القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص. 6 - قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآيتان: 53 - 54. (¬2) سورة النساء، الآية: 110. (¬3) سورة الرعد، الآية: 6. (¬4) سورة النساء، الآية: 116، وآية: 48. (¬5) سورة البقرة، الآية: 178.

ثانيا: من السنة المطهرة:

تُرْحَمُونَ} (¬1)، فسمَّى الله كلاً من الطائفتين المقتتلتين: مؤمنة، وأمر بالإصلاح بينهما ولو بقتال الباغية، ولم ينف عنهم أُخوّة الإيمان لا فيما بين المقاتلين ولا فيما بينهما وبين بقيَّة المؤمنين، بل أثبت لهم أُخوّة الإيمان مطلقاً (¬2). ثانياً: من السّنّة المطهَّرة: جاء في ذلك أحاديث كثيرة، منها الأحاديث الآتية: 1 - قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار)) (¬3). 2 - حديث جبريل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بشِّر أمّتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت: يا جبريل، وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. وإن شرب الخمر)) (¬4)،فهو فسق، وظلم، ومع هذا حكم الله تعالى له بالإيمان (¬5). 3 - قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، الآيتان: 9 - 10. (¬2) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم أصول التوحيد، 2/ 418. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات مشركاً دخل النار، برقم 93. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب في الجنائز، برقم 1237، ومسلم، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، برقم 94، وفي كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة، برقم 94/ 33، واللفظ لمسلم. (¬5) الحكم وقضية تكفير المسلم، ص91.

ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا بهتاناً تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله، فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه))، قال الراوي: فبايعناه على ذلك. رواه البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما (¬1). 4 - قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يدخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأهل النَّار النَّار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودّوا فيُلقون في نهر الحيا أو الحياة - شكّ مالك - فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية)) (¬2). 5 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحقّ)) (¬3)، ومعلوم أن أصحاب علي بن أبي طالب وأهل الشام هما الفرقتان اللتان مرقت الخوارج من بينهما قد اقتتلتا اقتتالاً عظيماً، فسُمّيَ الجميع مسلمين. 6 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: في سبطه الحسن - رضي الله عنه -: ((إن ابني هذا سيّد، وسيُصلح الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب 11، برقم 18، ومسلم، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، برقم 1709. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، برقم 22، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، برقم 184. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم 1065/ 150.

ثالثا: الإجماع:

تعالى به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (¬1)، فأصلح الله تعالى به بين الفرقتين بعد موت أبيه رضي الله عنهما في عام الجماعة، ولله الحمد والمنة (¬2). ثالثاً: الإجماع: أجمع أهل السنة والجماعة على أن المعاصي صغرت أم كبرت إذا كانت دون الشرك لا تؤدِّي بذاتها إلى الحكم على المسلم بالكفر، إنما يكون الكفر بسبب استحلال المعصية بتحليل ما حرّم الله، أو تحريم ما أحلّ الله تعالى، وهذه مسألة لا يختلف فيها اثنان من العلماء، فالله تعالى يقول: {إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬3)، والله المستعان (¬4). الفصل الثاني: أنواع الكفر وأخطر المكفرات المبحث الأول: أنواع الكفر المطلب الأول: كفر أكبر يخرج من الملة وهو خمسة أنواع (¬5): النوع الأول: كفر التكذيب، والدليل قول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي - رضي الله عنه -، برقم 2704. (¬2) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، 2/ 423. (¬3) سورة النساء، الآية: 116، وآية: 48. (¬4) انظر: الحكم وقضية تكفير المسلم، ص186. (¬5) انظر: تعريف الكفر لغة واصطلاحاً في الفصل السادس من الباب الأول. (¬6) سورة العنكبوت، الآية: 68.

النوع الثاني: كفر الإباء والاستكبار

النوع الثاني: كفر الإباء والاستكبار مع التصديق، والدليل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (¬1). النوع الثالث: كفر الشكّ، وهو كفر الظنّ، والدليل قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} (¬2). النوع الرابع: كفر الإعراض، والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (¬3). النوع الخامس: كفر النفاق، والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} (¬4). المطلب الثاني: كفر أصغر لا يُخرج من الملة وهو كفر النعمة: والدليل قوله تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 34. (¬2) سورة الكهف، الآيات: 35 - 38. (¬3) سورة الأحقاف، الآية: 3. (¬4) سورة المنافقون الآية: 3.

المبحث الثاني: نواقض ونواقص الإسلام

الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (¬1)، والله المستعان (¬2). ومما يدلّ من السنة على الكفر الذي لا يُخرج من الملة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)) (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها .. فقد كفر بما أنزل على محمد)) (¬5)، ونظائر ذلك كثيرة. المبحث الثاني: نواقض ونواقص الإسلام المطلب الأول: أقسام المخالفات المخالفات لأمر الله تعالى قسمان: القسم الأول: يوجب الرِّدّة، ويبطل الإسلام بالكُليّة، ويكون صاحبه كافراً كفراً أكبر، وهو من أتى بناقض من نواقض الإسلام. القسم الثاني: لا يبطل الإسلام، ولكن ينقصه ويضعفه، ويكون صاحبه على خطر عظيم من غضب الله تعالى وعقابه إذا لم يتب، وهو جنس المعاصي التي يعرف صاحبها أنها معاصٍ، كالزنا، ولكن لا ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 112. (¬2) مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ ابن تيمية رحمهما الله، ص6. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط علمه وهو لا يشعر، برقم 48، ومسلم في كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))، برقم 64. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من كَفَّر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، برقم 6103، 6104، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر، برقم 60. (¬5) مسند الإمام أحمد، 2/ 408، وصححه الألباني في آداب الزفاف، ص31.

المطلب الثاني: أخطر النواقض المكفرات وأكثرها وقوعا

يستحلّها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عذّبه ثم أدخله الجنة بإيمانه وعمله الصالح، وإن شاء غفر له (¬1). المطلب الثاني: أخطر النواقض المكفرات وأكثرها وقوعاً نواقض الإسلام كثيرة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في باب حكم المرتدِّ أن المسلم قد يرتدّ عن دينه بأمور وأنواع كثيرة من النواقض التي تُحلّ دمه وماله، ويكون بها خارجاً من الإسلام، ومن أخطرها وأكثرها وقوعاً عشرة نواقض (¬2): الأول: الشرك في عبادة الله تعالى (¬3)، قال تعالى: {إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} (¬4). وقال سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (¬5)، ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو لقبر. والشرك ثلاثة أنواع: النوع الأول: شرك أكبر: يُخرج من الملّة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الله لا يَغْفِرُ ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى سماحة العلامة ابن باز رحمه الله، 4/ 20، و45. (¬2) انظر: هذه النواقض في مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص385، ومجموعة التوحيد لشيخي الإسلام أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، ص27، ص28. (¬3) انظر: تعريف الشرك في الفصل السادس، من الباب الأول: تعاريف ومفاهيم، من هذه الرسالة. (¬4) سورة النساء، الآية: 116. (¬5) سورة المائدة، الآية: 72.

1 - شرك الدعوة

أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} (¬1)، وهو أربعة أنواع: 1 - شرك الدعوة: لقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (¬2). 2 - شرك النِّيَّة والإرادة والقَصد: لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3). 3 - شرك الطَّاعة: وهي طاعة الأحبار والرُّهبان وغيرهم في معصية الله تعالى، قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬4). 4 - شرك المحبة: لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} (¬5). النوع الثاني: من أنواع الشرك: شرك أصغر: لا يُخرج من الملّة، ومنه ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 116. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 65. (¬3) سورة هود، الآيتان: 15 - 16. (¬4) سورة التوبة، الآية: 31. (¬5) سورة البقرة، الآية: 165.

النوع الثالث: من أنواع الشرك: شرك خفي

يسير الرياء، أعاذنا الله منه، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (¬1)، ومنه الحلف بغير الله؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) (¬2)، ومنه قول الرجل: لولا الله وأنت، أو ما شاء الله وشئت. النوع الثالث: من أنواع الشرك: شرك خفي: ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل)) (¬3)، وكفارته هي أن يقول العبد: ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم)) (¬4). قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: قال ابن عباس في قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لله أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬5)، قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتِك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللُّصوص البارحة، ولولا البطّ في الدّار ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 110. (¬2) رواه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب رقم 9، برقم 1535، وأحمد، 2/ 125، والحاكم، 1/ 18، وقال: ((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي، وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن))، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6024، والسلسلة الصحيحة، برقم 2042. (¬3) أخرجه الحكيم الترمذي، برقم 575، وأحمد، 4/ 403، وأبو يعلى نحوه، برقم 58، 59، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3730. (¬4) أخرجه الحكيم الترمذي، برقم 575، وأحمد، 4/ 403، وأبو يعلى نحوه، برقم 58، 59، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3831، وانظر: مجموعة التوحيد لأحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، ص6. (¬5) سورة البقرة، الآية: 22.

الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط

لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) (¬2)، قال الترمذي: فُسِّرَ عند بعض أهل العلم أن قوله: ((فقد كفر أو أشرك)) على التَّغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، سمع عمر يقول: وأبي وأبي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)) (¬3). وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال في حلفه باللاّت والعُزَّى فليقل: لا إله إلاّ الله)) (¬4). ولعلَّ الشرك الخفيّ يدخل في الشرك الأصغر، فيكون الشرك على نوعين: شرك أكبر، وشرك أصغر، وهذا الذي أشار إليه ابن القيم رحمه الله تعالى (¬5). الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، 1/ 58، وانظر: تفسير الطبري، 1/ 368. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب رقم 9، برقم 1535، وأحمد، 2/ 125، والحاكم، 1/ 18، وقال: ((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي، وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن))، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6204، والسلسلة الصحيحة، برقم 2042. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من لم يرَ إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً، برقم 6108، ومسلم في كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، برقم 1646. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذرو، باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت، برقم 6650،ومسلم في كتاب الأيمان، من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، برقم 1647. (¬5) انظر: الجواب الكافي لابن القيم، ص233.

الثالث: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم

ويتوكل عليهم، فقد كفر إجماعاً. الثالث: من لم يكفِّر المشركين، أو شكّ في كفرهم، أو صحّح مذهبهم كفر. الرابع: من اعتقد أن هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه - كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه - فهو كافر. ويدخل في هذا الناقض: من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنُّها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أنها مساوية لها، أو أنه يجوز التحاكم إليها ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سبباً في تخلّف المسلمين، أو أنه يُحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخّل في شؤون الحياة الأخرى، ويدخل فيه أيضاً من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق، أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر، ويدخل في ذلك أيضاً كلّ من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرهما، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة؛ لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرّم الله إجماعاً، وكل مَنِ استباح ما حرّم الله مما هو معلوم تحريمه من الدين بالضرورة: كالزنا، والخمر، والربا، والحكم بغير شريعة الله، فهو كافر بإجماع المسلمين. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (¬1). والخلاصة أن الحكم بغير ما أنزل الله فيه تفصيل، وإليك الصواب في ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للعلامة ابن باز رحمه الله تعالى، 1/ 137.

ذلك إن شاء الله تعالى: قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬1)، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْظَّالِمُونَ} (¬2)، وقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬3)، قال طاووس وعطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق (¬4)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((هي به كفر، وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله)) (¬5)، وقال - رضي الله عنه -: ((من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقرّ به ولم يحكم: فهو ظالم فاسق)) (¬6). والصواب أن من حكم بغير ما أنزل الله قد يكون مرتدّاً، وقد يكون مسلماً عاصياً مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب؛ فلهذا نجد أن أهل العلم قد قسموا الكلمات الآتية إلى قسمين، وهي كلمة: كافر، وفاسق، وظالم، ومنافق، ومشرك. فكفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسوق دون فسوق، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك. فالأكبر يُخرج من الملّة لمنافاته أصل الدين بالكليّة، والأصغر يُنقص الإيمان وينافي كماله، ولا يُخرج صاحبه من الملّة؛ ولهذا فصَّل العلماءُ القول ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 44. (¬2) سورة المائدة، الآية: 45. (¬3) سورة المائدة، الآية: 47. (¬4) تفسير ابن كثير، 2/ 58، وانظر: تفسير الطبري، 10/ 355 - 358. (¬5) تفسير ابن جرير، 10/ 356. (¬6) تفسير ابن جرير، 10/ 356.

في حكم من حكم بغير ما أنزل الله تعالى. قال سماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى: من حكم بغير ما أنزل الله فلا يخرج عن أربعة أنواع: 1 - من قال: أنا أحكم بهذا لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية، فهو كافر كفراً أكبر. 2 - ومن قال: أنا أحكم بهذا لأنه مثل الشريعة الإسلامية، فالحكم بهذا جائز وبالشريعة جائز، فهو كافر كفراً أكبر. 3 - ومن قال: أنا أحكم بهذا، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل، لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز، فهو كافر كفراً أكبر. 4 - ومن قال: أنا أحكم بهذا، وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله: لا يجوز، ويقول الحكم بالشريعة الإسلامية: أفضل، ولا يجوز الحكم بغيرها، ولكنه متساهل، أو يفعل هذا لأمر صادر من حُكَّامه، فهو كافر كفراً أصغر لا يُخرج من الملّة، ويعتبر من أكبر الكبائر (¬1). ولا منافاة بين تسمية العمل فسقاً، أو عامله فاسقاً، وبين تسميته مسلماً، وجريان أحكام المسلمين عليه؛ لأنه ليس كل فسق يكون كفراً، ولا كل ما يُسمّى كفراً، وظلماً، يكون مُخرجاً من الملّة حتى ينظر إلى ¬

_ (¬1) حدثنا بهذا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وهو مسجل في شريط في مكتبتي الخاصة، وانظر: فتاوى سماحته، 1/ 137، وانظر: التفصيل ومتى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر: كتاب ((نواقض الإيمان القولية والعملية))، للدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف، ص311 - 343، وص249 - 343.

الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -

لوازمه وملزوماته، وذلك لأنَّ كلاًّ من الكفر، والشرك، والظلم، والفسوق، والنفاق جاءت في النصوص على قسمين: (أ) أكبر يخرج من الملة لمنافاته أصل الدين بالكليَّة. (ب) أصغر ينقص الإيمان وينافي كماله، ولا يُخرج صاحبه منه، فكفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، وفسوق دون فسوق، ونفاق دون نفاق، والفاسق بالمعاصي التي لا توجب الكفر لا يُخلَّد في النار، بل أمره مردود إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول وهلة برحمته وفضله، وإن شاء عاقبه بقدر الذنب الذي مات مصرّاً عليه ولا يخلده في النار، بل يخرجه برحمته ثم بشفاعة الشافعين إن كان مات على الإيمان (¬1). الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو عمل به كفر إجماعاً؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ الله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (¬2). السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ثوابه، أو عقابه، كفر، والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬3). السابع: السحر، ومنه الصرف (¬4)، والعطف (¬5)، فمن فعله، أو رضي ¬

_ (¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم أصول التوحيد، 2/ 423. (¬2) سورة محمد، الآية: 9. (¬3) سورة التوبة، الآيتان: 65 - 66. (¬4) الصرف: عمل سحري يقصد منه تغيير الإنسان وصرفه عما يهواه، كصرف الرجل عن محبة زوجته إلى بغضها. (¬5) العطف: عمل سحري يقصد منه ترغيب الإنسان فيما لا يهواه فيحبه بطرق شيطانية، كعطف المرأة على زوجها.

الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين

به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} (¬1). الثامن: مظاهرة (¬2) المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬3). التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى - عليه السلام - فهو كافر. العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (¬4)، ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل، والجاد، والخائف، إلا المكره، وكلها أعظم ما يكون خطراً وأكثر ما يكون وقوعاً، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (¬5). المطلب الثالث: أنواع النفاق النفاق: كالكفر، نفاق دون نفاق، أو نفاق مُخرج من الملّة، ونفاق لا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 102. (¬2) المظاهرة: المناصرة والتعاون معهم على المسلمين. (¬3) سورة المائدة، الآية: 51. (¬4) سورة السجدة، الآية: 22. (¬5) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام: أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله، ص27، 28، ومؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص385، 387، ومجموعة فتاوى ابن باز، 1/ 135.

أولا: النفاق الأكبر:

يُخرج من الملّة (¬1): أولاً: النفاق الأكبر: وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ويبطن ما يناقض ذلك كلّه أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار (¬2). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعض صور النفاق الأكبر فقال: ((فمن النفاق ما هو أكبر يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أُبيّ وغيره، بأن يظهر: تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب طاعته، أو المسرّة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدوَّاً لله ورسوله، وهذا القدر كان موجوداً في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما زال بعده، بل هو بعده أكثر منه على عهده - صلى الله عليه وسلم - ... )) (¬3). وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: (( ... فأما النفاق الاعتقادي فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية بانتصار دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) انظر: تعريف النفاق لغة وشرعاً، في الفصل السادس من الباب الأول من هذه الرسالة. (¬2) جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب رحمه الله تعالى، 2/ 480. (¬3) مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، 28/ 434.

ثانيا: النفاق الأصغر:

فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار)) (¬1). فيتحصّل مما ذكره هذان الإمامان أنواع أو صفات للنفاق الأكبر، وهي: 1 - تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 2 - تكذيب بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 3 - بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 4 - بغض بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 5 - المسرّة بانخفاض دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 6 - الكراهية لانتصار دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 7 - عدم اعتقاد وجوب تصديقه - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به. 8 - عدم اعتقاد وجوب طاعته فيما أمر به. وغير ذلك مما دلّ القرآن الكريم أو السنة المطهرة على أنه من النفاق الأكبر المُخرج من ملّة الإسلام (¬2). ثانياً: النفاق الأصغر: وهو النفاق العملي: وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحةً ويبطن ما يُخالف ذلك، وأصول هذا النفاق ترجع إلى حديث عبد الله بن عمر، وعائشة - رضي الله عنهم -، وهي خمسة أنواع: ¬

_ (¬1) مجموعة التوحيد لشيخي الإسلام أحمد بن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ص7. (¬2) انظر: نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف، للدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي، 2/ 160.

1 - أن يحدث بحديثٍ لمن يصدّقه به وهو كاذب له. 2 - إذا وعد أخلف، وهو على نوعين: (أ) أن يَعِدَ ومِنْ نيّته أن لا يفي بوعده، وهذا أشرُّ الخلف، ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى، ومن نيته أن لا يفعل كان كذباً وخُلْفاً. قاله الأوزاعي. (ب) أن يَعِدَ ومن نيته أن يفي ثم يبدو له، فيخلف من غير عذر له في الخلف. 3 - إذا خاصم فجر، ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمداً حتى يصير الحقُّ باطلاً، والباطل حقّاً، وهذا مما يدعو إلى الكذب. 4 - إذا عاهد غدر ولم يفِ بالعهد، والغدر حرام في كل عهدٍ بين المسلمين وغيرهم، ولو كان المعاهَد كافراً. 5 - الخيانة في الأمانة، فإذا اؤتمن المسلم أمانة، فالواجب عليه أن يؤدّيها. وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كُلّه يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، واختلاف القلب واللسان، واختلاف الدخول والخروج، ولهذا قالت طائفة من السلف: خشوع النفاق: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع (¬1). وهذا النفاق لا يخرج من الملّة فهو (نفاق دون نفاق)؛لحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقاً ¬

_ (¬1) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب، 2/ 480 - 495، فقد أعطى الموضوع حقه، وذكر فوائد جمة فلتراجع. وانظر: مجموعة التوحيد، ص7.

المطلب الرابع: أنواع الأمور المبتدعة عند القبور

خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) (¬1)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان)) (¬2). المطلب الرابع: أنواع الأمور المبتدعة عند القبور النوع الأول: من يسأل الميت حاجته (¬3)، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (¬4) الآية، فكل من دعا نبيّاً، أو وليّاً، أو صالحاً وجعل فيه نوعاً من الإلهية فقد تناولته هذه الآية، فإنها عامّة في كل من دعا من دون الله مدعواً، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتاً، أو غائباً: من الأنبياء، والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة، أو غيرها فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من العبادة مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أعنّي، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكلّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم 34، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم 58. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم 33، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم 59. (¬3) انظر: تعريف البدعة لغة واصطلاحاً، الفصل السادس من الباب الأول من هذه الرسالة. (¬4) سورة الإسراء، الآيتان: 56 - 57.

النوع الثاني: أن يسأل الله تعالى بالميت

هذا شرك وضلال يُستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل، فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليُعبد وحده، ولا يُجعل معه إله آخر. النوع الثاني: أن يسأل الله تعالى بالميت، وهو من البدع المحدثة في الإسلام، وهذا ليس كالذي قبله؛ فإنه لا يصل إلى الشرك الأكبر، والعامّة الذين يتوسَّلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين كقول أحدهم: أتوسَّل إليك بنبيّك، أو بأنبيائك، أو بملائكتك، أو بالصالحين من عبادك، أو بحقّ الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسّل إليك باللوح والقلم، وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، وهذه الأمور من البدع المحدثة المنكرة، والذي جاءت به السنة هو التوسّل والتوجّه بأسماء الله تعالى، وصفاته، وبالأعمال الصالحة، كما ثبت في الصحيحين في قصة الثلاثة (أصحاب الغار)، وبدعاء المسلم الحيّ الحاضر القادر لأخيه المسلم. النوع الثالث: أن يظن أن الدّعاء عند القبور مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك فإن هذا من المنكرات إجماعاً، ولم نعلم في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين ... وهذا أمر لم يشرعه الله، ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين ... وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجدبوا مرات، ودهمتهم نوائب، ولم يجيئوا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل خرج عمر بالعباس فاستسقى بدعائه، وقد كان السلف ينهون عن الدعاء عند القبور، فقد رأى علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فيها، فقال: ألا أُحدِّثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

المبحث الثالث: أصول المكفرات

قال: ((لا تجعلوا قبري عيداً ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلُّوا عليَّ وسلَّموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم)) (¬1)، ووجه الدّلالة أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً، فغيره أولى بالنهي كائناً ما كان (¬2)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم)) (¬3). المبحث الثالث: أصول المكفرات جميع المكفرات تدخل تحت نواقض أربعة: القول، أو الفعل، أو الاعتقاد، أو الشك والتوقف، قال سماحة العلامة إمام علماء هذا العصر، عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله ورفع درجاته: ((العقيدة الإسلامية لها قوادح، وهذه القوادح قسمان: قسم ينقض هذه العقيدة ويبطلها، ويكون صاحبه كافراً نعوذ بالله، وقسم ينقص هذه العقيدة ويضعفها: القسم الأول: القوادح المكفّرة: نواقض الإسلام هي الموجبة للرِّدَّة هذه تسمى نواقض، والناقض يكون قولاً، ويكون عملاً، ويكون اعتقاداً، ويكون شَكَّاً. فقد يرتدُّ الإنسان بقولٍ يقوله، أو بعملٍ يعمله، أو باعتقاد يعتقده، أو ¬

_ (¬1) رواه إسماعيل القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص34، وصححه الألباني في المرجع نفسه، وله طرق وروايات ذكرها في كتابه تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، ص140. (¬2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم، 6/ 165 - 174. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم 2042، وأحمد، 2/ 367، وحسنه الشيخ الألباني في كتابه تحذير الساجد، ص142.

بشكٍّ يطرؤ عليه، هذه الأمور الأربعة كلُّها يأتي منها الناقض الذي يقدح في العقيدة ويبطلها، وقد ذَكَرَها أهل العلم في كتبهم وسَمَّوا بابها: ((باب حكم المرتدّ))، فكلُّ مذهب من مذاهب العلماء، وكلُّ فقيهٍ من الفقهاء ألَّف كُتُباً - في الغالب - عندما يذكر الحدود - يذكر باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد الإسلام، هذا مرتد، يعني أنَّه رَجَع عن دين الله وارتدَّ عنه، قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدَّل دينَهُ فاقتلوه))، خرَّجه البخاري في ((الصحيح)) (¬1). وفي ((الصحيحين)) (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا موسى الأشعري إلى اليمن، ثم أتْبَعَهُ معاذ بن جبل، فلما قَدِمَ عليه قال: انزل، وألقى له وسادة، وإذا رجلٌ عنده مُوثَق، قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديّاً فأسلم ثم راجع دينه - دين السَّوء - فتهوَّد، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء الله ورسوله، فقال: اجلس، نعم، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به فَقُتِل. فدلَّ ذلك على أن المرتد عن الإسلام يُقتل، إذا لم يتب، يُستتاب فإن تاب ورجع فالحمد لله، وإن لم يرجع وأصرَّ على كفره وضلاله يُقتَل، ويُعجَّل به إلى النار؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدَّل دينه فاقتلوه)) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، برقم 3017. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، برقم 6923، ومسلم في كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، برقم 1733/ 15. (¬3) رواه البخاري، برقم 3017، وتقدم تخريجه.

1 - الردة بالقول:

1 - الرّدّة بالقول: النواقض التي تنقض الإسلام كثيرة، منها قولٌ، مثل: سبِّ الله: هذا قولٌ ينقض الدين، سبّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يعني: اللعن والسبّ لله ولرسوله، أو العيب، مثل أن يقول: إنَّ الله ظالم، إنَّ الله بخيل، إنَّ الله فقير، إنَّ الله - جل وعلا - لا يعلم بعض الأمور، أو لا يقدر على بعض الأمور، كُلُّ هذه الأقوال رِدَّةٌ عن الإسلام. منِ انْتقص الله أو سبَّه أو عابه بشيء فهو كافر مرتدٌّ عن الإسلام - نعوذ بالله - هذه ردّةٌ قولية، إذا سبَّ الله أو استهزأ به أو تنقَّصه أو وصفه بأمرٍ لا يَليق، كما تقول اليهود: إن الله بخيل، إن الله فقير ونحن أغنياء وهكذا لو قال: إن الله لا يعلم بعض الأمور، أو لا يقدر على بعض الأمور، أو نفى صفات الله ولم يؤمن بها، فهذا يكون مرتداً بأقواله السيئة. أو قال مثلاً: إنَّ الله لم يوجب علينا الصلاة، هذه ردّة عن الإسلام، من قال إن الله لم يوجب الصلاة فقد ارتدَّ عن الإسلام بإجماع المسلمين، إلا إذا كان جاهلاً بعيداً عن المسلمين لا يعرف، فيُعلَّم، فإن أصرَّ كَفَر. وأما إذا كان بين المسلمين، ويعرف أمور الدِّين، فإن قال: ليست الصلاة بواجبة، فهذه رِدَّة، يُستتاب فإن تاب وإلا قُتِل. أو قال: الزكاة غير واجبة على الناس، أو قال: صوم رمضان غير واجب على الناس، أو الحج مع الاستطاعة غير واجب على الناس، من قال هذه المقالات كفر إجماعاً، ويُستتاب فإن تاب وإلا قُتِل - نعوذ بالله

2 - الردة بالفعل:

-. وهذه الأمور رِدَّةٌ قولية. 2 - الرّدّة بالفعل: والرّدّة الفعليّة: مثل: ترك الصلاة، فكونه لا يصلِّي، وإن قال: إنها واجبة - لكن لا يصلي - هذه ردَّة على الأصحّ من أقوال العلماء، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((العَهْدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تَرَكَها فقد كفر)). رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (¬2). وقال شَقِيقُ بن عبد الله العُقَيليّ التابعي المتّفق على جلالته رحمه الله: ((كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفرٌ غير الصلاة)) رواه الترمذي (¬3)، وإسناده صحيح. وهذه ردّةٌ فعلية، وهي ترك الصلاة عمداً. ومن ذلك: لو استهان بالمصحف الشريف وقعد عليه مستهيناً به، أو ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند، 5/ 346، والترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم 2621، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، برقم 1079، والنسائي في كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، برقم 461، والحاكم في المستدرك، 1/ 6، وقال: ((صحيح))، ووافقه الذهبي، وقال أبو عيسى الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح غريب))، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 4143. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، برقم 82. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم 2622، وقال: ((سمعت أبا مصعب المدني يقول: من قال: الإيمان قول يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه)).

3 - الردة بالاعتقاد:

لطَّخه بالنجاسة عمداً، أو وطأه بقدمه يستهين به، فإنه يرتدّ بذلك عن الإسلام. ومن الرّدّة الفعلية: كونه يطوف بالقبور يتقرّب لأهلها بذلك، أو يصلي لهم أو للجن، وهذه رِدَّةٌ فعلية. أما دعاؤه إيَّاهم، والاستعانة بهم، والنذر لهم: فردَّة قولية. أما من طاف بالقبور يقصد بذلك عبادة الله فهو بدعةٌ قادحةٌ في الدِّين، لا يكون رِدَّة إنما يكون بدعة قادحة في الدين، إذا لم يقصد التقرّب إليه بذلك، وإنما فعل ذلك تقرّباً إلى الله سبحانه جهلاً منه. ومن الكفر الفعلي: كونه يذبح لغير الله، ويتقرب لغيره سبحانه بالذبائح، يذبح البعير أو الشاة أو الدجاجة أو البقرة لأصحاب القبور تقرّباً إليهم يعبُدُهم بها، أو للجِنِّ يعبدهم بها، أو للكواكب يتقرّب إليها بذلك، وهذا ما أُهِلَّ به لغير الله، فيكون ميتةً، ويكون كفراً أكبر - نسأل الله العافية -. هذه كلُّها من أنواع الرّدّة عن الإسلام والنواقض الفعلية. 3 - الرّدّة بالاعتقاد: ومن أنواع الرّدّة العقدية: التي يعتقدُها بقلبه، وإن لم يتكلّم ولم يفعل - بل بقلبه يعتقد - إذا اعتقد بقلبه أنَّ الله - جل وعلا - فقيرٌ أو أنه بخيل أو أنه ظالم، ولو أنه ما تكلّم، ولو لم يفعل شيئاً هذا كفر بمجرّد هذه العقيدة بإجماع المسلمين. أو اعتقد بقلبه أنه لا يُوجد بعثٌ ولا نشور، وأنّ كلَّ ما جاء هذا ليس

له حقيقة، أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد جَنَّة أو نار، ولا حياة أخرى، إذا اعتقد ذلك بقلبه، ولو لم يتكلم بشيء، هذا كفرٌ ورِدَّةٌ عن الإسلام - نعوذ بالله - وتكون أعمالُهُ باطلة، ويكون مصيره إلى النار بسبب هذه العقيدة. وهكذا لو اعتقد بقلبه - ولو لم يتكلم - أنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس بصادق، أو أنَّه ليس بخاتم الأنبياء، وأنَّ بعده أنبياء، أو اعتقد أنَّ مُسيلمة الكذَّاب نبيٌّ صادق، فإنه يكون كافراً بهذه العقيدة. أو اعتقد - بقلبه - أنَّ نوحاً أو موسى أو عيسى أو غيرهم من الأنبياء عليهم السلام أنهم كاذبون أو أحداً منهم، فهذا ردَّةٌ عن الإسلام. أو اعتقد أنَّه لا بأس أنْ يُدعى مع الله غيره، كالأنبياء أو غيرهم من الناس، أو الشمس أو الكواكب أو غيرها، إذا اعتقد بقلبه ذلك صار مُرتدّاً عن الإسلام [لأن الله تعالى] يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِل} (¬1)، وقال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (¬2)، وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬3)، وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ} (¬4). وقال: {فَادْعُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬5)، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 62. (¬2) سورة البقرة، الآية: 163. (¬3) سورة الفاتحة، الآية: 5. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 23. (¬5) سورة غافر، الآية: 14.

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1) والآيات في هذا المعنى كثيرة. فمن زَعَم أو اعتقد أنَّهُ يجوزُ أن يُعبَدَ مع الله غيرُهُ من مَلَكٍ، أو نبيٍّ، أو شجرٍ، أو جِنٍّ، أو غير ذلك فهو كافر، وإذا نطق وقال بلسانه ذلك صار كافراً بالقول والعقيدة جميعاً، وإنْ فعل ذلك، ودعا غير الله واستغاث بغير الله صار كافراً بالقول والعمل والعقيدة جميعاً، نسأل الله العافية. ومما يدخل في هذا ما يفعله عُبَّاد القبور اليوم في كثير من الأمصار من دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وطلب المدَدِ منهم، فيقول بعضهم: يا سيدي المَدَدَ المَدَدَ، يا سيدي الغوثَ الغوثَ، أنا بجوارك، اشفِ مريضي، ورُدَّ غائبي وأصلح قلبي. يخاطبون الأموات الذين يسمونهم الأولياء، ويسألونهم هذا السؤال، نَسُوا الله وأشركوا معه غيره - تعالى الله عن ذلك -. فهذا كفرٌ قوليٌّ، وعقديٌّ، وفعليّ. وبعضُهم ينادي من مكانٍ بعيد وفي أمصار متباعدة: يا رسول الله انصرني .. ونحو هذا، وبعضهم يقول عند قبره: يا رسول الله اشفِ مريضي، يا رسول الله المدد المدد، انصرنا على أعدائنا، أنت تعلم ما نحن فيه انصُرنا على أعدائنا. والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب، لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه، هذا من ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 65.

4 - الردة بالشك:

الشرك القوليِّ العمليّ، وإذا اعتقد مع ذلك أن هذا جائز، وأنه لا بأس به صار شركاً قوليّاً وفعليّاً وعقديّاً، نسأل الله العافية. 4 - الرّدّة بالشّكّ: عَرَضنا للرّدّة التي تكون بالقول، والرّدّة في العمل، والرّدّة في العقيدة، أمّا الرّدّة بالشّكّ فمثل الذي يقول: أنا لا أدري هل الله حقٌّ أم لا؟ ... أنا شاكٌّ، هذا كافرٌ كُفْرَ شكٍّ، أو قال: أنا لا أعلم هل البعث حقٌّ أم لا؟ أو قال: أنا لا أدري هل الجنة والنار حقٌّ أم لا؟ ... أنا لا أدري، أنا شاكٌّ؟ فمثلُ هذا يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل كافراً لشكِّه فيما هو معلومٌ من الدِّين بالضرورة وبالنَّصِّ والإجماع. فالذي يشكّ في دينه ويقول: أنا لا أدري هل الله حقٌّ، أو هل الرسول حقٌّ، وهل هو صادقٌ أم كاذب؟ أو قال: لا أدري هل هو خاتم النبيين، أو قال: لا أدري مسيلمة كاذب أم لا؟ أو قال: ما أدري هل الأسود العنسي - الذي ادَّعى النبوة في اليمن - كاذبٌ أم لا؟ هذه الشكوك كلُّها ردَّةٌ عن الإسلام، يُستتاب صاحبها ويُبيَّن له الحقّ، فإن تاب وإلا قُتِل. ومثل لو قال: أشك في الصلاة هل هي واجبةٌ أم لا؟ وصيام رمضان هل هو واجبٌ أم لا؟ أو شكّ في الحجّ مع الاستطاعة هل هو واجبٌ في العُمُرِ مَرَّةً أم لا؟ فهذه الشكوك كلّها كفر أكبر يُستتاب صاحبها، فإن تاب وآمن وإلا قُتِلَ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدَّل دينه فاقتلوه)) رواه

القسم الثاني: قوادح دون الكفر:

البخاري في ((الصحيح)) (¬1). فلا بُدَّ من الإيمان بأنَّ هذه الأمور - أعني الصلاة والزكاة والصيام والحج - كلها حقّ، وواجبة على المسلمين بشروطها الشرعية (¬2). أما الوسوسة العارضة والخطرات، فإنها لا تضرّ إذا دفعها المؤمن ولم يسكن إليها، ولم تستقر في قلبه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)) (¬3). وعليه أن يعمل الآتي: 1 - يستعيذ بالله من الشيطان (¬4). 2 - ينتهي عما يدور في نفسه (¬5). 3 - يقول: آمنت بالله ورسله (¬6). القسم الثاني: قوادح دون الكفر: تُضعف الإيمان وتنقصه، وتجعل صاحبه معرضاً للنار وغضب الله، ¬

_ (¬1) ورقمه 2017، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: القوادح في العقيدة ووسائل السلامة منها لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ص27 - 42 بتصرف يسير جدّاً. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره، برقم 5269، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، برقم 127. (¬4) انظر: صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم 3276، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم 134/ 213، 214. (¬5) انظر: صحيح البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره، برقم 5269، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، برقم 127. (¬6) مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم 134/ 212.

لكن لا يكون صاحبها كافراً، مثل: أكل الربا، وارتكاب المحرمات: كالزنا، والبدع، إذا آمن بأن ذلك حرام، ولم يستحله، أما إذا اعتقد أن ذلك حلالٌ صار كافراً، وغير ذلك مثل الاحتفال بالمولد، وهو ما أحدثه الناس في القرن الرابع وما بعده من الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكون ذلك إضعافاً للعقيدة، إلا إذا كان هناك في المولد استغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذه البدعة تكون من النوع الأول المخرج عن الإسلام، ومن النوع الثاني كذلك التّطيّر كما يفعل أهل الجاهلية، وقد ردَّ الله عليهم: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ الله بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} (¬1)، فالطيرة شرك دون كفر .. وكذلك الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) (¬2). انتهى ملخّصاً (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النمل، الآية: 47. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم 2697، ومسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم 1718. (¬3) القوادح في العقيدة للعلامة ابن باز رحمه الله، وهي محاضرة ألقاها في الجامع الكبير في شهر صفر عام 1403هـ، وهي مسجلة عندي بمكتبتي الخاصة. ثم طبعت والحمد لله تعالى في عام 1416هـ، بعنوان: القوادح في العقيدة ووسائل السلامة منها، اعتنى بنشرها وعرضها على مؤلفها: خالد بن عبد الرحمن الشايع، جزاه الله خيراً.

الباب الثالث: مذاهب الناس في تكفير أهل القبلة ومناقشتها

الباب الثالث: مذاهب الناس في تكفير أهل القبلة ومناقشتها الفصل الأول: مذاهب الناس في التكفير المبحث الأول: الخوارج ورأيهم الخوارج يقال لهم: (الحَرورية) نسبة إلى قرية خرجوا منها يقال لها: حروراء، وكل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه [وكفر بالمعاصي] يسمى خارجيّاً (¬1)، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان، والأئمة في كل زمان (¬2)، ولما اختلفت الخوارج صارت عشرين فرقة (¬3)، وكبار الفرق منهم: المحكِّمة، والأزارقة، والنجدات، والبيهسية، والعجاردة، والثعالبة، والإباضية، والصفرية، والباقون فروعهم، ويجمعهم القول بالتبرؤ من عثمان وعلي رضي الله عنهما، ويقدّمون ذلك على كل طاعة، ولا يصحّحون المناكحات إلا على ذلك، ويكفّرون أصحاب الكبائر (¬4)، ويستحلّون دماءهم، وأموالهم، وقالوا: بخلود العصاة في النار، ويرون اتّباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب وإن كانت متواترة، ويكفّرون من خالفهم، ويستحلّون منه - لارتداده عندهم - ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي (¬5)، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف ¬

_ (¬1) انظر: التفصيل في هذا المبحث الخامس من الفصل الأول من الباب الأول من هذه الرسالة. (¬2) الملل والنحل للشهرستاني، 1/ 114، وذكر جميع الفرق بالتفصيل لمذهب كل فرقة. (¬3) الفرق بين الفرق لعبد القاهر بن طاهر البغدادي، ص24،وذكر أسماء الفرق، ص24،وص73. (¬4) الملل والنحل لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، 1/ 115. (¬5) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 3/ 335، وانظر الأجوبة المفيدة على أسئلة العقيدة للجطيلي، ص58 - 60.

السنة حقّاً واجباً (¬1)، ويجمع الخوارج على اختلاف مذاهبهم تكفير علي، وعثمان، وأصحاب الجمل، والحكمين، ومن رضي بالتحكيم، أو صوّب الحكمين، أو أحدهما، والخروج على السلطان الجائر ... ولم يُرضَ ما حكاه الكعبي من إجماعهم على تكفير مرتكبي الذنوب، والصواب ما حكاه أبو الحسن عنهم وقد أخطأ الكعبي في دعواه إجماع الخوارج على تكفير مرتكبي الذنوب منهم، وذلك أن النجدات من الخوارج لا يكفّرون أصحاب الحدود من موافقيهم، وقالت النجدات: إن صاحب الكبيرة من موافقيهم كافرٌ بنعمة وليس فيه كفرُ دين (¬2). قال عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي: إن المُحَكِّمة الأولى من الخوارج قالوا: بتكفير علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، وأصحاب الجمل، وبتكفير معاوية، والحكمين، وأصحاب الذنوب من هذه الأمة وما زادوا على ذلك، حتى ظهرت الأزارقة منهم، فزعموا أن مخالفيهم مشركون، وكذلك أهل الكبائر من موافقيهم، واستحلّوا قتل النساء والأطفال من مخالفيهم، وزعموا أنهم مخلّدون في النار (¬3). وما تمسَّك به الخوارج والمعتزلة وأمثالهم، من التشبّث بنصوص الكفر والفسوق الأصغر، واستدلالهم به على الأكبر فذلك مما جنته أفهامهم الفاسدة، وأذهانهم البعيدة، وقلوبهم الغلف، فضربوا نصوص الوحي بعضها ببعض، واتّبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. ¬

_ (¬1) الملل والنحل للشهرستاني، 1/ 115. (¬2) الفَرق بين الفِرق، ص73 - 74. (¬3) أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي، ص332.

فقالت الخوارج: المُصِرُّ على كبيرة من زنا، أو شرب خمر، أو رباً، كافر مرتدّ خارج من الدين بالكلية، لا يُصلّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولو أقرّ لله تعالى بالتوحيد، وللرسول - صلى الله عليه وسلم - بالبلاغ، ولو صلى وصام، وزكّى، وحجّ، وجاهد، وهو مخلّد في النار أبداً مع إبليس، وجنوده، ومع فرعون، وهامان، وقارون (¬1). وفسرّوا الآيات القرآنية بما يؤيّد قولهم في تكفير من يرتكب الكبائر مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (¬2)، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (¬3). قالوا: فلم يجعل الله منزلة ثالثة تقع وسطاً بين الكفر والإيمان، ومن كفر وحبط عمله فهو مشرك، والإيمان رأس الأعمال، وأول الفرائض ... ومن ترك ما أمره الله به فقد حبط عمله، وإيمانه، ومن حبط عمله فهو بلا إيمان، والذي لا إيمان له مشرك كافر (¬4). ومما تمسّك به الخوارج قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) (¬5)، ويأتي الرّدّ عليهم إن شاء الله في فصل مناقشة الآراء (¬6). ¬

_ (¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، 2/ 420. (¬2) سورة المائدة، الآية: 5. (¬3) سورة التغابن، الآية: 2. (¬4) الخوارج، الأصول التاريخية لمسألة تكفير المسلم، ص30. (¬5) متفق عليه، البخاري، كتاب المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه، برقم 2475، ومسلم، واللفظ له، كتاب الإيمان، با ب نقصان الإيمان بالمعاصي، برقم 57. (¬6) انظر المبحث الأول من الفصل الثاني من الباب الثالث.

المبحث الثاني: المعتزلة ورأيهم

المبحث الثاني: المعتزلة ورأيهم وأما القدرية المعتزلة عن الحق، فقد افترقت عشرين فرقة كل فرقة منها تُكَفَّر سائرها، يجمعها كلها في بدعتها أمور: منها اتفاقهم على دعواهم في أن الفاسق من أمة الإسلام يكون في منزلة بين المنزلتين (¬1). وسبب تسمية المعتزلة أنه دخل واحد على الحسن البصري (¬2) فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يُخرج به عن الملة - وهم وعيدية الخوارج - وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان. ولا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة - وهم مرجئة الأمة - فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ فتفكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول: إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين: لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، ¬

_ (¬1) الفرق بين الفرق، ص24، وساق أسماء الفرق فقال: الواصلية، والعمْرَوية، والهُذلية، والنَّظَّاميّة، والمردارية، والعُمَرية، والبشرية، والثُّماميّة، والجاحظية، والأسوارية، والإسكافية، والجعفرية، والخياطية، والشحامية، والهشامية، وأصحاب صالح قبة، والمريسيّة، والكعبية، والجُبَّائية، والبهشمية المنسوب إلى أبي هاشم بن الجُبَّائي. الفرق بين الفرق، ص114، وص24، وانظر الملل والنحل للشهرستاني، 1/ 43 - 85. (¬2) توفي الحسن البصري سنة 110هـ.

فقال الحسن: اعتزلنا واصل، فسُمّي هو وأصحابه معتزلة (¬1). والمعتزلة هم: نُفاة الصفات، قالوا: هو عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته ... إلخ، ويتفق مذهبهم مع مذهب الخوارج في حكم العصاة في الآخرة، وهو القول بخلود العصاة في النار، أما في الدنيا فلا يستحلّون شيئاً من دماء وأموال الفسقة - كما تفعل الخوارج - لكنهم اتفقوا مع الخوارج في إخراجهم من الإيمان واختلفوا معهم في دخولهم في الكفر، فقالت المعتزلة: خرجوا من الإيمان، ولم يدخلوا في الكفر، فهم في منزلة بين المنزلتين. أما الخوارج فيُخرجون الفساق من الإيمان، ويُدخلونهم في الكفر بمجرد الكبيرة (¬2)، أما المعتزلة فيقولون: العصاة ليسوا مؤمنين ولا كافرين، ولكن نُسمّيهم فاسقين، فجعلوا الفسق منزلة بين المنزلتين، ولكنهم لم يحكموا للفاسق بمنزلة في الآخرة بين المنزلتين، بل قضوا بتخليده في النار أبداً كالخوارج، فوافقوا الخوارج مآلاً، وخالفوهم مقالاً، وكان الكلّ مخطئين ضلالاً (¬3). فالمعتزلة قرّروا أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، ومخلّد في النار يوم القيامة ما لم يتب (¬4). ومن أدلّة المعتزلة على أنّ مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ¬

_ (¬1) الملل والنحل للشهرستاني، 1/ 48. (¬2) الأجوبة المفيدة على أسئلة العقيدة للجطيلي، ص59، وشرح العقيدة الطحاوية، ص356. (¬3) معارج القبول بشرح سلم الوصول في التوحيد، 2/ 421. (¬4) موقف المعتزلة من السنة النبوية ومواطن انحرافهم عنها، ص140، ط 99، دار اللواء.

بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (¬1). فلا يجوز - على ملحظ القاضي عبد الجبار - أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - رؤوفاً رحيما ً بمن يقيم عليه الحدّ من أهل الكبائر، وبمن يلعنه، وكذلك يحتجّ المعتزلة ... بجملة من الأحاديث منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) (¬3). أمّا أدلّة المعتزلة فيما ذهبوا إليه من تأبيد العقاب في النار لأصحاب المعاصي فمنها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سمّاً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردَّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذّن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كل ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 128. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي، ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله، بقرقم 57. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند، 3/ 135، وأبو يعلى في مسنده، برقم 2863، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 7179. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في قاتل النفس، برقم 1363، ومسلم في كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، برقم 109، واللفظ له.

المبحث الثالث: الشيعة ورأيهم

خالد فيما هو فيه)) (¬1)، ويأتي الرّدّ على المعتزلة فيما ذهبوا إليه إن شاء الله في فصل المناقشة لمذهبهم ومذهب غيرهم (¬2). المبحث الثالث: الشيعة ورأيهم وهم خمس فرق: كيسانية، وزيدية، وإمامية، وغلاة، وإسماعيلية، وبعضهم يميل في الأصول إلى الاعتزال، وبعضهم إلى السنة، وبعضهم إلى التشبيه (¬3). وهم الذين شايعوا عليّاً - رضي الله عنه - على الخصوص وقالوا: إنّ عليّاً أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحقّهم بالإمامة وولده من بعده (¬4). وقالوا بإمامته وخلافته، نصّاً ووصاية، واعتقدوا أنّ الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده، وقالوا: وليست الإمامة قضية مصلحية، تناط باختيار العامّة، وينتصب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، برقم 6544، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، والنار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، برقم 2850، واللفظ له. (¬2) انظر: المبحث الثاني من الفصل الثاني من الباب الثالث من هذه الرسالة. (¬3) الملل والنحل للشهرستاني، 1/ 146، وقال البغدادي في كتابه ((الفرق بين الفرق)) ص21: وأما الرافضة فإن السبئية منهم أظهروا بدعتهم في زمان علي - رضي الله عنه - فقال بعضهم لعلي: أنت الإله فأحرق عليٌّ قوماً منهم ونفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن، وهذه الفرقة ليست من فرق أمة الإسلام لتسميتهم عليّاً إلهاً. ثم افترقت الروافض بعد زمان علي - رضي الله عنه - أربعة أصناف: زيدية، وإمامية، وكيسانية، وغلاة، وافترقت الزيدية فرقاً، والإمامية فرقاً، والغلاة فرقاً، وكل فرقة منها تكفر سائرها وجميع فرق الغلاة منهم خارجون عن فرق الإسلام فأما فرق الزيدية، وفرق الإمامية فمعدودون في فرق الأمة. (¬4) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، 2/ 113، والملل والنحل للشهرستاني، 1/ 146.

الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، هو ركن الدين لا يجوز للرسول - عليه السلام - إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامة ... ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأئمة وجوباً عن الكبائر، والصغائر، والقول بالتولّي، والتبرّؤ قولاً، وفعلاً، وعقداً، إلا في حالة التقية، ويخالفهم بعض الزيدية (¬1). وكان مبدأ مذهب الشيعة على يد زعيمهم - الخبيث - عبد الله بن سبأ اليهودي المتظاهر بالإسلام، وهو منافق حاقد، حيث كان أول من أظهر الطعن في أبي بكر، وعمر، وعثمان صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك اليوم إلى يومنا هذا والشيعة بهذه العقيدة وتمسكوا بها، والتفّوا حولها، فالذي لا يبغض خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة ليس عندهم بشيعي، أي لا يحب عليّاً عندهم. وخلاصة القول في مذهب الشيعة: هو الطعن في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل في كبار الصحابة - رضي الله عنهم -، وإليك أمثلة لذلك من كتبهم: 1 - الطّعن في أبي بكر - رضي الله عنه -: روى الكشي عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر أن محمد بن أبي بكر بايع عليّاً - عليه السلام - على البراءة من أبيه (¬2). ومن الشيعة الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين لما سألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى عليهما خيراً، فرفضوه عند ذلك، فسمّوا رافضة، وهم يسبون ¬

_ (¬1) الملل والنحل للشهرستاني، 1/ 146. (¬2) الشيعة والسنة، ص32.

الصحابة ويلعنونهم، وقد يغلو البعض في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (¬1). 2 - الطعن في عمر: ومن طعن الشيعة في عمر الفاروق - رضي الله عنه - يكذب ابن بابويه القمي الشيعي على الفاروق ويقول: ((قال عمر حين حضره الموت: أتوب إلى الله من ثلاث: اغتصابي هذا الأمر، أنا وأبو بكر من دون الناس، واستخلافه عليهم، وتفضيل المسلمين بعضهم على بعض، ويذكر علي بن إبراهيم القمي الذي هو عندهم ثقة في الحديث، معتمد صحيح المذهب في تفسيره تحت قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} (¬2)، قال أبو جعفر: الأول (يعني أبا بكر) يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول عليّاً وليّاً، ((يا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً)) يعني الثاني (عمر) (¬3). روى الكليني عن أبي عبد الله في قوله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} (¬4)، قال: نزلت في فلان وفلان .. آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر، وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من كنت مولاه فعليٌّ مولاه))، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين - عليه السلام -، ثم كفروا حيث قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقرّوا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء! وبيّن شارح الكافي أن ¬

_ (¬1) الأجوبة المفيدة على أسئلة العقيدة، ص59. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 27. (¬3) الشيعة والسنة، ص34 - 35، وذكر تأويلات غير ما ذكر هنا، نسأل الله العافية. (¬4) سورة النساء، الآية: 137.

المراد من فلان وفلان ... أبو بكر، وعمر، وعثمان، وكذبوا قاتلهم الله! 3 - طعنهم في بقية أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه أمهات المؤمنين، فلم يكتفِ الشيعة بالطعن والتعريض في رحماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل تطرقوا إلى أعراض آل النبي ورفقته الكبار، وخاصة الذين هاجروا في سبيل الله وجاهدوا في الله حقّ جهاده، ونشروا دينه الذي ارتضى لهم، ناقمين، وحاسدين جهودهم المشكورة، فهاهم يسبّون حتى عمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - العباس ... وابنه عبد الله بن العباس، حبر الأمة، وترجمان القرآن ... وطعنوا في سيف الله خالد بن الوليد، وطعنوا في عبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة - رضي الله عنهم - (أجمعين) وطعنوا كذلك في طلحة والزبير، اللذين هما من العشرة المبشرين بالجنة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أوجب طلحة)) (¬1)، يعني الجنة. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الزبير: ((إن لكل نبي حوارياً وحواريِّ الزبير)) (¬2)، وطعنوا في أنس بن مالك والبراء بن عازب - رضي الله عنهم -. وطعنوا في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخاصة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي المبرأة من فوق سبع سموات، وأخيراً كفَّروا جميع الصحابة عامّة. هذه هي عقيدة القوم من أولهم إلى آخرهم كما رسمها اليهود لهم، حتى صار دينهم الذي يدينون به دين الشتائم والسّباب، ولكنهم لم يكتفوا بالسّباب والشتائم على عدد ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، باب مناقب طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -، برقم 3738.وأحمد في المسند،1/ 165،وأبو يعلى في المسند،2/ 33،برقم 670،والحاكم في المستدرك،3/ 25، 374، وقال: ((صحيح على شرط مسلم))، ووافقه الذهبي، وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن غريب))، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 945. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب فضل الطليعة، برقم 2846، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما، برقم 2415.

كبير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل هوت بهم الهاوية حتى كفَّروا جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا النادر منهم، فهذا هو الكشي أحد صناديدهم يروي عن أبي جعفر أنه قال: كان الناس أهل ردّة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ثلاثة، فقلت ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي. وذلك قول الله - عز وجل -: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ) (¬1)، ويروى عن أبي جعفر أيضاً أنه قال: ((المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا وأشار بيده إلا ثلاثة)) (¬2). فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ومما افتراه عليه الظالمون من تحريف لآياته، والاستدلال بها على تكفير أوليائه الذين قال فيهم سبحانه: {رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (¬3). وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬4). وأصل قول الرافضة: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصّ على علي نصّاً قاطعاً للعذر، وإنه إمام معصوم ومن خالفه كفر، وإن المهاجرين والأنصار كتموا النصّ، وكفروا بالإمام المعصوم، واتبعوا أهواءهم وبدّلوا الدين، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 144. (¬2) الشيعة والسنة باختصار شديد مع بعض التصرف، من ص29 - 50. (¬3) سورة البينة، الآية: 8. (¬4) سورة التوبة، الآية: 100.

المبحث الرابع: المرجئة ورأيهم

وغيّروا الشريعة، وظلموا واعتدوا، بل كفروا إلا نفراً قليلاً، إما بضعة عشر أو أكثر، ثم يقولون: إن أبا بكر وعمر، ونحوهما ما زالا منافقين، وقد يقولون: بل آمنوا ثم كفروا، وأكثرهم يكفرون من خالف قولهم، ويسمّون أنفسهم المؤمنين، ومن خالفهم كفاراً، ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردّة أسوأ حالاً من مدائن المشركين والنصارى؛ ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين ... ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق، كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم، ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة؛ ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضدّ السني إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم: أنا سني، فإنما معناهُ لست رافضياً (¬1)، وسيأتي الرّدّ عليهم إن شاء الله في فصل المناقشة (¬2). المبحث الرابع: المرجئة ورأيهم الإرجاء على معنيين: أحدهما بمعنى التأخير كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاه} (¬3) أي أمهله وأخّره. والثاني إعطاء الرجاء: أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأوّل فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخّرون العمل عن النّيّة والعقد، أي يؤخرون العمل عن مُسمّى الإيمان، وأما المعنى الثاني فظاهر؛ فإنهم كانوا ¬

_ (¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 3/ 356. (¬2) انظر: المبحث الثالث من الفصل الثاني من الباب الثالث من هذه الرسالة. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 111.

يقولون: لا تضرّ مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة (¬1). والمرجئة أربعة أصناف: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة وهم فرق (¬2). وهم قوم يقولون: لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وقالوا: لا يدخل النار أحد دون الكفر بالكلية. ولا تفاضل عندهم بين إيمان الفاسق الموحد، وبين إيمان أبي بكر وعمر، ولا فرق عندهم بين المؤمنين والمنافقين إذ الكلّ ينطق بالشّهادتين نسأل الله العافية ¬

_ (¬1) الملل والنحل للشهرستاني، 1/ 139. (¬2) الملل والنحل للشهرستاني، 1/ 139. وقال البغدادي في كتابه ((الفرق بين الفرق)): وأما المرجئة فثلاثة أصناف: صنف منهم قالوا بالإرجاء في الإيمان وبالقدر على مذهب القدرية، فهم معدودون في القدرية وفي المرجئة، وصنف منهم قالوا بالإرجاء في الإيمان، وبالجبر في الأعمال على مذهب جهم بن صفوان، فهم من جملة الجهمية والمرجئة، وصنف منهم خالصة في الإرجاء من غير قدر وهم خمس فرق: يونسية، وغسانية، وثوبانية، وتومنية، ومريسية. وهذه الفرق الخمس تضلل كل فرقة منها أختها ويضللها سائر الفرق. انظر: الفرق بين الفرق، ص202، وص25. وزاد الشهرستاني: العُبيدية، والصالحية، فأصبحت فرق المرجئة الخالصة سبع فرق. انظر: الملل والنحل للشهرستاني، 1/ 139. أما الإرجاء الذي نسب إلى مرجئة الفقهاء كحماد بن سلمة وكأبي حنيفة وغيره من الأئمة من أهل الكوفة، وهو قولهم: إن الأعمال ليست من الإيمان، ولكنهم مع ذلك يوافقون أهل السنة على أن الله يعذب من يشاء من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم منها بالشفاعة وغيرها. وعلى أنه لا بد في الإيمان من نطق باللسان، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة يستحق مع تركها الذم والعقاب، فهذا النوع من الإرجاء ليس كفراً. وإن كان قولاً باطلاً مبتدعاً لإخراجهم الأعمال عن الإيمان. انظر: فتاوى ابن تيمية،7/ 297،و7/ 507، وشرح العقيدة الواسطية للهراس، ص129، وانظر أيضاً: تعليق الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز على العقيدة الطحاوية، ص19 - 20، فقد قال: إخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة، وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظيّاً بل هو لفظي ومعنوي، ويترتب عليه أحكام كثيرة يعلمها من تدبّر كلام أهل السنة وكلام المرجئة، والله المستعان.

الفصل الثاني: مناقشة الآراء السابقة وتقرير الحق بالدليل

فهؤلاء في طرف والخوارج في طرف آخر (¬1). فالمرجئة قالوا: لا نُكفّر من أهل القبلة أحداً، فنفوا التكفير نفياً عامّاً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى، بالكتاب، والسنة، والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين، فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتدّاً (¬2)، ومذهب المرجئة موافق لمذهب الجهمية بأن الدين واحد لا يزيد ولا ينقص، فإيمان أفسق الناس كإيمان أطوعهم لله، والإيمان في مذهب المرجئة هو مجرد التصديق (¬3)، وسيأتي الرّدّ عليهم إن شاء الله في فصل المناقشة (¬4). الفصل الثاني: مناقشة الآراء السابقة وتقرير الحق بالدليل المبحث الأول: مناقشة الخوارج 1 - الرّدّ على الخوارج: وقد ردّ النّسفي بردود يستمدّها من نصّ الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحاً} (¬5)، فالتوبة النصوح لا تكون إلا من الكبيرة، كما يستمدّ حججاً أخرى من أحاديث ¬

_ (¬1) معارج القبول، 2/ 421، والأجوبة المفيدة على أسئلة العقيدة، ص58. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية، ص355. (¬3) الأجوبة المفيدة على أسئلة العقيدة، ص 59. (¬4) انظر: المبحث الثالث من الفصل الثاني من الباب الثالث. (¬5) سورة التحريم، الآية: 8.

الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أما تفسير الحديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) (¬1)، فقال النووي رحمه الله: ((القول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله، ومختاره كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة)) (¬2). ومن أخطاء الخوارج عدم التفرقة بين الكبائر والصغائر من الأفعال بينما فرق الله تعالى بقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} (0 (¬3). فالخوارج إذن، إن حاولوا حجة في تكفير الأمة لم يجدوا، وإن جعلوا الذنوب كلها كبائر، لم يجدوا إلى الحجة سبيلاً من عقل ولا سمع (¬4). ولا بد أن يُفرّق بين الكبائر والصغائر: الكبائر: اختلف في حدّ الكبيرة على أقوال، أمثلها: أنها ما يترتب عليها حدّ في الدنيا، أو توعّد عليها بالنار، أو اللعنة، أو الغضب. الصغائر: قيل: الصغيرة، ما ليس فيها حدّ في الدنيا، ولا وعيد في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه، برقم 2475،ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله، برقم 57. (¬2) شرح مسلم للنووي، 1/ 41. (¬3) سورة النساء، الآية: 31. (¬4) الخوارج والأصول التاريخية لمسألة تكفير لمسلم، ص31.

الآخرة، والمراد بالوعيد: الخاص بالنار، أو اللعنة أو الغضب (¬1). ويردّ على الخوارج ومن وافقهم الذين يسلبون عن أهل الكبائر الإيمان من الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2)، فلم يخرج تبارك وتعالى القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد أخوّة الدين بلا ريب. 2 - قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله} (¬3). 3 - وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (¬4). ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدلّ على أن الزاني، والسارق، والقاذف، لا يقتل، بل يُقام عليه الحدّ، فدلّ على أنه ليس بمرتدّ (¬5). أما الردّ على الخوارج ومن وافقهم في قولهم بتخليد أهل الكبائر في النار فهو كما قال الطحاوي رحمه الله: ((وأهل الكبائر ... في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحّدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمته، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم، بفضله ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الطحاوية، ص418. (¬2) سورة البقرة، الآية: 178. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 9. (¬4) سورة الحجرات، الآية: 10. (¬5) شرح العقيدة الطحاوية، ص361.

كما ذكره - عز وجل - في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1)، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى الجنة (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قالوا وإن سرق وإن زنى؟ قال: وإن سرق وإن زنى)) (¬3)، وقد تواترت بذلك الأحاديث .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) (¬4). وهذه الشفاعة تتكرر منه - صلى الله عليه وسلم - أربع مرات. المرة الأولى: يخرج من النار بشفاعته - بعد إذن ربه له كما صرَّح بذلك القرآن - من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان (( .. فأَُخرجْ منها من كان في قلبه مثقال حبة من بُرّة أو شعيرة من إيمان)). والمرة الثانية: يخرج من كان في قلبه مثقال حبة من خردلٍ من إيمان. والمرة الثالثة: يخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان. والمرة الرابعة: يخرج منها من قال لا إله إلا الله. فيقول الله - عز وجل -: ((وعزّتي ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 48، و116. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية، ص416. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب في الجنائز، برقم 1237، ومسلم في كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات مشركاً دخل النار، برقم 94. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في الشفاعة، برقم 4739، وأحمد، 3/ 213، والحاكم، 2/ 382، وقال: ((على شرط الشيخين))، وقال الذهبي: ((على شرط مسلم))، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3714.

اعتراض على عقيدة أهل السنة والجماعة ومناقشة هذا الاعتراض

وجلالي، وكبريائي، وعظمتي، لأُخرجَنَّ منها من قال: لا إله إلا الله)) (¬1). اعتراض على عقيدة أهل السنة والجماعة ومناقشة هذا الاعتراض 1 - قد يقال: إنّ الشارع قد سَمَّى بعض الذنوب كفراً كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (¬2). 2 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)) (¬3). 3 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها ... فقد كفر بما أُنزل على محمد)) (¬4)، ونظائر ذلك كثيرة، والجواب: إن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة، لا يُكفَّر كفراً ينقل عن الملة بالكلّيّة كما قالت الخوارج، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتدّاً يُقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تُجرى الحدود في الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وهذا قول معلوم بطلانه، وفساده بالضرورة من دين الإسلام. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم 188/ 326. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، برقم 48، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر، برقم 64. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، برقم 6103، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر، برقم 60. (¬4) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض، برقم 135، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب النهي عن إتيان الحائض، برقم 639، والدارمي في كتاب الوضوء والصلاة، باب من أتى امرأة في دبرها، برقم 1141، وأحمد في المسند، 2/ 408، وهو صحيح كما قال الألباني في آداب الزفاف، ص31.

المبحث الثاني: مناقشة المعتزلة

الكافرين؛ فإنَّ قولهم باطل أيضاً، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (¬1)، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد: أخوّة الدين لا ريب (¬2). المبحث الثاني: مناقشة المعتزلة قد تصدّى أهل الحديث للرّدّ على ضلالات المعتزلة، مستندين إلى ما صحّ في السنة النبوية من الأحاديث، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودُّوا فَيُلقون في نهر الحيا أو الحياة - شك مالك - فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية)) (¬3). وإذا اعتبرت إقامة الحدّ كفارة لصاحبها، ومجزية عن إعلان التوبة، فإن غفران ذنب من لم يقم عليه حدّ ولم يتب يبقى رهن إرادة الله، وذلك مصداقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - في عصابة من صحابته: ((تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 178. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية، ص360 - 361. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، برقم 22، ومسلم في كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، برقم 184.

بهتاناً تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً، فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه)). قال الراوي: فبايعناه على ذلك. رواه البخاري عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - (¬1). والمعتزلة القدرية بتشدّدهم في تخليد مرتكب الذنب في النار ما لم يتب، ينطبق عليهم المثل السائر - ولله المثل الأعلى -: (السيدُ يُعطي، والعبد يمنع)؛ لأن الله تعالى يصرّح بالمغفرة للمصرّ على الكبائر إن شاء، وهم يدفعون في وجه هذا التصريح، ويُحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح التي هي بالفساد أجدر وأحق (¬2). أما الرّدّ على المعتزلة في قولهم بأن صاحب الكبائر يكون في المنزلة بين المنزلتين فهو على النحو الآتي: 1 - قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (¬3)، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا وجعله أخاً لوليّ القصاص، والمراد أُخوّة الدين بلا ريب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وبيعة العقبة، برقم 3892، ومسلم في كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، برقم 1709. (¬2) موقف المعتزلة من السنة النبوية ومواطن انحرافهم عنها، ص148. (¬3) سورة البقرة، الآية: 178.

المبحث الثالث: مناقشة الشيعة

2 - قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (¬1). 3 - وقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا} (¬2)، وهذا ردّ على المعتزلة فإن الفاسق يدخل في اسم الإيمان. ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدلّ على أن الزاني، والقاذف، والسارق، لا يُقتل بل يُقام عليه الحدّ، فدلّ على أنه ليس بمرتدّ (¬3). وقد تقدمت الأدلّة القطعية من الكتاب والسنة - في مناقشة مذهب الخوارج - على أن أصحاب الكبائر من أهل القبلة لا تُخرجهم هذه الكبائر من الإسلام إن لم يستحلّوها، فإن تابوا قبل الموت تاب الله عليهم، وإن ماتوا بإصرارهم على هذه الكبائر فأمرهم إلى الله إن شاء أدخلهم الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبهم، ثم يخرجهم برحمته، ثم بشفاعة الشافعين من أهل طاعته. المبحث الثالث: مناقشة الشيعة لقد قال الشيعة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم ينزل الله به من ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، الآيتان: 9 - 10. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 2. (¬3) شرح العقيدة الطحاوية، ص361.

سلطان، بل قد جاء في فضائل صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدحر ويُخزي هؤلاء الذين قالوا على الله بغير علم، فهم في قولهم هذا خالفوا الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة ومن بعدهم، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبُّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه)) (¬1). وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مدحهم الله في كتابه الكريم، وأثنى عليهم في مواضع كثيرة، ومن ذلك قوله تعالى: {رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (¬2). وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬3). وورد في فضائل الصحابة ما لا يُحصى من الآثار والأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه بسنده قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذاً خليلاً، برقم 3673، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة - رضي الله عنهم -، برقم 2541. (¬2) سورة البينة، الآية: 8. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 74. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب بيان أن بقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة، برقم 2531، قال محمد فؤاد عبد الباقي نقلاً عن النووي في معنى (النجوم أمنة السماء): إن النجوم ما دامت باقية فالسماء باقية فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة وهنت السماء فانفطرت، وانشقت وذهبت.

2 - وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحبّ الناس إليك؟ قال: ((عائشة))، قلت: من الرجال؟ قال: ((أبوها))، قلت: ثم من؟ قال: ((ثم عمر بن الخطاب))، فعدّ رجالاً (¬1). 3 - وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن عبد الله رجل صالح)) (¬2)، يعني عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. فهؤلاء الصحابة وغيرهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين مدحهم الله في كتابه، ومدحهم ودعا لهم بالمغفرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناطق بالوحي، واحداً واحداً، وجماعةً جماعةً، ويمدحهم ويُثني عليهم كل من سلك مسلكه، واتبع سبيله من المؤمنين غير المنافقين من أبناء اليهود، والمجوس، الذين أكلت قلوبهم البغضاء والشحناء، والحسد عليهم لأعمالهم الجبَّارة في سبيل الله، وفي سبيل نشر هذا الدين الميمون المبارك، وكان هذا هو السبب الحقيقي لحنق الكفرة على هؤلاء المجاهدين، العاملين بالكتاب والسنة، وخاصة على أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم -، الذين قادوا جيوش الظفر، وجهزوا عساكر النصر، وكان سبب احتراق ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:لو كنت متخذاً خليلاً، برقم 3662، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -،برقم 2384. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، برقم 3740، 3741، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، برقم 2478.

اليهود على المسلمين خاصة أنهم هدموا أساسهم وقطعوا جذورهم، واستأصلوهم استئصالاً، تحت راية النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين كان أسلافهم من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، يقطنون المدينة، ومن بعد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في زمن عمر الفاروق - رضي الله عنه -؛ حيث نفَّذ فيهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أخرجوا اليهود من جزيرة العرب)) (¬1)، وطهَّر جزيرة العرب من نجاستهم ودسائسهم، ولم يترك أحداً من اليهود في الجزيرة طبقاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 4 - وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم من بعد ذلك تسبق أيمانهم شهاداتهم، وشهاداتهم أيمانهم)) (¬3). 5 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم، برقم 3053، ومسلم في كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، برقم 1637، وقال: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) قال ابن حجر إن قوله: أخرجوا اليهود رواية الجرجاني، وقال: رواية أخرجوا المشركين .. )) أثبت. (¬2) السنة والشيعة، ص51 - 55 ببعض التصرف. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، برقم 2652، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، برقم 2533. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:لو كنت متخذاً خليلاً، برقم 3673، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة - رضي الله عنهم -، برقم 2541.

6 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي)) (¬1). 7 - وقد شهد الله لأصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان بالإيمان، فَعُلِمَ قطعاً أنهم المراد بالآية الكريمة: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (¬2). 8 - وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (¬3). 9 - وقال سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (¬4)، فقد تقرر أن من اتبع غير سبيلهم ولاَّه الله ما تولَّى وأصلاه جهنم (¬5). نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:لو كنت متخذاً خليلاً، برقم 3656. (¬2) سورة التوبة، الآية: 100. (¬3) سورة الفتح، الآية: 18. (¬4) سورة النساء، الآية: 115. (¬5) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 4/ 1، و2.

المبحث الرابع: الرد على المرجئة

المبحث الرابع: الرّدّ على المرجئة الذين يقولون: لا يضرّ مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة. يُقال لهم: إن في أهل القبلة المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب، والسنة، والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين، فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، أو المحرّمات الظاهرة، المتواترة، ونحو ذلك فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل كافراً مرتدّاً (¬1). قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله (¬2): ((إن البخاري أورد الحديث الآتي، وأراد به الرّدّ على المرجئة لِمَا فيه من بيان ضرر المعاصي مع الإيمان، وعلى المعتزلة في قولهم: ((إن المعاصي موجبة للخلود في النار))، فلا يلزم من إطلاق دخول النار التخليد فيها (¬3)، والحديث هو: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تبارك وتعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردلٍ من إيمان، فيُخرجون منها قد اسودّوا فيلقون في نهر الحيا أو الحياة - شكّ مالك - فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية)) (¬4). ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الطحاوية، ص355. (¬2) الفتح، 1/ 72. (¬3) موقف المعتزلة من السنة النبوية ومواطن انحرافهم عنها، ص148. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، برقم 22، ومسلم في كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، برقم 184.

وقال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (¬1)، فالتوبة من الشرك جعلها الله قولاً وعملاً بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة .. والناس يتفاضلون بالأعمال وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (¬2) الآية، وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأعمال تدخل في مُسمّى الإيمان، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضعٌ وسبعون، أو بضعٌ وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (¬3). فمن قال: إن فرائض الله ليست من الإيمان فقد أعظم الفرية، ولو كان الأمر كما يقولون: كان من عصى الله وارتكب المعاصي والمحارم لم يكن عليه سبيل فكان إقراره يكفيه من العمل فما أسوأ هذا القول وأقبحه فإنا لله وإنا إليه راجعون (¬4). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 11. (¬2) سورة التوبة، الآية: 5. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم، برقم 9، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الجهاد وكونه من الإيمان، برقم 35/ 85، واللفظ لمسلم. (¬4) معارج القبول، 2/ 412.

الخاتمة: نتائج وثمرات البحث

الخاتمة: نتائج وثمرات البحث تمّت بحمد الله تعالى هذه الرسالة بعد التّحرّي والتّدقيق قدر الإمكان، والموضوع جدير بالعناية والاهتمام؛ لِمَا له من الأهمية الكبيرة؛ ولخطورته على من قال فيه بغير علم. أما أهم النتائج والثمرات لقضية التكفير فهي كثيرة، ومنها الثمرات الآتية: 1 - إن الخروج على أئمة المسلمين حرام بالكتاب والسنة. 2 - إن طاعة ولاة أمر المسلمين: من الولاة، والعلماء، والأمراء، في غير معصية الله: واجبة وجوباً لا شك فيه على الرعية بالمعروف. 3 - إن كل من خرج على الإمام الذي اتفقت عليه الجماعة المسلمة، وكفَّر بالكبائر يسمى خارجيّاً، ويجب أن يطبق في حقّه الحكم الشرعي. 4 - إنه ينبغي أن يعلم أن هناك أصولاً في التكفير لا بد من إتقانها، ومعرفتها حتى يكون طالب العلم على بصيرة من أمره. 5 - إن معرفة ضوابط التكفير أمر مهمّ لطالب العلم الشرعي. 6 - إن التكفير له موانع لا بدّ من معرفتها والعلم بها، فلا يكفّر المسلم عند أهل السنة إلا بعد تحقق الشروط، وانتفاء الموانع. 7 - إن أهل السنة والجماعة وسط بين الفرق الأخرى؛ سواء في قضية التكفير أم في غيرها، وقد قال الله تعالى في هذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ

أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (¬1). 8 - إنَّ قضية التكفير هي حقّ الله ورسوله، فلا كافر إلا من كفّره الله ورسوله. 9 - إنَّ الذي يُريد أن يحكم على أحد بالكفر لا بدّ له من التريث والتأني مرّات ومرّات خوفاً من القول على الله بغير علم؛ لأنه إذا حكم على إنسان بالكفر فلا بد أن تطبّق عليه أحكام المرتد (في الشريعة الإسلامية). 10 - إنَّ معتمد أهل السنة والجماعة في قضية التكفير: الكتاب، والسنة، والإجماع. 11 - إنَّ الفِرق الأخرى المخالفة لأهل السنة والجماعة يختلفون بحسب أحوالهم ومقاصدهم، فمنهم من يكون كافرًا، ومنهم من يكون فاسقاً، ظالماً، ضالاً، ومنهم من يكون مخطئاً، وربما كان مغفوراً له، وقد بيّن ذلك فيما تقدّم ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، رحمة الله عليهم. 12 - إنَّ الشريعة الإسلامية لا تحكم على أحد من أهل القبلة بالكفر إلا بعد أن يُبيَّن له، ويوجه إلى الحق بالدليل وبالتبيين وإزالة الشبه العالقة بالأذهان الفاسدة، فإذا أصرّ على ما هو عليه من الكفر والنفاق فعند ذلك لابدّ من العلاج النّاجع، وهو ما ورد في الشريعة من أحكام المرتدّ، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 143.

يُستتاب فإن تاب وإلا قُتل كافراً مرتدّاً. 13 - معرفة الحقّ بدليله، وأنّ الفرقة النّاجية هم أهل السنة والجماعة لِمَا تقدّم من الأدلّة، وأنّ ما عداهم ليسوا على الحقّ، بل هم على حسب أحوالهم كما تقدّم. 14 - العلم بأن الحق والباطل دائماً بينهما صراع مستمر، ولكن - ولله الحمد - الغلبة في النهاية للحقّ، أمّا الباطل فيذهب ويتلاشى، بينما الحق ثابت لا يتزعزع. 15 - التمييز بين الكلمات الآتية: * الكفر، * النفاق، * الفسوق * الظلم، * الشرك، * البدعة. فإن كلاً من هذه الأمور ينقسم إلى قسمين: (أ) أكبر يُخرج من الملّة، ويخلد صاحبه في النار. (ب) أصغر لا يخرج من الملّة، وصاحبه تحت مشيئة الله تعالى إن شاء غفر له وأدخله الجنة ابتداءً، وإن شاء عاقبه مدّة لا يعلمها إلا هو سبحانه، ثم يخرجه من النار، ويدخله الجنة برحمته، ثم بشفاعة الشافعين من أهل طاعته. 16 - معرفة خطورة الانحراف عن المنهج الشرعي وما يترتب على ذلك من أحكام.

هذا وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل عملي هذا متقبلاً خالصاً لوجهه الكريم، نافعاً، مباركاً، إنه وليّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الرسالة الثالثة عشرة: تبريد حرارة المصيبة: عند موت الأحباب وفقد ثمرات الأفئدة وفلذات الأكباد

الرسالة الثالثة عشرة: تبريد حرارة المصيبة عند موت الأحباب وفقد ثمرات الأفئدة وفلذات الأكباد تمهيد: كتبتُ أصل هذه الرسالة في يوم 21/ 7/1417هـ عندما فقد بعض الإخوة الأحباب بعض أولاده، أعظم الله أجره على مصابه، ولا حرمه جزيل ثوابه، وألهمه التسليم لأمره، والرضى بالقضاء: حلوه، ومرّه، وأخلف عليه من مصابه أحسن الخلف بمنِّه وكرمه، وقد جمعت فيها بعض الآيات والأحاديث وأرسلتها إليه؛ لتبرِّد حرّ مصيبته، ويحتسب ويصبر، ثم كنت بعد ذلك أرسلها إلى كل من بلغني أنه مات له أحد من أولاده في مناسبات عديدة ولله الحمد، ثم تكررت المناسبات العظام في الابتلاء والمحن، والمصائب الجسيمة، لكثير من الأحباب، جبر الله مصيبة كلّ مسلمٍ مُصابٍ، فرأيت أن أضيف إليها بعض الآيات والأحاديث؛ ليبرِّد بها كلُّ مسلمٍ مصابٍ حرارة مصيبته، وخاصة من أصيب بثمرات الأفئدة وفلذات الأكباد (¬1). وأرجو الله - عز وجل - أن يفتح قلوب الأحباب لاقتناء هذه الرسالة ثم إهدائها لمن أصابته مصيبة بفقد فلذات الأكباد، وثمرات الأفئدة، أو ¬

_ (¬1) قد ألف في هذا الباب: كتاب برد الأكباد عند فقد الأولاد، للحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي (777هـ-842هـ)، وكتاب: تبريد حرارة الأكباد في الصبر على فقد الأولاد، للشيخ أبي حفص عمر بن أحمد بن السعدية الحلبي المتوفى سنة 660هـ. ذكر ذلك الشيخ عبد القادر بن شيبة الحمد في مقدمته لبرد الأكباد؛ لابن ناصر الدين، ص5، نشر دار الأرقم بالرياض، وتوزيع مؤسسة الجريسي بالرياض.

موت الأحباب تعزيةً لهم وتبريدًا لحرارة مصيبتهم، ويبشّر بالأجر؛ لحديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من مؤمن يُعزِّي أخاه بمصيبةٍ إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة)) (¬1). ولا شك أن المسلم المصاب إذا قرأ هذه الآيات والأحاديث انشرح صدره، وبردت حرارة مصيبته، وفُرِّج كربه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من نفَّس عن مُؤمنٍ كربة من كُربِ الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة)) (¬2). ولله دَرُّ القائل: الصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقته ... لكن عواقبه أحلى من العسل وإليك بيان ما أردت بيانه: بسم الله الرحمن الرحيم من سعيد بن علي بن وهف القحطاني إلى كُلِّ مسلمٍ مُصابٍ بمصيبةِ موت الأحباب، أو فقد فلذات الأكباد، وثمرات الأفئدة، جبر الله مصيبتهم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فالله أسأل أن يُحسن عزاءكم، وأن يجمعكم ومن فقدتم في الفردوس ¬

_ (¬1) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عزّى مصابًا، برقم 1601، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 267، وفي إرواء الغليل برقم 764. (¬2) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم 2699.

أبشروا بما وعد الله عباده المؤمنين الصابرين

الأعلى من الجنة، واعلموا ((أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبروا واحتسبوا)) (¬1)، وأبشروا بما وعد الله عباده المؤمنين الصابرين، وإليكم ما تطمئنُّ به قلوبكم، ويُبرِّد حرّ مصيبتكم العظيمة، ويشرح صدوركم، ويذهب همومكم وغمومكم من كلام ربكم الكريم، الحكيم، الرؤوف، الرحيم، الذي هو أرحم بالعباد من والديهم، ومن كلام نبيكم وقدوتكم وحبيبكم محمد - صلى الله عليه وسلم -: 1 - صلوات الله ورحمته وهدايته للصابرين: قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬2). {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي: بشرهم بأنهم يُوفَّوْن أجورهم بغير حساب، فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ}، وهي كلّ ما يُؤلم القلب أو البدن، أو كليهما، كما تقدم في الآيات، ومن ذلك موت الأحباب، والأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد، أو بدن من يحبه، {قَالُواْ إِنَّا لله} أي مملوكون لله، مُدَبَّرون تحت أمره، وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأولادنا، وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء ¬

_ (¬1) انظر: مسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم 923. (¬2) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157.

2 - الاستعانة بالصبر من أسباب السعادة

فقد تصرَّف أرحم الراحمين بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد: علمه بأن وقوع البلِيَّة من المالك الحكيم الذي هو أرحم بعبده من نفسه ووالدته، فيوجب له ذلك الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره؛ لِمَا هو خير لعبده وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفرًا عنده، وإن جزعنا وسخطنا لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله وراجع إليه من أقوى أسباب الصبر {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصبر المذكور {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أي ثناء من الله عليهم {وَرَحْمَةٌ} عظيمة، ومن رحمته إياهم أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به، وهو هنا: صبرهم لله (¬1). قال أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -: ((نعم العدلان ونعمة العلاوة {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}، فهذان العدلان، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل، فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا)) (¬2). 2 - الاستعانة بالصبر من أسباب السعادة، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن للعلامة السعدي، ص76، وتفسير ابن كثير، ص135. (¬2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ص135، وهو في صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى، الباب رقم 42، قبل الحديث رقم 1302.

3 - محبة الله للصابرين

بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (¬1). 3 - محبّة الله للصابرين، قال - عز وجل -: {وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (¬2). 4 - معيَّة الله مع الصابرين: قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬3). 5 - استحقاق دخول الجنة لمن صبر، قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} (¬4). 6 - الصابرون يُوفَّون أجرهم بغير حساب، فلا يُوزن لهم، ولا يُكال لهم، إنما يُغرف لهم غرفًا، وبدون عدٍّ ولا حدٍّ، ولا مقدار (¬5)، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬6). 7 - جميع المصائب مكتوبة في اللوح المحفوظ، من قبل أن يخلق الله الخليقة ويبرأ النسمة، وهذا أمر عظيم لا تُحيط به العقول؛ بل تذهل عنده أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير (¬7)، قال الله - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِير *، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 45. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 146. (¬3) سورة البقرة، الآية: 153. (¬4) سورة الفرقان، الآية: 75. (¬5) تفسير ابن كثير، ص1511، وتفسير السعدي، ص721. (¬6) سورة الزمر، الآية: 10. (¬7) تفسير ابن كثير، ص1313، وتفسير السعدي، ص842.

8 - ما أصاب من مصيبة في النفس، والمال، والولد، والأحباب، ونحوهم إلا بقضاء الله وقدره

يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬1). 8 - ما أصاب من مصيبة في النفس، والمال، والولد، والأحباب، ونحوهم إلا بقضاء الله وقدره، قد سبق بذلك علمه، وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته، فإذا آمن العبد أنها من عند الله فرضي بذلك وسلَّم لأمره، فله الثواب الجزيل، والأجر الجميل، في الدنيا والآخرة، ويهدي الله قلبه فيطمئن ولا ينزعج عند المصائب، ويرزقه الله الثبات عند ورودها، والقيام بموجب الصبر فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدَّخره الله له يوم الجزاء من الثواب (¬2)، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3)، قال علقمة عن عبد الله: {وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ} هو الرجل الذي إذا أصابته مصيبة رضي بها وعرف أنها من الله)) (¬4). وما أحسن ما قال ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى: سبحان من يبتلي أناسًا ... أحبَّهم والبلاءُ عطاءُ فاصبرْ لبلْوى وكن راضيًا ... فإن هذا هو الدواءُ سلِّمْ إلى الله ما قضاه ... ويفعل الله ما يشاء (¬5) ¬

_ (¬1) سورة الحديد، الآيتان: 22 - 23. (¬2) تفسير السعدي، ص867. (¬3) سورة التغابن، الآية: 11. (¬4) البخاري، كتاب التفسير، سورة التغابن، بعد الحديث رقم 4907. (¬5) برد الأكباد عند فقد الأولاد، للحافظ المحدث أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي (777 - 842هـ)، ص12.

9 - الله تعالى يجزي الصابرين بأحسن ما كانوا يعملون

9 - الله تعالى يجزي الصابرين بأحسن ما كانوا يعملون، قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قَسَمٌ من الرب تعالى مؤكَّد باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة؛ فإن الله لا يضيع أجر مَنْ أحسن عملاً، أي ويتجاوز عن سيئاتهم (¬1)، ولله دَرُّ أبي يعلى الموصلي القائل: إني رأيت وفي الأيام تجربةٌ ... للصبر عاقبةٌ محمودةُ الأثر وقلّ من جدَّ في أمر يحاولُه ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر (¬2) 10 - ما يُقال عند المصيبة والجزاء والثواب والأجر العظيم على ذلك، فعن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبدٍ تُصيبه مصيبةٌ فيقول: إنَّا لله، وإنَّا إليه راجعون، اللهم أْجُرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها، إلا أجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها)) قالت أم سلمة، فلما توفي أبو سلمة - رضي الله عنه - قلت كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخلف الله لي خيرًا منه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي لفظ: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: ((إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أجُرْني في مصيبتي واخلِفْ لي خيرًا منها ... )) الحديث)) (¬3). وفي لفظ ابن ماجه: ((إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي، فأجُرْني فيها، ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، ص753، وتفسير السعدي، ص449. (¬2) انظر: الصبر الجميل لسليم الهلالي، 15 - 16. (¬3) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة، برقم 918.

11 - الأجر العظيم والثواب الكثير والفوز بالجنة

وعوِّضني خيرًا منها)) (¬1). وحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسمّوه بيت الحمد)) (¬2). قال ابن ناصر الدين رحمه الله تعالى: يجري القضاء وفيه الخير نافلة ... لمؤمن واثق بالله لا لاهي إن جاءه فرحٌ أو نابه ترحٌ ... في الحالتين يقول الحمد لله (¬3) 11 - الأجر العظيم والثواب الكثير والفوز بالجنة لمن مات حبيبه المصافي فصبر، وطلب الأجر من الله تعالى، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (¬4)، قوله: ((جزاء)) أي ثواب وقوله: ((إذا قبضت صَفِيَّه)) وهو الحبيب المصافي: كالولد، والأخ، وكل ما يحبه الإنسان، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت .. وقوله: ((ثم احتسبه إلا الجنة))، والمراد: صَبَر على فقده راجيًا من الله الأجر والثواب على ذلك. والاحتساب: طلب الأجر من الله تعالى خالصًا. ¬

_ (¬1) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصبر على المصيبة، برقم 1598، وصححه الألباني، في صحيح ابن ماجه، 1/ 267، وأصله في صحيح مسلم. (¬2) الترمذي، برقم 1021، ويأتي تخريجه. (¬3) برد الأكباد عند فقد الأولاد للحافظ محمد بن عبد الله بن ناصر الدين، ص17. (¬4) البخاري، كتاب الرقاق، باب العمل الذي يبتغى به وجه الله، برقم 6424.

12 - أشد الناس بلاء: الأنبياء

ووجه الدلالة من هذا الحديث ((أن الصفيَّ أعمّ من أن يكون ولدًا أم غيره، وقد أفرد ورتّب الثواب بالجنة لمن مات له فاحتسبه)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((صفيه: حبيبه: كولده، أو أبيه، أو أمه، أو زوجته)) (¬2). 12 - أشدّ الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ لحديث مصعب بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل: يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقةً ابتُلِيَ على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) (¬3). أكثر وأصعب بلاء: أي محنة ومصيبة؛ لأنهم لو لم يُبتلوا لتُوهِّم فيهم الألوهية؛ وليتوهن على الأمة الصبر على البلية؛ ولأن من كان أشد بلاء كان أشد تضرُّعًا، والتجاءً إلى الله تعالى ((ثم الأمثل فالأمثل)) أي الفضلاء، والأشرف فالأشرف، والأعلى فالأعلى رتبة ومنزلة، فكل من كان أقرب إلى الله يكون بلاؤه أشد؛ ليكون ثوابه أكثر ((فإن كان في دينه صلبًا)) أي قويًا شديدًا ((اشتد بلاؤه)) أي كميَّة وكيفيَّة ((فما يبرح البلاء)) ¬

_ (¬1) فتح الباري، لابن حجر، 11/ 242 - 243. (¬2) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 6424، وذلك في فجر الأحد الموافق 14/ 10/ 1419هـ في الجامع الكبير بالرياض. (¬3) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم 2398، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم 4023، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 565، وفي صحيح ابن ماجه، 2/ 371، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 143.

13 - من كان بلاؤه أكثر فثوابه وجزاؤه أعظم وأكمل

أي ما يفارق (¬1). ومما يزيد ذلك وضوحًا وتفسيرًا، حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلِّغه إياها)) (¬2). 13 - من كان بلاؤه أكثر فثوابه وجزاؤه أعظم وأكمل؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) (¬3). والمقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه لا الترغيب في طلبه للنهي عنه، فمن رضي بما ابتلاه الله به فله الرضى منه تعالى وجزيل الثواب، ومن سَخِطَ: أي كره بلاء الله وفزع ولم يرض بقضائه تعالى، فله السخط منه تعالى وأليم العذاب، ومن يعمل سوءًا يُجز به (¬4). ولا شك أن الصبر ضياء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والصبر ضياء)) (¬5). والضياء: هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق كضياء الشمس، بخلاف القمر، فإنه نور محض فيه إشراق بغير إحراق، ولَمّا ¬

_ (¬1) تحفة الأحوذي للمباركفوري، 7/ 78 - 79. (¬2) أبو يعلى، وابن حبان، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1599. (¬3) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم 2396، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم 4031،وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي،2/ 564، وفي صحيح ابن ماجه، 2/ 373، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 146. (¬4) تحفة الأحوذي للمباركفوري، 7/ 77. (¬5) مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم 223.

14 - ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة حتى يلقى الله

كان الصبر شاقًّا على النفوس يحتاج إلى مجاهدة النفس، وحبسها، وكفّها عما تهواه، كان ضياءً (¬1)؛ ولهذا - والله أعلم - يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب، بفضل الله - عز وجل -. 14 - ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة حتى يلقى الله وما عليه خطيئة؛ لأنها زالت بسبب البلاء (¬2)؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة: في نفسه، وماله، وولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) (¬3). 15 - فضل من يموت له ولد فيحتسبه، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث (¬4) إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم)) (¬5). والولد يشمل الذكر والأنثى. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تعدُّون الرّقوب (¬6) فيكم))؟ قال: قلنا: الذي لا يُولد له. قال: ((ليس ذاك ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 2/ 24، 25. (¬2) تحفة الأحوذي للمباركفوري، 7/ 80. (¬3) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، برقم 2399، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 565، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 2280. (¬4) لم يبلغوا الحنث: أي لم يبلغوا سن التكليف الذي يكتب فيه الحنث وهو الإثم. شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 420. (¬5) البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المسلمين، برقم 1381. (¬6) أصل الرقوب في كلام العرب الذي لا يعيش له ولد.

16 - من مات له ثلاثة من الولد

بالرّقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدِّم من ولده شيئًا)) (¬1). 16 - من مات له ثلاثة من الولد كانوا له حجابًا من النار؛ ودخل الجنة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجابًا من النار أو دخل الجنة)) (¬2). وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة مات لها ثلاثة من الولد: ((لقد احتظرت بحظار شديد (¬3) من النار)) (¬4)؛ ولحديث عتبة بن عبدٍ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث إلا تلقَّوْه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل)) (¬5). 17 - من قدّم اثنين من أولاده دخل الجنة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنسوة من الأنصار: ((لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة))، فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: ((أو اثنين)) (¬6)، قال النووي رحمه الله: وقد جاء في غير مسلم ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، برقم 2608. (¬2) البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المسلمين، قبل الحديث رقم 1381، تكلم الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 3/ 245 عن وصله، وقال: ((قوله: كان له)) كذا للأكثر: أي كان قولهم له حجاباً، وللكشميهني: ((كانوا)) أي الأولاد. (¬3) احتظرت: أي امتنعت بمانع وثيق، والحظار ما يجعل حول البستان وغيره من قضبان وغيرها كالحائط، شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 420 - 421. (¬4) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، برقم 2636. (¬5) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب في ثواب من أصيب بولده برقم 1603، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 46. (¬6) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، برقم 151 (2632).

18 - من مات له واحد من أولاده فاحتسبه وصبر دخل الجنة

((وواحد)) (¬1). وعن أبي صالح ذكوان عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يومًا نأتيك فيه تُعلّمنا مما علّمك الله، قال: ((اجتمعن يوم كذا وكذا))، فاجتمعن فأتاهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلمهن مما علمه الله قال: ((ما منكن من امرأة تقدّم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كانوا لها حجابًا من النار))، فقالت امرأة: واثنين، واثنين، واثنين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((واثنين، واثنين، واثنين)) (¬2). 18 - من مات له واحد من أولاده فاحتسبه وصبر دخل الجنة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفّيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (¬3). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وهذا يدخل فيه الواحد فما فوقه وهو أصحّ ما ورد في ذلك، وقوله: ((فاحتسب)) أي صبر راضيًا بقضاء الله راجيًا فضله)) (¬4)، وذكر ابن حجر رحمه الله أنه يدخل في ذلك ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 420، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري 3/ 119 جميع الأحاديث التي فيها زيادة واحد وتكلم عليها كلامًا نفيسًا، ثم أشار إلى أن الذي يستدل به على ذلك حديث: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة))، قال: وهذا يدخل فيه الواحد، فتح الباري، 3/ 119، و11/ 243. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب فضل من مات له ولد فاحتسبه، برقم 101، و1249، و7310، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، برقم 2633. (¬3) البخاري، كتاب الرقاق، باب العمل الذي يُبتغى به وجه الله، برقم 6424. (¬4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 3/ 119، ولابن حجر كلام يؤيد هذا في شرحه للحديث رقم 6424، في فتح الباري، 11/ 243.

19 - من مات له ولد فاحتسبه وجده ينتظره عند باب الجنة

حديث قرة بن إياس، وسيأتي في الحديث الآتي (¬1). وسيأتي أيضًا حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - الذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسمّوه بيت الحمد))، فهو يدلّ على أن من مات له ولد واحد دخل الجنة (¬2). 19 - من مات له ولد فاحتسبه وجده ينتظره عند باب الجنة، بفضل الله - عز وجل - ورحمته؛ لحديث قرّة بن إياس - رضي الله عنه - أن رجلاً كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابن له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتحبه))؟ فقال: يا رسول الله أحبك الله كما أحبه، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((ما فعل ابن فلان))؟ قالوا: يا رسول الله مات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيه: ((أما تحبّ أن لا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟)) فقال رجل: يا رسول الله: أله خاصة أو لكُلِّنا؟ فقال: ((بل لِكُلِّكم))، ولفظ النسائي: ((ما يسرّك أن لا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك؟)) (¬3). 20 - المؤمن إذا مات ولده سواء كان ذكرًا أو أنثى وصبر واحتسب وحمد الله على تدبيره وقضائه بنى الله له بيتًا في الجنة وسماه بيت الحمد؛ لحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مات ولد ¬

_ (¬1) فتح الباري، 11/ 243. (¬2) الترمذي، برقم 1021، وسيأتي. (¬3) النسائي، كتاب الجنائز، باب الأمر باحتساب الأجر، برقم 1871، رقم الباب 22، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 11/ 243: ((أخرجه أحمد، والنسائي، وسنده على شرط الصحيح، وقد صححه ابن حبان، والحاكم))، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 2/ 404.

21 - السقط يجر أمه بسره إلى الجنة

العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسمّوه بيت الحمد)) (¬1). وعن أبي سلمى راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعه: ((بخٍ بخٍ - وأشار بيده لخمس - ما أثقلهن في الميزان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولد الصالح يُتوَفَّى للمرء المسلم فيحتسبه)) (¬2). 21 - السِّقط يجرّ أمّه بِسُرِّهِ إلى الجنة؛ لحديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: ((والذي نفسي بيده إن السقط ليجرُّ أُمَّهُ بسَرَرِه إلى الجنة إذا احتسبته)) (¬3). 22 - ومما يشرح صدر المسلم ويبرِّد حرَّ مصيبته أن أولاد المسلمين في الجنة، قال الإمام النووي رحمه الله بعد أن ساق الأحاديث في فضل من يموت له ولد فيحتسبه: ((وفي هذه الأحاديث دليل على كون أطفال المسلمين في الجنة، وقد نقل جماعة فيهم إجماع المسلمين))، ونقل عن المازري قوله: ((ونقل جماعة الإجماع في كونهم من أهل الجنة قطعًا؛ لقوله ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب الجنائز، باب فضل المصيبة إذا احتسب، برقم، 1021، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 520، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1408. (¬2) أخرجه ابن سعد في الطبقات، 7/ 433،وابن حبان، برقم 2328،والحاكم،1/ 511 - 512، وقال: ((صحيح الإسناد))،ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الأحاديث الصحيحة، برقم 1204. (¬3) ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن أصيب بسقط، برقم 1609، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 46.

23 - من تصبر ودرب نفسه على الصبر صبره الله وأعانه وسدده

تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (¬1) (¬2). ويدل عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أولاد المسلمين في الجنة، ((وأن أحدهم يلقى أباه فيأخذ بثوبه أو بيده فلا يتركه حتى يدخله الله وأباه، أو قال: أبويه الجنة)) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((أجمع المسلمون على أن أولاد المسلمين في الجنة، أما أولاد الكفار ففيهم خلاف، وأصح ماقيل فيهم أنهم يُمتحنون يوم القيامة، أو هم من أهل الجنة بدون امتحان، وهو أصحّ)) (¬4). وهو الصواب (¬5)؛ لحديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - في الحديث الطويل وفيه: ((وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة))، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله: وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأولاد المشركين)) (¬6). 23 - من تصبّر ودرَّب نفسه على الصبر صبَّره الله وأعانه وسدّده؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: ((ومن يستعفف يُعفّه ¬

_ (¬1) سورة الطور، الآية: 21. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 421. (¬3) مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يموت له ولد، فيحتسبه، برقم 2635. (¬4) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 1381، و1382. (¬5) انظر: فتح الباري لابن حجر، 3/ 246. (¬6) البخاري، كتاب التعبير، باب الرؤيا بعد صلاة الصبح، برقم 7047.

24 - من أراد الله به خيرا أصابه بالمصائب

الله، ومن يستغنِ يُغْنِهِ الله، ومن يتصبَّر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر)) (¬1). 24 - من أراد الله به خيرًا أصابه بالمصائب؛ ليثيبه عليها (¬2)؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يُرد الله به خيرًا يُصب منه)) (¬3).وسمعت شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((أي بالمصائب بأنواعها، وحتى يتذكّر فيتوب، ويرجع إلى ربه)) (¬4). 25 - أمر المؤمن كله خير في السرّاء والضرّاء، وفي الشدّة والرّخاء؛ لحديث صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له)) (¬5). 26 - المصيبة تحطّ الخطايا حطًّا كما تحطّ الشجرة ورقها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه حتى الشوكة يُشاكها)) (¬6). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، برقم 1469، وكتاب الرقاق، باب الصبر عن محارم الله، برقم 6470، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، برقم 1053. (¬2) فتح الباري لابن حجر، 10/ 108. (¬3) البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، برقم 5645. (¬4) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 5645. (¬5) مسلم، كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير، برقم 2999. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، برقم 5640، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 49 (2572).

27 - يجتهد المسلم في استكمال شروط الصبر

وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من مسلم يُصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطَّ الله به سيئاته كما تحطُّ الشجرة ورقها)) (¬1). وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما يُصيب المؤمن من نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمّ حتى الشوكةُ يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه)) (¬2)، وفي لفظ: ((ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ (¬3)، ولا نَصَبٍ (¬4)، ولا سَقَم ... )). 27 - يجتهد المسلم في استكمال شروط الصبر التي إذا عمل بها المصاب المسلم حصل على الثواب العظيم، والأجر الجزيل، وتتلخص هذه الشروط في ثلاثة أمور: الشرط الأول: الإخلاص لله - عز وجل - في الصبر؛ لقول الله - عز وجل -: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}، ولقوله - عز وجل - في صفات أصحاب العقول السليمة: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (¬5)، وهذا هو الإخلاص في الصبر المبرّأ من شوائب الرياء وحظوظ النفس. الشرط الثاني: عدم شكوى الله تعالى إلى العباد؛ لأن ذلك ينافي الصبر ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 2571. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، برقم 5641، 5642، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، برقم 2573. (¬3) الوصب: المرض. (¬4) النصب: التعب. (¬5) سورة الرعد، الآية: 22.

الشرط الثالث: أن يكون الصبر في أوانه

ويخرجه إلى السخط والجزع؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي المؤمن ولم يشكني إلى عوّاده أطلقته من إساري، ثم أبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ثم يستأنف العمل)) (¬1). ولله دَرُّ الشاعر الحكيم حيث قال: وإذا عرتك بليّةٌ فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أعلمُ وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم (¬2) الشرط الثالث: أن يكون الصبر في أوانه، ولا يكون بعد انتهاء زمانه؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر فقال: ((اتّقِ الله واصبري)) [فقالت]: إليك عنِّي فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي، فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (¬3). أي الصبر الكامل الذي يترتّب عليه الأجر الجزيل؛ لكثرة المشقة فيه، وأصل الصدم الضرب في شيء صلب، ثم استعمل مجازًا في كل مكروه حصل بغتة (¬4). ¬

_ (¬1) الحاكم في المستدرك، 1/ 349 وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي. (¬2) الفوائد لابن القيم، ص165، وانظر: الصبر الجميل، لسليم الهلالي، ص28. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، برقم 1283، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى، برقم 15 (926). (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 481.

28 - أمور لا تنافي الصبر

28 - أمور لا تنافي الصبر ولا بأس بها، منها ما يأتي: الأمر الأول: الشكوى إلى الله تعالى؛ فالتضرّع إليه، ودعاؤه في أوقات الشدّة عبادة عظيمة، فإن الله أخبر عن يعقوب بقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (¬1). وقال تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬2). وقال تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬3). وأيوب عليه الصلاة والسلام أخبر الله عنه بقوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬4). وقال الله تعالى عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (¬5)، فإذا أصاب العبدَ مصيبةٌ فأنزلها بالله، وطلب كشفها منه فلا ينافي الصبر (¬6). الأمر الثاني: الحزن ودمع العين؛ فإن ذلك قد حصل لأكمل الخلق نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف القين (¬7) - وكان ظئرًا (¬8) لإبراهيم - عليه السلام - فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 18. (¬2) سورة يوسف، الآية: 83. (¬3) سورة يوسف، الآية: 86. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 83. (¬5) سورة ص، الآية: 44. (¬6) انظر: الصبر الجميل، لسليم الهلالي، ص84. (¬7) القين: الحداد، ويطلق على كل صانع، يقال: قان الشيء: إذا أصلحه. فتح الباري لابن حجر، 3/ 173. (¬8) ظئرًا: مرضعًا، وأطلق عليه ذلك لأنه كان زوج المرضعة، وأصل الظئر: من ظأرت الناقة إذا عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي ترضع غير ولدها، وأطلق ذلك على زوجها؛ لأنه يشاركها في تربيته غالبًا. وإبراهيم: ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتح الباري لابن حجر، 3/ 173.

إبراهيم فقبَّله وشمَّهُ، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه (¬1)، فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان (¬2)، فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: وأنت يا رسول الله (¬3)؟ فقال: ((يا ابن عوف إنها رحمة)) ثم أتبعها بأخرى (¬4) فقال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) (¬5). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه: فقلت يا رسول الله تبكي أَوَلَمْ تَنْهَ عن البكاء؟ وزاد فيه: ((إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهوٍ ولعبٍ ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه، وشق جيوب، ورنّة شيطان)). قال: ((إنما هذا رحمة، ومن لا يَرحم لا يُرحم)) (¬6). ¬

_ (¬1) يجود بنفسه: أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ماله. فتح الباري لابن حجر، 3/ 174. (¬2) تذرفان: يجري دمعهما. فتح الباري لابن حجر، 3/ 174. (¬3) وأنت يا رسول الله: أي الناس لا يصبرون على المصيبة وأنت تفعل كفعلهم، كأنه تعجب لذلك منه مع عهده منه أنه يحث على الصبر وينهى عن الجزع، فأجابه بقوله: ((إنها رحمة)):أي الحالة التي شاهدتها مني هي رقة القلب على الولد، لا ما توهمت من الجزع)) فتح الباري لابن حجر، 3/ 174. (¬4) ثم أتبعها بأخرى: قيل: أتبع الدمعة بدمعة أخرى، وقيل: أتبع الكلمة الأولى المجملة وهي قوله: ((إنها رحمة)) بكلمة أخرى مفصلة وهي قوله: ((إن العين تدمع))،فتح الباري لابن حجر،3/ 174. (¬5) متفق عليه، البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنا بك لمحزونون))، برقم 1303، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، برقم 2315. (¬6) فتح الباري لابن حجر، 3/ 174.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((هذا الحديث يفسر البكاء المباح، والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى، وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمّه، ومشروعية الرضاع، وعيادة الصغير، والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال، وجواز الإخبار عن الحزن، وإن كان الكتمان أولى، وفيه وقوع الخطاب للغير، وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولده مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب لوجهين: أحدهما: صغره، والثاني نزاعه. وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق، وفيه جواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله؛ ليظهر الفرق)) (¬1). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي [- صلى الله عليه وسلم -] يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، - رضي الله عنهم -، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله (¬2) فقال: ((قد قضى))؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا، فقال: ((ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذِّبُ بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذِّب بهذا (¬3) - وأشار إلى لسانه - أو يرحم (¬4)، وإن الميت يعذَّب ببكاء أهله عليه)) (¬5)، وكان عمر - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) فتح الباري، لابن حجر، 3/ 174. (¬2) في غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها. فتح الباري لابن حجر، 3/ 175. (¬3) ولكن يعذب بهذا: أي إن قال سوءًا. فتح الباري لابن حجر، 3/ 175. (¬4) أو يرحم: أي إن قال خيرًا. فتح الباري لابن حجر، 3/ 175. (¬5) يعذب ببكاء أهله عليه: البكاء المحرم على الميت هو النوح، والندب بما ليس فيه، والبكاء المقرون بهما أو بأحدهما، شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 480. وانظر: فتح الباري لابن حجر، 3/ 153 - 160 وشرح النووي، 6/ 482 - 486.

يضرب فيه بالعصا، ويرمي بالحجارة، ويحثي بالتراب)) (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه ولم يعترضه بمثل ما اعترض به هناك، فدل على أنه تقرّر عنده العلم بأن مجرّد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر)) (¬2). وفي حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - في قصةٍ لصبي لإحدى بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرسول ابنته: ((ارجع إليها فأخبرها: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب))، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقسمت عليه أن يحضر، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأسامة معهم، وحينما رُفع الصبي للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في النزع، فاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه: كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، برقم 1304، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم 924. (¬2) فتح الباري لابن حجر، 3/ 175. (¬3) متفق عليه، البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه))، برقم 1284، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم 923.

29 - الأمور التي تعين على الصبر على المصيبة بفقد الأحباب كثيرة منها ما يأتي:

وقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((شهدنا بنتًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان)) (¬1). 29 - الأمور التي تعين على الصبر على المصيبة بفقد الأحباب كثيرة منها ما يأتي: الأمر الأول: معرفة جزاء المصيبة وثوابها وهذا من أعظم العلاج الذي يُبَرِّد حرارة المصيبة، وتقدمت الأدلة على ذلك. الأمر الثاني: العلم بتكفيرها للسيئات وحطّها كما تحطّ الشجرة ورقها (¬2). الأمر الثالث: الإيمان بالقدر السابق بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب كما تقدم. الأمر الرابع: معرفة حق الله في تلك البلوى، فعليه الصبر والرضا، والحمد والاسترجاع والاحتساب. الأمر الخامس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، فإن لم يوفِ قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدي الحق. الأمر السادس: العلم بترتّبها عليه بذنبه، فإن لم يكن له ذنب كالأنبياء والرسل فلرفع درجاته. الأمر السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة دواء نافع ساقه إليه العليم بمصلحته، الرحيم به، فليصبر ولا يسخط ولا يشكو إلى غير الله فيذهب ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه))،برقم 1285. (¬2) تقدمت الأدلة على ذلك في الفقرة رقم 25.

الأمر الثامن: أن يعلم أن عاقبة هذا الدواء: من الشفاء والعافية والصحة وزوال الآلام ما لم تحصل بدونه

نفعه باطلاً. الأمر الثامن: أن يعلم أن عاقبة هذا الدواء: من الشفاء والعافية والصحة وزوال الآلام ما لم تحصل بدونه، قال الله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1). وقال - عز وجل -: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬2). الأمر التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبيّن حينئذٍ: هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. الأمر العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السرّاء والضرّاء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال (¬3). الأمر الحادي عشر: معرفة طبيعة الحياة الدنيا على حقيقتها؛ فهي ليست جنة نعيم ولا دار مقام، إنما ممرّ ابتلاء وتكليف؛ لذلك فالكيِّس الفطن لا يفجأ بكوارثها، ولله دَرُّ القائل: إن لله عبادًا فُطَنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 216. (¬2) سورة النساء، الآية: 19. (¬3) طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم، ص448 - 459، وانظر: زاد المعاد، 4/ 188 - 196، وعدة الصابرين لابن القيم، ص76 - 86.

الأمر الثاني عشر: معرفة الإنسان نفسه

نظروا فيها فلمّا علموا ... أنها ليست لحيٍّ وطنا جعلوها لُجَّةً واتخذوا ... صالحَ الأعمال فيها سفنا فالحياة الدنيا لا تستقيم على حال، ولا يقر لها قرار، فيوم لك، ويوم آخر عليك، قال الله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَالله لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬1). وقد أحسن أبو البقاء الرندي القائل: لكل شيء إذا ما تمَّ نُقصان ... فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسان هي الأيام كما شاهدتَها دول ... فمن سرَّه زمنٌ ساءته أزمان (¬2) الأمر الثاني عشر: معرفة الإنسان نفسه؛ فإن الله هو الذي منح الإنسان الحياة فخلقه من عدم إلى وجود، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فهو ملك لله أولاً وآخرًا، وصدق لبيد بن ربيعة - رضي الله عنه - القائل: وما المال والأهلون إلا ودائعُ ... ولا بُدَّ يومًا أن ترد الودائع الأمر الثالث عشر: اليقين بالفرج، فنصر الله قريب من المحسنين، وبعد الضيق سعة، ومع العسر يسرًا؛ لأن الله وعد بهذا، ولا يخلف الميعاد، وقال سبحانه: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 140. (¬2) هكذا نُقل عند البعض، ولكن للإمام البستي في نونيته نحو هذا قال رحمه الله: لا تحسبن سرورًا دائمًا أبدًا ... من سره زمنٌ ساءته أزمانُ انظر: الجامع للمتون العلمية، للشيخ عبد الله بن محمد الشمراني، ص 625. (¬3) سورة هود، الآية: 49.

الأمر الرابع عشر: الاستعانة بالله

وقد أحسن القائل: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعًا وعند الله منها المخرجُ ضاقت فلما استحكمت ... حلقاتها فُرجت وكنت أظنها لا تفرجُ وقد وعد الله - عز وجل - بحسن العوض عما فات؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي الله مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬1). ولله دَرُّ القائل: وكل كسرٍ فإن الله يجبرُه ... وما لكسرِ قناةِ الدين جبرانُ (¬2) الأمر الرابع عشر: الاستعانة بالله، فما على العبد إلا أن يستعين بربه أن يعينه، ويجبر مصيبته، قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3)، ومن كانت معية الله معه فهو حقيق أن يتحمل ويصبر على الأذى. الأمر الخامس عشر: التأسّي بأهل الصبر والعزائم، فالتأمل في سير ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآيتان: 41 - 42. (¬2) هكذا سمعته من الشيخ محمد بن حسن الدريعي، يقول: إنه كتبه له بعض أصدقائه عندما انكسرت رجله، ولكن البيت في نونية علي بن محمد البستي هكذا: كل الذنوب فإن الله يغفرها ... إن شيَّع المرء إخلاص وإيمان وكل كسر فإن الدين يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبران انظر: الجامع للمتون العلمية، للشيخ عبد الله بن محمد الشمراني، ص626. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 128.

الأمر السادس عشر: استصغار المصيبة

الصابرين وما لاقوه من ألوان الابتلاء والشدائد يعين على الصبر، ويطفئ نار المصيبة ببرد التأسي، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (¬1). الأمر السادس عشر: استصغار المصيبة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس أيما أحدٍ من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدَّ عليه من مصيبتي)) (¬2). وكتب بعض العقلاء إلى أخ له يعزّيه عن ابن له يقال له: محمد، فنظم الحديث الآنف شعرًا فقال: اصبر لكل مصيبة وتجلَّدِ ... واعلم بأن المرء غير مخلّدِ (¬3) وإذا ذكرت محمدًا ومصابَهُ ... فاذكر مصابك بالنبي محمّد الأمر السابع عشر: العلم أن المصيبة في غير الدين أهون وأيسر عند المؤمن، ولله دَرُّ القائل: وكل كسرٍ فإن الله يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبران وذكر أن امرأة من العرب مرت بابنين لها وقد قتلوا، فقالت: الحمد لله رب العالمين، ثم قالت: ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، الآية: 35. (¬2) ابن ماجه، واللفظ له، في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصبر على المصيبة، برقم 1599، والدارمي، 1/ 40، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1106. (¬3) انظر: مقومات الداعية الناجح، للمؤلف، ص260 - 279.

الأمر الثامن عشر: العلم بأن الدنيا فانية وزائلة

وكل بلوى تصيب المرء عافية ... ما يُصَبْ يومًا يلقى الله في النار (¬1) الأمر الثامن عشر: العلم بأن الدنيا فانية وزائلة، وكل ما فيها يتغير ويزول؛ لأنها إلى الآخرة طريق، وهي مزرعة للآخرة على التحقيق، وقد دلّ على ذلك الكتاب والسنة: أما الأدلة من الكتاب، فعلى النحو الآتي: 1 - قال الله تعالى: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2). 2 - وقال الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3). 3 - وقال - عز وجل -: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ الله ¬

_ (¬1) برد الأكبار عند فقد الأولاد؛ لابن ناصر الدين، ص61. (¬2) سورة الزخرف، الآيات: 33 - 35. (¬3) سورة يونس، الآية: 24.

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} (¬1). 4 - وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} (¬2). 5 - وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3). 6 - وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬4). 7 - وقال الله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬5). 8 - وقال سبحانه: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (¬6). 9 - وقال الله - عز وجل -: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬7). 10 - وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 45. (¬2) سورة القصص، الآية: 60. (¬3) سورة القصص، الآية: 83. (¬4) سورة القصص، الآية: 88. (¬5) سورة الشورى، الآية: 36. (¬6) سورة الأنعام، الآية: 32. (¬7) سورة العنكبوت، الآية: 64.

ـ الأدلة من السنة المطهرة

بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬1). 11 - وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬2). 12 - وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (¬3). وأما الأدلة من السنة المطهرة، فقد زهَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - النَّاس في الدنيا، ورغَّبهم في الآخرة، بفعله وقوله - صلى الله عليه وسلم -، على النحو الآتي. 1 - أما فعله فمنه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يشبع من خبز الشعير)) (¬4). 2 - وقالت: ((ما أكل آل محمد أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر)) (¬5). 3 - وقالت: ((إنا كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار، فقال عروة: ما كان يقيتكم؟ قالت: ¬

_ (¬1) سورة الحديد، الآية: 20. (¬2) سورة الرحمن، الآيتان: 36 - 37. (¬3) سورة غافر، الآية: 39. (¬4) البخاري، كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يأكلون، برقم 5414. (¬5) البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وتخليهم عن الدنيا، برقم 6455.

الأسودان: التمر والماء)) (¬1). 4 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كان لي مثل أُحد ذهبًا ما يسرني أن لا يمر عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيء إلا شيء أرصُدُهُ لدَيْن)) (¬2). 5 - وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه اضطجع على حصير فأثَّر في جنبه، فدخل عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ولما استيقظ جعل يمسح جنبه فقال: يا رسول الله لو أخذت فراشًا أوثر من هذا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكبٍ سار في يومٍ صائفٍ فاستظلّ تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها)) (¬3). 6 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض)) (¬4). والمقصود أنهم لم يشبعوا ثلاثة أيام متوالية، والظاهر أن سبب عدم شبعهم غالبًا كان بسبب قلة الشيء عندهم، على أنهم قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم (¬5). 7 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أدَم ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وتخليهم عن الدنيا، برقم 6459. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الاستقراض وأداء الديون، والحجر والتفليس، باب أداء الديون، برقم 2389، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة، برقم 991. (¬3) أحمد في المسند، 1/ 301 بلفظه، والترمذي بنحوه، في كتاب الزهد، باب 44، برقم 1377، وقال: ((حديث حسن صحيح))، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، برقم 4109، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 280، وصحيح ابن ماجه، 2/ 394. (¬4) البخاري، كتاب الأطعمة، باب قول الله تعالى: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية، برقم 5374. (¬5) انظر: فتح الباري لابن حجر، 9/ 517، 549.

وحشوُهُ ليف)) (¬1). 8 - ومع هذا كان يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا)) (¬2). 9 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أفلح من أسلم، ورُزِق كفافًا، وقنَّعَهُ الله بما آتاه)) (¬3). وأما قوله في التزهيد في الدنيا والتحذير من الاغترار بها، فكثير، ومنه: 10 - حديث مطرف عن أبيه - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: ((يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك يا ابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت)) (¬4). 11 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، [و] ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه الناس)) (¬5). 12 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة لأصحابه: ((أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله))؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحدٌ إلا ماله أحب إليه. قال: ((فإن ماله ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر)) (¬6). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، برقم 6456. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، برقم 6460، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الكفاف والقناعة، واللفظ له، برقم 1055. (¬3) مسلم، كتاب الزكاة، باب الكفاف والقناعة، برقم 1054. (¬4) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم 2958. (¬5) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم 2959. (¬6) البخاري، كتاب الرقاق، باب ما قدم من ماله فهو له، برقم 6442.

13 - ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - السوق يومًا فمرَّ بجدي صغير الأذنين ميت، فأخذه بأذنه ثم قال: ((أيكم يحب أن هذا له بدرهم))؟ قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: ((أتحبون أنه لكم))؟ قالوا: والله لو كان حيًّا كان عيبًا فيه؛ لأنه أسكٌّ (¬1)، فكيف وهو ميت؟ فقال: ((فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) (¬2). 14 - وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)) (¬3). والدنيا مذمومة إذا لم تستخدم في طاعة الله - عز وجل -: 15 - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ألا إن الدنيا ملعونةٌ، ملعون ما فيها إلا ذكرُ الله، وما والاهُ، وعالمٌ، أو متعلم)) (¬4)، وهذا يؤكد أن الدنيا مذمومة، مبغوضة من الله وما فيها، مبعدة من رحمة الله إلا ما كان طاعة لله - عز وجل -؛ ولهوانها على الله - عز وجل - لم يبلِّغ رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيها وهو أحب الخلق إليه. 16 - فقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير (¬5). ¬

_ (¬1) الأسك: مصطلم الأذنين مقطوعهما. (¬2) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم 2957. (¬3) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، برقم 4110، والترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله - عز وجل -، وقال: ((هذا حديث صحيح))، برقم 2320، وابن المبارك في الزهد والرقائق، عن رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 470، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 943، وفي صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3240. (¬4) الترمذي، بلفظه، كتاب الزهد، بابٌ: حدثنا محمد بن حاتم، برقم 2322،وحسنه، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، برقم 4112،وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3244. (¬5) انظر: البخاري، كتاب البيوع، باب شراء الطعام إلى أجل، برقم 2200، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الرهن وجوازه في الحضر والسفر، برقم 1603.

وقوله: ((وما والاه)) أي ما يحبه الله من أعمال البر، وأفعال القُرَب، وهذا يحتوي على جميع الخيرات، والفاضلات، ومستحسنات الشرع، وقوله: ((وعالم أو متعلم)) العالم والمتعلم: العلماء بالله، الجامعون بين العلم والعمل، فيخرج منه الجهلاء، والعالم الذي لم يعمل بعلمه، ومن يعلم علم الفضول، وما لا يتعلق بالدين. والرفع في ((عالم أو متعلم)) على التأويل: كأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يحمدُ مما فيها ((إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم)) (¬1)،فإذا رأى العاقل من ينافسه في الدنيا فعليه أن ينصحه ويحذّره وينافسه في الآخرة (¬2). 17 - وفي قصة أبي عبيدة - رضي الله عنه - عندما قدم بمال من البحرين فجاءت الأنصار وحضروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، فلمَّا صلى بهم الفجر، تعرَّضوا له، فتبسَّم حين رآهم وقال: ((أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء))؟ قالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبشروا، وأمِّلوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم))، وفي رواية: ((وتلهيكم كما ألهتهم)) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 10/ 3284 - 3285، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا علي القاري، 9/ 31، وتحفة الأحوذي للمباركفوري، 6/ 613. (¬2) فقه الدعوة للمؤلف، 2/ 1007. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، برقم 3158، 4015، 6425، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم 2961.

18 - وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض))، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: ((زهرة الدنيا))، ثم قال: ((إن هذا المال خَضِرَة حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع [ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة])) (¬1). 19 - وقال خَبَّابٌ - رضي الله عنه -: ((إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب)) (¬2). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((أي الذي يوضع في البنيان وهو محمول على ما زاد على الحاجة)) (¬3). وذكر رحمه الله آثارًا كثيرة في ذمّ البنيان ثم قال: ((وهذا كله محمول على ما لا تمسُّ الحاجة إليه مما لا بدَّ منه للتوطّن، وما يقي البرد والحرّ)) (¬4). والمسلم إذا لم يجعل الدنيا أكبر همه وفقه الله وأعانه. 20 - فعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ قلبك غنىً، وأملأ يديك رزقًا، ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، برقم 6427، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، برقم 1052، وما بين المعقوفين من رواية مسلم. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، برقم 5672، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به، برقم 2681. (¬3) فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، 10/ 129. (¬4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 11/ 93، و10/ 129.

يا ابن آدم لا تباعد عني فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً)) (¬1). 21 - وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً، وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسدَّ فقرك)) (¬2). قال ذلك عندما تلا: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} (¬3). ولا شك أن كل عمل صالح يُبتغى به وجه الله فهو عبادة، بل وحتى الأعمال المباحة. 22 - وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)) (¬4). 23 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي ¬

_ (¬1) الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 4/ 326، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: ((وهو كما قالا))، وصححه في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3165. (¬2) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حدثنا قتيبة، برقم 2466، وحسنه، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، برقم 4108، وأحمد، 2/ 358، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 2/ 443، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3166، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 346، وفي صحيح الترمذي، 2/ 593. (¬3) سورة الشورى، الآية: 20. (¬4) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، برقم 4105، وصحح الألباني إسناده في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 950، وصحيح الجامع، 5/ 351.

الأمر التاسع عشر: العلم بأن الله تعالى يجمع بين المؤمن وذريته، ووالديه وأهله، ومن يحب في الجنة

راغمة، ومن كانت الدنيا همّه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)) (¬1). 24 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أحب دنياه أضرَّ بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)) (¬2). 25 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنه لَمّا حضرته الوفاة قال: يا معشر الأشعريين ليُبلِّغ الشاهد الغائب، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((حلاوة الدنيا مرةُ الآخرة، ومرةُ الدنيا حلاوة الآخرة)) (¬3). الأمر التاسع عشر: العلم بأن الله تعالى يجمع بين المؤمن وذريته، ووالديه وأهله، ومن يحب في الجنة، وهذا الاجتماع الذي لا فراق بعده لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (¬4)، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((يخبر تعالى عن فضله وكرمه، وامتنانه، ولطفه بخلقه، وإحسانه: أن المؤمنين إذا اتّبعتهم ذرّيتهم في الإيمان يُلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا سويد، برقم 2465، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 593، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 949 - 950. (¬2) أحمد، 4/ 412، وابن حبان، برقم 709، والحاكم، 4/ 319، قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، برقم 4744: ((رواه أحمد ورواته ثقات)). وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب على الحديث رقم 3247: ((صحيح لغيره))، وذكر له شاهدًا في الأحاديث الصحيحة، برقم 3287. (¬3) الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي،4/ 310،وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3248. (¬4) سورة الطور، الآية: 21.

يبلغوا عملهم؛ لتقرَّ أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذلك)) (¬1). وهذا فضله تعالى على الأولاد ببركة عمل الآباء، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأولاد فثبت في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رَبّ أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك)) (¬2). قال العلامة السعدي رحمه الله: ((وهذا من تمام نعيم أهل الجنة أن أَلحق الله بهم ذريتهم الذين اتّبعوهم بإيمان: أي الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم فصارت الذرية تبعًا لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم، فهؤلاء المذكورون يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة، وإن لم يبلغوها، جزاء لآبائهم، وزيادة في ثوابهم، ومع ذلك لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئًا)) (¬3). وهذا هو الفوز العظيم. نسأل الله تعالى أن يجمعنا في الفردوس الأعلى مع آبائنا، وذرّيّاتنا، وأزواجنا، وجميع أهلينا وأحبابنا في الله تعالى؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص1268، 4/ 243. (¬2) أخرجه أحمد في المسند،2/ 209،قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: ((إسناده صحيح)). (¬3) تيسير الكريم الرحمن، للعلامة السعدي، ص815، وانظر: تفسير الطبري، 22/ 467 - 470، وتفسير البغوي، 4/ 238.

ولا شك أن من فارق ذريته وأهله، وأحبابه في الآخرة فقد خسر خسرانًا مبينًا، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (¬1) أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبدًا، وسواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع أسكنوا النار، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور، وهذا هو الخسران المبين الظاهر الواضح (¬2). وقال الله - عز وجل -: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} (¬3)، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((أي ذُهِبَ بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد، وخسروا أنفسهم، وفُرِّق بينهم وبين أحبابهم، وأصحابهم، وأهاليهم، وقراباتهم فخسروهم)) (¬4). وقد ذُكِرَ أن بعض الصالحين مات له ابن فجزع عليه جزعًا شديدًا، حتى امتنع من الطعام والشراب، فبلغ ذلك الإمام محمد بن إدريس الشافعي، فكتب إليه ومما كتب إليه: إني معزِّيك لا أنِّي على ثقةٍ ... من الحياة ولكن سنة الدين ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 15. (¬2) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص1151. (¬3) سورة الشورى، الآيتان: 44 - 45. (¬4) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص1194.

فما المعزَّى بباقٍ بعد ميته ... ولا المعزِّي ولو عاشا إلى حين (¬1) والله أسأل أن يحسن الختام وأن يجعل هذا العمل نافعًا لي ولكل من بلغ إليه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ¬

_ (¬1) برد الأكباد عند فقد الأولاد، لابن ناصر الدين، ص67.

الرسالة الرابعة عشرة: الاعتصام بالكتاب والسنة: أصل السعادة في الدنيا والآخرة ونجاة من مضلات الفتن

الرسالة الرابعة عشرة: الاعتصام بالكتاب والسنة أصل السعادة في الدنيا والآخرة ونجاة من مضلات الفتن (¬1) تمهيد: هذه كلمات يسيرات في الحث على ((الاعتصام بالكتاب والسنة)) بيَّنت فيها بإيجاز: مفهوم الاعتصام بالكتاب والسنة، ووجوب الأخذ والتمسك بهما، وأن الله بيّن في القرآن الكريم كل شيء، وأنه أُنزل للعمل به، وأن الهداية والفلاح، والصلاح لمن اتبع الكتاب والسنة وتمسك بهما؛ وأن أعظم الوصايا النبوية وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الله - عز وجل -، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأن القرآن الكريم يأمر بالاجتماع على الحق، وينهى عن الفرقة والاختلاف، وأن الاعتصام بالكتاب والسنة نجاة من مُضلات الفتن، وأن مخالفة الكتاب والسنة أصل الخذلان، وفساد الدنيا والآخرة، والذل والهوان، وأن الاختلاف سبب الشرور والفرقة، وأن الواجب على كل مُكلَّف الاعتصام بالكتاب والسنة؛ لأن فيهما المخرج من جميع الفتن لمن تمسك بهما؛ ولأن القرآن الكريم: من اتبع الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يملّه الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرَّدِّ، ¬

_ (¬1) أصل هذا الكتاب مقال طلبته مني وكالة الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ونشرته الوكالة في جريدة الجزيرة، العدد رقم 10627، الصفحة 27، في يوم الجمعة بتاريخ 17/ 8/1422هـ.

أولا: مفهوم الاعتصام بالكتاب والسنة:

ولا تنقضي عجائبه، من عَلِمَ علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُديَ إلى صراطٍ مستقيم (¬1). ولِعظم منزلة الكتاب والسنة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) (¬2). أولاً: مفهوم الاعتصام بالكتاب والسنة: لا شك أن الاعتصام بالكتاب والسنة هو أساس وأصل النجاة في الدنيا والآخرة. والاعتصام: هو الاستمساك (¬3)، قال ابن منظور رحمه الله: ((الاعتصام: الاستمساك بالشيء)) (¬4). فالاعتصام: التمسك بالشيء، ويقال: استعصم: استمسك (¬5). قال الله - عز وجل -: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (¬6)، والاعتصام بحبل الله، قيل: الاعتصام بعهد الله، وقيل: يعني القرآن؛ لحديث أبي شريح الخزاعي - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أبشروا، أبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟)) قالوا: بلى، قال: ((إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا، ولن ¬

_ (¬1) انظر: ما روي في سنن الترمذي، برقم 2906. (¬2) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم 867. (¬3) مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، ص569. (¬4) لسان العرب، 12/ 404. (¬5) مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، ص570. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 103.

ثانيا: وجوب الأخذ بالكتاب والسنة:

تهلكوا بعده أبداً)) (¬1). وروي عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: ((كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجحفة، فخرج علينا فقال: ((أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن القرآن من عند الله؟)) قلنا: نعم، قال: ((فأبشروا، فإن هذا القرآن طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم فتمسكوا به، ولن تهلكوا بعده أبداً)) (¬2). ومن اعتصم بالقرآن الكريم فقد اعتصم بالله، قال الله – جل وعلا -: {وَمَن يَعْتَصِم بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬3)، أي يتوكل عليه ويحتمي بحماه (¬4)، والله تعالى أمر بالاعتصام بحبل الله وهو كتابه - عز وجل - في آيات كثيرة (¬5). ثانياً: وجوب الأخذ بالكتاب والسنة: أمر الله - عز وجل - بالأخذ بالكتاب العزيز، وردّ كل ما يحتاجه الناس وكل ما ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه، 1/ 329، برقم 122، وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 95، برقم 59: ((رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد))، وقال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 124: ((صحيح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وابن نصر في قيام الليل ص74 بسند صحيح)). (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير، 2/ 126، برقم 1539، وفي الصغير [مجمع البحرين، برقم 252]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 169: ((وفيه أبو عابدة الزرقي وهو متروك الحديث))، وقال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 124، برقم 39: ((صحيح لغيره)). (¬3) سورة آل عمران، الآية: 101. (¬4) تفسير السعدي، ص159. (¬5) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 19/ 76 - 83، و 9/ 5/8، و 36/ 60.

تنازعوا فيه إليه، فقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (¬1). قال الإمام ابن كثير – رحمه الله -: ((قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أمر من الله - عز وجل - بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى (¬2): {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} (¬3). والقرآن الكريم أَمَرَ بالأخذ بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والانتهاء عن كل ما نهى عنه، قال الله - عز وجل -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬4). ولا شكّ أنّ الأخذ بالكتاب والسنة من أهم الواجبات وأعظم القربات؛ لأن الأخذ بالرأي المجرّد عن الدليل الشرعي يُوصل إلى المهالك؛ ولهذا قال سهل بن حنيف - رضي الله عنه -: ((اتهموا رأيكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أردّ على رسول الله أمره لرددته، والله ورسوله أعلم)) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 59. (¬2) تفسير ابن كثير، ص338. (¬3) سورة الشورى، الآية: 10. (¬4) سورة الحشر، الآية: 7. (¬5) متفق عليه، البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب: حدثنا عبدان، برقم 3181، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، برقم 1785.

وهذا يؤكّد أن الرأي لا يعتمد عليه، وإنما المعتمد على الكتاب والسنة؛ قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (¬1). وقال - عز وجل -: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (¬2). وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (¬3). فالأصل في الحكم بين الناس يردّ حكمه إلى كتاب الله - عز وجل -، وإلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وقد ذمّ الله القول عليه بغير علم، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬5)، فقرن سبحانه القول عليه بغير علم بالشرك بالله - عز وجل -. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 59. (¬2) سورة النساء، الآية: 65. (¬3) سورة الشورى، الآية: 10. (¬4) انظر: تفسير الطبري ((جامع البيان عن تأويل آي القرآن))، 8/ 504، وتفسير ابن كثير، 1/ 519. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 33.

وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1). وهذا يؤكد أن القول على الله بغير علم من أمر الشيطان. وقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (¬2). وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن القائل على الله بغير علم من الجاهلين الضالين المضلين، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعاً، ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم، ويُبقي في الناس رؤوساً (¬3) جُهَّالاً يفتون بغير علم فيَضِلُّون ويُضِلُّون)) (¬4). والحاصل أنه لا يجوز الاعتماد على الرأي، بل يُرجع إلى الكتاب والسنة، أو إلى أحدهما، فإن لم يجد فيرجع إلى الإجماع، فإذا لم يجد الأمور الثلاثة رجع إلى أقوال الصحابة - رضي الله عنهم -، فإن وجد قولاً لأحدهم ولم يخالفه أحد من الصحابة، ولا عُرِفَ نص يخالفه، واشتهر هذا القول في زمانهم أخذ به؛ لأنه حجة عند جماهير العلماء، فإذا لم يجد قولاً يحتجّ به من أقوال الصحابة، واحتاج إلى القياس رجع إليه بدون تكلّف، بل يستعمله على ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيتان: 168 - 169. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 36. (¬3) رؤوس: جمع رأس، وفيه التحذير من اتخاذ الجهال رؤساء. شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 465. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، برقم 7307، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، 4/ 2058، برقم 2673.

أوضاعه، ولا يتعسّف في إثبات العلة الجامعة التي هي من أركان القياس، بل إذا لم تكن العلّة الجامعة واضحة، فليتمسّك بالبراءة الأصلية (¬1). وكما دل الحديث على التمسك بالكتاب والسنة دلّ على التحذير من الرأي؛ لقول سهل - رضي الله عنه -: ((اتّهموا رأيكم على دينكم))، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: ((أي لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرد الذي لا يستند إلى أصل من الدين)) (¬2)، وما أحسن ما قاله الشافعي – رحمه الله -: كلُّ العلوم سوى القرآن مشغلةٌ ... إلا الحديث وعِلمَ الفقهِ في الدين العلمُ ما كان فيه حدَّثنا ... وما سوى ذاك وسواسُ الشياطين (¬3) وقد ذمّ السلف رحمهم الله الرأي المجرد عن الدليل، فعن ابن الأشجِّ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: ((إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضَلُّوا وأَضَلُّوا)) (¬4). وعن عروة بن الزبير أنه كان يقول: ((السنن السنن؛ فإن السنن قوام الدين [أزهد الناس في العَالِم أهلُهُ])) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 20/ 14، و19/ 176، وإعلام الموقعين لابن القيم، 1/ 30، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 13/ 282. (¬2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، 13/ 288. (¬3) ديوان الشافعي، جمع محمد عفيف، ص88، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير، 10/ 254. (¬4) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/ 139، برقم 201، والدارمي في سننه، 1/ 47، برقم 121، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1041، برقم 2001، ورقم 2003، 2005. (¬5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1051، برقم 2029، 2030.

وقال الإمام أحمد – رحمه الله -: ((لا تكاد ترى أحداً نظر في هذا الرأي إلا وفي قلبه دغل)) (¬1). وقال الأوزاعي – رحمه الله -: ((إذا أراد الله - عز وجل - أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط)) (¬2). وقال الحافظ ابن عبد البر – رحمه الله – بعد أن ساق آثاراً كثيرة في ذم الرأي ما ملخصه: قال أكثر أهل العلم: إن الرأي المذموم المعيب المهجور الذي لا يحل النظر فيه، والاشتغال به: هو الرأي المبتدع، وشبهه من أنواع البدع (¬3). وقال جمهور أهل العلم: الرأي المذموم في الآثار المذكورة هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، ورد الفروع والنوازل بعضها على بعض قياساً دون ردّها على أصولها من الكتاب أو من السنة (¬4)، ثم قال: ((ومن تدبّر الآثار المرويّة في ذمّ الرأي المرفوعة وآثار الصحابة والتابعين في ذلك علم أنه ما ذكرنا)) (¬5)، فرجَّح – رحمه الله – هذا القول ثم قال: و ((ليس أحد من علماء الأمة يثبت حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يردّه، دون ادّعاء نسخ ذلك بأثر أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد، إليه أو طعن في ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عبد البر في المرجع السابق، 3/ 1054، برقم 2035. (¬2) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1073، برقم 2083. (¬3) جامع بيان العلم وفضله، 2/ 1053. (¬4) انظر: المرجع السابق، 2/ 1054. (¬5) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، 2/ 1062.

ثالثا: القرآن الكريم بين الله للناس فيه كل شيء:

سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته، فضلاً عن أن يتخذ إماماً ولزمه اسم الفسق، ولقد عافاهم الله - عز وجل - من ذلك)) (¬1)، فينبغي للعبد أن يعتصم بالكتاب والسنة ثم بالإجماع، ثم بأقوال الصحابة - رضي الله عنهم -. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل (¬2). ثالثاً: القرآن الكريم بيَّن الله للناس فيه كل شيء: فهو المرجع في كل زمان وكل مكان، وفي كل ما يحتاجه الناس في دنياهم وأخراهم، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (¬3). قال الإمام ابن كثير – رحمه الله – قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((قد بيَّن لنا في هذا القرآن كل علم، وكل شيء)) (¬4). رابعاً: القرآن العزيز أُنزل للعمل: فمن عمل به في جميع أحواله كان من السعداء العقلاء الفائزين في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (¬5)، وقد كتب الله السعادة لمن عمل بالقرآن، ومما يدل على ذلك أن نافع بن عبد الحارث لَقِيَ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعُسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق، 2/ 1080. (¬2) انظر: فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري، للمؤلف، 1/ 369، و2/ 1059 - 1062. (¬3) سورة النحل، الآية: 89. (¬4) تفسير ابن كثير، ص751. (¬5) سورة ص، الآية: 29.

خامسا: الهداية والصلاح والفلاح لمن اتبع القرآن والسنة وتمسك بذلك:

الوادي؟ فقال ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولىً من موالينا، قال: فتستخلف عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله - عز وجل -، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين)) (¬1). خامساً: الهداية والصلاح والفلاح لمن اتبع القرآن والسنة وتمسك بذلك: قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬2). وقال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} (¬3). قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه: أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية)) (¬4). وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬5). وقال - عز وجل -: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن، ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقهٍ أو غيره فعمل بها وعلَّمها، برقم 817. (¬2) سورة المائدة، الآيتان: 15 - 16. (¬3) سورة طه، الآية: 123. (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 19/ 77. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 155.

النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬1). وقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (¬2). وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (¬3). وقال - سبحانه وتعالى -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬4)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (¬5). وأما الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد أمر الله بطاعته في أربعين موضعاً (¬6)، كقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (¬7). وقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬8). ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية: 1. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 138. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 82. (¬4) سورة الشورى، الآية: 52. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 170. (¬6) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 19/ 83. (¬7) سورة النور، الآية: 54. (¬8) سورة آل عمران، الآية: 31.

سادسا: القرآن والسنة أعظم وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته:

وقال سبحانه: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: ((تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله [وسنة نبيه])) (¬2). سادساً: القرآن والسنة أعظم وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته: ففي حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما حينما سُئل: هل أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال بعد ذلك: ((أوصى بكتاب الله)) (¬3). وعندما كان في طريقه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أوصى بكتاب الله تعالى فقال: ((وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، [هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة]، فخذوا بكتاب الله وتمسّكوا به))، فحث عليه ورغب فيه، ثم قال: ((وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) ثلاث مرات، رواه مسلم (¬4). سابعاً: القرآن الكريم يأمر بالاجتماع على الحق وينهى عن الاختلاف: قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 13. (¬2) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1218، وما بين المعقوفين للحاكم في المستدرك، 1/ 93، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 21. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الوصايا، باب الوصايا، برقم 2740، ومسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، برقم 1634. (¬4) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، برقم 2408.

إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬1)، فأمر بعد الاعتصام بالكتاب بعدم التفرق. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرّق والأمر بالاجتماع والائتلاف)) (¬2). كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) (¬3). وقال الله - عز وجل -: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬4). والمعنى من سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - فصار في شق والشرع في شق عن عَمْدٍ منه بعدما ظهر له الحق، واتّبع غير سبيل المؤمنين فيما أجمعوا عليه، فإنا نجازيه على ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 103. (¬2) تفسير ابن كثير، ص255. (¬3) مسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة السؤال من غير حاجة، والنهي عن منع وهات، برقم 1715. (¬4) سورة النساء، الآية: 115. (¬5) تفسير ابن كثير، ص361.

ثامنا: الاعتصام بالقرآن والسنة نجاة من مضلات الفتن:

ثامناً: الاعتصام بالقرآن والسنة نجاة من مضلات الفتن: ومما يوضح ذلك، وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الله تعالى في عرفات، وفي غدير خم، وعند موته عليه الصلاة والسلام، وتقدمت الإشارة إلى ذلك. وجاءت الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على أن من استمسك بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من الناجين، ومن ذلك حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشيّاً، فإنه من يعشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (¬1). ومما يؤكد أهمية السمع والطاعة ما حصل للصحابة مع رسول الله عليه - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية حينما اشتدَّ عليهم الكرب بمنعهم من العمرة، ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم 4607، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، برقم 2676، وغيرهما، قوله: ((ذرفت)) أي: دمعت، وقوله: ((وجلت)) أي خافت وفزعت، وقوله: ((تعهد)) يقال: عهد إليه بكذا: إذا أوصى إليه، وقوله: ((وإن عبداً حبشياً)) أي: أطع صاحب الأمر، واسمع له وإن كان عبداً حبشياً، فحذف كان وهي مزادة. قوله: ((عضوا عليها بالنواجذ)) النواجذ: الأضراس التي بعد الناب، وهذا مثل في شدة الاستمساك بالأمر. قوله: ((محدثات الأمور)) أي: ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة، ولا إجماع. انظر: جامع الأصول لابن الأثير، 1/ 280.

وما رأوا من غضاضةٍ على المسلمين في الظاهر، ولكنهم امتثلوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان ذلك فتحاً قريباً، وخلاصة ذلك أن سُهَيل بن عمرو قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم: اكتب باسمك اللهم، فوافق معه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولم يوافق سهيل على كَتْبِ محمد رسول الله، فتنازل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر أن يكتب محمد بن عبد الله، ومنع سهيل في الصلح أن تكون العمرة في هذا العام، وإنما في العام المقبل، وفي الصلح أن من أسلم من المشركين يردّه المسلمون، ومن جاء من المسلمين إلى المشركين لا يُردُّ، وأوّل من نُفّذ عليه الشرط أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فردّه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد محاورة عظيمة، وحينئذٍ غضب الصحابة لذلك حتى قال عمر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألستَ نبيَّ الله حقّاً؟ قال: ((بلى))، قال: ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل؟ قال: ((بلى))، قال: فلمَ نُعطي الدَّنِيَّةَ في ديننا إذاً؟ قال: ((إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري))، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً، فلما فرغ الكتاب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها، فشكا ذلك، فقالت: انحر واحلق، فخرج فنحر، وحلق، فنحر الناس وحلقوا حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً (¬1). فحصل بهذا الصلح من المصالح ما الله به عليم، ونزلت سورة الفتح، ودخل في السَّنة السادسة والسابعة في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر، ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً بعد الفتح ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، برقم 2731، 2732، ومسلم، كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية، برقم 1783.

في السنة الثامنة. وهذا ببركة طاعة الله ورسوله؛ ولهذا قال سهل بن حنيف: ((اتهموا رأيكم، رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أردّ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لرددته)) (¬1). وهذا يدلّ على مكانة الصحابة - رضي الله عنهم - وتحكيمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحصل لهم من الفتح والنصر ما حصل، ولله الحمد والمنة. والمسلم عليه أن يعتصم بالكتاب والسنة، وخاصة في أيام الفتن؛ ولهذا حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفتن، واستعاذ منها، وأمر بلزوم جماعة المسلمين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)) (¬2)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقى الشحّ، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج))، قالوا: يا رسول الله، أيما هو؟ قال: ((القتل، القتل)). وفي لفظ: ((يتقارب الزمان، وينقص العلم ... )) (¬3). وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشرّ منه، فعن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك - رضي الله عنه - فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج فقال: ((اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعد أشر منه حتى تلقوا ربكم))، سمعته من نبيكم - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب: حدثنا عبدان، برقم 3181، ومسلم، كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية، برقم 1785. (¬2) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة ومن النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم 2867. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الفتن، باب ظهور الفتن، برقم 7061، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، برقم 157. (¬4) البخاري، كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه، برقم 7068.

تاسعا: مخالفة الكتاب والسنة أصل الخذلان وفساد الدنيا والآخرة والذل والهوان:

وحث - صلى الله عليه وسلم - على العمل الصالح قبل الانشغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة، فقال: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستكون فتنٌ القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن تشرَّف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به)) (¬2). والمخرج من جميع الفتن المضلّة التمسّك بالكتاب والسنة، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم. تاسعاً: مخالفة الكتاب والسنة أصل الخذلان وفساد الدنيا والآخرة والذلّ والهوان: قال الله - عز وجل -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} (¬3). وقال - سبحانه وتعالى -: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (¬4). وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، برقم 313. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم 3601، ومسلم، كتاب الفتن، باب نزول الفتن كموقع القطر، برقم 2886. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 36. (¬4) سورة النساء، الآية: 65.

يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (¬1). وقال تعالى فيمن خالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( ... وَجُعِلَ الذلّ والصغار على من خالف أمري، ومن تشبّه بقوم فهو منهم)) (¬3). وجاء في السنن والمسانيد ما أُثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا ألفينّ أحدكم متكئاً على أريكة (¬4) يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرَّمناه، ألا وإني أُتِيتُ الكتاب ومثله معه، ألا وإنه مثل القرآن أو أعظم)) (¬5). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كلّ أمتي يدخلون الجنة ¬

_ (¬1) سورة طه، الآيات: 124 - 126. (¬2) سورة النور، الآية: 63. (¬3) مسند الإمام أحمد، 2/ 50، 92، وصحح إسناده العلامة أحمد بن محمد شاكر في شرحه وترتيبه للمسند، برقم 5114، 5115، 5667 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬4) الأريكة: السرير في الحجلة، ولا يسمى منفرداً أريكة، وقيل: هو كل ما اتكئ عليه، وقوله: ((لا ألفين)) يقال: ألفيت الشيء إذا وجدته، وصادفته. جامع الأصول، لابن الأثير، 1/ 282. (¬5) سنن أبي داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة، برقم 4604، 4605، وابن ماجه، في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتغليظ على من عارضه، برقم 12، وصححه الألباني من حديث أبي رافع، وأبي ثعلبة، وأبي هريرة - رضي الله عنهم - في صحيح أبي داود، 3/ 318، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 19/ 85.

عاشرا: الاختلاف سبب الشرور والفرقة:

إلا من أبى)) قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((فعلى كل مؤمن أن لا يتكلَّم في شيء من الدين إلا تبعاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتقدَّم بين يديه، بل ينظر ما قال فيكون قوله تبعاً لقوله، وعمله تبعاً لأمره، فهكذا كان الصحابة - رضي الله عنهم -، ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين؛ فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسِّس ديناً غير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإذا أراد معرفة شيء من الدين نظر فيما قاله الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - فمنه يتعلم، وبه يتكلم، وفيه ينظر، وبه يستدلّ، فهذا أصل أهل السنة)) (¬2). عاشراً: الاختلاف سبب الشرور والفرقة: قال الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬3). وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة))، قيل: من هم يا رسول الله، قال: ((ما أنا عليه وأصحابي))، وفي لفظ: ((الجماعة)) (¬4) أي: هم من ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 7280. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 13/ 63. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 105. (¬4) الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، برقم 2641، وأبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة، برقم 4596، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، برقم 3992، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 364.

كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: ((كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كُنِّا في جاهِلِيَّةٍ وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرّ؟ قال: ((نعم)). قلت: هل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال: ((نعم وفيه دخن))، قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يستنّون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)). فقلت: هل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: ((نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)). فقلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: ((نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)). قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)). فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها،

ولو أن تعضّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (¬1). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ((وفي حديث حذيفة هذا: لزوم جماعة المسلمين، وإمامهم، ووجوب طاعته، وإن فسق، وعمل المعاصي: من أخذ الأموال، وغير ذلك فتجب طاعته في غير معصية، وفيه معجزات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي هذه الأمور التي أخبر بها، وقد وقعت كلها)) (¬2). وعن عبد الرحمن بن يزيدَ، قال: صلّى عُثمان بمنىً أربعاً، فقال عبدالله [ابن مسعود]: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ومع عثمان صداً من إمارته ثم أتمَّها، ثم تفرَّقت بكم الطرق، فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين)). وفي رواية أن عبد الله صلَّى أربعاً! فقيل له: عِبْتَ على عثمان ثم صليت أربعاً؟! قال: ((الخلاف شرٌ)) (¬3). ولا شكّ أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تزال فيهم طائفة على الحق منصورة، لا يضرّهم من خذلهم أو من خالفهم حتى تقوم الساعة؛ لحديث معاوية - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تزال طائفةٌ من أمتي قائمةً بأمر ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، برقم 7084، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، برقم 1847. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 479، وانظر: فتح الباري، لابن حجر، 13/ 37. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الحج، باب الصلاة بمنى، برقم 1960، والبيهقي في السنن الكبرى، 3/ 143. وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 550: ((صحيح))، وقال في السلسلة الصحيحة، 1/ 223: ((وسنده صحيح))، وأصل الحديث في صحيح البخاري، برقم 1084، ومسلم، برقم 695، وأما رواية: ((الخلاف شرّ)) فعند أبي داود كما تقدم.

الله، لا يضرّهم من خذلهم، أو خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس)) (¬1). والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين (¬2). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب المناقب، باب: حدثنا محمد بن المثنى، برقم 3641، ومسلم بلفظه، في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم))، برقم 1037. (¬2) انظر: جامع الأصول لابن الأثير، 1/ 277 - 293، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 91/ 5 - 8، و19/ 76 - 83، و36/ 60، وصحيح الترغيب والترهيب للألباني، 1/ 123 - 136، وفقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري، للمؤلف، 1/ 369، و2/ 1059 - 1062.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع 1 - الآحاد والمثاني، لأحمد بن عمرو بن الضحاك أبي بكر الشيباني، ت 287هـ، تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة، ط1، 1411ـ، دار الراية، الرياض. 2 - آداب الزفاف في السنة المطهرة، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة، بدون تاريخ، المكتب الإسلامي، بيروت. 3 - الآداب الشرعية، للإمام أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي تحقيق شعيب الأرناؤوط وعمر القيام مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 4 - الإبداع في مضار الابتداع، للشيخ علي محفوظ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 5 - اجتماع الجيوش الإسلامية، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي الشهير بابن قيم الجوزية، ت 751!، تحقيق عواد عبد الله المعتق، الطبعة الأولى، 1408 هـ، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، المملكة العربية السعودية. 6 - الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة، للشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري، الطبعة الأولى، 1402 هـ، دار الأرقم، الكويت. 7 - إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد، ت 702هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الأولى، 1407هـ، عالم الكتب بيروت. 8 - إحكام الفصول في أحكام الأصول، لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي تحقيق عبد المجيد التركي 9 - الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمد بن علي بن حزم الأندلسي الظاهري بدون تاريخ، الناشر زكريا. 10 - الإحكام في أصول الأحكام، للإمام علي بن محمد الآمدي تعليق العلامة عبد الرزاق عفيفي، الطبعة الثانية، 1402 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 11 - الإخلاص والشرك الأصغر، لعبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 12 - الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني، الطبعة الثالثة، 1413هـ، دار القلم دمشق. 13 - أخلاق العلماء، لأبي بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري، ت 360هـ، تعليق إسماعيل بن محمد الأنصاري، الطبعة 1398هـ، نشر إدارات البحوث العلمية بالمملكة العربية السعودية .. 14 - الأدب المفرد، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري تخريج محمد فؤاد عبدالباقي، الطبعة الثالثة دار البشائر، بيروت، لبنان. 15 - أربعون حديثاً في مدح السنة وذم البدعة، يوسف بن إسماعيل النبهاني، بعناية بسام بن عبدالوهاب الجابي، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار ابن حزم، بيروت، لبنان. 16 - الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد، للدكتور صالح بن فوزان، الطبعة الثانية، 1413 هـ، توزيع المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد بسلطانة، الرياض،

المملكة العربية السعودية. 17 - إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقة بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376 هـ، طبعة 1402هـ، مكتبة دار المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية. 18 - إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، لأبى العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني، ت 923 هـ، الطبعة السادسة 1304 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 19 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 20 - الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية، عبد العزيز بن محمد السلمان، الطبعة العاشرة، 1400هـ، الرئاسة الامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، المملكة العربية السعودية. 21 - استخراج الجدال من القرآن الكريم، لابن نجم، تحقيق الدكتور زاهر بن عواض الألمعي، الطبعة الثانية 1401هـ، الناشر المحقق. 22 - الاستذكار، للإمام الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، ت463 هـ، تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى، 1401هـ، دار قتيبة للطباعة والنشر، دمشق، بيروت. 23 - الأسماء والصفات للبيهقي، بتحقيق عبد الله بن حمد الحاشدي، ط1، مكتبة السوادي، جدة. 24 - الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني دار صادر، بيروت، لبنان. 25 - إصلاح المساجد من البدع والعوائد، محمد بن جمال الدين القاسمي، تخريج ناصر الدين الألباني، الطبعة الخامسة، 1403 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 26 - الأصول الثلاثة لمحمد بن عبد الوهاب. 27 - الأصول الثلاثة وحاشيتها لابن عثيمين، مطبوع ضمن فتاوى الشيخ، المجلد السادس. 28 - الأصول الثلاثة وحاشيتها لعبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الطبعة الخامسة، 1407هـ، بدون ناشر. 29 - أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي 30 - أصول في البدع والسنن، محمد بن أحمد العدوي، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار الفتح، الشارقة. 31 - أصول وضوابط في التكفير، العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، اعتنى به عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم، الطبعة الأولى 1413 هـ، دار المنارة، المملكة العربية السعودية. 32 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 33 - إظهار الحق، للعلامة رحمة الله بن خليل الرحمن العثماني الكيرانوي الهندي تحقيق د. محمد أحمد ملكاوي طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء،

الرياض، المملكة العربية السعودية. 34 - الاعتصام، للإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي، ت 790 هـ، تحقيق سليم بن عيد الهلالي، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار ابن عفان، الخبر، المملكة العربية السعودية. 35 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد المكتبة العصرية، صيدا، بيروت. 36 - أعلام النبوة، لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي، ت 450هـ، الطبعة الأولى، 1406هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 37 - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية تحقيق محمد حامد الفقي، بدون تاريخ، مكتبة حميدو، الإسكندرية، مصر. 38 - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ت 728، تحقيق الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، الطبعة 1404 هـ، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية. 39 - إكمال إكمال المعلم، لمحمد بن خليفة الأشناني الأبي ضبطه وصححه محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 40 - إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم (كتاب الإيمان)، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي تحقيق الحسين بن محمد شواط دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 41 - أمثال القرآن، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي بن قيم الجوزية تحقيق د ناصر بن سعد الرشيد دار مكة، المملكة العربية السعودية. 42 - الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع، للحافظ جلال الدين السيوطي، تحقيق مشهور بن حسن بن سلمان، الطبعة الثانية، 1416 هـ، دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية. 43 - أوثق عرى الإيمان، سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب تحقيق الوليد بن عبدالرحمن الفريان، الطبعة الأولى، 1409هـ، دار طيبة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 44 - أيسر التفاسير لأبي بكر جابر الجزائري، بدون ناشر، الطبعة الأولى،1407هـ. 45 - الإيمان، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ت 728 هـ، الطبعة الثانية، 1392 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 46 - الإيمان، لعبد المجيد بن عزيز الزنداني، ومجموعة من العلماء، بدون تاريخ، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت. 47 - من أصول أهل السنة والجماعة للعلامة صالح بن فوزان، الطبعة الأولى، 1412هـ، دار إمام الدعوة. 48 - بدائع الفوائد للإمام ابن القيم الطبعة المصرية، نشر مكتبة القاهرة، الطبعة التي طبعتها مكتبة الرياض الحديثة. 49 - البداية والنهاية، للحافظ عماد الدين أبى الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، ت 774 هـ، الطبعة الثالثة، 1979 م، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان. 50 - البدع والمحدثات وما لا أصل له، لابن باز، وابن عثيمين ومجموعة من العلماء، جمع حمود بن

عبد الله المطر، الطبعة الأولى، 1419 هـ، دار ابن خزيمة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 51 - البدع: أساليبها ومضارها، للشيخ محمود شلتوت، ت 1383 هـ، تحقيق علي بن حسن عبد المجيد، الطبعة الأولى، 1408هـ، مكتبة ابن الجوزي، الأحساء، المملكة العربية السعودية. 52 - برد الأكباد عند فقد الأولاد، للحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي، ت 842هـ، توزيع مؤسسة الجريسي بالرياض. 53 - البرهان في علوم القرآن، للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، بدون تاريخ، مكتبة دار التراث، القاهرة. 54 - بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت376 1 هـ، تخريج بدر البدر، الطبعة الثالثة، 1408 هـ، مكتبة السندس، الكويت. 55 - بيان حقيقة التوحيد الذي جاءت به الرسل، للدكتور صالح بن فوزان، طبعة 1414 هـ، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 56 - تاريخ دمشق وذكر فضلها، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، ت 571هـ، دراسة وتحقيق علي شيري، دار الفكر والطباعة والنشر والتوزيع. 57 - التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع، الطبعة الثانية، 1413 هـ دار الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية. 58 - تبريد حرارة الأكباد في الصبر على فقد الأولاد، للشيخ أبي حفص عمر بن أحمد بن السعدية الحلبي، ت 660هـ، 59 - تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق طارق بن عوض الدارعي، طبع ونشر مؤسسة قرطبة، الأندلس. 60 - تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، ط3، 1404هـ، دار الكتاب العربي، بيروت. 61 - تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة،1398 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 62 - تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين، أحمد بن حجر آل بوطامي، الطبعة الثانية، 1403 هـ، مكتبة ابن تيمية، الكويت. 63 - التحذير من البدع، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، الطبعة الثانية، 1412 هـ، دار إمام الدعوة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 64 - تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، لأبي العُلا محمد عبد الرحمن عبد الرحيم المباركفوري، ت 1353 هـ، الطبعة الثانية، 1457 هـ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. . 65 - تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام، لسماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، الطبعة الأولى، 1415هـ، جمع محمد بن شايع الشائع دار الفائزين، الرياض، المملكة العربية السعودية. 66 - تحفة الأخيار، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز [في الأذكار]. 67 - تحفة الأشراف بمعرفة الأطرف، للحافظ جمال الدين أبي الحجاج الزكي عبد الرحمن بن

يوسف المزي،، ت 742هـ، وبحاشيته: النكت الظراف على الأطراف للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الصمد شرف الدين، الطبعة الثالثة، 1403هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 68 - تحقيق الكلام في مشروعيتها الجهر بالذكر بعد السلام، للعلامة سليمان بن سحمان بن مصلح النجدي الحنبلي، ت 1349هـ، الطبعة الأولى، 1407هـ، دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 69 - التدمرية، لشيخ الإسلام بان تيمية، تحقيق محمد عودة السعوي، الطبعة الأولى،1405هـ، بدون ناشر. 70 - تذكرة الحفاظ، لأبي عبد الله شمس الدين الذهبي، ت 748هـ، بدون تاريخ، دار إحياء التراث. 71 - الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، للإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، ت 656 هـ، تحقيق محيي الدين ديب مستو، سمير أحمد العطار، يوسف على بدوي، الطبعة الثانية، 1417 هـ، دار ابن كثير، دمشق، بيروت. 72 - التعريفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني، ت 816 هـ، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، الطبعة الأولى، 1407 هـ، عالم الكتب، بيروت، لبنان. 73 - التعليقات المفيدة على الواسطية، للشيخ الشريف. 74 - تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم)، للإمام أبي الفداء إسماعيل بن الخطيب عمر بن كثير القرشي الدمشقي، ت 774 هـ، طبعة 1407 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 75 - تفسير البغوي (معالم التنزيل)،للإمام الحافظ أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي ت516 هـ، تحقيق خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار، الطبعة الأولى،1406 هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 76 - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ت 315 هـ، تحقيق محمود وأحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، دار المعارف بمصر. 77 - التفسير القيم للإمام ابن القيم، جمعه محمد أويس الندوي، تحقيق محمد حامد الفقي، بدون تاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 78 - التفصيل في نواقض الإيمان الاعتقادية، للوهيبي. 79 - تلبيس إبليس، للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ت 596 هـ، تخريج محمد مهدي إستانبولي، الطبعة، 1396 هـ، نشر المخرّج. 80 - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، للحافظ أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، 773هـ، توزيع رياسة إدارات البحوث العلمية. 81 - تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، الدكتور صالح بن سعد السميحي، الطبعة الأولى، 1410، دار ابن حزم، الرياض، المملكة العربية السعودية. 82 - تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين عن أفعال الهالكين، للإمام محيي الدين أبي زكريا أحمد بن إبراهيم بن النحاس، ت 814هـ، تحقيق عماد الدين عباس، الطبعة الأولى، 1407هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.

83 - تهذيب سنن أبي داود (المطبوع مع معالم السنن)، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، وحامد الفقي، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 84 - توضيح الأحكام من بلوغ المرام، عبد الله عبد الرحمن البسام، الطبعة الثانية، 1414 هـ، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية. 85 - توضيح الكافية الشافية، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي الطبعة الأولى،1407 هـ، مكتبة ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية. 86 - توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة ابن القيم، أحمد بن إبراهيم بن عيسى الطبعة الثالثة، 1406 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 87 - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376هـ، طبعة 1406 هـ، مكتبة المعارف، الرياض المملكة العربية السعودية. 88 - تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد، للعلامة سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب، ت 1233 هـ، الطبعة، 1406 هـ، مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية. 89 - تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير، لمحمد نسيب الرفاعي. 90 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي، ت1376هـ، تحقيق محمد زهري النجار، طبعة 1404 هـ، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 91 - ثلاثة الأصول، لمحمد بن عبد الوهاب، ت 1206 هـ، بحاشية عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ت 1392 هـ، الطبعة الخامسة، 1407 هـ. 92 - جامع الأصول من أحاديث الرسول، لأبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت656 هـ، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1453 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 93 - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، للإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، ت 795 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1411 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 94 - جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر، ت 463 هـ، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، الطبعة الأولى 1414 هـ، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية. 95 - الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبى، ت 671 هـ، تحقيق محمد إبراهيم الحفناوي، ومحمود حامد عثمان، الطبعة الأولى، 1414 هـ، دار الحديث، القاهرة. 96 - الجامع للمتون العلمية، للشيخ عبد الله بن محمد الشمراني، الطبعة الأولى، 1423هـ، دار الوطن للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية. 97 - جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام، للإمام شمس الدين أبي عبد الله بن أبى بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي الشهير بابن القيم، ت 751 هـ، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1407 هـ دار العروبة، الصفاة، الكويت.

98 - جهود المفكرين المسلمين المحدثين في مقاومة التيار الإلحادي. 99 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، ت 728 هـ، تحقيق د. علي بن حسن بن ناصر ود. عبد العزيز إبراهيم العسكر ود. حمدان بن محمد الحمدان، الطبعة الأولى، 1414 هـ، دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 100 - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت751هـ، تحقيق أبي حذيفة عبيد الله بن عالية، الطبعة الأولى،1407هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 101 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، للإمام ابن القيم، تحقيق الدكتور بسام علي سلامة، الطبعة الأولى 1406هـ، دار ابن تيمية. 102 - حاشية الإمام السندي على سنن النسائي، للعلامة عبد الهادي السندي، ت 1138 هـ، المطبوع مع سنن النسائي بعناية عبد الفتاح أبو غدة، الطبعة الثانية، 1406 هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان. 103 - حاشية ثلاثة الأصول لمحمد بن عبدالوهاب، بقلم عبدالرحمن بن محمد بن قاسم، ت1392هـ، الطبعة الخامسة، 1407هـ، بدون ناشر. 104 - الحسبة في الإسلام، لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، ت 728 هـ، بدون تاريخ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 105 - الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376 هـ، الطبعة الأولى، 1416 هـ، دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية. 106 - حقيقة البدعة وأحكامها، سعيد بن ناصر الغامدي، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار الرشد، المملكة العربية السعودية. 107 - الحكم وقضية تكفير المسلم. 108 - الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، الطبعة الثالثة، 1417 هـ، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض، المملكة العربية السعودية. 109 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، ت 435 هـ، بدون تاريخ، دار الكتب العربية، بيروت، لبنان. 110 - الحوادث والبدع لأبي بكر الطرطوشي، تحقيق عبد المجيد التركي، الطبعة الأولى،1410هـ، دار الغرب الإسلامي. 111 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، 1993م، دار الفكر، بيروت. 112 - درء تعارض العقل والنقل، لأبي العباس تقي الدين أحمدبن عبدالحليم ابن تيمية، ت 728 هـ، تحقيق د. محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى، 1450 هـ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 113 - دراسات في الأهواء والفرق والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل،

الطبعة الأولى، 1418، مركز الدراسات والإعلام، دار إشبيليا، الرياض، المملكة العربية السعودية. 114 - الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ت 1392 هـ الطبعة الثانية، 1385 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 115 - الدعاء المأثور وآدابه وما يجب على الداعي اتباعه واجتنابه، لأبي بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوش الأندلسي، ت 520 هـ، تحقيق د. محمد رضوان الداية، الطبعة الأولى، 1409 هـ، دار الفكر المعاصر،،بيروت، لبنان. 116 - الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها، للدكتور أحمد غلوش، طبعة 1399 هـ، دار الكتاب المصري، القاهرة. 117 - دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، جمع وتقديم وتحقيق د. محمد السيد الجليند، الطبعة الثالثة، 1406 هـ، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، سورية. 118 - دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأحمد بن الحسين البيهقي، دار الكتب العلمية، دار الريان للتراث، ط1، 1408هـ. 119 - دلائل النبوة، لأبي بكر جعفر بن محمد الفريابي، ت 301 هـ، تخريج أم عبد الله بنت محروس العسلي، بدون تاريخ، دار طيبة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 120 - دلائل النبوة، للحافظ أبي نعيم الأصبهاني، ت 490 هـ، تحقيق د / محمد رواس قلعجي، وعبد البر عباس، بدون تاريخ، دار النفائس، بيروت، لبنان. 121 - ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، دار المعارف، مصر. 122 - ديوان الإمام الشافعي، لأبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ت 254 هـ، جمعه وعلق عليه محمد عفيف الزعبي، الطبعة الثالثة، 1392 هـ، مؤسسة الزعبي، بيروت، لبنان. 123 - الرد على الجهمية، للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحق بن منده، ت 395 هـ، تحقيق د. علي بن محمد الفقيهي، الطبعة الثالثة، 1414 هـ، المدينة النبوية. 124 - رسائل ودراسات في الأهواء والبدع وموقف السلف، للدكتور ناصر العقل. 125 - رسالة في القواعد الفقهية، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 1376 هـ، الطبعة الأولى، 1413 هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 126 - رسالة لحوم العلماء مسمومة، د. ناصر العمر. 127 - رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية، مطبوع ضمن فتاوى شيخ الإسلام 20/ 231 - 291. 128 - الروح في الكلام على أروح الأموات والأحياء، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق د. بسام علي العموش، الطبعة الأولى،1406 هـ، دار ابن تيمية، الرياض، المملكة العربية السعودية. 129 - الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية، لزيد بن فياض. 130 - الرياء: ذمه وأثره السيئ في الأمة، سليم بن عيد الهلالي، الطبعة الأولى، 1408هـ، دار ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية.

131 - الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، للعلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي، ت1376 هـ، بدون تاريخ، نشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، المملكة العربية السعودية. 132 - زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1399 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 133 - الزهد والرقائق، للإمام عبد الله بن المبارك المروزي، ت 181 هـ، تحقيق أحمد فريد، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار المعراج الدولية للنشر، الرياض، المملكة العربية السعودية. 134 - الزهد، لهناد بن السري الكوفي، تحقيق عبدالرحمن عبدالجبار الفريوائي، ط1،1406هـ، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت. 135 - الزهد، لوكيع بن الجراح، ت 229هـ، تحقيق عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، 1404هـ، مكتبة الدار، المدينة المنورة. 136 - سبل السلام الموصل إلى بلوغ المرام، للإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق محمد صبحي حسن حلاق، الطبعة الأولى عام 1418هـ، دار ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية. 137 - سلاح المؤمن في الدعاء والذكر، لأبي الفتح محمد بن محمد بن علي بن همام المعروف بابن الإمام، ت 745 هـ، تحقيق محي الدين ديب مستو، الطبعة الأولى،1414 هـ، دار ابن كثير، دمشق، بيروت. 138 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة 1498هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 139 - سلسلة الأحاديث الضعيفة، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية، 1399 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 140 - سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، ت 279 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، 1398 هـ ة مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، مصر. 141 - سنن الدارقطني، للإمام علي بن عمر الدارقطني، ت 385هـ، دار المحاسن للطباعة، القاهرة. 142 - سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ت 255 هـ، طبعة 1404 هـ، تحقيق عبد الله بن هاشم اليماني، توزيع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 143 - سنن أبي داود، لسليمان بن الأشعث السجستاني، ت 275 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بدون تاريخ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 144 - سنن سعيد بن منصور، ت 227 هـ، الطبعة الأولى، 1414 هـ، تحقيق د سعيد بن عبد الله آل حميد، دار العاصمة، المملكة العربية السعودية. 145 - السنن الكبرى، للإمام الحافظ أبي بكر أحمد لن الحسين بن على البيهقي، ت 458 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان.

146 - سنن ابن ماجه، لمحمد بن يزيد القزويني، ت 275 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 147 - سنن النسائي، لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب، ت 303 هـ، بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، ت 911هـ، وحاشية السندي، ت 1138 هـ، الطبعة الأولى، 1406 هـ، اعتنى به ورقمه عبد الفتاح أبو غدة، الطبعة الثانية، 1406 هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان. 148 - سير أعلام النبلاء، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت 748 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الرابعة، 1406 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 149 - سيرة ابن هشام، لأبي محمد بن عبد الملك بن هشام، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء. 150 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام أبي القاسم هبة الله بن حسن الطبري اللالكائى، ت 418 هـ، تحقيق د. أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، الطبعة الرابعة، 1416 هـ، دار طيبة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 151 - شرح أصول الإيمان، للعلامة محمد بن صالح العثيمين، الطبعة الأولى، 1410هـ، دار الوطن للنشر، الرياض، المملكة العربية السعودية. 152 - شرح الأربعين النووية، للإمام تقي الدين أبي الفتح محمد بن علي بن وهب بن دقيق العيد، ت 702 هـ، طبعة1401 هـ مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية. 153 - شرح ثلاثيات المسند الإمام أحمد، العلامة محمد بن أحمد السفاريني، ت 1188 هـ، الطبعة الرابعة، 1410 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 154 - شرح حديث النزول لابن تيمية، المطبوع ضمن فتاوى شيخ الإسلام، 5/ 221 - 582. 155 - شرح رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين للإمام النووي، تأليف العلامة محمد بن صالح العثيمين، تحقيق وتجميع الأستاذ عبد الله بن محمد الطيار. 156 - شرح الزرقاني على الموطأ، محمد بن عبد الباقي بن يوسف، الزرقانى، ت 1122 هـ، الطبعة الأولى، 1411 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 157 - شرح السنة، للإمام أبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري، ت 329 هـ، تحقيق أبي ياسر خالد بن قاسم الردادي، الطبعة الأولى 1414 هـ، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية. 158 - شرح السنة، للإمام الحافظ أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، ت 519 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1396 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 159 - شرح السيوطي على سنن النسائي، للعلامة عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر محمد بن سابق الدين، ت 911 هـ، بعناية عبد الفتاح أبوغدة، الطبعة الثانية، 1456 هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان. 160 - شرح صحيح مسلم للنووي، لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ت 676 هـ، تحقيق لجنة من العلماء بإشراف الناشر، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ، دار القلم،

بيروت، لبنان. 161 - شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، شرف الدين الحسين بن عبد الله بن محمد الطيبي، ت 743 هـ، تحقيق عبد الحميد هنداوي، الطبعة الأولى، 1417 هـ، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، المملكة العربية السعودية. 162 - شرح العقيدة الطحاوية، علي بن علي الدمشقي، ت 792هـ، تحقيق شعيب الأرنؤوط. 163 - شرح العقيدة الطحاويه، للعلامة علي بن علي بن محمدبن أبي العز الدمشقي، ت 792 هـ، تخريج محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة، 1390 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 164 - شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية، ت 728، بقلم محمد بن صالح العثيمين، جمع سعد فواز الجميل، الطبعة الثانية، 1415 هـ، دار ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية. 165 - شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت 728 هـ، بقلم العلامة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، الطبعة الخامسة، 1411 هـ، طبع تحت إشراف الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية. 166 - شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام بن تيمية، تأليف العلامة محمد خليل هراس، تخريج علوي السقاف، الطبعة الأولى، 1411 هـ، دار الهجرة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 167 - شرح العقيدة الواسطية، لسعيد بن علي بن وهف القحطاني، الطبعة الأولى، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض، المملكة العربية السعودية. 168 - شرح القصيدة النونية، د. محمد خليل هراس، طبعة 1407 هـ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. 169 - الشرح الكبير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي 682هـ، مطبوع معه الإنصاف والمقنع، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر. 170 - شرح الكرماني على صحيح البخاري، شمس الدين محمد بن يوسف بن علي الكرماني، [الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري]، شمس الدين محمد بن يوسف بن علي الكرماني، الطبعة الثانية1401 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 171 - شرح لمعة الاعتقاد، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، ت620 هـ بقلم الشيخ محمد بن صالح العثيمين، الطبعة الأولى، 1407 هـ، دار ابن القيم. 172 - شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، ت 321 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1415 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 173 - شرح النووي على صحيح مسلم، مراجعة خليل الميس، دار القلم، بيروت، لبنان. 174 - شروط الدعاء وموانع الإجابة، لسعيد بن علي بن وهف القحطاني، الطبعة الأولى، 1416 هـ، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض، المملكة العربية السعودية. 175 - شعب الإيمان، للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت 458 هـ، تحقيق أبي هاجر محمد السعيد بسيوني زغلول، الطبعة الأولى، 1410 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت،

لبنان. 176 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، ت 544 هـ، تحقيق علي محمد البجاوي، طبعة1404 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 177 - الشهادتان للعلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين. 178 - الشوقيات (شعر أحمد شوقي)، بدون تاريخ، دار العودة، بيروت. 179 - الشيعة والسنة، لإحسان إلهي ظهير، 180 - الصارم المسلول على شاتم الرسول، لشيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، ت 728، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، بدون تاريخ، طبعة خاصة بالحرس الوطني، المملكة العربية السعودية. 181 - الصبر الجميل لسليم الهلالي. 182 - صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري، بقلم محمد بن ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية، دار الصديق، الجبيل، المملكة العربية السعودية. 183 - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمدبن إسماعيل البخاري، ت 256 هـ، طبعة 1414 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. وطبعة 1315 هـ، المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا، والنسخة المطبوعة مع فتح الباري، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية. 184 - صحيح الترغيب والترهيب، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1452 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 185 - صحيح الجامع الصغير، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1388 هـ؟ المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 186 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، للإمام أبي حاتم محمدبن أحمدبن حبان البستي، ت354 هـ، رتبه الأمير علاء الدين علي بن سليمان بن بلبان الفارسي، ت 739 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1414 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 187 - صحيح ابن خزيمة، للإمام أبي بكر محمد بن إسحق بن خزيمة السلمي النيسابوري، ت 311 هـ، تحقيق محمد مصطفى الأعظمى، طبعة 1390 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 188 - صحيح سنن الترمذي باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1408 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 189 - صحيح سنن أبي داود باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1409، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 190 - صحيح سنن ابن ماجه باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1407 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 191 - صحيح سنن النسائي باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1409 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 192 - صحيح كتاب الأذكار للنووي، بقلم سليم بن عيد الهلالي، الطبعة الأولى، 1413هـ، مكتبة

الغرباء، المملكة العربية السعودية، المدينة النبوية. 193 - صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري االنيسابوري، ت 261 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 194 - صفة المنافقين، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبى بكر بن قيم الجوزية، ت 751 هـ. 195 - صفة النفاق، للإمام جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي، 351 هـ، تحقيق بدر البدر، الطبعة الأولى 1405 هـ.، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي. 196 - الضوء المنير على التفسير، جمع علي الحمد المحمد الصالحي من كتب ابن قيم الجوزية، بدون تاريخ، مؤسسة النور للطباعة والتجليد، عنيزة، مكتبة دار السلام، الرياض، المملكة العربية السعودية. 197 - ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، لعبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني، لعبدالرحمن بن حسن حبنكة الميداني، طبعة 1408 هـ، دار القلم، مشق سورية. 198 - طبقات الحفاظ، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت 911 هـ، الطبعة الأولى، 1403 هـ، دار الكتب العربية، بيروت. 199 - طبقات الحنابلة، للقاضي أبي الحسن محمد بن أبي يعلى، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت. 200 - الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد بن منيع الهاشمي البصري، ت 235 هـ، تحقيق محمد عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، 1410 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 201 - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق محمد حامد الفقي، بدون تاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 202 - طريق الهجرتين وباب السعادتين، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، ت 751، تخريج عمر بن محمود وأبو عمر، الطبعة الأولى 1409 هـ، دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية. . 203 - ظاهرة الغلو في التكفير، ليوسف القرضاوي، دار الجهاد، ودار الاعتصام، وقرأتها على معالي الشيخ الدكتور صالح بن فوزان 204 - ظلال الجنة في تخريج السنة، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1400 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 205 - عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للقاضي أبي بكر محمد بن عبدالله بن محمد بن العربي، ت 543 هـ، 1415، دار الفكر، بيروت، لبنان. 206 - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق محمد عثمان الخشت، الطبعة الرابعة، 1410 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 207 - عقيدة أهل السنة والجماعة للعلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله. 208 - عقيدة أهل السنة والجماعة: مفهومها وخصائصها، وخصائص أهلها، للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد بتقديم سماحة العلامة ابن باز رحمه الله.

209 - عقيدة السلف وأصحاب الحديث، الإمام إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، ت 449 هـ، تحقيق ناصر بن عبد الرحمن الجديع، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار العاصمة الرياض، المملكة العربية السعودية. 210 - العقيدة الصحيحة وما يضادها للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز 211 - العقيدة والآداب الإسلامية. 212 - علم أصول البدع، علي بن حسن بن عبد الحميد، الطبعة الثانية، 1417 هـ، دار الراية، الرياض، المملكة العربية السعودية. 213 - علوم الحديث لابن الصلاح، للإمام أبي عمرو، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، للإمام أبي عمرو، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، ت 643 هـ، تحقيق نور الدين عتر، طبعة 1416 هـ، دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان. 214 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني، ت 855، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 215 - عمل اليوم والليلة، أحمد بن شعيب النسائي، دراسة وتحقيق: د. فاروق حمادة، الرئاسة العامة للإفتاء، الرياض، 1406هـ، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة بيروت. 216 - عمل اليوم والليلة، للحافظ أبي بكر أحمد بن محمد الدينوري المعروف بابن السني، ت 265 هـ، تحقيق بشير محمد عيون، الطبعة الأولى، 1407 هـ، مكتبة دار البيان، دمشق، سورية. 217 - العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، للإمام القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن العربي، ت 543 هـ، تحقيق محب الدين الخطيب، الطبعة الأولى، 1405 هـ، دار الكتب السلفية، القاهرة. 218 - عون الباري لحل أدلة البخاري، لصديق حسن القنوجي البخاري، الطبعة الأولى، 1404 هـ، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة. 219 - عون المعبود شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، الطبعة الثالثة 1399هـ، دار الفكر. 220 - غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1400 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 221 - غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب، للشيخ محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفارينى، ت 1188 هـ، طبعة 1393 هـ، مؤسسة قرطبة، المملكة العربية السعودية. 222 - الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، الدكتور عبد الرحمن معلا اللويحق، الطبعة الثانية، 1416 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 223 - الفائق في غريب الحديث، للعلامة جار الله محمود بن عمر الزمخشري، ت 583 هـ، تحقيق علي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 224 - فتاوى إسلامية، جمع وترتيب، محمد بن عبد العزيز المسند، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 225 - فتاوى ابن حجر الهيتمي، دار الفكر، بيروت.

226 - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، جمع وترتيب الشيخ أحمد بن عبد الرزاق الدويش، الطبعة الأولى، 1413 هـ، نشر الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 227 - فتاوى محمد بن صالح العثيمين، جمع فهد بن ناصر السليمان، الطبعة الأولى، دار الوطن، المملكة العربية السعودية. 228 - فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم، الطبعة الأولى، 1399، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة (وقف لله تعالى). 229 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية. 230 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير، للإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ت 1250 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 231 - فتح المبدي شرح مختصر الزبيدي، لعبد الله بن حجازي الشرقاوي، ت 1226هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 232 - فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد، د. عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ت 1285هـ، تحقيق د. الوليد بن عبد الرحمن آل فريان، الطبعة الأولى 1415 هـ، دار الصميعي، الرياض، المملكة العربية السعودية. وطبعة دار المنار، بعناية صادق بن سليم بن صادق، الرياض، المملكة العربية السعودية. 233 - فتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود، لأمين محمود خطاب، الطبعة الثانية، 1411 هـ، مكتبة طبرية، الرياض، المملكة العربية السعودية. 234 - فتح رب البرية بتلخيص الحموية، للشيخ الإسلام ابن تيمية، ت 728 هـ، بقلم العلامة محمد بن صالح العثيمين، الطبعة الثانية، 1404 هـ، مطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية 235 - الفتوى الحموية، مطبوع ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. 236 - الفرق بين الفرق لعبد القاهر بن طاهر البغدادي، ط2، 1977م، دار الآفاق الجديدة، بيروت. 237 - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ت 728هـ، تحقيق د. عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى، الطبعة الأولى، 1414 هـ، دار طويق الرياض، المملكة العربية السعودية. 238 - الفصل في الملل والأهواء والنحل، للإمام أبي محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الظاهري، ت 456 هـ، تحقيق د. محمد إبراهيم نصر ود. عبد الرحمن عميرة، بدون تاريخ، دار الجيل، بيروت، لبنان. 239 - فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي، ت 282 هـ، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة، 1397 هـ المكتب الإسلامي. 240 - فقه الدعوة إلى الله تعالى، للدكتور علي عبد الحليم محمود، الطبعة الثالثة، 1415 هـ، دار

الوفاء المنصورة، مصر. 241 - فوائد الآداب مع السلطان لنصيحته: الآداب الشرعية للإمام محمد بن مفلح المقدسي بتحقيق شعيب الأرنؤوط، 242 - في ظلال القرآن، سيد قطب، الطبعة التاسعة، 1400هـ، دار الشروق، بيروت، القاهرة. 243 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، للعلامة عبد الرؤوف المناوي، ت 1031 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 244 - القاموس المحيط، للعلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ت 817 هـ الطبعة الأولى، 1406 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 245 - قرة العينين في أطراف الصحيحين، لمحمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى،1414 هـ، دار الحديث، القاهرة. 246 - القصيدة النونية (الكافية الشافية)، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الشهير بابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، بدون تاريخ، إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان. 247 - قضية التكفير بين أهل السنة وفرق الضلال، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، الطبعة الثانية، 1417 هـ، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض، المملكة العربية السعودية. 248 - القوادح في العقيدة ووسائل السلامة منها، للعلامة عبد العزيز بن عبدالله ابن باز، اعتنى به، خالد بن عبد الرحمن الشايع، الطبعة الأولى، 1416 هـ، دار بلنسية. 249 - قواعد في التعامل مع العلماء، للدكتور عبد الرحمن اللويحق، الطبعة الأولى، 1415هـ، دار الورّاق، المملكة العربية السعودية. 250 - القواعد في الفقه الإسلامي، للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، ت 795، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 251 - القواعد المُثلَى في صفات الله وأسمائه الحُسنى، للشيخ محمد بن صالح العثيمين. 252 - القواعد النورانية الفقهية، لشيخ الإسلام أحمدبن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية، ت 728هـ، تحقيق محمد حامد الفقي، بدون تاريخ، دار الندوة الجديدة، بيروت، لبنان. 253 - القول السديد في مقاصد التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376 هـ، بعناية وتخريج د. المرتضى الزين أحمد، الطبعة الأولى، 1416 هـ، مجموعة التحف النفائس الدولية، الرياض، المملكة العربية السعودية. 254 - الكاشف، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت 748 هـ، تحقيق عزت علي عيد عطية وموسى محمد علي الموشى، بدون تاريخ، دار الكتب الحديثة، القاهرة. 255 - الكافي لابن قدامة: عبد الله بن أحمد بن محمد، ت 620هـ تحقيق الدكتور عبدالله بن عبد المحسن التركي، دار هجر. 256 - الكامل في التاريخ، لابن الأثير:، علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم، ت 630هـ، الطبعة السادسة 1406هـ، دار الكتاب العربي. 257 - كتاب أمثال الحديث، للقاضي أبي محمدالحسن بن عبدالرحمن بن خلاد الرامهرمزي، ت 360 هـ، تحقيق أمة الكريم القرشية، مطابع الحيدري 1388 هـ حيدرأباد، باكستان. 258 - كتاب استخراج الجدال من القرآن الكريم، للإمام ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم المعروف

بابن الحنبلي، ت 634 هـ، تحقيق زاهر بن عواض الألمعي، الطبعة الثانية،1401 هـ، مطابع الفرزدق، الرياض، المملكة العربية السعودية. 259 - كتاب الإخلاص، حسين العوايشة، الطبعة الثالثة، 1405 هـ، المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن. 260 - كتاب الأربعين في إرشاد السائرين إلى منازل المتقين، ((الأربعون الطائية))، لأبي الفتوح محمد بن محمد الطائي، ت 555 هـ، تحقيق علي حسين البواب، الطبعة الأولى، 1417 هـ، مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية. 261 - كتاب الإيمان، للحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحق بن يحيى بن منده، ت 395 هـ، تحقيق د. على بن محمد فقيهي، الطبعة الثانية، 1456 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 262 - كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، للإمام، شهاب الدين أبي محمدعبدالرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة، ت 665 هـ، تحقيق مشهور بن حسن بن سلمان، الطبعة الأولى، 1410 هـ، دار الراية، الرياض، المملكة العربية السعودية. 263 - كتاب الترغيب في الدعاء، للإمام الحافظ أبي محمد عبد الغني بن عبد الله الواحد القدسي، ت 600 هـ، تحقيق فواز أحمد زمرلي، الطبعة الأولى، 1416 هـ، دار ابن حزم، بيروت، لبنان. 264 - كتاب التوحيد للدكتور صالح بن فوزان الفوزان، طبعة خيرية بدون تاريخ. 265 - كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب - عز وجل -،للإمام أبي بكر محمدبن إسحق بن خزيمة، ت311 هـ، تحقيق د عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان، الطبعة الأولى، 1408 هـ، دار الرشد، المملكة العربية السعودية .. 266 - كتاب التوحيد، عبد المجيد بن عزيز الزنداني، الطبعة الأولى، 1408هـ، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت. 267 - كتاب التوحيد، للإمام محمد بن عبد الوهاب. 268 - كتاب الحوادث والبدع، للعلامة إبراهيم بن أحمد الطرطوشي، ت 579 هـ، تحقيق عبدالمجيد تركي، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان. 269 - كتاب الداعي إلى الإسلام، لكمال الدين أبي البركات، عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي، ت 577 هـ، تحقيق سيد حسين باغجوان الطبعة الأولى، 1409 هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان. 270 - كتاب الزهد، للإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ت 241 هـ، تحقيق محمد السعيد بسيوني، الطبعة الأولى، 1456 هـ، دار الكتاب العربي، الرملة، بير وت، لبنان. 271 - كتاب السنة، للحافظ أبي بكر عمر بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، ت 287 هـ، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة لمحمد بن ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1400 هـ المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 272 - كتاب الصفدية، لشيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمدبن عبدالحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، ت 728 هـ، تحقيق د. محمد رشاد سالم، الطبعة الثانية، 1406 هـ،

طبع على نفقة أحد المحسنين. 273 - كتاب الكفاية في علم الرواية، للإمام أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت، الخطيب البغدادي، ت 463 هـ، مراجعة عبد الحليم محمد، وعبد الرحمن حسن، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، دار الكتب الحديثة، القاهرة، مصر , 274 - الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، للإمام الحافظ عبد الله محمد بن أبي شيبة، توزيع إدارات البحوث العلمية والإفتاء .. 275 - كتاب دلائل النبوة، للحافظ إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني، ت 535 هـ، إعداد أبي عبد الله محمد بن محمد الحداد، الطبعة الأولى، 1409، دار طيبة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 276 - كتاب رفع اليدين في الصلاة، للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ت 256 هـ، وبهامشه جلاء العينين بتخريج روايات البخاري في جزء رفع اليدين في الصلاة، بقلم بديع الدين الراشدي، الطبعة الأولى، 1416 هـ، دار ابن حزم، بيروت، لبنان. 277 - كتاب فيه ما جاء في البدع، للإمام محمد بن وضاح القرطبي، ت 287 هـ، تحقيق بدر البدر، الطبعة الأولى، 1416 هـ دار الصميعي، الرياض، المملكة العربية السعودية. 278 - كتابة البحث العلمي صياغة جديدة، للأستاذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبوسليمان، الطبعة الرابعة، 1412 هـ، دار الشروق، جدة، المملكة العربية السعودية. 279 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للعلامة إسماعيل بن محمد العجلوني، ت 1132 هـ، بإشراف وتصحيح أحمد القلاش، الطبعة الثالثة،1403 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 280 - الكلم الطيب من أذكار النبي - صلى الله عليه وسلم -، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، ت 827 هـ، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثالثة، 1403 هـ، دار البيان، دمشق، سورية. 281 - الكلم الطيب، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، ط3، 1977م، المكتب الإسلامي، بيروت. 282 - الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة، للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، المطبوع ضمن الجامع الفريد، بدون تاريخ، توزيع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 283 - كلمة الإخلاص للحافظ ابن رجب، المكتب الإسلامي، الطبعة الخامسة، 1399هـ. 284 - الكواشف الجلية عن معاني الواسطية، لعبد العزيز بن سلمان 285 - اللباب في تهذيب الأنساب، لأبي الحسن عز الدين علي بن محمد بن الأثير الجزري، ت 630 هـ، طبعة 1400 هـ، دار صادر، بيروت، لبنان. 286 - لسان العرب، للإمام أبي الفضل جمال الدين بن مكرم بن علي بن منظور، ت 711 هـ، الطبعة الثالثة، 1414 هـ، دار صادر، بيروت، لبنان. 287 - لسان الميزان، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ الطبعة الأولى، 1416 هـ، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان. 288 - لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، للحافظ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب،

ت 795 هـ، تحقيق ياسين بن محمد السواس، الطبعة الثالثة، 1416 هـ، دار ابن كثير، بيروت. 289 - مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، الطبعة الأولى، بدون تاريخ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 290 - المتواري على تراجم أبواب البخاري، للعلامة ناصر الدين أحمد بن محمد المعروف (بابن المنير) الإسكندراني، ت 683 هـ، تحقيق صلاح الدين مقبول أحمد، الطبعة الأولى، 1407 مكتبة المعلى الكويت. 291 - مجلة البحوث الإسلامية، العدد 12، نشرة إدارة البحوث العلمية للإفتاء، المملكة العربية السعودية. 292 - مجمع البحرين في زوائد المعجمين، للحافظ نور الدين علي بن أبى بكر الهيثمي، تحقيق عبد القدوس بن محمد نذير، الطبعة الثانية، 1415 هـ، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية. 293 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين على بن أبي بكر الهيثمي، ت 807 هـ، الطبعة الثالثة، 1402 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 294 - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن القاسم، أشرف على طباعته المكتب السعودي بالمغرب. 295 - مجموع فتاوى ابن باز في الحج والعمرة. 296 - مجموع فتاوى ابن باز، جمع عبد الله الطيار، وأحمد الباز، الطبعة الأولى 1416هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 297 - مجموع فتاوى ابن تيمية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، ت 728 هـ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، بدون تاريخ، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب. 298 - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، جمع وترتيب د. محمد بن سعد الشويعر، الطبعة الأولى 1408 هـ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث والعلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية. 299 - مجموعة التوحيد، لشيخي الإسلام: أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، بدون تاريخ، المكتبة السلفية، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية. 300 - مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الطبعة الأولى، بدون تاريخ، جامعة الإمام محمدبن سعود الإسلامية. 301 - مختار الصحاح، للإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، طبعة 1985م، مكتبة لبنان، بيروت، لبنان. 302 - مختصر الأجوبة الأصولية، للشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان، 303 - مختصر الشمائل المحمدية، للإمام أبي عيسى محمد بن سورة الترمذي، ت 279 هـ، اختصره محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1455 هـ، المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن.

304 - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، للموصلي، بدون تاريخ، نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية. 305 - مختصر منهاج القاصدين، للإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسى، ت 689 هـ، تعليق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، طبعة 1398 هـ، مكتبة دار البيان، دمشق. 306 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة بدون تاريخ، مكتبة السنة المحمدية، ومكتبة تيمية، القاهرة. 307 - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، ت 1014 هـ، طبعة 1414 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 308 - المستدرك على الصحيحين، للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 309 - مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ت 241 هـ، بدون تاريخ، المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت، لبنان. 310 - مسند أبي يعلى الموصلي، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن المثني التميمي، ت 307 هـ، تحقيق حسين سليم أسد، الطبعة الأولى، 1412هـ، دار الثقافة العربية، دمشق، بيروت. 311 - مسند الإمام أحمد بشرح أحمد شاكر، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، شرحه وضع فهارسه أحمد محمد شاكر، بدون تاريخ، دار المعارف، مصر. 312 - مسند البزار. 313 - مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للإمام القاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي، بدون تاريخ، المكتبة العتيقة، تونس، دار التراث، القاهرة. 314 - مشكاة المصابيح، لمحمد عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 315 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، للعلامة أحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيومي، بدون تاريخ، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان. 316 - المصنف، للحافظ أي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 317 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، للحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، تحقيق غنيم بن عباس وياسر بن إبراهيم، الطبعة الأولى، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 318 - معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، ت 377 هـ، تخريج عمر بن محمود أبو عمر، الطبعة الثانية، 1413 هـ، دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية. 319 - المعاصي وأثرها على الفرد والمجتمع، لحامد المصلح، الطبعة الأولى، 1410 هـ، مكتبة الضياء، جدة، المملكة العربية السعودية.

320 - معالم الدعوة، لعبد الوهاب بن لطف الديلمي، الطبعة الأولى، 1406هـ، دار المجتمع، جدة، المملكة العربية السعودية. 321 - المعجم الأوسط، للطبراني، المجموع في مجمع البحرين في زوائد المعجمين، مكتبة الرشد، الرياض. 322 - معجم الطبراني الكبير، للحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، وزارة الأوقاف والشئون الدينية بالجمهورية العراقية. 323 - معجم المقاييس في اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ت 395 هـ، تحقيق شهاب الدين أبي عمرو، الطبعة الأولى، 1415 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 324 - المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، الطبعة الثانية، المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا. 325 - معنى لا إله إلا الله للعلامة صالح بن فوزان. 326 - المغني، لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ود. عبد الفتاح محمد الحلو، الطبعة الأولى، هجر للطباعة والنشر. 327 - مفتاح دار السعادة، للعلامة الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تخريج علي بن حسن بن علي بن عبد المجيد، الطبعة الأولى، 1416 هـ، دار ابن عفان، الخبر، المملكة العربية السعودية. 328 - مفردات ألفاظ القرآن، العلامة الراغب الأصفهاني، ت 502 هـ، تحقيق صفوان عدنان داوودي، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار القلم، دمشق، دار الشامية، بيروت. 329 - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، ت 656 هـ، تحقيق محيى الدين مستو وجماعة، الطبعة الأولى، 1417 هـ، دار ابن كثير، دمشق، بيروت. 330 - مفهوم عقيدة أهل السنة والجماعة للدكتور ناصر العقل. 331 - مقامع الشيطان، لسليم بن عيد الهلالي، الطبعة الأولى، 1408 هـ، مكتبة ابن الجوزي، الأحساء، المملكة العربية السعودية. 332 - مقومات الداعية الناجح، لسعيد بن علي بن ةهف القحطاني، توزيع مؤسسة الجريسي. 333 - الملل والنحل، لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني، ت 548 هـ، تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة1400 هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 334 - من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، الطبعة الأولى، 1412هـ، دار إمام الدعوة. 335 - مناظرة بين الإسلام والنصرانية، مناقشة بين مجموعة من رجال الفكر، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 336 - المنافقون في القرآن الكريم، للدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الحميدي، الطبعة الأولى،1409 هـ دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، المملكة العربية السعودية. 337 - مناهج الجدل في القرآن الكريم، للدكتور زاهر بن عواض الألمعي، الطبعة الثالثة، 1404 هـ،

مطابع الفرزدق، الرياض. 338 - مناهل العرفان للزرقاني، بدون تاريخ، دار إحياء الكتب العربية في علوم القرآن. 339 - منهاج القاصدين. 340 - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، لعلي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق محمد عبدالرزاق حمزة، دار الكتب العلمية. 341 - مواعظ الإمام الشافعي، ت 204 هـ، صالح بن أحمد الشامي. 342 - موطأ الإمام مالك، للإمام مالك بن أنس، ت 179 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وأولاده. 343 - موقف المعتزلة من السنة النبوية ومواطن انحرافهم عنها. 344 - النفاق وآثاره ومفاهيمه، للشيخ عبد الرحمن الدوسري، الطبعة الأولى، 1400 هـ، دار الأرقم، الكويت. 345 - النهاية في غريب الحديث، للإمام أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت 606 هـ، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، بدون تاريخ، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان. 346 - النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد، للدوسري. 347 - نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف، للدكتور محمد بن عبدالله الوهيبي، الطبعة الأولى، 1416 هـ، دار المسلم، الرياض، المملكة العربية السعودية. 348 - نواقض الإيمان القولية والعملية، للدكتور عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف، الطبعة الأولى، 1414 هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 349 - نونية القحطاني، عبد الله بن محمد الأندلسي، ت 387 هـ، تصحيح وتعليق محمد بن أحمد سيد أحمد، الطبعة الأولى 1409 هـ، مكتبة السوادي، جدة، المملكة العربية السعودية. 350 - النية وأثرها في الأحكام الشرعية، الدكتور صالح بن غانم السدلان، الطبعة الثانية، 1414 هـ، دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية. 351 - هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم، الطبعة المطبوعة ضمن الجامع الفريد، بدون تاريخ، توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 352 - وجوب التعاون بين المسلمين، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، طبعة 1402 هـ، مكتبة المعارف، الرياض المملكة العربية السعودية.

§1/1