فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية

ابن عثيمين

شرح مقدمة ابن حجر رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم شرح مقدمة ابن حجر رحمه الله يقول رحمه الله: "الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة قديما وحديثا". ابتدأ الكتاب بـ "الحمد لله" اقتداء بكتاب الله عز وجل، فإن القرآن الكريم جعل الصحابة - رضي الله عنهم- أوله فاتحة الكتاب وهي - كما تعلمون- مبدوءة بالحمد لله، وليست فاتحة الكتاب أول ما نزل كما هو معلوم، لكنها أول ما وقع في ترتيب المصحف باتفاق الصحابة، لذلك كان العلماء -رحمهم الله- من بعد ذلك يبدءون كتبهم بـ {الحمد لله رب العالمين} اقتداء بعمل الصحابة -رضي الله عنهم- في كتاب الله عز وجل هذا من وجه. ومن وجه آخر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه خطبة الحاجة التي يخطبونها في مقدمة كل حاجة وهي مبدوءة بماذا؟ بالحمد لله. ثالثا: أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان يبدأ خطبته بالحمد والثناء، فلذلك ابتدأ العلماء- رحمهم الله- كتبهم بذلك. يقول رحمه الله: "الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة". أولا: نتكلم على "أل" في قوله: "الحمد لله" يقول العلماء: "إن "أل" هنا للاستغراق، و "أل" التي للاستغراق علامتها أن يحل محلها "كل" بتشديد اللام، وعليه يكون معنى: "الحمد لله": كل حمد لله، وما هو الحمد؟ الحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، فخرج بقولنا مع المحبة والتعظيم: المدح؛ لأن المدح وصف للممدود بالكمال لكن ليس مقرونا بالمحبة والتعظيم. ثم الله تعالى يحمد على كمال صفاته، ويحمد على كمال إنعامه، قال الله - سبحانه وتعالى-: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل}. وهذا حمد على ماذا؟ على صفات الله عز وجل الكاملة؛ وكذلك أيضا يحمد الله تعالى على إنعامه، ومن

ذلك قول النبي - عليه الصلاة والسلام-: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها". هذا حمد على ماذا؟ على الإنعام. المؤلف رحمه الله هنا حمد الله على إنعامه وقوله: "لله" ماذا نقول في اللام؟ نقول في اللام أنها تحمل معنيين: المعنى الأول: الاختصاص. والمعنى الثاني: الاستحقاق. أما المعنى الأول: فإن المختص بالحمد الكامل من جميع الوجوه هو الله عز وجل، يحمد غير اله لكن حمدا مقيدا وليس على كل حال، أما الرب عز وجل فيحمد على كل حال، لأنه كامل الصفات والإنعام. كذلك أيضا للاستحقاق يعني: أن تخصيصنا الرب عز وجل بكامل الحمد لأنه مستحق له وهو أهل له - سبحانه وتعالى- أما "الله" فيقال: إن أصلها "إله"، ولكن لكثرة الاستعمال فحذفت الهمزة تخفيفا، وذكروا لذلك مثالا آخر وهو "الناس" وأصلها الأناس، وحذفت الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال، وعلى هذا إذا كانت "الله" بمعنى الإله أصلا فإنها فعال بمعنى مفعول فإله بمعنى: مألوه، أي: معبود محبب محبوب معظم، وليست إله بمعنى: آله كما زعم ذلك المتكلمون؛ لأنهم يفسرون الإله بأنه القادر على الاختراع وهذا خطأ عظيم، ولكن معنى الإله: المعبود حقا. وقوله: "على نعمه الظاهرة". "نعمه" هذه مفرد مضاف فيشمل جميع نعمه الدينية والدنيوية، الظاهرة والباطنة. الظاهر: ما يظهر للناس. والباطن: ما يخفى على الناس، ونعم الله - سبحانه وتعالى- لا تعد هي كما قال المؤلف ظاهرة وباطنة كما قال عز وجل: {وأسبغ عليكم نعمه ظهرة وباطنة} [لقمان: 20]. فالظاهرة: ما يظهر للعيان ويشاهدها الناس. والباطنة: ما دون ذلك. فمن الظاهرة: الأمن والرخاء والقوة، والأكل والشرب وما أشبه ذلك، ومن النعم الباطنة: نعم الدين تحقيقا لما في القلب من الإنابة إلى الله، والتوكل على الله والإخلاص وما أشبه ذلك، هذه نعم لا يعلمها الناس، لا يعلمها إلا الله عز وجل، هذه هي النعم الباطنة. وقوله: "قديما" أي: سابقا، "حديثا" أي: لاحقا، وفي قوله: "حديثا" براعة استهلال وهي

معروفة في علم البديع، وبراعة الاستهلال: أن يأتي المتكلم في أول كلامه بما يدل على موضزع كلامه فتسمى براعة استهلال، يعني: أنه استهل كلامه بما يدل على موضوع الكلام لكن بغير تصريح، وذلك يسمى براعة أي: فطنة وذكاء، فما هي براعة الاستهلال هنا؟ هو أن هذا الكتاب في الحديث قديما وحديثا. "والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد وآله وصحبه ... " إلخ. "الصلاة والسلام على" هذه جملة خبرية لكن معناها الدعاء كأنك تقول: اللهم صل وسلم، فما هي الصلاة على الرسول؟ الصلاة على الرسول أحسن ما قيل فيها، ما قاله أبو العالية الرياحي: أنها ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى عند الملائكة يعني: ذكر الله تعالى عبده بالذكر الحسن عند الملائكة. هذا ما اختاره كثير من العلماء، ولا سيما المتأخرون منهم، لكن في النفس من هذا شيء: وهو أن أبا العالية رحمه الله من التابعين ومثل هذا لا يقال بالرأي، لأن من يقول: إن الله يثني عليه فيحتاج إلى دليل من السنة يتبين به الأمر ويتضح ولكن فسره بعضهم قال: إن الصلاة من الله تعني: الرحمة، وهذا ليس بصحيح أيضا؛ لأن الله تعالى قال في الكتاب العزيز: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} [البقرة: 157]. والعطف يقتضي المغايرة، وأن الرحمة غير الصلوات وأيضا الرحمة يدعى بها لكل واحد، كل إنسان تقول: اللهم ارحمه، لكن الصلاة لا يدعى بها لكل واحد بل فيها خلاف وتفصيل عند العلماء إذن فالصلاة لا نستطيع أن نجزم بأنها ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى، ولا نقول: إنها الرحمة لفساد هذا المعنى، بل نقول: الصلاة فيها رحمة خاصة فوق الرحمة التي تكون لكل أحد ولا ندري معناها، وحينئذ نسلم من الشبهة، لكن القول بأنها ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى فسره كثير من المحققين - رحمهم الله-. أما السلام فهو السلامة من كل آفة، والرسول - عليه الصلاة والسلام- بعد موته سالم، أما في حياته فنعم معرض للأمراض، معرض للأذايا، معرض لكل ما يعرض للبشر، لكن بعد موته هو سالم من هذا، فما الفائدة بالدعاء له بالسلامة؟ نقول: وراء الموت أهوال ما هي؟ أهوال يوم القيامة؛ ولهذا كان دعاء الرسل يوم القيامة عند الصراط "اللهم سلم سلم". فهنالك أهوال، ثم إنه - صلوات الله سلامه عليه- سلام مما يحدث من الآفات الجسدية للأحياء، لكن ألا يمكن أن يسلط عليه من يأخذ جسمه مثلا؟ يمكن وقد وقع هذا لكن الله حماه؛ فإنه نزل المدينة غريبان أن يأخذا جسده الشريف - عليه الصلاة والسلام-، فنزلا في المسجد

وصارا يحفران خندقا من بعيد من أجل أن يصلا إلى الجسد الشريف، فقيد الله عز وجل السلطان أو أحد الولاة في ذلك الوقت فرأى رؤيا أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- قال: "أنقذني من الأزغرين"، والظاهر - والله أعلم- أن صورتهما كشفت لهذا الرائي عنهما، فقدم المدينة فزعا وأقام مأدبة عظيمة، ودعا كل أهل المدينة مرتين أو ثلاثة ولم ير الرجلين اللذين وصفا له فسأل، قال: أين أهل المدينة؟ قالوا: كلهم جاءوا إلا رجلان اثنان في المسجد جاءا من حين مجيئهما وهما معتكفان في المسجد فدعا بهما، فإذا هما الرجلان اللذان نبه عليهما في الرؤيا، سبحان الله! حماية الجسد الشريف من العبث، واطلع على ما صنعا، ثم أمر بهما فقتلا، ثم أمر أن يحفر إلى الجبل من حول القبر الشريف حفرة وصبها بالرصاص والنحاس حتى لا يستطيع أحد أن يصل إلى جسد النبي صثلى الله عليه وسلم وهذا من حماية الله وإذا كان الله حمى أجساد الأنبياء أن تأكلها الأرض المسلطة على كل الجسد، فهو سبحانه يحمي الجسد الشريف من شياطين الإنس. المهم أن السلام على الرسول عليه الصلاة والسلام - وارد أو غير وارد؟ وارد في الدنيا والآخرة، أما في حياته فوروده واضح، وأما بعد موته فبأي شيء تكون السلامة؟ سلامة جسده من أن يعبث به. وقوله: "على نبيه ورسوله" هذا من باب عطف الصفات المترادفة أو المتغايرة، وبدأ بوصف النبوة؛ نبئ بأول سورة "اقرأ" وأرسل بأول سورة "المدثر"؛ فلهذا عطف المؤلف رحمه الله الرسالة على وصف النبوة. فمن هو النبي؟ النبي يقال النبيء، ويقال: النبي؛ فالنبيء بالهمز من النبأ أي: الخبر، وهل هو فعيل بمعنى فاعل أو فعيل بمعنى مفعول؟ كلاهما فهو فعيل بمعنى فاعل لأنه منبئ عن الله عز وجل وبمعنى مفعول؛ لأنه منبأ، أما على قراءة التسهيل - النبي بالياء- فهو إما مشتق من النبأ لكن حذفت الهمزة تخفيفا يعني: سهلت الهمزة تخفيفا، وإما من النبوة وهي الشيء المرتفع لرفعه مقام النبي صلى الله عليه وسلم بما أحظاه الله به من الوحي. فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يكون من هذا وهذا؟ بلى؛ لأن لدينا قاعدة ينبغي لطالب العلم أن يعلمها: "كل لفظ يحتمل معنيين على السواء - يعني في الدلالة عليه ولا منافاة بينهما- فإنه يحمل عليهما جميعا؛ لأن تعدد المعاني واتحاد اللفظ كثير في اللغة العربية". وقوله: "ورسوله"؛ أي: مرسله إلى من؟ إلى الثقلين الإنس والجن، فالنبي - عليه الصلاة

والسلام - مرسل إلى الإنس والجن، أرسله الله تعالى إلى الإنس والجن منذ بعث إلى يوم القيامة، ولا يخفى علينا ما في الإضافة إلى ضمير الله عز وجل قال: "نبيه ورسوله" من الشريف والتكريم. وقوله: "محمد"، كيف نعربه؟ عطف بيان؛ لأن البدل غالبا يساوي المبدل منه في الدلالة، وعطف البيان يزيد بيان معنى، وهنا زاد بيان معنى وهو أنه دل على الاسم العلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم محمد وهو اسم المفعول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد حمده ربه - سبحانه وتعالى- وحمده الأولون والآخرون، وسيظهر الحمد الكامل يوم القيامة كما قال عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}. قال حسان بن ثابت صلى رضي الله عنه: [الطويل] وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد اسم محمد ورد في القرآن كم مرة؟ أربع مرات، وورد ذكر أحمد مرة واحدة، فما هي الحكمة أن الله ألهم عيسى أن يقول أحمد دون أن يقول محمدا؟ الحكمة: أن أجمد اسم تفضيل، وهو اسم تفضيل مطلق يعني: لم يذكر فيه اسم المفضل عليه فيكون أحمد الخلق على الإطلاق، وهل هو من باب اسم الفاعل أو اسم المفعول؟ أو هما؟ هل المعنى: أحمد يعني: أنه أحمد الناس لله، أو المعنى أحمد أي: أنه أحمد من يحمده الناس؟ كلاهما لا شك، وإنما جاء بصيغة أحمد إقامة للحجة على بني إسرائيل؛ حيث إن عيسى أقر بهذا الاسم أم محمدا أفضل الخلق لأنه سماه أحمد. يقول: "وآله وصحبه ... " إلخ. آله وصحبه هل هو من عطف الخاص على العام أو العام على الخاص أم ماذا؟ هو من باب عطف العام على الخاص؛ لأنه جاء بعده وعلى أتباعه، فهو من باب عطف العام على الخاص. فمن هم آله؟ من المعلوم أنه لا يصلح أن نقول: إن آله قرابته؛ لأننا لو قلنا إن آله قرابته شمل ذلك أبا لهب وغيره من كفار قرابة الرسول - عليه الصلاة والسلام- وهذا غير مراد، ونحن لا نصلي على آل الرسول الذين ليسو بمؤمنين إذن ماذا نقول؟ نقول: آله هم المؤمنون من قرابته، وبهذا يندفع اعتراض الشاعر في قوله: [البسيط] آل النبي هم أتباع ملته ... من الأعاجم والسودان والعرب لو لم يكن آله إلا قرابته ... صل المصل على الطاغي أبي لهب

ندفع هذا الإيراد بماذا؟ بأن نقول: "آله" هم المؤمنون من قرابته، "وصحبه" أحسن ما نقول فيهم ما قاله أهل المصطلح: أنهم كل من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك وهذا من خصائص الرسول - عليه الصلاة والسلام- غير الرسول لابد للصحبة من طول زمان يعني لو اجتمعت بواحد في مجلس من المجالس وتفرقتما هل يقال أنه صاحب لك؟ لا، لكن من خصائص الرسول - عليه الصلاة والسلام-: أن الإنسان إاذ اجتمع به لحظة واحدة مؤمنا به فهو من أصحابه، لكن لا شك أن الصحابة يختلفون اختلافا كبيرا في الصحبة والإيمان والتقوى والعمل وغير ذلك. هل آله من صحبه؟ الذين اجتمعوا به يعني: آل الرسول الذين جاءوا من بعده هم آله وليسوا من صحبه، لكن آله الذين كانوا في حياته من صحبه، وبهذا قلنا صحبه من باب عطف العام على الخاص، هذا إذا لم ترد "آل" وحدها فإن وردت "آل" وحدها، فهي قطعا أتباعه على دينه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم حين علمهم الصلاة عليه: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد". هذا المراد به: جميع الأتباع. "وعلى آله وصحبه الذين ساروا في نصرة دينه سيرا حثيثا" أصحاب الرسول يجب على الأمة من بعدهم أن يشكروهم؛ لأنهم ساروا في نصرة دينه سيرا حثيثا، لم يكن أحد مثلهم أبدا في سير النصرة؛ وذلك لأنهم جاهدوا في الله وهاجروا في سبيل الله وقاتلوا وقتلوا وأخرجوا من ديارهم وأموالهم وكان شأنهم ذلك ولم يوجد أحد مثلهم من بعدهم أبدا؛ ولهذا قال: ساروا في نصرة دينه سيرا حثيثا. قال: "وعلى أتباعه"، أتباع من؟ أتباع كل من سبق، فيدخل في هذا: أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباع الآل، وأتباع الصحب. "وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم" نعم من بعدهم ورث عليهم فلمن الفضل؟ للأول الفضل، الأول هو الذي أعطى من بعده العلم تاما ناضجا، فالأول مورود والثاني وارد. قال: "والعلماء ورثة الأنبياء" كأنه رحمه الله خاف أن يظن ظان أن قوله: "أتباعهم" أتباع الصحب فقال: "الذين ورثوا علمهم" يدخل في ذلك: علم النبي - عليه الصلاة والسلام- ولهذا قال: "العلماء ورثة الأنبياء". جعلنا الله وإياكم منهم، لكن من العلماء الذين هم ورثة؟ العلماء الموصوفون بالعلم الصحيح النقي، العلماء العاملون بعلمهم، العلماء الناشرون لشريعة الله، العلماء الداعون لدين الله، العلماء المجاهدون في سبيل الله لأنه لابد أن يكون الوارد مماثلا

للمورود وإلا لنقص علمه، فليس كل عالم وارثا للنبي لكنه له من إرث النبي نصيب، إذا كان عنده علم وعنده تقصير في العبادة، أو عنده علم وعنده تقصير في نشر العلم، أو عنده علم ونده تقصير في الدعوة إلى الله، أو عنده علم وعنده تقصير في الجهاد ونقول: له من إرثهم نصيب، والوراثة لا تتحقق إلا بإرث جميع الموروث، ابن وأم كم للأم؟ السدس، هل هي ورثت من ابتنها أو في بعض ماله؟ في بعض ماله، كذلك إرث الأنبياء إذا لم يكن على شكل ما جاءت به الأنبياء فإن الإرث يكون ناقصا بحسب ما نقص من العلم. ثم قال: "أكرم بهم وارثا وموروثا" هذه صيغة تعجب؛ لأن "أكرم بهم" بمعنى: ما أكرمهم وارثا وموروثا، لكن التعجب يكون ب "ما أفعل" ويكون ب "أفعل به". أكرم بهم وارثا وموروثا يقولون: إن "أكرم" تخالف الصيغ العادية لكونها على صيغة أفعل، وكون فاعلها ظاهرا؛ لأن "بهم" الهاء في الحقيقة هل الفاعل وإن كانت جارا ومجرورا. وقوله: "وارثا" إما أن تكون حالا من الضمير في "بهم"؛ لأنها اسم مشتق، ويمكن أن تكون تمييزا على حد قولهم: لله دره فارسا، بحيث قال: إنه تمييز مع أنه مشتق، على كل حال مسألة الإعراب أمرها هين. "وموروثا" من الموروث؟ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- مورثون؛ والوارث من بعدهم من ورث العلم. قال: "أما بعد"، أما بعد قال بعض المصنفين إنها كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر لكن هذا فيه نظر ولكنها كلمة يؤتى بها للانتقال من المقدمة إلى الموضوع، ما هو من أسلوب إلى آخر لو تغير الأسلوب ما نجيء ب "أما بعد" لكن نأتي بها للانتقال من المقدمة إلى الموضوع. سبق لنا أن أصل أدلة الأحكام هو القرآن وأن السنة متممة له، وسبق لنا أن الناظر في أدلة القرآن لا يحتاج إلى البحث عن سنده، لأنه متواتر معلوم علما يقينيا، وأما الناظر في السنة فيحتاج إلى أمرين: الأمر الأول: ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: الدلالة، دلالة النص على الحكم، وعلى هذا فإذا استدل عليك مستدل بآية من القرآن فماذا تطالبه؟ أقول: ما وجه الدلالة، وإذا استدل عليك مستدل بالسنة أطالبه أولا بصحة النقل؛ فإذا صح النقل حينئذ أناقشه في صحة الدلالة، ومن ثم احتاج العلماء - رحمهم الله- إلى أن ينظروا في الرواية من وجهين: الوجه الأول: من حيث الثقة، وذلك يعود إلى الحفظ والأمانة. الوجه الثاني: ومن حيث الاتصال؛ وذلك يعود إلى العلم بتواريخ حياتهم ولادة ووفاة لئلا

يكون منقطعا؛ فصار النظر في أحوال الرواة من وجهين: من جهة الثقة وهو يعود إلى شيئين العدالة والحفظ ويدخل فيهما أشياء كثيرة مما يخالف ذلك من أسباب الطعن في الحديث، والثاني من حيث اتصال السند، وعلى هذا فلابد من العلم بمواليدهم ووفياتهم حتى نعرف المتصل من غير المتصل. قول المؤلف رحم الله: "أما بعد، فهذا مختصر" المختصر قال العلماء: هو الذي قل لفظه وكثر معناه، هذا المختصر "يشتمل على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية" أصول الأدلة، أفادنا المؤلف رحمه الله أنه لم يستوعب جميع الأدلة الحديثية، وإنما انتخب الأصول فقط يعني التي تدل على ما يكثر من الناس وقوعه في عباداتهم. وقوله: "الحديثية" نسبة للحديث احترازا من الأدلة القرآنية؛ لأن هذا الكتاب لم يذكر المؤلف فيه شيئا من الأدلة القرآنية، فمثلا "صحيح البخاري" يذكر البخاري رحمه الله شيئا من الأدلة القرآنية وكذلك الأدلة الحديثية؛ أما مسلم مثلا فلا يذكر شيئا من الأدلة القرآنية. المؤلف لم يذكر شيئا من الأدلة القرآنية وإنما اقتصر على الأدلة الحديثية. وقوله: "للأحكام الشرعية" الأحكام: جمع حكم، وهو - أي: الحكم- إثبات شيء لشيء نفيا أو إيجابا، فإذا قلنا مثلا: لا يحل أكل الميتة فهذا إثبات حكم نفي أو إيجاب؟ نفي. وإذا قال: أحل الله البيع، فهذا حكم إيجابي، فالحكم إذن إثبات شيء لشيء نفيا أو إيجابا. وقوله: "الشرعية" خرج به ثلاثة أحكام: العادية، والعقلية، وبقيت الشرعية، الأحكام الشرعية هي المتلقاة من الشرع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، الأحكام العقلية: هي المتلقاة من العقل، والأحكام العادية: هي المتلقاة من التجارب. فالأحكام الشرعية مثل: الحلال، والحرام، والوجوب، والاستحباب، والكراهة هذه مأخوذة من الشرع، كون الجزء أقل من الكل والكل أكبر، هذه أحكام عقلية، والأحكام العادية هي ما وصف من العادة مثل أن يكون " السكنجبين" مسهل للبطن مثلا أو ما أشبهه هذا من العادة يعني: اعتاد الناس أنهم إذا تناولوا هذا الشيء سهلت بطونهم أو تسهلت فالأحكام إذن ثلاثة أقسام: شرعية، وعقلية، وعادية؛ ثم الشرعية: إما عملية، أو علمية؛ فما كان أساسه الاعتقاد فهو علمي، وما كان أساسه العمل قولا أو فعلا فهو عملي. يقول: "حررته تحريرا بالغا". حررته يعني: نفيت عنه كل تعقيد؛ لأنه من تحرير الشيء أي: تخليصه، "تحريرا بالغا" حسب قدرته رحمه الله. "ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغا". أشار المؤلف بهذه الكلمة إلى أنه ينبغي لنا أن نحفظ هذا المؤلف؛ لأنه مختصر على أصول الأدلة الحديثية مبينا فيه أحكام ودرجات الأحاديث.

وقوله: "من بين أقرانه" جمع قرن وهو الزميل، و "نابغا" أي: ذا نبوغ وعلوم وكفاء على غيره، وهذا لا شك أن الإنسان إذا حفظ هذا المتن أنه سوف يستغني عن كثير من الأدلة؛ لأنه مستوعب لغالب الأدلة التي يحتاج الناس إليها لكنه يحتاج إلى تعاهد؛ لأنه رحمه الله يذكر التخريج أحيانا بكلمات مطولة يحتاج الإنسان إلى أن يتعاهدها وإلا نسيها. "ويستعين به الطالب المبتدي" "ويستعين بها" أي: يجعلها عونا له، أي: الطالب للعلم المبتدئ. "ولا يستغني عنه الراغب المنتهي". إذن يحتاج الناس إليه سواء كانوا مبتدئين أو منتهين، أما الطالب المبتدئ فإنه يستعين به، وأما المنتهي فإنه يرجع إليه. "وقد بينت عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة؛ لإرادة نصح الأمة". كلما ذكر حديثا ذكر من أخرجه من الأئمة أي: أئمة الحديث كالإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، ومن أشبههم. "لإرادة نصح الأمة" يعني: قاصدا بذلك النصيحة؛ وذلك أن الإنسان إذا ذكر الحديث ولم يذكر من رواه فقد يظن السامع أنه حديث صحيح لاسيما إذا قاله على وجه الاستدلال، لكن إذا ذكر من خرجه فهذا تمام النصح، إلا أنه أيضا يحتاج إلى شيء آخر والمؤلف سيذكره رحمه الله، وهو أن يصحح الحديث حتى لو ذكر من خرجه إذا كان من خرجه لا يستلزم إخراج الصحيح ولهذا كان النص الذي في تفسير ابن جرير رحمه الله على أنه مستوعب جميع الأقاويل والآثار في التفسير الخلل في هذا النص واضح؛ لأنه لا يتكلم على الأثر ولا على درجته، ولذلك كان يحتاج إلى تخريج حتى يعرف الإنسان درجة هذا الأثر في تفسير الآية، إذن لا يكفي أن نقول: رواه فلان إذا كان فلان ممن لم يلتزم بإخراج الصحيح، لكن المؤلف رحمه الله أحيانا - يذكر- يتكلم على أنه سند صحيح أو قوي أو ضعيف. قال: "فالمراد بالسبعة" يعني: إذا قلت أخرجه السبعة: أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، إذا قال السبعة ولا يذكر غيرهم، فإذا قال: أخرجه السبعة فإنه يراد بذلك هؤلاء، واعلم أن من عيب التخريج، أن يذكر الإنسان الأدنى مرتبة مع أنه رواه من هو أعلى منه مرتبة، يعني مثلا يقول: رواه أبو داود والحديث رواه البخاري مع أبي داود، هذا من العيب عند المحدثين؛ لأنك إذا أهملت الأقوى أوهنت الحديث وصار ضعيفا في نظر القارئ أو في نظر السامع، فإذا كان حديث مثلا رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه إما أن يقول: أخرجه السبعة، وإما أن يقول: أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث، أما أن تقول: أخرجه أبو داود وتقتصر؛ فهذا عيب عند المحدثين وهو ظاهر لأنه يوهن درجة الحديث.

يقول: "وبالستة: من عدا أحمد" فيكون خ، م، د، ت، ن، ق. "وبالخمسة: من عدا البخاري ومسلما" يكون: حم، د، ت، ن، ق. "وقد أقول: الأربعة وأحمد" ولم يبين المؤلف لماذا كان يقول هذا والظاهر أنه يقول ذلك تفننا في العبارة، وقد يكون اطلع على أنه رواه الأربعة ثم بعد ذلك اطلع على أن الإمام أحمد رواه أيضا فأضافه. "وبالأربعة: من عدا الثلاثة الأول" وهم: حم، خ، م، فيكون هؤلاء: د، ت، ن، ق. "وبالثلاثة: من عداهم وعدا الأخير" من الأخير؟ ابن ماجه، فيكون إذا قال: أخرجه الثلاثة: د، ت، ن. "وبالمتفق عليه: البخاري ومسلم". وهذا الذي اصطلح عليه في المتفق عليه هو الذي عليه عامة الناس الآن يعني: عامة الكتب المؤلفة إذا قال: "متفق عليه" فالمراد: أخرجه البخاري ومسلم، لكن المجد - مجد الدين عبد السلام ابن تيمية رحمه الله جد شيخ الإسلام- في "المنتقى" إذا قال: متفق عليه؛ فالمراد: أحمد والبخاري ومسلم، لكن هذا اصطلاح خاص. "وقد لا أذكر معهما غيرهما" مع من؟ البخاري ومسلم وغيرهما؛ وذلك لأن العلماء تلقوا ما روياه بالقبول، وإذا كان العلماء تلقوا ذلك بالقبول فإضافة شيء آخر من باب النشر فقط. "وما عدا ذلك" يعني: ما عدا هؤلاء السبعة "فهو مبين" وسيتبين لك إن شاء الله تعالى مما يأتي. "وسميته: بلوغ المرام من أدلة الأحكام"، نقول: بلوغ، أو بلوغ؟ إن قلنا: "بلوغ المرام من أدلة الأحكام" فإن بلوغ خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا بلوغ المرام، وعليه فتكون الجملة هي المفعول الثاني ل "سميته" على سبيل الحكاية، وإن قلنا: "سميته بلوغ المرام" كما تقول: سميت ابني عبد الله، فإن "بلوغ" تكون هي المفعول الثاني ولا حاجة إلى التقدير. وقوله: "المرام" يعني: المطلب، أي: أن الإنسان يبلغ مطلبه من أدلة الأحكام بهذا الكتاب. "والله أسأله ألا يجعل ما علمنا علينا وبالا". "الله" بالنصب على أنه معمول لأسأل مقدم، وتقديم المعمول يفيد الحصر أي: "لا أسأل إلا الله ألا يجعل ما علمنا علينا وبالا" وذلك بأن نعمل به؛ لأن ما علمنا إما أن يكون حجة لنا أو يكون حجة علينا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "والقرآن حجة لك أو عليك". فإن علمت به فهو لك، وإن لم تعمل به فهو عليك "وبال" أي: إثم وعقوبة. "وأن يرزقنا العمل بما يرضيه - سبحانه وتعالى-". يرزقنا الرزق والعطاء، "والعمل بما يرضيه" أي: من قول، وعمل، وعقيدة - سبحانه وتعالى-.

هذه هي خطبة الكتاب ومقدمته، واعلم أن المؤلف قال في الأول: "أما بعد فهذا مختصر" فالمشار إليه هل هو ما قام في ذهنه أو ما حضر بين يديه؟ الجواب: هذا يوجد كثيرا في المؤلفات أما بعد، فهذا وتخريجه كما يأتي إن كان الكتاب قد ألف قبل هذه الإشارة فهو إشارة إلى ما حضر بين يديه وإن كان لم يؤلف وهو الغالب فهو إشارة إلى ما قام في ذهن المؤلف، فهذا يعني ما تصوره في ذهنه ... إلخ ما سيأتي.

كتاب الطهارة ويشتمل على: 1 - باب المياه 2 - باب الآنية 3 - باب إزالة النجاسة وبيانها 4 - باب الوضوء 5 - باب المسح على الخفين 6 - باب نواقض الوضوء 7 - باب آداب قضاء الحاجة 8 - باب الغسل وحكم الجنب 9 - باب التيمم 10 - باب الحيض

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة ثم قال المؤلف: "كتاب الطهارة": بدأ المؤلفون - رحمهم الله- الفقهاء والمحدثون الذين يرتبون كتبهم على أبواب الفقه بدءوا بالطهارة لوجهين: الوجه الأول: أن الطهارة من آكد شروط الصلاة لقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". والأمر الثاني: أن الطهارة تخلية لأنها تنظيف للمكان فهي تخلية، والتخلية - كما يقال- قبل التحلية، مثلا: اكنس البيت أولا ثم افرشه ثانيا، نظف الأواني عن الأذى أولا ثم اغسلها ثانيا؛ فلذلك بدءوا بكتاب الطهارة. ثم اعلم أن الطهارة نوعان: طهارة معنوية، وطهارة حسية، وكلام الفقهاء - رحمهم الله- على الطهارة الحسية، أما كلام الذين يتكلمون في التوحيد والعقائد فالطهارة عندهم من الطهارة المعنوية وهي الأصل، وهي طهارة القلب من الشرك، والنفاق، والغل، والحقد، والحسد ... وغير ذلك من الصفات الذميمة، وهذه أهم من الطهارة الحسية، لكن مع ذلك الإنسان محتاج إلى الطهارتين جميعا ونقف على هذا. سؤال: هل أحد من العلماء الذين ألفوا في الحديث على كتب الفقه خالف ابن حجر اصطلاحا في المتفق عليه؟ المجد ابن تيمية في كتاب "المنتقى". الطهارة بدأنا فيها وقلنا: إن الطهارة تنقسم إلى قسمين: طهارة باطن، وطهارة ظاهر. طهارة الباطن: تعني طهارة القلب من الشرك، والشك، والنفاق، والحقد، والغل ... وغير ذلك من مساوئ الأخلاق. وطهارة الظاهر: تشمل الطهارة من الحدث والطهارة من النجاسة، وذكرنا أيضا فيما سبق: أن العلماء بدءوا بالطهارة لأنها مفتاح الصلاة، والصلاة آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين،

1 - باب المياه

ولهذا ذكروا الطهارة، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج على الترتيب الذي جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام. 1 - باب المياه ثم قال المؤلف: "باب المياه" جمعها باعتبار مصادرها؛ لأن المياه إما مياه بحار، أو غمام، أو آبار، فلهذا جمع، فمياه الأمطار التي تأتي من المطر كالأودية والغدران وما أشبه ذلك، مياه البحار معروفة وكذلك مياه الآبار، وربما نضيف أيضا مياه الأنهار فجمعها المؤلف وإلا فالأصل أن الماء جنس واحد لا يجمع لكن باعتبار مصادره وأنواعه ذكرها بالجمع، (والمياه)؛ هي ذلك الجوهر الساكن، وهو من أسهل الأمور تناولا، وهي أغلاها عند الحاجة إليه، ربما يكون الفنجان الواحد عند الحاجة إليه يساوي مئات الدراهم؟ إذن هو غال رخيص؛ ولهذا قال العلماء: لو أن إنسانا أتلف قربة من الماء في مفازة قيمتها هناك خمسمائة درهم وقيمتها في البلد درهمان فهل يضمن خمسمائة درهم أو درهمين؟ يضمن بالأول؛ لأنها غالية في مكانها. طهارة مياه البحر: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: أبو هريرة هو أكثر الصحابة رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه اعتنى بالحديث وحفظه وصار متفرغا وإلا فإننا نعلم أن أبا بكر رضي الله عنه أكثر تلقيا من أبي هريرة بالنسبة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأنه أكثر ملازمة منه، لكن أبا بكر رضي الله عنه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم التحديث عنه قليل؛ لأن الناس يأخذون عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بدون واسطة، وبعد موته تعلمون أن أبا بكر رضي الله عنه اشتغل بأعباء الخلافة وتدبير الدولة، والناس أيضا يهابون أن يشغلوه بالتلقي عنه وهو لا يتفرغ لهم؛ فلهذا كان أقل بكثير مما نقل عن أبي هريرة؛ ولهذا لو سئلنا أيهما أكثر حديثا أب هريرة أو أبو بكر؟ نقول: أما بالنسبة للتلقي عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أبو بكر لا شك عندنا في هذا، أما بالنسبة لنقل الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أبو هريرة رضي الله عنه. "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر": "في البحر" هذا من كلام ابن حجر رحمه الله ليس من كلام أبي هريرة، ولا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لكن المؤلف - كما تعلمون- جعل هذا كتابا مختصرا

فقال في البحر، قال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وللحديث سبب، سببه: أن قوما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إننا يا رسول الله نركب البحر وليس معنا ماء - يعني: يتوضئون به-، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". لم يقل: نعم، بل قال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، مع أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- إذا سئل عن مثل هذا السؤال يقول: نعم، سأله رجل أنتوضأ مع لحوم الإبل، قال: "نعم"، لكن هنا عدل عن كلمة "نعم" إلى قوله: "الطهور ماؤه"؛ ليكون ذلك أشمل وأعم فيتطهر به ولا يتطهر منه؛ بمعنى: أنه لو أصاب الثوب والبدن فإنه لا يجب أن يتطهر منه؛ لأنه طهور، وأيضا يتطهر به من الحدث الأصغر والأكبر والنجاسة، وهذا من حسن جواب الرسول - عليه الصلاة والسلام-. فكلمة "الطهور ماؤه" أعم من كلمة "نعم"؛ لأنه لو قال: نعم؛ لكان المعنى: تطهروا به، أو توضئوا به، لكن قال: "هو الطهور ماؤه". أيضا زادهم على ذلك قال: "الحل ميتته". "الحل"؛ يعني: الحلال، ميتته، والمراد ب "ميتته": ميتة ما لا يعيش إلا فيه إلا في البحر، وليس المراد: ما مات في البحر؛ ولهذا إذا سقطت شاة في البحر وماتت فهي حرام ميتة، لكن المراد ب "ميتته": مضاف إلى البحر؛ يعني: ميتة ما لا يعيش إلا في البحر حلال، هكذا كان جواب النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. وكلمة "الطهور" بفتح الطاء وهو اسم لما يتطهر به كالسحور اسم لما يسحر به، والوجور اسم لما يوجر به المريض وهلم جرا، أما الطهور بالضم فهو مصدر أو اسم مصدر وهو عبارة عن الفعل، فمثلا إذا قرب الإنسان ماء يتوضأ به، فالماء يسمى طهورا أو يسمى وضوءا ونفس الفعل الوضوء يسمى طهورا، أو وضوءا، فالفرق إذن بين فتح أوله وضمه هو أنه أريد الفعل فهو مضموم، وإن أريد ما يتطهر به فهو بالفتح، ونظيره السحور اسم لما يؤكل في السحر، والسحور اسم للأكل.

في هذا الحديث فوائد: منها: حرص الصحابة: رضي الله عنهم- على تلقي العلم، وذلك بمعرفة سبب الحديث وهو سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة لا شك أنهم أحرص الناس على العلم؛ ولهذا كل ما ورد عليك من الأشياء التي لم يسأل عنها الصحابة وهي مما ينقدح في الذهن، فاعلم أن سؤالك عنها بدعة كما قال العلماء - رحمهم الله- فيمن سأل عن كيفية صفات الله، فقالوا: إن هذا السؤال بدعة؛ لأن الصحابة لم يسألوا عنه. ومن فوائد هذا الحديث: أن ماء البحر طهور بدون استثناء إلا ما يقيده في الأحاديث الآتية؛ يعني: إلا إذا ما تغير بنجاسة، وإلا فإنه طهور، حتى لو فرض أنه لو طفا على سطحه شيء من الأذى، أو من الدهن، أو من البنزين، أو ما أشبه ذلك، فإنه طهور؛ لأن هذا لم يغيره. ومن فوائد هذا الحديث أيضا: حسن تعليم الرسول - عليه الصلاة والسلام- وإجابته حيث يعمد إلى الأشياء الجامعة العامة، "وقد أعطي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصتارا"، وجه ذلك: أنه قال: "الطهور ماؤه". ومن فوائد هذا الحديث: جواز زيادة الجواب على السؤال إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وجهه: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- زاد على سؤال السائلين ببيان حكم ميتة البحر، فقال: "الحل ميتته" لماذا؟ لأن هؤلاء إذا كان أشكل عليهم الوضوء في ماء البحر فالظاهر أنه سيشكل عليهم ميتة البحر، إذا وجدوا سمكا طافيا على الماء ميتا فسوف يشكل عليهم من باب أولى؛ فلهذا أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بحكم ميتة البحر مع أنهم لم يسألوا عنها. ومن فوائد هذا الحديث: أن جميع الأسماك والحيتان حلال لعموم قوله: "ميتته"، وميتة هنا مفرد مضاف فيعم، فكل ميتة البحر من أسماك وحيتان فإنه حلال، وطاهر أو غير طاهر؟ طاهر، من أين علمنا أنه طاهر، من أنه حلال، لأن لدينا قاعدة مفيدة وهي: "أن كل حلال فهو طاهر وليس كل طاهر حلالا، وكل نجس فهو حرام وليس كل حرام نجسا". كل حلال طاهر واضح وليس كل طاهر حلالا مثل الأشياء الضارة كالسم والدخان، والحشيشة، وما أشبه ذلك، فهذه طاهرة وهي حرام على خلاف في مسألة الحشيشة والخمر، لكن القول الراجح أنها طاهرة. ثانيا: كل نجس حرام، الدليل: {قل لا أجد ما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن

يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145]. فعلل الله تعالى التحريم بالنجاسة، فدل ذلك على أن كل نجس فهو حرام، هذا من جهة الأثر - الدليل الأثري-، الدليل النظري: إذا كان يجب علينا أن نزيل أثر هذا الشيء من ظواهرنا فكيف ندخله إلى بواطننا وليس كل حرام نجسا، صحيح وهو كذلك كالدخان والسم وشبهه فإنه حرام وليس بنجس، إذن نستفيد من هذا الحديث: ان جميع ميتات البحر حلال، وجميع حيتانه وأسماكه حلال حيها وميتها. فإن قال قائل: ما تقولون فيما كان من جنس السباع من الحيتان أحلال هو أم لا؟ الجواب: الأصل حلال يوجد حيوانات - أسماك وحيتان- في البحر تعدو على الإنسان وتأكله كما يعدو السبع في البر ويأكل الإنسان، فهل هذه حرام؟ الجواب: لا، حتى لو كانت على صورة حية، أو على صورة إنسان، أو على صورة كلب فإنها حلال لعموم الأدلة. فإن قال قائل: هل في القرآن ما يدل على حل ميتة البحر؟ قلنا: نعم وهو قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم} [المائدة: 96]. قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله: "طعامه": إنه ما أخذ ميتا. [مسألة]: لو أن الماء تغير بسمك ميت فهل يكون طهورا؟ نعم يكون طهورا؛ لأنه تغير بشيء طاهر حلال فلا يضر. ثم قال: أخرجه الأربعة، وابن أبي شيبة، واللفظ له، وصححه ابن خزيمة، والترمذي، ورواه مالك، والشافعي، وأحمد. الأئمة الثلاثة رووا الحديث. وقوله: "اللفظ له" اعلم أن العلماء - رحمهم الله- الذين ينقلون من الأصول كصاحب البلوغ وغيره قد يختارون أحد الألفاظ ولو ممن دون غيره رتبة في الصحة؛ لأنه أشمل وأوسع، فيختارون هذا اللفظ وإن كان قد رواه من هو أشد تحريا منه للصحيح؛ لكنه يكون بلفظ مختصر، أو سياق ليس بجيد، أو ما أشبه ذلك، المهم أنهم قد يختارون اللفظ المخرج وإن كان أقل رتبة من الآخر لحسن سياق اللفظ. وقوله: "صححه" أي: حكم بصحته. واعلم أن الحديث الصحيح عند العلماء هو ما اجتمع فيه خمسة شروط: الأول: أن يكون الراوي له عدلا ... والثاني: أن يكون تام الضبط.

والثالث: أن يكون إسناده متصلا. ... والرابع: أن يكون سالما من الشذوذ. والخامس: أن يكون سالما من العلة القادحة. خمسة شروط هذا هو الصحيح، فإن اختل بتمام الضبط- بأن كانت الشروط تامة إلا تمام الضبط- فيكون الرواة أو أحدهم عنده خفة في الضبط انتقل من الصحة إلى الحسن وصار حسنا، فإن اختلت العدالة فهو ضعيف، وإن اختل الضبط كله فهو ضعيف، وإن اختل اتصال السند فهو ضعيف، وإن اختلت السلامة من الشذوذ فهو ضعيف، وإن اختلت السلامة من العلة القادحة فهو ضعيف، حتى لو فرض أن الحديث روي في كتاب يعتبر من الكتب الصحيحة، ومن ذلك مثلا ما رواه مسلم في صفة صلاة الكسوف أن الرسول صلى الله عليه وسلم "صلى ثلاث ركعات في كل ركعة". فهذا وإن كان في صحيح مسلم فإنه شاذ لعدول البخاري عنه، واتفاق البخاري ومسلم على أن في كل ركعة ركوعين، وقد أجمع المؤرخون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الكسوف إلا مرة واحدة، وعلى هذا فيحكم على ما سوى الركوعين في كل ركعة بأنه شاذ. ومن ذلك أيضا ما رواه مسلم في حديث المعراج حيث إنه رواه عن شريك، وقدم فيه وأخر فيعتبر هذا المخالف لما اتفق عليه الإمام البخاري ومسلم شاذا؛ ومن ذلك - على القول الراجح- "أفلح وأبيه إن صدق". فإن قوله: "وأبيه" لم ترد في البخاري إنما وردت في إحدى روايات مسلم وعلى هذا فتكون شاذة. على كل حال: الشذوذ في الحقيقة وإن كان مخرجا في كتاب صحيح، فإن الوهم وارد على كل إنسان ليس كل أحد معصوما من كل وهم. لابد أيضا أن يسلم من العلة القادحة وهي التي تقدح في أصل الحديث أو في سند الحديث، وأما غير القادحة فإنها لا تضر، ومن غير القادحة: اختلاف الرواة في مقدار ثمن جمل جابر، واختلافهم أيضا في مقدار ثمن القلادة التي في حديث فضالة بن عبيد هل هو اثنا عشر دينارا أو أقل أو أكثر، هذا لا يضر؛ لأن العلة غير قادحة، المهم الصحيح إذا قيل ما هو الصحيح في اصطلاح المحدثين؟ قلنا: ما رواه عدل تام الضبط بسند متصل وسلم من الشذوذ ومن العلة القادحة، فإذا اختل تمام الضبط وباقي الشروط موجودة فهو الحسن، وإن اختلت بقية الشروط فهو الضعيف.

طهارة الماء

طهارة الماء: 2 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء". أخرجه الثلاثة وصححه أحمد. "إن الماء" أي: جنس الماء، ف"أل" هنا للجنس فيشمل كل أنواع المياه، "طهور": أي مطهر؛ لأننا قلنا: الطهور ما يتطهر به. "إن الماء طهور لا ينجسه شيء". كلمة "شيء" نكرة في سياق النفي فتعم، كل شيء يقع في الماء فإنه لا ينجسه، ومن المعلوم أن هذا العموم غير مراد بلا شك، لأنه لو وقع في الماء نجاسة فغيرته؛ فإنه يكون نجسا بالإجماع، وعلى هذا فيكون هذا العموم مخصوصا بما تغير بالنجاسة؛ فإنه يكون نجسا بالإجماع، وعلى هذا فيكون هذا العموم مخصوصا بما تغير بالنجاسة؛ فإنه يكون نجسا بالإجماع، ولهذا قال النبي - عليه الصلاة والسلام- في السمن تقع فيه الفأرة قال: "ألقوها وما حولها". لأنها هي وما حولها ستكون نجسة؛ لأنها إذا ماتت أنتنت رائحتها وأنتن معها السمن. في هذا الحديث من الفوائد: أن الماء طهور مطهر من كل نجاسة سواء كانت نجاسة مغلظة كنجاسة الكلب، أو مخففة كنجاسة الصبي الذي لم يأكل الطعام، أو بين ذلك، وسواء كانت الطهارة حدث أو طهارة خبث، فالماء يطهرها. ومن فوائد هذا الحديث: أن الأصل في الماء الطهارة لقوله: "إن الماء طهور". وعلى هذا فإذا شككنا في ماء هل هو طهور أو نجس؟ فهو طهور. ومن فوائد هذا الحديث: أن الماء إذا تغير بطاهر فإنه طهور لقوله: "لا ينجسه شيء". ومن فوائد الحديث: طهارة الماء إذا غمس الإنسان يده فيه بعد قيامه من نوم الليل مع أن الرسول نهى الرجل إذا قام من النوم من الليل أن يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، لكن الرسول - عليه الصلاة والسلام- لم يقل: إن الماء نجس، وإنما نهى عن الغمس فقط، وإذا كان لم يقل: إنه ينجس دخل في عموم هذا الحديث أنه يكون طهورا باقيا على طهوريته. ومن فوائد هذا الحديث: جواز تخصيص السنة بالإجماع لقوله: "لا ينجسه شيء". قلنا: إن هذا مخصوص بالإجماع؛ لأن الماء إذا تغير بالنجاسة فإنه يكون نجسا على أن هذا التخصيص قد يعارض في كونه ثابتا بالإجماع؛ لأن هناك نصوصا تومئ إلى أن ما تغير بالنجاسة فهو نجس كما سنذكره - إن شاء الله- فيما بعد. اه

كيف ينتقل الماء من الطهورية إلى النجاسة

3 - وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الماء لا ينجسه شيء". المؤلف هنا يقول: "صلى الله عليه وسلم" وهذا هو المشهور عند العلماء في نقل الأحاديث، ولكن لو قال قائل: لماذا لا نكمل فنقول: على آله؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قيل: كيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد"، ونأتي بكلمة "على" للفرق بين هذا وبين صلاة الرافضة؛ لأن الرافضة يقولون: صل على محمد وآله، بدون ذكر "على"، فإذا أتيت بها حصلت موافقة الحديث الذي علم الرسول - عليه الصلاة والسلام- أمته بذلك، وحصلت مخالفة الرافضة في صيغة الصلاة، وإن اقتصرت على ما عليه العلماء فهذا شيء لا ينكر، مشى عليه العلماء وفيه خير إن شاء الله. "إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه، ولونه". أخرجه ابن ماجه، وضعفه أبو حاتم. يقول: "إن الماء لا ينجسه شيء" قارن بينه وبين الحديث الأول حيث قال: "إنه طهور لا ينجسه شيء"، وعلى هذا فيكون المعنى: إن الماء لا ينجسه شيء هو معنى: إن الماء طهور لا ينجسه شيء؛ لأنه إذا كان لا ينجسه شيء فهو طهور؛ إذ ليس عندنا إلا طهور ونجس كما يتبين من الأحاديث. كيف ينتقل الماء من الطهورية إلى النجاسة: قال: "إلا ما غلب على ريحه وطعمه، ولونه". "غلب"، أي: تغير الماء به؛ لأنه إذا تغير الماء به فقد غلب بالريح بأن غلبت رائحة النجاسة وبانت من الماء. ولكن هل يشترط أن تكون هذه الغلبة ظاهرة لكل أحد، أو يكفي إذا ظهرت ولو لبعض الناس إذا كان غير موسوس؟ الظاهر: الثاني؛ إذا ظهرت ولو لبعض الناس، إذن شرط ألا يكون موسوسا؛ لأن الموسوس يتوهم ما لم يتغير متغيرا، لكن إذا ظهر ولو لبعض الناس ثبت الحكم، كما أن الناس إذا رأى واحد منهم الهلال في رمضان ثبت الحكم كذلك هذا إذا وجدنا اثنين أحدهما شمه ضعيف والآخر شمه قوي، فقال الثاني: إنه تغير بالنجاسة- كفى. والحديث يقول: "إلا ما غلب على ريحه وطعمه"، وهذا أيضا المذاق يختلف الناس فيه اختلافا عظيما: من الناس من هو دقيق في مذاقه لو يتغير الشيء أدنى تغير لعلم به، ومن الناس من يكون مذاقه ضعيف لا يميز ولا يفرق إلا إذا كان التغير قويا، فالعبرة بماذا؟ . بوسط الناس أو

كتاب الطهارة بأقوى الناس ذوقا إذا لم يكن موسوسا، ولونه واضح: أيضا إدراك اللون يختلف الناس فيه، أليس كذلك من الناس من نراه قويا، ومن الناس من نراه غير قوي، فإذا أثبت أحدهم أنه تغير بشرط ألا يكون ذا وسواس؛ فإنه يحكم به. هذا الحديث إذا نظرنا إليه وجدنا أنه لابد أن يتغير الماء بالأوصاف الثلاثة وهي: الريح، والطعم، واللون فهل هذا المراد؟ استمع إلى المؤلف ماذا يقول: -وللبيهقي: "الماء طهور إلا أن تغير ريحه، أو طعمه، أو لونه بنجاسة تحدث فيه". فبين في هذه الرواية أنه إذا تغير أحد الأوصاف ثبت الحكم، دليل ذلك قوله: "أو"، و "أو" هنا للتنويع بخلافها في رواية ابن ماجة؛ فإنه ذكره بالواو الدالة على الجمع، وعلى هذا فنقيد رواية ابن ماجه برواية البيهقي، ونقول إذا تغير الريح أو الطعم أو اللون بالنجاسة حكم بنجاسته. في هذا الحديث فوائد، منها: أن الأصل في الماء الطهارة، وأنه لا يحكم بنجاسته إلا بالتغير. ومنها: تقييد حديث أبي سعيد السابق؛ لأن حديث أبي سعيد مطلق، وهذا مقيد بماذا؟ بما إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه. ومنها: أن الأدلة من الكتاب والسنة يحمل بعضها على بعض؛ لأنها خرجت من مشكاة واحدة، ولا يمكن أن نجعلها متفرقة متوزعة، فنكون ممن جعل القرآن عضين، بل نقول: إن القرآن يقيد بعضه بعضا ويخصص بعضه بعضا، وكذلك السنة، وهذا أمر متفق عليه، لكن قد يختلف العلماء في بعض الأشياء لسبب من الأسباب، وإلا فإن العلماء مجمعون على أن الشريعة واحدة، وما أطلق منها في موضع وقيد في موضع وجب اعتباره مقيدا. ومن فوائد هذا الحديث: أن الماء إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه تغيرا ظاهرا بينا، انتقل من الطهورية إلى النجاسة. ومن فوائده: أن الماء ينقسم إلى قسمين فقط: طهور، ونجس، وليس ثمت قسم ثالث يسمى طاهرا خلافا لما عليه كثير من الفقهاء من أن الماء إما طهور أو طاهر أو نجس، فإن كان طاهرا بنفسه مطهرا لغيره فهو طهور، وإن كان نجسا بنفسه منجسا لغيره فهو نجس، وإن كان طاهرا بنفسه ولكنه لا يطهر فإنه يكون طاهرا غير مطهر، ولكن هذا التقسيم أمر مهم لو كان من شريعة الله لكان مبينا في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم: لأن هذا يترتب عليه أمور عظيمة، ماذا يترتب

عليه؟ يترتب عليه الصلاة التي هي من أعظم الأشياء، ولو كان هذا من شريعة الله ليبينه الله ورسوله بيانا شافيا كافيا، فلما لم يقع ذلك بل قال: "إن الماء لا ينجسه شيء"، "إن الماء طهور لا ينجسه شيء"، علمنا بأن ليس هناك قسم يسمى الطاهر، وهذا الذي دلت عليه الأحاديث هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحم الله وقال: إن الماء إما طهور وإما نجس وليس ثمت قسم ثالث. عرفنا أن الماء ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما وعرفتم وجه الدلالة. ثانيا: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير لقوله: "لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه". ورواية البيهقي بالتنويع: ريحه، أو طعمه، أو لونه، فإذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فبناء على هذه القاعدة المبنية على الحديث يكون طهورا، قل أو كثر. القاعدة الثالثة: أنه إذا تغير أحد أوصافه: الطعم أو اللون أو الريح بالنجاسة صار نجسا لقوله: "إلا أن تغير ريحه، أو طعمه، أو لونه". القاعدة الرابعة: أن النجاسة التي تؤثر في الماء هي التي تحدث فيه، وعلى هذا فلة تغير ريح الماء بميتة حوله فإن الماء يكون طهورا؛ لأن في حديث البيهقي: "بنجاسة تحدث فيه"، وما كان خارج الماء فإنها ليست حادثة فيه، وقد حكى بعضهم إجماع العلماء على ذلك؛ أي: على أن الماء إذا تغير بالمجاورة من غير أن تحدث النجاسة فيه؛ فإنه يكون طهورا. القاعدة الخامسة: أن الأصل في الماء الطهارة لقوله: "تحدث فيه" والحادث ليس قديما بل هو متأخر، وعلى هذا فإذا وجدت ماء وشككت هل هو طهور أو نجس؟ فهو طهور؛ لأنه لا يمكن أن ينتقل من الطهورية إلا بنجاسة تحدث فيه، والحدث يكون متأخرا عن القديم. فإن قال قائل: بماذا نطهر الماء؛ يعني: إذا عرفنا أنه صار نجسا فبماذا يطهر؟ قلنا: يطهر بأي مزيل للنجاسة؛ أي مزيل للنجاسة فإنه يطهر به، لماذا؟ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فما دام الشارع قد علق نجاسة الماء بتغير الطعم أو اللون أو الريح، فإنه متى زال ذلك صار طهورا بأي سبب، فمثلا لو أنا أضفنا إلى هذا الماء موادا كيماوية حتى زالت النجاسة لا طعم ولا لون ولا ريح؛ فإنه يكون طهورا يجوز الوضوء به، ويجوز سقي النخل والزرع، ويجوز شربه إذا لم يكن على الإنسان ضرر في ذلك؛ لأن الحكم يدور مع علته، كذلك أيضا لو كان مع الريح والشمس زالت النجاسة بنفسها بدون أي عمل يكون أيضا

طهورا؛ لأن الحكم يدور مع علته، كذلك أيضا لو كانت النجاسة في جانب نرى أثرها في هذا الجانب اللون أو الطعم أو الريح لكن بقية الجوانب لم تتغير ثم أخذناها وما حولها مما تغير؛ بقي الباقي طهورا. وهذا يكون إذا كان الماء فاترا بعض الشيء لا طبيعيا؛ لأن النجاسة لم تمتد إليه في هذه الحال، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تموت في السمن فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم"، والحديث الذي فيه التفصيل: "إن كان مائعا فلا تقربوه، وإن كان جامدا فألقوها وما حولها" حديث لا يصح، فالذي في الصحيحين أنه قال: "ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم"، ثم إن الغالب في السمن في الحجاز أنه لا يكون جامدا؛ لأن الحجاز منطقة حارة. على كل حال: القاعدة في تطهير ما تنجس ما هي؟ أنه متى زالت النجاسة بأي مزيل أو زالت بنفسها فإنه يكون طهورا يطهر من الأحداث والأنجاس، أما مسألة الشرب إذا كانت طهورته بالمعالجة بالكيماويات فهذا يرجع إلى نظر الأطباء إذا قالوا: إنه لا يضر فليشرب لأنه زالت نجاسته. 4 - "وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه". أنا كنت بالأول أعلق تعليقا مفيدا جدا على الرواة والصحابة؛ مثلا عبد الله بم عمر أقول: توفي بمكة ودفن بذي طوى سنة (73) عن (87) سنة هذا شيء مختصر لو أنكم فعلتم هذا يكون جيدا، أنا فعلتها أيام الطلب؛ يعني: يبين الطالب ولو أدنى شيء الوفاة والولادة والعمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث". وفي لفظ: "لم ينجس" أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة، والحاكم، وابن حبان. يقول: "إذا كان الماء قلتين"، القلتان: تثنية قلة، فما هي القلة؟ القلة تحمل على ما ذكره الرسول - عليه الصلاة والسلام- في حديث المعراج؛ حيث قال: "إن ورقها كآذان الفيلة". وأظنه قال: "كقلال هجر". وهي تشبه ما يسمى عندنا بالجابية يوضع فيها الماء، وكانوا بالأول يبردون الماء في هذه الجابية؛ أي: يضعونه وهي شيء يشبه البرميل المصنوع من الطوب يبرد الماء، إذن القلتان تثنية: "قلة"، والمراد بها: قلال هجر، وذكر العلماء أن القلة تسع قربتين وشيئا، "الشيء" قالوا: يحمل على النصف؛ لأنهم لم يبنوا فيحمل على المناصفة كما لو قلت لاثنين: هذا

الطعام بينكما؛ يكون بينهما مناصفة، فإذا لم يتبين القسط فإنه يجعل على المناصفة، إذا كانت تسع قربتين وشيئا وجعلنا الشيء بمعنى النصف"، كم تكون القلتان؟ خمس قرب متوسطة. "لم يحمل الخبث". وفي لفظ: "لم ينجس". "لم يحمل الخبث" يعني: لم يتبين فيه أثره، هذا المراد بقوله: "لم يحمل الخبث"، ويفسره اللفظ الثاني: "لم بنجس" يعني: إذا بلغ هذا المقدار فإنه وإن سقطت نجاسته لم ينجس؛ لأنه بلغ حدا كبيرا لا تؤثر به النجاسة. وهذا الحديث اختلف العلماء في متنه وفي سنده، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن كلاما طويلا حول هذا الحديث، وفيه فوائد عظيمة حديثية لا تجدها في غيره، فمن أراد أن يراجعه ففيه فائدة كبيرة، وذكر تضعيف هذا الحديث من ستة عشر وجها، وكما تعرفون ابن القيم رحمه الله إذا تكلم في مسألة نفسه طويل، فهذا الحديث ضعيف وإن صححه من صححه من الأئمة لكن الكلام على الواقع. فلننظر الآن: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" يعني: لم ينجس فهل هذا على عمومه؟ لا شك أنه ليس على عمومه بالإجماع، لأننا لو أخذنا بعمومه لكان ظاهره أنه لا ينجس سواء تغير أم لم يتغير وهذا خلاف الإجماع، فإن العلماء مجمعون على أن الماء إذا تغير بالنجاسة فهو نجس، وعلى هذا فلا يصح الأخذ بعمومه، ف "لم ينجس" لنا مفهومه وهو أنه إذا لم يبلغ قلتين صار نجسا، وظاهره - ظاهر المفهوم- أنه سواء تغير أم لم يتغير، وحينئذ يكون مخالفا لحديث أبي أمامة السابق الدال على أنه لا ينجس الماء إلا بالتغير، ودلالة حديث أبي أمامة على أن الماء لا ينجس إلا بالتغير دلالة منطوق، ودلالة حديث ابن عمر هذا دلالة مفهوم، والعلماء يقولون: إذا تعارضت الدلالتان المنطوقية والمفهومية؛ فإنه يقدم على أن المفهوم يكتفى بالعمل به في صورة واحدة إذا صدق المفهوم في صورة واحدة كفى، فمثلا نقول: مفهومه إذا لم يبلغ قلتين لم يحمل الخبث؛ أي: إذا بلغ قلتين صار نجسا. فنقول: هذا يعم ما تغير وما لم يتغير، ويكفي أن نقول: إنه محمول على المتغير، وحينئذ نكون قد عملنا بالمفهوم، والمفهوم كما قال أهل الأصول يكفي في العمل به صورة واحدة. على كل حال: ما دام الحديث ضعيفا وعندنا حديث سابق أثري ويؤيده الدليل النظري؛ فإنه لا يعمل به، ويقال: إنه إذا بلغ قلتين وحدثت فيه نجاسية، فإن غيرته فهو نجس مطلقا، وإن لم تغيره فهو طهور إذا لم يبغ قلتين، فالحكم كذلك إذا حدثت فيه نجاسة إن غيرته فهو نجس، وإن لم تغيره فهو طهور، ولكن لا شك أنه كلما قل الماء وكبرت النجاسة كان تغير الماء بها أقرب، وحينئذ لابد أن تسلك سبيل الاحتياط؛ لأننا لا شك أنه لو نزل نقطة صغيرة

حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم

بقدر عين الجرادة في ماء يبلغ مثلا قربة كاملة فهذا لا يغير على مقتضى هذا الحديث إذا أخذنا بعموم المفهوم يكون نجسا ولكنه لا يكون نجسا، ولو سقطت نجاسة كبيرة فيما دون ذلك لكان تغير الماء بها قويا. فأنت أيها المسلم احتط لنفسك الذي يغلب على ظنك أن النجاسة تكثر فيه؛ لا تستعمله إلا لحاجة، وأما الذي يغلب على ظنك أن النجاسة لا تؤثر فيه أو تأكدت أنها لم تؤثر فيه؛ فلا يهمك أن يكون قليلا أو كثيرا، هذا هو الذي تدل عليه الأدلة والقواعد العامة في الشريعة، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. حكم اغتسال الجنب في الماء الدائم: 5 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب". أخرجه مسلم. "لا يغتسل" "لا" ناهية، والدليل على أنها ناهية جزم الفعل بها؛ لأن "لا" الناهية تعمل الجزم فيما تدخل عليه من الأفعال، وهي لا تدخل إلا على المضارع، فهي من علامات المضارع، وكذلك "لم" لا تدخل إلا على المضارع، فإذا وجدت كلمة دخلت عليها "لم" فهي للمضارع. "أحدكم في الماء الدائم" أحدكم هذا خطاب للرجال، واعلم أن أكثر خطابات القرآن والسنة موجهة للرجال؛ لأن الرجال هم رعاة العلم، وهم رعاة الأمة، فلهذا تجد أكثر الخطابات في القرآن والسنة موجهة إلى الرجال. وقوله: "في الماء الدائم"، الدائم سيأتي في الحديث الذي بعده أنه الذي لا يجري؛ لأنه ساكن لا يتحرك فهو دائم. وقوله: "وهو جنب" الجملة هذه حال؛ يعني: في موضع نصب على الحال من "أحدكم"؛ أي: من فاعل يغتسل يعني والحال أنه جنب لماذا؟ لأن الجنب وإن كان طاهر البدن لكن قد يكون هناك إفرازات خفيفة بسبب الجنابة لا ندري ما هي فتؤثر في الماء توسخه وتقذره؛ فلهذا نهي أن يغتسل في الماء الدائم وهو جنب. في هذا الحديث فوائد كثيرة؛ منها: رعاية الشريعة للصحة؛ لأن كون الإنسان يغتسل وهو جنب في ماء راكد لا يدخل عليه شيء ولا يخرج منه شيء لا شك أنه سيلوثه وسيكون علة له ولغيره. ومنها: شمول الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم فهي شاملة لمصالح الناس في المعاد والمعاش خلافا لمن قال: إن الشريعة هي تنظيم العبادة فيما بين الإنسان وبين ربه، والباقي موكول إلى الناس، وهذا يخشى أن يكون من باب الكفر ببعض الشريعة والإيمان ببعضها.

الشريعة شاملة لكن الناس يختلفون في العلم والفهم، قد يقصر علم الإنسان عن الإحاطة بالشريعة وهذا كثير، وقد يقصر فهمه عما أحاط به من الشريعة فيظن أن الشريعة مقصرة أو قاصرة في هذا الباب. ومن فوائد هذا الحديث: تحريم أو كراهة اغتسال الإنسان وهو جنب في الماء الدائم، من أين يؤخذ؟ من النهي، وقد اختلف الأصوليون في النهي هل هو للكرامة أو التحريم، أو يفرق بين ما كان مبناه العبادة وما كان مبناه الأدب والنظافة، فالأول محرم، والثاني للكراهة. قالوا: إنما كان النهي للتحريم؛ لأنه في جانب العبادة، والإنسان إنما خلق للعبادة، فلابد أن يحققها فعلا للمأمور وتركا للمحظور، أما العادات وما يعود للصحة والنظافة وما أشبه ذلك فيحمل على الكراهة، والمتأمل للأحاديث التي ورد فيها النهي يرى أن هذا القول أقرب ما يكون؛ لأنه يمر بك أحاديث فيها نهي ولم تكن للتحريم ولا يمكن أن تقول إنها للتحريم، ويمر بك أحاديث تقول إنها للتحريم فإذا وجد نهي مطلق غير مقرون بما يدل على أنه للتحريم، فأقرب الأقوال في ذلك الوسط أن ما كان شأنه شأن العبادة فهو للتحريم، وما كان للنظافة والعبادات وما أشبه ذلك فهو للكراهة. ومن فوائد هذا الحديث: فوائد الاغتسال في الماء غير الدائم، والماء غير الدائم ينقسم إلى قسمين: قسم: الآن يجري، كالأنهار والسواقي. السواقي التي تجري هذه تطهر منها الإنسان ولا إشكال في ذلك سواء [كان جنبا] أو غير جنب فينوي الاغتسال ويغتسل ينغمس فيها، ولكن لا شك أن الذي يجري سوف يتجدد الماء على البدن فهل نقول كل جرية تجزئ عن غسله؟ الجواب: نعم، كل جرية تجزئ عن غسله، ولهذا قال الموفق رحمه الله في "المغني": إن الرجل إذا حرك يده في الماء ثلاث مرات فقد غسلها ثلاثا؛ لأن الماء يتجدد بالحركة، إذا كان الماء يجري فكل جرية تغمر البدن تعتبر غسلة. والقسم الثاني من الماء غير الدائم: الذي هو الآن راكد، لكن نعلم أنه سوف بفتح له بعد ساعة أو ساعتين ويمشي ويجري كما يوجد هذا في البرك - برك البساتين- تجد البركة الآن مملوكة لا تجري هي الآن لكنه سوف يفتحها من يلوث الماء ويوزعها على الحائط ويأتي ماء جديد، هل نجعل هذا من الدائم أو من الجاري؟ هذا من الجاري، هذا لا شك أنه من الجاري: لأن هذا الماء سوف يذهب. إذن ما هو الماء الدائم؟ الماء الدائم: ما يكون في الغدران. أتعرفون الغدران؟ مستنقعات الأمطار، نعم هي دائمة؛ لأن المطر قد ينزل وقد لا ينزل، وقد يبقى الغدير دائما على هذا الوضع فهذا هو الذي ينطبق عليه الحديث.

من فوائد هذا الحديث - وهو من مفهومه-: أنه يجوز الاغتسال في الماء الدائم عن غير جنابة كما لو اغتسل للتنظيف أو اغتسل غسلا مستحبا كما لو أفاق من إغماء واغتسل غسلا فهذا مستحب. فهل نقول بهذا المفهوم أو نقول: المفهوم فيه تفصيل؟ نقول: المفهوم فيه التفصيل؛ لأن الإنسان إذا اغتسل في الماء الدائم من غير جناية قد يكون جسده ملوثا بأذى يؤذي الناس برائحته وإن لم ينغمس في الماء؛ فهذا نقول: إنه ينهى عن أن يغتسل في الماء الدائم، لكن نأخذ هذا من الحديث أو من القواعد العامة؟ القواعد العامة في أن الإنسان لا يجوز أن يؤذي المسلمين، وهذا يؤذي المسلمين؛ لأن المقصود: أنه في غدير، كل يأتي ويغتسل منها ويشرب منها، فإذا كان في الإنسان وسخ كثير يتغير به الماء حتى يطفو على سطح الماء ما يكون كالدهن من الأذى الذي يكون بالجلد؛ فهذا لا شك أنه ينهي عنه من أجل أنه يقذره ويكون هذا داخلا في القواعد العامة. أما لو كان البدن نظيفا واغتسل فيه من غير جنابة فالحديث يدل على الجواز. ومن فوائد هذا الحديث: ذكر الجنب، فما هو الجنب؟ الجنب: من لزمه الغسل عن جماع أو إنزال. هذا الجنب، وقد كان كثير من الناس ولا سيما السباب الذي تزوج أخيرا يظن أنه لا غسل بالجماع المجرد، وهذا خطأ وينبغي لطالب العلم أن ينشر بين الناس أن الجماع يوجب الغسل وإن لم يحصل إنزال، بعض الناس يسألنا له شهر أو شهران أو أكثر لا يغتسل من الجنابة إلا إذا كان هناك إنزال وهذا خطأ. لماذا أتى المؤلف بهذا الحديث في هذا الباب؟ إشارة إلى قول بعض العلماء - رحمهم الله- أنه إذا اغتسل في الماء الدائم وهو جنب فإنه يكون نجسا، وبعضهم يقول: إنه يكون طاهرا وغير مطهر، ونحن نقول: الحديث لا يدل لا على هذا لا على هذا، أما الأول: فما أبعد دلالته عليه كيف يكون نجسا والجنب طاهر، إن أبا هريرة كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق فانخنس - يعني: انسل في خفية- واغتسل ثم حضر، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "أين كنت يا أبا هريرة؟ " قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك على غير طهارة، فقال: "سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس". فقال: "إن المؤمن" إشارة إلى أن أبا هريرة لما فهم أن الجنب لا يجالس الشرفاء والعظماء بين له أنه لا ينجس وهو جنب، فالقول بأن الماء ينجس قول ضعيف جدا، وأما القول بأنه يكون طاهرا غير مطهر فهو غير مسلم به لأمرين:

النهي عن البول في الماء الدائم

أولا: أننا لا نسلم بوجود قسم من الماء يسمى طاهرا ليس فيه دليل. وثانيا: لو سلمنا بهذا أو كان فيه دليل عليه؛ فإن هذا الحديث لا يدل عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لحكم الماء إطلاقا وإنما وجه الخطاب لمن اغتسل، أما الماء فلم يتعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم. النهي عن البول في الماء الدائم: قال: وللبخاري: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه". هذا فيه خصوص وعموم بالنسبة لما سبق، هنا قال: "ثم يغتسل فيه"، ولم يقل: "من الجنابة"، لكنه قيد هذا النهي عن الاغتسال بماء إذ بال فيه: فقوله: "لا يبولن": البول معروف، وقوله: "في الماء الدائم" فسره بقوله: "الذي لا يجري"، وقوله: "ثم يغتسل فيه" أي: ينغمس؛ لأن "في" للظرفية، والظرف يكون عاما للمظروف، فإذا جعلنا الماء ظرفا لزم من ذلك أن الإنسان ينغمس فيه، إذن هذا الحديث ليس الحديث الأول؛ لأن الحديث الأول نهى الرجل أن يغتسل وهو جنب، أما هذا فهو نهي الرجل أن يبول في الماء ثم يغتسل فيه، ولا شك أن هذا النهي موافق للحكمة؛ لأنه كيف تبول فيه والبول نجس، ثم تذهب لتطهر به أو تتنظف به، هذا غير لائق حتى الفطرة والطبيعة تنافي ذلك.

يبولن أحدكم في الماء الدائم"، فسره بقوله: "الذي لا يجري" "ثم يغتسل فيه": ذكر المحدثون أن هذه الجملة الأخيرة رويت على ثلاثة أوجه: على الرفع، والنصب، والجزم: فعلى رواية الجزم نقرؤها هكذا: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه" وتكون معطوفة على "يبولن" لكنها جزمت؛ لأنه لم يتصل بها نون التوكيد، ويكون معنى الحديث: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ولا يغتسل فيه. فيكون هذا الحديث مشتملا على مسألتين كل واحدة مستقلة عن الأخرى: الأولى: النهي عن البول. والثانية: النهي عن الاغتسال في الماء الدائم الذي لا يجري. على رواية النصب: تكون "ثم" هنا ملحقة بواو المعية، وواو المعية بعد النهي يكون الفعل بعدها منصوبا. نقول: "لا تأكل السمك وتشرب اللبن"؛ أي: مع شرب اللبن، حملوا "ثم" هنا في العمل على الواو، فقالوا: لا يبولن ثم يغتسل، وعلى هذا فيكون المعنى: لا يجمع بين البول والاغتسال. وعلى رواية الرفع: يكون النهي في مسألة واحدة وهي: البول، ويكون "يغتسل" مستأنفة غير معطوفة على "يبولن" ب "ثم" أي: ثم هو يغتسل فيه، المعنى: أنه من أقبح الأشياء أن شخصا يبول بماء ثم يذهب يغتسل منه، هذا مناف للفطرة؛ لأن المفروض أن الماء إما أن يتنجس بالبول أو تتقذر منه النفس فكيف تبول في شيء ثم تهذب تتطهر به، هذا مناف للفطرة. ونظيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجلد الرجل امرأته جلد العبد ثم يضاجعها. المعنى: ثم هو يضاجعها؛ لأن هذا ينافي الفطرة والنفوس، كيف في الصباح تجلدها جلد العبد وتأتي آخر الليل تضاجعها لتستمتع بها، هذا تأباه النفوس في الواقع، وعلى هذا كأنه يقول: لا يبولن أحدكم بالماء الدائم، ثم بعد ذلك يحتاج فيغتسل فيه، وهذا مما تأباه النفوس وتنفر منه. على كل حال لنجعلها على المعنى الأول: يغتسل فيه؛ فيكون هذا يتضمن النهي عن مسألتين: الأول: البول في الماء الدائم الذي لا يجري؛ لأنه إذا بال فيه استقذرته النفوس، وربما مع كثرة البول وقلة الماء يتغير الماء بالنجاسة فيفسد. والمسألة الثانية: لا يغتسل في الماء الدائم، وظاهره لا يغتسل لا من جنابة ولا للنظافة بل النهي عام، سيأتي في بعض ألفاظ الحديث التقييد بالجنابة ليوافق حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم، إذن يكون في هذا الحديث نهي عن مسألتين: عن البول في الماء الدائم، وعن

الاغتسال فيه، وهل يقيد من الجنابة أو يحمل على إطلاقه؟ يؤخذ على إطلاقه لأننا إذا أخذناه على إطلاقه شمل الغسل من الجنابة والغسل للتبرد ونحوه. ثم قال: ولمسلم: "منه"، والفرق بين (من)، و (في): أن (في) تدل على الانغماس في الماء، و (من) تدل على الاغتراف وبينهما فرق. قال: ولأبي داود: "ولا يغتسل فيه من الجنابة". فهي موافقة لرواية البخاري إلا أنها مقيدة لها؛ لأن المراد: يغتسل فيه من الجنابة، وعلى هذا القيد يكون موافقا للفظ مسلم الذي جعله المؤلف أصلا وهو قوله: صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب". أما فوائد الحديث، فالحديث فيه فوائد؛ منها: أن الشريعة الإسلامية جاءت بالنظافة والبعد عن الأوساخ والأقذار، وذلك للنهي عن الاغتسال في الماء الراكد سواء كان هذا الاغتسال يؤثر على الماء أو لا؛ لأنه إن لم يؤثر في أول مرة أثر في المرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، والشريعة الإسلامية كلها نظافة كلها طهارة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز للإنسان أن يغتسل في الماء الدائم وهو جنب بناء على أن الأصل في النهي التحريم، وإذا اغتسل في الماء الدائم وهو جنب فهل ترتفع جنابته؟ إذا أخذنا بالقاعدة المعروفة: أن ما نهي عنه لذاته فإنه لا يصح، وهنا وقع النهي عن الغسل لذاته، لا يغتسل في الماء وهو جنب وعليه فإذا اغتسل في الماء وزهو جنب فإنه لا يصح اغتساله، وهو ظاهر جدا على قول من يرى أن الماس المستعمل يكون طاهرا غير مطهر، ومن العلماء من يقول: إن النهي هنا للكراهة، وعلى هذا القول لو اغتسل لارتفع حدثه؛ لأنه لم يفعل محرما وإنما فعل مكروها، والمكروه كراهة التنزيه ليس فيه إثم. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الاغتسال للتبرد والتنظيف في الماء الدائم، دليله قوله: "وهو جنب" ولكن قد يعارضنا معارض ويقول: إنه قيد الجنابة، وأن الإنسان في حاجة للاغتسال فإذا نهى عن الاغتسال في الماء الدائم مع الحاجة فالنهي عنه من دون حاجة من باب أولى، وعلى هذا فنقول: إن هذا القيد وإن دل بمفهومه على جواز الاغتسال بغير جنابة لكنه قال: إن الاغتسال لغير الجنابة من باب أولى، ويؤيد هذا القول العموم في رواية البخاري: "ثم يغتسل فيه"، وهذا هو الأقرب أنه ينهى عن الاغتسال في الماء الدائم من الجنب وغير الجنب. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو اغتسل في ماء جار لجنابة أو غير جنابة فإنه جائز ولا نهي فيه، لأن هذا القيد الدائم وصف مناسب للنهي، وإذا كان وصفا مناسبا للنهي صار وصفا لابد من العمل به، فيقال: إذا اغتسل من الجنابة أو غير الجنابة من ماء جار فلا بأس، أما رواية

البخاري ففيها دليل على تحريم البول في الماء الدائم الذي لا يجري، ويفهم منها جواز البول في الماء الذي يجري؛ لأن قده ب "الدائم" يدل على أن غير الدائم لا بأس به لكن بشرط ألا يفسده على غيره أو يقذره عليه، فإن كان هذا الماء يجري؛ يجري على أناس - مستخفين على الساقي- يتوضئون أو ما أشبه ذلك فهنا لا يحل له أن يفعل لا لأنه يشمل النهي، ولكن من أجل إيذاء المسلمين، وأذية المسلمين لا تجوز. ومن فوائد الحديث: [وهل] يجوز الغائط في الماء الدائم الذي لا يجري؟ لا، لا يجوز، وهذا قول داود الظاهري رحمه الله، حيث إنه يقول: يجوز الغائط في الماء الدائم. قالوا: وهذا من أقبح ما ينتقد عليه في ظاهريته؛ يعني: البول الذي ربما يختلط بالماء ويضمحل لا يجوز وهذا يجوز أي: الغائط، لكن له أن يدفع، يقول: الغائط مشاهد ويمكن أن تتحرز منه، لكن البول يختلط بالماء ولا يمكن أن تتحرز منه، لكن لا تنفع هذه المدافعة؛ لأنه حتى ولو كان يشاهد سوف يستقر في الماء؛ فالصواب تحريم هذا، وهذا عليه جمهور الأمة، لكن ذكرناه من أجل الاطلاع فقط، وأن الجامدين على الظاهر أحيانا يأتون بالعجب العجاب كقولهم: يجوز أن يضحي بالجذع من الضأن ولا يجوز أن يضحي بالثنية، تعرفون الجذع الصغير والثنية أكبر منه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن". أيهما أولى؟ الثنية؛ لأن الرسول قال هذا على سبيل النزول، ومثل ذلك أيضا قولهم: لو أن رجلا استأذن ابنته البكر، وقال: إنه خطبك فلان وهو رجل طيب مستقيم ذو مال وجاه، فقالت: هذا الذي أريده زوجني إياه؛ فإنه لا يحل له أن يزوجها، ولو قال لها: خطبك رجل ذو خلق ودين وعلم وجاه، فسكتت فإنه يزوجها. الأولى لا يزوجها لماذا؟ ما سكتت، والرسول - عليه الصلاة والسلام- قال في البكر: "إذنها أن تسكت". مثل الجمود على هذه الظاهرية لا شك أنه خطأ فادح لكن ذكرناه لأنه ربما يأتي بعض الناس ليس في مثل هذا القبح لكن أقل فيأخذ بالظاهر ولا يلتفت إلى القواعد العامة في الشريعة. إلا أني بعد هذا أقول لكم: إن ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" قال: إن مذهب الظاهرية خير من مذهب أهل التأويل المولعين بالمعاني؛ وذلك لأن أهل التأويل يردون النصوص لعقيدة فاسدة، فمثلا يقولون: يجوز أن تزوج المرأة نفسها بغير ولي كما يجوز أن

تبيع مالها بغير ولي، وهذا مصادم للنص، مصادم للصريح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي". وتعبيرات القرآن الكريم تدل على ذلك: {ولا تعضلوهن} [النساء: 19]. {وأنكحوا الأيمى منكم} [النور: 32]. وأما أشبه ذلك، لكن لسنا هنا نريد أن نفاضل بين الناس، لكننا نريد أن نبين أمثلة من أجل أن يعرف الإنسان كيف يصير في استعمال الأدلة من الكتاب والسنة. ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن الاغتسال في الماء الدائم مطلقا سواء من الجنابة أو لغيرها لقوله: "ثم يغتسل فيه". ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن البول ثم الاغتسال؛ لأنه من باب أولى إذا نهى عن البول وحده والاغتسال وحده فالنهي عن الجمع بينهما من باب أولى، ثم إن ظاهر تعبير الحديث إذا تأملته وجدته إنما يتعلق بهذه الصورة فقط وهي البول ثم الاغتسال، هذا هو مقتضى سياق اللفظ. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز أن يبول في الماء ثم يغتسل منه هذا بناء على رواية مسلم" وتقدم ذكر الفرق بين "منه" و "فيه" كما سبق في الشرح. ومن فوائد هذا الحديث: أنه هل يجوز للإنسان أن يبول في إناء ثم يصبه في الماء الذي لا يجري؟ لا، هذا مذهب الظاهرية يقول: لو بال في إناء ثم صبه في الماء فإنه لا يتناوله النهي، وليس معنى ذلك أنه جائز عندهم، لا لكن يقولون: لا يتناوله النهي؛ يعني: بصيغته، فلذلك نقول: الصواب أنه لا فرق بين أن يبول فيه مباشرة أو بإناء ثم يصبه فيه. ومن فوائد الحديث أيضا: في رواية أبي داود أنه لا يغتسل في الماء الدائم من الجنابة، وظاهره أنه إذا بال في الماء يعني الجمع بينهما، لكن رواية مسلم السابقة التي جعلها المؤلف أصلا في الحديث تدل على أنه لا يجوز الاغتسال فيه من الجنابة وهو دائم. وخلاصة هذا الحديث وألفاظه: أولا: أن الإنسان لا يبول في الماء الدائم الذي لا يجري مطلقا إلا أننا استثنينا الأنهار والأودية الكبار وما أشبه ذلك فإن هذا جائز بالاتفاق، واستثنينا أيضا من الماء الدائم البحار أو البحيرات. الشيء الكبير الذي لا يؤثر فيه البول شيئا. قال العلماء: هذا لا بأس به؛ لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما ينصرف إلى الشيء المعهود وليس في المدينة بحار ولا أنهار هذه واحدة. ثانيا: أنه لا يبول فيه ولا يغتسل منه؛ لأن ذلك مستقذر مستقبح عرفا وفطرة لقوله: "لا يبولن ثم يغتسل".

اغتسال الرجل بفضل المرأة والعكس

ثالثا: أنه لا فرق بين الاغتسال فيه والاغتسال منه؛ لأن الألفاظ تدل على ذلك، وحتى لو فرض أنه ليس فيه. لفظ: "منه" نقول: إذا نهي عن الاغتسال فيه فالاغتسال منه بمعناه، ولو نهي عن الاغتسال منه فالاغتسال فيه بمعناه. اغتسال الرجل بفضل المرأة والعكس: 6 - وعن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعا". أخرجه أبو داود، والنسائي، وإسناده صحيح. قوله: "نهى"، النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة، فقولنا: طلب خرج به الخبر، الخبر ليس طلبا اللهم إلا أن يكون بمعناه بدليل آخر، والثاني: طلب الكف خرج به الأمر؛ لأن الأمر طلب الفعل، وقولنا: على وجه الاستعلاء خرج به الدعاء والالتماس، فقولنا: ربنا لا تؤاخذنا، لا يمكن أن نقول إنه نهي؛ لأن القائل ربنا لا تؤاخذنا هل قاله على وجه الاستعلاء؟ لا، قالها على وجه الاستذلال والاستعطاف، خرج أيضا الالتماس، الالتماس أن يقول الإنسان لزميله أو من كان في درجته أو قريبا منه: لا تفعل. مثلا رأيت إنسانا يعبث، قلت: يا أخي، لا تعبث، أنت ليس لك سلطة عليه؛ لأنك قلت: لا تعبث، وعبثه قليل إلا أن يزيد؛ لأنه ليس لك سلطة عليه، لكن تقول: لا تعبث التماسا. وقولنا: بصيغة مخصوصة. فما هذه الصيغة؟ صيغة النهي واحدة وهي: المضارع المقرون ب "لا" الناهية، تقول: لا تفعل ها نهي، أما ما دل على الكف بصيغة الأمر فهو أمر كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثن واجتنبوا قول الزور} [الحج: 30]. لا شك أن هذا نهي عن أن نمارس الرجس من الأوثان، لكنه لا يسمى نهيا اصطلاحا لماذا؟ لأنه بغير صيغة النهي "اجتنبوا" هذا طلب كف على وجه الاستعلاء، وهذا هو الأمر، إذن النهي: طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة. فإذا قال الصحابي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجعله كالصيغ الصريحة أو نقول هذا في حكم الصيغة الصريحة؟ الثاني: نعم، لأن كلمة "نهى" ليست ككلمة لا تفعل، قد يفهم الإنسان من شخص تكلم معه بكلام أنه نهى وهو لم ينه، لكن لثقتنا بالصحابة وثقتنا بمعرفتهم لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بقرائن اللفظ الحال يجعلنا نجزم بأن النهي وإن ورد بلفظ "نهى" أو "كان ينهى" فهو مثل النهي الصريح. فإذا قال قائل: قد يفهم الإنسان ما ليس بنهي نهيا؟

قلنا: هذا بالنسبة للصحابة ممتنع وغير وارد؛ لأن الصحابة أعلم الناس بصيغ النهي، وأعلم الناس بمراد الرسول - عليه الصلاة والسلام- ولا يمكن - لأمانتهم- أن يطلقوا هذا اللفظ من غير أن يفهموا أن النهي صريح. فإذا قال قائل: إذا قلتم هذا لماذا لم يسوقوا اللفظ - لفظ الرسول- وهو: "لا يغتسل الرجل بطهور المرأة"؟ نقول: إنه ربما يكون طرأ عليهم نسيان، نسوا اللفظ فرووه بالمعنى، وهذا جواب واضح جدا. وإلا فقد يقول قائل: إذن لماذا عبروا بنهي أو عبروا في الأمر بأمر ولم يأتوا بصيغة معينة؟ نقول: ربما ينسى الإنسان ويعبر بما كان يعلمه علم اليقين، يقول: "صحب النبي صلى الله عليه وسلم" صحب النبي كم سنة؟ الصحبة بالنسبة للرسول خاصة يكتفى فيها بساعة واحدة وأقل من هذا؛ ولهذا قالوا الصحابي هو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ولو لحظة ومات على لذم ولو لم يعلم به الرسول حتى وإن لم يعلمه؛ كما لو كان في جمع كبير لكن رأى الرسول، نقول: هو صحابي ولو لم ير الرسول لكن اجتمع به مثل أن يكون أعمى أو بمكان بعيد لم يشاهده لكن في الجمع الذي به الرسول، إذن الصحابي: من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك، انتبه لكلمة من اجتمع بالنبي لتعرف أنه يقتضي أن يكون اجتماعه به بعد أن كان نبيا فلو اجتمع به قبل الرسالة بل قبل النبوة ثم لم يره بعد ذلك وآمن به بعد أن سمع بخبره آمن به لكنه بعد إيمانه به بعد النبوة لم يجتمع به هل يكون صحابيا؟ لا؛ لأننا نقول: من اجتمع بالنبي في وصف كونه نبيا ومات على ذلك فهو صحابي، لو ارتد بعد وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام- في أثناء حياته ثم عاد إلى الإسلام فصحبته باقية على الأرجح؛ لأن الله تعالى لم يذكر أن الردة تحبط الأعمال إلا إذا مات الإنسان عليها، قال الله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعملهم في الدنيا والآخرة} [البقرة: 217]. أسئلة: - إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث فما معنى قلتين؟ قلتين تثنية (قلة) والقلة: شيء يصنع من الفخار، وتسمى غندنا الزير. - ما المراد بالقلة؟ هي قلال هجر لأنها هي المعهودة عندهم. - كم تسع؟ - القلة الواحدة تسع قربتين وشيئا، وعلى هذا تكون القلتان خمس قرب.

- ما معنى قوله: لم يحمل الخبث؟ لم ينجس. - ما مفهوم الحديث؟ - ما المراد بالماء الدائم الذي لا يجري؟ - إذا اغتسل في الماء الدائم من غير جنابة ولكن من غائط؟ ظاهر الحديث أنه لا بأس به، وهل هذا على إطلاقه؟ لا، إذا كان جسده ملوثا بالنجاسة أو وسخ فلا يغتسل. - هل من الماء الدائم أو الجاري ما يعرف عند الناس بالأحداث الصغيرة يكون الماء فيها محبوسا؟ لا، هذا من الماء الجاري؛ لأنه محبوس لمدة. ذكر المؤلف رحمه الله: "ثم يغتسل منه"، و "ثم يغتسل فيه من الجنابة" فما الفرق بين "فيه" و "من"؟ فيه ينغمس، ومنه يغترف. - لماذا جاء في لفظ أبي داود: "يغتسل فيه من الجنابة"؟ ليقيد الإطلاق في رواية البخاري. - الحديث الذي بعده يقول: عن رجل صحب النبي، بماذا تتحقق صحبة النبي؟ باجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم ولو لحظة. - ما الفرق بين صحبة الرسول وغيره؟ في الحديث إشكال، وهو أن الرجل الذي صحب الرسول صلى الله عليه وسلم كان مجهولا، هل يقدح هذا في صحة الحديث؟ لا، لماذا؟ لأن الصحابة كلهم عدول فلا يضرنا أن نجهل الراوي منهم. - ما هو النهي؟ طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة. - ما هي الصيغة المخصوصة؟ المضارع المقرون ب "لا" الناهية مثل: لا تفعل. - اجتنبوا، هل هذا نهي؟ ليس نهيا ولكنه أمر بالاجتناب. قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعا" أخرجه أبو داود، والنسائي وإسناده صحيح. أن تغتسل المرأة بطهور الرجل يعني: إذا اغتسل الرجل في إناء ثم فارق المكان فجاءت المرأ لتغتسل منه فهذا مورد النهي؛ لأنها الآن يصدق عليها أنها اغتسلت بفضل الرجل، وكذلك العكس أن يغتسل الرجل بفضل المرأة تغتسل المرأة بالماء ويفضل بعدها بقية فيأتي الرجل ويغتسل بهذه البقية، وهذا أيضا مورد النهي، ثم بعد هذا النهي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر خير منه فقال: "وليغترفا جميعا". واللام في قوله: "وليغترفا" لام الأمر، والضمير في "يغترفا" يعود إلى المرأة والرجل، ومن المعلوم أنه لا يراد به كل امرأة ورجل، وإنما يراد به: المرأة التي هي الزوجة والرجل الذي هو الزوج. قوله: وليغترفا جميعا" ينبغي أن نقف عندها حتى نبين أشياء حول هذه اللام وأختها

التي هي لام التعليل؛ لأن كثيرا من الناس يخطأ فيها، في القرآن الكريم مثلا لام الأمر إذا أتت بعد حرف العطف الواو أو الفاء أو ثم فإنها تقع ساكنة، ومثال ذلك قول الله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29]. "ثم ليقضوا" اللام ساكنة، "ليوفوا" اللام ساكنة، "وليطوفوا" اللام ساكنة. ومثلها بعد الفاء: {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ} [الحج: 15]. فهنا وقعت بعد الفاء ساكنة ولابد. لام التعليل تكون مكسورة في كل حال كما في قوله تعالى: {ليكفروا بما ءاتينهم وليتمتعوا} [العنكبوت: 66]. {ليكفروا} {وليتمتعوا} فمن قرأها: {وليتمتعوا} فقد أخطأ؛ لأنها تغير المعنى. {هذا بلغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر} [إبراهيم: 52]. فمن قرأها: {وليذكر} فقد أخطأ خطأ عظيما ولحن لحنا يستحيل به المعنى؛ لأن كثيرا من الذين يقرءون القرآن تسمعهم وهم ليس عندهم جهل لكن تفوتهم مثل هذه المسائل أو أنهم يبصرونها لكن مع الإدراج يظنوا أنهم يسكنونها، إنما لابد أن يكون الكسر بينا: {هذا بلغ للناس ولينذروا به} بكسر اللام {وليذكر} لابد أن تبين أن اللام مكسورة، {وليذكر أولوا الألباب} هنا "ولغترفا جميعا" نقول: وليغترفا أم وليغترفا؟ وليغترفا لأن اللام لام الأمر. في هذا الحديث توجيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدب رفيع وهو أن الرجل مع زوجته إذا وجب عليهما الغسل فلا ينبغي أن يذهب الرجل يغتسل وحده ثم تأتي بعده المرأة، أو المرأة ثم يأتي بعدها الرجل، بل الأفضل أن يغترفا جميعا، وهذا الذي أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يفعله؛ فقد كان هو صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها يغتسلان من إناء واحد تختلف فيه أيديهما حتى إنها تقول: "دع لي، دع لي". إذا سبقها وتختلف الأيدي فيه، وهذا يقتضي أنها إلى جنب زوجها تغتسل؛ فصار في هذا سنة قولية، وفيه أيضا من الإلفة والاقتصاد في الماء ما هو معلوم؛ لأن الرجل إذا كان قد رفع الكلفة بينه وبين أهله فإن هذا يوجب زيادة الثقة وزيادة المودة. في هذا الحديث من الفوائد: إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هو مصلحة للأمة حتى في الأمور التي قد يستحيا من ذكرها؛ لأن هذا قد يستحيي بعض الناس من ذكره. ومن فوائده: أن الأولى للإنسان ألا يفرد أهله بغسل ونفسه بغسل. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للرجل أن ينظر إلى أهله وليس بينه وبين أهله عورة؛ يعني: يجوز أن يغتسل وهو عار وتغتسل هي أيضا وهي عارية ولا بأس بذلك، وأما الحديث الذي

يروى عن عائشة قالت: "ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: الفرج- ولا رآه مني"؛ فهذا ليس بصحيح، إذن يؤخذ من ذلك: جواز تعري الرجل أمام زوجته والمرأة أما زوجها. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للزوج أن يفعل كل ما يكون فيه الإلفة بينه وبين زوجته ورفع الكلفة، فإن هذه الصورة التي ذكرها الرسول - عليه الصلاة والسلام- وأرشد إليها لا شك أن فيها الإلفة ورفع الكلفة. يرى بعض أهل العلم أن الرجل لو اغتسل بفضل المرأة فإنه لا يرتفع حدثه لكنهم اشترطوا شروطا: منها: أن تكون حالية به. ومنها: أن يكون قليلا. ومنها: أن يكون خلوها به عن حدث لا عن نجاسة. وذكروا أشياء، لكن الشأن أنهم يقولون: إن الرجل لو تطهر به لم يرتفع حدثه، فإن لم يجد غيره تطهر به وتيمم، وهذا قول لا أساس له من الصحة لماذا؟ أولا: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- بين أن هذا النهي ليس نهي تحريخم ولكنه نهي تأديب لقوله: "وليغترفا جميعا". ثانيا: أنه لو فرض أنه نهي تحريم فليس في ذلك إشارة إلى أنه لو فعل لم يرتفع الحدث. وقد لقول قائل: إنه لو فعل لم يرتفع حدثه؛ لأنه فعل ما لم يؤمر به، فعمل عملا ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون مردودا. نقول: لو سلمنا هذا جدلا فلماذا يفرق بين الرجل والمرأة، لماذا لا يقال: إذا اغتسل الرجل بالماء خاليا به فإن المرأة لا تغتسل به، أليس هذا هو مقتضى العدل في حديث واحد النهي واحد؟ فنقول في جانب منه: إن الطهارة غير صحيحة، وفي جانب آخر نقول: إن الطهارة صحيحة هذا تحكم واضح، ولولا أننا نشهد أن هؤلاء العلماء الذين ذهبوا هذا المذهب إنما أرادوا الحق، لكن نشهد أن هذا ليس بصحيح، القول غير صحيح، والمسلك غير سليم، كيف تحتج بحديث واحد على مسألتين دل عليهما الحديث، وتفوق أنت بينهما؟ هذا شيء عجيب! ! على كل حال نقول: إن هذا النهي من باب التوجيه والإرشاد وليس من باب التحريم؛ لأنه أرشد إلى صفة أحسن من هذه الصفة وهي: أن يغترفا جميعا، ثم قال: 7 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة". أخرجه مسلم. الله أكبر! هذا ضد ما اختاره العلماء الذين أشرنا إلى قولهم، العلماء يقولون: "لا تغتسل المرأة بفضل الرجل" بناء على الحديث الذي رواه الصحابي المجهول، "ولا يغتسل الرجل بفضل المرأة"، ثم يأتي الحديث الذي في صحيح مسلم يدل على أن الرجل يغتسل بفضل المرأة، فكان الأولى إذا أردنا أن نفوق في الحديث أن نقول: لا تغتسل المرأة بفضل الرجل؛ لأن النهي أن تغتسل المرأة بفضل الرجل ليس فيه مخصص، وللرجل أن يغتسل بفضل المرأة. على كل حال: الحمد لله القول الراجح واضح وليس فيه إشكال، على هذا يقول: "كان يغتسل بفضل ميمونة". في هذا الحديث من الفوائد: الإشارة إلى تعدد زوجات الرسول - عليه الصلاة والسلام- هل النبي صلى الله عليه وسلم حين تعددت زوجاته إنما أراد المتعة والتلذذ بالنساء وقضاء الوطر أو له أغراض عالية فوق ذلك؟ الثاني بلا شك ولهذا كانت زوجاته كلهن ثيبات وليس منهن بكر إلا عائشة رضي الله عنها ولو كان رجلا شهوانيا كما قاله أعداء المسلمين لكان ينتقي ما يشاء من الأبكار؛ لأنه لو طلب من أصحابه أن يتزوج من شاء ما منع من ذلك، لكنه - عليه الصلاة والسلام- أراد أن يكون له في كل قبيلة من قبائل العرب صلة. ومن فوائد ذلك: أن هؤلاء الزوجات اللاتي لهن أقارب يخبرن أقاربهن عما كان الرسول يعمله في بيته من الأمور التي لا يطلع عليها إلا النساء، فابن عباس ما الذي أطلعه على أن الرسول كان يغتسل بفضل ميمونة؟ ميمونة التي هي خالته، ففي هذا بيان لفائدة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلام أنهن يحملن من العلم إلى الأمة أكثر فأكثر متى كثر تعددهن. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الإفضاء بما يستحيا منه عادة من أجل نشر العلم، لأم ميمونة أفضت إلى ابن عباس بهذا الشيء الذي قد يستحيا منه. ومن فوائد هذا الحديث: أن مثل هذا لا يدخل في النهي عن إفشاء السر الذي يكون بين الزوجين؛ لأن هذا لا علاقة له بالمعاشرة إنما هو بيان حكم شرعي تنتفع به الأمة؛ وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة. ومن فوائد هذا الحديث: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يغتسل بفضل زوجته، ولو كان من الكبراء المستكبرين لقال للزوجة: لا تقربي الماء حتى أغتسل أنا، لكنه - عليه الصلاة والسلام-

كما نعلم هو سيد المتواضعين وخير الناس لأهله كما قاله - عليه الصلاة والسلام-: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". "ولأصحاب السنن" أصحاب السنن من؟ الأربعة: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، لكن هل إذا جاءت مثل هذه العبارة هل معناه أن أصحاب السنن اتفقوا عليها؟ هذا يحتاج إلى تتبع؛ لأنهم أحيانا يقولون: وفي السنن، أو: ولأصحاب السنن، أو: روى أهل السنن، ويكون الراوي واجدا من هؤلاء الأربعة، ويكون المعنى المجموع لا الجميع. وعلى هذا فنقول: هذا الحديث في السنن، لكن لو سئلنا هل كل واحد من أصحاب السنن رواه؟ نقول: هذا يحتاج إلى مراجعة. - "واغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فجاء ليغتسل منها، فقال: إني كنت جنبا، فقال: "إن الماء لا يجنب". وصححه الترمذي، وابن خزيمة. - "واغتسل بعض أزواج النبي" هذا يرد كثيرا في الأحاديث. يأتي الحديث مبهما لصاحب القصة فهل هذا يضر بالحكم؟ الجواب: لا، إذا كان لا يؤثر في الحكم بمعنى: أنه سواء كان البعض عائشة، أو ميمونة|، أو أم سلمة، أو زينب، أو غيرها هذا لا يضر، حتى لو فرض أننا تتبعنا الروايات ولم نعرف هذا، هذا لا يضر؛ لأنه لا يؤثر في الحكم شيئا، ولكن عندي في الحاشية يقول: هي ميمونة رضي الله عنها كما أخرجه الداقطني وغيره، ولا يصح أنها ميمونة؛ لأن الحديث معطوف على الحديث الذي قبله. "في جفنة" الجفنة: إناء لكنه يكون واسعا، وجمعها: جفان، وفي القرآن الكريم: {وجفان كالجواب وقدور راسيات} [سبأ: 13]. الجفان: هي عبارة عن إناء يوضع فيه الطعام ويؤكل، والقدور يطبخ فيها، وجفان سليمان - عليه الصلاة والسلام- كالجواب، الجواب: جمع (جابية) وهي البركة، يعني: كبيرة. قدور راسيات، يعني: أنها لا تنقل وذلك لكبرها وعظمها؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام- ملك يأتيه الناس من كل مكان؛ لأنه جامع بين الملك والنبوة.

"فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منها" أي: من هذه الجفنة بعد اغتسال الزوجة. فقالت: "إني كنت جنبا" يعني: اغتسلت منها وأنا جنب، فقال: "إن الماء لا يجنب" صلوات الله سلامه عليه، يعني: كأنه يقول: وإن كنت جنبا فالماء لا يتأثر، الماء لا يجنب، وهذا كما قالت عائشة لما طلب منها الخمرة وهي في المسجد قالت: يا رسول الله، إني كنت حائضا قال: "إن حيضتك ليست بيدك"، يعني: معناه أن الحيض لا يؤثر في مثل هذا، كذلك أيضا الجنابة لا تؤثر في مثل هذا الماء. يستفاد من هذا الحديث ما سبق: من أن الماء لا يتأثر، ولا ينتقل من الطهورية إلى الطهارة إذا اغتسل منه الجنب، ومن المعلوم أن الجنب سوف يغمس يده في الإناء، لكن كما علمتم من قبل أنه إذا استيقظ الإنسان من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا. ومن فوائد هذا الحديث: الاقتصار على ذكر العلة دون الفعل لأنها تقول: "إني كنت جنبا" وتقدير الكلام: إني اغتسلت به وأنا جنب، لكنه هكذا في الوصف الذي قد يكون مؤثرا وهو الجناية وهذا قد يشعر بأنهم لا يرون بالخلو به شيئا وإنما العلة هي الجنابة. وفيه أيضا - في الحقيقة- فوائد؛ فمنها: ما سبق ذكره من جواز اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة. ومنها: أن اغتسال الجنب من الماء القليل لا ينقله عن الطهورية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء يغتسل منه ليتطهر به فلا ينقله من الطهورية. والمعروف أن الجنب إذا غمس يده ليغتسل وهو ينوي رفع الجنابة أنه ينتقل الماء من الطهورية إلى أن يكون طاهرا. سبق لكم قبل قليل لأن الذين قالوا: إن المرأة إذا خلت بالماء لتطهر به فإنه لا رفع حدث الرجل، وقلنا لكم: إنهم قالوا إذا لم يجد غيره استعمله ثم تيمم، لكن نسيت أن أعلق على هذه الجملة: لا يمكن أن يجمع بين العبادة مرتين أبدا على رأيهم - رحمهم الله- يلزمه أن يتطهر مرتين، مرة بالماء ومرة بالتراب، وهذا لا نظير له، ولم يوجب الله عبادة مرتين أبدا، الإنسان إذا فعل العبادة حسب ما أمر فإنه لا يجب عليه إعادتها لأنه امتثل أمر الله. ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم الرسول - عليه الصلاة والسلام- حيث إنه بين الحكم بيان العلة حيث قال: "إن الماء لا يجنب". ومن المعلوم أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- وغير الرسول يعلم أن الماء لا يجنب حقيقة، لكن أراد أن يقابلها بمثل لفظها؛ ففيه دليل أيضا على

ولوغ الكلب

فائدة أخرى وهي: مخاطبة الإنسان بمثل ما خاطب به الغير، وهذا يسميها أهل البلاغة: المقابلة. فهنا الرسول قال: "إن الماء لا يجنب" كل يعلم أن الماء لا يجنب، لكن ما أراد الرسول رفع الجنابة عن الماء؛ لأن هذا معلوم، لكن أراد أن يخاطب المرأة بمثل ما خاطبت به. خلاصة ما سبق لنا في تطهر المرأة بفضل الرجل أو الرجل بفضل المرأة: أن ذلك على سبيل الأولوية، وأن الذي يخاطب به الرجل مع أهله، وأن الأفضل أن يغتسلا جميعا، وأيضا ليس فيه دليل على أن الماء إذا تطهر به الرجل بعد المرأة أو العكس أن الطهارة لا ترتفع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين ذلك، ومثل هذا لو كان شريعة لبينه الرسول 0 عليه الصلاة والسلام-. ولوغ الكلب: 8 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب". يقول العلماء: المفتوحة: اسم لما يحصل به الشيء، والمضمومة: هي نفس فعل الشيء وعلى هذا؛ فالطهور: هو الماء الذي يتطهر به، والطهور: هي الطهارة نفسها، السحور: هو ما يتسحر به من تمر أو غيره، والسحور: بالضم هو أكل ذلك السحور. "طهور إناء أحدكم" الإناء معروف هو الوعاء الذي يستعمل في أكل أو شرب أو غيره إذا ولغ فيه الكلب. "ولغ" الولوغ: هو الشرب بأطراف اللسان، والكلب والهر يشربان بألسنتهما؛ أي: أنه يدلي لسانه في الماء ثم يرفعه كأنهما يلحس الماء لحسا، هذا هو الولوغ، وفي لفظ: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم". وقوله: "في إناء أحدكم" هذا للبيان وليست الإضافة للتخصيص؛ يعني: أنه لو شرب في إناء لغيره، فالحكم واحد لكن هذا من باب البيان أن يغسله سبع مرات. "أن يغسله" هذه مصدرية؛ أعني "أن" داخلة على الفعل، والحرف المصدري إذا دخل على الفعل، فإن الفعل يؤول بالمصدر، فعلى هذا يكون المعنى: غسله سبع مرات، فما إعرابها حينئذ؟ خبر ل"طهور"، "أن" المصدرية الداخلة على الفعل تارة تكون مبتدأ وتارة تكون خبرا، ففي قوله تعالى: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة: 184]. هي مبتدأ، وفي هذا الحديث هي خبر. "أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" يعني: أولى هذه السبع بالتراب، ولكن كيف يكون أولاهن بالتراب؟ له طريقان: الطريق الأول: أن تغسله أولا بالماء ثم تذر التراب عليه.

والثاني: أن تذر التراب عليه ثم تصب عليه الماء. وذكر بعضهم صورة ثالثة: أن تخلط التراب بالماء. المهم أن الأولى هي التي يكون معها التراب. "أولاهن بالتراب". أخرجه مسلم. والواقع أنه أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما أيضا، لكن أحيانا يقول العلماء: أخرجه مسلم مع أنه للجماعة كلهم؛ لأن هذا لفظه. وفي لفظ له: "فليرقه". يعني: قبل أن يغسله، وهذه اللفظة قال الحافظ: أنها لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها وإن لم تصح لفظا فهي صحيحة معنى؛ لأن هذا الماء الذي ولغ فيه الكلب لا يمكن أن نغسل الإناء سبع مرات أولاهن بالتراب إلا بإراقته غالبا، لا نقول: صب الماء واشربه ثم اغسل الإناء؛ لأن هذا بعيد عن مراد الشرع، فه وإن لم يصح سندا فهي صحيحة معنى. وللترمذي: : أخراهن، أو أولاهن": أتى المؤلف هنا بلفظ الترمذي لأنه يريد - أي: المؤلف - أن يجعل (أو) هنا للتخيير مع أنه يمكن أن يقال: إنها للشك، وإذا كانت للشك فإن لفظ مسلم ليس فيه شك، فيحمل المشكوك فيه على ما لا شك فيه، وحينئذ تكون الغسلة التي فيها التراب هي الأولى، ولكن إذا قال قائل: إذا أمكن الحمل على التخيير أو التنويع فإنه أولى من حمله على الشك؛ لأن حمله على الشك قدح في حفظ الراوي، فلماذا لا نجعلها للتخيير؟ نقول: هذا حق أنه إذا تردد الأمر وهذه قاعدة مفيدة أنه إذا دار الأمر بين أم تكون (أو) للتنويع أو للتخير أو للشك فالأولى حملها على التنويع أو التخيير حسب السياق والقرينة، لماذا كان هذا أولى؟ لأن حملها على الشك طعن في حفظ الراوي، والأصل عدم الطعن، لكن إذا وجدنا رواية في نفس الحديث فهنا نحملها على الشك؛ لأن الرواية التي لا شك فيها تعتبر من قبيل المحكم، والتي فيها الشك من قبيل المتشابه. والقاعدة الشرعية فيما إذا كان محكما ومتشابها: أن نحمل المتشابه على المحكم حتى يكون الجميع محكما، إذن فنقول: هذه الرواية التي جاء بها المؤلف، والظاهر أنه إنما أتى بها من أجل أن يبين أن الإنسان مخير بين أن يكون التراب في أول غسلة أو آخرها، لا نوافق المؤلف على مراده هذا إذا كان هذا مراده، بل نقول: هي للشك، ويحمل هذا الشك على ما لا شك فيه وهي أن الغسلة تكون في الأولى، وهذا كما أنه أصح رواية فهو أيضا أصح من حيث.

المعنى؛ لأن كون التراب في الأولى يخفف النجاسة فيما بقي من الغسلات؛ إذ إن ما بعد الأولى لا يحتاج إلى تراب، وهذا لا شك أنه يخفف، لكن لو جعلناه في الأخيرة بقي الغسلات الست التي قبلها كلها تحتاج إلى تراب، وأضرب لك مثلا يبين الموضوع: إذا جعلنا التراب في الأولى ثم غسلناه الثانية وانساب شيء من الماء على ثوب أو على إناء إنسان فكيف يغسله؟ يغسله ست مرات بدون تراب لماذا؟ لأن التراب قد استعمل في الأولى، لكن لو جعل التراب في الأخيرة وانساب الماء في الثانية على شيء فإنه يغسله ستا إحداهما بالتراب؛ لأن التراب لم يستعمل في الغسلة الأولى فصار كون التراب في الأولى أصح أثرا وأصح نظرا، وعلى هذا فيكون هو المعتمد أولاهن بالتراب. وهنا نسأل لماذا أتى المؤلف رحمه الله بهذا الحديث في باب المياه مع أن الأنسب أن يكون في باب إزالة النجاسة وبيانها؟ يقال: إنما أتى بها ليبين أن الماء القليل إذا ولغ فيه الكلب فإنه يجب اجتنابه ويكون نجسا حتى وإن لم يتغير؛ لأنه إذا كان يجب تطهير الذي تلوث بهذا الماء الذي ولغ فيه الكلب، فالنجاسة من باب أولى، فلهذا جاء به المؤلف رحمه الله في هذا الباب. أما ما يستفاد من الحديث ففيه فوائد منها: أن الكلب نجس، وجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه لابد من تطهير ما أصابه فقال: "طهوره أن يغسله". وهذا القول يكاد يكون كالإجماع، ويتفرع منه الرد على من قال بطهارة الكلب؛ لأن الحديث صريح في الرد عليه. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب إذا صار الكلب صيدا أن يغسل ما أصاب فمه سبع مرات إحداهما بالتراب؛ لأن هذا من جنس الولوغ، بل ربما يكون أشد مما إذا شده على هذا اللحم، ويختلط باللحم اختلاطا بالغا، فيكون مثل الولوغ أو أشد، فهل هذا التقرير مناسب للحال التي كان الناس عليها في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام- وكانوا يصيدون بالكلاب، ولم ينقل حرف واحد أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أمر بأن يغسل ما أصاب فم الكلب؟ لا، ومن ثم اختلف العلماء في هذه المسألة؛ فمن العلماء من قال: إنه يجب أن يغسل الصيد فيما أصاب فم الكلب؛ لأن هذا مثل الولوغ أو أشد، ويغسل سبع مرات إحداهما بالتراب، ومعلوم أن التراب يلوث اللحم وربما يفسده، فيكون في ذلك إفساد للمال لكن يقولون: الفاسد شيء يسير يكشط بالمدية وينتهي، لكن كيف نتخلص من هذا - أي: التراب-؟ بأن نغسله بالصابون؛

لأن العلماء يقولون: إذا تعذر استعمال التراب فإنه يحل محله الصابون ونحوه مما يكون تنظيفه قويا، لكن القول الراجح - أقصد القول الثاني في المسألة-: أنه لا يجب؛ وذلك لأن الناس كانوا يصيدون بكلابهم في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام- ويسألون الرسول عن حكم ما صاده الكلب ويخبرهم بالحكم، ولا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى وجوب غسل ما أصاب فمه، وهذا يدل على أنه معفو عنه. ولا تعجب أن الله تعالى يرفع الضرر والحرج عن الأمة بحيث يزول أثر النجاسة بالكلية، أرأيت إن اضطر الإنسان إلى ميتة وأكل منها هل تضره؟ لا، لكن لو كان غير مضطر تضره، فالله - سبحانه وتعالى- يجعل الضرر والمنفعة ويدفع الضرر بأمره، فإذا تبين أن الصحابة - رضي الله عنهم- كانوا يصطادون بكلابهم، ويسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأحكام ولم يبين لهم لا في حديث صحيح ولا ضعيف أنه يجب عليهم الغسل، دل ذلك على عدم الوجوب فيكون ذلك معفوا عنه، وهذا القول هو الراجح وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ومن فوائد هذا الحديث: أن الكلب إذا بال على شيء فإنه يغسل سبع مرات إحداها بالتراب؛ يعني: لو بال في الإناء وجب أن يراق بوله ويغسل الإناء سبع مرات إحداهما بالتراب وجه ذلك: أنه إذا كان الريق وهو أطهر من البول يجب غسل الإناء بعده سبع مرات إحداها بالتراب فالبول من باب أولى، العذرة من باب أولى، وهذا هو الذي عليه الجمهور، فقالوا: إن جميع نجاسة الكلب لابد أن تغسل سبع مرات إحداهما بالتراب، وقال الظاهرية: إنه لا يجب التسبيع في الغسل واستعمال التراب إلا في الولوغ فقط، أما البول والعذرة فإنهما كسائر النجاسات، وهذا ظاهر على مذهبهم وطريقتهم؛ لأنهم يمنعون القياس، وقال قوم من أهل القياس: إن هذا الحكم في الولوغ فقط، والبول والعذرة كسائر النجاسات، وعللوا ذلك بأن الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد الرسول - عليه الصلاة والسلام-، وأيضا الرسول- عليه الصلاة والسلام- يعلم أن الكلاب تبول في أمكنة الناس ومجالسهم ولم ينبه على ذلك، ثم عللوا أيضا تعليلا طيبا وقالوا: إن ريق الكلب فيه خصيصة لا توجد في بوله وروثه، وهي عبارة عن فيرس أو شيء يعرفونه أهل الطب - دودة شريطية- هذه تكون في ريق الكلب وتعلق في الإناء، ثم إذا استعمل الإناء بعد ذلك وهو قد تلوث بهذا وأكل الإنسان من هذا الإناء أو شرب فإن هذه الدودة الشريطية تعلق بالمعدة وتخرقها، وأنه لا يزيلها إلا التراب. والمسألة عندي أنا متأرجحة؛ إن نظرنا إلى رأي الجمهور وإلى أن قبح البول والعذرة أكثر من الريق، قلنا: القول ما قال الجمهور، وإذا نظرنا إلى أن الأبوال والأوراث من الكلاب في عهد

الرسول - عليه الصلاة والسلام- كثيرة ومع ذلك لم يأمر بغسلها سبع مرات إحداها بالتراب رجحنا قول من يقتصر على الريق. فإذا قلنا: تعادلت الأدلة عند الإنسان فما هو الحوط؟ يعني: قدرنا أنها تعارضت من كل وجه الحمد لله أنت إذا غسلت سبع مرات إحداهما بالتراب من البول والعذرة لم يقل لك أحد: إن المكان بقي نجسا، لكن لو لم تغسل لقال لك أكثر العلماء: إن المكان صار نجسا. ومن فوائد الحديث: أنه لابد من استعمال التراب في تطهير نجاسة الكلب على الخلاف الذي سمعتوه: الولوغ، أو البول، أو العذرة تجب بالتراب لقول الرسول - عليه الصلاة والسلام- "أولاهن بالتراب". هل يجزئ غير التراب عنه؟ هذا فيه خلاف أيضا، وفيه جملة معترضة قبل هل يقوم غير التراب مقام التراب؟ . يرى بعض أهل العلم أن غير التراب لا يقوم مقام التراب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أولاهن بالتراب". فعين التراب هذه واحدة، ولأن التراب أحد الطهورين، والطهور الثاني الماء، فإذا كان أحد الطهورين وعينه الرسول - عليه الصلاة والسلام- فلابد من تعيينه. ويرى آخرون أن غير التراب يقوم مقامه إذا كان مثله في التنظيف أو أشد، وأنتم تعلمون الآن أنه وجد مواد كيماوية أشد من التراب في التنظيف فتقوم مقام التراب، وعللوا قولهم هذا بأن المقصود من إزالة النجاسة هو زوال عينها وأثرها، فإذا زالت عينها وأثرها بأي مزيل حصل المقصود. وأجابوا عن الأول قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عين التراب؛ لأنه أيسر ما يكون على الناس، والرسول - عليه الصلاة والسلام- قد يعين الشيء ليسره لا لذاته وعينه، ومعلوم أنه في عهد الصحابة التراب من أيسر ما يكون، فعين التراب لأنه أيسر ما يكون لا لأنه مقصود لذاته، كما - يعني: لها نظير- أمر بأن يصب على بول الأعرابي ماء مع أنه يمكن إذا بقي أسبوا أو شبه ذلك زال أثر البول وطهرت الأرض، لكن أمر أن يصيب عليه؛ لأنه أسرع في التطهير. وأما قولهم: إنه أحد الطهورين، نقول: نعم، إنه أحد الطهورين، لكن طهارة التيمم لا يراد منها التنظيف، إنما يراد بها التعبد لله عز وجل، ولما كان الإنسان يتعبد لربه عز وجل بأن يغفر أشرف ما عنده من الأعضاء بالتراب؛ صارت هذه الطهارة الباطنة تسري على الطهارة الحسية الظاهرة، وإلا فمن المعلوم أن التيمم بالتراب لا ينظف ولا يزيل شيئا، والنجاسة هل هي عبادة أو غير عبادة إزالتها قصدا؟ ليست عبادة، ولذلك ليس يضرها نية، ويزول حكمها لو أزالها غير مكلف، ويزول حكمها لو زالت بالمطر ونحوه.

وعليه فنقول: إذا وجد ما يقوم مقام التراب من الأشياء المنظفة جيدا فإنه يقوم مقام التراب. ولكن لو قال قائل: لماذا لا نتبع النص والحمد لله ما يضرنا؟ نقول: نعم حقيقة أن الأولى الأخذ بالنص سواء قلنا أن غيره يجزئ أو لا يجزئ لماذا؟ لأنك إذا جعلت التراب في إزالة نجاسة الكلب فقد طهر المحل بالنص والإجماع، لكن إذا استعملت غيره ممن هو مثله أو أنظف صار في ذلك خلاف، وكلما تجنبنا الخلاف مع تساوي الدليلين فهو أولى، لكن لاحظوا الكلمة التي قلت - مع تساوي الدليلين- أما إذا ترجح أحد القولين فلا عبرة بالخلاف. ومن فوائد الحديث: أنه لو وقعت نجاسة الكلب على غير الأواني هل تغسل سبع مرات؟ يعني: مثلا لو أن الكلب جعل يلحس ثوبك أو يلحس ساقك ماذا تقولون؟ يغسل سبع مرات أولاهن بالتراب وقد يستعمل غير التراب؛ لأنه لا فرق بين الإناء وغيره. هل يستثنى من ذلك كلب الصيد والماشية والحرث؟ ذهب بعض العلماء إلى استثناء ذلك وقالوا: المراد بالكلب الكلب السبعي الغير أليف، وأما الأليف فلا يجب في غسله التسبيع أو استعمال التراب، لكن هذا القول ضعيف؛ لأن اختلاط الكلاب بالناس إذا كانت معلمة أكثر من اختلاطها إذا كانت غير معلمة، فكليف نحمل كلام الرسول - عليه الصلاة والسلام- على الشيء القليل وندع الشيء الكثير هذا بعيد. إذن القول بأن هذا الحديث في الكلاب التي لا يجوز اقتناؤها قول ضعيف، ما الذي يضعفه؟ أن اختلاط غير المباحة مع الناس قليل، فلا يمكن أن يحمل كلام الرسول - عليه الصلاة والسلام- على القليل ويترك الكثير، نظير هذا قول الرسول - عليه الصلاة والسلام-: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه". حمله بعض العلماء على أن المراد بذلك النذر، يعني: من مات وعليه نذر صام عنه وليه، وأما من مات وعليه صيام رمضان، فإن وليه لا يصوم عنه، فما تقولون في هذا الحمل؟ ضعيف لأنه كيف نحمل كلام الرسول على شيء نادر، لو سألنا إنسانا أيهما أكثر أن يموت الإنسان وعليه أيام من رمضان أو أن يموت وعليه نذر؟ الأول، لأن الأول يمكن أن يرد على كل واحد لكن الثاني من يرد عليه؟ على من نذر، وما أقل النذر بالنسبة لصيام فرض رمضان، على كل حال الذي يظهر العموم، وأن هذا عام في الكلاب المباحة والكلاب غير المباحة.

أقسام النجاسات

والحديث من فوائده: أنه يعم الكلب الصغير والكبير والأسود والأحمر والأبيض؛ لعموم قوله: "الكلب"، ولا يقال: إن كلمة "الكلب" التي تدل على العموم مقيدة بالكلب الأسود كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قطع الصلاة: "أنه يقطعها الكلب الأسود"، وذلك لاختلاف الحكمين؛ لأن هذا في محل وهذا في محل، فلا يمكن أن يحمل هذا المطلق على المقيد هناك. ومن فوائد هذا الحديث: أن من النجاسات ما هو مغلظ وما هو تعبدي، نجاسة الكلب الآن مغلظة كونها بسبع دون خمس أو ثلاث أو تسع، هذا تعبد؛ يعني: أولا يرى كثير من الفقهاء أن تعداد تطهير ما ورد في الكلب تعبدا أصلا هو تعبد، ومن رأى أنه لعلة وهو ما يحدث من التلوث بريقه يبقى عنده التعبد في تعيين السبع، وأن تكون إحداها بالتراب، فهل النجاسات الأخرى من حيوان أخبث من الكلب يكون حكمها حكمه؟ لا، وبذلك يتبين ضعف من قاس الخنزير على الكلب في أن نجاسته تغسل سبع مرات إحداها بالتراب؛ لأن بعض أهل العلم - رحمهم الله- قالوا: نجاسة الخنزير أقبح من نجاسة الكلب؛ لأن الخنزير معروف بأنه يأكل العذرة النجسة، وهو أيضا ديوث ومن أبلغ الحيوانات دياثة، ما يبالي أن أحدا من الخنازير ينزع على أنتاه ولا يهتم بذلك. فيقول: ما دام هذا أخبث من الكلب فيجب أن تلحق نجاسته بنجاسة الكلب، فهل هذا القياس صحيح؟ لا، خصوصا إذا قلنا: إن النجاسة - نجاسة الكلب- يجب غسلها سبع مرات تعبدا؛ بهذا تعرف أن النجاسات منها مغلظ ومنها مخفف وهو كذلك. أقسام النجاسات: وإتماما للفائدة نقول: النجاسات ثلاثة أقسام. قسم مغلظ: وهو نجاسة الكلب. وقسم مخفف: وهو نوعان: النوع الأول: بول الذكر الصغير الذي لم يأكل الطعام؛ أي: ما زال يتغذى باللبن. والثاني: المذي، وهو الذي يخرج من الإنسان عقب الشهوة، فلا هو بول ولا هو مني هو في منزلة بين المنزلتين بين البول والمني؛ لأن المني طاهر وذلك لأن قوة الشهوة أنضجته وأزالت ما فيه من الأذى حتى صار طاهرا، والبول خبيث، والمذي بينهما؛ فبذلك صارت نجاسته مخففة؟ يعني: أنه يكفي فيها النضح؛ أي: أن تغمرها بالماء ويكفي أن

تأتي بالإبريق تصبه على المكان النجس، ما يحتاج إلى عصر ولا فرك ولا شيء، هذه نجاسة نقول إنها مخففة. والقسم الثالث: المتوسطة بين ذلك، وهي باقي النجاسات حتى نجاسة الخنزير. من فوائد هذا الحديث: أن الغسل لابد أن يكون من مالك الإناء الذي ولغ فيه الكلب توافقون على هذا؟ قال: "إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله"، نقول: هذا للغالب ولدينا قاعدة عند العلماء والأصوليين يقولون: القيد الأغلبي لا مفهوم له، وهذه فائدة تنفعك في مواطن كثيرة، وبناء على هذا لو رأيت كلبا ولغ في إناء جارك وتخشى أن الجار يأتي ويشرب من هذا الإناء وهو لا يدري، فقمت وغسلته سبع مرات إحداها بالتراب يكفي أو لا يكفي؟ يكفي، ولو كان إناء لغيري؟ نعم، لأن قيد "إناء أحدكم" إنما هو بناء على الأغلب. يستفاد من هذا الحديث: أن الكلب محرم الأكل، من أين عرفنا ذلك؟ لدينا قاعدة ذكرناها من قبل: كل نجس حرام، وليس كل حرام نجسا. إذن نقول: هو حرام خلافا لمن قال من العلماء: إنه مكروه؛ لأن الأصل الحل، وغفل عن أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع. فإن الكلب بلا شك له ناب يفرس به، أليس يصيد الصيد؟ نعم، إذن داخل في الحديث. ثم هذا الحديث الذي معنا أيضا يدل على أنه حرام؛ لأنه إذا كان يجب علينا أن نتوقى من ولوغه كيف ندخل لحمه في بطوننا؟ فإذا اضطر الإنسان إلى ذلك يأكله. [ولو] أكله هل يجب عليه أن يغسل فمه سبع مرات إحداها بالتراب؟ لا، نبحث المسألة هذه، هل نقول: لما أباحه الله ارتفعت النجاسة عنه؟ نعم، كالحمير حين كانت مباحة ليست نجسة، ولما حرمت صارت نجسة، أو نقول: إنه يجوز أن يتبعض الحكم، فيقال: من أجل الضرورة أبحناه لك، لكن النجاسة باقية، فلابد أن تغسل فمك سبع مرات إحداها بالتراب، ويشكل على هذا أيضا شيء آخر هل يغسل بطنه سبعا إحداها بالتراب؟ الظاهر لي - والله أعلم نظرات للعلل الشرعية- أنه إذا حل أكله ارتفعت نجاسته هذا الظاهر كما قلنا، ومن باب أولى كما قلنا في الصيد أن الله لما أباح صيده ارتفعت النجاسة وعفي عن النجاسة في الصيد هذا هو الأصح. أسئلة: -ب بلغني أن بعض الناس تفتني الكلاب وتغسلها بالصابون صحيح هذا. نعم. إذا غسله بالصابون هل تطهر إذا قلنا إن الصابون يقوم مقام التراب؟ لا تطهر؛ لأن النجاسة العينية لا تطهر أبدا، لو أتى لها بماء البحار كله ما طهرت.

- طهارة الهرة

أسئلة: - اذكر أقسام النجاسات؟ مغلظة، ومخففة، ومتوسطة. - ذكرنا أن الخارج من الإنسان من ذكره يسمى عند العلماء بأربعة أسماء اذكرها؟ المني، والمذي، والودي، والبول. - ما الذي يكون حكمه واحدا من هذه؟ البول والودي. - المني: ما هو القول الراجح فيه؟ أنه طاهر ما هو الدليل؟ حديث عائشة كانت تفركه من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه. - طهارة الهرة: قال - رحمه الله تعالى-: 9 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: "إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم"، أخرجه الأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة. هذا الحديث له سبب؛ يعني: سياقه له سبب، وليس صدوره من الرسول - عليه الصلاة والسلام- له سبب؛ بل سياق أبي قتادة له، له سبب؛ لأن فرق بين كون الراوي ساق الحديث لسبب وبين كون الرسول صلى الله عليه وسلم قاله لسبب، الحديث هذا ساقه أبو قتادة رضي الله عنه بسبب وهو أنه دخل على أهله فسكبت له امرأته وضوءا يتوضأ به، فجاءت هرة فأصغى لها الإناء وجعلت تشرب، تشرب من هذا الماء الذي يريد أن يتوضأ له، فنظرت إليه فكأنه رأى أنها استنكرت هذا أو استغربته فحدثها بهذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ليست بنجس". هل يصلح أن نقول: هذا سبب الحديث أو سبب سياق الحديث من الراوي؟ الثاني. (الهرة) معروفة ولها أسماء كثيرة هي من أكثر الحيوانات أسماء لأنها متداولة عند الناس، وكل ما تداوله الناس كثرت أسماؤه؛ لأن كل الناس يسمونها باسم، ولهذا من أكثر ما يكون أسماء: الأسد والهرة. الهرة تسمى: هرة، وتسمى أيضا قطة، وتسمى سنور، وتسمى: بس - بفتح الباء-، قال في القاموس: إن العامة تكسره وإلا فهو بالفتح، ولها أسماء كثرة يمكن لمن راجع كتاب الحيوانات للدميري أو غيره ينظر أسماءها، لكن هذا العلم ليس بذاك المهم، المهم أن الهرة لو

سئلنا ما هي؟ قيل: هي هذه المعروفة بين الناس المتداولة بين الناس، الهرة هل هي سبع أم لا؟ هي في الواقع من السباع؛ لأنها تفرس بنابها فهي من السباع، وكانت الهرة فيما سبق في بلادنا هذه تأكل الدجاج أكلا عظيما تقفز عليها وهي معلقة في مسراها - أعني: الدجاجة- تنزلها في الأرض وتأكلها، أما الآن فسبحان الله! صارت تأكل معها في الإناء سويا ولا تقل لها شيئا أبدا، وهذا قيل إنه من أجل أن الهرة ارتفع نظرها وصارت لا تريد الدجاج يعني: ما تأكله لكنها تأكل الحمام، فالله أعلم، على كل حال هداها الله وسخرها لنا فهي في الحقيقة مما يؤلف في البيوت. يقول: "ليست بنجس" يعني: أنها طاهرة؛ لأن نفي الضد إثبات لضده، فإذا نفى أن تكون نجسا صارت طاهرة ليست بنجس، ونجس هنا صفة مشبهة كبطل اسم للشجاع، كذلك نجس اسم لما هو نجس بذاته ومنجس لغيره، لكن الرسول - عليه الصلاة والسلام- يقول: "إنها ليست بنجس"، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم من عادته وحكمته وبلاغته في التعليم أنه إذا ذكر الحكم ذكر علته، لاسيما إذا كان الحكم يحتاج إلى علة من اجل أن يطمئن الإنسان إلى هذا الحكم، قال: "إنها ليست بنجس" علل ذلك لم يقل: إنها حلال، قال: "إنها من الطوافين عليكم" لم يقل: من الطوافات، الظاهر - والله أعلم- اتباعا للفظ القرآن في قوله تعالى: {طوافون عليكم بعضكم على بعض} [النور: 58]. فهي من الطوافين، وإنما قلت ذلك؛ لأن المؤنث لا يجمع جمع مذكر، ومعلوم أن الهرة مؤنثة، من الطوافين ما معنى الطواف؟ الطواف: هو كثير التردد، كثير التردد على الشيء يسمى طوافا، فهذه هي العلة التي علل بها النبي صلى الله عليه وسلم كون الهرة ليست بنجس. ويستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا رأى الشخص مستغربا لحال من الأحوال أن يزيل عنه هذا الاستغراب، وجهه: أن أبا قتادة حدث بهذا الحديث ليزول استغراب أهله - يعني: زوجته- وهذا أمر يعتبر من محاسن الأخلاق أن الإنسان يصنع مع أخيه ما يجب أن يطلع عليه وإن لم يسأله، وهذا من هدي الرسول - عليه الصلاة والسلام-، ففي قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قعد خلف النبي صلى الله عليه وسلم لينظر إلى خاتم النبوة، خاتم النبوة عبارة عن علامة تدل على أن محمدا رسول الله خاتم الأنبياء، وقد ذكر لسلمان حسب ما طالت به الدنيا أن من علامات النبي الأمي خاتم النبوة بين كتفيه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا ورأى هذا الرجل وراءه وكأنه يتطلع إلى شيء؛ فنزل الرداء بدون أن يسأل سلمان تنزيله من أجل أن يطلع عليه، فمن محاسن الأخلاق أنك إذا رأيت أخاك يحب أن يطلع على شيء وليس في إطلاعه عليه مضرة عليك فإنه ينبغي أن تدخل عليه السرور باطلاعه على ما يحب الاطلاع عليه.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الهرة طاهرة مع أنها محرمة الأكل، وكل محرم الأكل فإنه نجس هذا هو الأصل أن جميع محرم الأكل من الحيوان نجس، ولكن هناك أشياء تزول نجاستها لسبب من الأسباب، والهرة الأصل فيها أنها نجسة لأنها محرمة الأكل، لكن علل الرسول - عليه الصلاة والسلام- لعلة لا توجد في غيرها، فإذن من فوائد الحديث: أن محرم الأكل نجس؛ لأن الرسول أخرج الهرة عن النجاسة لسبب لا يوجد في غيرها. ومن فوائد هذا الحديث: أن الهرة ليست نجسة فهل هذا على عمومه؟ الجواب: لا، ليست نجسة في ريقها وفيما يخرج من أنفها وفي عرقها وفي سؤرها؛ أي: بقية طعامها وشرابها، في بولها نجس، في روثها نجس، في دمها نجس؛ لأن هذه الأشياء كلها من محرم الأكل نجسة، فكل ما يخرج من جوف محرم الأكل فإنه نجس كالبول والعذرة والدم والقيء وما أشبهه. ومن فوائد هذا الحديث: أن الهرة لو شربت من ماء وهذا هو وجه سياق الحديث في هذا الباب، لو شربت من ماء فإن الماء لا ينجس قليلا كان أو كثيرا؛ لأن الإناء الذي كان يتوضأ به أبو قتادة قليل. ومن فوائده: أنه لا فرق بين أن تكون هذه الهرة أكلت شيئا نجسا أو لم تأكل لماذا؟ لإطلاق الحديث، فلا يقال مثلا: لو رآها تأكل فأرة ثم شربت من الماء صار الماء نجسا. نقول: الحديث عام أنها ليست بنجس سواء أكلت ما هو نجس عن قرب أو عن بعد، نعم لو رأيت أثر الدم في شفتيها في هذا الماء يكون نجسا، إذا لم تر شيئا فهي طاهرة. ومن فوائد هذا الحديث: أن المشقة تجلب التيسير، وجهه: أن الله تعالى رفع النجاسة عنها لمشقة التحرز منها حيث إنها من الطوافين، ولو كانت نجسة وهي في البيت تشرب من الإناء، تشرب من اللبن، تأكل من الطعام لكان في ذلك مشقة. ومن فوائد هذا الحديث: أن النجاسات التي يشق التحرز منها معفو عنها، وذكر العلماء من ذلك يسير الدم النجس غير الخارج من السبيلين يعفى عنه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "جميع النجاسات يعفى عن يسيرها مع مشقة التحرز منها، وما قاله رحمه الله على القاعدة". فعلى هذا الذين يستخدمون الحمير؛ والحمار تعرفون أنه يبول ويروث أحيانا يقف ويبول

على أرض صلبة ماذا يصيب صاحبه؟ سيصيبه الرشاش. يقول شيخ الإسلام: إن مثل هذا يعفى عنه لمشقة التحرز منه، وأخذ القول من هذا التعليل؛ "إنها من الطوافين عليكم". ومن فوائد هذا الحديث: أن الفأرة طاهرة؛ لماذا؟ لأنها من الطوافين علينا، فإذا قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة: "تموت في السمن ألقوها وما حولها". بلى، نعم هو قال هذا، لكن هذه ميتة، والفأرة إذا ماتت تكون نجسة، والهرة أيضا إذا ماتت تكون نجسة؛ وذلك لأن العلة التي من أجلها خففت زالت الآن، الآن ماتت لا تكون طوافة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو شرب حيوان محرم الأكل وهو دون الهرة لكنه لا يرى إلا نادرا فإنه يكون نجسا، توافقون؟ نعم، وهذا هو الصحيح، وما ذكره بعض العلماء من أن مناط الحكم هو حجم الحيوان دون مشقة التحرز منه، فهو ضعيف لأن بعض العلماء - رحمهم الله- جعل مناط الحكم الجرم وقال: الهرة وما دونها في الخلقة طاهر وهذا لا يدل عليه الحديث، الحديث يدل على أن العلة هي مشقة التحرز. فإن قال قائل: ينتقد ذلك عليكم بالكلب، كلب الصيد، كلب الحرث، كلب الماشية، طواف علينا والتحرز منه شاق وقد ثبت أن نجاسته مغلظة. يقال: إن الشريعة الإسلامية فيها عموم وخصوص أيهما الذي يقضي على الآخر؟ الخاص يقضي على العام فيقال: الكلب مستثنى بدلالة الحديث، ونحن ليس لنا أن نحكم بالقياس على النص، وإنما نحكم بالنص على القياس. ومن فوائد هذا الحديث: رحمة الله عز وجل بالخلق؛ حيث خفف عنهم ما يشق عليهم اجتنابه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين". وهذه - يا إخواني- القاعدة مضطردة فهذه الشريعة الإسلامية مبنية على الرحمة وعلى التيسير حنيفية سمحة ليس فيها تعسير إطلاقا، وهذه خذوها قاعدة من كلام الله وكلام الرسول - عليه الصلاة والسلام- أما كلام الله فقد قال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. وقال: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. أما في السنة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر - الدين عام كل دين- ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، وكان يبعث البعوث ويقول: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا". "فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".

كيف تطهر المكان إذا أصابته نجاسة

ثم إن الإنسان أحيانا تأخذه الغيرة إذا رأى المعاصي والمنكرات فيغضب، نقول: جزاك الله خيرا الغيرة لا شك أنها مطلوبة، ومن لا غيرة عنده فقلبه ميت، لكن هل أنت تريد أن تطفئ نار الغيرة بما يصدر منك من قول جاف أو فعل نكد، أو تريد أن تصلح الخلق؟ الثاني هو الذي يجب أن يكون. وإذا كان المقصود الإصلاح فيجب أن أسلك أقرب طريق إلى الإصلاح، أنا عندما أرى رجلا عاصيا لا شك أني أكره المعصية وأكره المعصية لهذا الشخص أيضا، لكن كيف نعالج هذا؟ هل الإنسان إذا وجد شخصا فيه ورم هل يأتي بالسكين السيئة ويشقه ويدعه يهراق دما، أو أنه يأتي بألطف مما تحصل به العملية وينظفه؟ الثاني، والأدواء المعنوية كالأدواء الحسية يجب علينا - لا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه المعاصي- أن نستعمل أرفق ما يكون بقدر ما يستطيع الإنسان، صحيح أنه بشر قد يثور ويغضب ويتألم لكن يجب أن يهدئ نفسه لأنه يريد إصلاح الغير. إذن نقول: هذا الدين - والحمد لله- يسر من جميع جوانبه، والمقصود إصلاح الخلق بأي وسيلة، وهذا التشريع في الهرة يدل على ذلك في مثل أشياء تعتاد المنازل ويكثر ترددها من طيور محرمة مثلا هذه الطيور المحرمة التي يكثر وجودها في البيوت حكمها حكم الهرة، أما إذا كانت لا تأتي إلا نادرا وليست من الطوافين؛ فكما قلت لكم كل محرم الأكل فهو نجس، إلا أنه يستثنى شيء واحد ما ليس له دم من الحشرات ليس بنجس، هذا طاهر حيا وميتا. كيف تطهر المكان إذا أصابته نجاسة: ثم قال: 10 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء؛ فأهريق عليه: . متفق عليه. هذا الحديث فرد من أفراد القاعدة التي ذكرناها وهي التيسير واستعمال اللين، يقول: "جاء أعرابي" والأعرابي: هو ساكن البادية، والغالب على سكان البادية الجهل، لكن نبشركم أنهم الآن - الحمد لله- عندهم علم كثير بواسطة الإذاعات يسمعون إذاعات ويفهمون المعاني، وصار عندهم وعي كثير، لكن بالأول كانوا لا يتصلون بالناس ولا سيما النساء منهم والصغار والكبار والذين يأتون إلى البلاد تجده يبيع سلعته ويمشي، عندهم جهل كثير، هذا الأعرابي

ساكن البادية دخل المسجد، ومسجد النبي - عليه الصلاة والسلام- بعضه مسقف وأكثره مفتوح - برحة- حتى إنه تضرب فيه الخيام. الرجل دخل المسجد فانحاز إلى طائفة منه - أي: إلى جانب من المسجد- فجعل يبول قياسا على البر، هو في البر متى يحتاج جلس وقضى حاجته، فجلس يبول والصحابة - رضي الله عنهم- رأوا هذا منكرا عظيما وهو منكر صاحوا به زجروه كيف يفعل المنكر، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي الرحمة والحكمة أمرهم أن يكفوا عن ذلك؛ لأن النهي هو طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة نهاهم، قال: "لا تزرموه" يعني: لا تقطعوا عليه بوله، دعوه يبول؛ لأن قطع البول ليس بالأمر الهين صعب، فنهاهم النبي - عليه الصلاة والسلام-، فلما قضى بوله دعاه النبي - عليه الصلاة والسلام- وأمر أن يراق على البول ذنوبا من ماء من أجل أن يطهر، لما طهر المكان زالت العلة، تنجس المكان فدفعت النجاسة زالت العلة. بقي علينا الآن قضية الأعرابي، الأعرابي دعاه النبي - عليه الصلاة والسلام- ولم يوبخه ولم يكفهر في وجهه، بل قال له: "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر"، ثم بين له أنها بنيت للصلاة وذكر الله وقراءة القرآن، أو كما قال. الأعرابي اطمأن، انشرح صدره، الصحابة - رضي الله عنهم- زجروه، والرسول - عليه الصلاة والسلام- كلمه بكلام معقول يفهم ويطمئن إليه، المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر لماذا بنيت؟ للصلاة والذكر وقراءة القرآن، أو كما قال. الأعرابي انشرح صدره أو كما يقول العامة: "انبسط" فقال: "اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا" على فطرته؛ "ارحمني ومحمدا"؛ لأن محمدا - عليه الصلاة والسلام- لم يزجره ولم يوبخه، بل كلمه بكلام رقيق مفهوم معقول، "ولا ترحم معنا أحد"، لمن يشير؟ الظاهر: أول ما يشير يكون الصحابة؛ لأن الصحابة زجروه ومع ذلك لم ينكر عليه الرسول - عليه الصلاة والسلام- لأنه يعرف أن هذا ما صدر عن بغض ولا عن كراهية لكن أناس زجروه وأرادوا أن يقوم من بوله فيتضرر، فقال هكذا. في هذا الحديث فوائد كثيرة منها: جهالة الأعراب وأنهم أهل الجهل، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم في آخر التوبة: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم} [التوبة: 97، 98]. هذان قسمان. {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربت عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم} [التوبة: 99]. لكن الغالب على الأعراب هو الجهل، ومن ثم

نرى أنه من الحاجة الشديدة أن طلبة العلم يجوبرن الفيافي من أجل أن يذكروا هؤلاء الأعراب ويبصرونهم، لاسيما إذا كان طالب العلم معروفا عندهم يقبلون قوله. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب تطهير أرض المسجد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يراق عليه. ومن فوائده: تحريم البول في المسجد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر إنكار الصحابة على الأعرابي وإنما قال: "لا تزرموه". ومن فوائد هذا الحديث: وجوب المبادرة بإنكار المنكر، لماذا؟ لأن الصحابة بادروا بإنكار المنكر، لكن نقول في هذه المسألة ما لم يكن تأخيره أصلح فإن كان تأخيره أصلح كان أولى، فهذا الأعرابي بقي يبول في المسجد؛ لأنه أصلح. وبناء على ذلك لو أننا رأينا شخصا عند قبر النبي - عليه الصلاة والسلام- يدعو النبي: يا محمد، يا محمد، يا محمد ارزقني، افعل ... افعل ... هل نصيح به؟ ما نصيح ب ندعه، وإذا انتهى أمسكناه وقلنا: يا أخي، أقول: يا أخي، لأن هذا لم يكفر هذا جاهل، وإلا ما قلت: يا أخي وهو مشرك، هذا لا يصلح ما يستقيم، دعاء غير الله غلط، ما أقول شرك حتى يطمئن أكثر، أرأيت هل الرسول أقدر على أن يجيبك أو الله أقدر؟ هو سيقول: الله، إذا كان يقول: الله، نقول: أجل، ادع الله وحده لا تدع الرسول - عليه الصلاة والسلام- ادع الله فهو خير لك من دعاء الرسول - عليه الصلاة والسلام- لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لنا ضرا ولا رشدا، ولا يعلم الغيب، ولا يقول: إني ملك، فادع الله وحده، حينئذ إذا اطمأن وارتاح نبين له أن هذا شرك، وأنه لو مات على ذلك لكان من أهل النار. ومن فوائد هذا الحديث: حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، وذلك أنه نهى الصحابة أن يزجروه لما يترتب على قيامه من بوله من المضار، فمن المضار أنهم يقطعون عليه بوله، وقطع البول مع استعداده للخروج ضرر يضر المثانة ويضر مجاري البول، وأيضا لو قام فهو بين أمرين: إما أن يبقى مكشوف العورة وحينئذ تنكشف العورة أمام الناس، وإما أن يسترها وحينئذ يتلوث ثوبه أو إزاره أما ما أشبه ذلك، وإن بقي أيضا رافع الثوب والبول ينزل تنجس بذلك مساحة أكثر. ومن فوائد الحديث: أن الأرض لا تطهر إلا بالماء؛ يعني: فلا تطهر بالشمس والريح، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يراق على بوله ذنوب ما ماء. وقال بعض أهل العلم: إن الأرض تطهر بالشمس والريح، وأجابوا عن الحديث بأن النبي

صلى الله عليه وسلم أراد المبادرة بالتطهير؛ لأنه لو تركها حتى تطهر بالشمس والريح، قد تبقى يومين أو ثلاثة أو أكثر، وإزالة النجاسة من المسجد واجبة على الفور، وهذا لا يحصل إلا بالماء. ومن فوائد هذا الحديث: أن تطهير المساجد من النجاسة فرض كفاية، وجهه: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أمرهم ولم يشارك، ولو كان فرض عين لكان هو أول الفاعلين له لكنه فرض كفاية، وعلى هذا فمن رأى نجاسة في المسجد وجب عليه أن يزيلها، فإن لم يتمكن وجب عليه أن يخبر المسئول عن تطهير المسجد وتنظيفه. ومن فوائد هذا الحديث: الأخذ بالقاعدة المشهورة المعروفة: أنه إذا لم يمكن إزالة المنكر إلا بما هو أنكر فإننا لا ننكر لماذا؟ لأن ارتكاب أخف المنكرين أولى من ارتكاب أعظم المنكرين، وهذا واضح؛ يعني: إذا كان ينتقل إلى منكر أعظم معناه أنه جاء بالمنكر الأول وزيادة وهذا لا شك أنه زيادة في المعصية والنكارة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي لمن أنكر المنكر أن يبين السبب، لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام- لما بين للأعرابي أن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى والقذر، بين لماذا بنيت والأعرابي لا يدري، جاء برحة واسعة يحسبها كسائر المحلات والأمكنة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي، بل يجب على الإنسان أن ينزل كل إنسان منزلته، لو أن الذي حصل منه البول في المسجد كان رجلا من أهل المدينة ممن يعرفون الأحكام الشرعية ما نعامله هذه المعاملة، لكن عاملنا هذا الأعرابي لأن الغالب عليه الجهل، وعلى هذا فيكون من قواعد الشريعة: أن الإنسان ينزل الناس منازلهم. هل يؤخذ من هذا الحديث نجاسة البول؟ نعم، لأن الرسول - عليه الصلاة السلام- أمر بتطهير الأرض منه، وعلى هذا فالذي يخرج من الإنسان من بول أو غائط يكون نجسا، أما العرق والريق والقيء والدم وما أشبه ذلك فهو محل خلاف بين العلماء، لكن الذي يتبين أنه ليس بنجس؛ لأنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على نجاسته والأصل الطهارة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن لا ينجس". وإذا كان الإنسان إذا قطع منه عضو كبده أو رجله؛ فإن هذا العضو المقطوع ظاهر مع أنه مشتمل على الدم، فالدم الذي يخلفه غيره من باب أولى، لكن جمهور العلماء على نجاسة دم الإنسان إلا أنه يعفى عن يسيره، فمن احتاط لدينه وقال: إن غسله أحوط فلا حرج عليه.

أسئلة: - قول الرسول - عليه الصلاة والسلام- "إنها ليست بنجس" أهو على إطلاقه؟ لا، ليس على إطلاقه. - ما تقول فيما يخرج من الهرة ريقها؟ طاهر، عرقها؟ طاهر، ما يخرج من أنفها؟ طاهر، وما يخرج من دبرها أو قبلها؟ نجس، الدم وشبهه؟ نجس. - هل يعفى عن يسيره؟ نعم على المذهب، شيخ الإسلام يقول: كل يسير النجاسات معفو عنه؛ لأن هذا غالبا يشق التحرز منه. - ما تقول في الفأرة؟ حكمها حكم الهرة، ما تقول في بعرها؟ نجس. - البعر معلوم أنه يشق التحرز منه؛ لأنها تأتي على المكاتب وتبعر على الكتب وربما تبول، فعلى قاعدة شيخ الإسلام رحمه الله نقول: اليسير منها يعفى عنه، وعلى المشهور من المذهب لا يعفى عنه. - ما هي العلة في كونها طاهرة؟ أنها من الطوافين. - الطوافين هل المراد الخدم أو مكثري التردد؟ الثاني. - هذه العلة هل نلحق بها ما يساوي الهرة؟ يلحق. مثاله: الفأرة، وكذلك البغال والحمير، ويؤيد هذا: أن الرسول كان يركبها والصحابة يركبونها، وهي لا تخلو من عرق ولا من نفرة ولا من ريق، ولم يرد عن النبي أنه أمر بالتحرز منها. - في حديث أنس فائدة مهمة فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو جواز إقرار المنكر إذا كان يترتب على تغييره ما هو أشد منه منكرا، وجه الدلالة: أن البول في المسجد حرام ومع ذلك أقره النبي؛ لأنه سيترتب عليه مفاسد كثيرة؛ ماذا يترتب على قيام الأعرابي؟ كشف العورة وزيادة بقعة النجاسة. يستفاد من حديث أنس في قصة الأعرابي: أنه لا يشترط تكرير غسل الأرض، وأنه يكفي فيها غسلة واحدة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب ذنوب واحد من ماء. ويستفاد منه: وجوب المبادرة إلى النهي عن المنكر؟ ما وجهه؟ إسراع الصحابة ولم ينكر عليهم الرسول؛ لأن هذا هو الأصل. الفائدة من ذكر أنس أنه أعرابي؟ ليكون زيادة في عذره أنه رجل جاهل. - هل يستفاد من حديث أنس أن إزالة النجاسة عن المساجد فرض كفاية؟ نعم، وجه ذلك: عدم مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في صب الماء. استدل بعض العلماء على أنه لا يكفي في إزالة النجاسة إلا الماء، وأن الأرض لا تطهر بالشمس ولا بالريح؟ من فعل الصحابة بصب الماء.

الحوت والجراد والكبد والطحال

من العلماء من نازع في هذا وقال: إن الأرض تطهر بالشمس والريح، فماذا يجيب عن هذا الحديث؟ إذن الفائدة من ذلك المبادرة بإزالة النجاسة عن المسجد. - هل يستفاد من هذا الحديث المبادرة بإزالة البقعة؟ نعم، لأن الإنسان لا ينبغي أن يجوز على محل نجس؟ يستفاد من هذا: أنه يجب في البقعة التي يصلي عليها أن تكون طاهرة، ولكن ما الواجب هل الواجب أن تكون جميع البقعة - كما لو كان يصلي على سجادة طرفها نجس- هل الواجب أن تكون جميع البقعة التي يصلي عليها طاهرة أو المقصود ما يباشره في صلاته؟ الجواب: الثاني حتى لو كان إنسان عنده سجادة في طرفها نجاسة وصلى على الجزء الطاهر منها فلا بأس، وكذلك لو كان في بقعة إلى جنبه نجاسة وصلى على الطاهر منها فإن ذلك لا بأس به، حتى قال العلماء: لو صلى وبين يديه نجاسة ولكن لا يباشرها بمعنى: أنه إذا سجد صارت النجاسة بحذاء صدره؛ فإن صلاته صحيحة لكن لا شك أنه ينبغي أن يصلي الإنسان وبين يديه نجاسة؛ لأن هذا فيه سوء أدب؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبصق المصلي بين يديه، حتى إنه رأى بصاقا في قبلة المسجد فعزل الإمام لأنه بصق في قبلة المسجد، وهذا ينافي الأدب مع الله عز وجل. الحوت والجراد والكبد والطحال: 10 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالجراد والحوت، وأما الدمان: فالكبد والطحال". أخرجه أحمد، وابن ماجه، وفيه ضعف. قوله: "أحلت لنا ميتتان" إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: أحلت، أحل لنا، أو نهينا عن كذا، أو أمرنا بكذا، فالفاعل من؟ الله عز وجل، فيكون "أحلت لنا" أي: أحل الله لنا. وإذا قال الصحابة: أحلت لنا، أو نهينا عن كذا، أو أمرنا بكذا، فالمراد: النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا عند أهل العلم يسمى مرفوعا حكما.

وإذا قال التابعي: أحلت لنا، أو أمرنا، أو نهينا، أو ما أشبه ذلك فهل هو مرفوع مرسل أو موقوف متصل؟ في هذا الخلاف بين علماء الحديث؛ فمنهم من يقول: إنه موقوف متصل؛ لأن التابعي يروي عن الصحابي مباشرة، ومنهم من قال: إنه مرفوع مرسل؛ لأنه حذف منه الصحابي. قوله: "أحلت لنا ميتتان ودمان" هذا كالاستثناء من قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} [المائدة: 3]. ومعلوم أن الميتة والدم نجسان؛ لأنهما حرام، وقد ذكرنا قبل أن كل حيوان محرم فهو نجس، والدليل قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة}. يعني: إلا أن يكون المطعوم ميتة، {أو دما مسفوحا}. هذه اثنين {أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145]. {فإنه} الضمير يعود على ما سبق، يعني: على المطعوم الذي وجده محرما؛ أي: فإن هذا المطعوم رجس، وليس عائدا على لحم الخنزير كما قال بعضهم، بل هو عائد على ما وجده الرسول - عليه الصلاة والسلام- محرما، فقوله: {فإنه رجس} هذه علة للتحريم، ففهمنا أن جميع المحرمات من الحيوانات نجسة ويأتينا - إن شاء الله- أنه يستثنى منها شيء. "أحلت لنا ميتتان ودمان" هذا كأنه مستثنى من قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} , "أما الميتتان: فالجراد والحوت" الجراد معروف، والحوت: يشمل جميع ما في البحر من جيوان، كل ما في البحر فإنه قوت وميتته حلال، ميتة البحر حلال مستثناة من الميتة. "وأما الدمان: فالكبد والطحال"، الكبد معروف، والطحال: قطعة تشبه الكبد من بعض الوجوه لاصقة في المعدة، هذه أيضا حلال مع أنها دم. أتى المؤلف رحمه الله بهذا الحديث في باب الطهارة، وكان المتبادر إلى الذهن أن يذكره في أي باب من أبواب الأطعمة، لكنه ذكره هنا لأن المحرم نجس، فإذا كان هذا حلالا كان طاهرا. فيستفاد من هذا الحديث فوائد: الفائدة الأولى: أنه ليس للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحلل إلا بإذن الله لقوله: "أحلت لنا"، وهذا مبني على صحة الحديث مرفوعا، وسنتكلم عليه - إن شاء الله تعالى- أو نتكلم عليه الآن. الحديث يقول المؤلف أنه فيه ضعف، وقد صححه جماعة من الحفاظ صححوه موقوفا على من؟ على ابن عمر، فيكون من قول ابن عمر، ولكن نقول: إن قول ابن عمر "أحلت لنا ميتتان ودمان" في حكم المرفوع؛ لأنه يتكلم عن حكم شرعي، ولا يمكن أن يأتي به من عنده؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيه، وعلى هذا فيكون إن لم يصح مرفوعا صريحا فهو مرفوع حكما. نأخذ الفائدة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يحلل أو يحرم إلا بإذن اله، ولهذا لما نهى

النبي صلى الله عليه وسلم عن قربان المسجد فيمن أكل بصلا أو ثوما في يوم خيبر، قال الناس: حرمت حرمت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس لي تحريم ما أحل الله". يعني: ليس لي التحريم. التحريم إلى من؟ إلى الله عز وجل، فإذا أحل الرسول شيئا أو حرم شيئا علمنا أن الله قد أذن له، ليس المعنى أنه إذا أحل شيئا نقول: أين الدليل أن الله حرمه، فكفى بقول الرسول صلى الله عليه وسلم دليلا، لكن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أحله ولا حرمه إلا بإذن الله. قال لهم: "إنه ليس لي تحريم ما أحل الله، ولكنها شجرة أكره ريحها"، فدل هذا على أن محمد رسول الله لا يملك أن يحرم ثم إنه في القرآن ما يدل على هذا {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 44 - 47]. إذن الرسول - عليه الصلاة والسلام- معصوم من أن يتقول على الله، فإذا لم يأذن له الله في تحليل شيء أو تحريمه فلن يحلله ولن يحرمه. من فوائد هذا الحديث: حسن تعليم الرسول - عليه الصلاة والسلام- وإلقائه الخطاب، وذلك بالإجمال ثم التفصيل "ميتتان ودمان"، عندما يرد على سمع المخاطب مثل هذه تجده يتشوق ما هذا؟ ما هاتان الميتتان وهذان الدمان؟ وهذا لا شك أنه من حسن التعليم، أن الإنسان يأتي بالشيء مجملا ثم يأتي به مفصلا، وقد وصف الله آيات القرآن بذلك قال: {كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت} [هود: 1]. فالإجمال ثم التفصيل لا شك أنه من أساليب البلاغة البالغة. ومن فوائد هذا الحديث: أن الجراد ميتته حلال، وهذا إذا صار بفعل آدمي فلا شك في ذلك كما لو شوى الجرادة أو كبها في الماء الذي يغلي من النار هذا واضح أنه حلال؛ لأنه من فعل العبد، لكن لو وجدنا جرادا ميتا على ظهر الأرض أحلال هو أم لا؟ حلال، إلا إذا علمنا أنه مات بسم؛ يعني: أن مبيدات رشت عليه ومات، فهنا نقول: لا تأكله؛ لأن في ذلك ضررا، والدين الإسلامي قاعدته: "لا ضرر ولا ضرار". إذا قال قائل: ما الحكمة في أن ميتته تحل وهو حيوان بري يعيش في البر؟ قال العلماء: الحكمة في ذلك: أنه ليس له دم، وأصل خبث الميتة: احتقان الدم فيها، ولذلك إذا أنهر الدم وماتت صارت حلالا، الجراد ليس فيه دم فلذلك صارت ميتته حلال، إذا كان الحيوان مما يحرم أكله لخبثه وليس له دم صار طاهرا، وقصة الذباب تعرفونها الرسول أمر "إذا وقع الذباب في شراب أجدنا أن نغمسه". وهو سوف يموت إذا كان الشراب حارا.

على كل حال: ما الحكمة في أن ميتة الجراد حلال؟ أنه ليس له دم، والعلة في تحريم الميتة: هو احتقان الدم فيها، ودليل ذلك: أنه إذا انهر هذا الدم صارت حلالا، أقول مرة ثانية: إذا كان الحيوان مما يحرم أكله وليس له دم، ماذا يكون؟ سكون طاهرا. ومن فوائد هذا الحديث: حل جميع حيوانات البحر، ونسأل لو وجدت سمكة على صورة أنثى فتاة حلال أم حرام؟ حلال، جميع الحيتان حلال سواء على صورة آدمي، أو صورة سبع، أو صورة كلب لعموم قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} [المائدة: 96]. وجه ذلك - يا إخواني-: أن {صيد} مفرد مضاف، والمفرد المضاف خذوها قاعدة مفيدة في علم الأصول، المفرد المضاف يكون عامل، اقرءوا قول الله تعالى: {واذكروا نعمت الله عليكم} [آل عمران: 103]. أي نعمة؟ كل النعم، {إن تعدوا نعمت الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34]. إذن كل النعم؛ ولهذا قال العلماء: لو قال الرجل: "امرأتي طالق" وله أربع نساء من يطلق؟ كل النساء، ولو قال: "عبدي حر" وله أكثر من عبد؛ عتق كل العبيد ما لم ينو الواحد، إذن جميع حيتان البحر حلال حيها وميتها. الدليل من غير هذا الحديث: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} [المائدة: 96]. قال ابن عباس رضي الله عنهما - وناهيك به علما في التفسير- قال: صيده ما أخذ حيا وطعامه ما اخذ ميتا، وإنما قال ذلك؛ لأنه لو كان المراد بالطعام الذي هو ثمار الأشجار في البحر لم يكن لتخصيص البحر فائدة؛ لأن ثمار الأشجار حلال في البر وفي البحر، إذن فالمراد بطعامه ما ذكر رضي الله عنه وهو ما أخذ من الحيتان ميتا. ومن فوائد هذا الحديث: حل الكبد ولو كانت تقطر دما، لكن بشرط أن تكون من مذكاة مع أنها دم، ماذا نقول في دم القلب بعد الذبح، لأن القلب بعد الذبح يتحجر فيه الدم؟ ولهذا إذا شقه الإنسان صار فيه دم، أهو نجس أم طاهر؟ أحلال أو حرام؟ حلال. فإذا قال قائل: لماذا لم يذكر في الحديث؟ نقول: لأن دم القلب خفي ليس ظاهرا كالكبد والطحال فهو خفي كالدم الذي في العروق؛ ولهذا لدينا ضابط اضبطوه: جميع الدم الذي يكون بعد الذكاة حلال طاهر ولو كان أحمر، ولو تغير به القدر؛ لأنه لما تمت الذكاة صارت جميع البهيمة حلالا طيبا. إذن الدم الذي يبقى في اللحم والعروق وفي جوف القلب حكمه طاهر حلال. ومن فوائد هذا الحديث: أن الأصل في الميتات التحريم، الدليل: أحل ميتتان، يعني: غير هذا حرام، ويؤخذ هذا من المنطوق أو من المفهوم؟ من المفهوم، يعني: وحرم علينا ما سواهما، وكذلك نقول في الدم.

الأصل في الدم أنه حرام يكون نجسا؟ نعم؛ لأننا قلنا: القاعدة كل ما حرم من الحيوان فهو نجس، وكانوا في الجاهلية كان الرجل منهم إذا نفد طعامه شق عرق ناقته ثم مصه، ومعلوم أن الدم يغذي لا شك؛ فحرم الله ذلك إلا بعد الذكاة. أسئلة: - سبق في الدرس الماضي قول ابن عمر: "أحلت لنا ميتتان ودمان" فضعفه بعضهم مرفوعا، وصححه موقوفا؛ فهل يختلف الحكم في ذلك؟ لا، لماذا؟ لأنه لا مجال للاجتهاد فيه فإذا قدرنا أنه من قول ابن عمر فهو مرفوع حكما. - ما هي القاعدة في الدم الذي يكون حلالا مباحا؟ كل ما يبقى بعد الذبح فهو طاهر حلال. - هل هناك شيء غير الكبد والطحال؟ الدم الذي يبقى في القلب والذي في العروق في اللحم، ولماذا لم ينص عليه النبي - عليه الصلاة والسلام-؟ لخفائه بخلاف الكبد والطحال فإنها مستقلة. - الحوت ما المراد به؟ أحوت معين أو جميع ما في البحر؟ جميع ما في البحر، الدليل: {أحل لكم صيد البحر وطعامه}، "طعامه" هي حيتانه التي توجد ميتة. وقوع الذباب في الشراب: 11 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم". الذباب: طائر معروف وهو من أوهن الحيوانات، ولهذا ضربه الله تعالى مثلا في التحدي؛ فقال تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له} [الحج: 73]. استمع لهذا المثل من الله عز وجل، الرب عز وجل يستنصتك وهو فوق سبع سموات يقول: ضرب مثل فاستمعوه، ماذن نقول؟ : سمعا وطاعة نستمع {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} [الحج: 73]. الذباب: من أهون ما يكون من الحيوان، لا يمكن أن يخلقوا ذبابا واو اجتمعوا به؛ ولهذا تجد ذبابا ليس له بريد، وليس له قرار؛ أي: مكان يكون فيه ينزل فيه، فهو من أضعف الحيوانات {إن الذين يدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له}. لو اجتمعوا كلهم ما استطاعوا أن يخلقوا ذبابا. وانظر هذا التحدي القدري مع التحدي الشرعي {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88]. فتحدى الله الخلق أن يأتوا بمثل آياته الشرعية أو يمثل آياته الكونية؛ بمثل آياته الشرعية هي قوله: {قل لئن

اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان ولا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88]. والكونية: {يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} [الحج: 73]. هذا الذباب الطائر المعروف الكثير المتكاثر في بعض الأزمنة أو في بعض الأمكنة، يقول الرسول - عليه الصلاة والسلام-: "إذا وقع في شراب أحدكم"، أي شراب؟ عام؛ لأنه مفرد مضاف فيفيد العموم أي شراب: ماء، لبن، مرق، أي شيء كان. "فليغمسه، ثم لينزعه" لما قال: "فليغمسه" علمنا أنه لابد أن يكون شرابا مائعا؛ لأن غير المائع لا يمكن غمسه، إذن الشراب المائع فمثلا العسل شراب هل يغمس فيه؟ لا يمكن أن يغمس فيه، اللهم إلا إن جعلت معه ماء أو لبنا فيمكن. على كل حال: الحديث يدل على الشراب الذي يمكن غمس الذباب فيه، "ثم لينزعه" يعني: يخرجه من الشراب لئلا يقع في الشراب، تعرفون أنه صغير يمكن أن يدخل مع الشراب من غير أن يشعر به الإنسان لكن لينزعه. "فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء" سبحان الله! الرسول - عليه الصلاة والسلام- لم يكن متخرجا من كليه الطب لكنه يأتيه الوحي وإلا فمن يدري في ذلك الوقت أن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، لا يوجد تحليلات، ولا يوجد طب راق، لكنه الوحي من عند الله عز وجل داء يعني: مرض، وفي الآخر شفاء؟ أي: من هذا المرض أو عموما؟ يحتمل أن المراد شفاء؛ أي: من ذلك المرض الذي في الجناح الآخر، ويحتمل أن يكون المراد الشفاء عموما، وحينئذ إذا قلنا بالعموم هل يشمل كل مرض؟ يقال في ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الكمأة: "إنها من المن وماؤها شفاء للعين". فليست شفاء للعين من كل داء يصيبها ولكنه لنوع من أنواع الأدواء وفي الآخر شفاء. أخرجه البخاري، وأبو داود، وزاد: "وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء". هنا نقول: أخرجه البخاري ظاهر كلام المؤلف أنه لم يخرجه غير البخاري، وأبو داود. فلو قال قائل: أين بقية الأئمة لماذا لم يخرجوه؟ فيقال: هل الأئمة كلهم إذا رووا عن أناس يتفقون في الرواية عنهم؟ لا، ربما لا يرونهم ولا يدركونهم، كما أننا ترد علينا أحاديث كثيرة ليس فيها ذكر أبي بكر وعمر، ونحن نعلم أن أبا بكر

وعمر سمعاها، ونحن وإن لم نعلم فإنه يغلب على ظننا أن أبا بكر وعمر قد سمعاها لكن لم يروها، فلا يلزم من كون بقية الأئمة لم يرووه أن يكون من أفراد البخاري ضعيفا مثلا وليس ضعيفا بل هو صحيح، والطب الحديث يشهد له، يقول: أخرجه البخاري وأبو داود وزاد: "وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء"، يتقي: يعني إذا خاف على نفسه وأهوى ليسقط في هذا الشراب ماذا يقدم؟ يقدم الجناح الذي فيه الداء يتقي به، وهذا إما إلهام من الله عز وجل وإما أن يكون هذا الجناح يختص بخصيصة ليست في الجناح الآخر يعرفها الذباب. على كل حال: ما لنا ولهذا، نحن نقول: آمنا وصدقنا أنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء والله أعلم، لماذا يتقي به؟ الله أعلم. على كل حال: أنا قرأت في بعض الكتب والمجلات أثبتوا أنه يوجد فيه الحمى أو التيفود لا أدري ما اسمها، وأن هذه - بإذن الله- إذا غمسه فإن في الجناح الآخر ما يضاد، ونحن في الحقيقة إنما نستشهد بأقوال الأطباء أو الفلكيين على ما دل عليه الكتاب والسنة ليس من أجل أننا نقبل إلا إذا شهدوا أبدا، نحن نقبل وإن لم يشهدوا، بل لو شهدوا بخلافه وقد صح ثبوتا ودلالة، فإننا لا نعبأ بهم لكننا نستفيد من ذلك فائدتين: الأولى: زيادة الطمأنينة لا شك. والثانية: محاجة أولئك الذين يقدحون في الشريعة فيما لا يدخل عقولهم القاصرة؛ فنقول: شهد علماء الفلك بهذا، أو شهد علماء الطب بهذا فنستفيد؛ يعني: نحن لا نقول: نلقي كل ما يقوله الناس في مسألة الطب وفي مسألة الفلك والأجرام السماوية، ولكننا لا نقبل كل ما يقولون، إذا كان الذي يقولون يخالف الكتاب والسنة الثابتين دلالة فإننا لا نقبل كلامهم، نأخذ بما جاء في الكتاب والسنة، ونقول: إن كلامكم الآن الذي يضاد الكتاب والسنة سوف يأتي الزمن الذي يشهد فيه الناس بصحة ما جاء في الكتاب والسنة. أولا: نسأل لماذا أتى المؤلف بهذا الحديث في باب المياه؟ الجواب: أتى به ليفيد أن مثل الذباب إذا مات في الماء القليل فإنه لا ينجسه؛ لأن الإنسان إذا جاء يشرب؛ شرب من إناء صغير إذا غمس فيه الذباب وهو حار سوف يموت، فإذن أتى به المؤلف ليفيد أنه إذا وقع في الماء القليل شيء مثل الذباب فمات فإن الماء لا ينجس بذلك، هذه هي المناسبة. أما فوائد الحديث: فنقول في الحديث فوائد؛ منها: شمول الشريعة الإسلامية في بيان أمراض الأبدان وبيان أمراض القلوب، ولهذا ما من شيء يحتاج الناس إليه حتى في أبدانهم إلا بينه الله ورسوله، وهذه قاعد عامة لا يشذ منها شيء. أما أمراض القلوب والعبادات فهذا أمر معروف، وكذلك أيضا أمراض الأبدان في الكتاب والسنة أصول، لا نص على كل مسألة وكل فرد وكل جزء أصول عامة يستفاد منها في الطب.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الذباب ليس بنجس، لا حيا ولا ميتا، من أين تؤخذ؟ من قوله: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه"، لو كان نجسا لأرقنا الماء؛ لأن الماء القليل سوف يتأثر بمثل الذباب لاسيما إذا وقع فيه ذباب كثير. ومن فوائد هذا الحديث: أن الذباب إذا وقع في الطعام الجامد فإنه لا يغمس من أين يؤخذ؟ يؤخذ من المنطوق أم من المفهوم؟ من المفهوم، هذا من جهة الدلالة الشرعية. الدلالة العقلية: أنك لو غمسته في طعام، فإنه سوف يتفتت في هذا الطعام ولزدت الطين بلة، ويكره الطعام حينئذ للإنسان. ومن فوائد هذا الحديث: أن الذباب قلنا: إنه طاهر حيا ميتا، هل يقاس على الذباب غيره؟ العلماء - رحمهم الله- قالوا: نعم يقاس عليه كل شيء ليس له دم يسيل فإنه طاهر حيا وميتا، حتى لو كان حراما فهو طاهر حيا وميتا، فمثلا الجعلان طاهر لو وقع الجعل في الماء فالماء طاهر، العقرب طاهر؛ لأنه ليس له دم، فإذا وقعت في ماء ولو تغير الماء فهو طاهر؛ لأنها لا تنجس بالموت. "الوزغ" قال أصحابنا - رحمهم الله--: للوزغ نفس سائلة نص عليه الإمام أحمد، يعني: له دم يسيل، وأنا أسألكم هل قتلتم وزغا؟ نعم، فهل له دم؟ نعم، الحمد لله إذن الوزغ لا يدخل في هذا الباب؛ لأنه له نفس سائلة. ومن فوائد هذا الحديث: قدرة الله عز وجل، وأنه قادر على كل شيء، فالذباب - كما تعلمون- دويبة هشة ضعيفة مهينة، وقد جمع الله فيها بين شيئين متضادين هما الداء والشفاء، وهذا يدل على كمال قدرة الله عز وجل، نحن نعرف أن الله على كل شيء قدير فيما إذا خلق في ها مصلحة، وهذا مضرة في ذاتين منفصلتين، ولكم في ذات واحدة فيها مضرة ومنفعة. يؤخذ من هذا أيضا: أن الله تعالى قد يحكم في الشيء بحل وحرمة في جسد واحد يكون بعضه حلالا وبعضه حراما ممكن في الشريعة الإسلامية؟ لا، ليس في الشريعة الإسلامية حيوان بعضه حلال وبعضه حرام، في الشريعة اليهودية نعم {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام: 146]. هذه ذات مستقلة {كل ذي ظفر}. يقول العلماء: كل ما أرجله غير مشقوقة فهو من ذوات الظفر مثل الإبل، {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها} [الأنعام: 146]. واللحوم حلال والشحوم حرام {حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورها} يعني: ما عدا الظهر فهو حلال، وذلك - والله أعلم- لمشقة تخليصه من اللحم، {أو الحوايا} يعني: ما حملته الحوايا.

الحوايا ما هي؟ الحوايا: الأمعاء الملتوية، {وأما ما اختلط بعظم} وذلك - والله أعلم- لمشقة التخليص، فمثلا الآلية حرام أم ماذا؟ حرام، اللحم حلال، الشحم المستثنى حلال؛ فهذا حيوان واحد صار بعضه حلالا وبعضه حراما. الذباب حيوان واحد بعضه مرض وبعضه شفاء، على رأي بعض العلماء من علماء المسلمين، هناك حيوان بعضه له حكم وبعضه له حكم وهو الإبل، فإن بعض العلماء يقول: الإبل شحمها لا ينقض الوضوء ولحمها ينقض الوضوء، لكن هذا غير صحيح كما مر علينا وسيمر علينا أيضا إن شاء الله، هذا غير صحيح ليس في الشريعة الإسلامية حيوان يكون بعضه حلالا وبعضه حراما، أو بعضه له حكم طهارة وبعضه له حكم نجاسة، أو حكم نقض وبعضه ليس له ذلك. ومن فوائد هذا الحديث: أن الماء لو تغير بطعم الذباب المغموس فيه لم ينجس، من أين يؤخذ؟ من قوله: "فليغمسه". وجه الدلالة: لو كان ينجس ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغمسه؛ لأنه لو كان كذلك لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بما يفسد الماء، وهذا متعذر بالنسبية للشريعة الإسلامية. ومن فوائد هذا الحديث: أن الذباب حرام لقوله: "ثم لينزعه" لئلا يدخل في الشراب وهو كذلك فهل يقاس على الذباب ما كان مثله مما تستخبثه النفوس؟ يرى بعض العلماء كذلك أنه يقاس عليه ما كان مثله مما تستخبثه النفوس، والمراد بالنفوس: النفوس المستقيمة ليس كل نفس؛ لأن من الناس من لا يعافه شيء، من الناس إذا أكل جرادة خرجت روحه معها تقريبا. أهدينا لواحد من الإخوان جرادا من أحسن ما يكون، وألذ ما يكون، فلما أكله يقول: رأيت الموت أما عيني ورد علي ما أهديته إليه لأنه يقول: ما أكلته من قبل وعجزت أن أهضمه ومع أنه طيب من أفضل الطيبات. أسئلة: - ذكرنا ضابطا في الدرس السابق في الميتات الطاهرة ما هو؟ ما ليس له دم يسيل، ميتة الآدمي طاهرة، ميتة البحر طاهرة، ميتة الجراد طاهرة، وهو يدخل في قولنا: "ما ليس له نفس سائلة". - ما هو الدليل على أن ما سوى ذلك فهو نجس؟ قوله: {قل لا أجد في ما أوحى إلي} [الأنعام: 145]. هذه الآية أصل في أن الميتات نجسة، وما دل الدليل على أنه طاهر فهو مستثنى، الدليل على أنه ما له نفس سائلة حديث الذبابة. - معنى قوله: "يتقي بجناحه الذي فيه الداء"؟ يجنح على جناحه الذي فيه الداء. - هل هذا يدل على أنه عدو للإنسان؟ لا ندري قد يكون الله علمه، والله أعلم. 12 -

وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت". أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه، واللفظ له. قوله: "ما قطع" يحتمل أن يكون اسم شرط، ويحتمل أن يكون اسما موصولا، فإن كان اسم شرط، فقوله: "فهو ميت" جواب الشرط واقترن بالفاء؛ لأن جملة الجواب إذا لم تصلح أن تكون فعل شرط فإنه يجب أن تقترن بالفاء، وبذلك يقول ابن مالك: واقرن بفا حتما جوابا لو جعل ... شرطا لإن أو غيرها لم ينجعل وقد نظمت هذه في بيت معروف مشهور نريد سماعه منكم: اسمية طلبية وبجامد ... وبما وقد وبلن وبالتنفيس من أي الجمل ما معنا؟ اسمية، وإذا جعلناها اسما موصولا وقلنا: المعنى: الذي قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت، فلماذا اقترنت الفاء بالخبر؟ يقولون: لأن الخبر لما كان اسما موصولا مفيدا للعموم صار مشبها للشرط في إفادته للعموم والإجمال، فاقترن الخبر بالفاء. أقول: لما كان المبتدأ اسما موصولا مشبها للشرط في العموم والإجمال صار يقترن في خبره بالفاء، فقوله: "ما قطع من البهيمة: البهيمة: كل الحيوانات بهيمة؛ وذلك لأن البهيمة مأخوذة من الإبهام، والحيوانات كلها مبهمة لا يعرف ما تقول، حتى وإن كان بعضها - أي: بعض الحيوانات- لها أصوات معينة يعرف الإنسان بها ما تريد، فإن بعض الحيوانات كالهر مثلا تعرفه إذا نادى أولاده الصغار، الديك إذا نادى الدجاج له صوت معين لكنه لا ينطق، لا يعرف؛ ولهذا سميت جميع الحيوانات ما عدا الإنسان بهائم. وقوله: "ما قطع من البهيمة وهي حية" جملة "وهي حية" حال من البهيمة. "فهو ميت" أي: كميتة البهيمة، وهذه أخذ منها العلماء قاعدة فقالوا: ما أبين من حي فهوة كميتته، فما أبين من الحيوان الذي إذا مات صار نجسا فهو نجس، وما أبين من الحيوان الذي إذا مات فهو حلال طاهر فهو طاهر، وما أبين من الحيوان الذي إذا مات فهو طاهر غير حلال فهو طاهر، وغير حلال مثل ما أبين من الآدمي، الآدمي ميتته طاهرة وما أبين منه فهو طاهر؛ فكل ما أبين من حيوان فله حكم ميتة هذا الحيوان حلا وطهرا، هذه القاعدة ما قطع من الشاة وهي حية كميتتها

نجس حرام، ما قطع من الحوت طاهر وحلال، لأن الحوت ميتته طاهرة، ما قطع من الجرادة حلال طاهر؛ لأن ميتتها حلال طاهرة، ما قطع من الآدمي طاهر وليس بحلال، لأن ميتة الآدمي طاهرة وليست بحلال. أرأيت لو اضطر إنسان إلى أكل لحم إنسان ميت ما تقولون؟ العلماء مختلفون على قولين: من العلماء من قال: إذا اضطر الحي إلى أكل الميت فله أيأكله؛ لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ومنهم من يقول: لا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كسر عظم الميت ككسره حيا". فله حرمة حتى لو مات الحي فإنه يموت ولا يأكله. نأخذ فوائد: أولا: ما سبب الحديث؟ سبب الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يجبون أسنمة الإبل وأليات الضأن يتخذونها ودكا فيبينونها منها وهي حية، فقال هذا، ومعرفة سبب الحديث أو الآية يعين على فهم النص. ومن ذلك: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]. لو نظرنا إلى ظاهر اللفظ لكانت هذه الآية تدل على أن الطواف بين الصفا والمروة من القسم الجائز وأنه لا لإثم فيه، لكن إذا عرفنا السبب وأنهم كانوا يتخوفون من الطواف بينهما؛ علمنا أن ذلك لا يدل على الإباحة، بل يدل على نفي الجناح الذي كانوا يتوهمونه، فمعرفة السبب لها أهمية بالنسبة لمعرفة المعنى. فمن فوائد الحديث إذن: أنه يجب على العالم إذا اقتضت الحال أن يذكر الحكم الشرعي لوقوع الناس في مخالفته، فإنه يجب عليه أن يبينه؛ لأن الرسول بين هذا حينما رأى الناس يحبون الأسنمة والأليا. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ما قطع من البهيمة وهي حية فهو كميتة البهيمة لقوله: "فهو ميت". وهنا نسأل هل يجوز أن يقطع شيء من البهيمة أو لا؟ نقول: أما إذا كان عبثا ولمجرد الإيلام أو الانتقام فإن هذا حرام ولا يجوز، مثاله: رجل عنده معز تصرخ عليه في الليل وآذته في نومه فنزل إليها وقطع لسانها. حرام أو حلال؟ حرام، لأن هذا انتقام وهي بهيمة غير مكلفة، كذلك لو كان عبثا فإنه لا يجوز. لكن لو كان لمصلحة البهيمة أو لمصلحة مالك البهيمة فهل يجوز ذلك أو لا؟ الظاهر: الجواز، لكن يجب أن يتبع أقرب الطريق إلى عدم الإيلام، مثال ذلك: الخصاء لمصلحة البهيمة

ولمصلحة المالك أيضا؛ لأن اللحم إذا خص الفحل صار أطيب لحما وقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين موجوءين؛ أي: مخصيين، هذا لمصلحة البهيمة وهو بالتالي أيضا لمصلحة المالك. أما الذي لمصلحة المالك فهو قطع الآذان، فإنهم في الزمن الأخير صاروا يرغبون في المعز إذا قطعت أذنه ويقولون: إن ثمنها يزيد بالضعف أو أكثر فهذه لمصلحة المالك، لكن يجب أن يستعمل أقرب الطرق إلى عدم الإيلام. ماذا يصنع؟ يبنجها حتى لا تتألم. فإن قال قائل: ما دليلكم على أن يؤلم البهيمة لمصلحته؟ قلنا: الوسم، كان الرسول - عليه الصلاة والسلام- يسلم إبل الصدقة. والوسم: إحراق بالنار مؤلم للحيوان، ولكن هذا لمصلحة المالك؛ لأن الوسم علامة، فدل ذلك على الجواز. فإن قال قائل: قطع الآذان يشبه فعل الجاهلية حيث كانوا يبحرون البحائر ويسيبون السوائب؟ فالجواب: أنه قد يشبه صورة، لكن ما الحامل للجاهلين على أن يفعلوه؟ الحامل العلامة على أن هذه حرام؛ لأن عندهم قواعد إذا بلغت الشاة أو البعير حرم أن تركب أو تحلب ووجب أن تسيب ثم يقصون من آذانها ما يكون علامة على ذلك، لكن هؤلاء الذين يقصون ليسوا يريدون أن يحرموها، بل يريدون بذلك زيادة الثمن والانتفاع بارتفاع القيمة، إذن تكلمنا على هذا الموضوع مع أن الحديث لم يتعرض له لكن لا مانع لأن هذا مهم. ومن فوائد هذا الحديث: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على البلاغ وهداية الخلق؛ لأنه بادر - عليه الصلاة والسلام- من حين علم بذلك بادر لهذا. فائدة: استثنى بعض العلماء - رحمهم الله- مما أبين من الحي شيئين. الشيء الأول: المسك وفأرته. والشيء الثاني: الطريدة. قالوا: هذا جائز المسك وفأرته، يوجد غزال يسمى غزال المسك يستخرج المسك من دمه، وفي ذلك يقول المتنبي في ممدوحه: [الوافر].

فإن تفق الأنام وأنت متهم ... فإن المسك بعض دم الغزال هذا استثناها بعض العلماء وقالوا: إنه ما زال المسلمون يتطيبون بالمسك، وهو يستخرج من دم الغزال. والمسألة الثانية: الطريدة: الطريدة ذكرها الإمام أحمد رحمه الله، وأن الصحابة فعلوها؛ وهي أن يطرد القوم الظبي ثم يدركوه جميعا، ثم يقطعوه؛ هذا يقطع الرجل، وهذا يقطع الرقبة، وهذا يقطع اليد ويموت ميتة واحدة، ولم يستدل أحمد رحمه الله بحديث لكنه استدل بفعل الصحابة، ولكن هذا أيضا لا يستبعد أن ينطبق على الحديث؛ لأن هذا صيد، والصيد يحل بجرحه في أي موضع كان من بدنه، فهؤلاء جرحوه جميعا، ثم صار هذا الجرح كأنه صيد رمي بسهم، ولم يستثن العلماء مما أبين من الحي أنه يكون طاهرا إلا هاتين المسألتين. أسئلة ومراجعة: - لو قال المؤلف: أخرجه السبعة فما المراد به؟ وإذا قال الخمسة؟ - لماذا بدأ المؤلف بكتاب الطهارة؟ - لأنها من شروط الصلاة، والصلاة آكد أركان الإسلام. - ثانيا: هي من باب التخلية، وهي سابقة على التحلي والإشارة إلى طهارة الباطن. إذا قال قائل: هي من شروط الصلاة لماذا لم نبدأ بالوقت؟ لأن المحافظة على الوقت أوكد من المحافظة على الطهارة، ولهذا إذا خاف الإنسان فوات الوقت صلى ولو بغير طهارة، فالطهارة تقريبا ربع العبادات تكلموا عليها كثيرا، فلكثرة الكلام فيها قدموها على بقية شروط الصلاة؛ لأن فيها الغسل والوضوء ونواقضهما، وموجبات الغسل، والحيض، وباب النجاسة، يعني أشياء كثيرة، ولهذا بدءوا بها، وإلا هناك شروط من شروط الصلاة أوكد منها. - لماذا زاد: "الحل ميتته"؟ ما سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"؟ هذه في البلاغة تسمى جواب الحكيم، فبما أنه أشكل عليهم الوضوء فمن باب أولى يشكل عليهم الأكل. - هل في هذا ما يؤيده من القرآن؟ {أحل لكم صيد البحر وطعامه}. - سقطت سمكة في ماء فأنتنت وتغير الماء ما حكمه؟ هو طهور، والماء إذا تغير بطاهر فهو طهور.

يوجد حديثان: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" وحديث ابن عمر: "إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث" فهل بينهما تعارض؟ نعم، حديث عبد الله بن عمر ضعيف فنرجح الأول. - هل الحديثان على إطلاقهما؟ - مر علينا لا يغتسل الرجل بفضل المرأة ولا العكس هل هذا على سبيل الإرشاد؟ نعم، الدليل: ثبوت ذلك على النبي أنه اغتسل بفضل ميمونة. - سلك بعض العلماء في هذا الحديث مسلكا غريبا: أن الرجل يتوضأ بفضل المرأة ولا عكس، ما وجه الغرابة؟ أن الحديث واحد. - من هنا نأخذ: أنه مهما بلغ الإنسان من العلم فإنه عرضه للخطأ. - هناك كليب صغير ولغ في إناء فما الحكم؟ الماء ينجس ويغسل، كيف يغسل؟ سبع مرات أولاهن بالتراب، حتى لو كان صغيرا؟ نعم؛ لأن الحديث عام: "إذا ولغ الكلب". وردت قصة غريبة في عهد الرسول تدل على جفاء الأعراب وعدم معرفتهم بحدود ما أنزل الله على رسوله ما هي؟ قصة الأعرابي الذي باب في المسجد. - لو وقعت مثل هذه القضية ماذا نفعل؟ نصبر حتى ينتهي ونطهره ونخبر الأعرابي بحمه. - هل الصحابة على صواب حين زجروه؟ لن ينههم الرسول صلى الله عليه وسلم عن المبادرة، ولكن أشار إلى العلة وهي: "ولا تزرموه" حتى لا يتضرر وتكثر المفسدة. - هل هذا الأمر بالتطير فرض كفاية أو فرض عين؟ فرض كفاية. - هل في هذا الحديث دليل على رد قول من يقول: إن الأرض تطهر بالشمس والريح؟ أمر النبي بالمبادرة للتطهير. - المؤلف أتى بهذا الحديث في باب المياه، فما هي المناسبة؟ المناسبة: أن الماء هو الذي تزال به النجاسة. - في حديث: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت" إشارة إلى قاعدة ذكرها الفقهاء فما هي؟ ما أبين من حي فهو كميتته. - ما قطع من الآدمي حكمه؟ طاهر، لماذا؟ لأن ميتته طاهرة، وكذلك على القول الراجح: ما انفصل بغير الأذى والقذر فإنه طاهر.

2 - باب الآنية

2 - باب الآنية الآنية: جمع "إناء". والإناء: هو الوعاء، والعلماء - رحمهم الله- ذكروا الآنية هنا في باب الطهارة دون أن يذكروها في باب الأطعمة مع أن الأطعمة إنما تقدم في الأواني، والأشربة تقدم في الأواني، لكن ينبغي أن يذكر الشيء عند أول مناسبة له، وأول مناسبة للأواني هو باب المياه لأن الماء - كما تعلمون- جوهر سيار لا يمكن الإحاطة به إلا بإناء، فلذلك ذكروا باب الآنية بعد ذكر باب الطهارة؛ هذا هو السبب، فلها صلة قوية في باب الأطعمة وباب الأشربة. والأصل في الأواني: الحل؛ أي إناء تشرب فيه، أي إناء تأكل فيه فالأصل فيه الحل، إلا ما كان ضارا فإنه حرام، أو إن شئت فقل: إلا ما دل الدليل على تحريمه - وهذا أعم- فإنه حرام وإلا فالأصل الحل، ولهذا لو أن الإنسان شرب في إناء من خزف، وقال له قائل: هذا حرام، ماذا نقول؟ نقول: هات الدليل، فإذا قال هو: أين الدليل على أن الشرب في الخزف حلال؟ قلنا: عدم الدليل على التحريم هو الدليل، أكل أو شرب في إناء من الماس - الماس غال جدا- فقال له قائل: هاذ حرام. ماذا نقول؟ نقول: هذا حلال، نقول: الأصل الحل إلا ما قام عليه الدليل، ومما قام عليه الدليل: أن يأكل الإنسان في جزء من الآدمي مثل أن يجد جمجمة رأس الآدمي فيستعملها إناء فهذا حرام؛ لأن الآدمي محترم، وإن كان طاهرا لكنه محترم فلا يجوز اتخاذ عضو من أعضاء الآدمي آنية لاحترامه، ومن ذلك أيضا: أواني الذهب والفضة يحرم استعمالها في الأكل والشرب، الدليل: حديث حذيفة بن اليمان وهو صاحب السر المشهور الذي أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أسماء المنافقين يقول: حكم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة. 13 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة". متفق عليه. "لا تشربوا" "لا" ناهية، والدليل أنها ناهية وليست نافية: حذف النون علامة الجزم، وقوله: "في آنية الذهب والفضة" أي: أوعيتها. "ولا تأكلوا في صحافهما" أي: صحاف الذهب والفضة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كعادته غالبا بين الحكمة فقال: "فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" يعني: أنكم في هذه الدنيا لا يبغ بكم الترف إلى أن تأكلوا في آنية الذهب والفضة. هذا لمن؟ هذا يتمتع به الكفار اذلين يتمتعون في هذه الدنيا كما تتمتع الأنعام والنار مثوى لهم، أما أنتم فأجلوا المسألة، أجلوها إلى أن تأكلوا وتشربوا فيها أبد الآبدين، وذلك في الآخرة إذا دخل المؤمنون

الجنة - جعلنا الله وإياكم منهم- فإنهم يأكلون في صحاف الذهب والفضة ويشربون أيضا في أوانيها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما"، هذا الأكل والشرب في هذه الأواني الثمينة لا يكون للمؤمن هذا هو التعليل المنطبق المطرد، وأما تعليل بعض العلماء بأن هذا يوجب تضييق النقدين على الناس؛ لأن النقدين من الذهب والفضة؛ من الذهب يسمى دينارا، ومن الفضة درهما، قالوا: لو أنها جعلت أواني لضاقت النقود على الناس، وبعضهم يقول: لأننا لو جعلنا هذه الأواني لانكسرت قلوب الفقراء، وهذا أيضا دليل عليل سنبين إن شاء الله ذلك، ومنهم من قال: إن فيهما خيلاء وسرفا وهذا أيضا منتقد. أما ألأول - وهو التضييق- فيقال: يلزم على هذه العلة أن نمنع لباس الذهب والفضة على الرجال والنساء؛ لأن ذلك يضيق النقدين على الناس ولاسيما في بلاد ضعيفة الاقتصاد، ومعلوم أن الذهب حلال للنساء وأن الفضة حلال للنساء، الذين يقولون إن ذلك كسرا لقلوب الفقراء؛ فنقول: إذن حرام كل ما ينكسر به قلب الفقير، إذا رأيت سيارة فخمة يركبها غني أو أمير أو وزير قل: هذه حرام؛ لأن الفقير يقول" لماذا هذا يركب سيارة (بيوك)، (رينو) وأنا ليس عندي إلا (مزاد) متكسرة ينكسر قلبه لا شك، إذن حرم على هؤلاء ركوب ذلك، البيوت أيضا رجل بيوته أعشاش الثاني قصور فخمة مشيدة، أيضا اللباس رجل فقير لباسه مرقع وآخر لباسه من أفخم اللباس المباحة، نقول أيضا: حرام، لأن هذا ينكسر به قلب الفقير، بقي علينا السرف والخيلاء، السرف والخيلاء قد يكون في آواني غي الذهب والفضة، الأواني من الماس والجواهر النفيسة التي هي أغلى من الذهب والفضة أشد خيلاء وأشد إسرافا ومع ذلك لا نحرمها لذاتها، الذهب والفضة محرم لذاتهما، حتى وإن كان فنجانا وهذا الرجل عنده ملايين الملايين لا يعد سرفا ولا يهتم به، يقول: هذا حرام؛ إذن العلة التي ذكرها النبي - عليه الصلاة والسلام- هي العلى المطردة التي لا تنقطع من يستطيع أن يقول: إن الذهب والفضة للكفار في الآخرة؟ لا أحد يستطيع، أما في الدنيا فيقول: إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة، هذه هي العلة الحكيمة. سبب تحديث حذيفة بهذا الحديث: أنه كان في بيته أو في قصره فدعا بماء، فجاء الدهقان إليه بماء في إناء من فضة، فأخذ الإناء ورماه به ورمى الدهقان وقال للجماعة الذين عنده: إتي أخبركم أني قد نهيت أن يسقيني فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما"، وانتبهوا لقوله: إني نهيت أن يسقيني فيه؛ لأنه سيترتب عليه مسألة إن شاء الله ستأتينا.

المهم: أن حذيفة حدث بهذا الحديث لهذا السبب، وربما حدث به في مكان آخر لا أدري لكن هذا الذي جاء في صحيح مسلم. ففي هذا الحديث: أولا تحريم آنية الذهب والفضة؛ لأن الأصل في النهي التحريم، ولأن في الحديث إشارة إلى أن من أكل أو شرب فيهما فإنه حري أن يحرمهما في الآخرة؛ لأن الله لم يبح ذلك لنا إلا في الآخرة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا فرق بين الآنية الكبيرة أو الصغيرة، أو الأكل الكثير أو الشرب اليسير، حتى لو جرعة من الماء في ملعقة فهي حرام، وكذلك أيضا لو كانت لقمة واحدة في ملعقة فهي حرام، لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه". إذن نجتنب الأكل كله والشرب كله، ما نأكل لا بقليل ولا بكثير، ولا بآنية صغيرة. ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم الرسول - عليه الصلاة والسلام- وذلك لذكر العلة عند ذكر الحكم؛ لأن ذكر العلة يوجب الطمأنينة واستقرار القلب، وكذلك يبين سمو الشريعة وأنه ليس فيها حكم إلا مقرون بحكمه، وهذه من أحسن التعليم وأبين البيان. ومن فوائد الحديث: جواز استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب؛ لأن النهي عن الأكل والشرب فقط، فلو استعمل الإنسان آنية الذهب والفضة في أدوية يخزنها، أو في دارهم، أو في أي حاجة من الحاجات غير الأكل والشرب؛ فإنه لا بأس بها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأنصح الناس وأعم الناس، ولو كان استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب حراما لبينه الرسول - عليه الصلاة والسلام- بيانا واضحا حتى لا يبقى إشكال، ثم إن قول حذيفة رضي الله عنه: "إني أخبركم أني قد نهيت أن يسقيني بها". يدل على أن حذيفة كانت عنده هذه الآنية لكنه لا يستعملها في أكل أو شرب، وهذا واضح، ولا ينبغي لنا إطلاقا إذا ذكر الشارع شيئا خاصا أن نعممه؛ لأن ذلك يعني أنا ضيقنا ما وسعه الشارع، ومعلوم أننا نتعبد بما دل عليه الكتاب والسنة لا نحجر على عباد الله، وفيه ثلاثة أمور: اتخاذ واستعمال في غير الأكل والشرب، واستعمال في الأكل والشرب، والاستعمال في الأكل والشرب حرام لا إشكال فيه، بل ظاهر النص أنه من كبائر الذنوب. الاتخاذ الخلاف فيه معروف بمعنى: يتخذه الإنسان إما زينة أو لسبب م الأسباب لكن لا يستعملها، هذا الخلاف فيه معروف، الاستعمال حكى بعض الناس أن العلماء أجمعوا على التحريم ولكن ليس بصحيح، لا يوجد فيه إجماع، وقد أنكر الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار

هذا إنكار عظيما وقال: إن السنة تدل على أن المحرم وهو الأكل والشرب فقط، والقياس ممنوع ولا يصح، وما ذهب إليه الشوكاني رحمه الله هو الذي تدل عليه الأدلة، وأن المحرم هو استعمالها في الأكل والشرب، وسيأتينا في حديث أم سلمة في النهي عن الشرب في إناء الفضة وأنها هي رضي الله عنها اتخذت جلجلا من فضة. أسئلة: - لباب الآنية مناسبتان فما هما؟ يذكر في باب الأطعمة والأشربة والطهارة. - مناسبته لباب الأطعمة والأشربة؟ هي ظاهرة. - مناسبته لباب الطهارة؟ أن الماء لابد أن يحمل في إناء. - ولماذا اختاره المصنف هنا؟ اختاره هنا لأنهم يذكرون الشيء عند أول ذكر له. - ما هو الأصل في الأواني؟ الحل، والدليل: عدم الدليل. - ما هو الدليل الإيجابي؟ قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [البقرة: 29]. - لماذا حرم الشرب والأكل في آنية الذهب والفضة؟ علله النبي بأنه للكفار في الدنيا ولا في الآخرة. انظر سبحان الله! الذين أجرموا إذا مروا بالمؤمنين يضحكون ويتغامزون، والمؤمنون يوم القيامة يضحكون من الكفار، مقابلان، لنا الآخرة ولهم الدنيا. - هل يدل الحديث على جواز استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل الشرب؟ النهي خاص بالشرب والأكل دل على أن ما عداه فهو جائز مثل إناء يجعل فيه دواء. - ذكر بعض العلماء تعاليل في مناسبة تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة. قال: هو تضييق على الناس. هل هذا تعليل عليل أو مستقيم؟ لا هو عليل. والثاني لئلا ينكسر قلب الفقير. هل هذا مستقيم؟ لا؛ لأنه ينكسر قلبه من أشياء كثيرة. قال: إسراف وخيلاء، وهذا غير مستقيم؛ لإلزامه على ذلك تحريم بقية الجواهر التي أغلى منهما. - ذكرنا قصة كانت سببا لسياق حذيفة لهذا الحديث وهي تدل على جواز استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب؟ قول حذيفة: "قد نهيت أن يسقيني فيهما". - ذكر استعمال الذهب والفضة على ثلاثة وجوه ما هي؟ الأول: استعمالها في الأكل والشرب. والثاني: استعمالها في غير الأكل والشرب. والثالث: الاتخاذ.

والمشهور من المذهب أن كل الثلاثة حرام: اتخاذها واستعمالها في غير الأكل والشرب، واستعمالها في الأكل والشرب، والصحيح: أنها لا تحرم إلا في الأكل والشرب، استدل بهذا الحديث من قال: إن الكفار لا يخاطبون بفروع الإسلام ولا يعاقبون عليها لقوله: "فإنها لهم في الدنيا" واللام للإباحة، وإن شئت فقل: للاختصاص، وهذا أحد الأقوال في المسألة أن الكفار لا يخاطبون بفروع الإسلام كما أنهم لا يخاطبون بأصل الإسلام، وقال بعض أهل العلم: إنهم مخاطبون بفروع الإسلام، واستدلوا بقول الله تعالى: {إلا أصحب اليمين في جنت يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين} [المدثر: 39 - 46]. ووجه الدلالة من الآية: أنهم لولا أنهم عذبوا على هذه الأعمال لم يكن لذكرها فائدة، ومن جملة ما ذكروا: أنهم لا يطعمون الطعام، وإطعام الطعام أعلاه الزكاة وتاركها لا يكفر؛ فدل هذا على أنهم مخاطبون بفروع الإسلام هذا من جهة الأثر، من جهة النظر إذا قيل: إذا كان المسلم يعاقب على ترك هذه الأشياء ويخاطب بها فالكافر من باب أولى، ها هو الراجح. والجواب عن حديث حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الواقع، والإخبار عن الواقع لا يدل على الجواز كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتركبن سنن من كان قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ ". فأخبر أننا سنركب ذلك وأكد ذلك، ومع هذا فإنه لا يجوز بالإجماع. كذلك أخبر أن الظعينة وهي المرأة تسير من كذا إلى كذا لا تخشى إلا الله، وهذا المراد به: استتباب الأمن، وليس المراد أن ذلك جائز، فالإخبار عن الواقع كونا وقدرا لا يدل على جوازه شرعا، فهي لهم في الدنيا؛ لأنهم يستعملونها ولا يبالون، ولكن هذا ليس إقرارا لهم عليها. فإن قال قائل: إذن إذا رأينا كافرا يشرب في آنية الذهب والفضة على هذا التقدير يجب أن ننكر عليه؟ قلنا: لا يجب؛ لأن الواجب دعوة الكافر أن نبدأ بالأهم فالأهم، ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن أمره أن يكون أول ما يدعوهم إليه هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ثم إن أجابوا أخبرهم بفرض الصلاة، ثم إن أجابوا أخبرهم بفرض الزكاة. فدل هذا على أننا نأمرهم أولا إن يسلموا، نعم يجب علينا أن ننكر عليهم ما يعلنونه من شعائر كفرهم

في بلاد الإسلام كشرب الخمر مثلا وما أشبه ذلك، نمنعهم من ذلك؛ لأن ذلك محرم عندنا ولا يجوز لهم إلا أن يخضعوا لأحكام الإسلام حتى يكون الإسلام هو الأعلى. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان لا ينبغي له أن ييأس على ما فاته من أمر الدنيا من التنعم فيها، لماذا؟ لأن المؤمن له الآخرة، وقد قال الله تعالى: {والآخرة خير وأبقى} [الأعلى: 17]. وهذا عام، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وللآخرة خير لك من الأولى} [الضحى: 4] ومن فوائد هذا الحديث أيضا: إثبات الآخرة وما فيها من النعيم لقوله: "ولكم في الآخرة". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي أن يسلى الإنسان بما فاته من نعيم الدنيا، وجه ذلك: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- لما نهى عن الشرب والأكل في أواني الذهب والفضة سلى المؤمنين؛ يعني: ذكر لهم ما يتسلون به وهو أنها لنا في الآخرة والعاقبة ليست ببعيدة. ومن فوائد هذا الحديث: إذا نظرنا إلى سبب سياق حذيفة له أنه ينبغي للإنسان إن لم يقل يجب على الإنسان أن يدفع عن نفسه ما يخاف منه التهمة، من أين أخذت؟ من قوله: "ألا إني أخبركم أني قد نهيته"، لئلا يتهم حذيفة رضي الله عنه ولهذا أصل في السنة، وهو ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رحم الله امرأ كف الغيبة عن نفسه"، وله أصل من فعل الرسول، حيث كان يتسامر مع زوجه صفية بنت حيي، وقد انصرفت منه وهي قد حضرت في البيت وهو معتكف في المسجد فأبصره رجلان من الأنصار، فأسرعا - أسرعا خجلا من النبي - عليه الصلاة والسلام- واستحياء منه-؛ لأن مثل هذا الأمر إذا كان من معظم لدى الإنسان فإنه يخجل، أنت الآن لو تمشي في السوق وتجد شخصا تعظمه وتجله وتكرمه معه امرأته ألا تخجل؟ أنا أخجل، لا أدري أنتم تخجلون أم لا؟ أخجل وأسرع، فالصحابيان أسرعا خجلا لا شك، لكن الرسول - عليه الصلاة والسلام- خاف أن يقذف الشيطان في قلوبهما شرا، فقال: "إنها صفية"، ولهذا تعجبا رضي الله عنها قالا: سبحان الله! فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكم شرا". أو قال: "شيئا". المهم: أنه ينبغي للإنسان أن يدفع التهمة عن نفسه، وهل له أن يحلف على ذلك دون أن يستحلف؟ نعم، له أن يحلف على ذلك دون أن يستحلف إذا كان صاحبه لا يقتنع إلا بمثل ذلك، فلو أن رجلا أحسست أنه يظن أنك قد نممت به إلى أحد من الناس تحس ذلك من نصرفه أو من صفحات وجهه أو ما أشبه ذلك، فقلت له: إن بعض الناس يظن كذا وكذا أنني فعلت ولكن لم أفعل وأقسمت على ذلك، فلا بأس لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ثم قال: 14 -

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم". متفق عليه. الأول: الإعراب: "الذي يشرب": مبتدأ، وخبره جملة: "إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" أما الحديث فأخبر الرسول - عليه الصلاة والسلام- بهذه الصيغة المركبة من مبتدأ وخبر وهي جملة اسمية، أن الذي يشرب في إناء الفضة له هذا الوعيد يجرجر في بطنه نار جهنم. والجرجرة: هي صوت الماء إذا سلك مسلكه سواء كان مع المريء أو كان في الأمعاء كما يدل الرسول عليه "في بطنه"، ما قال: في حلقه، والماء معروف أن يتخلل في البطن مع الأمعاء، الجرجرة: هي الصوت، وقوله: "نار جهنم" هل هذا بيان للعمل أو للجزاء؟ للجزاء؛ لأن العمل ماء قد يكون باردا؛ لكن الجزاء هو هذا، وهذا نظير قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلاما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} [النساء: 10]. هذا بيان للجزاء، وأطلق الجزاء على الفعل؛ لأنه بسببه. في هذا الحديث: دليل على أن الشرب في إناء الفضة من كبائر الذنوب، وجه ذلك: حيث رتب عليه وعيد فهو من الكبائر، وتختلف الكبائر عن الصغائر؛ لأنها - أي: الكبائر- لا تكفرها العبادات كالصلاة والصوم وما أشبه ذلك، بل لابد لها من توبة خاصة، وأيضا الكبيرة تخرج الإنسان من العدالة بمجرد فعلها؛ أي: يكون مردود الشهادة غير نافع للولاية حتى يتوب. ومنها: أن من الأمة من قال: إن فاعل الكبيرة كافر، وإن كان القول ضعيفا، لكن لم يقل أحد من الأئمة - فيما أعلم-: إن فاعل الصغيرة يكون كافرا، إذن الكبيرة أعظم، وهل الكبائر تختلف؟ نعم، لحديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"، فهي تختلف و [هل] من فوائد هذا الحديث: أن الأكل في آنية الفضة من كبائر الذنوب؟ ننظر إذا حرم الشرب هل يحرم الأكل؟ نعم، إلحاق الأكل بالشرب في التحريم ليس عندنا فيه شك، لكن الجزاء هل يكون في القياس، ونقول: إنه إذا جوزي الشارب في آنية الفضة بهذا الجزاء لزم أن يجازى به الآكل في آنية الفضة أو نقول: إن الجزاء قد يكون على حسب الأعمال ظاهرا؛ لأن هناك أعمالا ظاهرها أنها لا تبلغ هذا المبلغ في العقوبة، ولكن يعاقب عليها كثيرا، وهناك أعمال ظاهرها أنها لا تبلغ هذا المبلغ في الثواب عليها ويكون عليها ثواب كثير، بمعنى: أن الجزاء لا يلزم أن يكون مطابقا للحكم هذا لا شك أنه أسلم للإنسان أن يقول: إن الأكل في آنية الفضة محرم قياسا على الشرب، وهذا حكم شرعي. أما الحكم الجزائي: وهو أن الذي يأكل

في آنية الفضة يبتلع نار جهنم، فهذا يحتاج إلى توقيف، والسلامة أسلم، يكفي المؤمن أن يقال: إنه محرم. ومن فوائد هذا الحديث: ما ذكرناه سابقا أنه يدل على جواز استعمال الفضة في غير الشرب والأكل، ويدل لهذا أن أم سلمة رضي الله عنها نفسها كان عندها شعرات من شعر النبي - عليه الصلاة والسلام- في جلجل من فضة، والجلجل: أصله الجوس؛ لأنه يتجلجل، لكنه يطلق على إناء صغير مثل الجرس، وهو موجود الآن أوعية صغيرة للكحل تشبه الجرس من بعض الوجوه، فكان عند أم سلمة جلجل من فضة في شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم يستشفى بها المرضى، إذا مرض أحد أرسلوا إلى أم سلمة بماء، فصبته في هذا الجلجل الذي فيه الشعرات، ثم حركته ثم أعطته أهل المريض ويشفى بإذن الله؛ لأن هذا من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا خاص به، كما كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها عندها جبة للرسول - عليه الصلاة والسلام- هي مكفوقة بالحرير والديباج، وكانت الجبة عند عائشة فلما توفيت عائشة رضي الله عنها أخذتها أختها أسماء، وكانوا يستشفون بها للمرضى؛ لأنها من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم. وبالمناسبة: ذكرت لكم أمس أو قبل أمس، أن أسماء أرسلت إلى ابن عمر تقول: إنه بلغني أنك تحرم العلم في الثوب - يعني: علم الحرير- وأنك تحرم ميثرة الأرجوان، وأنك تحرم صوم شهر رجب كله، الأرجوان: لون أحمر، والميثرة: وطاء يربط على ظهر الحمار من أجل أن يكون ألين للراكب وهي البرذعة، أرسلت إليه مولاها قال: أما ما ذكرت عن صوم رجب فكيف بمن يصوم الدهر كله؛ أصوم الدهر كله كيف أحرم شهر رجب؟ ! إذن صار القول بأنه يحرمه كذب. وأما ما ذكرت من العلم فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحرير: "إنما يلبسه من لا خلاق له"، وإني خفت أن يكون العلم من ذلك؛ فإذن تركه احتياطا وورعا ولم يحرمه. وأما ما ذكرت من الميثرة - ميثرة الأرجوان- فهذه ميثرة عبد الله - يعني: نفسه- فإذا هي أرجوان، فيكون قد حرمها أو أحلها؟ أحلها، فانظر إلى السلف الصالح كيف يتأدب بعضهم مع بعض، ولا يذهب إذا نقل عن شخص ما لم يقله يذهب ينشره بين الناس، لا بل أرسلت إليه تسأله، وتبين أن ما نسب إليه ليس بصحيح، هذه لعلها تكون فائدة أفيد بكثير من الدروس، نحن نقول الآن أم سلمة رضي الله عنها لها جلجل من فضة يستشفى به، وسقنا حديث أسماء بنت أبي بكر من أجل الجبة لما قال لها مولاها: إنه خاف أن يكون العلم داخلا في تحريم

حكم اتخاذ أوعية من جلود الميتة

الحرير، أخرجت الجبة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلبسها وإذا أكمامها فيه الحرير وجيبها فيه الحرير، وفيها أيضا لينة من حرير. قالوا: اللينة: عبارة عن قطعة من الحرير ترفع عند الجيب، وقالوا: إنهم كانوا يستشفون بها للمرضى. حكم اتخاذ أوعية من جلود الميتة: 16 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر". أخرجه مسلم، وعند الأربعة: "أيما إهاب دبغ". 17 - وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دباغ جلود الميتة ظهورها". صححه ابن حبان. 18 - وعن ميمونة رضي الله عنها، قالت: مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة يجرونها، فقال: لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: "يطهرها الماء والقرظ". أخرجه أبو داود والنسائي. هذه أحاديث في حكم الجلود التي تكون من ميتة، هل تطهر بالدباغ أو لا؟ تطهر، وأتى بها المؤلف في هذا الباب؛ لأن الجلةود تتخذ أوعية للماء والسمن وغير ذلك. الأول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دبغ الإرهاب فقد طهر" الإهاب: هو الجلد ما لم يدبغ، فيقول: "إذا دبغ الإهاب"، يعني: الجلد قبل دبغه إذا دبغ فقد طهر، وهذا لا شك أنه يعني بها الجلد النجس؛ لأن قوله: "فقد طهر" بعد ذكر الدبغ يدل على أنه كان قبل الدبغ نجس، إذن الرسول - عليه الصلاة والسلام- يتحدث عن الجلود النجسة إذا دبغت هل تطهر أو لا، فالحديث يدل على أنها تطهر، والإهاب هنا اسم جنس محلا ب"أل" فيكون للعموم، ويؤيد العموم اللفظ الذي ذكره عند الأربعة: "أيما إهاب دبغ فقد طهر". ووجه لك - أنه يؤيد العموم-: أن "أيما إهاب" أداة شرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم، إذن أي إهاب دبغ فإنه يطهر، وكذلك أيضا دباغ جلود الميتة طهورها يدل على أن الميتة إذا أخذت جلودها ودبغت فإنها تطهر. وحديث ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة يجرونها فقال: "لو أخذتم إهابها" فقالوا: إنها ميتة، فقال: "يطهرها الماء والقرظ". القرظ: حب ينبت في الأثل ونحوه يدبغ به، فقال: "يطهرها الماء والقرظ"، وهذه يعرفها الدباغون.

إذا نظرنا إلى الأحاديث الثلاثة الأول قلنا: إن الحديث عام، وإن أي إهاب نجس يدبغ؛ فإنه يطهر سواء كان هذا الإهاب مما يؤكل لحمه، وكان سبب نجاسته أن البهيمة ماتت أو مما لا يؤكل. وإذا نظرنا إلى حديث ميمونة وجدنا أن الحديث فيما يؤكل لحمه، ولكن هل نقول: إننا نربط العموم بالسبب، أو نقول: إن ذكر فرد من أفراد العموم لا يقتضي التخصيص؟ هذا محل خلاف بين العلماء؛ منهم من يقول: كل جلد دبغ فإنه يكون طاهرا سواء كان مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل، وبناء على هذا القول لو دبغ جلد الكلب صار طاهرا، جلد الذئب صار طاهرا، جلد الأسد صار طاهرا، جلد الثعبان صار طاهرا، كل جلد يدبغ يكون طاهرا، وبهذا أخذ كثير من العلماء ومنهم الظاهرية، قالوا: كل جلد يدبغ فإنه يكون طاهرا، وهذا القول فيه نوع سعة للناس باعتبار أنه يوجد الآن خفاف كثيرة من جلود الثعابين أو غيرها مما يحرم أكله. والقول الثاني: أن الجلد لا يطهر بالدباغ وهو مقابل الأول لا يطهر بالدباغ مطلقا حتى وإن كان جلد ما يؤكل، واستدلوا بحديث ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب قبل أن يموت بشهر ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، لكن الحديث ضعيف ولا يدل على النسخ، ولكن هؤلاء قالوا: إنه إذا دبغ تخف نجاسته؛ فيجوز استعماله في اليابس دون الرطب، يعني: يجوز أن تجعله وعاء للحبوب، وعاء للأشياء اليابسة كالدراهم، كالثياب وما أشبه ذلك، أما الرطب فلا؛ لأنه على رأي هؤلاء لا يطهر بالدباغ هو نجس، والنجس إذا لاقى شيئا رطبا نجسه. القول الثالث: أنه يفرق بين جلود البهيمة التي تباح بالذكاة، وجلود البهيمة التي لا تباح بالذكاة، فجلود البهيمة التي تباح بالذكاة تطهر بالدباغ، وجلود البهيمة التي لا تحل لذكاة لا تطهر بالدباغ. مثال الأول: جلد الشاة، لو أن شاة ماتت، وسلخوا جلدها ودبغوه، صار الجلد طاهرا يستعمل في اليابس والرطب، في الماء واللبن وكل شيء، ولو أن ذئبا قتل أخذ جلده ودبغ، فإنه لا يطهر يكون نجسا، وعللوا ذلك بأنه إذا كانت الذكاة لا تحل هذا الذئب ولا تطهره، فالدباغ من باب أولى ألا يطهر جلده بخلاف الشاة ونحوها، وهذا القول وسط، يعني: خلاصته

أنه إذا دبغ جلد الميتة التي تحل بالذكاة فإنه يطهر، وإذا دبغ جلد البهيمة التي لا تحل بالذكاة فإنه يبقى على نجاسته، لكن يستعمل في اليابس؛ لأنه إذا استعمل في اليابس فإن نجاسته لا تتعدى، وألفاظ الحديث كما رأيتم، لكن قلنا: هل نحمل "أيما إهاب دبغ" أو "إذا دبغ الإهاب" على سبب الحديث الخاص ونقول: إن قوله: "الإهاب" يعني: إهاب الشاة ونحوها؛ لأنه قال ذلك حين مروا بالشاة التي يجرونها، ونظير ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى زحاما قد ظلل عليه وهو مسافر في رمضان فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائم، قال: "ليس من البر الصيام في السفر". الحديث الآن عام أو غير عام؟ "ليس من البر الصيام في السفر" هو عام، والسبب خاص، فهل نقول: إنه يختص بمن كانت هذه حاله أو هو عام؟ الجواب: يختص بمن هذه حاله لمن إذا صام شق عليه مشقة شديدة كهذا الرجل فيكون صومه من غير البر، كذلك هنا لما رأى شاة قال: "إذا دبغ الإهاب" يعني: إهاب الشاة ونحوها. "فقد طهر" وحينئذ يكون عاما في مثل الحال التي رآها الرسول - عليه الصلاة والسلام- أي عام بالنسبة للشاة وما يذبح؛ لأنه إنما قال ذلك حين رأى الشاة التي تجر. أسئلة: - ما الذي يتبين لنا مما سبق في الأحداث في حكم الشرب، يعني: في الذهب والفضة أمن الكبائر أو من الصغائر؟ من الكبائر، لماذا؟ لأنه ترتب وعيد عليه. - لو شرب في آنية الماس؟ جاز، أيهما أغلى؟ الماس، كيف يكون جائزا؟ لأن الحديث ذكر الذهب والفضة فما عداهما عي الإباحة. إذا قدر أن استعمال الماء لهذا القدر المعين من الإسراف، يجوز أو لا يجوز؟ لا يجوز، الدليل قوله: { ... ولا تسرفوا ... }. كيف اختلف العلماء في حكم طهور جلد الميتة؟ ثلاثة أقسام بناء على القول بأن كل إهاب دبغ فإنه يطهر، لو دبغ الإنسان جلد حمار؟ يطهر ويستعمل في كل شيء. وعلى القول بأنه لا يطهر لو دبغ جلد شاة ميتة؟ القول الراجح عندي: أنه لا يطهر إلا ما تحله الذكاة؛ أي: لا يطهر جلد ميتة إلا إذا كانت تحل بالذكاة؛ لأنه يكون كالثوب إذا تنجس فطهر، وأما ما كان نجس العين من أصل الخلقة فلا يطهر بالدباغ. هذا أقرب الأقوال عندي، والله أعلم.

حديث ابن عباس من فوائده: أن دبغ الجلد يطهره لقوله: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"، ولكن يشترط في الدباغ أن يكون مزيلا للنتن والرائحة الكريهة، أما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يؤثر شيئا. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره أن أي إهاب دبغ فقد طهر حتى لو كان إهاب كلب، ولكن الراجح: أن هذا العموم يكون عموما معنويا على حسب الوصف الذي ورد عليه فلا يخص بذلك الجلد، أي: جلد الشاة المعينة، فالعموم نوعان: عموم لكل جلد، وعموم في جلد مقيد لصفة، فهنا إذا دبغ الإهاب ما دمنا عرفنا أن سبب ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بشاة يجرونها، فمعلوم أن الشاة مما تحله الذكاة، فيكون المراد إذا دبغ الإهاب الذي من جنس الشاة فقد طهر. فإذا قال قائل: كيف تخصصون الجلد أو النوع واللفظ عام؟ قلنا: نظيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظلل عليه وزحاما حوله، وكان في سفر فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائم، قال: "ليس من البر الصيام في السفر" أي: ليس من البر الصيام في السفر فيمن كان حاله كهذا الرجل، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في يوم شديد الحر، وأكثرنا ظلا صاحب كساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة، ومعلوم أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- لا يدع البر ولا يفعل ما ليس ببر، وعلى هذا فيتعين أن يكون هذا العموم عاما في جنس من هذه حاله، وهذا لا ينافي قول العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأننا الآن لم نخصصه بالسبب، لو خصصناه بالسبب لقلنا: ليس من البر صيام هذا الرجل فقط، لكنا عممناه في جنسه، وهذا هو معنى قولنا: بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فعلى هذا يكون قوله: "إذا دبغ الإهاب". أي إهاب؟ إهاب هذا الجلد، يعني: الغنم، والغنم مما تحله الذكاة. ومن فوائد إتيان المؤلف رحمه الله بلفظ الأربعة أصحاب السنن: "أيما إهاب": الإشارة بأن الأول في قوله: "الإهاب" في اللفظ الأول للعموم، حتى لا يقول قائل: إن "أل" للعهد "إذا دبغ الإهاب"، يعني: إهابكم هذا، وحينئذ نستفيد من هذا اللفظ ما استفدناه أولا أن الإهاب - أي إهاب كلن- من هذا النوع أو من هذا الجلد فإنه يطهر.

ومن فوائد هذا الحديث: الإشارة إلى أن النجاسة يراد إزالتها بأي مزيل، ولذلك لم يجعل النبي - عليه الصلاة والسلام- أداة للتطهير في الجلد - جلد الميتة- إلا الدباغ، فلو أنك غسلته بماء البحر لم يطهر حتى يدبغ؛ لماذا؟ لأن النجاسة لا تزول إلا بهذا، فعلم من ذلك: أن المقصود بالتطهير من النجاسات هو إزالتها بأي سبب، يتفرع على هذه الفائدة ما يوجد الآن من غسيل الثياب في الأبخرة كثياب الصوف، فإذا غسلتها بالبخار وزالت النجاسة تطهر، وهذا هو ما دلت عليه السنة، وهو أيضا ما دل عليه النظر؛ حيث إن النجاسة عين خبيثة متى وجدت فحكمها باق، ومتى زالت فحكمها زائل. ومن فوائد حديث سلمة بن المحبق ما سبق: أن جلود الميتة دباغها تطهير لها. ومن فوائد حديث ميمونة: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ المالية وعدم إضاعة الأموال؛ حيث عرض عليهم أن يدبغوا جلد هذه الميتة حتى ينتفعوا بها، ولهذا قال: "لو أخذتم إهابها". ومن فوائد الحديث: حسن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يباشر أمرهم بأخذه؛ لأنه يعلم أنهم تركوا ذلك استقذارا لها فلهم نوع من العذر، ولهذا عرض عليهم المسألة عرضا قال: "لو أخذتم إهابها". ومن فوائد الحديث أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الغيب؛ ولتنظر لهذه الفائدة لقولهم: "إنها ميتة"، فهل يصح أن تأخذ هذه العلة من الحديث لأن الصحابة أخبروه؟ في هذا نظر، لكن فيه دليل على جواز مجادلة العالم الذي يخشى أن يكون خفي عليه بعض الشيء وتنبيهه ولا يعد هذا تنقصا له، ولا يعد هذا سوء أدب ممن ناقشه، الدليل على هذا قولهم: إنها ميتة لما قال: "لو أخذتم إهابها" وذها عرض منه صلى الله عليه وسلم أن يأخذوه، قالوا: إنها ميتة، كيف نأخذه. ومن فوائد هذا الحديث: أن دباغ الجلد - جلود الميتة- يطهره لقوله: "يطهرها الماء والقرظ"، ويتفرع على ذلك أنه يجوز استعماله في اليابسات والمائعات، وفي الألبان وفي المرق، وفي كل شيء. فإن قال قائل: هل يجب علي إذا أتيت باللبن من سقاء جلد ميتة مدبوغ أن أخبر من أسقيه أو لا يجب؟ لا يجب حتى لو علمت أنه لو علم بذلك لن يشرب؟ الظاهر: نعم، حتى لو علمت؛ لأن ذلك لا يضره، أما لم أخف عليه شيئا يكون ضارا له، ونظيره ما مر علينا في مسألة الذباب، لو سقط الذباب في الشراب وغمسته وأخرجته، ثم قدمته لإنسان يشرب، وعرفت بأن هذا الإنسان لو علم بأنه لو سقط فيه الذباب ما شرب هل يجب أن أخبره؟ لا يجب ما دام الشيء لا يضر فإنه لا يجب؛ لأن هذا إنما يستقذره لو علم به، وإذا لم يعلم فالأمر طبيعي، ثم قال:

حكم الأكل والشرب في آنية الكفار

حكم الأكل والشرب في آنية الكفار: 19 - وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: "لا تأكلوا فيها، إلا ألا تجدوا غيرها، فاغسلوها وكلوا فيها". متفق عليه. قوله: "إنا بأرض قوم أهل كتاب" يعني بهم: اليهود أو النصارى، لكن الظاهر أن المراد: النصارى؛ لأنهم كانوا - فيما أظن- في أطراف الشام. وقوله: "إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم" مثل هذه العبارة ترد كثيرا في القرآن الكريم "أفنا" وهي أن يؤتى بالهمزة وبعدها عاطف وبعدها معطوف، فكيف يكون التقدير؟ لعلماء النحو في ذلك وجهان: الوجه الأول: أنهم يقولون: إن "أفنأكل" معطوفة على ما سبق، وأن الأصل فأناكل" الأصل الهمزة قبلها فاء، فيكون التقدير بعطف جملة إنشائية على جملة خبرية، وهذا لا مانع منه. والوجه الثاني: يقولون: إن الهمزة داخلة على محذوف مقدر بما يناسب السياق، هذا القول أقعد من الأول؛ أقرب للقواعد من الأول، لكن فيه صعوبة، ووجه الصعوبة: أن الإنسان قد يشكل عليه المقدر فيقول: ماذا أقدر؟ أحيانا يستعصي عليك أن تقدر شيئا معينا، وحينئذ تلجأ إلى القول الأول، وعلى هذا فنقول: إن أمكنك أن تقدر شيئا محذوفا بعد الهمزة عطف على ما بعد العاطف فهذا أولى، وإذا لم يمكن فعليك بالقول الثاني؛ لأن الإنسان إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم، فإذا استعصى عليك أن تقدر شيئا مناسبا فقل: الهمزة كان مكانها قبل الفاء، والفاء هي التي عطفت الجملة وليس فيه إلا عطف جملة إنشائية على جملة خبرية. هنا ماذا نقدر إذا أخذنا بالقول الثاني هل نقدر "أنخالطهم فنأكل في آنيتهم" ماذا نقدر؟ نقدر: "أنخالطهم فنأكل في آنيتهم" أو "أنستعير منهم فنأكل في آنيتهم" أو ما أشبه ذلك، وقوله: "آنيتهم" سبق أن "آنية" جمع إناء، وهو الوعاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها" فاشترط النبي صلى الله عليه وسلم شرطين: الشرط الأول: ألا نجد غيرها. والشرط الثاني: أن نغسلها ونأكل فيها، ومعلوم أننا لو غسلناها مع وجود غيرها جاز لنا أن نأكل فيها؛ لأنها أصبحت طاهرة، وقد ذكر بعض العلماء - رحمهم الله- أن سبب ذلك أنهم كانوا يطبخون في آنيتهم الخنزير ويشربون فيها الخمور، والخنزير معلوم أنه نجس، والخمر على رأي هؤلاء نجس، ولكن هذا من حيث الأثر لم يثبت، ثم إنه لو ثبت لقلنا: وإذا كانوا

يأكلون الخنزير، وإذا كانوا يشربون الخمر وغسلناها هل يشترط ألا نجد غيرها فنستعملها أو لا يشترط؟ لا يشترط؛ ولهذا سنبين - إن شاء الله- التعليل الصحيح في هذه المسألة بعد الكلام على الفوائد. من فوائد هذا الحديث: جواز مساكنة أهل الكتاب لقوله: "إنا بأرض قوم أهل كتاب"، ولكن هل هذا على إطلاقه؟ الجواب: لا، لأنه قد دلت النصوص على وجوب الهجرة على من لا يستطيع إظهار دينه، وظاهر الحديث: أن أبا ثعلبه رضي الله عنه يستطيع أن يظهر دينه ويتميز المسلمون عن الكافرين، لكن لو لم يتميزوا ولم يظهر دينه حرم عليه كما قال تعالى: {إن الذين توفهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين} [النساء: 97، 98]. إذن نقول: في هذا الحديث دليل على جواز مساكنة أهل الكتاب في أرضهم لكن مشروط بأن يكون قادر على إقامة دينه، وإلا وجبت عليه الهجرة. ومن فوائد هذا الحديث: حرص الصحابة - رضي الله عنهم- على السؤال وقوة ورعهم حتى إنهم سألوا عن هذه المسألة الخفيفة، وهكذا ينبغي للإنسان أن يسأل عن كل ما يشكل عليه، وأما كونه يسكت ويقول: إن كان حراما فالله غفور رحيم، أو يتلو هذه الآية: {ولا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101]. فهذا حرام لا يجوز. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز استعمال أواني الكفار إلا بشرطين ولو أخذنا بظاهر الحديث لقال قائل: إنهم لو دعوك فلا تأكل في آنيتهم، ولكن هذا الظاهر غير مراد بلا شك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل في آنيتهم، فقد دعاه غلام يهودي إلى خبر شعير وإهالة سنخة وأكل. فيكون معنى: "أفنأكل في آنيتهم": إذا استعرناها منهم لا إذا دعونا إلى الأكل فأكلنا. ومن فوائد هذا الحديث: حرص النبي - عليه الصلاة والسلام- عن مباعدة المسلم لغير المسلم، يعني: أنه أمر بألا نأكل، بل نهى أن نأكل في آنيتهم إلا إذا لم نجد غيرها، وأيضا نغسلها خوفا من أن نتلاصق بهم ونتعاور، والأواني يأتون إلنا يستعيرون ونأخذ منهم؛ لأنه كلما أبعد الإنسان عنهم فهو خير له بلا شك. هذان القيدان يوجبان للإنسان ألا يستعمل الأواني؛ لأنه قل من لا يجد الإناء؛ يعني: صاحب بيت يمكن ألا يكون عنده أواني؟ هذا قليل جدا أو نادر، ثم إذا لم يكن عنده شيء

واستعار من أهل الكتاب، ولو كان يرى أثر الماء غسلا فيها، نقول: لا تأكل فيها حتى تغسلها، إذن هذا فيه نوع تضييق على استعمال أواني الكفار، إذا كان عندي أواني لكنها لا تليق بالضيوف الذين نزلوا علي، يعني: أواني قديمة، أواني صغيرة، أواني متكسرة، وعند رجل كافر أواني تليق بي، هل في هذه الحال يجوز أن آخذ أوانيهم على ظاهر الحديث؟ يعني: بما أن الرسول أمر بإكرام الضيف أكون هنا ملجا إلى استعارة الأواني الفخمة من هؤلاء لإكرام الضيف، أو نقول: اتقوا الله ما استطعتم؟ الجواب: اتقوا الله ما استطعتم، وما دام الرسول - عليه الصلاة والسلام- يقول: " لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا"، فأنا واجد الآن أقدم للضيف وأقول: يا إخواني، اعذروني وسامحوني ليس عندي غير هذه الأواني، الظاهر أنه إذا خلص بمعذرة عن الضيف بمثل هذا فإنه يعتبر واجد غيرها، أما إذا لم يمكن فلكل مقام مقال. ومن فوائد هذا الحديث: أننا إذا رأينا ما عليه الناس اليوم من مخالطة الكفار، والأكل في أوانيهم، وإعطاء الأواني لهم، وجلب المودة منهم؛ نأسف أسفا كثيرا، ولهذا نجد هؤلاء الذين يخالطون هذه المخالطة التامة ربما يحبون الواحد منهم أكثر مما يحبون المسلم وهذه خطيرة جدا، ولذلك يجب أن نباينهم وأن نبتعد عنهم، وأن نعطيهم حقهم الذي لهم إذا كانوا جيرانا لنا نعطيهم حق الجيرة، قرابة تعطيهم حق القرابة، إذا كانوا محتاجين نساعدهم، إذا كانوا لا يقاتلوننا في الدين ولا يخرجوننا من بيوتنا. مناسبة الحديث لباب الآنية: أن آنية الكفار وإن كان الأصل فيها أنها حلال، لكن لما كانت لهم صارت حراما إلا إذا لم نجد غيرها، فإننا نغسلها ونأكل فيها، فما رأيكم فيما لو كانوا يؤخرون الأواني، يعني: ليست عارية حتى لا يكون لهم منة علينا لكن يؤجرونها؛ إنسان مثلا صاحب متجر كبير من جاءه يستأجر منه أعطاه، هل يدخل في الحديث، أو نقول في هذا الحديث لا نأخذ وكفى طردا عن مخالطته، والأجرة التي يأخذها؟ في هذا توقف عندي؛ لأنك إذا نظرت إلى أنه يؤجر عليك، وأن الأجرة التي سيستلمها قد تكون مانعا من استعمال أوانيهم، نقول هنا: لا بأس أن تستأجر منهم، إذا قال قائل: لو أعاروك سيارة ليست أواني هل نقول لا تقبل إلا إذا لم تجد غيرها؟ الظاهر: لا؛ إذا علمنا أنهم سيمنون علينا، أو يستذلوننا بذلك، فلا يجوز أن تقبل إذا كنا نعرف أنهم سيمنون علينا أو يستذلوننا بذلك؛ لأننا نحن أعزاء بديننا فلا نقبل الدنية ونحن - والحمد لله- قادرون على ألا يلحقنا منهم منة. 20 -

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشركة". متفق عليه، في حديث طويل. هذا الحديث أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه مطولا، وفيه: أن النبي - عليه الصلاة والسلام- كان مع أصحابه، وأنهم أصابهم عطش، وأنه أرسل رجلين يستقيان، فوجدا امرأة على بعير لها بين مزادتين، والمزادة: هي قربتان يخاط بعضهما ببعض ويجعل بينهما صفيحة من أجل أن تحمل ماء أكثر، فسألاها عن الماء. قالت: عهدي بالماء أمس مثل هذه الساعة، يعني: بينهم وبين الماء يوم وليلة، فدعواها إلى أن تأتي رسول الله صلى الله عليه سلم وقالا: اذهبي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: قالت: من الرسول صلى الله عليه وسلم أو هم الصابئ؛ -لأن المشركين يسمونه الصابئ، والصابئ: هو الذي خرج عن دين قومه-؟ فقالا: هو الذي تعنين، ولم يقولا هو الصابئ، أتيا بها النبي - عليه الصلاة والسلام- وأنزلا المرأة والنبي - عليه الصلاة والسلام- فتح أفواه المزادتين ونفث فيهما، ثم أمر الناس فاستقوا وشربت الإبل وكانوا نحو ثمانين رجلا أو أكثر، ثم أمر لها بطعام فجيء بطعام لها تمر وحب ودقيق، ثم أذن النبي صلى الله عليه وسلم أن تنصرف إلى قومها ولم تنقص مزادتاها شيء، عادت كأنما هي بالأمس ثم ذهبت إلى قومها فسألوها لماذا تأخرت؟ قالت: صادفت كذا وكذا، وإني جئتكم من أسحر الناس، أو ممن هو صادق في قوله أنه نبي. هذا هو الحديث وهو أطول مما ذكرت لكن هذه خلاصته، فصار الصحابة - رضي الله عنهم- يغزون ما حولها ولا يأتون صرمها؛ يعنى: قومها، وفي النهاية أسلموا ببركة ما حصل لها من الماء الذي سقي منه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. يقول: "توضئوا من مزادة امرأة مشركة"، عرفنا المزادة الآن أنها عبارة عن قربتين بينهما صفيحة، ومعلوم أن القرب مأخوذة من ذبائح المشركين، وذبائح المشركين ميتة؛ لأنه لا يحل من ذبائح غير المسلمين إلا ذبائح أهل الكتاب، وإذا كانت ميتة فهي نجسة، وإذا كان الرسول - عليه الصلاة والسلام- وأصحابه توضئوا من هاتين المزادتين وهما جلود ميتة؛ لأن الذي ذكاها الكفار دل ذلك على أن الجلد - أعني: جلد الميتة- يطهر بالدباغ، ولولا ذلك لكان الماء نجسا وما جاز الوضوء به، ومن أجل ذلك ساق المؤلف هذا الحديث في باب الآنية. يؤخذ من هذا الحديث فوائد منها: جواز استنزال صاحب الماء عند الضرورة؛ لأن الصحابة أتوا بها إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام- واستنزلوها وقالا: انزلي عن البعير، فنزلت وتصرفوا في مائها.

تضبيب الإناء بالفضة

ومنها: آية من آيات الرسول - عليه الصلاة والسلام-، وذلك ببركة هذا الماء. ومنها: أنه ينبغي إلى من صنع إليه معروفا أن يكافئ صاحبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كافأ هذه المرأة بأن أعطاها طعاما. ومنها: طهارة جلد الميتة إذا دبغ، وهذا هو الشاهد من هذا الحديث، وهو الذي ساقه المؤلف رحمه الله من أجله. شك أنه من محاسن الدين الإسلامي، نحن نبغض المشركين وكل كافر، لكن إاذ صنعوا إلينا معروفا فعلينا أن نكافئهم، أخلاق الإسلام أعلى وأسمح من ألا يكافأ صاحب المعروف، وعلى هذا فمن صنع إلينا معروفا من دول الكفر مثلا فإننا نكافئه على معروفه، لكن بما لا يكون بيعا لديننا من أجله، بمعنى: أن نسلم من أن يضر ديننا شيء من أعمالهم، ولكننا لا نترك لهم المنة علينا بل نكافئهم. هل نأخذ منها جواز مخاطبة المرأة؟ نعم، جواز مخاطبة المرأة الأجنبية، ولكن بشرط أمن الفتنة، وشرط آخر: الحاجة إلى مخاطبتها إلا من جرت العادة بمخاطبته من غير المحارم فلا بأس، فقد جرت العادة مثلا أن الرجل يخاطب زوجة أخيه ويسلم عليها إذا دخل وهي في البيت وهي أيضا تسلم عليه ولا يألو الناس بذلك بأسا. و[هل] من فوائد هذا الحديث: جواز سفر المرأة وحدها؟ لا؛ لأنها مشركة إذن ليس فيه دليل، والمرأة المشركة لا تلزم بأحكام الإسلام إلا إذا أسلمت، على أن فيه احتمالا قويا جدا أن هذا قبل الأمر باتخاذ المحرم في السفر؛ لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام- إنما خطب ومنع السفر بلا محرم عند حجة الوداع، على كل حال: الجواب الأول مؤكد، والثاني فيه احتمال؛ لأننا لا نعلم التاريخ بالضبط، لكن الأول لا إشكال فيه وهي أن الكافر لا يلزم بأحكام الإسلام إلا بعد أن يسلم. تضبيب الإناء بالفضة: 21 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة". أخرجه البخاري. "قدح" القدح: الإناء الذي يشرب به، وقوله: "انكسر" يحتمل أنه انكسر قطعتين، ويحتمل أنه انكسر؛ انشق، فاتخذ مكان الشعب، يعني: المكان المنكسر سلسلة من فضة. السلسلة:

ما تربط بها الأشياء، يعني: يربط بعضه إلى بعض من فضة، يعني: كالأسلاك من الفضة، وذلك من أجل أن يتلاءم القدح ويكون صالحا للاستعمال، ففي هذا الحديث مناسبة لباب الآنية، ولكن ليت المؤلف جعله بعد حديث أم سلمة ولم يفصل بينهما؛ لأن هذا يتعلق بالإناء الذي فيه شيء من الفضة. فيستفاد من هذا الحديث فوائد: أولا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ المالية ما دام يمكن حفظها؛ وجه ذلك: أنه لما انكسر قدحه لم يرم به، بل أصلحه واستعمله. ومنها: أن هذا يعتبر ركنا من أركان الاقتصاد، وهو ألا يضع الإنسان شيئا من ماله يمكنه أن ينتفع به، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، والمال - كما تعلمون- جعله الله تعالى قياما للناس، تقوم به مصالح دينهم ودنياهم، فلابد من أن يحافظ الإنسان على ماله؛ لأنه مسئول عنه، ولأنه به قيام دينه ودنياه كما قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء: 5]. ومنها: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يشرب في الأواني ولو كانت مربوطة. ومنها: أنه تجوز السلسلة من الفضة يربط بها الأواني، ولا يعد ذلك من الشرب في آنية الفضة؛ لأن العبرة بأصل الإناء، وهل يلحق بذلك العروة أو لا؟ يعني مثلا لو أن هذا الإناء يحتاج إلى عروة من فضة هل يجوز أو لا؟ نقول: أما إذا احتيج إليها فنعم، وأما إذا لم نحتج إليها فلا، وذلك أنه لا يتم القياس على هذه المسألة إلا إذا دعت الحاجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اتخذ السلسلة لحاجته إليها، لم يتخذها زينة. ومن فوائد هذا الحديث: جواز مباشرة الفضة التي ربط بها الإناء عند الشرب وعند الأكل، وجه ذلك: أن أنسا لم يذكر أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- كان يتوقى مباشرة هذه السلسلة، قلت ذلك؛ لأن بعض العلماء - رحمهم الله- يقولون: يكره أن يباشر هذه السلسلة من الفضة؛ لأنه إذا باشرها صار مباشرا للفضة. فنقول: أولا: لا دليل عليها، بل ظاهر الدليل أنه لا بأس؛ لأنه لم ينقل عن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أنه كان يتوقاها. ثانيا: أن الشيء إذا أذن فيه كان مباحا، فما دام الشرع قد أذن فيه فإنه يكون مباحا، فمثلا إذا كان الإناء مربعا عند بعض الفقهاء يقول: لا تشرب من الربعة التي فيها شريط الفضة؛ لأنك تباشرها فيكره أن يباشر الفضة، والصواب خلاف ذلك لا بأس أن يباشرها.

وهل يقاس على شريط الفضة شريط الذهب، بمعنى: أنه لو كسر قدح الإنسان هل يجوز أن يربطه بشريط من الذهب؟ الجواب: لا يصح، لماذا؟ لأن الأصل مع استعمال الذهب والفضة في الأكل والشرب، وإذا كان هذا هو الأصل فإننا لا نخرج عن الأصل إلا بقدر ما جاءت به السنة، والسنة جاءت بالفضة دون الذهب هذا من وجه، ومن وجه آخر: أن الذهب أغلى من الفضة عند جميع الناس، فلا يمكن أن يلحق الأعلى بالأدنى، ولو كان ذلك واردا في الذهب لقسنا عليه الفضة، أما العكس فلا؛ لأن الذهب أغلى من الفضة فلا تقاس عليه. ثم انتهى المؤلف من باب الآنية، وانتقل إلى باب إزالة النجاسة وبيانها، وهذا الترتيب ترتيب المؤلف، وكثير من العلماء رتب هذا الترتيب أي أنه لما ذكر الماء ومتى يتنجس ذكر بماذا يطهر، ونحن نقول: إن الماء إذا تنجس فإنه يطهر بعدة أشياء. أولا: إذا زال تغيره، فإنه يطهر، وعرفتم فيما سبق أنه إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه صار نجسا، فإذا زال هذا التغير من طعمه ولونه وريحه صار طهورا سواء زال بفعل آدمي أو بطول مكثه أو بأس سبب من الأسباب متى زال تغير الماء النجس قليلا كان أو كثيرا صار طهورا، الدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الماء إلى قسمين: طهور، ونجس؛ فما تغير بالنجاسة فهو نجس، وما لم يتغير بها فهو طهور، فنقول: الحكم يدور مع علته إذا وجد ما دام التغير باقيا فهو نجس، وإذا زال طهر. هذه واحدة. ثانيا: يطهر بإضافة ماء إليه بان يضيف إليه شيئا من الماء حتى تزول نجاسته. ثالثا: إذا قدرنا أن الماء كثير ونزح منه الجانب المتغير، وبقي الجانب الذي لم يتغير يطهر أو لا؟ نعم، يطهر هذه ثلاث وسائل لتطهير الماء، أما غير الماء فسيأتي - إن شاء الله- بل سبق تطهير الأرض بماذا؟ تطهر الأرض بصب ماء على وحل النجاسة، وإذا كانت النجاسة ذات جزم أزيل جزمه أولا، ثم صب الماء على أثره، أثر الجرم؛ يعني: لنفرض أن النجاسة التي وقعت على الأرض غائط ماذا نعمل؟ نزيل الغائط أولا ثم نصب الماء على أثره، دم جف ماذا نفعل؟ تزيل الدم أولا ثم نصب على أثره ما يزيل أثره. مسألة مهمة: يقول "باب إزالة النجاسة وبيانها"، وهنا نسأل هل يشترط في إزالة النجاسة النية؟ لا يشترط؛ لأنها ليست عبادة مأمورا بها بل هل قذر أمر بإزالته، فإذا زالت طهر المكان فلو قدر

أن إنسانا أصابت ثوبه نجاسة وهو معلق في السقف فنزل المطر وأزال النجاسة وهم لم يعلم هل يطهر؟ يطهر، وكذا لو سقط الثوب في بركة ماء وزالت النجاسة، فإن الثوب يطهر ولو بلا نية، وأما بيان النجاسة فسيأتي - إن شاء الله- بيانها، وهنا ينبغي أن نحصر أنواع النجاسة؛ وذلك لأن الأعيان الطاهرة أضعاف أضعاف أعيان النجاسة، وذلك بأن أصله قاعدة مهمة وهي أن الأصل في الأشياء الطهارة، فمن زعم أن شيئا من الأشياء نجس طالبناه بالدليل، وهذا أصل نافع، وهل يلزم من كون الشيء محرما أن يكون نجسا؟ لا يلزم، وهل يلزم من كون الشيء نجسا أن يكون محرما؟ نعم يلزم هذه أيضا قاعدة، قال: 22 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلا؟ فقال: "لا". أخرجه مسلم والترمذي، وقال: حسن صحيح. "سئل" يعني: الرسول - عليه الصلاة والسلام-، والسائل هنا مبهم لم يسلم، وهل نحن ملزمون بمعرفته؟ لا، المقصود معرفة الحكم الشرعي في هذه القضية - عن الخمر- الخمر: كل مسكر، كل مسكر فهو خمر من أي شيء كان، سواء كان من العنب، أو من التمر، أو البر، أو الشعير أو غيرها من الحبوب، كل مسكر فهو خمر، ولا يتحدد بشيء معين. ولكن ما هو الإسكار؟ الإسكار: تغطية العقل على وجه اللذة والطرب والنشوة، ليس على وجه التعطيل؛ لأن العقل قد يغطى بتعطل أدواته، وقد يغطى بهذه النشوة والفرح العظيم والخيلاء واللذة التي عجز أن يملك عقله بسببها. هذا هو الإسكار؛ ولهذا لا نقول: إن البنج خمر؛ لماذا؟ لأنه صحيح يغطى العقل لكن لا على وجه اللذة والطرب، أما الخمر فإنه على وجه اللذة والطرب تجد الإنسان يصير مثل المجنون بل مجنون، ولا يخفى على كثير منكم ما يحصل للسكرى من اللغط والكلمات التي لو قالها في صحوة لكان كافرا، فهذا هو الخمر. إذن الخمر له ضابط ما هو؟ كل ما أسكر فهو خمر، والإسكار: تغطية العقل على سبيل اللذة والطرب، "تتخذ خلا" الخل: هو الماء يمزج فيه شيء من التمر أو العنب أو ما أشبه ذلك مما يحيله ويجعله صالحا لأن يكون إداما، ومعنى "تتخذ خلا": أي تعالج حتى تنقلب بعد أن كانت خمرا فتصير خلا أيجوز هذا أم لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا" لا يصح؛ وذلك لأن الخمر تجب إراقتها ولا يجوز اتخاذها، وإذا كان الرسول - عليه الصلاة والسلام- منع اتخاذها لتكون خلا أو تخليلها، فاتخاذها من أجل أن يشربها مرة أخرى من باب أولى ولا إشكال في ذلك.

أسئلة: - ما هي الآنية؟ - ما مناسبة ذكرها هنا في الطهارة؟ لأن الماء سائل ويحتاج إلى ما يحفظه. - هل لها مناسبة في الذكر في موضع آخر؟ في الأطعمة والأشربة. - استدل بهذا الحديث - يعني حديث الشرب في آنية الذهب والفضة- من قال إن الكفار لا يخاطبون بفروع شرائع الإسلام؟ ما وجه الاستدلال؟ هو إخبار عن واقع. - هل لذلك نظير؟ من ذلك قوله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم ... " الحديث. - في حديث أم سلمة الذي يشرب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه في نار جهنم هل لهذا الوعيد نظير في القرآن؟ قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتمى} الآية. - ثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها اتخذت جلجلا من فضة فهل نأخذ بروايتها أو نأخذ برأيها وعملها؟ نقول: هذا الرأي والعمل ليس مخالفا للرواية. - هل يؤخذ من هذا أن رأي أم سلمة أن استعمال الفضة في غير الشرب جائز؟ نعم. - هل لرأيها شاهد من فعل الصحابة - رضي الله عنهم-؟ فعل حذيفة. - ما سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دبغ الإهاب فقط طهر"؟ أنه رأى شاة ميتة يجرونها فقال: "لو أخذتم إهابها". - هل يمكن أن تستدل بهذا العموم على أن كل إهاب دبغ وهو مما كان نجسا يكون طاهرا؟ - أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه سأل هل يأكل في آنية أهل الكتاب أو لا؟ سأل من؟ سأل النبي صلى الله عليه سلم، بماذا أجابه الرسول؟ أذن له بشرطين: ألا يجد غيرها، وأن يغسلها. لو قال لك قائل: هذا الشرط ينافي قوله تعالى: {طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5]. لأن طعام أهل الكتاب لابد أن يكون في أوانيهم فأباحه الشرع بدون غسل فما الجواب؟ معناها أنه ليس بينهما تعارض، وأن هذا غير هذا؛ فحديث ثعلبة فيما إذا أخذناها منهم استعارة أو نحوها، أما إذا كانوا هم المستولين على الآنية فلا بأس بذلك. فيه قول آخر ولكنه ضعيف فيما أرى، وهو أن هذا قبل حل طعام أهل الكتاب، لأنه لا يلزم من ذلك أن نعرف المتأخر، والصواب الأول. - لماذا اشترط النبي صلى الله عليه وسلم هذين الشرطين؟ ليقلل الاختلاط بهم ويجعل عراقيل توجب الابتعاد عنهم. - في حديث عمران ما هي المزادة؟ عبارة عن قربتين بينهما صفيحة. -

3 - باب إزالة النجاسة وبيانها

لأي شيء ساق المؤلف هذا الحديث؟ لبيان جواز استعمال جلود ذبائح المشركين؛ لأن الدبغ طهرها. - في حديث أنس في انكسار قدح النبي لماذا أتى به المؤلف في هذا الباب - باب الآنية-؟ ليبين جواز ربط الإناء بشريط من فضة. - هل يقاس على هذا الذهب؟ -لا؛ لأن الأصل التحريم فيكتفي على ما جاء به النص فقط. - لماذا ساق المؤلف حديث أنس في اتخاذ الخمر خلا؟ 3 - باب إزالة النجاسة وبيانها * إن هذا الباب يشتمل على شيئين: الأول: إزالة النجاسة. والثاني: بيانها، وكان المتبادر أن يبدأ أولا ببيان النجاسة ثم في كيفية إزالتها، لكنهم يقولون إن الواو لا تستلزم الترتيب ولا تنافي الترتيب، وهذا القول - على إطلاقه- فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل على الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} ثم قال: أبدأ بما بدأ الله به، لكن المؤلف رحمه الله ترجم ذلك مع أنه بدأ في الخمر قال: تحريم الخمر وأحكامها: - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلا؟ فقال: "لا". الخمر: كل ما خامر العقل كما أعلنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الخمر ما خامر العقل، أي: غطاها، وكيف يخامر العقل، أي: ما أسكر على وجه اللذة والطرب. هذا الخمر إذا تناوله الإنسان سكر وصار له نشوة، وصار يتصور نفسه ملكا أو أفضل من المل، هذا هو الخمر. أما إذا غطى العقل على سبيل الإغماء وعدم الشعور فهذا ليس بخمر، ولا يحد شاربه بل ولا يعاقب شاربه عقوبة شارب الخمر، والخمر محرم في الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وتحريمه مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام، ولهذا قال العلماء - رحمهم الله-: من أنكر تحريمه وقد عاش بين المسلمين فإنه مرتد عن الإسلام؛ لأنه أنكر ما علم من الدين بالضرورة وكل من أنكر ما علم من الدين بالضرورة؛ فإنه يكون

مرتدا كما لو أنكر تحريم الزنا أو وجوب الصلوات الخمس أو ما أشبه ذلك فهو يحرم بالكتاب والسنة والإجماع. وكذلك أيضا النظر والعقل يقتضي أن يكون محرما، لأنه يلحق صاحبه بالمجانين والعياذ بالله ولهذا يطلق نساءه، وربما يقتل أولاده، وربما يفعل الفاحشة في أهله، وقد قرأت قبل سنوات كثيرة في - مجلة لا أحب أن أذكر من أين هي صادرة- أن شابا دخل على أمه في الساعة الواحدة ليلا - أي: بعد منتصف الليل - وراودها عن نفسها يريد أن يفعل بها الفاحشة - والعياذ بالله- فأبت عليه، فأخذ السكين وهددها، وقال: إن لم تمكنيني من نفسك فإني أقتل نفسي، فأدركتها الشفقة فمكنته من نفسها - والعياذ بالله- فزنى بها، انتهى من الزنا، ولما أصبح كان ضميره أشهره بذلك فجاء إلى أمه، فقال لها: يا أمي، أفعلت كذا وكذا؟ قالت" لا، خوفا عليه، فأقسم عليها إلا أن تخبره فأخبرته، ثم انطلق منها وأخذ وعاء من الجاز وصبه عليه وأحرق نفسه - والعياذ بالله- فانظر شرب الخمر وزنى بالأم وفي النهاية قتل نفسه، ولهذا جاء في الحديث تسميتها بأم الخبائث، ومفتاح كل شر. فالعقل يؤيد الشرع في تحريم الخمر، ولكن الناس قد اعتادوها، اعتادوها بإحلال الله لها حيث قال تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} [النحل: 67]. سكرا: متعة السكر، {ورزقا حسنا}: بيعه وشرابه ونقله وما أشبه ذلك، وهذا يدل على أن كان حلالا بالنص، ثم إن الله تعالى عرض بالمنع فقال: {يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيها إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]. لما قال الله - تبارك وتعالى- هذا فإن العاقل سوف يتجنبهما ما دام إثمهما أكبر من نفعهما فالعاقل لا يرتكب الأكبر من الإثم من أجل منفعة قليلة هذه هي المرحلة الثانية. المرحلة الثالثة: قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43]. و"حتى" هنا يحتمل أن تكون تعليلية، ويحتمل أن تكون غائبة. المعنى: لا تقربوها حتى تصحوا، هذا إذا كانت غائبة أو تعليلية؛ يعني: إنما نهياكم عن ذلك لتعلموا ما تقولون في صلاتكم، فهي صالحة لهذا وهذا. إذا امتثل المسلمون هذا - والحمد لله امتثلوا- فإنه سوف يمضي وقت كبير من أوقاتهم لا يشربون فيه الخمر. كم أوقات الصلوات؟ خمس صلوات يحتاج إلى أن يمسك عن الخمر قبل دخل الوقت بمدة يمكنه فيها أن يصحو هذه مرحلة ثالثة.

الرابعة: في سورة المائدة وهي من آخر ما نزل وليس فيها شيء مخصوص إطلاقا، قال الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلم رجس من عمل الشيطن فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة: 90]. وانظر إلى التعليل لما أمر باجتنابه بين ما يترتب عليه وهو الفلاح، والفلاح كلمة جامعة لحصول المطلوب وزوال المكروه {إنما يريد الشيطن أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]. ماذا قال الصحابة في جواب هذا الاستفهام؟ قالوا: انتهينا. هذا إذا جعلنا {فهل أنتم منتهون} استفهاما، أما إذا جعلناها أمرا يعني استفهاما بمعنى الأمر يكون المعنى: فانتهوا كقوله تعالى: {قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون} [الأنبياء: 108]. أي: فأسلموا له. على كل حال: الخمر محرمة بالإجماع، الخمر يمكن أن تتخلل إما بمعالجة، وإما بنفسها، إن تخللت بنفسها فهي حلال على قول جمهور العلماء حتى عند القائلين بأن النجاسة بالاستحالة لا تطهر، يرون أن الخمر إذا تخللت بنفسها فإنه تكون طاهرة، إن خللت بعلاج من فعل الآدمي بعد أن تخمرت فهذا خلاف بين العلماء؛ منهم من قال: إن كانت الخمر تخللت فلا بأس؛ لأننا لو حرمنا التخليل على الخلال لضاع له بذلك مال كثير فيباح له تخليلها للضرورة، أي: ضرورة الإبقاء على ماله. أتعرفون من الخلال؟ الذي يبيع الخل يصنعه ويبيعه، وإن كان غير حلال وهذا بعد أن صارت خمرا فإنها لا تحل، كذلك أيضا قال بعض العلماء: إن خللها من يحل له شربها في دينه فهي حلال لغيره ولو كان الغير لا يرى حلها في دينه، مثل أن يخللها يهودي أو نصراني فيجوز للمسلمين أن يشوبوها بالخل؛ لأن الذي خللها ممن يرى حلها في دينه، أما إذا خللت قبل أن تتخمر بأن أضيف إليها شيء حامض أو خل خالص قبل أن تتخمر؛ فهذا حلال بالإجماع ولا إشكال فيه، والسؤال - سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر بعد أن تخللت - تتخذ خمرا؟ قال: لا، أما إذا وضع فيها ما يمنع تخمرها فهذا لا بأس به باتفاق العلماء مثل أن يضع عليها شيئا حامضا يمنع تخللها لكن ما هي علامة الخمر؟ علامتها أنها إذا وصلت إلى حد معين بدأت تطيش وترتفع ويكون لها زبد حتى ربما يكون نصف الإناء يكون إلى قرب ملئ الإناء هذا هو علامة الخمر.

الخلاصة أن نقول: الخمر إذا تخللت بنفسها فما الحكم؟ فهي طاهرة حلال، حكاه بعضهم إجماعا حتى عند القائلين بأن النجاسة لا تطهر بالاستحالة إذا خللت بفعل آدمي فهنا أقسام: أولا: أن يكون المخلل لها خلالا بحيث لو لم يفعل يتضرر، فهذا يرى بعض العلماء أنه جائز. ثانيا: أن يكون المخلل لها من يرى حلها في دينه كنصراني أو يهودي يخلل خمرا فهذا جائز، يعني: يجوز للمسلم أن يشربها مأذونا فيه بحسب الشريعة عند المخلل، فأنا أيها المسلم إاذ وصلت إلي وهي خل حلال فلا تحرم. والثالث: إذا خللها من لا يحل له تخليلها وهو المسلم، قلنا: إن كان قبل أن تتخمر فلا بأس، وإن كان بعده فهي حرام على أني رأيت بعض العلماء - لكن لم يذكر اسمهم- يرى أنه إذا خللها مسلم فهي حلال طاهرة ويكون المحرم فعله، أما هي في ذاتها وحقيقتها الآن فهي طاهرة ليس فيها شيء، لكن هذا فيه نظر مع صحة الحديث، وسيأتي إن شاء الله. أسئلة: - ما هي الخمر؟ - قوله "على سبيل اللذة والطرب" احترازا من أي شيء؟ - على "سبيل اللذة والطرب" هل يشمل المذوب والمأكول والمشموم؟ - ما معنى قوله: "تتخذ خلا"؟ - قال الرسول: "لا" هل تدل على المنع أو على الأولى؟ - بماذا تخلل؟ - هل يدخل في الحديث ما إذا خلطت بما يمنعها من التخمر؟ - ما هي الحكمة من المنع؟ لأن الخمر تجب إراقته وإستبقاؤه ليتخلل بمعالجة. - لو تخللت الخمر بنفسها؟ هي طاهر حلال لأنها لم تخلل بمعالجة. - لو خللها وعالجها من يستبيح الخمر في ملته؟ فيه خلاف. - لماذا أتى المؤلف بهذا الحديث في باب بيان النجاسة؟ - من فوائد هذا الحديث: تحريم الخمر؛ لأن المنع من اتخاذها خلا يدل على تحريمها من

باب أولى، وهذا أمر مجمع عليه بدلالة الكتاب والسنة وقد أجمع المسلمون على التحريم، وقال العلماء: من أنكر تحريمها وقد عاش فلا بلاد المسلمين فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وأقر بالتحريم فذاك وإلا وجب قتله مرتدا. ومن فوائد هذا الحديث: سد الذرائع، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من اتخاذ الخمر خلا لئلا يستبقيها، وربما سولت له نفسه أن يشربها. ومن فوائد هذا الحديث: أن حرف الجواب يقوم مقام الجملة لقوله: "لا" وهذا مطرد حتى في العقود لو قيل لرجل يبيع عليه بيعه: أقبلت البيع؟ قال: نعم، انعقد البيع، ولو قال ولي الزوجة: زوجتك بنتي، فقيل للزوج: أقبلت؟ قال: نعم، انعقد النكاح، ولو قيل له: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم، طلقت ... وهلم جرا. المهم: أن حرف الجواب يغني عن الجملة سواء بالنفي مثل: لا، أو بالإيجاب مثل: نعم، أو: بلى. ومن فوائد هذا الحديث على ما يظهر من صنيع المؤلف رحمه الله: أن الخمر نجسة ولكن في هذا نظر؛ لأن القول الراجح أنها ليست بنجسة نجاسة حسية، ولم أجد حتى الآن ما يدل على ذلك، إلا أن جمهر العلماء قالوا: إنها نجسة نجاسة حسية، لكن ما دام ليس هناك دليل فإنه ليس من لازم التحريم أن تكون نجسة؛ لأن كل نجس محرم وليس كل محرم نجسا، ثم إننا ذكرنا في أثناء الشرح أن في السنة ما يدل على الطهارة ليس بناء على الأصل وهو براءة الذمة، بل هناك أدلة إيجابية تدل على عدم نجاسة الخمر ذكرنا منها أن الصحابة أراقوا الخمر في الأسواق، ومعلوم أن إراقة النجس في أسواق المسلمين محرم، بل قال النبي - عليه الصلاة والسلام-: "اتقوا اللاعنين؛ الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم"، وأيضا لما حرمت لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأواني منها، ولو تنجست بالتحريم لوجب غسل الأواني منها كما أوجب الرسول - عليه الصلاة والسلام- أمر بمسر الأواني في خيبر لما رآها تفور من لحم الحمر، قالوا: أو نغسلها، قال: "أو اغسلوها". الدليل الثالث: قصة صاحب الراوية الذي أهداها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن حرمت الخمر، فقال: "أما علمت أنها حرمت؟ " ففتح أفواه الراوية، ثم أراق الخمر، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الراوية من الخمر، وهذا دليل صريح جدا، وليس فيه احتمال؛ لأن الخمر حرمت وهي في

الحمر الأهلية وحكم نجاستها

الأواني، قد يعارض معارض فيقول: إنها كانت حين وضعها في الإناء حلالا غير نجسة، وإن كان هذا الجواب غير مقنع لكن قضية الراوية لا إشكال فيها، وهذا القول أعني أنها - أي الخمر طاهرة حسنا، نجسة معنى - هو الراجح. الحمر الأهلية وحكم نجاستها: 23 - وعنه رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة، فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس. متفق عليه. قال: "لما كان يوم خيبر". أولا إعراب "يوم" هل هي بالضم أو بالفتح، فإذا قال قائل: كيف تكون مضمونة وهي ظرف زمان، قلنا: ظرف الزمان لا يكون منصوبا على الظرفية إلا إذا كان ظرفا لشيء، أما إذا كان مفعولا لشيء أو في محل المبتدأ أو في محل الجر أو ما أشبه ذلك، فإنه يكون على حسب العوامل، فقوله تعالى: {واخشوا يوما} [لقمان: 33]. هذا وما نقول: إنها ظرف، بل نقول: إنها مفعول به {وإن يوما عند ربك} [الحج: 47]. نقول: اسم إن، {يوم يأتي بعض ءايت ربك} [الأنعام: 158]. هذه ظرف؛ لأنها ظرف لإتيان بعض الآيات، فلا تكون منصوبة على الظرفية إلا إذا كانت ظرفا لشيء، وأما مجرد اسم الزمان أو المكان الذي ليس ظرفا، فإنه يكون على حسب العوامل، وعلى هذا فقوله: "لما كان يوم خيبر" على أنها فاعل وليست اسما ل"كان"؛ لأن كان هنا تامة وليست ناقصة. وقوله: "خيبر" اسم حصون وقلاع ومزارع لليهود وتبعد عن المدينة نحو مائة ميل في الشمال الغربي من المدينة وهي معروفة، و "كان يوم خيبر" في أي سنة؟ في السنة السابعة من الهجرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا أهل خيبر نقضوا العهد وفتحها عنوة وقسمها بين الغانمين، لكن أهل خيبر - وهم اليهود 0 طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا فيها مزارعة وأبقاهم والباقي معروف، "أمر أبا طلحة" - وأبو طلحة صلته بأنس أنه زوج أمه أم سليم- أمر أبا طلحة "فنادى"، أي: قال بأعلى صوته؛ لأن النداء: هو الكلام بصوت مرتفع، والمناجاة: هي الكلام بصوت منخفض، واقرأ قول الله تعالى: {وندينه من جانب الطور الأيمن وقربنه نجيا} [مريم: 52]. فالمناجاة عن قرب، والمناداة عن بعد. نادى: "إن الله ورسوله ينهيانكم" والخطاب للصحابة الذين أوقدوا النيران على لحوم الحمر، "وينهيانكم عن لحوم الحمر": جمع حمار، واحذر أن تسكن الميم في هذا، وأن تضم الميم في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حمر النعم"، فتغلظ غلطا فاحشا؛ لأنك إذا قلت هنا لحوم الحمر الأهلية اختلف المعنى؛ لأن حمر تكون جمع: أحمر أو

حمراء، وإذا قلت: خير لك من حمر النعم وضممت الميم أخطأت خطأ عظيما؛ لأن حمر: جمع حمار إذن الحمر الأهلية، الأهلية: يعني المستأنسة التي يركبها الناس ويستعملونها في حاجتهم، وضدها الوحشية فإنها ليست حراما، وسيأتي إن شاء الله، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة؛ لأن أبا طلحة كان رفيع الصوت، وإن مثل هذه المسائل العامة التي يطلب فيها شيوع الخبر ينبغي أن يقوم بها من كان أعلى صوتا وأندى صوتا. أولا: نسأل: لماذا أتى المؤلف بهذا الحديث في باب إزالة النجاسة مع أن له صلة كبيرة بكتاب الأطعمة؟ أتى به المؤلف في كتاب إزالة النجاسة لقوله: "فإنها رجس"؛ لأن رجس بمعنى: نجس. ففي هذا الحديث فوائد منها: أنه ينبغي إعلام الأحكام الشرعية بأقوى ما يحصل به الإعلام، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة لارتفاع صوته بإعلان هذا الحكم الشرعي. ومنها: أن استعمال مكبر الصوت في إبلاغ الخطبة للمصلين واستعمال الإذاعة وهي أوسع انتشارا من الأمور التي جاءت بمثل السنة، فيكون في ذلك رد على من أنكر هذا وقال: هذه بدعة؛ لأنه لم يكن معروفا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: جواز الجمع بين اسم الله واسم الرسول بالواو في الأحكام الشرعية لقوله: "إن الله ورسوله ينهيانكم"، ولم يقل: ثم رسوله، ووجه ذلك: أن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم من نهي الله كما قال الله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضللا مبينا} [الأحزاب: 36]. وقال الله تعالى: {ومن يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80]. ولما كان الحكم الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم كالحكم الصادر من الله صح أن يجمع اسم الله واسم الرسول صلى الله عليه وسلم بالواو. فإن قال قائل: أين نهانا الله عن ذلك وقد قال الله لنبيه: {قل لا أجد في ما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} [الأنعام: 145]. المحرمات ثلاثة، والحمر ليست منها فأين نهي الله؟ ! فالجواب أن نقول: إن الآية في سورة الأنعام وسورة الأنعام مكية والحديث في خيبر بعد الهجرة والآية ليس فيها "لن أجد فيما أوحي إلى محرما" لو كان لفظ الآية: "لن أجد" لكان هذا الحديث معارضا، لكن الآية {لا أجد في ما أوحى إلي} ولم يقل: فيما يوحى إلي، فالآية نزلت وفي أيام نزولها لم يكن محرما إلا هذه الأنواع الثلاثة، ولا معارضة بينها وبين الحديث إطلاقا، ولا بينها وبين نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير؛ فالآية واضحة، وفي أدنى تأمل يتبين لك أنه لا حاجة إلى الإتيان بها في معارضة هذا الحديث وأمثاله.

فإذا قال قائل: سلمنا بهذا وأنه لا معارضة بينها وبين الحديث، لكن أين نهي الله للرسول؟ نقول: من الذي أخبرنا بأن الله نهى؟ الرسول - عليه الصلاة والسلام- فيجيب علينا أن نؤمن بذلك، وأن نقول: إن الله نهي عن لحوم الحمر الأهلية، أما في أي نص كان ذلك؟ فإنه يكفي أن يكون الراوي لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حاجة أن نتنطع ونقول: أين وأين الوحي وما أشبه ذلك. فإن قال قائل: ما الجمع بين هذا الحديث: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية"، وبين ذم النبي صلى الله عليه وسلم للخطيب الذي قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى". وهنا قال: "ينهيانكم" فجمعها في ضمير واحد، وهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أبا طلحة: "ينهيانكم"، والخطيب قال له: "بئس خطيب القوم أنت" فما الجواب؟ نقول: الجواب من وجوه. الوجه الأول: أن هناك فرقا بين الصيغتين: صيغة الحديث، وصيغة الخطيب. صيغة الحديث "ينهيانكم" خبر لمبتدأ من اثنين: معطوف ومعطوف عليه، وإذا كان خبرا عن اثنين أحدهما معطوف والثاني معطوف عليه، صار كأنه مركب من اثنين هذا واحد. أما الخطيب فقد قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما" هذه جملة مستقلة ليست خبرا عن الجملة الأولى، ولا جوابا لشرط فهي مستقلة، وإذا كانت مستقلة فيجب أن يستقل لفظ الاثنين كل واحد على انفراد، فيقول: "ومن يعص الله ورسوله فقد غوى"، الفرق واضح أم لا؟ "إن الله ورسوله ينهيانكم" الجملة واحدة أو اثنتان؟ واحدة، "وينهيانكم" والتي جمع فيها الضمير خبر ل (إن)، والجملة واحدة وهي خبر لاثنين، كل واحد منهما ذكر على انفراد، فهي جملة واحدة. في عبارة الخطيب "من يطع الله ورسوله فقد رشد" انتهت الجملة، "ومن يعصهما فقد غوى" جاءت جملة جديدة فصارت كأنها منفصلة عن الأولى، فإتيانه بالضمير مجموعا باثنين يعتبر خطأ، وأن الفصاحة أن يقول: "ومن يعص الله ورسوله" فالفرق ظاهر بين الصيغتين. ثانيا: أن مقام الخطبة ينبغي أن يكون بالتفصيل والبسط، والاختصار الشديد ينافي البيان في الخطبة، وأما هذا فهو بيان حكم، وبيان الحكم قد يكون من الفصاحة أن يختصره. الجواب الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يبعد في حقه وفي نطقه أن يجعل الله شريكا، وأما المخلوق فإذا جمع اسم الله واسم غيره في الواو فقد يعتقد أنهما سواء، ولكن هذا الجواب ضعيف؛ لأن الخطيب جمع بينهما بالواو، فهذا لا يعول عليه. والرابع: أنه قيل: إن الخطيب ينبغي أن تكون خطبته واحدة، فإذا قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى" قد يتوهم السامع أن الغي لا يكون بمعصية الله

ورسوله؛ أي: إلا فيما ورد فيه نهي في الكتاب والسنة وهذا غلط، لكن عندي أن أقرب الأجولة الأول، وهو اختلاف الصيغتين، ويليه الثاني أن مقام الخطبة ينبغي فيه البسط. ومن فوائد هذا الحديث: أن الأصل في النهي التحريم لقوله: "ينهيانكم"، ثم علل ذلك بأنها رجس، والرجس محرم. ومن فوائد هذا الحديث: أن اللحم إذا أطلق يشمل جميع أجزاء البدن؛ لأنه بالاتفاق والإجماع أن الحمير حرام، سواء كانت لحما أي: هبرا كما يعرف، أو كبدا أو كرشا أو أمعاء كلها تسمى لحما في الشرع. ومن فوائد هذا الحديث: جواز لحوم الحمر الوحشية. من أين تؤخذ؟ تؤخذ من القيد، وهل التحريم من أجل أن الناس محتاجون لظهورها يركبونها ويحملون عليها، فإذا أبيحت ضاقت على الناس، أو أن التحريم من أجل أنها خبيثة؟ الثاني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه؛ ولأن العلة الأولى منتقصة. الناس إلى ظهور الإبل أحوج، ومع ذلك فالإبل مباحة، الناس إلى البقر في الحرث أشد حاجة من الحمر ومع ذلك فهي مباحة، فالصواب ما علل به الرسول - عليه الصلاة والسلام-، وأما الخوف أن يضيق على الناس ظهورهم فهذا غير صحيح. ومن فوائد هذا الحديث: أن كل رجس حرام؛ لأنها رجس وهذا كالآية الكريمة: {قل لا أجد في ما أوحى على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145]. إذن نأخذ - يا إخواني- من هذا أن كل نجس حرام. ومن فوائد هذا الحديث: أن جميع أجزاء الحمر نجسة: بولها، ورثها، ريقها، عرقا ما يخرج من جسدها من صديد أو غيرها لعموم قوله: "فإنها رجس"، وهذا هو المشهور من المذهب - مذهب الحنابلة- حتى لو شرب الحمار من ماء وهو قليل الماء نجسا، وإن لم يتغير، ولكن يعارض هذا - أي: القول بأن كل ما يتصل بالحمير فإنه نجس- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: "إنها ليست بنجس"، وعلل بأنها من الطوافين، ومعلوم أن تطواف الحمير على الناس أكثر من تطواف الهرة، والعلة ثابتة في الهرة وموجبة للتطهير، كذلك العلة في الحمر، وهذا القول هو الصحيح، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يركبون الحمير وراكب الحمار لا يخلو من بلل إما من عرق منه، أو من الحمار، أو إصابة ماء السماء، ثم إن الحمر تشرب وتنفض رأسها بعد الشرب ويتطاير الماء على من حولها، وهذا لا شك أن فيه مشقة لاسيما على من يمارسه كثيرا والدين لا يأتي بمشقة، وهذا القول هو القول الراجح يعني: أن ريقها وما يخرج من أنفها وما يخرج من عينها من دمع وعرقها كله طاهر؛ لأن هذه الحمر من الطوافين علينا، وقد قال النبي - عليه الصلاة والسلام- في الهرة: إنها من الطوافين علينا.

المؤلف اختصر على هذا القدر من الحديث ولم يذكر أنهم صاروا يطبخونها، وأن القدور تغلي فيها وأن الرسول أمر أن تكفا القدور وأمر أن تكسر، ولكنهم طلبوا منه أن تغسل فقال: "أو اغسلوها". هذا الحديث بقيته يدل على أن الاستمرار فيما ثبت تحريمه محرم وإن كان مباحا في أول الأمر، إذا ثبت التحريم حرم الاستمرار، ومعلوم الآن أنه ليس هناك شيء يكون أوله حلالا ثم يكون حراما. لكن ينبني على هذا فيما لو علم الإنسان بتحريم شيء في أثناء ملابسته له فهل يجب عليه التخلي فورا؟ الجواب: نعم، يعني: لو أن إنسانا لبس حريرا يظن أن لبس الحرير حلال، ثم قيل له: إن لبس الحرير حرام، يجب عليه في الحال أن يخلعه لكن طبعا يخلعه إذا كان لديه ثوب يستر به عورته وإلا انتظر حتى يجد ثوبا، وكذلك لو قيل له: إن هذا الشراب الذي تشربه الآن حرام مثل ما يوجد في بعض المشروبات يظن أنها حلال وهي حرام في غير بلادنا؛ بلادنا - والحمد لله- لا يرد عليها إلا شيء مختبر. أسئلة: - سبق لنا في حديث أنس في قصة خيبر أنه يستفاد منه اختيار من هو أعلى صوتا في تبليغ الحكم الشرعي، هل نقول فيه دليل على استعمال الآلات الموصلة التي توصل الصوت إلى أبعد. نعم. - هل يقال: كل وسيلة حدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم يتوصل بها إلى مقصود شرعي فإنها لا تعد بدعة؟ نعم، إلا أن تكون محرمة في ذاتها، وعلى ذلك لا تنكر الجمعيات التي تؤلف لجمع التبرعات وما أشبه ذلك. - كيف نجمع بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله ينهيانكم" مع أنه قال للخطيب: "بئس خطيب القوم أنت"؟ - لحوم الحمر الأهلية احترازا من أي شيء؟ احترازا من الحمر الوحشية. - ما رأيك لو تأهل الوحشي أيحرم أو لا؟ يعني إذا صار أهليا؟ يبقى على أصله. - ما رأيك لو توحش الأهلي؟ لا يحل اعتبارا بالأصل. ومثل ذلك في باب الحمام لو أن الحمام تأهل فهو حرام على المحرم، والدجاج لو توحش فهو حلال، ثم قال المؤلف رحمه الله:

حكم طهارة لعاب الإبل

حكم طهارة لعاب الإبل: 24 - وعن عمرو بن خارجة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى وهو على راحلته، ولعابها يسيل على كتفي. أخرجه أحمد، والترمذي وصححه. "خطبنا" الخطبة: هي التذكير بالأحكام الشرعية، وغالبا ما تكون بانفعال وتأثير، وقد لا تكون كذلك، لكن في الغالب هو هذا. وقوله: "في منى" كان ذلك يوم العيد، وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد ويوم الثاني عشر، يوم العيد خطبهم يعلمهم كيف يرمون الجمرات، وكيف يطوفون، وكيف يسعون، وفي اليوم الثاني عشر علمهم ماذا يصنعون إذا أرادوا أن يتعجلوا؛ لأن في اليوم الثاني عشر ينتهي الحج لمن أراد أن يتعجل، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يخطب الناس إما خطبة راتبة وإما خطبة عارضة، فالخطبة الراتبة كخطب الجمعة والعيدين والاستسقاء، واختلف العلماء في خطبة صلاة الكسوف، والصواب أنها خطبة راتبة، وأنه يسن عقب كل صلاة كسوف خطبة. وتكون خطبه صلى الله عليه وسلم - أحيانا- عارضة، وذلك إذا وجد ما يستدعى أن يتكلم، ويخطب الناس - عليه الصلاة والسلام- كما في قصة بريرة التي اشترتها عائشة واشترط أهلها أن يكون الولاء لهم، فقال الرسول - عليه الصلاة والسلام-: "خذيها واشترطي لهم الولاء"، ثم خطب الناس وقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". وفي الحج خطب في عرفة وفي منى، فهل هذه الخطبة راتبة أو عارضة؟ فيه احتمال، لكن ليست خطبة الجمعة، ور يقال: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام- خطب في عرفة خطبة الجمعة، وإن كان ذلك اليوم هو يوم الجمعة لكنها ليست خطبة الجمعة؛ لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام- خطب قبل الأذان ولأنه خطب خطبة واحدة، ولو كانت يوم الجمعة لكانت خطبتين، ولأن حديث جابر يقول: "ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر"، فصرح بأنها الظهر وليست الجمعة، وأيضا لو كانت الجمعة ما جمع إليها أصلا؛ لأن العصر لا يجمع إلى الجمعة، فالمهم أن هناك قرائن كثيرة تدل على أن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ليست خطبة الجمعة.

وقوله: "في منى"، منى: اسم مكان، وهو المشعر الحلال أو الحرام؟ عندنا مشعران: مشعر حلال وهو عرفة، ومشعر حرام وهو مزدلفة، أما منى فهي مقر الحجاج. قالوا: وسميت منى لكثرة ما يمنى فيها من الدماء؛ أي: ما يراق فيها من الدماء، وقوله: "على راحلته" الجملة حالية من فاعل "خطب" والحال أنه على راحلته وهي بعيره، وكانت البعير التي حج عليها تقلب بالقصواء، والبعير التي كان عليها في عمرة الحديبية تقلب بالعضباء، وكان من هدي الرسول - عليه الصلاة والسلام- أنه يسمى ما عنده من الدواب أو البهائم، وكذلك ما عنده من السلاح، السيف الفلاني، السهم الفلاني وما أشبه ذلك، وهذا قلنا فيها فائدة حتى لا يحصل اشتباه فيما لو قال لغلامه مثلا: أعطني الناقة إذا كانت عنده عدة نوق يحتاج إلى أن يستفسر: أي النوق؟ إذا قال: أعطني العضباء أعطني القصواء انتهى المشكل، فيكون من هدي الرسول - عليه الصلاة والسلام- أنه يسمى مواشيه، وكذلك سيفه، إذن نحن نسمي سيارتنا مثلا أليس كذلك؟ هذا إذا كانت من جنس واحد، أما إذا كانت مختلفة في أسمائها فلا. وقوله: "ولعابها يسيل على كتفي" الواو هنا يجوز أن تكون استئنافية، ويجوز أن تكون حالية، حال من الراحلة، ويعني الحال: أن لعابها يسيل على كتفي، واللعاب ما يخرج من الفم من الريق، ففي هذا الحديث فوائد: الفائدة الأولى: أنه ينبغي لأمير الحج والمسئول عن الحج أن يخطب الناس بمنى يعلمهم ما يتعلق بالمناسك، فإن لم يتيسر ذلك بالنسبة لأمير الحج فنوابه، وعلى هذا فرجال الدولة في الحج ينبغي لهم في ذلك اليوم أن يخطبوا وأن يبلغوا الناس أحكام المناسك التي تفعل في ذلك اليوم. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الخطبة على الراحلة، وأن ذلك لا يعد تعذيبا لها؛ لأن الراحلة مرتحلة سواء للخطبة أو لغير الخطبة ليس فيها شيء من المشقة، اللهم إلا إيقافها وحبسها واقفة حتى تنتهي الخطبة، لكن هذا لا يشق عليها في الغالب. ومن فوائد هاذ الحديث: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يطلب منبرا عاليا أو ما أشبه ذلك ليخطب عليه، إنما خطب على الراحلة. ومن فوائد هذا الحديث: أن ريق البعير طاهرة وهو ما يسيل من فمه، من أين يؤخذ؟ من كون لعاب ناقته يسيل على كتف عمرو بن خارجة، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يراه غالبا، فإن قدر أنه رآه فإنه دليل، وإن قدر أن الرسول لم يره ولم يعلم به؛ فإن الله يعلمه ولم ينكره فإن كل ما وقع في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام- ولم ينكره الرسول أو لم ينكره الله عز وجل إذا كان

طهارة المني

ليس في استطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدركه فإنه حجة، وهذه اتخذوها حجة لكن كثيرا من العلماء - رحمهم الله- إذا احتج عليه أحد بكون هذا الشيء فعل في عهد الرسول: قال: من يقول: إن الرسول علم به فأقره. نقول: نحن نوافقك على هذا وإننا لا نجزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم به فأقره إلا بدليل، لكن هب أن الرسول لم يعلمه فإن الله قد علم به، ولا يمكن أن يقر الله العباد على خطأ، ولهذا لما بيت المنافقون ما بيتوا فضحهم الله فقال: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا} [النساء: 108]. فهم لا يعلم بهم الرسول - عليه الصلاة والسلام- لكن علم بهم الله. وعلى هذا فنقول: كل ما فعل في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام- ولم ينكره الله فهو حجة؛ لأننا نعلم أن الله لا يقر العباد على ضلال وخطأ، لكن في قضيتنا هذه هل الغالب أن الرسول علم بأن اللعاب يسيل على كتفه أو لا؟ الغالب أنه علم لا شك. فإذا قال قائل: هب أنه لم يعلم، وأن الله سكت عن ذلك، وهذا على الفرض الذي لا يمكن أن يقع فإن الأصل هو الطهارة، وليس بنا حاجة إلى أن نأتي بدليل إيجابي يدل على الطهارة، طهارة ريق البعير؛ لأن الأصل الطهارة لكنه لا شك أنه إذا جاء الدليل مقررا لأصل - كان ذلك أبلغ في الحجة، وهل نقيس على هذا، ونقول: كل حيوان حلال فريقه طاهر؟ الجواب: نعم. وعلى هذا فنقول: كل حيوان حلال فإن جميع ما يخرج منه يكون طاهرا ما عدا الدم المسفوح؛ لأن الدم المسفوح بنص القرآن أنه رجس لكن غير ذلك طاهر، البعر طاهر، والبول طاهر، والريح طاهر، والمخاط طاهر، أي: أن كل حيوان مباح الأكل فإن ما يخرج منه من فضلات تعد طاهرة ما عدا الدم لوجود الدليل فيه. لأي مناسبة ساق المؤلف هذا الحديث؟ لأن الباب هنا باب إزالة النجاسة وبيانها، فأراد رحمه الله بسياق هذا الحديث أن لعاب الإبل ليس بنجس. ثم قال: طهارة المني: 25 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل. متفق عليه. - ولمسلم: "لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا، فيصلي فيه".

- وفي لفظ له: "لقد كنت أحكه يابسا بظفري من ثوبه". هذا الحديث فيه بيان حكم المني، والمني: هو الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان بشهوة، فلابد أن يكون دافقا حتى يصلح عليه أنه مني صحة وليس من مرض؛ لأن المني قد يخرج من مرض، لكن الكلام هنا على المني الذي يخرج من الصحة، وهذا لا يكون إلا دافقا لقول الله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق} [الطارق: 5، 6]. هذا الحديث تقول عائشة: إن الرسول يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا انظر إلى أثر الغسل، يعني: أنه يصلي فيه - عليه الصلاة والسلام- وهو لا يزال رطبا لم ييبس من غسله. ذكر المني قد يوجب لنا أن نذكر ما يخرج من الذكر. الذي يخرج من الذكر أربعة أنواع: المني، والمذي، والبول، والودي. أربعة أشياء كلها مختلفة، إلا الودي مع البول. المني سيتبين لنا إن شاء الله من الحديث أنه طاهر موجب للغسل، المذي بين الطهارة والنجاسة ليس من النجاسات الثقيلة ولا من الطاهرة، وهو أيضا سبب الشهوة، لكنه لما كان لا يخرج حين اشتدادها وقوتها وإنما يخرج عند تذكر أو رؤية المرأة أو أشبه ذلك، ويخرج من دون أن يحس به الإنسان ولا يدري عنه إلا برطوبته، هذا بين بين جعله الشارع بين المني والبول، فهو يوجب غسل الذكر والأنثيين وإن لم يصيبها، ويوجب أيضا أن ينضح ما أصابه نضحا بحيث يغمر بالماء دون أن يتقاطر منه، ودون أن يعصر، ويفرق عن البول والودي لأن حكمهما واحد، كلاهما نجس، وكلاهما يغسل غسلا تاما بحيث يصب عليه الماء حتى يتقاطر ويفرك ويعصر. تقول رضي الله عنها: "كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل" متفق عليه. قولها: "يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب"؛ أي: الثوب الذي فيه المني وغسله منه، وقولها: "وأنا أنظر" يحتمل أن تكون الجملة حالية؛ يعني: يخرج وأنا أنظر إليه أتبعه بصري، ويحتمل أنها استئنافية بمعنى: أنه يخرج خروجا غير مقيد بكونها تنظر إليه بل أنا أنظر إليه حين خروجه أو قبل خروجه، وعلى هذا فالحكم لا يختلف، وفي رواية لمسل: "لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه". الفرك: هو الدلك إما بالأصابع أو مع الراحة أو ما أشبه ذلك، وقولها رضي الله عنها: "فركا" من باب التوكيد فهو مصدر مؤكد، والمصدر المؤكد قال العلماء: إن فائدته نفي احتمال المجاز مع التوكيد، فقوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164].

{تكليما}: هذه مصدر مؤكد وفائدته نفي احتمال المجاز، يعني: على القول بأن المجاز واقع في القرآن، والصواب أنه ليس بواقع، وقولها: "فيصلي فيه" يعني: من غير غسل بل بالفرك، وفي لفظ: "لقد كنت أحكه يابسا بظفري من ثوبه". وهذه طريقة أخرى بدل الفرك تحكه بظفرها، وهذا فيما إذا بقي له جرم تحكه بظفرها حتى تزول عينه بألا يرى، ومثل هذا قد يكون فيه شيء من الحياء والخجل إذا رؤي أثر المني على ثوب الإنسان. أسئلة: - ما الذي يؤخذ من حديث عمرو بن خارجة بالنسبة للحيوان؟ طهارة لعاب الحيوان المأكول وكل شيء يخرج منه ما عدا الدم المسفوح. - إذا قال قائل: كيف نستدل بحديث عمرو بن خارجة وهو يحكي حكاية لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع عليه؟ كل ما وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حجة؛ لأنه لو لم يعلم به فقد علم الله. - هل هناك دليل في عمل الصحابة على استدلالهم بإقرار الله تعالى بالشيء؟ نعم، ودليله حديث جابر: "كنا نعزل والقرآن ينزل ولو كان شيئا لأنكره الله". هل فيه دليل من القرآن على أنه لو كان منكرا لأنكره الله؟ قوله تعالى: {يستخفون من الناس} الآية. فوائد الحديث: في حديث عائشة رضي الله عنها في حكايتها في تقرير المني من فوائده: جواز التصريح بما يستحيا من ذكره عند الحاجة إليه؛ لقولها: "يغسل المني". فإن قال قائل: كيف صرحت بذلك وهو مما يستحيا منه غالبا، ومما يتعلق بالاستمتاع بالنساء، وعلي رضي الله عنه استحيا أن يسأل النبي عن المذي حيث إنه يتعلق بالشهوة لأنه كان زوج ابنته؟ فالجواب عن ذلك أن يقال: إن الناس يختلفون في الحياء؛ فعلي معذور مع أنه رضي الله عنه لم يهمل الأمر، وكل من يسأل عنه، وعائشة معذورة لأنها تريد أن تبين حكما وشرعا. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي إزالة أثر المني، سواء قلنا بطهارته أو بنجاسته. ومن فوائده: أن المني ليس بنجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسله، فإن قال قائل: ولكنه غسله، فالجواب: أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم المجرد لا يدل على الوجوب، الوجوب يكون بالأمر وبعضهم قال: إن الفعل الدائم المستمر يدل على الوجوب وإن لم يأمر به، وهذا ليس من الشيء المستمر؛ لأنه أحيانا إذا يبس يفركه.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه يمكن أن يقاس على المني كل ما يستحيا من رؤيته، فإنه ينبغي للإنسان أن يزيله عن ثوبه فلو كان به أثر دم وإن قلنا بالطهارة؛ أو كان فيه أثر مخاط؛ أي: في الثوب فإنه ينبغي للإنسان أن يزيله؛ لأن هذا مما يستحيا منه وتتقزز النفوس منه، وبالتالي يكون نفس الذي اتصف به مكروها في طبائع الناس، وإن كان غير مكروه شرعا لكن الناس لا يجبون أن يروا هذا المذى على غيرهم. ومن فوائد الحديث في لفظ مسلم: أن من العشرة بالمعروف أن تخدم المرأة زوجها لقولها رضي الله عنها: "لقد كنت أفركه". فإن قال قائل: وهل خدمة الزوجة زوجها أمر واجب عليها؟ فالجواب: أن الله تعالى حكم بهذا حكما عدلا فقال: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19]. فإذا كان المعروف عند الناس أن المرأة تخدم زوجها وجب عليها أن تقوم بخدمته، وإذا كان المعروف أن الزوجة لا تخدم الزوج وأنها تستخدم الخادم لم يجب عليها أن تخدم الزوج، وإذا كان من المعروف أن تخدمه في شيء، دون شيء فعلى حسب المعروف ما جرت العادة أن تخدمه فيه وجب عليها أن تخدمه، وما لم تجر العادة به لم يجب عليها، كل هذا مأخوذ من كلمتين: {وعاشروهن بالمعروف}. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الاقتصار على فرك المني إذا كان يلبسا، وأنه لا يجب غسله، ولكن بعض الأشخاص يكون لمنيه أثر وإن فركوه فهل نقول: اغسل الأثر؟ الجواب: نعم، اغسله لئلا يتقزز الناس من رؤيته. ومن فوائد هذا الحديث - أعني: رواية مسلم-: أنه كالصريح في طهارة المني؛ لأن النجس- ولاسيما ما كان له جرم- لا يكفي فيه الفرك؛ إذ إن الثوب يتشرب النجاسة، فالفرك لا يمكن أن يزيل عين النجاسة، وهذا يدل على أن المني طاهر وهو كذلك، بقي أن يقال - وهي مسألة ليست في الحديث-: إذا كانت النجاسة التي لها جرم على شيء أملس كالمرآة فهل يجزئ فيها الفرك إذا أزالها بالكلية؟ الصواب: أنه يجزئ؛ لأن القول الراجح أن النجاسة متى زالت بأي مزيل طهر المحل. ومن فوائد هذا الحديث: زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا؛ حيث كان ثوبه الذي يصيبه المني يغسله ويصلي فيه، بمعنى: أنه لا يحتاج إلى ثوب للصلاة، وثوب للفراش، وثوب للبيت وما أشبه ذلك. فهل يقال: إنه لما أنعم الله علينا بالمال ينبغي لأن نعود إلى ذلك، وأن نجعل ثوب النوم هو ثوب الصلاة؟

حكم بول الجارية والغلام والفرق بينهما

الجواب: لا، ليس كذلك إذا وسع الله علينا فإن الله "يحب أن يرى أثر نعمته على عبده". فإن قال قائل: هل هذا المني الذي تفركه عائشة من ثوب الرسول - عليه الصلاة والسلام- هو عن احتلام أو عن جماع؟ الجواب: أنه عن جماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتلم، فإن من خصائصه - عليه الصلاة والسلام- أنه لا يحتلم كما ذكر ذلك أهل العلم. ومن فوائد اللفظ الثاني لمسلم: جواز تأكيد الشيء بأي مؤكد وذلك من قولها: "كنت أحكه يابسا بظفري"، التوكيد هنا هل هو في قولها: "بظفري"، أو في قولها: "يابسا" أو فيهما؟ الجواب: فيهما، لأنه لا يمكن الحك إلا إذا كان يابسا، والحك أيضا لا يكون إلا بالظفر. حكم بول الجارية والغلام والفرق بينهما: 26 - وعن أبي السمح رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام". أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه الحاكم. 27 - وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دم الحيض يصيب الثوب: "تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه". متفق عليه. 28 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت خولة: يا رسول الله، فإن لم يذهب الدم؟ قال: يكفيك الماء، ولا يضرك أثره". أخرجه الترمذي، وسنده ضعيف. قال المؤلف رحمه الله فيما نقله عن أبي السمح رضي الله عنه: أبو السمح هذا أحد خدم الرسول صلى الله عليه وسلم روى عنه هذا الحديث "يغسل من بول الجارية" أي: الأنثى الصغيرة، "ويرش من بول الغلام" أي: الذكر الصغير.

"يغسل"، يعني: البول، "ويرش" يعني: البول، يعني: إذا أصاب الإنسان بول جارية فإنه يغسل كما تغسل سائر الأبوال إذا أصابه بول غلام فإنه يرش، والمراد بالرش هنا: النضح بحيث يصب عليه الماء، وإن لم يتقاطر ويكفي أدنى شيء. سبب هذا الحديث: أن أبا السمح رضي الله عنه كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه بالحسن أو الحسين فبال على صدره، فأراد أن يغسله أبو السمح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فيكون هذا الحديث له سبب، والعبرة كما قال العلماء بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعلى هذا فيكون عاما. فإن قال قائل: ما هو الضابط فيما يغسل وما يرش من بول الغلام؟ قلنا: الضابط ما ثبت في الصحيحين "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصبي لم يأكل الطعام فبال في حجره فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بماء فنضحه". فيكون الضابط في هذا ألا يأكل الطعام وليس المراد ألا يطعم شيئا؛ لأن هذا لو قلنا به لكان الصبي في أيامه الأولى يمكن أن يمضغ شيئا، لكن المراد ألا يكون الطعام بدلا من اللبن أو الأكثر، يتغذى بالطعام أكثر مما يتغذى باللبن، أما إذا كان الطعام هو غذاؤه فالأمر واسع. وأما إذا كان هو الأكثر بناء على ما ذكره العلماء - رحمهم الله- من تغليب الأكثر على الأقل في كثير من المسائل يغلب فيها الأكثر على الأقل، فمثلا الحيض إذا زاد على خمسة عشر يوما، صار الدم استحاضة وليس حيضا؛ تغليبا للأكثر، الجلالة التي تأكل العذرة قال العلماء: إنها تكون جلالة إذا كان أكثر علفها النجاسة فاعتبروا الأكثر، كذلك هذا الصبي إذا كان أكثر غذائه الطعام حكمنا بأنه يأكل الطعام، وإن شرب لبنا مرة أو مرتين في اليوم فلا ينضح. ففي هذا الحديث دليل على التفريق بين الأنثى والذكر، والفروق بين الأنثى والذكر قدرا وشرعا كثيرة ويمكن - إن شاء الله- أن نكلفكم بإحصائها؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك، الفرق بين الذكر والأنثى من وجوه كثيرة قدرية وشرعية فهنا فيه الفرق بين بول الذكر وبول الأنثى الصغار، الأنثى يغسل كما تغسل سائر الأبوال، والذكر ينضح، والرش هنا بمعنى النضح حتى يعم سواء تقاطر أم لم يتقاطر، ولا يحتاج إلى عصر أو إلى فرك. فإن قال قائل: ما الفرق بينهما؟ قلنا: الفرق بينهما حكم الله ورسوله، فمتى حكم الله ورسوله بين شيئين متقاربين فالعلة هي حكم الله ورسوله، وهذه العلة مقنعة لكل مؤمن ولا يحتاج بعدها إلى نقاش؛ لأننا نؤمن بأن حكم الله مبني على الحكمة، وإذا كنا مؤمنين بأن حكم الله مبني على الحكمة علمنا أنه لابد أن

يكون هناك حكمة أوجبت التفريق في الحكم، وحينئذ نقتنع ولا يخفى على كثير منكم "أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"، وجعلت ذلك هو الحكمة وهو كذلك، لكن بعض العلماء - رحمهم الله- التمس لذلك علة وبعض العلماء قال: لا نعلم، فهو أمر تعبدي جاءت به السنة، فعلينا ألا نسأل بل نطبق. ومن الفروق التي ذكرها من فرق أو من ذكر حكمة التفريق نقول: إن الغذاء الذي هو اللبن لطيف خفيف ليس له ثقل كالطعام؛ يعني: ليس له جرم يظهر بل هـ خفيف تشربه المعدة والعروق ويخرج منه الشيء خفيفا، وبناء على ذلك يتلاقى هذا مع حرارة الذكورة وقوة إنضاج الذكر للطعام، فمن هذه القوة وخفة الغذاء يكون البول خفيف النجاسة، ولهذا يوجد فرق بينه وبين بول الجارية في الرائحة مما يدل على صحة هذا التعليل، وأن الخبث الذي يكون في بول الذكر بالنسبة لبول الأنثى أخف. هذه واحدة. ثانيا: قالوا: بول الذكر يخرج من ثقب في أنبوبة، وهذا يقتضي أن ينتشر وأن يتسع ما يصيبه، وإذا انتشر واتسع ما يصيبه صار التحرز منه شديدا؛ لأنه ينتشر فيكون التحرز منه شديدا، بخلاف بول الجارية، فإنه يخرج ثرثرة بدون أن يكون له بروز، فيكون ما يصيب الثوب منه او البدن قليلا، وهذه علة كما تعلمون تمشي على ثلاثة من أربعة. الثالث: يقولون: الذكر مرغوب عند أمه، فتحمله كثيرا بخلاف الجارية، الغالب أن الجارية مسكينة تكون في ركن الزاوية ولا يهتمون بها كثيرا بخلاف الذكر، فإذا كانت تهتم به كثيرا فسوف تحمله كثيرا، ويشق التحرز من بوله بخلاف الجارية، وهذه العلة تمشي على اثنتين من أربع لماذا؟ لأننا نجد كثيرا من الناس - ولاسيما في زمن الصغر- يرقون للبنات أكثر ما يرقون للأولاد، ويكون حملهما للجارية أكثر. على كل حال: أقرب شيء أن العلة الأولى هي المقنعة لكل مؤمن وهي: أن هذا حكم الله ورسوله، ولابد أن يكون هناك حكمة لكننا لا يمكن أن نحيط بكل حكم الله عز وجل. الثانية: ما ذكرنا من لطافة الغذاء وحرارة البدن، فيجتمع هذا وهذا يكون خفيفا بدليل الفرق في الرائحة، استفدنا من هذا الحديث فوائد: الفائدة الأولى: أن بول الغلام الصغير وبول الجارية الصغيرة نجس؛ لأن كلا منهما عرضة للتطهير منه، لكن الجارية تغسل والغلام نضح أو رش.

حكم دم الحيض ودم الاستحاضة

ومن فوائد هذا الحديث: أننا فهمنا بذلك حكمة الشريعة وتفريقها في الأمور على حسب ما يقتضيه الحال؛ سواء قلنا: إن هذا الحكم تعبدي أو إنه معلل؛ لأننا نعلم أنه لا يمكن التفريق إلا أن هناك علة مؤثرة. ومن فوائد هذا الحديث: أن العذرة من الغلام ومن الجارية على حد سواء؛ لأن التفريق إنما كان في البول فقط فتبقى العذرة على ما هي عليه. ومن فوائده أيضا: أنه إذا كبر الغلام ووصل إلى حد يتغذى بالطعام أو يكون غذاؤه بالطعام أكثر، فإن حكمه كالبالغ؛ يعني: لابد من غسل بوله. ومن فوائد هذا الحديث: جواز التصريح بذكر البول "يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام"، وكثير من الناس إذا أراد أن يعبر عن البول يقول: أطيرا وهذه لغة عامية قصيمية، يقول صاحب الفروع - وقد كان من أكبر تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية وأعلمهم بفقهيات شيخ الإسلام ابن تيمية حتى كان ابن القيم يرجع إليه في فقهيات شيخ الإسلام-، الأولى أن يقول: أبول، ولا يقول: أريق الماء؛ لأن هذا غلط هل البول ماء فكيف يقول ذلك أريق الماء إذا كان ماء فهو يشرب وفي إناء لكن الآن هذا نجس، فقل: أبول كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام- "يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام". حكم دم الحيض ودم الاستحاضة: - وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أم عنها؟ عنهما؛ لأن الصحابي إذا كان أبوه مسلما يقال: رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دم الحيض يصيب الثوب" "الحيض": هو دم طبيعة وجبلة يرخيه الرحم إذا بلغت المرأة سن المحيض واستعدت للحمل، وهو أمر طبيعي، يعني: ليس أمرا حادثا عن الأنثى، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين وجدها تبكي من الحيض قال: "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم منذ خلقهن". وقال صلى الله عليه وسلم في الحيض يصيب الثوب، "تحته" يعني: تحت الدم، "ثم تقرصه بالماء"، والقرص: هو الدلك بأطراف الأصابع سواء كان بالماء أو ببل ريقها أو ما أشبه ذلك، "ثم تنضحه" تصب عليه الماء فهذه ثلاث مراتب: الأولى: "الحت ومتى تحتاج إليه؟ إذا يبس. والثانية: قرص بالماء، يعني: تدلكه بين أصبعين هكذا. والثالثة: النضح، والمراد بالنضح هنا: الغسل، ثم قال: "ثم تصلي فيه"، وهذا كأنه - والله

أعلم - النبي صلى الله عليه وسلم استفتى في ذلك في المرأة يصيب ثوبها الحيض أتصلي فيه أم لا؟ فقال: هذا وهذا. الحديث من فوائده: أن دم الحيض نجس؛ لأنه لما ذكر تطهيره في المراتب التي سمعتم قال: "ثم تصلي فيه"، فدل على أنه لابد من إزالته قبل الصلاة، وهو يدل على أنه نجس. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يعفى عن اليسير لقوله: "ثم تقرصه بالماء"، وهذا لا يكون غالبا إلا في الشيء القليل، أما في الشيء الكثير فلابد من حته بالراحة، يعني: براحة اليد كلها لكن القليل هو الذي يكون بالقرص، فيكون في هذا الحديث دليل على أن دم الحيض لا يعفى عن يسيره، بقية الدماء القول الراجح فيها أنها ليست بنجسة، يعني: أن الدماء الخارجة من الإنسان ليست بنجسة؛ لأنني - إلى ساعتي هذه- ما وجدت دليلا يدل على النجاسة، وقد تقرر أن الأصل في الأشياء الطهارة إلا بدليل، وذكرنا عند حديث "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت" أن القاعدة ألا يكون نجسا؛ لأن ميتة الآدمي طاهرة، فما انفصل منه في حياته يكون طاهرا، كما لو قطعنا يدل من يديه مثلا أو رجلا من رجليه فهي طاهرة، وإذا قلنا بالنجاسة وهو قول جمهور العلماء، وهو القول الذي لا يعرف أكثر الطلبة إلا إياه، يقولون: إنه يعفى عن يسيره فما هو اليسير؟ هل اليسير ما استسهله كل إنسان بحبسه أو اليسير ما استسهله عامة الناس؟ في هذا قولان لأن للفقهاء. القول الأول: أن اليسير ما استسهله كل إنسان بحسب حاله. والقول الثاني: أن العبرة بعامة الناس ومتوسطي الناس؛ فما رأوه يسيرا فهو يسير، وما رأوه كثيرا فهو كثير. القول الأول له وجهة نظر وعليه مؤاخذة، وجهة النظر: أن الإنسان إذا رأى أن هذا الدم الذي أصابه يسير اطمأن وصلى بطمأنينة ولم يحصل منه قلق، ولا يرى أنه قصر في شيء، فيقال: أنت وربك، ولكن فيه مؤاخذة؛ المؤاخذة: أن الناس يختلفون؛ فمن الناس من يوسوس، النقطة التي كعين الجرادة يرى أنها كثيرة، ومن الناس من يكون متهاونا يرى النقطة التي هي أكبر من العصفور قليلة، وحينئذ يختلف الناس في التقدير فيكون الرجوع لأوساط الناس هو القول المترتب، ولهذا شواهد في الشريعة اللقطة تعرفون أنها إذا كانت يسيرة قليلة فإن الإنسان يملكها بمجرد لقيتها إذا لم يعرف صاحبها. اليسير عند من؟ عند أوساط الناس، فالرجوع إلى أوساط الناس أمر معتبر شرعا، فيرجع في القليل والكثير إلى أوساط الناس، لا نأخذ برأي المتهاون ولا برأي الموسوس، هذا بالنسبة لدم غير الحيض، أما الحيض فالحديث يدل على أن كثره وقليله نجس، وليس لنا خروج عما تقتضيه السنة.

* وبقينا في دم الاستحاضة هل هو نجس أو كسائر الدماء؟ نقول: إن الأقرب أنه نجس؛ لأنه خارج من سبيل، وقد يقول قائل: إنه ليس بنجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بأنه "دم عرق"، ودم العروق إما نجس يعفى عن يسيره، وإما طاهر، وهذا دم عرق فلا يكون نجسا. ثانيا: أن القول الراجح: أن المستحاضة يجوز لزوجها أن يطأها، وإباحة وطئها تقتضي أن يلامس النجاسة ولا يضر. هذا الذي يرجح أنه طاهر. الذي يرجح أنه نجس، نقول: إنه خارج من سبيل وليس دم عرق طاهر حتى نقول إنه كسائر الدماء، وأما كون الزوج يباح له أن يطأها فالمسألة خلافية، من العلماء من يقول: لا يجوز أن يطأها إلا إذا خاف العنت، وحينئذ يكون وطأها هنا ضرورة وسوف يغسل ما أصابه منها، ومنهم من يقول بالجواز مطلقا وهو الراجح، لكن هذا للحاجة كما أن الإنسان يغسل النجاسة للحاجة ويمسها بيده، فهذا كذلك يريد أن يستمتع بزوجته الاستمتاع الذي أباحه الله. والأقرب عندي: أن دم الاستحاضة كدم الحيض؛ يعني: أنه يجب التحرز منه، لكن أبيح للحاجة من جهة الزوج، وأما ما يصيب الثوب منه فلابد من غسله قليلا كان أو كثيرا. من فوائد هذا الحديث: بيان أن الصحابة - رضي الله عنهم- عندهم بساطة في الأمور، المرأة تصلي في الثوب الذي تحيض فيه، والرجل يصلي في الثوب الذي يجامع فيه كما مر علينا من فعل الرسول - صلوات الله وسلامه عليه- وهذا يدل على بساطتهم وسهولة أمرهم وأنهم لا يتكلفون. الآن بعض النساء لها ثوب للصلاة، وثوب لحمل الأولاد، وثوب للبذلة، وثوب للزينة، والرفرف مملوء من الثياب وغالبها أيضا - في العهد الحديث- متروك مهجور؛ لأنها خرجت موضة جديدة ولابد من التغيير، حتى لو كان الثوب من أحسن الثياب تقول: ما نريده، وهذا خطأ لكن نقول: لا قتر ولا سرف. الصحابة - رضي الله عنهم- لم تفتح عليهم الدنيا إلا أخيرا ولو على هذا الوجه، لكن لما أنعم الله علينا فلا بأس أن تتخذ المرأة ثوبا للصلاة، وثوبا للبيت للأولاد، ولا نقول: إن هذا من باب الإسراف - إن شاء الله تعالى-. من فوائد هذا الحديث: أنه يجب إزالة عين النجاسة قبل أن تغسل لقوله: "تحته"؛ لأنك

لو صبيت الماء عليها لغسلها قبل أن تحتها ازداد اتساع النجاسة وصارت قد زادت مع الطين بلة فلذلك نقول: لابد من الحت أولا. وهل يقاس عليها مثلها في النجاسة؟ الجواب: نعم، العذرة مثلا لابد أن تحتها أولا، ثم تغسل المكان، وفي هذا رد لما اشتهر عن بعض الناس أن دم الحيض لا يتجمد، وأن دم الاستحاضة يتجمد، وعللوا ذلك بأن دم الحيض انفجار البويضات في الرحم، ثم يتسرب الدم فتكون قد تجمدت أولا، فإذا خرجت فإنها لا تتجمد، لكن ظاهر هذا الحديث "تحته" يدل على أنه يتجمد فليراجع هذا الموضوع، وكنت بالأول مقتنعا بأن هذا هو الفرق بين دم الاستحاضة، ودم الحيض مع الفروق التي ذكرها الفقهاء، لكن هذا الحديث يمنع الاقتناع بهذا الرأي. ومن فوائد هذا الحديث أيضا: التدرج في إزالة النجاسة لقوله: "ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه". سؤال: - هل قيء الغلام كقيء الجارية؟ نعم، كلاهما طاهر. بقي علينا من فوائد حديث أسماء بعض الفوائد ذكرنا أن من الفوائد: أن قولها: "تحته" يرد على بعض المعاصرين من الأطباء الذين يرون أن دم الحيض لا يتجمد، ولكن قال لي أحد المحاضرين ممن هو عالم بالطب: إنه ليس يتجمد لكن يكون له بقية، بمعنى: أنه ليس كالماء إذا يبس ليس له أثر، فله أثر يمكن أن يحت، وبناء على ذلك يعني هو أكد أن ما قاله الطبيب المعاصر أنه صحيح، يعني: أن دم الحيض لا يتجمد لكن إذا يبس فلابد أن يكون له جسم وليس كالماء إذا يبس، وعلى هذا فلا يكون في الحديث معارضة له؛ لأن ما كان كذلك يمكن أن يحت. ومن فوائد هذا الحديث: أنه عند إزالة النجاسة ينبغي ألا يكثر الصب - صب الماء- لأنه إذا أكثر الصب والنجاسة باقية بعينها يترشش عليه الماء، ثم يلوث لكن يأتي بغسله شيئا فشيئا من أجل ألا يصب عليه الماء الكثير إلا بعد أن تزول عين النجاسة، ولا يبقى إلا الأثر الذي لا يزيله إلا الماء. ومن الفوائد: أن النجاسة لا تزال إلا بالماء لقول: "ثم تقرصه بالماء"، وهذا ما عليه أكثر العلماء أنه لا تزال النجاسة إلا بالماء، ولكن القول الراجح أن النجاسة تزال بكل ما يزيلها من ماء أو حت أو دلك أو غير ذلك، لكن الأحاديث الواردة في الماء إنما كانت كذلك؛ لأن الماء في ذلك الوقت هو أيسر ما يمكن أن تزال به النجاسة. ومن فوائد هذا الحديث أيضا: أن إزالة النجاسة من الثوب الذي يصلي فيه شرط لصحة الصلاة لقوله: "ثم تصلي فيه" فإن ظاهره أنها لا يمكن أن تصلي فيه حتى تفعل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن فوائده: أن النضح يطلق على الغسل لقوله: "ثم تنضحه" .. فالمراد بالنضح هنا: الغسل إلا أن يقال: إن حته ثم قرصه بالماء يخفف النجاسة حتى يمكن أن تزول بالنضح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت خولة: يا رسول الله، فإن لم يذهب الدم؟ قال: "يكفيك الماء ولا يضرك أثره". قوله: "قالت خولة": هي بنت يسار "يا رسول الله، فإن لم يذهب الدم" تريد: لونه؛ بمعنى: بعد أن تحته ثم تقرصه، ثم تنضحه ولم يزل الدم، فقال: "يكفيك الماء ولا يضرك أثره". "يكفيك الماء" دليل على أن الماء يزيل بالنجاسة. "ولا يضرك أثره" والأثر هنا هو اللون، أما إذا بقي شيء من جرمه فإنه لا يكفي، وكذلك الريح مثل اللون إذا صعب إزالته فإنه لا يضر. ففي هذا الحديث فائدة تضاف إلى ما سبق وهي: أنه إذا بقي لون الدم فإنه لا يضر؛ لأن العبرة بزوال عين النجاسة أما لونها فهو لا يضر، وبهذا يتم ما أورده المؤلف رحمه الله من الأحاديث في باب "إزالة النجاسة وبيانها" فلنرجع إلى تحرير ذلك وتلخيصه. أولا: إزالة النجاسة على القول الراجح تحصل بأي مزيل، وبأي عدد فلا يشترط فيما يزيلها نوع معين، ولا يشترط فيما يزيلها عدد معين، بل قد تزول بأول مرة أو بثاني مرة أو لا تزول إلا بعد عشرين مرة، المهم أن النجاسة عين قذرة لا يطهر المحل إلا بزوالها. ثانيا: إزالة النجاسة هل يتحقق بغير الماء أو لابد من الماء؟ في ذلك خلاف بين العلماء وأكثر العلماء أنه لا تتحقق إزالة النجاسة إلا بالماء إلا ما استثني كالاستجمار، فإن النجاسة تزول بالاستجمار، ومن العلماء من يقول: إن النجاسة لا تزول بالاستجمار؛ وإنما يزول حكمها، وأن الاستجمار هذا مبيح وليس بمطهر، وهذا هو المشهور عند فقهاء الحنابلة - رحمهم الله-، وينبني على ذلك أنه لو استجمر ثم مس ثوبه وهو رطب بمحل الاستجمار، فإن الثوب ينجس؛ لأن النجاسة لم تزل بالاستجمار، وكذلك يقولون: لو احتلم الإنسان وهو مستجمر فإن ما يبرز من الماء يلاقي مكانا نجسا فينجس ويكون الماء الذي خرج بالاحتلام متنجسا وليس بنجس، لكن القول الراجح: أن الاستجمار مطهر لحديث ابن مسعود رضي الله عنه "إنهما" - أي: الروث والعظم- "لا يطهران"؛ فدل ذلك على أن الاستجمار مطهر وهو كذلك، وكذلك وردت السنة بأن الحذاء نطهر بالدلك بالتراب، وأن أسفل ثوب المرأة إذا مر بالنجاسة فإنه يطهر بما يمر به من بعد النجاسة من التراب الطاهر. وهذه الشواهد تدل على أن إزالة النجاسة تحصل بأي مزيل، وهذا هو الحق، كيف نقسم

ما يحصل به التطهير؟ قسم العلماء ذلك إلى ثلاثة أقسام: نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة، ونجاسة متوسطة. فالمغلظة: هي نجاسة الكلب إذا ولغ في الإناء فلابد من سبع غسلات إحداهما بالتراب، وهل يقاس على الكلب الخنزير؛ لأنه أخبث؟ قال بعض العلماء: إنه يقاس، والصحيح أنه لا يقاس، وهل يقاس على ولوغه ما خرج منه من فضلات كالعذرة والبول والدم أو لا؟ فيه خلاف أيضا: من العلماء من ألحقه بالولوغ، ومنهم من قال: حكمه كسائر النجاسات، لكن الأحوط بلا شك أن يلحق بولوغه وألا يحكم بطهارته إلا بسبع غسلات إحداها بالتراب. النجاسة المخففة: هي نجاسة بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، يعني: لو يفطم بعد؛ هذه مخففة يكفي فيها النضح وهو صب الماء عليها، وإن لم يتقاطر منها وإن لم يدلك، وإن لم يغسل، وكذلك على القول الراجح المذي يكفي فيه النضح كبول الصغير؛ لأن المذي طبيعته بين المني والبول فأعطي حكما بين الحكمين. أما المتوسطة: فهي ما سوى ذلك - مغلظة ومخففة- ومتوسطة ما بين ذلك، فإذا عرفت المغلظ والمخفف وقلت ما بين ذلك هو المتوسط، فهذا يشمل جميع النجاسات فكيف تطهر؟ المشهور من مذهب الحنابلة - رحمهم الله- أنه لابد من سبع غسلات لكن بدون تراب، والصحيح أنه لا يشترط سبع غسلات، وأنه متى زالت عين النجاسة فإنها تطهر سواء بثلاث أو بخمس أو بتسع أو بعشر أو ما أشبه ذلك، المهم المقصود هو إزالة عين النجاسة، هذا هو القول الراجح ويدل على ذلك ما ذكره المؤلف في دم الحيض من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد عددا معينا وإنما ذكر صفة معينة يزول بها الدم. أما النجاسات. ما هي النجاسات؟ هذه بعض العلماء حدها وقال: "كل عين حرم تناولها لا لحرمتها ولا استقذارها ولا بضرر منها في بدن أو عقل"، وكما تعلمون هذا التعريف طويل جدا، وقد لا يكون مانعا ولا جامعا، لكن سقناه على حسب ما ذكره بعض الفقهاء كل عين حرم تناولها لا لحرمتها ولا لاستقذارها ولا لضرر منها في بدن أو عقل، ولكن يقال الأحسن ألا نأخذ به؛ لأنه قد يرد علينا أشياء تنقض هذا التعريف بل نعدها والأصل فيما عداها الطهارة؛ فنبدأ بما أشار إليه المؤلف وهو الخمر: فالخمر على ما عليه جمهور العلماء نجس قليله وكثيره، ولا يعفى عن شيء منه، والمناقشة في أدلته سبقت ولا حاجة إلى إعادتها، وتبين أن الراجح أنه ليس بنجس نجاسة حسية، ولكنه نجس نجاسة معنوية، وذكرنا أن الدليل على ذلك نوعان: سلبي وإيجابي.

السلبي: هم عدم الدليل فليس هناك دليل يدل على نجاستها. والإيجابي: أن هناك أدلة تدل على طهارتها فعلا كعدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الأواني حينما حرمت الخمر مع أنه أمر بغسلها حين حرمت الحمر الأهلية، وكذلك أيضا الصحابة أراقوها بالأسواق ولو كانت نجسة ما أراقوها بالأسواق، وكذلك صاحب راوية الخمر التي أهداها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بغسلها. هذا واحد. ثانيا: لحوم الحمر الأهلية نجسة، وعلى هذا فنقول: كل حيوان محرم الأكل فهو نجس: بوله، وروثه، وعرقه، ومنيه، وريقه، وكل ما ينفصل منه، كل حيوان محرم الأكل نجس. هل يمكن أن نقول: يستثنى من ذلك الآدمي؟ على رأي المناطقة يستثنى الآدمي؛ لأنهم يقولون: الآدمي حيوان ناطق، لكننا نستثنى الآدمي، ونستثنى أيضا ما لا يمكن التحرز منه على القول الراجح كالهرة، ومن العلماء من يقول: نستثني الهرة وما دونها في الخلقة، والصواب أن تستثنى ما يشق التحرز منه كالهرة، وكذلك على القول الصحيح الغل والحمار، لأن الناس يحتاجون إلى ركوبهما واستعمالهما ويشق التحرز منهما، يستثنى من ذلك أيضا كل ما ليس له نفس سائلة فإنه طاهر كالعقرب والجعل والخنفساء وما أشبه ذلك. إذن نأخذ من حديث أنس في الحمر أن كل حيوان محرم الأكل فهو نجس، يستثنى من ذلك الآدمي. ثانيا: ما يشق التحرز منه كالهرة ونحوها. ثالثا: ما لا نفس له سائلة أي: ما ليس له دم يسيل. هذان صنفان. الثالث: الميتات، كل ميتة فهي نجسة إلا ما يستثنى، يستثنى من ذلك ميتة البحر، لأنها حلال، ويلزم من الحل أن تكون طاهرة، يستثنى من ذلك ميتة الآدمي فإنها طاهرة؛ لأن المؤمن لا ينجس حيت ولا ميتا، يستثنى من ذلك ميتة ما ليس له نفس سائلة كالذباب والبعوض والعقرب والصارور وما أشبه ذلك، هذه أيضا ميتتها طاهرة، ودليلها حديث الذباب أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أمر إذا وقع في الشراب أن يغمس، وهذا يلزم منه الموت إذا كان الشراب جارا أو دهنيا ونحوه. كم هذه؟ ثلاثة أنواع من النجاسات. الرابع: بول وروث ما لا يؤكل لحمه مثل: بول الحمار وروثه، البغل وروثه، أبوال السباع وأرواثها، كل هذه نجسة، ولا يستثنى من هذا ما يشق التحرز منه، وعلى هذا فأبوال السنانير وأرواثها نجسة. استثنى بعض العلماء ما لا يمكن التحرز منه وما كان يسيرا، كقيء الذباب وما يخرج منه؛ لأن هذا يشق التحرز منه. فمن الذي يسلم من وقوع الذباب على ثوبه ثم يقيء، أو على الكتاب

أو ما أشبه ذلك، وألحق به بعض العلماء بعر الفأر وبول الفأر؛ لأن هذا يشق التحرز منه، ولكن الذي يظهر أنه نجس، ويمكن أن يقال في الذباب ونحوه: إنه لكثرة وروده على الإنسان وتردده عليه يعفى عما يخرج منه على أن الذباب أيضا إذا كانت ميتة طاهرة وليس له نفس سائلة، فهذا أيضا مما يرجع القول بأن ما يخرج منه طاهر. عرق الحيوان: الحيوان المحرم الأكل نجس وما يخرج منه من أنفه أو فمه نجس إلا ما يشق التحرز منه كالهرة، وعلى القول الصحيح الحمار والبغل وما يشق التحرز منه فإن هذه الفضلات - أعني: الريق والعرق والمخاط- طاهرة. ما يخرج من الإنسان يدخل في أي قاعدة مما ذكرنا؟ فيما لا يؤكل، فبوله نجس، وروثه نجس، ومنيه على القول الراجح طاهر، وإن كان بعض العلماء قال إنه نجس؛ لأنه من الفضلات، والصواب أنه طاهر، استثنى بعض العلماء - رحمهم الله- من ذلك ما يخرج من النبي - عليه الصلاة والسلام- من بول أو غائط وقال: إن بول النبي صلى الله عليه وسلم وغائطه ليس بنجس ولكن هذا ضعيف جدا؛ لأن هذه من الطبائع البشرية وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم". ثم إن الرسول - عليه الصلاة والسلام- يستنجي ويستجمر، وقال لابن مسعود لما أتى له بالعظم والروث قال: "إنهما لا يطهران"، وهذا يدل على أن بوله وغائطه - عليه الصلاة والسلام- كغيره من الناس وهذا هو الصواب. أما عرقه، فعرقه طاهر، وعرق غيره من البشر طاهر أيضا، لكن يختص عرقه بأنه يجوز التبرك به، وكذلك ريقه - عليه الصلاة والسلام- يجوز التبرك به. أما عرق غيره من البشر وريقه فإنه لا يجوز التبرك به؛ لأن ذلك لم يرد، والتبرك بالشيء ولإثبات أن فيه بركة يحتاج إلى دليل. أسئلة: - كون الشريعة الإسلامية تحث على التخلي عن النجاسة ما الدليل عليه؟ - النجاسة هل نحكم على الأشياء بأنها نجسة أو الطهارة هي الأصل، وما الدليل؟ الطهارة هي الأصل، والدليل: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض .... } الآية. -

لماذا ساق المؤلف رحمه الله حديث أنس في باب إزالة النجاسة وبيانها في الخل يتخذ خمرا؟ بناء على أن الخمر نجسة نجاسة حسية فتحتاج إلى إزالتها بالماء. - كيف يتخذ الخمر خلا؟ - هل ما ذهب إليه المؤلف أو من قال: إن الخمر نجسة حسية هل هذا صواب؟ الصواب خلافه وهي أنها نجسة نجاسة معنوية وليست نجاسة حسية. - ما هو الدليل على نجاستها؟ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها في طرقات المدينة. - ما هو الدليل على أن الرجس هو النجس؟ قوله تعالى: {رجس .... }. - نحن الآن هل نحتاج إلى دليل يثبت الطهارة؟ لا؛ لأن الأصل الطهارة لكن مع ذلك هناك أدلة تثبت الطهارة: إراقة الصحابة للخمر في المدينة والنافي حديث الرجل الذي أهدى الرواية. - الحمر الأهلية هل لها مفهوم؟ - لماذا كان النعي عن لحوم الحمر، وهل لبنها نجس؟ نعم؛ لأنه يخرج من بين فرث ودم. - يلزمكم على هذا بأن لبن الإبل ينتقض الوضوء ما قلتم بأن لحمها ينقض الوضوء فهل تقولون بذلك؟ نقول: لاشك أن الوضوء من ألبان الإبل أفضل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يجب استدلالا بقصة العرنيين الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا بإبل الصدقة ويشربوا من أبانها وأبوالها ولم يأمرهم بالوضوء فتخصص هذا بهذا الحديث. - حديث عمرو بن خارجة لماذا أتى به المؤلف؟ أتى به المؤلف ليستدل على أن لعاب الإبل طاهر. - كيف الدليل؟ نقول: الغالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم رآه وإذا لم يره الرسول فالله يعلم ويقر، إذن هل نأخذ من هذا قاعدة بأن جميع ما يؤكل لحمه من الحيوان فلعابه طاهر؟ نعم، ولا حاجة لذلك؛ لأن الأصل الطهرة. - ذكرنا أن الذي يخرج من الإنسان من ذكره ينقسم إلى أقسام؟ - مر علينا فيما سبق أنه يجوز للإنسان أن يخطب على الراحلة ما الدليل؟ - ما هي الحكمة من كون الرسول صلى الله عليه وسلم خطب على البعير؟ - هل يمكن أن نأخذ من هذا أنه ينبغي للخطيب أن يكون عاليا؟ - لماذا أتى المؤلف بهذا الحديث في هذا الباب؟ - في مسألة اللعاب هل أخذ العلماء منها ضابطا أو قاعدة؟ - هل بول الإبل طاهر؟ - ما هو المني الطاهر؟ الذي يخرج دفقا بلذة. -

عائشة رضي الله عنها ذكرت المني باسمه الصريح وهي امرأة فهل يدل على أنها ليس عندها حياء؟ لا، ولكن لا يستحيي الإنسان من بيان الحكم. - في حديث أبي السمح ما يدل على الفرق بين بول الذكر والأنثى؟ يغسل من بول الجارية؟ ويرش من بول الغلام. - قوله الغلام هل هو يشمل كل غلام أم ماذا؟ الذي يتغذى باللبن ولا يكثر الطعام. - ما الحكمة في التفريق بينهما؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما. - ما الذي التمسه العلماء من الحكم؟ قالوا: إن الذكر أغلى عند أمه فيكثر حمله فخفف فيه. - امرأة أصاب ثوبها دم حيض ماذا تقول؟ تحته إذا كان يابسا، ثم تقرصه، ثم تغسله. - لماذا رتب النبي صلى الله عليه وسلم هذه المراتب؟ لسهولة إزالة النجاسة. - في هذا الحديث إشكال وهو كيف جاز للإنسان أن يلوث يده بالشيء النجس؟ هذا تلوث بالنجاسة من أجل الإزالة. - ما رأيك لو أن محرما أصاب ثوبه طيب وقلنا لابد أن تزيله فجعل يفركه بيده ليزيله ما رأيك؟ نعم، يزيله. - ونظيره إنسان في أرض غصب وتاب من الغصب وأراد أن يخرج إن مشى سوف يستعمل الأرض المغصوبة هل تقول حرام عليك أن تخطو خطوة واحدة؟ لا، لابد أن يمشي، وكذلك لو غصب قدرا فأراد أن يرده إلى صاحبه فحمله - وهو يحمل المغصوب- لكن من أجل التخلص منه. - في مسالة الطيب للمحرم ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تطيب لإحرامه وأنه يرى وبيص المسك في مفارقه. من المعلوم أن الإنسان يتوضأ ووبيص المسك في مفارقه سوف يمس الطيب فهل يلزمه أن يغسل يده أو يقول إن هذا مما يشق التحرز منه، فيكون معفوا عنه؟ الثاني: وإن كان ظاهر كلام بعض الفقهاء أن يغسل يده من هذا الطيب. - في حديث أسماء ما يدل على أن دم الحيض لا يعفى عن يسيره؟ - ولكن ماذا نقول في دم الاستحاضة هل هو نجس أم طاهر؟ الصحيح أنه يلحق الحيض. - امرأة غسلت الدم لكن بقي اللون هل عليها شيء؟ المهم إزالة عين النجاسة حتى بقي اللون فلا إشكال.

4 - باب الوضوء

4 - باب الوضوء يقال: الوضوء، والوضوء بالضم؛ فالوضوء: الماء الذي يتوضأ به، والوضوء- بالضم-: التوضأ، يعني: الفعل، وله أمثلة: كطهور وطهور، وسحور وسحور، ووجور ووجور له أمثلة كثيرة في اللغة العربية على هذا المنوال، فما هو الوضوء؟ الوضوء مشتق في اللغة من الوضاءة، وهو: الحسن والجمال والنظافة من الأقذار والمؤذيات، وأما في الشرع فهو: التعبد لله عز وجل بتطهير الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة. الأعضاء معروفة و "أل" فيها للعهد الذهني، وإنما قلنا "التعبد لله"؛ لأننا نريد أن نعرف تعبديا فلابد أن نقول عبادة. كذلك في الصلاة هل نقول: إنها أقوال وأفعال معلومة أم نقول التعبد لله؟ التعبد لله، وكذا نقول في الصلاة وفي الصيام وفي الحج، والوضوء من أفضل الأعمال. وله فوائد كثيرة منها: أنه إذا كان في أيام الشتاء والبرد مما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات كما في الحديث: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة". ومنها: أنه كلما طهر الإنسان عضوا من الأعضاء، تطهر هذا العضو من النجاسة المعنوية وهي الآثام، فيخرج إثم كل عضو من هذه الأعضاء عند آخر قطرة من القطرات. ومنها: أنه اقتداء وأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها: أنه امتثال لأمر الله {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} [المائدة: 6]. ومنها: وهو خاص بهذه الأمة "يدعون يوم القيامة غرا محجلين". من أثر الضوء. ومنها: أن الحلية في الجنة تبلغ حيث يبلغ الوضوء {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا} [فاطر: 32]. {وحلوا أساور من فضة} [الإنسان: 21]. فأساورهم ثلاثة أنواع: من ذهب، والثاني: اللؤلؤ، والثالث: فضة، وهذه إذا اجتمعت يكون لها منظر يسر الناظرين. المهم: أن له فوائد كثيرة، ولذلك كان القول الراجح من أقوال العلماء أنه عبادة تجب فيه النية خلافا لمن قال: إنه طهارة لا تجب النية فيه، كإزالة النجاسة، ومعلوم أن إزالة النجاسة لا يشترط فيها النية، فلو أن الإنسان نشر ثوبه النجس ونزل المطر وطهره صار طاهرا وإن لم ينو، لكن الوضوء لا يكون صحيحا إلا بنية؛ لأنه عبادة.

الوضوء له سنن وله فرائض وواجبات؛ فمن سننه السواك دليله حديث أبي هريرة: 29 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء". "لولا" هذه حرف امتناع لوجود، وعندنا ثلاث أدوات اقتسمت الامتناع أو الوجود: "لما، ولو، ولولا": "لما" حرف وجود لوجود، "لو" حرف امتناع لامتناع، "ولولا" حرف امتناع لوجود. مثاله في "لما" تقول: "لما زارني أكرمته"؛ هنا حصل الإكرام لحصول الزيارة، إذن وجود لوجود. ومثال "لو": "لو زارني لأكرمته"؛ فهنا امتنع الإكرام لامتناع الزيارة. ومثال "لولا": "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم"؛ فهنا امتنع الأمر لوجود المشقة، وقوله: "لولا أن أشق" المشقة هي التعب والإجتهاد. وقوله: "على أمتي" المراد بالأمة: أمة الإجابة؛ لأن أمة الدعوة الأمة المدعوون لا يخاطبون بالسواك، وإنما يخاطبون بالإسلام أولا. وقوله: "لأمرتهم" أي: أمر إلزام. وجه ذلك: أنا حملناهم على الإلزام؛ لأن أمر غير الإلزام لا مشقة فيه؛ حيث إنه يجوز للإنسان تركه، وما دام يجوز تركه فلا مشقة فيه، وعلى هذا فيكون مراده "لأمرتهم" أمر إلزام. "بالسواك" السواك يطلق على الألة التي يتسوك بها، وعلى الفعل، نقول: تسوك الرجل سواكا بالغ فيه هذا الفعل، وعلى هذا يكون السواك اسم مصدر وليس مصدرا؛ لأنه لم يطابق الفعل في حروفه، ومن ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب". السواك يعني: التسوك وليس العود، ومن استعماله بمعنى الآلة التي يتسوك بها أن القول: أعطيت فلانا سواكا؛ يعني: ما يتسوك به، فصار السواك يطلق على الآلة التي يتسوك بها، وعلى نفس الفعل، فما المراد به في الحديث "لأمرتهم بالسواك؟ " الفعل وليس الآلة؛ لأنه ليس من المعقول أن يكون المراد "لأمرتهم" أن يحمل الواحد منهم آلة يتسوك بها بل المراد بالسواك أي بالفعل.

يقول: "أخرجه مالك وأحمد والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وذكره البخاري تعليقا". قدم المؤلف مالكا إما لتقدم ومنه، وإما لأن "الموطأ" أصح من "المسند"، وإلا فلا شك أنا إماما كالإمام أحمد أشهر من الإمام مالك وغيره، فقد أطلق عليه إمام أهل السنة وحاله مشهورة معروفة، وقوله: "ذكره البخاري تعليقا" ما معنى التعليق؟ يقول علماء المصطلح: التعليق: حذف أول المسند، فمثلا إذا كان الراوي - يعني: مخرج الحديث - رواه على هذا الترتيب (1 - 2 - 3 - 4) إلى منتهاه، فحذف رقه (1) معلق، حذف (ا، 2) معلق، حذف (1، 2، 3) معلق، بل يطلق المعلق على حذف السند كله، حكم المعلق أنه ضعيف؛ لعدم وجود السند، وإذا عدم السند صار الرواة مجهولين لابد من العلم بالرواة لأنهم أهل للرواية؛ إلا أنهم قالوا: إذا كان المخرج قد التزم بتعليق ما هو صحيح عنده بصيغة الجزم فيحكم بصحته مطلقا، أو عند المعلق؟ عند المعلق فقط، يعني: قد يكون صحيحا عنده ولكنه ليس بصحيح عند غيره. الخلاصة: المعلق اصطلاحا: ما حذف أول إسناده أو جميع الإسناد، المعلق في المرتبة من قسم الضعيف، إلا إذا كان في كتاب التزم مخرجه الصحة، وهذا يكون صحيحا عنده فقط وعند غيره قد يكون صحيحا وقد يكون غير ذلك، لكنه إذا كان المعلق إماما معتبرا عند الحفاظ فلا شك أن تعليقه له وزنه وله قيمته، ولهذا ذكره المؤلف قال: "ذكره البخاري تعليقا"، مع أنه يكفي أن يقول: رواه مالك، وأحمد، والنسائي، وصححه ابن خزيمة. في هذا الحديث فوائد متعددة منها: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر معلوم بالضرورة؛ لأنه يثبت بالتواتر لقوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. ومن فوائده: أن النبي صلى الله عليه وسلم له أن يجتهد في الأحكام لقوله: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم" ولم يقل: "لولا أن الله لم يأمرني لأمرتهم"، بل قال: "لولا أن أشق"، فالمانع له من الأمر الملزم ليس عدم أمر الله، ولكن المشقة. إذن للنبي أن يجتهد ثم إن أقره الله عز وجل فالحكم شرعي بإقرار الله، وهذا هو الأصل وإن لم يقره الله ارتفع الحكم، فعفو النبي - عليه الصلاة والسلام- على المتخلفين لم يقره الله

عليه بل قال: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكذبين} [التوبة: 43]. فقوله: {عفا الله عنك} بدأ بالعفو عما حصل قبل أن يذكره، قال: "عفا الله عنك" وقال اللله تبارك وتعالى: {يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك} [التحريم: 1]. إذن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في الأحكام، ثم إن أقرع الله فهو الشرع من عند الله، وإن لم يقره الله - وهو نادر نادر نادر- فإنه يرتفع الحكم، أخذ الفداء من أسرى بدر لم يقره الله عز وجل بل قال: {لولا كتب من الله سبق} في تكميل الرسالة واستمرارها {لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} [الأنفال: 68]. وهذه المسألة طال فيها الجدل بين العلماء، وعندي أنه ليس فيها - والحمد لله- إشكال، وأنها واضحة أن الرسول يأمر وينهى سواء كان بوحي من الله أو بإقرار من الله. ومن فوائد هذا الحديث: تأكد استعمال السواك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من الإلزام به إلا المشقة. ومن فوائد هذا الحديث: أن الأصل في الأمر الوجوب لقوله: "لأمرتهم" هكذا استدل بعض أهل العلم بذلك وقالوا: إن هذا يدل على أن الأمر المطلق يكون للوجوب، ولكن قد يناقش ويقال: إن قوله: "لأمرتهم" أمر إلزام، وإلا فمطلق الأمر ثابت، لكن كون الأمر للوجوب أو للاستحباب أو للإرشاد والتوجيه لا يمكن فيما تتبعته أن ينضبط بضابط؛ لأن بعض الأوامر تكون للوجوب بالاتفاق، وبعض الأوامر تكون لغير الوجوب بالاتفاق، وبعض الأوامر تكون محل نزاع، ولهذا اختلف فيها العلماء: منهم من قال: الأصل في الأمر الوجوب، واستدل لقوله. ومنهم من قال: الأصل في الأمر الاستحباب؛ واستدل لقوله. ومنهم من قال: ما كان مقصودا به التعبد فالأمر فيه للوجوب، وما كان المقصود به التأدب فالأمر فيه للاستحباب، وهذا أقربها من حيث العموم وإلا فقد يكون من الآداب وهو واجب. فإن قال قائل: أنا أريد أن أشق على نفسي وأتسوك عند كل وضوء، فهل هذا هو الأفضل أو الأفضل أن يأخذ برخصة الرسول - عليه الصلاة والسلام-؟ الثاني، وقد يقال: إن كان فيه مشقة بينة فالأفضل إتيان الرخصة، وإن لم يكن فيه إلا أن تخرج السواك من جيبك وتدلك أسنانك فافعل؛ لأن هذا في الحقيقة ليس فيه مشقة. وقوله: -عليه الصلاة والسلام-: "وبالسواك" قلنا: المراد بذلك: التسوك، وبناء على هذا هل تحصل فضيلة السواك بغير العود، أي: بغير عود الأراك؟ فيه خلاف:

من العلماء من يقول: إنه لا يحصل فضل السواك إلا إذا تسوك بالمسواك. ومنهم من قال: بل يحصل له من السنة بقدر ما حصل من الإنقاء، وأنه يمكن أن يدرك السنة إذا تسوك بأصبعه أو خرقة، وهذا أقرب إلى الصواب أن يقال لا شك أن الأكمل والأفضل أن يكون بعود الأراك أو ما يقوم مقامه، ولكن لو تسوك بالإصبع أو الخرقة فإنه يحصل من السنة على قدر ما حصل له من التنظيف. فيه أيضا بحث آخر: قول النبي - عليه الصلاة والسلام-: "مع كل وضوء" أين يكون محله؟ قبل الشروع في الوضوء، أو بعده أو في أثنائه؟ الحديث مطلق لم يبين لكن العلماء - رحمهم الله- اختاروا أن يكون التسوك عند المضمضة، قالوا: لأن هذا هو محل تنظيف الفم يكون المناسب أن يكون حال المضمضة والله أعلم. أسئلة: - هل الوضوء خاص بهذه الأمة أو للأمم كلها؟ للأمم كلها. - ما هو الشي الخاص بهذه الأمة من الوضوء؟ أنهم يدعون يوم القيامة غرا محجلين، وهذا هو ظاهر السنة؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام-: "أعطيت خمسا ... ". ومنها التيمم عند عدم الماء يدل ذلك على أن غيرنا يتطهر بطهارتنا إلا في التيمم، وكذلك أيضا: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء" فالظاهر أن التخصيص هو هذا الثواب الذي يحصل لهذه الأمة. - في الحديث الذي قرأناه مسائل أصولية منها: أن الأصل في الأمر الوجوب؟ - قوله: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم" ما وجه الدلالة؟ أنه لو أمرهم لكان لازما يشق عليهم، ولو كان الأمر للاستحباب ما شق عليهم. - ذكرنا أن هذا هو المشهور عند علماء الأصول لكن هناك قولا آخر يقول: إن الأصل إذا كان بالتعبد فواجب وإذا كان بالتأدب فسنة. - هناك قول ثالث ما هو، وما دليله؟ أن الأمر للاستحباب مطلقا، الدليل: الأمر فيه يدل على مشروعيته، والأصل عدم التأثيم بالترك وهذا هو حقيقة الاستحباب. - قوله: "لأمرتهم بالسواك" ما المراد به؟ به الفعل. -

صفة الوضوء

أين محله في أقوال العلماء؟ عند المضمضة؛ لأنها هي محل تطهير الفم. - هذا يدل على أن من الأحوال التي يسن فيها السواك الوضوء هل هناك شيء آخر؟ نعم عند قراءة القرآن، لكن هذا ذكره العلماء استحسانا عند الاستيقاظ من النوم وعند دخول البيت وعند تغير رائحة الفم. - هل يستثنى من ذلك وقت من الأوقات؟ ذكر بعض أهل العلم أنه يكره التسوك للصائم بعد الزوال، وعللوا بعلة عليلة؛ العلة هي: أن آخر النهار للصائم - ولاسيما مع طول النهار- يفوح من معدته رائحة كريهة وهذه تسمى خلوف فم الصائم، وهي محبوبة عند الله عز وجل أطيب من ريح المسك، قالوا: وإذا كان كذلك فلا ينبغي السعي في إزالتها؛ لأنها أطيب عند الله من ريح المسك، وقياسا على دم الشهيد إذا قتل في سبيل الله فإنه لا يسن غسله بل لا يجوز غسله على القول الراجح، لأن هذا الدم ناشئ من طاعة الله من الجهاد في سبيل الله، فيقاس عليه خلوف فم الصائم، ولكننا نرد هذا بعموم الأدلة الدالة على التسوك مطلقا من غير قيد، وقال عامر بن ربيعة: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم". ذكره البخاري تعليقا، وهذا ليس ضروريا أن نحتاج إليه في الإثبات؛ لأن لدينا العمومات كقوله: "مع كل وضوء" فهذا عام يشمل وضوء الصائم بعد الزوال كما يشمل وضوء غيره. فالصواب: أنه يسن للصائم أن يتسوك كما يسن لغيره في كل وقت. هل يستثنى من ذلك أن يكون الإنسان بحضرة الناس؟ يسن ولو بحضرة الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تسوك أمام رعيته كان يتسوك أمام أصحابه، ولو كان هذا مكروها ما فعله النبي - عليه الصلاة والسلام-، ولو كان من خصائصه لبين أنه من خصائصه، لكن إذا كان يشغل الإنسان عن استماع شيء مأمور باستماعه فلا يفعل، فلو أن الإنسان أخذ يتسوك والإمام يخطب يوم الجمعة قلنا: لا يتسوك إلا إذا أراد به خيرا مثل أن يصيبه النعاس فيتسوك من أجل أن يذهب عنه النعاس، فهذا لا بأس به، بل قد نقول: إنه مشروع؛ لأنه يعينه على الاستماع إلى الخطبة، وسبق لنا هل يحصل التسوك بغير العود؟ قلنا: نعم، لكنه في العود أحسن وأنضر. صفة الوضوء: 30 - ثم قال: "وعن حمران أن عثمان رضي الله عنه". عثمان: هو أحد الخلفاء الراشدين؛ وهو الثالث منهم، وأجمع الصحابة - رضي الله عنهم- على أنه الثالث في الخلافة، وأجمع أهل السنة

على أن عثمان بن عفان هو الثالث في الخلافة، وقال الإمام أحمد: "من طعن في خلافة واحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله"، وقال الحسن فيما أظن: "من زعم أن عليا أولى بالخلافة من عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار"، أي: عابهم وانتقصهم. عثمان رضي الله عنه "دعا بوضوء" دعا به؛ أي: طلبه، والوضوء بالفتح: الماء الذي يتوضأ به. "فغسل كفيه ثلاث مرات"، والكف من مفصل الذراع إلى رءوس الأصابع يبتدئ بالكوع والكسوغ والرسغ، ونختبر في هذا ما هو الكوع؟ العظم الذي يلي الإبهام، والكسوع: الذي يلي الخنصر، والرسغ: ما بينهما إلى أطراف الأصابع. "فغسل كفيه ثلاث مرات": وهذا الغسل تعبد لا شك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تعبد لله به فهو عبادة، لكنه ليس من الأعضاء التي يجب غسلها إلا بعد غسل الوجه، فيكون تقديم غسل الكفين هنا؛ لأنها آلة غرف الماء، فينبغي أن تكون نظيفة قبل أن يشرع في غسل بقية الأعضاء ثلاث مرات. "ثم تمضمض، واستنشق، واستنثر"، وليس في ذكر التثليث لكنه قد تثبت به السنة، "تمضمض"، المضمضة: تحريك الماء داخل الفم، "واستنشق"، يعني: استنشق الماء في منخريه، "واستنثر"، يعني: نفر الماء الذي استنشقه، أما المضمضة فلتطهير الفم، وأما الاستنشاق فلتطهير الأنف، وليس في الحديث أنه أدخل أصبعه في أنفه وجعل ينظفه. "ثم غسل وجهه ثلاث مرات" والوجه معروف ما تحصل به المواجهة، وحده العلماء - رحمهم الله- عرضا من الأذن إلى الأذن وطولا من منابت شعر الرأس المعتاد، وبعضهم قال: من منحنى الجبهة، وهذا اضبط؛ لأن منابت الشعر تختلف، بعض الناس ينحسر عند الشعر، أي: عن ناصيته فيكون أنزع، وبعضهم ينزل فيكون أغم، يعني: إذا نزل الشعر، فإذا قلنا: منحنى الجبهة صار هذا منضبطا سواء كان عليه شعر أم لم يكن، إلى أسفل اللحية. وهل ما استرسل من اللحية يدخل في الوجه؟ في ذلك خلاف بين العلماء فمنهم من قال: إنه لا يدخل، كما لا يدخل المسترسل من شعر الرأس في الرأس، ومنهم من قال: إنه يدخل، لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه كان يخلل لحيته، وإن كان الحديث فيه ما فيه، والوجه ما تحصل به المواجهة وأما الرأس فلأن الرأس من الترأس وما نزل عن منابت شعر الرأس ليس فيه ترأس.

"ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات" المرفق: ما يرتفق عليه الإنسان، وهو مفصل الربط بين العظم والذراع، وتسميته مرفقا واضحة؛ لأنه يرتفق عليه الإنسان، يعني: يتكئ عليه. وقوله: "إلى المرفق" هو كقوله تعالى: {إلى المرافق}، فهل (إلى) هنا للغاية أو لها معنى آخر؟ إن قلت: للغاية؛ فإن القاعدة الغالبة في (إلى) أن غايتها لا تثبت، وعلى هذا فتكون المرافق غير داخلة، وإن قلت: إنها بمعنى مع، أي: مع المرافق فالمرافق داخلة، ولكن إثبات أنها تأتي بمعنى (مع) يحتاج إلى دليل في اللغة العربية. قالوا: الدليل قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2]. أي: مع أموالكم، ولكن هذا فيه نظر، في الآية ضمن الفعل تأكل معنى تضموا أموالهم إلى أموالكم فلا شاهد فيه، ولكن يقال: (إلى) للغاية، والغالب أن الغاية لا تدخل في المغيا، لكن إاذ وجد دليل يدل على أن الغاية داخلة وجب الأخذ به، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقه، وأنه يغسله حتى يشرع في العظم، وعلى هذا يكون معنى (إلى): الغاية، لكن دلت السنة على أن الغاية هنا داخلة، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بكتاب الله ومراد الله، هنا لم يذكر الابتداء، قال: "إلى المرفق" ولم يذكر الابتداء، وسيأتي - إن شاء الله- في الفوائد: هل الأفضل أن تبدأ بأطراف الأصابع ماشيا بالماء إلى المرفق أو لك أن تبدأ بما شئت؛ لأن المحدود هنا الغاية دون البداية، يأتينا إن شاء الله. "ثم اليسرى مثل ذلك" يعني: ثلاث مرات، "ثم مسح برأسه" ولم يذكر التكرار، ولم يذكر الأذنين قال: "مسح برأسه"، والباء هنا ليست للتبعيض كما زعمه بعضهم، ولا تأتي في اللغة العربية بمعنى التبعيض أبدا. قال ابن برهان: من زعم أن الباء تأتي في اللغة العربية "للتبعيض" فقد قال على أهل العربية قولا - أظنه قال-: بما لا يعلمون أو كلمة نحوها، لكن الباء للإلصاق بمعنى: إنك تمر يدك على رأسك. {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6]. والرأس حده من جهة الوجه: منحنى الجبهة، وحده من الخلف: الرقبة، وحده من الجانبين: منابت الشعر، وهي في الغالب - غالب الناس- متساوية ولم يذكر الأذنين فيقال: إن عدم الذكر ليس ذكرا للعدم، فإذا جاءنا من طريق آخر أن الأذنين تمسحان فإنه لا معارضة بينه وبين هذا الحديث؛ لأن الساكت لا قال إنه ناف، وهذا هو معنى قول العلماء: "إن عدم الذكر ليس ذكرا للعدم"؛ لأنك لو قلت: إن عدم الذكر ذكر للعدم لكان

هذا الحديث يعارض الأحاديث الدالة على مسح الأذنين، فإذا قلت: ليس ذكرا للعدم، قلنا: الساكت ليس بمتكلم فضلا عن أن يكون سكوته معارضا للصريح. يقول: "ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات" الكعبان هما: العظمان الناتئان في أسفل الساق، وهما يربطان بين الساق وبين القدم، ويقال في قوله: "إلى الكعبين" ما قيل في قوله: إلى المرفقين". "ثم اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا". متفق عليه. "رأيت": أي بعيني؛ أي: أبصرت، "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا"، قلنا: إن "رأيت" بمعنى أبصرت لا بمعنى علمت، وعلى هذا فقوله: "توضأ"، الجملة حال من النبي وليست مفعولا ثانيا؛ لأن رأي البصرية إلا مفعولا واحدا، وليت المؤلف جاء بباقي الحديث؛ لأن باقي الحديث من الناحية المسلكية مهم جدا جدا. باقي الحديث يا إخوان، "ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه"، وهذه مهمة للإنسان من أجل أن يتعبد لله بهذه الصلاة، لكن المؤلف رحمه الله على الاختصار لا يذكر إلا الشاهد أحيانا؛ يذكر الشاهد ولا يستفيد الإنسان منه شيئا، كما سيأتينا - إن شاء الله- في كتاب الصلاة، لكن هنا أقول: غفر الله له، لو أنه ذكر هذا لأفاد فائدة كبيرة وهي: أن الإنسان كلما توضأ صلى ركعتين يجتهد ألا يوسوس فيهما ولا يحدث نفسه، إذا فعل ذلك غفر الله له ما تقدم من ذنبه. في هذا الحديث فوائد منها: تواضع الصحابة الجم، وجهه: أن هذا خليفة على الجزيرة العربية، على المسلمين عامة؛ الشام، ومصر، والعراق، واليمن، والجزيرة، أمة عظيمة هو خليفة عليهم، ومع ذلك يدعو بالوضوء ليتوضأ أمام الناس حتى يدركوا ذلك بأعينهم، وهذا لا شك أنه تواضع جم. ومن فوائده: أنه ينبغي للمعلم أن يسلك الوسائل التي تقرب المعنى إلى المتعلم، وجه ذلك: أنه أراهم إياها عمليا؛ لأن التطبيق العملي فيه مع العلم الذي محله القلب أنه يتصور الإنسان، ويبقى في مخيلته هذا الشيء المشاهد ولا ينساه. ومن فوائده: ذلك أنه أدق في فهم المعنى، أرأيت لو قلت لك: إن القيل حيوان ضخم له خرطوم، وله آذان طويلة، وله أرجل غليظة قصيرة بالنسبة لحجمه، وله خرطوم قوي، ووصفته أدق وصف، هل تدركه مثل ما تدركه لو رايته؟ لا.

إذن لو أني وصفت الوضوء وقلت: افعل كذا وافعل كذا، وافعل كذا بأدق وصف، ثم شاهدته أنت عمليا أيهما أشد إدراكا؟ الثاني أشد. ومن فوائد الحديث: جواز الوضوء لقصد التعليم، ولكن هل نقول: إن عثمان رضي الله عنه قصد التعليم والعبادة، وأنه إنما خرج عن نية العبادة في إظهار هذا الوضوء فقط، وإلا فهو يريد أن يتوضأ أو أنه توضأ عبثا؟ الظاهر الأول: أنه قصد التعبد، لكن قصد أن يكون أمام الناس من أجل أن يعلمهم. ينبني على ذلك مسألة مهمة، لو أن إنسانا أراد أن يعلم الأطفال الصلاة وصلى صلاة تامة من أولها إلى آخرها بدون قصد النية لكن يعلمهم فقط، فهل نقول: هذا مشروع او غير مشروع؟ نقول: أما لو قطعه وجزأه وقال للصبي: ارفع يديك قل هكذا، ثم سبحانك اللهم وبحمدك، ثم اقرأ الفاتحة، ثم إذا قرأت الفاتحة اقرأ سورة، ويكلمه كلاما، ثم اركع وقل هكذا هذا لا بأس به وإلا إشكال فيه، لكن قول: الأفضل أن يجعلها عبادة تعبد ليستفيد ويفيد. يتفرع على ذلك أيضا شيء آخر: بعض الناس في مشاهد التمثيليات يجعلون إنسانا يصلي على أنها تمثيلية وهذا حرام عليه، لا يجوز أن تمثل العبادات تمثيل مشاهدة للمرح أو ما أشبه ذلك، بل يجب الكف عن هذا، وكذلك بعضهم يأتي بقرآن وما أشبه ذلك، كل هذا لا يجوز في مثل هذه الأشياء التي هي للمرح والترويح عن النفس دون قصد التعليم. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يشرع غسل الكفين ثلاث مرات قبل الوضوء، دليله: أن عثمان فعل ذلك، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا. وهل هذا الغسل واجب؟ لا ليس بواجب بل هو سنة، والدليل على أنه ليس بواجب قول الله - تبارك وتعالى-: {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلىلصلوة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]. ولم يذكر غسل الكفين، فدل هذا على أن غسل الكفين قبل غسل الوجه ليس بواجب وإنما هو سنة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يشترط للوضوء مقارنة الاستنجاء خلافا للعامة، العامة يظنون أنهلا يمكن ان يتوضأ إلا باستنجاء حتى ولو كان مستنجيا قبلها ولو بساعة لابد أن يعيد الاستنجاء وهذا غلط. الاستنجاء الغرض منه تطهير المحل فقط، ولا علاقة له بالوضوء إطلاقا. هل هذا الحديث يدل على أنه يجوز الوضوء بدون تقدم من استنجاء صحيح؟ قد يقال ذلك؛ لأن الآية الكريمة والواصفين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلموا عن الاستنجاء؛ لأن الاستنجاء عمل مستقل، وهذه المسألة - أعني: هل يصح الوضوء قبل أن يتقدمه استنجاء أو استجمار شرعي- فيها خلاف بين العلماء؛ منهم من قال: لا يصح الوضوء قبل الاستنجاء فلو أن الإنسان لم يستجمر استجمارا شرعيا وإنما استجمر حتى يبس المحل وأنقى المحل بدون أن

يعتبر ذلك بثلاث مسحات ثم توضأ، فمن قال: إنه لا يصح الوضوء قبل الاستجمار الشرعي والاستنجاء قال: وضوؤه غير صحيح، وإذا كان قد صلى فصلاته غير صحيحة، وإذا قلنا: إنه يصح، وإنه لا علاقة للاستنجاء بالوضوء، وهذا هو القول الراجح قلنا: إن صلاته صحيحة. ومن فوائد هذا الحديث: تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه، وهل هذا واجب؟ الجواب: لا، لو غسل وجهه أولا ثم تمضمض واستنشق واستنثر فلا بأس، لكن الأفضل أن يبدأ بالمضمضة والاستنشاق؛ لأن المضمضة والاستنشاق فيهما شيء من البطون، يعني: أنها باطنة، فكان البدء بتنظيفها أولى من الظاهرة؛ لأن الوجه ظاهر. ومن الفوائد: مشروعية الاستنثار، فهل الاستنثار واجب؟ الجواب: لا، الاستنشاق هو الواجب والاستنثار سنة، كما أن المضمضة واجبة، ولفظ الماء سنة وليس بواجب، ثم قال المؤلف: 30 - وعن علي رضي الله عنه - في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "ومسح برأسه واحدة". أخرجه أبو داود. 31 - وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنهما - في صفة الوضوء- قال: "ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه، فأقبل بيديه وأدبر". متفق عليه - وفي لفظ لهما: "بدأ بمقدم رأسه، حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه". 32 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما - في صفة الوضوء- قال: "ثم مسح صلى الله عليه وسلم برأسه، وأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه". أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن خزيمة. سبق لنا في حديث حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه أن عثمان دعا بوضوء وذكر الحديث، وهذا أجمع حديث في باب الوضوء، ولهذا جاء به المؤلف رحمه الله عمدة، فكل الروايات التي بعده ما هي إلا تفريع أو ذكر بعض أجزاء هاذ الحديث العظيم.

قال: "وعن علي رضي الله عنه ... " الحديث، "مسح": يعني النبي صلى الله عليه وسلم "برأسه" أي: على رأسه، لكن الباء هنا أتت في مكان (على) للإشارة إلى أن المسح استوعب الرأس، فإن الباء تفيد الاستيعاب كما في قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29]. والرأس معروف: هو منابت الشعر، وأما الرقبة والجبهة فليست منه، وقوله: "واحدة" أي: مسحة واحدة، ولا يعارضه حديث عبد الله بن زيد الذي يأتي بعده، فإنما خفف في تطهير الرأس لمشقة غسلها، فإنه لو غسل لكان ذلك مشقة على الإنسان، ولاسيما في أيام الشتاء إذا جعل الماء يتسرب على وجهه ورقبته وثيابه، فلهذا خفف فيه ولله الحمد، ثم جعل واحدة؛ لأنه يحصل بها كمال التعدد، فالتكرار لا يليق أن يقال: يطلب التكرار في موضوع خفف أصل التطهير فيه، فلا ينبغي أن يكرر، قال العلماء: إنه لا تكرار في كل ممسوح. يستفاد من هذا الحديث: أن الواجب في مسح الرأس مرة واحدة لا يزيد عليها، ويستفاد من ذلك: تخفيف الشريعة الإسلامية وسهولتها ويسرها. وعن عبد الله بن زيد في - صفة الوضوء- قال: " .... ومسح رأسه فأقبل بيديه وأدبر" معنى "فأقبل بيديه وأدبره": أنه مسح بيديه جميعا ولم يمسح بيد واحدة بل باليدين جميعا، أقبل وأدبر: أي بدأ بما هو يستقبل بدنه وهو الناصية وأدبر من الخلف، ولذلك فسره بقوله في اللفظ الآخر: "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه"، وهذا لا ينافي حديث علي رضي الله عنه؛ لن هذه المسحة في الكيفية فقط؛ لأن الرأس كما تعلمون شعره من الناصية متجه إلى الإمام، وشعره من الخلف متجه إلى الخلف، فإذا مسحه من عند الناصية استقبل بطون الشعر، ويستقبل بالنسبة للخلف ظهور الشعر، ثم إذا عاد استقبل بطون الشعر من الخلف، وظهور الشعر من جهة الناصية هذا هو الحكمة في أن يأتي بالمقدم إلى ما ينتهي من المؤخر، ثم يعود. وفي الحديث من الفوائد ما سبق الإشارة إليه وهو: أنه لابد من المسح، فلو غسله بدلا عن مسحه فهل يجزئ؟ قال بعض العلماء: إنه يجزئ؛ لأنه انتقال من الأخف إلى الأعلى، والصحيح أنه لا يجزئ؛ لأنه خلاف ما أمر الله به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، ولهذا كان هناك قول ثالث في المسألة وهو: أنه يجزئ الغسل إن أمر يده على رأسه؛ لأنه إذا أمر يده على رأسه صار ماسحا، لكنه جعل في ماء المسح، وهذا القول له حظ من النظر، لكن لو أراد الإنسان التعنت والتنطع فربما يقال: إنه لا يصح حتى ولو مسح يده بعد

غسلها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون - قالها ثلاثا-"؛ ولإنكاره على الذين واصلوا متشددين في صيامهم، فيمكن أن يقال: حتى وإن مسح على رأسه مع الغسل فإنه لا يجزئ؛ لأنه من باب التنطع، والتنطع هلاك. قال: وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- في صفة الوضوء- قال: "ثم مسح برأسه وأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهامه ظاهر أذنيه" هذا يبين صفة المسح - مسح الأذنين-. هل يمسح الأذنان؟ الجواب: نعم، يمسح الأذنان مع الرأس لأنهما منه، ولكن كيفية ذلك أن يدخل السباحتين في الأذنين، والسباحتان هما السبابتان، والسبابتان هما ما بين الإبهام والوسطى، سميتا بذلك؛ لأن الإنسان يشير بهما عند التسبيح وعند السب والشتم. وقوله: "في أذنيه" يعني: في ثقب الأذنين، واختيرت السباحة؛ لأنها هي التي يشار بها عادة ويعمل بها عادة، فلذلك خصت من بين سائر الأصابع. وقوله: "ومسح بإبهامه ظاهر أذنيه" الإبهامان معروفان، وظاهرهما يعني: ظاهر الأذنين، وهما الجهة التي تلي الرأس، وأما الغضارين فلا يجب مسحها وإنما المسح خاص بالصماخ وظهور الأذنين فقط. ففي هذا الحديث دليل على مشروعية مسح الأذنين، والصحيح أن مسحهما واجب؛ لأنهما من الرأس، وفيه أيضا: بيان كيفية مسح الأذنين وهو أن يدخل الإنسان السبابتين في صماخيهما ويمسح ب‘بهامه ظاهرهما. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يشرع تكرار مسح الأذنين؛ لأن الحديث ليس فيه التكرار، وقد ذكرنا فيما سبق في مسح الرأس، أنه إنما يمسح مرة واحدة، وكذلك الأذنان؛ لأنهما ملحقان به، ويشبه إلحاق الأذنين بالرأس إلحاق الأنف بالجبهة في السجود، يعني: فهما ليسا عضوين مستقلين لكنهما عضوان تابعان للرأس فيجب مسحهما كمسح الرأس. 33 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه". متفق عليه. "استيقظ": أي صحى من النوم، وقوله: "من نومه" لم يقيد بنوم ليل أو بنوم نهار، ولكن قوله: "فإن الشيطان يبيت" يفيد أن المراد بالنوم هنا: نوم الليل، وسيأتي الكلام عليه في الفوائد إن شاء الله.

وقوله: "فليستنثر ثلاثا" الاستنثار هو إخراج الماء من الأنف بعد استنشاقه، يعني: أن تستنشق الماء أولا ثم تستنثره. وقوله: "ثلاثا" أي: ثلاث مرات، ولم يبين هل لكل استنثارة غرفة أن إنه يستنثر بغرفة واحدة؟ والجواب: أن هذا مما يتسامح فيه إن شاء بغرفة واحدة، وإن شاء بثلاث غرفات. وقوله: "فإن الشيطان يبيت على خيشومه" (أل) هنا للجنس وليست للعهد، فلا يخص شيطانا معينا؛ بل المراد جنس الشياطين. أسئلة: - كيف يمسح أذنيه؟ - ما هو ظاهر الأذنين؟ - ما معنى الاستنثار؟ وقوله: "إذا استيقظ أحدكم من نومه" قلنا: إن كلمة "نوم" عامة، وطريق العموم فيها أنها مضافة، والمفرد المضاف يكون للعموم، وقوله: "فإن الشيطان" قلنا: المراد بـ "أل" هنا الجنس، يعني: ليس شيطانا معينا بل جنس الشياطين. "يبيت على خيشومه" أي: على أنفه؛ لأن الخيشوم تطلق على الأنف كله، وتطلق على العظام الرقيقة التي هي داخل الأنف. في هذا الحديث فوائد منها: أمر من استيقظ من النوم أن يستنثر ثلاثا، يستفاد من قوله: "فليستنثر ثلاثا"، وهل هذا الأمر للوجوب أو لا؟ نقول: الأصل في الأمر الوجوب لاسيما وأن النبي صلى الله عليه وسلم علل ذلك بأمر يجب التنزه عنه، وهو أثر الشيطان الذي يبيت على الخيشوم. ومن فوائد هذا الحديث: تكرار التطهير ثلاثا لقوله: "فليستنثر ثلاثا" فهل يؤخذ من هذا أن إزالة النجاسة لابد أن تكون بثلاث غسلات، وأنه لا يكتفى بمرة واحدة ولو زالت النجاسة؟ يحتمل هذا وهذا، ويحتمل أن يقال: إنه يقاس عليه بقية النجاسات كما ذهب إليه بعض الفقهاء، وقال: إنه يشترط في إزالة النجاسة أن تكون بثلاث غسلات، والمذهب - كما هو معروف عندكم- لابد من سبع غسلات. ومن فوائد هذا الحديث: اعتبار التثليث في كثير من الأحكام الشرعية كما في هذا الحديث ونظائره. ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قرن الحكم بعلته، وقرن الحكم بالعلة له فوائد: منها: العموم إذا كانت هذه لعلة موجودة في غير ما نص عليه.

ومنها: تنشيط الإنسان على العمل أو نفوره منه؛ فإن كان في خير فإنه ينشط، وإن كان في غيره فإنه يهرب ولا ينشط، وهذا من باب الترهيب لقوله: "فإن الشيطان يبيت على خيشومه". ومنها: ثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن علمه بأن الشيطان يبيت على خيشومه لا يدرك بالحس؛ فإنه لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يطلعوا على هذا ما اطلعوا عليه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك عن طريق الوحي؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام- لا يعلم الغيب. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره العموم، أي: عموم الأمر بالاستنثار في كل نوم لقوله: "من نومه"، ولكن العلة تقتضي التخصيص حيث قال: "فإن الشيطان يبيت على خيشومه". فمن العلماء من أخذ بالعموم، وقال: إن تعليل بعض أفراد العام بعلة لا يقتضي التخصيص. ومن العلماء من قال: بل العلة تخصيص العام، وعلى كل حال: الاحتياط أن يستنثر الإنسان ثلاثا حتى في نوم النهار؛ لأن اللفظ يحتمله، وعود العلة على بعض أفراده لا يقتضي التخصيص، كما أن عود الحكم على بعض الأفراد داخل في التخصيص. ونضرب لهذا مثلا بحديث جابر: "قضى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة". إذا نظرنا إلى أول الحديث: "قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم"، قلنا: إن الشفعة ثابتة لكل شريك باع شريكه نصيبه المشترك سواء كان من الأراضي أو من السيارات أو من المعدات أو غيره لعموم قوله: "في كل ما لم يقسم" حتى في الثياب، وإذا نظرنا إلى قوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق" قلنا: إن هذا يقتضي أن يكون المراد بالعموم في قوله: "في كل ما لم يقسم": الأراضي فقط؛ لأنها هي التي يقع فيها الحدود ويصرف فيها الطرق، ولهذا اختلف العلماء - رحمهم الله- هل الشفعة واجبة في كل شيء أو في الأرض التي تجب قسمتها أو تجوز حسب الاختلاف المعروف عند العلماء، ومن ذلك قوله تعالى: {والمطلقت يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} [البقرة: 228]. وهذا عام، المطلقات تشمل من لزوجها الرجعة عليها ومن لا رجعة له عليها، لكن قوله: {بعولتهن أحق بردهن في ذلك} يقتضي أن يكون المراد بالمطلقات هنا الرجعية، والعلماء جمهورهم على الأول: أن جميع المطلقات يلزمهن أن يتربصن ثلاثة قروء ولم يلتفتوا إلى تخصيص الحكم في بعض الأفراد ولا شك أن الاحتياط الأخذ بالعموم سواء في هذا أو في هذا، يقول: 34 -

وعنه - يعني: أبي هريرة أيضا رضي الله عنه-: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم. الجملة الأولى في هذا الحديث مطابقة تماما للجملة الأولى في الحديث الذي سبقه، لكن ما بعدها يخالفهما؛ في الحديث الأول فيه الأمر، والحديث الثاني فيه النهي: "فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا" يعني: حتى يغسلها بعد النوم ثلاثا، أي: ثلاث مرات. "فإنه لا يدري أين باتت يده". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، فإنه - أي: المستيقظ- لا يدري أين باتت يده، وقوله: "لا يدري" أي: لا يعلم أين باتت يده، من المعلوم أن النبي - عليه الصلاة والسلام- لا يريد: لا يعلم أباتت معه في الفراش أو باتت في مكان منفصل لا يريد هذا إطلاقا، لكن يريد: لا يعلم أين باتت يد من حيث التصرف والعمل، فقد تكون حركت إلى أماكن قذرة أما ما أشبه ذلك. هذا قول بعض العلماء، ولذلك سيأتي أنهم يقولون: إنه إذا باتت يده في جراب أو نحوه مما يتيقن الإنسان أنها لم تصب شيئا نجسا؛ فإنه لا يدخل في هذا الحديث، وقيل: "لا يدري أين باتت يده" من الناحية الغيبية، وهو أنه ربما يكون الشيطان قد عبث بيده في منامه، كما أنه يبيت على خيشومه يبيت على يده ويلوثها بأقذار أو أنجاس تؤثر في الإنسان، وهذا الأخير هو الأقرب. على هذا نستفيد من هذا الحديث فوائد منها: أن الإنسان إذا استيقظ من النوم فإنه لا يجوز أن يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا للنهي، والأصل في النهي التحريم. ومنها: هل يجوز أن يغمس بعضها لقوله: "فلا يغمس يده"؟ لا؛ لأن الأصل فيما أضيف إلى اليد أن يكون عاما لها، واليد إذا أطلقت فإنها إلى الكف، وإذا قيدت إلى المرفق تقيدت به، لكن عند الإطلاق تكون إلى الكف، ويحتمل أن يقال: نرجع إلى القاعدة العامة "أن المنهي عنه يتناول النهي فيه جزأه وكله"، وأن غمس بعض اليد كغمس اليد كلها، وهذا هو الأصح؛ لأن الأصل في النهي عنه أن يعم جميع المنهي عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"، وعلى هذا فيكون النهي شاملا لغمس اليد كاملة أو غمس جزء منها. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب تطهير ما يشك في كونه نجسا لقوله: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"، وهذا مبني على أن التعليل هذا يعني أنه ربما تلوثت يده بنجاسة وهو لا يدري، لكن هذا القول ضعيف، ولذلك لما كان هذا التعليل هو الذي ذهب إليه بعض العلماء

وجوب المضمضة والاستنشاق

قال آخرون: إن النهي هنا ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة؛ لأن الأشياء لا تنجس بمجرد الظن، ولكن الصواب أن معنى قوله: "لا يدري أين باتت يده": أنه ربما يكون الشيطان قد عبث بها وأدخل فيها الأوساخ والأقذار وهو لا يعلم. ومن فوائد هذا الحديث: أن فيه إثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن مثل هذا لا يعلم بالحس وإنما يعلم بالوحي؛ إذ إن هذا حال الإنسان وهو نائم لا يعلم أحد ما يحدث له. ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ذكر الحكم مقرونا بالعلة. ومنها: سلوك جانب الاحتياط لقوله: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" بخلاف الأول، فإن الأول يقول: "فإن الشيطان يبيت على خيشومه" ففيه الجزم بأن الشيطان يبيت على خيشومه، أما هذا فيقول: "فإنه لا يدري أين باتت يده" ففيه إيماء إلى سلوك جانب الاحتياط، وأن الإنسان ينبغي له أن يبتعد عما يحتمل أن يكون فيه مضرة عليه، فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا فهل يتغير الماء أو لا يتغير أو يأثم أو لا يأثم؟ إذا قلنا: إن النهي للتحريم فهو آثم، وإذا قلنا للكراهة فليس بآثم، أما الماء فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض له، فالصواب أنه يكون طهورا وأنه لا يتأثر بنجاسة، ولا يتأثر بانتقاله من طهورية إلى طاهر، بل الأصح أنه ليس هناك قسم يسمى طاهرا. وجوب المضمضة والاستنشاق: 35 - وعن لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائما". - أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة. "أسبغ الوضوء"، يعني: أشمل به جميع الأعضاء التي أمر بها؛ لأن الإسباغ معناه: الشمول كما قال الله تعالى: {وأسبغ عليكم نعمه ظهرة وباطنة} [لقمان: 20]. وعلى هذا فهو إشارة إلى الكيفية لا إلى الكمية، أي: فلا يدخل تكرار غسل ما يشرع تكرار غسله، وإنما المراد: التعميم، فإذا كان المراد التعميم كان الأمر هنا للوجوب، وإذا كان يشمل التعميم ويشمل الكمية صار الأمر هنا مشتركا بين الوجوب والاستحباب، وقوله: "الوضوء" الضوء هو: تطهير الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة. "وخلل هذه الأصابع" خلل بينها، أي: أدخل أصابعك بين الأصابع، وهل المراد أصابع اليد

أو أصابع الرجل أو الجميع؟ ظاهر الحديث أنه الجميع، يخلل أصابع اليدين ويخلل أصابع الرجلين، لكنه في الرجلين أوكد؛ لأن تلاصق الأصابع في الرجل أشد من تلاصقها في اليد. وقوله: "بالغ في الاستنشاق" الاستنشاق هو: جذب الماء بنفس إلى داخل الأنف إلا أن تكون صائما؛ يعني: فلا تبالغ في الاستنشاق حذرا من أن ينزل الماء من الأنف إلى المعدة فيكون هذا سببا للإفطار. ففي هذا الحديث فوائد منها: وجوب إسباغ الوضوء هذا إذا قلنا الإسباغ بمعنى الشمول والتعميم، وأما إذا قلنا أسبغوا، أي: ائتوا به كاملا فإنه يجب فيما فيه التعميم ويستحب فيما فيه الكيفية. ومن فوائد هذا الحديث: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إتمام الوضوء، وعلى أنه لا ينبغي التهاون به. ومن فوائده: أنه إذا كان الإنسان مأمورا بإسباغ الوضوء وهو من شروط الصلاة؛ فإكمال الصلاة من باب أولى؛ يعني: إذا كنا مأمورين بأن نحرص على شروط الصلاة ونعتني بها فالصلاة من باب أولى، فيكون فيه إشارة إلى أنه يجب الاعتناء بالصلاة. ومن فوائد هذا الحديث: الأمر بتخليل الأصابع، وهل الأمر للوجوب؟ في هذا تفصيل إن كانت متلاصقة جدا بحيث لا يصل الماء إلى ما بينها فالتخليل واجب، وإن كانت متسعة فالخليل ليس بواجب. فإن قال قائل: وهل للتخليل صفة مشروعة أو هو مطلق خلل بأي إصبع شئت، وعلى أي كيفية شئت؟ فالجواب: أن ألأمر واجب، ولكن بماذا تبدأ؟ نقول: ابدأ بالخنصر بالنسبة لليمنى، ثم البنصر ثم الوسطى، ثم السبابة، ثم الإبهام. بالنسبة لليسرى تكون بالعكس يبدأ بالإبهام إلى الخنصر. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية المبالغة في الاستنشاق لقوله: "بالغ في الاستنشاق" إلى حد يصل إلى احتمال نزول الماء إلى المعدة، دليل أن هذا حد المبالغة: الاستثناء في قوله: "إلا أن تكون صائما". ومن فوائد الحديث: أن ما وصل إلى المعدة من الشراب عن طريق الأنف كالذي يصل إلها عن طريق الفم لقوله: "إلا أن تكون صائما". ومن فوائد هذا الحديث: أن الصائم لا يسن له المبالغة في الاستنشاق سواء كان صومه نفلا أو فرضا. ومن فوائد هذا الحديث: الأخذ بالاحتياط؛ لأن المبالغة في الاستنشاق للصائم ربما ينزل الماء إلى بطنه، فيحتاط الإنسان ولا يبالغ. فإن قال قائل: إذا كان الإنسان يتضرر بالمبالغة؛ لأن بعض الناس يتضررون بها، بأن يحصل

لهم احتقان في الأنف أو حساسية أو ما أشبه ذلك، فإنا نقول: يكتفي في ذلك بأن يدخل الماء إلى منخريه. وهل يستفاد من هذا أن الاستنشاق واجب؟ قد يقول قائل: إنه يفيد أن الاستنشاق واجب لقوله: "بالغ فيه"، وسبب المبالغة لا يتحقق إلا إذا وجد الأصل، وقد يقال: إنه لا يدل على الوجوب؛ لأن الأمر بالصفة أمر بها إذا وقع الفعل، فيقال: بالغ في الاستنشاق إن استنشقت، وقد سبق لنا أن الآية الكريمة تدل على وجوب المضمضة والاستنشاق؛ لأنهما من الوجه. ومن فوائد هذا الحديث: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من الأمة أمر للجميع؛ ولهذا يستعمل العلماء - رحمهم الله- الاستدلال بمثل هذه الأحاديث الموجهة إلى الواحد على أنها للعموم وهو كذلك، فخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من الأمة خطاب لجميع الأمة إلى يوم القيامة. فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لأبي بردة بن نيار في العناق: "إنها لن تجزئ عن أحد بعدك". وهذا تخصيص فما الجواب؟ الجواب من أحد وجهين: الوجه الأول: إما أن نقول: إن هذا نص النبي صلى الله عليه وسلم على خصوصيته، وكونه ينص على خصوصيته دليل على أنه لولا أنه لم يخصص بهذا لكان الحكم عاما، ولهذا لما قال الله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك} [الأحزاب: 50]، فدل ذلك على أن ما لم يخصص به الرسول - عليه الصلاة والسلام- فهو عام له وللأمة. هذا وجه. الوجه الثاني: أن المراد بالبعدية هنا: بعدية حال وصفة؛ أي: لن تجزئ عن أحد لم تصل به الحال إلى حالك التي وصلت إليها، وهذا الثاني اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأنه يقول: الأحكام الشرعية تبنى على الأوصاف والعلل والمعاني، وليست على الأشخاص؛ لأن الناس عند حكم الله عز وجل واحد، فلا يخص أحدا بعينه؛ لأنه فلان بل يخص بوصفه لا بعينه، وما ذهب إليه رحمه الله هو الحق؛ أي: أن الشرع لا يمكن أن يخصص أحدا بعينه؛ لأنه فلان بل لابد من وصف إذا وجد في غيره ثبت الحكم في حقه. قال: "ولأبي داود في رواية: "إذا توضأت فمضمض". فعلى هذا يكون في حديث لقيط ذكر الاستنشاق وذكر المضمضة، والمضمضة صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بها إذا توضأت فمضمض،

استحباب تخليل اللحية

والمؤلف رحمه الله أراد بسياق هذه الأدلة الدالة على وجوب المضمضة والاستنشاق أراد بذلك التأكيد، وإلا فلا شك أن الأنف والفم داخلان في الوجه. استحباب تخليل اللحية: 36 - وعن عثمان رضي الله عنه قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته في الوضوء". أخرجه الترمذي، وصححه ابن خزيمة. اللحية معروفة: هي الشهر النابت على اللحيين والخدين كما ذكر ذلك صاحب القاموس، وعلى هذا فالعوارض من اللحية، ولا ضرر أن تكون اللحية مشتملة على اسم يعم أجزاء لكل واحد منها اسم خاص، كما لو قلت: "اليد" مثلا فيها الكف، وفيها الأصابع، وفيها الذراع، وفيها المرافق، وكلها يشملها اسم اليد، كذلك أيضا اللحية نقول: هي لكل شعر الوجه واللحيين، ولا مانع من أن نقول: هذا عارض، وهذا ذقن، وهذا كذا، وهذا كذا، لا مانع، وإنما أشرت إلى هذا؛ لأن بعض الناس قال: إن المراد باللحية: الذقن فقط دون ما ينبت على اللحيين، ودون ما ينبت على الخدين؛ لأن ذلك له اسم خاص، فيقال: إنه لا مانع من أن يكون الاسم يطلق على شيء له أجزاء لكل واحد منها اسم خاص، الرأس الآن فيه مؤخر ويمين وشمال وهو يطلق عليه اسم رأس. قوله: "كان يخلل لحيته في الوضوء"، أي: يدخل الماء فيما بين الشعر من أجل أن يصل الماء إلى جميع الشعر، وظاهر الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخللها مع طولها، ومن المعلوم أن لحية النبي صلى الله عليه وسلم كانت كثة عظيمة. فيستفاد من هذا الحديث: استحباب تخليل اللحية، ولا يكون وجوبا؛ لأن ذلك مجرد فعل، والفعل لا يدل بمجرده على الوجوب. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي تطهير الشعر النابت على محل الفرض، وأما الشعر الذي دونه كالشعر الذي على الرقبة فلا، ولم يذكر شعر الحاجب وشعر الأهداب؛ لأن هذه لا

حكم الدلك

تحتاج إلى تخليل إذ إنها قليلة، والغالب أنها تكون خفيفة، وهذا وقد ذكر العلماء - رحمهم الله- أن الشعر النابت على الوجه ينقسم إلى قسمين: خفيف، والثاني كثيف. فالخفيف: هو الذي ترى من ورائه البشرة. والكثيف: هو الذي لا ترى من ورائه البشرة، ثم قسموا تطهيرها للشعر إلى ثلاثة أقسام، فقالوا: إما في التيمم فلا يجب إلا مسح ظاهر الشعر، ولا يجب أن يوصل الإنسان التراب إلى داخل الشعر سواء كان على جنابة أو كان على حدث أصغر، وأما إذا كانت الطهارة طهارة جنابة؛ فإنه يجب إيصال الماء إلى الشعر ظاهره وباطنه، سواء كان خفيفا أو كثيفا، وهذان متقابلان، التيمم لا يجب مطلقا، والغسل من الجنابة يجب مطلقا، وأما الوضوء فإن كان الشعر خفيفا ترى من ورائه البشرة وجب إيصال الماء إليه، وإن كان كثيفا لم يجب إيصال الماء إلى باطن الشعر، واكتفي بغسل ظاهره. ثم اختلف العلماء - رحمهم اله- في المسترسل من شعر اللحية هل يجب غسله أو لا يجب إلا ما كان على قدر اللحيين فقط؟ والصحيح: أن غسله واجب؛ لأنه داخل في عموم الوجه، وقد قال الله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]. فإن اللحية وإن طالت يجب في الوضوء أن يغسلها الإنسان، إما أن يغسل ظاهرها إن كانت كثيفة، أو ظاهرها وباطنها إن كانت خفيفة. أسئلة في إسباغ الوضوء: - هل الأمر للوجوب أو لا؟ - هل اللفظ المشترك يستعمل في معنين؟ الراجح يستعمل بشر ألا يتنافيا. - لماذا قال: "إن أن تكون صائما"؟ - لو وصل الماء عن طريق الأذن إلى المعدة هل يفطر؟ لا - هل يؤخذ من حديث لقيط اتباع الاحتياط؟ نعم. - هل نأخذ من حديث عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذا لحية؟ حكم الدلك: 37 - وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بثلثي مد، فجعل يدلك ذراعه". أخرجه وصححه ابن خزيمة. "أتى بثلثي مد" والمد: ربع الصاع - صاع النبي عليه الصلاة والسلام- وصاع النبي - عليه

الصلاة والسلام- أقل من الصاع المعروف عندنا بالخمس وزيادة، يعني: ثمانين من مائة وخمسة، هذا صاع النبي - عليه الصلاة والسلام- بالنسبة لأصواعنا فهو قليل، والمد: ربع الصاع، وثلثا المد يعني الثلثين ... قليل، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بثلثي مد، وهذا أقل ما روي أنه توضأ به، وأكثر ما يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع. فيستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي الإسراف في استعمال الماء، وأن الإنسان يقتصر على أدنى ما يمكن إسباغ الوضوء به؛ وقوله: "فجعل يدلك ذراعيه". الدلك هو مسح الشيء على وجه فيه شدة حتى يسبغه؛ لأن الماء قليل فلابد من دلك حتى يسبغ ذراعيه، والذراع: هو الساعد الذي بين المرفق والكتف. فيستفاد من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يسرف في استعمال الماء؛ لأنه يقتصر على ثلثي مد. فإن قال قائل: وهل ممكن؟ قلنا: نعم، هذا ممكن إذا كان الرسول - عليه الصلاة والسلام- فعله فهو ممكن؛ لأنه أسوتنا، أما على ما نحن عليه الآن من هذه الصنابير فإن الإنسان يتوضأ بكم؟ يمكن بأكثر من صاع؛ لأنه لا يزال الماء في الصنوبر يمشي ولا يمكن أن تقدر - قدره، ولهذا رأينا في بعض المناطق في الحجاز أنهم يستعملون استعمالا جيدا جعلوا البزبوز الصمام الذي يكون للغاز، لأنه ضيق فلا يسرف كثيرا، وهذا لا شك أنه جيد، خصوصا في الأماكن العامة التي لا يقدر فيها الناس قدر الماء. وفي هذا الحديث أيضا: استحباب دلك الأعضاء لقوله: "فجعل يدلك"؛ فيستحب منه الدلك، ولكن هذا فيما إذا كان الماء كثيرا يسبغ بدون دلك، فالدلك يكون سنة؛ لأنه أبلغ في الإسباغ، أما إذا كان الماء قليلا لا يمكن أن يجزي على الأعضاء إلا بدلك، فالدلك واجب وهذا القول وسط بين قولين: الأول: أن الدلك واجب مطلقا؛ لأنه لا يتيقن أن الماء وصل إلى جميع العضو إلا بالدلك؛ إذ إن الجلد فيه شيء من الدهون، فقد لا يصل الماء عن موضع الجلد فلا يدرك الواجب. الثاني: بعض العلماء: -وهم الأكثر 0 يقولون: إن التدليك سنة، وفي هذا يقول القحطاني في نونيته رحمه الله: [الكامل] الغسل فرض والتدلك سنة ... وهما بمذهب مالك فرضان لكن الصحيح: التفصيل؛ إذا كان الماء كثيرا ينتشر على الجلد بلا إشكال فالدلك سنة،

صفة مسح الرأس والأذنين

وإن كان قليلا فالدلك واجب. إذا نزلنا هذا الحديث على ما ذكرنا من التفصيل يكون الدلك واجبا. صفة مسح الرأس والأذنين: 39 - وعنه رضي الله عنه: "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ لأذنيه ماء غير الماء الذي أخذه لرأسه". أخرجه البيهقي - وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ: "ومسح برأسه بماء غير فضل يديه". وهو المحفوظ. "وعنه" يعني: عبد الله بن زيد، أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ ماء لأذنيه، ماء غير الماء الذي أخذه لرأسه، والماء الذي أخذه لرأسه مسح به الرأس، ثم أخذ لأذنيه ماء جديدا غير الماء الذي أخذ لرأسه. يقول المؤلف معقبا على هذه الرواية: وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ: "ومسح برأسه بماء غير فضل يديه". وهو المحفوظ. وعلى هذا تكون رواية البيهقي شاذة؛ لأن المخرج واحد، ورواية مسلم أقوى، والمعروف في علم المصطلح أنه يقدم الأقوى ولو كان الثاني ثقة، ويكون الأقولا محفوظا والثاني شاذا، ولهذا نقول: المخالفة في الزيادة إن لم تكن منافية وجاءت من ثقة فهي مقبولة كما لو روى الحديث مستقلا، وإن جاءت الزيادة منافية نظرنا إلى إن كانت منافية لمن هو أوثق مع ثقة ناقليها فهي شاذة، وإن كان الزائد ضعيفا فهي منكرة وغير الزائد يسمى معروفا، فعندنا المعروف يقابل بالمنكر، والمحفوظ يقابل بالشاذ. وأما حكم هذه المسألة فرواية البيهقي تدل على أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ لأذنيه ماء غير ما مسح به رأسه، ولكن هذا لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولولا أن الحديث أتى من وجه واحد لقلنا: لعل النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا تارة وهذا أخرى، أو لعله يأخذ ماء لأذنيه إذا نشفت يداه وكان لابد من أن يأخذ ماء، لكن ما دام الوجه واحدا والطريق واحدا وجاءت رواية مسلم أنه أخذ ماء جديدا للرأس دون الأذنين فإنها مقدمة على رواية البيهقي. أخذ الفقهاء - رحمهم الله- بما دلت عليه رواية البيهقي، وقالوا: يسن أن يأخذ ماء جديدا

فضل إسباغ الوضوء

لأذنيه، ولكن هذا القول ضعيف، نعم لو فرض أن اليد يبست نهائيا ولم يكن فيها بلل إطلاقا فحينئذ يحتاج إلى أن يبل بماء جديد، وهذا يتصور فيما إذا كانت الريح شديدة وكان الشعر كثيفا، وإلا فإن الغالب أنه يبقى البلل. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يمسح الأذنين بما بقي من الرأس هذا على رواية مسلم. ومن فوائده: أنه يأخذ ماء جديدا لكل عضو لقوله: "غير فضل يديه"، ولكن لو فرض أنه لم يأخذ فهل يصح الوضوء أو لا؟ يعني: لو أن إنسانا غسل يديه وبقي فيهما بلل ومسح بهما رأسه فهل يجزئ أو لا؟ نقول: أما على قول من يرى أن الماء المستعمل في طهارة واجبة يكون طاهرا غير مطهر فإنه لا يصح أن يمسح رأسه بالماء الفاضل بعد غسل اليدين؛ لأن هذا الفاضل يستعمل لطهارة واجبة فيكون طاهرا غير مطهر. وأما على القول الثاني: أنه ليس هناك قسم طاهر غير مطهر فإنه إذا بقي بلله يبل به الرأس فلا حرج؛ لأن المقصود مسح الرأس وقد حصل. فضل إسباغ الوضوء: 40 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". متفق عليه، واللفظ لمسلم. قوله: "سمعته يقول: إن أمتي يأتون" والمراد بالأمة هنا: أمة الإجابة؛ لأن الأمة يراد بها أمة الدعوة؛ يعني: الأمة التي وجهت إليها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعم جميع الناس منذ بعث الرسول - عليه الصلاة والسلام- إلى يوم القيامة كلهم أمته، وأمة الإجابة وهم الذين استجابوا للرسول - عليه الصلاة والسلام-، فأمة الدعوة وجهت إليهم الدعوة فمنهم من آمن ومنهم من كفر. وأمة الإجابة هم الذين استجابوا، فكل فضل ورد في الأمة - أمة النبي صلى الله عليه وسلم- فإنه يحمل على أمة الإجابة؛ لأن أمة الكفر ليس لها فضيلة. يقول: "يأتون يوم القيامة" أي: يوم يبعث الناس، وسمي يوم القيامة لوجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن الناس يقومون فيه من قبورهم لله عز وجل كما قال الله تعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 6]. الثاني: أنه يقام فيه العدل لقول الله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئا} [الأنبياء: 47].

والثالث: أنه يقوم فيه الأشهاد كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الأشهد} [غافر: 51]. "يأتون غرا" هذا حال من فاعل يأتون؟ والأغر: هو الفرس الذي في وجهه بياض، وقوله: "محجلين" أيضا حال أخرى، لكن التحجيل بياض يكون في الأرجل في أطرافها. وقوله: "من أثر" (من) هذا للتعليل، "من أثر الوضوء" يجوز فيه الوجهان: الوضوء أي: الماء، والوضوء أي: الفعل وكلاهما صحيح، هذا لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين"؛ ولا منافاة لأنهم يدعون فيأتون كما قال الله تعالى: {كل أمة تدعى إلى كتبها} [الجاثية: 28]. "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل"، وهل يمكن أن يستطيل؟ يقول الن القيم رحمه الله: إنه لا يمكن إطالة الغرة؛ لأن الغرة بياض الوجه، والوجه محدود طولا وعرضا، فلا يمكن أن تطال الغرة، لو أنه خرج بالغسل عن حد الوجه لكان خرج إلى غير الغرة، ولهذا قال في النونية: وإطالة الغرات ليس بممكن ... أيضا وهذا واضح التبيان فكيف نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بما لا يمكن؟ الجواب: أن هذا مدرج من قول أبي هريرة رضي الله عنه، ولهذا جاءت رواية أخرى لهذا الحديث ليس فيها "فمن استطاع"، لكن أدرجه بعض الرواة. وما قاله ابن القيم في هذا الحديث هو الصواب أنه مدرج، والله - سبحانه وتعالى- حدد الغسل - غسل الوجه- فقال: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]. ولو أنا خرجنا عن حد الوجه لكنا تعدينا عن الحد الذي حده الله عز وجل، أخذ بعض العلماء بهذه الزيادة كما سيأتي في الفوائد إن شاء الله. في هذا الحديث فوائد: أن هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم تأتي يوم القيامة على هذا الوصف، وجوههم بيض نور يتلألأ، أيديهم كذلك، أرجلهم كذلك. ومن فوائد الحديث: أن هذا النور والبياض يختص بأعضاء الوضوء فقط التي تغسل وهي الوجه واليدان والرجلان، وأما الرأس فمسكوت عنها؛ لأن الغرة لا تكون إلا في الوجه. ومن فوائد هذا الحديث: أن الجزاء من جنس العمل؛ لأنهم لما طهروا هذه الأعضاء في الوضوء امتثالا لأمر الله عز وجل وتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم كان جزاؤهم مثل العمل، ولهذا تجدون في القرآن الكريم آيات كثيرة {جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. وأمثال ذلك إشارة إلى أن الجزاء

استحباب التيمن

من جنس العمل، ولكن الله عز وجل بفضله ورحمته جعل الجزاء في الحسنات أكثر من العمل، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة هذه الأمة حيث تأتي يوم القيامة على هذا الوجه الذي يشهد به الأولون والآخرون من عمل مضى في حين من الدهر سابق بعيد، فيأتون على هذا الوجه - جعلنا الله وإياكم منهم- ففيه فضيلة لهذه الأمة، ولهذا جاء في الحديث "سيما ليست لغيركم" ... وذكر الحديث، "سيما" يعني: علامة، والحمد لله. ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة الوضوء؛ حيث كان جزاؤه يوم القيامة ظاهرا بارزا للخلائق. ومن فوائد هذا الحديث على ما ذهب إليه بعض العلماء: أنه ينبغي أن يزيد على محل الفرض لتزيد الغرة والتحجيل، وهذا القول ليس له حظ من النظر في هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الناس سيأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء، والوضوء محدد بالقرآن: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]. يعني: لو أن إنسانا خرج وزاد إلى نصف العضد أو إلى الكتف ما كان للوضوء محل؛ إذ أن الوضوء محدد بالمرافق، وفي الرجلين محدد بالكعبين، فلا نقول: توضئوا إلى الركبتين؛ لأن الوضوء محدد، فالحديث لا يقتضي زيادة ولا يدل على فضيلة الزيادة، وبهذا نعرف أن قوله: "فمن استطاع منكم ... " إلخ. مدرج ولا يستقيم لكنه قد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه "أنه توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضد وغسل رجليه حتى أشرع في الساق، وقال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل"، وهذا مرفوع لكن هل إشراعه في العضد إشراع زائد أو على قدر ما يتأتى به الفرض؟ الثاني هو المتعين؛ لأنه لا يمكن أن يجزم بأنه غسل المرفق إلا إذا غسل بعض العضد، وكذلك في الكعبين لا يمكن أن يتيقن أنه غسلهما إلا إذا شرع في الساق، وما ذكرناه هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يعني: أنه لا تسن الزيادة على موضع الفرض في الوضوء. استحباب التيمن: 40 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله". متفق عليه. "يعجبه" أي: يسره، وهل الإعجاب الذي هو السرور والاستحسان شرعي أو طبعي؟ قد

يكون شرعيا، وقد يكون طبيعيا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلوى والعسل هذا شرعي أو طبعي؟ هذا طبعي، وكان يعجبه التيمن؟ هذا شرعي؛ لأنه هو صلى الله عليه وسلم أمر به فقال: "ألا فيمنوا ألا فيمنوا". إذن يعجبه، يعني: يسره ويستحسنه. "التيمن" يعني الأخذ باليمين، "في تنعله"، أي: في لبس النعل إذا أراد أن يلبس النعل بدأ باليمين، وكذلك في "ترجله" إذا أراد أن يجل شعر رأسه بدأ باليمن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان له شعر يصل أحيانا إلى فروع أذنيه، وأحيانا إلى منكبيه؛ لأن اتخاذ الشعر في زمنه يعتبر رجولة وقوة ونشاطا، وأحيانا يجعله ذوائب كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما "أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذؤابته من خلفه"، وأحيانا لا يكون له ذوائب لكن في حق الرسول - عليه الصلاة والسلام- كان يصل إلى شحمة الأذنين، وأحيانا إلى المنكبين. "وطهوره" يعني: تطهره كالوضوء والغسل إلا في العضو الواحد، فإنه يبدأ به جميعا كالرأس مثلا فإنه لا يبدأ بالصفحة اليمنى قبل اليسرى، اللهم إلا أن يقال: إذا كان ليس له إلا يد واحدة فربما يقال: ابدأ باليمين. وقولها: "في شأنه كله" أي: ما يهمه من أمور الدين والدنيا يبدأ باليمن. في هذا الحديث: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- كان يجب التيامن في شأنه كله ونص على ثلاثة أشياء: التنعل، والترجل، والطهور، ولكن هذا الحديث ليس على عمومه أنه في كل الشئون يقدم اليمين، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء باليمن، و"كان يستنثر باليسار"، فليس على عمومه، لكن لا مانع أن يقال: إن النصوص تأتي عامة ولها ما يخصصها، "يعجبه التيمن في شأنه كله" نقول: هذا ليس على العموم كما سيأتي. من فوائد هذا الحديث: أنه إذا أراد الإنسان أن يلبس النعل أن يبدأ باليمن وغير النعل مثلها، فإذا أردت أن تلبس السراويل فأدخل الرجل اليمنى قبل اليسرى، إذا أردت أن تلبس القميص فأدخل اليد اليمنى في كمها قبل اليسرى وعلى هذا فقس.

أسئلة: - ما حكم دلك المتوضئ لأعضائه؟ الدلك إذا كان الماء قليلا لا يصل إلى العضو إلا بدلك فهو واجب، وإن كان الماء كثيرا فهو مستحب. - هل الأفضل الإكثار من استعمال الماء طلبا للنظافة أو التقليل؟ الإقلال الدليل: {ولا تسرفوا} [الأعراف: 31]. ومن فعل الرسول أنه توضأ بثلثي مد. - في حديث أبي هريرة: "إن أمتي يدعون" ما المراد بالأمة؟ - ما الفرق بين غرا ومحجلين؟ الغرة في الوجه، والتحجيل في الأيدي والأرجل. - كيف نعرب "من أثر". - حديث عائشة: "كان النبي يعجبه التيمن" هل قوله: "في شأنه كله" عام؟ لا، ما هو الدليل؟ لا يتمسح من الخلاء بيمينه. - هل في حديث عائشة ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتخذ الشعر؟ نعم، من ذكرها الترجل، والترجل لا يكون إلا في الشعر. - ما هو الترجل؟ تسريح الشعر ودهنه وإصلاحه. - الفوائد: قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله"، يستفاد من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن؛ لأن الإعجاب هنا بمعنى: المحبة والسرور. ومن فوائده: تقديم اليمين على اليسار لقولها: يعجبه التيمن. قال العلماء - رحمهم الله-: إلا في مواطن الأذى والقذر فتقدم اليسرى، وأخذوا هذا الاستثناء من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء باليمين والتمسح بها، وعلى هذا فاليسرى تقدم للأذى واليمنى لما سواه، هذه قاعدة. والأشياء ثلاثة أقسام: أذى ونزاهة، ولا أذى ولا نزاهة، تقدم اليمين في موضعين في النزاهة، وفيما ليس بأذى ولا نزاهة، أما ما فيه أذى وقذر فإنه يقدم له اليسرى. هل يبدأ السواك بيمين فمه أو بشماله؟ نقول: يبدأ بيمين الفم لدخوله في قوله: "وطهوره"، أو في قوله: "وشأنه كله". وهل يمسك السواك باليمنى أو باليسرى؟ قال بعض العلماء: يمسكه باليسرى مطلقا. وقال بعضهم: باليمنى مطلقا، وفصل آخرون. فمن قال: باليسرى، قال: إن السواك آلة تنظيف وآلة تطهير فهي كالحجر يستجمر به

الإنسان، والحجر الذي يستجمر به الإنسان يأخذه باليسار فيتسوك باليسار وهو المذهب عند الحنابلة أنه يستاك بيده اليسرى. وقال بعض العلماء: بل باليمين؛ لأن السواك عبادة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب"، فهو عبادة ولا ينبغي للإنسان أن يفعل العبادة إلا باليمين، لا يفعلها بآلة القذر. وفضل آخرون فقالوا: إن كان السواك لتطهير الفم فيأخذ باليسار، كما لو كان بعد الأكل بعد النوم بعد تغير الفم فيكون باليسار، وإذا كان لمجرد التطوع فهو باليمين كما لو توضأ الإنسان واستاك، ثم جاء إلى الصلاة فورا فهنا الفم لا يحتاج إلى تطهير لكنه يستاك عند الصلاة تسننا وتعبدا لله عز وجل فيأخذه باليمين، ولو قيل: إن الأمر في هذا واسع، وأن ألإنسان إن شاء باليمين وإن شاء باليسار لم يكن بعيدا؛ لأن هذه علل قد لا يستطيع الإنسان أن يجزم ببناء الحكم عليها، فنقول: الأمر واسع، وأما بداءة الفم فيبدأ باليمين الجانب الأيمن. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الترجل لكن هل هو سنة عبادة أو سنة عادة؟ قال الإمام أحمد رحمه الله هو سنة لو نقوى عليه اتخذناه لكن له كلفة ومئونة، كلفة بالعمل ومئونة بثمن الدهن ونحوه، فالإمام أحمد رحمه الله ترك اتخاذ الشعر لهذا وإلا فهو سنة عنده وقيل: إنه سنة عادة، وأن الناس إذا اتخذوه عادة فلا ينبغي للإنسان أن يخرج عن عادتهم، وإن لم يتخذوه فلا ينبغي أن يخالف عادتهم، وهذا عندي أقرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، بل قال في الغلام الذي خلق بعض رأسه: "احلقوه كله أو اتركوه كله". ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يعتني بنفسه في النظافة، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجل شعره، وهذا لا شك أنه تنظيف له، فالذي ينبغي للإنسان ألا يكون أشعث أغبر، بل يصلح من شعره ما يستطيع إصلاحه؛ لما في ذلك من النظافة والتجمل، والله - سبحانه وتعالى- جميل يحب الجمال، وأما أن يبقي نفسه رثا كريه المنظر فهذا ليس من الأدب الإسلامي، الأدب الإسلامي أن يكون الإنسان متجملا كما قال الصحابة - رضي الله عنهم-: يا

رسول الله، إن أحدنا يحب أن يكون وجهه حسنا ونعله حسنة، فقال: "إن الله جميل يحب الجمال". ومن فوائد هذا الحديث: جواز التنعل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنعل لكن هل الأفضل التنعل أو الحفاء، أو في ذلك تفصيل؟ نقول: أما إذا كان الإنسان سيمشي على أرض تضره فلا شك أن التنعل أولى بل قد يكون واجبا؛ لأن الله تعالى قال: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. كما لو كانت الأرض ذات حصى لها أسنة فهنا لا يجوز أن يمشي عليها بلا نعال، مثل أرض الحرة في المدينة، هذه لو مشى الإنسان عليها أمتارا غير بعيدة تقطعت رجله، فهنا نقول: لا يجوز أن يخاطر بنفسه ويمشي على هذه الأرض التي تضره؛ لأن الإنسان مأمور بحفظ نفسه. وأما إذا كانت الأرض عادية فالأفضل أن يحتفي أحيانا ويتنعل أحيانا، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن كثرة الإرفاه ويأمر بالاحتفاء أحيانا". ومن هنا نعرف أن ما يذهب إليه المترفون الذين يلبسون الجوارب والخفين حتى في أحر الأيام صيفا، هذا لا داعي له، اللهم إلا أن يكون في رجله شيء يحب أن يستره، أو أن فيها مرضا لو كشفها تأثرت بالكشف، هذا معذور، أما إن يعود نفسه إلى هذا الحد فإن رجله ستكون أرق من يده؛ لأنها في هذه الحال لا تبدو للشمس ولا للهواء فتكون رقيقة لا يستطيع أن يمشي عليها كما قال لي ذلك بعضهم قال: إني إذا مشيت على رجلي كأني مشيت على خدي من شدة الألم ... لا يستطيع أن يمشي أبدا لأنه عود نفسه على هذه الرفاهية، والرسول - عليه الصلاة والسلام- كان ينهى عن ذلك ويأمر بالاحتفاء أحيانا. ومن فوائد هذا الحديث: استحباب البداءة باليمين في التطهر اليدان والرجلان لا شك أن الإنسان يبدأ باليمين فيهما كما تواترت به السنة. الأذنان هل يمسحهما اليمنى قبل اليسرى أو نقول هما جزء من الرأس يمسحهما جميعا؟ الثاني هو الحق أن الأذنين لا ترتيب بينهما أي بين اليمين واليسار، اللهم إلا إذا كان لا يستطيع أن يمسحهما جميعا، فهنا نقول ابدأ باليمين. إذا كان على الإنسان خفان هل يمسحهما جميعا أو يمسح اليمنى قبل اليسرى؟ هذا فيه احتمال؛ حديث المغيرة بن شعبة ذكر أن النبي صلى الله عليه سلم لما أهوى المغير لينزع خفيه أنه قال:

"دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما"، وهذه الجملة تحتمل أنه مسح عليهما بالترتيب، وتحتمل أنه مسح عليهما جميعا، والعلماء - رحمهم الله- اختلفوا في هذا؛ فمنهم من قال: يمسحان مرة واحدة؛ لأن هذا شأن كل ممسوح وهو ظاهر حديث المغيرة، ومنهم من قال: يبدأ باليمنى؛ لأن المسح عليهما بدل عن الغسل، والغسل يبدأ فيه باليمنى قبل اليسرى، والذي يظهر أن الأمر في هذا واسع إلا إذا كان لا يستطيع المسح إلا بيد واحدة فهنا يبدأ باليمنى. في حال الغسل هل يبدأ بالجانب الأيمن قبل الأيسر أو يغسل الجسم جميعا مرة واحدة؟ الأول أنه يبدأ بالجانب الأيمن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية وهو ممن شارك في غسل إحدى بناته قال: "ابدأن بميامنها ومواضع السجود منها"، وقيل: إنه في الغسل لا يرتب بل يغسل الجسم جميعا؛ لأن الجسم عضو واحد، والعضو الواحد ليس فيه ترتيب، ولكن الأول أولى، يعني: أنه يتيامن حتى في الغسل. 42 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم". أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة. "إذا توضأتم" يعني: فعلتم الوضوء ووصلتم إلى غسل اليدين فابدءوا باليمنى، وكذلك يقال في الرجلين، والأمر هنا هل نقول هو للوجوب أو للاستحباب؟ هو للاستحباب في الواقع؛ لأن الله قال: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]. ولم يرتب؛ وإنما رتب بين الأعضاء دون العضوين الذين هما في مقام العضو الواحد. فيستفاد من هذا الحديث: أن التيامن في الوضوء ثابت في السنة الفعلية والسنة القولية؛ أما ثبوته بالسنة الفعلية ففي حديث عائشة، وأما ثبوته بالسنة القولية ففي هذا الحديث.

المسح على العمامة وشروطه

المسح على العمامة وشروطه: 43 - وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الل عليه وسلم توضأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة والخفين". أخرجه مسلم. قوله رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ" الظاهر أن هذا حين كان معه في غزوة تبوك، فإن الرسول - عليه الصلاة والسلام- قد خدمه المغيرة بن شعبة في تلك الغزوة، وقوله: "فمسح بناصيته" الناصية: مقدم الرأس كما قال الله تعالى: {ما من دابة إلا هو ءاخذ بناصيتها} [هود: 56]. "وعلى العمامة" التي على الرأس، "وعلى الخفين" وهما معروفان. ففي هذا الحديث: جواز المسح على العمامة لقوله: "وعلى العمامة" وفيها مباحث. المبحث الأول: هل يشترط لهذه العمامة أن تكون على صفة معينة، أو نقول: كل ما صدق عليه اسم العمامة فإنه يمسح؟ في هذا قولان. القول الأول: أنه يشترط أن تكون العمامة محنكة، أو ذات ذؤابة، أما كونها محنكة فمعناه: أن يوضع لفة منها تحت الحنك حتى تثبت، وأما كونها ذات ذؤابة: فأن ترخى إحدى ذؤابتيها من الخلف، حتى تنسدل على الظهر. القول الثاني: من العلماء من قال: إن هذا ليس بشرط، وهذا الثاني هـ الصحيح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أن كل ما يطلق عليه اسم العمامة فهو داخل في هذا. المبحث الثاني: هل يشترط أن تكون طاهرة؟ الجواب: نعم، لا شك في هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "أتاه جبريل وهو يصلي وأخبره أن في نعليه قذرا فخلعهما - عليه الصلاة والسلام-"، وإذا كان هذا شرطا في الخفين فالعمامة مثلهما أو أولى. المبحث الثاني: وهل يشترط أن تكون مباحة بحيث لا يصح المسح على العمامة المسروقة أو مقبوضة بعقد فاسد؟ قولان: الأول: أنه لابد أن تكون مباحة، وذلك لأن المسح عليها رخصة، والرخصة لا ينبغي أن تباح بالمعصية. والقول الثاني: أن ذلك ليس بشرط، وأنه يجوز أن يمسح الإنسان على العمامة المحرمة كالمسروقة، والمقبوضة بعقد فاسد، والحرير على الرجل، ولكن الإنسان إذا نظر إلى التعليل

فقد يرجح أنه لابد أن تكون مباحة؛ لأننا إذا أذنا له أن يمسح على المحرمة فهذا إذن له بإبقائها وألا يبالي بها، وإذا قلنا بالمنع فإنه سوف يحرص على أن يزيلها، أو على الأقل ألا يسمح عليها ويبقيها، فالمسألة عندي فيها تردد. المبحث الرابع: وهل يشترط أن يلبسها على طهارة؟ في هذا قولان: القول الأول: أنه يشترط أن يلبسها على طهارة قياسا على الخفين. والقول الثاني: لا يشترط؛ لأن الشرط لابد له من دليل، ولا دليل على هذا، ولا يصح أن تقاس على الرجلين ذلك؛ لأن طهارة العضو الذي عليه هذه العمامة طهارة مخففة وهي المسح، والمسح على العمامة من جنس المسح على الرأس كلاهما واحد، فالطهارة لا تشترط، أما الخف فإن العضو الذي عليه الخف طهارته الغسل فهو أشد، ثم إن مسح الخف ليس من جنس غسل الرجل، فهو طهارة من جنس آخر، وهذا القول أصح، بمعنى: أنه لا يشترط في العمامة أن يلبسها على طهارة؛ لأننا إذا تجاوزنا وقلنا بجواز القياس في العبادات فالقياس لابد من اتفاق الأصل والفرع فيه، وهنا لم يتفق الأصل والفرع. المبحث الخامس: هل لها مدة، أو نقول: ما دام الإنسان معتما فليمسح على العمامة وإذا أزالها فليمسح الرأس؟ قولان: القول الأول: لابد لها من مدة قياسا على الخفين. والقول الثاني: أنها لا مدة لها لعدم الدليل على ذلك، ولو كانت المدة من شريعة الله لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، والقياس على الخفين صحيح أو لا؟ غير صحيح كما علمتم، وعلى هذا فنقول: ما دمت لابسا للعمامة فامسح عليها، وإذا خلعتها فامسح على الرأس، وليس هناك توقيت. المبحث السادس: هل يجوز المسح عليها في الجنابة - يعني" في الغسل-؟ الجواب: ى، لا يجوز المسح عليها في الغسل لقول الله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6]. وليس في طهارة الحدث الأكبر شيء ممسوح إلا ما دعت إليه الضرورة كالجبيرة، والضرورة ليست داعية إلى العمامة، فالعمامة لا يجوز المسح عليها في الحدث الأكبر؛ لأن الحدث الأكبر لابد فيه من تطهير جميع البدن لقول الله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6]. وقوله في الحديث: "وعلى الخفين" يعني: مسح على الخفين، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم تعليلا للمسألة، إلا أنه أدخلهما طاهرتين، فلنأخذ بهذا الشرط حتى نصل إلى باب المسح على الخفين إن شاء الله. أما قوله: "وعلى ناصيته" فقد أخذ منه بعض العلماء جواز الاقتصار على مسح الناصية في الرأس، وأنه لا يجب استيعاب الرأس في المسح، لكن في هذا نظر؛ لأن قوله: "فمسح على

ناصيته، وعلى العمامة" يدل على أنه كان لابسا للعامة، ومعلوم أن الإنسان إذا لبس العمامة فسوف تبدو الناصية، وإذا بدت الناصية فلابد من مسحها، وأما إذا كان الرأس غير مستور بالعمامة فإن الله أمر بمسحه كله في قوله: {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6] , أسئلة: - استدل بعض العلماء بحديث المغيرة على أنه يجوز الاقتصار على مسح بعض الرأس لقوله: "فمسح بناصيته"، فما وجه هذا الاستدلال؟ - كيف نجيب على الاستدلال؟ الحديث جملة واحدة "فمسح بناصيته والعمامة". - قوله: "إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم" هذا يدل على ماذا؟ - هل التيامن في العضو الواحد؟ 44 - وع جابر رضي الله عنه - في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "ابدءوا بما بدأ الله به". أخرجه النسائي، هكذا بلفظ الأمر، وهو عند مسلم بلفظ الخبر. جابر بن عبد الله رضي الله عنه روى صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم على وجه موسع مجموع؛ ولهذا يصح أن يكون هذا الحديث منسكا كما فعل الألباني في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم جعله هو الأصل، وجعل يلحق الروايات التي ليست موجودة فيه إليه، فهو بحق منسكا، ولهذا نرى أن ما وجد من أحاديث تعارضه فإنه يكون مقدما عليها؛ لأنه تابع النبي صلى الله عليه وسلم من حين أحرم إلى أن تحلل. وهذا الحديث رواه مسلم بلفظ: "أبدأ بما بدأ الله به" وهو أنه - عليه الصلاة والسلام- لما فرغ من طوافه صلى ركعتين خلف المقام، ثم مسح الركن - يعني: الحجر الأسود- ثم خرج من الباب - باب المسجد- إلى الصفا، فلما دنا منه قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]. "أبدأ بما بدأ الله به": "أبدأ" بلفظ الخبر، وإنما تلا - عليه الصلاة والسلام- هذه الآية، ثم قال: "أبدا بما بدأ لله به" ليشعر نفسه أنه إنما طاف بين الصفا والمروة، وبدأ بالصفا امتثالا لأمر الله، وهكذا ينبغي لنا نحن إذا فعلنا ما أمر الله به أن نستشعر حين فعله أننا ممتثلون لأمر الله؛ لأن هذا يعطي الإنسان زيادة في الإخلاص واستحضار العبادة. عند الوضوء تشعر أنك إذا غسلت وجهك تمتثل لقول الله: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]. إذا غسلت يديك كذلك، عند الصلاة تستشعر أن الله أمرك بإقامتها، عند صلاة العصر تستشعر أنك تصلي الصلاة الوسطى التي أمر الله تعالى بالمحافظة عليها بخصوصها، وهلم جرا.

المهم: أنه ينبغي لنا أن نستشعر عند فعل الأوامر أننا نمتثل لأمر الله عز وجل وقوله - عليه الصلاة والسلام-: "أبدأ بما بدأ الله به" فيه إشارة إلى أن ما بدأ الله به هو أهم مما يليه وهو كذلك، ومن ثم قال العلماء - رحمهم الله- في آية الصافات: {إنما الصدقت للفقراء} [التوبة: 60]. إن الفقراء أشد حاجة من المساكين؛ لأن الله بدأ بهم، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم. وقوله: "بما بدأ الله به"؛ لأن الله قال: {إن الصفا والمروة}. أما لفظ النسائي فقال: "ابدءوا بما بدأ الله به" بلفظ الأمر وهذا - أي: لفظ الأمر- صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الأمر إلى أمته في هذه العبارة بخصوصها، أما على رواية مسلم: "أبدأ" فإننا في الحقيقة مأمورون بأن نبدأ بما بدأ الله به تأسيا. بمن؟ برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه وإن كان قاله بلفظ الخبر منفذا لأمر الله، لكنه بالنسبة لنا هو في الحقيقة أمر؛ لأن الله أمرنا أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه يكون أمرا غير مباشر، بل عن طريق التأسي. فإن قال قائل: هذا الحديث في الحج فلماذا جاء به المؤلف في كتاب الوضوء؟ قلنا: ليبين أن هذا الحديث عام في أننا مأمورون أن نبدأ بما بدأ الله به، يتفرع على هذا أن نبدأ بغسل الوجه ثم اليدين ثم الرأس، ثم الرجلين؛ لأن الله بدأ بذلك. كذلك يستفاد من هذا الحديث: تقديم ما قدمه الله عز وجل حتى في الذكر سواء استدللت بقوله: "أبدأ" أو بقوله: "ابدءوا". ومن فوائد هذا الحديث: اعتبار العموم دون خصوص السبب لقوله: "أبدأ بما بدا الله به" وهذا عام، وإن كان صورة المسألة التي قال فيها الرسول - عليه الصلاة والسلام- خاصة؛ لكن العبرة بعموم اللفظ. ومن فوائد الحديث: العناية بتدبر القرآن وتقديم ما قدم وتأخير ما أخر، وبذلك نعرف أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن الله قال: {والسبقون الأولون من المهجرين والأنصار} [التوبة: 100]. فالمهاجرون أفضل من الأنصار؛ لأن الله قدمهم، ولأن المهاجرين - رضي الله عنهم- جمعوا بين الهجرة والنصرة، فهم نصروا النبي - عليه الصلاة والسلام- لا شك وهجروا من ديارهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. يستفاد من هذا الحديث: وجوب الترتيب بين الأعضاء لقوله: "ابدءوا بما بدأ الله به"، فنغسل أولا الوجه ثم اليدين، ثم نمسح الرأس، ثم نغسل الرجلين، وهذا واضح. واستنبط العلماء - رحمهم الله- دليل الترتيب من وجه آخر من نفس الآية، وهو أن الله - سبحانه وتعالى- أدخل الممسوح وهو الرأس بين المغسولات، والقاعدة البلاغية تقتضي

حكم البدء بالبسملة

أن يذكر الصنف بعضه إلى بعض، فالمغسول وحده والممسوح وحده، فلما أدخل الله الممسوح بين المغسولات، علم أنه لابد من الترتيب، وإلا لكانت تدفع المغسولات وحدها والممسوح وحده، لكنه لما أدخل الممسوح بين المغسولات، على أنه لابد من الترتيب، وهو كذلك. فلو توضأ الإنسان منكسا فهل يصح وضوؤه؟ ينظر إن كان قصده التلاعب فإنه لا يصح منه ولا الوجه، وإن كان جاهلا أو ظانا أن الأمر لا بأس به؛ يعني: يعرف الترتيب لكن يظن أنه لا بأس بالمخالفة، فهذا نقول: صح منه الوجه ويعتبره أولا، ثم قال المؤلف - رحمه الله تعالى-: 45 - وعنه رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه". أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف. "إذا توضأ" يعني: غسل يديه، "أدار الماء على مرفقيه"، المرفق: هو المفصل بين العظم والذراع، وسمي مرفقا؛ لأن الإنسان يرتفق به في الجلوس، إما على اليمين أو على اليسار، والحديث أتى به المؤلف رحمه الله ليستدل على أنه يجب غسل المرفق لقوله: "أدار الماء على مرفقيه"، ولكن الحديث - كما ترون- يقول: "إن إسناده ضعيف"، وليت المؤلف رحمه الله أتى بدله بحديث أبي هريرة في صحيح مسلم: "أنه توضأ فغسل ذراعيه حتى أشرع في العضد"، فإنه إذا أشرع في العضد لزم أن يغسل المرفقين، والحديث في مسلم، ولكن الإنسان مهما كان فهو قاصر قد يفوته بعض الشيء، وإلا فمن المعلوم أن ابن حجر رحمه الله حافظ جيد في التصنيف، لكن الإنسان تروح عليه بعض الأشياء، إلا أن يقال: إن هذا الحديث كان مشهورا، فأراد ابن حجر رحمه الله أن يبين أنه حديث ضعيف. حكم البدء بالبسملة: 46 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، بإسناد ضعيف. - وللترمذي: عن سعيد بن زيد وأبي سعيد نحوه، وقال أحمد: "لا يثبت فيه شيء".

قوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله" (لا) نافية للجنس، والنفي يدور على ثلاثة أشياء: إما أن يكون نفيا لوجود الشيء وإما أن يكون نفيا لصحة الشيء، وإما أن يكون نفيا لكمال الشيء. يعني: إذا سلط النفي على شيء فإما أن يكون نفيا لوجوده، أو نفيا لصحته، أو نفيا لكماله. فما هو الأصل؟ أن نفي الشيء نفي لوجوده، فإن تعذر وكان موجودا فهو نفي لصحته؛ لأن انتفاء صحته انتفاء لوجوده شرعا، وإن كان موجودا حسا. والثالث: إذا تعذر نفي الصحة رجعنا إلى نفي الكمال، وهذا أبلغ سيء، فمثلا إذا قال قائل: لا خالق إلا الله، فهذا نفي لوجوده، لا يوجد أحد خالق إلا الله، وإذا قلت: لا صلاة بغير وضوء، أي: لا صحة؛ لأن من الممكن أن يقوم قائم فيصلي بغير وضوء، لكن إذا صلى فهذه الصلاة لا وجود لها شرعا. لكن الصحة نفي للوجود الشرعي، وإذا قال: لا صلاة بحضرة طعام، هذا نفي للكمال؛ لأن الإنسان قد يصلي بحضرة طعام ويكون قلبه مشوشا من أجل وجود الطعام لكن تصح صلاته، ويكون هذا نفيا للكمال، هذا الذي معنا: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" تحمله على الوجه الأول؟ لا يمكن؛ لماذا؟ قد يتوضأ ولا يصلي، تحمله على الثاني لا وضوء؟ ممكن هذا هو الأصل؛ أنه لا وضوء له؛ أي: لأنه إذا لم يسم لم يصح وضوؤه، لكن حمله أكثر العلماء على أن المراد: لا وضوء كامل، والذي أوجب لهم ذلك هو أن هذا الحديث بجميع طرقه فيه مقال، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله - إمام أهل السنة-: إنه لا يثبت في هذا الباب شيء، ولهذا كان جميع الواصفين لوضوء الرسول - عليه الصلاة والسلام- لا يذكرون البسملة، ولو كانت فرضا في صحته لوجب أن يذكروها؛ لأنه لا يمكن أن يصح بدونها. إذن فالنفي هنا نفي للكمال وليس نفيا للصحة، فلو أن الإنسان توضأ بلا تسمية عمدا مع الذكر والعلم فإن وضوءه صحيح؛ لأن النفي هنا نفي للكمال. من فوائد هذا الحديث: أن الوضوء لا يصح بدون تسمية بناء على أن النفي للصحة، وبهذا أخذ الفقهاء - رحمهم الله- إلا أنهم يقولون: إن التسمية ليست شرطا، ولا ركنا، ونحن نقول لهم: يجب أن تجعلوها إما شرطا أو ركنا، ولا ضرر بأن يكون الفعل له أركان قولية، فالصلاة - مثلا- أفعل، ولها أركان قوليه، مثل: تكبيرة الإحرام، والفاتحة، والتشهد الأخير، فنحن نقول: إما أن تجعلوه ركنا أو تجعلوه شرطا لكنهم يقولون: لا، إنه واجب يسقط بالنسيان، وهذا غريب، لأننا إذا قلنا: إن النفي هنا نفي للصحة صارت التسمية ركنا أو شرطا لا تسقط بالسهو. ومن فوائد هذا الحديث: أهمية التسمية؛ لأنه يتوقف عليها إما صحة الوضوء أو كمال

الوضوء، ولا شك أن للتسمية أهمية، حتى جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر". وهذا الحديث فيه مقال لكن النووي صححه، ويدلك على أهميتها أنك لو ذبحت شاة بدون تسمية بمدية قوية منهرة للدم؛ صارت حراما كالميتة حتف أنفها، ولو سميت كانت حلالا. ويدلك لهذا أيضا إذا جلس الإنسان على طعامه وأكل بدون تسمية شاركه الشيطان فيه، وإذا سمى لم يشارك؛ إذن فهي حارسة من الشيطان عند الأكل أو الشرب. واختلف العلماء - رحمهم الله- في وجوب التسمية على الأكل والشرب؛ فمنهم من قال: إنها واجبة، ومنهم من قال: إنها سنة، والصحيح أنها واجبة، وأنه يجب على الإنسان أن يسمي إذا أراد الأكل أو الشرب. ومن فوائد هذا الحديث: أن من لم يذكر اسم الله عليه لا يصح وضوؤه لقوله: "ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، أو لا يكون كاملا على القول بأن النفي نفي للكمال، فهل يقاس على الوضوء الغسل؟ هل يقاس على الوضوء التيمم؟ هل يقاس على الوضوء إزالة النجاسة؟ هذه ثلاثة أشياء كلها تحتمل أن تكون فروعا، أما الغسل فإنه ربما يقول قائل: إنه يقاس على الوضوء؛ وذلك لأن الغسل متضمن الوضوء، وإذا كان كذلك فالتسمية فيه كالتسمية في الوضوء على أن الإنسان يجد ثقلا في نفسه لإلحاق الغسل بالوضوء؛ لأن الأصل أن لا قياس في العبادات، أي: أن ما كان شرطا في عبادة لا يمكن أن تنقله إلى عبادة أخرى إلا بدليل، لكن التسمية على كل حال أفضل وأولى. هل يقاس على ذلك التيمم، بمعنى: أن نقول إذا أردت أن تتيمم فلابد أن تسمي كما لو أردت أن تتوضأ هل نقول إنه إذا كان الوضوء لا يصح إلا بالتسمية فالتيمم عند الحدث الأصغر كذلك؟ من قال بالقياس في الأول قال بالقياس في الثاني؛ لأن البدل له حكم المبدل، وقد يقول قائل: لا يمكن أن يقاس هنا؛ لأن طهارة التيمم تختلف عن طهارة الماء اختلافا كثيرا. تتعلق طهارة التيمم بكم عضو؟ بعضوين، وطهارة الماء؟ بأربعة أعضاء في الصغرى وبالبدن كله في الكبرى، فنقول: لا يمكن أن نقيس التيمم على الوضوء، ثم إن الرسول - عليه الصلاة والسلام-

قال لعمار بن ياسر - وقد علمه التيمم-: "إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا". ولم يسم، والمقام مقام تعليم وبيان، ولا يمكن تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذا القول أصح بمعنى: أن التيمم لا تشترط فيه التسمية بل ولا تسن فيه التسمية، اللهم إلا أن يقول قائل: إنه يدخل في عموم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر". إن قال قائل ذلك فربما يسوغ له هذا، وإلا فالأصل أنه لا يشرع فيه التسمية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم التيمم ولم يقل بالتسمية. هل نقيس على الوضوء إزالة النجاسة، بمعنى: أنك إذا أردت أن تزيل النجاسة من ثوبك يجب أن تقول: باسم الله. الجواب: لا، ولا يجوز أن نقيسها؛ لأن إزالة النجاسة من باب الترك، والوضوء من باب الفعل، ولأن إزالة النجاسة لا تحتاج إلى نية، والوضوء يحتاج إلى نية. إزالة النجاسة لا تحتاج إلى نية، بمعنى: أنه لو سقط ثوبك في الماء وفيه نجاسة، ثم زالت النجاسة في هذا الماء، فإن الثوب يطهر، فهي لا تحتاج إلى نية. إذن الشيء الذي يمكننا أن نقول: أنه يشترط فيه التسمية هو الوضوء؛ لأنه ورد به النص والباقي بالقياس بعضه قريب وبعضه غير قريب. من فوائد هذا الحديث: أن التسمية في الوضوء سنة، والذي يجعلنا أن نقول إنها سنة أمران: الأمر الأول: أن هذا الحديث فيه مقال كما قال الإمام أحمد: لا يثبت في هذا الباب شيء، والأصل براءة الذمة؛ وأننا لا نلزم عباد الله بشيء إلا بدليل، يعني: أين حجتك عند الله؟ إذا أراد إنسان أن يتوضأ ولم يسم ثم قلت له: أعد الوضوء بطلت عبادتك أين حجتك عند الله؟ والمسألة ليست هينة فهذا دين وستسأل يوم القيامة: لم أفتيت في هذا وأنت لا تعلم؟ فلذلك نقول: لا يظهر أنها واجبة ولا أنها شرط ولا أنها ركن؛ لأن الحديث هذا فيه مقال، وإذا كان فيه مقال فلا يمكن أن نلزم عباد الله به وأن نبطل عبادتهم. الدليل الثاني: أن جميع الواصفين لوضوء الرسول صلى الله عليه وسلم والذين علموا الناس كعثمان رضي الله عنه لم يذكروا التسمية، وعثمان علمه للناس وهو خليفة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يذكر التسمية، ولو كانت التسمية شرطا أو واجبا لكانت مما تتوافر الهمم على نقله ولنقل هذا وبين للناس بيانا شافيا، أما الأشياء المقيسة عليه وهي الغسل والتيمم وإزالة النجاسة فقد عرفتم ما فيها.

حكم الجمع بين المضمضة والاستنشاق بكف واحدة

أسئلة: - سبق لنا أن المؤلف رحمه الله ذكر حديث جابر وبدأ برواية النسائي "ابدءوا بما بدأ الله به"، فلماذا قدم البداءة بها قبل رواية مسلم؟ لأن بها تفصيل. - يشكل على هذا الحديث مخرجه واحد وروايه واحد، فكيف يروى بالوجهين؟ أن الرواة فهموا أن الخبر هنا بمعنى الأمر فنقلوه بمعنى الأمر. - ذكرنا عند قوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" أن النهي يأتي على أوجه ما هي؟ - ذكر اسم الله على الوضوء هل له نظير في أنه لا يصح إذا لم يذكر اسم الله عليه؟ حكم الجمع بين المضمضة والاستنشاق بكف واحدة: 47 - وعن طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق". أخرجه أبو داود بإسناد ضعيف. "يفصل بين المضمضة والاستنشاق" يعني: يأخذ غرفة للمضمضة وغرفة للاستنشاق، فإذا كان ثلاث غرفات فيكون ستا ثلاث للمضمضة وثلاث للاستنشاق، لكن هذا الحديث يقول المؤلف: إنه ضعيف، إلا أن بعض الفقهاء عمل به وقال: يجوز أن يتمضمض ثلاثا ويستنشق ثلاثا، فيكون الغرفات ستا، لكن الذي يأتي بعده أصح منه وهو قوله: 48 - وعن علي رضي الله عنه - في صفة الوضوء-: "ثم تمضمض صلى الله عليه وسلم واستنثر ثلاثا، يمضمض وينثر من الكف الذي يأخذ منه الماء". أخرجه أبو داود والنسائي. 49 - وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه - في صفة الوضوء-: "ثم أدخل صلى الله عليه وسلم يده، فمضمض واستنشق من كف واحد، يفعل ذلك ثلاثا". متفق عليه. حديث علي يقول: "تمضمض واستنثر" يمضمض ويستنثر من الكف الذي يأخذ منه، الماء ظاهره أنه كف واحد يتمضمض منها ثلاث مرات، ويستنشق ثلاث مرات، وهذا يدل على تقليل ماء الاستنشاق والمضمضة؛ لأن كفا واحدة يبقى الإنسان يتمضمض منها ثلاث مرات، ويستنشق ثلاث مرات وهو بعد الاستنشاق سوف يستنثر، واليد لابد أن يتسرب منها

حكم ما يمنع وصول الماء في الوضوء

الماء من بين الأصابع، على هذا ستكون آخر واحدة قليلة جدا، ولهذا يكون الإتيان بهذه السنة فيه صعوبة، لكن مع ذلك لابد إذا كان اللفظ محتملا لها، فلابد أن نعمل بها. وعن عبد الله بن زيد قال: "تمضمض واستنشق من كف واحدة يفعل ذلك ثلاثا" هذا يحتمل أن يون كحديث علي أن يكون قوله: "يفعل ذلك ثلاثا" يعود على المضمضة والاستنشاق، ويكون قوله: "من كف واحدة" فيكون بهذا مطابقا لحديث علي، ويحتمل أنه يأخذ كفا فيتمضمض به ويستنثر ثم كفا آخر، ثم كفا آخر لقوله: "يفعل ذلك ثلاثا" وهذا هو الأقرب، وعلى هذا يكون في المضمضة والاستنشاق ثلاث صفات: صفة ضعيفة، وصفة لا بأس بها، وصفة قوية، ما هي الضعيفة؟ أن يفصل بين المضمضة والاستنشاق، والتي لا بأس بها وليست بتلك القوية: أن يكون بكف واحدة المضمضة ثلاثا ثلاثا. والصفة الثالثة أن يأخذ ماء بكف فيتمضمض ويستنشق، ثم كفا أخرى، ثم كفا أخرى المشهور عند الفقهاء أنها كلها جائزة؛ يعني: كلها سنة. وعلى هذا ينبغي لنا أن نفعل هذه مرة وهذه مرة، ولكن لا شك أن أثبتها وأصحها حديث عبد الله بن زيد؛ لأنه متفق عليه والإنسان مخير، ثم إن من الناس من إذا جمع المضمضة والاستنشاق كل الثلاث في كف واحدة لا يبقى في كفه شيء، فإذا لم يبق في كفه شيء حينئذ تعذرت المضمضة والاستنشاق فنعود إلى الصفة التي دل عليها حديث عبد الله بن زيد، نأخذ كفا للمضمضة والاستنشاق، وكفا أخرى للمرة الثانية، وكفا ثالثة للمرة الثالثة. حكم ما يمنع وصول الماء في الوضوء: 50 - وعن أنس رضي الله عنه قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، وفي قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء. فقال: "ارجع فأحسن وضوءك". أخرجه أبو داود. والنسائي. قوله - عليه الصلاة والسلام-: "ارجع" يعني: ارجع إلى مكان الوضوء الذي توضأت منه، "فأحسن وضوءك"، يعني: توضأ وضوءا حسنا، وهل المراد بقوله: "أحسن وضوءك" أن يبتدئ الوضوء من جديد؛ أو أن يغسل ما لم يصبه الماء؟ يحتمل هذا وهذا؛ لأن كلا منهما إحسان سواء ابتدأ الوضوء من أوله أو غسل ما لم يصبه الماء من القدم، ولكن القواعد تقتضي أن

يفصل في هذا، فإن كان الزمن بعيدا فإحسان الوضوء أن يعيده من أوله لفوات الموالاة، وإن كان قريبا فإحسان الوضوء أن يغسل ما لم يصبه الماء من القدم. ففي هذا الحديث فوائد منها: وجوب استيعاب الأعضاء بالتطهير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هذا أن يرجع فيحسن الوضوء، ويدل لهذا الحكم قوله - تبارك وتعالى-: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]. فإذا لم يستوعب الوجه لم يمتثل الأمر، وكذلك يقال في اليدين والرأس والرجلين. ومن فوائده: أنه تجب إزالة ما يمنع وصول الماء، سواء كان قليلا أو كثيرا، حتى وإن كان مثل الظفر، وكلمة "مثل الظفر" يحتمل أن المراد مثل قلامة أو مثل الظفر كاملا، وأيا كان فإنه يدل على أنه إذا حال بين العضو والماء مثل الظفر وجب إزالته، وإلا لم يصدق عليه أنه غسله، ولكن يبقى عندنا مسائل. المسألة الأولى: الخاتم إذا كان ضيقا فإنه في الغالب يمنع وصول الماء، فهل يجب أن يحركه حتى يدخل الماء بين وبين العضو أو لا يجب؟ نقول: الظاهر أنه يجب إذا كان ضيقا جدا بحيث يمنع وصول الماء فلابد أن يحركه من أجل أن يصل الماء إلى باطنه، ويحتمل ألا يجب، وهذا الاحتمال نأخذه من كون الرسول - عليه الصلاة والسلام- يلبس الخاتم ولم يرد عنه انه إذا أراد الوضوء أو الغسل نزعه، وهذا الخاتم لا ندري أهو ضيق أو واسع. لماذا نقول: يحتمل، ولكن يرد على هذا الأخير - أهو ضيق أو واسع- أنه إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، فإذا كان يحتمل أنه واسع ويحتمل أنه ضيق وكانت القاعدة عندنا أنه يجب إيصال الماء إلى محل التقرير فإننا لا نأخذ بالاحتمال الثاني الذي يكون ضيقا. المسألة الثانية: إذا كان الإنسان عليه تركيبة أسنان فهل يجب عليه أن يخلعها عند المضمضة، أو يفصل إن كانت واسعة أو ضيقة، أو يقال: إنه لا يجب استيعاب الفم بالمضمضة؟ الأخير؛ لأن الفقهاء نصوا على أنه لا يجب استيعاب الفم بالمضمضة، وبناء على ذلك لا يجب على الإنسان أن يخلع تركيبة الأسنان ولا أن يخلخلها حتى يصل الماء. المسألة الثالثة: النساء يستعملن الحناء على رءوسهن، والحناء يتلبد على الرأس، ويمنع وصول الماء، فهل يعفى عن ذلك كما عفي عن مسح رأس الرجل بالعمامة ومسح رأس المرأة بالخمار على القول بذلك أو لا؟ نقول: يعفى عن ذلك، والدليل على هذا من السنة أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- في إحرامه قد لبد رأسه بالعسل والصمغ، وهذا يمنع حتى مباشرة الشعر فيكون هذا له دليل من السنة غير القياس على العمامة والخمار، والنساء يستعملن دائما - كما قلت- الحناء يلبدن على الرءوس.

كذلك أيضا يوجد حلي تربطه المرأة برأسها له عرى تدخل الشعر في هذه العروة من أجل أن يستمسك، وتسمى عند الناس (الهامة)؛ لأنها توضع على هامة الرأس، وهي على قدر الكف، يعني: قطعة من الحلي على قدر الكف تضعها المرأة على رأسها، ثم تخيطها بالشعر - شعر الرأس- بواسطة العرى التي فيها. هل نقول: إنه يجوز أن تمسح عليها أو يجب أن تخلعها أو تخلخلها حتى يصل الماء من تحتها؟ الجواب: يجوز أن تمسح عليها؛ لأنها من جنس الحناء ومن جنس الخمار، بل هي أشد؛ لأنها تخر بنفس شعر الرأس، وما زال النساء يستعملنها فيما سبق وعندهم العلماء ولا ينبهون على هذا. وهل يعفى عن الشيء اليسير فيمن يشق عليه التحرز من مانع وصول الماء، كأصحاب البويات الذين يستعملونها، يصبغون بها الجدر لا يخلون من أن يتعلق بأيديهم شيء من البوية، فهل يعفى عن ذلك إن كان يسيرا؟ اختار شيخ الإسلام رحمه الله أن يعفى عن ذلك إذا كان يسيرا، وطرد هذا أن اليسير يعفى عنه، ووافقه الفقهاء - رحمهم الله- في الوسخ الذي يكون بالأظفار، الأظفار الطويلة، يكون تحت الظفر الوسخ يمنع من وصول الماء فهذا معفو عنه، حتى عند الفقهاء - رحمهم الله- يعفون عن ذلك؛ لأن هذا يشق التحرز منه، ولو قلنا للإنسان: يجب أن تنقب أظافرك عند كل وضوء لكان فيه مشقة، وما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله صحيح لكن فيما يشق التحرز منه، وذلك عند من؟ عند أصحاب البويات الذين يصبغون بها الجدر هؤلاء لا شك أنه يسمح بذلك. هناك مادة أخرى غير البوية تلصق بالجلد وتأبى أن تنقى من الجلد، حتى تضع عليها بنزين - والبنزين عادة يزيل البويات- لا فائدة فماذا نعمل؟ على كل حال: أنا ذكرت هذا من أجل أن تتحرزوا منه وإلا لا شك أنه إذا عجز الإنسان عنه أنه يعفى عنه، لكن نحث الإنسان على ألا يقربه، والحمد لله الآن الوسائل المانعة من ذلك كثيرة، يوجد قفازات من البلاستيك، إذا أردت أن تستعمل فالبسها وإلا فتحرز منها لأنها خطيرة. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الأمر بالمعروف، وجهه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يحسن الوضوء، ولكن إذا قال قائل: هذا فعل، والفعل المجرد عند الأصوليين لا يدل على الوجوب؟ فيقال: هذا فعل جرى امتثالا لقول الله - تبارك وتعالى-: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [آل عمران: 104]. وما وقع من فعل الرسول - عليه الصلاة والسلام- امتثالا، فإن له حكم الأمر الذي امتثله.

ومن فوائد هذا الحديث: أن ترك المأمور لا يعذر فيه بالجهل، بل لابد من فعله، وجهه: أن هذا الرجل إما جاهل وإما ناس، إما جاهل يحسب أن الماء قد شمل جميع القدم، أو يحسب أنه لا يجب شمول الماء لجميع القدم أو ناس ومع ذلك لم يستفصل الرسول صلى الله عليه وسلم منه بل أمره أن يحسن الوضوء. ومن فوائد هذا الحديث: اشتراط الموالاة إذا حملنا قوله: "أحسن" على إعادة الوضوء، وقد اختلف العلماء - رحمهم الله- في الموالاة هل هي شرط في الوضوء أو لا؟ والظاهر أنها شرط؛ لأن الوضوء عبادة واحدة، وإذا لم يوال بين أجزائه تفكك. لو قال قائل: لك أن تغسل وجهك الساعة التاسعة صباحا، ثم تغسل اليدين الساعة العاشرة، ثم تمسح رأسك الساعة الحادية عشر، ثم تغسل رجليك الساعة الثانية عشر هل يقول: إن هذا الرجل توضأ؟ حقيقة ما توضأ، وإنما غسل أعضاء، ثم إن قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]. عطف عليها، ومن المعلوم أن جواب الشرط يلي المشروط مباشرة، بدليل أنه يربط بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، فإذا قلنا: غسل الوجوه يأتي مباشرة. قلنا: وما عطف عليه يأتي مباشرة أيضا، وهذا استنباط جيد بالنسبة للدلالة من الآية. فإذا قال قائل: وهل يشترط الترتيب؛ بمعنى: أنه إذا كان الذي لم يصبه الماء من الأعضاء الأولى فهل يغسل ما تحته؟ يعني: لنفرض أنه في اليد هل نقول: اغسل اليد ثم امسح الرأس ثم اغسل الرجل، أو يسقط الترتيب؟ الجواب: لا يسقط الترتيب، بل يغسله وما بعده، ونظير ذلك: لو أن الإنسان نسي الركوع، سجد من قيام ثم ذكر هل نقول: اركع ولا تسجد، او اركع وائت بما بعده؟ الثاني؛ لأنه لابد من الترتيب لكن بعض أهل العلم يقولون: إن الترتيب يسقط بالجهل والنسيان، وبناء على هذا القول لا بأس أن يغسل ما لم يغسله من الأعضاء ويقتصر على ذلك، لو وقع هذا في غسله، يعني: إذا وجد الإنسان - بعد أن اغتسل من الجنابة- أن عليه ما يمنع وصول الماء إلى تحته، فهل نقول: أزل المانع واغسل ما تحته، أو نقول: أزل المانع واغتسل كاملا؟ الجواب: الأول؛ لأن الغسل ليس فيه الترتيب، في الغسل ابدأ بالرأس أو بالرجلين كله واحد الترتيب إنما هو في الوضوء؛ ولهذا قال الله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6]. ولم يذكر من أين نبدأ.

فإذا قال قائل: هل الرجل رجع؟ لابد؛ لأن بعض الناس تأتي أوامر - وهذه نبهت عليها لأنها مهمة- ثم يقول: ما ورد عن الصحابة، فنقول: ما هو شرط، نحن متعبدون بما نسمع وليس من شرط ذلك أن نعلم أن الصحابة عملوا به أو لم يعملوا به، فمثلا الدعاء يوم الجمعة من دخول الإمام إلى أن تنتهي الصلاة حري بالإجابة، فهل يدعو الإنسان بين الخطبتين، أو نقول: لا تدع بين الخطبتين لأن الصحابة ما فعلوه؟ الجواب: الأول يدعو بين الخطبتين؛ لأن الأصل أن الصحابة سوف يفعلون ما أمروا به أو ما دلوا عليه من الحق هذا هو الأصل، وكونه يقول: لا يمكن إلا أن نعلم أنهم عملوا؛ هذا خطأ، لكن إذا علمنا أنهم عملوا على خلاف ما يقتضيه الأمر المطلق حينئذ يكون الأمر المطلق مقيدا بعملهم، وأظنكم تعرفون الفرق بين الأمرين، يعني: الأمر إذا ورد ولم نعلم أن الصحابة فعلوه نقول: يبقى الأمر على ما هو عليه، لكن إذا علمنا أنهم فعلوه على وجه معين نتقيد بهذا الوجه المعين، مثال ذلك: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما". هل نقول: اعتمر في الصباح والمساء لتكفر ما بينهما؟ لا؛ لأن الصحابة عملوا بهذا، لكن ما عملوا على ا، هم يكررون العمرة كل يوم أو كل أسبوع، بل نقل شيخ الإسلام رحمه الله اتفاق السلف على كراهة الإكثار من العمرة والموالاة بينها ذكره في الفتاوى. على كل حال هذه مسائل دقيقة، مسألة العمل. إذا قال قائل: إذا قلتم باستحباب الدعاء بين الخطبتين أتقولون برفع اليدين؟ نقول: الأصل في الدعاء أن من آدابه رفع اليدين ولا بأس أن نرفع الأيدي، ورفع اليدين في الدعاء ينقسم إلى أربعة أقسام: 1 - قسم ورد الشرع بأنه لا رفع فيه إلا في حالة معينة. 2 - وقسم ورد الشرع بعدم الرفع فيه مطلقا. 3 - وقسم ورد الشرع برفع اليدين فيه. ... 4 - وقسم مسكوت عنه. الأول: الذي ورد رفع اليدين فيه في أشياء معينة؛ الدعاء في الخطبة - خطبة الجمعة- رفع اليدين في الدعاء في خطبة الجمعة، سواء من الإمام الخطيب أو من المستمعين هذا بدعة أنكره الصحابة على مروان بن الحكم، ولكن ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام- أنه "رفع يديه في الدعاء في الاستسقاء والاستغفار".

الثاني: ما ورد في عدم الرفع مطلقا؛ وذلك في الدعاء في الصلاة أي في أثناء الصلاة كان الرسول - عليه الصلاة والسلام- يدعو في صلاته ولا يرفع يديه، يدعو بين السجدتين ويداه على فخذيه، لا يرفعهما. الثالث: السكوت عنه والأصل فيه الرفع، لكن قد يتبادر للإنسان أنه لم يحصل الرفع مثل قوله - عليه الصلاة والسلام- إذا فرغ من دفن الميت: "استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت"، فإن ظاهر الحال أنهم لا يرفعون أيديهم؛ لأن الراوي لم يقل ثم رفع يده ودعا مثلا، ولكن لو رفع إنسان يده وقال: هذا هو الأصل، لا نستطيع أن ننكر عليه بدون دليل بين. الرابع: الذي ورد الرفع فيه مطلقا؛ مثل الدعاء يوم عرفة؛ وعلى الصفا والمروة. أسئلة: - ما الذي يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "ارجع فأحسن وضوءك"؟ - هل الأمر بالإحسان أمر بالإعادة أو بالتكميل؟ - في الحديث ما يدل على الأمر بالمعروف ما هو؟ - هل يفرق بين القليل والكثير؟ 51 - وعنه رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد". متفق عليه. "كان رسول الله"، ذكر العلماء - رحمهم الله- في أصول الفقه أن "كان" تدل على الدوام غالبا، إذا كان خبرها فعلا مضارعا "كان يغتسل"، "كان يقرأ"، "كان يفعل"، لكنه ليس دائما، وما وجد مطلقا من قول بعض العلماء أن كان للدوام فمرادهم غالبا والدليل على هذا: الأحاديث الواردة، تجد مثلا حديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة سبح الغاشية"، وحديث آخر: "كان يقرأ بالجمعة والمنافقين".

أذكار الوضوء

فلو حملنا أنها على الدوام دائما لكان هذا تناقضا لكنها في الغالب، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد"، وسبق أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مد فجعل يدلك ذراعيه، وإن كان ضعيفا. والمد: هو ربع الصاع، أي: ربع صاع النبي صلى الله عليه وسلم، والمصطلح عليه عندنا هنا: أن المد ثلث الصاع، وقوله: يغسله بالصاع، وهو أربعة أمداد وهو كما ذكرنا لكم سابقا، ينقص عن الصاع الموجود عندنا الخمس، ويزبد عليه صاعنا الربع، إذن إذا نسيت زيادة الصاع عندنا على صاع النبي صلى الله عليه وسلم تقول: يزيد عليه الربع؛ لأن ذاك ثمانون وهذا مائة وعشرون، وإذا قلت: ينقص صاع النبي صلى الله عليه وسلم عن صاعنا، نقول: الخمس يعني عشرين من مائة، وأكثر إلى خمسة أمداد، فيكون صاعا ومدا؛ وهذا هو الأكثر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمد ويغتسل بالصاع، فيؤخذ من هذا الاقتصاد في استعمال الماء؛ لأن هذا لا شك أنه قليل. ومن فوائده أيضا: أنه ينبغي للإنسان أن يكون مقتصدا في العبادة، لا يزيد عليها لا كمية ولا كيفية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الكمية - لما توضأ ثلاثا- قال: "من زاد على ذلك فقد أساء وتعدى وظلم". ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي أن نقتدي بالرسول - عليه الصلاة والسلام- في هذا، ولهذا قال العلماء: يسن أن يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وهذا ممكن إذا كان الإنسان يغترف من إناء، يعني: ممكن أن يتوضأ بهذا القدر، لكن إذا كان يصب عليه من المواسير فإن ذلك لا يمكن، ولا يمكن انضباطه. أذكار الوضوء: 52 - وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد يتوضأ، فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء". أخرجه مسلم، والترمذي، وزاد: "اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين". "ما منكم من أحد" لها نظير في القرآن الكريم - في التركيب هذا- وهو قوله تعالى: {فما منكم من أحد عنه حجزين} [الحاقة: 47]. فإعرابها أن (ما) نافية، و (منكم) خبر مقدم و (من أحد) مبتدأ

مؤخر، لكن المبتدأ هنا اقترن ب (من) الزائدة لتوكيد العموم، وإنما قلنا: لتوكيد العموم؛ لأن (أحد) نكرة جاءت في سياق النفي وهي تفيد العموم، يعني: ما من إنسان منكم، والخطاب للصحابة، لكن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة خطاب لجميع الأمة. "ما منكم من أحد يتوضأ" صفة لأحد "فيسبغ الوضوء" أي يتمه كما وكيفا، "ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" ثم يقول إذا انتهى من الوضوء: "أشهد أن لا إله إلا الله"، "أشهد" بمعنى: أنطق بلساني معترفا به في قلبي كأنما أشاهده رأي العين. وقوله: "أن لا إله إلا الله" أسمع بعض الناس ينطق بها فيقول: "أشهد أن لا إله إلا الله"، وهذا لحن فاحش؛ لأن "أن" المشددة لا يجوز أن يكون اسمها ضمير الشأن محذوفا، وإنما هي "أن" المخففة، وعلى هذا فنقول: "أن لا إله" وليس: "أن لا إله"، "أن لا إله إلا الله"، وضمير الشأن نا محذوف هو اسمها، و "لا إله إلا الله" الجملة خبرها، وقوله: "لا إله إلا الله" (إله) بمعنى: مألوه، والمألوه هو: المعبود تألها ومحبة وتعظيما، وقوله: "إلا الله" لا يصح أن نعرب (الله) خبر "لا"؛ لأن لفظ الجلالة معرفة، بل يقول النحويون أنه أعرف المعارف، و (لا) النافية للجنس لا تعمل إلا في النكرات، وعلى هذا فلا يصح أن نعرب (الله) على أنه خبرها؛ لأنه من شرطها أن تعمل في النكرات. إذن أين الحبر؟ الخبر محذوف قدره بعضهم: "لا إله موجود"، وهذا التقدير لا يصح، لماذا؟ لأنه موجود آلهة غير الله، قال الله - تبارك وتعالى-: {فما أغنت عنهم ءالهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك} [هود: 101]. وقال تعالى: {ولا تجعل مع الله إلها ءاخر} [الإسراء: 39]. فالآلهة موجود، وقال تعالى في ذكر بطلان آلهة المشركين: {إن هي إلا أسماء سميتموها} [النجم: 23]. فهم يسمونها آلهة لكن هل هي آلهة في الحق؟ لا. وعليه فنقول: من قدر (لا إله موجود)؛ فإنه غلط فاحشا من وجهين: الوجه الأول: أن الواقع يكذبه؛ لأنه توجد آلهة سوى الله. الوجه الثاني: لا يوجد إله إلا الله لزم أن تكون هذه الآلهة هي الله وهذا خطأ فاحش. إذن ما الذي نقدر؟ نقدر ما دل عليه القرآن {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه البطل} [لقمان: 30]. فنقدر "حق" وهو أحسن من تقديرنا "بحق"؛ لأننا إذا قدرنا "بحق" لزم أن تكون "بحق" جار ومجرور متعلق بمحذوف، والتقدير: لا إله كائن بحق إلا الله، ومتى أمكن عدم الإضمار فهو أولى، لاسيما أن عدم الإضمار فيه مطابقة للقرآن {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه البطل} [لقمان: 30]. وعلى هذا نقدر: لا إله حق إلا الله.

فإذا قال قائل: المعنى غير بين؟ نقول: هو بين، نقول: "لا رجل قائم إلا زيد" يمكن أو لا يمكن؟ يمكن، فنقول: "رجل" اسمها، و "قائم" خبرها، وعليه فنقول: "الله" لفظ الجلالة يكون بدلا من الخبر المحذوف، والبدل له حكم المبدل فعلى هذا يكون المعنى: أنه لا يوجد إله حق إلا الله عز وجل، وهذا هو المتعين. "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، "إلا الله وحده" توكيد للإثبات أو للنفي؟ توكيد للإثبات، "لا شريك له" توكيد للنفي، وحق لهذه الكلمة بمعناها العظيم أن تؤكد بأن الله وحده هو الحق لا شريك له لا مشارك له في هذه الألوهية. "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" فنقول في "أشهد" مثل ما قلنا في "أشهد" الأولى، "وان محمدا" هنا أبقيت على ثقلها أو خففت؟ بقيت على ثقلها؛ لأنها تصح أن تدخل على الجملة الاسمية أشهد أن محمدا عبده ورسوله. "محمد" علم شائع في جنس الأعلام، فمن هو؟ هو محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي - صلوات الله وسلامه عليه- وإنما لم يقيد بوصف يبينه؛ لأنه قد ملأ القلوب علم يعرف أنه فلان، العلم ليس يعين الشخص نفسه لكن يعين المسمى به، وإذا كان المسمى به محمدا مثلا عشرة صار مبهما أو معينا؟ صار مبهما، لكن هذا لما كان معرفته في القلوب حالة لا يمكن أن ينصرف القلب لغيره أغنى عن ذكر الصفة الكاشفة وصار المراد ب"محمد": محمدا رسول الله الهاشمي القرشي صلوات الله وسلامه عليه، وحقق لنا ولكم اتباعه. "عبده ورسوله" هذه عبودية من أخص أنواع العبودية؛ لأن العبودية أنواع: عبودية عامة: وهي التعبد لله تعالى كونا، وهذا شامل لجميع الخلق كل الخلق يتعبدون لله كونا لا يمكن أن يخرجوا عن طاعته أبدا حتى الكافر وهو عبد لله، قال الله - تبارك وتعالى-: {إن كل من في السموت والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدا} [مريم: 93]. وهذه العبودية العامة لا يحمد عليها الإنسان؛ لأن الإنسان مسخر. وعبودية خاصة: وهي التعبد لله بشرعه، هذه هي التي يحمد عليها الإنسان وهي مدار الثناء، العبودية لله بالشرع أقسام بعضها أخص من بعض، فعبودية الصالحين ليست كعبودية الأولياء؛ لأن عبودية الأولياء أخص، عبودية الأولياء ليست كعبودية الأنبياء، عبودية الأنبياء أخص، عبودية الأنبياء ليست كعبودية الرسل، عبودية الرسل أخص؛ لأنهم محملون إبلاغ الرسالة إلى عباد الله والجهاد عليها إذا أذن لهم في الجهاد. وصف النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالعبودية من أي الأنواع؟ من أخص الأخص، بل هو - عليه الصلاة والسلام- وإخوانه من أولي العزم هم أخص أنواع العبودية، ولذلك انظر إلى أعماله - عليه الصلاة والسلام- ماذا يصنع: ذكر، استغفار، صلاة صدقة، بذل، لا يوجد له نظير، حتى إنه - عليه الصلاة

والسلام- لما كان يصلي حتى تنفطر قدماه قالوا له في ذلك فقال: "أفلا أكون عبدا شكورا". هذه هي العبودية التامة، أما الرسالة فحدث ولا حرج، يخرج إلى الناس في أوطانهم يدعوهم إلى الله عز وجل ويرجع وهم قد أدموا عقبه ولم يستجيبوا له، ومع ذلك هو صابر، وخروجه إلى أهل الطائف ودعوته إياهم ثم إهانتهم له حتى يرميه فتيانهم بالحجارة ويدموا عقبه ثم يرجع لم يفق إلا في قرن الثعالب، ويأتيه ملك الجبال يقرئه السلام، يقول: إن الله أمره إذا شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطبق عليهم الأخشبين الآن، الأمر بيده بإذن الله عز وجل لو شاء لأمر ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، لكن ماذا قال؟ قال: "أستأنيهم - أي: أتأنى- لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به". وهذا أتجدون أحدا أصبر من هذا حتى الفطرة والطبيعة تقتضي أن ينتقم الإنسان من هؤلاء وأمثالهم، لكنه - عليه الصلاة والسلام-. لا ينتقم لنفسه أبدا؛ إنما أمره الله، إذن هو قد اتصف بأكمل أنواع العبودية. "ورسوله" أي: المرسل من قبل الله عز وجل، فهو رسول من الله إلى من؟ إلى الإنس والجن، إلى جميع الناس من يهود ونصارى ووثنيين وملحدين، إلى كل الخلق، وهو أرسل إلى الملائكة أو لا؟ هذا معل لا حاجة إلى بحثه، لكن أرسل إلى الجن والإنس، فالإنس والجن كلهم مكلفون بقبول رسالته والشهادة له بالرسالة، وما أحسن الكلمة التي قالها الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله قال: "هو عبد لا يعبد ورسول لا يكذب"، هذه جملة جيدة جدا تصرها سهل وهي جامعة، "هو عبد لا يعبد ورسول لا يكذب"، هذه جملة جيدة جدا تصورها سهل وهي جامعة، "هو عبد لا يعبد ورسول لا يكذب"، وسيأتينا - إن شاء الله- في فوائد هذا الحديث أن الناس صاروا فيه طرفين ووسط: طرف عبدوه، وطرف كذبوه، والوسط: من عبدوا الله برسالته وصدقوه، هؤلاء هم الوسط. يقول - عليه الصلاة والسلام-: "ما من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة"، دائما في القرآن يشير الله إلى هاتين الشهادتين في عدة مواضع نذكر منها موضعا واحدا ونقيس عليها الباقي، قال الله تعالى: {أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت ءاباءهم الأولين} [المؤمنون: 68]. هذه تتضمن الشهادة لله عز وجل؛ حيث جاء قوله وهو كلامه بتحقيق التوحيد {أم لم يعرفوا رسولهم} [المؤمنون: 69]. هذه شهادة أن محمد رسول الله، وهذا يأتي في القرآن كثيرا بأن يذكر أولا ما يتضمن التوحيد ثم ما يتضمن الرسالة، قوله: "إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء"، "إلا فتحت"، من المعلوم أن الجنة ليست في الأرض، وأن القائل لا يشاهدها، ولا يشاهد

أبوابها، لكن إذا جاءنا الخبر عن الصادق المصدوق فما موقفنا؟ أن نصدق به أكثر مما نصدق ما نشاهده بأعيننا؛ لأن العين قد تخطئ وخبر النبي - عليه الصلاة والسلام- لا يخطئ، وعلينا أن نؤمن بهذا الأمر الغيبي، وأن الإنسان إذا تطهر وأسبغ الوضوء وقال: هذا فتحت له أبواب الجنة، فماذا يترتب على فتحها؟ يترتب على فتحها له أن الله ييسر له جميع الأعمال التي بها يدخل هذه الأبواب، وتعرفون أن أبواب الجنة منها باب للصلاة، وباب للصيام، وباب للصدقة، وباب للجهاد كما جاء في الحديث، فيكون مضمون هذا أن الله تعالى ييسر لهذا المتوضئ الذي أكمل وضوءه بالتوحيد، وهي طهارة القلب، ييسر له الأعمال التي يدخل بها من أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء. أخرجه مسلم، والترمذي، وزاد- يعني: الترمذي-: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين": "اللهم" يعني: يا الله، "واجعلني" أي: سيرني من التوابين، الذين يريدون التوبة من كل ذنب وفعل فعلوه، "واجعلني من المتطهرين" الذين تطهروا بأبدانهم وقلوبهم، وهذا مأخوذ من قول الله - تبارك وتعالى-: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يجب التوبين ويجب المتطهرين} [البقرة: 222]. فإذا جعلك الله من التوابين المتطهرين فإنك تنال بذلك محبة الله. من فوائد حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الحث على إسباغ الوضوء؛ لما يترتب عليه من الفضيلة إذا ذكر الذكر من بعده لقوله: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء". ومنها: أنه لابد لحصول الثواب من الإسلام فننظر هل هذه الفائدة واضحة؟ يمكن أن تؤخذ من قوله: "ما منكم من أحد" والخطاب للمؤمنين، غير المؤمن لو توضأ وأحسن الوضوء فإنه لا يحصل له ذلك، بل ولا يقبل منه. ومن فوائد هذا الحديث: حكمة الشريعة بالتناسب في شرائعها؛ حيث إنه لما حصلت الطهارة الحسية الظاهرة ندب إل الطهارة المعنوية، فإن التوحيد تطهير للقلب من الشرك والوضوء تطهير للأعضاء من الحدث. ومن فوائد الحديث: أنه لابد من النطق باللسان فيما يعتبر قولا، أي: لابد للقول من النطق فيه باللسان؛ لقوله: "ثم يقول: أشهد"، ولا يكفي أن يمر ذلك على قلبه، بل لابد من النطق. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات توحيد الألوهية لقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله"، وتوحيد الألوهية له قسمان: توحيد الألوهية باعتبار تعلقه بالله عز وجل، وتوحيد الألوهية باعتبار تعلقه بفعل العبد؛ ولهذا يعبر عنه بعضهم بتوحيد العبادة وتوحيد الألوهية. ومن فوائد هذا الحديث: بطلان جميع الآلهة سوى الله لقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله".

ومن فوائد هذا الحديث: تأكيد الكلمات المهمة في قوله: "وحده لا شريك له"، فالأشياء المهمة ينبغي أن تؤكد إما توكيدا لفظيا، وإما توكيدا معنويا، واعلم أن التوكيد هنا ليس المراد بالتوكيد الذي ذكره النحويون، فإن التوكيد الذي ذكره النحويون لفظي ومعنوي، والمعنوي له ألفاظ مخصوصة، مثل: "كل، وجميع"، وما أشبه ذلك، لكن هنا توكيد معنوي بذكر جملة تفيد معنى الجملة التي سبقها. ومن فوائد هذا الحديث: شهادة أم محمدا عبد الله ورسوله مقترنة بشهادة التوحيد، ووجه ذلك: أن كل عبادة لابد فيها من إخلاص، ولابد فيها من متابعة، فالإخلاص يتحقق بشهادة أن لا إله إلا الله، وبالمتابعة تتحقق شهادة أن محمدا عبد الله ورسوله. ومن فوائد هذا الحديث: الرد على الغلاة في النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "أن محمدا عبده"، فليس للنبي صلى الله عليه وسلم حظ من الربوبية، هو عبد - عليه الصلاة والسلام- وليس برب. ومن فوائد الحديث: الرد على منكري رسالة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ورسوله". ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم حيث جمع بين شرف العبادة وشرف الرسالة لقوله: "عبده ورسوله". ومن فوائد الحديث: وجوب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الله لكونه رسولا من عنده، -تبارك وتعالى- قال: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حجزين} [الحاقة: 44 - 47]. فكل ما أخبر به - عليه الصلاة والسلام- عن الله فهو حق وصدق، وكذلك كل ما أخبر به عما وقع من الوقائع - حتى وإن لم تتعلق بالشرائع- فإنه يجب تصديقه - عليه الصلاة والسلام- لأنه معصوم من الكذب. ومن فوائد الحديث: فضيلة هذا الذكر عقب الوضوء، لكن عقب أي وضوء أم وضوءا كاملا؟ الوضوء الكامل لقوله: "فيسبغ الوضوء". المؤلف رحمه الله ساق ذكرا في أول الوضوء وذكرا في آخر الوضوء، الذكر في أوله البسملة، والذكر في آخره هذا الذي سمعتم. وأما في أثناء الوضوء فإنه ليس فيه ذكر، وما يذكر من أن لكل عضو من الأعضاء ذكرا مخصوصا، فإنه لا صحة له، فليس هناك أذكار في الوضوء إلا البسملة في أوله والتشهد في آخره. ومن فوائد الحديث: إثبات الجنة وأن لها أبوابا لقوله: "إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية". ومن فوائده: أن أبواب الجنة ثمانية، وقد ثبت بالكتاب العزيز أن أبواب النار سبعة، وهذا

مما يشير إلى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من "أن رحمة الله سبقت غضبه"؛ ولهذا كانت أبواب دار كرامته من أبواب دار عقوبته. ومن فوائد هذا الحديث: أن من قام بما ذكر تيسرت له أبواب الخير، يعني: فيسره للصلاة الصدقة، الجهاد، كل أبواب الخير. ومن فوائد هذا الحديث: الرد على الجبرية الذين ينكرون مشيئة العبد لقوله: "يدخل من أيها شاء"، وكذلك من قوله: "ما منكم من أحد يتوضأ"، فأضاف الفعل إلى الإنسان، وهذا هو الذي تدل عليه الأدلة السمعية والعقلية والواقعية، وأن الإنسان له مشيئة وإرادة، ولكننا نعلم أن الإنسان إذا شاء شيئا وفعله فإن الله تعالى قد شاءه وقدره ولا شك، فلا يكون في ملك الله تعالى ما لا يريد. ومن فوائد هذا الحديث في رواية الترمذي: أن الإنسان إذا فعل ما يكون سببا للطهارة والتوبة، فإنه لا يعتمد على ذلك ويعجب بعمله، بل يسأل الله القبول لقوله: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين". ومن فوائد الحديث الشريف: أن التوبة منزلة عالية ينبغي للمؤمن أن يسأل ربه إياها، لقوله: "اللهم اجعلني من التوابين" فما هي التوبة؟ التوبة بمعنى: الرجوع، وهي الرجوع من معصية الله إلى طاعته، ولها شروط خمسة: الأول: الإخلاص. والثاني: الندم على ما فعل من المعصية. والثالث: الإقلاع عنها. والرابع: العزم على ألا يعود. والخامس: أن تكون في الوقت الذي تقبل فيه التوبة، وذلك قبل حضور الأجل وقبل طلوع الشمس من مغربها. فهذه الشروط الخمسة لابد فيها من التوبة وإلا لم تقبل. وهل يشترط أن يتوب من الذنوب الأخرى؟ في هذا قولان للعلماء، قول أنه لا تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، والصواب أن التوبة من ذنب تصح مع الإصرار على غيره، وفصل بعضهم فقال: إن كان الغير من جنس ما تاب منه فإنه يقبل، وإن لم يكن من جنسه فإنه لا يقبل، يعني: لا تقبل التوبة، والصواب أنها قبل مطلقا، فلو تاب الإنسان من الزنا مثلا قبلت التوبة وإن كان مصرا على النظر إلى النساء، وإذا تاب من السرقة قبلت توبته وإن كان يأكل

5 - باب المسح على الخفين

أموال الناس بالباطل من جهة والغش والكذب وما أشبه ذلك، لكن استحقاق التوبة المطلقة لا يكون إلا بالتوبة من جميع الذنوب. ومن فوائد الحديث أيضا: أن التطهر منزلة عالية يجدر بالمسلم ان يسأل ربه إياها لقوله: "اللهم اجعلني من المتطهرين". ومن فوائده: في هذا الدعاء الأخير هذا الجمع بين طهارة الظاهر وطهارة الباطن، فمن أي جملة باب الباطن؟ "اللهم اجعلني من التوابين"، وباب الظاهر؟ "اللهم اجعلني من المتطهرين"، انتهى ما فتح الله به علينا في هذا الحديث وننتقل إلى باب المسح على الخفين. 5 - باب المسح على الخفين المسح على الخفين يتعلق بالطهارة بعضو من أعضائها وهما: القدمان، وجوازه ثابت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، ولم يخالف في هذا إلا الرافضة، لكن قولهم غير معتبر في الإجماع والخلاف. أما دلالته من القرآن: ففي قوله - تبارك وتعالى-: {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6]. على قراءة الجر، لأنها - أي: الآية - على قراءة الجر تجعل قوله: {وأرجلكم} من الممسوحات برءوسكم يعني: وبأرجلكم، وعلى قراءة النصب: تجعلها من المغسولات، فهل الإنسان مخي بين أن يمسح على القدم البارزة أو يغسلها؟ السنة تأبى ذلك؛ لأنه لم يرد عن النبي-عليه الصلاة السلام- حرف واحد أنه مسح على رجله وهي مكشوفة، وعليه فنرجع إلى فعل الرسول - عليه الصلاة والسلام- في تنزيل الآي بقراءتيها على ما كان يفعله - عليه الصلاة والسلام- إذا فعلنا ذلك وجدنا أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- كان يمسح رجليه إذا كان عليهما الخفان ويغسل إذا كانتا مشكوفتين. أما السنة فهي متواترة في هذا، وأنشدناكم من قبل بيتين حول هذا الموضوع. مما تواتر حديث من كذب ... ومن بنى لله بيتا واحتسب ورؤية شفاعة والحوض ... ومسح خفين وهذي بعض فالسنة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز المسح على الخفين وأنه مشروع، وأن الإنسان إذا كان لابسا لهما فمسحهما أفضل من خلعهما والغسل.

شروط المسح على الخفين

وأما إجماع السلف فهو معلوم، حتى إن بعض العلماء جعل هذا من العقائد، ووضعه في العقيدة. شروط المسح على الخفين: 53 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ فأهويت لأنزع خفيه، فقال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما". متفق عليه. قوله: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ" وذلك في غزوة تبوك حين رجع - عليه الصلاة والسلام- وكان معه المغيرة بن شعبة ينقل له الماء لوضوئه واستنجائه فتوضأ، "فأهويت لأنزع خفيه" يعني: أهويت برأسي لأنزع خفيه، وكأنه كان قائما يصب الماء على النبي صلى الله عليه وسلم فلما وصل إلى الرجلين أهوى لينزع الخفين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهما" يعني: اتركهما لا تنزعهما، ثم علل ذلك بقوله: "فإني أدخلتهما طاهرتين" هنا ضميران: "دعهما" و"أدخلتهما" "الهاء" في "دعهما"، و"أدخلتهما" هل مرجعهما واحد أو يختلف؟ لننظر "دعهما" يعني: دع الخفين لا تنزعهما، أو دعهما دع الرجلين، لا تصب عليهما، "فإني أدخلتهما" الضمير يعود على الرجلين؛ لأن الرجل هي المدخلة في الخف فيكون قوله: "أدخلتهما" معطوفا على الرجلين، وهذا يؤيد أن يكون الضمير في دعهما على الرجلين. "فمسح عليهما" على ماذا؟ على الخفين، وهذا يؤيد أن يكون قوله: "دعهما" يعود إلى الخفين، والمسألة سواء عاد إلى هذا أو إلى هذا فالحكم لا يختلف، وقوله: "أدخلتهما طاهرتين"، طاهرتين نعربها على أنها حال من الهاء في قوله: "أدخلتهما: ، "فمسح عليهما" ولم يذكر التفصيل في المسح، أي: لم يذكر أنه مسح اليمنى ثم اليسرى، لكنه أثبت أنه مسح عليهما. ففي هذا الحديث من الفوائد: جواز استخدام الحر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم المغيرة بن شعبة وهو حر. على السائل، فالمغيرة بن شعبة لما استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن ذلك من شرفه وفضله وأنها غنيمة أن يستخدمه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان استخدامك للشخص في فعل معين أو أكثر من فعل يدخل السرور عليه وتجد أنه يفرح بذلك فإن استخدامك إياه لا يعد من المسألة المذمومة. ومن فوائد الحديث: فضيلة المغيرة بن شعبة لخدمته النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائده: جواز خلع النعلين أو الخفين من الغير وإن كان هذا يستنفر منه كثير من الناس،

لكن كلما قويت الصلة سهلت هذه المسألة؛ يعني: كون الإنسان يناول صاحبه العصا أو ما أشبه ذلك لا يجد فيها غضاضة، لكن كونه يلبسه النعلين أو يخلعهما هذه فيها غضاضة عند كثير من الناس، ولكن نقول: كلما قويت الصلة سهلت هذه. ومن فوائد هذا الحديث: البناء على الأصل؛ يعني: جواز تصرف الإنسان بالبناء على الأصل لقوله: "لأنزع خفيه" بناء على الأصل، ما هو الأصل هنا؟ غسل الرجلين. المغيرة رضي الله عنه لم يستأذن الرسول فقال: أتأذن أن أخلع، بل أهوى لينزع بناء على الأصل. ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم الرسول - عليه الصلاة والسلام- وجبره للخاطر لقوله: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" فلما ذكر الحكم ذكر العلة. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أنه لا يمسح على الخفين إذا لبسهما على غير طهارة وجهه: أنه علل - عليه الصلاة والسلام- عدم خلعهما بأنه لبسهما على طهارة يفيد أنه يشترط لجواز المسح على الخفين فقط أن يلبسهما على طهارة وقوله: "طاهرتين" هل المراد أنه أدخلهما بعد أن طهرت القدمان أو يوزع الفعل على كل قدم وحدها؟ في هذا خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إنه لا يجوز أن يلبس الخفين إلا إذا تمت الطهارة بغسل الرجلين، وبناء على ذلك لو غسل الرجل اليمنى ثم لبس الخف ثم غسل اليسرى ولبس الخف فإنه لا يصح المسح عليهما حتى يخلع اليمنى ثم يعيد لبسها، وهذا هو المشهور من المذهب، وفيه حديث يشير إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسام قال: "إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح عليهما". فإن قوله: "إذا توضأ" لا يصدق عليه أنه توضأ إلا إذا تمت الطهارة، ثم هو أيضا أحوط. وأصحاب القول الثاني، يقولون: إنه أدخل كل قدم وهي طاهرة فصدق عليه أنه أدخلهما وهما طاهرتان، وهذا يقوى على القول بأن الإنسان إذا غسل كل عضو من أعضاء الوضوء ارتفع الحدث عنه، أما على قول من يقول إنه لا يرتفع الحدث حتى يتمم الأعضاء فلا شك أنه لابد أن يتمم غسل الرجلين. هل في المسألة صعوبة فيما لو أدخل اليمنى ثم اليسرى؟ ليس فيه صعوبة؛ لأن المطلوب منه الآن أن يخلع اليمنى ثم يعيد لبسها هذا المطلوب. فإن قال قائل: هذا نوع من العبث إذا ما معنى أن نقول: اخلع الخف ثم عد فالبسه؟ نقول: هذا ليس نوعا من العبث؛ لأن أصل وضع الخف أولا غير صحيح، كونه يلبسه قبل

أن تتم الطهارة هذا غير صحيح، فهذه ليست إعادة، هذا في الواقع لبس جديدا؛ لأن اللبس الأول الذي حصل قبل الوضوء ليس بصحيح لا يقره الشرع، بهذا ننفصل عن القول بأن هذا نوع من العبث. ومن فوائد هذا الحديث أيضا: أن المسح على الخفيبن أفضل من الغسل؛ وجه ذلك: أن الرسول قال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين"، فمسح عليهما وعلى هذا نقول: امسح ولا تخلع لتغسل، ولكن لو أن الإنسان لبس ليمسح فهل يمسح أو لا؟ في هذا تفصيل إن كان لبس ليمسح لغرض له في المسح فهنا يمسح وإن كان لبس ليمسح فيسقط واجب الغسل، فإنه لا يمسح، كما قلنا: إن الإنسان إذا سافر في رمضان ليفطر فإنه لا يحل له الفطر؛ لأن هذا تحيل على إسقاط واجب. ومن فوائد هذا الحديث: أن المسح على الخفين يكون مسحا عليهما معا لقوله: "فمسح عليهما"، ولم يذكر أنه بدأ باليمين، فعلى هذا يكون المسح عليهما جميعا باليدين، ولكن قد يقول قائل: إن مراد المغيرة رضي الله عنه أن يبين أصل المسح بقطع النظر عن الترتيب ولهذا ما ذكر غسل الوجه ولا اليدين ولا مسح الرأس، وأن الأفضل أن يبدأ باليمنى قبل اليسرى لعموم قول عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وتطهره وفي شأنه كله". مسألة: لم يذكر في هذا الحديث كيف يمسح ولا أي موضع يمسح. فنقول: إن المسح إنما هو على الأعلى - أعلى الخف- كما سيأتي إن شاء الله، والمسح وصفه العلماء بأن الإنسان يبل يده بالماء ثم يمر بها من أطراف الأصابع إلى الساق وتكون الأصابع مفرقة؛ لأنها لو كانت مضمونة لاختص المسح لجانب من الخف، فإذا كانت مفرقة كان أوسع؛ ولهذا قال: ينبغي أن يمسح مفرقا أصابعه من أطراف الرجل إلى الساق. ومن فوائد هذا الحديث: يسر الشريعة وسهولتها، حيث إن الله تعالى لم يوجب على العباد أن يخلعوا ويغسلوا؛ لأن في ذلك مشقة في النزع والغسل واللبس، فلهذا رخص للإنسان أن يمسح، وهذا دخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر". أسئلة: - المسح على الخفين هل دل عليه القرآن أم ثبت بالسنة؟ - لو قال لنا قائل: هذه القراءة مع قراءة: {وأرجلكم} تدل على أنه يجوز أن يغسل الرجل تارة ويمسحها تارة أخرى فما الجواب؟ -

صفة المسح على الخفين

المسح على الخفين هل هو افضل أو الخلع والغسل؟ - في حديث المغيرة ما يدل على أن الأفضل هو المسح ما وجهه؟ قوله صلى الله عليه وسلم: "دعهما". - شروط المسح على الخفين متعددة، فما الذي يدل عليه حديث المغيرة من الشروط؟ دخولهما طاهرتين. - رجل لبس الخف على غير طهارة فهل يجوز أن يمسح أو لا؟ لا يجوز. - لو نسي ومسح؟ يعيد الوضوء والصلاة. - لو قال قائل: إن الله قال: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا}؟ هذا قول مأمور، والمأمور لا يكتفى فيه بالنسيان، ولهذا لو سلم من ثلاثة في صلاة رباعية قلنا: أتمها. صفة المسح على الخفين: - وللأربعة عنه - أي: عن المغيرة - إلا النسائي: "ن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله". وفي إسناده ضعف. هذا الحديث يقول: إن الرسول مسح أعلى الخف، وهو: ما يكون على ظهر القدم، وأسفله تحت القدم، لكن هذا في إسناده ضعف، وعلل عندي في الحاشية؛ لأنه من رواية كاتب المغيرة وقد ضعفه أئمة الحديث، ثم إنه يخالف الحديث الذي بعده وهو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: 54 - وعن علي رضي الله عنه أنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه". أخرجه أبو داود بإسناد حسن. فهذان حديثان متعارضان، ولكن الأول ضعيف، والضعيف لا يقاوم ما هو أرجح منه ويكون أمامه ساقطا لا يعتد به، وعلى هذا فيكون المسح أعلى الخف كما قال علي رضي الله عنه مسندا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله رضي الله عنه: "لو كان الدين بالرأي" أي: بالرأي الأول الذي هو بادي الرأي "لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"، لكن الدين ليس بالرأي الأول وليس ببادي الرأي؛ بل الدين بالرأي العميق المبني على العقل الناضج؛ وإلا ولا شك أن الدليل والنقل الصحيح لا يمكن أن يعارضا العقل الصريح هذه قاعدة، والدليل على هذا أن الله دائما يقول: {أفلا تعقلون} مما يدل على أن الشريعة موافقة للعقل، وأن الذي يخالف الشريعة مخالف للعقل، وعليه فيكون قول علي رضي الله عنه: "لو كان الدين بالرأي" أي: بيادي الرأي "لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"، لكن الدين يكون بالعقل المتعمق الراسخ المتأني ولذلك تجد أكثر الذين يبنون أمورهم على بادي الرأي يفسدون أكثر مما يصلحون؛ لأنهم لم ينظروا إلى العواقب ولم ينظروا إلى النتائج والثمرات، فتجدهم يفسدون أكثر مما يصلحون؛ ولهذا لما سئل الإمام أبو حنيفة رحمه الله عن قوم يخرجون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لكن بالعنف وأخذ الناس؟ قال: لا يخرجون، قالوا: إنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر! قال: نعم، ولكنهم يفسدون أكثر مما يصلحون، وهذه قاعدة يجب على الإنسان أن يبني منهجه عليها، أن ينظر إلى العواقب، أنت ربما تشفي غليلك في هذه الحال، وترى أنك قد تشفيت، ولكن يحصل من المفاسد أكثر مما حصل من هذه المصلحة التي وقعت فانظر إلى العواقب، وإن الأمور التي نشاهدها الآن حولنا أو بعيدا منا تدل على ذلك، على أنه يجب أن نتأنى ونتصبر حتى نقدم الخطى. إذا نظرنا إلى هذه المسألة بالرأي العميق وجدنا أن أعلى الخف أولى بالمسح من أسفله؛ لأنك إذا مسحت على الخف مسحت على شيء نظيف، على شيء لم تلوثه الأرض بالأذى والقذر، ولو مسحت على الأسفل فتلوثت يدك بالأذى والقذر والوسخ، وليس المراد بهذا المسح أن نغسل الرجل، ولو كان المراد أن نغسل الرجل لوجب علينا أن نخلع، لكن المراد بالتعبد لله عز وجل بمسح هذا العضو بما يكون تطهيرا له، فعليه يكون الدين - وهو مسح الخف من أعلاه- موافقا للعقل وللرأي السليم الصواب. من فوائد حديث علي رضي الله عنه ما ذكرناه الآن: أن الدين ليس بالرأي الذي هو بادي الرأي. ومن فوائده أيضا: إسناد الأحكام الشرعية إلى من له التشريع وهو من الخلق من؟ الرسول - عليه الصلاة والسلام-؛ ولهذا قال: "وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " إلخ. ومن فوائد هذا الحديث: أن المسح على الظاهر ليس على الباطن، فمن مسح على الباطن فهو من المتعمقين والمتنطعين والمبتدعين أيضا. ومن فوائد الحديث: من قوله: "على ظاهر الخفين" أن أدنى مسح كاف؛ لأنه لم يقل: مسح

بظاهر الخفين حتى نقول: إنه يجب استيعاب ظاهر الخف كقوله تعالى: {وامسحوا برءوسكن وأرجلكم} حيث قلنا: إن الباء في قوله: {برءوسكم} للاستيعاب، فيجب أن يكون مسح الرأس في الوضوء شاملا لجميع الرأس، لكن هنا قال "علي": فيكفي أدنى مسحة، ولكن هذه المسألة فيها خلاف والمذهب الوسط فيها ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله أن يكفي مسح أكثر الظاهر فلو أمر يده على ظاهر الخف من أصابعه إلى ساقه كفى، ولا يمسح العقب والأسفل، بل من أطراف الأصابع إلى أن يصل إلى الساق. ثم هنا يقول: "على ظاهر خفيه"، ولم يقل: هل بدأ باليمين أو بدأ بالشمال أو مسح عليهما جميعا باليدين؟ أما كونه بدأ بالشمال فهذا غير وارد؛ لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله. الوارد هل مسحهما جميعا باليدين أو بدأ باليمنى؟ هذا محل نظر، فمن العلماء من قال: يمسحها جميعا باليدين؛ لأن هذا ظاهر الحديث "مسح عليهما"، ولم يذكر أنه بدأ باليمنى؛ فعلى هذا يكون المسح عليهما مرة واحدة باليدين اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى. ومنهم من قال: إن الصحابي أراد أن يبين وقوع المسألة بقطع النظر عن كونه بدأ باليمين أو بدأ بالشمال، ونحن نقول: إن المسح فرع عن الغسل، والغسل يبدأ فيه باليمين، وما دام الأمر مترددا بين هذا وهذا فإن العلماء بعضهم قال بهذا؛ وبعضهم قال بهذا؛ يعني بعضهم قال: يمسحهما جميعا، وبعضهم قال: يبدأ باليمين، والأمر عندي في هذا واسع، المهم أن يمسح عليهما. ومن فوائد هذا الحديث: الرد على الرافضة؛ لأنهم يرون علي بن أبي طالب إمام الأئمة، والأئمة عندهم معصومون من الخطأ وهم لا يرون المسح على الخفين، وعلي رضي الله عنه أحد الصحابة الذين رووا أحاديث المسح، وهو خليفة من خلفاء المسلمين ومع ذلك لا يقبلون هذا، مما يدل على أن القوم إنما يتبعون أهواءهم لا يتبعون الحق، قال ابن كثير: في غالب ظني إنهم خالفوا الحق في تطهير الرجل من وجوه ثلاثة: أولا: أنهم قالوا: يجوز مسح الرجل المكشوفة بدلا من غسلها. وثانيا: أنهم جعلوا الكعبين هما العظمان الناتئان على ظهر القدم، فيكون التطهير في نصف القدم فقط. وثالثا: أنهم منعوا من مسح الخفين، وكل هذا ثابت كما مر عليكم ويمر إن شاء الله.

حقيقة السفر ومدة المسح للمسافر

حقيقة السفر ومدة المسح للمسافر: 55 - وعن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا ألا نزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم". أخرجه النسائي، والترمذي واللفظ له، وابن خزيمة وصححاه. قوله: "كان" سبق الكلام على "كان" وأنها للدوام غالبا لا دائما، وقوله: "يأمرنا" المر هو: طلب الفعل على وجه الاستعلاء، هذا الأمر يعني: واحد يشعر بأنه أعلى منك ويقول: افعل كذا، ولا يمكن أن يكون هذا إلا من شخص يرى أنه فوقك، وأما طلب الفعل على غير وجه الاستعلاء فهذا قد يكون للإكرام، وإن كان أمرا لكن ليس للإلزام قد يكون للإكرام وقد يكون للالتماس وله معان على حسب القواعد. وقوله: "إذا كان سفرا" أي: مسافرين، والسفر بمعنى المسافر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة وهو يصلي بهم في غزوة الفتح: "أتموا فإنا قوم سفر". أي: مسافرين، وقوله "إذا كنا سفرا" السفر: مأخوذ من الإسفار، وهو البيان والوضوح، وعلى هذا فيكون المعنى المطابق له: خروج الإنسان من المدينة التي هو ساكن فيها؛ لأنه إذا خرج أسفر عن نفسه ولم يكن أمامه ما يظلمه؛ لأنه خرج إلى البر لكن هل هذا المراد؟ المراد به: السفر الشرعي؛ وهو على رأي كثير من العلماء ما كان مسيرة يومين قائدين على الإبل المحملة، وتقديره نحو: ثلاثة وثمانين كيلو مترا بالمسافة هذا هو السفر الشرعي الذي يترتب عليه أحكام السفر، واختار شيخ الإسلام رحمه الله اختيارا لا شك أنه أقرب إلى الأدلة، وهو أن السفر جاء في النصوص مطلقا، والشيء إذا جاء في النصوص مطلقا يحمل على العرف إذا لم يكن له حقيقة شرعية، وعلى هذا ورد في القواعد. وكل ما أتى ولم يحدد ... بالشرع كالحرز فبالعرف احدد فيقول: شيخ الإسلام: أين الدليل من الكتاب والسنة على أن السفر مسافة كذا وكذا؟

والرسول - عليه الصلاة والسلام- والكلام لشيخ الإسلام- في زمن لم يكن هناك مساحون يقيسون الأرض بالذراع وبالأصابع ويحب الشعير؛ لأن الذين قدروها بالمسافة يصلون بالتقدير إلى حبة الشعير وإلى شعرة البرذون، وعليه فأنا الآن مما ألي البلد هنا غير مسافر لأني ما أكملت حبة الشعير والذين أمامي الآن مسافرون، هذه في الحقيقة إذا تأمله الإنسان وجد انه ليس بصواب، لكن فيه شيء يجعله قولا مقبولا، وهو أنه أضبط من أن يقال إن السفر ما عده الناس سفرا؛ وذلك لأنهم يختلفون في عد هاذ سفرا أو غير سفر، فيكون تحديده من مسافة أضبط، ويقال: إنه يعفى عن الذراع والذراعين والمتر والمترين وما أشبه ذلك؛ إذن يترجح كلام شيخ الإسلام رحمه الله من وجه وهو أنه أقرب إلى النصوص ويترجح الآخر من وجه وهو أنه أضبط؛ لأنك متى قطعت المسافة وأنتم جميعا ترون هذا أنه مقدر بالمسافة هل تختلفون؟ إذا قطعنا (83) كيلو مترا ولو كنا نسافر في آخر النهار، وكلنا يعتبر المسافة فكلنا يرى أننا مسافرون ويطمئن ويقصر الصلاة ويجمع ولا يبالي، لكن إذا قلنا إنه معتبر بالعرف ووصلنا إلى مكان، وكان بعضنا يرى أن هذا سفر عرفا والآخر لا يراه سفرا عرفا حصل نزاع وحصل قلق، هل نجمع ونقصر أو لا؟ وإلا فلا شك أن السنة تؤيد كلام شيخ الإسلام رحمه الله، حتى إنه ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين. شيخ الإسلام رحمه الله يقول: بالنسبة لهذه المسألة: المسافة القريبة للزمن الطويل سفر، والمسافر البعيدة للزمن القصير سفر، والمسافة الطويلة في الزمن الطويل سفر من باب أولى، والمسافة القصيرة في الزمن القصير ليس سفرا. قوله: "إذا كان سفرا أمرنا ألا ننزع خفافنا" يعني: إذا كانت علينا وتمت الشروط ثلاثة أيام بلياليهن كم ساعة؟ (72) ساعة، لكن متى تبدأ هل هو من اللبس أو من الحدث بعد اللبس أو من المسح بعد الحدث، أو من المسح ولو من غير حدث لدينا أربعة احتمالات: الأول: من اللبس، وهذا ضعيف. الثاني: من الحدث بعد اللبس، وهذا ضعيف لكنه دون ضعف الأول. الثالث: من المسح بعد الحدث؛ وهذا أقرب الأقوال؛ لأن الذي ورد في الحديث "فمسح" ولا يصدق المسح إلا بفعله، فيكون ابتداء المدة من المسح. الرابع: من أول مرة مسح ولو تجديدا، فيكون مسحا بدون حدث، والنصوص محتملة له؛ لكن لندرته وقلته ينبغي ألا يحمل الحكم عليه ويقال إنه من المسح بعد الحدث.

يقول: "إلا من جنابة" يعني: لا ننزعها إلا من جنابة، والجنابة: كل ما أوجب غسلا من جماع أو إنزال ولكن من غائط وبول؛ ونوم. في هذا الحديث فوائد منها: مراعاة التيسير على الأمة، وذلك بتيسير أحكام السفر في الطهارة وما يتعلق بها، وفي الصلاة وما يتعلق بها، وفي الصيام وما يتعلق به، تجد الشريعة يسرت الأحكام بالنسبة للمسافر، فيستفاد من هذا مراعاة الشريعة للتسهيل. ومن فوائده أيضا: بيان الحكمة في التشريع، وأنه يناسب الأحوال، وهذا ظاهر جدا في العبادات وفي المعاملات، فمثلا في العبادات ما رأيتم المسافر يمسح كم؟ ثلاثة أيام بلياليهن والمقيم يوما وليلة، الصلاة الرباعية تتم في الحضر وتقصر في السفر، الجمع يجوز في السفر. كذلك في المعاملات بيع التمر بالرطب حرام؟ لكن إذا احتاج الإنسان إلى الرطب وليس عنده دراهم جاز أن يشتري الرطب بالتمر بالشروط المعروفة في العرايا، هذا أيضا تسهيل بل لدينا قاعدة: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم} [الأنعام: 119]. هذه قاعدة: "كل حرام يضطر الإنسان إليه وتندفع ضرورته به يكون حلالا"، وهذا مما يدل على أن الشريعة تراعي الأحوال. ومن فوائد هذا الحديث: أن من كان لابسا للخف فإنه لا ينزعه بأمر الرسول لقوله: "أمرنا ألا ننزع"، وهو مما يؤيد ما ذكرناه أولا بأن من كان لابسا الخفين فإنه لا ينزعهما؛ لأن هذا في باب التعمق والتنطع بل مسح عليهما من هو أتقى لله منك وأعلم بالله منك. ومن فوائد هذا الحديث: أن المسافر يمسح ثلاثة أيام بلياليهن. ومن فوائده: أنه لا مسح على الخف في الجناية؛ لأن حدث الجناية أغلظ من حدث البول والغائط؛ فلهذا ليس فيها مسح إلا في حال الضرورة في الجبيرة كما سيأتي إن شاء الله. ومن فوائد هذا الحديث: أن المسح يكون بالحدث الأصغر وهو متفرع على الفائدة التي ذكرنا. ومن فوائده: أن الغائط والبول والنوم ناقض للوضوء لقوله: "إلا من بول وغائط ونوم" وظاهر الحديث: أنه لا فرق بين الغائط القليل والكثير، وكذلك البول لا فرق بين القليل والكثير والنوم ظاهر الحديث لا فرق بين القليل والكثير، لكن دلت أدلة أخرى أن هناك فرقا بين القليل والكثير بالنسبة للنوم، إذن يستفاد من هذا الحديث: أن الغائط ناقض للوضوء قل أو كثر، البول ناقض للوضوء قل أو كثر، النوم ناقض للوضوء قل أو كثر، لكن هذا مقيد - النوم- بأحاديث أخرى أنه إذا كان النوم قليلا فإنه لا ينتقض به الوضوء، وسيأتي - إن شاء الله- بيان ذلك. هل حديث صفوان هنا حصر نواقض الوضوء أو هناك نواقض أخرى؟ سؤال: - هناك نواقض أخرى منها الريح، وهي لم تذكر هنا، ومنها لحم الإبل وهو لم يذكر هنا، المهم أن صفوان رضي الله عنه إنما ذكر أمثلة فقط ولا تدل على الحصر.

مدة المسح للمقيم

مدة المسح للمقيم: 56 - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم". يعني: في المسح على الخفين. أخرجه مسلم. "جعل النبي"، اعلم أن جعل تنقسم إلى قسمين: جعل قدري وجعل شرعي، فمثال الشرعي قول الله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} [المائدة: 103]. هذا جعل شرعي أم قدري؟ شرعي ولا يصح أن يكون قدريا؛ لأن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام موجودة، فيكون نفي الجعل هنا للجعل الشرعي، أي: ما شرع الله هذا. والجعل القدري كثير في القرآن: {وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا} [النبأ: 10، 11]. أي جعل هذا؟ هذا جعل قدري، فقول علي رضي الله عنه: "جعل النبي" من أيهما؟ الشرعي. "ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر" كما في حديث صفوان، "ويوما وليلة للمقيم" تبتدئ من أول لبسه بعد الحدث، وعلى هذا لا يحسب من المدة ما كان قبل المسح بعد الحدث، فلو أن رجلا لبس الخف لصلاة الفجر، ويبقى على طهارة ولم يمسح إلا لصلاة العشاء ابتداء المدة من متى؟ من مسح العشاء؛ ولهذا ربما يبقى ثلاثة أيام وهو مقيم ربما يبقى على الطهارة حتى ينام، ولا يمسح إلا لصلاة الفجر من اليوم الثاني، فتبدأ المدة من صلاة الفجر، وتنتهي عند صلاة الفجر من اليوم الثالث، وإذا بقي على طهارة إلى العشاء يكون صلى بخفيه ثلاثة أيام، وأما قول العامة خمس صلوات؛ فهذا لا أصل له. وفوائد هذا الحديث لا تزيد على فوائد حديث صفوان إلا في المقيم "يوما وليلة". 57 - وعن ثوبان رضي الله عنه قال: "بعث رسول الله صلى الله ليه وسلم سرية، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب - يعني: الغنائم- والتساخين- يعني: الخفاف-". رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم. "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية" أي: أرسلها لقال العدو، والسرايا نوعان: سرية تبعث من البلد، وسرية تبعث من الجيش تنطلق في أثناء السفر إلى قتال العد من الجيش، "وأمرهم أن يمسحوا على العصائب" يعني: العمائم، وسميت عصائب؛ لأنها يعصب بها الرأس، "والتساخين؛ -يعني: الخفاف-"، وسميت تساخين؛ لأنها تسخن بها القدم، فإن ذلك الخف لابد أن يكون في لبسه إياه تسخين للقدم.

فيستفاد من هذا الحديث: أولا: مشروعية بعث السرايا، لكن بشرط ألا يكون في هذا البعث إلقاء بالنفس إلى التهلكة، مثل أن يرسل سرية لجيش يبلغ آلافا، فهنا لا يجوز لقول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء: 29]. أسئلة: - لو كان الدين بالرأي، ما المراد بهذا الرأي؟ بادي الرأي. - هناك أشياء لا مدخل للعقل فيها مثل؟ - هل الدين يخالف العقل أو لا؟ - ما هي الحكمة من كون المسافر يمسح ثلاثة أيام والمقيم يوما وليلة؟ - هل تعرف شيئا رخص للمسافر فيه ولم يرخص للمقيم؟ عودة للحديث: لم نكمل الكلام على حديث ثوبان، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأمرهم أن يمسحوا على العمائم والتساخين - يعني: الخفاف-، ما هي العصائب؟ نقول: العمائم، والتساخين هي الخفاف، فلماذا سميت تساخين؟ لأنها تسخن القدم. في هذا الحديث فوائد؛ منها: مشروعية بعث السرايا سواء كانت تقطع من الجيش أو مرسلة من الأصل من البلد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. ومنها: جواز المسح على العمائم وهي التي تعمم على الرأس. أولا: وهل لها شروط؟ لننظر، ذكر الفقهاء - رحمهم الله- أنه يشترط أن يلبسها على طهارة قياسا على الخف، فإن الخف لابد أن يلبسه على طهارة، قالوا: فكذلك العمامة، ولكن هذا قياس غير صحيح لأمرين: الأمر الأول: أنه لم يذكر عن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أنه أمر الإنسان أن يلبس العمامة على طهارة مع أنه لو كان شرطا لكان مما تتوفر الدواعي على نقله، فلما لم يرد قلنا: الأصل عدم الاشتراط. الأمر الثاني: أن القياس لابد فيه من مساواة الفرع للأصل، وهنا لا توجد مساواة، وذلك بأن الرجل مغسولة والرأس ممسوح، فتطهير الرأس قد سهل فيه من أصله حيث إنه مسح، فإذا كان سهل فيه من أصله، فلا يمكن أن يقاس الأسهل على ما هو أصعب منه، فيقال: كما سهل في أصله - أصل تطهير الرأس- كذلك يسهل في الفرع وهي العمامة التي تلبس عليه.

ثانيا: هل يشترط أن تكون المدة يوما وليلة، أم يجوز ما دام لابسا على العمامة فإنه يمسح عليها؟ المذهب أنه لابد أن تكون يوما وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر قياسا على الخف، وقد علمتم أن هذا القياس لا يصح؛ لأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث لا صحيح ولا ضعيف أنه وقت لمسح العمامة يوما وليلة أو ثلاثة أيام، ثم إن القياس أيضا غير تام لاختلاف الأصل والفرع، على هذا نقول: البس العمامة متى شئت وامسح عليها متى شئت. ثالثا: هل يشترط في العمامة شرط فوق كونها مطلق عمامة؟ المذهب: نعم، لابد أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة، فالمحنكة أن يدار منها لية تحت الحنك، أو ذات ذؤابة من الخلف؛ حجتهم في ذلك قالوا: لأن الحكمة من جواز المسح على العمامة مشقة النزع، وهذا لا يتحقق في عمامة وضعت على الرأس دون أن تكون محنكة، لكن المحنكة يصعب على الإنسان نزعها، أما ذات ذؤابة فلأن هذه العمامة المشهورة عند العرب وفاقدتها لا تسمى عمامة، ولكن هذا فيه نظر، والصواب أنه يجوز أن نمسح على العمامة الصماء التي ليست ذات ذؤابة، ولا محنكة. أما الأول فنقول: أين الدليل على أنه لابد أن تكون محنكة، والتعليل بأنه لمشقة النزع؟ يقال: إن هذا لا يقاس على الخف؛ لأن أصل تطهير الرأس مخفف، ثم إنه قد يشق على الإنسان ليمسح الرأس؛ لأن بعض العمائم يكون لياتها كثيرة فلو نزعها بقي وقتا يرد طيها. وثانيا: أن هناك أذى؛ لأن العمامة لابد أن تكسب الرأس حرارة فإذا كشفها أو نزعها ليمسح الرأس في أيام الشتاء خاصة، فإنه يتأذى بذلك وربما يتضرر؛ لأنه سيقابل رأسه برودة. فالصواب - إذن-: أنه لا يشترط في العمامة أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة، وأما كون هذه عمائم العرب فإن سلم هذا فالنصوص جاءت مطلقة بدون تقييد. فإن قال قائل: وهل تجيزون المسح على الطاقية والغترة؟ فالجواب: لا؛ لأنها لا تسمى عمامة، وليس فيها أدنى مشقة، لكن هناك شيء لا يقاس على العمامة وهو القبع الذي يلبس على الرأس في أيام الشتاء، وهو قبع من صوف أو من قطن يلبسه الإنسان على رأسه ويكون له فتحة للوجه وطوق على العنق، فهذا لا شك أن المسح عليه جائز وهو أولى بجواز المسح من العمامة؛ لأن هذا يشق على الإنسان أن يخلعه، وهو أيضا أشد ضررا على الرأس من خلع العمامة؛ لأنه يستعمل غالبا في أيام الشتاء. فإن قال قائل: وهل تجيزون المسح على الرأس إذا كان ملبدا بالصمغ والعسل وما أشبه ذلك؟

حكم المسح على الخفين في الجنابة

فالجواب: نعم نجيز هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قد لبد رأسه، وهذا مما يدلك على أن المسح على ما فوق الرأس أمر ميسر. فإن قال قائل: فالنساء تلبس حليا على رأسها وتشبكه في الشعر وتخيطه عليه فهل يلزمها نزعه عند الوضوء أو تمسح عليه؛ لأن مشقة هذا أيضا شديدة، وكما سمعتم أن المسح على الرأس أمر مخفف. "التساخين" يقول: هل الخفاف، يؤخذ من هذا الحديث جواز المسح على الجوارب؛ لأن عموم قوله: "التساخين" وإن فسرت بالخفين فإنها من باب تفسير الشيء ببعض معناه، فالتساخين كل ما تسخن به الرجل من جوارب وخفاف وغيرها. فهل يجوز المسح على الخف الرقيق أو المخرق؟ الجواب: نعم على القول الراجح؛ لأن هذا يحصل فيه تسخين القدم. وهل يجوز المسح على اللفائف، يعني: لو كان هناك برد شديد، أو حر شديد فلوقاية الرجل لف عليها لفائف فهل يجوز المسح عليها؟ الجواب: نعم، لا شك في هذا؛ لأن إزالة هذا الملفوف أشد من الخف أو الجورب. فإن قال قائل: وهل يجوز المسح على الخف المخرق؟ قلنا: نعم ما دام اسم الخف باقيا أو اسم الجورب باقيا، فإنه يجوز المسح عليه؛ لأن النصوص جاءت مطلقة، ثم إن المقام مقام رخصة وتسهيل، وإذا كان المقام رخصة وتسهيل فلا ينبغي أن نشدد على عباد الله في شيء لم يثبت في شريعة الله، وهذه قاعدة يجب على الإنسان أن يهتم بها، أي شرط تشترطه في أي حكم من الأحكام فاعلم أنك بذلك ضيقت الشريعة؛ لأن الشروط قيود، وإذا قيد المطلق صار تضييقا على الناس، فأي شرط تضيفه إلى حكم من الأحكام فاعلم أنك ضيقت شريعة الله، وسوف يحاسبك الله على هذا؛ لأن الله أطلق لعباده ويسر لعباده، ثم تأتي أنت بزيادة قيد أو شرط لم يكن موجودا في القرآن والسنة ولا القياس الصحيح، فإنك سوف تحاسب على هذا. حكم المسح على الخفين في الجنابة: 58 - وعن عمر رضي الله عنه - موقوفا- وعن أنس - مرفوعا-: "إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من الجنابة". أخرجه الدارقطني، والحاكم وصححه.

قوله: "إذا توضأ أحدكم" متى يصدق على الإنسان أنه توضأ؟ إذا أتم طهارته: إذا غسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، وغسل رجليه، صح أنه توضأ، وقوله: "فليمسح عليهما وليصل فيهما" اللام في هذين الفعلين للأمر، ولذلك سكنت اللام لوقوعها بعد الفاء في الجملة الأولى، وبعد الواو في الجملة الثانية. ففي هذا الحديث دليل على فوائد: منها: أنه لا يجوز المسح على الخفين إلا إذا لبسها بعد استكمال الطهارة، وهذا يؤخذ من قوله: "إذا توضأ". ومن فوائد هذا الحديث: أنه يرجح القول في أنه غسل الرجل اليمنى وأدخلهما الخف، ثم اليسرى وأدخلها الخف، فإذا لا يسمح لأنه أدخل اليمنى قبل أن يتم وضوءه، فإذا صح هذا الحديث فإنه يرد القول بأنه يجوز أن يدخل الرجل اليمنى قبل أن يغسل اليسرى ثم يغسل اليسرى ويدخلها وهذا جائز عند شيخ الإسلام رحمه الله وجماعة من العلماء، وقال: إنه لا ينافي حديث المغيرة "إني أدخلتهما طاهرتين"، لكن إذا صح هذا الحديث فهو واضح أنه لابد من استكمال الطهارة، والأمر سهل، يعني: لا يبقى عليك أن تخرج من الشبهة إلا أن تؤخر إدخال اليمنى حتى تغسل اليسرى. ومن فوائد هذا الحديث: ترجيح المسح على الخلع للابس الخف لقوله: "فليمسح عليهما، ولا يخلعهما" وقد سبق بيان ذلك. ومن فوائد هذا الحديث: الصلاة في الخفين لقوله: "فليصل فيهما". فإن قال قائل: أرأيتم لو كان فيهما قدرا نجسا؟ قلنا: لا يصلي فيه حتى يطهره، وبماذا يطهرهما؟ يطهرهما بالتراب يمسح الخف في الأرض حتى تزول النجاسة؛ لأنه هكذا جاءت السنة، وأما قول من يقول: لابد من غسلهما فهذا قول ضعيف لمخالفته السنة من وجه؛ ولأن فيه مشقة على الإنسان؛ لأنه لو غسل الخف ثم لبسه تأذى بالبرودة؛ ولأن فيه إفسادا للخف فعلى كل حال لا شك أن تطهير الخفين بالتراب. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا مسح على الخفين في الجنابة لقوله: "ولا يخلعهما إن شاء الله إلا من الجنابة" وسبق ذلك، وبيان الحكمة من كون الجنابة لابد فيها من غسل الرجل. 59 - وعن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه رخص للمسافر ثلاثة أيتام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه: أن يمسح عليهما". أخرجه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة.

يقال في قوله: "إذا تطهر". ما قيل في قوله: "إذا توضأ"، والباقي واضح. 60 - وعن أبي بن عمارة رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: نعم. قال: يوما؟ قال: نعم. قال: ويومين؟ قال: نعم. قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت". أخرجه أبو داود، وقال: ليس بالقوي. عندي تعليق على هذا: قال الإمام أحمد: رجاله لا يعرفون، وقال الدارقطني: هذا إسناد لا يثبت. وقال ابن معين: إسناد مظلم. الحديث هذا يدل على أنه لا توقيت في المسح على الخفين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم وما شئت"، لكنه إذا كان لا يثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام- فإنه لا عبرة به، ولا يرجع إليه، وذكره المؤلف رحمه الله ليبين قول أبي داود فيه، وقال: ليس بالقوي، وبعض العلماء قال: إنه يصح هاذ الحديث ويحمل على الضرورة، بأن يكون الإنسان مسافرا لا يتمكن من الحصول على الماء لغسل الرجلين في كل وضوء، أو يكون في مكان بارد بحيث لو خلع الخف لسقطت أصابعه من البرد، أو ما أشبه ذلك، ولكن هذا محمل ضعيف؛ لأن الحديث ليس فيه هذا، ويكفينا أن نقول: هذا الحديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الصحيحة الصريحة دالة على التوقيت فيؤخذ بها، أما مسألة الضرورة كما لو كان الإنسان في جو بارد شديد يخشى على قدميه من التفتر، أو من سقوط الأصابع من البرد فهذا يقال فيه: إنه يعامل معاملة الجبيرو، يعني أنه يمسح عليه ما كان محتاجا. 5 -

6 - باب نواقض الوضوء

6 - باب نواقض الوضوء "نواقض" جمع ناقض، ويجوز أن يجمع فاعل لغير من يعقل على فواعل، ونواقض الوضوء: هي مفسداته، واعلم أن العلماء - رحمهم الله- يعبرون عن المفسدات تارة بالمبطلات، وتارة بالمفسدات، وتارة بالنواقض، وكل هذا التعبير بمعنى واحد، واعلم أيضا أن الأصل بقاء الوضوء وصحة الوضوء، ما دام قد توضأ على وجه شرعي، فمن ادعى أن شيئا ما ناقض فعليه الدليل، هذا الأصل اجعله معك، كما أن الرجل لو كان متوضئا ثم شك هل أحدث فماذا يصنع؟ يبني على أنه متوضئ، كذلك إذا قال قائل: هذا ينقض الوضوء: قلنا: الأصل عدم النقض فلا ينقض الوضوء شيء إلا إذا ثبت بالسنة، أو بالقرآن، والقرآن ذكر الله فيه {أو جاء أحد منكم من الغائط} [المائدة: 6]. والسنة جاءت بأشياء أخرى تتبين - إن شاء الله- فيما بعد. أسئلة: - أحاديث المسح على الخفين متواترة، والمتواتر يفيد العلم فهل دل عليه القرآن؟ نعم، قراءة الكسر. لو قال قائل: قراءة الكسر تفيد جواز المسح، وقراءة الفتح تفيد وجوب الغسل، أفلا يمكن أن نجعل الإنسان مخيرا بين هذا وهذا؟ لا يجوز ذلك لأن السنة تفسر القرآن، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح على قدميه. - أيهما أولى أن يمسح أو يغسل؟ المسح. - ما هو دليلك على أن الأولى المسح إذا كانت مستورة؟ قوله للمغيرة: "دعهما". - يرى شيخ الإسلام وجماعة من العلماء أنه يجوز للمتوضئ أن يغسل رجلا ويدخلها الحف، ويغسل الأخرى ويدخلها الخف فما صحة هذا الرأي؟ هو خطأ؛ لأن الأحاديث اشترطت الطهارة الكاملة. - المدة للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ما هو الدليل؟ حديث علي. - في هذا الحديث ما يدل على أن الرافضة يتبعون أهواءهم في شريعة الله كيف ذلك؟ لأنه من رواية علي، وهم يدعون أنهم شيعته ومع ذلك لم يأخذوا به. - متى ابتداء المدة؟ من أي حديث يؤخذ؟ من قوله: "ترخص في المسح". - إذا مسح عن تجديد فهل يصح؟ - في حديث أبي بن عمارة إشكال، ما هو؟ قوله: "وما شئت". - كيف نجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى؟ هو ضعيف فلا يعارض الأحاديث الأخرى. - لو لبس الخفين على غير طهارة؟ لا يمسح، ما الدليل؟ قوله: "أدخلتهما طاهرتين". - ما العمل لو مسح وصلى، بماذا نفتيه؟ نفتيه بإعادة الوضوء والصلاة. -

حكم نقض الوضوء بالنوم

لماذا؟ لأن الوضوء غير صحيح. - هل يجوز المسح على العمامة؟ نعم. - هل لها مدة معينة؟ ليس لها مدة. ما الدليل؟ عدم الدليل على مدة محددة. - لو قال قائل: نقيسه على الخفين لا يصح، لماذا؟ لأن الرأس خفف في طهارته لا يجب فيه إلا المسح. - الطهارة الكبرى وهي طهارة الجنابة هل فيها شيء ممسوح؟ ليس فيها شيء ممسوح إلا الضرورة فقط، وهي الجبيرة أما التيمم فهو مسح في الطهارة الصغرى والكبرى. قاعدة مهمة: نواقض الوضوء: هي مفسداته، واعلم أن العلماء - رحمهم الله- أحيانا يقولون: مفسدات العبادة، أو مبطلات العبادة، أو نواقض العبادة، أو موجبات العبادة، وهذا اختلاف تعبير والمعنى واحد. - ما هو الأصل: هل هو بقاء الوضوء أو عدمه؟ بقاؤه وبناء على هذا الأصل يبقى الإنسان على وضوئه حتى يوجد دليل صحيح يدل على انتقاض الوضوء، هذه القاعدة لابد أن تؤسسوها بمعنى أن الوضوء صحيح باق، ولا يمكن إزالة هذا الأصل إلا بدليل صحيح. فلنبدأ الآن بالنواقض، يقول المؤلف رحمه الله: حكم نقض الوضوء بالنوم: 61 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عهده- ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم، ثم يصلون ولا يتوضئون". أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم. "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل يكون من أصحابه وإن لم يلازمه، بل لو اجتمع به مرة واحدة مؤمنا به فهو من أصحابه وغيره لا يكون الصاحب إلا مع الملازمة، إذن أصحاب النبي المراد بهم من اجتمع به مؤمنا به ومات على ذلك، وسواء كان مؤمنا به حقيقة، أو حكما. الحقيقة: أن يكون بالغا عاقلا، أو مميزا يؤمن بالرسول - عليه الصلاة والسلام-. والحكم: أن يكون طفلا لا يعقل كمحمد بن أبي بكر رضي الله عنهما فإن ولد في حجة الوداع وهو صحابي لكنه مجتمع به حكما.

وقوله: "ينتظرون العشاء" يعني: العشاء الآخرة، واعلم أن الأعراب يسمون العشاء "العتمة" فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ وقال: "لا يغلبنكم الأعراب على صلاتكم العشاء العتمة، فإنها في كتاب الله العشاء". هذا الحديث أو معناه المهم أنه لا ينبغي أن تسمى العتمة بل تسمى العشاء، كما سماها الله عز وجل، "حتى تخفق رءوسهم" أي: تنزل من النعاس، "ثم يصلون ولا يوضئون". "وأخرجه أبو داود وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم". في هذا الحديث دليل على فائدة مهمة وهي: أن ما فعله الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو حجة، سواء علمنا أنه اطلع عليه أم لم نعلم، فإن علمنا أنه اطلع عليه فواضح أنه حجة، وجه وضوحه: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وإن لم نعلم أنه اطلع عليه فقد اطلع عليه الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وسكوت الله عنه دليل على أنه رضيه؛ لأنه لو فعل أحد شيئا على وجه الاختفاء والله تعالى لا يرضاه بينه الله، كما قال تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا [النساء: 108]. فدل هذا على أن ما فعل في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام- أو قيل في عهده هو حجة، سواء علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع عليه أم لم نعلم، وهذه فائدة مهمة من أمثلتها هذا الحديث. لو قال قائل: ما الذي أعلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما اطلع عليه؟ نقول: إذا قدرنا فرضا أنه لم يطلع فقد اطلع عليه الله، ومن ذلك أن القول الراجح جواز إمامة المفترض بالمتنفل، يعني أن يكون الإنسان يصلي نفلا ووراءه من يصلي فرضا، والدليل فعل معاذ رضي الله عنه فقد ان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة. فإذا قال قائل: وهل علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك؟ نقول: على تقدير أنه لم يطلع فقد اطلع عليه الله عز وجل وأقره، مع أنه يبعد أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- لم يطلع على ذلك، وقد حصل ما حصل من تخلف الرجل عن الصلاة مع معاذ لتطويله ووعظ النبي صلى الله عليه وسلم معاذا، المهم أن هذه القاعدة مفيدة جدا، وقد رأينا كثيرا من العلماء - رحمهم الله- عند الجدال في مثل هذه الأمور يقول: ومن الذي أعلمنا أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- اطلع فنقول: الحمد لله إذا لم نعلم أن الرسول اطلع فقد اطلع عليه الله؛ ولهذا إذا استخفى أحد بشيء لا يرضاه الله بينه الله عز وجل.

من فوائد هذا الحديث: أن عمل الصحابة حجة، وهذا في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام- لا إشكال فيه؛ لإقرار الله ورسوله عليه، لكن بعده هل يكون فعل الصحابة حجة؟ الجواب: إن أجمعوا على ذلك فهو حجة، ولا شك أن إجماعهم أمر يمكن الاطلاع عليه، والمراد بالإجماع الذي يعتبر: إجماع أهل العلم أهل الاجتهاد، وهؤلاء يمكن حصرهم في عهد الصحابة - رضي الله عنهم-، فإذا كانوا قد أجمعوا على القول أو على الفعل فالأمر واضح في أنه حجة وإن انفرد به أحدهم فإن انتشر وشاع مثل أن يقول أحدهم قولا حال خطبة من الناس أو ما أشبه ذلك فهذا يقال فيه: إنه كالإجماع فيكون حجة، ومن ذلك أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدث الناس على المنبر وذكر لهم التشهد فقال: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" كما رواه الإمام مالك في الموطأ بسند صحيح لا غبار عليه، قال ذلك في مجمع الصحابة وهو يعلم الأمة الإسلامية، هذا التشهد الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته؛ فبهذا تقدم هذا الأثر - عن عمر- على قول ابن مسعود رضي الله عنه، "كنا نقول السلام عليك أيها النبي وهو حي فلما مات كنا نقول: السلام على النبي". فيقال: هذا اجتهاد من ابن مسعود رضي الله عنه لكنه في مقابلة النص، والنبي صلى الله عليه وسلم علم أمته أن يقولوا هذا ولم يفرق بين حياته وموته، ولا بين الحاضرين معه في المسجد والغائب، وما أكثر المصلين الذين يصلون مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن المصلين أنفسهم هل إذا قالوا: "السلام عليك أيها النبي" يقولونها وكأنما يقولونها إذا مروا به بحيث يتلقون منه الرد؟ الجواب: لا؛ ولهذا يقولونها سرا، والرسول لا يعلم بهذا، والأمر واضح في مثل هذه الأمور. إذن إذا أجمعوا على القول فهو حجة، وإذا انفرد به أحد واشتهر ولم ينكر فهو حجة، وإذا قال به أحد ولم يعلم أنه انتشر فإن كان ممن نص النبي صلى الله عليه وسلم على اتباعهم فهو حجة بالسنة لا بأنهم صحابة مثل أبي بكر وعمر فإن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الاقتداء بهما بأعيانهما، فقل: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر".

وقال - عليه الصلاة والسلام-: "إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا". وإذا كان هذا في قضية خاصة فإنا نقول: نقيس بقية القضايا عليها، وأن هذين الرجلين الخليفتين الراشدين أقرب إلى الصواب من غيرهما بلا شك، وإن كان من غير الخلفاء من غير من نص عليه، فإن كان من فقهاء الصحابة المعروفين بالتحري وسعة العلم فقولهم حجة، وإن كان من عامة الصحابة فقد أرى الإمام أحمد رحمه الله أن قول الصحابي مقدم على القياس، وأنه حجة لكن في النفس من هذا شيء؛ لأن بعض الصحابة كرجل جاء وافدا إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام- وتلقى منه ما تلقى من الفقه في الدين، ثم رجع إلى قومه فإذا قال قولا من غير ما أخذه من الرسول ففي النفس من هذا شيء أي أن يكون حجة على الأمة يلزمها الأخذ به. فإذا قال قائل: لماذا جاء المؤلف بهذا الحديث؟ نقول: أتى به إشارة إلى أن النوم اليسير لا ينقض الوضوء، فلنتكلم على النوم: النوم ذكر فيه الشوكاني في نيل الأوطار ثمانية أقوال للعلماء؛ لأن العلماء تنازعوا فيه بناء على اختلاف الأحاديث، واختلاف الأحاديث - والحمد لله- اختلاف لفظي، إذ يمكن الجمع بينهم، فهل النوم ناقض للوضوء؟ الجواب: فيه خلاف ثمانية أقوال: منهم من قال: إنه لا ينقض مطلقا، ومنهم من قال: إنه ينقض مطلقا، ومنهم من فصل في هذا، وهذا القول الأخير هو الصواب، الصواب التفصيل في النوم لن النوم نفسه ليس حدثا حتى نقول إنه ينتقض قليله وكثيره كالبول والغائط، وإنما النوم مظنة الحدث لحديث: "العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء". فهو مظنة الحدث، وإذا كان مظنة الحدث نظرنا إذا كان نوما مستغرقا بمعنى أن الإنسان لو أحدث لم يحس بنفسه، النوم هنا ناقض لاحتمال أن يكون أحدث ولم يشعر بنفسه، وسواء كان مضطجعا او جالسا أو راكعا أو قائما على كل حال نقول: إذا كان لو أحدث لم يحس بنفسه فإن نومه ينقض الوضوء، وأما إذا كان لو أحدث لأحس بنفسه، فإن نومه لا ينقض الوضوء حتى لو تراءى له حلم أو رؤيا، أو كان مضطجعا أو متكئا، أو ساجدا، أو راكعا ما دام يقول له أحدث لأحس فالنوم لا ينقض الوضوء، حتى لو بقي ساعة أو ساعتين ينفث وهو يعلم أنه لو أحدث لأحس فإنه لا ينتقض وضوؤه؛ لماذا؟ لأن الأصل بقاء الوضوء فلا تنقضه بالشك. فإذا قال قائل: وإذا كان نائما ولا يحس بنفسه لو احدث فهل نتيقن أنه أحدث؟ لا، إذن

عدم جواز صلاة الحائض

كيف ننقض الوضوء به ونحن نقول: أن الأصل بقاء الوضوء فلا ينتقض إلا بيقين؟ نقول: لأن هذا النوم مظنة الحدث، وانضباط القضية عليه انضباط العلة غير ممكن وما كان انضباط العلة فيه غير ممكن استوى فيه ظهور العلة وعدمها هاذ وجه المسألة، وأيضا عندنا دليل: حديث صفوان بن عسال السابق يقول: "ولكن من غائط، وبول، ونوم"، فهذا حديث فنأخذ به. لو قال قائل: إذا زال العقل بغير نوم، كما لو أغمى على الإنسان فهل ينتقض وضوؤه بالقليل والكثير؟ الجواب: نعم؛ لأن الإغماء يفقد فيه الإنسان الإحساس ولا يمكن أن يقول لو أحدث لأحس فالإغماء ينتقض به الوضوء مطلقا؛ ولهذا لو أن رجلا أغمي عليه يوما كاملا وأفاق من الإغماء فإنه لا يلزمه قضاء الصلاة، ولو نام كاملا لزمه قضاء الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"، وأما الإغماء فلا يجب فيه قضاء الصلاة؛ لأن المغمى عليه لا يمكن أن ينتبه حتى لو نبه وأوقظ لا يمكن أن ينتبه فهو بمنزلة المجنون الذي لا يمكن أن يحس بأحد. ومن فوائد هذا الحديث: أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة لقوله: "ثم يصلون" لكن الاستدلال هنا ضعيف؛ لأن القضية قضية عين يتحدث عنهم وهم ينتظرون صلاة العشاء لكن هناك أحاديث تدل على أن الوجوب لا يجب إلا للصلاة بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم ساقها شيخ الإسلام رحمه الله في انتصاره لما ذهب إليه من أن الطواف بالبيت لا يشترط له الوضوء، وذكر أدلة إذا طالعها الإنسان تبين له أن هذا هو الحق وأن الطواف بالبيت لا يشترط له الوضوء، وبناء عليه لو أحدث الإنسان في أثناء الطواف فليستمر لو وصل إلى المسجد الحرام في الزحام الشديد وهو لم يتوضأ، نقول: طف ولا نلزمه أن يذهب مع هذه المشقة ليتوضأ، أما إذا كان الأمر ميسرا فلا شك أن الوضوء أفضل احتياطا واتباعا لأكثر العلماء، وأنه إذا انتهى من طوافه فسوف يصلي ركعتين والصلاة يجب لها الوضوء بالإجماع ثم قال: عدم جواز صلاة الحائض: 62 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءت فاطمة بنت أبي حيبش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي". متفق عليه.

- وللبخاري: "ثم توضئي لكل صلاة". وأشار مسلم إلى أنه حذفها عمدا. قوله: "جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم" لأن النساء يأتين إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام- ويسألنه حتى بحضرة الرجال، حتى إنهن ليقلن الكلام الذي يستحي منه الرجل في حضرة الرجال؛ ولعله مر عليكم قصة عبد الرحمن بن الزبير الذي تزوجته امرأة طلقها زوجها ثلاثا فجاءت تشكو إلى النبي - عليه الصلاة والسلام- وقالت: إن رفاعة القرظي طلقها ثلاثا، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثوب وأشارت بثوبها - يعني: أنه لا يستطيع الجماع-، فقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". وبهذا نعرف أن صوت المرأة ليس بعورة، بل إن القرآن دل على أن صوت المرأة ليس بعورة {فلا تخضعن بالقول} [الأحزاب: 32]. لم يقل: فلا تكملن أو تقلن، وبينهما فرق. فإن قال قائل: ألم يقل الرسول - عليه الصلاة والسلام- تسبح الرجال وتصفق النساء؟ قلنا: بلى لكن هذا من باب الاحتياط في درء الفتنة؛ لأن المرأة لو سبحت في الصلاة ربما يكون صوتها رخيما وتؤديه على وجه يحصل به الفتنة للمصلين فمنع منه، أما مطلق القول فإنه لا بأس به. تقول: "إني امرأة أستحاض فلا أطهر"، أستحاض؛ يعني: يشتد مع الحيض، وفرق بين أستحاض وأحيض، الفرق بينهما: أن الاستحاضة كثرة الدم، والحيض أقل يأتي في أوقات معلومة. "فلا أطهر" وظاهر الحديث أنها يأتيها الدم في كل الوقت ولا تطهر "أفأدع الصلاة؟ ". قال: "لا، إنما ذلك عرق" لماذا استفهمت عن ترك الصلاة؟ لأنه من المعلوم أن الحائض لا تصلي وهي تظن أن هذا الدم حيض، فسألت أتدع الصلاة أم لا. قال: لا، تقول: "إني امرأة أستحاض فلا أطهر" أي: يأتيها الحيض بكثرة لأن "أستحاض" فيها حروف زائدة، وقد قيل: إن زيادة المبنى زيادة في المعنى، وهذا ليس بدائم فمثلا: رجل رجال، رجال زائدة في المبنى وهي زائدة في المعنى هذه قاعدة أغلبية، وإلا فقد يكون النقص في المبنى زيادة في المعنى كما لو قلت: شجرة وشجر، شجرة، حروفها أربعة، شجر حروفه ثلاثة، وأيهما أكثر شجرة لكن الغالب أن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، إذن: أستحاض" معناها: تأتيها حيضة كثيرة تستمر معها؛ ولذلك قالت مفسرة هذه الاستحاضة: "فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ " يعني: أتركها،

قال: "لا"، لا تدعي الصلاة، بل صلي ثم علل هذا الحكم فقال: "إنما ذلك - بالكسرة- عرق" لأن الكاف في اسم الإشارة يراعى فيها جانب المخاطب، واسم الإشارة يراعى فيه جانب المشار إليه، فإذا قيل أشر إلى اثنين مخاطبا جماعة رجال نقول: "ذانكم" أشر إلى جماعة رجال مخاطبا إناث "أولائكن"، أشر إلى واحد مخاطبا إناثا، "ذلكن" في القرآن الكريم {فذلكن الذي لمتنني فيه} [يوسف: 32]. هنا في الحديث "ذلك" المخاطب امرأة، والكاف إذا خوطبت بها امرأة تكون مكسورة، و"ذا" اسم إشارة لمذكر مفرد وهو الدم يعني إنما الدم دم عرق، واعلم أن هذا هو المشهور في اللغة أن الكاف إنما يراعى فيها جانب المخاطب إن كان مفردا مذكرا فهي مفتوحة، وإذا كانت مفردة مؤنثة فهي مكسورة، جماعة نسوة تقترن بها النون "كن" جماعة رجال تقترن بها الميم "كم"، مثنى لذكور أو إناث تقترن فيها الميم والألف كما، هذا هو الأفصح في اللغة العربية، وجاء في اللغة أيضا فتحها لمخاطبة الذكور مطلقا، ولو كانوا اثنين أو جماعة، وكسرها للإناث مطلقة سواء كن اثنين أو جماعة، وجاء فتحها مطلقة في الإفراد باعتبار الشخص ذلك يعني أخاطب هاذ الشخص، ولو كان أكثر من واحد، وقوله: "إنما ذلك عرق" فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين دم الحيض وهذا الدم، هذا قال: "إنه دم عرق"، ودم الحيض دم طبيعة وجبلة كتبه الله تعالى على بنات آدم منذ خلقهن فهو دم طبيعة يأتي بغير سبب، لا مرض ولا جراحة ولا غير ذلك طبيعي، قال العلماء: ويخرج - أي: دم الحيض- من عرق في قعر الرحم، وللأطباء المتأخرين فيه كلام أكثر من هذا، فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين دم الحيض، ودم الاستحاضة بأن دم الاستحاضة "دم عرق"، قال: "وليس بحيض" أيضا لما أثبت ذاك نفى عنه الحيض، قال: "وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة"، وبماذا تعرف إقبال الحيضة؟ تعرف إقبال الحيضة إذا كانت معتادة يعني: لها عادة سابقة قبل الاستحاضة، فإقبال الحيضة إقبال المدة، وإن لم يكن لها عادة، فإقبال الحيضة تغير الدم، فمثلا امرأة كانت من عادتها أن تحيض في أول يوم من الشهر ستة أيام، ثم ابتليت بالاستحاضة وصار الدم معها دائما، هذا الحيض تجلس في الشهر الثاني من أول يوم إلى ستة أيام والباقي استحاضة، تصلي وتصوم وتعمل كل ما تعمل الطاهرات، إذن إقبال الحيضة نقول في المعتادة إقبال أيام عادتها، وفي غير المعتاد إقبال التمييز، كيف التمييز؟ الفقهاء - رحمهم الله- يقولون: التمييز من ثلاثة وجوه: أولا: دم الحيض أسود، ودم الاستحاضة أحمر. ثانيا: دم الحيض ثخين، ودم الاستحاضة رقيق. ثالثا: دم الحيض له رائحة منتنة، ودم الاستحاضة ليس له ذلك.

ورابعا: قال المتأخرون المعاصرون (الأطباء): دم الحيض لا يتجلط، ودم الاستحاضة يتجلط - يعني: يتخثر، أي: يجمد-، ودم الحيض لا يجمد سائل، وعللوا ذلك بتعليل طبي أن دم الحيض عبارة عن انفجار كرات الدم في قاع الرحم بعد تصلبها في الرحم فلا تعود مرة أخرى إلى التصلب بخلاف دم الاستحاضة فإنه لم يسبق أن يتجمد فلذلك يتجمد إذا خرج كسائر الدماء، الإنسان لو جرح أصبعه ثم تخثر الدم تجمد، فهذه أربعة فروق، إذن النبي - عليه الصلاة والسلام- فرق بين الدمين، قال: "فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة" يعني: لا تصلي، "وإذا أدبرت" معنى أدبرت: إن كانت معتادة يعني انقضت أيام عادتها، وإن كانت غير معتادة ولا تمييز انقطع الدم الأسود التخين المنتن "فاغسلي عنك الدم ثم صلي"، الدم" يعني دم الحيض، وهذا يعني ان تطهر منه ولابد أيضا أن تغتسل، "ثم صلي ما أدركت وقته"، قال وللبخاري: "ثم توضئي لكل صلاة"، وأشار مسلم إلى أنه حذفها عمدا، ولكن الصواب مع البخاري ... "توضئي لكل صلاة"، هل المراد لوقت كل صلاة، أو لكل صلا تصليها حتى لو كانت تريد أن تجمع بين الصلاتين فلابد أن نتوضأ للصلاة الأولى والصلاة والثانية؟ فيها احتمالان؛ ولكن الأول هو الراجح أي: لوقت كل صلاة. من فوائد هذا الحديث: أن نساء الصحابة - رضي الله عنهن- لا يمنعهن الحياء من الفقه في الدين، والسؤال عنه. ومن فوائده: أنه قد تقرر أن الحائض لا تصلي؛ لقولها: "أفأدع الصلاة؟ " وهذا بإجماع العلماء، أجمع العلماء على أن الصلاة لا تجب على الحائض، وتحرم عليها ولا تصح منها، ولا يجب عليها قضاؤها، هذا بالإجماع، وظاهر الحديث صلاة الفريضة، والنافلة وهو كذلك، لأن ما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا بدليل. ومن فوائد هذا الحديث: الاقتصار في الجواب على ما يفيد لقوله: "لا" ولم يقل: لا تدعي الصلاة؛ لأن "لا" تكفي وخير الكلام ما قل ودل، ومثله: "نعم" في الإجابة. ومن فوائد هذا الحديث: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في قرنه العلة بالحكم تؤخذ من قوله: "إنما ذلك دم عرق"، ووجه كون هذا حكمة: أن الحكم إذا علل ببيان علته ازداد الإنسان به طمأنينة في الحكم وينشرح به صدره. ومن فوائده - أي: من فوائد قرن العلة بالحكم-: أن الإنسان يعرف بذلك سمو الشريعة، وأنها لا تحلل ولا تحرم ولا توجب إلا لحكمة، لكن من الحكم ما نعلمها ومنها ما لا نعلمه. الفائدة الثالثة: أن العلة إذا كانت وصفا صار الحكم أعم لأنه يتناوله كلما كانت فيه هذه العلة، وانظر إلى قوله تعالى: {قلا لا أجد في ما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا ان يكون ميتة أو دما

مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145]. وإلى قوله صلى الله عليه وسلم حين أمر أبا طلحة: "إن الله ورسوله نهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس". نستفيد من هذه العلة أن كل نجس فهو حرام، وهو كذلك كل نجس حرام، وليس كل حرام نجسا، إذن قرن الحكم بالعلة له ثلاث فوائد، وإن شئت فقل: ثلاث حكم. ومن فوائد هذا الحديث: أن العرق لا يمنع الصلاة، يعني لو انبعث عرق من الإنسان في أي مكان من بدنه فإنه لا يمنع الصلاة، بل يجب على الإنسان أن يصلي ولو كان فيه هذا الدم، ولكن هل ينتقض وضوؤه، بمعنى: هل تلزمه أن يتوضأ لكل صلاة أو لا؟ في هذا تفصيل إن كان الدم من السبيلين - أي: من القبل والدبر - فإنه ينقض الوضوء ويلزمه إذا كان مستمرا أن يتوضأ لكل صلاة، وإن كان من غير السبيلين فإنه لا ينقض الوضوء ويلزمه إذا كان مستمرا أن يتوضأ لكل صلاة، وإن كان من غير السبيلين فإنه لا ينقض الوضوء، كما لو كان فيه رعاف دائم أو جرح دائم الجريان أو ما أشبه ذلك فإنه لا ينقض وضوؤه. ومن فوائد هذا الحديث: تفريق الأحكام أو تفرق الأحكام بتفرق الأسباب، الحيض سبب لترك الصلاة، والعرق ليس سببا لترك الصلاة، فتصلي. ومن فوائد هذا الحديث: رجوع المستحاضة إلى عادتها؛ لقوله: "إذا أقبلت حيضتك"، ولكن إذا كانت المستحاضة مبتدأة، يعني: لم يسبق لها عادة فإلى أي شيء ترجع؟ نقول: ترجع إلى التمييز؛ لأن الاستحاضة قد تصيب المرأة من أول ما يأتيها الحيض، فنقول: ترجع هذه إلى التمييز، فإذا كان في دمها دم أسود ثخين له رائحة فهو الحيض، وإن لم يكن كذلك فتبقى مشكلة وهي إذا لم يكن في دمها شيء بهذا الوصف أي ليس لها عادة، وليس عندها تمييز فماذا تصنع؟ قال العلماء - وجاء في السنة أيضا-: تجلس من أول وقت أتاها الحيض غالب ما تجلسه النساء، وهو ستة أيام أو سبعة من كل شهر، فمثلا إذا ابتدأ بها الدم في أول يوم من "محرم"، واستمر وليس لها عادة، وليس لها تمييز، نقول: تجلس في الشهر الثاني في "صفر" ستة أيام، أو سبعة، ثم تغتسل وتصلي وتستمر هكذا. فإن قال قائل: لماذا جعلتموها تجلس أول كل شهر؟ قلنا: لأن الله تعالى جعل عدة من لا تحيض ثلاثة أشهر، وعدة من تحيض ثلاثة قروء، فدل هذا على أن الحيض المعتاد يأتي المرأة كل شهر مرة وأولى ما نبتدئ المدة من ا, ل ما أتاها. إذا تعارض التمييز والعادة، امرأة معتادة يأتيها الحيض أول يوم من الشهر سبعة أيام كل ما

مضى من وقتها هكذا، ثم ابتليت بالاستحاضة فكان لها تمييز في نصف الشهر في الخامس عشر من الشهر يأتيها دم أسود ثخين منتن في أول الشهر الذي هو أول عادتها دم أحمر فهل تغلب التمييز أو تغلب العادة؟ فيها قولان، وهما روايتان عن الإمام أحمد: أحدهما: أن تغلب العادة لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة"، وقوله: "اجلسي قدر ما كانت حيضتك تحبسك"، ولم يفصل ولأن هذا أيسر للنساء إذا رجعن إلى العادة فهو أيسر؛ لأن تغير الدم قد يختلف على المرأة، قد يكون في أول الشهر، في وسطه، وقد ينقطع وقد لا ينضبط لكن إذا قلنا تعمل بالعادة، فالعادة منضبطة. الثاني: قال بعض أهل العلم: بل تعمل بالتمييز إذا تعارض التمييز مع العادة؛ لأنه ربما كان هذا المرض وهو الاستحاضة سببا في تغير العادة بحيث انتقل الحيض من أول الشهر إلى وسطه، ولا شك أن هذا له وجهة نظر قوية جدا، لكن كما قلت لكم: ظاهر السنة ورحمة الأمة أن ترجع إلى العادة والحمد لله ما دام الرسول - عليه الصلاة والسلام- أطلق ولم يفصل فإننا نحمد الله على ذلك، ونقول بهذا لأنه أيسر للنساء. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب غسل دم الحيض لقوله: "ثم اغسلي عندك الدم"، وهل يعفى عنه - يعني: يسيره- الجواب: لا، لا يعفى عن يسيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الثوب يصيبه دم الحيض "تحته ثم تقرصه، ثم تغسله، ثم تصلي فيه"، وهذا يدل على أن الواجب إزالة دم الحيض قليلا كان أو كثيرا، ولا يعفى عن شيء منه، دم الاستحاضة هل يعفى عنه؟ قال بعض العلماء: يعفى عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه دم عرق"، والأطهر أنه لا يعفى عنه، وأن جميع ما خرج من السبيلين فهو نجس لا يعفى عنه إلا الماء الذي ينزل ويكون مستمرا مع المرأة وهو ما يسمى برطوبة فرج المرأة، فهذا طاهر. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب التطهر من النجاسة، من أين يؤخذ؟ من قوله: "ثم صلي"، و "ثم" للترتيب فلا يجوز للإنسان أن يصلي وبدنه متلطخ بنجاسة، فإن نسي وصلى فصلاته صحيحة لقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. فإن كان ليس عنده ما يزيل به النجاسة فليخففها ما أمكن وليصل. وهل يتيمم لنجاسة البدن؟ فقهاء الحنابلة - رحمهم الله- يقولون: يتيمم؛ لأن هذه طهارة تتعلق بالبدن فأشبهت الوضوء، والصحيح أنه لا يتيمم للنجاسة، بل يزيلها ويخففها ما أمكن، ثم يصلي على حسب حاله، ثم قال: "وللبخاري: "ثم عتوضئي لكل صلاة" الخطاب لمن؟

للمستحاضة "توضئي لكل صلاة"، وذلك لأن الدم مستمر، فتكون طهارتها بقدر الحاجة، ولا تحتاج للصلاة إلا إذا دخل وقتها، فلو توضأت لصلاة الفجر فهل تتوضأ لصلاة الضحى؟ الجواب: نعم، لأن الضحى لها وقت فلابد أن تتوضأ لوقت كل صلاة، وألحق العلماء - رحمهم الله- بالمستحاضة كل من حدثه دائم كمن بوله دائم وغائطه دائم والريح تخرج من دبره دائما، فإنه يلحق بالمستحاضة، بمعنى: أنه لا يتوضأ إلا إذا دخل الوقت، ويتحفظ يعني يستثفر، وإذا خرج منه شيء بعد كمال التحفظ فإنه لا يضر ولا ينتقض به الوضوء. فائدة مهمة: قوله: "ثم صلى" هل المراد الصلاة المستقبلة، أو الصلاة الحاضرة أو الجميع؟ يعني: امرأة طهرت في وقت صلاة الفجر بعد طلوع الفجر، هل نقول: صلي الظهر فقط، أو صلي الفجر أيضا؟ تصلي الفجر حتى وإن تأخر تطهرها إلى بعد الشمس، فإنها لابد أن تصلي الفجر؛ لأنها مطالبة بالصلاة. ولكن كم القدر الذي تكون مدركة به وقت الصلاة؟ المذهب بقدر تكبيرة الإحرام، فإذا طهرت قبل طلوع الشمس بقدر قول: الله أكبر، وجب عليها أن تصلي الفجر، والصحيح أنه لا يدرك الوقت إلا بإدراك ركعة كاملة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة". يتفرع على هذا أنها إذا طهرت إذا طهرت في وقت الصلاة، هل يلزمها قضاء ما قبلها؟ فيه تفصيل: إن كان ما قبلها لا يجمع إليها فإنها لا تقضيه، كما لو طهرت في وقت الظهر فإنها لا تقضي صلاة الفجر؛ لأن الفجر لا تجمع إلى الظهر، وإن كانت تجمع كما لو طهرت في وقت العصر فهل تقضي الظهر أو لا؟ فيه خلاف بين العلماء، والصحيح أنها لا تقضي الصلاة؛ لأنه خرج وقت الظهر وهي معذورة لا تخاطب بالصلاة وكونها تجمع إلى هذه عند الضرورة لا يعني أنها تلزمها، وقد خرج وقتها وقد برئت ذمتها، ثم قول الرسول - عليه الصلاة والسلام-: "من أدرك ركعة"، أو قال: "سجدة من العصر قبيل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" ولم يقل: والظهر. فالصواب: أنه لا يلزمها إلا قضاء الصلاة التي طهرت في وقتها. امرأة طهرت قبل الفجر بساعة هل تلزمها صلاة العشاء؟ فيه خلاف، بعض العلماء يقول: تلزمها صلاة العشاء دون صلاة المغرب، وبعض العلماء يقول: تلزمها صلاة العشاء وصلاة المغرب، الصحيح أنها لا يلومها شيء لا صلاة العشاء ولا صلاة المغرب؛ لأن وقت العشاء ينتهي بنصف الليل، ولا

دليل على أنه يمتد إلى طلوع الفجر لا في القرآن، ولا في السنة، بل الدليل على خلاف ذلك، قال الله تعالى: {أقم الصلوة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}، ثم فصل، وقال: {وقرءان الفجر} [الإسراء: 78]. وقوله: {لدلوك الشمس} أي: زوالها، {إلى غسق الليل} أي: من نصف النهار إلى نصف الليل، هذا وقت لأربع صلوات نهاريتين وليلتين، ثم فصل، وقال: {وقرءان الفجر}، أما السنة: فصريحة، فقد قال النبي - عليه الصلاة والسلام-: "وقت العشاء إلى نصف الليل". وهذا نص صريح واضح، وسبحان الله تجد الإنسان أحيانا يدع الأدلة وهي واضحة كوضوح الشمس، ويكون رأي أكثر العلماء على خلافه، مما يدل على أن الإنسان مهما كان فهو محل نقص. فإن قال قائل: إنه قد جاء الحديث عن النبي - عليه الصلاة والسلام- إنه قال: "ليس في النوم تفريط". وإنما التفريط أو يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى. قلنا: نعم، ونحن نقول هذا، والمراد بالصلاة التي يمتد وقتها إلى وقت الأخرى وإلا فقولوا إن الفجر والظهر كالمغرب والعشاء، وهذا لا قائل به، والحكمة أيضا تقتضي ما قلنا؛ لأن الله - تعالى- جعل نصف النهار الأول ليس وقتا للفرائض ونصف الليل الثاني ليس وقتا للفرائض. الفقهاء - رحمهم الله- يقولون: فيمن ترى يوما دما ويوما نقاء فالدم حيض والنقاء طهر وهذا فيه مشقة، لكن بعض العلماء يقول: إن هذا التقطع يعتبر من الحيض، بمعنى أنها لا تصلي. أسئلة: - فيما سبق من حديث فاطمة ما يدل على أن الحائض لا تصلي، فما هو؟ - وهل يلزمها أن تقضي الصلاة؟ - هل في حديث فاطمة ما يدل على أن صاحب الحدث الدائم يصلي؟ - إذا كان رجل معه سلس بول لا ينقطع، أو ينقطع في وقت غير محدد فكيف يصنع إذا دخل وقت الصلاة؟ ولو كان يعتاد أنه يتوقف في آخر الوقت في وقت يتمكن من الوضوء والصلاة هل نقول آخر الصلاة أو صل في أول الوقت؟ نقول: أخر وجوبا؛ لأن تقديم الصلاة في أول وقتها على سبيل الأفضلية؛ ولهذا قال الفقهاء: وإن اعتيد انقطاعه زمنا يتسع فيه للفعل تعين أن يؤخر الصلاة إلى هذا الوقت. -

الوضوء من المذي

ما معنى الإقبال في قوله - عليه الصلاة والسلام-: "إذا أقبلت حيضتك"؟ الوضوء من المذي: 63 - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كنت رجلا مذاء، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله؟ فقال: فيه الوضوء". متفق عليه، واللفظ للبخاري. قال: "كنت رجلا مذاء" هل المراد ب"كان" فيما سبق، أو المراد ب"كان" هنا تحقيق هذه الصفة؟ الجواب: الثاني؛ لأن "كان" تأتي ويراد بها تحقيق الصفة دون ملاحظة الزمن، وهي كثيرة في كتاب الله مثل قوله تعالى: {وكان الله غفورا رحيما} [النساء: 96]. {وكان الله سميعا بصيرا} [النساء: 134]. وما أشبه ذلك هذا ليس المعنى أنه كان في زمن مضى، بل المراد تحقيق هذه الصفة بقطع النظر عن الزمان، إذن "كنت رجلا مذاء" ليس فيما سبق، وأني الآن سلمت من المذي. وقوله: "مذاء" صيغة مبالغة؛ أي: كثير المذي، والمذي فيه لغتان: المذي وهي الأكثر، والمذي بتشديد الياء وهي لغة صحيحة، وهو ماء لزج يخرج عند الشهوة، وليس يخرج بشهوة ولا يلزم منه انتصاب الذكر، بل إذا أحس الإنسان بالشهوة مثلا بتقبيل أو نظر أو تذكر خرج منه هذا الماء، والناس يختلفون فيه منهم المقل، ومنهم المستكثر، ومنهم من لا يعرفه أبدا، علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان من الذين يلحقهم هذا كثيرا، فأمر المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "أمرت المقداد" قد يقال: لماذا لم يسأل هو بنفسه وقد بين في رواية أخرى أنه استحيا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لأن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زوجته، وهذا يتعلق بالنساء، فاستحيا رضي الله عنه أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يقال: لماذا أمر المقداد؟ أليس هناك صحابة آخرون؟ فالجواب: بلى لكنه يتناوب هو المقدد بن الأسود في الأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان عمر رضي الله عنه يتناوب في الأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحب له. فلهذا أمره أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: "فيه الوضوء". والمؤلف رحمه الله اختار هذه الرواية لمناسبة الباب وهو "نواقض الوضوء"، وإلا فلهذه القصة مناسبة أيضا في النجاسة، وكيف تزال، وهل المذي نجس أو غير نجس؟ لكن المؤلف - أعني: ابن حجر- اختار في بلوغ المرام هذه الرواية لأن المقصود موجود فيها، فقال: "فيه الوضوء" لكن لا مانع أن نذكر ما يتعلق بهذا فإن المقداد لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يغسل ذكره ويتوضأ". وفي رواية: "اغسل ذكرك وتوضأ".

فأشكل هذا على العلماء: هل معناه أن علي بن أبي طالب سأل النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه كما جاء في بعض الروايات أنه سأل بنفسه، أو أن المعنى أن المقداد لما سأله قال: "اغسل ذكرك" لأن عليا هو الذي يروي الحديث الآن، والذي يروي الحديث سيحكي عن نفسه كأنه هو السائل، وإلا من المعلوم ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجهه إلى المقداد على أنه هو المصاب بهذا، إنما وجهه إلى علي بن أبي طالب باعتبار أن عليا هو الذي رواه فكأنه نقله بالمعنى، أما إذا قلنا: "يغسل ذكره"، فلا إشكال لأن المقداد قد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يكون مذاء فماذا يصنع؟ فقال: "يغسل ذكره"، وقوله: "يغسل ذكره" معلوم أن الذكر يطلق على جميع القصبة ليس على ما أصابه المذي فقط، وإلا لقال: يغسل ما أصابه، بل قال: "يغسل ذكره". وفي رواية في غير الصحيحين: "وأنثييه". يعني: خصيتيه، فعلى هذا يغسل الذكر والأنثيين، كل الذكر. "قال فيه الوضوء" يعني: يغسل ذكره ويتوضأ، وفي بعض الألفاظ: "توضأ واغسل ذكرك". الآن الحديث في بيان حكم المذي هل ينقض الوضوء أو لا؟ ينقض الوضوء، ففي هذا دليل واضح على أنه ينقض لقوله: "فيه الوضوء، ولكن يقال: إذا كان الذكر يمذي دائما لأن بعض الناس يبتلى بهذا بأن يكون كل ما تذكر - ولو يسيرا- أمذى وهو لا يستطيع أن يعالج نفسه من التفكير فإنه يلحق بسلس البول إذا كان لا يستطيع منعه. هذا الحديث فيه فوائد متعددة: منها: جواز إخبارالإنسان عن نفسه بما يستحيا منه للحاجة، يؤخذ من قوله: "كنت رجلا مذاء" لأن هذا يستحيا منه عادة لكن إذا كان فيه مصلحة فلا بأس ولا يلام عليه الإنسان. ومن فوائد هذا الحديث: جواز التوكيل في الاستفتاء؛ لأن عليا وكل المقداد أن يستفتي عنه في هذه المسألة. ومن فوائده: جواز خبر الواحد في الأمور الدينية؛ وذلك لأن عليا إنما وكل المقداد من أجل أن يأخذ بما يخبر به، ويتفرع على هذا وجوب الأخذ بخبر الواحد. فإن قال قائل: وهل خبر الواحد يوجب العلم؟ قلنا: لا، لكن العمل أقل من العلم بمعنى أنه قد يجب العمل بما لا يفيد العلم؛ لأن الظن في العمل كاف فمثلا الواحد لا يفيد خبره العلم، بمعنى أنه إذا أخبرك لا يمكن أن يكون في قلبك علم يقيني، لكن في الأحكام يجب العمل به بخبر الواحد.

فإن قال قائل: وهل تقوم به الحجة- أي: بخبر الواحد- في الأمور العقدية؟ فالجواب: نعم، تقوم به الحجة ولا إشكال؛ ودليل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث الرسل دعاة إلى الله عز وجل دون أن يكون معهم أناس في هذا البعث، ويكتب أيضا للملوك ويذهب بها واحد من الناس، فالصواب أن خبر الواحد ملزم تقوم به الحجة، أما كونه يفيد العلم أو لا يفيد العلم، فهذا بحث آخر، والصواب أنه يفيد العلم بالقرائن، فمن القرائن أن تتلقى الأمة هذا الخبر بالقبول فإذا تلقته بالقبول - ولو كان عن واحد- فإنه يفيد العلم وأبرز مثال لهذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". فإن فرد في أوله فرد مطلق. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن لا يتحدث عند صهره بما يتعلق بالنساء من أين تؤخذ؟ حياء علي رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: هل يجوز أن يمنعه هذا الحياء من التفقه في الدين؟ الجواب: لا؛ ولهذا أمر علي بن أبي طالب المقداد أن يسأل. ومن فوائد هذا الحديث: كمال أدب الصحابة - رضي الله عنهم-، وذلك من فعل علي رضي الله عنه حيث تجنب أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مع أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- يجب الصراحة، لكنه لما كان هذا من الأمور التي يستحيا منها أمسك عنها علي بن أبي طالب. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الوضوء من المذي؛ لقوله: فيه الوضوء وظاهر الحديث أنه لا فرق بين القليل والكثير، يعني: بالكمية لا بالزمن والاستمرار، وهو كذلك. ولكن هنا مسألة: وهي أن بعض الناس يبتلى بالوسواس فيتخيل كما حدثت معه الشهوة أنه أمذى ويتعب في الشتاء وفي الصيف، فهل يستجيب لهذا الوهم أو لا؟ الجواب: لا يستجيب لهذا الوهم؛ لأن الأصل عدمه؛ ولأنه لو استجاب لاستطرد به الشيطان وصار يوهمه في أشياء أعظم من هذا لذلك نقول: لا يستجيب لهذا الوهم وليعرض عنه. ومن فوائد هذا الحديث: في الروايات الأخرى أنه يجب غسل الذكر والأنثيين من المذي، وهل هذا تعبدي أو محسوس؟ ينبني على خلاف العلماء في قوله: "يغسل ذكره" هل المراد يغسل ذكره منه، فيكون مخصوصا بما أصابه المذي، فإذا قلنا: بهذا القول وقد قيل إنه قول الجمهور، إذا قلنا بهاذ القول صار غسله محسوسا أن أو تعبديا؟ محسوسا؛ لأن النجاسة يجب غسلها، كما لو كانت على ثوب أو عضو آخر، وإذا قلنا: إنه يجب غسل الذكر الأنثيين كما هو القول الراجح صار هذا تعبديا غير معقول، لكن ما الحكمة إذا كان غسله تعبديا؟ قال

العلماء: الحكمة من ذلك أن غسل الذكر والأنثيين يوجب تقلص القنوات التي منها المذي وأن هذا تطهير وعلاج فإنه يقلل. وقال بعضهم ولعلهم - أعني: القائلين بذلك-: قد مارسوا الغنم، قالوا: إن ضرع الشاة إاذ غسلته بماء بارد تقلص الحليب، على كل حال نقول: هو تعبدي لكن له فائدة وهي أن المذي يتقلص حتى ينقطع بإذن الله، بنى على هذا بعض العلماء - إذا قلنا: إنه تعبدي- فلابد فيه من نية، وإذا قلنا: عن شيء محسوس لم نحتج إلى نية وكيف يتصور أن يغسله الإنسان بلا نية؟ يتصور أن رجلا حصل منه المذي وانغمس في بركة ولم ينو غسل الذكر، فإن قلنا: إنه تعبدي لم يجزئه ذلك؛ لأنه ما نوى، وإذا قلنا: أجزأه فلأن النجاسة لا يشترط لها نية؛ ولهذا لو نزل المطر على ثوب معلق في السطح فإنه يصير طاهرا وإن لم يعلم به الإنسان. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يمنعه الحياء عن التفقه في دين الله، لأن الله لا يستحي من الحق؛ ولهذا كانت النساء تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمور التي يستحيا منها، حتى إن عائشة رضي الله عنها أثنت على النساء اللاتي يفعلن هذا، فقالت: "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين". ولكن إذا دار الأمر بين التصريح والتلميح- مع أن الحاجة تزول بالتلميح وتتم المصلحة- هل الأولى التلميح أو التصريح؟ الأولى التلميح؛ لأننا نجد في القرآن الكريم أن الله يكني عن الجماع بالإتيان بالمس، وما أشبه ذلك مما يدل على أن التلميح أحسن، إلا إذا كان صاحبك لا يعرف التلميح فلابد أن تصرح، فلو سأل سائل شخصا فقال: إني أتيت أهلي في رمضان وهو لا يعرف ما معنى "أتيت" هذا لابد أن يصرح؛ لأنه ربما يفهم أتيت أهلي في رمضان أني قدمت عليهم من السفر، فإذا كان المسئول لا يفهم التلميح فلابد أن تصرح، أما إذا كان يفهم العبارة التي يحصل بها المقصود فيكفي، كذلك إذا كان الشيء لابد فيه من التصريح، فصرح؛ ولهذا لما جاء الرجل يعترف بالزنا عن النبي - عليه الصلاة والسلام- قال له: "أتيتها" قال: نعم، قال له: "أنكتها"- لا يكني صراحة- قال: نعم، لأن هذا لابد أن يصرح به. أسئلة: - لماذا اختار علي المقداد دون سائر الصحابة؟ - ولماذا استحيا علي أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم؟ - المذي فيه لغتان ما هما؟ - ما هي حقيقة المذي؟

حكم نقض الوضوء بالقبلة

- هل الناس يختلفون في المذي؟ مسألة: الخارج من الذكر أربعة أشياء: البول، والودي، والمذي، والمني، هذا مع السلامة أما عد ما يخرج من الأشياء الأخرى إذا أصيب بمرض فهذا شيء آخر. المني معروف أنه طاهر، ويوجب الغسل، أي تطهير البدن كله. البول نجس ويوجب الوضوء. المذي نجس ويوجب الوضوء لكن نجاسته خفيفة، ويوجب زيادة على غسل ما أصاب الذكر أنه يغسل الذكر كله والأنثيين. الودي هو: عصارة البول فيكون حكمه حكم البول، وهو عبارة عن نقط بيضاء تخرج بعد انتهاء البول وكأنها عصارة من المثانة، والله أعلم. وحكمها حكم البول. فصار الخارج اثنين حكمهما واحد، وهما: البول والودي، واثنان يختلفان عنهما وفيما بينهما وهما: المذي والمني، المذي في حكمه في نجاسته وطهارته وسط بين المني والبول؛ لأن البول لابد فيه من الغسل، والمذي يكفي فيه النضح على القول الراجح، وهو أن يعم ما أصابه بالماء بدون دلك على البدن ولا عصر في الثياب، لكن المني أغلظ منه لأنه يوجب تطهير البدن كله. حكم نقض الوضوء بالقبلة: 64 - وعن عائشة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ". أخرجه أحمد، وضعفه البخاري. عائشة هي إحدى أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن- وهي التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بكرا، وهي أحب النساء إليه كما سئل من أحب النساء إليك؟ قال: "عائشة". وهي رضي الله عنها ذكرت هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه فمن هذا البعض؟ لعله هي لكن كنت عن ذلك بالبعض حياء أو غير ذلك من الأسباب، وقولها: "نسائه" يعني: زوجاته كما قال الله تعالى: {ينساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} [الأحزاب: 32]. "ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ"، ومن المعلوم تقبيل الإنسان لامرأته لاسيما إذا

كان يحبها أن يكون لشهوة، "ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ"، أخرجه أحمد، لكن ضعفه البخاري رحمه الله، ولكن المؤلف رحمه الله أتى بهذا الحديث ليسدل به على أن مس المرأة وتقبيل المرأة لا ينقض الوضوء، والحقيقة أنه لا حاجة لأن تأتي بدليل على ذلك؛ لأن الأصل عدم النقض، فلا حاجة إلى أن نأتي بدليل على أنه لا ينقض إذ إن من ادعى أن مس المرأة لشهوة، أو لتقبيل أو غير ذلك ينقض الوضوء فعليه الدليل؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذا القول - أعني: كون مس المرأة لشهوة لا ينقض الوضوء- هو القول الراجح الذي لا تدل الأدلة على غيره، وقال بعض العلماء: إن مس المرأة مطلقا ينقض الوضوء، سواء كان لشهوة أو لغير شهوة، وتوسط بعض العلماء فقال: إن كان لشهوة نقض الوضوء، وإن كان لغير شهوة لم ينقض الوضوء، وأظن أن هناك قولا بأنه إن مس من تحل له فإنه لا ينتقض وضوؤه، وإن مس من تحرم عليه فإنه ينتقض وضوؤه، ولعل هذا القول راعى قائله أن مس من لم تحمل له محرم فينبغي أن يتوضأ؛ لأن الوضوء إذا كان كما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم فإن الإنسان يغفر له ما تقدم من ذنبه. فإذا قال قائل: ما دليل من قال: لا ينقض الوضوء؟ فالجواب: أن دليله عدم الدليل؛ لأن الأصل بقاء الوضوء حيث تم على وجه شرعي، فلا يمكن أن ينقض إلا بدليل شرعي، وحينئذ يكون دليل هؤلاء هو الأصل أي البقاء على الأصل، وعدم الدليل على النقل، أما دليل من قال: إنه ينقض الوضوء مطلقا فاستدلوا بقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6]. وفي قراءة: {أو لمستم النساء}، والأصل أن اللمس يكون باليد والآية ليس فيها قيد أن يكون بشهوة فتكون دالة على أن مس المرأة مطلقا ينقض الوضوء، وأما من قال: إنه لا ينقض إلا بشهوة فاستدل بالآية إلا أنه قال: إن حمل الآية على معنى مناسب للنقض أولى من الإطلاق، والمعنى المناسب للنقض هو الشهوة؛ لأن مسها بشهوة مظنة حصول الحدث، إما إنزال أو إمذاء، فعلق الحكم بما يكون فيه مظنة الحدث وهو الشهوة، ولكن القول الصحيح كما أقوله الآن: إنه لا ينقض الوضوء مطلقا، ولو بشهوة ما لم يحدث بشيء يخرج منه، وأما الجواب عن الآية الكريمة: فإن الملامسة فيها يراد بها الجماع بلا شك؛ وبهذا فسرها عبد الله بن عباس رضي الله عنه ترجمان القرآن الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه التأويل ويفقهه في الدين. ويدل على أن هذا

هو المتعين التقسيم الذي في الآية، فالله عز وجل ذكر طهارتين موجبين للطهارة، فالطهارتان: المائية والترابية، والموجبان للطهارة: الحدث الأصغر، والحدث الأكبر. {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} هذه طهارة مائية في الحدث الأصغر {وإن كنتم جنبا فاطهروا} هذه طهارة مائية في الحدث الأكبر {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6]. قال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} {فتيمموا}، لكن قوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط}، "أو" هنا بمعنى "الواو" يعني: وجاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، جاء أحد منكم من الغائط هذا موجب للطهارة الصغرى، {أو لمستم النساء} هذا موجب للطهارة الكبرى، لو قلنا: "لامستم النساء"، يعني: انتقض الوضوء بمس المرأة لكان الذي ذكر في الآية موجبا واحدا مكررا، وحذف منها موجب آخر لابد من ذكره حتى تكون الآية دالة على الحدث الأصغر والأكبر، ثم نقول: والدليل الآخر أن الله تعالى يعبر عن الجماع بالمس كقوله - تبارك وتعالى-: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة: 236]. وقوله: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237]. أي: تجامعوهن؛ فتبين بهذا أن المراد بالملامسة الجماع، ذكرنا أن قوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} بمعنى: وجاء فهل هناك شاهد بأن "أو" تأتي بمعنى "الواو"؟ الجواب: نعم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحد من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك". فقوله: "سميت به نفسك، أو أنزلته" بمعنى: وأنزلته في كتابك؛ لأن ما سمى الله به نفسه إما أن يكون نازلا في الكتاب، أو علمه الله أحدا من خلقه عن طريق الوحي، فثبت بالسنة، أو استأثر به في علم الغيب عنده. فتبين أن "أو" تأتي بمعنى الواو في اللغة العربية، وعليه فنقول: إذا قبل الرجل امرأته وهو على وضوء لشهوة ولو مع انتصاب ذكره، فإنه لا ينتقض وضوؤه ما لم يحدث بمذي أو غيره فينقض بالحدث، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.

خروج الريح

خروج الريح: 65 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه: أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". أخرجه مسلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا" يعني: شيئا من الحركة التي هي الريح، "فأشكل عليه" أي: شك، "أخرج منه شيء أم لا"، المراد بالشيء هنا: الريح، "أم لا؟ فلا يخرجن" قال: "أم" وهذا هو الأفصح ويجوز أن يحل محلها أو "أو لا" ولكنها إذا جاءت بمثل هذا التركيب فالأولى "أم". "فلا يخرجن من المسجد" لماذا؟ ليتوضأ وليس المعنى لا يخرجن من المسجد لأن من أحدث حرم عليه البقاء في المسجد لكن فلا يخرجن من المسجد ليتوضأ. "حتى يسمع صوتا"، إن كان الخارج له صوت، "أو يجد ريحا" إن لم يكن له صوت؛ لأن الخارج من الريح إما أن يكون له صوت مسموع، وإما أن تكون له رائحة، وإما أن يجتمع الأمران، وإما أن يعدم الأمران لكن يتيقن الإنسان، كرجل لا يشم ولا يسمع فإنه إذا تيقن أنه خرج انتقض وضوؤه وإن لم يسمع ولم يشم. هذا الحديث يدل على أن الإنسان إذا شك في الحدث وهو على طهارة فإنه لا يلزمه الوضوء؛ لأن الطهارة متيقنة والوضوء باق والحدث مشكوك فيه، ولا يترك اليقين بالشك. هذه قاعدة، يعني: أخذ العلماء من هذا الحديث قواعد: منها: أن اليقين لا يزول بالشك. ومنها: أن الأصل بقاء ما كان على ما كان. ومنها: أن اليقين يزول باليقين الطارئ عليه؛ لقوله: "حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". ومن فوائد هذا الحديث: أن الدين الإسلامي يريد من أهله أن لا يبقوا في قلق وارتباك وريب؛ لأن الإنسان إذا مشى على هذه القاعدة استراح لكن إذا صدع للأوهام والوساوس تعب فنحن نقول: استرح لو شككت وأشكل عليك فالأصل بقاء الطهارة. ومن فوائد الحديث: أنه لو غلب على ظنه أنه أحدث فإنه لا يلزمه الوضوء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علق وجوب الوضوء بأمر متيقن وهو سماع الصوت، أو الرائحة، أما ما سوى ذلك فلا، وعلى هذا فلا يعمل هنا بغلبة الظن، يعني: لو أشكل على الإنسان أخرج منه شيء، سواء ريح أو بلل في رأس ذكره، أو بلل في حلقة الدبر، أو ما أشبه ذلك، وأشكل عليه وغلب على ظنه أنه خارج فلا يلتفت إليه حتى يتيقن.

ومن فوائد هذا الحديث: أن المساجد ليست محلا للوضوء وأن العادة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا وضوء في المساجد لقوله: "فلا يخرج من المسجد" يعني: ليتوضأ، لكن إذا أعد مكان للوضوء في المسجد ولم يحصل به أذية على أهل المسجد فلا بأس أن يتوضأ فيه، أما إذا لم يكن هناك مكان معد مثل أن يأتي عند البرادة التي في وسط المسجد مثلا فيتوضأ فليس ذلك بجائز؛ لما في ذلك من تلويث المسجد، إما من هذا الرجل، أو من يقتدي بهذا الرجل؛ ولأن الماء الذي في البرادة إذا سحبه الإنسان سوف ينقص التبريد لاسيما في أيام الصيف فيكون هذا استعمالا للماء في غير ما وقف له. إذن إذا شك المتوضئ في انتقاض وضوئه هل يعمل بهذا الشط؟ لا يعمل، وهل هو آثم إذا لم يلتفت إليه؟ لا، يل هذا هو السنة وهذا هو الذي ينبغي للإنسان أن يسير عليه. هذا الحديث بنى عليه العلماء مسائل كثيرة في الطلاق، وغيره، يعني: لا يخلو باب من الفقه إلا ويمكن أن تجد فيه لهذا الحديث فرعا، فمن ذلك لو قال قائل: إن كان هذا الطائر غرابا فزوجتي طالق وهو لا يرى الطير ولا يدري ما هو أتطلق؟ لا، لماذا؟ لأننا شككنا ما ندري هذا الطائر فإذا شككنا فالأصل عدم الطلاق، ولا يقال إن الورع أن تطلق لأن هذا ليس هو الورع، الورع أن تلتزم بالسنة. لو قال هذا الذي شك في الحدث اطرد الشط باليقين وسيحدث هل هذا بدعة أو سنة؟ هذه بدعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وجهك إلى شيء غير هذا؛ لأن بعض الناس إذا شك في انتقاض وضوؤه ذهب ينقض وضوءه عمدا زعما منه أنه سوف يستريح، وليس كذلك لن يستريح الشيطان متى غلب عليه حتى فعل مثل هذا الفعل، فلن يستريح وكذلك في الطلاق بعض الناس يكون عليه الوسواس، ثم يشك هل طلق زوجته أو لا، فيقول: أستريح وأطلقها، وهذا غلط بل الراحة اتباع السنة وهو البقاء على الأصل. أسئلة: - لماذا أتى المؤلف بحديث عائشة؟ ليبين أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. - وهل الأمر يحتاج إلى ذلك؟ - ما حكم مس المرأة أينقض الوضوء أم لا؟ لا. - لو استدل بقوله تعالى: {أو لمستم النساء} هل نوافقه؟ لا. - هل لتفسير ابن عباس ما يؤيده من القرآن؟ - حديث أبي هريرة: "إذا وجد أحدكم في بطنه .. إلخ" ذكر العلماء أنه أصل أصيل في مسائل كثيرة من العلم منها؟ -

مس الذكر

إذا شك الإنسان في نقض الوضوء لتعارض الأدلة كيف يمكن أن نعرف الحكم من هذا الحديث؟ - قوله - عليه الصلاة والسلام-: "حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" فإذا كان الرجل لا يشم ولا يسمع وشك أنه خرج منه ريح فماذا يصنع؟ مس الذكر: 66 - وعن طلق بن علي رضي الله عنه قال: "قال رجل: مسست ذكري، أو قال: الرجل يمس ذكره في الصلاة، أعليه الوضوء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو بضعة منك". أخرجه الخمسة، وصححه ابن حبان، وقال ابن المديني: "هو أحسن من حديث بسرة". "طلق بن علي" يروي عن رجل أنه قال للرسول - عليه الصلاة والسلام-: "مسست ذكري"، فأضاف المس إلى نفسه، والمس لابد أن يكون مباشرة، فأما مع الحائض فليس بمس لوجود الحائل الذي يحول، وقوله: "مسست" الغالب أن المس إنما يطلق على المس باليد، والمعنى: "مسست ذكري"، أو قال: "الرجل يمس ذكره"، يعني: بيده، وقوله: "في الصلاة" يعني: حال كونه في الصلاة، وهذا يوجد إشكالا وهو أنه كيف يمكن أن يمس الإنسان ذكره وهو يصلي؛ لأن عليه لباس، عليه قميص وسراويل كيف يمس؟ نقول: لا إشكال، ما دمنا عرفنا أن المس في اللغة العربية إنما يكون مباشرة وبدون مباشرة لا يكون مسا، وإنما مس الحائل حينئذ يزول الإشكال، فالإنسان مثلا وهو يصلي ربما يحتاج إلى مس الذكر مباشرة فيمسه، وما دام يمكن أن ينزل المعنى اللغوي على الواقع فإنه يزول الإشكال، "أعليه الوضوء" يعني: أيجب عليه الوضوء، واعلم أن كلمة "على" من أدوات الوجوب، يعني: "يجب" من أدوات الوجوب، "يلزم" من أدوات الوجوب، "عليه كذا" من أدوات الوجوب وإن كانت ليست بصريحة فيه لكنها ظاهرة في ذلك. وقوله: "أعليه الوضوء" يعني: أيجب عليه أن يتوضأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا" أي: لا يجب؛ فالسؤال الآن عن الوجوب، والجواب على نفي الوجوب، يعني: لا يجب، وعلى هذا لا يمنع أن يكون مستحبا، ولكن سننظر الحديث الذي بعده إن شاء الله. قال: "إنما هو بضعة منك"، هذا تعليل للحكم وهو انتفاء الوجوب، كأن سائلا سال: لماذا لا

يجب؟ قال: "إنما هو بضعة منك"، "بضعة" يعني: قطعة من الإنسان كسائر الأعضاء كاليد والرجل، والأصبع والأذن، وما أشبه ذلك، فهل إذا مس الإنسان أذنه ينتقض وضوؤه؟ لا، إذن إذا مس ذكره لا ينتقض الوضوء؛ لأنه جزء منه، وهذه العلة علة لا يمكن زوالها أبدا ولا تشكل على أحد، يعني: لا قال: إن هذه علة وصفية يمكن أن يجادل فيها، هذه علة محسوسة أن الذكر بضعة من الإنسان فإذا كان الإنسان إذا مس بقية أعضائه لا ينتقض وضوؤه فكذلك إذا مس ذكره. ففي هذا الحديث فوائد؛ منها: جواز السؤال عما يستحيا منه إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وجهه: إنه سأل عن مس الذكر، فإن هذا يستحيا منه، ولكن دعت الحاجة إلى ذلك من أجل أن يبين للمفتي الأمر على حقيقته، ولابد أن يبين الأمر على حقيقته. ومن فوائد هذا الحديث: أن مس الذكر لا يوجب الوضوء لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا" و "لا" جواب يفيد النفي. ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يذكر الحكم وعلته، وذلك في قوله: "إنما هو بضعة منك"، ونأخذ منه فائدة تترتب على ذلك: أنه ينبغي للمفتي إذا أفتى بشيء أن يذكر الدليل أو التعليل ليطمئن السائل، لاسيما إذا وجده قد استغرب الحكم أو استنكره؛ فإنه حينئذ يتعين أن يبين له مآخذ الحكم ليأخذ الحكم عن اقتناع؛ لأن كثيرا من الناس إذا سأله العامي قال: هذا حرام، أو هذا حلال ويمشي، لكن إذا شعرت أن الرجل لم يقتنع، وأنه استغرب الحكم فعليك أن تبين الدليل، والمؤمن يقتنع بالدليل؛ ولهذا تحس دائما أن الرجل إذا سألك عن مسألة، ثم أفتيته بها ورأيت أنه ليس بقابل إلى ذلك الحد، ثم قلت: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام- قال كذا؛ تجده يسفر وجهه ويقتنع تماما، وهذا أمر قد يغفل عنه كثير من الناس. ومن فوائد هذا الحديث: الإشارة إلى أنه إن مس الذكر على وجه آخر يخالف مس بقية الأعضاء فله حكم آخر، وذلك إذا مسه لشهوة، فإنه إذا مسه لشهوة لا يكون كبقية الأعضاء؛ لأن بقية الأعضاء لا يمكن للإنسان أن يمسها بشهوة، لكن الذكر يمكن أن يمسه لشهوة؛ فعليه نقول: إذا مس الذكر مسا ليس على مس الأعضاء العادي وجب عليه الوضوء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفي الوجوب وعلل، وهذه علة منصوصة، وعلة لا يمكن أن تعتل أو تزول، "إنما هو بضعة منك"، وعليه فإذا مسه على وجه الشهوة فإنه ينتقض وضوؤه، وهذا هو الصحيح أن مس الذكر إن كان لشهوة انتقض به الوضوء، وإلا فلا. فإن مسه غيره فهل ينتقض وضوؤه؟ أي: الممسوس. الفقهاء يقولون: لا ينتقض وضوؤه،

ولكن إذا رجعنا إلى العلة قلنا: إنه ينتقض، كرجل مست امرأته ذكره وحصل شهوة، العلة واحدة؛ وربما يكون إثارة شهوته بمسه امرأته أشد من إثارة شهوته بمسه هو. 67 - وعن بسرة بنت صفوان رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مس ذكره فليتوضأ". أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي، وابن حبان. - وقال البخاري: "هو أصح شيء في هذا الباب". "من" شرطية تفيد العموم، وقوله: "مس ذكره فليتوضأ" اللام في قوله: "فليتوضأ" لام الأمر فيفيد فوائد؛ منها: أن الرجل إذا مس ذكره فإنه مأمور بالوضوء لقوله: "فليتوضأ". قوله: "من مس ذكره" ظاهره أنه لا فرق بين أن يمسه لشهوة أو لغير شهوة، وبين أن يمسه عمدا أو غير عمد؛ لأن الإنسان ربما يمس ذكره عن غير عمد، أما إذا أراد أن يرفع إزاره أو يرفع سراويله فمسه عن غير عمد فظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يقصد ذلك أو لا. وقد يقال إن قوله: "من مس" ظاهر في أن المراد: تعمد المس، لكن الفقهاء الحنابلة - رحمهم الله- يقولون: إنه إذا مس ذكره ولو عن غير قصد فإن وضوءه ينتقض. وقوله: "من مس ذكره" ولم يقل: من مس الذكر، فيقتضي أنه إذا مس ذكر غيره لا ينتقض وضوؤه، كما سيأتي في الفوائد إن شاء الله. وقوله: "فليتوضأ" لم يذكر إلا الوضوء، فلا يجب الاستنجاء؛ لأن الاستنجاء إنما يجب من بول أو غائط. في هذا الحديث فوائد منها: أن من مس ذكره فإنه مأمور بالوضوء مطلقا لشهوة أو لغير شهوة، عن عمد وعن غير عمد، لكن كما ذكرنا آنفا أن الظاهر أن المراد العمد. وهل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ اختلف العلماء - رحمهم الله- في هذا القول؛ فقيل: إن ألأمر للوجوب: وقيل: إن الأمر للاستحباب لم يكن بينهما تعارض، فهل نقول في الجمع بينهما: الأمر في حديث "بسرة" للاستحباب، ونفي الوجوب في حديث "طلق" لا يعارض ثبوت الاستحباب، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، وقالوا: إنه إذا مس ذكره استحب أن يتوضأ سواء كان لشهوة أو لغير شهوة، ولا يجب سواء كان لشهوة أو لغير شهوة، وقيل: إن الجمع بينهما إذا قلنا الأمر للوجوب أن يحمل حديث "بسرة" على من مسه لشهوة، وحديث "طلق" على من مسه لغير شهوة، والتعليل

القيء والرعاف والقلس

يدل على هذا الجمع، ما هو التعليل؟ لقوله: "إنما هو بضعة منك"، فيكون إن مسه هو بشهوة فقد مسه لا على أنه بضعة منه فيجب عليه الوضوء، وإذا كان لغير شهوة لم يجب، لكن إذا قلنا: لا يجب ألا يمكن أن نقول: يستحب؟ الجواب: بلى، نقول: إنه يستحب. فإذا قال قائل: كيف تقولون إنه يستحب، وأنتم لو أن أحدا سألكم عن شخص مس أذنه أيستحب أن يتوضأ؟ قلنا: لا؛ إذن لماذا؟ نقول: احتياطا لأن هذا - أعني: مس الذكر- ورد الأمر فيه بالوضوء بخلاف مس الأذن. وعلى هذا فيكون خلاصة القول: إن مسه لشهوة وجب عليه الوضوء، وإن مسه لغير شهوة لم يجب عليه الوضوء، لكن يستحب احتياطا، وحينئذ نكون جمعنا بين الحديثين، ولا نحتاج إلى الترجيح؛ لأن ابن المديني رحمه الله يرى أن حديث "طلق" أرجح من حديث "بسرة"، والبخاري يقول: "إنه أصح شيء في هذا الباب". ولا يخفى أن البخاري رحمه الله اطلع على حديث "طلق"، ولكن يرى أن هذا أصح شيء في هذا الباب، ونقول: لا حاجة إلى الترجيح ما دام الجمع ممكنا. بقي علينا "مس الأنثيين"، هل ينقض الوضوء؟ الجواب: لا، حتى وإن كان لشهوة فإنه لا ينتقض الوضوء، أيضا من مس ذكر غيره فهل ينتقض وضوؤه؟ نقول: ظاهر الحديث لا، وظاهره ولو لشهوة كما لو مست المرأة ذكر زوجها لشهوة لكن هنا ينبغي الوضوء. مسألة: لو أن المرأة تطهر طفلها الصغير من النجاسات وغيره هل ينتقض وضوؤها؟ لا ينتقض؛ لأنها قطعا لم تمسه لشهوة، ثم هي مست ذكر ابنها فلا يدخل في هذا الحديث. أيضا مسألة: لو أنه مس الدبر فهل ينتقض وضوؤه؟ لا ينتقض، لكن في بعض ألفاظ الحديث: "من مس فرجه"، وعلى هذا اللفظ نقول: إنه يستحب الوضوء من ذلك ولا يجب. القيء والرعاف والقلس: 68 - وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أصابه قيء أو رعاف، أو قلس أو مذي؛ فلينصرف فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم". أخرجه ابن ماجه، وضعفه احمد وغيره.

أولا: نسأل لماذا أتى المؤلف بهذا الحديث مع أنه ضعيف مخالف للأصول؟ نقول: أتى به رحمه الله ليبين حاله - حال هذا الحديث- وأنه ضعيف؛ ولأن بعض العلماء أخذ به، فأتى به ليبين مرتبة هذا الحديث وحاله، وأن من أخذ به فهو قد بنى على حديث ضعيف. قوله: "من أصابه قيء" القيء خروج الطعام أو الشراب من المعدة، "أو رعاف" خروج الدم من الأنف، "أو قلس" خروج الطعام أو الشراب من المعدة، ولكن ملء الفم فقط؛ يعني: ليس بكثير، "أو مذي" هو الماء الذي يخرج عند الشهوة، وسبق الكلام عليه، "فلينصرف" من أي شيء؟ من المسجد، لكن الحديث يدل على أن المصلي ينصرف من الصلاة، قال: "فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته"، فهذا الرجل الذي أصيب بهذه الأشياء وهو يصلي نقول: انصرف توضأ، وابن على صلاتك، ولكن لا تتكلم لأنك لو تكلمت بطلت الصلاة، لكن هذا الحديث - كما قال ابن حجر رحمه الله- ضعفه أحمد، [في الحاشية] عندي ضعفه الشافعي، والداقطني؛ لأن رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم غلط والصواب إرساله. هذا الحديث ضعيف من حيث السند، وأيضا ضعيف من حيث المتن؛ لأنه مخالف لأصول الشريعة. فإذا قلنا: إن هذه الأشياء الأربعة نواقض للوضوء، فكيف يصح بناء آخر الصلاة على أولها مع وجود ناقض، هذا لا يمكن، والرسول - عليه الصلاة والسلام- قال في حديث أبي هريرة إنه إذا سمع صوتا أو وجد ريحا ماذا يجب عليه؟ يجب أن ينصرف ويتوضأ، فيكون هذا الحديث مخالفا له. ثانيا: من منكرات هذا الحديث أنه قال: "وهو في ذلك لا يتكلم". فيقال: سبحان الله! الحدث لا يبطل الصلاة والكلام يبطل أيهما أهون؟ الكلام، ولهذا لو تكلم الإنسان جاهلا في صلاته أو ناسيا فصلاته صحيحة، لكن لو أحدث ناسيا بطلت صلاته. على كل حال: هذا الحديث لا يصح، وإذا لم يصح لم يبن عليه حكم، فلنرجع إلى هذه الأشياء. هل " "القيء" ينقض الوضوء؟ الصواب: لا، قل أو كثر، وذلك لعدم الدليل الصحيح على نقض الوضوء به، ولا فرق بين أن يتقيأ الشيء وهو بحاله، يعني: الآن أكل أو شرب ثم تقيأ والطعام لم يتغير والشراب لم يتغير، أو كان قد تغير بأن أخذ مدة ثم تقيأ فإنه لا ينقض وضوءه لا القليل ولا الكثير، ولا المتغير ولا غير المتغير. "الرعاف" مثله نقول: لا ينقض الوضوء حتى لو كثر. فإن قال قائل: أليس جاء في الحديث: أن الرجل إذا أحدث في صلاته خرج من الصلاة ووضع يده على أنفه كأنه أرعف، ألا يدل هاذ على نقض الوضوء بالرعاف؟ فالجواب: لا، لكن من المعلوم أن الإنسان إذا أرعف وهو يصلي، فإنه لا يتمكن من إتمام الصلاة وحينئذ لابد ان يخرج؛ لأن لا يمكنه إتمام الصلاة

حكم الوضوء من لحوم الإبل

على الوجه المطلوب مع وجود الرعاف؛ وإذا كان نهي أن يصلي وهو يدافع الأخبثين فكذلك هنا سوف يشتغل. "القلس" نقول: إذا لم ينقض القيء فالقلس من باب أولى. "المذي" ينقض الوضوء لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "توضأ وانضح فرجك" فهو ناقض للوضوء، فصار الثلاثة الأولى: "القيء، والرعاف، والقلس" كلها لا تنقض الوضوء؛ وذلك لأن الأصل بقاء الوضوء وعدم الناقض إلا بدليل صحيح. حكم الوضوء من لحوم الإبل: 69 - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه: "أن رجلا سأل صلى الله عليه وسلم أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم". أخرجه مسلم. هذا يقال فيه ما قيل فيما سبق من جهة السؤال، قال: "أتوضأ من لحوم الغنم" يعني: إذا أكلها، فقال له: "إن شئت" يعني: إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ، "أتوضأ من لحوم الإبل"، قال: نعم، يعني: أنه يجب أن تتوضأ، ووجه قولنا: يجب أن تتوضأ؛ لأنه علق الوضوء من لحم الغنم على مشيئته، وهذا يستلزم أن لا مشيئة له في أكل لحم الإبل، وأنه يجب أن يتوضأ. أسئلة: - اختلف العلماء - رحمهم الله- في حديث طلق، وبسرة اللذين ظاهرهما التعارض، فسلكوا مسلك الترجيح، فهل هذا المسلك صحيح؟ لا، لماذا؟ لأنه لا يصار إلى الترجيح إلا إذا تعذر الجمع. - كيف يمكن الجمع؟ - حديث عائشة ذكره المؤلف وقال: إنه ضعفه أحمد فما فائدة ذكره؟ ليبين ضعفه. - ما الفرق بين القيء والقلس؟ - هل قال أحد بأن القيء والرعاف ينقض الوضوء كثيره دون قليله؟ نعم، فقهاء الحنابلة، والراجح خلافه. - هل المذي ينقض الوضوء؟ - نكمل حديث جابر قال: "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الغنم"، كلمة "رجل" مبهم لم يعين، وهل الحكم يتوقف على تعين هذا الرجل؟ لا يتوقف، وعلى هذا فلا يضر عدم معرفة الرجل المذكور بعينه؛ لأن المقصود هو الحكم، سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم

الغنم؟ قال: "إن شئت" يعني: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ، وهذا يدل على أن من الأعمال ما يجوز فعله؛ ولكن لا يستحب، لكن إن فعله الإنسان فلا حرج عليه؛ لأن كون الرسول - عليه الصلاة والسلام- يضيف هذا الشيء للمشيئة يدل على أن الإنسان إن توضأ لم يؤجر، وإن ترك لم يأثم ولم يؤجر، قال: "إن شئت". قال: "أتوضأ من لحوم الإبل" قال: "نعم"، "نعم" يعني: توضأ فقوله: "من لحوم"، ولحوم يشمل كل ما يحمله قدم ورجل الحيوان فإنه يسمى لحما، فيدخل فيه لحم القلب، والكبد، والكرش، والأمعاء، وكل ما شمله جلد هذه البهيمة فإنه داخل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل، واللحم عند ذكر الحل والتحريم أو ترتيب الأحكام يشمل الجميع، قال الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [المائدة: 3]. ومن المعلوم أن لحم الخنزير يشمل جميع ما أدخل جلده من لحم أحمر وأبيض وأمعاء وكرش وكبد وغير ذلك. ففي هذا الحديث فوائد كثيرة منها: حرص الصحابة - رضي الله عنهم- على تعلم العلم؛ ولهذا لا يدعون صغيرة ولا كبيرة يحتاجون إليها في الدين إلا سألوا عنها، ومن تتبع الأسئلة الواردة من الصحابة على النبي - عليه الصلاة والسلام- تبين له أن قول بعض الجهال: إن الصحابة - رضي الله عنهم- لم يتعمقوا في العلم ولا في السؤال عنه قول باطل؛ لكنهم لم يتعمقوا تعمق المتأخرين الذين يضربون الأمثال، ويصورون الصور البعيدة الوقوع، بل الممتنعة الوقوع، الصحابة - رضي الله عنهم- يأتون الأمور بظاهرها ولا يتعمقون، لكنهم موفقون للعلم الصحيح. ومن فوائد هذا الحديث: أن لحم الغنم لا يجب الوضوء منه سواء كان نيئا أو مطبوخا/ وجه الدلالة: الإطلاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل، والسائل لم يستفصل، فمن أكل لحم غنم نيئا كان أو مطبوخا لم يجب عليه الوضوء. فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: "توضئوا مما مست النار"؟ قلنا: "بلى"، لكن هذا الحديث ورد ما يدل على أنه ليس بواجب، أعني: الوضوء مما مست النار لقول جابر - أظنه جابرا-: "كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار". وهذا الترك لبيان الجواز، وعليه فيكون قوله: "إن شئت" عاما للحم المطبوخ واللحم النيئ. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات المشيئة للعبد، وأن العبد له مشيئة تامة لقوله: "إن شئت"، وفي هذا رد على طائفة مبتدعة مخالفة للمعقول والمنقول والمحسوس ألا وهي الجبرية الذين

يقولون: إن الإنسان ليس له مشيئة، وإنما يعمل اضطرارا لا اختيارا، ولما قيل لهم: إن هذا يستلزم أن يكون الله تعالى ظالما إذا عاقبه على معصية لم يردها، قالوا: إن هذا ظلم لو كان الفاعل يتصرف في غير ملكه، أما إذا كان يتصرف ف ملكه فليس بظلم، وهذا لا شك أن قول باطل؛ لأن الله - سبحانه وتعالى- قال عن نفسه: {ولا يظلم ربك أحدا} [الكهف: 49]. وقال في الحديث القدسي: "إني حرمت الظلم على نفسي". وفي هذا دليل على إمكانه لو شاء لظلم لكنه عز وجل لا يظلم، فدل ذلك على أن قولهم هذا باطل، وأن الإنسان له مشيئة. ولكننا ننكر قولا آخر مضادا له ألا وهو قول القدرية الذين يقولون: إن الإنسان مستقل ب‘رادته ومشيئته؛ لأننا نعلم أن إرادة العبد ومشيئته من إرادة الله عز وجل أي: تابعة لإرادة الله وليست مستقلة، والإنسان يريد الشيء ويعزم عليه ويؤكده ويأتيه مانع من الله عز وجل إما بصرف الهمة، وإما بوجود مانع خارجي لا يستطيع معه أن يفعل، فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله. وفائدة القول بأننا نقول أنها تابعة لمشيئة الله: أننا نعلم أن العبد متى شاء شيئا فقد شاءه الله عز وجل، فإذا وقع تحقق دون ذلك، أما مجرد مشيئة العبد فالعبد قد يشاء، ومشيئة هذه لا شك أنها من مشيئة الله لكن قد يقع وقد لا يقع؛ لأنه قد تحصل موانع تمنع الإنسان من فعل ما أراد، وفي هذا أيضا دليل على أن الشيء يكون جائزا شرعا فلا يسمى الفاعل مبتدعا، ولكنه لا يطلب من الإنسان، الرسول - عليه الصلاة والسلام- قال له: "إن شئت". وهذا الذي قلته أنا له دليل، بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلا على سرية، فجعل يقرأ لأصحابه ويختم بـ {قل هو الله أحد}، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه. فدل ذلك على أن مثل هذا الفعل لا يسمى بدعة في دين الله ولا يأثم به الإنسان، لكن هل نقول: إنه سنة، وأنه ينبغي للإنسان إذا قرأ في الصلاة أن يختم بـ {قل هو الله أحد}؟ لا نقول هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولم يأمر به الأمة، غاية ما هنالك أنه أقر هذا الرجل على هذا الفعل فيكون مباحا. وكذلك سعد بن عبادة سأله أيتصدق ببستانه ونخله على أمه بعد موتنها؟ قال: "نعم". لكن هل نقول: إن هذا سنة؟ لا؛ ولهذا لما ذكر النبي - عليه الصلاة والسلام- بر الوالدين بعد موتهما ما ذكر الصدقة؛ ذكر الدعاء والاستغفار، وإكرام الصديق، وصلة الرحم، ولم يذكر الصدقة، ولو كانت الصدقة عن الأموات مشروعة بمعنى أنها مطلوبة من المكلف لثبت ذلك بالسنة القولية أو الفعلية، لكن لا نقول لمن تصدق عن والديه: إنك مبتدع، بل نقول: هذا شيء

أقره النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس به، ففرق بين أن نقول: هذا سنة مشروع للأمة أن تقوم به، وبين أن نقول: إن هذا لو فعله فاعل فهو جاهل، إذن نأخذ من هذا الحديث، ومن أحاديث أخرى ما قررناه الآن. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الوضوء من لحم الإبل، لقوله: "نعم". فإن قال قائل: إن قول الرسول - عليه الصلاة والسلام-: "نعم" تعطي الرخصة من وضوء الإبل؛ لأن الرجل سأل أنتوضأ، قال: "نعم"؛ يعني: ليس فيه مانع، هذا مقتضى اللفظ لو قدرناه من منفصل عن الأول أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم" يعني: ليس فيه مانع، لكن إذا قارنا قول: "نعم" بقوله في لحم الغنم: "إن شئت" دل ذلك على أن المعنى أنه ليس راجعا إلى مشيئتك، بل يجب أن تتوضأ وهو كذلك، ويؤيده أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء من لحم الإبل، فقد أمر بالوضوء من لحم الإبل. فإذا اجتمع هذا وهذا علمنا أنه - أي: لحم الإبل- ناقض للوضوء، وأن من أكل وجب عليه الوضوء، يبقى لنا رأي هل هذا يشمل النيئ والمطبوخ؟ الجواب: نعم. فإذا قال قائل: هاذ الحديث منسوخ بحديث جابر: "كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار"؟ قلنا: سبحان الله! النسخ لا يمكن أن يقام إلا بشرطين: العلم بالتاريخ، وتعذر الجمع، وهنا لا علم لنا بالتاريخ، ولا يتعذر الجمع؛ لأن الأول ترك الوضوء مما مست النار ناسخ لقوله: "توضئوا مما مست النار". هذا هو الذي يقابل هذا، وكلمة "مست النار" يشمل اللهم لحم الإبل، والغنم، والبقر، والطيور، بل والخبز، لكن الله خفف - والحمد لله- على الأمة، ونسخ هذا، أما أن ينسخ شيئا خاصا فهذا ليس بصواب، فالحديث محكم ثابت. فإن قال قائل: اللحم هل يشمل اللحم الأحمر، والأبيض، والأسود كالكبد وغير ذلك؟ فالجواب: نعم. فإذا قال قائل: هذا خلاف العرف؛ لأنك لو قلت للخادم: خذ هذا اشتر به لحما، وأتى إليك بمصران امتثل أو لا يمتثل؟ لا يمتثل، إذن المصران لا يتصف باللحم، لو أتى إليك بكبد لم يمتثل. فيقال: الحقائق الشرعية ليست هي الحقائق العرفية، الشاة عندنا في العرف؟ الأنثى من الضأن، وفي الشرع: تشمل الأنثى من الضأن والمعز، والذكر من الضأن والمعز، ففرق بين الحقائق الشرعية والعرفية، والشارع يحمل كلامه على الحقائق الشرعية؛ لأنه يتكلم بلسان

الشارع فيكون شاملا، ثم نقول: هل تقولون إن لحم الخنزير في قوله: {ولحم الخنزير} [المائدة: 3]. خاص باللحم الأحمر؟ فسيقولون: لا، عام، وهذا أيضا مثله عام ولا فق. ثالثا: نقول لا يوجد في الشريعة الإسلامية حيوان تتبعض أحكامه بحسب أجزائه أبدا، هذا يوجد في الشريعة اليهودية، حرم الله - سبحانه وتعالى- بعض أجزاء الحيوان لظلمهم {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبت أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} [النساء: 160]. وبين ذلك في قوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام: 146]. هذه واضحة، حرم كل الحيوان، {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} [الأنعام: 146]. فهذا حيوان واحد اختلفت أحكامه بحسب أجزائه، لكن في الشريعة الإسلامية لا يمكن، فلو قلنا بما قال به بعض العلماء - رحمهم الله- انه لا ينقض من لحم الإبل إلا اللحم الأحمر؛ لزم من ذلك تبعض الأحكام في حيوان واحد، فهذا إذا أكل من الكبد نقول: صل بلا وضوء ما دمت على وضوئك الأول، والثاني الذي أكل من اللحم الأحمر نقول: توضأ وهو حيوان يسقى بماء واحد ويتغذى بغذاء واحد فلا فرق. فإن قال قائل: يلزم على قياسكم هذا على لحم الخنزير أن توجبوا الوضوء من المرق ومن اللبن. فالجواب: التزم بهذا بعض العلماء وقال: يجب الوضوء من مرق لحم الإبل، ومن ألبان الإبل، وهذا اللزوم يدفع الاعتراض الذي اعترض به من منع قياس لحم الخنزير، لكن نقول: إنه قد دل الدليل على أن الوضوء من ألبان الإبل ليس بواجب في قصة العرنيين الذين اجتووا المدينة وأصابهم مرض فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا بإبل الصدقة، ويشربوا من أبوالها وألبانها، ولم يقل: توضئوا مع أالمقام يقتضي أن يقوله لو كان الوضوء واجبا؛ إذ إنهم قوم جهال بالشريعة يحتاجون إلى بيان فهذا هو الذي منعنا أن نوجب الوضوء من ألبان الإبل، والمرق من باب أولى لا يجب. فلو قال قائل: إذا أكل شيئا يسيرا كرأس العصفور يتوضأ أو لا؟ نعم يتوضأ، هل يمكن أن نقول: إذا أكل ما يفطر به الصائم توضأ، يعني: ولو يسيرا، يعني: ولو كان خلال الأسنان؟ الجواب: هذا هو الظاهر ما دام أكل شيئا له جرم يصل إلى المعدة فإنه يجب عليه أن يتوضأ. فإن قال قائل: فهمنا الحكم وسلمنا ورضينا، وقلنا: لله تعالى أن يحكم بما شاء، فهل تلحقون بلحم الإبل لحم البقر؛ لأن كلا منهما يجزئ عن سبع شياه؟

فالجواب: لا، لا نلحقه به؛ لأن هذا حكم خاص في الإبل، فلا نلحق البقر بذلك. هل تلحقون بذلك اللحم الحرام كما لو اضطر الإنسان إلى أكل لحم خنزير فأكل؟ الجواب: لا؛ لأنه ليست العلة نجاسة لحم الإبل حتى نلحق هذا بهذا، فإن قال قائل: ما العلة إذن؟ نقول: عندنا علة لا لأحد ينكرها وهي أن هذا حكم رسول الله - عليه الصلاة والسلام- هو العلة وهو الحكمة؛ ولهذا استدلت عائشة رضي الله عنها بهذا الدليل نفسه حين سألتها المرأة نقضي الصوم، ولا نقضي الصلاة، قالت: "كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة". إذن الحكم وهو وجوب الوضوء من لحم الإبل يعتبر من الأحكام التعبدية التي ليس للإنسان فيها إلا التسليم والانقياد بقطع النظر عن كونه يعرف أو لا يعرف مع أن بعض العلماء - رحمهم الله- أراد أن يستنبط علة هي في الحقيقة عميقة فقال: إنه ثبت أن الإبل خلقت من الشياطين؛ يعني: أن طبيعتها الشيطنة وليس المعنى: أن الشيطان أب لها أو أم لها كقوله: {خلق الإنسن من عجل} [الأنبياء: 37]. المعنى: أن طبيعته العجلة هذا ايضا مثله خلقت الإبل من الشياطين؛ يعني: أن طبيعتها الشيطنة، وصاحبها يكون عنده الفخر والخيلاء كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام-: "الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل". هذه الطبيعة التي فيها قد توجب للإنسان أن يكتسب من هذا الفخر والعلو والزهو، والماء يبرد الجسم ويخفف الحرارة ولهذا أمر الإنسان إذا غضب أن يتوضأ لإطفاء حرارة الغضب، فإن كانت العلة هذه فهذه العلة تعتبر كسبا، وإن لم تكن إياها فالعلة أمر النبي صلى الله عليه وسلم. أسئلة: - في الحديث ما يدل على وجوب الوضوء من لحم الإبل فما هو؟ تخيير النبي صلى الله عليه وسلم له في الغنم يدل على النقض في الإبل.

حكم من غسل ميتا

- قررنا أيضا لحم الإبل يشمل جميع ما في جلدها؟ لأن اللحم إذا أطلق يشمل جميع افي البهيمة. - أوردنا على هذا أنه إذا كان ذلك لزم أن يكون مرقه ناقضا للوضوء، فما الجواب؟ لم يأمر العرنيين بالوضوء من لبن الإبل فكيف بالمرق والأفضل الوضوء. - هل يشمل اللحم النيئ والمطبوخ؟ نعم. كيف عرفت؟ من العموم. - لو قال قائل: هاذ الحديث منسوخ بحديث جابر فما الجواب؟ لابد من شروط النسخ. حكم من غسل ميتا: 70 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ". أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي وحسنه. وقال أحمد: "لا يصح في هذا الباب شيء. سبق أنا أوردنا على المؤلف رحمه الله أنه يورد الأحاديث الضعيفة، وبينا الجواب على هذا؛ لأن هذا الحديث قد يحتج به المحتج فيبين المؤلف أنه لا حجة فيه لضعفه. يقول - عليه الصلاة والسلام- إن صح عند هذا الحديث: "من غسل ميتا فليغتسل" تغسيل الميت معلوم لنا جميعا أنه فرض كفاية لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به في حديث الذي وقصته ناقته، فقال: "اغسلوه بماء وسدر". ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء اللاتي كن يغسلن ابنته قال: "اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك". وهل هو عن حدث، قيل بذلك إنه عن حدث، وبناء عليه إذا تعذر غسله يمم، وقيل: للتطهير بدليل قوله: "إن رأيتن ذلك" وعلى هذا القول إذا تعذر تغسيله لكونه محترقا، أو لعدم وجود الماء فإنه لا ييمم؛ لأن الحكمة قد فاتت، ولكن نقول: لا يضر أن ييمم إذا تعذر الغسل. وقوله: "ميتا" يشمل الصغير والكبير حتى ولو كان طفلا فغسله ثبت في حقه هذا الحكم، وقوله: "فليغتسل" الفاء هنا رابطة للجواب، جواب "من" واللام للأمر "فليغتسل". والاغتسال

معروف وهو - أعني: الاغتسال- أن يعم بدنه بالماء، ومنه المضمضة والاستنشاق؛ لأن الأنف والفم من الوجه. "ومن حمله فليتوضأ" "من حمله" قيل: من أراد حمله، وأطلق الفعل على الإرادة؛ لأن ذلك مستعمل في اللغة العربية كثيرا مثل قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة} [المائدة: 6]. يعني: إذا أردتم القيام إليها، وكحديث أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: "أعوذ بالله من الخبث والخبائث". وهذا كثير، فقيل: "من حمله" أي: من أراد حمله "فليتوضأ"، وذلك من أجل أن يكون متهيئا للصلاة عليه، وقيل: من حمله فعلا فليتوضأ، وحمل الوضوء على هذا الوجه حمل الوضوء على الوضوء اللغوي وهو النظافة، وأيضا "فليتوضأ" أي: فلينظف يده لمباشرتها لحمل الميت لكن هذا فيه نظر؛ لأن يديه وإن حملت الميت وباشرت الميت طاهرة لا تحتاج إلى أن تغسل الأيدي منها. "أخرجه أحمد والنسائي، والترمذي، وحسنه، وقال أحد: لا يصح في هذا الباب" يعني: باب الوضوء، أو في هذه المسألة؟ الثاني هو المراد؛ يعني: لا يصح في هذه المسألة شيء، وإذا كان لا يصح بطل العمل به؛ لأنه من شرط العمل بالحديث أن يكون صحيحا أو حسنا، وإذا لم يكن صحيحا ولا حسنا فلا يعمل به. أما فوائد هذا الحديث: ففيه وجوب الاغتسال على من غسل ميتا صغيرا كان أو كبيرا؛ لظاهر الأمر لقوله: "فليغتسل"، لكن نقل بعضهم الإجماع على أنه لا قائل بالوجوب، يعني: على أن العلماء أجمعوا أنه ليس بواجب الاغتسال من تغسيل الميت، وعلى هذا فيكون مستحبا وليس بواجب، لكن هل نقول هذا على تقدير صحة الحديث، أو نقول كما ذهب إليه صاحب النكت أن الحديث إذا كان ليس بحجة - يعني: ضعيف- ما يصل إلى درجة الاحتجاج فإنه يحمل الأمر فيه على الاحتياط والاستحباب، وإذا كان نهيا حمل على الكراهة احتياطا لاحتمال أن يكون حجة. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية تغسيل الأموات لقوله: "من غسل ميتا فليغتسل"، وجه المشروعية: أنه رتب على هذا الاغتسال حكما وشرعيا، ولو كان الاغتسال غير مشروع لم يترتب عليه شيء. ولكن من يباشر تغسيل الميت؟ الرجل يباشر تغسيل الرجال، والمرأة تباشر تغسيل النساء، إلا الزوجين فإنهما لا بأس أن يغسل أحدهما الأخر، وكذلك الرجل مع سيرته لعموم قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حفظون إلا على أزوجهم أو ما ملكت أيمنهم} [المؤمنون: 5، 6].

حكم مس القرآن بغير وضوء

وذكر العلماء أن من دون السبع لا حكم لعورته فيغسله الرجال والنساء سواء كان ذكرا أو أنثى. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان الاستعداد لفعل العبادة، قبل أن يباشرها على تقدير الذي ذكرنا في قوله: "ومن حمله فليتوضأ". ومن فوائده: وجوب الوضوء للصلاة على الميت على التقدير الذي ذكرنا أن من حمله - أي: أراد حمله ليصلي عليه فليتوضأ- ولا شك أن الصلاة على الميت لا تصح إلا بوضوء لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، وعموم قوله: "لا صلاة بغير طهور". حكم مس القرآن بغير وضوء: 71 - وعن عبد الله بن أبي بكر رحمه الله: "أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: ألا يمس القرآن إلا طاهر". رواه مالك مرسلا، ووصله النسائي وابن حبان، وهو معلول. ظاهر العبارة الموجودة عندي - والظاهر أن هذا خطأ من الطابع-: عن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه، ظاهره أن هذا أبي بكر الصديق وليس كذلك، بل هذا عبد الله بن أبي بكر بم محمد بن عمرو بن حزم، وليس أبا بكر الصديق. عمرو بن حزم: هو جد أبي عبد الله بن أبي بكر، وهذا هو وجه الصلة في كونه نقل الكتاب المكتوب لعمرو بن حزم. قال: "أن الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ألا يمس القرآن إلا طاهر"، قوله: "في الكتاب ألا يمسه" يفهم من هذا التعبير أن في الكتاب أشياء غير هذا؛ لأن قوله: "في الكتاب ألا يمس" إذن هناك مسائل أخرى في هذا الكتاب وهو كذلك فيه مسائل كثيرة، وقد ذكره صاحب الإلمام بكماله تاما، فيه مسائل كثيرة في الديات، وفي الزكاة وفي غيرها؛ ولهذا نقل هذا الحديث بالتواتر، واشتهر بين العلماء وقبلوه وفرعوا عليه مسائل كثيرة. "ألا يمس القرآن إلا طاهر" المراد بالقرآن هنا: ما كتب في القرآن، يعني: المصحف، اللوح، الأوراق، الأحجار؛ لأنه ليس المراد بالقرآن الذي هو كلام؛ إذ إلا الكلام لا يمس ولكنه يسمع، والمراد: ما كتب فيه القرآن من أوراق وأحجار وغير ذلك.

"إلا طاهر" كلمة "طاهر" قال بعض أهل العلم: أي: إلا مؤمنا، واستدل لهذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن لا ينجس". وإذا كان لا ينجس لزم أن يكون طاهرا؛ لأن النجاسة والطهارة شيئان متقابلان، وقال بعض العلماء: "إلا طاهر" أي: إلا متوضئ، يعني: طاهرا من الحدث الأصغر والأكبر، واستدلوا بقول الله - تبارك وتعالى- لما ذكر الوضوء والغسل والتيمم قال: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} [المائدة: 6]. فسمى الله الوضوء والغسل والتيمم لمن لم يستطع جعله تطهيرا، وقال تعالى: {ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرهن فأتوهن من حيث أمركم الله} [البقرة: 222]. وردوا على الآخرين فقالوا: إنه لم يعرف في القرآن ولا في السنة أن يعبر عن المؤمن بالطاهر، وإنما الطاهر وصف وليس يعبر به عنه، وفتش هل يوجد في القرآن والسنة التعبير عن المتقين والمؤمنين بالطاهرين؟ لا يوجد لكن وصف المؤمن أنه لا ينجس، فإذا كان كذلك فإنه يبعد جدا أن يراد بالطاهر هنا المؤمن. "رواه مالك مرسلا، ووصله النسائي وابن حبان، وهو معلول" المحدثون اختلفوا في وصله وإرساله، لكن شهرة هذا الكتاب وتلقي العلماء له بالقبول وتفريعهم عليه يدل على أن له أصلا صحيحا، وهو كذلك وهذا مما ذكره العلماء في المصطلح مما يتقوى به المرسل إذا تلقي بالقبول فإن نقله بين الناس واشتهاره بينهم يدل على أنه صحيح، وهو كذلك هو صحيح، في هذا الحديث دليل على أن تبليغ الرسالة والشريعة يكون باللفظ المسموع وبالكتاب المقروء، وجه الدلالة: أن هذه طريقة النبي صلى الله عليه وسلم تارة يبلغ الرسالة بالقول وتارة بالكتابة. ومن فوائده: عظمة القرآن، وأنه يجب أن ينزه عن النجس سواء قلنا: إنه من كان محدثا، أو قلنا: إنه من كان كافرا. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الوضوء لمس المصحف؛ لقوله: "لا يمس القرآن إلا طاهر" هذا ما رجحناه أخيرا، وإن كنا بالأول نميل أن المراد بالطاهر: المؤمن، لكن بعد التأمل تبين لي أن المراد بالطاهر: الطاهر من الحدث الأصغر والأكبر. وهل المراد "ألا يمس القرآن" يعني: القرآن الذي في الأوراق؛ بمعنى: لا يضع يده عليه، أي: على المكتوب دون ما كان من حواشيه وجوانبه؟ الجواب: لا، المراد ألا يمس الذي كتب فيه القرآن كله، وعليه فإذا كتب القرآن بوسط الصفحة فجوانبها تمس؛ أي: لا يمسها المحدث، وإذا كان على المصحف جلدة مقواة فإنه يمسها إن كانت لاصقة به، أما إذا كانت وعاء ينفصل فإنه لا بأس أن يمسها من ليس بمتوضئ.

ومن فوائد هذا الحديث: أن المصحف لا يمسه إلا طاهر سواء كان صغيرا أو كبيرا؛ يعني: فالصغير الذي بلغ ست التمييز لا يمس القرآن إلا إذا تطهر، وقال بعض العلماء: إنه يرخص للصغار في مسه عند الحاجة، فإن الصغار يعطون شيئا من القرآن، إما في اللوح، وإما بأوراق خاصة كأجزاء جزء "عم"، جزء "تبارك"، ويشق أن نلزمهم بالوضوء، ولا شك أنه إذا كان هناك مشقة فإنه لا ينبغي إلزامه؛ لأن من دون البلوغ قد رفع عنه القلم، لكن يؤمرون ولا يلزمون. فإن قال قائل: ما تقولون فيمن استدل لهذا بقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 79]. قلنا: لا دليل في الآية، يتبين هذا بتلاوتها {إنه لقرءان كريم في كتب مكنون لا يمسه إلا المطهرون} فالضمير هنا يعود إلى أقرب مذكور وهو "الكتاب المكنون"، وإن كان القول بأنه يعود إلى القرآن من حيث إن السياق في القرآن والحكم على القرآن، لكن يضعفه قوله: {إلا المطهرون} وهي اسم مفعول، ولو كان المراد: إلا من تطهر؛ لقال: (إلا المطهرون) أي: المتطهرون، فالآية ليس فيها دليل على ذلك، لكن بعض العلماء استنبط وقال: إنه إذا كان لا يمس الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون، فكذلك أيضا المصحف الذي فيه القرآن الكريم، ولكننا لسنا بحاجة إلى هذا الاستنباط الذي قد يبدو بعيدا؛ إذ إن لدينا لفظ الحديث. 72 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه". رواه مسلم، وعلقه البخاري. قولها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر" ذكر العلماء في أصول الفقه أن "كان" إذا كان خبرها مضارعا فإنها تدل على الدوام غالبا، وليس دائما، كان يفعل يعني: باستمرار، وهذا على الغالب وليس على الدائم، والدليل على أنه الغالب أنه ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في صلاة الجمعة بسبح والغاشية". وجاء في لفظ آخر: "كان يقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة والمنافقين". فلو قلنا: إن "كان" تدل على الدوام دائما لكان في الحديثين تعارض وتناقض، لكن نقول: إنها تدل على الدوام غالبا لا دائما. قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه" "يذكر الله" يحتمل أن يكون المراد بالذكر هنا: الذكر اللفظي باللسان، وهذا هو الظاهر؛ يعني: أن يقول: "لا إله إلا الله"، ويحتمل أن يكون عاما لذكر القلب، والجوارح، واللسان؛ لأن الذكر يكون بالقلب، ويكون باللسان،

ويكون بالجوارح، الذكر بالقلب هو تذكر الله عز وجل وعظمته ورجاؤه وخوفه، وخشيته، ومحبته، وتعظيمه، وما أشبه ذلك، هذا ذكر الله بالقلب، وذكر الله باللسان: التسبيح، والتكبير، والتهليل، وما أشبه ذلك، وهو بالمعنى العام يشمل كل قول يقرب إلى الله عز وجل وذكر الله بالجوارح الركوع، والسجود، والقيام، والقعود في الصلاة، والمشي بالدعوة إلى الله وغير ذلك، فالذكر إذن متعلق بالقلب واللسان والجوارح. والذي يظهر من حديث عائشة ما يتعلق باللسان؛ أي: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- يذكر الله دائما، وقولها: "على كل أحيانه" يعني: على كل حين يمر به، وهو بمعنى قول القائل: على كل أحواله، يعني: قائما، وقاعدا، وعلى جنبه، كما قال الله 0 تبارك وتعالى-: {الذين يذكرون الله قيما وقعودا وعلى جنوبهم} [آل عمران: 191]. هذا الحديث أتى به المؤلف رحمه الله في باب نواقض الوضوء ليفيد أنه لا يشترط لذكر الله أن يكون الإنسان على طهارة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله، فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سلم عليه ولم يرد عليه السلام حتى تيمم، ثم رد عليه السلام، وقال: "إني أحببت ألا أذكر الله إلا على طهر". فهذا من باب الاستحباب، وليس من باب الواجب؛ بمعنى: أنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يذكر الله أن يكون على طهر، ولكن لو ذكر الله على طهر فلا إثم عليه ولا حرج علي. يستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: معرفة عائشة رضي الله عنها بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، ويتفرع على هذه الفائدة: أن ما روته عن الرسول - عليه الصلاة والسلام- وعارض ما رواه غيرها فإن روايتها تقدم؛ يعني: أن روايتها مرجحة؛ لأنها من أعلم الناس بحال النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: فضيلة إدامة ذكر الله والاستمرار فيه؛ لقولها: "يذكر الله على كل أحيانه"، ولا شك أن ذكر الله حياة للقلب بمنزلة الماء تسقى به الثمار، لكن بشرط أن يكون الذاكر ذاكر لله تعالى بلسانه وقلبه. ومنها: أنه لا يشترط للذكر أن يكون [الإنسان] على طهارة لقولها: "يذكر الله على كل أحيانه". فإن قال قائل: هل يشمل ذلك ما إذا كان الإنسان على جنابة؟ فالجواب: نعم، يشمل هذا؛ فيجوز للجنب أن يذكر الله بالتسبيح، والتكبير، والتهليل، وقراءة الأحاديث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يقرب إلى الله تعالى من الأقوال إلا ذكرا واحدا وهو القرآن، فالصحيح أنه لا يجوز للجنب أن يقرأ القرآن، وإن كانت

هل يتوضأ من الحجامة

المسألة فيها خلاف، لكن الصحيح أنه لا يجوز له قراءة القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "كان لا يحجزه عن القرآن شيء إلا الجنابة". كلمة "لا يحجزه" يعني: لا يمنعه، ولأنه كان يقرئ أصحابه القرآن ما لم يكن جنبا. وهذا يدل على أنه ممنوع أن يقرأ القرآن وهو على جنابة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يجب عليه البلاغ، ومن البلاغ أن يعلم القرآن، فإذا كان يمتنع من ذلك إذا كان على جنابة، دل هذا على أنه لا يجوز للجنب أن يقرأ القرآن؛ لأنه لا يعارض واجب إلا بشيء واجب تركه، وهذا القول هو الراجح، وهو الذي عليه جماهير أهل العلم، أن الذي عليه جنابة لا يقرأ القرآن حتى وإن توضأ، بخلاف المكث في المسجد فيجوز للجنب أن يتوضأ، وأما قراءة القرآن فلا يجوز حتى يغتسل. بقي علينا يقول: "رواه مسلم، وعلقه البخاري" يقول العلماء: إن الحديث المعلق: ما حذف أول إسناده تشبيها له بالمعلق بالسقف الذي لا يتصل بالأرض، فالحديث المعلق هو الذي حذف أول إسناده، ويطلق - أي: المعلق - على ما حذف جميع إسناده، فإذا قال البخاري مثلا: وقالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم، ماذا نسميه؟ معلقا، وإذا قال البخاري عن شيخ شيخه: قال فلان وساق السند نسميه أيضا معلقا، والمعلق من قسم الضعيف وذلك لعدم اتصال السند، إلا إذا كان المعلق التزم مؤلفه ألا يعلق ما صح عنده، فإننا نقول: إن هذا المعلق صحيح لكن ليس صحيحا على الإطلاق، بل هو صحيح عند معلقه، ثم إن كان من الأئمة المشهورين فإن تصحيحه معتبر وإلا فلا. هل يتوضأ من الحجامة: 73 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى، ولم يتوضأ". أخرجه الدارقطني، ولينه. "احتجم" الاحجام: إخراج الدم من الجسم بصفة مخصوصة، ولابد فيه من حذف الحاجم وإلا كان على خطر، الصفة المعروفة في عهد النبي - عليه الصلاة والسلام- وإلى عهد قريب: أن الحاجم يشرط الجلد في موضع معين، ثم يضع عليه قارورة لها أنبوبة صغيرة، ثم يجذب الهواء حتى يفرغ القارورة، ثم يسد فم الماسورة الصغيرة فتبقى القارورة مفرغة من الهواء، وإذا بقيت مفرغة من الهواء لصقت بالمكان، ثم بدأ الدم يخرج، فإذا امتلأت القارورة انتهى التفريغ وسقطت وهي مملوءة من الدم.

والحجامة توع من أنواع الدواء كما ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام-: "إن كان الشفاء في شيء ففي ثلاث" وذكر منها "شرطة محجم". يعني: الحجامة، والحجامة لا شك أنها تخفف البدن، وأن من اعتادها فإنه لا يمكن أن يخف بدنه إلا باستعمالها، وأما من لم يستعملها أصلا فإنه لا يتأثر بعدمها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجم أحيانا في رأسه، وأحيانا على كاهله حسب ما تقتضيه الحاجة. وقوله: "احتجم وصلى ولم يتوضأ" يعني: لم يتوضأ للصلاة، وأتى المؤلف رحمه الله بهذا الحديث ليفيد أن إخراج الدم من البدن لا ينقض الوضوء، ومعلوم أن الحجامة يخرج بها دم كثير، لكن هذا الدم وإن كان كثيرا لا ينقض الوضوء، دليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ. في هذا الحديث فوائد منها: استعمال الحجامة، وهل هو جائز أو مستحب أو حرام؟ نقول: هاذ الحديث يدل على جوازه، فيبقى الأمر دائرا بين أن يكون مستحبا أو أن يكون حائزا على وجه الإباحة؛ يعني: مستوى الطرفين، فنقول: إذا كان الإنسان يحتاج إليه كان مستحبا اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يحتج إليه نظرنا إن كان يضره إخراج الدم كان حراما، وإن كان لا يضره كان مباحا. ومن فوائد هذا الحديث: أن الحجامة لا تنقض الوضوء لقوله: "احتجم وصلى ولم يتوضأ"، وهل يقاس عليها ما يخرج من الجروح من الصديد والماء وما أشبه ذلك؟ الجواب: نعم، يقاس عليها وأولى؛ لأن كثيرا من العلماء يقولون: عن دم الآدمي نجس، وإن الصيد الذي يخرج من جروحه ليس بنجس؛ لأنه استحال إلى صديد، وعلى هذا نقول: يلحق بها ما يخرج من الجروح من الصديد والمياه التي تخرج بسبب الاحتراق وما أشبه ذلك. وهنا سؤال: هل نحتاج على ذكر أن الحجامة لا تنقض الوضوء؟ لا نحتاج؛ لأن الأصل بقاء الطهارة، والذي يقول: إنها تنقض الوضوء هو المطالب بالدليل، ولكن إذا جاء الدليل مؤيدا الأصل كلن هذا نورا على نور. فيستفاد من هذا الحديث: أن خروج الدم وإن كان كثيرا لا ينقض الوضوء، وهذا القول هو الراجح، وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا كان كثيرا نقض الوضوء، وإن كان قليلا لم ينقض وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة - رحمهم الله-، ولكن هذا القول مرجوح، والصواب: أن

حكم الوضوء من النوم

جميع ما يخرج من البدن لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من السبيلين أو ما كان قائما مقامه مثل أن يعالج الرجل بعملية يجعل في مثانته أنبوب يخرج منه البول، فهنا نقول: البول الخارج من المثانة عن طريق هذا الأنبوب يكون ناقضا للوضوء، وأما ما خرج - يعني: من غير البول، والغائط- فإنه لا ينقض الوضوء ولو كثر. حكم الوضوء من النوم: 74 - وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء". رواه أحمد، والطبراني وزاد: "ومن نام فليتوضأ". - وهذه الزيادة في هذا الحديث عند أبي داود من حديث علي دون قوله: "استطلق الوكاء". وفي كلا الإسنادين ضعيف. أولا: من الناحية الفنية كان الأجدر بالمؤلف أن يضع هذا الحديث عند الحديث الأول "وكان الصحابة ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم"، لكن لعله رحمه الله لم يعثر على هذا الحديث إلا بعد أن كتب الباب فألحقه وإلا فلا يخفى على أي إنسان أن سوق الأحاديث في موضوع واحد أولى من تفريقها. قال: "العين وكاء السه" "العين": هي الباصرة المعروفة، و "السه" - بكسر الهاء--: الدبر، و"الوكاء": ما يربط به الكيس أو نحوه لئلا يتدفق ما فيه، "فإذا نامت العينان" ولم يقل: إذا نامت العين؛ لأن العين في الأول المراد بها: الجنس فتشمل الواحد والمتعدد، "فإذا نامت العينان استطلق الوكاء" يعني: انطلق ولم يشعر به الإنسان. في هذا الحديث: إشارة إلى أن النوم الناقض للوضوء إنما هو ما يستطلق به الوكاء وهو النوم العميق الذي يسترخي به الدبر، وتخرج الريح من غير أن يشعر به الإنسان. وفيه من الفوائد: أن الريح ناقض للوضوء، وقد جاء ذلك صريحا في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". ومن فوائد هذا الحديث: أن النوم لا ينقض الوضوء إذا لم يستطلق الوكاء سواء كان من قاعد أو ساجد، أو راكع، أو مضطجع؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. 75 - ولأبي داود أيضا، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: "إنما الوضوء على من نام مضطجعا". وفي إسناده ضعف أيضا.

التحذير من الوسواس في الوضوء

يعني: لا وضوء على من نام قاعدا، أو قائما، أو راكعا، إنما على من نام مضطجعا، يعني: على جنبه، أو ظهره، أو بطنه؛ وذلك لأن النائم على وجه الاضطجاع أقرب إلى أن يكون نومه عميقا يحدث ولا يشعر بنفسه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم - إن صح الحديث- ذكر هيئة يكون بها الحديث أقرب، والقاعدة كما مر علينا أنه إذا نام نوما لم أحدث لم يحس بنفسه فعليه الوضوء وإلا فلا وضوء عليه. التحذير من الوسواس في الوضوء: 76 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي أحدكم الشيطان في صلاته، فينفخ في مقعدته فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". أخرجه البزار. وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد. في هذا الحديث: أن الشيطان قد يسلط على بني آدم في الصلاة ليفسد صلاته عليه؛ لقوله: "ينفخ في مقعدته فيخيل إليه أنه أحدث". ومن فوائده: إثبات الشيطان لقوله: "يأتي أحدكم الشيطان". ومن فوائده: بيان شدة عداوة الشيطان لبني آدم؛ حيث يريد أن يفسد عليه عبادته. ومن فوائد هذا الحديث: التحذير من الوساوس لقوله: "فيخيل إليه أنه أحدث"، وطرد هذه التخيلات أن يستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأنه إذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم فإن الله - سبحانه وتعالى- يعيذه إذا كان ذلك بصدق وإخلاص. ومن فوائد هذا الحديث: أن اليقين لا يزول بالشك؛ لقوله: "فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". ومن فوائد هذا الحديث: أن النصوص قد تأتي مقيدة للشيء بناء على الغالب؛ لقوله: "حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"؛ لأنه من المعلوم لو كان الرجل أصم لا يسمع أو كان لا يشم فإنه لن يجد ريحا ولن يسمع صوتا، فهل نقول: إن هذا الرجل لو خرج منه الريح يقينا فوضوؤه باق؟ لا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم رتب على هذا في الغالب، وقد ذكر الأصوليون أن القيد الأغلبي ليس له مفهوم.

77 - ولمسلم: عن أبي هريرة رضي الله عن نحوه. 78 - وللحاكم: عن أبي سعيد مرفوعا: "إذا جاء أحدكم الشيطان، فقال: إنك أحدثت، فليقل: كذبت". وأخرجه ابن حبان بلفظ: "فليقل في نفسه". "إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت" هل هو قول يسمع أو وساوس وتخيلات؟ الثاني، وقوله: "فليقل كذبت" يعني: يتكلم لكن في نفسه، لا بلسانه كذبت؛ وذلك من أجل أن يمضي في صلاته. ففي الحديث من الفوائد ما سبق، وفيه أيضا: أن الإنسان ينبغي أن يلاقي عدوه بحزم وقوة؛ لأن "كذبت" فيها شيء من العنف، والشيطان جدير بأن يعنف معه، ويقال له: "كذبت"؛ لأنه كذوب كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام- في حديث أبي هريرة: "صدقك وهو كذوب". مسائل وفوائد: الصحيح: أن الحائض تقرأ القرآن؛ لأنه ليس يوجد سنة صحيحة صريحة في منعها، لكن نظرا إلى أن الخلاف فيها قوي لا ينبغي أن تقرا إلا لحاجة إما لكونها معلمة، أو طالبة، أو تخشى النسيان، أو تردده على أبنائها وما أشبه ذلك. - أشرطة القرآن لا تأخذ حكم المصحف؛ لأنه لم يكتب فيها. - أيجوز أن يقرأ القرآن على الجنب كمريض مجنب يريد أن يقرأ عليه القرآن؟ فلا بأس. أسئلة: - ما معنى نواقض الوضوء؟ - هل الفقهاء - رحمهم الله- يعتبرون النواقض مفسدات مبطلات وما أشبه ذلك؟ - إذا شك الإنسان بعد أن علم أنه محدث هل يتوضأ أو لا؟ - النوم ناقض للوضوء هل بمجرده؟ - ما هو الضابط من النوم الناقض للوضوء؟ - رجل أرعف أنفه أينتفض وضوؤه أو لا؟ - رجل أكل من كبد بعير والثاني من كبد شاة أيهما الذي يتوضأ؟ -

7 - باب آداب قضاء الحاجة

هل الأمر بالوضوء من لحم الإبل على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب، وما الدليل؟ - المؤلف رحمه الله ذكر في نواقض الوضوء أحاديث ضعيفة، فكيف يذكرها مع أنه لا يحتج بها؟ - في حديث عمرو بن حزم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" ما المراد بالطاهر؟ - ما هو الدليل على أنه نجاسة المشرك نجاسة معنوية؟ - ما هو حل المشكلة في مس الصغار للقرآن؟ - هل حديث عائشة: "كل أحيانه" يدل على قراءة الجنب للقرآن؟ 7 - باب آداب قضاء الحاجة من حكمة الله عز وجل أنه جعل لذكره أسبابا حتى يستيقظ الإنسان وينتبه لذكر الله، لأن الإنسان قد تستولي عليه الغفلة وينسى ذكر الله، فيجعل الله تعالى لذكره أسبابا كثيرة: دخول المنزل فيه ذكر، الخروج من المنزل فيه ذكر، لبس الثوب الجديد فيه ذكر، الأكل فيه ذكر، التخلي من الأكل فيه ذكر؛ حتى يكون الإنسان دائما على صلة بالله عز وجل يذكر الله - تبارك وتعالى-، وهذا في الحقيقة إنما يحصل لمن يذكر الله بقلبه ولسانه وجوارحه، فأما الذي يذكر الله باللسان والجوارح دون القلب، فإن هذه الفائدة العظيمة تفوته، أسأل الله أن يوقظنا وإياكم من الغفلة؛ لذلك نجد أن الشارع شرع لنا عبادات حتى عند التخلي من الأكل والشرب فضلا عن الأكل والشرب؛ لأن التخلي عن الأكل والشرب نعمة عظيمة لا يدرك نعمة الله علينا بها إلا من فقدها، لو احتبس بول الإنسان لكان يفدي ذلك بالدنيا كلها، أو احتبس غائطه، أو احتبست الريح لتعب تعبا عظيما، ولسلك كل واد ليصل إلى طبيب لينقذه من ذلك، فنعمة الله علينا بالتخلي من الأكل والشرب لا شك أنها عمة عظيمة، له علينا أن نشكره - تبارك وتعالى- عليها، ثم هذا التخلي هو عن طعام وشراب، طعام وشراب من أين جاء؟ من الله عز وجل {أفرءيتم ما تحرثون ءأنتم تزرعونه أم نخن الزرعون} [الواقعة: 63، 64] , الجواب: أنت يا بنا الذي زرعت هذا، ولولا أن الله تعالى زرعه ما نما، قال تعالى: {لو نشاء لجعلنه حطما} [الواقعة: 65]. ولم يقل: لو نشاء لم نخرجه؛ لأنه إذا نما وكمل ولم يبق إلا حصاده ودياسه ثم صار حطاما صار أشد حرمانا وأشد حسرة، وتأمل الآيات لم يقل: لو نشاء لم ننبته أو لم نزرعه، قال: {لو نشاء لجعلنه حطما}، يعني: بعد أن يخرج وينمو ويشاهده الإنسان وتتعلق نفسه به يجعله الله حطاما وصدق الله العظيم لو شاء لجعله حطاما، وكم من زروع صارت حطاما بعد أن استكملت ونمت يرسل الله عليها رياحا وبردا من السماء فيتلفها. الشراب أيضا {أفرءيتم الماء الذي تشربون ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} [الواقعة: 68، 69].

تجنب دخول الخلاء بشيء فيه ذكر لله

الجواب: قال الله عز وجل {لو نشاء جعلنه أجاجا} [الواقعة: 70]. وإذا جعله الله أجاجا لا يمكن أن نشربه مع أنه بين أيدينا، ولم يقل: لو نشاء لم ننزله؛ لأن كون الماء بين أيدينا ولا نستطيع شربه أشد حسرة مما لم نجده. فالحاصل: أن نعم الله عليك بالتخلي من الطعام والشراب لابد أن تذكر نعمة الله عليك بتحصيل الطعام والشراب، كم من أناس لم يحصلوا عليه إما قدرا وإما شرعا، حرم على بني إسرائيل طيبات أحلت لهم فمنعوا من ذلك شرعا مع أنها طيبة، ويمرض الإنسان ويقال: لا تأكل اللحم الفلاني، أو الطعام الفلاني فيحرم منها قدرا، فهذه من نعمة الله أن الله يسر الطعام والشراب وأحله لك، ومكنك منه هذه نعم، ولو أردنا أن نعد نعم الله علينا - سبحانه وتعالى- في هذا لبلغ المئات، حتى قيل: إنه لا يمكن أن يوضع الطعام بين يديك إلا والله تعالى فيه أكثر من ثلاثمائة نعمة، ولكننا في غفلة عن هذا، لذلك احتاج العلماء - رحمهم الله- إلى أن يذكروا آداب قضاء الحاجة، ومعنى قضاء الحاجة يعني: "التخلي عن الأكل والشرب"، لكن من الأدب في الألفاظ أن يكني الإنسان عن الشيء الذي يستحيا من ذكره بما يدل عليه، وهو إذا كنى بما يدل عليه صار حقيقة فيه، وإلا لو رجعنا إلى جانب قضاء الحاجة ماذا تشمل؟ تشمل الذي يذهب يشتري له طعاما أو يشتري شيئا لأهله، لكن لما اصطلح على هذا التعبير صار حقيقة في البول والغائط، إذن قضاء الحاجة مرادفة لأي شيء؟ للتخلي من الطعام، وهو البول والغائط، له آداب قولية ول آداب فعلية عند الدخول وعند الخروج وعند الجلوس، قال المؤلف: تجنب دخول الخلاء بشيء فيه ذكر لله: 79 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه". أخرجه الأربعة، وهو معلول. "كان إذا دخل الخلاء" أي: إذا أراد دخوله "وضع خاتمه" أي: أخرجه من أصبعه ووضعه قبل أن يدخل به الخلاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم إما باليسرى، وإما باليمنى، وذكر بعضهم أن تختمه باليسرى أكثر من تختمه باليمنى، وإنما كان يتختم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قيل له: إن الملوك لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختوما. فاتخذ خاتما ونقش على فصه "محمد رسول الله" أسفل و "رسول"

في الوسط، و"لفظ الجلالة" فوق، حتى إذا انتهى من الكتاب ختمه بهذا الخاتم، وإنما اختار - عليه الصلاة والسلام- أن يكون خاتمه خاتما بيده؛ لأنه أحوط له من الضياع وآمن من التلاعب، خصوصا وأنه فيما سبق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر لباسهم إزار ورداء ليس هناك جيوب يضعون فيها الأشياء، فإذا قدر أنه جعله في ردائه وصر عليه ربما يتلاعب به. ففي هذا الحديث من الفوائد: أولا: جواز لبس الخاتم، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبسه ولم ينه عنه. فإن قال قائل: إذن لماذا لا تقولون: إن لبس الخاتم سنة؟ نقول: لا نقول هذا؛ لأنه لا يظهر في لبسه أدب التعبد، وإنما اتخذه النبي - عليه الصلاة والسلام- لحاجة وهي الختم الرسمي كما يقولون، وعليه فنقول: إذا كان الإنسان ذا قضاء، أو حكم، أو إمرة، أو وزارة أو ما أشبه ذلك سن له أن يتخذ الخاتم اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكما عرفتم العلة في ذلك، وأما عامة الناس فإنه يجوز لهم اتخاذه، أما النساء فهو من زينتهن؛ ولهذا أبيح لهن التختم بالذهب، والعقيق، والفضة، وأما الرجال فلا يجوز لهم التختم بالذهب، ويجوز لهم التختم بالفضة. ولكن لو قال قائل: إذا كنا في عصر لا يلبس فيه الخاتم إلا من كان مغمورا في الناس ومخالفا للمروءة؟ فنقول: إذا كنا في عهد هكذا فالأولى عدم لبسه؛ لأنه لا ينبغي للإنسان أن يعرض نفسه للغيبة، أو يعرض نفسه لما يكرهه الناس منه، أو ما أشبه ذلك، الإنسان يجب أن يحمي نفسه عن الأذى والضرر، حتى إن الرسول - عليه الصلاة والسلام- نهى أن يهين الرجل نفسه فيتكلم بما لا يطيق. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا ينبغي الدخول للخلاء بشيء فيه ذكر الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد دخول الخلاء وضع خاتمه. فإن قال قائل: إذا كان الإنسان يخشى عليه لو دخل المرحاض ووضعه أن يسرق كما في المجامع، في المساجد، وفي الحرمين وفي غيرها؟

- دعاء دخول الخلاء

فالجواب: أن الأمر ليس على سبيل التحريم حتى نقول إن هذا يؤدي إلى حرج الأمر على سبيل الاستحباب، وإنما قلنا: على سبيل الاستحباب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به ولكن فعله، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد يدل على الاستحباب لا على الوجوب، فالحمد لله يخلعه من أصبعه ويجعله في جيبه إن كان له جيب، وإن لم يكن له جيب كما لو كان محرما بحج أو عمرة فليبقه على ما هو عليه ولا حرج. ومن فوائد هذا الحديث: تعظيم ما فيه ذكر الله إلى حد أنه لا يدخل به الخلاء، ومن باب أولى ألا يرمى في الطرقات أو في الأماكن القذرة؛ لأن اسم الله تعالى أعظم الأسماء ولاسيما لفظ الجلالة الذي لا يسمى به غيره، وكذلك الرحمن، ورب العالمين، والملك القهار، مما لا يسمى به غير الله فإنه لا يمتهن. فإن قال قائل: ما تقولون في دخول المتخلي بالمصحف؟ فالجواب: أن العلماء - رحمهم الله- صرحوا بأن دخول المخلي بالمصحف محرم؛ لأن عظمة المصحف أعظم من مجرد عظمة الذكر، يعني: أعظم من عظمة الذكر المجرد، فلا يجوز أن يدخل محل قضاء الحجة بالمصحف. فإن قيل: لو خاف إذا وضعه أن يسرق؟ قلنا: هذه حاجة فله أن يدخل وهو معه للحاجة. أسئلة: - ما المراد بآداب قضاء الحاجة؟ - وما المراد بقضاء الحاجة؟ - لماذا كنوا عن هذا بقضاء الحاجة؟ - لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه؟ - هل هذا الحديث يدل على تحريم دخول ما فيه ذكر الله؟ - هل يدل على كراهة الدخول بما فيه ذكر الله؟ - هل عدم فعل المستحب يكون مكروها؟ - دعاء دخول الخلاء: 80 - وعنه رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". أخرجه السبعة.

قوله رضي الله عنه: "إذا دخل الخلاء" أي: أراد دخوله، والتعبير بالفعل عن النية الجازمة التي يكون الفعل منها قريبا شائع في اللغة العربية، قال الله تعالى: {فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله} [النحل: 98]. أي: إذا أردت أن تقرأ بإرادة جازمة قريبة من الفعل فإنه يطلق الفعل على ذلك فيقول: "إذا دخل الخلاء" أي: إذا أراد الدخول عند دخوله، و"الخلاء" اسم للمكان الذي يتخلى فيه الإنسان، أي: يقضي حاجته، وسمي بذلك؛ لأن الإنسان يخلو به عن الناس ويستتر به عن الناس، قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" "اللهم" يقول النحويون إن أصلها: يا الله؛ ولهذا بنيت على الضم "الله"، وأن الميم عوض عن الياء المحذوفة، واختير أن تتأخر تيمنا بالبداءة بذكر اسم الله واختيرت الميم؛ لأنها أدل على الجمع من غيرها، فكأن الإنسان جمع قلبه على ربه عز وجل فسأله، هذا من حيث تصريف هذه الكلمة، أما معناها فمعناها: يالله، إني أعوذ بك، "أعوذ" أي: أعتصم بك، ويقال: عاذ بالشيء، ولاذ بالشيء، والفرق بينهما: أن العوذ مما يذكره، واللياذ مما يجب، فتقول: لذت بفلان ليقضي حاجتي، وتقول: عذت بفلان من شر فلان مثلا وفلان المستعاذ به حي يستطيع أن يدافع عنك، فصار الفرق بين اللياذ والعياذ: العياذ مما يكره، واللياذ فيما يحب، وعلى هذا قال الشاعر: [البسيط] يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره "أعوذ بك من الخبث والخبائث" هذا المستعاذ منه وفيها وجهان: الوجه الأول: الخبث. والوجه الثاني: الخبث، أما: الخبائث" فهي وجه واحد، فعلى وجه التسكين يكون المراد بالخبث: الشر، والخبائث: النفوس الشريرة، وعلى وجه الضم الخبث تكون جمع خبيث، ويكون المراد بالخبث: ذكران الشياطين، وبالخبائث: إناث الشياطين، وإذا قارنا بين الوجهين وجدنا أن الوجه الأول أعم وأشمل، وأن الوجه الثاني أخص بالمكان؛ وذلك لأن الخلاء موضع أو مكان الشياطين، فالمساجد بيوت الله عز وجل ومثوى الملائكة، وأما الخلاء فإنه مأوى الشياطين إذن أيهما؟ أقول: ما دام كل واحد منهما يترجح من وجه فماذا أقول؟ أختار أن نأخذ بالأعم "من الخبث والخبائث"، فإذا أردت أن تدخل الخلاء فقل: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث"، والمناسبة ظاهرة جدا؛ لأن الخلاء مأوى الشياطين وأهل الشر.

ففي هذا الحديث دليل على فوائد: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى الله لا يملك لنفسه أن يدفع عنها، وجه ذلك: أنه استعاذ به؛ أي: بالله عز وجل. ومن فوائد هذا الحديث استحباب هذا الذكر عند دخول الخلاء اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم. فإذا قال قائل: وإذا كنت في البر فمتى أقوله؟ نقول: تقوله عند آخر خطوة تجلس عندها إذا أردت الجلوس "اللم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". ومن فوائد هذا الحديث: إثبات علم الله عز وجل؛ لأنه لا يستعاذ بمن لا علم عنده. ومن فوائده: إثبات قدرة الله وسلطانه - تبارك وتعالى-، وأن قدرة الله وسلطانه فوق كل قدر وسلطان. ومن فوائد هذا الحديث - لاسيما على وجه ضم الباء-: حكمة الله عز وجل؛ حيث كانت الأماكن الخبيثة مأوى للنفوس الخبيثة الشريرة، وهذا من الحكمة المساجد طيبة أحب البقاع إلى الله مأوى من؟ الملائكة الكرام، لكن هذه مأوى الشياطين، أعني: بيوت الخلاء، ففي هذا من الحكمة ما هو ظاهر، ويصدق هذا قول الله - تبارك وتعالى-: {الخبيثت للخبيثين والخبليثون للخبيثت} [النور: 26]. وهذا وإن كان في البشر لكن المعنى عام، وانظر الآن إلى الكفار كيف يألفون أخبث الحيوانات وأقذرها وأنجسها وهي الكلاب، الكلاب عندهم تستهلك نصف ما يستهلكون في تنظيف أجسادهم أوانيهم يقولون لي: إنهم كانوا ينظفونها بالصابون وبغير الصابون من المنظفات كل صباح، وهل إذا نظفوها ترتفع نجاستها؟ لا؛ لأن النجاسة عينية، والنجاسة العينية لو طهرت بمياه البحر لم تطهر، لكن سبحان الله الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات. مسألة: لو نسي الإنسان أن يقول هذا الذكر ودخل - هذه مسألة ليس لها علاقة بالحديث- لو نسي فدخل فهل نقول: قل هذا الذكر وأنت في المرحاض، أو اخرج ثم قله ثم ادخل؟ ونظير ذلك لو انه قدم الرجل اليمنى عند دخول الخلاء والمستحب ا، يقدم اليسرى فهل نقول: امض أو نقول اخرج ثم قدم اليسرى؟ فيه احتمال، لكن قد يرجح الإنسان ألا يقول ذلك، أن لا يقول هذا الذكر؛ لأنه سنة فات محلها، وألا يخرج ويدخل، وقد يقال: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام- قال فيمن نسي الصلاة "فليصلها إذا ذكرها". فهذا نسي أن يقدم اليسرى عند الدخول فليصحح، نسي أن يقول دعاء الذكر عند الدخول فليصحح، فالأمر واسع إن شاء فعل هذا أو تركه.

الاستنجاء بالماء

الاستنجاء بالماء: 81 - وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء". متفق عليه. قوله: "كان رسول الله يدخل الخلاء". "كان يدخل"، يقول العلماء: إن "كان" إذا كان خبرها مضارعا فإنها تدل على الدوام غالبا لا دائما، ودليل هذا أن السنة وردت بأن الرسول كان يفعل كذا، وكان يفعل كذا، وهما شيئان مختلفان فدل ذلك على أنها ليست للدوام دائما بل غالبا، وقد يسلب عنها معنى الظرفية وتكون دالة على الالتصاق، أي: التصاق اسمها بخبرها، ومن ذلك قوله تعالى في آيات كثيرة: {وكان الله غفورا رحيما} [النساء: 96]. فهنا "كان" ليست للدوام غالبا ولا دائما؛ لأنه سلب منها معنى الظرف، وصار المراد: اتصاف الله تعالى بالمغفرة والرحمة دائما، وقول عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم: "كان يقول في كل ركعتين التحية". هل هو دائما؟ نعم دائم، ولا يقال: إنه يرد على هذا أن الوتر ركعة يقول فيه التحية لأنه تقول: "كان يقول في كل ركعتين التحية"، ولم تقل: "في كل صلاة"؛ فخرج الوتر بقيد قولها: "في كل ركعتين". قوله: "كان يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة" الغلام يطلق على الصغير، وقد يطلق على من بلغ لكنه لا زال صغيرا، وقد يطلق على المستخدم وإن كان كبيرا، ويطلق على المملوك وإن كان كبيرا، فقوله: "وغلام نحوي" هل المراد نحوي في السن أو نحوي في كونه يخدم الرسول - عليه الصلاة والسلام-؟ إذا قلنا: إنه ابن مسعود تعين أن يكون المراد بقوله: "نحوي: أي: في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون إطلاق الغلام هنا على من كان بالغا من باب التوسط في الكلام، أما إذا كان غيره آخر صغير لم يذكره أنس، فلا إشكال. وقوله: "إداوة من ماء" معناه: إداوة فيها ماء، و"الإداوة" جلد صغير يوضع فيه الماء، ويكون حمله سهلا ويسيرا ويشبهه ما كان من القطن ويسمى عندنا المطارة؛ فلا أدري هل هذا عندكم، على كل حال: هي إناء صغير يعلق في الكتف ويحمله المسافر على كتفيه؛ لأنه خفيف المحمل، فالإداوة عبارة عن إناء صغير من جلد أو غيره يحمله المسافر على كتفه؛ لأن حمله سهل. وقوله: "إداوة من ماء" لو قال قائل: كيف قال من ماء، والإداوة تكون من الجلد؟ قلنا: من ماء، أي: فيها ماء، و"عنزة" العنزة يقول في الحاشية: عصا طويلة أسفلها سن كالرمح، وقيل: إنها الرمح القصير، هذه العنزة كان النبي - عليه الصلاة والسلام- يستعملها في

السفر عند قضاء الحاجة ليضع عليها الثوب حتى يستتر به، ويستعملها أيضا عند الصلاة يجعلها سترة له. في هذا الحديث فوائد: منها: استخدام الأحرار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلمن استخدم أنس بن مالك وهو حر. ومنها: منقبة أنس بن مالك رضي الله عنه وذلك لخدمته النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذه منقبة وفضيلة لأنس رضي الله عنه، ومن الذي يحصل له أن يخدم الرسول - عليه الصلاة والسلام-. ومنها: جواز مساعدة الإنسان في طهارته سواء كان ذلك في الطهارة من الخبث كما في هذا الحديث، أو في الطهارة من الحدث كما في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حينما كان يصب الماء على النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به. ومنها: جواز التعاون في خدمة الشرفاء لقوله: "أحمل أنا وغلام نحوي إدازة من ماء وعنزة"، وهنا نقول: هل التعاون هنا في هذا الحديث أن أحد الرجلين معه الإداوة، والثاني معه العنزة، أو أنهما يتعاقبانهما يأخذهما واحد مرة، والثاني مرة أخرى؟ الظاهر أن الأول أقرب، فيكون قوله: "إداوة من ماء وعنزة" موزعا على الرجلين، وليس المعنى: أن كل رجل يحملهما جميعا. ومنها: الاستعداد لما ينبغي أن يفعل لقوله: "وعنزة". ومنها: تأكد السترة في الصلاة وعند التخلي. ومنها: جواز الاستنجاء بالماء دون الحجارة؛ لأن أنسا رضي الله عنه لم يذكر أنه كان يحمل أحجارا معه، وإنما ذكر أنه كان يحمل الماء، والماء إنما كان ليستنجي به النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فيدل الحديث على جواز الاقتصار على الماء في الاستنجاء، وإن كانت الدلالة فيها شيء من الضعف، لكن هذا هو الظاهر أنهم حملوا هذا ليستنجي به. ومن السلف من كره الاقتصار على الماء، ووجه كراهته، أن الإنسان إذا استنجى بالماء لزم منه ان يباشر بيده النجاسة، قالوا: ولا ينبغي للإنسان أن يباشر النجاسة؛ لأنها تعلق به، وعلى الأقل يعلق به ريحها، فلا ينبغي أن يفعل؛ لكن الصحيح وأظنه انعقد الإجماع بذلك على الجواز، وهذا هو الصحيح أنه يجوز أن يقتصر الإنسان على الاستنجاء بالماء ويجاب عن ملامسة النجاسة بأن هذه الملامسة لإزالتها وليست لاستبقائها، فهو يماسها من أجل غزالتها، كما نقول في المحرم: إذا سقط عليه طيب وأراد أن يغسله فله أن يمس ذلك بيده؛ لأن مسه بيده من أجل إزالته لا من أجل استبقائه، فلا نلزمه أن يأتي بعود أو نحوه يغسل به الطيب، بل

نقول: له أن يغسل بيده ولا حرج؛ لأن هذا من أجل إزالته، ونظير ذلك لو أن شخصا غصب أرضا ولما توسط منها ندم وتاب، فماذا نقول: تبقى واقفا في مكانك أم له أن يستعمل الأرض في المشي عليها؟ الثاني، ومشيه هنا ليس عليه فيه إثم، وإن كان هو مستوليا عليها بهذا المشي؛ لأن هذا المشي إنما هو للتخلص منها؛ فالصواب: جواز الاقتصار على الاستنجاء بالماء في تطهير الخارج من السبيلين. استدراك: حكم لبس الخاتم: بعض العلماء كرهه إلا لحاجة؛ لأنه ورد حديث ضعيف، لكن بعض العلماء قواه وهو أن الرسول نهى عن التختم إلا لذي سلطان. إلا أن العلماء قالوا: إن هذا حديث ضعيف، والصواب أنه مباح وليس بسنة، وصرح بعض العلماء بكراهة لبسه لمن أراد الزينة، يعني: من الرجال ولو كان مباحا، والصحيح: أنه إذا أبحناه فسواء لبسه الإنسان للزينة أو لبسه لمجرد أنه يهوى هذا الشيء لكنهم قالوا: يكره للرجل أن يجعله في السبابة والوسطى، والأفضل في الخنصر والبنصر والإبهام وليس فيه كراهة وليس فيه استحباب، ولكن الخروج عن العادة قد يلحقه بالشهرة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس الشهرة. أسئلة: - الخبث فيها روايتان ما هما؟ - معناها على لغة السكون؟ معناها على لغة الضم؟ - ما مناسبة الدعاء بهذا عند دخول الخلاء؟ - متى يعبر بالفعل عن إرادته؟ أن تكون الإرادة قريبة وأيضا جازمة من أجل أن يتحقق الفعل. - قول أنس: "كان النبي يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام" من المراد بالغلام؟ - لماذا يحمل الإداوة والعنزة؟ - هل يؤخذ من الحديث هذا جواز الاقتصار على الماء في تطهير المحل؟ - كره بعض العلماء السابقين أن يقتصر على الماء، فما تعليله وما الرد عليه؟ - ما تقول في محرم أصابه فجعل يغسله بيده أعليه فدية أو لا؟ - هل مثل ذلك إذا كان على رأس المحرم طيب وأراد أن يتوضأ، هل نقول: يجب أن تأتي بشيء لا تباشر فيه الرأس؟ تقول عائشة: "كنت أنظر إلى النبي وعليه وبيص المسك على رأسه".

82 - وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ الإداوة، فانطلق حتى توارى عني، فقضى حاجته". متفق عليه. المغيرة بن شعبة رضي الله عنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكان مصاحبا له، وكان يخدمه في وضوئه واستنجائه فقال له: "خذ الإداوة" ما هي الإداوة؟ الإداوة هي: إناء من جلد صغير يكون فيه الماء، ويشبهه عندنا ما يسمى بالمطارة، وقوله: "خذ الإداوة" من المعلوم أنه إنما أمره ليأخذها من اجل أن يستنجي بالماء ويتوضأ به، "فانطلق حتى توارى عني" توارى؛ بمعنى: اختفى عنه، "فقضى حاجته" يعني: ببول أو غائط، وإنما فعل ذلك - عليه الصلاة والسلام- لا من اجل ستر لعورة؛ لأن ستر العورة واجب ويحصل بأدنى من ذلك، ولكن من أجل أن يبتعد عن رؤيا الناس له على هذه الحال؛ لأن الرجل الحيي الذي فيه الحياء لا يحب أن يراه الناس وهو يقضي حاجته بل يحب أن يبعد حتى لا يروه، وهذا غير نظر العورة؛ لأن نظر العورة أشد من هذا ويأتي الكلام عليه. في هذا الحديث فوائد منها: جواز استخدام الأحرار، دليله: أن الرسول استخدم المغيرة بن شعبة. ومن فوائده: أن أمر الخادم بالشيء لا يعد سؤالا مذموما، فقول الرسول للمغيرة: "خذ هذا" أمر ليس سؤالا؛ لأن الخادم يرى نفسه في منزلة دون منزلة المخدوم، فإذا وجه إليه أمر فليس سؤالا، ولكنه أمر. ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة المغيرة ومنقبته في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذه منقبة ومزية أن يكون الإنسان خادما للرسول - عليه الصلاة والسلام- لما في ذلك من الشرف العظيم، ومن العلم الذي يكتسبه من خدمته للرسول - عليه الصلاة والسلام-. ومن فوائد الحديث: جواز الاقتصار على الماء في الاستنجاء؛ إذ لم يأمر المغيرة أن يحمل أحجارا. فإن قال قائل: ربما تكون الأحجار عنده فلا يحتاج أن يأمره. قلنا: نعم، هاذ محتمل، لكن إذا نظرنا إلى حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأتي بأحجار فأتى بحجرين وروثة، فألقى الروثة، وقال: "إنها رجس". فهذا يدل على أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- إذا أراد الاستجمار بالحجر طلب ممن يخدمه أن يأتيه بالحجر. ومن فوائد هذا لحديث: شدة حياء النبي صلى الله عليه وسلم، والحياء معروف ولا يمكن أن نحده بأوضح من لفظه، فإن الانفاعالات النفسية لا يمكن للإنسان أن يحدها ويعرفها. لو قال قائل: ما

الأماكن المنهي عن التخلي فيها

هي المحبة ماذا نقول؟ نقول: ميل الإنسان إلى الشيء، إذا قلت: ميل الإنسان إلى الشيء، فمعناه: أنك عرفت المحبة بأثرها؛ لأن الميل إلى الشيء نتيجة المحبة؛ ولهذا لما ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "روضة المحبين" تفسيرات للمحبة أظن أنها بلغت العشرين قال: "ولا يمكن أن تحد المحبة بأحسن من لفظها". المحبة المحبة، الكراهة الكراهة، الحزن الحزن، الحياء أيضا لا يمكن أن تحده بأوضح من لفظه، وأما قول من قال: انكسار يأخذ الإنسان عند فعل ما يخجل أو ما أشبه ذلك، فهذا إنما هو آثاره. إذن نقول: في هذا الحديث شدة استحياء النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى على صفة مكروهة، من أين تؤخذ؟ "فانطلق حتى توارى عني". ويؤخذ منه فائدة أيضا: أنه ينبغي للإنسان إذا كان في برية، وأراد قضاء الحاجة أن يبتعد حتى لا يرى، وما أبعد ما يمشي إذا كان في أرض مستوية. الأماكن المنهي عن التخلي فيها: 83 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا اللاعنين: الذي يتخلى في طريق الناس، أو ظلهم". رواه مسلم. قوله: "اتقوا" أي: احذروا؛ لأن التقوى معناها: اتخاذ الوقاية من محذور، فيكون معنى اتقوا: احذروا، وقوله: "اللاعنين" اسم فاعل، وهل هو على ما اشتق منه، أي: إنه اسم فاعل، أو إنه فاعل بمعنى مفعول؟ يحتمل هذا وهذا، فعلى الأول "اتقوا اللاعنين" أطلق عليه اسم اللاعن؛ لأنه يكون سببا في اللعن، وعلى الثاني يكون بمعنى مفعول؛ لأن اسم الفاعل يأتي بمعنى اسم المفعول كما في قوله: {فهو في عيشة راضية} [الحاقة: 21]. أي: مرضية، على كل حال حتى إذا قلنا: إنها بمعنى اسم مفعول؛ أي: الملعونين؛ فالمراد بالملعون هو الفاعل، ومعنى اللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللاعنين، فقال: "الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم". "يتخلى"؛ أي: يقضي حاجته ويفرغ ما في بطنه من الأذى، "في طريق الناس"؛ أي: ما يستطرقه الناس، "أو ظلهم" أي: ما يستظلون به، وذلك أن الناس في أيام الصيف يحتاجون إلى الظل فيستظلون عن الشمس بظل الجدران أو الأشجار أو غيرها؛ وذلك لأن الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم لا شك أنه يؤذيهم من عدة أوجه: أولا: من حيث الرائحة؛ لأن رائحة الخلاء خبيثة منتنة.

ثانيا: من حيث التقزر والتكره؛ لأن الإنسان إذا رأى الخلاء فإنه يتكره هذا الشيء ويتضرر منه ويتقزز، وربما يكون من بعض الناس الذين لا يقدرون على رؤية ما يكرهون حتى يتقيئوا. ثالثا: أنه يؤذيهم من حيث تلوثهم به، فإنهم إذا تلوثوا بهذا الخلاء ماذا يحدث؟ يحدث تنجس أرجلهم أو خفافهم أو ثيابهم أيضا. رابعا: فيه أذية من حيث حرمانهم من هذا المجلس الذي يأوون إليه يتحدثون، يذهبون عنهم السآمة والملل؛ فلهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم التخلي في هذا من أسباب اللعن، أي: أن الإنسان يلعن بسبب ذلك. ففي هذا الحديث فوائد: منها: تحريم التخلي في الطريق، وتحريم التخلي في الظل، ووجه التحريم ظاهر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله سببا للعن. ومن فوائد الحديث: أن المتسبب في الإثم كالمباشر؛ لأننا نعلم أن اللاعن ليس هو المتخلي. من اللاعن؟ الناس الذين يتأذون بهذا؛ ولهذا نقول: المتسبب في الإثم كالمباشر، أما في الضمان فإنه يختلف على تفصيل عند الفقهاء. ومن فوائد هذا الحديث: جواز لعن من فعل ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن هذا محذرا من أن تقع اللعنة على الفاعل، ولا يمكن أن تقع اللعنة على الفاعل إلا إذا كان اللاعن محقا، أما إذا كان غير محق فلا يمكن أن تقع اللعنة على الملعون، وعلى هذا فيجوز أن يلعن الإنسان فاعل ذلك، ولكن هل يلعنه على سبيل التعيين، يعني: لو فرض أن الإنسان شاهد هذا الإنسان الذي يتخلى في الطريق أو في الظل هل يلعنه بعينه؟ الذي نرى أنه من الورع ألا يلعنه بعينه، ولكن يقول: اللهم العن من فعل كذا؛ لأن من المعلوم أن لعن المعين حرام، حتى لو كان من أكفر عباد الله، حتى لو رأيت رجلا يسجد لصنم لا تقل: اللهم العنه، فهذا - أعني: التخلي في ظل الناس أو طريقهم- ليس أشد من عبادة الصنم. ومن فوائد هذا الحديث: حماية الشريعة الإسلامية لأمتها من الأذى؛ لأن الغرض من ذلك هو تحذير الناس من أذية المؤمنين، الرسول - عليه الصلاة والسلام- لم يأمرنا أن نتقي اللاعنين من أجل أن نعرف أنه ملعون، بل من أجل التحذير من أذية المؤمنين، وقد قال الله - تبارك وتعالى-: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنت بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتنا وإثما مبينا} [الأحزاب: 58]. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو كان الطريق واسعا، والناس يستطرقونه من وسطه أو من

أطرافه بحيث لا يتمكنون من الاستطراق في وسطه؛ فإنه لا بأس أن يتخلى الإنسان في هذا الجانب الذي لا يستطرقه الناس؛ لأنه قال: "طريق الناس"، ولم يقل: الطريق عامة، فعلى هذا لو كان الطريق واسعا واحتاج الإنسان أن يتغوط أو يتبول في هذا الطريق الذي لا تطرقه الأقدام فظاهر الحديث أنه لا بأس به، ولكن هاذ مشروط بألا يكشف عورته أمام الناس. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يحرم التخلي في الظل مطلقا، بل في الظل الذي يقصده الناس لقوله: "أو ظلهم"، أما مجرد الظل فلا يحرم. استثنى بعض العلماء - رحمهم الله- قال: ما لم يكونوا يقصدون الظل للجلوس فيه لغيبة الناس، يعني لو كان هؤلاء يجلسون في الظل يغتابون الناس أو يشربون الخمر أو يفعلون معصية يأوون إلى الظل لهذا الغرض؛ فإنه لا بأس أن يتخلى فيه؛ لأن ذلك سبب لبعدهم عنه، ولكن هذا الاستثناء فيه نظر؛ لأنهم إذا بعدوا عنه ذهبوا يلوثون ظلا آخر يعني: لن ينتهوا، ثم إنه لو حصل هذا التخلي في هذا الظل الذي يقصده هؤلاء ربما يقصده أناس يحتاجونه ولا يعملون فيه المعصية فهذا الاستثناء فيه نظر. والصواب: أنه إذا كان هذا الظل مأوى لمن يعمل فيه المعاصي أن يجلس الإنسان فيه حتى إذا جاء الذين يعتادونه للمعاصي ينكر عليهم، هذا هو الحل، أما أن يتغوط أو يبول في هذا المكان الذي حذر منه النبي - عليه الصلاة والسلام- ففيه نظر. هل يمكن أن نأخذ من هذا الحديث قاعدة عامة وهي تحريم أذية المسلمين بأي نوع من الأذى؟ نعم، نقول: إن هذا الحديث يدل على تحريم أذية المسلمين بأي نوع من الأذى سواء بالقول، أو الفعل، أو اللمس، أو أي شيء. 84 - وزاد أبو داود، عن معاذ رضي الله عنه: "والموارد". ولفظه: "اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل". "اتقوا الملاعن" نقول: في "اتقوا" كما قلنا في الأولى؛ أي: احذروا، و"الملاعن" مكان اللعن، يعني: الأمكنة التي تكون سببا للعن، وذلك مفسر في قوله: "البراز في الموارد"، والمراد ب"البراز" هنا: قضاء الحاجة، يفسره الحديث الذي قبله: "الذي يتخلى في طريق الناي أو ظلهم". "الموارد" جمع مورد، وهو ما يرده الناس للشرب، أو للاستسقاء من حوض أو غدير، أو ساقية، أو نهر أو ما أشبه ذلك، المهم أن الناس يردونه للاستسقاء والشرب، فإنه لا يحل للإنسان أن يتبرز فيه. "وقارعة الطريق" هناك "طريق الناس" وهنا قال: "قارعة الطريق" يعني: التي تقرعها الأقدام.

والثالث: "الظل" وهنا أطلق، ولكن ينبغي أن يحمل على ما سبق وهو ظل الناس ليس كل ظل، فزاد أبو داود موضعا ثالثا وهو: "الموارد"، قال: 85 - ولأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أو نقع ماء" وفيهما ضعف. "نقع ماء" يشبه الموارد إلا أنه أعم؛ لأن نقع الماء أعم من كونه موردا أو غير مورد؛ لأنه إن كان موردا ففيه جنايتان، وإن كان غير مورد ففيه جناية واحدة، وهو إفساد الماء؛ لأنه إذا خلى الإنسان في نقع ماء فلا شك أن يفسده، إما أن ينجسه إن كان قليلا وإما أن يفسده وإن لم يكن نجسا هذه أربعة. 86 - وأخرج الطبراني النهي عن قضاء الحاجة تحت الأشجار المثمرة. هذا خامس: "الأشجار المثمرة" أيضا ينهى عن قضاء الحاجة تحتها، لكن بشرط أن تكون الثمرة مقصودة سواء كانت تؤكل أو لا تؤكل، فإن كانت تؤكل ففي قضاء الحاجة تحتها إساءتان الإساءة الأولى إلى من قصدها، والإساءة الثانية إلى تلويث الطعام بالخبث، ومعلوم أن تلويث الطعام بالخبث حرام؛ ولهذا نهى عن الاستجمار بالعظم؛ لأنه زاد إخواننا من الجن، والمراد إذن: الأشجار المثمرة يجب أن نقيدها بالمقصود، أما أشجار مثمرة ثمرتها لا تقصد وتبقى بالأرض لا يأخذها الناس فلا بأس؛ لأنه ليس فيها أذية لأحدكم هذه خمسة، والسادس قال: - وضفة النهر الجاري. من حديث ابن عمر بسند ضعيف. - "ضفة النهر الجاري"، يعني: طرفه، وذكر الجاري على أنه وصف كاشف؛ لأن النهر لا يكون إلا جاريا، لكن لو فرضنا أن هذه الأحاديث لم تصح فلدينا القاعدة العامة التي أشرنا إليها أولا وهي: كل موضع يتأذى به المسلمون فإنه لا يجوز أن يتخلى فيه. - فإن كان هذا الطريق لغير المسلمين فهل يجوز للإنسان أن يتخلى فيه؟ الجواب: ى؛ لأن حديث رواية مسلم "يتخلى في طريق الناس" ولم يقيدها ب"المسلمين"؛ ولأن الدين الإسلامي ليس فيه عدوان وأذية، فما دام بيننا وبين هؤلاء الكفار عهد أو ذمة فإنه لا يحل لنا إيذاءهم، ثم قال المؤلف:

الكلام عند قضاء الحاجة

الكلام عند قضاء الحاجة: 87 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه ولا يتحدثا. فإن الله يمقت على ذلك". رواه أحمد. وصححه ابن السكن، وابن القطان، وهو معلول. "تغوط" أي: أراد الغائط، وأصل الغائط: المحل المنخفض من الأرض هذا الأصل، ثم نقل من هذا المسمى إلى قضاء الحاجة، ووجه الارتباط والعلاقة: أن الناس كانوا فيما سبق ليس عندهم كنف في بيوتهم، فإذا أرادوا البراز خرجوا إلى الأماكن المنخفضة يقضون حوائجهم. فعلى هذا نقول: "تغوط" بمعنى: أراد أن يتغوطا، أي: أرادا أن يقضيا حاجاتهما وسمى قضاء الحاجة بذلك لأنه ينتابه الناس فيما سبق وإلا فالأصل أن الغائط هو المكان المنخفض من الأرض، "فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه" يتوارى؛ أي: يستتر كل واحد عن صاحبه وجوبا أو استحبابا؟ وجوبا فيما إذا كان يؤدي إلى كشف العورة، استحبابا فيما إذا كان لا يؤدي إلى كشف العورة؛ بحيث يكون كل واحد منهما يستدبر الآخر. قال: "ولا يتحدثا" يعني: يحدث أحدهما صاحبه، "فإن الله يمقت على ذلك"، قوله: "يمقت" المقت أشد البغض، و"على ذلك" أي: على هذا الفعل؛ وهو أن يجلس الرجلان أحدهما إلى الآخر على قضاء الحاجة يتحدثان، ووجه النهي عن ذلك: إن كان مع كشف العورة فالأمر واضح؛ لأن هذه حال سيئة وهيئة مكروهة، وإن كان مع غير ستر العورة فلأنهما إذا صارا يتحدثان سوف يمكثان طويلا على هذه الحال؛ لأن التحدث غالبا يطول بين الناس وينسى الإنسان الحال التي هو عليها؛ فلهذا كان سببا لمقت الله - تبارك وتعالى-. في هذا الحديث فوائد: منها: أن الدين الإسلامي دين الأدب والخلق الرفيع؛ لأن هذه الحالة التي ذكرت في الحديث لا شك أنها مخالفة للأدب؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا أراد الرجلان أن يتغوطا فإن السنة أن يبتعد كل واحد منهما عن الآخر حتى لا يراه فضلا عن كونه يرى عورته.

ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن التحدث على قضاء الحاجة حتى وإن كان أحدهما لا يرى الآخر كما لو كانا في مرحاضين متجاورين بينهما جدار قصير، فصار كل واحد منهما يحدث الآخر. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات المقت لله؛ أي: إثبات وقوع المقت من الله، وهو أشد البغض وقد ثبتت هذه الصفة - أعني: البغض- بوصف المقت وبوصف البغض أيضا، فجاءت في السنة بلفظ البغض، وجاءت في القرآن بلفظ المقت، قال الله تعالى: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 2]. وأخبر الرسول - عليه الصلاة والسلام-: "إن الله يبغض من الرجال البذيء". وهذا يدل على ثبوت هذه الصفة لله عز وجل شديدة وخفيفة: خفيفة في البغض، وشديدة في المقت. - فما معنى البغض المضاف إلى الله عز وجل، أو المقت؟ نقول: أما أهل السنة والجماعة فيقولون: إنه حقيقة أن الله يبغض ويحب حقيقة؛ لأن هذا ما جاءت به النصوص وهذا أمر غيبي، والأمر الغيبي يجب على الإنسان أن يصدق به على ظاهره، وأما عند أهل التأويل والتعطيل فيقولون: لا، إن الله لا يبغض ولا يمقت، وإنما المراد بالبغض والمقت: العذاب والانتقام، ولا شك أن هذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ لأن الانتقام والعقوبة غير البغض ولكنها من لازم البغض، فإذا أبغض الله الإنسان عاقبه وليست هي البغض، وما المانع من أن تقول: إن الله يبغض الشيء، أو يمقت على الشيء على وجه الحقيقة؟ لا مانع، فإذا كان لا مانع وجب علينا أن نصدق به، وألا نحرف الكلم عن مواضعه، وهذا يقال في وصف العجب، والرضا والمحبة، والكراهة، السخط، يقال فيها كما نقول في البغض، يجب إثبات هذه الصفة لله عز وجل على وجه الحقيقة. ولكن هل يكون بغضه كبغض المخلوقين؟ لا، لماذا؟ لأن لدينا قاعدة عامة محكمة وهي قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. فجميع صفاته - تبارك وتعالى- ونعوته لا يمكن أن تماثل صفات المخلوقين ونعوتهم. ومن فوائد هذا الحديث: تحريم هذه الهيئة، وهي أن يجتمع اثنان يقضيان حاجتيهما ويتحدثان، بل لو شاء لقلنا: إنه من كبائر الذنوب؛ لأنه رتب عليه الوعيد، وإذا رتب عليه الوعيد فقد ذكر العلماء - رحمهم الله- أن كل ذنب ختم بوعيد فهو من كبائر الذنوب.

النهي عن مس الذكر باليمين في البول

النهي عن مس الذكر باليمين في البول: 88 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء". متفق عليه، واللفظ لمسلم. قوله: "لا يمسن أحدكم ذكره" فيه إشكال في الإعراب، وهو أن الفعل هنا مفتوح مع كونه يلي "لا" الناهية؟ لأنه اتصل بنون التوكيد، يرد على هذا قول الله - تبارك وتعالى-: {قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن} [التغابن: 7]. فالثاء آخر الفعل وهي مضمومة والهمزة آخر الفعل وهي مضمومة؛ لأن النون في الآية غير مباشرة، ما الذي حال بينهما وبين الهمزة والثاء؟ واو الجماعة المحذوفة، والمقدر كالموجود، إذن يبنى الفعل المضارع على الفتح إذا اتصلت به نون التوكيد المباشرة لفظا أو تقديرا؛ إذن هو مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد في محل جزم. وقوله: "لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه" أي: بيده اليمنى، وقوله: "وهو يبول" الجملة حال؛ يعني: في حال البول، "ولا يتمسح من الخلاء بيمينه" يعني: لا يتمسح من الخلاء الذي هو الغائط بيمينه، بل والبول أيضا؛ لأن الخلاء هو قضاء الحاجة أو مكان قضاء الحاجة، "ولا يتنفس في الإناء" يعني: عند الشرب لا يتنفس في الإناء؛ أي: إناء الشرب، وذلك لأنه إذا تنفس فيه فقد يخرج مع النفس شيء يسقط في الماء يقذره على غيره وربما يحدث له شرق إذا تنفس في الماء فيتأذى أو يتضرر، أو ربما يحصل منه - كما قال أحدهم- جراثيم تعلق في الماء فيكون في ذلك ضرر على صحته أو صحة غيره. فإن قال قائل: ما العلاقة بين قوله: "ولا يتنفس في الإناء"، وبين النهيين قبله؟ قلنا: يحتمل أن أبا قتادة رضي الله عنه رواهما منفردين، بمعنى: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه"، ثم سمعه في مكان آخر يقول: "لا يتنفس في الإناء"، فجمعهما أبو قتادة في سياق واجدا اختصارا، وربما يقال: إنه لما كذر ايتعلق بالتخلي عن الأكل والشرب ناسب أن يذكر ما تعلق بالشرب فقال: "ولا يتنفس في الإناء". أما هذا الحديث ففيه فوائد: أولا: نهي الإنسان عن مس ذكره بيمينه وهو يبول والنهي هنا صريح، وهذا النهي أيضا مؤكد بنون التوكيد، فهل هذا النهي للتحريم أو للكراهة؟ جمهور العلماء على أنه للكراهة

وليس للتحريم؛ لأنه من باب الأدب؛ إذ النهي لا يعدو أحد أمرين إما أن يكون تكريما لليمين، وإما أن يكون لخوف أن تتلوث اليمين بالبول فتكون منتنة، وأيا كان فإن هذا لا يقتضي أن يكون النهي للتحريم، لكن حقيقة الأمر أن القول بأنه للتحريم قول قوي؛ لأنه مؤكد حيث قال: "لا يمسن"، وهذا قول أهل الظاهر أن النهي للتحريم. ومن فوائد هذا الحديث: جواز مس الإنسان ذكره بيده اليمنى في غير حال البول، من أين تؤخذ؟ من قوله: "وهو يبول"، وهذا هو الأصل في المفهوم أن يكون مفهوم مخالفة؛ أي: أن المفهوم يخالف المنطوق بالحكم هذا هو الأصل، وربما يقوي هذا الأصل أنه إذا مس ذكره بيمينه وهو يبول صارت عرضة للتلوث بالنجاسة بخلاف ما إذا مسه من غير أن يكون على البول، ومن العلماء من قال: إنه لا يمسن ذكره بيمينه لا حال البول لا غيره، وأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مس الذكر باليمين حال البول مع أن الإنسان قد يحتاج إليه ففي غير ذلك من باب أولى، وعلى هذا فالمسألة محتملة، وإذا كانت محتملة فما هو الورع؟ عدم المس مطلقا؛ لكننا لا نجزم بأن هذا عام؛ لأن التقييد بكونه يبول لا شك أن له مناسبة وهي الحاجة. فإن قال قائل: إذا كانت الإنسان لا يستطيع أن يستجمر باليسار فماذا يفعل؟ قلنا: الحاجة لها أحكام وسيأتي - إن شاء الله- الكلام عليها في الحديث الذي بعده. ومن فوائد هذا الحديث: أن اليمين خير من اليسار وهذا مطرد في الأمر الكونية والأمور الشرعية، أما الأمور الكونية فلا يخفى علينا جميعا أن الله تعالى جعل في اليمين من القوة ما ليس في اليسار فهي التي يأخذ بها ويكتب بها، ويأكل بها، ويحمل بها الثقيل، وهذا من الميزة القدرية، وأما الشرع فكما رأيتم أنه نهى عن مس الذكر باليمين في حال البول، والمس باليسار لا بأس به. ومن فوائد هذا الحديث: جواز التصريح بلفظ البول، وأنه لا يعد مخالفا للحياء؛ لأن الذي عبر به أحيا الناس وهو النبي - عليه الصلاة والسلام-، فقال: "وهو يبول" وأما ما يستعمله الناس الآن إذا أراد أن يبول يقول: أطير الماء فهذا لا أصل له، بل قال صاحب الفروع رحمه الله: الأولى أن يقول: أبول، ولا يقول: أريق الماء؛ لأن البول ليس ماء؛ ولأن التعبير بالبول ومشتقاته وارد في السنة، قال النبي - عليه الصلاة والسلام- في البول: "أما أحدهما فكان لا يستتر من البول". وهنا المشتق وهو يبول، فالصواب جواز التعبير بهذا.

فإذا قال قائل: إنه يعتبر مخالفا للمروءة، أعني: التصريح بالبول في عرفنا الآن، فهل نقول: العرف كما يغير المعاني فهو أيضا يغير الأحوال، أليس المرجع في الإيمان إلى ما تقتضيه الكلمة في العرف قبل أن نرجع إلى ما تقتضيه في اللغة، فإذا كان العرف المطرد عند الناس كراهة التصريح بالبول ومشتقاته وعبروا عن ذلك بكناية تدل عليه، وليس فيها محذور شرعي فعندي أنه لا بأس بها؛ ولهذا قال صاحب الفروع: "الأولى"، ولم يقل: يجب، بل قال: الأولى، ولعله في عرفه - صاحب الفروع- لم تصل الحال إلى ما وصلت إليه اليوم، فإن لفظ البول اليوم جدا مكروه عند الناس في غير الحديث، الحديث يقبله الناس إذا مر به، لكن في الكلام العادي لو قلت: أبول، أو بلت اليوم، عند العامة ماذا يقول؟ يستقذر جدا ويقول: هذا ما يصلح، فلا أرى مانعا إذا كان هذا عند الناس من الألفاظ التي يستحيا منها ويكنى عنها بما يدل عليها من غير محذور شرعي لا أرى في ذلك بأسا. أسئلة: - ما حكم التخلي في طريق الناس؟ - لماذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم اللاعنين؟ لأنه تسبب في لعن نفسه. - مر علينا في هذه الأحاديث إثبات صفة من صفات الله ما هي؟ - هل جاءت هذه الصفة في القرآن الكريم؟ - ما موقف أهل السنة والجماعة من مثل هذه الصفة؟ - ماذا تسمى هذه الصفات عندهم؟ تسمى صفات فعلية. - هل يدل هاذ الحديث على تحريم هذه الهيئة- اللذان يتحدثان وهما يتغوطان-؟ - في حديث أبي قتادة في آخره: "ولا يتنفس في الإناء"، ما صلة آخر الحديث بأوله؟ - هل القيد في حديث مس الذكر باليمنى في أثناء البول هو قيد شرطي أو وصفي؟ - قوله: "لا يتمسح من الخلاء" ما معنى "من" هنا؟ - ما المراد بيتخلى البول أو الغائط؟ نعود إلى الحديث: قوله: "ولا يتنفس في الإناء" ذكرنا أن بعض العلماء علل بأنه ربما يخرج منه أشياء مؤذية، وبعضهم علل بأنه ربما يشرق، فعلى الأول يكون النهي خاصا بما إذا كان يريد غيره أن يشرب من هذا الإناء وعلى الثاني يكون عاما، والحديث عام فعلى هذا نقول: لا يتنفس في الإناء حذرا من أن يتقابل النفس والماء فيحصل بذلك الشرق ويتأذى الإنسان أو يتضرر. ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن التمسح من الخلاء باليمين، لقوله: "ولا يتمسح من الخلاء بيمينه"، وهل هو مكروه أو محرم؟ ذكر بعض العلماء أنه حرام؛ لأنه هو الأصل في

النهي عن الاستنجاء باليمين

النهي؛ ولأنه إذا تمسح باليمين تلوثت اليمين بالنجاسة، واليمين لها الكرامة والبعد عن هذا الشيء، ولهذا كان الاستنثار وهو ليس نجسا باليسار، ومن العلماء من قال: إن النهي للكراهة؛ لأن من باب الأدب والورع أن يتجنب الإنسان هذا إلا للحاجة. ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن التنفس في الإناء لقوله: "ولا يتنفس في الإناء"، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون هذا الإناء يشرب منه غيره أو لا يشرب؛ لأنه مطلق "ولا يتنفس في الإناء". فإن قال قائل: وإذا اضطر الإنسان إلى التنفس إما لكونه قصير النفس، أو لكونه يحتاج إلى شرب ماء كثير لا يدركه بنفس واحد؟ قلنا: يفصل الإناء ويتنفس، والسنة أن يتنفس في الشراب ثلاث مرات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا أهنأ وأبرأ وأمرأ". ثم قال المؤلف: النهي عن الاستنجاء باليمين: 89 - وعن سليمان رضي الله عنه قال: "لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم". رواه مسلم. سلمان الفارسي قال ذلك ردا على رجل من المشركين، قال هذا الرجل: إن نبيكم علمكم حتى الخراءة، يعني: حتى آداب الخراءة، فقال له: أجل علمنا حتى هذا. قوله: "نهانا"، قال العلماء: والنهي طلب الكف على وجه الاستعلاء، أي: أن الناهي يشعر بأن له السلطة وله القول على من وجهه النهي إليه، وقوله: "أن نستقبل بغائط أو بول" يعني: أن يجلس الإنسان على بوله أو على غائطه، والقبلة أمامه، وذلك تكريما للقبلة؛ لأن القبلة محل التكريم، ومحل اتجاه العبادة إلى الله تعالى في أشرف العبادات من بعد الشهادتين؛ فلذلك يجب أن تكرم. وقوله: "أو أن نستنجي باليمين" يعني: ونهانا أن نستنجي باليمين، وهذا كالأول الذي فيه: "ولا يتمسح من الخلاء باليمين"، والاستنجاء إزالة النجس وهو العذرة. وقوله: "أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" يعني: ونهانا أن نقتصر على حجرين، أو على حجر واحد، وقوله: أو أن نستنجي" يفيد أنه فيما إذا كان الخارج ذا بلل، وأما إذا كان الخارج يابسا- أحيانا يكون الخارج يابسا، ولا يتلوث المحل إطلاقا- فإنه لا يدخل في الحديث؛

لأنه لا يجب الاستنجاء منه في هذا الحال، لكن إذا كان الخارج رطبا فلا يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار حتى لو أنها أنقت. "أو أن نستنجي برجيع أو عظم" "الرجيع": الروث، و"العظم": معروف؛ وذلك لأن الرجيع زاد بهائم الجن تأكله كمال تأكل بهائمنا العلف، أما العظم فلأنه زاد إخواننا من الجن يجدون كل عظم ذكر اسم الله عليه، أوفر ما يكون لحما، سبحان الله! يعني: هذا العظم الذي يلوح يجده الجن عليه اللحم أوفر ما يكون مع أننا لا نشاهد هذا؛ لأن الجن وأحوالهم من أمور الغيب. ففي هذا الحديث: بيان شمول الشريعة الإسلامية لكل ايحتاج الناس إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا حتى الخراءة، علمنا آداب الأكل، وآداب الشراب، آداب النوم، آداب دخول البيت، والخروج منه، آداب اللباس، ما من شيء نحتاجه إلا علمنا إياه - عليه الصلاة والسلام- تحقيقا لقول الله تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لنبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]. ولقوله تعالى: ونزلنا عليك الكتب تبينا لكل شيء} [النحل: 89]. وإذا كان الدين الإسلامي وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد بينت حتى هذه الأمور الطفيفة فغيرها من باب أولى؛ ولذلك غلط من قال: إن آيات الصفات وأحاديثها لا يعلم معناها، وصاروا يفوضون المعنى، فإن هؤلاء غلطوا أكبر غلط، فيقال: شبحان الله! أنتم الآن تقرون بأن قصة فرعون وهامان وقارون وغيرهم من طغاة العالم وقصص الصالحين كلها مفهومة المعنى عندكم، وما ذكره الله عن نفسه فهو عندكم غير معلوم بمنزلة الحروف الهجائية، كيف يكون هاذ؟ ! فجميع ما يحتاج الناس إليه في معبودهم، وعباداتهم، وفي أحوالهم، وفي معاملاتهم كله بين، ولكن الناس يختلفون؛ منهم من يعطيه الله تعالى علما واسعا يحيط بكثير من السنة، ومنهم من دون ذلك، ومنهم من يعطيه الله تعالى فهما ثاقبا يفهم ما يسمع وما يقرأ، ومن الناس من هو دون ذلك، وفضل الله يؤتيه من يشاء. ومن فوائد هذا الحديث: تحريم استقبال القبلة بغائط أو بول؛ لقوله: "نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول" والأصل في النهي التحريم. ومن فوائد هذا الحديث: جواز استقبال الشمس والقمر، كيف ذلك؟ لأن أهل المدينة إذا لم يستقبلوا القبلة فسوف يستقبلون الشرق أو الغرب؛ حينئذ يكونون مستقبلين إما للمش وإما للقمر، وذكرت هذا لأن بعض أهل العلم - رحمهم الله- قالوا: إنه يكره للإنسان أن

يستقبل الشمس أو القمر، وعللوا لذلك بتعليل عليل منتقض: لأن في الشمس والقمر نورا فما فيهما من نور الله يجعلهما محترمين؛ فنقول: أولا: لا يجوز أن نثبت الأحكام الشرعية بمثل هذا التعليل. وثانيا: هو تعليل منتقض، النجوم فيها أيضا نور من الذي أشاءها؟ الله - سبحانه وتعالى- هل نقول للإنسان: لا تستقبل النجوم، وإن قلنا: لا تستقبل النجوم فكيف يجلس؟ لأن النجوم على يمينه، وعلى يساره، وأمامه وخلفه؛ فلهذا ذكرت ذلك ليعلم أن ما قاله بعض الفقهاء - رحمهم الله- في هذا قول ضعيف لا دليل عليه. ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن الاستنجاء باليمين، وإذا كنا نقول في استقبال القبلة أنه حرام، فيجب أن نقول في هذا إنه حرام؛ لأن الحديث واحد، والغالب أن المسائل المذكورة في حديث واحد أن حكمها واحد، أقول: الغالب، لكن ليس هذا دلالة؛ فإن الله تعالى قال: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8]. فذكر الخيل والبغال والحمير مع أن الخيل جلال، والبغال والحمير حرام، ولا عبرة بدلالة الاقتران؛ لأنه ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام- أن الصحابة نحروا فرسا في عهده - علي الصلاة والسلام- وأقرهم على هذا. المهم إذا لم نجد صارفا يصرف النهي إلى الكراهة في الاستنجاء باليمين، فالواجب أن يكون للتحريم. فإذا قال قائل: إذا كان الإنسان أشل في يده اليسرى؟ نقول: حينئذ يكون مضطرا إلى الاستنجاء باليمين، وقد قال الله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام: 119]. ومن فوائد هذا الحديث: تكريم اليمين، وهو كذلك؛ ولهذا قال الفقهاء - رحمهم الله- في ذلك ضابطا مهما، قالوا: إن اليسرى تقدم للأذى، واليمنى لها سواها، اليسرى تقدم للأذى كالاستنجاء، والاستنثار، وغسل الأوساخ، وما أشبه ذلك، واليمنى لها سواها. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الاستنجاء بالحجار؛ لقوله: "أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" فإنه يفيد أن الثلاثة فما فوق يجوز الاستنجاء به. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز الاقتصار على أقل من ثلاثة حتى لو طهر المحل لابد من ثلاثة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من استجمر فليوتر". ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو استنجى بحجر ذي شعب، فإن ذلك جائز؛ لأن كل شعبة بمنزلة حجر، ومن العلماء من قال: لا يجوز بحجر ذي شعب؛ لأن الحديث أقل من ثلاثة أحجار،

لكن هذا القول جمود على اللفظ؛ لأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أحجار ألا يمسح بوجه مرتين أو أكثر، وإنما مراده: أن يكون كل وجه له مسحة إما بثلاثة أحجار أو بحجر ذي شعب، ولم يذكر الرسول - عليه الصلاة والسلام- الحجر ذا الشعب؛ لأن هذا قد يكون نادرا أن يجد الإنسان حجرا فيه ثلاث شعب متوازية بحيث إذا مسح بشعبة لم تتلوث الأخرى هذا نادر. ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن لاستنجاء بالرجيع، والرجيع ما هو؟ الروث؛ لأن الروث إن كان طاهرا فهو علف بهائم الجن، وإن كان نجسا فالنجس لا يطهر، وكما تعلمون أن الروث ينقسم إلى قسمين على القول الراجح: طاهر؛ وهو روث المأكول، ونجس؛ وهو روث غير المأكول. ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن الاستنجاء بالعظام لقوله: "أو عظم"، سواء كانت هذه العظام عظام ميتة او عظام مذكاة، أو عظام مباح الأكل أو غير مباح الأكل؛ لأنه إذا كانت العظام عظام ميتة فهي نجسة عند جماهير العلماء، وإذا كانت نجسة فالنجس لا يمكن أن يطهر، وإن كانت مذكاة فهي طعام الجن، ولا يحل لنا أن نعتدي عليهم بإفساد طعامهم، وإن كان العظم من غير المأكول فهو نجس، والنجس لا يطهر. فإن قال قائل: هل يقيسون على هذا تحريم الاستنجاء بعلف بهائم الإنس؟ فالجواب: نعم، نقيسه قياسا جليا واضحا؛ لأنه إذا كان لا يجوز أن نفسد علف بهائم الجن، وهو عالم غيبي فعلف بهائم الإنس من باب أولى. وإن قال قائل: وهل يقسمون على النهي عن الاستنجاء بالعظم الاستنجاء بطعام الإنس كاللحم أو الخبز أو ما أشبه ذلك؟ فالجواب: نعم من باب القياس الأجلى والأوضح؛ لأنه إذا كان إفساد طعام الجن حراما فإفساد طعام الإنس من باب أولى. فإن قال قائل: وهل تجيزون أن يستنجي الإنسان بغير الأحجار مما يزيل الأذى؟ فالجواب: نعم نجيز ذلك، فلو استنجى الإنسان بمناديل طاهرة منقية فلا بأس، وإن استنجى بخشبة فلا بأس، وإن استنجى بمدر - وهو الطين اليابس- فلا بأس أيضا، ولو استنجى بزجاجة لا يجوز؛ لأنها لا تنقي، ولو استنجى بحجر رطب لا يجوز؛ لأنه لا يطهر ولا ينشف. فإن قال قائل: إذا لم ينق بثلاث - أعني: الاستجمار- هل يجب أن يزيد رابعة؟ نعم يجب أن يزيد رابعة، وإذا أنقى برابعة فالأفضل أن يزيد خامسة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من استجمر فليوتر". من فوائد الحديث - ونسيت أن أقولها-: تحريم العدوان على حق الغير لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالرجيع أو العظم، فإذا كان يحرم العدوان من الإنس على الجن فإنه حرام من الجن

النهي عن استقبال واستدبار القبلة بغائط أو بول

على الإنس؛ ولهذا كان العلماء الذين وهبهم الله - تبارك وتعالى- من القوة في الإيمان كانوا ينكرون على الجن الذين يصرعون الإنس ويقولون لهم: هذا حرام عليكم وعدوان، والله تعالى لا يحب المعتدين، فربما يدي الله هاذ الجن ويخرج وقد لا يخرج، لكن الكلام على أن العدوان محرم من الإنس على الجن، ومن الجن على الإنس. النهي عن استقبال واستدبار القبلة بغائط أو بول: 90 - وللسبعة عن أبي أيوب رضي الله عنه: "فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط أو بول، ولكن شرقوا أو غربوا". قوله: "عن أبي أيوب رضي الله عنه" أي: عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسبق في حديث سلمان: "لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول"، ويكون هذا الحديث زائد على ما سبق الاستدبار. "القبلة": هي الكعبة أو جهتها، وقوله: "ولكن شرقوا أو غربوا" هذا التوجيه لأهل المدينة، ومن كانت قبلته قبلتهم؛ لأن أهل المدينة قبلتهم الجنوب فإذا شرقوا أو غربوا صارت القبلة عن أيمانهم أو عن شمائلهم، فيكون في هذا الحديث خطاب موجه لطائفة من الناس خاصا بها وبمن كان مثلها. يستفاد من هذا الحديث: تحريم استقبال القبلة واستدبارها حال الغائط أو البول لقوله: "بغائط أو بول". ويستفاد منه: بمفهومه أنه لا يحرم أو ينهى عن استقبالها أو استدبارها بالاستنجاء؛ يعني: لو أن الإنسان تخلى في مكان وقام ليستنجي في مكان آخر؛ فإنه لا حرج أن يستقبل القبلة أو يستدبرها، وأما قول بعض الفقهاء - رحمهم الله- أنه يكره استقبال القبلة حال الاستنجاء؛ فهذا يحتاج إلى دليل. ومن فوائد هذا الحديث: احترام القبلة، وألا يتوجه الإنسان إليها حال قضاء الحاجة ولا يستدبرها. ومن فوائد الحديث: أن الأكمل أن تكون القبلة عن يمينه، أو عن يساره. ومن فوائد الحديث: أن الانحراف اليسير لا يعتبر مخالفة؛ لأنه قال: "شرقوا أو غربوا"، وهذا انحراف كثير ولا يكفي الانحراف اليسير، ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى، وهي استقبال القبلة في حال الصلاة، وأن الإنسان إذا استقبل القبلة حال الصلاة ولو انحرف يسيرا فإن ذلك لا يضر، والذي لا يضر أن ينحرف كثيرا بحيث تكون القبلة عن يساره أو عن يمينه.

ومن فوائد هذا الحديث: جواز الخطاب بلفظ يعم الأمة ولفظ يخص بعض الأمة، أيهما الذي يعم الأمة؟ "لا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها بغائط أو بول" هذا عام لجميع الأمة، "ولكن شرقوا أو غربوا" خاص بأهل المدينة، ومن كان مثلهم بالنسبة لنا هنا نقول: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن أشملوا أو أجنبوا"؛ لأن القبلة في القصيم جهة الغرب فيقال لأهل القصيم: "أشملوا أو أجنبوا". ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز ذلك؛ أي: استقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول ولا في البنيان؛ لأن الحديث عام ما قال: "إلا في البنيان"، والأصل العمل بالعموم حتى يقوم دليل على التخصيص؛ ولهذا يقول أبو أيوب رضي الله عنه: "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله". وهذا يدل على أن أبا أيوب فهم أن الحديث عام سواء كان ذلك في البنيان أو في القضاء، وجه ذلك: أن الإنسان يقال إنه مستقبل القبلة ولو كان في البنيان ولهذا لو كان في الحجرة واستقبل القبلة في الصلاة يقال: إنه مستقبل، وعلى هذا فلا فرق، لكن في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة". فهنا نقول: جاز استدبار الكعبة في البنيان لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الاستدبار أهون من الاستقبال؛ لأن الإنسان يستحي أن يستقبل الناس بوجهه حال قضاء الحاجة، لكن لا يستحي أن يستدبرهم؛ ولهذا يدل على أن الاستقبال أكثر من الاستدبار، فهل يقاس عليه الاستقبال؟ من العلماء من قال: يقاس عليه، وأنه في البنيان لا بأس من استقبال القبلة واستدبارها، وعلى هذا فالمراحيض التي ببيننا الآن إذا كانت مستقبلة الكعبة أو مستدبرتها فلا بأس بها، ولكن الصحيح العموم أنه لا يجوز لا في القضاء ولا في البنيان. بقي علينا: هل لنا أن نخصص هذا النهي وهو سنة قولية بالسنة الفعلية؟ من العلماء من يرى أن الألفاظ لا تخصص بالأفعال، وأننا نحن مطالبون بتنفيذ السنة القولية، أما السنة الفعلية فلا؛ لأن السنة الفعلية تحتمل الخصوصية وتحتمل الحاجة؛ أي: أنه فعل ذلك لحاجة، وتحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله بسبب آخر، وهو لم يعلنه على الناس، هو في بيت حفصة مستدبر الكعبة لم يعلنه فلا يمكن أن نخصص به اللفظ العام، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، ومنهم الشوكاني في شرح المنتقى، ولكن الصحيح: أن السنة القولية تخصصها السنة

ستر العورة أثناء قضاء الحاجة

الفعلية؛ لأن الكل حق، واحتمال الخصوصية غير وارد، واحتمال النسيان غير وارد، واحتمال سبب آخر غير وارد؛ لأن الأصل التشريع في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به، ثم إنه لا حاجة إلى أن نقول بتقديم القول إذا تعذر الجمع، والجمع هنا ممكن، فإذا كان ممكنا وجب العمل بالحديثين جميعا؛ لأنك لو قلت: هذا الفعل لا يخصص ألغيت سنة، ولو قلت: هذا الفعل يخصص إذا كان في البنيان لم تلغ سنة؛ إذن القول الراجح: أن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مخصص لعموم حديث أبي أيوب. بقي أن يقال: هل يقاس عليه الاستقبال؟ الجواب: لا، لا يقال؛ لأن من شرط القياس تساوي الأصل والفرع، والتساوي هنا لا يوجد، ويدل لهذا أن حديث سلمان في النهي عن الاستقبال دون الاستدبار مما يدل على أنه الاستقبال أشنع، وإذا كان أشنع فإنه لا يمكن أن يقاس على ما هو أهون منه. فإن قال قائل: إذا كان الرجل قد بنى مراحيضه متجهة إلى القبلة فماذا يصنع؟ نقول: يجب عليه أن ينقضها ويخلفها، فإن قال: أنا أنحرف. نقول: أنت إذا استطعت أن تنحرف فربما يخلفك من لا ينحرف، فتكون أنت السبب في انتهاك حرمة الكعبة، وعلى هذا فلابد لمن بنى مراحيضه متجهة إلى القبلة أن ينقضها ويوجهها إلى جهة أخرى. ومن فوائد هذا الحديث: ما سبق من تعظيم القبلة واحترامها. ستر العورة أثناء قضاء الحاجة: 91 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى الغائط فليستتر". رواه أبو داود. أضف هذا إلى حديث المغيرة السابق، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذ الإداوة فانطلق حتى توارى عني". أضف هذه السنة القولية إلى السنة الفعلية السابقة. قوله - عليه الصلاة والسلام-: "من أتى الغائط" ماذا يريد بالغائط؟ يريد به: المكان المطمئن من الأرض؛ لأنه هو الذي يؤتى إليه، لكن هذا الغائط - أعني: المكان المنخفض من الأرض- لا ينتابه الناس إلا لأجل قضاء الحاجة، وقوله: "فليستتر" اللام هنا للأمر، والأمر يحتمل الوجوب، ويحتمل الاستحباب، والفاء في قوله: "فليستتر" رابطة للجواب؛ لأن الجواب إذا اقترن بلام الأمر وجب أن يقرن بالفاء.

الدعاء بعد قضاء الحاجة

ففي هذا الحديث من الفوائد: الإشارة إلى أن الناس فيما سبق كانوا يقضون حوائجهم في الأماكن البرية أو الداخلية في البلد، لكن بشرط أن تكون منخفضة مطمئنة. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الاستتار على من أتى الغائط؛ لأن هذا ظاهر الأمر، لكن القواعد تقتضي أنه يختلف، فالاستتار بحيث لا ترى العورة واجب، والاستتار فيما زاد على ذلك سنة. الدعاء بعد قضاء الحاجة: 92 - وعنها رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك". أخرجه الخمسة، وصححه أبو حاتم والحاكم. قولها: "كان إذا خرج" يعني: إذا خرج بالفعل، يقول عند خروجه: "غفرانك"، وغفران مصدر غفر، فرجحان مصدر رجح، والشكران مصدر شكر، وهو منصوب بعامل محذوف تقديره: أسألك غفرانك، وإنما كان يدعو بهذا الدعاء قيل: لأنه في حال قضاء الحاجة لا يذكر الله فاستغفر من أجل أنه امتنع عن ذكر الله في هذه الحال، فكأنه أضاع وقتا من عمره الثمين فاستغفر الله لذلك، وفي هذا التعليل نظر؛ لأنه إذا لم يذكر الله في هذا المكان فهو ممتثل متبع؛ ولهذا لا نقول للحائض إذا طهرت واستغفرت وصلت: استغفري الله؛ لأن امتناعها عن الصلاة بأمر الله عز وجل وقال بعض العلماء: إن سؤال المغفرة هنا له مناسبة وهو أن الإنسان لما تخلى من المؤذي الحسي تذكر المؤذي المعنوي، وهي الذنوب، فإن حمل الذنوب أشد من حمل الغائط والبول فنذكر عندئذ الذنوب فسأل الله أن يغفر له، وهذا هو الصحيح. فيستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان إذا خرج من الخلاء أو من الغائط فليقل: "غفرانك" اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: ما هي المغفرة التي يسألها الإنسان دائما؟ قلنا: المغفرة هي ستر الذنب، والتجاوز عنه، وإنما وصفناها بهذين الوصفين الستر والتجاوز؛ لأن الاشتقاق يدل على هذا، فهي مشتقة من المغفر الذي يغطى به الرأس عند القتال، وهذا المغفر يفيد الرأس فائدتين: الفائدة الأولى: الستر. والفائدة الثانية: الوقاية؛ ولهذا لا يصح أن نقول: المغفرة هي ستر الذنب، بل لابد أن نقول: هي ستر الذنب والتجاوز عنه، ويدل لهذا المعنى أن الله - سبحانه وتعالى-

ضرورة الاستجمار بثلاثة أحجار

يوم القيامة يخلو بعبده المؤمن، ويقرره بذنوبه ويقول: "قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم". ففرق الله عز وجل بين الستر وبين المغفرة؛ فدل ذلك على أن المغفرة ليست مجرد الستر، بل هي شيء زائد عليه. ضرورة الاستجمار بثلاثة أحجار: 93 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين ولم أجد ثالثا، فأتيته بروثة، فأخذهما وألقى الروثة، وقال: هذا رجس، أو ركس". أخرجه البخاري. وزاد أحمد، والدارقطني: "أئتني بغيرها". قوله: رضي الله عنه: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط" يعني: مكان قضاء الحاجة، "فأمني أن آتيه بثلاثة أحجار"، وذلك من أجل أن يستجمر بها، فوجد حجرين ولم يجد الثالث، ولكنه أتى بروثة، والروثة هنا هي روثة الحمار، وليست روثة البعير، بل هي روثة الحمار، بدليل ما يأتي في الحديث، يقول: "فأخذهما - أي: أخذ الحجرين- وألقى الروثة، وقال: هذا رجس" هنا قال: "هذا" ولم يقل: "هذه" باعتبار المشار إليه؛ يعني: هذا المشار إليه رجس ولا يريد هاذ الإتيان؛ لأن ابن مسعود أتى بشيء ليس برجس وهما الحجران، ثم قال: "أو ركس"، والخلف لاختلاف اللفظ والمعنى واحد، والمراد بالركس هنا: النجس. زاد أحمد والدارقطني: "اثتني بغيرها"؛ أي: بغير الروثة؛ لأن الروثة نجسة، والنجس لا يمكن أن يطهر. من فوائد هذا الحديث: منقبة لعبد الله بم مسعود، كيف ذلك؟ لكونه خدم النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: جواز استخدام الأحرار؛ لأن ابن مسعود كان حرا. ومن فوائده: أن أمر الخادم ونحوه لا يعد سؤالا مذموما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر خدمه، الناس لا يعدون هذا سؤالا، بل يعدونه أمرا، ويرون أن الآمر فوق المأمور. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الاستعانة بالغير في الطهارة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم استعان بعبد الله بن مسعود أن يحضر ما يتطهر به. ومن فوائد هذا الحديث: أن الاجتهاد إذا خالف النص فهو باطل، من كون النبي صلى الله عليه وسلم رد اجتهاد عبد الله بن مسعود وقال: "إن هذا رجس"، لكنه لم يوبخه؛ لأنه مجتهد، وإلا فمن المعلوم أن

كونه يأتي بروثة على النبي صلى الله عليه وسلم ليتطهر بها، أن فيها شيئا من الاستخفاف، لكنه رضي الله عنه مجتهد؛ فيستفاد منه: أن المجتهد إذا أخطأ لا يلام على خطئه؛ لأنه مجتهد، وهذه هي قاعدة الشريعة والحمد لله أن الحاكم إذا حكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للرجل الذي تيمم وصلى ثم وجد الماء فتوضأ وأعاد الصلاة جعل له الأجر مرتين مع أنه مخطئ في هذا العمل؛ حيث إن صاحبه الذي لم يعد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبت السنة". ومن فوائد هذا الحديث: أنه لابد في الاستجمار من ثلاثة أحجار، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من عبد الله بن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار، ثم قال حين رد الروثة: "ائتني بغيرها"؛ فدل هذا على أنه لابد من ثلاثة أحجار. ومن فوائد هذا الحديث: أن الاستجمار مطهر لقوله: "هذا رجس"، والرجس لا يطهر، فدل هذا على أنه لو كان طيبا طاهرا لكان مطهرا، وهذا هو الصواب أن ما يحصل من الاستجمار فهو تطهير، وبناء على ذلك لو أن الإنسان استجمر من بول أو غائط بأحجار أو تراب؛ أو مناديل، ثم عرق أو أصاب ثوبه بلل وصل إلى مقعدته أو إلى ذكره فهل نقول: إن ما أصابه الماء والبلل والعرق ومن هذا المحل يكون نجسا؟ الجواب: لا، وهذا هو القول الراجح المتعين. ومن العلماء من يقول: إن الاستجمار لا يطهر، وأنه لا يعفى عن أثر الاستجمار إذا تجاوز غير محله، ولكن هذا القول ضعيف، والصواب: أنه مطهر تطهيرا تاما، فهل يقاس على ذلك ما لو أزيلت النجاسة في غير هذا الموضع بحجر حتى لم يبق لها أثر؟ الجواب: نعم؛ وذلك لأن النجاسة عين خبيثة متى أزيلت بأي مزيل سواء كان بحجر أو بغير ذلك فإنها تطهر، لكن بشرط أن تكون الإزالة إزالة تامة. فإن قال قائل: قياسكم غير هذا المحل عليه فيه نظر؛ لأن هذا المحل يكثر تلوثه بالنجاسة، فإن الإنسان دائما يبول، ودائما يتغوط، وغير هذا المحل لا يكثر فيه التلوث بالنجاسة فلا يمكن القياس، ويدل لعدم إمكان القياس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بول الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد: "أريقوا عليه سجلا من ماء". فهذا يدل على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء؛ فجوابنا على هذا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يصب عليه ماء من أجل الإسراع في تطهيره؛ لأنه لو بقي

النهي عن الاستجمار بعظم أو روث

ما يطهر الآن يحتاج إلى وقت، ولكن الرسول - عليه الصلاة والسلام- أراد أن يبادروا في تطهيره فأمر أن يصب عليه ماء. ومن فوائد هذا الحديث: أن الأرواث نجسة؛ لأن ابن مسعود أتى بروثة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إنها نجسة"، ولم يبين عبد الله بن مسعود أنها روثة حمار أو روثة بعير، فيدل على أن جميع الأرواث نجسة، وجميع الأبوال نجسة، وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله أن جميع الأبوال نجسة ولو مما يؤكل، وجميع الأرواث نجسة ولو مما يؤكل، ولكن هذا القول ضعيف، فقد دلت السنة على طهارة بول ما يؤكل وروثه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها، ولم يأمرهم بالتنزه منها؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم". ومعلوم أن مرابضها لا تخلو من بول أو روث، فدل هذا على أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر؛ إذن يجب أن نحمل قوله: "روثة" على روثة حمار؛ لأن روث الحمار نجس وبوله نجس. ومن فوائد هذا الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنه ألقى الروثة ولم يوبخ عبد الله بن مسعود، ولم يغضب ويدع أمره مرة أخرى، بل قال: "ائتني بغيرها". النهي عن الاستجمار بعظم أو روث: 94 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: إنهما لا يطهران". رواه الدارقطني وصححه. قوله: نهى أن يستنجى بعظم أو روث" ما المراد بالعظم هنا؟ المراد: جميع العظام؛ لأن العظم إن كان من مذكاة فقد لوثه على الجن، وإن كان من غير مذكاة فهو نجس، وكذلك يقال في الروث: إن كان طاهرا فهو علف بهائم الجن، وإن كان نجسا فالنجس لا يطهر، وقال: "إنهما لا يطهران" أي: العظم والروث لا يطهران، وجه ذلك: أن النجس منهما لا يطهر، هو نجس فكيف يطهر، والطاهر منهما لا يطهر؛ لأنه لا يحصل الإنقاء التام به، لكن إذا صحت اللفظة وهي: "إنهما لا يطهران" فينبغي أن يحمل العظم والروث على العظم النجس، وذلك أن العظم الطاهر إذا استوى في ذلك واستجمر به إنسان فلا وجه لكونه لا يطهر، صحيح أنه حرام عليه لكن الحرام شيء، والتطهير شيء آخر، فيقال لمن استنجى أو استجمر بشيء محرم: إنه آثم، والمحل يطهر؛ لأنه من نجاسة، فإذا زالت بأي مزيل كفى.

الأمر بالاستنزاه من البول

الأمر بالاستنزاه من البول: 95 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استنرهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه". رواه الدارقطني. 96 - وللحاكم: "أكثر عذاب القبر من البول". وهو صحيح الإسناد. قوله - عليه الصلاة والسلام-: "استنزهوا" أي: اطلبوا النزاهة، والنزاهة هي النظافة، وقوله: "من البول" أي: تخلوا عنه، ثم علل هاذ بقوله: "إن عامة عذاب القبر منه" يعني: أكثر عذاب القبر من عدم الاستنزاه من البول، وقوله: "من البول" هل هو عام؟ سبق لنا أن الشافعي رحمه الله يرى أن جميع الأبوال نجسة، فعلى هذا يكون الحديث عاما، لكن هذا القول ضعيف لما ذكرنا قبل قليل من الأدلة؛ ولأنه في الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان، حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين يعذبان فقال: "أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله", هكذا في إحدى روايات البخاري، وعلى هذا فيكون المراد من البول - أي: البول الذي يلابسه كثيرا- وهو بول نفسه، فإن عامة عذاب القبر منه، وللحاكم: "أكثر عذاب القبر من البول". ويستفاد من هذا الحديث: وجوب التنزه من البول لقوله: "استنزهوا من البول". نعود لحديث أبي هريرة: "استنزهوا" أي: اطلبوا النزاهة من البول، يعني: التنظيف منه، وقوله: "من البول" "أل" للعهد الذهني، يعني: البول المعهود الذي هو بول الآدمي؛ وليست للعموم كما سنذكره، "فإن عامة عذاب القبر منه" يعني: أكثر عذاب القبر بالنسبة للمؤمنين من عدم التنزه من البول، أما الكفار فإن عامة عذاب القبر عندهم من الشرك والكفر، وغير ذلك. في هذا الحديث فوائد: أولا: وجوب الاستنزاه من البول، لقوله: "استنزهوا من البول"، والأمر للوجوب. ومن فوائده: أنه لا يعفى عن يسيره - أي: عن يسير البول- لقوله: "استنزهوا من البول"؛ لكن استثنى الفقهاء - رحمهم الله- يسير البول ممن به سلس دائم مع كمال التحفظ - يعني: المصاب بسلس البول- يعفى عن يسير البول بشرط أن يكون قد تحفظ تحفظا كاملا، وعللوا ذلك بأن التحفظ من يسيره وكثيره شاق وحرج، وقد قال الله - تبارك وتعالى-: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. وهذا عام في كل مسائل الدين، وذكر نفي الحرج في الطهارة خاصة فقال: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} [المائدة: 6]. وهذا

الذي استثناه الفقهاء - رحمهم الله- وجيه جدا؛ وذلك لانتفاء الحرج؛ أي: أننا استثنينا يسير البول ممن به سلس مع كمال التحفظ من أجل الحرج، وكما يقول العامة: لا يحس بحرارة الجمرة إلا من وطأها، يعني: لا يحس بالمشقة العظيمة في هذا الأمر إلا من ابتلي به، أعاذنا الله وإياكم منه. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الاستنزاه من كل بول إذا جعلنا "أل" للعموم، ولكن هذه الفائدة ليست صحيحة؛ لأن العموم لا يستقيم بالنسبة للشريعة الإسلامية، ووجهه: أنه قد دل الدليل على أن ما يؤكل لحمه طاهر وهو إذن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل وأبانها، ولم يأمرهم بالتنزه منها، وأيضا لو كان بول الإبل نجسا لكان شربه حراما؛ والحرام لا يجوز التداوي به. فإذا قال قائل: لماذا تجعلونه عاما وتستثنوا منه بول ما يؤكل لحمه، فيكون شاملا لبول الحدأة والحمير، والكلاب، وما أشبه ذلك. نقول: هذا ممكن، لكن حمله على المعهود الذهني الذي يكثر من الإنسان مماسته أولى، وما هو المعهود الذهني الذي يكثر من الإنسان مماسته؟ بوله هو. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات عذاب القبر لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن عامة عذاب القبر منه"، وعذاب القبر ثابت بالقرآن والسنة، أما في القرآن، فقوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. عرضهم على النار غدوا وعشيا هذا قبل قيام الساعة؛ لقوله: {ويوم تقوم الساعة}. ومن ذلك قوله تعالى: {مما خطيئتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} [نوح: 25]. والأصل: أن التعقيب فوري، قلت ذلك؛ لأن التعقيب قد يكون غير فوري كما لو قيل: "تزوج فلان فولد له" ومعلوم أنه لا يمكن أن يولد له في ليلة الزواج، وكما في قوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} [الحج: 63]. فإن الأرض لا تصبح مخضرة صباح نزول المطر، لكن هذا التعقيب على حسب ما تقتضيه الحال، وهذا دل عليه قرينة، وإلا فالأصل أن التعقيب يكون فوريا. ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {ولو ترى إذ الظلمون في غمرات الموت والملئكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} [الأنعام: 93]. اليوم متى؟ يعني: يوم الوفاة. {تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق} [الأنعام: 93]. أما في السنة فلي أن أقول: إن السنة متواترة في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يتعوذ بالله من

أربع بعد التشهد الأخير ذكر منها: عذاب القبر، وما زال المسلمون يدعون بذلك في كل صلواتهم، فهو من أشد الأحاديث تواترا، وأقواها معلوما. فإن قال قائل: وهل العذاب الذي يكون في القبر يكون على البدن أو على الروح؟ نقول: الأصل أنه على الروح هذا هو الأصل، لكن قد يتصل بالبدن؛ يعني: قد يتصل العذاب بالبدن؛ ولهذا ذكر في منامات كثيرة أنه عثر على المعذبين ووجد آثار العذاب في أجسادهم وإلا فالأصل أنه على الروح. فإن قال قائل: وهل عذاب القبر ينجو منه من احرق أو غمس في البحر، أو ما أشبه ذلك؟ فالجواب: لا، لأننا نقول: الأصل أن العذاب على الروح، والروح منذ خلقها الله عز وجل لا تفنى ولكنها تفارق البدن وتعاد إليه يوم القيامة. ومن فوائد هذا الحديث: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية أمته مما يضرها؛ حيث قال: "استنزهوا"، وهذا يدل على نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، ولا شك أنه أنصح الخلق للخلق لا شك في هذا، ومن تتبع سيرته عرف نصحه - عليه الصلاة والسلام-، ومن ذلك: أي: من نصحه- أنه ينزل الناس منازلهم؛ فالصغار يخاطبهم بما تقتضيه عقولهم يمزح معهم ويلاطفهم ويعطيهم ما يريدون مما أحل الله، والكبراء يعاملهم بما يستحقون وأوساط الناس بما يستحقون، ولا شك أن هذا من النصح؛ لأنك لو أردت أن تعامل أكبر الناس جاها وعلما وإحسانا وفضلا كما تعامل أرذل الناس لقال الناس: هذا سفه مناف للحكمة؛ بل تنزل كل إنسان منزلته، حتى إنه روي عن النبي - عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "أنزلوا الناس منازلهم". ومن فوائد هذا الحديث: أن عدم الاستنزاه من البول كبائر الذنوب؛ لأن قوله: "إنه من عذاب القبر" يدل بفحوى الكلام وقوة الكلام أن من لم يستنزه من البول فإنه يعذب في قبره، وهذا ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان"، وذكر أن أحدهما كان لا يستنزه من البول. فإن قال قائل: ألا يفتح هذا التأثيم باب الوسواس على بعض الناس؟

فنقول: ربما يفتحه على ضعيف الإدراك أما القوي - قوي الإدراك، قوي العزيمة- الذي يربط الأدلة بعضها ببعض فإن ذلك لا يؤثر عليه شيء؛ لأن بعض الناس يقول مثلا من جملة الاستنزاه النتر والنضح، وما أشبه ذلك لئلا يبقى في قنوات البول شيء، حتى ذكر بعض أهل العلم أشياء عجيبة ذكر أن بعضهم إاذ انتهى من البول علق حبلا في السقف وتمسك به وجعل يهز نفسه من أجل الا يبقى شيء، اللهم عافنا هذه وساوس بلوى، كل هذا لأنهم يقولون: نخشى ألا نكون استنزهنا من البول، ولكن من عرف موارد الشريعة وجمع الأدلة بعضها إلى بعض تبين له أن هذا ليس بواجب، بل ولا مستحب، بل هو مكروه إن لم نقل إنه محرم، لأنه بدعة في الدين وإلحاق المضرة على النفس وإلحاق القلق، وإذا كان النبي - عليه الصلاة والسلام- يقول فيمن وجد في نفسه شيئا: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". وقد وجد قرائن كيف بمن ليس عنده إلا الوهم؛ ولهذا ينبغي لنا نحن طلبة العلم إذا جاءنا من يشكو هذه الحال نقول: تلهى عنه كما قال أئمتنا - رحمهم الله- تلهى عنه لا تذهب، تقول: أنظر هل هناك شيء أو لا، بعض الناس يقول: إذا أحس ببرودة أو أحس بوهم قال: أذهب، ثم يذهب يعصر ذكره فلا يجد شيئا، اترك هذا كله دع الوساوس، وهذا - بإذن الله- سوف يذهب عنك الشيطان مثل الكلب، الكلب إن حارشته نجسك وآذاك بالنجاح، وإن سكت عنه سكت عنك؛ فهكذا الشيطان يجس الإنسان وينظر إذا رأى أنه هش لين بالوساوس ابتلاه بها، وإن رأى أنه رجل حازم وأنه ذو قوة، وأنه يتمشى مع الشرع يعجز عنه وينصرف. 97 - وعن سراقة بن مالك رضي الله عنه قال: "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلاء: أن نقعد على اليسرى، وننصب اليمنى". رواه البيهقي بسند ضعيف. "في الخلاء" أي: في الجلوس لقضاء الحاجة، "أن نقعد على اليسرى وننصب اليمنى"، الفقهاء عبروا بكلمة "يتكئ"، والحديث "نقعد" وبينهما فرق؛ لأننا لو أردنا أن نأخذ بظاهر الحديث لقلنا: إن الإنسان يقعد على رجله اليسرى يفترشها وينصب اليمنى، يعني: ارتفاع ساقه، أما كلام الفقهاء فلا يدل على هذا، يدل على أنك تتكئ على اليسرى وتنصب اليمنى، وهذا فيه مشقة شديدة لا سيما على من لا يخرج منه الخبث بسرعة، فإنه إذا بقي هكذا لمدة خمس دقائق أو عشر دقائق لا شك أنه يتكلف؛ ولهذا الحمد لله أن جعل الله هذا الحديث ضعيف حتى

لا نستن به، فما دام هذا الحديث ضعيفا فإنا إما أن نرجع إلى أهل الطب في الأمر، وما هي الجلسة التي تكون أهون لخروج الخبث، وإما أن يكون الإنسان طبيب نفسه، هل إذا قعد مستقيما يكون أريح له وأسهل لخروج الخبث؛ أو إذا انحرف يسيرا، أو إذا اتكأ على اليمنى يسيرا، أو على اليسرى يسيرا، الإنسان طبيب نفسه في هذا وهو يعلم. فإذا قال أهل الطب: إن الأحسن الجلسة الفلانية، وليس في الشريعة ما يدل على جلسة معينة، فإننا نأخذ بكلامهم؛ لأن هذه المسائل تتعلق بصحة البدن تعلقا كبيرا، والمرجع فيما يتعلق بصحة البدن إلى من؟ إلى الأطباء، لكن لو فرض أنه تعارض قول الطبيب وما جاءت به السنة قدم ما جاءت به السنة؛ ولهذا لما وصف النبي صلى الله عليه وسلم للرجل المبطون العسل، فشرب العسل؛ فزاد بطنه انطلاقا؛ فجاء أخوه إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام- قال له: يا رسول الله، أخي شرب العسل، ولكن زاد بطنه، قال: "صدق الله وكذب بطن أخيك". فأي مادة أو قاعدة أو ضابطة يعارض ما صحت به السنة وجاء القرآن من الطب فإننا لا نقبله؛ لأن الكلام صدر ممن - إذا كان في الكتاب والسنة-؟ من الله عز وجل وهو العليم الخبير، وما يقوله الأطباء فهو إما عن تجارب، أو عن قرائن قد تخطئ وقد تصيب. على كل حال: لو صح هذا الحديث لقلنا به، وقلنا: يستحب للإنسان أن يفعل هذا، وأما إذا لم يصح فقد كفينا إياه؛ ولهذا ينبغي لنا عند المناظرة والمجادلة أن نهدم الدليل من أصله قبل كل شيء، قبل المجادلة في معناه، فإذا لم يكن في القرآن ولا في السنة المعلومة الصحة، قلنا لمن أدلى به: نطالبك بصحة الدليل كما كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجادل الرافضي في منهاج السنة بهذه العبارة أو ما يسوق كلام الرافضي يقول: الوجه الأول أننا نطالبك بصحة الدليل، وإذا لم يصح الأصل بقي الفرع، وهذه قاعدة قد بينه الإنسان إذا أورد عليه المجادل حديثا ربما أن هذا المجادل لا يعلم عن صحة الحديث فيظنه صحيحا ثم ينبهت، وما أكثر المجادلين أهل البدع، وأعني بذلك: أهل البدع الذين يأتون بالأحاديث الضعيفة، ولذلك أدمغ رءوسهم قبل كل شيء بالمطالبة بصحة النقل، ثم إذا ثبتت صحة النقل حينئذ نتكلم في المدلول. 98 - وعن عيسى بن يزداد، عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات". رواه ابن ماجه بسند ضعيف.

أولا: "عيسى بن يزداد"، هل "يزداد" مصروفة أو لا؟ الجواب: لا، ليست بمصروفة، والمانع لها من الصرف العلمية ووزن الفعل. هذا الحديث يقول فيه: "إذا بال" أي: إذا فرغ من بوله، "فلينتر ذكره ثلاث مرات" يعني: ليهزه من الداخل كأنما يتعصره ثلاث مرات، وذلك من اجل أن يخرج ما بقي من البول، لكن هذا الحديث - والحمد لله- ضعيف؛ ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان كذلك فإن النتر ليس بسنة، ولذلك صرح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأن النتر بدعة لعدم صحة السنى به؛ ولأن ذلك أيضا قد يؤدي إلى أن يكون في الإنسان سلس أو وسواس كما هو معروف. لكن لو قال قائل: دعونا من هذا الحديث، إذا كان الإنسان جرت عادته أنه لا يفرغ البول في قنوات البول إلا بالنتر فهل يقولون: إنه مستحب؟ هنا نقول: ربما يقال بذلك، لكن هذا ليس عاما للناس، بل يختص به أحد دون الآخر، وإلا فالأصل أن النتر بدعة يؤدي إلى الوسواس وتشديد لا ينبغي أن يفعله. 99 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء فقال: إالله يثني عليكم، فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء". رواه البزار بسند ضعيف، وأصله في أبي داود والترمذي. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء" قباء: مكان معروف في المدينة يقع في الجنوب الشرقي، وهو حي معروف نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم أول ما نزل المدينة في الهجرة، وأقام فيه المسجد، وهو المذكور في قوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة: 108]. وهذا في مقابل مسجد الضرار الذي بناه المنافقون من اجل تفريق المؤمنين، كما قال تعالى: {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرار وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله} [التوبة: 107]. وقد بنوا هاذ المسجد بناء على مشورة من أبي عامر الفاسق المنافق على أنه يريد أن يجمع الناس إليه لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم، وادعى أنه إنما بناه من أجل أن يخفف على الكبار والمرضى ونحوهم حتى لا يتكلفوا الذهاب إلى مسجد قباء الذي أسس على التقوى، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغهم من بنائه يطلبون منه أن يصلي فيه، وكان صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة يتجهز إلى غزوة تبوك، فاعتذر بأنه على جناح سفر، وأنه إذا رجع صلى فيه، لما رجع إلى المدينة من غزوة تبوك ولما يبقى عليه إلا ساعات يسيرة نزل الوحي وهو قوله تعالى: {والذين

اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل}، وهم يدعون أنهم إنما اتخذوه رفقا بكبار السن، وما أشبه ذلك؛ فنهاه الله. أما مسجد قباء فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج كل يوم سبت راكبا أو ماشيا فيصلي فيه. ورغب صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيه إذا تطهر الإنسان في بيته وخرج إلى هذا المسجد وصلى فيه ركعتين أو ما شاء الله، كان كمن أتى بعمرة. أهل قباء وصفهم الله تعالى بأنهم يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين، فقال: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيهفيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} [التبة: 108]. أثنى الله عليهم بأنهم رجال بمعنى الرجولة الحقيقية، وأنهم يحبون أن يتطهروا من الأنجاس والأحداث والذنوب، {والله يحب المطهرين}، أي: الذين يتطهرون، فسألهم النبي لماذا أثنى الله عليهم؟ قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء، أيهما التابع وأيهما المتبوع؟ الماء تابع، والحجارة متبوع، يعني: إذا استجمروا بالأحجار استنجوا بالماء، وهذا وجه ثناء الله تعالى عليهم. فيستفاد من هذا الحديث فوائد منها: أن الجمع بين الاستجمار والماء أفضل من الاقتصار على أحدهما، فإذا اقتصر على أحدهما فأيهما أفضل الماء أو الحجارة؟ قال العلماء: الماء أفضل؛ لأنه أنقى وأطيب، والمقصود: الإنقاء، فمتى حصل إنقاء أكثر وأشد كان أولى وأدنى من ذلك الأحجار لكنها مطهرة، كما سبق أن الاستجمار الشرعي الذي يكون ثلاث مسحات منقية فأكثر يكون مطهرا. ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ ولهذا سألهم لماذا أثنى الله عليهم. ومن فوائد هذا الحديث: أن الأعلى منزلة ومرتبة قد يستفيد ممن دونه؛ لأن قوله تعالى: {يحبون أن يتطهروا} لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم هذا التطهر، وإنما أخذ المعنى من هؤلاء، فيستفاد منه: أن الأعلى مرتبة ومنزلة يستفيد من الأدنى، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان ألا يحقر غيره، بل أن يتعلم منه؛ لأن فوق كل ذي علم عليم، ورب علم عند شخص دونك بمراتب لا تدركه أنت. ومن فوائد هذا الحديث: أن أفعال الله عز وجل لا تحتاج إلى توقيف؛ بمعنى: أن كل شيء في الكون يخلقه الله لا بأس أن تصفه - تبارك وتعالى- بهذا الأمر الذي فعله فمثلا "يثني". لو قال قائل: هل من أسماء الله المثنى؟ قلنا: لا، لكنه - سبحانه وتعالى- فعل من فعله بأن أثنى على هذا كذلك الخالق الرازق وغير ذلك من كل أفعال الله لا بأس أن تسندها إلى الله، وإن لم تأت في الكتاب والسنة ما دام إسنادها إلى الله صريحا صحيحا. فإن قال قائل: ذكرت أن أول مسجد {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم

فيه} ذكرت أنه مسجد قباء، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه المسجد النبوي حيث قال: "إنه مسجدي هذا". فالجواب: أن العلماء اختلفوا أيهما يكون؟ والصواب: أن لا منافاة، فإن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أسس على التقوى من أول يوم وصل المدينة فيه لا شك، فيكون المسجدان كلاهما أسس على التقوى من اول يوم، مسجد قباء من أول يوم وصل إلى قباء، ومسجد المدينة من أول يوم وصل إلى المدينة، ثم بعد ذلك نرجح أيهما أفضل؟ لا شك أن المسجد النبوي أفضل؛ ولهذا تشد الرحال إليه، ولا تشد الرحال إلى مسجد قباتء فهو أفضل، فيكون المسجدان اشتركا في أن كل واحد منهما أسس على التقوى من أول يوم، وانفرد المسجد النبوي بأنه يجوز شد الرحال إليه بخلاف مسجد قباء، قال: 100 - وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة رضي لله عنه بدون ذكر الحجارة. يعني: أنهم ذكروا أنهم يسنجون بالماء فقط، ولا يستعملون الحجارة، ولكن الأمر كما بينا قبل قليل على الترتيب الجمع بين الماء والحجارة أفضل من الماء، والماء أفضل من الحجارة، وهذا معلوم من المعنى، وإن كان ليس هناك نص يبين هذا الترتيب لكنه معلوم من المعنى، وبهذا انتهى الكلام على باب الاستنجاء، ونعود إلى هذا الباب ونذكر ماذا استفدنا منه: أولا: استفدنا منه ما يسن عند دخول الخلاء، وهو أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". ثانيا: استفدنا منه ما يقوله إاذ خرج من الخلاء وهو: "غفرانك"، أما في ذكر البسملة عند الدخول فهذه ورد فيها حديث ولكنه ليس بذاك القوي: "ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخلوا الكنيف أن يقولوا: بسم الله". وكذلك أيضا "غفرانك". ورد في بعض الأحاديث زيادة: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني". ويذكر عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول: "الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأذهب عني أذاه". يشير إلى الغذاء من طعام وشراب. ثالثا: استفدنا أيضا تحريم التغوط فيما يكون أذى للناس أو ضررا عليهم.

رابعا: استفدنا أيضا جواز استخدام الغير في إعداد الأحجار التي يستجمر بها، وأن ذلك لا ينافي الحياء؛ لأنه فعله من هو أشد الناس حياء وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. خامسا: استفدنا أيضا أنه يكره على رأي الجمهور مس الذكر باليمين حال البول والتمسح من الخلاء به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وسبق أن العلماء اختلفوا هل النهي للتحريم أو للكراهة. سادسا: استفدنا أيضا أنه لابد من أن يكون الاستجمار بثلاثة أحجار فأكثر، والاستنجاء لم يرد فيه العدد؛ لأن المقصود: إزالة الأذى والقذر بواحدة أو اثنين أو ثلاث أو أكثر، واختلف العلماء هل البول كالغائط لابد فيه من ثلاث مسحات، أو يكفي مسحة واحدة إاذ طهر بها المحل؟ والجمهور على أنه لابد من ثلاث مسحات في البول والغائط أيضا. سابعا: استفدنا مما مر أن الاستنزاه من البول واجب، وكذلك من الغائط، وأن أكثر عذاب القبر من البول، أي: من عدم التنزه منه. ثامنا: استفدنا أيضا أنه لا يجوز الاستجمار بما يكون محترما من طعام لنا أو لدوابنا، من أين أخذنا هذا؟ من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستجمار بالعظام؛ لأنها طعام الجن، وعن الاستجمار بالروث؛ لأنها طعام بهائمهم، ولا شك أن الإنس أكرم من الجن. أسئلة: - هل النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس خاتم ولماذا؟ وما الذي كتب فيه؟ - هذا الحديث على ما قيل فيه، ما الذي يدل عليه؟ يعني: مجرد فعل الرسول في الترك يدل على الكراهة؟ - كم وجها في الخبث، وما معناها، وأيهما اولى؟ - ما الذي يدل عليه تواري النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة؟ - لماذا سمى من يتغوط في طريق الناس باللاعنين؟ - وهل يجوز أن نقول إذا رأينا غائطا في السوق: اللهم العن من فعل ذلك؟ - ما هو الضابط في استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة؟ - ما دليلك على جواز الاستدبار في البنيان؟ - لو قال قائل: تعارض قول الرسول وفعله؟ - وجه تقديم القول على الفعل مع إمكان الجمع؟ - لماذا نهي عن استقبال القبلة واستدبارها؟ لتعظيم بيت الله؛ ولئلا يستوي من كان في الصلاة ومن كان في الأذى، ولهذا قلنا: الاستدبار أهون. - ما هو الدليل على أنه يجوز الاقتصار على الماء دون الاستجمار؟

8 - باب الغسل وحكم الجنب

8 - باب الغسل وحكم الجنب "الغسل" يقال: بالضم، ويقال: بالفتح، ويقال: بالكسر، فهل هي لغات أو لكل حركة معنى؟ الأطهر أن لكل حركة معنى. أولا: الغسل: التطهير؛ ولهذا نقول: غسل ثوبه من النجاسة غسلا. ثانيا: الغسل: استعمال الماء - يعني: الاغتسال- على صفة مخصوصة يسمى غسلا: ثالثا: الغسل: ما يخلط بالماء من إشنان أو نحوه لتكميل الاغتسال لتكميل تنظيفه يسمى غسلا بالكسر، فصارت الحركات ثلاث والمعاني تختلف. ومن اللغويين من قال: إن الأمر في هذا واسع، وأنه يجوز الغسل والغسل سواء للفعل أو للاغتسال. أما الجنب: فكل من جامع أو أنزل يسمى جنبا، وأصله: من جانب المار محله، وهذا يحصل بالإنزال على وجه ظاهر؛ وبالجماع لأنه سببه. الجنابة من موجبات الغسل: 101 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء". رواه مسلم، وأصله في البخاري. "الماء من الماء" يعني: هذا يسميه البلاغيون: الجناس، يعني: أن تأتي كلمتان لفظهما واحد، ومعناهما مختلف؛ الماء الأول ماء الاغتسال، والماء الثاني المني؛ لأن المني كما قال الله - تبارك وتعالى-: {فلينظر الإنسن مم خلق خلق من ماء دافق} [الطارق: 5، 6]. وقال الله - تبارك وتعالى-: {والله خلق كل دابة من ماء} [النور: 45]. كل شيء يدب صغيرا أو كبيرا فإن أصله الماء، لكن ماء كل شيء بحسبه؛ ماء الحيوانات الكبيرة يختلف عن ماء الحيوانات الصغيرة، وإلا فالأصل أن جميع الدواب من الماء. وأما قوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء: 30]. فهو مثل قوله: {والله خلق كل دابة من ماء}، يعني: كل شيء حي فأصله الماء، والعوام يؤولون الآية على معنى آخر يقولون: إن كل شيء يحيا بالماء، وهذا غلط، هذا تحريف للقرآن؛ لأن الله إذا أراد ذلك لقال: "وجعلنا من الماء كل شيء حيا" يعني: صيرناه حيا بالماء، لكن معنى الآية: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} أي: أن كل حي فأصله من الماء، فهو يطابق قوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء}. إذن معنى: "الماء من الماء" يعني: إذا نزل المني وجب الاغتسال، وانظر الكناية من النبي - عليه

الصلاة والسلام - حيث قال: الماء من اماء"، قد يقول قائل: إن هذا ليس فيه بيان؛ لأن الأول يصدق في الوضوء مثلا؛ لأن المتوضئ قد يستعمل الماء فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كنى بهذا يخاطب قوما يعلمونه ويفهمونه، وإذا كانوا يعلمونه ويفهمونه فهذا غاية البيان، المسألة في غاية البيان؛ لأنه يخاطب أناسا يفهمون هذا الماء من الماء له منطوق، المنطوق الأول أنه متى نزل المني وجب الغسل هذا المنطوق. وظاهر الحديث أنه سواء نزل المني بشهوة أو بغير شهوة، ولكن هذا غير مراد، بل المراد: "الماء الدافق"، والماء الدافق هو الذي يخرج بشهوة، أما لو خرج الماء - يعني: المني- بغير شهوة كروعة وسقطة ومرض وما أشبه ذلك؛ فإنه لا يوجب الغسل فلابد أن يكون ماء دافقا، وهذا لا يكون إلا مع الشهوة، وعموم هذا الحديث يشمل ما إذا كان الإنوال بتفكير "الماء من الماء" أو بتقبيل أو بنظرة أو بلمسة، على أي حال: متى نزل الماء الدافق فإنه يجب الغسل سواء كان يقظة أو مناما، وسوف يأتي ذلك إن شاء الله. مفهوم الحديث: إذا لم يكن ماء فلا ماء؛ يعني: إذا لم يكن إنزال فلا غسل، وهذا المفهوم يعم ما إذا جامع الإنسان زوجته ولم ينزل فإنه لا غسل عليه، ولكن هذا الحكم يعارضه بما أردفه المؤلف رحمه الله بهذا الحديث. 102 - وعن أبي هريرة رضي الله عه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها؛ فقد وجب الغسل". متفق عليه. وزاد مسلم: "وإن لم ينزل". "إذا جلس" يعني: الرجل، والذي علين الرجل مرجعا للضمير السياق، وهو قوله: "بين شعبها" أي: المرأة، المراد بالجلوس هنا: الجلوس للجماع والتهيؤ له، وقوله: "شعبها الأربع" قيل: إنها فخذاها وساقاها، وقيل: بل رجلاها ويداها، وهذا الأخير هو المتعين؛ لأن الجلوس للجماع يكون بين هذه الأربع، الرجلين وعددهما اثنتان، واليدان وعددهما اثنتان، وقوله: "ثم جهدها" أي: بلغ منها الجهد؛ أي: الطاقة، وهذا يكون بالإيلاج، فإنه يبلغ منها جهدا ومشقة، لاسيما إذا كانت بكرا، المهم على كل حال أن يكون هناك مشقة على المرأة. قوله: "فقد وجب الغسل" على من؟ عليهما جميعا؛ لأن الرسول ذكر فاعلا ومفعولا به. وقوله: "وجب الغسل"؛ أي: على هذا وعلى هذا، وليس المراد على الجل وحده، ولا على المرأة وحدها، بل على الجميع. قال: "متفق عليه، وزاد مسلم: "وإن لم ينزل"، وهذه الزيادة لا شك أنها مفيدة؛ لأن الأول

الذي اتفق عليه الشيخان يدل على وجوب الغسل سواء أنزل أو لم ينزل، لكن ليس فيه التصريح بعدم الإنزال، فإذا جاء التصريح بعدم الإنزال فإنه يكون أوضح وأبين، لماذا؟ لأننا لو اقتصرنا على قوله: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل" لأمكن لقائل أن يقول: فقد وجب الغسل إذا أنزل، ويجعل الحديث الذي قبله مقيدا له، لكن إذا جاءت لفظ: "وإن لم ينزل" انقطع هذا التأويل، وصار المعنى: أنه إذا جامع سواء أنزل أم لم ينزل. فإن قال قائل: هل بين الحديثين تعارض؟ فالجواب: لا تعارض بينهما؛ لأن دلالة عدم وجوب الغسل من الحديث الأول دلالة مفهوم، قال الأصوليون: والمفهوم تحصل الدلالة فيه إذا وقعت المخالفة في صورة واحدة، يعني: أنه لا عموم له، هذا معنى ما قلت: المفهوم لا عموم له، وإذا كان لا عموم له فإنه لا ينافي هذا؛ لأن قوله: "الماء من الماء" مفهومه: ولا ماء مع عدم الماء، نقول: نعم هذا ما لم يجامع؛ لأن الإنسان قد يستمتع بزوجته استمتاعا بالغا لكن دون الجماع، ويكون الماء قد تهيأ للخروج ولا يخرج، فيصدق بهذه الصورة، والمفهوم إذا صدق بصورة واحدة كفى العمل به على أنه قد روي أن قوله: "الماء من الماء" كان في أول الأمر ثم نسخ وصار الغسل يجب إما من الجماع، وإما من الإنزال. في هذا الحديث فوائد منها: التكنية عما يستحيا من ذكره لقوله: "إذا جلس بين شعبها الأربع"، ومعلوم أن الرسول - عليه الصلاة والبسلام- لا يريد أن يجلس على أليته على شعبها الأربع، لا يريد هذا قطعا، وإنما هو كناية عن الجماع. ومن فوائد هذا الحديث: أن الغسل واجب إذا حصل الجهد، وهذا لا يتحقق إلا إذا التقى الختانان، ختان الرجل وختان المرأة، وهو كناية عن تغييب الحشفة في الفرج، فمتى حصل التغييب وجب الغسل، وأما ما دون ذلك فإنه لا يوجب الغسل إذا لم يكن إنزال؛ يعني: لو أن الرجل وضع رأس ذكره على حافة فرج الأنثى ولم ينزل فليس عليه غسل، لماذا؟ لأنه لم يجهدها ولا تحس بهذا ايضا؛ يعني: من حيث المشقة. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره وجوب الغسل سواء كان بحائل أو بغير حائل؛ لأنه إذا غيب ذكره في فرجها بحائل سيبلغ منها الجهد، وإلى هذا ذهب كثير من العلماء، وقال بعض العلماء: لا يجب مع الحائل؛ لأن في بعض الألفاظ: "إذا مس الختان الختان"، والمس لا يصدق إلا إذا كان بغير حائل؛ ولأن الأصل عدم الوجوب، لكن لو حصل إنزال وجب الغسل بالإنزال.

الاحتلام وأحكامه

الاحتلام وأحكامه: 103 - وعن أنس رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل- قال: تغتسل". متفق عليه. - زاد مسلم: فقالت أم سلمة: "وهل يكون هذا؟ قال: نعم، فمن أين يكون الشبه؟ ". قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل" هذا الحديث نقله المؤلف بالمعنى وأصله: أن أم سليم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتملت؟ " فتأمل هذا الأدب الرفيع من هذه المرأة؛ حيث خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم وقدمت لخطابها ما يقيم لها العذر، وهو قولها: "إن الله لا يستحي من الحق"، فأجابها النبي - عليه الصلاة والسلام-: "بأنها تغتسل إذا رات الماء"، والمؤلف رحمه الله نقص هذه العبارة مع أنها مهمة وضرورة، فالمرأة ترى في المنام أن أحدا يجامعها فهل تغتسل أو لا؟ كذلك الرجل يرى في المنام أنه يجامع امرأة، فهل يغتسل أم لا؟ حدد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بحد بين واضح قال: "نعم، إذارأت الماء" يعني: رأت الماء الذي هو الجنابة؛ أي: المني فتغتسل. زاد مسلم: فقالت أم سلمة وهي إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل يكون هذا؟ " قال: نعم، فمن أين يكون الشبه؟ " يعني: هل المرأة لها ماء كماء الرجل؟ قال: "نعم"، ثم أتى بدليل حسي واقعي: وهو الشبه، فإن الإنسان يشابه أمه ويشابه أباه، فقال الرسول - عليه الصلاة والسلام-: "فمن أين يكون الشبه؟ " لولا أن ماء الرجل يخالط ماء المرأة ما كان هناك شبه للطفل بأمه. فالحديث فيه فوائد منها: الأدب العالي للصحابة - رضي الله عنهم- وذلك يتمثل في قول أم سليم: "إن الله لا يستحي من الحق". ومنها: وصف الله تعالى بالحياء لقولها: "لا يستحي من الحق"، ولو كان الحياء ممتنعا على الله لامتنع عليه الحياء مطلقا من حق وغير حق، فلما نفى أن يستحي من الحق دل على أنه تعالى يستحي من غيره، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أن الله يوصف بالحياء، وهو صفة حقيقية ثابتة لله على الوجه اللائق به، وليس كحيائنا نحن، بل بينه وبين حيائنا كما بين الإنسان وذات الله عز وجل، فهو لا يشبه حياء المخلوقين، وبهذا الطريق وعلى هذا الأساس نسلم من كل شبهة، وتطمئن قلوبنا أيضا؛ لأن مذهب أهل السنة - والحمد لله- هين سهل، فيه براءة للذمة، وفيه إعمال للنصوص كلها، فنحن نثبت الحياء لله على وجه يليق به ولا يشبه حياء المخلوقين، وقد ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام- وصف الحياء إثباتا لا نقيا؛ حيث قال:

"إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا". فقال: إن الله حيي كريم. فإن قال قائل: إن الله لا يوصف إلا بالكمال، فهل الحياء كمال؟ فالجواب: نعم، هو كمال؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحياء شعبة من الإيمان". والإيمان كمال، زقال - عليه الصلاة والسلام-: "إن مما ادرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت". وهذا الحديث له معنيان: المعنى الأول: أن الذي ليس عنده حياء يصنع ما يشاء وإلا يبالي. والمعنى الثاني: أنك إذا أردت أن تفعل شيئا وهو لا يستحيا منه فافعله: "اصنع ما شئت"، وكلا المعنيين صحيح. فإن قال قائل: هل من الحياء أن يسكت الإنسان عن الشيء من دين الله يشكل عليه؟ فالجواب: لا، ليس هذا من الحياء، بل هذا من الخوف والجبن وضعف الشخصية، والواجب: أن يسأل الإنسان عن كل شيء يتعلق بدينه، لاسيما بعد أن انقطع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم فإننا الآن قد آمنا أن ينزل الوحي بتحريم شيء حلال أو إيجاب شيء غير واجب، فليسأل ولا يستحي نعم، إذا كان الشيء مما يستحيا من التصريح به فليكني عنه، وباب الكناية واسع، وإذا كان مما لابد أن يصرح به لكن أراد الإنسان أن يكون السؤال بينه وبين المسئول فليؤخر لا بأس، أما إذا كان خاليا من هذا فإن الحياء يعني الجبن، وضعف الشخصية، وهو حرام بهذه المثابة، الواجب على الإنسان أن يسأل كما أمر الله تعالى: {فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43]. ومن فوائد هذا الحديث: أن النساء يحتلمن كما يحتلم الرجال لقولها؛ رضي الله عنها" "هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت"، و"إذا" في الغالب تقال للشرط المحقق، لكنها شرط للزمان لا للوقوع، بخلاف "إن" فإنها شرط للوقوع. ومن فوائد هذا الحديث: أن الاحتلام بلا إنزال لا يجب فيه الغسل حتى لو أحس الإنسان باللذة ولكن لم يخرج شيء فلا غسل عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد هذا بما إذا رأت الماء. ومن فوائد هذا الحديث: أنها - أي: المرأة- ومثلها الرجل لو رأى بعد استيقاظه أثر الجنابة وتيقن أنه مني وجب عليه الغسل، وإن لم يذكر احتلاما؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مدار

الحكم على رؤية الماء، وهذا يقتضي أنه متى رؤي الماء وجب الغسل؛ ولهذا قيد بعض الفقهاء هذه فقال: من موجبات الغسل: خروج المني دفقا بلذة من غير نائم، وقصده بذلك: أن النائم قد ينزل ولا يحس بنفسه، لكنه إذا استيقظ رأى أثر الجنابة فهنا يجب الغسل. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجب الغسل بانتقال المني إذا لم يخرج لقوله: "إذا هي رأت الماء". وهذا القول هو الراجح، وقد ذهب بعض أهل العلم إى أن المني إذا انتقل ولكن لم يخرج لفتور الشهوة أو لغير ذلك من الأسباب فإنه يجب عليه الغسل، لكن هذا قول ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد وجوب الغسل برؤية الماء؛ لأن الشيء في باطنه لا يعتبر شيئا؛ ولهذا أجسامنا ممتلئة بالعذرة، وممتلئة بالبول، ولا يكون هذا نجسا، حتى إن العلماء ضربوا مثلا، قالوا: لو أن رجلا حمل وهو يصلي قارورة فيها نجاسة، وظاهرها طاهر مفصول والغطاء محكم؛ فالصلاة غير صحيحة، ولو حمل طفلا فالصلاة صحيحة، مع أن بطنه مملوء بالقاذورات؛ لأن الشيء في معدنه ليس له حكم. فائدة: هل الإحساس بانتقال الحيض كخروجه؟ إذن نقول: هذا الحديث يدل على أن الإنسان لو أحس بانتقال المني لقوة شهوته ولكن لم يخرج فلا غسل عليه، وهل مثله انتقال الحيض؛ يعني: لو أن المرأة أحست بانتقال الحيض لكن لم يخرج الدم فهل نقول: انتقاله كخروجه؟ الجواب: إن قلنا: إن انتقال المني كخروجه، صار انتقال الحيض كخروجه، وإن قلنا: لا، صار انتقال الحيض ليس كخروجه، وتظهر الفائدة في امرأة صائمة أحست قبل غروب الشمس بقليل بأن الحيض انتقل، ولكن لم يخرج إلا بعد غروب الشمس؛ فعلى القول بأن الانتقال كالخروج يكون صومها باطلا، وعلى القول الراجح صومها صحيح؛ لأنه لم يخرج إلا بعد غروب الشمس. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجب الغسل مع الشك؛ يعني: إاذ وجد النائم بللا بعد استيقاظه ولا يدري أهو جنابة أم بول أم مذي ما يدري، هل يجب عليه الغسل أم لا؟ لا يجب. من أين نأخذ هذا؟ من قوله: "إذا رأت الماء". لم يقل: إذا ظنت الماء، أو إذا غلب على ظنها، قال: "إذا رأت الماء"، فإذا استيقظ النائم ورأى بللا ولا يدري أهو عرق، أو بول، أو مذي، أو

سائل آخر أو مني، فليس عليه غسل، ولكن هل يجب عليه ان يغسل ما أصابه؟ نقول: نعم يغسله احتياطا، أما الغسل فلا يجب، ولا فرق في ذلك بين أن يتقدم نومه ما يثير الشهوة أو لا ما دام على شك، فالأصل براءة الذمة، وهذا الحديث يدل على ما ذكرنا. ومن فوائد الحديث: الفائدة العظيمة وهي أن الشريعة الإسلامية مبنية على الحقائق لا على الأوهام، ولا على الظنون إلا فيما طلب من الإنسان فعله فلا حرج عليه أن يبني عل ظنه أنه أتى بالفعل المطلوب، لكن الأوهام الطارئة على أصل ثابت هذه لا عبرة بها في الشريعة، وهذه قاعدة من أحسن قواعد الإسلام حتى يبقى الإنسان غير متحير ولا قلق، وإلا لبقي الإنسان في أوهام لا نهاية لها، أما ما طولب الإنسان به وغلب على ظنه أنه اداه فإن الظن يكفي ولهذا قلنا: إذا شك هل طاف سبعة أشواط أو ستة وغلب على ظنه أنها سبعة، كم تكون؟ سبعة، كذلك أيضا في الصلاة شك هل صلى ثلاثا أو أربعا وغلب على ظنه أنها أربعا فهي أربعا، لكن الصلاة فيها سجود السهو، والطواف ليس فيه سجود السهو؛ لأن أصله ليس فيه السجود فكذلك سهوه. المهم: أن هذه من نعمة الله عز وجل أن الشريعة الإسلامية تحارب القلق محاربة تامة، والحمد لله هذا من تيسير الله، لو أن الإنسان كلما أصيب بما يوجب الشك ذهب مع الشك ما قر له قرار ولا اطمأن له بال، لكن من نعمة الله هو ما ذكرته لكم، كذلك مر علينا من قبل قصة الرجل الذي يجد في نفسه شيئا ويشكل عليه أخرج منه أو لا فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". ومن فوائد هذا الحديث - ولا سيما زيادة مسلم-: جواز استكشاف الأمر حتى من الكبراء؛ بمعنى: أن الإسلام جعل للإنسان الحرية أن يستكشف عن الأمر الذي يمكن إدراكه وذلك في قول أم سلمة: "هل يكون ذلك" وهي تخاطب الرسول، وهي تعلم رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر أن المراة تحتلم؛ لأنه من لازم حكمه أن عليها الغسل إذا رأت الماء أن يكون الاحتلام واقعا، فهي قد عرفت أن الرسول أقرها لكن استكشفت كيف يكون ذلك، وهل يكون؟ فمن فوائده: جواز الاستكشاف عما يمكن إدراكه وبيانه، أما ما لا يمكن فالاستكشاف عنه غلط؛ ولهذا قال الإمام مالك رحمه اله في الذي سأل عن كيفية الاستواء قال: السؤال عنه بدعة لكن ما يمكن إدراكه لا بأس أن تسأل. ومن فوائد هذا الحديث: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم التواضع الجم؛ حيث إن زوجته تتكلم تقول:

هل يكون هذا؟ وربما يظن السامع أنها تعترض وحاشاها من ذلك، ولكنها تريد أن تستكشف، بينما لو أن أحدنا كلمته زوجته في مثل هذا جاءت امرأة تستفتيه وقال: عليك كذا وكذا، فقالت الزوجة: كيف يصير علي كذا وكذا هل يمكن؟ ماذا يقول؟ على كل حال هذا: من خلق النبي - عليه الصلاة والسلام- وحسن سيرته، ولكن يا إخوان إذا مر عليكم مثل هذا وقيل: هذا من سيرة الرسول، هذا من خلقه، هل المراد أن تعلموه علما نظريا؟ لا، أبدا المراد أن تطبقوه، وإلا فما الفائدة، فينبغي للإنسان أن يمارس مثل هذه الأمور، وأن يعود نفسهعلى ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتاده في أهله. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي تعداد الأدلة وتنويعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعم"، وهذا دليل شرعي يكتفى به عند كل مؤمن، وأضاف إلى هذا الدليل دليلا حسيا، وهو قوله: "فمن أين يكون الشبه؟ ". ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للمستدل أن يذكر الدليل الذي يقتنع به المخاطب من الناحيتين الشرعية والحسية وكذلك العقلية إذا أمكن؛ لأنه كلما ازدادت الأدلة ازداد الإنسان طمأنينة، ويدل لهذا الأصل العظيم: أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال: {رب أرني كيف تحي الموتى}، فقال الله له: {أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260]. فليس الخبر كالمعاينة، فأراه الله عز وجل ذلك فيما أمره به أن يفعل ففعل؛ فرأى كيف يحيي الله الموتى عز وجل. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ربما يستدل بالشبه على ثبوت النسب لقوله: "فمن أين يكون الشبه؟ "، ويؤيد هذا ما ورد في قصة عتبة بن أبي وقاص حينما زنى فولد له ولد من الزنا، فلما مات عتبة تنازع اخوه سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة في هذا الولد الذي ولد، عبد بن زمعة قال: يا رسول الله، هذا أخي ولد على فراش أبي، وقال سعد: هذا ابن أخي عتبة عهد به إلي، وقالسعد للرسول - عليه الصلاة والسلام-: يارسول الله، انظر شبهه، فنظر إليه النبي - عليه الصلاة والسلام- فراىشبها بينا بعتبة فأعمل هذا الشبه لم يلغه، ولكنه احال الحكم على سبب أقوى وهو الفراش، فقال - عليه الصلاة والسلام-: "الغلام لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر"، فثبت الآن أن هذا الغلام أخ لسودة بنت زمعة، زوجة الرسول - عليه الصلاة والسلام-، ولكنه لما رأى الشبه بين لعتبة قال لها: "احتجبي منه يا سودة". فهنا أعمل الشبه، مع أن الولد شرعا الذي حصل فيه التنازع لمن؟ لزمعة شرعا، يرثه إخوانه ويرثونه

استحباب الاغتسال من تغسيل الميت

وبينهما محرمية، لكن أعمل النبي صلى الله عليه وسلم الشبه وجعل سودة تحتجب منه من باب الاحتياط نظرا لهذا الشبه، فدل ذلك على اعتبار الشبه في الأمور الاحتياطية. أسئلة: - سبق لنا أن الاحتلام يوجب الغسل لكن بشرط؟ - هل يقاس على المرأة الرجل؟ - إذا احتلم الرجل ورأى الماء هل يجب عليه الغسل؟ - لو أن نائما احتلم ولم ير شيئا ما الحكم؟ - لو رأى أثر الجنابة ولم يذكر احتلاما هل يجب الغسل؟ - رجل أحس بشهوة وأن الماء انتقل من موضعه ولكن لم يخرج أعليه شيء؟ - وامرأة أحس بانتقال الحيض ولكن لم يخرج هل عليها الغسل؟ - رجل أحس بأن بوله انتقل من المثالنة إلى قصبة الذكر ولكن لم يخرج شيئا؟ استحباب الاغتسال من تغسيل الميت: 104 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت". رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة. قالت: "كان يغتسل" قال العلماء - رحمهم الله-: أن "كان" إذا كان خبرها فعلا فإنها تفيد الدوام الغالب لا المستمر، فإذا قال: "كان يفعل كذا"؛ فإن هذا يدل على أن هذا غالب أحواله، وليس حتما أنه مداوم عليه، فإطلاق بعضهم قول: "كان" تفيد الدوام ليس مرادا والدليل على هذا أن الصحابة - رضي الله عنهم- قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسبح والغاشية. وفي حديث آخر: كان يقرأ بالجمعة والمنافقين. قولها: "يغتسل من أربع" "من" هنا للسببية؛ أي: بسبب أربع، وبينتها بقولها: "من الجنابة" وهذا بدل من قولها: "من أربع"، ولكنه بإعادة العامل وهو من الجنابة، والجنابة تفسر بأمرين: إما بالإنزال، وإما بالجماع، والأصل أنها للإنزال، لكن ألحق بها الجماع شرعا لحديث أبي هريرة السابق.

حكم اغتسال الكافر إذا أسلم

"من الجنابة" وهي شرعا إنزال المني بشهوة أو بجماع. وقولها: "ويوم الجمعة" يعني: ويغتسل يوم الجمعة لليوم أو للصلاة؟ للصلاة؛ لأنه لو كان لليوم لكان الغسل جائزا في أول النهار وفي آخر النهار، ولكنه للصلاة. وقولها: "ومن الحجامة" يعني: ويغتسل أيضا من الحجامة، والحجامة: إخراج الدم بصفة مخصوصة معلومة عند الحجامين. "ومن غسل الميت" يعني: إذا غسل الميت اغتسل، فهذه أربعة أشياء كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منها. أما غسله من الجنابة فهو فرض بالإجماع؛ لقول الله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6]. وهذه أول الفوائد أو من فوائد هذا الحديث: مشروعية الغسل من الجنابة؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم له، لكنه واجب بافجماع لقوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6]. وأما غسل يوم الجمعة يأتي إن شاء الله، الغسل من الحجامة ليس فيه إلا الفعل فيستفاد منه مشروعية الغسل من الحجامة لا وجوب الغسل على أن بعض العلماء ضعف هذا الحديث، وقال: إنه لا يسن الغسل من الحجامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ؛ ولأن الحجامة خروج دم من البدن فلا يشرع ل اغتسال كالرعاف. ومن فوائده: الاغتسال من تغسيل الميت، وهذا ليس بواجب، وإذا لم يصح الحديث فليس بمشروع، وسبق الكلام عليه في باب نواقض الوضوء، فلم يبق عندنا الآن إلا شيئان: الغسل من الجنابة وهو فرض، والغسل من الجمعة وفيه الخلاف الذي يأتي إن شاء الله. حكم اغتسال الكافر إذا أسلم: 105 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "في قصة ثمامة بن أثال، عندما أسلم وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل". رواه عبد الرازق، وأصله متفق عليه. ثمامة بن أثال الحنفي المشهور رضي الله عنه، كان كافرا فخرج إلى مكة معتمرا، فصادفته خيل النبي صلى الله عليه وسلم فأسروه وجاءوا به إلى المدينة وأسر في سارية المسجد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه بقوله: "ما عندك يا ثمامة؟ " فيقول: عندي خير إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم أنعمت على شاكر، وإن ترد المال فسل ما شئت، فتركه النبي - عليه الصلاة والسلام-، ثم في اليوم الثاني أتى إليه فقال: "ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي خير، إن تنعم تنعم على شاكر، وتركه في اليوم

الثالث أتى إليه، مر به وقال: "ما عندك؟ " قال: عندي خير وما قلت لك بالأمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أطلقوه"، فأطلقوه، فكان في هذا الإطلاق ملك له في الواقع، بمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم بمنه عليه بالإطلاق ملكه، ذهب الرجل إلا حائط واغتسل ودخل المسجد، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، أسلم ثم قال: يا محمد، والله ما كان على الأرض أحد أبغض إلي من وجهك؛ ولقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، وما على الأرض دين أبغض إلي من دينك؛ فأصبح دينك أحب الدين غلأي، وما في البلاد بلاد أبغض إلي من بلادك؛ فأصبحت بلادك أحب البلاد إلي، ثم قال: يا محمد، إن خيلك أخذوني وأنا أريد العمرة فما تأمرني - يعني: هل أمضي أو أرجع إلى قومي؟ -فقال له: "امض" وبشره بالخير، فمضى في عمرته. فلما دخل مكة سمعه أهل مكة يلبي لبيك اللهم لبيك، فقالوا له: لقد صبئت يا ثمامة، فقال: والله ما صبئت ولكني كنت مع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه، ثم قال لهم: والله لا يأتيكم مني جبة إلا بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أهل مكة يأتون منه بالحب؛ يعني: يمتارون منه، فأقسم ألا يعطيهم إلا بعد أن يأذن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن قريشا كتبوا إلى النبي - عليه الصلاة والسلام-: إنك لتصل الرحم وهذا ثمامة منع منا الحب، يستشفعون بالرسول - عليه الصلاة والسلام- فأرسل إليه وأمره أن يأذن لهم بالامتيار من عنده، فهذه قصة الرجل هذا الرجل أسر في سارية المسجد، وإنما أسر في هذه السارية من أجل أن يرى المسلمين وصلاتهم وتحابهم وتعاطفهم وأخلاقهم تأليفا له على الإسلام لا إهانة له؛ لأنه بالإمكان أن يربط خارج المسجد لكنه ربط بالمسجد من اجل هذه الفائدة العظيمة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر به ويسأله كما سمعتم. ففي هذا الحديث فوائد منها: جواز ربط الأسير بسارية المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك إن لم يكن أمر به. ومنها: ملاطفة الأسير والإحسان إليه؛ لأن في ذلك تأليف له على الإسلام، وقد عرفتم النيجة. ومنها: جواز مكث الكافر في المسجد؛ لأن ربطه بسارية في المسجد يستلزم مكثه، فاستدل بعض العلماء بهذا الحديث على جواز لبث الجنب في المسجد، وقالوا: إن الكافر حدثه أعظم من حدث الجنب؛ فإذا جاز لبثه في المسجد جاز لبث الجنب، ولكن هذا قياس في مقابلة النص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمكث الجنب في المسجد. بل قال الله تعالى: {ولا جنبا إلا عابري سبيل} [النساء: 43]. ومن فوائد هذا الحديث: أمر الكافر إذا أسلم بالاغتسال، هذا إن صح الحديث بهذا اللفظ،

غسل يوم الجمعة

وكما سمعتم أن الحديث في الصحيحين، لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكن هو الذي ذهب إلا أنه لا منافاة بينهما؛ لأن اغتساله قد يكون عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون في هذا الحديث دليل على أمر الكافر إذا أسلم بالاغتسال. وهذه المسألة اختلف فيها العلماء، منهم من قال: إن الأمر للاستحباب، والذي صرفه إلى الاستحباب العدد الكثير الذين كانوا يسلمون ولا يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال، ولو كان الاغتسال واجبا لكان هذا مما ينتشر بين الناس؛ لأن الذين يسلمون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كثير، وعلى هذا فيكون الأمر للاستحباب. ومنهم من قال: إن الأمر للوجوب؛ وعلل ذلك بأن الأصل في الأمر الوجوب؛ وكونه لم ينقل أنه لم يأمر كل من أسلم بالاغتسال لا يدل على العدم؛ لأن عدم النقل في أعيان من أمروا لا يدل على عدم الأمر، فلعل هذا كان أمرا مشهورا، وكان الرجل إذا أسلم اغتسل ولا يحتاج إلى أمر؛ ولأن ذلك أحوط وأبرأ للذمة؛ ولأن ذلك يعطي المسلم حافزا على التطهر من أدران الشرك، كما أمر أن يتطهر ظاهره فيكون تطهير ظاهره عنوانا على تطهير باطنه، وهذا القول لا شك أنه أقرب إلى الصواب أن كل من أسلم يؤمر وجوبا أن يغتسل. ولكن إذا لم يفعل فهل تصح صلاته بدون ذلك؟ الظاهر نعم؛ لأن هذا الاغتسال ليس عن حدث، وإنما هو من اجل تطهير ظاهره كما طهر باطنه، وقال بعض العلماء: إن كان قد حصل له في حال كفره ما يوجب الغسل وجب عليه أن يغتسل وإلا لم يجب سواء اغتسل في كفره أو لم يغتسل، وقال بعضهم: إذا حصل عليه ما يوجب الغسل في كفره فاغتسل لم يجب عليه الغسل بعد الإسلام وإلا وجب، لكن أقرب الأقوال هو الوجوب، لما في ذلك من بعث الهمة وتنشيطها وإشعاره بأنه يجب أن يتطهر الإنسان من الكفر في ظاهره وباطنه، أما بقية الفوائد في القصة فلا حاجة لذكرها، لأنها لم تذكر في الأصل. غسل يوم الجمعة: 106 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم". أخرجه السبعة. وهم البخاري، وميلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال: "غسل الجمعة واجب" فأضافه إلى الجمعة، والأصل: أن الجمعة هي الصلاة لا اليوم؛ ولهذا يقال: يوم الجمعة، وبه نعلم أن الغسل هنا للصلاة وليس لليوم.

وقوله: "واجب" الواجب هو الشيء الثابت اللازم، ومنه قوله تعالى: {فإذا وجبت جنوبها} [الحج: 36]. أي: سقطت، ومنه قولهم: وجبت الشمس؛ يعني: غابت؛ لأن هذا مكث وثبوت. وهو عند الأصوليين - الواجب- ما أمر به على وجه الإلزام ويثاب فاعله امتثالا ويستحق العقاب تاركه. قوله: "على كل محتلم" أي: على كل بالغ، وذلك أن البلوغ يحصل بالاحتلام وهو إنزال الماء بشهوة في حال النوم، فيكون هذا القيد مبنيا لما سنذكره إن شاء الله تعالى. في هذا الحديث نص صريح واضح على أن غسل الجمعة واجب، والمتكلم به هو أفصح الخلق، والمتكلم به أنصح الخلق، والمتكلم به أعلم الخلق، فهو - عليه الصلاة والسلام- اجتمع في كلامه العلم، والثاني الفصاحة، والثالث النصح، ومثل هذا يمكن أن يقول قولا يوهم معنى غير ظاهره، ونحن إذا نظرنا إلى الظاهر عرفنا أن الوجوب محتم، ويدل لها أنه علقه بوصف يقتضي التكليف، وهو الاحتلام، فيكون هاذ دليلا واضحا على أن المراد بالوجوب: اللزوم، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء - رحمهم الله-. منهم من قال: إن الاغتسال للجمعة اغتسال لليوم؛ فيجوز أن يغتسل قبل الصلاة وبعد الصلاة، لكن هذا قول ضعيف، ولولا أنه قيل ما ذكرناه، والصواب: أن الغسل قبل الجمعة، لكن اختلفوا هل هو واجب أو سنة مطلقا في القولين، أو واجب على من كان فيه رائحة، أو حيث تتوقع الرائحة كأيام الصيف التي يكثر فيها العرق، والنتن، فالأقوال ثلاثة: الأول: الوجوب. والثاني: الاستحباب. والثالث: التفصيل، فإذا كان مظنة انبعاث لرائحة كريهة، أو كان نفس الإنسان فيه عرق ووسخ كثير تنبعث منه الرائحة الكريهة كان الغسل واجبا، وإلا فلا، والذي تقتضيه الأدلة أن الغسل واجب مطلقا؛ لأن الأحاديث علمة "غسل الجمعة واجب"، والقائل بهذا يعرف بماذا يتكلم، ويعرف من يخاطب - عليه الصلاة والسلام-، ويدل للوجوب: أولا: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- صرح به، ولو أن هذه العبارة في متن من متون الفقه ما توقف شارح المتن بأن المؤلف يرى الوجوب فكيف وهو حديث. ثتانيا: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- علق الحكم بوصف يقتضي التكليف والإلزام وهو البلوغ. ثالثا: الأوامر الأخرى: "إذا أتى أحدكم الجمعة فلغتسل". والأصل في الأمر الوجوب.

رابعا: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان يخطب الناس يوم الجمعة، فدخل عثمان وهو يخطب غكأنه لامه على تأخره، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما زدت على أن توضأت ثم أتيت. فقال: والوضوء أيضا! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم الجمعة فلغتسل"، فلامه على عذره، حيث إنه اقتصر على الوضوء، وتعلمون أن المتكلم عمر رضي الله عنه خليفة المسلمين، والمخاطب عثمان أفضل الصحابة بعده، والجمع من؟ الصحابة - رضي الله عنهم- فكيف يمكن لعمر أن يوبخ عثمان على الاقتصار على الوضوء في هذا الجمع العظيم، مع علو منزلته رضي الله عنه لولا أن الاغتسال واجب؛ فالصواب عندي كالمقطوع به أن غسل الجمعة واجب على كل إنسان، وما تركته منذ علمت بهذا الحديث لا صيفا ولا شتاء، ولا حرا ولا بردا، ولا إذا كان في مرض يتحمل الاغتسال، وقلت هذا حتى أنني لا أشك في وجوبه، وأرى أنه لابد أن يغتسل الإنسان، وسبحان الله! ماذا يكون جوابنا لله رب العالمين يوم القيامة إذا قال: أبلغكم رسولي بأنه واجب؟ فنقول: لا ليس بواجب، قال: واجب لأنه مؤكد، هذا لا يمكن للإنسان، ليس جوابا صوابا. فلو قال قائل: إذا كان واجبا فهل هو شرط لصحة الصلاة؟ فالجواب: لا، لدليلين: الدليل الأول: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلزم عثمان أن يذهب ويغتسل، ولو كان شرطا؛ لألزمه لأن معه وقت يدرك به الجمعة، يمكنه أن يذهب ويغتسل ويرجع ويصلي الجمعة. الدليل الثاني: أن الله - سبحانه وتعالى- إنما جعل الغسل للصلاة من الجنابة، فقال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6]. فأوجب التطهر للصلاة من الجنابة فقط، وعليه فلو أن الإنسان ترك الغسل يوم الجمعة ثم صلى فهل نقول: إن صلاته باطلة؟ لا، نقول: صلاته صحيحة، ولكنه آثم لترك الغسل. فإذا قال قائل: لو أنه نوى في غسل الجمعة من الجنابة وللجمعة أيجزئ أم لا؟ فالصواب: أنه يجزئ؛ لأنهما عبادتان من جنس واحد متفقتان في الهيئة والوصف فقامت إحداهما مقام الأخرى، ولكن لو أراد أن يفرد أحدهما بنية فهل ينوي الغسل من الجنابة ويجزء عن غسل الجمعة، أو بالعكس؟ الأول نقول: إذا كنت تريد أن تقتصر على نية واحدة فإنه غسل الجنابة؛ لأنك إذا نويت غسل الجنابة أديت ما يجب لأنه حصل المقصود بالاغتسال، لكن إذا نويت غسل الجمعة وأنت عليك جنابة فإنها لا تصلح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".

هناك قول آخر أشرنا إليه: وهو أنه لابد أن يغتسل للجنابة غسلا تاما، وللجمعة غسلا تاما، وهذا رأي ابن حزم رحمه الله، يقول: لأنهما طهارتان واجبتان اختلف سببهما فوجب أن يجعل لكل سبب طهارته، لكن الصحيح: الأول وهو أنه إذا نواهما جميعا حصلا، وإن نوى غسل الجنابة سقط به غسل الجمعة، وإن نوى غسل الجمعة لم ترتفع الجنابة؛ لأن هذا الغسل ليس عن حدث، وإنما هو واجب للجمعة لا لكونه عن حدث، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". لكن بعض العلماء يقول: إذا نسي الجنابة أو جهل واغتسل للجمعة ثم ذكر أو علم فإنه يجزئ؛ لأنه حينئذ معذور، لكن في نفسي من هذا شيء، والأولى أن يعيد الغسل، ويعيد الصلاة، والصلاة ستكون ظهرا. نعود إلى القول بالوجوب والقول بالاستحباب - يعني: في الغسل- من العلماء من قال: إن هذا الحديث - حديث أبي سعيد- لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على التأكد، واستدلوا بحديث سمرة بن جندب قال: 107 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". رواه الخمسة، وحسنه الترمذي. قوله - عليه الصلاة والسلام-: "من توضأ" "من" شرطية، أي إنسان يتوضأ "يوم الجمعة" للجمعة، "فبها" أي فبالرخصة أخذ، "ونعمت" أي: ونعمت الرخصة، ويجوز أن يكون الضمير يعود على الطهارة، أي: فبالطهارة أخذ، "ونعمت الطهارة" أي: طهارة الوضوء. قوله: "ومن اغتسل فالغسل أفضل" قالوا: إنه قال: الغسل أفضل، وهذا يدل على أن الغسل ليس بواجب؛ لأنه إن كان واجبا لم يقل إنه أفضل؛ ولكن هذا الحديث: أولا: فيه مقال من ناحية السند فهو ضعيف من حيث السند، ومعلوم أنه لا يمكن لهذا الحديث الضعيف السند أن يقاوم حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه الأئمة كلهم. ثانيا: أن هذا الحديث إذا تأملته لفظا وجدت لفظه ركيكا يبعد أن يصدر من النبي - عليه الصلاة والسلام-؛ لأن كلام الرسول - عليه الصلاة والسلام- علي طلاوة وحلاوة ورونق من

حكم قراءة الجنب القرآن

حين ما تقرأه تعرف أنه كلام الرسول، لاسيما إذا كنت تكرر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكثر عليك ورودها فإنك ربما تعرف الشأن من كلامه، كما أنك لو كنت معتادا أن تقرأ كلام عالم من العلماء لعرفت أنه كلامه وإن لم ينسب إليه إذا مر بك في موضع آخر، فالصواب: أن هذا الحديث في سنده مقال، فلا يثبت على قدميه فضلا عن أن يعارض حديث أبي سعيد الخدري. حكم قراءة الجنب القرآن: 108 - وعن علي رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنبا". رواه أحمد والخمسة، وهذا لفظ الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان. قوله رضي الله عنه: "كان النبي يقرئنا القرآن" أي: يعلمنا إياه؛ لأن القرآن ينزل على النبي - عليه الصلاة والسلام- ثم يعلمه الصحابة، "ما لم يكن جنبا" يعني: فإن كان جنبا امتنع عن الإقراء فلم يقرئهم مع أنه صلى اللهعليه وسلم أحرص الناس على إبلاغ الرسالة لإيجاب ذلك عليه في قوله تعالى: {يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وغن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67]. "ما لم يكن جنبا"، وسبق معنى الجنب وأنه شرعا: من أنزل منبا بشهوة أو جامع وإن لم ينزل. من فوائد الحديث: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إبلاغ القرآن، وأنه كان بنفسه يقرئ أصحابه امتثالا لقول الله تعالى: {يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك مربك}. ومن فوائده: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقرئهم إذا كان جنبا، وهل هنا الامتناع على سبيل الأفضلية، أو على سبيل الوجوب؟ قيل: على سبيل الأفضلية؛ لأنه ليس إلا مجرد إمساك وافمساك نوع من الفعل، والفعل المجرد يدل على الاستحباب، وعلى هذا التأويل فالأفضل للجنب ألا يقرأ القرآن، وإن قرأ فلا إثم عليه. وقيل: إنه على سبيل الوجوب؛ لأن إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر واجب لا يكون إلا عن محرم، وهذا أقرب أن الجنب يحرم عليه قراءة القرآن، وتعليم القرآن. فإن قال قائل: لو كتب القرآن كتابة فهل يلحق باللفظ؟ فالجواب: لا، لأن الكتابة لها حكم اللفظ في مواضع ولها حكم الإشارة في مواضع، ولذلك لو أن أحدا كتب ورقة إلى شخص وهو يصلي افعل كذا وكذا، فإن صلاته لا تبطل، ولو

قال: افعل كذا بطلت صلاته، فهنا لم تلحق الكتابة بالقول، بل ألحقناها بالفعل، ولو كتب رجل طلاق امرأته صارت هذه الكتابة كاللفظ، ولو كتب "بيتي وقف" صار وقفا، ولو كتب "عبدي حر" صار حرا، فالمهم أن الكتابة تلحق أحيانا بالقول، وأحيانا بالفعل. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا ينبغي أن يستحيا في أمور الدين لقول علي: "ما لم يكن جنبا"، هذه الكلمة قد يستحيا منها لاسيما بالنسبة للأكابر؛ يعني: تستحي أن تقول: "فلان جنب"، لكن إذا كان لذك في بيان الحق فإن الله لا يستحي من الحق، ولم يذكر في الحديث إلا أن يتوضأ، وعلى هذا فلا يقرئ القرآن، ولا يقرؤه ولم توضأ، بخلاف المكث في المسجد بالنسبة للجنب، فإنه يجوز إذا توضأ. ومن الفوائد: أن الحائض لا تقرأ القرآن إلحاقا لها بالجنب، ولكن هذا الإلحاق فيه نظر، وجه ذلك: أن الجنب مانعه يمكنه رفعه إذا اغتسل، والحائض لا يمكنها ذلك؛ لأن الحيض ليس بيدها فافترقا، وعلى هذا لا يصح القياس. ولكن هل حرم على الحائض أن تقرأ القرآن؛ فجمهور العلماء على أنها لا تقرأ وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله. ومن العلماء من قال: إنها تقرأ؛ لأنه ليس في منعها من قراءة القرآن حديث صحيح صريح، والأصل جواز قراءة القرآن، بل قراءة مأمور بها.

109 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءا". رواه مسلم. زاد الحاكم. "فإنه أنشط للعود". قوله: "إذا أتى أحدكم أهله" أي: جامعها، فكنى بالإتيان عن الجماع من باب البعد عن التلفظ بما يستحيا منه، وقد عبر القرآن عن الجماع باللمس وبالدخول، فقال: {أو لمستم النساء} [المائدة: 6]. وقال: {التي دخلتهم بهن} [النساء: 23]. أي: جامعتموهن، وقال: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} [البقرة: 236]. وقوله: "أهله" زوجته أو زوجه، زوجته لغة الفرضيين، وهي ضعيفة من حيث الكلام العربي، أما الكلام الفصيح فهو بالتذكير سواء كان وصفا للذكر أو للأنثى. وقوله: "ثم أراد أن يعود"؛ يعني: يجامع مرة أخرى، "فليتوضأ بينهما وضوءا". ووالوضوء معروف لكن الغسل أفضل، وظاهر الحديث أنه لا يغسل فرجه، ولكن غسل الفرج من باب أولى أيون مطلوبا من الوضوء، ورواية الحاكم: "فإنه أنشط للعود" يعني: أقوى للجماع مرة ثانية؛ لأن البدن يكتسب بهذا الوضوء نشاطا وحيوية يكون بذلك أنشط، ويأتي أهله المرة الثانية وهو نشيط؛ وهو إذا أتى أهله نشيطا صار تضرره بالجماع أقل، ولذلك قال العلماء: لا ينبغي للإنسان أن يكره نفسه على الجماع. في هذا الحديث فوائد منها: الكناية عما لا ينبغي ذكره باسمه الخاص بما يدل عليه؛ لقوله: "إذا أتى أحدكم أهله". فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح بلفظ الجماع في حديث ماعز لما أقر على نفسه بالزنا، قال له الرسول - عليه الصلاة والسلام-: "أنكتها؟ " لا يكني؟ قلنا: بلى، لكن مقام الحدود يجب فيه التثبت حتى لا يظن المقر أن المباشرة والتقبيل زنا، فلذلك صرح النبي - عليه الصلاة والسلام- باسم الجماع الخاص زيادة في التثبت. ومن فوائد هذا الحديث: أن الزوجة تسمى أهلا، وهاذ شيء مستفيض ولا يحتاج إلى إقامة برهان او استشهاد بشاهد، ويبنى على ذلك أن قول الله - تبارك وتعالى- لنساء النبي: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجهلية الأولى وأقمن الصلوة واءتين الزكوة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33]. فمن يدخل في آل البيت أزواجه بلا شك مثل الشمس؛ لأن السياق في أزواجه، ولو أن أحدا قال: إنه لا يدخل أقاربه في هذا لكان له حجة؛ لأن السياق يعين المراد، لكن الرافضة عكسوا القضية وقالوا: المراد

بأهل البيت: أقاربه دون أزواجه ليخرجوا عائشة رضي الله عنها التي هي أحب أزواجه إليه، بل إنه سئل: أي أزواجه أحب إليه قال: "عائشة". فالمهم: أهل أهل البيت يدخل فيهم الأزواج بلا شك، بل إن الإنسان يأوي غلأى اهله - أي: زوجته- أكثر مما يأوي إلى أبيه وأمه كما هو مشاهد. ومن فوائده: أن الشريعة الإسلامية شاملة فيما يتعلق بالأديان وما يتعلق بالأبدان؛ لأن الوضوء مرة ثانية بين الجماعين طاعة لله ورسوله لأمر النبي - عليه الصلاة والسلام- به، وهذا فيه مصلحة في الأديان، وهو أيضا منشط للإنسان، وهو مصلحة للأبدان. ومن فوائد هذا الحديث: الأمر بالوضوء، وهل الأمر للوجوب؟ الجواب: لا، ليس للوجوب، ولكنه للاستحباب، والذي صرفه عن الوجوب أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- كان يطوف على نسائه بغسل واحد. ولم ينقل أنه يتوضأ بين ذلك، لكن الذي يظهر لي - والله أعلم-: أنه كان يغسل فرجه لأجل التنظيف وعدم اختلاط مياه النساء بعضها ببعض، أما الوضوء فلم ينقل؛ فيكون الأمر هنا للاستحباب. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا بأس بأن تعلل الأحكام الشرعية بما يعود على البدن بالمصلحة لقوله: "فإنه أنشط للعود"، وينبني على ذلك أن قصد الإنسان بهذا الغرض الدنيوي لا يبطل أجره، وهذا نافع للإنسان، لأن فيه أشياء كثيرة من الأحكام الشرعية تعلل بمصالح بدنية، لماذا تعلل؟ من أجل أن ينظر الإنسان إليها نظرة حد وإلا لكان التعليل بها عديم الفائدة، ومن ذلك- أي: كون الأمور الدنيوية تلاحظ في الاستقامة-: وجوب الحدود على من يسحقونها؛ فإن كثيرا من الناس قد لا يترك هذا الذنب إلا خوفا من العقوبة، ثم إن الرسل أيضا يأمرون أقوامهم بالطاعة، ثم يذكرون المصالح الدنيوية كقول نوح - عليه الصلاة والسلام-: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا}. هذه المصلحة الدينية {يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنت ويجعل لكم أنهرا} [نوح: 10 - 12]. هذه مصلحة دنيوية، ولولا أن الإنسان لا يضره إذا لاحظها ما ذكرها الرسل - عليهم الصلاة السلام؛ لأن ملاحظتها تكون ضررا على الإنسان، ومن ذلك قول النبي - عليه الصلاة والسلام-: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه".

حكم نوم الجنب بلا وضوء

مع أن صلة الرحم من أجل الطاعات، ومع ذلك رغب فيها الرسول - عليه الصلاة والسلام- بشيء يعود إلى الأمور الدنيوية، ووجه ذلك من الحكمة: أن البدن مركب من شهوة وفطرة فلابد من أن يعطى ما يقيم الفطرة، وهو ما يتعلق بالدين، وما ينال به الشهوة وهو ما يتعلق بالدنيا، والله - سبحانه وتعالى- حكيم. إذن نأخذ من هذا الحديث في قوله: "أنشط للعود": أنه لا بأس أن تعلل الأحكام الشرعية بعلل تعود إلى مصلحة البدن، وأن ملاحظتها بفعل الطاعة لا يؤثر؛ لأنها لا يمكن أن تذكر لنا بمجرد أن نطلع عليها فقط، لكن من أجل أن تدعم العزيمة والنشاط على الفعل. حكم نوم الجنب بلا وضوء: 110 - وللأربعة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء" وهو معلول. قولها رضي الله عنها: "كان ينام وهو جنب"، جملة "وهو جنب" حال، واعلم أن كلمة "جنب" تصلح للواحد وللجماعة، فمن استعمالها للواحد هذا الحديث: "ينام وهو جنب"، ومن استعمالها للجماعة: {إن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6]. وإذا كانا اثنين هل تستعمل بالواحد أم بالجماعة؟ بالواحد والجمع، بمعنى أن يقال: كان جنبا، وذكر أنها تستنعمل بالتثنية، فيقال: كانا جنبين، لكن الأشهر أن "جنب" صالحة للواحد والمتعدد. "من غير أن يمس ماء"، وظاهره انه لا يمس ماء للغسل ولا للوضوء، لكن يقول المؤلف: "إنه معلول". ولكن من فوائده: أنه لا يستحيا من الحق؛ لأن عائشة ذكرت ما يتعلق بالجماع والفرج، ومن عادة النساء أن تستحي أن تتكلم في هذا، لكن إذا كان لبيان الحق فلابد منه. ومن فوائده: جواز نوم الجنب بلا وضوء، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال:

صفة الاغتسال من الجنابة

القول الأول: أنه يجوز بلا كراهة لهذا الحديث، ومنهم من قال: يجوز مع الكراهة، ومنهم من قال: لا يجوز أن ينام الإنسان وهو جنب إلا بوضوء. أولا: القول بوجوب الوضوء: واستدل القائلون به بأن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله، أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: "نعم إذا توضأ فليرقد". فظاهر الحديث أن جواز النوم مشروط بالوضوء، والقول بالوجوب قوي، ولكنه ليس مما يغلب على الظن، أو مما يوجب القطع لحديث عائشة الذي ذكره المؤلف. القول الثاني: أنه يجوز لكن على الكراهة، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة - رحمهم الله- أنه يجوز النوم على جنابة بلا وضوء، لكن مع الكراهة؛ وكأن قائل هذا القول يريد أن يجمع بين الأدلة، فيكون ظاهر حديث عمر الوجوب، لكن يضعف الوجوبحديث عائشة فيكون وسطا بين الوجوب وعدمه، يعني: وجوب الوضوء وبين عدم الوجوب. القول الثالث: أنه سنة وليس بواجب؛ لأن كون الرسول - عليه الصلاة والسلام- يتركه يدل على جواز النوم على جنابة بلا وضوء، لكن قد جاءت الأدلة بأنه ينبغي للإنسان ألا ينام إلا علة وضوء كما في حديث البراء بن عازب الطويل أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- قال له: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة". وهذا من حيث الدليل السمعي، ومن حيث الدليل النظري أنه ينبغي للإنسان أن ينام على طهارة؛ لأن نفسه تفارق البدن لكن ليس فراقا تاما، فينبغي أن يكون على طهارة، والمؤلف رحمه الله كان ينبغي أن يذكر حديث عمر؛ لأنه مهم وهو صحيح ذكره صاحب العمدة، وكذلك ينبغي أيضا أن يذكر حديث أهل السنن في أنه ينبغي للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أن يتوضأ، والله أعلم. صفة الاغتسال من الجنابة: 111 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ، ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابه في أصول الشعر، ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه". متفق عليه، واللفظ لمسلم.

112 - ولهما من حديث ميمونة رضي الله عنها: "ثم أفرغ على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بها الأرض". وفي رواية: : "فمسحها بالتراب". وفي آخره: "ثم أتيته بالمنديل فرده"، وفيه: "وجعل ينفض الماء بيده". عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة" "من" هنا سببية؛ أي: إذا اغتسل غسلا سببه الجنابة، و "الجنابة" في الأصل مأخوذة من المباعدة، وهي شرعا: إنزال المني بشهوة، أو إيلاج الذكر في الفرج - يعني الجماع، أو ألإنزال بشهوة-. قولها: "يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه"، يغسل يديه أولا؛ وذلك لأن اليدين هما آلة الغسل والتنظيف، فكان الاعتناء بهما أولا هو الأنسب. قولها: "ثم يفرغ بيمينه على شماله" يعني: بعد أن يغسل يديه يأخذ الماء من الإناء بيمينه يفرغها على شماله، ويحتمل أن المعنى: يفرغ بيمينه على شماله أنه يصب الإناء باليمين حتى يفرغها على الشمال "فيغسل فرجه" تنظيفا له من أثر الجنابة إن لم يكن قد بال، فإن كان قد بال فهو تطهير له من أثر البول. قولها: "ثم توضأ" يعني: يتوضأ وضوءه للصلاة، وهذا يقتضي انه يتوضأ وضوءا كاملا بتطهير الأعضاء الأربعة: الوجه، واليدين، والرأس، والرجلين. قولها: "ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر" يأخذ الماء؛ يعني: بيديه ويدخل أصابعه في أصول الشعر؛ لأن شعر النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيرا؛ إذ إنه لا يحلقه - عليه الصلاة والسلام- إلا في حج أو عمرة، "ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات" يعني: بعد أن أوصل الماء إلى أصول الشعر حفن على رأسه؛ يعني: بيديه ثلاث حفنات تكميلا لتطهير الرأس، وإنما شدد في تطهير الرأس من الجنابة؛ لأن الوضوء مبني على التخفيف؛ إذ إنه في أعضاء أربعة فقط بخلاف الغسل من الجنابة، ولما كان الغسل من الجنابة أوكد في التطهير صار الاعتناء بالرأس الذي فيه الشعر أولى؛ ولهذا كرر النبي صلى الله عليه وسلم غسله ثلاث مرات، بعد ان أدخل الماء في أصول الشعر. قولها: "ثم أفاض على سائر جسده" "أفاض" يعني: أفاض الماء على سائر الجسد، "سائر" يعني: باقي، وتكون بمعنى: "كل"؛ فإذا قلت: "أكرمت سائر الطلبة" المعنى: كلهم، وإذا قلت: "أكرمت الطلبة وسائرهم"، يعني: من جاء من بعدهم، فهذا المراد البقية، فالمراد بها هنا "سائر جسده" أي: بقية جسده، أما على كونها يراد بها الكل فهي مأخوذة من السور، سور الدار؛

لأنه محيط بها، وأما على كونها يراد بها البعض فهي مأخوذة من السؤر وهو بقية الطعام أو الشراب، "ثم غسل رجليه" تنظيفا وتطهيرا؛ لأنه - كما تعلمون- كان الناس فيما سبق ليس عندهم هذه الحمامات النزيهة الصقيلة فتتلوث الرجل بالطين فتحتاج إلى غسلها مرة أخرى تنظيفا لها. "ولهما" أي: البخاري، ومسلم من حديث ميمونة: "ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله". الفائدة قوله: "وغسله بشماله"؛ حيث نصت على أن سل الفرج يكون بالشمال، "ثم ضرب بها الأرض" أي: ضرب بشماله الأرض بعد أن غسل فرجه، وفي لفظ: "أو الحائط مرتين أو ثلاثا"؛ لأن ذلك أبلغ في سرعة إزالة ما علق بها، وكان الماء قليلا يحتاج إلى أن يزاد في الغسل بالضرب على الأرض أو على الحائط ليكون أبلغ في التطهير، وفي رواية: "مسحها بالتراب"؛ وهي بمعنى ضرب بها الأرض، وفي آخره: "ثم أتيته بالمنديل فرده"، وفيه: "وجعل ينفض الماء بيده" رد المنديل، يعني: لم يتمنندل به، "وجعل ينفض الماء بيده" يعني: يسلته عن جسده وينفضه. هذا الحديث فيه بيان الغسل من الجنابة على الوجه الأكمل كما سمعتم، والواجب: هو أن يفيض الماء على سائر جسده على أي وجه كان سواء بدأ بالوضوء، أو بدأ بالرأس، أو بدأ بالجنب، أو بدأ بالأسفل، المهم أن يعم الماء جميع بدنه. فإن قال قائل: ما هو الدليل على أن الواجب هو أن يعم الماء جميع البدن؟ قلنا: قوله - تبارك وتعالى-: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6]. ولم يذكر الله تعالى البداءة بشيء دون آخر. فلو قال قائل: هذا لفظ مجمل بينه فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: نعم، هذا وجيه لولا أن السنة جاءت ببيان أنه ليس بواجب، أي: هذه الصفة التي ذكرتها عائشة وهي ما ثبت في البخاري في قصة الرجل الذي اعتزل القوم ولم يصل معهم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: أصابتني جنابة ولا ماء. فقال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك"، ثم حضر الماء فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ماء، فقال: "خذ هذا فأفرغه على نفسك". ولم يذكر له الكيفية التي ذكرت في حديث عائشة، ولو كانت واجبة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المقام يحتاج إلى البيان. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجوز للمرأة أن تصرح بما قد يستحيا منه لبيان الحق، لقولها: "إذا اغتسل من الجنابة"، ومعلوم أن أم المؤمنين عائشة هي إحدى زوجاته، وأنه سيكون جنبا منها ومن غيرها، ومثل هذا قد يستحيا منه، لكن إذا كان لبيان الحق فإنه لابد منه.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي أن يغتسل الإنسان على هذه الكيفية المذكورة. ومن فوائده: أنه يبدأ بالوضوء قبل الغسل؛ لقوله: "ثم يتوضأ ... إلخ"، وهل هذا الوضوء يكفي عن الوضوء مرة ثانية بعد الاغتسال؟ الجواب: نعم، بل لو أنه أفاض الماء على سائر جسده دون أن يتوضأ كفاه عن الوضوء؛ لأن الله لم يذكر في الجنب إلا أن يتطهر، ولم يذكر الوضوء، نعم لو مس ذكره في أثناء الغسل وقلنا بوجوب الوضوء من مس الذكر مطلقا؛ فهنا نقول: حصل حدث في أثناء الغسل فيجب أنيتوضأ له أما على القول بأنه لا ينتقض الوضوء بمس الذكر إلا إذا كان لشهوة كما هو القول الراجح فإنه لا يضره إذا مس ذكره في أثناء الاغتسال. ومن فوائد هذا الحديث: العناية بغسل الرأس في الجنابة، وأنه يجب إيصال الماء إلى أصول الشعر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ومثل هذا لا يفعل إلا إذا كان واجبا لما في ذلك من المشقة على الإنسان في إيصال الماء إلى أصول الشعر؛ ولأنه إذا كان في أيام الشتاء سيكون فيه مشقة أخرى بعد الاغتسال. ومن فوائد هذا الحديث: تكرار غسل الرأس ثلاث مرات بعد إدخال الماء إلى أصول الشعر لقولها: "ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات". ومن فوائده: أنه لا ينبغي تكرار الغسل في بقية البدن لقولها: "ثم أفاض على سائر جسده"، ولم تذكر التثليث، وهذا هو القول الراجح، وقال بعض أهل العلم: بل يسن التثليث قياسا على الوضوء، والصواب عدم ذلك؛ يعني: عدم صحة ذلك القياس، وأنه يكتفي بغسله مرة واحدو. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يشترط الدلك وهو كذلك، لأنه لم يذكر في الحديث أن الرسول كان يدلك بدنه، لكن إذا خاف الإنسان ألا يعم الماء بدنه فينبغي أن يمر يده حتى يتيقن، لاسيما إذا كان قد ابطأ في غسل البدن فإنه يكون فيه شيء من الدهن ربما يزيل الماء عن بعض البدن فيحتاج أن يمسحه بيده حتى يتأكد من وصول الماء إلى سائر جسده. ومن فوائده: مشروعية غسل الرجلين بعد انتهاء الغسل، ولكن هذا مقيد بما إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأنه لم يذكر في رواية البخاري أنه غسل رجليه بعد الغسل، فالظاهر - والله أعلم-: أن هذا فيما إذا احتيج إليه، وأن الرسول يغسلها أحيانا ولا يغسلها أحيانا. ومن فوائد هذا الحديث: أن الفرج يغسل بالشمال، سواء كان ذلك عن استنجاء أو عن جنابة، أو غير ذلك، ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول". ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا كان الماء قليلا فينبغي للإنسان أن يستعمل ما يساعد على

التنظيف بسرعة كالضرب باليد على الحائط، أو على الأرض كما جاء ذلك في حديث ميمونة رضي الله عنها. ومن فوائد هذا الحديث: جواز التمسح بالمنديل؛ وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، وإنما ردها لاحتمال أن تكون المنديل فيه شيء من الوسخ، أو خاف ان يشق على الأمة، أو ما أشبه ذلك، ويدل لهذا أنه لولا أنه من عادة الرسول - عليه الصلاة والسلام- انه يستعملها ما جاءت بها ميمونة فالظاهر أن هذا كان معتادا لكن ردها لسبب من الأسباب. ومن فوائد هذا الحديث: جواز نفض الماء باليد، واما ما ورد من النهي عن ذلك فإنه ضعيف لا تقوم به حجة، فالصواب أنه يجوز للإنسان أن يتمندل، وإذا لم يفعل فلا حرج أن ينفض الماء بيده. 113 - وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله، إني امرأة أشد شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ -وفي رواية: والحيضة؟ -فقال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حيثات". رواه مسلم. قولها: "إني امرأة أشد شعري" "أشد"؛ يعني: عند فتله ليكون ضفائر وقرونا، ومعلوم أن شد الشعر يقتضي ألا يتخلله ماء إلا بمعالجة، وقولها رضي الله عنها: "أفأنقضه لغسل الجنابة"، وفي رواية: "والحيضة" يعني: والحيض؟ فقال: "لا"، وقوله: "لا" يحتمل أنها للنهي أو أن هذه نفي الوجوب، فإن قلنا: للنهي صارت المرأة لا يسن لها أن تنقض، بل ولا ينبغي لها ذلك؛ لأنها سوف تفسد ما أصلحت بدون ضرورة، وغن قلنا إنها لنفي الوجوب صار يجوز للمرأة أن تنقض الشعر، ويأتي في الفوائد إن شاء الله، وقوله: "إنما كان يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات" يعني: بدون أن تنقضيه. ففي هذا الحديث من الفوائد: أولا: صراحة نساء الصحابة - رضي الله عنهم- في السؤال عما قد يستحيا منه؛ لأن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "أفأنقضه لغسل الجنابة". ومنها: جواز شد شعر الراس، ولكن ينهى أن تجعل المرأة شعررأسها فوق؛ لأنه ربما يكون ذلك سببا للتدرج حتى تجعل الرءوس كأسنمة البخت المائلة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونستاء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها". ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجب نقض شعر المرأة عند الغسل من الجنابة أو الحيض لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا"، وقد ذكرنا أنه يحتمل أن تكون لنفي الوجوب ويحتمل أن تكون للنهي.

حكم المكث في المسجد للحائض والجنب

ومن فوائد هذالحديث: أنه يكفي أن يحثي الإنسان علىراسه ثلات حثيات. فإن قال قائل: وهل يكفي دون ذلك؟ فالجواب: نعم، لكن لما كان الرأس الذي له شعر يحتاج إلى المبالغة قال: إنما كان يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات"، وإلا إذا علمنا أن الحثية الواجدة بلغت أصول الشعر، فإنه لا يلزمها أكثر من ذلك؛ لقوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6]. حكم المكث في المسجد للحائض والجنب: 114 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب". رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة. قوله: "إني لا أحل" الجملة هذه مؤكدة ب"إن"، وقوله: "لا أحل" أي: لا أجعله حلالا تكون فيهالحائض وتمكث فيه، "ولا جنب" أي: منعليه جنابة، وعرفتم أن الجنابة تكون بأحد أمرين: إما الإنزال بشهوة، وإما الجماع، ومعنى: لا أحل" أي: لا أحل المكث فيه، أما المرور فإنه لا بأس به كما سنذكره إن شاء الله. في هذا الحديث فوائد: منها: جواز إضافة التحليل والتحريم إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام-، وأنه - عليه الصلاة والسلام- يحلل ويحرم كما أن الله - تبارك وتعالى- يحلل ويحرم، قال الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربوا} [البقرة: 275]. كذلك النبي - عليه الصلا والسلام- له أن يحلل ويحرم كما له أن يأمر وله أن ينهى. ومن فوائد هذا الحديث: تعظيم المساجد، وذلك بمنع الحائض والجنب منها. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز للحائض أن تمكث في المسجد سواء مكثت جالسة أو مضطجعة، أو مترددة فيه، ومن ثم منع النبي صلى الله عليه وسلم الحائض من الطواف، فإن العلة الظاهرة فيه - أي: منعالحائض من الطواف- هو أنها تمكث في المسجد لأنها تتردد، والتردد هذا بمنزلة المكث؛ ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن الحائض إذا اضطرت إلى أن تطوف فلا بأس أن تطوف"،

ولكن الضرورة ما هي؟ ظن بعض الناس أن الضرورة بمعنى الحاجة، وأن المرأة لها أن تطوف إذا أراد أهلها أن ينفوا وإن كان يسهل عليها أن ترجع بعد الطهر وتطوف، ولكن هذا ليس بصحيح، هذا ظن خاطئ وهو غلط على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن شيخ الإسلام رحمه الله فرض المسألة في أمر ضروري: امرأة إذا سافرت لا يمكنها أن ترجع، وحينئذ إذا قلنا بأنها غير محصرة تبقى محرمة مدى الدهر إلى أن تستطيع الرجوع إلى البيت، وإن قلنا: إنها محصرة فاتا الحج، أو العمرة، وهذا خسارة عظيمة، لاسيما النساء اللاتي يأتين من محل بعيد، وأما المرأة الحائض التي تكون في السعودية - عندنا- فيسهل عليها أن تبقى مع محرمها، أو أن تذهب على إحرامها، فإذا طهرت ادت فطافت. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره أنه لا يجوز للمرأة وهي حائض أن تعبر المسجد، وكذلك الجنب لقوله: "لا أحله لحائض ولا جنب"، ولكن قد دلت الأدلة الخرى بجواز عبور المرأة الحائض المسجد، حيث طلب النبي صلى الله عليه وسلم من إحدى أمهات المؤمنين أن تأتي بالخمرة وهي في المسجد - أعني: الخمرة- فقالت: إنها حائض، فقال لها: "إن حيضتك ليست في يدك"، وكذلك الجنب قال الله تعالى: {ولا جنبا إلا عابري سبيل} [النساء: 43]. وعليه فيكون المراد بنفي الإحلال هو المكث، وأما المرور والعبور فلا بأس به، إلا أن العلماء - رحمهم الله- اشترطوا في الحائض أن تأمن تلويث المسجد، فإن كانت لا تأمن بحيث ينزل الدم إلى المسجد فإنه لا يجوز لها أن تمر؛ لأن ذلك يؤدي إلى تنجيس المسجد. فإن قال قائل: وهل يزول التحريم بالوضوء؟ نقول: أما الجنب فنعم، يزول التحريم بالوضوء، فغذا توضأ جاز له المكث في المسجد؛ لأن هذا هو عمل الصحابة - رضي الله عنهم- من وجه، ومن وجه آخر هذا الوضوء يخفف الجنابة، وأما الحائض فلا؛ لأن الحائض لا يمكن أن يصح منها الوضوء؛ لماذا؟ لأن الحدث باق، ومن شروط صحة الوضوء: ارتفاع الحدث، بمعنى ألا يكون المتوضئ قد استمر به الحدث، إلا من حدث دائم فيجوز وضوءه للضرورة بالشروط المعروفة. وعلى هذا فنقول: إذا توضأ الجنب جاز له أن يمكث في المسجد فإن انتقض وضوءه بعد ان توضأ فهل يجوز أن يمكث؟ الجواب: "نعم"؛ لأن تخفيف الجنابة حصل بالوضوء؛ ولأن الصحابة يتوضئون وينامون في المسجد، والنوم ينقض الوضوء، ولو كان نقض الوضوء يعد مانعا من المكث في المسجد للجنب لما جاز لهم أن يناموا.

جواز اغتسال الزوجين في مكان واحد

جواز اغتسال الزوجين في مكان واحد: 115 - وعنها رضي الله عنها قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه سلم من إناء واحد، تختلف أيدينا فيه من الجنابة"". متفق عليه. وزاد ابن حبان: "وتلتقي أيدينا". "كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد" يعني: بالاغتراف، "تختلف أيدنا فيه". يعني: أنه يكون قد مزع يدع وفيها الماء، وهي نزلت يدها لتغترف، وقولها: "من الجنابة" متعلق ب"يغتسل"، يعني: نغتسل من الجنابة، وليس غسلا يتبرد به بل هو غسل عن حدث. ففي هذا الحديث من الفوائد: ما سبق من صراحة نساء الصحابة - رضي الله عنهن-، وأنهن يبين الحق، ولو كان مما يستحيا منه. ومنها: جواز اغتسال الرجل مع امرأته. فإن قال قائل: لماذا لا يجعلونه سنة؟ قلنا: هذا لا يظهر فيه أثر التعبد، والظاهر أنه من قسم المباح، نعم إذا كان يؤدي إلى قوة المحبة والمودة والائتلاف قلنا: إنه يسن من أجل هذا الغرض النبيل؛ لأنه إذا ارتفعت الكلفة بين الزوجين إلى هذا الحد فإن المودة سوف تزداد وتقوى. ومنها جواز تعري الزوجين بعضهما عند بعض؛ لأن الاغتسال لابد فيه من التعري، وقد قال الله - تبارك وتعالى-: {والذين هم لفروجهم حفظون إلا على أزوجهم أو ما ملكت أيمنهم فإنهم غير ملومين} [المؤمنون: 5، 6]. وهذا جائز عند الاغتسال، وجائز أيضا في الفراش، وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجردا تجرد العيرين". فهذا إن صح فالمراد أن يفعلا ذلك وهما مكشوفان، وأما إذا كانا عليهما اللحاف فلا بأس بذلك. ومن فوائد هذا الحديث: جواز اغتراف الجنب من الماء ليتطهر به. ومن فوائده: أن الماء المستعمل أو الماء الذي تغمس فيه اليد التي فيها الحدث لا يكون طاهرا، بل هو طهور وإلا لارتفعت الطهورية من أول مرة غمس فيه يده، وهذا القول هو الراجح أن الماء المستعمل في طهارة باق على طهوريته ولا يفتقده ذلك الاستعمال الطهورية؛ لأنه لا دليل على أن الماء ينتقل من وصف الطهورية إلى وصف الطاهر غير مطهر، وإذا لم يكن دليل فالأصل بقاء ما كان على ما كان.

116 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشر". رواه أبو داود والترمذي وضعفاه. قوله: "إن تحت كل شعرة جنابة" يعني: شعرة من شعر الرأس، ومن شعر الجسد أيضا، "فاغسلوا الشعر" وهذا في فروع الشعر، "وأنقوا البشرة" يعني: أصول الشعر، والحديث كما رأيتم ضعيف، لكن عموم قوله تعالى: {فاطهروا} يدل على أنه لابد أن يكون التطهير شاملا لجميع الجسم. 117 - ولأحمد عنن عائشة رضي الله عنها نحوه، وفيه راو مجهول. فيكون ضعيفا؛ لأن من شرط الصحة: أن يكون الراوي معلوما؛ أي: معلوم العدالة ومعلوم الضبط؛ وبهذا انتهى باب الغسل وحكم الجنب. أسئلة: - في قوله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء" ماذا يريد به، وما معنى الحديث؟ - هل الغسل لا يجب إلا عند الإنزال؟ - إذا نزل المني بغير شهوة هل يجب الغسل؟ - هل يمكن أن تحتلم المرأة؟ - هل أوردت أم سلمة على الرسول في هذا الحديث إشكالا؟ - رجل احتلم ولكنه لم ير أثرا، وآخر رأى أثرا ولم يذكر احتلاما، ما حكمهما؟ - إذا رى ماء ولم يذكر احتلاما وشك هل هو الماء الدافق أم غيره ماذا يكون حكم الماء الذي رآه؟ وإن شك أهو ماء أو عرق، فما حكمه؟ - هل يجب الاغتسال للإسلام بعد الكفر؟ - "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" ما معنى الحديث؟ - رجل أتى أهله ثم أراد أن ينام، وآخر أتى أهله ثم أراد أن يعود ماذا يفعلان؟ - أيهما أوكد أن يتوضأ للنوم أو يتوضأ للعود؟ - الغسل له صفتان واجبة وكاملة؟ - لو قال قائل: إن حديث عائشة بيان لمجمل، وبيان الواجب واجب؟ - إذا قال قائل: ما الحكمة أن يعم الغسل جميع البدن في الجنابة؟

9 - باب التيمم

- لماذا اتقصر الوضوء على الأعضاء الأربعة؟ لأن فيها كثرة الذنوب وهي تخرج مع الماء. - هل يجوز للحائض أن تدخل المسجد؟ الحديث يقول: "لا أحل المسجد لحائض"؟ أي: المكوث، أما المرور فإنه جائز. وهل يجوز للجنب أن يمر في المسجد؟ - هل يجوز للرجل أن يغتسل مع امرأته في مكان واحد وهم عراة؟ - هل يمكن أن يستدل لهذا القرآن؟ نعم، ما هو؟ قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حفظون} [المؤمنون: 5]. 9 - باب التيمم "التيمم" لغة: القصد، قال الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فيمموا صعيدا طيبا} [المائدة: 6]. أي: اقصدوا. وفي الشرع: التعبد لله تعالى بمسح الوجه واليدين بالتراب على صفة مخصوصة، فهو عبادة يتعبد بها الإنسان لربه - تبارك وتعالى-، وقد دل على مشروعية التيمم القرآن والسنة وإجماع المسلمين؛ ففي القرآن: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6]. وفي السنة ما يأتي إن شاء الله، أما الإجماع: فهو معلوم، لكنه لابد فيه من شروط: الشرط الأول: تعذر استعمال الماء؛ إما لعدمه، وإما للتضرر باستعماله، وهذا شيء متفق عليه دل عليه القرآن، بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء} [المائدة: 6]. ودل عليه النظر الصحيح أيضا، وهو أن التيمم فرع والتطهر بالماء أصل، ولا يجوز فعل الفرع من إمكان الأصل، فيكون الدليل على مشروعية الكتاب والسنة والإجماع. وأما الشرط الذي اشترطناه فالدليل عليه: أن الله اشترط عدم وجود الماء: وأن النظر الصحيح يدل عليه؛ وهو أن طهارة التيمم فرع، ولا يمكن أن تعدل إلى الفرع مع وجود الأصل، واعلم أن مشروعية التيمم من رحمة الله عز وجل بعباده؛ لأن الناس قد يتضررون باستعمال الماء إما لمرض أو لشدة برد ولا مسخن، أو لعدم وجوده، أما ما أشبه ذلك، فكان من رحمة الله أن يسر للعباد وشرع لهم التيمم، وسيأتي - إن شاء الله- أنه من خصائص هذه الأمة. بقي أن يقال: وهل يشترط دخول الوقت في التيمم؟ الجواب: لا، لا يشترط دخول الوقت، بل إذا تيقن أنه لن يجد الماء كما لو كان في أرض مفازة، أو أنه لن يستطيع القدرة على استعماله كما لو كان مريضا يعرف أنه لن يبرأ قبل دخول الوقت؛ فهنا له أن يتيمم متى شاء؛ لأن التيمم مطهر كما سيأتي إن شاء الله، وإذا كان مطهرا ففي أي وقت استعملته فهو مطهر.

التيمم من خصائص الأمة الإسلامية

وهل يبطل بخروج الوقت؟ الجواب: لا، إذن ليس دخول الوقت شرطا لصحته ولا خروجه- أي: الوقت- مبطلا له، بل ما دام الإنسان على طهارته فهو على طهارة؛ لأن التيمم طهارة كاملة كما سيتبين إن شاء الله تعالى. وهل يختلف فيه الحدثان الأكبر والأصغر؟ الجواب: لا، لا يختلفان الأصغر والأكبر سواء؛ لأن المقصود به التدين والتعبد لله عز وجل. وهل يشرع في غبر الحدث، كما لو كان بدنه نجسا - يعني: عليه نجاسة، ولم يجد ما يغسلها به فهل يتيمم؟ الجواب: في هذا خلاف، والصحيح لا؛ وذلك لأن المقصود من غسل النجاسة هو إزالتها، وهذا لا يحصل بالتيمم فلا فائدة منه، وكما أنه لا يتيمم لنجاسة الثوب، لو كان عليه ثوب ولا يستطيع تطهيره فإنه لا يتيمم له، ولا يتيمم لنجاسة الأرض لو كان في أرض نجسة لا يستطيع الخروج منها، لا نقول: تيمم، إذن التيمم خاص بالحدث الأصغر والأكبر فقط. التيمم من خصائص الأمة الإسلامية: التيمم من خصائص هذه الأمة، وكم لله تعالى من فضل على هذه الأمة من الخصائص العظيمة لو لم يكن من ذلك إلا أن الله خصها بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لكان كافيا، فإن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، والرسول صلى الله عليه وسلم خير رسول أرسل إلى الناس، وخصائص هذه الأمة كثيرة ولله الحمد منها: التيمم؛ حيث قال المؤلف رحمه الله فيما ساقه: 118 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل". وذكر الحديث. "أعطيت" والمعطي هو الله، فضل الله يؤتيه من يشاء؛ ولهذا قال النبي - عليه الصلاة والسلام- وهو يقسم الغنائم: "إنما انا قاسم والله يعطي". فالذي أعطاه الله عز وجل تفضلا منه وكلاما، وقوله: "خمسا" هذا لا يفيد الحصر، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بمثل هذا العدد في بعض الأحيان مع وجود ما يماثله ولكنه يريد تقريب الشيء؛ ولهذا للنبي صلى الله عليه وسلم خصائص غير هذا؛ ولهذه الأمة خصائص غير هذه، وهذا مثل قوله: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم". ويوجد آخرون.

ومثل قوله: "سبعة يظلهم الله في ظله". ويوجد آخرون. قوله: "لم يعطهن أحد" ممن؟ من الأنبياء وغيرهم. "قبلي"، ولماذا لم يقل: ولا بعدي. لأنه لن يأتي رسول من بعده. الأول: قال: "نصرت بالرعب مسيرة شهر" نصرت، والناصر هو الله عز وجل {ولينصرن الله من ينصره} [الحج: 40]. وقال تعالى: {فنعم المولى ونعم النصير} [الحج: 78]. وقوله: "بالرعب" أي: الخوف الذي يلقيه الله - تبارك وتعالى- في قلوب الأعداء كما قال تعالى في بني النضير: {وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} [الحشر: 2]. ولا شك أن الرعب في العدو أقوى سلاحا بفتك به؛ لأن من في قلبه الرعب لا يمكن أن يثبت قدمه لأبد أن يهرب ولا يمكن أن يستقر، فالرعب من أعظم، بل إن لم أقل أعظم سلاح بفتك بالعدو. وقوله: "مسيرة شهر" يحمل هذا على ما كان معروفا في عهد الرسول - عليه الصلا والسلام- وهو سير الإبل المحملة وليس في كل زمان ومكان؛ لأننا لو قلنا بهذا لكان في زماننا مسيرة شهر يبلغ كل المعمورة مشارق الأرض ومغاربها؛ لأن المراد ما كان معروفا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: يقول: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا} هذا الشاهد ف"الأرض" هنا "أل" فيها للعموم؛ أي: كل أرض مسجدا، أي محلا للصلاة، وأصله محل السجود، لكن السجود يطلق على الصلاة، فيكون المعنى: مسجدا، أي: محلا للصلاة، أي مكان، : وطهورا" الطهور بالفتح ما يتطهر به، فوصف الله الأرض بأنها طهور، وأطلق ولم يقل: الأرض ذات التراب، ولا ذات الأشجار أطلق، وقال: "طهورا" كما قال: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا {[الفرقان: 48]. ليتطهر به، والأرض طهور كما أن الماء طهور، "فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل" هذه جملة شريطة مكونة من فعل الشرط وهي "أدركته الصلاة"، وجوابه وهو قوله: "فليصل"، وإدراك الصلاة يكون بدخول وقتها فليصل في أي مكان؛ لأنه إن قال: أريد أن أؤخر لأجل أن أتوضأ بالماء. قلنا له: الأرض طهور، وإذا قال: أؤخر الصلاة لأجد مكانا أطمئن إليه أكثر. قلنا: الأرض مسجد لا عذر لك، عندك طهورك وعندك مصلاك فلا عذر لك. قال: "وذكر الحديث"، وينبغي أن نذكره لما فيه من الفائدة: "وأحلت لي الغنائم". هذه الثالثة: "ولم تحل لأحد قبلي" "الغنائم": ما يأخذه المسلمون من أعدائهم بقتال وما ألحق به، وكانت فيما سبق تجمع وينزل الله عليها نارا من السماء فتأكلها؛ ولذها احتج المكذبون للرسول - عليه الصلاة والسلام- بقولهم: يأتينا بقربان تأكله النار، فكانوا فيما سبق يجمعون

الغنائم فينزل الله عليها نارا فتأكلها، وإذا حدث أن أحدا غل من الغنيمة - يعني: أخذ منها - لم تنزل النار فيبحث من الغال حتى إذا أدرك وألقى الغلول في الغنيمة نزلت النار فأكلتها، وهذه من آيات الله عز وجل. الرابعة: "وأعطيت الشفاعة" والشفاعة هنا المراد بها: الشفاعة العظمى التي لا ينالها إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي تكون حين يصيب الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون في الموقف؛ لأن الموقف مقداره خمسون ألف سنة بأهواله العظيمة التي تجعل الولدان شيبا، فيلحق الناس هم وكرب لا يطيقونه، فيلهمهم الله عز وجل أن يذهبوا إلى آدم أبو البشر خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، ولكنه يتعذر، فيلهمهم الله أن يذهبوا إلى نوح أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وأثنى الله عليه بقوله: {إنه كان عبدا شكورا} [الإسراء: 3]. ولكنه يعتذر، ثم يأتون إلى إبراهيم بالترتيب الزمني فيعتذر، فيأتون إلى موسى فيعتذر، فيأتون إلى عيسى كل ذلك بإلهام الله عز وجل فلا يعتذر لكنه يتخلى عنها لوجود من هو أحق بها وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه من حكمة الله عز وجل، أن الله ألهمهم أن يذهبوا إلى هؤلاء السادة فيعتذرون بما يعتذرون به. والخامس منهم لا يعتذر بشيء، ولكنه يحيل المسألة إلى من هو أولى بها وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتون إليه فيشفع لهم عند الله. ويأتي الله تعالى للفصل بين عباده، هذه الشفاعة كما سمعتم لم ينلها أحد من الناس، أشرف البشر ما نالوها، ادخرها الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لا أحد يحجر على الله؛ لأن له الحكم يفعل ما يشاء، إذن أعطيت الشفاعة"، ما هي؟ الشفاعة العظمى التي يعتذر عنها سادات البشر، وينالها محمد صلى الله عليه وسلم. الخامسة: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، ويعثت إلى الناس عامة". "كان النبي" المراد بالنبي هنا: الجنس، يعني: النبي من الأنبياء يبعث إلى قومه، وذلك حين تتعدد الأقوام، وإنما قيدت بذلك لئلا يرد علينا رسالة نوح؛ لأن نوحا رسالته إلى أهل الأرض، لكن في ذلك الوقت ما كان هناك أمم متفرقون وأقوام لكل قوم نبي، بل الناس واحد فبعث إليهم نوح وقصته معروفة، "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة"، وقلنا: إن نوحا عليه السلام بعث على الناس عامة لأنهم قومه، لم تتفرق الأمم ولم تكثر الخلائق فكان قومه هم أهل الأرض؛ ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام-: {رب لا تذر على الأرض من الكفرين ديارا} [نوح: 26]. وأغرق الله أهل الأرض كلهم إلا ثلاثة من بني نوح.

في هذا الحديث فوائد: منها: منة الله - تبارك وتعالى- على هذه الأرمة؛ حيث خصها بخصائص لم تكن للأمم من قبلهم، وهذا داخل في ضمن قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]. ولم يرد سوى هذا اللفظ فيما سواها من الأمم؛ ورد في بني إسرائيل أن الله فضلها على العالمين، لكن قال العلماء: أي: عالمي زمانهم لا على كل العالم؛ لأن هذه الأمة بالاتفاق هي خير الأمم. ومنها: فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أعطاه الله تعالى ما لم يعط أحدا من الأنبياء قبله. ومنها: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث يجمع بعض الأشياء المتشتتة في سياق واحد؛ لأن ذلك أوعى للقلب وأسمع للأذن، ولم يلزم إذا خص عددا معينا في موضع ألا يزيده في موضع آخر كما قد بينا في الشرح. ومن فوائد هذا الحديث: إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم هذا السلاح الفتاك في عدوه وهو الرعب، فقد نصر بالرعب مسيرة شهر، وما دون ذلك من باب أولى. وهل يثبت هذا لأحد من أمته؟ الجواب: إذا كانت الأمة على سيرة نبيها صلى الله عليه وسلم ثبت لها ذلك ولا شك؛ لأن المعنى الذي نصر من أجله الرسول صلى الله عليه وسلم إذا وجد في أمته فالنصر باق كما قال الله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} [التوبة: 32]. وعلى هذا فنقول: إذا تخلف النصر عن الأمة فلابد أن يكون لذلك سبب، وأسباب الخذلان كثيرة: منها: المعصية. ومنها: الإعجاب بالنفس. ومنها: عدم الإخلاص في الجهاد كالذين يقاتلون لأجل القومية العربية، أو غيرها من القوميات، فإن النصر ليس مضمونا لعدم الإخلاص؛ لكن قد يكون من اجل أن يسلطوا على الآخرين لا انتصارا لهم، أن النصر إذا تخلف في هذه الأمة فلابد أن يكون له سبب، وأما إذا قامت الأمة بما قام به نبيها صلى الله عليه وسلم وخلفاؤها الراشدون فإنه لابد أن يحصل النصر، ومن تتبع التاريخ علم الشاهد لذلك. نتكلم الآن عن قوله: "مسيرة شهر" دائما يكون في الحديث مسيرة ثلاثة أيام، مسيرة شهر، وفي القرآن خمسين سنة، خمسين عاما وما أشبه ذلك، فالمسيرة هنا مسيرة الشهر، بأي شيء توزن المسيرة؟ قال العلماء: توزن المسيرة فيما هو غالب في ذلك الوقت، والغالب في ذلك الوقت سير الإبل المحملة على عادة المسافر لا السريعة ولا البطيئة جدا، كل ما وجدت مسيرة يومين أو ثلاثة أيام أو ما أشبه ذلك، فاحملها على أن ذلك على مسيرة الإبل المحملة التي جرت العادة بالقياس بها. ومن فوائد هذا الحديث: أن الله جعل الأرض مسجدا وطهورا، والجعل ينقسم إلى قسمين: قسم بمعنى الشرع، وقسم بمعنى التصيير والخلق، ففي قوله تعالى: {وجعلنا الليل لباسا وجعلنا

النهار معاشا} [النبأ: 10، 11]. ما هذا؟ الخلق والتصيير، أي: صبرناه معاشا، {وجعلنا الليا والنهار ءايتين} [الإسراء: 12]. كذلك وفي قوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة} [المائدة: 103]. أي: ما شرع؛ لأن البحيرة موجودة، العرب يفعلون البحيرة، والسائبة والوصيلة والحام، لكن {ما جعل} أي: ما شرع، هنا جعلت الأرض مسجدا من أي القسمين؟ الشرعي. ومن فوائد هذا الحديث: أن جميع الأرض تصح فيها الصلاة، كل الأرض، فأي إنسان رآك تصلي وقال: صلاتك غير صحيحة في هذا المكان لابد أن تقول: ما هو الدليل؟ وعموم هذا يقتضي صحة صلاة الفريضة في جوف الكعبة، فتصح صلاة الفريضة في جوف الكعبة كما تصح النافلة، وصلاة النافلة ثبتت بها السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في جوف الكعبة. والأصل أن ما ثبت في النقل ثبت في الفرض، وعندنا هذا العموم: "جعلت لي الأرض مسجدا". فإن قال قائل: الفريضة لا تصح في الكعبة، ولا في الحجر؟ سألناه هل الكعبة في السماء أم في الأرض؟ فسيقول: في الأرض، إذا قال: في الأرض، قلنا: ما الذي أخرجه من هذا العموم: "جعلت لي الأرض". يبقى على هذا: ما الذي يستثنى لننظر؟ أولا: المكان النجس يستثنى، المكان النجس لا يصلى فيه، ودليل ذلك: أنه لما بال الأعرابي في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصب عليه ذنوبا من ماء. وهذا يدل على أنه لابد أن تكون أرض المصلي طاهرة، وهذا نص صريج. ثانيا: قول الله تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين والعكفين والركع السجود} [البقرة: 125]. وهذا يشمل الطهارة الحسية والمعنوية، هذا واحد؛ المقبرة لا تصح الصلاة فيها، ودليل ذلك أمرين: الأمر الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي مرثد الغنوي: "لا تصلوا إلى القبور". فإذا نهى عن الصلاة إلى القبور - أي: تجعلها قبله له- خوفا من الفتنة والشرك، فالصلاة بينها من باب أولى ولا شك. الأمر الثاني: أنه روى الترمذي بإسناد لا بأس به، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام". فالمقبرة لا يصح الصلاة فيها لا فرضا ولا نفلا سواء كان ذلك بين

القبور، أو خلف القبور، أو عن يمين القبور، أو عن شمال القبور، وعلى هذا فإذا كانت مقبرة كبيرة فيها مساحات كبيرة لم يدفن فيها؛ فالصلاة في هذه المساحات لا تصح؛ لأنها داخلة في اسم المقبرة، ومن هنا نأخذ حرص الشارع على حماية التوحيد، وتجنب كل طريق موصل إلى الشرك؛ لأن فتنة القبور ليست هبة بل من أعظم الفتن التي افتتن بها بنو آدم فتنة القبور. الثالث: "الحش والحمام"، الحمام فيه الحديث الذي سمعتم: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"، والحش من باب أولى، والفرق بينهما: أن الحمام هو المغتسل، والحش هو المحتلى - يعني: الذي يقضي فيه الإنسان حاجته ببول أو غائط-، وكان هذا معروفا عند السابقين، وأدركناه نحن، كان الناس بالأول في بيوتهم كنف تقضى فيها الحاجة فقط، البول أو الغائط، ثم يقوم الإنسان من هذا المكان إلى مكان آخر ليستنجي أو يستجمر، فالمكان الأول هذا يسمى حشا لا تصح الصلاة فيه لهذا الحديث الذي هو الحمام، فإن الحش أخبث من الحمام. الرابع: أن تكون الصلاة إلى قبر بحيث يكون القبر بين يدي الإنسان، فإن الصلاة في هذا المكان لا تصح؛ لا لأنه نجس أو خبيث أو ما أشبه ذلك، ولكن لأن كون القبر أمامك وسيلة إلى الشرك، فإنه قد يتدرج الناس - ولاسيما الجهال- إلى الصلاة للقبور؛ ولهذا ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "لا تصلوا إلى القبور". الخامس: أعطان الإبل وهي مناخها التي تقيم فيها وتأوي إليها، وعلى القول الصحيح: ما تعطن فيه بعد شرب الماء؛ لأن الإبل إذا شربت الماء تنحت قليلا عن مكان الماء ثم وقفت تبول وتروح، فالإبل معاطنها لا تصح الصلاة فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في معاطن الإبل فأيى، قال: "لا"، قالوا: نصلي في مرابض الغنم، قال: "نعم". هل لأن أروائها نجسة وأبواها نجسة؟ لا، ولكن لأن أعطانها مأوى الشياطين؛ لأن الإبل خلقت من الشياطين كما خلق الإنسان من عجل - يعني: أن طبيعتها طبيعة الشياطين - وليس المعنى: أنها من ذرية الشيطان؛ لأن هذا عالم آخر، لكن هذا كقوله: {خلق الإنسن من عجل} [الأنبياء: 37]. يعني: أن طبيعتها طبيعة الشياطين، فتكون معاطنها مأوى الشياطين فلا تصح الصلاة فيها؛ وقال بعض

العلماء: إنها لا تصح الصلاة فيها؛ لأنه يخشى على الإنسان الذي يصلي فيها أن تدعسه الإبل وتهلكه، لكننا لو جعلنا هذه هي العلة لزم أن تصح الصلاة فيها إذا لم تكن موجودة فيها، وظاهر الحديث العموم، وهذا هو الصحيح أنه عام فلا تصح الصلاة في معاطن الإبل، أما ما بركت فيه الإبل لكون صاحبها نزل في أرض يستريح يتغذى أو يتعشى أو ينام ثم بالت وراثت ثم انصرفت، فهذا لا يعد من معاطنها فتصح الصلاة فيه. السادس: المغصوب عند كثير من العلماء: الأرض المغصوبة أو أي شيء غصبته من صاحبه وصليت؛ فإن الصلاة لا تصح فيه على قول كثير من أهل العلم، وجه ذلك أن لبسه في هذا المكان معصية ومنهي عنه ولا يمكن أن يكون محلا لطاعة لما في ذلك من التضاد، كيف تقيم مقاما نقول لك: إنك عاص، ونقول في نفس الوقت: إنك مطيع؟ ! هذه منافاة تامة وتناقض، فلا تصح الصلاة في أرض مغصوبة، وعلى هذا فمن بقي في بيته مستأجرا دون رضا صاحب البين؛ فإن صلاته لا تصح ولا صلاة أهله، اللهم إذا كان أهله لا يستطيعون أن يصلوا في مكان آخر، فهنا قد نقول: إنهم مثل الذين حبسوا في مكان غصب تصح صلاتهم لكن إثمها على رب الأسرة. فإذا قال: إنه باق بالأجرة بدون رضا المؤجر بناء على القانون؛ لأن بعض الدول إذا استأجر الإنسان البيت صار كالمالك لا يمكن لأن يخرج منه إلا إذا طارت نفسه منه. فنقول: إن القانون لا يحلل الحرام، وأنت إذا احتججت بالقانون فإذا أخذت الحجة بقوة السلطان فأنت ظالم لا شك، وإن احتججت بالقانون لأنك جعلته الحكم بين الناس دون حكم الله فإنك على خطر عظيم أن تكون مشركا، الذي يقيم بحجة القانون بغير رضا صاحبه لا يخلو من حالين: إما أن يحتج بالقانون باعتبار السلطة، وأنك لا تستطيع أن تخرجني؛ لأنك مهما رفعت الأمر سيكون بقائي لازم، فهذا نقول: إنه عارض ظالم، ولا إشكال فيه، وإما أن يحتج بالقانون مقدما له على حكم الله ورسوله، فهذا على خطر، ويصح أن نقول: إنه مشرك؛ لأن الله تعالى قال: {اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم} [التوبة: 31]. فقال عدى بن حاتم لرسول اله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم، قال: "أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ " قال: نعم، قال: "فتلك عبادتهم". فالمسألة خطيرة؛ ولهذا أوصي إخواني الذين من غير هذه البلاد أن يبثوا هذا الوعي في العامة أنه لا يجوز لأحد أن يسكن دار تخص غيره بغير رضاه حتى بحكم القانون.

أما الصحيح من أقوال العلماء في هذه المسألة - أي: الصلاة في الأرض المغصوبة-: أن الصلاة صحيحة لكنه آثم، وذلك لانفكاك الجهة؛ لأن الصلاة طاعة من حيث أمر الله بها، والغصب معصية من حيث النهي عن أكل المال بغير حق، ولم يرد النهي عن الصلاة نفسها، لو قيل مثلا: لا تصلي في أرض مغصوبة بهذا اللفظ، لقلنا: الصلاة باطلة، كما قلنا: إن الصلاة تدخل في أوقال النهي بقوله: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع البشمس". فهنا لو صلى الإنسان صلاة ليس لها سبب بعد صلاة الفجر، لقلنا: صلاته باطلة، وهو آثم، لأن النهي هنا عن الصلاة. فالصحيح: أن الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة لكنه آثم بالبقاء، ووجه ذلك: انفكاك الجهة؛ والنهي لم يرد عن الصلاة نفسها، لو قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا في الأرض المغصوبة"؛ قلنا: إذن الصلاة باطلة كما قلنا ببطلان صلاة الرجل إذا صلى في وقت النهي. المهم: ما هو الأصل في الأرض أن تصلح للصلاة أو لا؟ تصلح للصلاة، هذا هو الأصل، فأي إنسان يعترض قل له: هات الدليل، أما حديث عبد الله بن عمر في أنها لا تصح الصلاة في سبع مواطن. فهذا حديث ضعيف، ولا يعول عليه. ومن فوائد حذا الحديث الشريف: أن جميع الأرض مكان للتيمم، لقوله: "وجعلت الأرض مسجدا وطهورا" كل الأرض، الأرض الحجرية يصح التيمم عليها؟ نعم، الرملية. نعم، الندية؟ نعم، كل الأرض جعلت مسجدا وطهورا. فإن قال قائل: إذا كانت الأرض رملية أو ندية، أو حجرية فليس فيها غبار فلا يصح التيمم بها؟ قلنا: من قال أنه يشترط أن يكون فيها غبار والحديث عام، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الناس يسافرون في أيام الشتاء، وأيام الشتاء ما بين أمطار أو طل أو ما أشبه ذلك، وهو - عليه الصلاة والسلام- سافر إلى تبوك وفي طريقه الرمال الكثيرة، والناس يتيممون، على هذا فالتيمم على أي نوع من أنواع الأرض جائز سواء كان فيها تراب أو لا. فإن قال قائل: أليس قد جاء في هذا الحديث: "جعلت تربتها لنا طهورا"؟ فنقول: إن كانت هذه اللفظة محفوطة - يعني: عن النبي صلى الله عليه وسلم- فهي من ذكر بعض أفراد العام بما يوافق حكم العام، وذكر أفراد العام بما يوافق حكم العام لا يفيد التخصيص كما هو معروف، اللهم إلا إذا كان هذا المخصص لوصف يقتضي الحكم، كما لو قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: أكرم المجتهد، فهنا يكون التخصيص، أما اللقب الذي هو مجرد اسم فهذا ليس

بتخصيص، وهذا ما تجدونه أحيانا في بعض المجادلات ببين الفقهاء يقولون: مفهوم هاذ مفهوم لقب، ومفهوم اللقب ليس بحجة. قلنا طريقان: إما أن نقول: هذا ذكر بعض أفراد العام بما يوافق العام، وهذا لا يقتضي التخصيص لما حققه أهل العلم في أصول الفقه، ومن آخر ما رأيت الشيخ الشنقيطي رحمه الله في كتابه "أضواء البيان" وهذا هو الذي عليه الجمهور، وإما أن نقول: إن هذا بناء على الغالب. فإن قال قائل: ما تقولو في قول الله: {فأمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6]؟ فالجواب: أن "من" هنا لا يلزم أن تكون للتبعيض، بل هي لبيان الجنس أو للابيتداء؛ ولهذا جاء في حديث عمار بن ياسر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ضرب الأرض نفخ في كفيه قبل أن يسمح وجهه، فالصواب: إذن: أن جميع الأراضي يصح التيمم منها بدون استثناء، لكن اشترط الله في ذلك أن تكون طيبة، قال: {صعيدا طيبا} [النساء: 43]. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجب طلب الماء قبل دخول الوقت؛ لقوله: "أدركته الصلاة". ومن فوائده: الإشارة إلى فعل الصلاة في أول وقتها. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجوز لمن دخل عليه وقت الصلاة ولم يجد الماء أن يصلي بالتيمم، وإن كان يعلم وجود الماء في آخر الوقت لقوله: "أدركته الصلاة". وقال بعض أهل العلم: إذا علم وجوده في آخر الوقت لزمه التأخير، وله حظ من النظر؛ لأن تقديم الصلاة في أول وقتها سنة، واستعمال الماء عند وجوده واجب. ومن فوائده: أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها ولو لعالم بوجود الماء قريبا لقوله: "فليصل"، ويعضده قوله تعالى: {إن الصلوة كانت على المؤمنين كتبا موقوتا} [النساء: 103]. ومن فوائد الحديث: حل الغنائم لهذه الأمة؛ لقوله: "وأحلت لي الغنائم". ومن فوائده: جواز النسخ في الأحكام سواء كان ذلك باعتبار النبوات أو باعتبار الشريعة الواحدة، يعني: باعتبار الشرائع، أو باعتبار الشريعة الواحدة. ومن فوائده: فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء الشفاعة؛ لقوله: "وأعطيت الشفاعة". ومن فوائده: إثبات الشفاعة، والعلماء - رحمهم الله، بل هذه الأمة- اتفقوا - فيما أعلم- أن الشفاعة العظمى ثابتة، يعني: قال بذلك السني والبدعي، أما الشفاعة في أهل الكبائر فعند المعتزلة والخوارج لا تثبت؛ لأنهم يرون أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، ولا يمكن أن يشفع فيه، والصحيح أنها ثابته، ولذلك أدلة معروفة في كتب العقائد.

عدم صحة التيمم مع وجود الماء

ومن فوائد هذا الحديث: عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "ةوبعثت إلى الناس عامة". ومن فوائده: أنه لا يمكن تغيير الشريعة باختلاف الزمن؛ لأنه لو جاز ذلك لم تكن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة، لكن ما قيد بالمصالح فإنه يتغير باختلاف الأحوال، يعني: ما علم من الشرع أنه تابع للمصالح فإنه لا شك يختلف باختلاف الأحوال، وأما الأصول الثابتة فإنه لا يمكن أن تنسخ. ومن فوائده: أنه لا عموم في رسالة أحد من الرسل إلا النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "وكان النبي يبعث على قومة خاصة". فإن قال قائل: أليس نوح بعث إلى الناس جميعا؟ قلنا: لأنه لا يوجد في ذلك الوقت إلا قومه. عدم صحة التيمم مع وجود الماء: 119 - وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم: "وجعلت تربتها لنا طهورا، إذا لم نجد الماء". ففي هذا الحديث تخصيصان عن حديث جابر السابق. الأول: قوله: "تربتها"، والثاني: قوله: "إذا لم نجد الماء". فأما الأول: فهو قيد غير مراد؛ وذلك لأنه نص على بعض أفراد العموم؟ وذكر بعض أفراد العموم بحكم يوافق العام لا يقتضي التخصيص، اللهم إلا إذا كان التقييد بمعنى يختص به فحينئذ يقتضي التخصيص، وهنا كلمة "التراب" ليست وصفا تتغير به الأحكام، وإنما هو لقب، سمي التراب لأنه تراب، ومفهوم اللقب عند العلماء غير معتبر. وأما الثاني: "إذا لم يجد الماء" فهذا القيد لا شك أنه معتبر ينص القرآن؛ لقول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [النساء: 43]. ويضاف إلى فوائد هذا الحديث: أنه لا يصح التيمم مع وجود الماء. ولكن لو قال قائل: إن وجد الماء ولم يجد ثمنه، وليس ملكا له وليس عنده ثمن يشتريه به فهل نقول: إنه كعادم الماء؟ الجواب: نعم، لأن عدم ثمن الماء كعدم الماء. فإن قال قائل: فإذا وهب له هل يلزمه قبوله هدية؟ فالجواب: لا، لا يلزمه لما في ذلك من المنة، هكذا قال العلماء، وبناء على هذا التعليل نقول: إذا وهبه له من لا منة له عليه كأبيه وابنه لزمه القبول، وأما إذا وهبه أجنبي فإنه لا يلزمه؛ لأنهربما في يوم من الأيام يمن عليه بذلك فيخجله.

حكم التيمم من الجنابة وصفته

فإن قال قائل: وهل يلزمه أن يشتريه إذا وجد الثمن؟ فالجواب: نعم، يلزمه؛ لأنه لا يصدق عليه أنه عادم. فإن قال قائل: وهل يلزمه استعارته إذا قال: يمكن استعارة ما يحمل فيه الماء، كالدلو والرشاء وما أشبه ذلك؟ فالجواب: أنه يلزمه إلا إذا كان يخشى أن يمن عليه بذلك؛ فإنه لا يلزمه، أما إذا كان يستعيره من شخص قد علم أنه يفرح إذا استعير منه الشيء؛ فإنه يلزمه لعدم وجود العلة التي هي المنة. 120 - وعن علي رضي الله عنه عند أحمد: "وجعل التراب لي طهورا". وهو قريب من حديث حذيفة، وفيه من الفوائد من حديث حذيفة، أن التيمم مطهر كما سبق، وإذا كان مطهرا لزم أن يكون رافعا للحدث، وهذا هو ما تقتضيه دلالة القرآن والسنة، فالقرآن قال الله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} [المائدة: 6]. والسنة كما ترون وصف النبي صلى الله عليه وسلم التراب أنه طهور، والطهور ما يتطهر به، وبناء على هذا القول لم تيمم من علم أنه لن يجد الماء بعد الوقت لو تيمم قبل دخول الوقت فتيممه صحيح، وله أن يصلي به، ومن تيمم في الوقت ثم خرج الوقت وعلى طهارته فتيممه لا يبطل إلا بزوال مبيحه، وهو البرء إن كان التيمم لمرض، ووجود الماء إن كان التيمم لعدم الماء، ثم قال رحمه الله: حكم التيمم من الجنابة وصفته: 121 - وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال هلى اليمين، وظاهر كفيه ووجهه". متفق عليه، واللفظ لمسلم. وفي رواية البخاري: "وضرب بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه". قوله: "عن عمار بن ياسر قال: بعثني" بمعنى: أرسلني، فالبعث يكون بمعنى

الإرسال، ومن قوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا} [النحل: 36]. أي: أرسلنا، وقوله: "في حاجة" لم يبينها إما لأن الذي ينبغي للإنسان المرسل في حاجة - لاسيما من ولاة الأمور- ألا يبينهما؛ لأنها قد تكون من الأسرار التي ينبغي اطلاع الناس عليها، أو لسبب من الأسباب، "فأجنبت" أي: أصابتني جنابة، وجنابة تكون في واحد من الأمرين: إما بالجماع، وإما بالإنزال، والظاهر أنها كانت بالاحتلام، أعني: التي وقعت من عمار بن ياسر. قوله: "فلم أجد الماء" وذلك بعد طلبه، قال العلماء: إن نفي الوجود لا يكون إلا بعد الطلب، وقد يكون تعبيره بقوله: "لم أجد الماء" فإنه هو أعلم بأنه ليس حوله ماء، فيصح ان يقول: "لم اجد الماء" وإن لم يطلبه. "فتمرغت في الصعيد" أي: تقلبت، يعني: على الجنبين الأيمن والأيسر، والبطن والظهر، "كما تتمرغ الدابة" وهاذ التشبيه للبيان، وليس للتقبيح، لأنه لا يمكن أن يأتي بتشبيه للتقبيح، وهو من فعل نفسه وهو أيضا بإقامة عبادة، لكنه للبيان لئلا يظن الظان أنه تمرغ في بعض جسده بل في كله "كما تتمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك" أي: ذكر أنه أصابته الجنابة، وأنه تمرغ كما تتمرغ الدابة بناء على أن طهارة التراب كطهارة الماء، فكما أن الماء يعم جميع البدن فكذلك طهارة التيمم هكذا قال. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما يكفيك أن تقول: بيديك" "يكفيك" أي: عن التمرغ، ويحتمل أن المعنى: يكفيك عن الاغتسال الذي تمرغت من أجله أن تقول بيديك هكذا، هنا أطلق القول وأراد به الفعل؛ لأن اليد لا تقول القول باللسان، لكن قد يطلق القول ويراد به الفعل، "بيديك هكذا" ثم فسر هذا المجمل، "ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه". قوله: "مسح الشمال على المين" يعني هكذا، وظاهره أنه على كل الكف ظاهره وباطنه؛ ولهذا قال: "وظاهر كفيه". إذن مسح الشمال على اليمين من الباطن، وظاهر كفيه من الظاهر، "ووجهه" يعني: ومسح وجهه. وفي رواية للبخاري: "وضرب بكفيه الأرض" ولكنها لا تعارض رواية مسلم؛ لأن اليد إذا أطلقت فالمراد بها: الكف، وإذا قيدت بما قيدت به. فإذا قيل: يده إلى الكتف صارت اليد كل العضو، وإذا قيل: يده إلى المرفق صارت إلى المرفق، يده فقط صارت الكف، ولهذا لما قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]. صار المراد بذلك: الكفين فقط، "وضرب بيديه الأرض ونفخ فيهما" وكأنه - والله أعلم- علق بهما تراب كثير فنفخ ليتساقط بعض ما علق ثم مسح بهما وجهه وكفيه. في هذه الرواية للبخاري زيادة النفخ: نفخ فيهما"، وفيه أيضا: سياق مخالفة الترتيب، فإن

سياق مسلم: أنه مسح بيديه قبل الوجه، وسياق البخاري: مسح الوجه قبل اليدين، وسياق رواية البخاري هو الذي يوافق القرآن، قال الله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6]. فكون البدء بالوجه؛ لأنه أشرف، ولأجل أن يوافق ترتيب التيمم ترتيب الوضوء، فإن الترتيب في الوضوء: الوجه قبل اليدين. ففي هذا الحديث فوائد، منها: جواز بعث الغير في جاجة، فإن كانت دعوة أو كتابا أو ما أشبه ذلك فهي عبادة، وإن كانت خاصة فهي جائزة، وهذا لا ينافي كراهة السؤال - أي: سؤال الغير- لأنك إذا علمت أن الغير بفرح إذا كلفته بشيء فإن المنة تكون منك عليه، وليس منه عليك. ومن فوائد هذا الحديث: جواز التصريح بما يستحيا منه عند الحاجة، لقوله: "فأجنبت" وهذا قد يستحي منه الإنسان، لكن إذا كان لحاجة كبيان حكم شرعي، فإنه لا بأس به، وقد يكون واجبا. ومن فوائده: أنه لا يجوز التيمم مع وجود الماء لقوله: "فلم أجد الماء"، وهذا كإقامة الدليل على جواز التيمم. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز التيمم مع وجود الماء لقوله: "فلم أجد الماء"، وهذا كإقامة الدليل على جواز التيمم. ومن فوائد هذا الحديث: أن مقتضى القياس مساواة الفرع للأصل، وجهه: أنه قال الطهارة بالتراب على الطهارة بالماء فتمرغ. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجوز العمل بالقياس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه مشروط بما إذا لم يتمكن من الوصول إلى النص، فإن تمكن لم يصح القياس، أما إذا لم يتمكن فلا بأس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه. ومن فوائده: أنه لا قياس مع النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل قياس عمار بن ياسر رضي الله عنه. ومن فوائده: أن من اجتهد فاخطأ فإنه لا يؤمر بالإعادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمارا بإعادة ما سبق من الصلاة، ولو أمره لنقل لأهميته، لا يقال: إن عدم النقل ليس نقلا للعدم؛ لأنا نقول هذا مهم، وإاذ كان عمار رضي الله عنه ذكر صفة التيمم، فكيف لا يذكر إعادة الصلاة لو كان الرسول أمره بها مع أنها أهم؟ وعلى هذا؛ فإذا اجتهد الإنسان اجتهادا بلا تفريط وأخطأ؛ فإنه لا إعادة عليه، وهذا له شواهد وله أصول منها: المرأة التي كانت تستحاض حيضة شديدة ولا تصلي، فلم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة لأنها بنت على الأصل، وهو أن الأصل في الدم أنه حيض، ولا تصلي الحائض، أما إذا كان مجرد حرص غير مبني على أصل أو كان هناك تفريط فإن عليه الإعادة. من التفريط مثلا لو اجتهد في القبلة وهو في البلد يمكنه أن يسأل ويتيقن؛ فإن عليه الإعادة؛ لأنه قادر على تصحيح الاتجاه، أما إذا لم يكن تفريط فلا إعادة.

ومن فوائد هذا الحديث: أن محل التطهير في التيمم عضوان فقط، وهما: الوجه واليدان، وهما أشرف الأعضاء بالنسبة للوجه فالوجه أشرف من الرأسى، واليدان أشرف من الرجلين، ولهذا كفى بالتعبد أن يلوث الإنسان وجهه ويديه بالتراب، فصارت الطهارة بالتيمم مقصورة على عضورين فقط هما أشرف أعضاء الوضوء: الوجه واليدان. ومن فوائد هذا الحديث: أن طهارة الوضوء وطهارة التيمم في الجنابة سواء، يعني من فوائده: أن الحدث الأصغر والأكبر سواء في طهارة التيمم بخلاف الماء. ومن فوائد الحديث: أنه لا يكرر المسح في التيمم؛ لأن حديث عمار ليس فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كرر، قال العلماء: وهكذا كل ممسوح فإن تكرار مسحه مكروه؛ لأن فيه نوع مضادة للحكم الشرعي، إذ إن الشارع إنما جعل تطهيره بالمسح تخفيفا فتكراره تقيل، فيكون فيه نوع مضادة، وعلى هذا كل شيء يمسح فتكرار مسحه مكروه، الرأس يكره تكرار المسح، الخفان يكره تكرار مسحهما، الجبيرة يكره تكرار مسحها، التيمم يكره فيه التكرار. ومن فوائد هذا الحديث: أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين؛ لأن عمارا لم يذكر إلا ضربة واحدة، وأكدها فقال: "ضربة واحدة". هل يستفاد منه أن ما استعمل في الطهارة لا يكون طاهرا غير مطهر؟ ربما يستفاد من ذلك أن المستعمل بالطهارة لا يكون طاهرا غير مطهر؛ لأن الحديث ظاهره أن الرسول مسح الوجه، ومسح الكفين كليهما، أما الفقهاء الذين يرون أن التيمم المستعمل لا يجوز التطهير به، فيقولون: يمسح الوجه بالأصابع، ثم يمسح الكفين براحة اليد، ولا شك أن هذا تكلف لم تأت به السنة. فإما أن يقال: إنه يستفاد منه أن الطهور المستعمل في طهارة واجبة لا ينتقل من الطهورية إلى الطهارة، وإما أن يقال: إن طهارة التيمم يراعى فيها التخفيف، على أن الأصل الذي ذكرناه على القول الراجح لا ينتقل فيه الماء من الطهرية إلى الطهارة، وأن الماء المستعمل في رفع الحدث طهور مطهر. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب استيعاب الوجه في مسح التيمم لقوله: "ووجهه"، وبه نعرف تقصير بعض العوام الذين إذا تيمموا يمسحون وسط الوجه فقط، والواجب أن يمسح الوجه كله من منحى الجبهة إلى أسفل اللحية، ومن الأذن إلى الأذن؛ لقوله: "وجهه". ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية النفخ بعد الضرب، لكن نقول: إن هذا مقيد بما إذا علق بهما تراب كثير. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الترتيب في التيمم سواء كان عن جنابة أو كان عن حدث

أصغر، ولكن الفقهاء - رحمهم الله- يقولون: إن تيمم عن حدث أصغر وجب الترتيب، وإن تيمم عن حدث أكبر لم يجب الترتيب، لكن ظاهر الأدلة وجوب الترتيب مطلقا، ولا يصح أن يقاس على طهارة الماء؛ لمخالفته لطهارة الماء في أصول كثيرة، فالصواب: وجوب الترتيب. لكن هل يسقط الترتيب بالجهل والنسيان؟ الظاهر هذا، أن الترتيب يسقط بالجهل والنسيان في كل شيء. إذا قال قائل: من أين لكم وجوب الترتيب؟ قلنا: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أبدأ بما بدأ الله به". هكذا أخرجه مسلم، وفي رواية في السنن، قال: "ابدءوا بما بدأ الله به". فإن قال قائل: وهل يجوز التيمم على غير الأرض كالتيمم على البساط ونحوه؟ فالجواب: إن كان فيه تراب جاز ذلك؛ لأن التراب الذي فيه جزء من الأرض وإن لم يكن فيه تراب فالظاهر أنه لا يجوز. فإن قال قائل: إذا لم يكن عنده في المكان إلا هذا الفراش النظيف؟ نقول: يسقط عنه التيمم لعدم وجود الماء وعدم وجود التراب. ومن فوائد هذا الحديث - حديث عمار-: أنه يجوز للجن التيمم كما يجوز للمحدث حدثا أصغر؛ لأن قضية عمار هي تيمم في الجنابة، وهذا أجمع العلماء عليه بعد أن كان فيه الحلاف قديما، وممن خالف فيد قديما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه خالف في ذلك، وقال: إإنعلى الجنب أن ينتظر حتى يجد الماء، ثم يغتسل، وناظره عمار في ذلك؛ لأن عمر كان مع عمار حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم وذكره هذا - ذكر عمار عمر هذه القضية- ثم قال له: يا أمير المؤمنين، إن شئت بما جعل الله لك علي من الطاعة ألا أحدث به، قال: لا، حدث نوليك ما توليت، فحدث به، فصار يتحدث به، ولكن الإجماع بعد ذلك انعقد - والحمد لله- على أنه يجوز التيمم للجنب ولمن حدثه أصغر. 122 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين". رواه الدارقطني، وصحح الأئمة وقفه.

قوله: "التيمم ضربتان" يعني: أنه لابد من ضربتين: وقوله: "ضربة للوجه، وضربة لليدين": أما ضربة الوجه، فالوجه قد اثبت أنه يمسح بالتيمم، وأما اليدان فقال: "وضربة لليدين إلى المرفقين" هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الكثيرة حديث عمار وغيره، وأن التيمم يكون في الكفين فقط وهو أيضا ظاهر القرآن، وعلى هذا فلا يصح هذا الحديث مرفوعا إلى رسول الله - عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك قال المؤلف: "وصحح الأئمة وقفه" الأئمة يعني بذلك: أئمة الحديث، ولا يلزم أن يكون المراد: أئمة الفقه؛ لأن إمام كل فن من له قدم فيه وأتباع عليه، فيكون الأئمة هنا ليس الأئمة الأربعة، ولكن أئمة الحديث. وقوله: "وقفه" أي: كونه عن ابن عمر نفسه، وليس عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الموقوف عندهم هو ما انتهى إلى من؟ إلى الصحابي إذا لم يكن له حكم الرفع، فإن كان له حكم الرفع فهو مرفوع لكنه مرفوع حكما. في هذا الحديث من الفوائد: أنه لابد من ضربتين في التيمم، ولكن ما دمنا صححنا أنه موقوف، فيكون هذا على رأي ابن عمر، والسنة بخلافه، بل والقرآن بخلافه؛ لأن الله قال في التيمم: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6]. ونحن نرى أن القرآن الكريم إذا أطلق الد فهي الكف فقط، ولهذا اجمع العلماء على انه لا يقطع في السرقة إلا الكف؛ لأن الله قال: {أيديهما} [المائدة: 38]، ولم يقيد، أما في الوضوء فنعم إلى المرفق؛ لأن الله قيد ذلك فقال: {وأيديكم إلى المرافق}. وفي قوله: {وأيديكم إلى المرافق} دليل واضح على أن اليد إذا أطلقت لم تبلغ المرفق، وإنما المراد بها: الكف، وعليه يكون هذا الأثر من قول ابن عمر، ولكن لا عبرة به ما دام خالف ظاهر القرآن وصريح السنة فإنه لا عبرة به؛ لأن قول الصحابي لا يكون حجة إذا خالف النص القرآني أالنبوي، وأيضا المعنى يقتضي عدم مسح الذراع؛ لأن الذراع غالبا يكون خفيا إما في الثوب وإما في الرداء، فلا يظهر عليه أثر التعبد بتمرغ الإنسان أو بتعفير الإنسان وجهه ويديه، بخلاف الوجه وبخلاف الكف فإنه يظهر عليهما الغبار - غبار التراب- حتى يتبين أن هذا الرجل تعبد لله تعالى بتعفير وجهه وكفيه تقربا إلى الله واحتسابا للأجر.

بطلان التيمم بوجود الماء

بطلان التيمم بوجود الماء: 123 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصعيد وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله، وليمسه بشرته". رواه البزار وصححه ابن القطان، ولكن صوب الدارقطني إرساله. 124 - وللترمذي: عن أبي ذر نحوه، وصححه. "الصعيد وضوء المسلم" وهذا الإطلاق في الصعيد مقيد بما جاء في القرآن وهو قوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طبيا} [النساء: 43]. والصعيد: هو كل ما تصاعد من الأرض فهو صعيد سواء كان رمليا، أو ترابيا، أو حجريا أم غير ذلك، وقوله: "وضوء" بالفتح هو ما يتوضأ به، وهذا مثل قوله فيما سبق في حديث جابر: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا". وقوله: "وضوء المسلم وإن لم يجد الماء" هل يقال: إن كلمة "المسلم" ليست وصفا مقيدا؛ لأن الكافر ليس له وضوء أصلا فيكون هذا من باب بيان الواقع؛ لأن الذي يتوضأ إنما هو المسلم. قوله: "وإن لم يجد الماء عشر سنين" "عشر" ظرف ل"يجد". والمعنى: لو عدم الماء عشر سنوات، فإن الصعيد يكون طهورا له ووضوءا له، "فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته" إذا وجد الماء بعد هذا الدهر فليتق الله؛ أي: فليلزم تقوى الله عز وجل، وبين أن التقوى هنا خاصة لقوله: "وليمسه بشرته" أي: فليتق الله في ترك التيمم واستعمال الماء؛ ولهذا قال: "وليمسه بشرته" أي: ما يجب تطهيره بالماء من البشرة، وهذا قد يكون البشرة كلها إذا كان عن جنابة، وقد يكون بعضها إذا كان عن حدث أصغر، لكن سياق الحديث إن كان هاذ اللفظ محفوظا - أعني: "وضوء" يقتضي- "وليمسه بشرته" أي: ما يجب تطهيره من البشرة وهي الأعضاء الأربعة، وأيضا "وليمسه بشرته" يشمل الممسوح والمغسول. وقوله: "رواه البزار وصححه ابن القطان، لكن صوب الدارقطني إرساله" اعلم أن الإرسال عند المحدثين له معنيان: المعنى الأول: هو أن المرسل ما رفعه التابعي أو الصحابي الذي لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، هذا يسمى مرسلا، وهذا التعريف أحسن من قول بعضهم: المرسل ما سقط منه الصحابي؛ لأن

هذا يخرج ما أرسله الصحابي الذي لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه مرسل، فلو أن محمدا بن أبي بكر رضي الله عنه رفع حديثا إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام- فهو مرسل؛ لأن محمدا إنما ولد في عام حجة الوداع فلا يمكن أن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم. المعنى الثاني: إذا رفعه التابعي - يعني: بأن حذف الصحابي - مثل أن يروي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو علقمة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهاذ يسمى مرسلا، وهذا هو المرسل الخاص الذي يتكلم عنه أهل الاصطلاح. وقد يطلق المرسل على ما سقط منه واحد من سنده، ولو كان في أثناء السند، وهذا هو المعروف عند أهل أصول الفقه يرون أن المرسل هو الذي سقط منه راو في متصل السند. على كل حال: المرسل بهذا، وهذا من أقسام الضعيف حتى نعلم من الساقط، وحينئذ نحكم على الحديث بعد معرفة الساقط بما يقتضيه من ضعف أو صحة. قوله: "وللترمذي عن أبي ذر نحوه وصححه" قال: إنه صحيح، لكنه من رواية أبي ذر، فيكون بذلك شاهدا للحديث، ومن المعلوم انه إذا كان الضعيف يسيرا وصار له شاهد فإنه يقوى به، فيقال: هذا الحديث لو قدرنا أن سنده ضعيف، فإن قواعد الشريعة تشهد له؛ لأن الله إنما أباح التيمم عند عدم الماء بدون تقييد، ما قال: "ما لم تجدوا ماء" بدون سنة أو سنتين أو أكثر أطلق، وأيضا قيد هذا بعدم وجود الماء، فيدل بذلك على أنه من وجد الماء وجب استعماله، فهذا الحديث وإن لم يصح باعتبار السند فهو صحيح باعتبار المعنى، وهذه فائدة ينبغي للإنسان أن يتفطن لها؛ لأن المرسل إذا قوي بشهادة قواعد الشريعة له صار حجة، وكذلك إذا قوي بقبول العلماء له فإنه يكون حجة. ففي هذا الحديث فوائد: أولا: جواز التيمم من جميع الأرض؛ لقوله: "الصعيد وضوء المسلم" بدون تقييد. ومن فوائده: أن التيمم يقوم مقام الماء بقوله: "وضوء"؛ والوضوء هو ما يتوضأ به الإنسان الذي يجد الماء؛ وهذا هو القول الراجح وقد بيناه فيما سبق، وقلنا: إن التيمم إذا تعذر استعمال الماء يقوم مقامه في كل شيء حتى لو تيمم لنافلة فله أن يصلي فريضة، ولو تيمم لقراءة القرآن فله أن يصلي فريضة؛ لأنه يقوم مقامه من كل وجه. ومن فوائد هذا الحديث: أنه متى تعذر استعمال الماء ولو طال الزمن فإن التيمم جائز لقوله: "وإن لم يجد الماء عشر سنبن". ومن فوائد هذا الحديث: جواز استعمال المبالغة في الكلام، وإذا وقع الكلام على سبيل المبالغة قلة أو كثرة فلا مفهوم له، وهذا موجود في القرآن وفي السنة، قال الله تعالى: {فمن

يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الولولة: 7، 8]. ومن يعمل دون ذلك فكذلك، لكن ذكر مثقال الذرة على سبيل المبالغة، ومنه أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله يوم القيامة". فمن اقتطع دون ذلك فالحكم في حقه كذلك؛ لأن هذا ذكر على سبيل المبالغة، ومنه على أحد القولين قوله تعالى: {إن نستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80]. يعني: وإن استغفرت أكثر فالحكم كذلك؛ لأن هذا ذكر على سبيل المبالغة قلة أو كثرة ليس له مفهوم". ومن فوائد هذا الحديث: بطلان طهارة التيمم في وجود الماء لقوله: "فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته"، وعلى هذا فإذا تيمم للجنابة ثم وجد الماء وجب عليه ان يغتسل لقوله: "فليتق الله وليمسه بشرته"، وإذا تيمم للوضوء ثم وجد الماء فعليعه أن يتوضأ به، لا يقول: إنه ارتفع حدثي بالتيمم ولا يعود الحدث إلا بموجب جديد؛ لأننا نقول: إنه ارتفاع مقيد بوجود الماء، أو بزوال العذر إذا تيمم لضرره باستعمال الماء، وقد حكى شيخ الإسلام رحمه الله الاتفاق على أنه إذا وجد الماء وجب عليه استعماله، حتى ولو قلنا بأن التيمم رافع لنه رافع ما دام السبب موجودا، فإذا لم يوجد فعليه أن يستعمل الماء. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو تيمم مع وجود الماء فطهارته غير شرعية؛ لقوله: "وليمسه بشرته"، فإنه لو تيمم مع وجود الماء خالف الأمر باستعماله وبتقوى الله ومخالفة الواجب وقوع في المحرم، ومعلوم أن الشيء المحرم لا يستفيد به الإنسان شيئا، فهو لا يرفع الحدث، ولا يحل الحرام ولا يملك به المبيع، ولا غير ذلك، إذن لو تيمم مع وجود الماء وصلى فلا عبرة به، وصلاته باطلة، وعليه أن يتوضأ أو يغتسل ويصلي. فإن قال قائل: ما هو الضابط في الوجود وعدم الوجود؟ نقول: متى كان في حمل الماء مشقة فهو واجد او غير واجد؟ غير واجد، وإذا لم يكن مشقة فإنه يحمله كما لو كان عنده سيارة فيها [خزان] كبير فيه ماء، نقول: يجب عليك أن تحمل الماء أما إذا لم يكن كذلك فإننا لا نوجب عليه مثل أن يسافر في سيارة صغيرة فإننا لا نوجب عليه أن يحمل الماء؛ لما في ذلك في المشقة.

125 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فيمما صعيدا طيبا، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للآخر: لك الأجر مرتين". رواه أبو داود، والنسائي. هذه قصة، "خرج رجلان في سفر"، ولم يبين هذا السفر، لكن الله عز وجل يقول: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} [النساء: 43]. "فحضرت الصلاة" أي: دخل وقتها؛ لأن حضور كل شيء بحسبه، "وليس معهما ماء" أي: يتوضآن به، "فتيمما صعيدا طيبا فصليا" وسكت عن التيمم؛ ولا شك أنهما تيمما صعيدا طيبا يعني: استعملا التيمم من صعيد طيب، والمراد بالطيب هنا كما سبق وهو الظاهر، "فصليا، ثم وجد الماء" الألف التي هي الفاعل تسقط هنا، لماذا؟ لالتقاء الساكنين، قال ابن مالك رحمه الله: إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق ... وإن يكن لينا فحذفه استحق مثل قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا} [البينة: 1]. أصلها: "لم يكن" فكسرت النون؛ لأن ما بعدها ساكن، "وإن يكن" أي: ما سبق "لينا" أي: حرفا من حروف اللين، وهي ثلاثة "الواو، والألف، والياء" "فحذفه استحق" يعني: فقد استحق الحذف؛ أي: فأحذفه، فهنا في الحديث: "ثم وجد الماء" بحذف الألف، وأما ما يفعله بعض الناس بكونه يثبت الألف لكن ألف قصيرة فيقول: "ثم وجدا الماء" هذا حلاف القاعدة العربية، ومن ذلك أن نسمع بعض الناس في قوله تعالى: {ولقد ءاتينا داود وسليمن علما وقالا الحمد لله} [النمل: 15]. الصواب: أن تحذف الألف نقول: {وقالا الحمد لله} وزيعرف حذف الألف بالساق نقول: "ثم وجد الماء" في الوقت "فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء". قوله: "أعاد أحدهما الصلاة" واضح أنها إعادة؛ لأن الإعادة: فعل الشيء الذي فعل أولا؛ ولهذا سمي إعادة، فإذا أتى الإنسان بالشيء مرة أخرى فهو إعادة، لكن قوله: "والوضوء" هذا فيه تجوز؛ لأن الوضوء هنا لم يعاد؛ إذ إنهما قد تيمما لكن يحذف ما دل الدليل على حدوثه كقوله: [الكامل]. علفتها نبنا وماء باردا.

إذن "فأعاد أحدهما الصلاة" وفعل الوضوء، قوله: "لم يعد الآخر" يعني: لم يعد الصلاة، ولم يتوضأ، "ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة" أي: أصبت الطريقة الصحيحة؛ لأن السنة تطلق على الطريقة فيقال: سنة الرسول كذا وكذا، ويقال: سنة الخلفاء الراشدين كذا وكذا، وتطلق السنة بإزاء الواجب، وهذا مصطلح أهل الأصول؛ يعني: تنقسم الأحكام الشرعية إلى خمسة أقسام: الواجب، والسنة ... إلخ، ولكن إذا جاءت مطلقة في لسان الشارع فالمراد بها: الطريقة، سواء كانت على وجه الاستحباب أو على وجه الوجوب، يقول: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" أي صلاة؟ ليس هناك أولى ولا ثانية، يعني: صلاتك التي صليت. "وقال للآخر: لك الأجر مرتين" أما أحدهما- أي: أحد الأجرين- فهو تيممه وصلاته الأولى، وأما الثاني فبوضوئه صلاته الثاني، وإنما قال للثاني: "لك الأجر مرتين"؛ لأنه فعل الثاني؛ أي: الوضوء وإعادة الصلاة، متأولا ظانا أن هذا هو الواجب عليه، والمجتهد من هذه الأمة - والحمد لله- لا يمكن أن يحرم من الأجر، له الأجر إن أخطأ فأجر واحد، وإن أصاب فأجران، المهم أن الأجر مرتين على صلاته الأولى بالتيمم، وعلى صلاته الثانية بالوضوء، رواه أبو داود والنسائي. في هذا الحديث فوائد، منها: أن طلب الماء لا يجب إذا كان الإنسان قد علم أنه ليس حوله ماء؛ لأن هذا السياق ليس فيه أنهما طلبا الماء ولم يجداه، بل قال: "ليس معهما ماء"، وهو كذلك؛ أي: إذا كنت في أرض تعلم أنه ليس حولك ماء فلا حاجة للطلب؛ لأن الطلب زيادة عناء وذهاب وقت، أما إذا كنت في أرض تجهلها فلابد أن تبحث فيما حولك هل يوجد ماء أو لا؟ فلو قال قائل: حتى لو كان يعلم أن هذا المكان ليس فيه ماء ألا يمكن أن يكون قد نزل المطر، وصارت الأرض غدران؟ نقول: هذا ممكن، لكن الأصل عدمه لاسيما في أيام الصيف. ومن فوائد هذا الحديث: أن الرجل إذا تيمم وصلى ثم وجد الماء فإنه لا يعيد الصلاة، وهذا له ثلاث صور: الأول: إما أن يجد الماء بعد انتهاء الوقت؛ فهاذ لا إعادة عليه قولا واحدا. الثاني: وإما أن يجده بعد الصلاة في الوقت؛ ففي ذلك خلاف بين العلماء منهم من قال: إنه يجب عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة، ومنهم من قال: لا. والثالث: أن يجد الماء وهو يصلي مثل أن يكون له صاحب ذهب يأتي بالماء، أو تمطر السماء في أثناء الصلاة فيحصل الماء، فهذا أيضا فيه خلاف، لكن الخلاف فيه ضعف في كونه يستمر.

فأما الأول وقلنا: ليس عليه إعادة، وهو الذي وجده بعد الوقت. وأما الثاني: ففيه خلاف قوي، والصحيح أنه لا قضاء عليه؛ وذلك لأنه أبرأ ذمته بفعل الصلاة على الوجه المطلوب، ولا يمكن أن يوجب الله على العبد صلاتين. والثالث: إذا وجده في أثناء الصلاة فمنهم من قال: إنه يجب عليه أن يعيد الصلاة؛ لأنه لما وجده في أثناء الصلاة بطل التيمم، فإذا بطل التيمم صار كمن أحدث في أثناء الصلاة، وجب عليه أن يخرج منها ويستأنفها، وهذا القول هو الراجح أنه إذا وجد الماء في أثناء الصلاة بطل تيممه فبطلت صلاته، وعليه أن يعيد الصلاة من جديد بعد الوضوء، والحديث الذي أمامنا "ثم وجد الماء في الوقت" هو في الصورة الوسط؛ يعني: بعد الصلاة وقبل خروج الوقت. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الاجتهاد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأنهما اجتهدا، وسبق اجتهاد آخر من حديث عمار بن ياسر، فأما إذا كان النبي غائبا فلا إشكال في أن الإنسان يجتهد، لكن هل يجوز الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ في هذا خلاف، والصواب أنه جائز بمعنى: أن الإنسان لو تكلم بالشيء في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام-في حضرته وأقره الرسول - عليه الصلاة والسلام- فهو جائز، لكن قد يقال: إنه ربما يكون من سوء الأدب أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد هذا الحديث: حلم النبي صلى الله عليه وسلم وعدم توبيخه لمن اجتهد ولو أخطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي أعاد: "لك الأجر مرتين" مع أنه خالف السنة لكنه مجتهد. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان إذا فعل العبادة يظن أن فعلها واجب عليه فإنه يثاب على ذلك ولو أخطأ؛ لأنه عمل طاعة لله وتقربا إليه فيؤجر على هذا. ومن فوائد هذا الحديث: أن إصابة السنة خير من كثرة العمل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي لم يعد: "أصبت السنة". ومعلوم أن إصابة السنة خير من كثرة العمل. فإن قال قائل: وهل لو أعاد أحد الآن بعد أن تبينت السنة لو أعاد الصلاة بعد وجود الماء هل يؤجر أو لا يؤجر؟ نقول: إنه لو كان علم بالسنة فإنه لا يؤجر، بل لو قيل: إنه يأثم لكان له وجه؛ لأنه إذا وجد الماء بعد انتهاء الصلاة، فإنه ليس عليه إعادة، لكنه لو لم يعلم بالسنة وأعاد بناء على أن ذلك هو الواجب عليه فإن الحكم واحد؛ بمعنى: أن الحكم الذي حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أعاد ينطبق تماما على من جهل السنة في عصر وأعاد. ومن فوائد هذا الحديث: تشجيع من أصاب السنة في عمله حتى يقوى على معرفة السنة ليكون مصيبا لها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبت السنة"، ولم يقل: "أجزأتك صلاتك" فقط، أو ما أشبه

حكم التيمم للجروح عند مخالفة الضرر

ذلك من العبارات، لكن قال: "أصبت السنة: ؛ تشجيعا له ولغيره، على أن يحرص على إصابة السنة. حكم التيمم للجروح عند مخالفة الضرر: 126 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} [النساء: 43]. قال: "إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله والقروح، فيجنب، فيخاف أن يموت إن اغتسل: تيمم". رواه الدارقطني موقوفا، ورفعه البزار، وصححه ابن خزيمة والحاكم. قوله: "عن ابن عباس في قوله عز وجل" يعني: كأنها فسرها رضي الله عنه، وتفسير ابن عباس رضي الله عنهما في قمة التفاسير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له بأن الله يعلمه التأويل - أي: التفسير-، فقال في قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} [النساء: 43]. قوله: {أو جاء} هذه "أو" بمعنى الواو؛ يعني: وجاء أحد منكم من الغائط، و"أو" تأتي بمعنى الواو كما في قوله في الحديث الصحيح حديث ابن مسعود: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحد من خلقك". فإن "أو" في قوله: "أو أنزلته" بمعنى الواو؛ لأن معنى الحديث: سميت به نفسك، وأنزلته في كتابك، وعلمته أحدا من خلقك، إذن نقول في قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} معناه: الواو؛ أي: وجاء أحد منكم من الغائط وهذا الحدث الأصغر، {أو لمستم النساء} وهذا الحدث الأكبر، {فلم تجدوا ماء فتيمموا} هذا قيد عائد على قوله: {على سفر}؛ وذلك لأن المريض الذي يتضرر باستعمال الماء يجوز أن يتيمم وإن وجد الماء، فيكون قوله: {فلم تجدوا ماء} عائد على قوله: {أو على سفر ... }. قوله: رضي الله عنه: "إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله"، هذا ليس بقيد لكنه مثال؛ لأن الجراحة التي تبيح التيمم سواء كانت من جراء الجهاد في سبيل الله، أو كانت بسقطة أو بغير ذلك المهم أن يكون به جرح يتضرر بالماء، قال: "والقروح" يعني: وكذلك إاذ كان به القروح التي حدثت بدون جرح مثل الدمامل، والبثرة، وما أشبهها. قوله: "فيجنب فيخاف ان يموت إذا اغتسل تيمم" هذه "تيمم" جواب "إذا كانت"، وقوله: "فيخاف

أن يموت" هذا أيضا ليس بقيد؛ لأن التيمم يجوز وإن لم يخف الموت حتى لو خاف المرض، أو استمرار المرض وتأخر برئه، فإنه يجوز أن يتيمم كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. فإنه تيمم خوفا من البرد مع أنه لم يخف الموت، لكن خاف أن يتضرر بالبرد إن اغتسل فتيمم. إذن نأخذ من هذا الحديث أن ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن المراد بالمرض هنا: الجروح التي حصلت من الجهاد في سبيل الله، أو من غيرها، ولكنه رضي الله عنه زاد أنه يخاف الموت، وفي كلا المرين نظر، أما الأول: فقلنا: إن هذا على سبيل المثال إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله، فهاذ على سبيل المثال، وليس مراده التخصيص كذلك يخاف ان يموت هذا أيضا على سبيل المثال، وليس على سبيل القيد؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما لا يخفى عليه مثل هذا الحكم الذي تعم البلوى به. ويستفاد من هذا الحديث: أن من كان عليه جراحة ويخاف إذا غسلها أن يتضرر بموت أو بما دونه فإنه يتيمم؛ من أين أخذ؟ أخذ من عموم قوله: {وإن كنتم مرضى} [النساء: 43]. وأخذ من قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. وأخذ من قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. كل هذا يدل على أن الإنسان إذا كان به جرح يتضرر بالماء فإنه يتيمم. قال العلماء - رحمهم الله-: إذا كان في الإنسان جرح فإن كان الماء لا يضره إاذ غسله وجب عليه الغسل؛ لأنه مستطيع، وإذا كان يضره لكن لا يضره المسح به فإنه يمسح به، وإن كان يضره حتى المسح فإنه يتيمم، وهذا الترتيب يؤخذ من عموم قول الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}، أما وجوب الغسل إذا لم يتضرر فظاهر، وأما وجوب المسح فلأن المسح بالماء أقرب من التيمم، فيؤخذ بالأقرب فالأقرب، وأما إذا كان يضره حتى المسح فإنه يتيمم، فهو بالقياس على أنه إذا عجز عن استعمال الماء في بعض البدون فهو كالذي يعجز عن استعمال الماء في البدن كله؛ إذ إن التيمم بدل عن طهارة الماء. وقال بعض العلماء: إنه إذا لم يستطع ان يغسل الجرح سقط عنه المسح والتيمم، وقالوا: إن الله يقول: {فاتقوا الله ما استطعتم} وهذا لا يستطيع الغسل فيسقط عنه، لكن الصواب ما ذكرنا من أنه على الترتيب الآتي: أولا: الغسل، ثم المسح، ثم التيمم. وإذا قلنا بالتيمم فهل يجب عليه مراعاة الترتيب والموالاة؟ نقول: إذا كانت الطهارة عن غسل فالغسل عن المشهور عند الفقهاء لا يشترط فيه ترتيب ولا موالاة، وعلى هذا فإذا كان في يده جرح يضره استعمال الماء غسلا ومسحا، وقلنا بوجوب

التيمم فله أن يؤخر إلى أن يريد الصلاة، ولو طال الفصل، هذا إذا كان غسلا عن جنابة؛ لأنه لا تشترط الموالاة على المشهور، يعني مثلا: إنسان قام من الليل فوجد نفسه مجنبا باحتلام وفيه جرح لا يمكن أن يمسجه، وقلنا: يجب عليك أن تيمم عنه فاغتسل الرجل وخرج إلى المسجد وتيمم في المسجد بعد مدة يجوز أو لا؟ يجوز بناء على أن الغسل لا تشترط فيه الموالاة، وإذا قلنا باشتراط الموالاة فإنه يجب أن يتيمم عنه فور انتهائه من الاغتسال لئلا تفوت الموالاة، أما الترتيب فلا يجب؛ لأن الغسل يعتبر البدن فيه عضوا واحدا. أما إذا كان عن وضوء؛ يعني: رجل توضأ وفي يده جرح يضره استعمال الماء غسلا ومسحا فالواجب التيمم، متى يتيمم؟ يتيمم إذا غسل وجهه تيمم، لنفرض أن الجرح في اليسرى نقول: اغسل وجهك، ثم اغسل اليد اليمنى، ثم ما لا يتضرر غسله من اليد اليسرى، ثم تيمم في الحال؛ لأنه يجب في الوضوء الترتيب والموالاة، فعليه أن يتيمم على الجرح في موضع الجرح، وهذا يؤدي إلى المشقة لأنه لابد أن يكون عنده منشفة يتنشف حتى إذا تيمم على الجراحة وفيه مشقة، ولا أظن أن الشريعة تأتي من هذا؛ ولهذا كان القول الراجح في الوضوء عن العضو أنه لا يشترط فيه ترتيب ولا موالاة، وأن له أن يؤخر التيمم إلى أن يفرغ من الوضوء كاملا، بل وإلى أن يصل إلى المسجد؛ وذلك لأن الطهارة الآن اختلفت عن طهارة الماء فلا يشترط فيها ترتيب ولا موالاة. ولو قال قائل: نسقط الترتيب؛ لأن الطهارة هذه من غير جنس الأولى، ولا نسقط الموالاة، لو قال قائل بهذا لكان له وجه، كيف؟ الترتيب فيمن بيده جرح، ما هي المراحل؟ يجب أولا الغسل، ثم المسح، ثم التيمم، وإذا قلنا بالتيمم فهل تجب مراعاة الترتيب والموالاة؟ الصحيح: أنه لا يشترط فيه ترتيب ولا موالاة، وعمل الناس الآن عليه تجد الإنسان الذي فيه جرح لا يمسحه ولا يغسله يتوضأ، وإذا جاء إلى المسجد تيمم. فإن قال قائل: إذا لم يخفف ضررا ولا موتا لكن خاف أن يتأخر برؤه بمعنى: أنه إن غسله تأخر برؤه، وإن لم يغسله برأ سريعا، فهل له أن يتيمم؟ الجواب: نعم له أن يتيمم؛ لأن تأخر البرء نوع من الضرر، ثم لا يدري لعله إذا تأخر برؤه عاد عليه، فلذلك نقول: إذا خشي الموت أو الضرر أو تأخر البرء، أما إذا خشي بقاء أثر شيء لو استعمل الماء؛ بمعنى: لا يخشى ان يتأخر البرء؛ ولا أن يتضرر، ولا أن يموت، ولكن يخشى أن يبقى أثر شيء مكان الجرح فهل له أن يتيمم؟ الجواب: نعم؛ لأن هذا يتأذى به ولا شك فله أن يتيمم؛ لأن الأمر - الحمد لله- واسع في هذه المسألة. إذا خاف أن يزكم وعليه جنابة من جماع؟ إذن نقول فيه تفصيل المهم إذا كان يخشى من الضرر أو من الأم فلا بأس.

المسح على الجبيرة

المسح على الجبيرة: 127 - وعن علي رضي الله عنه قال: "انكسرت إحدى زيدي فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر". رواه ابن ماجه بسند واه جدا. قوله: "انكسرت إحدى زندي" الذراع فيه عظمان متباريان كل عظمة منهما تسمى زندا، فانكسرت إحدى زنديه رضي الله عنه، فوضع عليها جبائر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أو بغير أمره، المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يمسح على الجبائر. والجبائر: عبارة عن أعواد أربعة أو اثنين تشد على محل الكسر بعد أن يلائم الكسر بعضه إلى بعض، ثم تشد عليه هذه الجبائر وتحتها خرقة وفوقها خرقة، وذلك من أجل أن ينضبط العظم حتى لا يختل بعد أن كان متلائما، وهذا النوع من الجبائر مفيد جدا وهو أفيد بكثير مما يفعله الأطبائ الآن من وضع الجبس؛ لأن الجبس لا يقدر أن يشد الرجل جيدا ثم إنه يكون فيه رائجة كريهة، وهو أيضا مؤذ للإنسان من جهة ثقله وتحمله، لكن هذه الجبائر يسيرة جدا، ولا تكلف، والغالب أنها أسرع نجاحا مما يفعله الأطباء الآن؛ قال: "أن امسح على هذه الجبائر" الجبائر: جمع جبيرة، وهي - كما قلت لكم- ما يشد على الكسر، وسميت جبيرة بمعنى جابرة تفاؤلا؛ لأن العرب يعبرون عما يستكره باسمه بما يقابله تفاؤلا، ولذلك سموا المهلكة "مفازة" من باب التفاؤل وهذا حسن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل. وهذا الحديث يقول المؤلف: "رواه ابن ماجه بسند واه جدا". الواهي: الضعيف، وهي بمعنى: ضعف، و"جدا" مصدر عامله محذوف تقديره: "أجده جدا" يعني: أجد هذا الحكم جدا؛ يعني: أحقه إحقاقا. إذا كان كذلك فهل يمكن أن يحتج بمثله على حكم من الأحكام، ولاسيما الحكم الذي يتعلق بالصلاة وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين؟ الجواب: لا، ولكن يبقى أن ننظر هل له شواهد؟ إذا كان له شواهد تقويه صار حسنا لغيره كما قال أهل العلم بالمصطلح، فيقول الشاهد:

128 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما - في لرجل الذي شج، فاغتسل فمات-: "إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده". رواه أبو داود بسند فيه ضعف، وفيه اختلاف على راويه. هذا الحديث خفف المؤلف رحمه الله أمر ضعفه قال: "فيه ضعف" ولم يقل: إنه ضعيف جدا، فربما يقال: إنه صالح بأن يكون شاهدا لحديث علي، وقد يقال: إنه ليس بشاهد؛ لأن حديث علي ضعيف جدا فلا يحتج به، وإذا كان ضعيفا ساقطا يبقى هذا فيه ضعف أيضا، وفيه اختلاف على روايته وفي متنه وفي سنده، وعلى هذا ففيه ضعف وفيه اضطراب، وحينئذ يبقى الحكم في النفس منه شيء، فهل هناك قياس يعضد هذا؟ ننظر. أولا: نشح الحديث: هذا رجل بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في سرية فشج وأصابته جنابة، فسأل أصحابه: ماذا تقولون؟ قالوا: لا نرى إلا أن تغتسل؛ لأنهم - رضي الله عنهم- ليس عندهم شيء يستندون إليه فاغتسل فدخل الماء الشجة، -كما تعرفون- هي الجرح في الرأس وهو به خاصة، وفي بقية البدن يقال جرح ولا يقال: شجة، دخل الماء إلى رأسه فمات فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال فيهم: "قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي - يعني: الجهل- السؤال" هذا الحديث بكماله. وقال - عليه الصلاة والسلام-: "إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب" يعني: يشد، مأخوذة من العصابة؛ وهي ما يعصب به الرأس ويحيط به على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده، فقال: "أن يتيمم" وظاهر اللفظ أنه يتيمم أولا، ثم يعصب على الجرح خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده. "رواه أبو داود بسند فيه ضعف" في بعض ألفاظه إسقاط "تيمم"، وهذه الراوية التي فيها إسقاط التيمم أقرب من حيث القياس إلى الصواب، فلننظر الآن إذا كانت الروايات ضعيفة عن الرسول - عليه الصلاة والسلام- ننظر القياس، القياس نقول: هذا عضو ستر بساتر مباح للضرورة فأيهما أقرب أن يلغى مسحه ويتيمم، أو نلغي مسحه والتيمم، أو نجمع بينهما؟ له شيء يماثله بعض الشيء المسح على الخفين يمسح الخف ولا يلزم نزعه، وغسل الرجل ولا يجمع بين المسح والتيمم، فأحسن ما يقال ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله في المشهور عنه

مسائل مهمة في المسح على الجبيرة

أنه يضع العصابة على الجرح، ويمسح عليه ويغسل الباقي ولا حاجة للتيمم هذا أقرب ما يكون من الأقوال، وأقرب ما يكون إلى القياس. وعلى هذا فنقول: إاذ حصل للإنسان جرح يضره الماء غسلا ومسحا، وقد عصب عليه عصابة فإنه يمسح هذه العصابة ويكفي، فإن كان يضره الغسل والمسح والإعصاب- بمعنى: أن بقاءه هاويا للهواء والشمس أقرب للشفاء- فهنا يتعين التيمم. هذا أقرب الأقوال في هذه المسألة. مسائل مهمة في المسح على الجبيرة: ويبقى النظر في مسائل: هل يشترط أن يضع هذه الجبيرة على طهارة كما قلنا ذلك في الخفين؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: إنه يشترط لأنه ساتر ممسوح بدلا من غسله فيجب أن يكون على طهارة كالخف، ومنهم من يقول: لا يشترط أن يكون وضعه على طهارة أولا لأنه لا يمكن القياس؛ لأن بين مسح الخفين ومسح الجبائر فروقا كثيرة. وثانيا: أنه يأتي الإنسان على حين غرة لا يتمكن من الوضوء مثلا إنسان سقط من السيارة وانكسرت رجله أو يده كيف نقول إنه يلزمه أن يذهب ويتطهر ثم يجبرها؟ ، هذا فيه مشقة، وربما إذا برد محل الكسر يصعب جدا جبره، فالصواب إذن أنه يشترط أن تكون على طهارة. المسألة الثانية: هل تمسح في الحديث الأكبر والأصغر - أعني: الجبائر-؟ الجواب: نعم، تمسح في الحدث الأصغر والأكبر؛ لأن مسحها ضرورة ليس اختيارا كالخف فيجوز أن يمسح عليها في الحدث الأصغر والأكبر. المسألة الثالثة: هل لها مدة معينة؟ الجواب: لا ليس لها مدة معينة؛ لأن هذه ضرورة فتقدر بقدرها، وبناء على هذا نقول: متى برئ الجرح أو جبر الكسر وجبت إزالتها ولا يجوز إبقاؤها بعد ذلك. فإذا جبر الكسر أو برئ الجرح فهل يلزمه أن يعيد الاغتسال إن كان قد اغتسل عن جنابة أو الوضوء أو لا يلزه؟ الصواب: لا يلزمه؛ لأن هذه الطهارة طهارة كاملة، وإذا كانت طهارة كاملة حسب ما أمر فإنه لا يلزمه أن يعيد الغسل ولا الوضوء. فإن قال قائل: ألستم تقولون: إنه لو عدم الماء وتيمم عن جنابة أو عن وضوء ثم وجد الماء فإنه لا يصلي إلا بعد استعماله؟

فالجواب: بلى، لكن هناك فرق بين طهارة التيمم وهذه الطهارة: هل الطهارة تعتبر طهارة ماء؛ لأنه غسل بقية جسده ومسح على الجبائر، فالطهارة إذن طهارة ماء، وطهارة التيمم طهار التراب بدل، فإذا وجد المبدل منه تعين استعماله، هذا هو الفرق. المسألة الرابعة: هل يجوز المسح عليها فيما لو وضع عليها شيئا من الحرير، يعني: جعل الربط أي العصابة من الحرير وةهو رجل، هل يجوز المسح عليها أو لا يجوز؟ نقول: يجوز المسح عليه إذا كان يتضرر بحلها؛ لأن المسح عزيمة وليس رخصة حتى نقول إنه لا يستباح في المعصية، بل نقول: يجوز المسح عليه ما دام يخشى الضرر بحلها. لو قال قائل: إذا كان يمكنه أن يحلها ثم يعيدها هل يلزمه ذلك؟ نقول: إذا كان لا يتضرر بهذا ولا يخشى على نفسه من الضرر؛ لأن الحكم يدور على علته مثل بعض اللزقات التي تكون على موضع الألم، أحيانا يكون في الإنسان ألم في صدره أو في ظهره أو في أحد أعضائه فيضع عليه لزقه. نقول: إذا كان لا يتضرر بخلعها وجب عليه أن يخلعها ثم يعيدها بعد ذلك، وإن كان يتضرر أو يخشى الضرر فإنه لا يلزمه، وهذا يقع كثيرا فيمن يكون عليه لزقة في ظهره، ويقع عليه جنابة، ويقول: أنا إذا خلعتها لا أتضرر غاية ما هنالك أن تفوت عليه هذه اللزقة فنقول: هذا لا يضر؛ لأن ثمنها قليل، وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب، والواجب غسل جميع البدن؛ أما إذا كان يخشى منها الضرر فلا، فإن الله تعالى قد رفع الحرج عن هذه الأمة. 129 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من السنة ألا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للصلاة الأخرى". رواه الدارقطني بإسناد ضعيف جدا. يقول: "من السنة" اعلم أن الصحابي إذا قال: "من السنة" فتارة يكون المراد بها الواجب، وتارة يكون المراد بها المسنون المستحب، ووجه ذلك: أن السنة هي الطريقة، والطريقة إما أن تكون واجبة، وإما أن تكون سنة. مثال الأول: الواجب أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الرجل يصلي أربعا مع الإمام وهو مسافر، ويصليركعتين وحده فقال: تلك هي السنة، هذه الواجبة، ومثالها في الواجب أيضا قول أنس رضي الله عنه: "إذا تزوج الرجل البكر على الثيب، أقام عندها سبعا ثم قسم- أو قال: ثم دار

وإذا تزوج الثيب قام عندها ثلاثا". قوله: "من السنة" هنا يعني: السنة الواجبة، ومن ذلك أيضا قول ابن عباس رضي الله عنهما حين جهر في قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، قال: "إنما فعلت ذلك ليعلموا أنها سنة". يعني: واجبة. أما السنة التي تكون للاستحباب فهو ما جاء في حديث ابن مسعود- وإن كان فيه شيء من النظر-: "من السنة وضع الكف على الكف تحت السرة". ومعنى هذا الحديث هذه سنة ليست بواجبة ولكنها سنة مستحبة. هذا الذي معنا إذا صح هذا الأثر "من السنة ألا يصلي" هل هي من السنة الواجبة أو من السنة المستحبة؟ يحتمل الأمران، وإنما استحبت على سبيل الاحتياط. أما معنى هذا الحديث فظاهره أن الرجل إذا تيمم للصلاة فإنهيتيمم للصلاة الأخرى، لكن هل المراد للصلاة الأخرى يعني إذا دخل وقتها أو للصلاة الأخرى ولو في وقت الأولى كالصلاتين مجموعتين؟ إن نظرنا إلى ظاهر الحديث وقلنا: يتيمم للصلاة الأخرى، فظاهره أنه إذا سلم من الصلاة الأولى تيمم للصلاة الثانية، لكن الظاهر لي أنه غير مراد، وأن مراده للصلاة الأخرى يعني: في وقتها، وهو بمعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: "توضئي لكل صلاة" أي: لوقتها، لكن هذا الأثر - كما ترون- أثر ضعيف جدا، ولم يقل المؤلف: له شاهد. وعلى هذا فنقول: الحديث ضعيف لا يعمل به، ونبقى على الأصل من أن الإنسان إذا تيمم لصلاة وبقي على طهارته فإنه لا يلزمه إعادة التيمم إذا دخل وقت التيمم، وقد قررنا هذا في أول كتاب التيمم، وبينا أن التيمم مطهر رافع للحدث إلى متى؟ إن أن يزول سبب إباحته إما بوجود الماء إن كان التيمم عن عدم الماء، وإما بزوال العذر إذا كان لعذر هذا هو الصحيح. ما حكم هذه الصيغة "من السنة" إذا قالها الصحابي، هل نقول: إنها موقوفة أو إنها مرفوعة؟ قال أهل المصطلح: إنها مرفوعة، لكنها مرفوعة حكما؛ لأن الراوي لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم قالها أو فعلها، أو فعلت عنده وأقرها، أو قيلت عنده وأقرها، إنما قال: "من السنة" فإذا رأيت "من السنة" من قول الصحابي فإنه مرفوع حكما؛ لأن الصحابي لا يمكن أن يقول من السنة إلا وهو يريد سنة الرسول - عليه الصلاة والسلام- لاسيما إذا قال ذلك على سبيل الاستدلال، فإنه إن قال ذلك على سبيل الاستدلال، فمعلوم أن الدليل إنما هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم.

10 - باب الحيض

وإذا قالها التابعي، فهل يقال: إنها مرفوعة حكما لكن السند منقطع، أو نقول: إنها موقوفة؟ في هذا أيضا خلاف بين علماء المصطلح، منهم من قال: إنها تكون موقوفة؛ لأن التابعي في الدرجة الثانية، فغذا قال: "من السنة" أي: من سنة الصحابة الذين أدركهم؛ لأنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم فيكون "من السنة" أي: من سنة الصحابة إما الخلفاء الراشدون أو غيرهم، وقيل: إنها مرفوعة حكما لكنها مرسلة؛ لأن الصحابي سقط منها فتكون من قسم الضعيف؛ لأن المرسل من أقسام الضعيف. وعليه فنقول: إن كانت مرفوع حكما فهيضعيفة، وإن كانت موقوفة فيبقى البحث: هل قول الصحابي حجة أو ليس بحجة، وهو محل خلاف بين أهل العلم. 10 - باب الحيض "الحيض" مصدر خاص بمعنى: سال، تقول العرب: "حاض الوادي" إاذ سال. وهو في الاصطلاح والعرف: هو سيلان الدم الطبيعي الذي ترخيه الرحم عند البلوغ، خلقه الله - تبتارك وتعالى- لتغذية الولد، وهو مكتوب على بنات آدم منذ خلقهن الله إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة - والله أعلم- لأنه دم طبيعة، ولذلك لا تجد المرأة تتضرر به مع كثرته، وإنما يلحقها شيء من الضعف؛ لكنه لو كان غير طبيعي لأضر بها كثيرا؛ لأنه يخرج بغزارة وهو معتاد، والغالب أنه يأتي كل شهر، والغالب أن أيامه ستة أو سبعة، هذا هو الغالب، وإنما قلنا: إن هذا هو الغالب؛ لأنه يأتي على خلاف الغالب، أحيانا تكون المرأة لا تحيض إلا بعد شهرين، وأحيانا تحيض عشرة أيام، وأحيانا خمسة أسام؛ يعني: تنقص أو تزيد، أحيانا لا يأتيها الحيض لمدة ثلاثة أشهر، أو اربعة أشهر، ثم يأتيها لمدة شهر كامل وهذا قد وقع، يعني: بعض النساء لا يأتيهم كل شهر، ولا الثاني، ولا الثالث، ولا الرابع، في الخامس تحيض الشهر كله، وكأنها - والله أعلم- تجمتع وتخرج مدة طويلة، وهو يعتاد الأنثى عند البلوغ، ولا يمكن أن يقع في سن صغيرة إلا نادرا جدا؛ ولهذا قال الفقهاء: لا حيض قبيل تمام تسع سنين، هذا ما قالوه، والصحيح أنها يمكن أن تحيض قبل تمام تسع حسب تكوين خلقة المرأة، بعض النساء تكون لها تسع سنين أو في آخر التاسعة وتجد جسمها كبيرا يمكن أن ينزل منها الحيض، وبعضهن بالعكس، المهم متى وجد هذا الحيض - هذا الدم الذي يسيل عند البلوغ أو قريبا منه- فهو دم الحيض، وله علامات: منها: اللون فلونه أسود قاتم. ومنها: الغلظ فهو غليظ ئخين.

الفرق بين دم الحيض ودم الاستحاضة

ومنها: الرائحة فرائحته منتنة؛ ولهذا جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسود يعرف"، وفي لفظ" "يعرف". أي: له عرف أي رائحة، فهذه علاماته: السواد، والغلظ، والرائحة. ذكر بعض المعاصرين من الأطباء أن له علامة رابعة، وهي: أنه لا يتجمد، يقول: إنه لا يتجمد لأنه - بإذن الله- عبارة عن دم في الرحم يتجمد ثم يذوب وينزل، فذكروا أنه لا يتجمد، وقيل: إنه لابد أن يتجمد لكن لا يتجمد إلا ببطء بخلاف الدم العادي يتجمد بسرعة. ويثبت بالحيض أحكام شرعية كثيرة جدا تتعلق بالعبادات، وأحكام اجتماعية تتعلق بالمعاملات كالحكم ببلوغها وإعطائها مالها إذا كانت محجورا عليها، وأحكاما شخصية كعقد النكاح، وتمام العدة وغير ذلك، المهم أن للحيض أحكاما كثيرة جدا تعرف بالتتبع تتبع كلام العلماء - رحمهم الله- وبعض العلماء يجمعها أو يجمع أكثرها في مكان واحد. الفرق بين دم الحيض ودم الاستحاضة: 130 - عن عائشة رضي الله عنها: "أنفاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن دم الحيض دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي، وصلي". رواه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم، واستنكره أبو حاتم. قول عائشة رضي الله عنها: "كانت تستحاض" كلمة "استحاضت" أو "استحيضت" فيها زيادة عن حاضت ما هي الزيادة؟ الهمزة، والسن، والتاء، وقد قيل: إن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني، وعلى هذا فيكون الاستحاضة زائدة على الحيض كمية وزمنية؛ ولهذا نقول: الاستحاضة: هي أن يستمر الدم على المرأة أكثر الشهر، هذه الاستحاضة، وحدده بعضهم بخمسة عشر يوما. قال: "فما زاد فهو استحاضة"، ولدم الاستحاضة علامات ضد علامات الحيض، فمثلا إذا قلنا: أسود في دم الحيض، نقول في دم الاستحاضة: أحمر، وإذا قلنا: دم الحيض غليظ، فدم الاستحاضة رقيق، وإذا قلنا: دم الحيض له رائحة، فدم الاستحاضة ليس له رائحة؛ ولهذا قال النبي - عليه الصلاة والسلام-: "إنه دم عرق كسائر الدماء"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن دم الحيض أسود يعرف" يعرف أسود، يعني: في اللون، وغير دم الحيض أحمر.

مباحث مهمة في الحيض

وقوله: «يعرف» أي: يعرفه من يباشره, وهن النساء؛ ولهذا نقول: النساء في معرفة الحيض والاستحاضة أعلم من الرجال حتى إن بعض التابعين - رحمهم - الله إذا سئلوا عن أحكام الحيض قال: اذهب وسأل النساء؛ لأن النساء يمارسن هذا الشيء ويباشرنه فهن خبرة به, لكن مع ذلك ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُضف المعرفة للنساء, قال: «أسود يعرف» , وفي رواية: «يعرف» بالكسر أي: له عرف - يعني: رائحة -, وأما الاستحاضة فليس له رائحة. أسئلة: - التيمم من خصائص هذه الأمة, فما الدليل؟ - هل في حديث: «أعطيت خمسًا» ما يدل على أن التيمم رافع للحدث؟ . - رجل تيمم لصلاة الفجر وأدركته صلاة الظهر فهل يصلي بتيممه الأول؟ - رجل تيمم لفقد الماء وصلى ثم وجد الماء؟ - المسح على الجبيرة هل يُقاس بالمسح على الخفين في التوقيت أو لا؟ - هل تمسح الجبيرة في الحدث الأكبر؟ - عرف الحيض. - هل هو كما يقال إنه من عقوبات بني إسرائيل أنهم عوقبوا بحيض نسائهم؟ - المؤلف رحمه الله كغيره من أهل العلم ذكروا باب الحيض في آخر كتاب الطهارة لكن ما هو الحيض؟ - ذكر العلماء الحكمة في خلق هذا فما هي؟ - هل الحيض حادث لبنات آدم أو قديم, وما هو الدليل؟ مباحث مهمة في الحيض: المبحث الأول: هل للحيض سن معينة في ابتدائه وانتهائه؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء - رحمهم الله - فمنهم من قال: إن الحيض له سن معين ابتداءً وانتهاءً, ولكن الصواب أنه ليس له سن معين؛ لأن النساء تختلف فقالوا: ابتداؤه إذا تم للأنثى تسع سنوات, وما قبل التسع فليس بحيض, وانتهاؤه إذا تم لها خمسون سنة, فما بعد الخمسين ليس بحيض, حتى لو أن الدم استمر معها بعد الخمسين على وتيرة واحدة باللون والرائحة, وكل طبيعة الحيض, فإنه لا يكون حيضًا فيجب عليها الصلاة والصيام ولا تنتهي به العدة, والصحيح أنه لا حد لذلك لا ابتداء ولا انتهاء؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - قال: {ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى} [البقرة: 222]. وأطلق وكذلك السنة جاءت بذلك مطلقة, وأي شيء يأتي في القرآن والسنة مطلقًا فإن تحديده بحكم يحتاج إلى دليل في هذا, وفي غيره

كل من حدد شيئًا مطلقًا في الشرع - أعني: في الكتاب والسنة - فإنه يحتاج إلى دليل وهذا له أمثلة: منها: الحيض, ومنها: الماء هل ينجس أو لا ينجس إذا بلغ قلتين, أو أقل, ومنها: السفر هل له مدة معينة, هل له مسافة معينة. المبحث الثاني: هل للحيض مدة معينة في أقله وأكثره؟ في هذا خلاف أيضًا, فمن العلماء من قال: له مدة في أقله وأكثره, أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يومًا, وقال بعض العلماء: لا حد لذلك؛ لأن النصوص الواردة في الحيض مطلقة لم تحدد زمنًا معينًا, ولا شك أن هذا القول أصح وأريح للنساء؛ لأن القائلين بتحديد المدة يتعبون النساء يقولون: إنه لابد أن يتكرر ثلاث مرات من غير أن يختلف, فإن اختلف فما تكرر ثلاثًا فهو حيض, وما بعده فليس بحيض حتى يتكرر ثلاثًا, وله في ذلك تفاصيل, حتى إن بعض العلماء جعل باب الحيض مائة وخمسين صفحة لكثرة التفاريع التي ليس عليها سلطان. فالصواب: أن الحيض دم معروف متى وجد ثبت حكمه, ومتى انتفى انتفى حكمه, لكن إذا طرأت عليه الزيادة على خمسة عشر يومًا فهنا ينبغي أن نقول: ما زاد على الخمسة عشر يومًا فإنه استحاضة؛ لأنه استوعب أكثر الزمن فيكون استحاضة, ترجع بعد ذلك إلى عادتها, أما لو كان من أول الأمر يأتيها الحيض لمدة سبعة عشر يومًا فكله حيض إذا استمر كذلك إذا علمنا أن الزائد على خمسة عشر كان نتيجة تأخر الحيض؛ لأن بعض النساء كما حدثتكم يتوقف عنها الحيض لمدة ثلاثة أشهر, أو أربعة, ثم يأتيها الحيض شهرًا كاملًا هذه كل شهرها حيض؛ لأننا نظرنا إلى القرينة فوجدناها تدل على أن الحيض بقي في الرحم, وانحبس ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر, ثم خرج مرة واحدة. المبحث الثالث: الاستحاضة إذا طرأت على المرأة فماذا تصنع؟ ذكر المؤلف رحمه الله حديث عائشة, أن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها كانت تستحاض وقد شرحناه, وقلنا: إن العلماء - رحمهم الله - اختلفوا في حكمه, فمنهم من قال: إن هذا الحديث في المبتدأة, ما معنى المبتدأة؟ يعني: التي أتاها الحيض أول مرة واستمر معها فهذه ترجع إلى التمييز - يعني: الدم - هل يختلف أو لا يختلف, فإذا كان بعض دمها يتميز عن الآخر فما كان له صفات الحيض فهو حيض, وما لم يكن له صفات الحيض فليس بحيض, فما هي العلامات؟ ذكرناها فيما سبق: الحيض أسود غليظ له رائحة منتنة, ولا يتجمد كما ذكره بعض العلماء المعاصرين, فهذه نقول: ترجع إلى التمييز, لكن لو كان التمييز يزيد على خمسة عشر يومًا, ويزيد وينقص حينئذٍ يكون ما زاد على خمسة عشر يومًا حكمه حكم الاستحاضة, كما لو لم تكن مستحاضة أصلًا وهذا الذي ذكرته في أن فاطمة رضي الله عنها كانت مبتدأة, وأن المبتدأة تعمل

علامة المستحاضة

بالتمييز وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله, وعنه رواية أخرى: أنها تعمل بالتمييز حتى ولو كانت معتادة, يعني: فيرجع إلى التمييز مطلقًا, إذن مذهب الشافعي ورواية عن أحمد أن المستحاضة تعمل بالتمييز سواء كانت معتادة أو غير معتادة, يعني: سواء سبق لها الحيض المعتاد أو لا, وعللوا ذلك بأن هذا الحديث مطلق ما فيه أن فاطمة كانت معتادة أو غير معتادة, وعللوا أيضًا بأنه لعلها اختلفت عادتها لما استحيضت, يعني: قد تكون عادتها ستة أيام أو سبعة في أول الشهر, ولما استحيضت صار الدم المتميز خمسة أيام في وسط الشهر فتغير في العدد وتغير في المكان فقالوا: ربما يكون تغيره بسبب الاستحاضة. ويظهر أثر الخلاف في امرأة معتادة تحيض ستة أيام من أول كل شهر, هذه عادتها ثم طرأت عليه الاستحاضة, وكان لها تمييز خمسة أيام في آخر الشهر فهنا تعارض عندنا عادة وتمييز, فمن العلماء من قال: نقدم التمييز وهو رواية عن الإمام أحمد, ومذهب الشافعي, ومنهم من قال: نقدم العادة لما سيأتي - إن شاء الله - في الأحاديث. أما الأولون فعللوا ذلك بأنه ربما يختلف محل الحيض بسبب الاستحاضة, ربما يكون الحيض فيما سبق من أول الشهر, والآن تأخر إلى آخر الشهر لوجود هذا المرض, وهو الاستحاضة. وأما الذين قالوا: تغلب العادة فقالوا: إن هذا مقتضى الحديث الآتي إن شاء الله وقالوا: إن هذا أضبط وأريح للمرأة أن يقال: اجلسي عادتك وما زاد على ذلك فهو استحاضة, سواء كان أسود أو غير أسود, ولا شك أن هذا أريح للمعتادة, أما المبتدأة فنعم التمييز لابد من العمل به. علامة المستحاضة: 131 - وفي حديث أسماء بنت عميس عند أبي داود: «ولتجلس في مركنٍ, فإذا رأت صفرةً فوق الماء, فلتغتسل للظهر والعصر غسلًا واحدًا, وتغتسل للمغرب والعشاء غسلًا واحدًا, وتغتسل للفجر غسلًا واحدًا, وتتوضأ فيما بين ذلك». يعني بذلك: المستحاضة إذا استحيضت تجلس في مركن, يعني: طستا كبيرًا واسعًا, فإذا رأت أثر الدم - يعني: الصفرة - فوق الماء فإنها تكون مستحاضة فتغتسل ثلاث مرات في اليوم والليلة, الغسل الأول: للظهر والعصر, والثاني: للمغرب والعشاء, والثالث: للفجر, وفي هذا الحديث دليل على أن المستحاضة تجمع بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء, ولكن هذا على سبيل الاستحباب إذا طلبنا منها أن تغتسل, أما إذا لم نطلب أن تغتسل فإن لها أن تجمع لمشقة الوضوء ولها ألا تجمع, لكننا نأمرها بالجمع إذا أمرناها بالاغتسال.

أحكام الاستحاضة

وعلى هذا فنقول: المستحاضة تؤمر بالاغتسال لكل صلاة, وإذا شق عليها أن تغتسل للصلوات الخمس اغتسلت ثلاثة مرات, وتجمع بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء, لكن هذا الاغتسال ليس بواجب وإنما هو سنة كما سنذكر - إن شاء الله - وحينئذٍ نقول: إذا لم تغتسل فالأفضل أن تصلي كل صلاة في وقتها, فإن قالت إنه يشق عليها؛ قلنا لها: أن تجمع ولو تطهرت بالوضوء. أحكام الاستحاضة: 132 - وعن حمنة بنت جحشٍ قالت: «كنت أستحاض حيضةً كثيرةً شديدةً, فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه, فقال: إنما هي ركضة من الشيطان, فتحيضي ستة أيام, أو سبعة أيام, ثم اغتسلي, فإذا استنفأت فصلي أربعةً وعشرين, أو ثلاثةً وعشرين, وصومي وصلي, فإن ذلك يجزئك, وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء, فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر, ثم تغتسلي حين تطهرين وتصلي الظهر والعصر جميعًا, ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء, ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين؛ فافعلي, وتغتسلين مع الصبح وتصلين. قال: وهو أعجب الأمرين إلي». رواه الخمسة إلا النسائي, وصححه الترمذي, وحسنه البخاري. قوله: «حيضة كثيرة» أي: في الكم. «شديدة» يعني: في الاندفاع, يعني: تطول مدتها وهي شديدة, أي: يخرج منها دم كثير. قولها: «أستفتيه» أي: أطلب منه الفتيا, والنبي صلى الله عليه وسلم مفت, والله تعالى أيضا مفت, والفتيا: هي الإخبار عن حكم شرعي, وحينئذ يكون معنى «أستفتيه»: أي أطلب منه أن يخبرني بحكم شرعي فيما نزل بها, وقوله: «إنما هي ركضة» الركضة بمعنى: الدفعة, كما قال الله تعالى: {اركض برجلك} [ص: 42]. يعني: ادفع بها, «من الشيطان» يعني: أن الشيطان دفع الرحم, فنزل منه الدم, «فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام, ثم اغتسلي» , «تحيضي» أي: اجلسي للحيض ستة أيام, أو سبعة, و «أو» هنا ليست للتخيير ولكنها للتنويع؛ لأن غالب النساء يجلسن ستة أيام أو سبعة, فتنظر إلى أقاربها هل عادتهن سبعة أيام أو ستة أيام, فتجلس كما هي عادة الأقارب, «ثم اغتسلي» بعد أن تحيضت ستة أيام أو سبعة وجوبًا؛ لأننا حكمنا بأن هذه الأيام الستة أو السبعة حيض.

قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا استنقأت فصلي أربعة وعشرين أو ثلاثة وعشرين» «استنقأت» يعني: استنقأت من الحيض, وذلك بالاغتسال منه, «صلي أربعة وعشرين يومًا أو ثلاثة وعشرين؟ » إن تحيضت سبعة أيام تصلي ثلاثًا وعشرين, وإن تحيضت ستة تصلي أربعا وعشرين, «وصومي وصلي فإن ذلك يجزئك» «يجزئك» أي: يكفيك بالعمل لما يلزمك شرعا, «وكذلك فافعلي كل شهر» , وقوله: «كذلك فافعلي» يعني: أن تجلسي ستة أيام أو سبعة تتحيضي, ثم بعد ذلك تغتسلي وتصلي, «كما تحيض النساء» , يعني لأن الغالب أن النساء يحضن ستة أيام أو سبعة. قوله: «فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر, ثم تغتسلي حين تطهرين وتصلي الظهر والعصر جميعًا, ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء, ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين؛ فافعلي, وتغتسلين مع الصبح وتصلين». قوله - عليه الصلاة والسلام -: «فإن استطعت» يعني: أن تقومي بهذا العمل وهو الاغتسال ثلاث مرات للظهر والعصر, والمغرب والعشاء, والثالث للفجر, وقوله: «تؤخري الظهر, وتعجلي العصر»؛ يعني: معناه تصلي الظهر في آخر وقتها, والعصر في أول وقتها. هكذا فسره بعض علماء الحديث, ويأتي الكلام عليه - إن شاء الله - في الفوائد. قال: «تغتسلين مع الصبح وتصلين» قال: «وهو أعجب الأمرين إلي» , ما الأمر الأول؟ الأمر الأول: أن تغتسل مرة واحدة, متى؟ عند انتهاء الحيض, وبعد ذلك تتوضأ لكل صلاة. الأمر الثاني: أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة, لكن للمشقة تجمع بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء, فيكون قوله: «أعجب الأمرين إلي» يعني: أن تجمع وتغتسل, والأمر الآخر ما هو؟ أن تغتسل مرة واحدة عند انتهاء الأيام الستة أو السبعة. يستفاد من هذا الحديث فوائد: أولًا: أن الاستحاضة تعددت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في النساء؛ لأن الأولى من هي؟ فاطمة بنت أبي حبيش, وهذه حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش, وقد ذكر بعض العلماء أن اللاتي استحضن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلغن تسعًا من النسوة, وعدهن. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي لجاهل أن يستفتي العالم, بل يجب عليه, لكن

الوجوب لا نأخذه من هذا الحديث, إنما نأخذه من أدلة أخرى مثل قوله تعالى: {فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7]. ومن فوائد هذا الحديث: جواز إطلاق الفتيا في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى: أنه يصح أن نقول: إن الرسول مفت, وهذا أمر لا إشكال فيه؛ لأنه إذا جاز في حق الرب عز وجل فجوازه في حق الرسول من باب أولى, أليس الله تعالى يقول: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن} [النساء: 127]. {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء: 176]. ومن فوائد هذا الحديث: أن الشيطان قد يسلط على بني آدم تسليطًا حسيًا, لكن التسليط المعنوي واضح؛ يعني: إلقاء الوسوسة في القلب بالوساوس الخبيثة الرديئة هذا ثابت ولا إشكال فيه, لكن هذا تسليط حسي؛ لأن كونها تمرض بركضة من الشيطان يدل على أن للشيطان تسلطًا, وهو كذلك؛ ولذلك إذا ولد المولود فإن الشيطان يضرب في خاصرته ولذلك يبكي عند الولادة كما جاء في الحديث: «إذا استهل المولود صارخًا ورث». وربما يكون أيضًا من تسليط الشيطان أن يغفل حتى يقع في حفرة أو يضربه حجرًا أو ما أشبه ذلك, وهذا يقع كثيرًا يكون الإنسان ذكيًا فطنًا لكن لا يدري في يوم من الأيام إلا وهو قد صدم جدارًا أو وقع في حفرة, أو صدم حجرًا في غفلة منه, وهذا يمكن أن يكون من تسلط الشيطان يغفله حتى يوقعه في هذا الضرر, وقد قال غلام موسى لموسى: {فإن نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} [الكهف: 63]. ومن فوائد هذا الحديث: رجوع المستحاضة إلى عادة النساء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «كما تفعل النساء» , ولكن متى يكون هذا؟ يكون في المرأة التي ليس لها عادة ولا تمييز فهذه ترجع إلى عادة النساء, ولكن من أين تبتدئ من نصف الشهر, من أوله, من آخره؟ تبتدئ من أول يوم أتاها الدم فيه, مثلًا إذا كان أتاها أول مرة في اليوم العاشر من الشهر يكون الشهر الثاني تجلس من اليوم العاشر ستة أيام أو سبعة, وإن أتاها من أول يومٍ من الشهر جلست من أول يوم, فإن نسيت متى أتاها تبتدئ من أول الشهر الثاني؛ مثلًا هي علمت بأنه أتاها الحيض في محرم واستحيضت من حين أتاها الحيض لا عادة ولا تمييز, ولكنها تقول: لا أدري هل أتاني في أول الشهر أو وسطه, أو آخره, تجعله من أوله ممن باب الاحتياط {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. ومن فوائد هذا الحديث: أن الصوم والصلاة يحرمان على الحائض لقوله: «وصومي وصلي» , وهذا أمر مجمع عليه, وظاهر هذا الحديث أنها لا تصوم حتى تغتسل وتستنقي؛ لأنه

قال: «فإذا استنقأت أربعًا وعشرين فصومي وصلي» , لكنه باعتبار الصوم غير مراد؛ لأن الحائض يصح منها أن تصوم إذا طهرت من الحيض قبل الاغتسال كامرأة طهرت قبل الفجر بربع ساعة, ولم تغتسل إلا بعد الفجر فهل لها أن تشرع في الصوم قبل الاغتسال؟ الجواب: نعم؛ لأن شأنها حينئذٍ كشأن الجنب, والجنب قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح صائمًا وهو جنب من جماع, صلوات الله وسلامه عليه. ومن فوائد هذا الحديث: أن عادة النساء قد تكون ستة أيام, أو سبعة, وهل المرأة مخيرة بين هذا وهذا؟ الجواب: لا؛ لأن تخييرها مشكل لأنها في اليوم السابع إما أن نقول: إن الصلاة حرام عليها, أو نقول: واجبة عليها, وهذا تناقض, إذن كيف نعمل والرسول يقول: هذا أو هذا, نقول: «أو» هنا للتنويع وعليها أن تنظر إلى عادة نسائها, إما ستة أو سبعة وتعمل بذلك. ومن فوائد هذا الحديث: الرجوع إلى الغالب, وهل يتناول هذا جميع الأحكام؟ الجواب: نعم, فمثلًا رجل حلف ألا يفعل شيئًا وفعله, ولكنه شك هل هو استثنى في الحلف وقال: إن شاء الله أو لا؛ لأنه إن استثنى فلا حنث عليه, وإن لم يستثن فقد حنث, وعليه الكفارة, نقول: انظر إلى الغالب, ما هو غالب أيمانك, هل الغالب أنك إذا حلفت استثنيت فالحكم للغالب, وأما إذا كان الغالب ألا تستثني أو ترددت أيهما أغلب فإنه تجب عليك الكفارة؛ لأن الأصل عدم الاستثناء. ومن فوائد هذا الحديث: أن الغالب في النساء أن يحضن في كل شهر مرة؛ لقوله: «فافعلي كل شهر» , وهذا هو الواقع أن الغالب في النساء أن يحضن كل شهر مرة, ويدل لذلك أن الله جعل عدة المطلقة التي تحيض ثلاث حيض, وعدة من لا تحيض ثلاثة أشهر, وهذا يدل على أن الحيض يأتي النساء في كل شهر. ومن فوائد هذا الحديث: أن المستحاضة مخيرة بين أمرين, إما أن تغتسل عند انتهاء الحيض حكمًا, متى يكون هذا؟ إذا مرت ستة أيام أو سبعة, ثم تتوضأ لكل صلاة, وإما أن تغتسل لكل صلاة, ولكن فيما إذا طلبنا منها أن تغتسل لكل صلاة ينبغي لها أن ترفق بنفسها, وذلك بأن تجمع بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء. ومن فوائد هذا الحديث: بيان صراحة نساء الصحابة - رضي الله عنهم - حيث قالت حمنة: «كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة» , ولقد قالت عائشة رضي الله عنها: «نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين».

قالت ذلك حين قالت أم سليم: «يا رسول الله, هل على المرأة من غسل إذا احتملت؟ قال: نعم, إذا هي رأت الماء». ومن فوائد هذا الحديث: أن الأصل البناء على ما كان معروفاً؛ بمعنى: أن الدم الأصل فيه أنه حيض, ولذلك قالت: «أستحاض حيضة كثيرة شديدة» , ولم تقل: استحاضة, قالت: حيضة؛ لأنها بنت على الأصل أنها حيض, ولذلك كانت لا تصلي رضي الله عنها, وسيأتي بيان الفائدة التي تستنبط من هذا. ومن فوائد هذا الحديث: أن مرجع الصحابة - رضي الله عنهم - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستفتاء, يعني: لا يحاولون أن يجتهدوا ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم حيا بينهم, ويترتب على هذه الفائدة أن المرجع بالنسبة إلينا هو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والكتاب. ومن فوائد هذا الحديث: أن الشيطان قد يسلط على الإنسان تسليطًا حسيًا؛ لقوله: «إنما هي ركضة من الشيطان» وهذا واقع, فالشيطان قد يؤثر على الإنسان تأثيرًا حسيًا, كما في فعله في الإنسان حين الولادة, فإن المولود إذا سقط خرج فإن الشيطان يطعنه في خاصرته. وكذلك أيضًا من التسلط الحسي: إلقاء الخيلات في قلب الإنسان, وأحيانًا في بصره يرى ويشاهد أشياء لا حقيقة لها, من أجل أن يدخل عليه الروع والخوف والحزن, وقد أشار الله تعالى إلى هذا في قوله: {إنما النجوى من الشيطان ليجزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئًا إلا بإذن الله} [المجادلة: 10]. والآية التي سبقتها الآن تدل على أن الشيطان قد يباشر أذية الإنس, وقط يسلط أعداءه على أذيته لأن الذين يتناجون ليسوا شياطين هم بنو آدم, لكن يتناجون من أجل أن يحزنوا المؤمنين وذلك بأمر الشيطان. ومن فوائد هذا الحديث: الرجوع إلى عادة النساء, ويترتب على ذلك العمل بالعرف الشائع بين الناس فيما لم تأت الشريعة بتحديده وهو كذلك. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الاغتسال على المستحاضة إذا تحيضت ستة أيام أو سبعة, وهذا الحديث - حديث حمنة - في أي المستحاضات؟ فيمن ليس لها عادة ولا تمييز. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجب الاغتسال لكل صلاة؛ لأنه قال: «ثم اغتسلي, فإذا استنقأت فصلي» , وقال: «إن ذلك يجزئك» ولم يذكر الغسل, وهذا أحد الأمرين, والأمر الثاني سيأتي إن شاء الله. ومن فوائد هذا الحديث: أن العادة الغالبة في النساء أن تحيض كل شهر لقوله صلى الله عليه وسلم: «فافعلي كل شهر كما تحيض النساء» , وهو كذلك, ومن النساء من تحيض في الشهر مرتين, وقد

تحيض في الشهر ثلاث مرات لكن هذا نادر وقليل, وقد لا تحيض في الشهر بل تحيض في الشهر الثاني, وهو أيضًا موجود لكنه قليل. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الجمع من المستحاضة؛ لأنه يشق عليها أن تغتسل لكل صلاة بدون جمع, لو قلنا: تغتسل لكل صلاة بدون جمع لاغتسلت خمس مرات, فإذا قلنا: بالجمع لاغتسلت ثلاث مرات. ومن فوائد هذا الحديث: ما ذهب إليه بعض العلماء من ثبوت الجمع الصوري؛ أي: أن الإنسان يصلي كل صلاة في وقتها, لكن كل صلاة قريبة من الأخرى فيكون جمعًا صوريًا؛ لأنه صلى كل صلاة في وقتها, فلم يجمع الصلاتين في وقت واحد منهما, بل صلى كل صلاة في وقتها, لكنه أخر الأولى وعجل الثانية, ولا يلزم من هذا أن تكونا متواليتين, قد يؤخر هذه في آخر الوقت ويعجل هذه في أول الوقت, ويكون بينهما فاصل, فإذا قيل بالجمع الصوري في مثل هذا, بمعنى: أن يكون بينهما فاصل, فإنه ممكن؛ يعني: يمكن أن يقال بالجمع. وأما ما قيل بالجمع الصوري مع الموالاة فهذا لا يمكن؛ لماذا لا يمكن؟ لأن الجمع الصوري معناه: أن تؤخر الصلاة - صلاة الظهر - إلى آخرها إلى أن يصير ظل كل شيء مثلها, ثم تعجل العصر, ومن الذي يرقب الشمس حتى يصير ظل كل شيء مثله؟ لو قلنا باللزوم لكان هذا أشق من أن يصلي كل صلاة في وقتها المتسع؛ ولهذا الجمع الصوري - كما ذكرنا لكم - إن كان المراد: أنه لا موالاة بينهما لكن الأولى يصليها في آخر الوقت, والثانية يصليها في أول الوقت, فهذا ممكن. وأما إذا قيل: جمع بالموالاة؛ فهذا لا يمكن, وأشق من ذلك المغرب والعشاء متى يدخل وقت العشاء؟ بعد مغيب الشفق, ومن الذي يرقب مغيب الشفق حتى يدع صلاة المغرب آخر شيء قبل مغيب الشفق, ويجعل صلاة العشاء أول شيء, هذا صعب جدًا, ولاسيما إن قلنا في الشتاء؛ لأنه يلزمه أن يطلع إلى السطح أو أن يخرج إلى البرية من أجل أن يعرف متى يغيب الشفق. على كل حال: الجمع الصوري الذي ذهب إليه بعض الناس واستدل بهذا الحديث نقول: إن كان المراد مع التفريق دون اشتراط الموالاة, فهذا ممكن, أما مع اشتراط الموالاة فهذا لا يمكن. ولكن القول الراجح في هذه المسألة: أنه يجوز الجمع حتى الحقيقي إذا كان هناك مشقة ولسنا نستدل على هذا بحديث حمنة, ولكن بحديث ابن عباس رضي الله عنها حين قال: «جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر» , قالوا: ما

حكم الاغتسال لكل صلاة للمستحاضة

أراد بذلك؟ قال: «أراد ألا يحرج أمته». فدل هذا التعليل من ابن عباس وهو المفقه في الدين على أنه كلما كان الحرج في عدم الجمع جاز الجمع, وهذا هو الضابط. ومن فوائد هذا الحديث: بيان تفاضل الأعمال لقوه: «وهو أعجب الأمرين إلي». «أعجب» بمعنى: أحسن, كما في حديث عائشة: «كان يعجبه التيمن». أي: يستحسنه, ففيه دليل على تفاضل الأعمال, وأن بعضها أفضل من بعض, وهذا ثابت بالقرآن والسنة, ولا إشكال فيه أن بعض الأعمال أفضل من بعض, قال الله تعالى: {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا} [النساء: 95]. مع أنهم كلهم في جهاد, يعني: القاعد لم يجاهد, لكن المجاهد بنفسه وماله يتفاضل جهاده بحسب ما بذل من نفس ومال, ثم قال المؤلف: حكم الاغتسال لكل صلاة للمستحاضة: 133 - وعن عائشة رضي الله عنها, «أن أم حبيبة بنت جحشٍ شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم, فقال: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك, ثم اغتسلي, فكانت تغتسل لكل صلاة». رواه مسلم. قولها: «أن أم حبيبة بنت جحش» والأولى التي في الحديث الذي قبل هذا «حمنة بنت جحش» , بقي «زينب جحش» هؤلاء الثلاث أخوات «زينب بنت جحش» إحدى أمهات المؤمنين, قال بعض العلماء: إنها أيضًا استحيضت لكنه لم يثبت فيها الذي ثبت في حمنة, الثانية «أم حبيبة» شكت إلى رسول الله - أي: رفعت إليه الشكوى - هو الإخبار بما يؤلم الإنسان نفسيًا, أو جسديًا هذه هي الشكوى, «شكت إليه الدم» يعني: كثرته, فهو على حذف المضاف, والتقدير: «كثرة الدم» , قال لها: «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك» هذه لها عادة, ولهذا قال لها: «اجلسي قدر ما كانت تحبسك حيضتك» , وأختها لم يقل لها رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ذلك, بل قال: «سبعة أيام, أو ستة». وكأنه عليه الصلاة والسلام - علم أن الأولى - أعني: حمنة ليس لها عادة ولا تمييز, والثانية لها عادة ولهذا لم يستفصل, بل حكم بدون استفصال أنها تمكث «قدر ما كانت تحبسك حيضتك, ثم اغتسلي» بعدما تنتهي المدة؛ لأننا حكمنا بطهارتها, قالت: «فكانت تغتسل لكل صلاة» , وهذا يدل على أنه اجتهاد منها أي: كانت تغتسل يعني: دون أن يأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لكن سبق أن حمنة أرشدها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل

لكل صلاة, لكن أذن لها في هذه الحال أن تجمع, والحكمة من ذلك - والله أعلم -: أن الاغتسال يؤدي إلى تقلص العروق, وتقليل الدم, ويكون سببًا لانقطاع الاستحاضة. ففي هذا الحديث فوائد منها: أنه قد يقول قائل: إن الاستحاضة تأتي عن وراثة؛ لأن هاتين الأختين كلتيهما استحيضت, فلعل هذا يكون عن وراثة, فإن ثبت هذا أن الاستحاضة كسائر الأمراض تكون عن وراثة فلا عجب في ذلك, وإن لم يثبت ألغيت هذه الفائدة. ومن فوائد هذا الحديث: أن الاستفتاء عن الشيء المؤلم يسمى شكوى لقولها: «شكت إلى رسول الله الدم». ومن فوائد هذا الحديث: أن الشكوى للمخلوق جائزة بشرط ألا تكون تنبئ عن السخط عن الخالق, وعلى هذا فإذا قلت لشخص: أنا أشكو من كذا من المرض فإنه لا بأس به, بشرط أن لا يكون القصد السخط من الخالق عز وجل, مجرد إخبار الرسول - عليه الصلاة والسلام - لما قالت عائشة: وارأساه, قال: «بل أنا وارأساه». فلا بأس في الشكاية إلى الخلق إذا كان المقصود مجرد الإخبار لا شكوى الخالق والسخط منه؛ ولهذا قال العلماء - رحمهم الله -: إن الشكوى إلى المخلوق إذا لم يكن المقصود السخط من الخالق لا تنافي الصبر الجميل. ومن فوائد هذا الحديث: الرجوع إلى العادة في المستحاضة لقوله صلى الله عليه وسلم: «قدر ما كانت تحبسك حيضتك» وإن قل عن ستة أيام وسبعة؟ نعم وإن قل, وأيضًا وإن زاد عليها. ومن فوائد هذا الحديث: أن الحيض يحبس المرأة عن الصلاة والصيام, وأشياء كثيرة تترتب على الحيض. ومن فوائده: أن المعتادة ترجع إلى عادتها سواء كان لها تمييز أو لا, وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل, لم يقل: كيف حال الدم, بل أطلق الرجوع إلى العادة, وهذا لا شك أنه أيسر على المرأة أن ترجع إلى عادتها؛ لأن الأصل بقاء العادة على ما كانت عليه, وتغير الدم ربما يتغير في أول الشهر, وفي الشهر الثاني في آخره, وربما يتغير تغيرًا بينًا, وقد يتغير تغيرًا يسيرًا لكن الرجوع للعادة أضبط بلا شك, فإذا عدمت العادة رجعنا إلى التمييز. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا تمت العادة بالنسبة للمستحاضة المعتادة وجب عليها الاغتسال؛ لأنها الآن طهرت. ومن فوائد هذا الحديث: جواز اجتهاد الإنسان في العبادات لقولها: «فكانت تغتسل» , ولكن على أي شيء بنت أم حبيبة؟ الظاهر والله أعلم أنها بنت هذا على ما أفتى النبي صلى الله عليه وسلم به أختها؛ حيث أمرها أن تغتسل لكل صلاة, وقال: «هذا أعجب الأمرين».

وجوب الوضوء لكل صلاة للمستحاضة

ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجب على المستحاضة أن تغتسل لكل صلاة؛ لأن الاغتسال من فعلها رضي الله عنها, وباجتهاد منها, ولو كان واجباً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم, وحديث حمنة صريح في أنه ليس بواجب. وجوب الوضوء لكل صلاة للمستحاضة: - وفي رواية للبخاري: «وتوضئي لكل صلاة». وهي لأبي داود وغيره من وجهٍ آخر. فيستفاد منه: وجوب وضوئها لكل صلاة. فإذا قال قائل: ما الحكمة في أنها تتوضأ لكل صلاة؟ قلنا: إن هذه طهارة ضرورة؛ إذ إن الحدث الموجب للطهارة لم يزل قائمًا فتكون الطهارة ضرورة تتقدر بقدرها, وقوله: «لكل صلاة» المراد: لوقت كل صلاة, وليس المراد: أنها إذا جمعت توضأت للظهر, ثم توضأت للعصر, لا بل المراد: توضئي لوقت كل صلاة. فإذا توضأت فهل لها أن تصلي فروضًا ونوافل, أو الفروض فقط؟ الصحيح: أنها تصلي فروضًا ونوافل؛ لأن هذا الوضوء رفع, لم نقل: رفع حدثها, ولكن بمعنى: ارتفاع الحدث, وإذا خرج الوقت فإن دخل وقت الصلاة الأخرى وإن لم يدخل وقت صلاة أخرى لم تتوضأ إلا إذا أرادت أن تتنفل, فمثلًا في صلاة الفجر إذا خرج الوقت وهي قد توضأت لصلاة الفجر وأرادت أن تصلي صلاة الضحى, نقول لها: توضئي لها, كذلك في العشاء الآخرة على القول الراجح أن وقتها يخرج في منتصف الليل, فإذا انتصف الليل وأرادت أن تتهجد نقول: توضئي من جديد. ألحق العلماء - رحمهم الله - بالقياس الجلي, بالمستحاضة من كان حدثه دائمًا كإنسان لا يستمسك بوله, أو لا يستمسك الريح من دبره, أو دبره دائمًا يفرز رطوبة, فقالوا: إن حكم هؤلاء حكم المستحاضة, بمعنى: أنه لا يتوضأ للصلاة إلا بعد دخول وقتها, ولكن لابد من محاولة التقليل من النجاسة بالتحفظ بالحفاظات الموجودة الآن - ولله الحمد - سواء كان رجلًا أو امرأة بقدر المستطاع, وأما ما يفعله بعض الجهال بربط الذكر فهذا غلط عظيم؛ لأن ربط الذكر ضرر على الإنسان فإن البول سينزل من المثانة, وإذا نزل احتقن في القنوات وهي ضعيفة جدًا فربما تنفجر, ولذلك يجب أن ينهى عن هذا, بل يقال: ضع على محل الخارج شيئًا يحفظ من انتشار البول وكفى.

حكم الكدرة والصفرة

حكم الكدرة والصفرة: 134 - وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: «كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا». رواه البخاري, وأبو داود واللفظ له. «أم عطية» أنصارية معروفة رضي الله عنها قالت: «كنا لا نعده». «كنا» يعني: معشر النساء, ولم تقل: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, ومثل هذا اختلف فيه العلماء هل هو من اجتهاد الصحابة أو له حكم الرفع, ما لو قالت: في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه في حكم الرفع, لكن هنا لم تقل: في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, فلذلك هل نقول: إنه في حكم الرفع, أو نقول: إنه من عمل الصحابيات واجتهادهن؟ وقوله: «لا نعد»؛ أي: لا نحسبها ولا نعتبرها, و «الكدرة» أن يكون الدم متكدرًا, وشبهوا ذلك بغسالة اللحم, وأما «الصفرة» فهو شيء يشبه الصديد أصفر, «بعد الطهر» أي: بعد زمن الحيض, يعني: إذا طهرت المرأة بالقصة البيضاء ثم وجدت الكدرة أو الصفرة فإنها لا تعد شيئًا, ومعنى «لا تعد شيئًا» أي: لا تعد شيئًا معتبرًا في الحيض, وإلا فإنها تنقض الوضوء, وإذا استمرت مع المرأة صار لها حكم سلس البول. المؤلف يقول: «رواه البخاري, وأبو داود, واللفظ له» , وهذا سهو من المؤلف رحمه الله, فإن البخاري لم يرو: «بعد الطهر» , وإنما رواية: «بعد الطهر» لأبي داود, ولا يسلم المؤلف من التبعة حين قال: «واللفظ له» , بل نقول: كان الذي ينبغي أن يقول: «كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئًا» رواه البخاري, وأبو داود, وزاد: «بعد الطهر»؛ حتى يبين اللفظ الذي رواه البخاري من اللفظ الذي رواه داود. هذا الحديث يدل على أن النساء قد يرين دمًا خالصًا, ويرين كدرة, ويرين صفرة, وفيه قسم رابع يرين ماء أبيض وهي القصة البيضاء. وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في هذا الحديث هل هو مرفوع أو موقوف هذه واحدة, فإن كان مرفوعًا فهو حدة, وإن كان موقوفا فهو رأي واجتهاد قابل للنقاش. ثانيًا: وعلى تقدير صحته وأنه مرفوع فإنهم اختلفوا أيضًا هل هذا يعني بعد حذف «بعد الطهر»؛ لأن «بعد الطهر» ليست في البخاري هل تعد الصفرة والكدرة شيئًا أو لا تعد؟ على أقوال متعددة تبلغ الستة والسبعة؛ لأن الحديث: أولًا: غير صريح في الرفع. وثانيًا: ليست زيادة «بعد الطهر» متفق عليها, ولا من رواية البخاري؛ فالعلماء اختلفوا, منهم من قال: الصفرة والكدرة ليستا بشيء سواء كانتا قبل الحيض

الاستمتاع بالحائض

أو بعد الحيض متصلًا بالحيض, وأن الحيض هو الدم الخالص المعروف, وإلى هذا ذهب ابن حزم رحمه الله, وأيد هذا بأدلة قوية وقال: ليس لنا أن نلزمها بما لم يلزمها الله عز وجل؛ أو نحرم عليها ما لم يحرمه الله, وذكر شيخ الإسلام رحمه الله ذلك وجها لأصحابنا الحنابلة, وهذا القول هو الذي تطمئن نفسي إليه سواء قبل الحيض أو بعد الحيض متصلة بالحيض أو منفصلة, وهذا في الحقيقة مع وضوحه وبيانه أريح للنساء؛ لأن بعض النساء تبقى معها الصفرة مدة طويلة بعد الدم, فإذا قلنا: إن الحيض هو الدم المعروف كما قال ابن حزم رحمه الله في اللغة العربية, نقول: هذا شيء معروف لا يحتاج إلى إشكال, وفي حديث أم عطية أنهم كانوا لا يعدونه شيئًا, فهو أصوب وأقرب للصواب. يلي ذلك القول بأن الصفرة المتصلة بالحيض بعد الحيض من الحيض, وأما التي تسبق الحيض فليست من الحيض, وهذا أقرب من الأقوال الأخرى. ويلي ذلك أن الصفرة والكدرة المتصلة بالحيض في أوله أو آخره من الحيض, والأقوال المتعددة ذكرها النووي رحمه الله في شرح المهذب. فالقول الراجح عندي: أن الصفرة والكدرة ليستا بحيض مطلقًا, نعم لو وقع في أثناء الحيض مثلًا: امرأة عادتها خمسة أيام في بعض الأيام نصف يوم أو ساعة أو ما أشبه ذلك تجد صفرة هذا لا يعتبر طهرًا بل هو تابع للحيض, وإن لم تر الصفرة؛ لأن الجفاف أو الجفوف مدة يسيرة في أثناء الحيض تعتبر حيضًا. الاستمتاع بالحائض: 135 - وعن أن رضي الله عنه: «أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح». رواه مسلم. قوله: «كانت اليهود إذا حاضت المرأة» أنث اليهود باعتبار الجمع؛ لأن اليهود بمعنى: القبيلة, أو الطائفة, أو ما أشبه ذلك, وقوله: «لم يؤاكلها» أي: هجروها ولا يأكلون معها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» يخاطب أصحابه يعني: افعلوا مع النساء كل شيء, يعني: الأكل, والنوم, والمباشرة كل شيء إلا النكاح, والمراد بالنكاح هنا: الجماع, وليس عقد النكاح, بل الجمع. ففي هذا الحديث فوائد, منها: تشديد اليهود في التطهر من النجاسة؛ ولهذا كانوا لا يؤاكلون

الحائض, ولا يضاجعونها, ولا يقربونها, وكانوا إذا أصابت ثوبهم النجاسة قصوه بالمقص, ولا يرون أن الماء يطهره كما ذكر أهل العلم, ولما ذكر أهل العلم أن الأمة الإسلامية وسط بين الأمم في النجاسات قالوا: إن اليهود إذا تنجس الثوب عندهم قصوه ولا يطهرونه بالماء, والنصارى, بالعكس يتلوث بالنجاسة أو لا يتلوث لا يهمهم هذا, المسلمون - والحمد لله - وسط. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الاستمتاع بالحائض في كل شيء إلا الوطء, وعلى هذا فله أن يقبلها ويؤاكلها, ويضمها ويجامعها بين الفخذين, كل شيء يفعل إلا النكاح: إلا الجماع. وهل يلزم مع ذلك أن تأتزر إذا أراد أن يباشرها أو لا يلزم؟ لا يلزم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق فله أن يباشرها وإن لم تأتزر, لكن اتزارها أفضل وأكمل لوجهين: الوجه الأول: أنه ربما يعجز عن كبح نفسه إذا كانت غير مئتزرة فيجامع في الفرج. وثانيًا: لئلا يرى منها ما يكره من الدم, فإذا كانت مئتزرة فليباشرها ما شاء لكن لئلا يرى هذا؛ ولهذا قال: 136 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر, فيباشرني وأنا حائض». متفق عليه. «يأمرني فأتزر» أي: ألبس الإزار, «فيباشرني» المباشرة أبلغ من التقبيل, «وأنا حائض» الجملة هذه حالية, يعني: والحال أني حائض. ففي هذا الحديث فوائد, منها: أن الإنسان إذا أراد أن يتمتع بامرأته وهي حائض فليأمرها بالاتزار. ومن فوائد الحديث: جواز استمتاع الرجل بزوجته بدون إزار إذا كانت طاهرة, وهذا واضح, فإنه يجوز للزوجين أن يباشر أحدهما الآخر وهما عاريان ولا حرج في هذا, لكن ينبغي أن يكونا عليهما رداء أو نحوه يغطيهم في هذه الحال. من فوائد الحديث: أنه يشرع للمرأة إذا كانت حائضًا وأراد زوجها أن يستمتع بها أن يأمرها بالاتزار اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: صراحة نساء الصحابة في الأمر الذي يستحيا حائضًا بكل شيء إلا النكاح - أي: الجماع -. ثانيًا: أنه ينبغي إذا أراد أن يباشر أن تتزر لوجهين:

كفارة وطء الحائض

الأول: لئلا يرى منها ما يكره. والثاني: لئلا تغلبه نفسه فيجامعها. كفارة وطء الحائض: 137 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما, عن رسول صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: «يتصدق بدينارٍ, أو بنصف دينارٍ». رواه الخمسة, وصححه الحاكم وابن القطان, ورجح غيرهما وقفه. هذه المسألة - مسألة وطء الحائض - فوطء الحائض لا شك أنه حرام بنص القرآن, قال الله تعالى: {ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222]. ومتى يرتفع هذا التحريم؟ قيل: إنه يرتفع بانقطاع الدم, وقيل: إنه يرتفع بالاغتسال, فالذين قالوا إنه يرتفع بانقطاع الدم, قالوا: إن الله قال: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} والطهر: هو انقطاع الحيض, وقوله: {فإذا تطهرن} أي: من الحيض, والمراد بذلك: أن تغسل محل الدم والفرج فتحل بعد ذلك, وليس المراد: الاغتسال, وأن المرأة إذا طهرت من الحيض وغسلت الفرج وما أصاب الدم فإنه يجوز للزوج أن يجامعها, وهذا رأي ابن حزم رحمه الله, ولكنه ضعيف. والصواب: أن المراد بالتطهر: الاغتسال لقول الله تعالى: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} [المائدة: 6]. فسمى الاغتسال تطهرًا, وهذا أحوط وأبرأ للذمة, ولعله أصح للمرأة؛ لأن المرأة بعد الاغتسال سوف يكون لها نشاط وتعود عليها قوتها وتكون متهيئة للجماع. ولكن إذا فعل الإنسان فجامع في الحيض فهو آثم بلا شك, إلا أن يكون جاهلًا فالجهل عذر, لكن إذا كان عالمًا فهو آثم, ثم هل يلزمه مع التوبة إلى الله أن يتصدق بشيء؟ في هذا خلاف بين العلماء: فمنهم من قال: لا شيء عليه, عليه أن يتوب فقط, ولا يلزمه أكثر من ذلك, والأصل براءة الذمة, فلا تلزم المسلمين بشيء إلا بيقين؛ لأنك إذا ألزمته شيئًا فقد استبحت بعض ماله بقدر ما تلزمه, ومن الذي أحل لك ماله حتى يخرجه من ملكه إلى الفقير, والأصل احترام الأموال ولا نلزم الناس يبذلها إلا بدليل, فصار عندنا أصلان:

الأول: براءة الذمة. والثاني: عصمة المال, واحترام المال. فكيف نقول لهذا الرجل: عليك الكفارة ونخرج شيئًا من ماله بدون دليل شرعي؟ ! وقال بعض أهل العلم: بل عليه الكفارة لحديث ابن عباس الذي ساقه المؤلف رحمه الله, والكفارة إما دينار أو نصف دينار, والدينار الإسلامي مثقال من الذهب, يعني: ما يزن مثقالًا من الذهب, أو نصف مثقال, وقيمته معروفة عند أهل الصرف. ولكن الحديث - كما تشاهدون - اختلف العلماء في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكثر المحدثين بأنه موقوف على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم الحديث فيه اضطراب في إسناده, وفيه أيضًا شيء من الاضطراب في موجبه ومقتضاه ديار أو نصف دينار, ولم يرد مثل هذا التخيير في جنس واحد, في أي كفارة من الكفارات, التخيير الذي يكون في الكفارات يكون بين جنسين طعام, أو كسوة, أو عتق مثلًا في كفارة الأيمان, أما أن يكون دينار أو نصفه فهذا لا يستقيم. ثم هل الحديث صريح في الوجوب؟ الحديث يقول: «يتصدق» فيحتمل أن يكون على سبيل الاستحباب, ويحتمل أن يكون على سبيل الوجوب, واحتمال كونه على سبيل الوجوب أقرب؛ لأنه في مقابلة ذنب, والذنب لا يرفع إلا بواجب, لكن يبقى النظر في كونه مخيرًا بين الدينار أو النصف دينار, فهل هذا مستقيم؟ ثم يبقى النظر أن الحديث مختلف فيه, هل هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول ابن عباس, ثم الحديث أيضًا فيه اضطراب في سنده ولذلك عدل عنه الإمام الشافعي رحمه الله وقال: «إن وطء الحائض ليس فيه كفارة, ولو صح الحديث لقلت به». ولكن لا شك أن الإنسان إذا احتاط وكان الله قد أعطاه سعة من المال وكفر فإن هذا يكون سببًا لردعه عن العودة إليه, فإخراج الكفارة بلا شك أولى من التبعة. فإذا قلنا: التخيير فيه إشكال وهو كيف يخير بين شيئين من جنس واحد أحدهما أقل من الآخر؟ فيقال: هذا من فضل الله عز وجل أن الله تعالى أوجب الدينار وهذا على الكمال, أو نصفه وهذا على الإجزاء, فالكمال دينار, والإجزاء نصف دينار, على أن بعض العلماء قال: إن هذا التخيير ليس تخييرًا تشهيًا ولكنه تنويع, وأنه إذا كان الجماع في فور الحيض فدينار, وإن كان في آخره فنصف دينار؛ لأن الحيض في فور الدم أشد ضررًا وأكثر إثما, ولكن الذي يظهر - والله أعلم - أنه على التخيير مطلقًا. ***

أحكام تترتب على الحيض

أحكام تترتب على الحيض: 138 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟ ». متفق عليه في حديث طويل. هذا جواب من الرسول - عليه الصلاة والسلام - لسؤال ورد عليه, فإن النبي صلى الله عليه وسلم وعظ النساء بعد أن وعظ الرجال في خطبة صلاة العيد, وذكرهن وقال: «ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن». و «لبه» يعني: عقله, فقال: «ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودين» فانتبهت النساء لهذا, وقالوا: يا رسول الله, ما نقصان عقلنا, وما نقصان ديننا؟ فبين أن نقصان العقل المراد بالعقل: عقل الأشياء وضبطها, وليس العقل الذي هو ضد الجنون, وبين أن نقصان عقلها أن شهادة الرجل بشهادة امرأتين لقوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة: 282]. وبين الله السبب قال: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282]. {تضل} , بمعنى: تجهل, أو بمعنى: تنسى, و {فتذكر} بمعنى: تنبه إن كانت جاهلة فبالتعليم, وإن كانت ناسية فبالتذكير, فبين الله الحكمة أن المرأة قليلة العقل ما تعقل الأشياء ولا تحفظها كما يفعل الرجل. أما الصلاة فقال: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلت: بلى يا رسول الله, قال: «هذا نقصان دين» , فمثلًا إذا حاضت المرأة سبعة أيام لا تصلي والرجل يصلي صار أكمل منها دينًا, وأكثر منها عملًا فهذا نقصان دينها. ولكن هل تلام على هذا النقص؟ الجواب: لا؛ لأن نقص الإيمان ينقسم إلى قسمين: إن كان لترك واجب أو فعل معصية النقص؟ الجواب: لا, لأن نقص الإيمان ينقسم إلى قسمين: إن كان لترك واجب أو فعل معصية فهو نقصان يلام عليه العبد, وإن كان لترك مستحب أو لترك معذور فيه الإنسان فهو نقص لا يلام عليه. فإن قال قائل: المرأة الآن لا تصوم بإذن الله وبأمر الله ولو صامت لأثمت, فكيف تجعلونها ناقصة؟ نقول: نجعلها ناقصة كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء ناقصين عن الأغنياء الذين ينفقون أموالهم فيما يرضي الله, وأرشدهم إلى أن يسبحوا الله ويحمدوه ويكبروه دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين, فلما علم الأغنياء بذلك فعلوا مثله, فجاء الفقراء يشتكون, قالوا: يا رسول الله, إن إخواننا الأغنياء فعلوا مثل ما فعلنا, فال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء». فإذا احتجت المرأة وقالت: إنها لم تترك الصلاة إلا بأمر الله, ولم تترك الصوم إلا بأمر الله, قلنا: هذا فضل الله وليس لك حجة على الله, والله تعالى يؤتي ملكه من يشاء, أليس الله تعالى يفضل بعض الناس على

بعض في العلم, في العبادة, في الرسالة, في النبوة, في الولاية, في كل شيء, فضل الله يؤتيه من يشاء. استفدنا من هذا الحديث: أولًا: حسن خلق الرسول - عليه الصلاة والسلام -, وأنه أحسن الناس خلقًا وأرحب الناس صدرًا, وأنه - عليه الصلاة والسلام - يقبل أن يناقشهن ولا يأنف عن ذلك ولا ينهر ولا يكفهر - عليه الصلاة والسلام -. ومنها: أنه ينبغي للعالم إذا طلب منه الإرشاد إلى معرفة الحكمة أن يبين ذلك بصدر منشرح إن تبينت له الحكمة وإلا يقول: الله أعلم. ومنها: أنه قد تقرر في الدين الإسلامي أن المرأة إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك مقررًا: «أليس إذا حاضت» , والاستفهام هنا للتقرير. ومنها: أن الحائض لا تصلي نفلا ولا فرضًا, ولا تصوم نفلًا ولا فرضًا, وجه ذلك: الإطلاق, والشيء إذا أطلق لا يمكن أن يقيد. أسئلة: - لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عائشة أن تتزر فيباشرها؟ - من أتى امرأته وهي حائض ماذا عليه؟ - ما هو الدينار؟ - هل قول ابن عباس «يتصدق» على سبيل الوجوب؟ - هل قوله: «أليس إذا حاضت» استفهام أم ماذا؟ - لماذا ساقه المؤلف في باب الحيض؟ - إذا قال قائل: كيف تكون ناقصة وهي ممتثلة؟ 139 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما جئنا سرف حضت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افعلي ما يفعل الحاج, غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري». متفق عليه في حديث طويل. «لما جئنا» الضمير هنا يعود على الرهط الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع, وكان النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قد خرج بزوجاته كلهن, وأحرمن بعمرة متمتعات بها إلى الحج, ومنهن عائشة, فلما بلغوا «سرف» وهو مكان في طريق المدينة إلى مكة حاضت, فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي وسألها لماذا؟ فأخبرته بأنها حاضت, فقال: «إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم» , قال تسلية لها حتى تتأسى؛ لأن الإنسان إذا تأسى بغير هانت عليه المصيبة, ويشير

إلى هذا قوله تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 39]. لكن في الدنيا إذا اشترك المجرمون في العذاب هان عليهم, وقالت الخنساء ترثي أخاها صخر: [الوافر] وما يبكون مثل أخي ولكن ... أسلي النفس عنه بالتأسي فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم, وليس خاصًا بك, وليس الأمر بيديك, فقال لها: «افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت» , «افعلي» الأمر هنا للإرشاد, ويبقى إذا كان للإرشاد ما كان مأمورًا به في الحج على سبيل الوجوب واجبًا, وما أمر به على سبيل الاستحباب يكون مستحبا. ويحتمل أن يكون الأمر هنا للإباحة, يعني: لك أن تفعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت, وقوله: «الحاج» المراد به: الجنس؛ فيشمل الذكر والأنثى, «غير» هذا استثناء من عموم الأحوال أو من قوله «ما» في: «ما يفعله الحاج غير ألا تطوفي بالبيت» , يعني: طواف القدوم؛ لأنها ستقدم وهي حائض, ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم السعي, لكنه ذكره مالك رحمه الله في موطئه بإسناد صحيح, وكذلك البخاري ذكر أنها لما طهرت طافت وسعت؛ ولهذا يكون عدم ذكره في بعض الروايات لا ينافي ذكره في الروايات الأخرى, وقوله: «حتى تطهري» حتى للغاية, يعني: حتى تطهري من الحيض, والطهارة من الحيض هو انقطاع الدم متى انقطع الدم فهي الطهارة, وما بعد انقطاع من الحيض, والطهارة من الحيض هو انقطاع الدم متى انقطع الدم فهي الطهارة, وما بعد انقطاع الدم ليس بشيء سواء كان أبيض أو أصفر أو كدرة, متى انقطع الدم - دم الحيض المعروف - فإنها تكون طاهرة. فيستفاد من هذا الحديث فوائد: أولًا: جاء به المؤلف في كتاب الحيض ليبين أن الحائض لا تطوف بالبيت, وهذا أمر مجمع عليه. ويستفاد من هذا الحديث فوائد منها: جواز إدخال الحج على العمرة عند تعذر إتمامها؛ لأن عائشة أرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جواز إدخال الحج على العمرة؛ لأنه قال لها - عليه الصلاة والسلام -: «اجعليها عمرة». ولكن إذا لم يكن هناك حاجة فهل يجوز أو لا يجوز؟ من العلماء من قال: أنه لا يجوز؛ لأن الله تعالى قال: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196]. وهذا لم يتم العمرة؛ ولأنه لم ينتقل إلى نسك أفضل بل إلى نسك مفضول؛ لأن الإنسان سينتقل من التمتع إلى القران, والتمتع أفضل, وليس كالذي يحول الإفراد أو الإقران إلى تمتع؛ لأن هذا

ثبتت به السنة, لكن هذا قد تحول من نسك مفضول إلى نسك أفضل ولا إشكال فيه؛ لأن تحول القارن إلى متمتع أو المفرد إلى متمع لا إشكال فيه, وهذا هو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي. لكن الإشكال أن ينتقل من تمتع إلى قران, فنقول: عند الضرورة لا شك في جوازه, وذلك فيما إذا حاضت المرأة وتعرف أنها لن تطهر قبل الوقوف بعرفة, ومن ذلك لو خاف الإنسان فوت الوقوف بأن جاء متأخرًا وأحرم بالعمرة ثم خاف أن يفوته الحج فإنه هنا يدخل الحج على العمرة, فيكون قارنًا. لكن السؤال هل يجوز ذلك في حال السعة؛ بمعنى: أن الإنسان يدخل الحج على العمرة مع سعة الوقت؟ هذا محل نظر, ولولا أن بعضهم حكى الإجماع في الجواز لقلنا بعدم الجواز, فإن كان أحد من العلماء يقول بأنه لا يجوز إدخال الحج على العمرة إلا عند الضرورة الشرعية أو الحسية؛ فهذا القول أقرب للصواب بلا شك, ووجه ذلك: أنه انتقال من فاضل إلى مفضول, والأعمال الشرعية إذا كانت واجبة لا يمكن أن ينتقل من فاضل إلى مفضول أبدًا, بخلاف الانتقال من المفضول إلى الفاضل. ومن فوائد الحديث: أن القارن فعله كفعله المفرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها أن تطوف مرتين, وأن تسعى مرتين, بل قال: «افعلي ما يفعل الحاج» , وهذا القول هو الراجح, بمعنى: أن القارن كالمفرد سواء في أفعال الحج, فلا يلزمه طوافان وسعيان, لماذا؟ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دخلت العمرة في الحج» , ولقوله لعائشة: «طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك» أي: يكفيك لحجك وعمرتك. فالقارن والمفرد سواء في الأفعال, لكنهما يختلفان من جهة أن القارن يحصل له نسكان, والمفرد لا يحصل له إلا نسك, وأن القارن عليه هدي, والمفرد ليس عليه هدي. وهل يجوز إدخال العمرة على الحج ليصير قارنًا بمعنى: أن الرجل أحرم بالرجل, ثم أدخل العمرة عليه؟ هذا فيه خلاف, فمن العلماء من يقول: لا بأس بإدخال العمرة على الحج, ومنهم من قال: لا يجوز. والصحيح جوازه؛ لأن هذا هو ظاهر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث أحرم بالحج أولًا, ولقول عائشة رضي الله عنها وهي تقسم الناس لإحرامهم وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج, ثم قيل له: قل عمرة في حجة. وهذا يعني: أنه أدخل العمرة على الحج, وهو من ناحية القياس أن يقال: أي فرق بين أن تدخل الحج على العمرة, أو العمرة على الحج.

وأما من قال: لا يستفيد بإدخال العمرة على الحج لأنه لن يزيد على أفعاله. فنقول: وكذلك إدخال الحج على العمرة لا يزيد على أفعاله, ثم نقول: القول بأنه لم يستفد ممنوع؛ لأنه استفاد نسكين فهو مستفيد. عرفنا أن عائشة رضي الله عنها أدخلت الحج على العمرة قبل أن تطوف لا شك فهل يجوز إدخال الحج على العمرة بعد الطواف؟ يرى بعض العلماء أنه لا بأس به, حتى بعد السعي ما دامت العمرة لم تتم فله إدخال الحج على العمرة ويصير قارنًا, أما مذهبنا فإنه لا يصح أن يدخل الحج على العمرة بعد الشروع في الطواف, وهذا فيه شيء من الإشكال فيما لو أن المحرم طاف وسعى ولم يقصر إما ناسيًا أو جاهلًا, ثم أدخل الحج على العمرة؛ فعلى المذهب - مذهبنا - يكون حجه فاسدًا لا يصح؛ لأنه أدخل على العمرة بعد الطواف وهذا لا يصح, والإفتاء بهذا فيه صعوبة أن يأتي الإنسان من مسافة بعيدة وينفق كل ما جمعه من مال, ثم يقال له: رجعت بلا حج, وليس هناك دليل واضح في هذه المسألة إلا أن يقال: إذا لم يبق إلا الحلق أو التقصير فقد تم النسك فكيف يصح إدخال الحج عليه؟ في مثل هذا نحن نفتي بأن يفدي الإنسان عن ترك الحلق ونجعله كأنه تركه ولما تحلل من العمرة ثم شرع في النسك, فشروعه في نسك الحج صحيح, وعليه فدية بناء على القول بأن تارك الواجب تلزمه فدية, وأما أن نقول: لا يصح, ففيه نظر؛ المذهب يصح إدخال الحج على العمرة فيما إذا ساق الهدي وإلا فلا, لكن الصواب أنه لا فرق بين من ساق الهدي ومن لم يسق الهدي. ومن فوائد هذا الحديث: أن جميع المناسك لا تشترط لها الطهارة السعي, الوقوف, المبيت, الرمي, لكن الأفضل أن يفعلها على طهارة. فإن قال قائل: كيف تقولون السعي, وقد قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «ولا بين الصفا والمروة»؟ قلنا: إن العلة في عدم صحة السعي هي أنه لم يسبقه طواف؛ ولذلك أنبه هنا على مسألة يفعلها بعض أهل مكة, وهي أنهم يحرمون بالحج من بيوتهم ثم يذهبون إلى البيت ويطوفون, ثم يسعون سعي الحج, وهذا لا يصح, يعني: السعي: هنا لا يصح؛ لأنه وقع بعد طواف وليس بنسك فإن السعي إنما يكون بعد طواف النسك, إما طواف الإفاضة, وإما طواف القدوم, وهؤلاء ما قدموا, هؤلاء هم أهل مكة, وهؤلاء يقال لهم: أعيدوا السعي؛ لأن سعيكم الأول لم يصح. فإن قال قائل: في أن الحائض لا تطوف بالبيت؟

فالجواب: أن العلماء اختلفوا في ذلك, فمنهم من قال: إنه لا يصح طواف الحائض؛ لأن من شرط الطواف الطهارة, وهذه لم تكن طاهرة, فلا يصح طوافها, وعلى هذا القول لا يصح طوافها بأي حال من الأحوال حتى عند الضرورة لا يصح أن تطوف؛ لأن من شرط الطواف الطهارة, وهذه يمكنها أن تأتي بالشرط إذا طهرت. وبناء على هذا القول لو حاضت امرأة قبل طواف الإفاضة وكان رفقتها لا يمكن أن ينتظروها ولا محرمها, وإذا عادت إلى بلدها لا يمكنها أن ترجع إما لمنع الحكومات, وإما لمشقة الرجوع لئلا تجد محرمًا, وإما لمشقة الرجوع بألا تجد مالًا حكم هذه بين أمرين: إما أن تبقى على إحرامها دائمًا وهو المذهب؛ بمعنى: أنها تبقى على ما بقي من إحرامها, وهو التحلل الثاني تبقى إن كانت ذات زوج فهي حرام على زوجها, وإن لم تكن ذات زوج فحرام عليها أن تتزوج, بناء على أن عقد النكاح بعد التحلل الأول حرام, وإن كان في هذا خلاف وفيه نظر, لكن الكلام على المعروف ولا يمكنها أن تتحلل بالحصر؛ لأن الحصر عندهم خاص بحصر العدو, وتبقى المسألة مشكلة - حرج لا نظير له - أو يقال على قول آخر على القول بأن الحصر يكون حصر عدو, وحصر مرض, وحصر ضياع نفقة, أو حصر كسر, المهم الحصر يكون لكل عذر يمتنع معه إتمام النسك, على هذا القول يقولون: تكون محصرة, وكيف تعمل؟ تذبح هديًا في مكان الإحصار بمكة وتتحلل, لكنها لم تؤد الحج, لماذا؟ لأنه فاتها منه ركن فيكون الحج غير تام, فتبقى المسكينة خصوصًا إذا كان حجها فريضة فتبقى لم تؤد الفريضة, لكن شيخ الإسلام رحمه الله قال: ليست العلة اشتراط الطهارة؛ لأن اشتراط الطهارة في الطواف ضعيف؛ إذ إن هذا مستنده ما روي عن ابن عباس رضي الله عنها: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام». وهذا الحديث لا يمكن أن يصح مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يصح - معناه غير صحيح - إذا قلنا: الطواف بالبيت صلاة إلا الكلام؛ فيقال: هذا غير صحيح, هناك أشياء كثيرة مستثناة مثل التكبير في أوله قراءة الفاتحة, عدم الاتجاه للقبلة, الحركة الكثيرة, وأشياء كثيرة مستثناة, فالحديث لا يصح عن الرسول - عليه الصلاة والسالم -, ثم إن قوله: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام» يمكن أن يحمل على أنه بمثابة الصلاة في الأجر وأخص منها؛ لأنه خاص بالكعبة.

فعلى كل حال: القول بأن الطهارة في الطواف شرط لا يصح؛ لأن هذا يحتاج إلى دليل واضح تبطل به عبادات خلق الله, لكن لا شك أن الطهارة في الطواف أفضل وأولى: أولًا: لأنه سيأتي بعد الطواف مباشرة صلاة ركعتين, وهذه يشترط لها الطهارة بالاتفاق. وثانيًا: احتياطًا لأن أكثر العلماء على وجوب الطهارة, فيقول شيخ الإسلام: لا دليل على اشتراط الطهارة في الطواف, وذكر له أدلة كثيرة في كتاب المناسك من أحب أن يراجعها فليفعل, لكنه قال: إن العلة هو مكثها في المسجد؛ لأن مكثها في المسجد حرام, وإذا كانت العلة هي مكثها في المسجد واضطرت المرأة للمكث في المسجد صار مكثها حلالًا, كما لو خافت على نفسها لو بقيت خارج المسجد ودخلت احتماءً بالمسجد هذا جائز ولا إشكال فيه, لكن يلزمها أن تستنثر بثوب؛ يعني: تحتشي به وتتحفظ لئلا يسيل دمها مع الحركة فيلوث المسجد, ودم الحيض نجس قليله وكثيره, وما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله هو الأولى. وبناء على رأيه رحمه الله نقول: المرأة التي حاضت قبل طواف الإفاضة ولا يمكنها أن ترجع, نقول: استفثري بثوب وطوفي, فإن أتاها الحيض بعد الطواف وقبل السعي هل فيه إشكال؟ لا, حتى مع البنايات الأخيرة الآن واتصال المسعى بالمسجد فإنه لا حرج عليها؛ لأن المسعى الآن ليس من المسجد, يعني: لم يدخل في المسجد أولًا من حيث شكل البناء, الطابق الأعلى تميزه بين؛ لأنه محجوز بشباك ولا تدخل إلا من درج معينة أسفل أيضًا محجوز, ففيه العتبة الكبيرة التي بين المسجد وبين المسعى, ثم على فرض أنه أدخل هل يسوغ أن يدخل في المسجد ويجعله له أحكامه وهومشعر مستقل لقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]؟ وإذا أدخلناه المسجد لزم من ذلك أن تمنع الحائض منه, أن تمنع الحائض من السعي, وأن يصح الاعتكاف فيه, وأن يترتب عليه جميع أحكام المسجد فكيف نضمه إلى مسجد؟ وعلى كل حال: المجمع الفقهي حسب ما سمعنا عنهم إنهم أجمعوا إلا اثنين على أنه ليس من المسجد, وعلى هذا يجوز للحائض إذا حاضت بعد الطواف أن تسعى؛ ويحرم على المعتكف أن يخرج إلى المسعى, اللهم إلا إذا كان على وجه المرور لقضاء الحاجة أو ما أشبه ذلك؛ لأنه كالشارع تمامًا بالنسبة للمسجد. ومن فوائد هذا الحديث: فيما أشرنا إليه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم». ومن فوائده: أنه ينبغي للإنسان أن يسلي المصاب بذكر ما كان مثل مصيبته أو أشد؛ لأن هذا لا شك أن يسلي, فلو أصيب شخص في حادث وحزن له أخوه وكان قد أصيب مثله في

حادث آخر مثل هذا الحادث أو أشد؛ فهنا يحسن أن نقول: ولقد جرى مثل هذا أو أشد قبل أيام أو ما أشبه ذلك على شخص صار له كذا وكذا؛ لأن هذا يبرد حرارة المصيبة ويهونها على الإنسان, والإنسان بشر والطبيعة واحدة, نأخذه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة: «إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم». ويستفاد أيضًا من هذه الجملة: أن هذا الحيض دم طبيعة وليس دم عقوبة كما قال بعض العلماء أنه عوقبت به نساء بني إسرائيل, فإن هذا الحديث يدل على أنه دم طبيعة مكتوب على بنات آدم كلهن. خلاصة ما سبق: سبق لنا أن العلماء - رحمهم الله - اختلفوا في اشتراط الطهارة للطواف, وأن منهم من قال: إنها شرط في صحته, ومنهم من قال: إنها ليست بشرط في صحته, والقول الراجح: أنها ليست بشرط, وأنه يجوز للإنسان أن يطوف وهي على حدث أصغر, وذكرنا دليل من قال بالوجوب, والاشتراط؛ وأجبنا عنه؛ لأنه لا يمكن أن يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لا طردًا ولا عكسًا, لا طردًا يجب فيه ما يجب في الصلاة من التكبير, والقراءة, واستقبال القبلة وغير ذلك؛ ولا عكسًا لأنه يجوز فيه ما لا يجوز في الصلاة من التكبير, والقراءة, واستقبال القبلة وغير ذلك؛ ولا عكسًا لأنه يجوز فيه ما لا يجوز في الصلاة من غير الكلام, فيجوز فيه الأكل والشرب ولا يبطله الضحك, وجميع مكروهات الصلاة لا تكره فيه, فالصواب: أنه لا يشترط فيه - أي: في الطواف - الطهارة, ولكن لا شك أن الأولى ألا يطوف الإنسان إلا على طهارة, [وذلك للآتي]: أولًا: مراعاة لأكثر العلماء. ثانيًا: أنه بعد الطواف سيصلي ركعتين, لابد أن يكون طاهرًا إذا صلى ركعتين. ومن فوائد الحديث: وقد سبق في الحديث الذي قبله أن الإيمان يزيد وينقص, وأظن أننا لم نتكلم عليه كثيرًا, والقول الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص, وأنه يزيد من وجوه ثلاثة: من جهة اليقين, ومن جهة القول, ومن جهة الفعل: من جهة اليقين: فإن الإنسان يزداد يقينه كلما قويت عنده الأدلة؛ ولهذا قال إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -: {رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260]. ولأن الإنسان نفسه أحيانًا يكون عنده من اليقين ما يجعله كأنما يشاهد يوم القيامة, وأحيانًا تستولي عليه الغفلة ولا يكون عنده مثل هذا اليقين, والصحابة - رضي الله عنهم - أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إذا كانوا عنده كأنما يرون الشيء عينًا, وإذا عاسفوا الأهل والأولاد لم يكونوا على هذه الحال, فأخبرهم بأنهم لو كانوا مثل ما كانوا عنده لصافحتهم الملائكة في الأسواق.

يزيد أيضًا من جهة القول: فمن يسبح الله مائة مرة أزيد إيمانًا ممن لا يسبحه إلا خمسين مرة. ويزيد أيضًا بالفعل: فكلما كثرت الخطا إلى المسجد كان أعظم أجرًا وهكذا الزيادة, فالمهم أن أهل السنة والجماعة يرون أن الإيمان يزيد وينقص من وجوه ثلاثة: اليقين, والقول, والفعل, وخالفهم في هذا طائفتان: المرجئة, والوعيدية. المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص, لا يزيد بالطاعة, ولا ينقص بالمعصية, وأن أفسق الناس وأقوم الناس على حد سواء في الإيمان, وغالى بعضهم وقال: إن الإيمان مجرد المعرفة كما هو مذهب الجهمية مجرد أن يعرف الإنسان ربه فهو مؤمن ولا شك أن هذا قول باطل, فإنه ينتقض عليهم بإبليس, فإنه كان يعرف ربه ويدعو ربه, ومع ذلك فهو كافر ليس عنده إيمان. والطائفة الثانية: الوعيدية من المعتزلة والخوارج قالوا: لا يمكن أن يزيد وينقص, فمن فعل معصية من الكبائر فهو كافر, ومن فعل دون الكبائر فهو مؤمن كامل الإيمان, لا ينقص إيمانه, فجعلوا الإيمان إما كاملًا مطلقًا, وإما كفرًا, ففاعل الكبيرة عندهم غير مؤمن, لكن الخوارج أشجع من المعتزلة, الخوارج قالوا: كافر ولا يبالون. والمعتزلة قالوا: بمنزلة بين منزلتين, أما أهل السنة والجماعة فأخذوا بالأدلة كلها من جميع الجوانب وقالوا: الإيمان يزيد وينقص؛ لكن نقص الإيمان - كما سبق - ينقسم إلى قسمين: قسم يلام عليه العبد, وقسم لا يلام عليه, فما كان بغير إرادة أو كان غير واجب فإنه لا يلام عليه, وما كان واجبًا ونقصه بإرادته واختياره فإنه يلام عليه, قال: 140 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقال: ما فوق الإزار». رواه أبو داود وضعفه. قوله: «ما يحل» يعني: أي شيء يحل للرجل أن يستمتع من زوجته حال الحيض؟ فقال: «ما فوق الإزار» يعني: أن ما بين السرة والركبة هذا لا يحل له, وأما ما فوق ذلك أو ما دونه فلا بأس, وهذا الحديث - كما ترون - لا يقاوم حديث مسلم الثابت, قال: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح». وعلى هذا فالراجح أن الإنسان له أن يصنع كل شيء إلا النكاح لوجهين: أولًا: أن ذاك أصح. والثاني: أن فيه زيادة فيما يحل, والزيادة من الثقة مقبولة, فيكون الصواب: أنه يحل له كل شيء, لكن إذا كان الإنسان قوي الشهوة ولا يملك نفسه نقول: لا تقرب المحل فيكون من الإزار فما فوق.

النفاس

النفاس: 141 - وعن أم سلمة رضي الله عنهما قالت: «كانت النفساء تقعد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد نفاسها أربعين يومًا». رواه الخمسة إلا النسائي, واللفظ لأبي داود. - وفي لفظه له: «ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس». وصححه الحاكم. قوله: «كانت النفساء» النفساء: هي الأنثى التي تلد, مأخوذ من قولهم: نفث الله كربتها؛ لأن المرأة الحامل عند الطلق يكون عندها كربات عظيمة كما قال الله تعالى: {حملته أمه وهنًا على وهن} [لقمان: 14]. وقال: {حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا} [الأحقاق: 15]. فإذا ولدت نفث الله عنها الكربة, والنفاس: هو الدم الذي يخرج عند الولادة أو قبلها بيومين أو ثلاثة مع الأمارة وهي الطلق هذا هو النفاس, وأما الماء الذي يخرج فليس بنفاس, وكذلك ما خرج قبل الولادة بدون طلق فإنه ليس بنفاس, فالدم الذي يخرج قبل الولادة ليس بنفاس إلا إذا كان قبل الولادة بيومين أو ثلاثة ومعه طلق, والماء الذي يخرج قبل الولادة ولو مع الطلق ليس بنفاس. وقوله: «تقعد على عهد النبي صلى الله وعليه وسلم» هذا له حكم الرفع, وإن كان لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه, لو صرحت بأن الرسول علمه لكان ذلك مرفوعًا صريحًا, ويكون من باب الإقرار, لكنها لم تصرح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم علمه, قال العلماء: هذا له حكم الرفع, وليس مرفوعًا صريحًا, ووجه ذلك: أن كونه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكره الله عز وجل يدل على أنه إن كان من العبادات فهو عبادة, وإن كان من المباحات فهو مباح, إذ لو كان حرامًا لنبه الله عليه كما في قوله تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} [النساء: 108]. فأطلع الله تعالى المؤمنين على هؤلاء الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ويبيتون ما لا يرضى من القول, وعلى هذا فلو استدللت على شخص بأن هذا فعل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, وقال لك معارضًا: أين الدليل على أن الرسول علمه؟ فالجواب: إذا لم يعلمه الرسول فقد علمه الله عز وجل, ولو كان مما لا يرضاه لأنكره - سبحانه تعالى -, وهذا استدلال فقيه؛ لأن بعض الناس يعارض فيقول: أين الدليل على أن الرسول علم هذا ولم ينكره؟ فنقول: هب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم, لكن علمه الله عز وجل وأقره, وهذا دليل على أنه عبادة إن كان من العبادات, وأنه مباح إذا كان من المباحات.

وقولها: «بعد نفاسها أربعين يومًا» المراد «بعد نفاسها» يعني: بعد خروج الولد, وأما الدم الذي يسبق الولادة مع الطلق فهذا لا يحسب, وقولها: «تقعد أربعين يومًا» من المعلوم أنها لو طهرت قبل ذلك وجبت عليها الصلاة, فيكون معنى الحديث: أن أقصى مدة للنفاس هي: أربعون يومًا وليس أدنى مدة؛ لأنه لا حد لأقله, إذ إنه قد تبقى المرأة عشرة أيام أو عشرين يومًا أو خمسة أيام أو لا يخرج معها دم إطلاقًا يخرج معها مياه دون الدماء, فالذي يخرج منها مياه دون الدماء فليس عليها نفاس, والذي يخرج منها الدم ويبقى يومًا أو يومين نقول: مدة نفاسها هذه المدة قلت أو كثرت, وهذا هو الذي عليه فقهاء الحنابلة - رحمهم الله - أن أكثر مدة النفاس أربعون يومًا. ولكن القول الثاني في هذه المسألة: أن أكثره ستون يومًا, وهذا مذهب الشافعي صرح به الشافعية في كتبهم, وقالوا: إن هذا موجود كثيرًا وليس بنادر حتى نقول: إن النادر لا حكم له, وهذا هو الراجح عندي يعني: أن أكثره ستون يومًا إذا كان مستمرًا على طريقة واحدة, وعبر شيخ الإسلام رحمه الله في الاختيارات أنه ربما يكون ستين أو سبعين يومًا أيضًا ما دام الدم مطردًا لم يتغير بوصف ولا رائحة ولا غيرهما, فإنه وإن بقي سبعين يومًا لكن نقول: لعل الستين أقرب الأقوال. فإن زاد على الستين فماذا نصنع؟ نقول: إذا زاد على الستين فما وافق العادة فهو حيض, وما لم يوافق العادة فهو دم فساد تغتسل وتصلي وتحل للزوج, وقولها: «لم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس»؛ لأن النفاس كالحيض إلا أنه يخالفه في أشياء: أولًا: أنه لا يحصل به البلوغ, والحيض يحصل به البلوغ. فإن قلتم: كيف لا يحصل به البلوغ وهي قد حملت؟ قلنا: لأن بلوغها حصل بالإنزال السابق للحمل؛ إذ لا تحمل إلا بإنزال, فيكون النفاس علامة على بلوغ سابق بخلاف الحيض. ثانيًا: أنه لا يحتسب به مدة الإيلاء, بمعنى: أن الرجل لو آلى من امرأته ألا يجامعها أكثر من أربعة أشهر فإن مدة النفاس لا تحسب ومدة الحياض تحسب, والفرق أن الحيض معتاد كل شهر, فهو داخل في المدة أربعة أشهر, والنفاس لا يتكرر كل شهر, بل هو نادر بالنسبة لأربعة أشهر. ثالثًا: العدة فإنه لا يحسب به - أي: بالنفاس -؛ لأنه إن كانت المفارقة قبل الوضع انتهت العدة بالوضع, وإن كانت بعده فلابد من ثلاث حيض ولا يحسب النفاس. وبناء على هذا نقول: إن القول الصحيح الذي لا تدل السنة على خلافه أنه يجوز للرجل

أن يطلق زوجته وهي نفساء بخلاف الحيض, فالحيض لا يجوز أن يطلق زوجته وهي حائض, وإذا طلق ففي ذلك خلاف هل يقع أو لا يقع؟ أكثر العلماء - ومنهم الأئمة الأربعة - على أنه يقع ويحسب على الزوج, واختار شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا يقع؛ لأنه خلاف ما أمر الله به ورسوله, وكل أمر ليس عليه أمر الله ورسوله فهو رد - أي: مردود -, وقول الشيخ رحمه الله أصح, فإذا طلق الإنسان امرأته وهي حائض قلنا له: الطلاق غير واقع, لكن إذا طلقها وهي حائض متعمدًا وقوع الطلاق, ثم جاء بعد مدة وبعد أن ضاقت عليه الحيل يريد أن يبطل هذا الطلاق, قلنا له: لا. مثاله: رجل طلق زوجته وهي حائض, ثم راجعها لا على أن الطلاق لم يقع, بل على أن الطلاق واقع, ثم بعد مدة طلقها وراجعها, طلقها طلاقًا شرعيًا وراجعها, ثم طلقها الثالثة, وأراد أن يراجع فماذا نقول له؟ نقول: لا رجوع؛ لأنك طلقت ثلاثًا. فإذا قال: الطلقة الأولى كانت غير شرعية لأنها في الحيض. قلنا: الآن صارت عندك غير شرعية, وأنت حين طلقتها تعتبر أنها شرعية, ولذلك راجعتها مراجعة المطلق, ثم إننا نعلم علم اليقين أنه لو انقضت عدتها ثم تزوجت لم تمنعها ولم تقل للرجل الذي تقدم إليها: إنها امرأتي, لكن حينما ضاقت بك الحيل ذهبت تقول: الطلاق الأول غير واقع, ولا نطيعك في هذا, إذن الصحيح: أن النفاس يجوز فيه الطلاق, وليس ببدعي. فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مره فليراجعها, ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا»؟ قلنا: هذا ليس فيه دليل على تحريم الطلاق في النفاس, بل هو إن لم يكن عليهم فليس لهم؛ لأن قوله: «أو حاملًا» يدل على أن المراد بقوله: «طاهرًا» من الحيض كما هي القصة الواقعة أيضًا وليس في جميع الأحوال, «فليطلقها طاهرًا» أي: من الحيضة التي طلقها فيها, «أو حاملًا» وهذا يدل على أن المراد: الطهر من الحيض, وهذا من الفروق بين الحيض والنفاس. رابعًا: من الفروق أيضًا أن الحيض لأقله حد وهو يوم وليلة على المذهب, والنفاس ليس لأقله حد لو لم يكن نفاسها يومًا واحدًا وتطهر وجب عليها أن تصلي. خامسًا: ومن الفروق أيضًا أنهم قالوا في الحيض: إذا انقطع الحيض في مدة الحيض, ثم عاد في المدة فالعائد حيض؛ يعني: مثل أن تكون عادتها ستة أيام فتحيض يومين, ثم تطهر يومين, ثم يعود الدم في اليومين الأخيرين, فالدم العائد حيض, لكن في النفاس لا, إذا طهرت في الأربعين طهرت في العشرين لمدة خمسة أيام ثم عاد الدم فهذا مشكوك فيه في مدة الأربعين وكيف يكون مشكوكًا فيه, نأمرها بالصلاة ونأمرها بالصوم, ثم إذا طهرت أمرناها

بإعادة الصوم, أما الصلاة فلا نأمرها بالإعادة لماذا؟ لأنه إن كان طهرًا فقد صلت وإن كان حيضًا فالصلاة لا تقصى في الحيض بخلاف الصوم, وهذا القول ضعيف جدًا؛ أي: أن نلزمها بالصوم ثم نلزمها بقضائه, بأي دليل نوجب على عباد الله العبادة مرتين؟ هذا لا أصل له, لكن الفقهاء يرون أن هذا فرق بين الحيض والنفاس. أسئلة: - ما هو الحيض؟ - ما هو الدليل من السنة على أنه دم طبيعة؟ - المرأة إذا استحيضت ماذا تصنع؟ - إذا لم يكن لها عادة ولا تمييز فماذا تفعل؟ - ذكرت أنها تغتسل لكل صلاة وجوبًا أو استحبابًا؟ - وما هو الغسل الواجب في حقها؟ - إذا تعارضت العادة والتمييز؟ - ماذا يجوز للرجل من امرأته وهي حائض؟ - وما المراد بالنكاح هنا؟ - هل لهذا الحديث شاهد من القرآن؟ - بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن من نقصان دين المرأة أنها إذا حاضت لم تصم ولم تصل, كيف نقول: إنه نقصان دين وهو امتثال لأمر الله؟ - هل في الحديث دليل لأهل السنة من أن الإيمان يزيد وينقص؟ - هل يصح وقوف الحائض بعرفة والدليل؟ نعم, والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «افعلي ما يفعل الحاج».

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة ثم قال المؤلف رحمه الله: (كتاب الصلاة). العلماء - رحمهم الله - يذكرون أن يجعلون ترجمة «كتاب» فيما يشمل أنواعًا, «وباب» فيما يشمل نوعًا واحدًا, «وفصل» فيما يشمل مسائل, «كتاب» هنا يشمل أنواعًا: يشمل الفرائض الخمس, وصلاة التطوع, وصلاة الكسوف, وصلاة الاستسقاء. فهو يشمل أنواعًا. ثم قال: *** 1 - باب المواقيت ولنتكلم أولًا عن الصلاة: لا شك أنها أفضل وأوكد أركان الإسلام بعد شهادة «أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» , ويدل لفضلها أمور: أولًا: أن الله تعالى فرضها على النبي صلى الله عليه وسلم بدون واسطة, ولا نعلم شيئًا فرض على الرسول صلى الله عليه وسلم بلا واسطة إلا الصلوات. ثانيًا: أن الله فرضها في أعلى مكان وصل إليه البشر, والرسول صلى الله عليه وسلم كان في السموات السبع في السماء السابعة. ثالثًا: أنه فرضها على رسوله صلى الله عليه وسلم في أفضل ليلة؛ وهي ليلة المعراج, فنالت شرف المكان, وشرف الزمان. رابعًا: أن الله فرضها خمسين صلاة, وهذا يدل على محبته لها - تبارك وتعالى -, وأنه يحب من عباده أن يكونوا دائمًا في صلاة؛ لأننا لو صلينا خمسين صلاة لاستوعبت كثيرًا من الوقت, وهذا يدل على محبة الله لها وعنايته بها. خامسًا: أنه لا شيء من أعمال الإسلام تركه كفرًا إلا الصلاة كما ذكر ذلك عبد الله بن شقيق رحمه الله قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة». سادسًا: أنها فرضت كل يوم, والفرائض - سوى التوحيد وهو أصل الرسالة - لا تكون كل يوم,

فالصوم سنوي, والحج عمري, والزكاة سنوية, وهذا أيضًا يدل على محبة الله لها وعنايته بها - سبحانه وتعالى -. سابعًا: أنه لا يوجد عبادة يكون الإنسان فيها مناجيًا لله إلا الصلاة, الصلاة مناجاة بينك وبين ربك, تقول: الحمد لله رب العالمين, يقول الله: «حمدني عبدي» , إلى آخر ما تعلمون, وهذا يدل على فضيلتها. ثامنًا: أن الصلاة لا تسقط بأي حال من الأحوال حتى لو فات بعض الشروط, لو فرضنا أن رجلًا لا يستطيع أن يتوضأ, ولا أن يتجنب النجاسة, ولا أن يتجه إلى القبلة, وجاء وقت الصلاة, يجب أن يصلي على أي حال كان. تاسعًا: أنه لا يشرع الاجتماع إلا فيها وفي الحج, أما الصوم فالناس مجتمعون ضرورة أن الشهر واحد, والزكاة كل يؤدي زكاته في وقتها. ثم قال: «باب المواقيت». المواقيت: جمع ميقات, من الوقت وهو الزمن, يعني: باب الأزمنة التي حدد الشرع إيقاع الصلاة فيها, وقد دل على اعتبار المواقيت قول الله - تبارك وتعالى -: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} [النساء: 103]. فبين أنها فرض, وأن هذا - الفرض موقوت - أي: محدد بوقت معين -؛ لأنها لو جاءت في وقت واحد لكان فيها شيء من المشقة؛ إذ إن الإنسان سيصلي سبع عشرة ركعة في آنٍ واحد, ولو جاءت في آن واحد في وقت واحد لكان يحصل غفلة من الإنسان في بقية الوقت؛ لأنه إذا قدرنا أنه سينتهي من سبع عشر ركعة, سينتهي في ساعة ونصف, يبقى بقية الزمن ليس بينه وبين ربه صلة, فكان من الحكمة أن جعل الله تعالى لها مواقيت, هذه المواقيت كل واحد منها مقيد بتغير الشمس: الفجر, الظهر, العصر, المغرب, العشاء, كلها مرتبطة بتغير الأفق حسب جريان الشمس. وسنشرحه إن شاء الله تعالى. المواقيت: هي أوكد شروط الصلاة, ولذلك يجب مراعاتها وإن فاتت بعض الشروط, أو الأركان, أو الواجبات, حتى لو فرض أن الإنسان لا يعرف الفاتحة ولا يستطيع أن يقوم, ولكنه يستطيع أن يقوم بعد الوقت؛ يعني: إنسان يصب مثلًا بعلة, آفة تأتيه في وقت معين من اليوم والليلة, وتأتيه في وقت الفجر مثلًا, لا يستطيع أن يقوم, ويقعد, ويسجد, ويركع. نقول: صل على حسب حالك, لا تقل: إني أؤخر إلى طلوع الشمس وأستطيع أن أركع وأقوم وأقعد, ليس عنده ماء يتطهر به من الحدث, ويظهر به ثوبه وبدنه من النجاسة.

نقول: صل على حسب حالك, تيمم إن استطعت, والأفضل على حسب حالك. لا يستطيع استقبال القبلة. نقول: صل على حسب حالك, المهم أن الوقت هو أوكد شروط وتجب مراعاته, وإن تخلفت بعض الشروط. قال: 142 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس, وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر, ووقت العصر ما لم تصفر الشمس, ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس». رواه مسلم. «إذا زالت»: أي: مالت إلى جهة الغرب, وذلك أن الشمس تطلع من الأفق الشرقي, وتغرب في الأفق الغربي, إذا انتصفت بينهما فهذا هو الزوال, واعلم أنه لابد أن يكون في الشمال بالنسبة لأرضنا, لابد أن يكون في الشمال ظل يطول في الشتاء ويقصر في الصيف, هذا الظل لا يحتسب, الذي يحتسب من حين يبدأ الظل في الزيادة, إذا بدأ في الزيادة ولو شعرة فقد زالت الشمس. قال: «وكان ظل الرجل كطوله» يعني: لو وقف الرجل عند زوال الشمس وحد حدًا ثم امتدا لظل حتى صار من هذا الحد إلى منتهى الظل على طول الرجل, فهنا يكون انتهى وقت الظهر, بعد ذلك يقول: «ما لم يحضر وقت العصر» يعني: إلى أن يحضر وقت العصر, أي: أنه يحضر وقت العصر من حين خروج وقت الظهر, إلى متى؟ يقول: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» , يعني: ما لم تكن صفراء؛ لأن المعلوم أن الشمس بيضاء لا تدركها العين, فإذا قربت من الغروب صارت صفراء, إذا اصفرت خرج وقت العصر, لكن قد دلت السنة في حديث آخر: «أن من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر». وعلى هذا يكون للعصر وقتان: وقت اختيار, إلى متى؟ إلى أن تصفر الشمس, ووقت ضرورة إلى أن تغرب الشمس. «ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق» من أين؟ من غروب الشمس على اسمه المغرب, يعني: الذي يحل عند غروب الشمس وقته ما لم يغب الشفق, والمراد بالشفق هنا: الشفق

الأحمر, وهو الخط المعترض الذي يتبع الشمس, يكون أحمر, ما دام أحمر فوقت المغرب باقٍ, وإذا اضمحلت الحمرة ولو بقي البياض قد خرج وقت المغرب, ودخل وقت العشاء. قال: «ووقت العشاء إلى نصف الليل» من أين؟ من مغيب الشفق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الابتداء, علم أن هذا مبني على ما سبق على انتهاء الصلاة التي قبلها إلى نصف الليل الأوسط. قوله: «الأوسط» هنا صفة كاشفة ليست مقيدة لأن نصف الليل هو وسط إلى نصف الليل الأوسط, ووقت صلاة الصبح. قال: «من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس» , قال: «من طلوع» , ولم يقل: وقت الفجر ما لم تطلع؛ وذلك لأن بين وقت العشاء ووقت الفجر مدة ليست وقتًا للعشاء ولا للفجر. هذه هي الأوقات. الأوقات إذن خمسة: وقد أشار الله - تبارك وتعالى - إليها في الكتاب العزيز؛ فقال - جل وعلا -: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78]. جعل الله - تبارك وتعالى - هذا وقتا واحدًا, دلوك الشمس - يعني: زوالها - إلى غسق الليل؛ أي: ظلمته, ومن المعلوم أن الله عز وجل لم يرد ابتداء الظلمة, بل انتهاء الظلمة, وانتهاء الظلمة يكون عند منتصف الليل؛ لأن هذا أبعد ما تكون الشمس عن الأرض, ثم قال: {وقرآن الفجر} [الإسراء: 78]. ففصل؛ لأن ما بين نصف الليل إلى طلوع الفجر ليس وقتًا, هذا الذي يدل عليه القرآن, وتدل عليه السنة كما سمعتم في حديث عبد الله بن عمرو. وأما قول بعض العلماء: إن العشاء لها وقتان: وقت ضرورة, ووقت اختيار, وأن وقت الاختيار إلى نصف الليل, ووقت الضرورة إلى طلوع الفجر, فلا دليل عليه, وينبني على هذا الخلاف: لو أن امرأة حائضًا طهرت بعد منتصف الليل فإنها على القول الراجح لا تجب عليها صلاة العشاء؛ لأنه خرج وقتها, وعلى القول بأنها تمتد إلى طلوع الفجر تلزمها, ثم إذا لزمتها صلاة العشاء فهل تلزمها صلاة المغرب؟ فيه خلاف, والصواب: أنها لا تلزمها, يعني: الصواب أن المرأة إذا طهرت في وقت الصلاة الثانية لم تلزمها الصلاة التي قبلها؛ إذ لا دليل على هذا. مرة ثانية نقول: الأوقات هذه دل عليها القرآن إجمالًا, والسنة تفصيلًا, وعرفتم كيف قدرها النبي صلى الله عليه وسلم, وفي ذلك الوقت ليس هناك ساعات, الآن تقدر بالساعات, فمثلًا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس الغالب أنه تسعون دقيقة, وقد يزيد وقد ينقص, ومن غروب الشمس إلى مغيب الشفق كذلك الغالب أنه تسعون دقيقة, وقد يزيد وقد ينقص, ولكن ليست الزيادة والنقص في صلاة الفجر تابعة للزيادة والنقص في صلاة المغرب, يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «من ظن أن حصتيهما واحدة فقد أخطأ خطأ بينا»؛ لأنه يختلف, قد نقول الحصة: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس, وتنقص ما بين غروب الشمس إلى مغيب الشفق, وقد تتساويان, وقد يزيد هذا على هذا بالنسبة للظهر والعصر. بعض الناس يقول: إنك تقسم ما بين الزوال إلى الغروب نصفين بالساعات, وتضيف إليه نصف ساعة فحينئذ يدخل وقت العصر, لكن تتبعته كثيرًا فوجدته لا ينضبط؛ لأن الشمس يختلف سيرها باعتبار الصيف والشتاء, لكن

الآن درست هذه من جهة الفلكيين دراسة كبيرة وبينوها - والحمد لله - في التقاويم, لكن التقويم في الفجر متقدم, بعضهم يقول: متقدم بربع ساعة, وبعضهم يقول: عشر دقائق, وبعضهم يقول: خمس دقائق, وبعضهم يبالغ مبالغة كبيرة في تقدمه, لكن الظاهر لي أن خمس دقائق مؤكدة أن التقويم الموجود الآن في طلوع الفجر متقدم خمس دقائق؛ فليراع هذا, ولا يبادر الإنسان من حين أن ينظر إلى التقويم فيصلي عليه, بل يتأخر خمس دقائق, وإذا تأخر عشر دقائق ولابد أن يتأخر من أجل راتبة الفجر, هذه هي الأوقات. * فائدة التوقيت: ما فائدة التوقيت؟ التوقيت له فائدتان: الفائدة الأولى: أن الإنسان لو صلى قبل الوقت لم تصح صلاته؛ يعني: لم تجزئ عن الفريضة, فإن كان يعلم أن الوقت لم يدخل فهو متلاعب, وصلاته باطلة, وإن كان لا يعلم فصلاته نافلة, ولا تجزئه عن الفريضة. الفائدة الثانية: لو صلى بعد الوقت فإن كان لعذر فلا شيء عليه كالنوم والنسيان, وإن كان لغير عذر؛ فقال أكثر العلماء: إن صلاته صحيحة لكنه آثم. والصحيح: أنها غير صحيحة, وأنه آثم, وليست بصحيحة بل مردودة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد». أسئلة ومراجعة: سبق لنا أن الصلاة لها زية على غيرها من العبادات, منها: أنها فرضت في سبع سموات, وفي ليلة المعراج, وتختص بأن تركها كفر بخلاف غيرها, وثوابها ثواب خمسين صلاة في

استحباب التعجيل بالعصر وتأخير العشاء

الفعل, ووجوبها في كل يوم, بخلاف بقية الأركان بعضها شهري وبعضها سنوي, وبعضها عمري, وأن النبي صلى الله عليه وسلم تلقاها بدون واسطة, وأنها لا تسقط بأي حال من الأحوال, وهذا هو القول الراجح, واختار شيخ الإسلام رحمه لله أنه إذا لم يستطع الإيماء فإنها تسقط حتى إنه رحمه الله لا يرى أن الإنسان يصلي بعينه كما قال الفقهاء, لكن الراجح خلاف هذا؛ لأن الصلاة تشتمل على أعمال قلبية وأعمال بدنية ظاهرة, فإذا عجز عن الأعمال البدنية الظاهرة لزم العمل الباطن القلبي, فالصواب: أنها لا تسقط ما دام العقل ثابتًا, فهي غير ساقطة, ولا تكون العبادة مناجاة بين العبد وربه إلا الصلاة, وأنه يشرع لها الاجتماع. - لماذا بدأ بالمواقيت وبدأ بالطهارة؟ - المواقيت إن شئنا قلنا: خمسة, وإن شئنا قلنا: ثلاثة, كيف ذلك؟ - هل الأوقات متصل بعضها ببعض إلا صلاة الفجر, وما الدليل؟ - ذكرنا أن بعض العلماء قال: إن العشاء يمتد وقتها من نصف الليل إلى الفجر, وقت ضرورة, فما دليلهم؟ امرأة طهرت من الحيض في الثلث الأخير من الليل هل تلزمها صلاة العشاء على القولين؟ وهل تلزمها صلاة المغرب؟ - ما معنى زوال الشمس؟ - ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كان ظل الرجل كطوله»؟ - هل يصح أن نحسب الظل من أصل الشيء الشاخص؟ - ما هو انتهاء وقت صلاة العصر؟ - وقت المغرب ما لم يغب الشفق فما هو الشفق؟ - إذا أخر الصلاة عن وقتها بغير عذر ثم صلاها ما الحكم؟ وإذا كان بعذر؟ استحباب التعجيل بالعصر وتأخير العشاء: 143 - وله من حديث بريدة في العصر: «والشمس بيضاء نقية». «وله» أي: لمسلم «من حديث بريدة في العصر» , أي: وهو يصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم «والشمس بيضاء نقية» , يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف من صلاة العصر والشمس بيضاء نقية, يعني: لم تتأثر بشيء, وهذا يدل على أنها رفيعة.

فيستفاد منه: أنه ينبغي المبادرة بصلاة العصر حتى ينصرف منها وهي بيضاء نقية. 144 - ومن حديث أبي موسى: «والشمس مرتفعة». ولا فرق بين الحديثين في المعنى, لكن الأول ذكرها بالوصف ذكر الشمس بالوصف, والثاني ذكرها بالمكان, فلماذا قال: «مرتفعة» , وهناك قال: «بيضاء نقية»؟ 145 - وعن أبي برزة الأسلمي - رضي الله تعالى عنه - قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر, ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية ... قوله: «حية» يعني: ليس فيها تأثر, فهي بمعنى: نقية, وبمعنى: مرتفعة مما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يبادر بها. «وكان يستحب أن يؤخر من العشاء» «كان» أي: النبي صلى الله عليه وسلم «يستحب» محبة دينية لا محبة نفسية, لكن محبة دينية أن يؤخر من العشاء, ولكنه - عليه الصلاة والسلام - كما يراعي الناس إذا رآهم اجتمعوا عجل, وإذا رآهم أبطئوا أخر, وهكذا ينبغي للإمام أن يراعي المأمومين. «وكان يكره النوم قبلها» أي: قبل العشاء؛ لأن الإنسان إذا نام فإما أن يكون نومه عميقًا فلا يقوم إلى العشاء, وإما ألا يتعمق في النوم فيتنكد إذا قيل له: قم إلى الصلاة, ويتفرق عليه نومه ولا يطمئن فيه, ثم إذا قام فسوق يقوم وهو كسلان لا يعي ما يقول في صلاته؛ فلذلك كان النبي صلى الله عليه ومسلم يكره النوم قبلها, وهل هذه الكراهة كراهة شرعية أو كراهة نفسية؟ يحتمل أن تكون هذه أو هذه, لكن إذا نظرنا إلى العلل ترجح عندنا أنها كراهة شرعية. ولهذا قال العلماء - رحمهم الله -: يكره النوم قبل صلاة العشاء, ولكن قد يكون الإنسان مرهقًا في يوم, وإذا نام ولو ساعة بين المغرب والعشاء صار نشيطًا؛ فهذا نقول: إن النوم هنا لا يكره؛ لأنه نوم يراد به التقوي على العبادة والإقبال عليها بنشاط, وهذا يقع دائمًا, كثير من الناس يكون مرهقًا جدًا جدًا, ولو كان يصلي لم يستفد الفائدة المرجوة, فينام لمدة ساعة أو نصف ساعة حتى يزول عنه التعب, فنقول: هذا النوم الآن مطلوب؛ لماذا؟ لأنه يقوي على العبادة حتى يقبل الإنسان على صلاته وهو يعرف ماذا يقول؛ ولهذا أمر النبي - عليه الصلاة والسلام - الإنسان إذا قام يصلي وأتاه النوم أن ينصرف, وألا يمضي في صلاته مكرهًا نفسه على ذلك.

«والحديث بعدها» لماذا؟ لأسباب صحية, وأسباب شرعية, أما الأسباب الصحية: فقد اتفق الأطباء - قديمًا وحديثًا - على أن نوم أول الليل أفضل وأصح من نوم آخره, وهذا شيء يعرفه الناس حينما كانوا ينامون من أول الليل. ثانيًا: أن فيه إعانة على أن يقوم الإنسان للتهجد؛ لأنه إذا نام من أول الليل بعد صلاة العشاء قام إلى التهجد نشيطًا. ثالثًا: أنه إذا تأخر في النوم حرم التهجد, وإن قام قام على كسل, وربما يحرم صلاة الفجر؛ لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره الحديث بعد العشاء. لكن وردت أحاديث تدل على أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - ربما تحدث بعد العشاء؟ . فيقال في الجواب عن هذه الأحاديث: إن الأمر فيها سهل وهو أنه إذا اقتضت المصلحة أو الحاجة أن يتحدث فلا بأس. ولهذا قال العلماء - رحمهم الله -: إلا الحديث اليسير, أو الحديث لشغل, أو الحديث مع الأهل فهذا لا بأس به, وأما أن يبقى دائمًا يتحدث بعد العشاء ولاسيما في أحاديث إما أن تكون لغوًا, وإما أن تكون حرامًا ومعصية, فهذا لا ينبغي, بل إذا كانت معصية صارت حرامًا. «وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه» «ينفتل» , يعني: ينتهي منها, «وصلاة الغداة» هي الفجر, «حين يعرف الرجل جليسه» يعني: من يجالسه, وهذه التقديرات - كما تعلمون - حدثت في وقت لا توجد ساعات, ولا توجد سرج في المساجد, فكانوا يقدرون هذا بما سمعتم, ولا شك أن هذا على سبيل التقدير؛ لأن معرفة الرجل جليسه تختلف؛ بماذا؟ بقوة البصر, وطبائع الجو, وعدم السقف, وغير ذلك من الأسباب, لكن الصحابة - رضي الله عنهم - أمرهم كله يسير ليس فيه تعمق, يذكرون الأشياء على سبيل التقريب, ومع ذلك: «وكان يقرأ بالستين إلى المائة». متفق عليه. ومعلوم أن القراءات تختلف, والآيات تختلف أيضًا, القراءة تختلف؛ لأن بعض الناس يقرأ بسرعة, ومن الناس من يقرأ ترتيلًا, وربما يكون بين قراءتيهما للجزء الواحد عشر دقائق, وأيضًا الآيات تختلف؛ فمن الآيات: {الرحمن (1) علم القرآن} [الرحمن: 1, 2]. قصيرة, آيات «المرسلات» قصيرة, آيات «اقتربت الساعة» قصيرة, آيات «البقرة» طويلة, فبأي شيء نعتبر؟ نقول: إذا جاءت مثل هذه الأشياء فنعتبر الوسط, وكذلك نعتبر في أداء القراءة الوسط, لا الذي يسرع ولا الذي يبطئ, ونذكر الآن فوائد حديث عبد الله بن عمرو:

«وقت الظهر» ... إلخ فيه فوائد: منها: أن السنة تأتي مفصلة للقرآن, وعلى هذا فيكون قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} [النحل: 89]. يشمل السنة, لأن السنة تبين القرآن, فإنك لو نظرت إلى القرآن لن تجد هذا الحد في أوقات الصلاة, إنما تجده إجمالًا مثل قوله: {فسبحن الله حين تمسون وحين تصبحون (17) وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون} [الروم: 17, 18]. على القول بأن هذه إشارة إلى أوقات الصلاة. ومثل قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر} [الإسراء: 78]. إذن تكون السنة المبينة للقرآن من القرآن. ومن فوائد هذا الحديث: تعيين أوقات الصلاة على حسب ما جاء في هذا الحديث, وأن وقت الظهر من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله زائدًا عن فيء الزوال؛ لأن فيء الزوال الذي زالت عليه الشمس لا يحسب. ومن فوائده: أنه ليس بين وقت الظهر والعصر زمن؛ لقوله: «إذا زالت الشمس ما لم يحضر وقت العصر». ومن فوائد هذا الحديث: أن وقت العصر يدخل بانتهاء وقت الظهر مباشرة, وينتهي باصفرار الشمس؛ لقوله: «ما لم تصفر الشمس». ومن فوائدها هذا الحديث: أن وقت المغرب ليس كما يتوهم كثير من الناس ضيقًا, بل يمتد من غروب الشمس إلى مغيب الشفق, وبذلك يدخل وقت العشاء. ومن فوائد هذا الحديث: أن وقت العشاء إلى نصف الليل, ونصف الليل داخل أو خارج؟ نصف الليل خارج على القاعدة المشهورة أن ابتداء الغاية داخل, وانتهاؤها خارج. ومن فوائد هذا الحديث: أن وقت الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس, وهذا تفصيل صريح واضح. ومن فوائد هذا الحديث: أن من صلى قبل هذه الأوقات فلا صلاة له, لكن إن صلى متعمدًا فهو متلاعب آثم, وربما يصل فعله إلى حد الكفر؛ لأنه من اتخاذ آيات الله هزوًا, ومن صلاها بعد الوقت متعمدًا فالجمهور يرون أنه يقضيها مع الإثم, والصواب أنه لا يقضيها؛ وذلك لأنه أخرها بلا عذر, فيكون متعديًا لحدود الله, ومن يعد حدود الله فأولئك هم الظالمون, والظالم لا يفلح {إنه لا يفلح الظالمون} [الأنعام: 21]. ولو شغل لكان مفلحًا, ويؤيد هذا - يعني: هذا استدلال من القرآن - من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد».

فإن قال قائل: إذا صلى قبل الوقت يظن أن الوقت قد دخل؟ فإننا نقول: يرتفع عنه الإثم؛ لأنه جاهل, لكن يؤمر بإعادتها في الوقت؛ لأن ذمته لم تبرأ, وإذا أخرها عن وقتها جهلًا يظن أن الوقت لم يدخل, أو نائمًا أو ناسيًا, فلا إثم عليه, وهل تجزئه؟ نعم تجزئه, ودليله من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها». فإن قال قائل: هل يجوز أن يصلي الصلاة مع الشك في دخول وقتها؟ الجواب: لا؛ لأن الأصل عدم دخوله, فإن قيل: مع الظن؟ قلنا: نعم, يجوز أن يصلي مع غلبة ظنه لدخول وقتها, ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أشكل عليه عدد الركعات: «فليتحر الصواب ثم ليبن عليه». هذا دليل قولي, دليل إقراري: وهو أنهم أفطروا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تغرب الشمس ثم طلعت الشمس, ولا شك أنهم مفطرون على غلبة ظن لا على يقين؛ لأنهم لو أفطروا على يقين ما طلعت الشمس لكن على ظن, إذن له أن يصلي إذا غلب على ظنه دخول الوقت, فإن تبين أنه قبل الوقت وجبت عليه الإعادة؛ لأنه تبين أن ذمته لم تبرأ. ومن فوائد الحديث: الحكمة في توقيت الصلوات؛ بحيث لم يجعلها الله عز وجل في وقت واحد, فهي حكمة ورحمة, وجه ذلك: أنها إذا تفرقت في الزمن صار الإنسان دائمًا مع الله عز وجل لا يغفل؛ لأنه لو غفل فإّا الوقت قد جاء, ومن الحكمة: ألا يتعب الإنسان؛ لأنه لو أمرنا أن نقوم بسبع عشرة ركعة في آنٍ واحد لكان في ذلك تعب ومشقة؛ لا سيما إذا كان الإنسان قد ضعفت قواه لتعب أو ملل, أو ما أشبه ذلك, ومن الحكمة في توزيع الأوقات: قوة الصلة بالله عز وجل؛ لأن كثرة التردد توجب قوة الصلة, إذا كان لك صديق أو حبيب, كنت تتردد إليه دائمًا فهذا يقوي الصلة بلا شك, ولها حكم أخرى تظهر للمتأمل في الحديث الذي بعده. ومن فوائده: أن النبي صلى الله عليه وسلم يبادر لصلاة العصر, وكذلك في الحديث الثاني الذي بعده: «والشمس مرتفعة» دليل على أن يبادر لصلاة العصر, وهذا هو السنة, إذن نستفيد منه: مشروعية المبادرة بصلاة العصر, وهل مثلها غيرها؟ الجواب: نعم, دلت السنة على أن مثلها غيرها, ويؤيده حديث أبي برزة الأسلمي؛ لأنه لما قال: «كان يستحب أن يؤخر من العشاء» دل على أن غيرها لا يستحب أن يؤخر منه, وقد دلت السنة بالتتبع على أن إيقاع الصلاة في الوقت له أحكام. الأصل استحباب التقديم في جميع الصلوات إلا واحدة, ما هي؟ العشاء, هذه واحدة, فلا

تقتضي التأخير, وقد يجب التقديم لكل الصلوات, وذلك مثل ما إذا كان الإنسان يخشى مانعًا من الصلاة في آخر الوقت, فإنه يجب عليه أن يقدم. مثال هذا: امرأة كان من عادتها أن يأتيها الحيض في أثناء وقت صلاة الظهر, فنقول: يجب عليها التقديم في أول الوقت لئلا يأتيها المانع. - رجل آخر له عمل [يؤديه] في أثناء الوقت, هذا العمل لا يمكن أن يتخلف عنه, فهذا نقول: يجب عليه أن يبادر ويصلي في أول الوقت, وقد يكون العكس يجب التأخير لآخر الوقت, وذلك فيما إذا كان على الإنسان واجب في الصلاة لا يتحقق إلا في آخر الوقت, كرجل يتعلم قراءة الفاتحة هو يعرف أنه في أول الوقت لا يستطيع أن يقرأ, لكن في آخر الوقت إذا تعلم يستطيع, نقول: هنا يجب التأخير. ومثل ذلك: إذا كان شاكا في القبلة وكان يعلم أنه في آخر الوقت سيأتي الرجل الذي يدله على الاتجاه الصحيح, فهنا نقول: يجب أن ينتظر حتى يحضر من يدله على القبلة, المهم أنه إذا ترتب على التقديم ترك واجب كان التأخير واجبًا. وهل يجب التأخير لصلاة الجماعة؟ نعم يجب. فإذا علمنا أن هذا الرجل إذا صلى في أول الوقت لم يجد جماعة, وإذا صلى في آخره وجد الجماعة, نقول: يجب عليه أن يتأخر لتحصيل الجماعة. فإن قال قائل: ما تقولون في رجل عدم الماء في أول الوقت, وهو يرجو أن يجده في آخره, هل يجب عليه التأخير؟ في هذا قولان للعلماء: منهم من قال: إذا غلب على ظنه أنه يجد الماء وجب عليه أن يؤخر ولا يصلي بالتيمم. ومنهم من قال: لا يجب, ويفرق بينه وبين تعلم الفاتحة: بأن هذا له بدل وهو التيمم, والتيمم يقوم مقام الماء, لكن الفرق: هذا قد يشكل عليه أن الفاتحة أيضًا لها بدل وهو التسبيح, والتكبير, والتهليل, فحينئذ نقول: لا يجب عليه أن يؤخر لتعلم الفاتحة؛ لأن لها بدلًا, هذا هو القياس, إذا قلنا: إن الفرق هو أن طهارة الماء لها بدل بخلاف قراءة الفاتحة, فيجاب بأنه لها بدلًا. وعليه: فيكون المثال السالم من الاعتراض هو التأخير للقبلة أو لصلاة الجماعة, وما أشبه ذلك لو أمره أبوه أن يؤخر قال: يا ولدي, تأخر حتى تصلي بي جماعة هل يلزمه؟ لا يلزمه, نقول: اذهب صل مع الناس وارجع, وصل بأبيك, ولا حرج. في حديث أبي برزة من فوائده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء, وسبق لنا أن أهل

هذا كراهة نفسية أو كراهة شرعية؟ بينا فيها احتمالين, ولكن تكون شرعية إذا خاف إذا نام ألا يستيقظ, أو أن يقوم في الثانية؛ فهنا نقول: الكراهة شرعية لا شك. ومن فوائد الحديث - حديث أبي برزة -: كراهة الحديث بعد العشاء, لكنه وردا لتخصيص فيما إذا كان لحاجة أو مصلحة, فلو نزل بالإنسان ضيوف بعد صلاة العشاء فهل يجلس عندهم ويسكت ولا يتكلم بكلمة, أو يباسطهم الحديث؟ الثاني: لأن هذا فيه مصلحة وهو إكرام الضيف, كذلك لو تحدث الإنسان بعد العشاء لقراءة العلم وما أضبهه, هذا لا بأس به لأنه مصلحة, لو تحدث الإنسان بعد العشاء لإنقاذ غريق, أو لإعانة محتاج فهذا أيضًا جائز, وقد يجب في إنقاذ الغريق المهم أن له مخصصات. ومن فوائد هذا الحديث - حديث أبي برزة -: المبادرة بصلاة الغداة لقوله: «كان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه» مع أنه يطيل القراءة بالستين إلى المائة. ومن فوائده: إطالة القراءة في صلاة الفجر, ولذلك عبر الله عن صلاة الفجر بالقرآن فقال: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا} [الإسراء: 78]. ولذلك لم تقصر صلاة الفجر؛ لأنها تطول فيها القراءة كما قالت عائشة رضي الله عنها. 146 - وعندهما من حديث جابر: «والعشاء أحيانًا يقدمها وأحيانًا يؤخرها: إذا رآهم اجتمعوا عجل, وإذا رآهم أبطئوا أخر, والصبح: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس». «وعندهما» أي: البخاري ومسلم «والعشاء أحيانًا وأحيانًا» , يعني: ويصلي العشاء أحيانًا يعجلها, وأحيانًا يؤخرها, كيف هذا التفصيل؟ يقول: «إذا رآهم اجتمعوا عجل, وإذا رآهم أبطئوا أخره» , «اجتمعوا» , أي: الجماعة الذين يحضرون إلى المسجد, «عجل»؛ أي: قدمها في أول الوقت مراعاة لهم. «وإذا رآهم أبطئوا أخر» لوجهين: مراعاة لفضيلة الوقت, ولأحوال الجماعة. «والصبح: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس» «الصبح» هذه مشغول عنها, الفعل الذي سلط عليها مشغول عنها, لكن هل الاختيار أن ننصبها, أو الاختيار أن نرفعها؟ الاختيار: أن ننصبها؛ لأنه سبقها أفعال تعطف على الجملة الفعلية؛ فيكون الاختيار النصب, ولذلك باب الاشتغال تجري فيه الأحكام الخمسة بالنسبة للإعراب, تارة يجب الرفع, وتارة يجب النصب, وتارة يستحب الرفع, وتارة يستحب النصب, وتارة يجوز الوجهان على التساوي حسب ما هو معروف في كتب النحو.

وقوله: «كان يصليها بغلس». الغلس: هو اختلاط ظلمة الليل بنور الفجر بحيث لا يغلب أحدهما الآخر؛ لأنه إن غلب نور الفجر فهو إسفار, وإن غلب ظلمة الليل لم يكن إسفارًا ولا غلسًا, بل هو الاختلاط. * ففي هذا الحديث فوائد: أولًا: أنه ينبغي للإمام مراعاة الناس في التقديم والتأخير في صلاة العشاء خاصة, وهل نقيس عليها غيرها؛ بمعنى: لو رأينا الناس يتأخرون فيما يُسن تقديمه هل نؤخره؟ الجواب: نعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا عجل ما يسن تأخيره مراعاة للناس فلنؤخر ما يسن تعجيله مراعاة لهم, ولا فرق, فمثلًا إذا كانت هذه الدائرة فيها مسجد والموظفون مشغولون بالأعمال [ولا ينتهون] كلهم إلا في آخر الوقت, فهل نقول: إن الأفضل هنا التأخير من أجل مراعاة اجتماعهم؟ الجواب: نعم, إذا كان هذا هو الأرفق بهم, أما إذا كان هذا هو الأرفق بالكسالى, وأن النشيطين يحبون التقديم فلا عبرة بالكسالى. ومن فوائد هذا الحديث: حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وأصحابه؛ حيث يراعيهم في العبادات إذا لم تتضمن هذه المراعاة وقوعًا في محرم, أو تركًا لواجب. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان يعذر للتأخر عن الصلاة إذا كان لا يخشى الفوات؛ لأن الصحابة يتعجلون في الوقت ويتأخرون فيه حسب الظروف: قد تكون أمطار, قد تكون ظلمة, قد تكون رياح توجب أن يتأخروا. ومن فوائد هذا الحديث: أن السنة تقديم صلاة الصبح لقوله: «والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصيلها بغلس» , وهل يفرق بين الشتاء والصيف بالنسبة لتقديم صلاة الفجر؟ يرى بعضهم أن يفرق, فيقول: أسفر في صلاة الفجر إذا كان في الصيف؛ لأن الناس لا ينامون من الليل إلا قليلًا, وعجل في صلاة الفجر إذا كانت في الشتاء؛ لأن الناس ينامون كثيرًا, ويأتون إلى المسجد وهم على نشاطهم, فإن راعى الإمام المصلحة في ذلك فليفعل. 147 - ولمسلم من حديث أبي موسى: «فأقام الفجر حين انشق الفجر, والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا». «أقام الفجر» أي: صلاة الفجر, والمراد بالإقامة هنا: الفعل, وليس الذكر المعروف. قلنا ذلك لنحمل «أقام» على معناه الحقيقي, وقد يراد بقوله: «أقام»؛ أي: أمر من يقيم, وحينئذ فيراد بالإقامة: الذكر المخصوص.

وقوله: «حين انشق الفجر» جعل ذلك انشقاقًا؛ لأن الفجر إذا سطع على الظلمة فكأنما شقها؛ لأنها تتمايز الظلمة في مكان النور, فيكون هذا انشقاقًا, ولا يحدث ذلك إلا في الفجر الصادق؛ لأنه يمتدمن الشمال إلى الجنوب ويتصل بالأفق ولا ظلمة بعده؛ هذا هو الفجر الصادق. يوجد الفجر الكاذب, ويختلف عن الفجر الصادق بثلاثة أمور: أولًا: أن الفجر الكاذب مستطيل, يعني: يصعد في السماء طولًا. والثاني: أنه لا يتصل بالأفق؛ لأن ما بينه وبين الأفق ظلمة. والثالث: أنه يضمحل ويزول. أما الصادق - فكما عرفتم بالأول - لا يتأتى في هذه الأشياء الثلاثة. وقوله: «والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا». أي: لا تقرب معرفة بعضهم بعضًا؛ وذلك لشدة الظلمة وعدم الإضاءة بالسروج. 148 - وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: «كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله». متفق عليه. قوله: «كنا نصلي» هذه كان واسمها, والمعروف أن «كان» تفيد الدوام غالبا إذا كان خبرها فعلًا مضارعًا «كان يقرأ» , «كان يفعل» وما أشبه ذلك. وقوله: «نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا» يعني: من الصلاة, وهم لا ينصرفون إلا بعد انصراف النبي صلى الله عليه وسلم لأنه نهى أن يسبقوه بالانصراف, وكان صلى الله عليه وسلم يبقى مستقبل القبلة بقدر ما يقول: أستغفر الله ثلاثًا, اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام, ثم ينصرف فينصرف الناس, فقوله: «فينصرف أحدنا» يعني: بعد أن ينصرف النبي صلى الله عليه وسلم, و «إنه» الجملة هذه حالية حال من الفاعل في قوله: «ينصرف»؛ أي: من أحدنا, والحال: «وإنه ليبصر مواقع نبله» , وكسرت «إن»؛ لأن الجملة الحالية تكون مستأنفة, ويضاف إلى ذلك في هذا التعبير أنها قرنت اللام في خبرها, وإذا قرن خبر إن باللام وجب كسرها. «ليبصر مواقع نبله» أي: المكان الذي يقع فيه النبل, يعني: نبل السهم, يعني: السهم إذا أطلقه من القوس وهو بعيد. ففي هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبكر بصلاة المغرب؛ لأنهم إذا كانوا ينصرفون منها والضياء باق إلى هذا الحد؛ دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم كان يبادر بصلاة المغرب, ولكن لابد من أن يكون هناك فاصل بين الأذان والإقامة لقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا قبل المغرب, صلوا

قبل المغرب, صلوا قبل المغرب» , ثم قال في الثالثة: «لمن شاء». وهذا يقتضي أن يكون بين غروب الشمس وبين صلاة المغرب وقت يتسع للصلاة, وهل يجوز أن تؤخر؟ الجواب: نعم يجوز؛ لأن وقتها موسع, إلى متى؟ إلى أن يبقى بينه وبين دخول وقت العشاء مقدار الصلاة؛ فحينئذ يجب أن يصلي لأنه لا يجوز أن يؤخر الصلاة عن وقتها ولا بعض الصلاة عن وقتها. 149 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أغتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بالعشاء حتى ذهب عامة الليل, ثم خرج فصلى, وقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي». رواه مسلم. «أعتم»؛ أي: دخلت العتمة, والعتمة: اشتداد ظلمة الليل, وكان الرعاة يعتمون بالإبل, أي: يؤخرون حلبها إلى أن تظلم الأرض, فأعتم - إذن - بمعنى: أخر, «حتى ذهب عامة الليل» أي: حتى ذهب كثير من الليل, ولا يمكن أن نفسر «عامة» هنا بأكثر؛ لأننا لو فسرناها بأكثر لزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بعد منتصف الليل, وهذا لا يمكن, بل «عامة» بمعنى: كثير, «حتى ذهب عامة الليل, ثم خرج فصلى, وقال إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي». وقال: «إنه»؛ أي: هذا الوقت الذي صلى فيه «لوقتها»؛ أي: لوقتها المختار «لولا أن أشق على أمتي». ففي هذا الحديث دليل على جواز تأخير الصلاة للإمام عن الوقت المعتاد لقولها: «ذات ليلة» , و «ذات» هنا من حيث المعنى زائدة, وهي ترد بمعنى «صاحبة» مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال». وترد زائدة كثيرًا, مثل قوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} [الأنفال: 1]. أي: أصلحوا بينكم. ومثله هذا الحديث أيضًا: «ذات ليلة» وتطلق في اصطلاح المتأخرين على النفس فيقال: الذات والصفة يعني: النفس, لكنها ليست من لغة العرب الأصيلة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلا أن الناس يستعملونها كثيرًا بمعنى: النفس, «جاء زيد ذاته» بدل أن يقولوا: «جاء زيد نفسه». وفي هذا دليل على احترام الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم, حيث لم يتقدم أحد منهم فيصلي بالناس؛ لأنه تأخر إلى أن ذهب جزء كبير من الليل. ومن فوائد الحديث: أن الأفضل في صلاة العشاء التأخير لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه لوقتها».

حكم الإبراد في صلاة الظهر

وفيه دليل أيضًا على أن [الشارع يراعي المشقة] , وأنه مع المشقة تيسر الأمور؛ ولهذا كان من الضوابط عند العلماء: «المشقة تجلب التيسير». ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم يستقل بالتشريع لقوله: «إنه لوقتها, لولا أن أشق على أمتي» , ولكن اعلم أن تشريع النبي صلى الله عليه وسلم يكون من شرع الله إذا أقره الله عليه أما إذا اجتهد ولم يقره الله عليه فالأمر واضح؛ مثل إذنه صلى الله عليه وسلم لمن استأذنه من المنافقين قبل أن يتبين الأمر, فقد قال الله تعالى فيه: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43]. ومن فوائد هذا الحديث: رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته, وأنه يحب لهم الأيسر والأسهل؛ ولهذا كان - عليه الصلاة والسلام - إذا بعث البعوث للدعوة إلى الله قال لهم: «يسروا ولا تعسروا, وبشروا ولا تنفروا, فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين». «وما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا» , والمراد بالأمة هنا: أمة الإجابة؛ وذلك لأن أمة الدعوة لا يصلون حتى يرفق بهم أو لا يرفق, لكن المراد بذلك: أمة الإجابة. إذن لو سألنا سائل: ما هي الصلاة التي يسن تأخيرها بكل حال؟ هي العشاء, وغيرها من الصلوات لا يسن تأخيرها إلا بسبب. حكم الإبراد في صلاة الظهر: 150 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة, فإن شدة الحر من فيح جهنم». متفق عليه. قوله: «إذا اشتد الحر» هل المراد: إذا اشتد الحر في الفصول, أو إذا اشتد الحر في النهار؟ الأول؛ يعني: إذا اشتد الحر في الفصول؛ لأن فصول السنة أربعة: فصل الشتاء: وهو بارد, وفصل الربيع: وهو بين البرودة والحرارة, وفصل الصيف - أو القيظ -: وهو حار, وفصل الخريف: وهو بين الحرارة والبرودة, فيكون المعنى: «إذا اشتد الحر» أي: إذا أتت الفصول الحارة, وهو فصل الحر الذي يسميه بعض الناس فصل الصيف.

وقوله: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة» أبردوا؛ أي: أخروها حتى يبرد الجو, والمراد بالصلاة هنا: صلاة الظهر؛ لأنها هي التي تقع في شدة الحر. ثم قال: «إن شدة الحر من فيح جهنم»؛ أي: من سمومها وحرارتها, ووجه ذلك: «أن النار اشتكت إلى الله عز وجل فأذن الله تعالى لها بنفسين نفس في الصيف, ونفس في الشتاء, فأشد ما نجد من الحرارة هذا من نفس الصيف, وأشد ما نجد من البرودة هذا من نفس الشتاء» , وهذا العلم الذي أخبر به النبي - عليه الصلاة والسلام - لا يدركه علماء الفلك بعلومهم وعقولهم, لأنه شيء فوق ما يعرفونه, ولكننا نحن نؤمن بأن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق لا مرية فيه, «وجهن» اسم من أسماء النار أعاذنا الله وإياكم منها. في هذا الحديث: الأمر بالإبراد بالصلاة إذا اشتد الحر, وهل الأمر هنا أمر إباحة ورخصة, أو هو أمر ندب, أو أمر واجب؟ كل هذا محتمل: يحتمل أنه للرخصة؛ لأن الأصل الأمر بتقديم الصلاة فيكون الأمر بعد ذلك - أي: بالتأخير - يكون رخصة, وإذا كان رخصة فإنه ينظر بما يكون أرفق بالناس, وقيل: إنه أمر تشريع, ثم هل هو واجب, أو ليس بواجب؟ في هذا تفصيل, المهم هذه الفائدة مشروعية الإبراد بالظهر إذا اشتد الحر هذا هو الصواب أنه مشروع, ثم هل يجب أو لا يجب؟ ينظر إذا كان في الحضور إلى الصلاة في وقت الحر مشقة تذهب الخشوع فإن الإبراد واجب. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإبراد عام سواء كان في الحضر أو في السفر, وقد جاء ذلك صريحًا في السفر؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقام بلال ليؤذن فقال له: «أبرد» , ثم قام ليؤذن, فقال: «أبرد» , ثم قام ليؤذن, فقال: «أبرد» , حتى رأوا فيء التلول. وهذا يعني: أن الشمس تجاوزت الزوال بكثير, وهذا الذي يحصل به الإبراد, أما ما كان الناس يفعلونه فيما سبق يتأخرون عن زوال الشمس بساعة إلا ربع - أي: 45 دقيقة -, أو بساعة - أي: بـ «60» دقيقة - فهذا لا يغني شيئًا؛ لأنه لم يحصل الإبراد, بل ربما يكون هذا أشد ما يكون حرًا, فالإبراد بمعنى: أن يقرب فعل الصلاة من دخول وقت العصر. ومن فوائد هذا الحديث: الإشارة إلى طلب الخشوع في الصلاة؛ لأن الإنسان إذا كان في شدة الحر فإنه سوف يقل خشوعه؛ لأن الحر مزعج يوجب انشغال القلب, فهل نقول مثل ذلك في التدفئة؟ يعني مثلًا: لو الإنسان قام إلى صلاة الفجر, وصار عليه غسل فاغتسل, هل نقول: لا يصلي ما دام ينتفض من البرد, فليتدفأ أولًا ثم يصلي؟ الجواب: نعم؛ لأن العلة واحدة, وهي ذهاب الخشوع.

ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم - وما أحسنه, وما أجمله, وأوضحه, وأبينه - وذلك حيث قرن الحكم بعلته, قال: «أبردوا للصلاة, فإن شدة الحر من فيح جهنم». ومن فوائد هذا الحديث: وجود النار الآن, وقد دل على ذلك القرآن والسنة. أما القرآن: فقال الله تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 131]. و «أعد» فعل ماضٍ, والإعداد بمعنى: التهيئة. وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه النار وهي يصلي صلاة الكسوف, وشاهدها بعينه, ورأى فيها المعذبين. فإذا قال قائل: أين موضع النار؟ قلنا: الظاهر أن موضعها في أسفل السافلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن روح الكافر يأمر الله تعالى أن تكتب في سجين في الأرض السابعة السفلى. فإذا قال قائل: نحن لا نشاهدها الآن, ربما نحفر إلى مدى بعيد ولا نشاهدها؟ قلنا: لا يلزم أن نشاهدها, الأمور الغيبية محجوبة عنا ليس فيها إلا مجرد التسليم, وما لم يظهر اليوم ربما يظهر بعد حين. ومن فوائد هذا الحديث: أن الله - سبحانه وتعالى - قد يخرج من النار الحرارة حتى تصل إلى الأرض لقوله: «فإن شدة الحر من فيح جهنم». فإن قال قائل: إذا كان في الطرف الشمالي من الأرض, أو في الطرف الجنوبي الأقصى من الأرض وليس عندهم البرودة, فهل نقول: إذا دخل فصل الصيف الذي يكون حارًا في المناطق الأخرى فإنهم يبردون بالصلاة؟ الجواب: لأا؛ لأن قوله: «أبردوا» يعني: أخروها إلى أن يبرد الجو, وهؤلاء جوهم بارد لا يحتاج إلى تأخير الصلاة. 151 - وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم». رواه الخمسة, وصححه الترمذي وابن حبان. «أصبحوا بالصبح» يعني: لا تصلوا حتى تتيقنوا الصبح خوفًا من أن يتعجل الإنسان ويصلي وهو شاك في طلوع الفجر؛ لأن طلوع الفجر أمر خفي, وهو - كما تعلمون - يظهر شيئًا فشيئًا, فربما يتعجل الإنسان بمجرد ما يرى إضاءة يظنها الصبح فيصلي. فمعنى «أصبحوا»؛

أي: تيقنوا الصبح لا تصلوا مع الشك, وقيل: معنى «أصبحوا بالصبح»؛ أي: أطيلوا قراءة الصلاة حتى يكون الإصباح واضحًا جليًا, ويسفر جدًا لقوله: «فإنه أعظم لأجوركم»؛ لأننا لو فسرناها بالمعنى الأول لكان فعلها قبل الإصباح ليس فيه أجر أصلًا, ولم يكن التعليل أنه أعظم للأجر, وهذا المعنى قوي جدًا. أن المعنى «أصبحوا بها»؛ أي: أطيلوا الصلاة فيها حتى يظهر الصباح جليًا, وهو بمعنى الحديث الثاني: «أسفروا بالصبح». من فوائد هذا الحديث: إن قلنا بالمعنى الأول: وجوب الانتظار حتى نتيقن الصبح, وإن قلنا بالثاني فمشروعية إطالة القراءة. ومن فوائده: أن الأجور تختلف في عظمها وصغرها؛ لقوله: «فإنه أعظم» , و «أعظم» اسم تفضل يدل على وجود مفضل, ومفضل عليه. ومن فوائد هذا الحديث: نعمة الله - تبارك وتعالى - على عباده؛ حيث سمى الثواب أجرًا مع أنه سبحانه وتعالى هو الموفق للعمل الصالح, ومع ذلك يسمي ثوابه على العمل الصالح أجرًا؛ أي: بمنزلة الأجرة التي يستحقها العامل على من استأجره, ومثل ذلك قوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60]. يعني: هل جزاء العمل الصالح الذي أحسن فيه صاحبه إلا الإحسان بالثواب فيقال: اللهم لك الحمد أن تحسن أولًا ثم تحسن ثانيًا؛ لأن الذي وفقك للإحسان أولًا هو الله عز وجل ومع ذلك أثابك على الإحسان الذي هو فضله عليك. 152 - وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرك الصبح, ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك العصر». متفق عليه. قوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصبح» يعني: أنه صلى ركعة ثم طلعت الشمس, فتكون الركعة الأولى في الوقت, والركعة الثانية بعد الوقت, وقوله: «قبل أن تطلع الشمس» المراد: يتبين قرنها الأعلى؛ لأن وقت الفجر يخرج بتبين قرن الشمس الأعلى, يعني: ليس بلازم أن تخرج كلها, وقوله: «فقد أدرك الصبح» أي: أدرك وقتها, أي: كأنه صلاها كلها في الوقت, «ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس» , أي: قبل أن يغرب قرنها الأعلى أو الأسفل؟ الأعلى لأنه لا يصدق أنها غربت إلا إذا اختلفت نهائيًا, «فقد أدرك العصر». وقوله: «ركعة» في الموضعين يعني: بسجدتيها, وليس المراد: الركوع, المراد: الركعة

كاملة بسجدتيها, ويدل لذلك قوله في الحديث الثاني: «سجدة» إشارة إلى أنه لابد من إدراك السجود الأول والثاني حتى يتم بذلك إدراك الركعة. في هذا الحديث فوائد منها: أن الوقت يدرك بإدراك الركعة لقوله: «من أدرك ركعة» وهذا القول هو القول الراجح أنه لا يدرك إلا بركعة, وأن جميع الإدراكات لا تكون إلا بركعة, فإدراك الجمعة لا يكون إلا بركعة, وإدراك الجماعة لا يكون إلا بركعة, وإدراك الوقت لا يكون إلا بركعة, جميع الإدراكات لا تكون إلا بركعة, وهذا القول هو الذي تدل عليه السنة كما في هذا الحديث, وذهب بعض العلماء - رحمهم الله - إلى أن الإدراك يحصل بإدراك تكبيرة الإحرام, فمن أدرك تكبيرة الإحرام قبل أن تطلع الشمس في الفجر على كلامهم فقد أدرك الفجر, ومن أدرك مع الإمام قبل تكبيرة الإحرام قبل السلام فقد أدرك الجماعة, لكن أصحاب هذا القول استثنوا إدراك الجمعة, يعني: إدراك المسبوق للجمعة, قالوا: لا يدركها إلا بركعة كاملة, وهذا تناقض, والصواب: أن جميع الإدراكات لا تكون إلا بركعة كاملة لا بركوع. إذن نقول: إدراك الوقت يكون بركعة, ينبني على هذا مسائل: منها: لو أن المرأة أدركت مقدار ركعة, ثم طهرت من الحيض فهل تلزمها الصلاة؟ الجواب: نعم, إذا أدركت المرأة من وقت الصلاة قدر ركعة وجبت عليها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فقد أدرك العصر» في العصر, «وقد أدرك الصبح» في الفجر, فإن أدركت أقل من ذلك؛ يعني: حاضت قبل أن تغرب الشمس بدقيقتين أو ثلاث فليس عليها صلاة, وعلى القول بأنها تدرك بتكبيرة إحرام فيلزمها الصلاة, لكن الصحيح لا. المسألة الثانية: بالعكس لو أن المرأة حاضت بعد دخول وقت الصلاة بمقدار ركعة تلزمها الصلاة إذا طهرت؟ نعم, وعلى القول الثاني: إذا حاضت بعد دخول الوقت بتكبيرة الإحرام لزمتها الصلاة وهذه المسألة - أعني: إدراك الوقت من أوله - فيه خلاف؛ فمن العلماء من يقول: إن المرأة إذا أدركت مقدار ركعة من الوقت ثم حاضت لا تلزمها الصلاة؛ لأنه قد أذن لها أن تؤخر الصلاة إلى آخر الوقت, فإذا حاضت قبل آخر الوقت فلا صلاة عليها, وهذا القول قوي جدًا؛ لأن المرأة لم تفرط حتى نلزمها بالقضاء, وإذا كانت لم تفرط وقد أذن لها أن تؤخر فكيف نلزمها بشيء لم يلزمها, لكن القضاء أحوط.

من فوائد هذا الحديث: أن من أدرك ركعة من العصر لم تلزمه الظهر, يعني: لو أن المرأة طهرت من الحيض قبل غروب الشمس بركعة, أو ركعتين, أو ثلاث لزمتها صلاة العصر, ولا تلزمها - على القول الراجح - صلاة الظهر؛ لأن صلاة الظهر أتت عليها وهي ليست من أهل الصلاة, ولو كان يجب عليها أن تقضيها لكان هذا بين في كتاب الله, أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أما إذا كان هذا من أقوال العلماء, فأقوال العلماء تكون خطأ وتكون صوابًا؛ ولهذا كان القول الراجح: أن المرأة إذا طهرت قبل أن تغرب الشمس لم يلزمها إلا صلاة العصر وإذا طهرت قبل خروج وقت العشاء الآخرة لم يلزمها إلا صلاة العشاء الآخرة. * استدراك: كنا قد نبهنا على الكلام في الأماكن التي ليس فيها أوقات صلاة, وفات الأوان ولكن يمكننا لآن أن نتكلم عليها, توجد أماكن ليس فيها نهار ولا ليل, بمعنى: يمضي (24) ساعة كلها نهار, أو (24) ساعة كلها ليل, أو أكثر من ذلك, فما موقفنا نحو هذا؟ موقفنا بينه الرسول - عليه الصلاة والسلام - حين تحدث عن الدجال, وأن يومًا من أيامه كسنة يعني: (12) شهرًا فألهم الله الصحابة أن يقولوا: يا رسول الله, هذا اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة واحدة؟ قال: «لا, اقدروا له قدره». وعلى هذا فنقول لمن كانوا في مكان ليس فيه ليل ونهار في خلال (24) ساعة اقدروا له قدره, ولكن هذا القدر هل يعتبر أقرب البلاد إليهم مما فيه ليل ونهار, أو يعتبر الوسط؛ يعني: تساوي الليل والنهار, أو تعتبر مكة لأنها أم القرى؟ هذه فيها ثلاثة أقوال: منهم من يقول: يعتبر أقرب البلاد إليهم فيما فيه ليل ونهار, وهذا من حيث الفلك أقرب الأقوال. ومنهم من يقول: يعتبر الوسط؛ يعني: يجعلون (12) ساعة ليلًا, و (12) ساعة نهارًا ويمشون على هذا. ودليل هذا: أنهم يقولون: لما سقط اعتبار البلد بنفسه وجب الرجوع إلى الوسط. والقول الثالث: يقول المعتبر توقيت مكة؛ لأنها أم القرى, كما جاء في القرآن الكريم {وكذلك أوحينا إليك قرآنًا عربيًا لتنذر أم القرى ومن حولها} [الشورى: 7]. وعلى هذا فيجب على أولئك أن يكون لهم اتصال بمكة, ويعطون جدول مواقيت على حسب توقيت مكة, فهذه أقوال ثلاثة أقر بها من حيث العلم الفلكي.

الأول: يعتبر أقرب بلد إليهم فيه ليل ونهار مضطرد في خلال (24) ساعة. ثانيًا: يقولون إن في بعض البلاد يطول وقت المغرب بحيث يبقى الشفق إلى قرب الفجر, فمتى يصلون؟ نقول: ما دام الشفق يغيب ويظهر فالمعتبر مغيبه, ولو طالت المدة؛ لأن الشرع علقه بهذا, وليس لنا أن نتعدى الحدود, أما إذا كان لا يغيب إلا إذا طلع الفجر من الجهة الشرقية فحينئذٍ نقول: اقدروا له قدره. أسألكم: هذا الذي ليلهم ستة أشهر ونهارهم ستة أشهر كيف تتصورون الشمس؟ يعني: وقوع الواقع بعيد عن التصور, كنا نظن أن الشمس تكون من جانب واحد لكنها لا تغيب, تبقى ستة أشهر مثلًا في الجانب الشرقي, أو الشمالي, أو الجنوبي, أو الغربي, لكنهم يقولون: لا تكون في نفس المكان - يعني المنطقة - لكنها تدور, يعني مثلًا: تدور هكذا ... وهذا شيء ما نتصوره, لكن الذين شاهدوه يقولون: هذا هو الواقع, هل تصورتموها الآن؟ لا, تعرفون الدوران حلقة تدور عليها يعني: تدور من الأفق تمشي هكذا في الأفق حتى ترجع إلى مكانها دائمًا. أسئلة: - حديث رافع بن خديج, قال: «فينصرف أحدنا ويبصر مواقع نبله» ما معنى هذا؟ - في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء, ما يدل على أن النبي يشرع من عند نفسه, من أين يؤخذ؟ - إذا كان يشرع - عليه الصلاة والسلام - فهل نقول: إنه يشرع ويكون إقرار الله له كالوحي؟ - هل قوله: «إنه لوقتها» مطابق لأصل التشريع الإسلامي؟ - بماذا يكون الإبراد لصلاة الظهر؟ وكيف الإبراد؟ - هات مثالًا يكون التعليل فيه دال على القياس على مشاركة الحكم للعلة؟ - هل يمكن أن نعكس القاعدة ونقول: كل حرام نجس؟ - ما تقول في رجل بلغ قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة ولم يصل الفجر, أتجب عليه صلاة الفجر؟ وإذا كان قد صلاها هل تلزمه الإعادة؟ 153 - ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها نحوه, وقال: سجدة بدل ركعةٍ - ثم قال: - والسجدة إنما هي الركعة. قوله: «وقال: سجدة بدل ركعة» , يحتمل أن الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم, ويحتمل أنه الراوي, ولكنه فسر هذا بقوله: «والسجدة إنما هي الركعة»؛ لأن السجود يطلق على الصلاة كلها كما

الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها

في قوله تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا} [النجم: 62]. وعليه فيكون معناه معنى حديث أبي هريرة الذي قبله. الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها: 154 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس, ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس». متفق عليه. - ولفظ مسلم: «لا صلاة بعد صلاة الفجر». يقول: «لا صلاة بعد الصبح» «لا» نافية للجنس, و «صلاة» تعني: بناء على هذا الفرض والنفل, وتشمل الصلاة ذات الركوع والسجود, وما ليس بذات ركوع وسجود كصلاة الجنازة, وقوله: «بعد الصبح» يحتمل أن المراد: بعد صلاة الصبح, ويحتمل أن المراد: بعد طلوع الشمس, لكن رواية مسلم تبين أن المراد: بعد صلاة الصبح, ولذلك لا صلاة بعد صلاة الفجر, وكذلك أيضًا ورد في أحاديث أخرى غير حديث أبي سعيد التصريح بأن المراد: الصلاة؛ حيث قال الراوي: «نهى عن الصلاة بعد صلاتين: صلاة الفجر, وصلاة العصر». وقوله: «حتى تطلع الشمس» المراد: حتى تطلع كاملة, أو حتى يطلع قرنها الأول والثاني, ولكن مع ذلك سيتبين فيما يأتي - إن شاء الله - في حديث عقبة أن النهي يمتد إلى أن ترتفع الشمس قيد رمح, «ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس». «بعد العصر» , أي: بعد صلاة العصر, «حتى تغيب الشمس» أي: يغيب قرنها الأعلى, يعني: تغيب كلها. فإذا قال قائل: ما هي الحكمة في ذلك؟ قلنا: الحكمة في هذا أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم «أن الشمس تطلع بين قرني شيطان» , فإذا رآها المشركون سجدوا لها, وكذلك في الغروب تغرب بين قرني الشيطان, ولعلهم يسجدون لها وداعًا, فهم يسجدون لها استقبالًا عند طلوعها ووداعًا عند خروجها, فنهينا عن الصلاة في هذين الوقتين؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى التشبه بهم. فلنأخذ الفوائد: قوله: «لا صلاة» ذكرنا أن المراد: العموم, أي صلاة تكون, لكن نستثني من ذلك شيئًا, ثم هل المراد نفي الصلاة, أو نفي صلاتها, أو نفي كمالها؟

هذه ثلاثة احتمالات, والقاعدة: أن النفي نفي للوجود, فإن لم يمكن فهو نفي للصحة, ونفي الصحة نفي لوجودها شرعًا, أو لوجود المنفي شرعًا, فإن لم يكن بأن دل الدليل على أن المنفي صحيح وجب أن يحمل على نفي الكمال, فهنا هل المراد أن الصلاة منفية وقوعًا بمعنى لا يمكن أن تقع؟ الجواب: لا؛ لأنه ربما يصلي الإنسان في هذا الوقت. إذن هل هو نفي للصحة أو الكمال؟ نقول: المرتبة الثانية بعد نفي الوجود أن تكون نفيًا للصحة ولابد, فنقول: «لا صلاة»؛ أي: لا تصح, وليس نفيًا للكمال. إذن يستفاد من هذا الحديث: أنه لا تصح الصلاة في هذين الوقتين: لا الفريضة ولا النافلة, لا المقضية ولا المؤداة, ولكن هذا الحديث مرادًا, أي: لا يراد العموم, فقد دلت السنة على استثناء أشياء من ذلك, منها: الفريضة, فالفريضة لا نهي عنها, فمتى ذكر الإنسان أن عليه فريضة صلاها ولو في هذين الوقتين. مثال ذلك: رجل لما صلى الفجر تذكر أنه صلى العشاء بغير وضوء, فهنا يصلي العشاء قبل طلوع الشمس أو لا؟ يصليها حين ذكرها, دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها». فإن قال قائل: هذا الحديث بينه وبين حديث أبي سعيد عموم وخصوص من وجه, فكيف رجحتم عموم حديث قضاء الصلاة, على عموم حديث النهي عن الصلاة في هذين الوقتين؟ فالجواب: أن قضاء الصلاة الواجبة واجب والأصل في الأمر «فليصلها إذا ذكرها» أنه على الفور, فيقتضي أن تصلى الفريضة من حين أن يعلم بها الإنسان, هذا واحد. ثانيًا: حديث: «لا صلاة بعد الصبح» قد يستثنى منه أشياء بالنفي وبالإجماع, وقد ذكر العلماء أن العموم إذا خص فإن دلالته على العموم تكون ضعيفة, بل إن بعضهم يقول: إذا خص العموم فإن دلالته على العموم تبطل, لكن الراجح أنها لا تبطل, وأنه لا يخرج من العموم إلا ما استثني بالتخصيص, إذن يستثنى من ذلك قضاء الفريضة, لا يستثنى من ذلك إعادة الصلاة, يعني: إذا جاء إنسان بعد أن صلى الفجر, ودخل المسجد, وصلى الناس؛ فإنه يصلي معهم ولو كان بعد صلاة الفجر, دليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين انصرف من صلاة الصبح

في مسجد الخيف رأى رجلين لم يصليا, فقال لهما: «ما منعكما أن تصليا معنا؟ » قالا: يا رسول الله, صلينا في رحالنا, فقال: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكم نافلة». فإنها - أي: الصلاتين - المعادة لكما نافلة, فصرح صلى الله عليه وسلم أنهما يصليان, وأنها نافلة, إذن إعادة الصلاة مستثناة. يستثنى من ذلك سنة الظهر البعدية إذا جمعها مع العصر؛ لأنه لا يمكن أن يصليها بين الظهر والعصر؛ لأنهما مجموعتان, فيقضيها بعد صلاة العصر, كمريض يجمع بين صلاة الظهر والعصر, فيصلي الظهر, ثم يصلي العصر, ثم يصلي راتبة الظهر البعدية ليست القبلية, ولكن البعدية؛ لأنه لا يتمكن من صلاة الراتبة البعدية إلا بعد صلاة العصر. يستثنى من ذلك أيضًا ركعتا الطواف, إذا طاف الإنسان بعد صلاة الصبح, أو بعد صلاة العصر, فإنه يصلي ركعتين خلف المقام لما سيأتي في «كتاب الحج»؛ ولأنهما تبع للطواف. يستثنى من ذلك أيضًا ركعتا الطواف, إذا طاف الإنسان بعد صلاة الصبح, أو بعد صلاة العصر, فإنه يصلي ركعتين خلف المقام لما سيأتي في «كتاب الحج»؛ ولأنهما تبع للطواف. يستثنى من ذلك أيضًا سنة الوضوء, فإنه إذا توضأ الإنسان بعد صلاة الصبح, أو بعد صلاة العصر, يجوز له أن يصلي سنة الوضوء لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه؛ غفر له ما تقدم من ذنبه». بناءً على هذه الأدلة نقول بالقول الثاني وهو رواية عن أحمد أنه يستثنى من هذا العموم الفرائض, وكل نافلة لها سبب, هذا هو القول الراجح, وهو رواية عن أحمد, واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن كل صلاة لها سبب فإنه يصليها في أوقات النهي, يدل لذلك أن في بعض ألفاظ أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات أنه قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا تحروا الصلاة». فهو يدل على أن المراد من قصد الصلاة في هذه الأوقات, وأما من صلى لسبب فإنه لم يقصد الصلاة في هذه الأوقات, ويدل لذلك أيضًا أنه إذا كانت العلة هي الابتعاد عن مشابهة المشركين, فإن الصلاة ذات السبب تبعد قصد التشبه بالمشركين, وجهه: أنها مقرونة بسبب, فلها سبب ظاهر يجب مشروعيتها, فلا يكون هناك مشابهة للمشركين. المهم: أن القول الراجح في هذا أنه يستثنى من هذا العموم الفرائض, وكل نافلة لها سبب. من فوائد هذا الحديث: سد ذرائع الشرك وإن كانت بعيدة؛ لأن أصل الرسالة مبنية على

التوحيد, فكل طريق يمكن أن ينفذ الشيطان إلى قلب الإنسان فيوقع في الشرك, فإن النبي صلى الله عليه وسلم سده سدًا محكمًا. إذن نأخذ من هذا: أن جميع وسائل الشرك محرمة, لكن الوسيلة قد تكون قريبة, وقد تكون بعيدة, فلعظم المقام سد النبي صلى الله عليه وسلم كل وسيلة ولو كانت بعيدة. ومن فوائد هذا الحديث: أن النهي مقيد بالصلاة, صلاة من: صلاة الإنسان, أو صلاة الناس عمومًا؟ صلاة الإنسان, ولذلك لو فرض أن أحدًا من الناس فاتته صلاة الفجر, بل فاتته صلاة العصر, وتطوع بنافلة قبل أن يصليها هو, أيجوز ذلك أو لا؟ نعم, يجوز ذلك؛ لأن العبرة بصلاته هو. ومن فوائد هذا الحديث: أن الصبح يطلق ويراد به الصلاة, يفسر ذلك لفظ مسلم, واستعمال الصبح بمعنى الصلاة موجود بكثرة في السنة. أسئلة: - النفي في قوله: «لا صلاة بعد الصبح» أنفي الوجود, أو الصحة, أو الكمال؟ - لماذا لا نحمله على نفي الوجود؟ - لماذا لا نحمله على الكمال؟ - الصلاة في هذين الوقتين حرام أو لا؟ - ما الذي يستثنى من قوله: «لا صلاة بعد الصبح, ولا صلاة بعد العصر»؟ - الحديثان بينهما عموم وخصوص من وجه, ما هو؟ 155 - وله عن عقبة بن عامرٍ: «ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن, وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع, وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس, وحين تتضيف الشمس للغروب». «وله» أي: لمسلم قوله: «ثلاث ساعات» هذا حصر, لكن الحصر لا يمنع من وجود غيره إذا دل عليه دليل؛ ولهذا تجدون كثيرًا ما يقول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان». وتارة يقول: «ثلاثة لا يكلمهم الله» , ويأتي عدد آخر وقوله: «ثلاث ساعات» المراد بالساعة في اللغة العربية وفي الشرع: الوقت المحدد سواء طال أو قصر؛

ولهذا تجدن حديث التقدم من الجمعة: «من جاء في الساعة الأولى ... من جاء في الساعة الثانية إلى آخره ... ». مع أن هذه الساعات تختلف طولًا وقصرًا بحسب الوقت والفصول, فالساعة في اللغة: كل وقت محدد طال الزمن أو قصر, إلا إذا قال: «ساعة من نهار» فهي لا تتجاوز النهار, «نهانا أن نصلي فيهن» أي: صلاة فريضة أو نافلة, وذلك لأن (أن) مصدرية, وهي بعد النهي, فإذا أول الفعل بالمصدر, صار كأنه بعد النهي فتفيد العموم, لكن هذا العموم سبق أنه خصص بمخصصات بيناها. «وأن نقبر فيهن موتانا». «نقبر» القبر بمعنى: الدفن, يعني: أن ندفن الموتى في هذه الساعات, ثم فسرها فقال: «حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع» , «بازغة» حال مؤكدة؛ لأن البزوغ والطلوع بمعنى واحد, فتكون «بازغة» حال مؤكدة, لعاملها أو لصاحبها؟ لعاملها, «حتى ترتفع» , ولم يبين الرفع, لكنه قد بين في أحاديث أخرى: «حتى ترتفع قيد رمح» , أي: قدر رمح, والمراد بالرمح: ما يرمى به في القتال, وهو نحو متر, وتقريب ذلك في الساعة المصطلح عليها الآن ما بين عشر دقائق إلى ربع ساعة. «وحين يقوم قائم الظهيرة»؛ أي: حين يقف واقف الظهيرة, وذلك أن الشمس إذا توسطت السماء صارت كأنها قائمة لا تتحرك, «وحتى تزول» , وهذا يقدر بعشر دقائق فأقل. والثالث: «حين تتضيف الشمس للغروب» , «حين تتضيف» أي: تميل للغروب, وقيل: حين تشرع في الغروب, والصحيح الأول؛ أنها حين تتضيف للغروب, فإذا كانت عين المغرب بمثلها في المشرق يعني: مقدار رمح حين يدخل هذا الوقت الذي ذكره عقبة بن عامر, عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني: حين يبقى على مغيبها مقدار رمح, هذه ثلاثة ساعات, وتسمى هذه الساعات عند الفقهاء: أوقات النهي القصيرة, أضف هذه الساعات الثلاث إلى صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس تكون الأوقات أربعة, ومن صلاة العصر حتى تغرب تكون خمسة, ويجتمع فيما قرب من الغروب النهي الخاص والعام؛ لأنها حين تتضيف يدخل فيها النهي عن الصلاة العصر حتى تغرب الشمس, فهذه أوقات النهي. هذه الأوقات ينهى فيها عن كل صلاة ليس لها سبب من النوافل والفرائض لا نهي عنها, وسبق الكلام على هذا, لكن بقي الكلام «أن نقبر فيهن موتانا» الحكمة من ذلك لم تظهر لي جيدًا, لماذا نهى عن دفن الميت في ذلك الوقت؟ لكن الذي يهمنا هو الحكم؛ لأننا نحن معبدون بالأحكام, ولسنا مكلفين بمعرفة الحكم والأسرار؛ لأن هذا قد تعجز عنه عقولنا, لكن نقول: إذا وصلنا بجنازة إلى قبر وقد بزغت الشمس لكن لم ترتفع قيد رمح, فإننا لا ندفن الميت, ننتظر إلى متى؟ حتى ترتفع قيد رمح ثم ندفنه, كذلك أيضًا إذا وصلنا بالميت إلى القبر وقد قام قائم الظهيرة فإننا ننتظر حتى تزول الشمس. كذلك إذا وصلنا بالميت إلى القبر وقد

بقي على غروب الشمس مقدار رمح, فإننا لا ندفنه حتى تغيب الشمس, فيما عدا هذه الأوقات الثلاثة لا بأس أن نقبر الموتى. فنأخذ الفوائد منها: النهي عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة, ويستثنى من ذلك ما تقدمز ثانيًا: النهي عن دفن الأموات في هذه الأوقات الثلاثة. ولكن إذا قال قائل: لو اضطررنا إلى الدفن في هذه الأوقات الثلاثة فهل يجوز؟ الجواب: نعم, لو كان هناك ضرورة مثل شدة حرارة الشمس, لا يستطيع المشيعون أن يبقوا في حرارة الشمس حتى تزول الشمس, نقول: هذا ضرورة, أو يكون هناك خوف, فيضطروا الناس إلى أن يدفنوا الميت في هذه الأوقات, فنقول: لا بأس, أو يكون هناك مطر, ننتظر حتى نقدر أنها ارتفعت قيد رمح, وأنها غابت في آخر النهار, ويعرف هذا بالساعة. ومن فوائد الحديث: جواز دفن الميت في أي ساعة سوى هذه الساعات الثلاث, وجه ذلك: أن النهي عن شيء معين يدل على إباحة ما سوى هذا الشيء, فتكون دلالته على جواز الدفن في أي وقت دلالة مفهوم. هل يجوز الدفن ليلًا؟ نعم يجوز؛ لأن ذلك ثبت بالسنة, والنبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم الإثنين, ولم يدفن إلا ليلة الأربعاء في الليل. فإن قيل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد زجر أن يدفن الرجل ليلًا؟ قلنا: بلى, لكن لسبب؛ لأن هذا الرجل الذي مات ونهى النبي صلى الله عليه وسلم بسببه الصحابة عن الدفن بالليل, أنه مات ولم يحسن كفنه, فصار فيه تفويت شيء مطلوب, فإذا مات الإنسان في الليل ولم نستطع أن نغسله التغسيل الذي ينبغي, أو لم نجد الكفن الذي يطلب, أو ما شابه ذلك, فحينئذ نقول: لا تدفنوا ليلًا, أما إذا كانت الأمور متوفرة كما هو في وقتنا الحاضر فإنه لا بأس بالدفن ليلًا. فإذا قال قائل: لو حصل أمطار غزيرة, فهل يجوز أن نؤخر؟

فالجواب: نعم, نؤخر؛ لأن ذلك يؤدي ألا يدفنه الناس على وجه مطلوب, هذا من جهة, من جهة أخرى: يؤدي إلى أن القبر يمتلئ ماء فيؤخر. والخلاصة: أن هذا الحديث - حديث عقبة بن عامر - يؤدي إلى جواز الدفن في جميع أوقات الليل والنهار, إلا هذه الأوقات الثلاثة. 156 - والحكم الثاني عند الشافعي من حديث أبي هريرة بسندٍ ضعيفٍ. وزاد: «إلا يوم الجمعة». «الحكم الثاني» هو في الواقع ليس حكمًا, لكن الحكم في المسألة الثانية وهي: «حين يقوم قائم الظهيرة»؛ لأن حديث عقبة بن عامر فيه ثلاث مسائل, والحكم واحد وهو النهي, ولذلك نعتبر عبارة المؤلف رحمه الله فيها تسامح, فالمراد: الحكم في المسألة الثانية هي: «حين يقوم قائم الظهيرة». يقول: عند الشافعي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف, وزاد: «إلا يوم الجمعة» الشاهد: هو قوله: «إلا يوم الجمعة» فاستثنى يوم الجمعة؛ أي: أنه ليس فيه نهي عند زوال الشمس, وهذه المسألة فيها خلاف عند الفقهاء - رحمهم الله - منهم من قال: إن يوم الجمعة ليس فيه نهي, يعني: نهي عند قيام الشمس, لكنهم لم يستدلوا بهذا الحديث الضعيف, استدلوا بأن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا إذا دخلوا المسجد صاروا يصلون حتى يحضر الإمام بدون نكير, وهذا يدل على أن الحكم المتقرر عندهم: أنه لا نهي عن الصلاة يوم الجمعة. ومن العلماء من قال: إن الجمعة كغيرها. وهذا أقرب إلى الصواب, وإن كان الأول أقرب للصواب, لأن كون الصحابة يفعلون ذلك, يبعد أن يكونوا يفعلونه بدون أن يطلعوا على ترخيص الرسول صلى الله عليه وسلم, لكن الذي ينكر: ما يفعله بعض الناس اليوم, تجده متقدمًا إلى الجمعة, صلى ما كتب له, ثم جعل يقرأ القرآن, فإذا بقي على الزوال عشر دقائق أو نحوها قام يصلي, وهذا رأيناه كثيرًا, هذا هو الغلط؛ لأن هؤلاء لم يفعلوا كفعل الصحابة, يعني: لم يبقوا يصلون حتى جاء الإمام, بل هم جالسون, فلما جاء وقت النهي قاموا يصلون, لكن على رأي من يرى أنه لا نهي يوم الجمعة, يعني: ليس فيه النهي عند الزوال يباح لهم ذلك, لكن نقول: لا ينبغي لكم أن تتسلطوا على الصلاة في وقت اختلف العلماء في جواز الصلاة فيه, وظاهر هذا اللفظ «إلا يوم الجمعة» أنه لا فرق بين من كان في المسجد - أي: مسجد الجمعة -, ومن كان خارجه, وهذا نعم إذا صح الحديث فلا فرق, لكن إذا استدللنا بفعل الصحابة؛ فالصحابة إنما يفعلون

ذلك فيما إذا حضروا الجمعة, فيكون هذا خاصًا فيمن حضر يوم الجمعة, له أن يصلي حتى يأتي الإمام. 157 - وكذا لأبي داود: عن أبي قتادة نحوه. 158 - وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد منافٍ, لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعةٍ شاء من ليل أو نهار». رواه الخمسة, وصححه الترمذي, وابن حبان. قوله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد مناف» وجه الخطاب إليهم؛ لأنهم هم القائمون على المسجد الحرام, و «مناف» ما صلته بالرسول - عليه الصلاة والسلام - هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف, فهو الأب الرابع؛ لأنهم هم القائمون على المسجد الحرام ولهم السلطة أن يمنعوا أو يفسحوا, فقال: «لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى» يعني: فيه «أية ساعة شاء من ليل أو نهار» بعد الفجر, بعد العصر, عند قيام الشمس, في أي وقت لا تمنعوه؛ وذلك لأن المسجد لله عز وجل {وأن المساجد لله} [الجن: 18] , وقد قال الله عز وجل: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} [البقرة: 114]. انتبهوا إلى كلمة {أن يذكر فيها اسمه} بدل اشتمال من قوله: {مساجد الله} يعني: أن النهي منصب على هذا, على منع ذكر اسم الله في المساجد, وكذلك لو منع المساجد أصلًا, وأقفل الباب في وقت الناس يحتاجون إليه بغير سبب شرعي. من فوائد هذا الحديث: أولًا: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في توجيه الخطاب إلى من هو أليق به, وأخص به لقوله: «يا بني عبد مناف». وهل يعني ذلك أنه لغير القائمين على المسجد الحرام أن يمنعوا؟ لا, لكن الحكم واحد, لكن وجه الخطاب إليهم لكونهم هم الولاة عليه, نظير ذلك - أي: نظير توجيه الخطاب إلى من هم أليق به من غيرهم -: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب, من استطاع منكم الباءة فليتزوج». وهذا الأمر للشباب وغيرهم, كل من يريد الزواج وفيه شهوة الزواج, فإنه يؤمر بهذا. ومن فوائد هذا الحديث: نهي من قام على المسجد الحرام أن يمنع أحدًا طاف فيه بسلطة الولاية. انتبهوا لهذا القيد: أن يمنع أحدًا طاف فيه بسلطة الولاية؛ لأن الرسول عمم, قال: «أية ساعة شاء من ليل أو نهار»؛ وإنما قيدت ذلك لأجل أن نرد قول من يقول: إن المسجد الحرام

ليس فيه نهي عن الصلوات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا خاطبهم خطاب ولي, يعني: لا تحملنكم الولاية على أن تمنعوا الناس من الصلاة في المسجد أو الطواف. يبقى النظر: هل للإنسان أن يطوف أو يصلي, هذا إذا اشترط عندنا الآن الخطاب للولاة على المسجد الحرام, الخطاب للناس هل يصلون أو لا؟ الحديث في الحقيقة ليس فيه دليل على جواز الصلاة في المسجد الحرام في أي وقت؛ لأن كون الصلاة تجوز أو لا تجوز لا يخاطب بها الولاة, من يخاطب بها؟ عامة الناس, فإذا أراد أحد أن يصلي فلا تمنعوه؛ ولذلك قلت لكم: لا تمنعوا بسلطة الولاية, لكن لو قام يصلي في وقت النهي ومنعوه بحكم الشرع؛ لهم ذلك؛ لأن هذا من باب منع المنكر. انتبهوا لهذه النقطة؛ لأن بعض العلماء - رحمهم الله - قالوا: هذا الحديث يدل على أن الإنسان في المسجد الحرام يصلي في أي ساعة, فيقال: هذا غلط, الخطاب موجه لبني عبد مناف بحكم الولاية, يعني: لا تمنعه, أما كونه يصلي أو لا يصلي, فهذا يرجع إلى الأدلة الأخرى, إذا كان في وقت يصلي فيه جواز أن يصلي, وإلا فلا. من فوائد هذا الحديث: أن الطواف ليس بصلاة؛ لأنه قال: «لا تمنعوه أي ساعة» , وقد ذكرت لكم أن الفاعل الذي هو غير ولاة الأمر يرجع أمره إلى الشرع, هل نهى الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن الطواف في الأوقات الخمسة أوقات النهي؟ لا, وهذا مما يؤيد ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله أن الطواف ليس بصلاة, وأن الطهارة فيه ليست بشرط, وسبق الكلام على هذا. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز لولاة الأمور أن يمنعوا الناس من حقوقهم, لكن إذا اقتضت المصلحة أن يمنعوهم من حقوقهم فلهم ذلك, الدليل: فعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه, وأشياء كثيرة, لكن نذكر منها: الإنسان إذا طلق زوجته ثلاثًا بفمٍ واحد, من حقه أن يراجعها, يعني: إذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق, من حقه أن يراجعها في أي عصر كان؟ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر, وسنتين من خلافة عمر لما تتايع الناس في هذا وصاروا يكثرون الطلاق الثلاث منعهم من الرجوع وحرم الزوجة عليهم مع أن الحق لهم, لهم أن يراجعوا, لكن رأى من المصلحة أن يمنعهم من هذا الحق حتى يمتنعوا من الطلاق الثلاث؛ لأن الطلاق الثلاث محرم, من اللعب بكتاب الله. أمهات الأولاد تباع في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام -, وأبي بكر, أم الولد من هي؟ الأمة التي أتت بولد من سيدها كانت تباع في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام -, وأبي بكر

وصدر من خلافة عمرو ثم تجرأ الناس على التفريق بين الأم وولدها, وهو طفل صغير ينصهر قلبها والولد يبكي لها, فمنعهم عمر من بيع أمهات الأولاد مع أن لهم أن يبيعوها؛ إذن نقول: ليس لولي الأمر أن يمنع الناس من حقوقهم إلا لمصلحة, أو حاجة, أو ضرورة. ومن فوائد هذا الحديث: الرد على طائفة مبتدعة: الجبرية يقولون: ليس للإنسان مشيئة ولا إرادة, وفعله مجبور عليه, ولا شك أننا لو أتينا بواحد منهم وجلدناه أشد الجلد, وقلنا: اعذرني يا أخي أنا مجبور, لا يوافقون؛ ولهذا احتج سارق كما روي عن عمر أتي بسارق وأمر بقطع يده, فقال: مهلًا يا أمير المؤمنين, والله ما سرقت إلا بقدر الله, قال: ونحن ما نقطع يدك إلا بقدر الله, وأيضًا عمر رضي الله عنه يقطع يده بقدر الله, وشرع الله, وذاك يسرق بقدر الله دون شرع الله. أسئلة: - فهمنا من الأحاديث السابقة أن أوقات النهي بالاختصار ثلاثة, وبالبسط خمسة؟ - ما هو القول الراجح فيما يجوز في هذه الأوقات؟ - المؤلف ساق حديث جبير بن مطعم في هذا الباب, لماذا؟ - استدللنا من هذا الحديث على أن الطواف ليس بصلاة, وجه ذلك؟ 159 - وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفق الحمرة». رواه الدارقطني, وصححه ابن خزيمة, وغيره وقفه على ابن عمر. «الشفق» يشير إلى آخر وقت صلاة المغرب إلى أن يغيب الشفق, فما هو الشفق أهو الحمرة أو البياض؟ بين في هذه الحديث - سواء عن ابن عمر أو عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن الشفق هو: الحمرة التي تكون إثر غروب الشمس, وهذه الحمرة تستمر إلى نحو تسعين دقيقة, ربما تزيد قليلًا أو تنقص, يعني: ربما تصل إلى (75) دقيقة, وربما تصل إلى (90) دقيقة حسب الفصول, لكن متى غاب الشفق, يعني: متى ابيضت جهة الغروب, فمعنى ذلك: أن وقت المغرب انتهى ودخل وقت العشاء, إذا تأملت الترتيب وجدت أن هذا الحديث ينبغي أن يجعل فيما سبق, إذ ليس هذا مكانه؛ إذ إنه ينبغي أن يلي بيان أوقات الصلوات الخمس, لا أن يكون في سياق أوقات النهي, لكن لعل المؤلف رحمه الله حين كتب الكتاب غفل عن هذا, وكل إنسان معرض للنسيان.

الفجر الصادق والفجر الكاذب

يوجد شفق آخر غيره الحمرة؟ نعم, شفق البياض يتأخر كثيرًا إلى نحو ثلث الليل, لا عبرة به, العبرة بشفق الحمرة. الفجر الصادق والفجر الكاذب: 160 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفجر فجران: فجر يحرم الطعام وتحل فيه الصلاة, وفجر تحرم فيه الصلاة - أي: صلاة الصبح - ويحل فيه الطعام». رواه ابن خزيمة, والحاكم, وصححاه. قسم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الفجر إلى قسمين من حيث الحكم: فذكر أنهما قسمان: «فجر يحرم الطعام وتحل فيه الصلاة» , وهذا هو الفجر الصادق الذي لا ظلمة بعده. تحل فيه الصلاة, يعني: صلاة الصبح, ويحرم فيه الطعام على من؟ على الصائم. «وفجر تحرم فيه الصلاة» أي: صلاة الصبح, ويحل فيه الطعام - يعني: للصائم -, وهذان الفجران يختلفان في الحكم الشرعي, ويختلفان في الحكم القدري, يعني: حسًا وشرعًا, الفرق بينهما حسًا ذكره في الحديث الذي بعده. 161 - وللحاكم من حديث جابر نحوه, وزاد في الذي يحرم الطعام: «إنه يذهب مستطيلًا في الأفق». وفي الآخر: «إنه كذنب السرحان». يعني: الذنب كالفجر الذي يحرم الطعام, وهو الفجر الصادق يذهب مستطيلًا في الأفق, يعني: من الشمال إلى الجنوب, والثاني: «كذنب السرحان» وهو أيضًا يمتد من الشرق إلى الغرب, هذا الفرق, الفجر الصادق الذي تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام يكون مستطيلًا من الشمال إلى الجنوب, والثاني بالعكس يكون من الشرق إلى الغرب, هذا فرق واضح. الفرق الثاني: أن الصادق لا ظلمة بعده, بل يزداد النور حتى يشمل الأفق كله, وأما الثاني: فيظلم بعد هذا ويزول, هذان فرقان. الفرق الثالث: الصادق نوره متصل بالأفق, والثاني نوره غير متصل, بمعنى: أنك إذا رأيت أسفل الأفق لم تر نورًا, يعني هذا في الكاذب, فهذه فروق ثلاثة. قال شيخنا عبد الرحمن رحمه الله: الفرق بينهما نحو نصف ساعة, يعني: أن الكاذب يخرج قبل الصادق بنحو نصف ساعة ثم يضمحل, فصار الفرق بينهما من الناحية الكونية - الحكم الكوني القدري - من وجوه ثلاثة: الصادق ممتد من الجنوب إلى الشمال, وذاك بالعكس.

الحث على الصلاة في أول الوقت

الصادق لا ظلمة بعده, والثاني يظلم بعد ذلك. الصادق نوره متصل بالأفق, وهذا منفصل. أما من الناحية الشرعية - الحكم الشرعي: - فهو أن الصادق تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام - يعني: على الصائم -, وأما الكاذب فيحل فيه الطعام وتحرم فيه الصلاة. من فوائد هذا الحديث: أن الفجر الصادق يترتب عليه من الناحية الشرعية شيئان: حل الصلاة, وتحريم الطعام, أما حل الصلاة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت الصلوات؛ الفجر من كذا إلى كذا, وأما تحريم الطعام فلقول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187]. من فوائد الحديث: الرد على مذهب إليه بعض السلف من أن الإنسان يأكل ويشرب إلى أن يعم الضياء الأفق كله - يعني: قرب طلوع الشمس - فإن هذا قال به بعض السلف, لكنه ضعيف؛ لأنه يخالف الآية الكريمة حيث قال الله تعالى: {حتى يتبين لكم} فمتى تبين وجب الإمساك, لكن يرخص للإنسان الذي يكون الإناء بيده أن يكمل نهمته منه, أو اللقمة في يده أن يكمل, وأما أن يستأنف بعد أن تبين الصبح فلا يجوز. ومن فوائد هذا الحديث والذي بعده: حكمة الله عز وجل في ظهور هذا الفجر الذي نسميه الكاذب, وذلك من أجل أن يستعد الإنسان للإمساك في الصيام والصلاة - أي: صلاة الفجر -, ويعرف أنه قد قرب طلوع الفجر حتى يختم صلاة الليل بالوتر الذي يريد أن يختمها به. ثم قال: الحث على الصلاة في أول الوقت: 162 - وعن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأعمال: الصلاة في أول وقتها». رواه الترمذي والحاكم, وصححاه, وأصله في الصحيحين. «أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها» أفضل الأعمال - يعني الأعمال البدنية -؛ لأن الأعمال تنقسم إلى قسمين: أعمال بدنية في الجوارح الظاهرة, وأعمال قلبية في الجوارح الباطنة. والسؤال الآن عن الأعمال البدنية الظاهرة, قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها» , و «الصلاة» كلمة عامة تشمل الفجر, والظهر, والعصر, والمغرب, والعشاء, لكن سبق لنا أن بعض الصلوات الأفضل تأخيرها, ما هي؟ العشاء مطلقًا, الثاني: الظهر في شدة الحر, وعليه فيكون ما تقدم مخصصًا لهذا العموم, ولكن الذي أشار إليه المؤلف في الصحيحين

ليس بهذا اللفظ, بل بلفظ آخر, وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها». فإذا كانت الصلاة على وقتها, فمعناه: إن كان ميقاتها في أول الوقت فهي أفضل, وإن كان ميقاتها في آخره فهي أفضل؛ فيكون مطابقًا للأحاديث الأخرى, ولا يحتاج إلى استثناء. 163 - وعن أبي محذورة, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول الوقت رضوان الله, وأوسطه رحمة الله؛ وآخره عفو الله». أخرجه الدارقطني بسندٍ ضعيفٍ جدًا. قوله: «أول الوقت» يعني: في الصلاة, «رضوان الله» يعني: أنه أفضل مما بعده؛ لأن رضا الله عز وجل أعلى أنواع النعيم؛ ولهذا «إذا سأل الرب - تبارك وتعالى - أهل الجنة ماذا يتمنون عليه, قالوا: إنك أعطيتنا كذا وكذا وكذا, قال: أحل عليكم رضواني, فلا اسخط عليكم بعده أبدا». فرضا الله - تبارك وتعالى, وفقنا الله وإياكم له - أفضل أنواع النعيم, كذلك أيضًا الصلاة في أول الوقت هي أفضل الصلوات. «أوسطه» يعني: بين الأول والآخر «رحمة الله» لا ينال به الإنسان رضوان الله, ولكنه ينال به الرحمة, وهي أعلى من قوله: «وآخره عفو الله» يعني: أن الله عفا عنا ورخص لنا أن نؤخر الصلاة إلى آخر الوقت, لكن هذا الحديث يقول: «أخرجه الدارقطني بسند ضعيف جدًا». «جدا» , يعني: أجده جدًا, أحقه حقًا, إذا كان ضعيفًا فلماذا ذكره المؤلف رحمه الله؟ لأن الضعيف لا يجوز أن تبنى عليه الأحكام, ذكره من أجل ألا يغتر به أحد إذا قرأه في الدارقطني ليبين أنه ضعيف لا يعتمد عليه, وهذا جيد من تصرف المؤلف رحمه الله؛ لأنه إذا كان هذا الحديث في الدارقطني وقرأه القارئ وهو لا يعلم سيقلبه, ولكن إذا بين المؤلف رحمه الله وهو من الحفاظ المعتبرين حينئذ سقط الاستدلال به. وحينئذ نقول: أول الوقت أفضل فيما يسن تقديمه, وآخر الوقت أفضل فيما يسن تأخيره, وما بين ذلك فهو رخصة, هذا الذي تدل عليه الأحاديث ونكتفي بها. 164 - وللترمذي من حديث ابن عمر نحوه, دون: «الأوسط» , وهو ضعيف أيضًا.

165 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين». أخرجه الخمسة, إلا النسائي. - وفي رواية عبد الرزاق: «لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر». 166 - ومثله للدارقطني عن عمروٍ بن العاص رضي الله عنه. هذا أيضًا مما يؤخذ على المؤلف, أن هذا ليس مكانه, أين مكانه؟ بعد ذكر أوقات النهي, وليس هذا محله, لكن على كل حال - كما قلت لكم - الإنسان قد يسهو ويغفل, فلنعد للحديث: «لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين» , والمراد بالسجدتين هما الركعتان, وهما ركعتا الفجر, سبق لنا الكلام على مثل هذا التعبير «لا صلاة» , وأنه أولًا لنفي الوجود, فإن لم يمكن فلنفي الصحة, فإن لم يمكن فلنفي الكمال, فلننظر هذا الحديث: «لا صلاة بعد الفجر» يعني: بعد طلوع الفجر. «إلا ركعتي الفجر» يعارض الأحاديث السابقة الصريحة في أن النهي يتعلق بفعل الصلاة, لا بطلوع الفجر, وحينئذٍ لابد لنا من أحد مسلكين إما أن نقول: إن هذا شاذ فيرد؛ لأنه من المعلوم أن الضعيف لا يمكن أن يقاوم الصحيح, وإما أن يقال: نفي الصلاة هنا غير نفي الصلاة هنا, هناك نفي للتحريم, وهنا نفي للمشروعية؛ بمعنى: أنه لا يشرع للإنسان أن يصلي بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر. أيهما أولى: أن نحمل على المعنى الأول ونقول: شاذ ونرد الحديث, أو نؤوله إلى معنى يتطابق مع الحديث الثاني؟ الثاني أولى؛ لأنه متى أمكن الجمع وجب, فنقول: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد الفجر» أي: لا صلاة مشروعة, لا أن المعنى: لا صلاة, يعني: النهي بمعنى: لو أنك صليت راتبة الفجر وجلست تنتظر صلاة الفجر, فهل الأفضل أن تقوم وتصلي, أو الأفضل ألا تصلي؟ بناء على هذا الحديث: الأفضل ألا تصلي, وهو كذلك الأفضل ألا تصلي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ك ان يخفف الركعتين, فإذا كان يخفف شيئًا مشروعًا فكيف نأتي بشيء غير مشروع. وعليه فنقول: ما بين أذان الفجر وصلاة الفجر لا تشرع الصلاة إلا ركعتي الفجر, لكن لو فعل الإنسان ذلك لا نؤثمه؛ لأن وقت النهي إنما يدخل بعد الصلاة.

167 - وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر, ثم دخل بيتي, فصلى ركعتين, فسألته, فقال: شغلت عن ركعتين بعد الظهر, فصليتهما الآن, فقلت: أفنضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا». أخرجه أحمد. 168 - ولأبي داود عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - بمعناه. قوله: «وعن أم سلمة» هي: إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم, تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت زوجها, والقصة مشهورة: حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة فوجده قد توفي وقد شخص بصره, فأغمض عينيه صلى الله عليه وسلم, وقال: «اللهم اغفر لأبي سلمة, وارفع درجته في المهديين, وأفسح له في قبره, ونور له فيه, واخلفه في عقبه» , خمس دعوات منها ما علمناه في الدنيا ومنها ما لم نعلمه, لكن الذي أجاب شيئًا رأيناه يتفضل بإجابة ما لم نره, خلفه في عقبه تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موت زوجها أبي سلمة, وكانت رضي الله عنها قد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله وأخلف له خيرًا منها» , وكانت تقول: من خير من أبي سلمة؟ تقول هذا لا شكا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لكن تتأمل من هذا الذي سيكون خيرًا من أبي سلمة, وإلا هي جازمة بأنه سيخلف الله عليها خيرًا من أبي سلمة لكن تفكر: أبو بكر عمر من؟ فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبا سلمة في عقبه, تربى ابنه وبنته عند الرسول صلى الله عليه وسلم في حجره, وإنما سقنا هذا ليتبين أن الإنسان إذا دعا عند المصائب فإنه يستجاب له؛ ولهذا لما ضج ناس من أهله - من أهل أبي سلمة -, قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» , وإنما قال هذا؛ لأنهم في الجاهلية إذا مات الإنسان يدعون بالويل والثبور, واثبوراه, واويلاه, وما أشبه ذلك. أم سلمة رضي الله عنها من أعقل النساء, وأذكى النساء, وقصتها مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية مشهور, تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى العصر ثم دخل بيتها فصلى ركعتين, قوله: «صلى العصر» أي: صلاة العصر, و «دخل بيتها» , كلمة «بيتها» مضاف إليها, فهل أضيف إليها على سبيل الملك, أو على سبيل الاختصاص؟ هل نساء الرسول - عليه الصلاة والسلام - ورثن هذه البيوت, هل بقين فيها بعد موته؟ نعم, إذن الظاهر - والله أعلم - أنه بيتها على سبيل الملك, والرسول صلى الله عليه وسلم ملك زوجاته ذلك, هذا إن لم يثبت أنهن بعد موته جعلنها في بيت المال؛ لأن

2 - باب الأذان

الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته لا يورث, فصلى ركعتين فسألته, فقال: «شغلت عن ركعتين بعد الظهر فصليتهما الآن» , «شغلت» , والذي شغله وفد, وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى المصالح فيقدم العليا على ما دونها, فكونه يستقبل هؤلاء الوفد ليؤلف قلوبهم ويجلب المحبة منهم له ومنه لهم؛ أفضل من كونه يصلي الراتبة سواء بنية قضائها أو بغير نية قضائها, «فقلت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا» , ومرادها: أفنقضيهما في هذا الوقت؟ قال: «لا»؛ لأن هذا الوقت وقت نهي, وهما - أي: الركعتان - تطوع, وليس هناك سبب يبيح أن تصليا في وقت النهي؛ لأنه بالإمكان أن يصليهما بعد المغرب لكن هذا مما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم, وسيأتي في الفوائد. *** 2 - باب الأذان قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: «باب الأذان». وهذا الكتاب «بلوغ المرام» مؤلف على أبواب الفقه. الأذان في اللغة: الإعلام, قال الله تعالى: {وأذن من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} [التوبة: 3]. أي: إعلام بماذا؟ {أن الله بريء من المشركين ورسوله}. لكنه في الشرع: إعلام خاص أخص من اللغة, وهكذا جميع التعريفات الشرعية أخص من التعريفات اللغوية, يعني: أنه يقصد بها بعض المعنى اللغوي, إلا في موطن واحد فيما يحضرني الآن: وهو الإيمان, فإن الإيمان في الشرع أعم من الإيمان في اللغة؛ إذ إن الإيمان في اللغة إنما هو إقرار القلب فقط, وأما في الشرع: فيدخل فيه جميع الأعمال الصالحة؛ فلهذا قال العلماء - علماء أهل السنة -: إن الإيمان هو الإقرار المستلزم للإذعان والقبول, وليس أي إقرار, فالصلاة مثلًا في اللغة: هي الدعاء لكنها في الشرع من الإيمان, كما قال الله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143]. يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس. هنا الأذان في اللغة: الإعلام, في الشرع: إعلام خاص, وهو الإعلام بحلول فعل الصلاة؛ يعني: أنه حل فعل الصلاة, وهذا الذي ذكرناه أولى من أن يقال بدخول الوقت؛ لأنه إذا كانت الصلاة مما يستحب تأخيرها فإنه يؤخر الإعلام, ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري, أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فقام بلال ليؤذن, فقال: «أبرد» , ثم قام ليؤذن, فقال: «أبرد» , ثم قام ليؤذن فقال: «أبرد» , حتى رأوا فيء التلول, ثم أذن له فأذن, ولو كان إعلامًا بدخول الوقت لكان يؤذن من أول الوقت, فمثلًا: إذا كنا في سفر وأردنا أن نؤخر الصلاة, فهل نؤذن إذا دخل وإن لم

صفة الأذان ومعانيه

نصل إلا في آخر الوقت؟ لا نؤذن حين إرادة الصلاة, لكن في وقت يتمكن فيه المدعوون إلى الصلاة من الاستعداد لها بالوضوء وغيره, ثم هو إعلام لإرادة الصلاة أو فعل الصلاة بعد دخول وقتها, ونحن قلنا: بحلول وقت الصلاة على وجه مخصوص ليس أي إعلام, فمثلًا قوله: «الصلاة, الصلاة, الصلاة» لا يكفي, لابد أن يكون على وجه مخصوص؛ وهو الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم, وستعلمونه إن شاء الله. وهذا الأذان أصل مشروعيته: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة, وصار للأمة الإسلامية دولة, ولها كيان؛ أرادوا أن يجعلوا لهم علامة لدخول وقت الصلاة حتى يجتمعوا إليها؛ فتقدمت اقتراحات: اقتراح البوق ينفخ فيه حتى يكون له صوت, اقتراح الناقوس يشبه الجرس لكنه له صوت قوي؛ لأنه كبير, اقتراح نار توقد حتى يراها الناس فيعلموا أنه دخل الوقت. كل هذه الاقتراحات رفضت, لماذا؟ لأن هذه كلها دعاء لعبادات شركية, الناقوس للنصارى, والبوق لليهود, والناس للمجوس, رفضت هذه, وكان المسلمون قد اهتموا بذلك كثيرًا؛ لأنه مهم ما الذي يجمع الناس عند دخول الوقت, فرأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه في المنام رجلًا معه ناقوس, فقال: أتبيع علي هذا؟ قال: وما تصنع به؟ قال: أعلم به للصلاة, قال: ألا أدلك على خير منه؟ تقول: الله أكبر ... وذكر الأذان, ثم أتى عبد الله إلى رسول الله فقص عليه الرؤيا, فقال: «إنها لرؤيا حق, اذهب فألقها على بلال فإنه أندى صوتًا منك»؛ , فلما سمع عمر أذان بلال جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه رأى مثل ما رأى عبد الله بن زيد, فتوافقت الرؤيتان على هذه الصفة, وأيدها النبي صلى الله عليه وسلم, ومن المعلوم أنها لم تثبت مشروعيتها إلا بعد إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لها حيث قال: «إنها لرؤيا حق». صفة الأذان ومعانيه: 169 - عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه قال: «طاف بي - وأنا نائم - رجل فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر, فذكر الأذان - بتربيع التكبير بغير ترجيع, والإقامة فرادى, إلا قد قامت الصلاة - قال: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لرؤيا حق ... ». الحديث. أخرجه أحمد, وأبو داود, وصححه الترمذي, وابن خزيمة. 170 - وزاد أحمد في آخره قصة قول بلال رضي الله عنه في أذان الفجر: «الصلاة خير من النوم». يقول: «طاف بي وأنا نائم رجل, فقال: تقول: الله أكبر» , ابن حجر رحمه الله تصرفه في الأحاديث

في هذا الكتاب تصرف أحيانًا يكون مخلًا؛ حيث يحذف من الحديث ما يتوقف فهم بقيته على وجده, وهو نفسه رحمه الله ذكر في النخبة أنه لا يجوز حذف شيء من الخبر وللباقي فيه تعلق, لكنه لا يحذف شيئًا لا يتم المعنى إلا به, إلا أنه يحذف شيئًا وجوده خيرًا من حذفه طلبًا للاختصار؛ لأنه ألف هذا الكتاب من أجل أن يحفظ عن ظهر قلب, قال: «تقول الله أكبر ... فذكر الأذان» وطوى ذكره رحمه الله لأنه معلوم. «الله أكبر» هذه جملة اسمية حذف منها المتعلق بقوله: أكبر, أصلها: أكبر من كل شيء, ولكنه حذف المتعلق من أجل إرادة العموم, يعني: أكبر أي: له الكبرياء المطلق بدون قيد, لو قلت: أكبر من كل شيء قد تكون الدلالة واحدة, لكنه يضعف العموم, حينما نقول: من كل شيء أكبر, يعني: له الكبرياء مطلقًا, الله أكبر الثانية التأكيد, الثالثة كذلك, الرابعة كذلك, فتكون الثلاث توكيدًا للأولى, هذا ما قد يتبادر إلى الذهن, ويظن الظان أن هذا من باب التوكيد اللفظي كقولك للرجل: قم قم قم يا رجل, تعيد عليه الأمر تريد التوكيد, لكن الذي يظهر أنها جمل مستأنفة كل جملة منفصلة عن الأخرى, يعني: بمعنى أنه لابد من وجود الثانية والثالثة والرابعة, هذا هو الظاهر, فيكون هذا من باب التقرير - أي: تقرير كبرياء الله عز وجل في القلب - لأن المؤكد يجوز حذفه إذ لم يذكر إلا فضله, لكن هذا الحديث لابد فيه من وجود كل جملة: الله أكبر الله أكبر الله أكبر. بعد هذا التكبير والتعظيم لله عز وجل نقول: «أشهد أن لا إله إلا الله» , والحمد لله كلكم يعرف معنى (لا إله إلا الله) أي: لا معبود حق إلا الله, حق أولى من كلمة بحق؛ لأنك إذا قلت: لا معبود بحق, احتجت إلى تقدير آخر لا معبود كائن بحق أو واقع بحق, لكن إذا قلت: لا معبود حق إلا الله نقص المحذوف, يعني: لم تحتج إلى تقدير شيء؛ هذا من وجه, ومن جهة أخرى: يكون مطابقًُا لقول الله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل} [لقمان: 30]. إذن التقدير: لا معبود حق إلا الله, أما معبود باطل فموجود, قال الله - تبارك وتعالى -: {ولا تجعل مع الله إلهًا آخر} [الإسراء: 39]. وقال تعالى: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب} [هود: 101]. لكن كل من سوى الله فهو إله اسمًا وليس حقًا, قال الله تعالى: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [يوسف: 40]. وقال تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20) ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك

إذًا قسمة ضيزى (22) إن هي - أي: هذه المعبودات - إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} [النجم: 23]. فما هي إلا أسماء فقط مجردة تمامًا عن المعنى, أي: معنى الألوهية. «أشهد أن لا إله إلا الله» , واعلم أنك متى أقررت بأنه لا معبود إلا الله؛ فإن إقرارك هذا مستلزم لتوحيد الربوبية؛ إذ إفراد الله بالعبادة متضمن لإفراده بالربوبية؛ لأنك لن تعبد إلا ما هو رب. «وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» لم يذكر تمام اسمه؛ يعني: تمام نسبه, أشهد أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ما ذكر هذا, لماذا؟ لأنه معلوم لكل إنسان أن محمدًا الموصوف بالرسالة هو محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام -, أن محمدًا عبده ورسوله, وهذا التقرير يفيد أنه لا يلزم للإنسان كلما ذكر الرسول, قال: اللهم صل على محمد, يجوز أن تقول: أن محمدًا رسول الله بدون أن تقول: صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغ الأذان ليست من جمل الأذان, وإلا فمن المعلوم أنه مشروع للإنسان إذا تابع المؤذن أن يقول بعد ذلك: اللهم صل على محمد, اللهم رب هذه الدعوة التامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك, لكنها ليست من جملة الأذان. «عبده ورسوله» عبده رد للغالين فيه المدعين له ما يتبرأ منه صلى الله عليه وسلم, وهو أنه له تصرف في الكون, وأن له حظ من الربوبية, فهو عبد لا يعبد, هو نفسه عبد يحتاج إلى الله عز وجل, و «رسوله» رد على من؟ على المكذبين له الذين قالوا: إنه ساحر, مجنون, كاهن, فهو عبد لا يعبد, ورسول لا يكذب - عليه الصلاة والسلام -. واعلم أن هذه العبودية التي وصف بها الرسول صلى الله عليه وسلم ووصف بها بقية الأنبياء هي أخص أنواع العبودية؛ لأن العبودية عامة وخاصة, وأخص من الخاصة؛ العبودية العامة في قوله تعالى: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا} [مريم: 93]. هذه عامة, كل الخلق عبيد لله, والله تعالى سيدهم يفعل فيهم ما يشاء, يعز من يشاء, ويذل من يشاء, ويهدي من يشاء, ويضل من يشاء, ويؤت الملك من يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, هو عز وجل السيد وما سواه مملوك عابد لله عز وجل العبودية القدرية العامة. «حي على الصلاة» , حي: بمعنى أقبلوا, وهي اسم فعل لا يلحقه علامة الفعل, يعني: لا تقول للجماعة: حيوا, ولا الاثنين: حيا, وإنما نقول: حي على الصلاة للواحد, والجماعة, والاثنين؛ ولهذا نقول: إنه اسم فعل, والضابط لأسماء الأفعال كل لفظ دل على معنى الفعل ولم يقبل علامته فهو اسم فعل: إن دل على معنى الأمر فهو اسم فعل أمر, إن دل على الماضي فهو اسم فعل ماضٍ, إن دل على مضارع فهو اسم فعل مضارع, فكل ما دل على معنى الفعل ولم يقبل علامته فهو اسم فعل. «حي» بمعنى: أقبل على الصلاة.

يحتمل أن يقال: إن «أل» التي في الصلاة للعهد الحضوري, أي: على الصلاة الحاضرة, ويحتمل أن يقال: إن «أل» للعموم؛ أي: أقبل على الصلاة, ويكون أول ما يدخل فيها: الصلاة الحاضرة, ولعل هذا أقرب أن نجعله عامًا, يعني: أقبل على الصلاة فإنها خير موضوع. «حي على الفلاح» «الفلاح» كلمة جامعة تتضمن النجاة من كل مكروه, والفوز بكل مطلوب, ومناسبة ذكر الفلاح هنا بعد ذكر الصلاة ظاهرة جدًا كأنه يقول: «حي على الصلاة؛ لأنه بها الفلاح»؛ فالصلاة كلها فلاح, كلها خير؛ ولهذا كانت مما يستعان به على المصائب كما قال الله عز وجل: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. أما «الله أكبر الله أكبر» فهي كالجمل الأولى, و «لا إله إلا الله» سبق معناها هذا هو الأذان, فهو ذكر إعلام بكبرياء الله عز وجل, إعلام بالتوحيد, إعلام بالرسالة, دعوة إلى الصلاة, دعوة إلى الفلاح, وبهذا نعرف فضائل الإسلام, في الأمم السابقة لا يوجد إلا نواقيس, وأبواق, ونيران, وربما يكون علامات أخرى كالصفير وغيره, لكن الدين الإسلامي - ولله الحمد - التعليمات التي تكون له لها هذه المزية العظيمة: ذكر, وتوحيد, وشهادة في الحق. وكما يقول: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنها لرؤية حق» هذا فيه حذف, ويسمى إيجازًا بالحذف, يعني: أتيته فأخبرته, فقال: «إنها لرؤيا حق» , وهذا من الإيجاز بالحذف, إنها - أي: الرؤيا - التي قصصتها علي لرؤيا حق, أي: صدق وليست رؤى باطلة, ثم أمره أن يذهب إلى بلال من أجل أن يعلمه بالأذان؛ لأنه أندى صوتًا منه. في هذا الحديث فوائد, منها: هداية الله - تبارك وتعالى - لهذه الأمة للحق؛ حيث رفضوا الاقتراحات التي يعلم بها للصلاة حتى هدوا إلى هذا الأمر الذي ثبت بهذه الرؤيا. ومنها: العمل بالرؤيا, وأن الشرع إذا شهد للرؤيا بالصدق فإنه يحكم بها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إنها لرؤيا حق» , وإلا فإن الرؤيا لا يثبت بها الشرع إلا إذا أقرها الشرع, والرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة؛ ولهذا كان أول ما بعث الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يرى الرؤيا في المنام فتكون مثل فلق الصبح, وأول ما بدئ به الوحي على هذا الوجه في ربيع الأول, وبقي ربيع الأول والثاني وجمادى الأولى والثانية, ورجب, وشعبان ستة

أشهر, في رمضان نزل عليه الوحي, وأنت إذا نسبت ستة أشهر لثلاث وعشرين سنة - التي هي زمن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - صارت جزءًا من ستة وأربعين جزءًا. مسألة: لكن هل تثبت الأحكام الشرعية بالرؤيا أو لا؟ هذا محل نظر وتفصيل, فيقال: إن كان في هذه الرؤيا تأييد لشيء ثابت في الشرع عمل بها وصارت من المقويات, مثاله: ما وقع لابن عباس رضي الله عنهما في رجل سأله عن متعة الحج, فأجابه ابن عباس رضي الله عنه بأن متعة الحج حق؛ لأن عمر رضي الله عنه كان ينهى عنها؛ يريد من الناس أن يعتمروا في وقت ويحجوا في وقت, فرأى هذا الرجل في المنام أن رجلًا يقول له: حج مبرور وعمرة متقبلة, فأتى إلى ابن عباس وأخبره, ففرح بهذا. هذه الرؤيا يعمل بها, لماذا؟ لأنه يؤيدها الشرع, فتفيد التثبت والتقوية على صحة ما ذهب إليه الإنسان, أو على رجحانه لأنها حق, أما إذا كانت تخالف الحق فهي مرفوضة, وهي من وحي الشيطان. ومر بي أن عبد القادر الجيلاني رحمه الله رأى في المنام نورًا عظيمًا لا يوجد له نظير, فخاطبه منه مخاطب يقول له: إنه أسقط عنه فريضة من الفرائض - إن لم يخني الذهن - فهي الصلاة, فقال له عبد القادر: كذبت, ولكنك شيطان, يقول: فتمزق النور. هذه الرؤيا قطعًا كذب, لماذا؟ لأنها تخالف الحق, فلا تقبل. هذان قسمان, القسم الثالث: ما لا تخالف الحق ولا توافقه, ولكن يكون لها شواهد تدل على صدقها فيعمل بها, ومثالها: ما جرى لثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه حينما استشهد في وقعة اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب, فقتلى ومر به شخص فسلب درعه, وأخذه إلى رحله ووضعه تحت برم - قدر من الفخار - فلما كان في الليل رأى صاحب لثابت بن قيس ثابتًا في المنام وأخبره بما جرى, وقال له: إن الدرع تحت برمة في أطراف الجيش وحوله فرس يستن في طوله, فلما أصبح الرجل ذهب إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وأخبره بالاخبر, فذهبوا إلى أطراف الجيش فوجدوا البرمة قد أكفئت على الدرع كما قال الرجل في المنام, وثابت بن قيس أوصى صاحبه بوصايا قال: أبلغها أبا بكر - رضي الله عنه -, فلما بلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصيته مع أنها كانت في المنام, لكن لها قرائن. قال أهل العلم: هذه أول وصية أنفذت من رؤيا صدق في المنام. في هذا الحديث - حديث الأذان -: الرؤيا حق بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن فوائد الحديث: أن الأذان الذي رآه عبد الله بن زيد بن عبد ربه ليس فيه ترجيع؛ الترجيع: هو أن يأتي بالشهادتين سرًا, ثم يأتي بهما جهرًا, وهذا الترجيع علمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة مؤذن مكة, لكن بلالًا مؤذن المدينة لم يؤمر به, فيكون من باب اختلاف الصفات في العبادة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي تأكيد الخبر إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكد الخبر «إنها لرؤيا حق» بمؤكدين إحداهما (إن) , والثانية (اللام). ثم قال: «وزاد أحمد في آخره قصة قول بلال في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم». هذه تقال في أذان الفجر خاصة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها بلالًا, قال: «إذا أذنت الأول لصلاة الفجر فقل: الصلاة خير من النوم» , فكان يقولها رضي الله عنه, وهذا كالتأكيد لقوله: «حي على الصلاة» , وإنما زيدت في أذان الفجر؛ لأن الغالب على الناس أن يناموا فزيدت هذه تأكيدًا, لكن متى تكون؟ تكون بعد «حي على الفلاح» لا بعد فراغ الأذان كما يدل عليه السياق في أحاديث أخرى لم يذكرها المؤلف رحمه الله, واعلم أن لفظ الحديث: «الأذان الأول لصلاة الصبح»؛ فتوهم بعض الناس أن المراد به: الأذان الأول الذي يكون في آخر الليل, فصاروا يؤذنون في آخر الليل ويقولون: «الصلاة خير من النوم» , فأخطئوا في الفهم, وأخطئوا في التطبيق؛ لأن الأذان الأول محترزه الإقامة, فإن الإقامة تسمى أذانًا, والأذان الذي قبل دخول الصبح ليس لصلاة الصبح كما صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «إن بلالًا يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم, فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم». فليس للصلاة؛ ولأن الأذان للصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم, وليؤمركم أكثركم قرآنًا» , فالأذان الذي يكون قبل الفجر ليس لصلاة الفجر, وهذا من الأشياء التي ننبه عليها دائمًا أن بعض الناس يفهمون من النصوص ما لا يراد بها, ولأمة تعمل على خلاف فهمهم, ثم ينفردون بهذا الفهم تطبيقيًا وعمليًا فيخالفون الناس, وهم معذورون؛ لأنهم مجتهدون, لكن لا يجوز التسرع فيما يخالف ما عليه الناس إلا بعد أن يتبين الحق تبينًا واضحًا, فحينئذٍ لابد من الحق. قوله: «الصلاة خير من النوم» هي مفيدة لكونها خيرًا من النوم, لكن هل خير من البيع والشراء والتجارة, إذن لما قال: «من النوم»؟ لمناسبة الحال؛ ولهذا قال الله تعالى في صلاة الجمعة: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم} [الجمعة: 9]. يعني: خير لكم من البيع فلكل مقام مقال.

171 - ولابن خزيمة: عن أنس رضي الله عنه قال: «من السنة إذا قال المؤذن في الفجر: حي على الفلاح, قال: الصلاة خير من النوم». هذا بيان لموضوعها, وقد ذكرناه أن يكون بعد قوله: «حي على الفلاح». 172 - وعن أبي محذورة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان, فذكر فيه الترجيع». أخرجه مسلم. ولكن ذكر التكبير في أوله مرتين فقط. رواه الخمسة فذكروه مربعًا. الترجيع: هو أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله بصوت منخفض, ثم يقولها بصوت مرتفع هذا الترجيع. وأبو محذورة رضي الله عنه كان مؤذنًا في مكة علمه الأذان فذكر فيه الترجيع, لكن ذكر التكبير في أوله مرتين, هذا رواية مسلم, ولكن الخمسة ذكروه مربعًا, فهل نأخذ برواية الخمسة؛ لأن معهم زيادة علم, أو نأخذ برواية مسلم؟ نقول: ما دامت الزيادة صحيحة فإننا نأخذ بها, ثم إنها أيضًا مطابقة لحديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه فيكون ذلك مرجحًا, وعلى ذلك فيحمل ما رواه مسلم بأنه علمه الأذان والتكبير في أوله مرتين على أن أحد الرواة نسي فذكر مرتين كم يكون الأذان إذا كان فيه الترجيع؟ تسع عشرة؛ لأنه سيذكر أشهد أن لا إله إلا الله أربع مرات, وأشهد أن محمدًا رسول الله أربع مرات فيكون تسع عشرة جملة. 173 - وعن أنس رضي الله عنه قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان شفعًا, ويوتر الإقامة إلا الإقامة, يعني: إلا قد قامت الصلاة». متفق عليه, ولم يذكر مسلم الاستثناء. «أمر بلال» الآمر له النبي صلى الله عليه وسلم, والصحابي إذا قال: أمر, أو أمرنا, أو أمر الناس, فالآمر الرسول صلى الله عليه وسلم, وهذا يسمى عند أهل المصطلح: مرفوعًا حكمًا. فإن قال قائل: إذا كان الآمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - فلماذا يعبر الصحابي بقوله: «أمر»؛ لماذا لم يقل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشفعوا الأذان؟ الجواب: أن الصحابي قد لا يستحضر لفظ الأمر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أمر, أو أمرنا, أو ما أشبه ذلك. فإن قال قائل: أفلا يجوز أن يفهم الصحابي ما ليس بأمرٍ أمرًا؟

الجواب: هذا بعيد من وجهين: الوجه الأول: أن الصحابة أعلم الناس بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني: أن الصحابة أورع الناس, فلا يمكن أن يجزم بأن الرسول أمر, أو أن الناس أمروا إلا عن يقين, وبهذا بطل قول من يقول: إن ما صدر بلفظ أمر, أو أمرنا, أو ما أشبه ذلك لا يدل على الأمر لاحتمال أن الصحابي رضي الله عنه فهم ما ليس بأمرٍ أمرًا, فيقال: هذا بعيد للوجهين اللذين ذكرناهما, وقوله: «أمر بلال»؛ لأنه المؤذن لا لاسمه وعينه, بل لوصفه, «أن يشفع الأذان شفعًا»؛ الأذان عند النهاية وتر لكن باعتبار جمله شفع: «الله أكبر أربع مرات» , الشهادتان, الحيعلتان, التكبير في آخر شفع, لكن إذا أردت أن تعتبر الأذان بجميع جمله فهو وتر, لكن كل جملة وحدها تشفع, لكن ختم بـ «لا إله إلا الله» وترًا؛ لأن غالب الشريعة كلها وتر تقطع على وتر, الصلاة وتر, والصيام وتر, والحج, وجميع العبادات كلها مقطوعة على وتر, الصلاة وتر في أول النهار وآخره, ما وترها في أول النهار؟ أول النهار آخر الليل؛ يعني: وترها الوتر المعروف, ووترها في الليل المغرب؛ الصيام وتر لأنه شهر واحد, الحج وتر يوم عرفة يوم واحد, يوم النحر يوم واحد, أيام التشريق ثلاثة إلا من تعجل فقد رخص الله له, وهلم جرا. فختم الأذان بـ «لا إله إلا الله» ليكون وترًا. ويقول: «ويوتر الإقامة إلا الإقامة». «يوتر الإقامة» أي: يجعلها وترًا, فإذا أخذنا بظاهر الحديث صارت الإقامة هكذا: «الله أكبر, أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أن محمدًا رسول الله, حي على الصلاة, حي على الفلاح, قد قامت الصلاة, قد قامت الصلاة - لأنه قال: «إلا الإقامة» - الله أكبر الله أكبر, لا إله إلا الله» كم يكون؟ تسع جمل, وبهذا أخذ كثير من العلماء قال: إن هذا ظاهر الحديث, وليس لنا أن نخالف الظاهر إلا بدليل, ولكن الجمهور على خلاف ذلك, قالوا: إن إيتاره باعتبار جمل الأذان, فمثلًا تكبير الأذان أربعًا إذا أخذنا ثنتين فهي نصف الأربع فيكون التكبير في أوله مرتين, لكن يبقى إشكال آخر التكبير في آخر الإقامة ثنتين, وفي آخر الأذان مرتين, هذا مشكل, لكن من قال: إن هذا الحديث مشكل فنحمله على الواضح وهو حديث بلال فإنه ذكر فيه الإقامة هكذا: «الله أكبر الله أكبر في أولها, الله أكبر الله أكبر في آخرها» , وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء أن الإقامة - كما تعرفون الآن - يكبر لها مرتين في أولها ومرتين في آخرها, وقوله: «إلا قد قامت الصلاة» فسرها الراوي بقوله: «يعني: إلا قد قامت» لئلا يكون فيه تناقض «يوتر الإقامة إلا الإقامة» , فبين أن الإقامة الثانية غير الإقامة الأولى, الإقامة الأولى هي جميع الإقامة الذكر المشروع كله, والثانية: هي قد قامت الصلاة, وقوله: «قد قامت الصلاة» يريد بها: الصلاة الحاضرة لا شك ليس جميع الصلوات كما قلنا في قوله: «حي على الصلاة».

ففي هذا الحديث دليل على فوائد منها: أن أذان بلال مشروع بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: «أمر بلال». ومنها: عظم شأن النبي صلى الله عليه وسلم لدى الصحابة, وأنه هو الآمر الناهي عندهم؛ بحيث لا يفهم من «أمر» إلا أن الآمر الرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها: الفرق بين الأذان والإقامة, فإن جمل الأذان أكثر من الإقامة؛ لأن الإقامة تكون غالبًا للناس وقد حضروا, والأذان للناس وهم في بيوتهم, وإنما قلنا: لأن الإقامة غالبًا قد تكون إقامة لمن ليس في المسجد بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة». ومن الفروق بين الأذان والإقامة أن الأذان يترسل فيه المؤذن؛ لأنه ينادى للبعيد فيترسل, والإقامة يحدرها - يعني: يسرع فيها - لأن الإقامة غالبًا تكون للقريب. ومنها: مشروعية قوله: «قد قامت الصلاة». فإن قال قائل: هل هذه الجملة تأكيد لقوله: «حي على الصلاة»؟ قلنا: لا؛ لأن «حي على الصلاة» مع كونهم حاضرين يريد به الصلاة المعنوية؛ بمعنى: قلنا: لا؛ لأن «حي على الصلاة» مع كونهم حاضرين يريد به الصلاة المعنوية؛ بمعنى: أقبلوا على الصلاة بقلوبكم, كما أنتم حاضرون بأجسادكم, وأما «قد قامت الصلاة» فهي إشعار بالقيام إليها؛ ولذلك اختلف العلماء - رحمهم الله - هل يشرع للمأموم أن يقوم إذا كان جالسًا من حين أن يشرع في الإقامة, أو إذا قال: «حي على الصلاة» , أو إذا قال: «قد قامت الصلاة» , أو إذا كبر الإمام تكبيرة الإحرام؟ على خلاف, لكن الأمر في هذا واحد, المهم ألا يقوموا حتى يروا الإمام قد جاء ليصلي, سواء قام عند أول الإقامة أو عند قوله: «حي على الصلاة» , أو عند قوله: «قد قامت الصلاة» , أو عند قول الإمام: «الله أكبر» لكن الأخير أضعفها؛ لماذا؟ لأنه قد تفوته تكبيرة الإحرام, بل ينبغي أن يتهيأ قبل ذلك. 174 - وللنسائي: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا». وهذه الرواية تفيد بيان الآمر في قوله: «أمر بلال». أسئلة: - ما هو الترجيع في الأذان؟ - هل يقدم الترجيع أو عدمه؟ - ما معنى أن يشفع الأذان؟ -

يستثنى شيئًا في الإقامة ما هو؟ * نرجع لحديث أنس الماضي: من فوائد حديث أنس: أن الفعل المبني للمجهول فيما يكون أمرًا أو نهيًا إذا قاله الصحابي فيعني به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي له الأمر والنهي, فإذا سمعت في حديث عن الصحابي «أمر الناس»؛ فالآمر هو الرسول صلى الله عليه وسلم, إذا سمعت: «أمرنا» فالآمر هو الرسول صلى الله عليه وسلم «نهينا» فالناهي هو الرسول - عليه الصلاة والسلام - ... وهكذا. إذا قال قائل: ما حكم هذا؟ نقول: حكمة الرفع, ما دمنا نقول: إن الآمر والناهي هو الرسول فحكمه الرفع, يعني: كأنه قال: أمر رسول الله, أو نهى رسول الله. فإن قال قائل: لماذا يعبر الصحابي بهذا اللفظ المبني لما لم يسم فاعله مع إمكانه أن يعبر بالفعل المبني للفاعل؟ قلنا: لعله نسي كيفية الصيغة ولكنه حفظ المعنى. من فوائد هذا الحديث: أن الأذان يشفع لقوله: «أن يشفع الأذان» وهو ك ذلك, الأذان التكبير في أوله أربع, أو اثنتان على حسب ما جاءت به السنة, الشهادة اثنتان, والشهادة بالرسالة اثنتان, والحيعلتان اثنتان اثنتان, والتكبير في آخره اثنتان, والتشهد واحد, وهذا بالاتفاق؛ لأنها كلمة يختم بها الأذان ليكون وترًا كما هو الغالب في العبادات أنها وتر. ومن فوائد الحديث: أن الإقامة تكون وترًا, ولكن كيف تكون وترًا إذا أخذنا بظاهر الحديث فهي على النحو التالي: «الله أكبر, أشهد أن لا إله إلا الله, أشهد أن محمدًا رسول الله, حي على الصلاة, حي على الفلاح, قد قامت الصلاة, قد قامت الصلاة - يعني: مستثنى -, الله أكبر, لا إله إلا الله» فتكون تسع جمل, وإلى هذا ذهب كثير من المحدثين وقالوا: إنها توتر على مقتضى هذا اللفظ, ولكن هذا أحد صفاتها في الحقيقة, ومن صفاتها أن تشفع في التكبير أولًا, وتشفع في التكبير آخرًا, وتشفع الإقامة فتكون شفعًا وتكون وترًا, الغالب عليها الوتر؛ لأن الشهادتين وتر, والحيعلتين وتر, وكلمة الإخلاص في آخرها وتر, فالغالب عليها الوتر, فالاحتمال الأول هو ظاهر اللفظ, والاحتمال الثاني يمكن أن اللفظ يحتمله, ويقال: إنه لما كان أغلبها وترًا صح أن يقال: ويوتر الإقامة. ومن فوائد هذا الحديث: مراعاة الحال في التشريع في الأذان, يشفع لتكثر جمله, حتى يتسنى لمن لم يسمع أوله أن يسمع آخره, كذلك في الأذان يتأتى ويترسل فيه ويكون على مكان عال, أما في الإقامة فعلى العكس والفرق واضح؛ لأن الإقامة إنما هي لأقوام حاضرين -

يعني: في الغالب -, وإلا فقد يسمعها من كان خارجًا فلذلك صارت وترًا وصارت تحدر, ولا يترسل فيها, وصارت أخفض صوتًا من الأذان, ودعونا من حالنا الحاضرة, حالنا الحاضرة الآن يؤذن الناس في المنابر ويقيمون كذلك. إذن نأخذ فائدة: وهي مراعاة الحال في التشريع, وهذه القاعدة لها فروع كثيرة لما حرمت الخمر, وكان الناس قد ألفوها, هل حرمت عليهم جزمًا من أول الأمر؟ لا, ولكنها بالتدريج, كذلك أيضًا في الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين في الحضر وفي السفر, ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر الظهر صارت أربعًا, والعصر والعشاء, وإذا تأملت وجدت أمثلة كثيرة لهذا, بل لو قلنا: كل الشرائع فيها مراعاة كما قال الله عز وجل: {لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا} [المائدة: 48]. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي الإيضاح فيما إذا حصل اشتباه ولو من بعيد؛ لقوله: «يوتر الإقامة إلا الإقامة» يعني: قد قامت الصلاة؛ لأننا لو أخذنا بالظاهر «إلا الإقامة» لكان يظن الظان أن تناقض, ولكنه بين بأن المراد: قد قامت الصلاة. هذه الفوائد الفقهية. الفوائد الحديثية: أنه إذا اختلف الشيخان البخاري ومسلم في كلمة, إذا كان المعنى واحدًا فلا حاجة أن ننص على الاختلاف, لاسيما على القول الراجح بجواز رواية الحديث بالمعنى, وإذا كان بزيادة أو نقص فلابد أن يتبين لئلا يظن السامع أو القارئ أن هذا لفظهما جميعًا؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: «ولم يذكر مسلم الاستثناء». ومن فوائد هذا الحديث: الفرق بين «أمر» , و «أمر النبي»؛ لأن الأول مبني لما لم يسم فاعله, ولولا علمنا بحال الصحابة وبأن الآمر والناهي عندهم هو الرسول لقلنا: إن «أمر» مبني لما لم يسم فاعله, فلا ندري من الذي أمر بلالًا أهو الرسول أو أبو بكر, أما إذا جاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلالًا صار الأمر واضحًا؛ لأنه بني لما سمي فاعله. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي أن يختار للأذان من هو أندى صوتًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار بلالًا لأنه كذلك, فينبغي أن يكون المؤذن ندي الصوت - يعني: رفيع الصوت بنداوة -؛ لأن بعض الناس يكون رفيع الصوت لكن تجد صوته دقيقًا جدًا, لكن يكون بنداوة, بعض الناس صوته رفيع لكن يكون غليظًا, فيكون الصوت نديًا - أي رفيعًا - ينادي السماع. فإن قال قائل: وهل يشترط أن يكون المؤذن عالمًا بالعربية؟ فالجواب: لا, إذا الأذان على وجه ليس فيه لحن يحيل المعنى كفى, أما إذا كان لحنا يحيل المعنى فإنه لا يصح أذانه, فإذا قال: «الله أكبر» لم يصح الأذان؛ لأن الجملة تتحول من خبرية إلى استفهامية, وإذا قال: «الله أكبر» لا يصح أيضًا؛ لأن (أكبار) على وزن (أسباب) مفردها

كيفية الأذان

كبر كسبب, والكبر هو: الطبل, فإذا مد الباء تغير المعنى بلا شك فلا يصح, وإذا قال: «الله آكبر»؛ لا يصح؛ لأنه أدخل الاستفهام على خبر المبتدأ الله هو أكبر, وهذا لا يستقيم, أما إذا نصب الجزأين في «أشهد أن محمدًا رسول الله» , فإننا وجدنا أن في ذلك لغة عربية, وهذا يقع من كثير من المؤذنين بأن يقول: «أشهد أن محمدًا رسول الله» , فعلى هذه اللغة يكون الأذان ليس فيه لحن, وهذا هو الذي ينبغي أن يفتى به, نظرًا لأننا لو ألزمنا المؤذنين بأن يضموا كلمة «رسول» لوجدنا كثيرًا منهم يخل بذلك, وما دام له وجه في اللغة العربية فالذي ينبغي أن يفتى بصحته, كذلك لو أبدل الهمزة فقال: «الله أكبر» , فإن ذلك سائغ لغة فيصح في الأذان, ثم قال: كيفية الأذان: 175 - وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: «رأيت بلالًا يؤذن وأتتبع فاه هاهنا وهاهنا, وإصبعاه في أذنيه». رواه أحمد, والترمذي وصححه. - ولابن ماجه: «وجعل إصبعية في أذنيه». ولأبي داود: «لوى عنقه, لما بلغ حي على الصلاة يمينًا وشمالًا ولم يستدر». وأصله في الصحيحين. أصله في الصحيحين بألفاظ متقاربة, يقول أبو جحيفة: «رأيت بلالًا يؤذن وأتتبع فاه» هذا كان في حجة الوداع فيما يظهر, فرآه يؤذن و «يتتبع فاه» يعني: بالنظر إليه, و «فاه» بمعنى: فمه, وفيها لغتان فصيحتان, فم: بالميم, وعلى هذه اللغة تكون معربة بالحركات, والثاني: بحذف الميم, وعلى هذه اللغة تكون معربة بالحروف, فإذا قلت: هذا فمه, فاللغة صحيحة, وهو معرب بالحركات, وإذا حذفت الميم أعربته بالحروف, فقلت: هذا فوه, أيهما أشهر؟ الأشهر: أن تعرب بالحروف. «أتتبع فاه هاهنا وهاهنا» , في رواية الصحيحين: «يلتفت يمينًا وشمالًا» , وهو أيضًا كذلك في رواية أبي داود, وقوله: «وإصبعاه في أذنيه» الجملة حالية, أي: والحال أن أصبعية في أذنيه, والمراد بالأصبعين هنا: السبابتان, وإنما وضعهما في أذنيه؛ لأنه أرفع للصوت, فإن الصوت إذا انسدت مخارج الأذنين صار له مخرج واحد, فصار أعلى وأرفع, وإذا كانت الأذنان مفتوحتين فإنه يضعف الصوت, فتكون الحكمة في جعل أصبعية في أذنيه هو زيادة ارتفاع الصوت, وفي هذا التعبير «إصبعاه في أذنيه» ما مر علينا في البلاغة من إطلاق الكل وإرادة الجزء؛ لأنه لم

يجعل الأصبعين كليهما في الأذن, ولكن يدخل بعضهما, والهمزة والباء مثلثتان - يعني: يجوز فيهما الضم والفتح والكسر -, فيكون اللغات تسعًا من ضرب ثلاثة في ثلاثة؛ ولهذا لا أحد يلحن بالنسبة للتصريف في «إصبع». ولابن ماجه: «وجعل إصبعيه في أذنيه». ولا فرق بين هذه وهذه فيما يظهر, إلا أن هذه صريحة في أنه جعلهما, والأولى جملة حالية كما سبق. ولأبي داود: «لوى عنقه لما بلغ حي على الصلاة يمينًا وشمالًا ولم يستدر» لوى عنقه عند الحيعلتين يمينًا وشمالًا, لكن هل يفهم من الحديث أنه جعل اليمين لـ «حي على الصلاة» في الجملتين, والشمال «حي على الفلاح» في الجملتين, أو أنه قال: «حي على الصلاة» يمينًا, ثم «حي على الصلاة» شمالًا, ثم «حي على الفلاح» يمينًا, ثم «حي على الفلاح شمالًا»؟ في هذا رأيان لشراح الحديث: فمنهم من قال: إن معناه أنه قال: حي على الصلاة يمينًا في الجملتين, حي على الفلاح شمالًا في الجملتين. ومنهم من قال: جعل لكل جهة حظا من حي على الصلاة, ومن حي على الفلاح, فعلى هذا المعنى يكون القول بأنه وزعهما أقوى, أما الأول: فربما يؤيده قوله: «لما بلغ حي على الصلاة يمينًا وشمالًا» على الترتيب, فيكون حي على الصلاة يمينًا في الجملتين, وحي على الفلاح شمالًا في الجملتين, والعمل على هذا, والحكمة من ذلك: ليكون النداء إلى الصلاة وإلى الفلاح من الجهتين اليمين والشمال. * في هذا الحديث من الفوائد: أولًا: حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على معرفة السنة في كيفية الأذان, من أين يؤخذ؟ من تتبع أبي جحيفة لأذان بلال, ويتفرع على هذا أنه ينبغي أن يتتبع الإنسان صفة العبادة ممن له علم بها وتطبق, يعني مثلًا: رأيت عالمًا يصلي تتبع صلاته حتى تأخذ بها, إذا علمنا أن الرجل حريص على تطبيق السنة, كذلك رأيناه في الطواف, في السعي, الوقوف يفعل شيئًا - وهو ممن يوثق بعلمه ودينه - فإننا نتبعه. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية الالتفات يمينًا وشمالًا في «حي على الصلاة, وحي على الفلاح» على الوجهين اللذين ذكرناهما, لكن هل هذا الحكم باقٍ إلى الآن؟ الظاهر: لا يجب الالتفات الآن, أعني بالآن: أن الناس يؤذنون بمكبر الصوت, بل إنه لو التفت يمينًا وشمالًا عن مقابلة اللاقط لانخفض الصوت؛ لذلك نقول: لا يلتفت, لكن ينبغي في تركيب

السماعات في المنارة أن يراعى هذا, أن تكون واحدة في اليمين وواحدة في الشمال إذا لم يمكن أن توزع السماعات على الجهات الأربع. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يسن وضع الأصبعين في الأذنين عند الأذان من أوله إلى آخره, وهل السنة باقية إلى الآن؟ نعم, ما دمنا نقول: إن العلة في ذلك علو الصوت وانحساره بخروجه من الفم, فنقول: هذه العلة موجودة الآن حتى إذا أذن بمكبر الصوت. ومن فوائد هذا الحديث: أن الالتفات إنما يكون في العنق فقط ولا يستدير بمعنى: أنه لا يلتفت بجميع بدونه ولا يستدير إذا كان في منارة, وكانت المنارات يجعل لها حوضًا محيطًا بها, ويؤذن المؤذن في الحوض الذي من جهة القبلة, ويكون عنق المنارة مانعًا من سماعه بالنسبة لمن كان خلف القبلة, فكان بعضهم يقول: إذا كان في منارة فإنه يستدير من أجل أن يسمع كل من حول المنارة صوت المؤذن, لكن الصواب أنه لا يستدير حتى في المنارة. 176 - وعن أبي محذورة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه صوته, فعلمه الأذان». رواه ابن خزيمة. «أعجبه» أي: استحسنه, والإعجاب يأتي بمعنى الاستحسان, ومنه قول عائشة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره, وفي شأنه كله». فعلمه الأذان, لماذا علمه؟ ليؤذن. ففي هذا فوائد: أولًا: اختيار الصوت الحسن للأذان. ثانيًا: أنه ينبغي لولي الأمر أن يعلم المؤذنين كيف يؤذنون, إما على وجه الدورات؛ يعني: يجعل دورات في كل بلد لمدة أسبوع, أو أسبوعين, أو شهرًا, أو شهرين, حسب ما تقتضيه الحاجة, وجهة قوله: «فعلمه الأذان» ولم يقتصر على أن يسمع أبو محذورة الأذان من بلال, بل علمه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه. ومن فوائد الحديث: أنه لا غضاضة على الإمام الأعظم في تعليم عامة الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذان بنفسه, لا يترفع ويقول: اجعل واحدًا من الناس يعلم بل يعلم هو بنفسه اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم واحتسابًا للأجر, لأن الإنسان إذا علم غيره شيئًا من الشريعة وعمل به صار له أجر من علمه.

لا يشرع الأذان ولا الإقامة لصلاة العيد

أسئلة: - هل يشرع التفات المؤذن الآن؟ - هل لحسن الصوت أن يكون أولى بالأذان؟ - لو كان مؤذنًا راتبًا ورأينا مؤذنا حسن الصوت, فهل نعزل الراتب من أجل حسن الصوت؟ لا يشرع الأذان ولا الإقامة لصلاة العيد: 177 - وعن جابر بن سمرة قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيدين, غير مرةٍ ولا مرتين, بغير أذانٍ ولا إقامةٍ». رواه مسلم. 178 - ونحوه في المتفق عليه, عن ابن عباس رضي الله عنهم وغيره. قوله: «صليت مع النبي» المعية هنا تقتضي الاجتماع في المكان, وقوله: «العيدين» يعني بهما: عيد الفطر, وعيد الأضحى, وقوله: «غير مرة ولا مرتين» يعني: أكثر من ذلك فيكون أقله ثلاثة, يقول: «بغير أذان ولا إقامة» بغير أذان لدخول وقت صلاة العيدين, وهو ارتفاع الشمس قيد رمح, «ولا إقامة» عند فعل الصلاة, بل كان - عليه الصلاة والسلام - إذا دخل إلى المسجد دخل في الصلاة فورًا. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية صلاة الجماعة في العيدين لقوله: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم» , وهل الجماعة شرط لصحة صلاة العيد أو لا؟ في هذا خلاف بين أآهل العلم, فمنهم من قال: إنها شرط لصحة صلاة العيد, بمعنى: أن الإنسان لو فاتته صلاة العيد لم يشرع له فضاؤها, وهذا هو القول الراجح؛ أن صلاة العيد شرعت على هذا الوجه, فإذا فاتت الإنسان فلا يصليها؛ لأنها شرعت على وجه معين, ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقضائها؛ ولا أن أحدًا من الصحابة قضاها, فلتبقى على هذا الوجه. فإن قال قائل: أليست صلاة الجمعة شرعت على وجه يخالف بقية الصلوات, ومع ذلك إذا فاتته صلى بدلها الظهر؟ قلنا: بلى, لكن لأن الظهر فيه فرض الوقت, فإذا تعذر صلاة الجمعة صار بدلها فرض الوقت فيصلي الظهر.

فإن قال قائل: الأقيس؟ قلنا: لا قياس في العبادات. وثانيًا: ماذا نقيس! صلاة العيد ليس لها بدل. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يشرع الأذان ولا الإقامة لصلاة العيدين؛ لأن النبي صلى الله عليه سلم لم يفعل ذلك, ولو كان هذا من شرع الله لفعله أو أمر به. ومنها: الاستدلال بترك النبي صلى الله عليه وسلم للشيء مع وجود سببه, وأنه إذا ترك الشيء مع وجود سببه, كان ذلك دليلًا على غير مشروعيته, وهذه فائدة مهمة: «كل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشرع فيه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فإحداث شيء له يعتبر بدعة». وهذه قاعدة تنفعك ولها فروع كثيرة: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته فأول ما يبدأ به السواك. لو قال قائل: فإذا دخلنا المسجد هل تشرع البداءة بالسواك؛ لأن بيت الله أعز من بيت الإنسان؟ فالجواب: لا يشرع للإنسان إذا دخل المسجد أن يتسوك, فإذا قال: أقيس ذلك على دخول البيت؟ قلنا: لا قياس في العبادات, والسبب مختلف, هذا دخول مسجد, وهذا دخول بيت, ثم نقول: لو كان هذا مشروعًا - أي: السواك - عند دخول المسجد لفعله النبي صلى الله عليه وسلم لأن السبب موجود, فهذا الحديث - حديث جابر - يستدل به على هذه القاعدة العظيمة: «كل ما وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله, ففعله بدعة». هل يمكن أن نقول: كذلك الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ نعم نقول هذا, نقول: الاحتفال بدعة بلا شك؛ لماذا؟ لأن سببه موجود في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولم يفعله, فهل الرسول لا يعلم أنه سنة, أو يعلم ولم يبينه؟ كلا الأمرين محال, محال أن يدخر الله علم هذا لمن يأتي بعد أربعمائة سنة ويحجبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين, ومن المحال أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم علمه ولم يبينه لأمته. ومن فوائد هذا الحديث: الرد على من قال من الفقهاء - رحمهم الله -: إنه ينادى للعيدين بقول: الصلاة جامعة, وجه ذلك: أن جابرًا نفى الأذان والإقامة ولم يذكر الصلاة جامعة. فإن قال قائل: ألا يصح قياسهما على صلاة الكسوف, فقد نادى لها رسول الله - عليه الصلاة والسلام -؟ قلنا: لا يصح, لا قياس في العبادات مع اختلاف السبب, وما سبب صلاة الكسوف؟

الكسوف, وما سبب صلاة العيدين؟ العيد, فلا يمكن أن نقيس هذا على هذا؛ لأن هذه العبارة يا إخوان: «لا قياس في العبادات» أحيانًا يجدها الإنسان مضطربة, لكن إذا ضبطها لم تكن مضطربة, الفقهاء قالوا: يجب على من اغتسل للجنابة أن يسمي قياسًا على الوضوء, ويجب على من تيمم عن حدث أصغر وأكبر أن يسمي قياس الفرع على الأصل, هذا وإن قلنا به فإنه لا ينافي قولنا: لا قياس في العبادات؛ لأن السبب واحد وهو الحدث في الوضوء وفي الجنابة وكذلك في التيمم عن الوضوء وعن الجنابة. فإن قال قائل: لو وقع العيدان والناس لم يستعدوا لهما وهذا يقع كثيرًا في عيد الفطر بمعنى: أنه لا يثبت دخول شهر شوال إلا في الصباح كيف نعلم الناس؟ أقرب شيء أن يطاف في الأسواق ويقول: أيها الناس, قد ثبت دخول الشهر فاخرجوا إلى المصلى, وإذا كان في وقت لا يمكن أداء الصلاة فليقل: أيها الناس, قد ثبت دخول الشهر فاخرجوا غدا إلى المصلى؛ لأن صلاة العيد لا تقضى إلا في نظير وقتها, وهذا حدث عندنا قبل سنوات لم نعلم إلا قبيل الزوال, كل الناس أفطروا لأنه ثبت أن اليوم عيد, لكن يريدون أن يخرجوا من اليوم الثاني ويصلوا في المصلى. قال: «ونحوه في المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره» , «نحوه» يعني: مثله. «في المتفق عليه» يعني: في الصحيحين. 179 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه في الحديث الطويل في نومهم عن الصلاة: «ثم أذن بلال, فصلى النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يصنع كل يوم». رواه مسلم. يعني: حتى في الأذان والإقامة, والقصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في سفر, وكان صلى الله عليه وسلم يحب السير في الليل وبحث على ذلك, ويقول: «استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة, والقصد القصد تبلغوا». فناموا في آخر الليل, وتعرفون أن الإنسان إذا كان مرهقًا ونام في آخر الليل - ولا سيما إذا كان الجو ملائما - فإنه سوف يستغرق في النوم كثيرًا, فقال: «من يرقب لنا الفجر؟ » فقال بلال: أنا, يعني: من يراقب؟ فنام النبي - عليه الصلاة والسلام -, ونام الصحابة, ونام بلال ولم يستيقظ, ما أوقظهم إلا حر الشمس بعد أن طلعت الشمس وارتفعت, فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرتحلوا من مكانهم هذا, وقال: «إنه مكان حضرنا فيه الشيطان» , ثم نزل وصلى كما كان يصلي كل يوم, أذن بلال, وصلوا الراتبة وصلوا الفريضة, ومقتضى قوله: «كل يوم» أنه جهر بها. هذا مختصر القصة.

نقول: في هذا الحديث فوائد: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يأخذه النوم كما يأخذ غيره من البشر, وهذا واضح. فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ فالجواب: بلى, فهل يعارض هذا الحديث؟ الجواب: لا, لا يعارضه؛ لأن عيناه نائمة, والفجر يدرك بماذا: بالقلب أو بالعين؟ بالعين, فلا ينافي الحديث. ومنها: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يوبخ بلالًا الذي التزم أن يرقب الفجر لهم, بل سأله, فقال: يا رسول الله, أخذني الذي أخذكم - يعني: النوم - فسكت النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: أنه ينبغي إذا نام جماعة في مكان أن يرتحلوا عنه؛ لأن الشيطان حضرهم, انتبهوا لهذه الفائدة: هل نسلم لهذه الفائدة أو لا نسلم؟ فقد يقال: نسلم لهذه الفائدة, وأنهم إذا كانوا جماعة في سفر أو في بيت وحدهم, ثم ناموا حتى طلع الفجر فإنهم يصلون في مكان آخر, إذا كانوا في غرفة في البيت يصلون في غرفة أخرى. وقد يقال: إنه ليس بمشروع, بل يصلون في مكانهم؛ لأن هذا من أمور الغيب, ولا ندري أيحضر الشيطان في غير هذه الواقعة أو لا يحضر. أو نقول: إن هذه قضية خاصة بالرسول - عليه الصلاة والسلام - اطلع بأن الشيطان حضرهم فأمر أن يرتحلوا عنه؟ فيه احتمال, وقد يؤيد الأول أنه حضرهم الشيطان, أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل نام حتى أصبح ولم يصل الفجر فقال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنه». يعني: فأقعده عن صلاة الفجر, فالله أعلم, يعني: أنا متردد في أن تكون هذه قضية عن علمها الرسول صلى الله عليه وسلم, وقد لا تحصل لغيره, وقد يقال في العموم, ولكن إذا قلنا بهذا أو هذا, فإذا كان لا يشق عليهم أن يرتحلوا, فالأولى أن يرتحلوا ولو لم يكن في ذلك إلا التذكير بهذه الواقعة التي وقعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان هذا خيرًا. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا فاتت الصلاة بنوم فإنه لا يسقط الأذان لها, هذا إذا كانوا جماعة ولم يؤذن, أما إذا كانوا في البلد فأذان البلد كافٍ. ومن الفوائد ما سبقت الإشارة إليه: أن الأذان إنما هو للإعلام بفعل الصلاة بالوقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان هنا. ومن الفوائد: فعل الرواتب إذا فاتت مع الفرائض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الراتبة ثم صلى

الفريضة, وهذا فيما إذا لم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس, لكن أرأيتم إذا استيقظ قبيل طلوع الشمس وتوضأ, ثم لم يبق على طلوعها إلا مقدار ركعتين, فهل يصلي الراتبة أو الفريضة؟ يصلي الراتبة أولًا, ثم يصلي الفريضة ولو خرج الوقت, لماذا؟ لأن وقت صلاة الفريضة في حق النائم: إذا استيقظ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها, لا كفارة لها إلا ذلك». لكن إذا قال قائل: إذا ضاق الوقت فلدينا فريضة ونافلة؟ نقول: الوقت لم يضق في حق النائم؛ ولهذا نأمره أن يتوضأ بالماء, وأن يغتسل بالماء ولو خرج الوقت, لا نقول: تيمم لئلا يخرج الوقت. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا قضيت صلاة الليل في النهار فإنها تصلى جهرًا لقوله: «كما كان يصنع كل يوم» , والعكس لو نام عن صلاة النهار ولم يستيقظ إلا في الليل فهل يجهر أو يسر؟ يسر, والدليل على هذا من السنة: القول والفعل, يعني: فيها سنة قولية وفعلية, أما القولية: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها». هذا الضمير يعود على فعل الصلاة وكيفيتها «فليصلها إذا ذكرها». وهذا الحديث نستفيد منه فائدة: وهو ما إذا نسي صلاة حضر وصلاها في السفر كم يصليها؟ أربعًا, وإذا نسي صلاة سفر وصلاها في الحضر لقوله: «فليصلها». ومن فوائد الحديث: مشروعية الجماعة في المقضية؛ يعني: إذا فات الوقت وقام الإنسان من النوم أو تذكر إن كان ناسيًا وهم جماعة فإنهم يصلون جميعًا, وهل يصلون جميعًا وجوبًا أو استحبابًا؟ الفقهاء: استحبابًا, والظاهر لي: أنه وجوبًا؛ لأنه لا دليل على سقوط الجماعة في هذه الحال, ومنها مشروعية الأذان والإقامة في المقضية. 180 - وله عن جابر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين». 181 - وله عن ابن عمر رضي الله عنهما: «جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بإقامةٍ واحدةٍ». وزاد أبو داود: «لكل صلاةٍ». وفي رواية له: «ولم يناد في واحدة منهما».

حكم أذان الأعمى: 182 - وعن ابن عمر, وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بلالًا يؤذن بليل, فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم». وكان رجلًا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت, أصبحت. متفق عليه. وفي آخره إدراج. من فوائد هذا الحديث: جواز أذان الأعمى, وجهه: أن عبدالله بن أم مكتوم أعمى ومع ذلك جعله الرسول صلى الله عليه وسلم مؤذنًا, لكن بشرط أن يكون عنده معرفة للوقت إما بنفسه وإما بغيره, ابن أم مكتوم عنده معرفة للوقت بنفسه أو بغيره؟ بغيره, وأما أن نرسل مؤذنًا أعمى لا يعرف الوقت بنفسه ولا عنده من يخبره به فلا يجوز؛ لأنه من شرط المؤذن أن يكون عالمًا بالوقت. ومن فوائد هذا الحديث: جواز اعتماد المؤذن على خبر غير لقوله: «وكان رجلًا أعمى لا يؤذن حتى يقال: أصبحت أصبحت» , لكن بشرط أن يكون هذا الغير موثوقًا بأن يعرف الأوقات, وليس كذوبًا, بل هو موثوق به من حيث الصدق ومن حيث الخبرة. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الأكل والشرب للصائم حتى يتبين الفجر ويتضح, نأخذه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» , وهذا هو مدلول القرآن الكريم؛ لقوله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187]. وهذا يدل على أنه لا يجوز العمل بالحساب, لأن الله قال: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} , وإذا كان لا يجوز أن نعمل بالحساب في دخول وقت الشهر, فكذلك لا يجوز أن نعمل بالحساب في دخول وقت النهار؛ لأن دخول الشهر به يكون الصوم والإفطار, دخول النهار أو دخول الليل يكون به الإمساك والإفطار, أما المغرب فأمره ظاهر؛ لأنه مقيد بغروب الشمس, وهو علامة ظاهرة معروفة, أما الفجر فهو خفي؛ ولهذا إذا اختلف عليك حسابان من خبيرين أحدهما يقول: يطلع الفجر الساعة التاسعة, والثاني يقول: الساعة التاسعة والنصف, فبماذا تأخذ؟ تأخذ بالثاني. أسئلة: - إذا جمع بين صلاتين, كيف يكون الأذان والإقامة؟ - إذا اتخذ مؤذنان في مسجد واحد؟ - هل يجب قبول خبر الواحد في الإعلام بالوقت؟

183 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: «إن بلالًا أذن قبل الفجر, فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع, فينادي: ألا إن العبد نام». رواه أبو داود وضعفه. الحديث - كما قال أبو داود - ضعيف, لكن على تقدير صحته معناه: أن بلالًا رضي الله عنه أذن قبل الفجر, ومعلوم أنه إذا أذن قبل الفجر فسوف يغتر الناس بأذانه, فإن كانوا صومًا امتنعوا عن الأكل والشرب, وإذا كانوا غير صوم صلوا الصلاة لغير وقتها, فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع ويعلم الناس أنه أخطأ, وهذا مفهوم من قوله: «ألا إن العبد» - يعني: نفسه بلالًا - يعني: أنه غلبه النوم, وقام ولم يتحر الوقت, وليس على ظاهره أن العبد نام, يعني: لو كان على ظاهره لكان يؤخر الأذان؛ لأن النائم لا يستيقظ, لكن معنى أنه نام فقام دون أن يتحرى الأذان فأذن, فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع؛ ففي هذا الحديث - على تقدير صحته - أن المؤذن إذا أذن قبل الوقت فإنه يلزمه أن يخبر الناس بأنه أذن قبل الوقت, ولكن هل يقول هذا اللفظ الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم بلالًا؟ لا, لأنه قد يكون المؤذن حرًا ليس عبدًا والمقصود أن يعلم الناس. فإن قال قائل: أفلا يمكن أن ينتظر حتى يطلع الفجر ثم يؤذن ثانية؟ الجواب: لا؛ لأنه إذا أذن قبل الوقت فسوف يقوم بعض الناس ويصلي, فلابد أن ينبه على خطئه مبكرًا حتى يعرف الناس أنه أذن قبل الوقت. ففي هذا الحديث فوائد منها: أن الرجوع إلى الحق واجب, إذا أخطأ الإنسان في أي شيء وتبين له الحق وجب عليه الرجوع إليه. ومن فوائده أيضًا: أنه يجوز للإنسان أن يعبر عن نفسه بالوصف الذي يدل على الغباوة لقوله: «ألا إن للعبد نام» , وغالبًا أن يكون العبيد فيهم غباوة وعدم معرفة تقدير الأمور. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان إذا أذن قبل الوقت وجب عليه إعلام الناس أنه أذن قبل الوقت؛ لئلا يغتروا بالإمساك عن الأكل والشرب إن كانوا صائمين, أو بتقديم الصلاة إن كانا يريدون الصلاة, هذا إذا صح الحديث, أما إذا لم يصح الحديث فإننا نرجع إلى القواعد العامة, وهو أن الإنسان إذا أخطأ وجب عليه أن يصحح الخطأ بأي وسيلة سواء بهذا اللفظ أو بغيره حتى لا يغتر الناس بذلك؛ لأننا لو قلنا: اصبر وإذا دخل الوقت فأذن ثم فعل, صار الناس سوف يصلون مرتين, وربما يتهاونون ولا يصلون ويقولون: الإثم عليه هو الذي أذن وغرنا.

متابعة السامع للأذان

متابعة السامع للأذان: 184 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم النداء, فقولوا مثل ما يقول المؤذن». متفق عليه. 185 - وللبخاري: عن معاوية رضي الله عنه مثله. قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم النداء» المراد به: النداء للصلاة, وهو الأذان, «فقولوا مثل ما يقول المؤذن» يعني: إذا قال: الله أكبر قولوا: الله أكبر, متابعة, ولم يستثن في الحديث شيئًا, لكن قال المؤلف: 186 - ولمسلم: عن عمر رضي الله عنه في فضل القول كما يقول المؤذن كلمةً كلمةً, سوى الحيعلتين, فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. «الحيعلتين» تثنية حيعلة, وهو اسم منحوت - يعني: أخذ من كلمة حرف ومن كلمة أخرى حرف آخر -, الحيعلة بمعنى: حي على كذا, وهما حيعلتان الأولى: «حي على الصلاة» , والثانية: «حي على الفلاح» , فيقول المتابع: لا حول ولا قوة إلا بالله, ولا يقول: حي على الصلاة؛ لأنه مدعو, ولو قال: «حي على الصلاة» صار داعيًا ولا يجمع بينهما أيضًا؛ يعني: لا يقول: حي على الصلاة لا حول ولا قوة إلا بالله, حي على الفلاح لا حول ولا قوة إلا بالله, ومن زعم أنه يقول مثل ما يقول في الحيعلتين ثم يعقبه بلا حول ولا قوة إلا بالله؛ فزعمه ضعيف, وما مثله إلا مثل من قال: إن المأموم إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده, قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد, مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الإمام: «إذا قال: سمع الله لمن حمده, فقولوا: ربنا ولك الحمد» , وقوله: «إذا سمعتم, فقولوا مثل ما يقول» لابد من سماع, فلو تحرى الأذان وصار يتابع بناء على التحري لم ينفع. من فوائد هذا الحديث: حكمة الله عز وجل, حيث جعل لغير القائم بالعبادة نصيبًا من أجل هذه العبادة, فإن المؤذن لا شك أنه قائم بعبادة من أشرف العبادات, حتى إن ثوابه يوم القيامة يكون أطول الناس أعناقًا. المؤذنون أطول الناس أعناقًا؛ لأنهم رفعوا ذكر الله عز وجل وأعلنوا به, فكان من جزائهم أن يرفع الله سبحانه وتعالى أعناقهم يوم القيامة فوق الخلق حتى يتميزوا بهذه الميزة, لما شرع الله الأذان للمؤذن شرع لغير المؤذن أن يتابعه, ولولا هذا الشرع لكانت متابعته بدعة. ومن فوائد الحديث: أنه لابد أن يسمعه ويدري ما يقول؛ لأنه قال: «فقولوا مثل ما يقول

المؤذن» فإن كان يسمع الصوت لكن لا يفهمه - وهذا يقع كثيرًا - فهل يتابع؟ الظاهر لا يتابع إلا إذا كان أدرك الجملة الأولى وعرفها وصار يسمع الصوت, ولكن لا يدرك الحروف, فهنا قد نقول: تابعة؛ لأنك إذا فهمت التكبيرة الأولى فالتي بعدها تكون الثانية وهلم جرا, أما إذا كان يسمع دويه ولكن لا يدري ما يقول فإنه لا يشرع له المتابعة. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية متابعة المؤذن لقوله: «فقولوا». وهذا الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ اختلف العلماء في هذا - رحمهم الله - فقال بعضهم: إنه واجب؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب, وأنه يجب على الإنسان أن يتابع المؤذن, ولكن جمهور العلماء على أنه ليس بواجب, واستدلوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم». ولم يقل: وليتابعه الآخر, ولو كان ذلك واجبًا لم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة, وهذا هو الصحيح أن إجابة المؤذن - أعني: متابعته - ليست بواجبة لكنها سنة لا ينبغي للإنسان تركها. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره أن يقول هذا الذكر في أي مكان كان, وعلى أي حال كان؛ يعني: يتابع في أي مكان وعلى أي حال كان, في أي مكان يعني: سواء في السوق, في المسجد, في البيت, وظاهره حتى في الحمام؛ لأن الحديث مطلق, وإذا كان مطلقًا فإنه يبقى على إطلاقه إلا بدليل, وليس هناك دليل واضح على أنه لا يتكلم الإنسان بالذكر إذا كان في الحمام, وظاهره أيضًا أنه يقول مثل ما يقول المؤذن ولو كان في حلقة علم, أو في قراءة القرآن, أو ما أشبه ذلك. وعليه فنقول: إذا سمعت المؤذن وأنت تقرأ القرآن فالأفضل أن تقول مثل ما يقول وإن سكت عن القراءة؛ لأن هذا ذكر مقيد بزمن مخصوص, والقراءة ليس لها وقت متى شئت فاقرأ, وهذه قاعدة في الأذكار المطلقة والأذكار المقيدة, الأذكار المقيدة تقدم على الأذكار المطلقة, فمثلًا عند سماع نباح الكلاب السنة: التعوذ بالله من الشيطان الرجيم» , وكذلك عند نهيق الحمير, فإذا سمعت نباح الكلاب أو نهيق الحمير وأنت تقرأ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم, اقطع القراءة واستعذ بالله من الشيطان الرجيم, إذا عطس الإنسان وهو يقرأ القرآن يقطع القرآن ويقول: الحمد لله, إذا سمع أذان الديك وهو يقرأ القرآن يقطع القرآن ويسأل

الله من فضله, المهم الذكر المقيد يقدم على الذكر المطلق, وإن كان الذكر المطلق أفضل منه, فمثلًا قراءة القرآن أفضل من الذكر المطلق, لكن المقيد في حينه يقدم على المطلق. إذا كان في صلاة وسمع المؤذن فهل يجيب المؤذن وهو يصلي؟ اختار شيخ الإسلام رحمه الله أنه يجيبه؛ لأن إجابة المؤذن من الذكر, ولا ينافي الصلاة, وإذا كان من الذكر ولا ينافي الصلاة وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمرًا مطلقًا فإنه يجيبه, ولكن الذي يظهر أنه لا يجيبه في الصلاة؛ لأنه إذا أجابه في الصلاة اشتغل اشتغالًا كثيرًا في إجابة المؤذن, وليس كالذكر الذي يتأتى بجملة واحدة, فالظاهر لي أنه لا يجيبه, ويستدل لهذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في الصلاة لشغلًا». ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا أجاب المؤذن يرفع صوته كصوت المؤذن هل هذا هو المثلية؟ نقول: المراد: المثلية في أصل الذكر, وليس في رفع الصوت, والفرق بين المؤذن وبين سامعيه في هذه الحال واضح, المؤذن يؤذن لغيره, وهذا يجيب المؤذن فهو ذكر لا يشرع الجهر به كجهر المؤذن. من فوائد الحديث: لو سمع أكثر من مؤذن أيجيب؟ الحديث مطلق: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن» , فلو أذن المؤذن وتابعته وانتهى, ثم أذن آخر فتابعه؛ لأن الحديث مطلق, ولم يقل: إذا سمعتم النداء الأول, بل أطلق فيشمل كل ما سمعتم, لكن إذا اختلطت أصوات المؤذنين فبدأ الثاني عندما أكمل الأول التكبيرات الأربع فماذا يصنع هل يتابع؟ إن تابع اختلف الترتيب بالنسبة لمتابعة الأول, ففي هذه الحال نرى أنه يتابع الأول ويستمر معه, لكن أحيانًا يكون الثاني أقوى صوتًا من الأول فيغطي عليه ويختفي صوت الأول, فماذا تصنع؟ تباع الثاني؛ لأن الأول نسخه الثاني في الواقع, كشريط سجل عليه كلام آخر فتابع الثاني, الثاني سوف تبدأ معه من أول الأذان فلا يضرك متابعته. لو سمع الإنسان أذانا مسجلًا هل يتابعه؟ لا؛ لأني لا أرى أن الأذان المسجل أذان, بل هو حكاية صوت مؤذن؛ ولهذا تجد الشريط المسجل قد سجل فيه أذان مؤذن قد مات منذ زمن بعيد فهذا لا يحصل به الفرض, ولا يجزئ عن الفرض, ولا يستحق أن يتابع؛ لأنه عبارة عن حكاية صوت لا يوجد مؤذن, هل يمكن لأحد أن مسجلًا إمامًا يقتدي به هل يجزئ أو لا يجزئ؟ لا يجزئ, فالأذان مثله. فإذا قال قائل: هناك فرق هنا لا إمام بين يدي المأمومين, لكن الأذان المقصود به الإعلام وقد حصل؟

صفة متابعة الأذان

فالجواب: هذا غلط, ليس الأذان لمجرد الإعلام, بل هو عبادة مقصودة من المؤذن يقوم بها عن الجميع؛ لأنها فرض كفاية, فلا يصح الاعتماد على المسجل. لنفرض أنه سمع النداء بعد أن صلى حيث إن بعض المساجد يؤخر مؤذنها فهل يتابع أو لا؟ ظاهر الحديث أنه يتابع؛ لأنه مطلق ليس فيه تقييد, لكن الفقهاء قالوا: لا يتابع؛ لأن المؤذن يقول: حي على الصلاة, وهذا الذي قد صلى هل يقال له: حي على الصلاة؟ لا, لا يقال؛ لأنه أدى الفريضة, قالوا: فلما كان غير مدعو بهذا الأذان لم يشرع له أن يتابعه, ولكن لو أخذ الإنسان بظاهر الحديث وقال: الحمد لله, لا يضرني هو ذكر, وإذا كان ذكرًا وعندي لفظ عام أو مطلق من الرسول صلى الله عليه وسلم فلماذا لا أتعبد لله بذلك, وكوني غير مدعو بهذا الآن نعم لأني قد صليت. أسئلة: - ما تقولون في رجل أصم رأى المؤذن صاعدًا المنارة ووضع يديه في أذنيه هل يتابع؟ - لو سمع النداء في الصلاة هل يتابع؟ - هل يستثنى من قوله: «إذا سمعتم النداء» غير هذه المسألة؟ صفة متابعة الأذان: قوله: ولمسلم عن عمر في فضل القول كما يقول المؤذن كلمة كلمة, سوى الحيعلتين, فيقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله». قوله: «في فضل القول كما يقول المؤذن»؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من قال مثل ما يقول المؤذن ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم, ثم سأل للنبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة فإنه تحل له الشفاعة, يقول: «كلمة كلمة»؛ يعني: إذا قال المؤذن: الله أكبر, قال هو: الله أكبر, ولا يسكت حتى يكمل الأذان, ثم يعيده السامع, [وإنما] يتابعه كلمة كلمة سوى الحيعلتين, وهما: «حي على الصلاة, حي على الفلاح» فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. الحيعلتين, وهما: «حي على الصلاة, حي على الفلاح» فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. الحيعلتان هما: حي على الصلاة, حي على الفلاح, ومعنى: «حي» أي: أقبل أو أقبلوا, فهي صالحة للمفرد والجماعة؛ لأنها اسم فعل, واسم الفعل لا يتغير, وقوله: «على الصلاة» أي: الحاضرة, و «حي على الفلاح» أي: أقبلوا على الفلاح, والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب, والمناسبة في هذا الترتيب أن يبدأ أولًا بالدعوة إلى العمل, ثم بنتيجة العمل وفائدته وهو الفلاح, فيقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» يقول السامع: لا حول ولا قوة إلا بالله, ولا يقول: «حي على الصلاة, حي على الفلاح»؛ لأن السامع مدعو فكيف ينقلب داعيًا, فالمناسب أن يقول كلمة الاستعانة «لا حول ولا

قوة إلا بالله» , فكأنه يقول: سمعًا وطاعة, فأسأل الله أن يعينني, ولهذا أقول: إن هذه الجملة استعانة وليست استرجاعًا كما يفعل بعض الناس إذا أصيب بمصيبة قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله»؛ لأن ذكر المصيبة هو: «إنا لله وإنا إليه راجعون» , أما هذا فإنه طلب, والطلب يحتاج إلى إجابة, والإجابة إذا لم يعنك الله فإنه لا يمكنك فعلها. إذن من فوائد الحديث أولًا: أن إجابة المؤذن تكون كلمة كلمة, كلما قال كلمة تقول أنت كلمة, فإن بقيت ساكتًا حتى يتم الأذان ثم أتيت به فإنك لم تحصل السنة. ومن فوائده: أن الذي يقول مثل ما يقول, لا يقول في الحيعلتين: «حي على الصلاة, حي على الفلاح» , وإنما يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله». ومن فوائد الحديث: أن هذه الكلمة «لا حول ولا قوة إلا بالله» كلمة استعانة يستعين بها الإنسان على الأمر الذي يريد, وأظن أنكم تعرفون معنى «حول» بمعنى: التحول من حال إلى حال, والقوة ضد الضعف, فيسن أن يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» إذا قال: «حي على الصلاة, حي على الفلاح». وظاهر الحديث والذي قبله: أن المؤذن لصلاة الفجر إذ ثوب؛ أي: إذا قال: «الصلاة خير من النوم» فإنه يقول مثل ما يقول؛ لأنه لم يستثن إلا الحيعلتين, وعليه فإذا قال المؤذن لصلاة الفجر: «الصلاة خير من النوم» فقل: الصلاة خير من النوم, هذا ظاهر السنة, وقال بعض أهل العلم: إنه إذا قال: «الصلاة خير من النوم» تقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله»؛ لأن قول المؤذن: «الصلاة خير من النوم» خبر بمعنى الطلب, فكأنه يقول: الصلاة خير من النوم فأقبل واترك النوم, وبعضهم قال: إنه إذا قال: الصلاة خير من النوم, تقول: صدقت وبررت, أي: أنت صادق بار, فهذه ثلاثة أقوال, الأول: أن تقول مثل قوله, والثاني: أن تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله, والثالث: أن تقول: صدقت وبررت, ولا شك أن القول كما يقول هو المناسب والموافق لظاهر السنة فليعتمد, يقولون: إن إجابة «الصلاة خير من النوم» أن نقول: صدقت؛ لأنه صادق, وبررت؛ لأنه يحث الناس على الحضور. فيقال لهم: أليس المؤذن يقول: الله أكبر؟ فالجواب: بلى, أصادق هو أم لا؟ صادق, لماذا لا نقول: صدقت وبررت؟ لأنك إذا قلت إن هذا خبر يقابل بالتصديق نقول: إذن الله أكبر خبر يقابل بالتصديق ولا قائل به.

حكم أخذ الأجر على الأذان

حكم أخذ الأجر على الأذان: 187 - وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه قال: «يا رسول الله, اجعلني إمام قومي. قال: أنت إمامهم, واقتد بأضعفهم, واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرًا». أخرجه الخمسة, وحسنة الترمذي, وصححها لحاكم. قوله: «عن عثمان بن أبي العاص» هو من ثقيف, استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف, قال: «اجعلني إمام قومي» أي: في الصلاة, فقال: «أنت إمامهم» , وهذا عقد ولاية لإمامة الصلاة؛ لأن الذي يتولى عقد إمامة الصلوات هو ولي الأمر, «واقتد بأضعفهم» يعني: إذا طلب منك بعض الجماعة أن تطيل بهم في القراءة, أو الركوع, أو السجود, إطالة زائدة عن الستة, وآخرون طلبوا منك التخفيف - الضعفاء -, فالواجب الاقتداء بالأضعف, «واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» أمر الذي نصبه إمامًا أن يتخذ مؤذنًا - أي: أن ينصب مؤذنًا - لا يأخذ على أذانه أجرًا - أي: أجرًا دنيويًا -, كدراهم, الثياب, الطعام, السكن في البيت, وما أشبه ذلك. هذا الحديث فيه فوائد منها: جواز طلب الإمامة, وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عثمان بن أبي العاص ووافقه على طلبه, وهذا أقوى ما يكون من إثبات هذا الحكم. ولكن لو قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله رجل إمارة قال: «إنا لا نولي هذا الأمر أحدًا طلبه». وقال لعبد الرحمن بن سمرة: «لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها, وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها». قلنا: بلى, ولكن يحمل هذا الحديث إما على التفريق بين طلب الإمارة والإمامة؛ لأن الإمامة وظيفة دينية محضة, والإمارة, فيها سلطة, فيها نوع من استعلاء وما أشبه ذلك, وإما أن يقال: أنه إذا طلبها من يطلبها وهو أحق الناس بها, فإن طلبه هذا يكون بمنزلة التنبيه لولي الأمر, ليس طلبًا محضًا, وأن الإنسان إذا رأى من نفسه أنه أحق الناس وأوفى الناس بهذه الوظيفة فله طلبها, وهذا الوجه أحسن, وربما نقول: إن الوجهين صحيحان لكن هذا أقرب إلى الصواب, ويؤيده أن نبي الله يوسف - عليه الصلاة والسلام - قال: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف: 55]. لأنه رأى أن بيت المال قد ضاع, وأنه ذو حفظ وعلم فطلبه لعدم وجود من يقوم مقامه.

ومن فوائد هذا الحديث: أن نصب الأئمة إلى ولي الأمر؛ لأنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم وهو ولي الأمر ولا شك, وكذلك من ينيبه ولي الأمر, كما في وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في وقتنا, وكذلك الوزارات الأخرى في البلاد الإسلامية, فإن الوزير يعتبر نائبًا عن ولي الأمر. فإن قال قائل: لو اختار أهل الحي رجلًا, واختارت الوزارة رجلًا, فمن الذي يقدم؟ يقدم ما تختاره الوزارة, ولكن يجب على الوزارة في هذه الحال أن تنظر فيمن اختارت, وفيمن اختاره أهل الحي, أن تنظر إلى ذلك بعين العلم والإنصاف. فإن قال قائل: إذا كنا في بلد ليس فيه ولاية إسلامية فمن الذي يقدم في الإمامة؟ قلنا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله». فيجب على أهل الحي أن يختاروا أقرؤهم لكتاب الله, ثم من يليه على حسب ما جاءت به السنة. ومن فوائد الحديث: مراعاة الأضعف في كل شيء؛ لأنك إذا راعيت الأضعف لم تضر الأقوى, وإن راعيت الأقوى شققت على الأضعف أو أضررت به, حتى في المشي لو فرض أن أناسًا يتبعونك مثلًا فيهم من مشيه ضعيف ومشيه قوي؛ فإنك تراعي الأضعف إلا أن يكون في مراعاته ضرر, فالضرر منفي شرعًا, لكن بدون ضرر اقتد بالأضعف. ومن فوائد الحديث: أن تعيين المؤذن إلى الإمام لقوله: «واتخذ مؤذنًا» هذا إذا قلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوله إلا على إمامة الصلاة, لكن حسب الترجمة التي ترجمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعله أميرًا على الطائف, وعلى هذا فيكون تعيينه - المؤذن - لا لأنه إمام المسجد, ولكن لأن له الولاية على البلد كلها. ومن فوائد الحديث: وصية الإمام للولاة الذين تحته من الأمراء, والأئمة, والقضاة, وما أشبه ذلك بما يقتضيه حالهم؛ لقوله: «اقتد بأضعفهم, واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» , وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أمره بتقوى الله عز وجل, وبمن معه من المسلمين خيرًا. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي العدول عمن طلب من المؤذنين أجرًا أو مالًا, أو يقال - بمعنى أعم -: شيئًا من أمور الدنيا؛ لقوله: «اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» , ولهذا نص فقهاؤنا - رحمهم الله - على تحريم أجرة الأذان والإقامة, يعني: تتفق مع واحد, تقول: تعال

استأجرك على أن تؤذن, كم أذانًا في اليوم والليلة؟ خمسة, قال: لكني أؤذن كل أذانٍ بكذا, يريد أن تكون له أجرة, حتى إذا تخلف يخصم عليه, ولو نقص في الأذان يخصم عليه, فهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» , التعليل: لأن عمل الآخرة لا يمكن أن يتخذ وسيلة للدنيا, الآخرة أعظم وأشرف من أن تكون وسيلة لأمر الدنيا, الدنيا وسيلة الآخرة, وليست الآخرة وسيلة الدنيا؛ لأن الله يقول: {بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خيرًا وأبقى} [الأعلى: 16 - 17]. فإن قال قائل: ما شأننا مع الواقع الآن الأئمة والمؤذنون يأخذون أجرًا؟ فالجواب: أن هذا ليس بأجر بل هو رزق من بيت المال للمصالح العامة, ومن المصالح العامة: الأذان, والإقامة, كما أن العلماء يأخذون أجرًا على تدريسهم لا لأجل العوض؛ ولكن لأن هذا من بيت المال الذي يصرف للمصالح العامة؛ ولهذا قال الفقهاء: لا يحرم أخذ رزق من بيت المال إذا لم يوجد متطوع - حماية بيت المال عند العلماء - فإن وجد متطوع تحصل به الكفاية حرم أن يعطى المؤذن من بيت المال؛ لأنه لا داعي له الآن, وإذا لم يكن له داعٍ فلا يجوز, إذا أخذنا من بيت المال - مثلًا - عشرة ريالات لهذا المؤذن صار حرامًا؛ إذ إن عشرة ريالات تنفع بيت المال. لو كان جعالة ليس أجرة بأن قال: من أذن في هذا المسجد فله كل شهر كذا وكذا, فهذه فيها خلاف, منهم من يقول: لا بأس بها, ومنهم من يقول: فيها بأس؛ لأن هذا المؤذن إنما جاء من أجل العوض. 188 - وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم». الحديث أخرجه السبعة. «الحديث» يعني: اقرأ الحديث؛ فهي منصوبة بفعل محذوف تقديره: «اقرأ الحديث» يقول: «إذا حضرت الصلاة» «أل» في قوله: «الصلاة» للعهد الذهني, والمراد بها: الصلاة المكتوبة, وهي خمس معروفة, والمراد بحضورها: دخول وقتها وإرادة فعلها وقوله: «فليؤذن لكم أحدكم» الفاء رابطة لجواب الشرط, واللام للأمر, وقوله: «فليؤذن لكم أحدكم» يعني: بحيث يسمعكم؛ لأنه إذا لم يسمعهم فإنه بمؤذن لهم. وقوله: «عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه». ومالك بن الحويرث وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم عام الوفود؛ أي: العام التاسع, وبقي عنده عشرين يومًا, وكان معه وفد كلهم شباب, فلما مضت العشرون

ورآهم النبي صلى الله عليه وسلم اشتاقوا إلى أهليهم أمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم فيقيموا فيهم, ويعلموهم ويؤدبوهم وأوصاهم بوصايا, منها ما ذكر في هذا السياق, ففعلوا وانصرفوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم متعلمين ممتثلين فيما وصاهم. ففي هذا الحديث فوائد: أولًا: أن الأذان لا يصح قبل دخول الوقت لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا حضرت الصلاة» , ولا يمكن أن تحضر قبل دخول الوقت. ومن فوائد الحديث: أهمية الصلاة؛ حيث فرض النداء لها. ومن فوائد الحديث: وجوب الأذان لقوله: «فليؤذن» , واللام للأمر, والأصل في الأمر في العبادات الوجوب. ومن فوائد الحديث: أنه يجب أن يسمع المؤذن من يؤذن لهم بحيث يرفع صوته حتى يسمعه من يؤذن لهم, فإن أذن في جهة بعيدة وحضر, يعني مثلًا: أنه في البر وذهب أحدهم, ولما حان الوقت أذن في مكان ليس حوله أحد من قومه, ثم حضر إليهم, هل يكتفي بهذا الأذان؟ لا, لأنه لم يؤذن لهم, لابد أن يسمع من يؤذن لهم. ومن فوائد الحديث: أن الأذان فرض كفاية لقوله: «أحدكم» وهو كذلك, وليس فرض عين. ومن فوائد الحديث: أن إجابة المؤذن غير واجبة - يعني: متابعته - إن تابعه الإنسان وأتى بما يسن بعد المتابعة, وإن لم يتابع فلا شيء عليه, وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الآخرين بالمتابعة مع أن الحال تقتضي بيان ذلك لو كان هذا واجبًا؛ إذ إن هؤلاء قوم وفدوا تعلموا شرائع الإسلام عن قرب ورجعوا إلى أهليهم, وهذا القول هو الصواب, وهو الذي عليه جمهور العلماء, وذهب أهل الظاهر - رحمهم الله - إلى أن إجابة المؤذن واجبة, وأخذوا بالأمر «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول» , ولكن الصواب مع الجمهور, وأن إجابة المؤذن في أذانه سنة لا يأثم الإنسان بتركها, هنا لم يبين من الأحق بخلاف الإمامة قد بين من الأحق, فيقال: الأحق: الأعلم بالوقت, والأوثق, والأندى صوتًا, هذا عند ابتداء تنصيب المؤذن نختار من جمع هذه الأوصاف. ومن فوائد الحديث: أن الأذان لا يصح إلا من واحد لقوله: «أحدكم» , فلو رع في الأذان فلما بلغ «حي على الصلاة» أكمله آخر؛ فالأذان لا يصح؛ لأن الحديث يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «فليؤذن لكم أحدكم». فإن قال قائل: لو شرع في الأذان ثم أتاه من يمنعه من إكماله بأن أغمي عليه, أو ما أشبه ذلك وأكمله آخر؛ لم يصح, إذن ماذا يعمل؟ يعيد الأذان من جديد. ***

189 - وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «إذا أذنت فترسل, وإذا أقمت فاحدر, واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله». الحديث. رواه الترمذي وضعفه. قوله: «عن جابر» الأحسن أن يقال: جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لكن لما لم يذكر أباه صح أن يعود الضمير عليه مفردًا. «وعن جابر» هو: ابن عبد الله بن حرام رضي الله عنه, الذي قتل شهيدًا في أحد؛ أعني: أباه عبد الله بن حرام رضي الله عنه. وقوله - عليه الصلاة والسلام -: «إذا أذنت فترسل» يعني: لا تستعجل قف على كل جملة, وجه ذلك: أن الأذان للبعيد, فإذا ترسل فإن من فاته أول الأذان يسمع آخر الأذان, ولذلك الآن لو سمعت صوتًا تظنه أذنًا تجد أنك [تستنصت] ثم إذا أذن ثانية وثالثة تبين لك أنه أذان, وأما الإقامة فإنها للحاضرين؛ ولهذا قال: «وإذا أقمت فاحدر» يعني: أسرع. ولكن هل يقف على كل جملة أو يسرع ولا يقف, فمثلًا: يقول: الله أكبر الله أكبر, أشهد أن لا إله إلا الله, ويقف على كل جملة أو يوصل الجمل؟ الجواب: الأول, يقف على كل جملة إلا أنه يحدر لا يترسل. «واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله» , يعني: والمتوضئ من وضوئه بين الأذان والإقامة مقدار ما يفرغ الآكل من أكله؛ لأنه لا صلاة بحضرة طعام, ولو أقام سريعًا والناس على أطعمتهم شق عليهم ترك الطعام, وشق عليهم ترك الصلاة مع الجماعة؛ فلهذا ينبغي أن يراعي أي: يجعل بين الأذان والإقامة مقدار ما يفرغ الآكل من أكله, والمتوضئ من وضوئه, كم المقدار؟ عشر دقائق. في هذا الحديث: توجيه النبي صلى الله عليه وسلم العمال من المؤذنين والمقيمين, وكذلك عمال الزكاة وغيرهم إلى ما يطابق الشريعة, وهذا يدل على كمال نصحه, وعلى كمال تبليغه. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره أن الإقامة إلى المؤذن, وليس كذلك إلا إذا عمده الإمام فيكون وكيلًا عن الإمام, وإلا فإن المؤذن أملك بالأذان, والإمام أملك بالإقامة, لكن إذا حدده وقال: اجعل بين الأذان والإقامة كذا وكذا, فذلك جائز, ولكنه مع ذلك لا يقيم حتى يرى الإمام, ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقوموا حتى يروه؛ لأنهم ربما يقومون أو يقيمون الصلاة

حكم الوضوء للمؤذن

والإمام لم يحضر فيكون في هذا مشقة على الناس لقيامهم وقوفًا, أو يكون هناك فاصل بين الإقامة والصلاة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا ينبغي أن يبادر بالإقامة أي: أن يجعل بين الأذان والإقامة قدر ما يفرغ الآكل من أكله, والمتوضئ من وضوئه. ومن فوائد الحديث: مراعاة أحوال الناس, وأنه ينبغي لمن ولاه الله على عباده أن يراعي أحوالهم. فإن قال قائل: هذه المدة قصيرة بالنسبة للصلوات التي لها رواتب قبلها مثل الظهر, والفجر؟ نقول: إذن يضاف إلى هذا أن يتمهل مقدار ما يفرغ الآكل من أكله, والمتوضئ من وضوئه, والمتنفل من تنفله. فإن قال قائل: هل الأولى أن يجعل وقت محدد لا يزيد ولا ينقص, أو يجعل هذا تبع الأحوال والقرائن؟ الجواب: الأول؛ لئلا يغر الناس, فمثلًا لو كان في يوم يتقدم وفي يوم يتأخر لغر الناس, ولم يكونوا على وتيرة واحدة, ولو أن ولي الأمر حدد وقتًا معينًا كثلث ساعة, أو نصف ساعة, أو ربع ساعة, فهل يلزم ذلك أو لا يلزم؟ الأصل: أنه لا يلزم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله»؛ فالأصل أنه غير لازم, لكن إذا رأى الإمام وأهل الحي أن من المصلحة أن يؤخر الوقت فهذا حسن, بمعنى: أن يجوز أن يتعدى ما حدد إلا أنه يجب أن يخير المسئولين بأنه رأى أن من المصلحة التأخير. ومن فوائد الحديث: أن السنة في الأذان الترسل والتمهل, وفي الإقامة الحدر, وعدم الاستعجال والتأني. حكم الوضوء للمؤذن: 190 - وله: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤذن إلا متوضئ». وضعفه أيضًا. قوله: «لا يؤذن» هذا نهي صيغته «لا» المقرونة بالمضارع وقوله: «إلا متوضئ» يعني: إلا من كان على وضوء, سواء, توضأ قبل الأذان بوقت طويل, أو توضأ عند الأذان, المهم أن يكون على وضوء. لكن الحديث كما قال المؤلف: إنه ضعيف عند الترمذي رحمه الله, وعلى تقدير صحته فإنه يكون من باب الأفضلية وليس من باب الوجوب, دليل هذا قول عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم

حكم إقامة من لم يؤذن

يذكر الله على كل أحيانه». والأذان ذكر, فيجوز أن يؤذن ولو لم يكن متوضئًا, لكن الأفضل أن يكون على وضوء؛ لأنه ذكر, والذكر ينبغي أن يكون الإنسان فيه على طهارة. فإن قال قائل: وماذا تقولون في الجنب؟ نقول: الجنب أبعد حالًا من المحدث حدثًا أصغر؛ ولهذا نص الفقهاء - رحمهم الله - على أن الجنب يكره أذانه, ولكن في هذا نظر؛ لأن الجنب يجوز له الذكر ما عدا شيئًا واحدًا وهو القرآن, وما عدا ذلك فإنه يجوز أن يذكر الله عز وجل بجميع أنواع الذكر, فالصواب: أن أذان الجنب ليس بمكروه, وأنه لا بأس أن يؤذن وهو جنب؛ إلا أن الأفضل أن يكون على طهارة. فإن قال قائل: ما تقولون في حال الناس اليوم إذا كان الإنسان يؤذن في المسجد وهو جنب فماذا يصنع؟ نقول: الأمر سهل يتوضأ؛ لأن الجنب إذا توضأ جاز له المكث في المسجد, ويتوضأ ويؤذن في وقته, ثم يعود إلى محل الاغتسال ويغتسل. حكم إقامة من لم يؤذن: 191 - وله: عن زياد بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن أذن فهو يقيم». وضعفه أيضًا. «من أذن فهو يقيم» , يعني: وهو الذي يقيم, و «من» هذه عامة تشمل من أذن بالأصالة, ومن أذن بالوكالة. المؤذن بالأصالة: أن يكون هذا المسجد له مؤذن خاص فيؤذن, فهو نفسه الذي يقيم. المؤذن بالوكالة: مؤذن موظف لا يخرج من وظيفته إلا بعد أذان الظهر, فحضر إلى المسجد وقد أذن وكيله, فهل يقيم الأصيل؛ لأنه وكل نائبًا عنه أو يقيم الوكيل؟ يقيم الوكيل لكن لو أقام الأصيل فلا بأس, وله وجهة نظر لأنه يقول: أذن عني لغيابي, والآن قد حضرت, فإذا تشاحنا؛ قال الوكيل في الأذان: أنا أذنت فأقيم, وقال الأصيل: أنا صاحب المنارة فأقيم, فمن نأخذ بقوله؟ الأصيل, أما عند عدم التشاحن فإنه يؤذن الوكيل.

192 - ولأبي داود من حديث عبد الله بن زيدٍ أنه رضي الله عنهما قال: «أنا رأيته - يعني: الأذان - وأنا كنت أريده. قال: فأقم أنت». وفيه ضعف أيضًا. عبد الله بن زيد بن عبد الله بن عبد ربه سبق في أول الأذان أنه رأى في المنام أن رجلًا معه ناقوس, فقال له: أتبيع هذا الناقوس؟ قال: لأي شيء؟ قال: من أجل أن أضرب به عند دخول الوقت, فقال: هل أدلك على خير من هذا ... وذكره له, لما رآه هو قال: أنا الذي أؤذن؛ لأنه هو صاحب الرؤيا, ولكن سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «ألقه على بلال فإنه أندى صوتًا منك» , فألقاه على بلال, فكان بلال هو المؤذن وهو الذي يقيم, ولذلك هذا الحديث يقول: «وفيه ضعف أيضًا». 193 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤذن أملك بالأذان, والإمام أملك بالإقامة». رواه ابن عدي وضعفه. 194 - وللبيهقي نحوه: عن علي رضي الله عنه من قوله. وظيفة المؤذن أنه أملك بالأذان؛ بمعنى: أنه المسئول عن الأذان, يراقب الشمس, يراقب الشفق, يراقب الفجر, ويؤذن على حسب ما جاء في السنة, ولو أراد الإمام أن يؤذن فللمؤذن أن يمنعه؛ لأنه أملك بالأذان, الإمام أملك بالإقامة؛ يعني: أن الإقامة ترجع للإمام. فلو أن مؤذنًا لما رأى الإمام قد تأخر نحو خمس دقائق أو شبهها أقام, قلنا: هذا لا يجوز, هذا اعتداء على حق الإمام, وافتيات عليه؛ لأن الصحابة كانوا لا يقيمون الصلاة حتى يحضر النبي صلى الله عليه وسلم, حتى إنه تأخر ذات ليلة في صلاة العشاء وجعلوا يطرقون بابه يقولون: يا رسول الله, الصلاة, ولو كان أحد يملك الإقامة لأقاموا, والنبي صلى الله عليه وسلم لو أقاموا لم يغضب عليهم؛ لأنه أوسع الناس صدرًا, وسيأتي - إن شاء الله تعالى - أنه لما تخلف في الصلح مع بني عامر بن عوف وجاء وجدهم صلوا, قال: «أحسنتم وأصبتم». فاتضح الآن أن المؤذن مسئول عن الأذان, والإمام عن الإقامة, إذن أيهما أعظم مسئولية وأشق؟ المؤذن أعظم مسئولية وأشق, لاسيما في العصر الأول لا يوجد ساعات فتجده في آخر

الليل يرقب الفجر, وتجده يرقب الشفق, وعند الزوال كذلك, وعند العصر كذلك, فالمؤذن أشق عملًا من الإمام؛ ولهذا كان الأذان أفضل من الإمامة. يعني لو قلنا: أيهما أفضل: المؤذن أو الإمام من حيث المرتبة في الأجر؟ قلنا: المؤذن؛ لأن عليه مسئولية أكثر بكثير من الإمام. قد تقولون: إذا كان الأذان أفضل من الإمامة فلماذا لم يتوله الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا أبو بكر, ولا عمر, ولا عثمان, ولا علي, لماذا عدل عنه الخلفاء الراشدون؟ الجواب: لأنهم مشتغلون بالخلافة وتدبير الناس, فهم لا يتفرعون لأن يراقبوا الفجر, أو يراقبوا مغيب الشفق, أو يراقبوا دخول العصر, مشغولون لذلك لم يتولوا الأذان, ولا شك أن الأذان أفضل من الإمامة, أيهما أعظم مسئولية؟ المؤذن أعظم مسئولية من وجه؛ لأن المؤذن يترتب على أذانه صلاة الناس في بيوتهم, وإمساكهم في صومهم, وإفطارهم في صومهم, فيترتب عليه مسئولية كبيرة, ويقال: إن رجلًا كلم زوجته في الليل وأبت أن تكلمه, فقال لها: إن أذن الفجر قبل أن تكلميني فأنت طالق ثلاثا, وكان الطلاق الثلاث في الأول تبين به المرأة, يعني: ما انتشر الإفتاء به بأن الطلاق الثلاث واحدة بعد الصحابة إلا في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إن أذن الفجر قبل أن تكلميني فأنت طالق ثالثًا, فصممت ألا تكلمه, فذهب إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله, وكان الإمام أبو حنيفة ذكيًا, فقال له: اذهب إلى المؤذن اجعله يؤذن, فذهب إليه فأخبره بالقضية وأنها صعبة, فأذن وهو راجع عند امرأته فقالت: الحمد الله الذي فكني منك, فقال: الحمد لله الذي ردك علي, فالمؤذن في الحقيقة مسئوليته عظيمة, الإمام مسئوليته عظيمة من جهة إمامته للناس يجب عليه أن يتعلم أحكام الصلاة, وأحكام الإمامة, وأن يجعل صلاته على نحو صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم, قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي». وهذا يلزم أن يعرف كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي, وأن يعمل كما كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - يعمل, فمن هذه الناحية يكون أعظم مسئولية, بعض الأئمة يصلي بالناس لكن لا يطمئن في الركوع ولا في الرفع منه, ولا في السجود ولا في الرفع عند السجدتين, وهذا خطر عظيم لاسيما إذا كان في المسجد من كبار السن, أو من الضعفاء, فكل واحد منهم عليه مسئولية, لكن عمل المؤذن أشق؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «أطول الناس أعناقًا يوم القيامة المؤذنون». أسئلة: - هل يجوز أن يقيم من لم يؤذن؟

فضل الدعاء بين الأذان والإقامة

فضل الدعاء بين الأذان والإقامة: 195 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة». رواه النسائي, وصححه ابن خزيمة. «لا يرد» يعني: أن الله لا يرد الدعاء؛ لأن رد الدعاء وقبوله عند الله عز وجل. وقوله: «بين الأذان والإقامة» يعني: من كل صلاة, سواء الفجر, ظهر, عصر, مغرب, عشاء, جمعة لا يرد, والغرض من هذا الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم الحث على اغتنام هذا الوقت بالدعاء, فإنه حري بالإجابة, ففي هذا الحديث أن هذا الوقت ما بين الأذان والإقامة وقت لإجابة الدعاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة» , وظاهر الحديث العموم, وأنه لا فرق بين الرجال والنساء, وظاهره أيضًا أنه لا فرق بين منتظر الصلاة وغير منتظر الصلاة, وظاهره أيضًا أنه لا فرق بين المتوضئ وغير المتوضئ. ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة الدعاء؛ لأن الدعاء عبادة كما قال - جل وعلا -: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60] , فجعل الله الدعاء عبادة, قال: {ادعوني} , ثم قال: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. ولا شك أن عبادة لأن الداعي يظهر أمام الله بمظهر المحتاج المفتقر الذي يشعر بأن الله تعالى هو الذي بيده الأمور وهي الذي يعطي ويحرم. ومن فوائد هذا الحديث: ما أشرنا إليه في أول الكلام من أن الراد والقابل من؟ هو الله عز وجل. ويتفرع على هذه القاعدة فائدة عظيمة, وهي: أن الإنسان إذا دعا على آخر فهل يخاف الآخر من دعائه؟ الجواب: لا يخاف إلا إذا كان ظالمًا؛ لأن الإنسان إذا دعا على غير ظالم فإن الذي يجيبه هو الله عز وجل, ولو أجابه على دعائه لكان الله تعالى يعين الظالمين, وحاشاه من ذلك, بل قال الله عز وجل: {إنه لا يفلح الظالمون} [يوسف: 23]. وعلى هذا فلا تخف من دعاء من يدعو عليك بغير حق؛ لأن المستجيب للدعاء هو الله عز وجل, وأنه سبحانه وتعالى لا ينصر الظالم أبدًا, لكن إن كنت ظالمًا فاحذر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ رضي الله عنه وقد بعثه إلى اليمين وأمره بأخذ الزكاة من أموالهم: «واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب». وللدعاء آداب معلومة في الكتب المكتوبة في ذلك.

فإن قال قائل: إن الإنسان قد يدعو بين الأذان والإقامة فلا نرى إجابة, فما موقفنا من هذا الحديث؟ فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأن هذا الوقت سبب لإجابة الدعاء, والسبب قد لا يحصل المسبب لوجود مانع؛ يعني: إذا جاءت مثل هذه النصوص التي فيها الأخبار ثم تخلف الخبر بناء على ظنك فاعلم أنه لن يتخلف إلا لوجود مانع يمنع إجابة الدعاء, واستمع إلى قول الرسول - عليه الصلاة والسلام - حين ذكر: «الرجل أشعث أغبر يطيل السفر, يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب, ومطعمه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام, فأنى يستجاب له». لذلك انظر لهذا الحديث: أسباب الإجابة موجودة وهي السفر كونه أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يدعو يا رب يا رب يا رب, واستبعد النبي صلى الله عليه وسلم الاستجابة له؛ لأنه يأكل الحرام؛ لأن هذا مانع من إجابة الدعاء مع توافر شروطه. أيضًا أذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله, اللهم جنبنا الشيطان, وجنب الشيطان ما رزقتنا, فإن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا». مع أن كثيرًا من الناس يقولون هذا ولكن الشيطان يستولي على أولادهم؛ وذلك لوجود مانع يمنع من حصول ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم, أو لوجود سبب أقوى حصل فيه تفريط من ولي الأمر, مثلًا أن يكون هذا الولد إذا كبر وترعرع صاحب أناسًا لا خير فيهم, وأبوه لم ينهه عنهم ولم يراقبه, فيكون الأب قد أضاع ما أوجيب الله عليه من رعاية الولد, والولد حصل له سبب قوي, وهو صحبة هؤلاء الأشرار, فلاحظوا من هذه المسائل أن الله عز وجل في شرعه وقدره يربط الأشياء بعضها ببعض, وقد يوجد المسبب على غير السبب المعلوم؛ لأن الأمر كله بيد الله عز وجل, ولكن أبشروا أيها الداعون إلى الله أنه ما من إنسان يدعو الله إلا حصل على أجر قطعًا كيف ذلك؟ لأن الدعاء عبادة من أفضل العبادات, ثم إما أن يستجيب الله له, وإما أن يدخر له عنده ما هو أفضل مما دعا به, وإما أن يصرف عنه من السوء الذي انعقدت أسبابه من هذا الداعي ما هو أعظم مما دعا به, فلن يعدم داعي الله تعالى خيرًا, بل هو على خير على كل حال, أكثرمن الدعاء وأحسن الظن بالله عز وجل, ولهذا جاء في الحديث: «ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة».

196 - وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة, والصلاة القائمة, آت محمدًا الوسيلة والفضيلة, وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته؛ حلت له شفاعتي يوم القيامة». أخرجه الأربعة. قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع النداء» أي: حين يسمع النداء كاملًا, ليس حين يسمع أوله كما جاء مفسرًا في حديث آخر, أي: «من قال مثل ما يقول المؤذن, ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم سأل الله الوسيلة للرسول - عليه الصلاة والسلام - حلت له الشفاعة». فيقول: «حين يسمع النداء» , أي: حين يسمعه كاملًا: «اللهم رب هذه الدعوة التامة» ما أكثر أن تأتي «اللهم» في الدعاء, قال أهل النحو: وأصلها يا الله فحذفت يا النداء تبركًا بسبق الاسم الأعظم الله, ثم عوض عنها بالميم؛ لأن الميم تدل على الجمع, كأن من ينادي الله عز وجل قد جمع قلبه ولسانه على هذا الدعاء, يعني: ما جاءت بدل الميم قاف, أو كاف, أو فاء, جاءت الميم؛ لأنها تدل على الجمع كما هو معروف على كل حال معناها: يا الله, «رب هذه الدعوة التامة» هذا عطف بيان, أو بدل, وإن شئت فاجعله منادى مستقلًا. «اللهم يا رب هذه الدعوة التامة» ما هذه الدعوة؟ هي: الأذان دعوة تامة؛ لأنها فيها تعظيم الله بالتكبير, والشهادة له بالتوحيد, والشهادة لنبيه بالرسالة, والدعوة إلى الصلاة, والدعوة إلى الفلاح, والعود إلى التعظيم مرة ثانية, ثم إلى التوحيد مرة ثانية, وتختم بذلك, أي دعوة أكمل من هذه؟ ! أو أي دعوة مثل هذه الدعوة؟ ! «أيها الناس صلوا» , هذه دعوة لكن لو قارنت بينها وبين الأذان لوجدت أن الأذان دعوة تامة. وقوله: «رب هذه الدعوة» وما وجه كونه عز وجل ربًا لهذه الدعوة؟ لأنه الذي شرعها, ولأنها صدرت من مخلوق الله ربه, و «التامة» كما ذكرنا هي تامة من كل وجه في صيغها وفي عددها وفي كل ما تضمنته, والصلاة القائمة معناها: التي ستقام, هكذا ذكر بعض أهل العلم, ووجهه: أن هذا الأذان لصلاة ماضية أو بعد يومين أو ثلاثة؟ الصلاة القائمة التي ستقام قريبًا, فعبر بالوصف الدال على الحال لقرب الإقامة من الصلاة؛ لأن الإقامة للصلاة, وكذلك الأذان للصلاة, فالأذان قريب والإقامة قريبة, لكن الإقامة لا يقال فيها هذا الذكر كما سيتبين إن شاء

الله, والصلاة القائمة يعني: التي ستقام, ويحتمل أن يكون معنى الصلاة القائمة أي: ذات الاستقامة والتمام حتى يتطابق مع قوله: «رب هذه الدعوة التامة»؛ لأن القائمة بمعنى: القيمة المستقيمة المشتملة على روضات من رياض الذكر والهيئة والدعاء, لا يوجد عبادة تشتمل على ما تشتمل عليه الصلاة؛ رياض متنوعة من العبادات, قيام وركوع وسجود, جلوس, هيئات, حركات باليد أيضًا, أقوالها: قرآن, تسبيح, تعظيم, قيام وركوع وسجود, جلوس, هيئات, حركات باليد أيضًا, أقوالها: قرآن, تسبيح, تعظيم, دعاء, فهي روضة مشتملة على أنواع كثيرة من الرياضات, أي: رياضات العبادة, فصارت كلمة «القائمة» لها معنيان: المعنى الأول: التي ستقام؛ لأن الأذان لها. والمعنى الثاني: القائمة؛ أي: ذات القيام, بمعنى: المستقيمة التامة لما تشتمل عليه من أنواع الذكر وأنواع العبادة. «آت محمدًا الوسيلة والفضيلة». «آت»؛ بمعنى: أعط, و «ائت»؛ بمعنى: اذهب, ائت زيدًا, بمعنى: اذهب إليه, لكن «آت محمدًا» أعطه, وهذه خذها قاعدة: الهمز بالمد بمعنى: الإعطاء, {وآتي المال على حبه ذوي القربى} [البقرة: 177] , وبالقصر بمعنى: المجيء, أتى زيد؛ أي: جاء, آت أي: أعط. «محمدًا الوسيلة»؛ هذا العلم علم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وله أعلام متعددة لكثرة أوصافه الطيبة, فله من كل وصف علم, قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: [الطويل] وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد ولما علم المشركون أن كلمة «محمد» تعني: الثناء والتحميد؛ صاروا يسمونه بمذمم, والذم لهم, إذن «محمد» علم على رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله, وله أسماء أعلام كثيرة لكثرة أوصافه الحميدة. «آت محمدًا الوسيلة والفضيلة». «الوسيلة»: بينها الرسول - عليه الصلاة والسلام - بأنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله, قال: وأرجو أن أكون أنا هو, إذن هي درجة عالية أعلى درجات الجنة؛ لأنه استحقها من أعلى درجات الخلق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقوله: «الفضيلة» هي الفضل في ذاته؛ لأن علو المكان قد يكون لمن لا يستحق في ذاته وفي فضله, فأنت تسأل الله الوسيلة المنزلة العليا والفضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فيجمع بين علو المكانة وعلو المكان والفضيلة. «وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته». «ابعثه» يعني: يوم القيامة, «مقامًا محمودًا» أي: مقامًا يحمد عليه, ولم يعين الحامد إشارة إلى أن كل أحد يحمده صلوات الله وسلامه عليه, ومن

المقام المحمود: الشفاعة العظمى التي لا يتقدم إليها أولو العزم من الرسل؛ لأن الناس يوم القيامة يحشرون في مكان واحد يسمعهم الداعي وينفذهم الصبر حفاة عراة غرلًا, لا ماء ولا ظل, ولا أكل, ولا لباس, شاخصة أبصارهم ويلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون, حتى إن الإنسان ينسى قريبه {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101]. ما يتساءلون أين أخي؟ أين أبي؟ أين عمي؟ ما يتساءلون, بل يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه, وصاحبته وبنيه, لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه الرجال والنساء, ولما قالت عائشة: واسوأتاه الرجال والنساء في صعيد واحد, قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك». يتساءل الناس من ينجيهم من هذا الكرب, فيلهمون أن يأتوا إلى آدم أبي البشر فيسألونه الشفاعة فيعتذر, فيذهبون إلى نوح فيعتذر, إلى إبراهيم فيعتذر, إلى موسى فيعتذر, كل منهم يرى أنه فعل فعلًا لا يناسب أن يكون شفيعًا من أجل هذا الفعل, آدم يقول: إنه أكل من الشجرة التي نهي عنها, نوح يقال: إنه سأل ما ليس له به علم, إبراهيم يقول: إنه كذب ثلاث كذبات, موسى يقول: إنه قتل نفسًا لم يؤمر بقتلها, عيسى لا يذكر شيئًا يحول بينه وبين الشفاعة, ولكنه يحيلهم على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أشرف الناس, فيقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فيأتون إلى محمد صلى الله عليه وسلم يسألونه الشفاعة عند رب العالمين فيشفع إلى الله عز وجل, فيجيب الله تعالى الشفاعة ويقضي بين العباد فيريحهم من هذا الموقف, إذن هذا الموقف يحمد فيه من؟ الأولون والآخرون؛ لأنه خلص الناس من كرب عظيم, هذا من المقام المحمود الذي قال الله تعالى فيه: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} [الإسراء: 79]. ولهذا قال: «الذي وعدته» في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} فإذا قال قائل: أهذا وعد؟ قلنا: نعم, كما قال بعض السلف: «عسى» من الله واجبة, إذن فهو وعد, والذي علمنا هذا الدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنستفيد من هذا أن «عسى» من الله وعد, فإذا قرأنا قول الله تعالى: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم} [النساء: 98 - 99]. ماذا نقول: هذا وعد أو غير وعد؟ وعد, ولابد أن يقع في آخره. «إنك لا تخلف الميعاد» وهذه الجملة اختلف فيها المحدثون أصحيحة هي أم لا؟ صححها شيخنا عبد العزيز بن باز وناهيك به في علم الحديث, فإنني لا أعلم له مثيلًا في المملكة فمرة صححه ومرة حسنه, وعلى كل حال فالجملة «إنك لا تخلف الميعاد» هي مطابقة تمامًا لما

جاء في دعاء المؤمنين في القرآن: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} [آل عمران: 194]. وحينئذ لا إنكار على من زادها, بل يحمد من زادها. في هذا الحديث فوائد منها: مشروعية هذا الدعاء عند سماع المؤذن, وظاهر الحديث أن أي مؤذن يؤذن أذانًا مشروعًا فإنه يقال بعده هذا الدعاء, وعليه فالأذان الأول في يوم الجمعة الذي سنه عثمان يتابع, ويدعى بعده بهذا الدعاء؛ لأنه أذان مشروع, وقد تكايس قوم؛ أي: طلبوا الكيس, ولكنهم تكايسوا إلى أسفل, قالوا: الأذان الأول يوم الجمعة غير مشروع, بل تجرأ بعضهم - والعياذ بالله - وقال: إنه بدعة, وسبحان الله! أن يتجرأ جريء على أذان سنه خليفة من الخلفاء الراشدين وأقره عليه الصحابة - رضي الله عنهم - ما أنكروا عليه حتى يأتي ضعيف التصور وضعيف التفكير, ويقول: هذا بدعة, أليس ما سنه الخلفاء الراشدون مما أمرنا باتباعه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي». ثم ألسنا دون الصحابة بمراحل, والصحابة فوقنا بدرجات, هل أنكروا على عثمان؟ ما أنكروا عليه, ولو كان شيئًا منكرًا لأنكروا عليه كما أنكروا عليه الإتمام في منى. الصحابة لا تأخذهم في الله لومة لائم. فالأذان الأول يوم الجمعة أذان مشروع بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم وبسنة الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه, وبإجماع الصحابة فيما نعلم, وعليه فمتابعته سنة مشروعة, والدعاء بعده بهذا الدعاء أيضًا مشروع. ومن فوائد الحديث: أن من لم يسمع النداء فإنه لا يقوله, يعني: لو فرض أن الإنسان استيقظ بعد إتمام المؤذنين أذانهم ودعا بهذا الدعاء فإننا نقول: ليس بمشروع؛ لماذا؟ ما سمع النداء, والنبي صلى الله عليه وسلم رتب هذا على من سمع النداء. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي أن يصدر الإنسان دعاءه بمثل هذه الجملة: «اللهم رب» , وهذا كثير في الدعاء لا في القرآن ولا في السنة. ومن فوائد هذا الحديث: أن الأذان من الدعوات التامة «رب هذه الدعوة التامة».

ومن فوائد هذا الحديث: شرف الأذان؛ حيث أضاف النبي صلى الله عليه وسلم الربوبية إليه فقال: «اللهم رب هذه الدعوة». ومن فوائد هذا الحديث: الثناء على الصلاة بأنها صلاة قائمة مستقيمة؛ لقوله: «والصلاة القائمة». ومن فوائد هذا الحديث: «آت سيدنا» أي: زيادة سيدنا بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها أمته, فإن قال الزائد: ألست تؤمن بأن رسول الله سيدنا؟ فالجواب: بلى, ومن سيادته لنا ألا نزيد على ما علمنا؛ لأننا إذا زدنا على ما علمنا جعلنا أنفسنا أعلم منه بشريعة الله وأسد رأيًا, والذي يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم سيدًا حقيقة هو الذي لا يتقدم بين يديه ولا يبتدع في دينه ما ليس منه, بل يعظمه ويحترمه. ومن فوائد هذا الحديث: جاز ذكر اسم الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه عند الخبر, أما عند دعائه وندائه فلا, عندما تدعو الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته, قل: يا رسول الله, يا نبي الله, لا تقل: يا محمد؛ لقول الله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} [النور: 63]. على أحد التفسيرين في هذه الآية. ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جعل الله الوسيلة له والفضيلة, وذلك بالإضافة إلى ما ذكرته لكم من أن الوسيلة درجة في الجنة لا ينبغي إلا أن تكون لعبد من عباد الله, قال: «وأرجو أن أكون أنا هو» ز ومن فوائد هذا الحديث: الإيمان بالبعث, لقوله: «وابعثه مقامًا محمودًا». ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة الرسول صلى الله عليه وسلم, حيث أمرنا أن ندعو الله تعالى بهذا الدعاء الذي لابد أن يستجاب؛ لأنه لو كان لا يستجاب لكان أمر النبي صلى الله عليه وسلم إيانا به عبثًا لغوًا. ومن فوائد هذا الحديث: التوسل إلى الله - تبارك وتعالى - بصفاته؛ لقوله: «الذي وعدته» , ولا شك أن هذا الوصف من وسيلة الإجابة, فإن الناس حتى فيما بينهم يقول: يا فلان, أعطني كذا وكذا؛ لأنك وعدتني من أجل تأكيد إجابة المطلوب. من فوائد هذا الحديث: إثبات الشفاعة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: «حلت له شفاعتي يوم القيامة» , والشفاعة نوعان: عامة في جميع الخلق, وخاصة, فالعامة في جميع الخلق هي أن يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف أن يقضى بينهم, فهذه عامة, لكنها خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ بمعنى: أنه لا يتقدم إليها أحد سوى الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا يشترط فيها - أي: في هذه الشفاعة - رضا الله عن المشفوع له؛ لماذا؟ لأن من ضمنها أعداء الله من المشركين والكفار يدخلون في هذه الشفاعة.

الثانية: الشفاعة الخاصة بالمؤمنين لا تكون لكل أحد بالمؤمنين العصاة الذين استحقوا دخول النار دون الخلود فيها, فهؤلاء يشفع فيهم النبيون, والصديقون, والشهداء, والملائكة, والصالحون فيمن استحق النار ألا يدخلها, وفيمن دخلها أن يخرج منها, وهذا النوع من الشفاعة ينكره الوعيدية من المعتزلة والخوارج؛ لأن المعتزلة والخوارج يرون ألا شفاعة في عاصٍ قد عصى بكبيرة؛ لأن المعتزلة والخوارج كل منهم يقول: إن فاعل الكبيرة مخلد في النار, والمخلد في النار ليس فيه شفاعة, لكن أهل الحق يقولون: إن هذه ثابتة وتواترت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد هذا الحديث: هذا الثواب العظيم لمن قال هذا الدعاء أن تحل له شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم, أي الشفاعتين؟ الخاصة. الحديث فيه مباحث: إذا قال قائل: كيف حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الدعوة وقد حصلت له, وكيف حثنا على الصلاة عليه وقد حصلت له {إن الله وملائكته يصلون على النبي} , وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} [الأحزاب: 56]. وكيف حثنا وأمرنا أن نصلي عليه مع أنه يأمرنا أن ندعو له, وسؤال الغير أن يدعو للإنسان غير مستحسن, كم مبحثًا الآن؟ ثلاثة مباحث: الأول: كيف أمرنا أو حثنا على الدعاء بهذا وقد حصل له الجواب على ذلك: أنه ربما يكون من أسباب الحصول دعاء الأمة؛ لأن الأسباب قد تكون واحدًا أو اثنين أو ثلاثة أو عشرة. ثانيًا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حثنا على ذلك من أجل أن نذكر ما للرسول صلى الله عليه وسلم من حق علينا أن ندعو له عند كل أذان في اليوم خمس مرات على الأقل: الإشكال الثاني: أمرنا وحثنا على الصلاة عليه - عليه الصلاة والسلام - مع أن الله أخبر أنه يصلي عليه؟ الجواب: أنه أمرنا بذلك لمصلحتنا من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرا. إذن المصلحة لمن؟ لنا, لكن أمرنا بذلك وهي للرسول عليه الصلاة والسلام من أجل ما قدمنا قبل قليل أن نذكره - عليه الصلاة والسلام -, وألا يبعد عن قلوبنا. ويقال أيضًا في الإشكال الثالث, وهو كيف يسأل أن ندعو له؟ نقول: هو ما سأل أن ندعو له لمصلحته هو؛ لأنه عارف - عليه الصلاة والسلام - وعالم أنه حاصل له لكن لمصلحتنا نحن؛ لأن الصلاة عليه الواحدة بعشر صلوات.

3 - باب شروط الصلاة

أسئلة: - ما سبب مشروعية الأذان؟ - ما هو الأذان لغة؟ وفي الشرع؟ - هل يخالف المستمع المؤذن في شيء؟ - ما الحكمة في أنه لا يوافقه في الحيعلتين؟ - ما المقصود بلا حول ولا قوة إلا بالله؟ - ماذا يقول السامع إذا سمع المؤذن في الفجر يقول: الصلاة خير من النوم؟ - اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة؛ ما معنى الصلاة القائمة؟ *** 3 - باب شروط الصلاة الشروط جمع شرط, والشرط ما تتوقف عليه صحة العبادة أو العقد, هذا إذا كان شرطًا للعبادة, أما الشرط في العقد فهو يختلف, الشرط في العقد ما يتوقف عليه لزوم العقد, فعندنا الآن شرط للصحة, وشرط للزوم, الشرط للصحة من قبل الشرع, ليس لنا فيه تدخل الشرط للزوم من قبل العبد, فمثلًا رجل باع بيتًا وشرط سكناه سنة؛ تقول: هذا شرط للبيع أو في البيع؟ في البيع, فهو شرط للزوم, وأما إذا باع بعد نداء الجمعة الثاني فإنه لا يصح البيع لوجود المانع, فالحاصل: أن شرط الشيء من عبادة أو عقد ما تتوقف عليه صحته. فإن قال قائل: ما هذه الشروط؟ ما هذه الواجبات؟ ما هذه الأركان التي قالها العلماء, أتجدون هذا في القرآن أو السنة؟ الجواب: لا, لا نجد هذا في الكتاب والسنة, لكن العلماء - رحمهم الله - تتبعوا النصوص وأحصوا ما يشترط للعبادة أو المعاملة, ثم جمعوها ورتبوها حيث ما تقتضيه النصوص تسهيلًا لطالب العلم, وحينئذ لا يجوز الاعتراض على ما مشى عليه العلماء؛ لأن بعض الناس يقول: ما لنا وللشروط, ما لنا وللأركان ما لنا وللواجبات, هذه أوصاف ما أنزل الله بها من سلطان, فيقال: سبحان الله! إن الناس لا يتعبدون الله تعالى بهذه الأوصاف, لكن جعلوها وسيلة لتقريب العلوم على طالب العلم, والوسائل لها أحكام المقاصد. فلا تغتر بمن يقول: لا, دع الناس يفعلون العبادات بدون أن يعلموا أنها شرط أو واجب أو ركن, ولا تتعرض لهذا, نقول: الحمد لله هذه مسائل احتاج المسلمون إليها لفض المسائل العلمية وتسهيلها على الطالب وليست

شرط الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر

هي مقصودة بذاتها حتى نقول: إننا أحدثنا في دين الله ما ليس منه. شروط الصلاة إذن ما تتوقف عليه صحة الصلاة. شرط الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر: 197 - عن علي بن طلق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف, وليتوضأ, وليعد الصلاة». رواه الخمسة, وصححه ابن حبان. «إذا فسا» الفساء معروف, وهو الريح التي تخرج من الدبر, وهل هناك ريح تخرج من غير الدبر؟ نعم, بعض النساء تحس بريح تخرج من فرجها, هذا لا عبرة بها ولا يترتب عليها شيء, لكن الريح التي تخرج من الدبر هي التي تترتب عليها الأحكام. «إذا فسا أحدكم» هنا فساء, وهناك ضراط الفرق بينهما: ما كان له صوت فهو ضراط, وما لم يكن له صوت فهو فساء, وقوله: «في الصلاة» يشمل ما إذا كان في أول الصلاة أو في آخرها, ويشمل كل صلاة تشترط لها الطهارة, وقوله: «فلينصرف» يعني: من صلاته؛ ولأنها بطلت فلا فائدة من الاستمرار فيها, «وليتوضأ» وذلك لانتقاض وضوئه بالفساد, وليعد الصلاة بعدها من جديد أم يبني؟ من جديد؛ لأنه قال: «وليعد» , والإعادة: فعل الشيء ثانية. ففي هذا الحديث فوائد: منها: ما ساقه المؤلف من أجله, وهو أن من شرط صحة الصلاة أن يكون الإنسان متوضئًا؛ لقوله: «فلينصرف وليتوضأ وليعد الصلاة» , وبناء على ذلك لو صلى وهو محدث فإن كان عامدًا فقد أتى ذنبًا عظيمًا, حتى إن بعض أهل العلم كفره, وقال: إذا صلى محدثًا وهو عالم فهو كافر, وعلل ذلك بأنه مستهزئ بآيات الله عز وجل لكن جمهور العلماء على أنه لا يكفر, ولكن قد أتى إثمًا عظيمًا, وإن كان ناسيًا أو جاهلًا فلا إثم عليه, لكن عليه الإعادة, مثال ذلك: رجل صلى المغرب بوضوء, ثم أحدث ولم يتوضأ, ثم صلى العشاء ناسيًا أنه أحدث بعد صلاة المغرب, فصلاة العشاء غير صحيحة؛ لأنه صلى بغير وضوء. مثال آخر: رجل صلى المغرب بوضوء ثم تعشى وأكل لحم إبل, ولم يعلم أنه لحم إبل, ثم صلى العشاء, وعلم بعد صلاة العشاء, فعليه أن يتوضأ ويعيد صلاة العشاء؛ لأنه صلى بغير وضوء, وإذا كان عليه جنابة فهل هو مثله أو لا؟ نعم هو مثله؛ لأنه يستبيح بالحدث الأصغر ما

لا يستبيحه بالحدث الأكبر, فإذا قدر أن رجلًا قام من الليل وصلى الفجر, ثم رأى على ثوبه أثر الجنابة فعليه أن يغتسل ويعيد الصلاة؛ لأنه صلى بغير طهارة. ومن فوائد هذا الحديث: جواز التصريح بما يستحيا منه عند الحاجة؛ لقوله: «إذا فسا أحدكم» والناطق بهذا هو أشد الناس حياء. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الانصراف من الصلاة إذا أحدث الإنسان, وأنه لا يجوز أن يستمر لقوله: «فلينصرف». فإن قال قائل: إذا حدث ذلك لي وأنا في الصف أنصرف أم أبقى أتابع بلا نية؟ فالجواب: انصرف حتى تتوضأ وتدرك ما بقي من الصلاة, فإن قال: أستحي أن أنصرف من الصف والناس ينظرون, فنقول: أولًا: لا حياء في مثل هذه الأمور؛ لأنها تعتري كل أحد. ثانيًا: إذا خفت من هذا تضع يدك على أنفك حتى إذا رآك الناس, قالوا: إن هذا الرجل أرعف أنفه, وإرعاف الأنف لكل أحد, وليس فيه حياء, المهم ألا تستمر, بعض الناس حدثني أنهم يستمرون إذا كانوا أئمة يقول: مشكل إذا انصرفت وأنا الإمام سيقولون: فسا إمامنا, وهذه مشكلة, نقول: الحمد الله الحق أحق أن يتبع, انصرف وأمر أحد المصلين أن يتمم بهم الصلاة, فإن لم تأمر أحدًا فللمصلين. أن يقدموا واحدًا منهم يتم بهم الصلاة, فإن لم يفعلوا صلوا فرادى. ومن فوائد هذا الحديث: عظم شأن الصلاة, وما أحراها وأجدرها بتعظيم الشأن؛ لأن الإنسان إذا صلى حقيقة - يا إخواننا - ينسلخ من الدنيا ويقبل على الله عز وجل, وجدير بمن انسلخ ليقف بين يدي الله عز وجل أن يكون على أكمل وجه حتى إن بعض السلف لما قرر الأطباء أنه لابد من قطع رجله وافق على ذلك, ولكن قال: دعوني أصلي فإذا دخلت في الصلاة فاقطعوها, لماذا؟ لأنه إذا دخل في الصلاة نسي كل شيء, وصار قطعهم إياها غير مؤلم ولا موجع؛ لأنه مشغول بكونه بين يدي الله عز وجل فالمهم أن إيجاب الطهارة للصلاة دليل على عظم شأنها وأنها جديرة بذلك. ومن فوائد الحديث: أن من حصل له حدث في صلاته فإنه لا يبني على ما مضى بل يستأنف الصلاة, ويتفرع على هذا أنه لو أحدث في الطواف وقلنا: بأن الوضوء شرط لصحة الطواف, فإنه ينصرف من الطواف وجوبًا ويتوضأ, ويبني على ما سبق أو يستأنف الطواف؟ يستأنف الطواف, وما أعظم مشقة هذا في أيام المواسم. رجل أحدث في الشوط السابع وبشق الأنفس بلغ الشوط السابع, فنقول: له اخرج وتوضأ,

ومن المعلوم أنه سيجد مشقة في الخروج من صحن المطاف, ثم بوجود محلًا يتوضأ فيه؛ لأن الميضآت ستكون مزدحمة, ربما يمشي كيلوات حتى يجد ما يتوضأ به, ثم إذا رجع نقول: أعد من جديد؛ ولهذا كان القول الذي ينبغي أن يفتى الناس به - لا سيما في المواسم - قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الوضوء في الطواف ليس بشرط لكنه من كماله, وأما أنه شرط لصحته كما يشترط ذلك في الصلاة فلا دليل عليه, لا في القرآن ولا في السنة, وقد بحث شيخ الإسلام رحمه الله بحثًا مستفيضًا في فتاويه وفي منسكه, بحثًا إذا قرأه الإنسان علم أن القول الصواب هو قول شيخ الإسلام رحمه الله, بأن الطواف لا يشترط له الوضوء لكنه من كماله, ولاسيما في أيام المواسم والزحام الشديد؛ لأن الإنسان يجد حرجًا أن نكلف عباد الله بالوضوء وإعادة الطواف مع عدم وجود دليل يكون له حجة عند الله عز وجل. إذن من شرط صحة الصلاة: الطهارة من الحدث حتى يتوضأ, فإن نسي أو جهل أعاد الصلاة, وهل مثل ذلك إذا نسي أو جهل النجاسة في ثوبه؟ لا, لو صلى وفي ثوبه نجاسة ناسيًا أن يغسلها فصلاته صحيحة, لو لم يعلم بالنجاسة في ثوبه؟ لا, لو صلى وفي ثوبه نجاسة ناسيًا أن يغسلها فصلاته صحيحة, لو لم يعلم بالنجاسة في ثوبه إلا بعد الصلاة لم يلزمه أن يعيدها, لو كان يعلم بهذه البقعة لكن لم يتيقن أنها نجاسة إلا بعد الصلاة لم يلزمه أن يعيدها, والفرق أن اجتناب النجاسة من باب ترك المحظور, وعدم الوضوء من باب ترك المأمور, والفرق بينهما ظاهر. أسئلة: - ما هو الفرق بين شروط الشيء والشروط في الشيء؟ - ما هي الحكمة من وضع الشروط في العبادات شروط وجوب الحج, شروط وجوب الصوم, شروط وجوب الزكاة وغيرها, ما هي الحكمة؟ الحكمة لأجل أن ينضبط الناس في العبادات بحيث يكون أمرهم واحدًا؛ لأنها لو لم تذكر هذه الشروط لكان كل واحد يذهب مذهبًا غير مذهب أخيه, فكان من حكمة الله عز وجل أن تكون هناك شروط للوجوب, وشروط للصحة حتى ينضبط الناس في العبادات ولا يختلف بعضهم عن بعض. - ما سبب إدخال المؤلف حديث علي بن طلق في شروط الصلاة؟ - هل هناك دليل يؤيد هذا؟ - ما دليل انصراف الرجل من الصلاة إذا أحدث؟

* تكملة الفوائد: ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: أنه لا يجب الاستنجاء من الريح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر إلا بالوضوء. فإن قال قائل: من لازم الوضوء الاستنجاء؟ قلنا: لا, ليس من لازمه الاستنجاء, بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ». فإن قال قائل: هل يقاس على هذا بقية شروط الصلاة, وأنها إذا فقدت وهو يصلي وجب عليه أن ينصرف مثل أن تطير الريح في ثوبه فيبقى عاريًا؛ فهل يلزمه أن يخرج من الصلاة ويلبس الثوب؟ الجواب: نعم, إذ لا فرق, فلو فقد شرط من شروط الصلاة في أثناء الصلاة وجب على المصلي أن يصرف ليأتي بهذا الشرط. 198 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار». رواه الخمسة إلا النسائي, وصححه ابن خزيمة. «لا يقبل الله» نفي القبول تارة يراد به: رد العبارة المستلزم لعدم صحتها ووجوب إعادتها, وتارة يرادبه: أنها لا تقبل؛ بمعنى: أن السيئة التي في هذه العبادة تربو على المفسدة, أو السيئة التي خارج العبادة تربوا على مصلحة الصلاة فلا تقبل, وهذا لا يستلزم الفساد, والأصل أن نفي القبول يعني رد العبادة, فإذا وجد دليل يدل على أنها تقبل مع هذا الذي انتفى القبول من أجله صار معنى ذلك: أن السيئة التي منعت القبول تكون محيطة بهذه الحسنة. مثال الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ». معنى نفي القبول هنا: الرد, وأن العبادة لا تجزؤه, وعليه أن يعيدها. ومثال الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافًا فسأله؛ لم يقبل له صلاة أربعين يومًا». فنفي القبل هنا لا يعني الرد؛ لكن يعني أن ذهابه إلى العراف وسؤاله إياه سيئة تحيط بحسنة, هذه العبادة وإن كانت هي صحيحة غير مردودة, ولهذا لا نقول لهذا الرجل: يجب أن تعيد الصلاة بعد مضي أربعين يومًا. وقوله: «حائض» أي: متصفة بالحيض, يعني: قد حاضت, وليس المراد أنها متلبسة بالحيض؛ لأن الحائض لا تصح منها الصلاة مطلقًا, لكن المراد: أنها بلغت بالحيض.

وقوله: «إلا بخمار» الخمار ما يخمر به الرأس؛ أي: يغطى به. ففي هذا الحديث فوائد منها: أن العبادات قد تقع مقبولة أو مردودة, فما هو الضابط؟ الضابط ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد». وفي لفظ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» , فهذا الضابط في المردود, وما عدا ذلك فهو مقبول. ومن فوائد هذا الحديث: أن المرأة إذا بلغت وجب عليها عند الصلاة أن تستر رأسها بالخمار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار». سكت عن بقية البدن, سكت عنه لأحد أمرين: إما أن يكون بقية البدن ليس من العورة في الصلاة, وإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سكت عنه لأن ستره معلوم, فلننظر: الوجه سكت عنه فماذا نقول؟ نقول: سكت عنه؛ لأن ستره في الصلاة ليس بواجب, سكت عن اليدين والقدمين هل نقول: لأن سترهما معلوم, أو لأن كشفهما معلوم؟ يحتمل هذا وهذا؛ ولذلك اختلف العلماء - رحمهم الله - في وجوب ستر الكفين والقدمين في أثناء الصلاة, فمنهم من قال بالوجوب, ومنهم من قال بعدم الوجوب, والقول بعدم الوجوب أظهر, والقول بالوجوب - أي: وجوب الستر - أحوط, وعلى هذا فنأمر المرأة قبل أن تصلي أن تستر الكفين والقدمين, لكن لو أنها صلت مكشوفة الكفين والقدمين ثم جاءت تسأل فهل نأمرها بالإعادة أو لا؟ لا نأمرها؛ لأن الأظهر في الدليل عدم ستر الكفين والقدمين, يعني: هناك شيء يكون على سبيل الاحتياط يؤمر به الإنسان قبل فعله, أما بعد أن يفعل فما وجب على سبيل الاحتياط لا يمكن أن يقوى على إبطال العبادة. ومن فوائد هذا الحديث: التفريق بين الصغيرة والبالغة؛ لأن قوله: «حائض» وصف مؤثر, مفهومه: أن غير الحائض تصلي بدون خمار, فالمرأة التي لم تبلغ ولو بلغت إحدى عشرة سنة, أو اثنتي عشرة سنة, أو ثلاث عشرة, أو أربع عشرة سنة ولو تبلغ, عورتها في الصلاة ما بين السرة والركبة كما قال الفقهاء - رحمهم الله -, بمعنى: أنها لو صلت وقد انكشفت ذراعها, أو عضدها, أو رقبتها, أو ساقها فصلاتها صحيحة؛ لأنها لم تكن بالغة. ومن فوائد هذا الحديث: أن الحيض يحصل به البلوغ, وجه ذلك: تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين الحائض وغير الحائض, فلولا أن هناك تمييزًا بينهما بأن تكون الحائض مكلفة, ومن لم تحض غير مكلفة لكان تعليق الحكم بهذا الوصف عديم التأثير. فإن قال قائل: وهل يحكم ببلوغ الأنثى بالنفاس؟ فالجواب: لا, وهذا مما يفرق فيه بن الحيض والنفاس؛ لأن حملها لا يكون إلا بإنزال,

شرط ستر العورة وضوابطه

فتكون بالغة بالإنزال السابق للحمل, أما النفاس فهو بعده, وهذا من الفروق بين النفاس والحيض, ومن الفروق: أن الطلاق في النفاس جائز, وفي الحيض ليس بجائز, دليل ذلك قول الله - تبارك وتعالى -: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]. والنفاس لا يعتد به في العدة, وإذا كان لا يعتد به في العدة, وإنما تبدأ المطلقة في العدة من حين الطلاق فإنه يكون قد طلق للعدة, أما الحيض فهو إذا طلق في أثناء الحيضة ستلغى هذه الحيضة التي وقع فيها الطلاق وحينئذ لم يكن طلق للعدة؛ لأن عدة الحائض ثلاث حيض. فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «مره - يعني: عبد الله بن عمر - فليطلقها طاهرة أو حاملًا». قلنا: بلى, لكن ليطلقها طاهرًا من الحيض؛ لأن ابن عمر طلقها وهي حائض؛ ولهذا قال: «أو حاملًا» , واستدل النبي صلى الله عليه وسلم بالآية, فيكون هنا فرق بين النفاس وبين الحيض, الحيض لا يجوز فيه الطلاق, والنفاس يجوز فيه الطلاق, وفيه ستة فروق مع أن كثيرًا من الفقهاء لم يذكروا إلا أربعة لكن فيه زيادة. شرط ستر العورة وضوابطه: 199 - وعن جابر رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إذا كان الثوب واسعًا فالتحق به» - يعني: في الصلاة -. ولمسلم: «فخالف بين طرفيه وإن كان ضيقًا فاتزر به». متفق عليه. قال: «إذا كان الثوب واسعًا فالتحف به» , يعني: اجعله لحافًا لك يشمل جميع البدن؛ ولهذا قال: «خالف بين طرفيه, وإن كان ضيقًا فاتزر به» يعني: استر أسفل البدن؛ لأنه إذا كان ضيقًا لا يتسع للبدن كله, فهو إما أن يستر أعلاه أو يستر أسفله, وأيهما أحق؟ ستر الأسفل؛ ولهذا قال: «فاتزر به» , أي: اجعله إزارًا, فهذا أيضًا يستفاد منه أنه لابد من ستر العورة في جميع البدن, لكن إذا كان الثوب واسعًا, فإن كان ضيقًا كفى الاستتار, فيستفاد من هذا الذي ذكرنا: أن الأولى للإنسان في حال الصلاة أن يستر جميع بدنه, ويدل لهذا قول الله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31]. يعني: لباسكم, عند كل مسجد أي: عند كل صلاة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجب ستر أعلى البدن في حال الصلاة لقوله: «فاتزر به» ولم يقل: فصل بما يستر البدن, أو كلمة نحوها, فدل هذا على أن أعلى البدن ليس بعورة وهو كذلك, وقد ذكر العلماء - رحمهم الله - أن عورة الرجل في الصلاة ما بين السرة والركبة, فتكون

الفخذان داخلتين في العورة في الصلاة, وتكون الركبة والسرة غير داخلتين في العورة؛ لأن العبارة «ما بين السرة والركبة»؛ فالسرة والركبة ليستا من العورة. ومن فوائد هذا الحديث: التيسير على الأمة؛ حيث فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الواسع والضيق, وهذه القاعدة في الشريعة الإسلامية قاعدة أصيلة, قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الذين يسر». وقال لمن يبعثهم لدعوة الناس إلى الإسلام: «يسروا ولا تعسروا؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين». فاتخذ هذه القاعدة بين عينيك دائمًا أن الدين الإسلامي - والحمد لله - دين اليسر والسهولة والسماحة. ومن فوائد هذا الحديث: أن أسفل البدن أولى بالستر من أعلاه؛ لقوله: «إن كان ضيقًا فاتزر به». قال: 200 - ولهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء». وفي لفظ بالتثنية: «ليس على عاتقيه» , ولا منافاة, قوله: «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد» المراد بالثوب في الحديث ليس هو القميص, بل الثوب ما يستتر به الإنسان من قميص, أو إزار, أو لحاف, أغير ذلك. وقوله: «في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» العاتق: هو ما بين الكتف وأصل العنق, وقوله: «شيء» نكرة في سياق النفي فيعم القليل والكثير, ولنضرب لهذا مثلًا: لو كان عند إنسان خرقة يريد أن يصلي بها, قلنا: لا تصلي فيها إلا وعلى عاتقك منها شيء, ولا شك أن هذا كمال الستر, لكن هل هذا واجب, أو هذا على سبيل الاستحباب؟ اختلف في ذلك العلماء - رحمهم الله - فقال بعضهم: إن ستر المنكبين واجب في الفريضة والنافلة. وقال بعضهم: في الفريضة دون النافلة. وقال آخرون: إنه ليس بواجب, ولكنه من كمال الستر, وهذا هو الأصح؛ ويدل له حديث جابر رضي الله عنه السابق. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الصلاة في ثوب واحد, وأنه لابد للمصلي أن يضع على

عاتقه منه شيء, وهل هو على سبيل الاستحباب أو الوجوب, أو التفصيل؟ الصحيح التفريق في ذلك بين الفرض والنفل. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يشترط أنه يلبس الإنسان ثوبين في الصلاة, يعني: قميصًا وسراويل مثلًا, وأنه لو صلى في قميص كفى؛ لأن القميص سيكون على عاتقيه منه شيء. مسألة: لو أن أحدًا صلى في إزار فقط, هل تجزئه الصلاة؟ الجواب: إذا لم يجد سواه فلا شك أنها تجزئه, وإن وجد فإن من العلماء من يقول: إن صلاته باطلة, وهؤلاء هم الذين يقولون بوجوب ستر العاتق, ومنهم من يقول: صلاته صحيحة, لكنه قصر في ستر العورة, وهذا هو الصحيح, وهذا يحصل كثيرًا في أيام الحج, تجد الرجل يشتغل مثلًا في طبيخ أو غيره ويصلي في إزاره وردائه الحاضر؛ فعلى القول الراجح تكون صلاته صحيحة, وعلى القول باشتراط ستر أحد المنكبين أو المنكبين جميعًا تكون صلاته باطلة, ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يتهاون في هذه المسألة مع وجود الخلاف بين العلماء. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الصلاة في ثوب واحد إذا جعل على عاتقه منه شيء؛ لقوله: «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد» وهو كذلك, وعلى هذا فلو صلى الإنسان في ثوب واحد, ورأسه مكشوفة وهو رجل فصلاته صحيحة. فإن قال قائل: وهل يستحب ستر الرأس للرجل في الصلاة؟ فالجواب: يرجع في ذلك إلى الآية {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31]. فإذا كان من قوم لا يتم أخذ زينتهم إلا بغطاء الرأس قلنا: غطاء الرأس مستحب, وإذا كان من قوم لا يهتمون بهذا ولا يجعلون غطاء الرأس من الزينة قلنا: لا يستحب؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. 201 - وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: «أتصلي المرأة في درع وخمار بغير إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها». أخرجه أبو داود, وصحح الأئمة وقفه. قوله: «أتصلي المرأة» الاستفهام هنا للاستخبار والاستعلام, «في درع وخمار» , الدرع: هو الثوب يشبه القميص وسمي درعًا لأنه يشبه الدرع الذي يلبسه المقاتل في اتقاء السهام, والخمار: ما

يغطى به الرأس والرقبة, «بغير إزار» ما يأتزر به الإنسان فيستر أسافل بدنه, فقال: «إذا كان الدرع سابغًا» السابغ يعني: الوافي تام, ثم فسره بقوله: «يغطي ظهور قدميها» يعني: فلا بأس. في هذا الحديث يقول المؤلف: «أخرجه أبو داود, وصحح الأئمة وقفه» , وقفه: يعني جعله من كلام أم سلمة رضي الله عنها, فهل يقال: إن هذا الموقوف له حكم الرفع؛ لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي, أو يقال: إنه موقوف ليس له حكم الرفع؛ لأنه قد تقوله بالرأي, قد ترى رضي الله عنها أن من تمام أخذ الزينة أن يكون درعها سابغًا يغطي ظهور قدميها, والفرق بين الموقوف والمرفوع: أن ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرفوع, وما أضيف إلى الصحابي فهو موقوف, وما أضيف إلى التابعي فمن بعده فهو مقطوع. من فوائد هذا الحديث إذا صح مرفوعًا: حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على الفقه في الدين, وذلك بسؤال أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما جاء في هذا الحديث, وأسئلة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة في القرآن, منها نحو اثني عشر سؤالًا: {يسألونك ماذا ينفقون} [البقرة: 215]. {يسألونك عن الخمر والميسر} [البقرة: 219]. {ويسألونك على المحيض} [البقرة: 222]. حوالي اثني عشر سؤالًا, لكن في السنة كثير جدًا, وهو يدل على عناية الصحابة - رضي الله عنهم - بدينهم وحرصهم على الفقه في الدين. ومن فوائد هذا الحديث: جواز صلاة المرأة في الدرع, لكن بشرط أن يغطي ظهور قدميها. ومن فوائد هذا الحديث: أن القدمين ليسا بعورة, ووجه ذلك: أن ما يغطي ظهور القدمين لا يغطي بطون القدمين عند السجود, ولو كان القدم عورة لقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا كان سابغًا يغطي ظهور قدميها وبطونهما عند السجود. ومن فوائد هذا الحديث: جواز نزول ثوب المرأة إلى أسفل من الكعب؛ لأنه من ضرورة تغطية ظهر القدم أن ينزل دون الكعب, بخلاف الرجل لا يحل له أن ينزل قميصه أو إزاره إلى أسفل من الكعبين, فإن صلى - أعني: الرجل - في ثوب ينزل عن الكعبين فهل صلاته صحيحة أو لا؟ في هذا خلاف بين العلماء, والصحيح أن الصلاة صحيحة, لكنه آثم؛ لأن ستر العورة حصل وكون الثوب محرمًا يعود إلى أمر خارج, بدليل أن هذا التحريم ليس خاصًا في الصلاة حتى نقول إنه مما يختص بها فيبطلها, بل هو تحريم عام؛ يعني: تحريم نزول الثوب بالنسبة للرجل أسفل الكعبين هذا عام في الصلاة وغير الصلاة, والتحريم العام لا يبطل الصلاة, ويدل

شروط الساتر وضرورة طهارته

لهذا - يعني: من هذه القواعد - الغيبة لا تفطر الصائم مع أنها حرام؛ لأن تحريمها لا يختص بالصوم, والأكل يفطر الصائم؛ لأن تحريمه خاص بالصوم. شروط الساتر وضرورة طهارته: انتهت الأحاديث التي ساقها ابن حجر في بلوغ المرام في ستر العورة, بقي الكلام على ما هي شروط الساتر؟ الساتر يشترط أن يكون مباحًا, فإن كان حرامًا فإنه لا يحل الستر به, كثوب الحرير للرجل في غير الحالات التي يباح له فيها لبسه, وكثوب الإسبال بالنسبة للرجل, لكن هذا الشرط فيه الخلاف كما قلت لكم, هل يكون هذا آثمًا وصلاته صحيحة, أو هو آثم وصلاته باطلة؟ فيه الخلاف, والراجح: أن صلاته صحيحة, لكنه آثم. ومن الشروط: أن يكون ما يستر به طاهرًا, فإن كان نجسًا فإنها لا تصح الصلاة به, دليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه لما أخبره جبريل بأن بهما قذرًا؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل ثوبه من النجاسة إذا بال الصبي على ثوبه غسله - عليه الصلاة والسلام -؛ ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم الحائض إذا أصاب ثوبها دم الحيض أن تغسله ثم تصلي فيه, هذان شرطان. الشرط الثالث: أن يكون صفيقًا بحيث لا يتبين من ورائه لون البشرة, فإن تبين من ورائه لون البشرة فليس بساتر, فلو ستر عورته بثوب بلاستيك يرى من ورائه لون البشرة فإن هذا الستر لا يصح؛ لأن وجوده كعدمه فلا تصح الصلاة به, لكن لو قال قائل: إذا لم يجد غير هذا البلاستيك هل يستتر به أو يصلي عريانا؟ الظاهر أن استتاره به أهون من كونه يصلي عريانًا بحتًا, فنقول: الأفضل أن تلبس هذا لأنه يوجد الآن ثياب بلاستيك يلبسها الناس أيام المطر بدل أن يحمل الإنسان الشمسية يلبسها على ثيابه العادية, فالشروط إذن ثلاثة. مسائل مهمة: إذا لم يجد شيئًا فإنه يصلي عريانًا ولكن هل يصلي قائمًا أو يصلي قاعدًا؟ معلوم أنه إذا صلى قاعدًا فهو أستر؛ لأنه يستر الدبر ويستر القبل أيضًا إذا ضم فخذيه, فيكون هذا أستر, لكن يفوته شيء آخر, وهو القيام في الفريضة, فاختلف العلماء في هذه الحال أيجلس أو يصلي قائمًا؟ الصحيح أنه يصلي قائمًا, وجه ذلك: أن القيام ركن, وأن الستر سقط بالعجز عنه,

والقيام هو قادر عليه والستر غير قادر عليه, إذن يسقط لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. وعلى هذا فيصلي قائمًا كالعابر عريانًا, هذا إذا كان خاليًا واضحًا أو كان في ظلمة, لكن إذا كان حوله أحد فهنا قد يشق عليه مشقة عظيمة مشقة نفسية أن يصلي قائمًا, فهل نقول: إن هذه المشقة واشتغال البال تبيح له أن يصلي جالسًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة بحضرة طعام, ولا هو يدافعه الأخبثان». واشتغال القلب في هذا أشد من اشتغاله بحضرة الطعام, فالقول في مثل هذه الحال بأنه يصلي جالسًا قريب جدًا, ويقال: إنه يصلي جالسًا لأجل كمال الصلاة وارتياح البال. إذا لم يجد إلا ثوبًا نجسًا ولم يتمكن من غسله فماذا يصنع, هل يصلي بالثوب النجس ولا يعيد, أو يصلي بالثوب النجس ويعيد, أو يصلي عريانًا؟ ثلاثة احتمالات؛ المشهور عند فقهائنا - رحمهم الله - أنه يصلي بالثوب النجس ويعيد, وهذا قول ضعيف جدًا؛ لأننا إن قلنا: إن الصلاة في الثوب النجس حرام, حرم أن يصلي فيه, وإن قلنا: إن الصلاة في الثوب النجس للضرورة جائز امتنع أن نقول: أعد الصلاة؛ لأنه صلى على حسب ما أمر به, هل يصلي عريانًا مع إمكان الستر؟ لا يصلي عريانًا؛ لأنه لا شك أن ستر العورة بثوب نجس أولى من أن يصلي عريان, فالصواب أنه إذا لم يجد إلا ثوبًا نجسًا فإنه يصلي فيه ولا يعيد؛ لأن حمله للنجاسة في هذه الحال ضرورة, ويحصل به ستر العورة, فيحصل المقصود بسبب هذا المقصود, ويعفى عن النجاسة؛ لأنه غير قادر على اجتنابها؛ هذا هو القول الراجح في هذه المسألة. إذا لم يجد إلا ثوبًا محرمًا كرجل ليس معه إلا ثوب حرير أيصلي عريانًا, أو يصلي في ثوب الحرير؟ نقول: يصلي في الثوب الحرير؛ لأنه لما اضطر إلى هذا الثوب زال التحريم, فصار لبسه في هذه الحال مباحًا, فيصلي وجوبًا في الثوب الحرير ولا إعادة عليه. إذا لم يجد إلا ثوبًا مغصوبًا, يعني: رجل سرق ثوبًا ولبسه وحانت الصلاة, فهل نقول يصلي عريانًا, أو يصلي في هذا الثوب المحرم؟ قال بعض العلماء: يصلي عريانًا؛ لأن تحريم هذا ليس لحق الله ولكن لحق الآدمي, وهو لا يملك أن يتصرف في ملك غيره, فوجوده كعدمه, ولا شك أن هذا التعليل تعليل قوي أن يقال: إذا لم يجد إلا ثوبًا لغيره مغصوبًا يصلي عريانًا لأن وجوده كعدمه, لكن قد يعارض هذا التعليل القوي بأن الناس في مثل هذه الحال يتسامحون؛ بمعنى: أن صاحب الثوب لا نظنه يحرج هذا الذي لم يجد إلا هذا الثوب فإن غلب على ظننا أنه

شرط استقبال القبلة وضوابطه

سوف يسمح وجب أن يصلي في الثوب ولا إشكال وإن لم يغلب على ظننا ذلك فالقول بأنه يصلي عريانًا قوي. أسئلة: - ما دليل وجوب ستر العورة في الصلاة من القرآن والسنة؟ - ما شروط الساتر؟ - ما ضابط الصفيق الذي يحصل به الستر؟ أما العورة التي يجب سترها فإني لم أذكرها لكم, ولكن ذكر فقهاء الحنابلة أنها ثلاثة أنواع: مغلظة, ومخففة, ومتوسطة, فقالوا: المغلظة: عورة المرأة الحرة البالغة, قالوا: كلها عورة في الصلاة إلا وجهها, وعرفتم الخلاف في الكفين والقدمين. المخففة: عورة الذكر من سبع سنين إلى عشر سنين, فإنها الفرجان فقط - يعني: السوأتان ذكره, ودبره فقط -, أفخاذه وأعلى أفخاذه, وما حول الدبر وما حول القبل ليس من العورة, العورة فقط السوأتان الذكر والدبر, هذا المخففة الذكر من سبع سنين إلى عشر سنين, وما عدا ذلك متوسطة ما بين السرة والركبة يدخل في هذا الذكر الذي تم له عشر سنوات إلى آخر عمره, يدخل في ذلك الأمة, يدخل في ذلك الأنثى الصغيرة والحرة إذا لم تبلغ. هذه أحكام العورة عند فقهائنا - رحمهم الله تعالى -, وأنا شخصيًا أقلد المذهب في هذا؛ لأني لم أستطع أن أصل إلى شيء معين من السنة, وفرض العاجز هو التقليد لقوله تعالى: {فسألوا أهل الذكر إن كمتم لا تعلمون} [النحل: 43]. شرط استقبال القبلة وضوابطه: الآن نبدأ درسًا جديدًا وهو استقبال القبلة, وهو واجب بالكتاب والسنة؛ أما في الكتاب فقال الله - تبارك وتعالى -: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144}. هذا نص صريح, وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة يستقبل بيت المقدس إلى سنة وأربعة أشهر أو سبعة أشهر, ثم أمر بالتوجه إلى الكعبة, أما صلاته قبل ذلك لما كان في مكة فالظاهر أنه يستقبل الكعبة؛ لأنه لا حاجة لا يستقبل بيت المقدس, ويبعد جدًا أن يستقبل بيت المقدس والكعبة بين يديه, لكن لما قدم المدينة ووجد اليهود يتجهون إلى بيت المقدس توجه - عليه الصلاة والسلام - إلى بيت المقدس أخذا بقوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90]. أو لأي سبب رآه صلى الله عليه وسلم, لكنه مع هذا يتطلع إلى أن يتجه إلى قبلة أخرى؛ ولهذا قال الله عز وجل: {قد نرى تقلب

وجهك في السماء} [البقرة: 144]. كلمة {قد نرى} تدل على استمرار تقلب وجهه - عليه الصلاة والسلام -؛ لأنه لم يقل: «قد رأينا» , قد نرى فعل مضارع يدل على الاستمرار فكان ينظر إلى السماء لعله يصرف فصرفه الله عز وجل إلى الكعبة. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم, وأن اتجاه اليهود إلى بيت المقدس من تحريف الكلم عن مواضعه, ومن صنيع اليهود, وليس من شريعة الله, وأيا كان فالكعبة هي قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته إلى يوم القيامة, أما السنة فسيأتينا - إن شاء الله تعالى - بيان الأدلة من السنة على وجوب استقبال الكعبة ووجوب استقبال الكعبة لا شك أنه عين الحكمة والصواب والرحمة؛ لأنها تجمع الأمة الإسلامية على اتجاه واحد وهو الكعبة فما ظنكم لو كان كل إنسان يتجه إلى ما يريد لكان الناس في المسجد الواحد يختلفون, لكن الله تعالى - بحكمته ورحمته - جعل الكعبة واحدة, ثم اختار عز وجل أن تكون الكعبة؛ لأنها أول بيت وضع للناس, وأشرف مكان على وجه الأرض هي الكعبة, فكان هذا حكمةً أخرى أن يتجه الناس إلى هذا البيت العتيق الذي هو أول بيت وضع للناس. ولكن ما الفرض في استقبال القبلة؟ أما من أمكنه مشاهدة الكعبة فالفرض أن يتجه إلى عين الكعبة, وأما من لا يمكنه فالفرض أن يتجه إلى جهتها, والجهة كلما ابتعد الإنسان عن مكة اتسعت الجهة, وكلما قرب ضاقت الجهة, وأما قول بعض العلماء: من كان في المسجد الحرام فقبلته الكعبة, ومن كان بمكة فقبلته المسجد, ومن كان خارج مكة فقبلته مكة هذا ليس بصحيح, إنما يقال: من أمكنه مشاهدة الكعربة ففرضة أن يتجه إلى عين الكعبة, ومن لم يمكنه ولو في مكة اتجه إلى جهتها - أي: جهة الكعبة -, وكما قررنا أنه كلما بعد الإنسان عن الكعبة اتسعت الجهة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة: «ما بين المشرق والمغرب قبلة». وقال لهم: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها, ولكن شرقوا أو غربوا». فدل هذا على أنهم إذا اتجهوا للجنوب كل الجنوب يكون قبلة, أو إلى الشمال فكل الشمال يكون قبلة؛ ولهذا قال: «شرقوا أو غربوا».

يستثنى من وجوب استقبال القبلة: العاجز عن استقبال القبلة مثل أن يكون الإنسان مريضًا لا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة, ودليل سقوطها عنه قول الله - تبارك وتعالى -: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286]. وقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. الثاني: الخائف على نفسه من عدو, أو سيل, أو نار؛ فيتجه حيث كان وجهه؛ لقول الله تعالى: {فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا} [البقرة: 239]. ومعلوم أن الرجال الهاربين أو الركبان الهاربين فسوف يهربون إلى الجهة المخالفة للجهة المخوفة, والجهة المخوفة قد تكون شمالًا, أو جنوبًا, أو شرقًا, أو غربًا. الثالث: النفل في السفر, وسيأتي إن شاء الله. ولكن كيف تعرف القبلة؟ أما من كان يشاهد الكعبة فتعرف بالمعاينة, وأما من لا يمكنه مشاهدة الكعبة فتعرف بأدلة سماوية الشمس والقمر والنجوم, الشمس تشرق من المشرق وتغرب في المغرب, وكذلك القمر, وكذلك النجوم, وبعض النجوم ثابت في مكانه أو يتحرك قليلًا هذه العلامات, فإذا قدر أنك شرقي مكة فما قبلتك؟ الغرب, وإذا كنت غربي مكة, فقبلتك الشرق, إذا كنت بالجنوب فقبلتك الشمال ما بين مشرق الشمس ومغربها, وفي الشمال الجنوب ما بين مشرق الشمس ومغربها, وكذلك يقال في القمر والنجوم, النجوم من أثبتها وأقواها؟ القطب, ونحن في جهتنا هنا لا نشاهد إلا القطب الشمالي؛ لأن الأفق فيه قطبان شمالي وجنوبي نحن نشاهد الشمالي, فالشمالي يقولون: إنه نجم خفي لا يراه إلا حديد البصر, في غير ليالي القمر خفي جدًا إلا أن حوله نجم قوي واضح, وهو الجدي فهذا يدور حول القطب, ولذلك تجد مسافة دورانه مثل القرص الصغير؛ لأنه قريب من القطب, كلما بعدت النجوم عن القطب صار مدارها أوسع؛ ولهذا كان الناس عندنا منذ زمن يستدلون عليها بالجدي, الجدي هنا في منطقتنا يكون خلف أذن المصلي اليمنى إذا جعله خلف أذنه اليمنى فقد استقبل باب الكعبة, إذن يستدل بالشمس والقمر والنجوم هنا يعني في عصرنا الآن يسر الله - ولله الحمد - آلات وأجهزة تدلك على اتجاه القبلة, وإذا قدر أنها لا تصيب عين الكعبة فإنها تصيب قطعًا جهة الكعبة, وكفى لأنه ليس لنا أن نتعمق ونقول: لابد أن نصيب عين الكعبة وهي بعيدة عنا, ولكن الجهة يسرها الله - ولله الحمد - على وجوه شتى, وهي الآن سهلة المنال وسهلة العلم وهذا من التوفيق, لكن لو فرض أن الإنسان لم يجد ولا يعرف النجوم ولا الشمس ولا القمر ولا يجد آية يستدل بها فإنه يتحرى, وأي جهة يركن إليها ويميل إليها يتجه إليها وهذا قد يقع, يخرج الإنسان للبر وليس عنده علم من أدلة القبلة, وليس عنده من يسأله؛

فنقول: انظر ما تطمئن إليه نفسك واتجه إليه {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]. من ذلك ما ذكر المؤلف رحمه اللهك 202 - وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ مظلمةٍ, فأشكلت علينا القبلة فصلينا, فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة, فنزلت: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]». أخرجه الترمذي وضعفه. «نزلت» يعني: الآية. يقول: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة» وهذا في سفر لا شك, وأنهم لو كانوا في المدينة لم يشكل عليهم, وقوله: «فأشكلت علينا» الإشكال هو ضد الوضوح, وكأنهم تشاوروا فيما بينهم فأشكل عليهم الأمر, وهذه الجملة تدل على أن القوم تحروا واجتهدوا, قوله: «فصلينا, فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة». «لما طلعت الشمس» يعني: بعد أن انجلى الغيم وطلعت الشمس. «إذا نحن صلينا إلى غير القبلة». «لما طلعت الشمس إذا نحن» «إذا» هذه يسمونها إذا الفجائية. «إذا نحن» يعني: فاجأنا أننا صلينا إلى غير القبلة, فنزلت هذه الآية: {فأينما تولوا فثم وجه الله} , والآية التي نزلت ليست: {فأينما تولوا} , التي نزلت {{ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} , لكن أحيانًا يقولون نزلت الآية ويقتصرون على بعضها, {فأينما تولوا} هذه جملة شرطية {فثم وجه الله} جواب الشرط, و (ثم) بمعنى: هناك ومن باب الاستطراد, نسمع كثيرًا من الناس يعبر عن (ثم) يقول: (ثم) وهذا غلط ظاهر؛ لأن (ثم) حرف عطف, وليست (ثم) التي ضمنت ظرفًا. ففي هذا الحديث دليل على فوائد منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ لأنه لو كان يعلم الغيب لعلم أين تكون القبلة. ومنها: أن من اجتهد أو تحرى ولم يصب القبلة فليس عليه إعادة؛ لأن الله تعالى قال: {فأينما تولوا فثم وجه الله} , ولكن يشترط في هذا ألا يكون فرط في التقصي عن القبلة, فإن كان فرط فعليه الإعادة؛ لأنه ترك شرطًا من شروط الصلاة. مثال المفرط: رجل نزل ضيفًا عند قوم وأراد الصلاة, ولم يسأل أهل البيت أين القبلة, لكن وقع في قلبه أن القبلة إلى جهة ما, فصلى إلى هذه الجهة, وتبين أنه إلى غير القبلة؛ فهذا يعيد الصلاة؛ لأنه لم يتق الله ما استطاع, أخل يركن من أركان الصلاة دون أن يتقي الله ما استطاع, فإن قال له أهل البيت: القبلة هاهنا وصلى إليها ثم تبين أن أهل البيت مخطئون فليس عليه شيء؛ لماذا؟ لأنه اتقى الله ما استطاع,

أهل البيت أدرى به وجهوه إلى هذه الجهة, فلا يلزمه أكثر من هذا, فإن سأل صبيًا قال له: أين القبلة؟ فقال له: القبلة هذه, ثم تبين أنه خطأ يعيد أو لا؟ يعيد, لماذا؟ لأن الصبي لا يوثق به, فهو مفرط إذا اعتمد على قول الصبي؛ ولهذا ينبغي للإنسان إذا نزل ضيفًا على أحد وهو يريد أن يصلي أن يسأل صاحب البيت أين القبلة, حتى لا يقع في خطأ. ومن فوائد هذا الحديث: أن القرآن الكريم قد ينزل ابتداء, وقد يكون له سبب, من أين تؤخذ؟ لقوله: «فنزلت: {فأينما تولوا فثم وجه الله}». ومن فوائد الحديث: أن الله تعالى واسع عليم محيط بكل شيء {فأينما تولوا فثم وجه الله} إلى أي جهة {فثم} , أي: فهناك, أي إلى الجهة التي اتجهتم إليها وجه الله, وما مقصود المصلي باتجاه القبلة إلا أن يكون الله قبل وجهه كما جاء في الحديث الصحيح. هنا إشكال: وهي كلمة (ثم) ظرف مكان, فهل الله عز وجل في المكان الذي اتجهت إليه؟ الجواب: لا, ولا يمكن ذلك فهو في السماء على عرشه, لكنه في الجهة التي اتجهت إليها, وإن كان فوق والمواجهة لا تنافي العلو, أرأيت لو وقفت عند غروب الشمس فانظر إلى الشمس أين تكون؟ قبل وجهك وهي في السماء وهي مخلوقة, فكيف بالخالق عز وجل. ومن فوائد الحديث: من هذه الآية إثبات وجه الله - تبارك وتعالى - لقوله: {فثم وجه الله} وهل هو وجه حقيق؟ الجواب: نعم, هو وجه حقيقي, فلله تعالى وجه لكنه لا يماثله شيء؛ لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. والجواب: علينا في أمور الغيب أن نؤمن بها دون أن نسأل عن كيفيتها؛ لأن أمور الغيب أعمق من أن تحيط بها عقولنا, فلا نسأل ولا نتصور إلا ما جاء به النص فقط, فنثبت أن الله وجهًا ولكننا لا نسأل عن كيفية وجهه ولا نقر كيفيته في أذهاننا, وهذه قاعدة في جميع أمور الغيب, أريحوا أنفسكم لا تتكلفوا السؤال, لو كان السؤال عن مثل هذه الأمور خيرًا لكان أول من يفعله الصحابة - رضي الله عنهم -, ولو كان بيان كيفية هذه الأمور خيرًا لبينه الله عز وجل كما قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} [النحل: 89]. فأرح نفسك, ولا تتعدى ما جاء في الكتاب والسنة من أمور الغيب المتعلقة بالله عز وجل, أو المتعلقة باليوم الآخر, أو المتعلقة بأحوال البرزخ, أو غير ذلك, كل الأمور الغيبية؛ لأنها فوق مستوى العقول. أسئلة: - سبق لنا أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة, فما دليلك؟ -

استقبال القبلة يسقط في مواضع, ما هي؟ - لو اجتهد الإنسان في تحري القبلة ولم يصب فهل تصح صلاته, وما الدليل؟ - ما هو الواجب استقباله فيما إذا كان الإنسان قريبًا من الكعبة أو بعيدًا؟ 203 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين المشرق والمغرب قبلة». رواه الترمذي, وقواه البخاري. «ما بين» (ما) اسم موصول مبتدأ, و (بين) جملة صلة الموصول, و (قبلة) خبر المبتدأ يعني: قبلة للمصلي, والخطاب هنا لمن كان قبلتهم الجنوب أو الشمال. مثال الأول: أهل المدينة وأهل الشام هؤلاء قبلتهم الجنوب. ومثال الثاني: أهل اليمن فهؤلاء قبلتهم الشمال, فـ «ما بين المشرق والمغرب قبلة» لكل من كانت قبلته بين المشرق والمغرب سواء من جهة الشمال أو من جهة الجنوب, وهذا يدل على ما سبق فيمن بعد عن الكعبة ففرضه استقبال الجهة. فيستفاد من الحديث فوائد, منها: تيسير هذه الشريعة؛ حيث امتدت جهة القبلة عند البعد عن معاينة الكعبة. ومنها: أنه لا يضر الانحراف عن مسامته القبلة ما دام في الجهة, الدليل قوله: «ما بين المشرق والمغرب» , فإن ما بين المشرق والمغرب بالنسبة لمن قبلتهم الجنوب بعيد جدًا, ومع ذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم قبلة. ومن فوائد الحديث: أنه لا يلزم الإنسان أن يتكلف بطلب مسامته القبلة, حتى إن بعض الناس ربما يهدم مسجدًا قائمًا عامرًا مع انحراف يسير يعفى عنه, فإن هذا لا يجوز, إذا أوسع الله علينا فعلينا أن نوسع. ومن فوائد هذا الحديث: أن خطابات الشرع قد تكون عامة, وقد تكون خاصة, ويعين ذلك الحال والقرائن, فنحن نعلم مثلًا أن هذا الخطاب لا يصلح إلا لمن؟ لأهل المدينة ومن كان مثلهم ممن قبلته الجنوب, وبالعكس لأهل اليمن ومن كان مثلهم ممن قبلته الشمال فمن قبلته الشرق أو الغرب ماذا نقول له؟ نقول: ما بين الشمال والجنوب قبلة فالمساحة بعيدة والحمد لله.

حكم صلاة المسافر على الراحلة

حكم صلاة المسافر على الراحلة: 204 - وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي راحلته حيث توجهت به». متفق عليه. زاد البخاري: «يومئ برأسه, ولم يكن يصنعه في المكتوبة». يقول عامر: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .... إلخ». والرؤية هنا رؤية عين, وليست رؤية قلب, وقوله: «يصلي على راحلته»؛ أيك مركوبه, يحتمل أن يكون على حمار, وأن يكون على بعير, «حيث توجهت» (حيث) ظرف زمان لكنها هنا للمكان, «حيث توجهت» يعني: إلى أي مكان توجهت. وزاد البخاري: «يومئ برأسه» يعني: عند الركوع والسجود, ولم يبين كيف الإيمان, ولكن الأحاديث الأخرى بينت أنه يجعل السجود أكثر من الركوع؛ لأن هذا هو الواقع أن السجود يقع الإنسان على الأرض, والركوع يكون على ركبتيه, «ولم يكن يصنعه» أي: يصلي على الراحلة, «في المكتوبة» أي: في الفريضة. ففي هذا الحديث: دليل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة؛ لأن عامر بن ربيعة إنما ذكره للاستدلال به. ومن فوائده: أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مخصص للدليل القولي, أين الدليل القولي؟ {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 149]. وهذا الدليل فعلي؛ إذن نأخذ قاعدة أصولية فقهية: أن الدليل الفعلي مخصص للدليل القولي. ومن فوائدها هذا الحديث: جواز الصلاة على الراحلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفعل شيئًا محرمًا لأنه مشرع؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم أقوى الناس ورعًا فلا يمكن أن يفعل شيئًا محرمًا, إذن فيستفاد منه: جواز الصلاة على الراحلة. ومن فوائد هذا الحديث: طهارة الحمار, والبغل, والفرس, والبعير, وهذه قد ينازع فيها من ينازع, إلا لو صرح عامر بأنه على حمار, لكن قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يركب الحمار كما في حديث معاذ, قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: «ما تدري ما حق الله على العباد, وما حق العباد على الله». وهذا يدل على طهارة الحمار, لأن الحمار لا يخلو من عرق, لا سيما في أيام الصيف, وفي المسافات الطويلة, وفي عجلة السير, فإنه لابد أن يعرق ولابد أن يصيب العرق الراكب, وفي

ذلك أيضًا قد يكون هناك أمطار توجب بلل الحمار, وبلل ثياب الراكب, وهذا القول - أعني: القول بطهارة الحمار - هو الراجح, ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: «إنها ليست بنجس» , وعلل هذا بأنها من الطوافين عليكم. الله عز وجل له الحكم؛ فقد يحكم بطهارة الشيء مع كونه خبيثًا لا يؤكل من أجل التخفيف على العباد, ولا شك أن طواف الحمار والبغل عند راكبيه أكثر من طواف الهرة, والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا, وهذا القول هو الراجح: طهارة البغل والحمار, البعير متفق عليه أنها طهارة لأنها حلال, ولو كانت نجسة ما حل أكلها. ومن فوائد هذا الحديث: أن المسافر يصلي على راحلته حيث توجهت به, إلى الجهة التي توجهت به يتوجه إليها. فإن قال قائل: لو صلى إلى غير الجهة فهل تصح صلاته؟ في ذلك تفصيل: إن كان إلى القبلة صحت لأنها هي الأصل, وإن كان إلى غير القبلة لم تصح؛ لأنه لم يتجه إلى قبلة أصلًا ولا فرعًا. مثال ذلك: رجل يسير باتجاه الشمال, فرأى على يمينه شجرة, أو متاعًا أو ما أشبه ذلك, فعطف بالراحلة إليه لا لأنه جهة سيرة لكن لينظر ما هذا؛ فنقول: إن الصلاة لا تصح تبطل إلا إذا كان الاتجاه إلى القبلة فيصح؛ لأن القبلة هي الأصل فقد عدل عن الفرع إلى الأصل ولا يضر. ولو أن البعير أو الراحلة على الأعم عصفت به فاتجه إلى غير القبلة وهو يحاول أن يردها لكنها أبت عليه هل تصح صلاته؟ نعم؛ لأن هذا أمر معتاد أن الراحلة قد تعصف بالراكب وتوجهه إلى غير جهته فلا يضر لاسيما إذا كان ذلك يسيرًا. ومن فوائد هذا الحديث: أن فرض الراكب في الركوع والسجود هو الإيماء؛ لأنه لا يستطيع أن يصلي يركع ولا يسجد, لاسيما فيما سبق من الرواحل, إما حمار, أو بعير, أو فرس, أو بغل, ولا يتمكن, فهل نجعل هذا الحكم حتى مع القدرة على الركوع والسجود, أو نقول: حال العجز؟ الظاهر الثاني, أنه حال العجز, وأنه إذا أمكن أن يركع ويسجد وجب عليه أن يركع ويسجد كما لو كان في سفينة, مع أنه في السفينة قد نقول: لابد من استقبال القبلة؛ لأن المكان واسع ويمكن أن يتوجه يمينًا وشمالًا وحيث شاء. ومن فوائد هذا الحديث: التيسير على المكلف في فضائل الأعمال؛ لأنه لا شك أن هذا من التيسير, إذا كان الإنسان يريد أن يتنفل ويتطوع لا نلزمه أن ينزل ويتطوع على الأرض, بل نقول: تطوع على راحلتك وهي تسير بك.

ومن فوائد هذا الحديث: أن هذا لا يجوز في المكتوبة لقول عامر: «ولم يكن يصنعه في المكتوبة» , وعلى هذا فإذا كان لا يصنعه في المكتوبة بقي الاستقبال في المكتوبة على الأصل أنه لابد أن يتجه إلى القبلة, لكن سبق لنا أن استقبال القبلة يسقط عند العجز وعند الخوف فلينقل إلى هنا. ومن فوائد هذا الحديث: أن الأصل تساوي الفرض والنفل, ووجهه: أنه لولا ذلك لم يكن للاستثناء ضرورة؛ لأنه يقال: إنما ورد التخصيص في النافلة فتبقى الفريضة على الأصل فيأتي إنسان ويقول: نعم يبقى الأصل لكن يمكن أن نقيس ونقول: إن الفريضة كالنافلة؛ لأن ما يثبت في النفل ثبت في الفرض, فلما نفى الصحابي رضي الله عنه أنه لا يصلي عليها المكتوبة علمنا أن الأصل تساوي الفرض والنفل إلا بدليل. إذن نقول في هذه المسألة: تختلف الفريضة عن النافلة, فإذا قال قائل: ما الحكمة؟ قلنا: الحكمة في هذا تنشيط الإنسان على التطوع؛ لأننا لو قلنا له: لابد أن تنزل وتصلي في الأرض لم يفعل, قال: هذه نافلة ولا حاجة للصلاة, فمن أجل تنشيط الإنسان على التطوع رخص له أن يتطوع على راحلته, هناك فروق بين الفرض والنفل أمليناها عليكم سابقًا أظنها تبلغ العشرين أو تزيد. قال: 205 - ولأبي داود: من حديث أنس رضي الله عنه: «وكان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة, فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه». وإسناده حسن. قوله: «كان إذا سافر» كلمة «سافر» أي: فارق محل إقامته؛ لأنه مأخوذ من إسفار, كأنه تخلى عن القيد, وهو الإقامة في محله, فالسفر مفارقة محل الإقامة, ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح ولا ضعيف أنه محدد بأميال, أو فراسخ, أو برود, وإنما جاء مطلقًا, والأصل فيما جاء مطلقًا أن يرجع فيه إلى الشرع, فإن وجد له مقيد عمل به, وإن لم يوجد رد إلى العرف, هذه القاعدة, وإذا تأملنا الكتاب العزيز وجدنا أن الله تعالى يقول: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101]. وقال - جل وعلا -: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20]. والذي يضرب في الأرض ابتغاء الرزق والتجارة قد يبعد سفره وقد يقترب, المهم أنه لا تحديد في الكتاب ولا في السنة, وإنما هي قضايا أعيان. «كان إذا سافر ... كذا وكذا صلى ركعتين» , وهذا ليس قيدًا, لكن بيان للواقع؛ أي: قضية عين.

ولهذا أنكر شيخ الإسلام رحمه الله على الفقهاء الذين يحددون بالمسافة, وقال: أين الذين يقدرون هذه المسافة التي تقدر بالأميال والفراسخ, ثم الأذرع, ثم الأصابع, ثم الشعير, ثم الشعرة, فمن يقدرها؟ أين المساحون الذين يصلون إلى هذه الدقة, ثم كيف يمكن أن نقول: رجلان بينهما كشعرة البرذون: الذي وراءها يكون مسافرًا, والثاني مقيم؛ يعني: لو اضطجع على الحد صار رجلاه مقيمة ورأسه مسافر, فأين هذا الدليل؟ وما ذهب إليه رحمه الله لا شك أنه هو المتعين, ليس عندنا دليل على التقدير, والتقدير يحتاج إلى توقيف من الشرع, يعني: لو جاء من الشرع أربعة فراسخ, أو أربعة برد, أو ما أشبه ذلك, قلنا: لا بأس, على العين والرأس, ولكننا نقارب, نقول: هذه المسافة ذراعين, أو ما أشبه ذلك لا يضر؛ لأننا نعلم يقينًا أن الشرع لا يمكن أن يقدر إلى هذا الحد, إنما الذي يعكر على القول بهذا هو عدم الانضباط؛ لأنه قد يقول بعض الناس: هذا سفر, وبعضهم يقول: ليس بسفر, لكنه رحمه الله قال: المسافة الطويلة في الزمن القصير سفر, والزمن الطويل في المسافة القصيرة سفر, والضابط: أن كل ما يتهيأ له الإنسان ويستعد له فهو سفر, فبقطع النظر عن المقومات الموجودة في العهد الحاضر؛ لأن الآن أي إنسان يسافر لو أبعد ما يكون فإنه لا يحتاج إلى حمل متاع ولا إلى قرب الماء ولا غيره, ولكن في التقدير أنت لو ذهبت مثلًا عن بلدك مسافة فرسخ لكنك رجعت في يومك هل تستعد لهذا؟ لا, لكن لو بقيت يومين أو ثلاثة استعددت له؛ ولهذا قال أنس: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين». ولنجعلها فراسخ لأنها أبعد, وإذن «إذا سافر» بماذا نحدده؟ نحدده بالعرف, لماذا؟ لأن كل ما جاء مطلقًا ولم يحدد بالشرع فإنه يرجع فيه إلى العرف. هذه القاعدة, هذه واحدة. ثانيًا: أن التقدير يحتاج إلى توقيف من الشرع يحدده فإذا لم يوجد بقي على إطلاقه. ثالثًا: أن التقدير الدقيق الذي قاله الفقهاء - رحمهم الله - يجزم الإنسان جزمًا لا شك فيه أن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: «فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة» , «فأراد أن يتطوع»؛ أي: يصلي نافلة. فإن قال قائل: أليست الفريضة تطوعًا؟ فالجواب: بلى, لكن لا مانع أن نخص العام بشيء من أنواعه, ومن المعلوم أن الفريضة هي أعلى أنواع الطاعة كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: «وما تقرب إلي عبدي بشيء

أحب إلي مما افترضته عليه». «استقبل بناقته القبلة»؛ أي: صرفها إلى القبلة, «فكبر» أي: تكبيرة الإحرام. «ثم صلى حيث كان وجه ركابه»؛ يعني: بقية الصلاة تكون حيث كان وجه ركابه. في هذا الحديث زيادة على ما سبق من حديث عامر؛ لأن ظاهر حديث عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصلاة من أولها إلى آخرها حيث توجهت به ناقته, وهذا يدل على أنه يبتدئ الصلاة أولًا مستقبل القبلة, ثم يصرفها, ولا شك أن هذا فيه نوع من المشقة, لاسيما إذا كانت الراحلة ليست حينذاك كونها ذلولًا, إن هذا قد يصعب, فهل نأخذ بظاهر حديث عامر لأنه أصح وأيسر للأمة, والمسألة كلها مبنية على التيسير هذا هو الأرجح, ونقول: إن صح ما رواه أبو داود عن أنس فإنه على سبيل الاستحباب مع التيسير, يعني بشرط أن يتيسر, فإذا لم يتيسر عادت الرخصة صعوبة, وقد أخذ بهذا الفقهاء - رحمهم الله -, وقالوا: يجب أن يكون افتتاح الصلاة إلى القبلة استدلالًا بحديث أنس, والصواب أنه لا يجب, وأنه إن تيسر لإنسان فليستقبل القبلة عند التكبير, وإلا فلا؛ لأنه من الناحية النظرية أي فرق بين الركن الأول والركن الذي يليه؟ لا فرق, صحيح أن تكبيرة الإحرام لا تعقد الصلاة إلا بها, وأنها مفتاح الصلاة, ولكن هذا لا يوجب أن نلزم الناس أن يتوجهوا إلى القبلة عند التطوع. انتهى الكلام على الشرط الثالث «استقبال القبلة». أسئلة: - كم صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس؟ - هل كان استقبال القبلة برغبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما الدليل؟ - في الآية: {قد نرى تقلب وجهك ... } ما يدل على الأدب الرفيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم, كيف ذاك؟ - يسقط وجوب استقبال القبلة في مواضع, ما هي؟ - ما الذي يفيده استثناء الصحابي رضي الله عنه أنه كان لا يصنعه في الفريضة؟ - لو صلى المسافر النافلة إلى جهة غير سيرة تصح الصلاة أو لا؟ - هل يشترط أن يكون السفر سفر طاعة؟ ***

شرط طهارة المكان وضوابطه

شرط طهارة المكان وضوابطه: 206 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام». رواه الترمذي, وله علة. قوله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد» العموم في هذه الجملة ظاهر كلها مسجد, ويشبه هذا العموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا». إذن الأرض كلها محل للصلاة لهذا العموم, وقوله: «مسجدًا» أي: مكان للسجود, والمراد: السجود للصلاة, ولكنه عبر ببعضها عن كلها. «إلا المقبرة, والحمام» المقبرة: موضع القبور, والحمام موضع المغتسلات, يعني: مغتسل؛ أما المقبرة فلأنها محل القبور, والقبور فيهم الصالحون والأولياء, فإذا صلى الإنسان في المقبرة فربما تكون هذه الصلاة ذريعة إلى الصلاة على القبور, وليست العلة كما يقول بعضهم: إن المقابر تنبش فيخرج فيها الصديد, والعظام, وقطع الجلود, وما أشبه ذلك, العلة أن الصلاة في المقبرة ذريعة إلى الشرك, إلى الشرك الأكبر أو الأصغر, أما الحمام: فالحمام ما كان موضع الأذى والقذر, فعلة منع الصلاة فيه النجاسة, وما كان طاهرًا منه فعلة منع الصلاة فيه أنه مأوى الشياطين؛ لأن الناس يدخلون الحمامة عراة ويغتسلون فيه, فناسب ألا يصلوا فيه. في هذا الحديث من الفوائد: أن الأرض كلها مسجد, كلها محل للصلاة, ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلا شيئين: المقبرة والحمام, فعلى هذا تصح الصلاة على السطوح وعلى الفرش, وعلى الصخر, وعلى الرمل, وعلى كل شيء, الأرض كلها مسجد, وكذلك تصح الصلاة في الكعبة, لأن الكعبة من الأرض بلا شك, فهي مسجد موضع للصلاة: صلاة الفريضة وصلاة النافلة. ومن فوائد هذا الحديث: أن المقبرة ليست محلًا للصلاة, فإذا صلى فيها فهل تصح؟ الجواب: لا تصح؛ لأن النهي يقتضي الفساد, ونفي كونها موضعًا للصلاة يستلزم ألا تصح الصلاة فيها. ومنها: سد النبي صلى الله عليه وسلم ذرائع الشرك ولو عند بعد؛ لأن الإنسان قد يصلي في المقبرة والقبور خلف ظهره وهو بعيد عنها, واحتمال الشرك من هذا المصلي بعيد, ولكن سدًا للذريعة - ولو

الأماكن التي ينهى عن الصلاة فيها

بعدت - إلى الشرك, أمر واجب, ولهذا ينهى عن أن يقال: ما شاء الله وشئت, وأن يحلف بغير الله, وما أشبه ذلك, كل ذلك حماية لجانب التوحيد. ومن فوائد الحديث: أن كل ما دخل في اسم المقبرة ولو خارج القبور فإنه ليس محلًا للصلاة, حتى ولو كانت القبور خلف المصلى, فإنه لا يحل له أن يصلي في المقبرة. ومنها: أن ظاهر الحديث لا فرق بين أن يكون في هذا المكان ثلاثة قبور, أو قبران, أو قبر واحد ما دام يطلق عليه اسم المقبرة؛ فإن الصلاة فيه ممنوعة, وأما من قال: إنه لا يضر القبر والقبران؛ لأن المقبرة لا تكون مقبرة إلا إذا دفن فيها ثلاثة فأكثر؛ فهذا قول ضعيف, والصواب: أنه ما دام هذا المكان يسمى مقبرة فإنه لا تصح الصلاة فيه. فإن قال قائل: أرأيتم إن كان هذا المكان معدًا للمقبرة, ويقال: إنه مقبرة لكن لم يدفن فيه أحد؟ فالجواب: أن الصلاة فيه جائزة؛ لأنه لا يصدق عليه الآن أنه مقبرة. ومن فوائد هذا الحديث: منع الصلاة في الحمام لقوله: «والحمام» , الكنيف والمرحاض من باب أولى؛ لأنه أخبث, حتى لو قدر أن المرحاض كبير وجانب منه طاهر لا يصل إليه البول أو الغائط, فإن الصلاة فيه لا تصح؛ لأنه إذا لم تصح الصلاة في الحمام ففي هذا المكان من باب أولى ألا تصح ... [معنا] الآن ثلاثة أمكنة: المقبرة, الثاني: الحمام, الثالث: المرحاض. الأماكن التي ينهى عن الصلاة فيها: 207 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يصلى في سبع مواطن: المزبلة, والمجزرة, والمقبرة, وقارعة الطريق, والحمام, ومعاطن الإبل, وفوق ظهر بيت الله تعالى». رواه الترمذي وضعفه. وهو جدير بالتضعيف, لكن ابن حجر رحمه الله يذكر الأحاديث الضعيفة في هذا الكتاب؛ لأنها مشهورة بين الفقهاء, فيحب أن يبين مرتبتها من حيث الصحة والحسن والضعف. يقول: «نهى أن يصلى في سبع مواطن» , وهي جمع موطن, والمراد به هنا: المكان, وإن لم يستوطنه الإنسان. «المزبلة» يعني: ملقى الزبالة, وهي الكناسة؛ لأنها لا تخلو غالبًا من أشياء قذرة, وقد تكون من أشياء ظاهرة, لكن لا يليق أن تقف بين يدي الله عز وجل في هذا المكان؛ لأنه إذا كان نهي أن يتنخم

الرجل في المسجد لأنه مكان الصلاة, فالمزبلة من باب أولى أن ينفر الإنسان منها, ورأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في المسجد في قبلته فعزل الإمام؛ لأن هذا غير لائق. الثاني: «المجزرة»: محل الجزارة؛ أي: محل ذبح البهائم لا تصح الصلاة فيها؛ لأنها لا تخلو غالبًا من أنتان وأقذار ودماء. والثالثة: «المقبرة» وسبق الكلام عليها. والرابعة: «قارعة الطريق» ليست الطريق, وإنما قارعة الطريق؛ أي: الطريق المقروعة, فقارعة هنا اسم فاعل بمعنى مفعول كقوله تعالى: {في عيشة راضية} [الحاقة: 21]. أي: مرضية, المعنى: قارعة الطريق من باب إضافة الصفة إلى موصوفها والمراد: الطريق المقروعة أي: التي تقرعها الأقدام, فأما الطريق المهجورة فلا تدخل في الحديث, وكذلك لو كان الطريق واسعًا وجوانبه لا تطرق فإنه لا يدخل في الحديث, وإنما نهى عن ذلك؛ لأن قارعة الطريق إذا صلى الإنسان فيها فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يشغله الناس عن صلاته؛ لأن الناس يستطرقونه, وإما أن يضيق على الناس طريقهم, والطريق حق للسالك, وهذا سيصلي في قارعة الطريق فيضيق على الناس أو يحصل له تشويش بمنعه من كمال الصلاة. والخامس: «الحمام» وسبق الكلام عليه. والسادس: «معاطن الإبل» معاطن الإبل فسرها أصحابنا - رحمهم الله - بأنها ما تقيم فيه وتأوي إليه, يعني: الحوش الذي تأتي الإبل إليه وتنام فيه, وتخرج وتسرح ثم ترجع إليه, هذا معطن الإبل, وليس مبرك الإبل, «المعطن» هو الذي تتخذ عطنًا؛ أي: محل إقامة, وزاد بعض أهل العلم: وما تقف فيه بعد الشرب؛ لأن الإبل من عادتها إذا شربت فإنها تتقدم قليلًا عن الحوض ثم تقف وتبول وتبعر هذه عادتها, فيكون هذا من معاطن الإبل, وهو في اللغة: معطن لا شك, حتى في العرف الآن يقال: العطن يعني: المعطن, فهو إذن يدخل في ذلك؛ إذن على هذا القول يكون معاطن الإبل شيئين: الأول: ما تقيم فيه وتأوي إليه. والثاني: ما تعطن فيه بعد الشراب. وإن لم تبت فيه فإنه ينهى عن الصلاة فيه, لماذا؟ إذا كانت الإبل موجودة فإننا نقول في التعليل كما قلنا في قارعة الطريق؛ لأنها تشوش عليك وهو على خطر منها وإن كانت غير موجودة فلأن هذا مأوى الشياطين؛ لأن الإبل خلقت من الشياطين, وعلى ذروة كل واحد

منها شيطان كما جاء ذلك في أحاديث, وإن كانت ضعيفة لكن تعليلها وجيه, وخلقت من الشياطين, أي: أن من طبيعتها الشيطنة والتمرد, وليس المعنى: أن الشياطين هم أصلها, وهو كقوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء: 37]. أي: أن طبيعته العجلة, هذه أيضًا طبيعتها الشيطنة, فلا يجوز أن يصلي في معاطن الإبل. السابع: «فوق ظهر بيت الله» , ولم يقل: في بطن بيت الله, قال: «فوق ظهر بيت الله»؛ وذلك لأن الكعبة المعظمة - زادها الله شرفًا وتعظيمًا - ليس لها جدار في سقفها فيما سبق, وإذا صلى لم يكن بين يديه شاخص منها؛ أي: ليس هناك شيء قائم حتى يتجه إليه, فلا يكون موليًا وجهه شطر المسجد الحرام؛ لأن المسجد الحرام منفصل عن الجهة التي هو فيها, أي: أعلاها وسطحها؛ هذه هي العلة, أما داخل البيت فلا نهي فيه, لا في الفريضة ولا في النافلة, وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة, وما ثبت في النفل ثبت في الفرض على أن القول بأن النهي يشمل ما في بطن الكعبة, والحديث «فوق ظهر بيت الله» قول بلا دليل. على كل حال: هذا الحديث سندًا ضعيف لا يصح, لكن متنًا ينظر إذا كان للأحكام التي في هذا المتن شواهد من الأحاديث الصحيحة أخذنا بها؛ لأن الأحاديث تشهد لها: فلننظر أولًا: «المزبلة» ليس في الأحاديث - فيما أعلم - ما يدل على منع الصلاة فيها, لكن التعليل الذي ذكرنا يؤخذ منه منع الصلاة فيها, وهي أنها لا تليق بالمصلي الذي يقف بين يدي الله أن يقف في المزبلة. الثانية: «المجزرة» نفس الشيء غالبًا تكون منتنة فيها الدماء وفيها الأوساخ وفيها الأقذار, فلا تليق الصلاة فيها, بناء على هذا إذا كانت المزبلة واسعة وجوانبها كلها نظيفة هل يصلي فيها أو لا؟ يصلى فيها, وكذلك يقال في المجزرة فيها غرف أو حجرات نظيفة ليس فيها شيء لكنها داخل المجزرة, فإن الصلاة فيها صحيحة. الثالثة: «المقبرة» عرفنا أنه لا تجوز الصلاة فيها مطلقًا حتى في جوانبها البعيدة عن القبور ما دام داخلًا في اسم المقبرة فإنه يمنع من الصلاة فيها؛ لماذا؟ سدًا لذريعة الشرك. «قارعة الطريق» إن كانت الطريق نجسة فالأمر فيها ظاهر, إن كانت طاهرة كطرقنا اليوم طرق سيارات ليس فيها شيء نجس, لكن نقول: التعليل يؤيد هذا؛ لأن قارعة الطريق إن منع

الناس المرور فيها فقد اعتدي عليهم والعدوان محرم, وإن لم يمنع شوشوا عليه كثيرًا ولم يدرك أن يصلي الصلاة المطلوبة. «الحمام» سبق الكلام فيه. «معاطن الإبل» أيضًا التعليل فيها إن كانت الإبل موجودة فيخشى عليه منها ولم يستقر له قرار وهي تحوم حوله, وإن كانت غير موجودة فلأن معاطنها مأوى الشياطين. والسابع: «فوق ظهر بيت الله» وعرفتم السبب, وهو أنه إنما لا تصح؛ لأنه ليس في سطحها شيء شاخص يصلي إليه؛ ولهذا لما هدم عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما الكعبة ليبنيها على قواعد إبراهيم أمر أن يبنى خشب يتجه الناس إليه في صلاتهم ويطوفون به في نسكهم. إذا قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا, لكن لو صلى أتصح صلاته؟ يجب أن نعلم قاعدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء لزمانه أو مكانه فإنه لا يصح؛ لأن تصحيحه مضادة لأمر الله ورسوله, فمثلًا لو صام في العيد, النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم العيدين, لكن لو صام يصح أو لا يصح؟ لا يصح؛ لأننا لو صححناه لكان في هذا مضادة لله عز وجل ورسوله, كذلك ما نهى عن إقامة العبادة فيه من الأمكنة فإنه نظير ما ينهى عنه من الأزمنة فإذا لم نصحح العبادة التي وقعت في زمن منهي عنها فيه, فكذلك إذا وقعت العبادة في مكان منهي عن إيقاعها فيه فلا تصح. لو قال قائل: أرأيتم لو حبس في هذا أتصح صلاته؟ نعم, تصح لعموم قول الله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286]. لكن لو قال قائل: مروه أن يصلي ويقضي؟ قلنا: لا يمكن, هذا باطل؛ لأن الله لم يفرض الصلاة إلا مرة واحدة, وكل من قال من الفقهاء في هذا الباب أو في باب الحيض في مسألة الدم المشكوك فيه أنه يلزم فعل العبادة ثم قضاؤها فهو قول لا معول عليه, ولا صحة له, وكيف نقول: افعل العبادة, ثم نقول: اقضها؛ لأننا إذا قلنا: اقضها صارت العبادة الأولى باطلة, والباطل لا يجوز أن يؤمر به, وإن قلنا: إن العبادة الأولى مأمور بها وصحيحة, قلنا: إذن لا نلزمه بأن يقضيها, فالصواب: أن كل من أمرناه بفعل عبادة ثم فعلها فإنه لا يؤمر بقضائها على أي حال. قوله: «ظهر بيت الله» البيت بناء معروف أضافه الله إلى نفسه, ومن المعلوم بالاتفاق أنه ليس المعنى: أن الله - جل وعلا - يسكنه حاشا وكلا؛ لأن الله تعالى فوق العرش, لكن لماذا أضافه الله إلى نفسه؟ تكريمًا وتعظيمًا؛ تكريمًا لهذا البيت وتعظيمًا له, واعلم أن المضاف إلى

الله عز وجل إما أن يكون وصفًا, أو عينًا قائمة بنفسها, أو شيئًا يتعلق بهذه العين, فإن كان وصفًا فهو صفة لله وهو غير مخلوق, ككلام الله مثلًا كلام الله مضاف إلى الله عز وجل, قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]. إذن كلام الله صفة, ولابد لأن الكلام وصف ولم يذكر شيء قائم بهذا الوصف, فيكون صفة لله غير مخلوق, وإذا أضاف الله عينًا قائمة بنفسها إليه فإنه ليس من صفات الله بل من مخلوقات الله, لكن أضافه الله عز وجل لنفسه تعظيمًا وتكريمًا وتشريفًا مثل قوله تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} [البقرة: 114]. المساجد عين قائمة بنفسها أضافها الله إلى نفسه تشريفًا وتعظيمًا, ولذلك اكتسبت من هذه الإضافة أنه يجب أن تطهر من القذر ولا يحل فيها شيء من أمور الدنيا كالبيع والشراء وما أشبه ذلك, ومثل قوله تعالى: {طهرًا بيتي للطائفين} [البقرة: 125]. هذا مثل مساجد الله فيكون مخلوقًا ومثل قول صالح: {ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13]. ناقة الله عين قائمة بنفسها فتكون مخلوقة, كذلك إذا كان الشيء متعلقًا بعين قائمة بنفسها؛ يعني متعلقًا بمخلوق فإنه يكون مخلوقًا مثل قوله تعالى في آدم: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29]. والمراد: الروح المخلوقة أو الروح التي فيها وصف الله؟ المخلوقة, ولم يحضرنا إلى الآن أن لله روحًا, لكن وصف الله نفسه بالنفس فقال: {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 28]. وهي أيضًا ليست صفة, بل هي عين الله عز وجل, فيحذركم الله نفسه مثل ويحذركم الله ذاته؛ إذن فقوله تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} الروح المضافة إلى الله هنا مخلوقة؛ لأنها متعلقة بمخلوق, ومثله قوله تعالى: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا} [الأنبياء: 91]. المراد: الروح المخلوقة؛ لأن عيسى مخلوق, والروح التي نفخ فيه مخلوقة, هذا إذا لم نقل: إن المراد بالروح هنا: جبريل؛ فإننا نقول: هي روح عيسى وهي مخلوقة هنا. «وفوق ظهر بيت الله» من أي الأقسام الثلاثة؟ من الثاني الذي هو عين قائمة بنفسها. أسئلة: - لماذا يذكر المؤلف الأحاديث الضعيفة؟ - هل الضعف ممن دون الصحابي أو من الصحابي؟ 208 - وعن أبي مرثدٍ الغنوي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تصلوا إلى القبور, ولا تجلسوا عليها». رواه مسلم. قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصلوا إلى القبور» لا يخفى أن (لا) ناهية, علامة النهي: أنه حذفت النون. «إلى

القبور» أي: متجهين إليها, والمراد: الجنس, فيشمل القبر الواحد كما في قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187]. ومعلوم أن الإنسان لا يعتكف إلا في مسجد واحد, والقبور مدفن الموتى, هذه القبور مدافن الأموات قال الشاعر: [الطويل] لكل أناسٍ مدفن في فنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد ولولا أن الله تعالى ينشئ أقوامًا آخرين لفنيت الخليفة, وقوله: «ولا تجلسوا عليها» الجلوس معروف, أي: تقعدوا عليها, أي: على القبر. والشاهد من هذا الحديث قوله: «لا تصلوا إلى القبور» فيفيد النهي عن الصلاة للقبر؛ بحيث يكون القبر بين يدي المصلي, حتى وإن لم يكن في مقبرة؛ لأنه سبق لنا أن المقبرة لا يصلى فيها, ولو كانت القبور في الخلف لكن هذا صلاة إلى القبر لنفرض أن قبرًا في الفضاء جاء رجل يصلي إليه, نقول: هذا حرام لا تصلي إلى القبر, والحكمة من النهي: لأن ذلك وسيلة إلى الإشراك به, فإن الإنسان قد يصلي أولًا لله عند هذا القبر, ثم يقع في نفسه تعظيم صاحب القبر فيصلي لصاحب القبر؛ فيكون هذا وسيلة للشرك الأكبر, والشرع له نظر وقصد في سد ذرائع الشرك بأي حال من الأحوال, وكلما كانت النفوس في الشيء أطمع كانت وسائله أمنع؛ لأن النفس تدعو إليه فإذا لم يوجد ما يحرم منه ويبعد عنه فإن النفس قد تقع فيه كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه, فإذا قال قائل: ما حد هذا؟ قلنا: ما جرى به العرف, أو في مقدار ثلاثة أذرع ونحوه, أما لو كان بعيدًا فإن هذا لا بأس به. فمن فوائد الحديث الآن: تحريم الصلاة إلى القبر. ومن فوائده: أنها - أي: الصلاة في القبر - باطلة, وإن كان مكان الصلاة طاهرًا فإنه مكان منهي عنه بخصوصه فيقتضي بطلان الصلاة, وعلى هذا فيضاف إلى ما سبق من كونه مكانًا لا تصح فيه الصلاة. ومن فوائده: أننا نعرف به ضلال أولئك القوم - في المسجد النبوي - الذين يتقصدون أن يدعوا الصف الأول ليكونوا خلف الحجرة النبوية, وهم يقصدون أن يكون القبر أمامهم مع أن القبر بعيد عنهم بواسطة ما أحيط به من الجدران, لكن هم يريدون هذا, ومن أراد الشيء وإن لم يصل إليه فإنه يعاقب فهؤلاء ضلال في الواقع, أن يذهبوا قصدًا للصلاة خلف قبر النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد هذا الحديث: سد جميع ذرائع الشرك, ويتفرع على هذا أنه يجب على الإنسان أن يراعي مقام الإخلاص لله عز وجل, وأن يكون أحرص عليه من كل شيء أن يسلمه عمل أو قول أو عقيدة؛ أعني: الإخلاص لقول الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56].

فإذا كان هذا هو القصد من الحياة أن يعبد الإنسان ربه فإنه يجب عليه أن يحافظ عليه كما يحافظ على دمه أو كثر. ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن الجلوس على القبر, والنهي هنا للتحريم؛ لأن هذا هو الأصل في النهي؛ ولأن الجلوس عليه فيه نوع امتهان للقبر, وقد ورد الوعيد في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: «لأن يجلس أحدكم علىجمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على القبر». يعني: هذا أهون له من أن يجلس على القبر. هذا الحديث يدل على أنه حرام, بل لو قيل: إنه من كبائر الذنوب لكان له وجه, أي: الجلوس على القبر. ومن فوائد هذا الحديث: الجمع في النهي عن الغلو في القبور, وعن امتهان القبور, من أين يؤخذ الغلو؟ من النهي عن الصلاة إليها؛ لأن هذا يؤدي إلى الغلو فيها, وعن امتهانها من النهي عن الجلوس عليها. ومن فوائد هذا الحديث: أن حق المسلم باقٍ بعد موته, يعني: حق المسلم من الاحترام اللائق به باقٍ ولو بعد الموت؛ ولهذا لا يصح أن تركب على قبره لما فيه من الانتهاك مع أن الميت لا يباشر هذا الامتهان, لكن كونك تجلس في بيته وهو القبر امتهان له, فيستفاد من هذا: أن حرمة المؤمن باقية ولو بعد الموت ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسره حيا». ويتفرع على هذا أن أولئك الذين يمتهنون الموتى بقطع أوصالهم بعد موتاهم قد أخطئوا؛ لأن هذا نوع امتهان لهم, من يرضى أن تقطع يده أو كبده أو كليته أو ما أشبه ذلك؟ لا أحد يرضى, حتى لو رضي ليس له الحق؛ لأن بدنه عنده أمانة؛ ولهذا قال الله عز وجل: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. ولهذا نص فقهاء الحنابلة على أنه يحرم قطع عضو من الميت, ولو أوصى به ليس له الحق أن يتصرف في نفسه مع أنه ترتب على جواز بتر الأعضاء وبيعها أو ما أشبه ذلك محظور عظيم فيما نعلم بالسماع, يقولون: في بلاد ما يختطفون الصبيان ثم يبقرون بطونهم ويستخرجون أكبادهم وقلوبهم وكلاهم للبيع؛ لأن الكبد تباع بملايين, فهذا لو فرض أنه مباح وترتب عليه هذه المفسدة لمنع. ومن فوائد الحديث: جواز الاتكاء على القبر, وهذا غير الجلوس, لكن إذا عده الناس عرفًا امتهانًا فإنه لا ينبغي أن يتكئ عليه؛ لأن العبرة بالصورة, وما دامت الصورة تعد امتهانًا في عرف الناس فإنه وإن كانت مباحة ينبغي تجنبها.

209 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم المسجد, فلينظر, فإن رأى في نعليه أذى أو قذرًا فليمسحه, وليصل فيهما». أخرجه أبو داود, وصححه ابن خزيمة. 210 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب». أخرجه أبو داود, وصححه ابن حبان. لو قال قائل: فطهورهما التراب صواب أم خطأ؟ خطأ. قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم المسجد» يعني ليدخله. «فلينظر» يعني: نعليه, و «الفاء» رابطة للجواب و «اللام» لام الأمر, «فإن رأى في نعليه أذى أو قذرًا» الأذى: اللبخة التي ليست بنجسة كالطين وشبهه, والقذر هو النجس, وهذا يعلق كثيرًا في النعلين إما كتلة من الطين, وإما كتلة من القذر, «فليمسحه وليصل فيهما» يمسح ما رأى من الأذى والقذر بالتراب؛ لأن المساجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن مفروشة بالفرش ولا ما حولها لكن يمسحه بالتراب, ثم «وليصل فيهما» اللام هنا للإباحة؛ يعني: وله بعد ذلك أن يصلي فيهما؛ لأنهما طاهرتان. والدليل على أن هذا المراد حديث أبي هريرة: «إذا وطئ أحدكم الأذى في خفية فطهورهما التراب» يعني: يطهرهما استعماله. هذا الحديث يدل على مسائل منها: أنه يجب على من أراد أن يدخل المسجد بنعليه أن ينظر فيهما, ولكن هذا الإيجاب إذا كان الأمر محتملًا, أما إذا كان غير محتمل فلا حاجة للنظر, لو قدر أن الإنسان ركب سيارته من بيته إلى المسجد ونزل وليس بين يديه أذى أو قذر يحتاج أن ينظر؟ لا يحتاج, النظر هنا شيء من العبث, لكن هذا مع الاحتمال. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب تنزيه المسجدعن كل أذى أو قذر, وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها عرضت عليه أجور أمته حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد, ويؤيد هذا قول الله عز وجل: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور: 36].

فإن قال قائل: إذا وقع الأذى أو القذر في المسجد فمن المسئول؟ قلنا: هذا فرض كفاية على المسلمين عمومًا؛ ولهذا لما بال الأعرابي في المسجد قال - عليه الصلاة والسلام -: «أريقوا على بوله سجلًا من ماء». فيجب فرض كفاية على المسلمين أن يطهروا المساجد, فإذا كان هناك مسئول فليبلغ المسئول, فحينئذٍ نقول: يجب إما أن يباشر الإنسان إزالة الأذى والقذر بنفسه, وإما أن يبلغ المسئول, فإذا بلغ المسئول برئت ذمته, لكن لو فرض أن المسئول لم يقم بالواجب, وجب على من علم به مع القدرة. ومن فوائد هذا الحديث: أن مسح النعلين بالتراب يطهرهما, وظاهر الحديث العموم, حتى لو فرض أن فيما بين المخارز شيئًا من الأذى فإنه معفو عنه ما دام ظاهر أسفل الخف نظيفًا فما بين المخارز يشق التحرز منه, ولو قلنا بأنه لابد أن يدخل المسح إلى ما بين المخارز لكان في هذا مشقة, وكان الغسل أسهل من ذلك لكن هذا مما جرى العفو عنه. وهذا الذي دل عليه الحديث هو مقتضى سماحة الشريعة وتيسير الشريعة؛ وذلك لأنه لو ألزم العبد بالغسل لكان في ذلك مشقة, لاسيما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والمياه قليلة حول المسجد, ثم في إيجاب غسلها ضرر من وجه آخر وهو إفساد النعل, لاسيما في النعال السابقة التي تخرز من الجلود, فإن غسلها لا شك أنه يؤثر فيه, ثم إذا غسلت ودخل بها المسجد من حين يغسلها لوث المسجد من جهة أخرى, وهو الرطوبة التي قد لا تخلو من رائحة؛ فلهذا تبين أن عين الصواب ما دل عليه الحديث؛ لأنه أيسر وأوفق لقواعد الشريعة. وقال بعض أهل العلم: يجب أن يغسل بناء على قاعدة عندهم, وهي: «أنه لا يزيل النجس إلا الماء الطهور» , كما قال صاحب زاد المستقنع: «لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس غيره - يعني: غير الماء الطهور -». فلما أورد عليهم ما ثبت من تطهير الخارج من بول وغائط بالأحجار - وهو الذي يسمى الاستجمار - قالوا: إنه مبيح وليس بمطهر, التمسح بالأحجار مبيح وليس بمطهر, فلا نسلم أنه يطهره, وأورد عليهم رفع الحدث بالتيمم قالوا أيضًا: إنه مبيح, ولهذا يكون التيمم مبيح لا رافع, وكذلك الاستجمار, وقالوا: إنه لا يعفى عن أثر الاستجمار إلا في محله فقط, فلو فرض أن اللباس صار رطبًا وأصاب المكان فإنه ينجس اللباس؛ لأن العفو عن محل الاستجمار إنما هو في محله للاستباحة, لكن هذا القول - كما يتبين - ضعيف جدًا, والصواب أن التيمم رافع, وأن الاستجمار مطهر, ومر علينا هذا في حديث ابن مسعود أنهما لا يطهران.

إذن على هذا الرأي نقول: يجب على الإنسان إذا وطئ القذر في نعليه أن يغسلهما, والصواب خلاف ذلك أن المسح كافٍ. فإن قال قائل: إذا مسحهما عند المسجد بالتراب ففيه إشكال؛ لأن أثر الأذى أو القذر سيكون في الأرض في طريق الناس إلى المسجد, وربما تطؤه الأقدام وهي رطبة لاسيما في أيام الأمطار فما الجواب عن هذا الإشكال؟ الجواب عن هذا الإشكال - والله أعلم -: أن هذا مما يعفى عنه؛ لأن القذر سوف يتفرق ويتبدل ويكون الغلبة للتراب, وهذا مما يعفى عنه كما عفي عن استعمال الماء, وصار المسح كافيًا. ويستفاد من هذا الحديث: أن المشقة تجلب التيسير, ولكن التيسير في حدود الشريعة ليس كل ما شق جاز أن ييسر وإلا لقلنا: إن الربا يجوز إذا دعا ضعف الاقتصاد إليه وما أشبه ذلك, لكن نقول: المشقة تجلب التيسير في حدود الشريعة, بمعنى: أن الشريعة تلاحظ المشقة فتيسر. ومن فوائد الحديث: أن ما زالت به النجاسة فهو مطهر, ووجه ذلك: أن التراب هنا أزال النجاسة فطهرت النعال والخفاف بذلك هذا من جهة الأثر, من جهة النظر: أن النجاسة عين قائمة بنفسها, فإذا زالت عن المحل طهر المحل؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا, وعلى هذا فتطهير ألبسة الصوف بالبخار نافع أو لا؟ نافع؛ لأنه تزول النجاسة ويعود اللباس نظيفًا جدًا, قد يكون أنظف من الماء العادي, وعلى هذا أيضًا إذا أدخلت الكيماويات على المجاري - مجاري الأقذار - وزالت الرائحة والطعم واللون يكون الماء طاهرًا يتوضأ منه؛ لأن الحكم يدور مع علته: هو نجس لوجود النجاسة, هو طاهر لزوال النجاسة. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الصلاة في النعلين؛ لقوله: «وليصل فيهما» , وهذا محل بحث هل نقول: إن «اللام» للإباحة بدليل قوله: «فليمسحهما» يعني: أنه بعد مسحهما يجوز أن يصلي فيهما, وعلى هذا فيكون هذا الحديث دالًا على الإباحة, ثم يؤخذ الاستحباب - استحباب الصلاة في النعلين - من دليل آخر, أو نقول: إن اللام للأمر. فيستفاد من هذا الحديث: استحباب الصلاة في النعلين؟ يحتمل هذا وهذا, ولكن أصل المسألة وهو الصلاة في النعلين سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه, وكان الصحابة

- حكم الكلام في الصلاة وضوابطه

يصلون في نعالهم، بل أمر في الصلاة بالنعلين أن يصلي الإنسان فيهما أو يجعلهما عن يساره أو تحت قدميه. وعليه فنقول: إن الصلاة في النعلين مباحة جائزة، بل نقول: إنها سنة، ولكن لنعلم أن السنن إذا ترتب عليها مفسدة صار تركها أفضا، ومعلوم أننا إذا قلنا للناس: صلوا في النعال يترتب على هذا مفسدة تلويث الفرش وتطهير الفرش، ليس بالأمر السهل والمشقة على من كان حول الإنسان والتهاون في احترام المساجد فمن ثم رأينا علماءنا - رحمهم الله- لا يفعلون هذا حتى العلماء الحريصين على تطبيق السنة لا يفعلونه خوفا من المفسدة؛ كنت أرى أن هذا من السنة وأفعله بقيت سنوات أفعله أصلي في النعلين فبدأ الناس بدل أن يكونوا إذا دخلوا المسجد رفعوا نعالهم بأيديهم جعلوا يمشون بالنعال وإذا وصلوا الصف خلعوها، فأتوا بالمفسدة وتركوا السنة، فرأيت أن العدول عن هذا أولى خصوصا بعد أن فرشت المساجد بهذا الفراش وكانت في الزمن الأول مفروشة بالرمل، فعلى كل حال: إذا كانت المسألة سنة بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "وإلا فليجعلها عن يساره أو تحت قدميه"، فالمسألة سنة وليست واجبة، فإذا ترتب على السنة مفسدة فإن تركها أولى. ومن فوائد هذا الحديث: أن التراب طهور - أعني: حديث ا [ي هريرة- كما أن الماء طهور، فيكون التراب في موضعه طهور كما أن الماء كذلك طهور. أسئلة: - رجل صلى وبين يديه قبر ولكنه يبعد عنه ستة أذرع؛ هل تجوز الصلاة؟ - في حديث أبي مرثد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم لما يتعلق بالقبور بين شيئين متقابلين، ما هما؟ - ما الحكمة في أن النبي نهى عن الصلاة إلى القبور. - في حديث أبي سعيد وأبي هريرة ما يدل على أن تطهير النجس يكون بغير الماء؟ - ما الفرق بين الأذى والقذر؟ - حكم الكلام في الصلاة وضوابطه: - 211 - وعن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن". رواه مسلم. - هذا الحديث له سبب، وسببه: أن معاوية بن الحكم رضي الله عنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فحمد الله، فقال له معاوية: يرحمكم الله- خاطبه-، فرماه الناس بأبصارهم؛ - أي: نظروا

إليه نظر إنكار-، فقال: واثكل أمياه، وهذه كلمة تقولها العرب للإشعار بالندم، فجعلوا يضربون على أفخاذهم يسكتونه، فسكت رضي الله عنه، ثم انتهت الصلاة، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه: فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما أحسن تعليما منه صلوات الله وسلامه عليه، والله ما كهرني ولا نهرني، ما كهرني بوجهه فبعث وقطب، ولا نهرني بلسانه، وإنما قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن، أو كما قال، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وأن شأنها التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن، وانتهت القضية، لم يأمره بالإعادة ولا وبخه على الكلام، وإنما علمه هذا التعليم الهادئ الرشيد، وهذا الحديث - كما قلت- له سبب، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم كالقرآن الكريم إلى قسمين: ابتدائي وسببي، يعني: أن بعضها يكون له سبب، وبعضها لا يكون له سبب، ومعرفة السبب تعين على فهم المعنى والمراد به، وقد ألف العلماء - رحمهم الله- كتبا في بيان أسباب الحديث منها ما يكون صحيحا، ومنها ما يكون ضعيفا، لكن الحديث صحيح رواه مسلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة" المشار إليه ليس إشارة تعيين عين ما، وإنما هو تعيين جنس، والفرق بينهما أننا لو قلنا: إنه تعيين عين لكان تحريم الكلام يختص بتلك الصلاة المعينة، وإذا قلنا: تعيين جنس صار المراد: كل الصلوات، وهذا هو المراد أن الإشارة هنا إشارة لتعيين الجنس لا لتعيين العين؛ وقوله: "الصلاة" ما دمنا قلنا للجنس يشمل كل ما يسمى صلاة سواء كانت نافلة، أو غير نافلة، وسواء كانت ذات ركوع وسجود أو لا، "لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" "شيء" نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء سواء كان يتعلق بالصلاة أو لا، وقوله: "من كلام الناس" أي: من الكلام الذي يتخاطب به الناس، هذا مراده قطعا، وليست مراده: مما يتكلم به الناس؛ لأن الناس يتكلمون بالتسبيح والتكبير وقراءة القرآن في الصلاة، لكن من كلام الناس أي: مما يجري بينهم في المخاطبة؛ "إنما هو" إاذ كان اللفظ "هو" المحفوظ فهو ضمير الشأن؛ يعني: إنما شأن الصلاة التكبير وتسبيح الله عز وجل وذلك في الركوع والسجود والاستفتاح، في الاستفتاح: سبحانك اللهم وبحمدك وفي الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي العلى، والتكبير تكبيرة الإحرام، وهي مقدم التكبير، وهي أوكد التكبيرات، وهي ركن لا تنعقد الصلاة بدونها، وأما بقية التكبيرات فالتكبير في الركوع في المسبوق إذا وجد الإمام راكعا سنة، والتكبير في الانتقالات على القول الراجح واجب، "وقراءة القرآن" تشمل قراءة الفاتحة، وقراءة غيرها، والقرآن هو هذا الذي بين أيدينا، وهو مصدر كالغفران والشكران، "الكفران"، إما بمعنى اسم

الفاعل، وإما بمعنى اسم المفعول، فبمعنى اسم المفعول يكون تقديره: قارئ؛ لأنه جامع كالقرية تجمع ساكنيها، وعلى اسم مفعول يكون مقروءا- أي: متلو- وكلاهما صحيح. في هذا الحديث دليل على فوائد عديدة، منها: أن الكلام - كلام الآدميين- مبطل للصلاة؛ لقوله: "لا يصلح فيها شيء". ومنها: أنه لا فرق بين كون الكلام كثيرا أو قليلا، ولا فرق بين أن يكون في النفل أو في الفريضة لعموم "شيء"، ولا فرق بين أن يكون جاهلا أو عالما، ولا فرق بين أن يكون ناسيا ذاكرا لقوله: "شيء" في سياق النفي، لكن الجهل والنسيان سيأتينا - إن شاء الله- الكلام عليهما، وأنهما لا يدخلان في الحديث، والحديث لا يدل عليهما. ومن وائد الحديث: أنه لا فرق بين أن يكون الكلام من حرف أو حرفين، المهم أن يكون كلاما، فإذا قال المصلي لشخص: "ع" يعني: أمر من الوعي، من وعى يعي ع، فهنا هذا كلام جملة كاملة فتبطل الصلاة مع أنه ليس من حرفين، وإذا تنحنح وقال: اح، اح تبطل أو لا؟ لا تبطل مع أنهما حرفان؛ لأن هذا الخير لا يسمى كلاما، والنبي صلى الله عليه وسلم أفصح الخلق يعرف الكلام من غير الكلام فعبر بالكلام: فما كان كلاما أبطلت به الصلاة، وما ليس كلاما فإنه لا تبطل به الصلاة. ومن فوائد هذا الحديث: أن ما يتعلق بخطاب الباري - جل وعلا- لا يبطل الصلاة، فلو قال المصلي: رب أسألك، رب أستغفرك، رب أشكرك، فهذا كلام يخاطب به الرب عز وجل، فالصلاة لا تبطل بهذا؛ لأن هذا ليس مما يتداوله الناس بينهم، بل هو دعاء وعبادة، واستثنى بعض العلماء خطاب النبي صلى الله عليه وسلم حيث علمنا أن نقول: السلام عليك أيها النبي، وفي هذا الاستثناء نظر؛ لأن السلام عليك أيها النبي دعاء وليس خطابا كالخطاب العادي، ولذلك يقوله الصحابة وهم بعيدون عن مكان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يسمعهم أيضا فليس خطاب الآدميين المعتاد، ولكنه دعاء، ولذلك الآن نحن نقول: السلام عليك، وأن لنا مخاطبته، وعليه فالاستثناء فيه نظر؛ لأن هذا دعاء، لكن لقوة استحضار الإنسان بما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم كأنه حاضر بين يديه؛ ولهذا نقول: إن الأثر الذي رواه البخاري عن ابن مسعود قال: "كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبي، فلما مات كنا نقول: السلام على النبي". هذا الأثر - وهو في صحيح البخاري- يعتبر اجتهادا من ابن مسعود في مقابلة النص؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أمته هذا الدعاء بهاذ اللفظ "السلام عليك"، ولم يقل: قولوا هكذا ما دمت حيا بل أطلق، ولأننا نعلم أن

الصحابة حينما يقولون: السلام عليك لا يريدون خطابه المباشر حتى يقال: إنه قد توفي فلا يباشر بالسلام، ولأنه ثبت في الموطأ بإسناد من أصح الأسانيد أن عمر بن الخطاب خطب الناس يعلمهم التشهد وهو خليفة بلفظ: "السلام عليك أيها النبي". ولم ينكر عليه أحد، ومعلوم أن عمر بن الخطاب أفقه في دين الله من عبد الله بن مسعود، وعليه نقول: ما ذكره ابن مسعود رضي الله عنه فهو اجتهاد، والصواب اتباع النص، وحينئذ لا يصح الاستثناء، لأن بعض الفقهاء يستثنى من ذلك خطاب النبي صلى الله عليه وسلم: نقول: إن هذا ليس خطابا مباشرا كالخطاب المعتاد بين الناس بل هو دعاء. من فوائد الحديث - بارك الله فيكم-: أن ظاهره أنه لو تكلم بغير قصد فإنها تبطل الصلاة لكن هذا فيه نظر، كيف بغير قصد؟ رجل سقط على رأسه شيء من الرف، وأوجع رأسه، فقال حين سقط عليه: "أح" بمعنى: أتوجع كلام، هل نقول إن صلاته تبطل؟ لا تبطل، لماذا؟ لأن هذا غير مقصود، خرج تلقائيا فلا يضره. ومن فوائد هذا الحديث: أن التسبيح والتكبير وقراءة القرآن أركان في الصلاة، يعني أركان أي: لا تصح بدونها؛ لأنه حصر، قال: "إنما هي التسبيح" وهذا هو القول الراجح أن التسبيح في الركوع والسجود من واجبات الصلاة، ودليل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل التسبيح والتكبير من لب الصلاة فلا تصح الصلاة بدونه، ويدل لهذا أيضا أنه لما نزل قول الله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74]. و {شبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأولى: "اجعلوها في ركوعكم" وفي الثانية: "في سجودكم"، وأما القول بأنها سنة استدلالا بحديث المسيء في صلاته فنقول ضعيف؛ لأن بعض الأركان أركان لا إشكال فيها لم تذكر في حديث المسيء صلاته، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر للمسيء في صلاته ما أخل به فقط، إذا التسبيح في الركوع والسجود واجب، وقراءة القرآن منها واجب، ومنها ما ليس بواجب، قراءة الفاتحة واجبة لابد منها بل إنها لا تصح الصلاة بدونها بنص الحديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". أما التسبيح والتكبير؛ فتكبيرة الإحرام لا تنعقد الصلاة بدونها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "استقبل القبلة

وكبر". ولأنها مفتاح الصلاة، ولا يمكن الدخول للبيت إلا بمفتاح، وأما البقية ففيها خلاف بين العلماء، والصواب أنها من الواجبات، إن تعمد الإنسان تركها بطلت صلاته وإلا فلا. ومن فوائد هذا الحديث: أن من تكلم في صلاته جاهلا فلا إعادة عليه، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر معاوية بإعادة الصلاة، ولو كانت صلاته باطلة لأمره بالإعادة لوجوب الإبلاغ على النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخل الرجل الذي دخل وصلى بغير طمأنينة علمه، وهذا القول؛ أعني: من تكلم في صلاته جاهلا فلا إعادة عليه هو الراجح لدلالة الحديث عليه، وهو عدم الأمر به في مقام الحاجة؛ أي: حاجة الأمر لو كان واجبا؛ ولأنه يوافق القاعدة الشرعية وهي: "أن جميع المحظورات إذا فعلها الإنسان جاهلا فلا شيء عليه"، هذه قاعدة خذها معك، لم نأخذها من كتاب فلان أخذناها من كتاب رب العالمين: "كل المحظورات في كل العبادات إذا فعلها الإنسان جاهلا فلا شيء عليه"، الدليل قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. فقال الله تعالى: "قد فعلت". {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5]. خذها من كلام رب العالمين، فإذا كان هناك شخص جاهل قد تربى في البادية مثلا، وكان الناس يأتون إليه وهو يصلي ويقولوا: السلام عليكم، فيقول: وعليكم السلام مرحبا بفلان في حال الصلاة، لكن ما يدري أنها حرام تبطل صلاته أو لا؟ لا تبطل بناء على هذه القاعدة، معاوية بن الحكم رضي الله عنه شمت العاطس لكنه جاهل؛ ولذلك لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة. بقي النسيان: هل تبطل الصلاة فيما لم تكلم ناسيا؟ الجواب: لا، على القول الراجح؛ لأن النسيان والجهل قرينان في كتاب الله {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} ولأن كليهما غير مقصود، الجاهل ما قصد انتهاك الحرمات، والناسي كذلك ما قصد انتهاك الحرمات. إذن نقول: من تكلم ناسيا أو جاهلا أو سبق لسانه أو تكلم بغير قصد؛ فصلاته صحيحة، إذا تكلم لمصلحة الصلاة فهل نقول: إنها لا تصلح الصلاة؛ لأن هذا كلام لمصلحتها لا لمنافاتها وهذا يحصل أحيانا، أحيانا يخطئ الإمام فنقول له: سبحان الله، يعني مثلا: يسجد مرة واحدة

ثم يقوم فنقول: سبحان الله فيجلس، فيقال له: سبحان الله يريد أن يسجد، فيقال له: سبحان الله فماذا يصنع؟ بعض العلماء يقول: إذا ارتبك الإمام إلى هذا الحد فإن تنبيهه بالكلام جائز ولا تبطل الصلاة؛ لماذا؟ لأنه لمصلحة الصلاة، واستدلوا بحديث ذي اليدين، أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم مع الصحابة ومع ذي اليدين لمصلحة الصلاة، ولكن هذا القول ليس بصحيح، بل نقول: إذا تكلم بكلام الآدميين بطلت الصلاة ويعيدها من جديد، وأما قصة ذي اليدين فإن كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومحاورته الصحابة كان قبل أن يعلم بأنه سلم قبل التمام؛ ولهذا لما أيد الصحابة ذا اليدين تقدم وصلى ما ترك، وفرق بين من يكون في صلاة ولكن يتكلم لمصلحتها عمدا، وبين من لا يعلم أنه في صلاة لظنه تمامها، فالاستدلال بحديث ذي اليدين فيه نظر. فإذا قال قائل: هل مثلا للمأمومين أن يتكلموا في هذه الحال أن يتكلم واحد منهم فتفسد صلاته لإصلاح صلاة الآخرين؟ نقول: إذا لم يمكن إلا بهذا فيحتسب ويتكلم، أما إذا أمكن بأن ننبهه بآية من كتاب الله مثل أن يقول: {وكبره تكبيرا} [الإسراء: 111] ويقول: {يأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا [الحج: 77]. أو إذا كانت ركوعا {واركعوا مع الركعين} [البقرة: 43]. ويقصد التلاوة لا يقصد التنبيه، فإذا أمكن أن يكون الإنسان نبيها ينبه بشيء من القرآن بقصد قراءة القرآن فغنه لا يعدل إلى الكلام لحصول المقصود بدون إفساد الصلاة. بقية الحديث لم يذكره المؤلف لكن فيه من أهم فوائده: أن المصلي إذا عطس يحمد الله سواء كان قائما أو راكعا أو ساجدا أو جالسا؛ لأنه ذكر وجد سببه في الصلاة، وهو لا ينافي الصلاة فيكون مشروعا؛ لأن الصلاة كلها تسبيح وتكبير وقراءة قرآن، وهذا القول هو الراجح خلافا لمن كره حمد المصلي إذا عطس فالصواب أنه سنة. وهل يقاس عليه كل ذكر وجد سببه في الصلاة؟ قاس بعض العلماء على ذلك كل ذكر وجد سببه في الصلاة، وعلى هذا فإذا كان حول الإنسان من يذكر النبي صلى الله عليه وسلم والمصلي يستمعه فإنه يصلي عليه، وأيضا لو سمع المؤذن وهو يصلي فإنه يتابعه، ولكن هذا فيه نظر؛ لأن الأصل ألا يتشاغل الإنسان بشيء سوى الصلاة. لماذا استثنينا حمد العاطس؟ لورود الدليل، وما عدا ذلك ففي الصلاة شغل عما سواها فلا يشتغل، ولو أننا فتحنا الباب لكان الإنسان إذا سمع من حوله- من يقرأ بلوغ المرام- جعل

يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم دائما وفي هذا نظر ظاهر، فالصواب أن نقول: الصلاة فيها شغل، وما ورد التشاغل به في الصلاة فعلى العين والرأس وما سواه يبقى على الأصل. ومن فوائد الحديث - وهو أيضا من أهم ما يكون-: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يذكر الحكم ويذكر العلة، الحكم في هذا الحديث ما هو؟ إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، علته" إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، وهذا ينبغي لكل إنسان يعلم أن يعلل إذا أمكنه؛ لأنه إذا علل جمع بين الدليل النقلي والدليل العقلي، وازداد طمأنينة المخاطب بالحكم، وعرف به سمو الشريعة، وأنها لا تأتي بحكم إلا وله علة ومناسبة، وهذا من أحسن ما يكون في التعليم، ولكن هذا إذا كان لذكر العلة فائدة، أما إذا لم يكن لذكر العلة فائدة والمستفتي عامي فلا يحسن أن تذكر له العلة، أما الدليل فيذكره له حتى يعرف أنه قد بني الحكم على دليل، لكن العلة ما يذكرها، لو ذكرت للعامي يجب أن يكون إبدال البر بمثله مثلا بمثل سواء بسواء، والعلة في ذلك أنه مكيل مطعوم، وقال بعض العلماء: العلة أنه مكيل فقط، وقال آخرون: العلة أنه مطعوم فقط، ماذا يكون فكره؟ يشوش، يقول: ما هذا الكلام، لكن لو قلت: هذا حرام ربا، انتهت فلكل مقام مقال، لكن أنا أحب أن يذكر لكل إنسان الدليل، خصوصا إذا رأيته أنه يستطعم منك ذكر الدليل، أو رأيت أنه مشوش يستغرب فاذكر له الدليل؛ لأن ربط الناس بالأدلة الشرعية في القرآن والسنة له أهمية كبيرة حتى يعرف الناس أنهم يمشون على بصيرة، وعلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكل مقام مقال، لكن هذا هو الأصلح والذي أود أن أجد الناس عليه، فمثلا نقول: إن النية شرط في الوضوء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات", من أكل وهو صائم ناسيا فصومه تام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه". وهكذا حتى يحصل ارتباط الناس بأدلة الكتاب والسنة. أسئلة: - سبق لنا على أن الكلام في الصلاة مبطل لها، فما الدليل؟ - إذا قال قائل: لماذا لم يأمر معاوية بإعادة الصلاة؟ - هذا الحديث له سبب فما هو؟ - هل ما يقتضيه هذا الحديث من رفع الإثم والقضاء على أنه جهل يطابق القواعد العامة في الشريعة؟ نعم، فما هي القواعد العامة؟ - هل يشمل هذا جميع العبادات؟

212 - وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن قال: "إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت: {حفظوا على الصلوت والصلوة الوسطى وقوموا لله قنتين} [البقرة: 328]. فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام". متفق عليه، واللفظ لمسلم. قوله: "إن كنا" هذه (إن) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف وجوبا، ويسميه النحويون ضمير الشأن، والتقدير: أنه أي الشأن، وقال بعضهم: إنه يقدر ضمير مناسب للسياق، وليس شرط أن يكون ضمير الشأن هو المفرد المذكر الغائب، وبناء على هذا القول يكون التقدير: إننا كنا نتكلم، لكن الذين اضطروا إلى أنه ضمير الشأن قالوا: لأجل أن يكون ما بعده جملة هي خبر الضمير، ويدل لكونها مخففة من الثقيلة وجود اللام في الخبر "لنتكلم"؛ ولهذا لو حذفت اللام وقيل: إن كنا نتكلم" تحتمل أن تكون نافية؛ ولهاذ يقال: إن هذه اللام اللام الفارقة. قوله: "حتى نزلت {حفظوا على الصلوت} [البقرة: 238]. والمحافظة على الصلاة تشمل المحافظة على شروطها وأركانها وواجباتها ويكمل ذلك مكملاتها، فمثلا لو صلى على غير وضوء لم يحافظ عليها، ولو صلى وفي ثوبه قذر وقد علم به لم يحافظ، ومن أخرها عن وقتها لم يحافظ، فالمحافظة إذن هي القيام بشروطها، وأركانها، وواجباتها، وتكميل ذلك بالمكملات، وقوله: {على الصلوت} هذه عامة، وقوله: {والصلوة الوسطى} خاصة، والمراد بالصلاة الوسطى: هي صلاة العصر، وقد اختلف فيها العلماء على أقوال كثيرة، وإن الإنسان ليعجب أن يكون مثل هذا الخلاف مع أن الحديث صريح صحيح في أنها صلاة العصر كما فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال في يوم الخندق: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر". وهذا نص صريح ولا ينبغي أن يكون فيه الخلاف، فهي إذن صلاة العصر، وعليه تكون صلاة العصر أفضل الصلوات ثم يليها صلاة الفجر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى البردين دخل الجنة". والبردان: هما الفجر والعصر، وقوله: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم على أن تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا". {وقوموا لله}: وقوموا في الصلاة كما قال الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة} [المائدة: 6]. والمعنى: قوموا في الصلاة لله، "اللام" للاختصاص؛ يعني: هذا يجب فيه الإخلاص، وفي قوله: {لله} الإشارة إلى وجوب القنوت لقوله: {قنتين} ولهذا قدم الإخلاص

على العمل، {وقوموا لله قنتين}؛ لأنه إذا كان الإنسان قائما لله فإنه سوف يقنت، والمراد بالقنوت هنا: السكوت عن كلام الناس؛ ولهذا قال: "فأمرنا بالسكوت"، وإذا قال الصحابي: "أمرنا" فالآمر الرسول صلى الله عليه وسلم "بالسكوت" أي: السكوت عن كلام الآدميين؛ يعني: عن تكليم الرجل صاحبه في الصلاة، وليس عن السكوت مطلقا؛ لأن الصلاة فيها كلام، "ونهينا عن الكلام" أي: كلام الآدميين، ففي هذه الآية بيان السبب؛ يعني: أنها نزلت لسبب، وسيأتي. هذا الحديث فيه فوائد منها: جواز النسخ في الأحكام الشرعية، وهذا هو المتفق عليه بين العلماء - علماء الشريعة- أن النسخ جائز في الأحكام، ومعنى كونه جائزا أي: غير ممتنع، لكنه واجب إذا اقتضت المصلحة؛ لذلك ستجدون في كتب الأصول أن النسخ جائز، ومرادهم بالجواز: عدم الامتناع، لكنه في وقته يكون واجبا بمقتضى حكمه الله عز وجل، لأن حكمه الله تستلزم أن يشرع الأحكام في وقتها المناسب، لا نقول هذا من عقولنا كما تقول المعتزلة إننا نوجب على الله أو نحرم على الله، لا، لكننا نقول هاذ بمقتضى حكمته؛ لأن الحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها، والنسخ جائز في جزء من الشريعة، وجائز في كل الشريعة، أما في جزء من الشريعة ثابت في شريعتنا وشريعة من قبلنا، فالنسخ في شريعتنا كثير؛ يعني: إلى عشر مواضع النسخ في الشرائع السابقة أيضا قال الله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبت أحلت لهم} [النساء: 160]. إذن التحريم صار بعد التحليل {طيبت أحلت لهم} هذا نسخ الشريعة كاملة أم نسخ جزء منها؟ نسخ جزء منها. ويجوز أن تنسخ الشريعة كلها، لكن هذا في شريعتنا لا يمكن، لماذا؟ لأن هذه الشريعة آخر شريعة أنزلها الله لعباده، ولا يمكن أن ينسخها شيء، بل هي ناسخة لجميع الشرائع السابقة. إذا قال قائل: هل هو جائز عقلا؛ يعني: بعد أن عرفنا أنه واقع شرعا، هل هو جائز عقلا؟ نقول: نعم جائز عقلا، وما المانع منه إذا اقتضت المصلحة أن يرفع الحكم الأول ويثبت الحكم الثاني؟ عقلا لا مانع، بل إن العقل يقتضي لزوم النسخ إذا دعت الحاجة إليه أو المصلحة، اليهود يقولون: ليس هناك نسخ في الشرائع؛ ولهذا كفروا بشريعة الإنجيل، وكفروا بشريعة القرآن ولكن يقال: فبحكم الله {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسراءيل على نفسه} [آل عمران: 93]. حرم الله عليكم طيبات أحلت لكم بعد أن كانت حلالا، وقولهم ساقط، بعض علماء الشريعة قال: لا نسخ في الشريعة الإسلامية، وتأول تأويلا بعيدا، قال: إن الأصل في الحكم إذن نزل أنه شامل لجميع الأمكنة والأزمنة، فإذا نسخ فعموم الزمان بهذا النسخ

خص بهذا النسخ فنسميه تخصيصا ولا نسميه نسخا؛ إذن هذا الخلاف لفظي أم معنوي؟ لفظي ومع ذلك هو غلط، لماذا نهاب عن كلمة النسخ والله عز وجل يقول: {ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [البقرة: 106]. فأثبت الله النسخ، وقال عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطن في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطن} [الحج: 52]. لكن هذه [الآية] الاستدلال بها فيه شيء من الضعف؛ لأن ما ألقاه الشيطان ليس بشرع، فالمهم أن النسخ ثابت بالقرآن والسنة، وأنه لا مانع منع عقلا، وأن تسميته تخصيصا مع الإقرار به ما هو إلا خلاف لفظي لا معنى له ولا وجه له. ومن فوائد هذا الحديث: أن الصحابة - رضي الله عنهم- في الصلاة لا يتكلمون كلاما لغوا بل لا يتكلمون إلا لحاجة؛ ولهذا قد يكلم أحدنا صاحبه بحاجته. ومن فوائد هذا الحديث: أن القرآن نازل من عند الله كله وبعضه لقوله: "حتى نزلت". ومن فوائده: أن القرآن نزل مفرقا لا جملة واحدة، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: {وقرءانا فرقنه على الناس على مكث} [الإسراء: 106]. يعني: قليلا قليلا، وقال عز وجل: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك}؛ يعني: أنزلناه كذلك مفرقا لأي شيء؟ {لنثبت به فؤادك ورتلنه ترتيلا} [الفرقان: 32]. ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات علو الله عز وجل؛ لأن الذي يتكلم بهذه الآية من؟ الله، وإذا كانت نازلة لزم أن يكون المتكلم بها عاليا، وهذا أمر - أعني: علو الله عز وجل- تطابقت عليه الأدلة بجميع أنواعها الكتاب والسنة، والإجماع والعقل، والفطرة، وسبق الكلام على هذا في عدة مواضع. ومن فوائد هذا الحديث: عناية الله - تبارك وتعالى- بالصلوات؛ حيث أمر بالمحافظة عليها. ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة صلاة العصر لقوله: {والصلوة الوسطى}، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها صلاة العصر فلا يعتد بخلاف ذلك، حتى إن بعضهم نقل الإجماع على أنها صلاة العصر؛ لأن ما سوى ذلك باطل يعارض كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: ما معنى كونها الوسطى، هل هي في العدد أم في الفضل؟ قلنا: إن شئت فقل بالعدد، وإن شئت فقل بالفضل، أما العدد فالفجر صلاة نهارية؛ لأنها بعد طلوع الفجر يليها الظهر؛ والثالثة: العصر، والرابعة: المغرب، والخامسة: العشاء، وإن شئت فقل: بالفضل، وهذا هو الأهم، فتكون الوسطى بمعنى: الفضلى، ودليل هذا قوله تعالى: {وكذلك جعلنكم أمة وسطا} [البقرة: 143]. أي: عدلا خيارا، وقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110].

ومن فوائد الآية الكريمة التي تضمنها الحديث: وجوب الإخلاص لله لقوله: {وقوموا لله قنتين} [البقرة: 238]. ومنها: وجوب الصلاة قائما لقوله: {وقوموا} وهذا في الفريضة، فيصلي الإنسان قائما؛ فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب. وهل على المصلي على الجنب أجر كأجر القائم؟ الجواب: نعم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما". ويستثنى من ذلك النافلة فإنها تجوز من قادر على القيام، ولكنه على النصف من أجر القائم؛ يعني أن يصلي قاعدا وهو قادر على القيام إلا أنه في الأجر أنقص ممن يصلي قاعدا، ويستثنى من ذلك العجز، لا يلزمه القيام كما في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، ويستثنى من ذلك الخائف كما لو كان الإنسان مستترا بجدار عن عدو ويخشى إن قام أن يبصره العدو، فهنا له أن يصلي قاعدا، ويستثنى من ذلك من صلى إمامه قاعدا فإنه يتبعه فيصلي قاعدا، وهل يشترط في ذلك أن يكون هذا الإمام إمام الحي أو لا يشترط؟ من العلماء من اشترط ذلك، وقال: إنه إذا لم يكن إمام حي فإنه ينحى عن الإمامة ويؤم الناس غيره، ولا حاجة إلى أن يصلي بالناس بخلاف إمام الحي، فإنه صاحب السلطان في مسجده فلا يتقدم عليه أحد ويصلي قاعدا للعجز، ولا يصلي من وراءه قعودا، ولكن ظاهر الحديث يخالف ذلك، وهو عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى قاعدا فصلوا قعودا". وعلى هذا فيدخل المأموم الذي يصلي إمامه قاعدا فيما استثنى من وجوب القيام. ومن فوائد هذا الحديث: تفسير السنة بالقرآن فإن قول زيد: "أمرنا بالسكوت"- والآمر هنا النبي صلى الله عليه وسلم- يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر القنوت بالسكوت، وقد يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر القنوت بالسكوت تفسيرا مطابقا وإنما فسره باللازم، وأن القنوت محله القلب، وأن يخشع الإنسان لربه عز وجل، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا، فكون النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نوعا من لازم القنوت وهو السكوت، وأيا كان فإن هذه الآية تدل على وجوب سكوت الإنسان عن كلام الناس. ومن فوائد هذا الحديث: جواز إخفاء الفاعل إذا كان معلوما؛ لأن كل أحد يسمع الصحابي يقول: "أمرنا"، و"نهينا" لا ينصرف ذهنه إلا إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كقوله تعالى: {وخلق الإنسن ضعيفا} [النساء: 28]. فأخفي الخالق لأنه معلوم وهو الله - تبارك وتعالى-. ومن فوائد الحديث: جواز النسخ؛ لأن حكم الكلام أولا الإباحة ثم صار حراما.

ومن فوائد هذا الحديث أيضا: أن القرآن نازل منجما، وهذا أمر قطعي أنه نزل منجما، ولكن هل نزل منجما من عند الله - تبارك وتعالى-، يعني: أن الله تكلم به ثم تلقاه جبريل ونزل به في حينه، أو أن الله كتبه في اللوح المحفوظ وصار جبريل يتلقاه من اللوح المحفوظ؟ الأول هو المتعين لقول الله - تبارك وتعالى-: {فإذا قرأنه فاتبع قراءانه} [القيامة: 18]. ومعلوم أن الذي قرأه جبريل؛ لكن كون الله يطلق قراءة جبريل على قراءته يدل على أن الله قرأه على جبريل، ثم قرأه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إن ثبت أنه كتب في اللوح المحفوظ أولا- يعني: جميع القرآن كتب في اللوح المحفوظ- ثم نزل من عند الله عز وجل يتكلم به في حينه؛ فلا مانع ولا معارض، لكن حتى الآن لم يثبت أن القرآن كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يتكلم الله به. ومن فوائد الحديث: عموم علم الله - تبارك وتعالى-؛ لأن الله أنزل هذه الآية حين علم أن الناس يتكلمون في صلاتهم، وهذا أمر معلوم؛ أي: أن الله بكل شيء عليم، معلوم مجمع عليه. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان ألا يحدث نفسه في حال الصلاة؛ لأن حكمة النهي عن كلام الناس بعضهم لبعض هو أن يكون القلب مقبلا على الله عز وجل لا ينصرف لغيره، فيستفاد منه أنه لا ينبغي للإنسان أن يتشاغل بحديثه مع نفسه، كما كان أكثر الناس في أكثر صلواتهم على هذا الوجه، ولا يسلط الشيطان إلا إذا دخل الإنسان في الصلاة فتح له من أبواب التفكير والوساوس ما لم يطرأ على بال؛ لأن الشيطان عدو يجري من ابن آدم مجرى الدم، فهو حريص على إفساد عبادته؛ ولهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتفل على يسارنا ثلاث مرات، ونستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. 213 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء". متفق عليه - زاد مسلم: "في الصلاة". قوله: "التسبيح للرجال" يعني: قول: سبحان الله، كما جاء ذلك مفسرا في بعض روايات البخاري، وإن لم يأت مفسرا فهو واضح أن التسبيح قول: "سبحان الله"، وقوله: "للرجال" يعني: الذكور، فلا يخرج به من دون البلوغ، "والتصفيق" يعني: ضرب إحدى اليدين بالأخرى، "للنساء" جمع نسوة أو جمع امرأة، يحتمل هذا وهذا، ولكن حتى لو قلنا: جمع نسوة، فإن نسوة جمع امرأة، فيكون (امرأة) من المفردات التي لا تجمع من لفظها، كما أنه يوجد جموع ليس لها مفرد من لفظها مثل: الإبل، ما مفرد الإبل؟ فإنها ليس لها مفرد من لفظها، واللغة واسعة، إذن "للنساء" نقول: يشمل البالغة وغير البالغة، وقوله: "في الصلاة" يشمل الفريضة والنافلة؛ لأن "أل" للعموم.

وسبب هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من أصحابه التنبيه بالضرب على الأفخاذ فقال: "إذا نابكم شيء فليسبح الرجال وليصفق النساء". "التصفيق" قلنا: ضرب إحدى اليدين على الأخرى، والمراد باليدين: الكفان؛ لأن اليدين إذا أطلقت فهما الكفان، وإن قيدت فبما تتقيد به، لكن كيف يكون هل ببطن كل يد على بطن الأخرى، أو بظهر كل يد على ظهر الأخرى، أو بظهر اليمنى على بطن اليسرى، أو ببطن اليسرى على ظهر اليمنى، أو أنه عام؟ عام، المهم أن يكون بضرب إحدى الكفين على الأخرى حتى يكون له صوت قيد ذلك بعضهم بأن يكون بأصبعيه، لكن هذا لا يصلح. فنقول: التصفيق هو أن تضرب المرأة بإحدى كفيها على الأخرى بحيث يكون لذلك صوت. ففي هذا الحديث فوائد: وهو أن الإنسان في صلاته إذا تشاغل بشيء لا يصده عن الصلاة فلا بأس فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي وهو يصلي. أو نقول للناس: سدوا آذانكم، لا، فإذا كان لا يشغله فلا بأس، ومن المعلوم أن الإنسان إذا نابه شيء فسوف يسمعه أو يراه، فإذا سمعه أو رآه فهذه الوظيفة يسبح الرجال ويصفق النساء. فإن قال قائل: ما الحكمة في أن يأتي بالتسبيح دون الحمد مثلا، يعني: لم يقل الرسول: فليحمد الله؟ لأن هذا يقع كثيرا في النسيان، ينسى الإمام فيزيد أو ينقص أو يقوم في مكان القعود، أو يقعد في مقام القيام، والنسيان مما ينزه الله عنه؛ فناسب أن يكون التنبيه بالتسبيح الدال على تنزيه الله عن كل نقص. ومن فوائد هذا الحديث: أن التسبيح لا يبطل الصلاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، أو أخبر به خبرا على وجه الإقرار، ولو كان يبطل الصلاة ليبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة تبطل به. فإن قال قائل: لو عدل المصلي إذا نابه شيء إلى غير التسبيح بأن تنحنح أو جهر بما يقرأ به فلا بأس؟ سيأتينا - إن شاء الله. ومن فوائد هذا الحديث: أن العمل للمصلحة أو الحاجة في الصلاة لا يبطلها، وذلك لقوله: "والتصفيق للنساء"؛ لأن التصفيق عمل لكنه للحاجة أحيانا أو للمصلحة؛ إن كان لسهو الإمام فهو لمصلحة الصلاة، وإن كان لشيء ناب الإنسان بأن استأذن عليه أحد أو ما أشبه ذلك فهو للحاجة. ومن فوائد هذا الحديث: حكمة الشريعة الإسلامية في التفريق بين الرجال والنساء حسب ما تقتضيه الحكمة، والحكم هنا: أن صوت المرأة ينبغي ألا يسمعه الرجال إلا للحاجة، والمرأة لو سبحت لسمعها الرجال، وربما تكون رخيمة الصوت فيفتتن بها السامع؛ فلهذا أمرت بالتصفيق دون التسبيح، وأمر الرجال بالتسبيح؛ لأن صوت الرجال مع الرجال ولا يتأثر به النساء.

ومن فوائد هذا الحديث: أن اختصاص النساء بالتصفيق فيما إذا كن في صلاة مع جماعة الرجال، فهل إذا كانت الجماعة نساء محضة تسبح المرأة أو تصفق؟ إن نظرنا إلى عموم اللفظ قلنا: إنها تصفق؛ لأن الحديث مطلق، وإن نظرنا إلى المعنى قلنا: لا بأس أن تسبح؛ لأنه لا يسمعها إلا النساء، ولكن الأخذ بظاهر اللفظ أولى أن نقول: تصفق ولو لم يكن معها إلا جماعة النساء. ومن فوائد هذا الحديث: أن التصفيق للنساء في الصلاة، أما في غير الصلاة فإنه لا شك أن الأولى للإنسان ألا ينبه بالتصفيق خوفا من أن يتشبه بالنساء، بل ينبه باللفظ، خلافا لبعض الناس إذا دعا شخصا ولم ينتبه صار يصفق، وكان الذي ينبغي عليه ألا يصفق إذا دعاه ولم ينتبه، يكرر الدعوة ويرفع صوته. فإن قال قائل: ماذا تقولون فيما يحدث عند الإعجاب بالشيء فيصفق له؟ الجواب: أنا لا نرى في ذلك بأسا؛ لأن هذا اصطلاح حادث جرى عليه الناس كلهم المسلمون وغير المسلمون، وهو عنوان على إعجاب الشخص بما سمع أو بما رأى، ولا ينافي الحديث فيقوله: "فليسبح الرجال، وليصفق النساء"؛ لأن هذا في الصلاة. فإن قال قائل: أليس الله يقول في المشركين: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} [الأنفال: 35]. المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق؟ قلنا: بلى، قال الله هذا، لكن هؤلاء المشركين جعلوا هذا عبادة يتعبدون الله بذلك، وهذا الذي أعجب بالشيء لم يجعل ذلك عبادة؛ ولهذا جاز للمرأة أن تنبه بالتصفيق وهو مما يفعله المشركون عند المسجد الحرام تعبدا لله عز وجل. أسئلة: - من مقاصد الشريعة ألا تخرج المرأة صوتها للرجال، من أين يؤخذ هذا؟ 214 - وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء". أخرجه الخمسة، إلا ابن ماجة، وصححه ابن حبان. "رأيته يصلي"، ولم يذكر هذه الصلاة أنافلة هي أم فريضة؟ ولكن لا يهمنا ذلك كثيرا، يعني: قد تكون فريضة، وقد تكون نافلة، وقوله: "في صدره أزيز" الأزيز: صوت القدر إذا كان يغلي، "والمرجل" القدر، والقدر إذا كان يغلي يكون له صوت معروف يعرفه كل من سمعه، وقوله:

" من البكاء" (من) هنا للتعليل أي: من أجل البكاء، ويجوز أن تكون بيانية أي: تبين السبب، لكن المعنى الأول أقصر وأوضح، والبكاء معروف، والبكاء له أسباب: تارة يكون سببه الإيلام والحزن، وتارة يكون سببه عكس ذلك: الفرح، والانبساط، والسرور كم إنسان ضحك حين بشر، وكم من إنسان بكى حينما جزن، والغالب الثاني؛ أي: أنه يكون من الحزن والألم وما أشبه ذلك، وبكاء الصبيان كثير؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعبروا عن أنفسهم بالألم أو الحزن إلا بهذه الطريقة، وهذه الطريقة فطرية يتساوى فيها بنو آدم كلهم عربهم وعجمهم، اجمع أطفالا مختلفين بأن تجعل واحدا من العجم، واحدا من العرب، واحدا من البربر، واحدا من أي نوع، ثم حركهم تحريكا يؤلمهم فيصيحون، يختلفون أو لا يختلفون؟ لا يختلفون؛ لأن هذا أمر فطري طبيعي. قال أهل العلم: وبكاء الصبي فيه فائدة عظيمة، خصوصا الصغار الذين هم في المهد، يقولون: لأن الصغار لما لم يتمكنوا من السير على الأقدام وتحريك الدم وفتح الأمعاء جعل الله تعالى هذا البكاء بدلا من الرياضة بالقدم واليد فهو يفتح الأمعاء وينشط الجسم ويجري الدم، أما بالنسبة للصغار الذين فوق ذلك فإن الإنسان يتألم إذا سمعهم يبكون - لا شك- رحمة بهم- وشفقة لكن الأولى أن يدعهم حتى يسكنوا وتطيب نفوسهم من البكاء، أما الأولى أن يهدئهم؟ فيما أرى - والعلم عند الله- إذا كان بكاؤهم لطلب الانتقام فهذا دعه ما تطيب نفوسهم إلا بهذا، لو أنك حاولت إسكاتهم انكبتت نفوسهم، أما إذا كان عن ألم أو نحو ذلك، فهنا ينبغي أن تحاول إسكاتهم بكل طريقة. في هذا الحديث فوائد منها: خشوع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا البكاء لم ينتج إلا عن حضور القلب وتصور ما يقول. ومنها: أن البكاء وإن ظهر له صوت لا يبطل الصلاة، وهذا هو مراد المؤلف رحمه الله بسياق هذا الحديث في هذا الباب فإذا وجد الصوت من المصلي من البكاء فإن صلاته لا تبطل، وإن كان بعض العلماء يقول: إذا بان حرفان بطلت الصلاة، ولكن هنا سؤال: هل ينبغي للإنسان أن يتقصد البكاء والنحيب العالي الرفيع، أو الأولى أن يجعل المسألة على حسب الطبيعة؟ الثاني بلا شك هو الأولى، وأما ما يتكلفه بعض الناس في قيام رمضان من النحيب فهذا يذم صاحبه، إلا أن يكون بلا اختياره، لأن الشيء الذي يكون بلا اختيار لا يلام عليه؛ لأنه لا يستطيع أن يعارضه. ومن فوائد هاذ الحديث: جواز تشبيه الأعلى بالأدنى إذا قصد بذلك التقريب، وجهه:

بكاء الرسول - عليه الصلاة والسلام- أعلى من أزيز القدر، أليس كذلك؟ لكن شبه به للتقريب، ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر". وكذلك في حديث الوحي كأنه سلسلة على صفوان. فهذه الأمثلة التقريبية لا تستلزم بأي حال من الأحوال التماثل بين المشبه والمشبه به فكل له حكمه. 215 - وعن علي رضي الله عنه قال: "كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان، فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي". رواه النسائي، وابن ماجه. علي بن أبي طالب رضي الله عنه من آل البيت وهو أشرف آل البيت، وهو صهر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه تزوج ابنته فاطمة سيدة نساء أهل الجنة أفضل بنات النبي - عليه الصلاة والسلام-، تزوجها أفضل آل النبي صلى الله عليه وسلم سوى النبي صلى الله عليه وسلم، وعثمان رضي الله عنه تزوج بنتي الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا يسمى ذا النورين، وأبو بكر تزوج ابنته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا أن رجلا من الرافضة ورجلا من أهل السنة تنازعوا أيهما أفضل: علي أو أبو بكر؟ فتحاكموا إلى ابن الجوزي رحمه الله فقال لهما - أي للرجلين-: أفضلهما- يعني: علي بن أبي طالب، وأبو بكر- من كانت ابنته تحته. أيهم؟ الضمائر تعود على من؟ فذهب الرجلان يتنازعان في موضع الضمير على من يرجع، لكن الرجل تخلص لا شك وهذا مما يفتح الله به على الإنسان حين المضايقات أن ييسر الله له شيئا يتخلص به وهو حق. إذن في هذا الحديث يقول: "كان لي مدخلان" كلمة "مدخل" تصلح أن تكون اسم زمان، أو اسم مكان، فهل نقول: إن هذين المدخلين يعني: في النهار وفي الليل، أو من باب وباب آخر؟ الأول: هو المتعين، أي: مدخلان فهما اسما زمان يعني: مدخل بالليل، ومدخل في النهار. "فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح" "إذا أتيته" يعني: لأدخل عليه، وكأن في الحديث محذوفا تقديره: فاستأذنته "تنحنح لي" والنحنحة معروفة، يظهر أن لها صوتا، أحيانا يكون الصوت لا تستطيع أن تدرك منه حرفا، وأحيانا لا تستطيع [إذن] "تنحنح لي" يعني: ليبين أنه يصلي. ففي هذا الحديث فوائد، منها: أن في هذا منقبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث مكنه الرسول صلى الله عليه وسلم من مدخلين أحدهما في الليل والثاني في النهار. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته وهو كذلك، وكان يصلي في بيته إلا الفريضة،

حكم الحركة في الصلاة وضوابطها

وقد قال: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". فهو -عليه الصلاة والسلام- يصلي في بيته ما عدا المكتوبة وما تشرع له الجماعة، فقولنا: "وما تشرع له الجماعة" نعني بذلك: صلاة الكسوف على القول بأنها سنة، وقيام رمضان، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ثلاث ليال وتخلف في الرابعة خوفا من أن تفرض علينا. ومن فوائد هذا الحديث: جواز النحنحة في الصلاة سواء بان حرفان أو لم يبن؛ لأن الحديث مطلق فلم يقيد بحرف ولا حرفين. ومنها: أنه ينبغي للإنسان إذا استؤذن عليه وهو يصلي أن يبين حاله للمستأذن، حتى يكون على بصيرة، وإلا فمن الجائز أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ينهي الصلاة ثم يأذن له لكن هذا لا ينبغي، بل الذي ينبغي أن تبين لأخيك أنك في صلاة. ومنها: تحريم الكلام في الصلاة، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عنه إلى التنحنح، ومعلوم أن التنحنح في الإجابة أدنى مقابلة من الكلام؛ لأن من تقابله الكلام أعلى ممن تقابله بالنحنحة، يظهر ذلك لو أن أحدا خاطبني منكم فتنحنحت له، وآخر خاطبني وخاطبته بالكلام، فالمرتبة الثانية أعلى من الأولى، فلو كان الكلام جائزا في الصلاة لكان أحسن الناس خلقا محمدا صلى الله عليه وسلم يتكلم. فإن قال قائل: وهل يجوز أن ننبه الإنسان لغير النحنحة؟ فالجواب: نعم، يسبح، أو يرفع صوته بالقراءة أو بالذكر حسب ما يقول؛ لأن المقصود التنبيه الداخل على أن هذا الإنسان في صلاة، لو كان تليفون ينبه وهو جنبك هل لك أن ترفعه وتقول: انتظر فإني أصلي؟ لا، إذن ماذا تصنع؟ إما أن أتركه وأنا معذور لا شك، وإما أن أرفعه وأتنحنح، أما أن أقول: أنا أصلي أو ما أشبه ذلك بناء على أنه قد لا يفهم فلا. حكم الحركة في الصلاة وضوابطها: 216 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "قلت لبلال: كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا، وبسك كفه". أخرجه أبو داود، والترمذي وصححه. هذا شبيه بما سبق، ابن عمر رضي الله عنه من فقهاء الصحابة، ومن عباد الصحابة، ومن أشد الصحابة

ورعا وتمسكا بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وبلال معروف هو مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، سأله ابن عمر وهو أعلى منه نسبا وأقرب منه إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام- وهو أيضا أعلم من بلال، سأله كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم - أي: على الناس- حين يسلمون عليه؛ لأن الناس كانوا يسلمون على الرسول - عليه الصلاة والسلام- وهو في صلاته، فكان قبل تحريم الكلام يرد عليهم، وحين حرم الكلام امتنع، كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد عليهم السلام ولما رجع عبد الله بن مسعود من الهجرة وسلم عليه لم يرد عليه، فصار في نفسه لماذا لم يرد فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يحدث في أمره ما شاء، وإنه أحدث ألا نتكلم- أو قال: - ألا تتكلموا في الصلاة". وظاهر حديث ابن مسعود أنه لم يشر إلى الرد، لكن حديث بلال هذا يقول: "كان يرد عليهم فيقول: هكذا وبسط كفه" لكن رفعها قليلا، هكذا. ففي هذا الحديث فوائد، منها: خفاء بعض الأحكام على من هو أعلم، وجهه: أن بلالا كان عنده علم بهذا، وأن ابن عمر ليس عنده علم، وهذا سهل؛ يعني: المسألة خفيت على أحد، ولكن الغريب أن تخفى مسألة على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ومعه المهاجرين والأنصار وذلك في حديث الطاعون. عمر رضي الله عنه توجه إلى الشام في أثناء الطريق قبل له: إن الشام فيها طاعون، والطاعون - أعاذنا الله وإياكم منه وأجارنا- مرض فتاك إذا نزل بأرض فتك بأهلها فتوقف عمر وليس عنده دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، توقف أيمضي أو يرجع إلى المدينة وجميع الصحابة المهاجرين والأنصار ثم القدامى من المهاجرين، وكان الرأي أن يرجع، ولكن مع ذلك صار فيه شيء من التوقف حتى جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان قد غاب في حاجة له، وأخبرهم بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فاطمأنوا ورجعوا؛ يعني: الخليفة الراشد وكل الصحابة الذين كانوا معه، كلهم خفي عليهم هذا الحديث، فلا تستغرب أن يخفى حكم مسألة على رجل من أكبر العلماء يعرفها أنى واحد من طلبة العلم، لا يستغرب. ومنها: حرص الصحابة - رضي الله عنهم- على العلم، فلم يستنكر ابن عمر أن يسأل بلالا عن هذه المسألة، وهذا أمر معلوم، أعني: حرص الصحابة على العلم. ومنها: جواز السلام على المصلي، وجه هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرهم ولو كان غير جائز لنهاهم، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء، منهم من قال: إنه جائز، ومنهم من قال: إنه سنة،

ومنهم من قال: إنه مكروه، أما من قال: إنه جائز فاستدل بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على السلام عليه، وأما من قال: إنه سنة، فقال: الأصل في السلام أنه سنة، فإذا أقرهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي كان إقرارا لهم على أصله، وما هو الأصل؟ السنية فيكون مسنونا، وأما من قال: إنه مكروه، فعلل ذلك بأمرين احدهما أن المصلي مشغول، وإذا كان مشغولا فلا ينبغي أن تشغله، ثانيا: إنك إذا سلمت على المصلي فقد ينسى ويقول: عليك السلام، وما أكثر الغفلة في الصلاة فيسلم عليه فنقول: عليك السلام، وقد يكون جاهلا كعامي لا يدري عن الأمور فيسلم عليه فيقول: عليك السلام، وقد تلحقه الهيبة فيقول: عليك السلام مثل أن يمر به السلطان فيقول: السلام عليك، فمع الدهشة يقول: عليك السلام، فإذا كان في هذا عرضة لإبطال صلاة المصلي فإنه يكون مكروها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الصحابة حين كانوا يقرأ بعضهم عند بعض وهم يجهرون ويصلون نهاهم وقال: "لا يؤذين بعضكم بعضا في القرآن"، فما دمنا نخاف فلا نفعل، لكن أقرب الأقوال انه مباح. ويعارض القول بأن الأصل السنية أن يقال: بأن هذا مشغول ولا يمكن أن نقول إنه مكروه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقره عليه ولا يمكن أن نقول الصحابة عندهم علم ومعرفة بخلاف العوام بعدهم، لأننا لو قلنا بهذا لبطلت استدلالاتنا بكثير من الأحاديث، فالأقرب أنه لا يكره وأنه مباح، ولكن هل يكتفي بهذا الرد بالإشارة؟ هذا ظاهر الحديث أنه يكتفي، هذا فيمن سلم ماشيا واضح أنه يكتفى به، لكن فيمن سلم وجلس حتى انتهى المصلي من صلاته هل يرد عليه قولا، أو نقول: إنه يكتفى بالرد الأول لأنه مما جاءت السنة؟ الظاهر الثاني، أي: أنه يكتفى، وكونه يجلس أو يمضي في سبيله ليس على المصلي شيء منه، ولكن لا شك أن من حسن الأخلاق أنه إذا انتهى من صلاته - المصلي- يرد على أخيه يقول: وعليك السلام كيف أنت، كيف حالك؛ لأنه قد يكون من الجفاء ألا ترد، وكل شيء يوجب سرور أخيك واطمئنانه وإزالة ما في قلبه من ظن الكبر فيك فهو خير. ومن فوائد هذا الحديث: أن الحركة من غير جنس الصلاة للحاجة لا بأس بها، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده للسلام للحاجة، وهذه الإشارة من جنس الصلاة أو لا؟ لكن للحاجة لا بأس بالحركة. ومن فوائد هذا الحديث: جواز إطلاق القول على الفعل، وجهه: قال: "بيده"، ومثل هذا

حديث عمار في التيمم: "إنما كان يكفيك أن تقول بيدك هكذا". وفيه أيضا إشارة إلى أن حقيقة الكلام ما أفاد معناها، فلا يقال: إن هذا من باب التجوز، تقول هذا من باب الأساليب العربية، وأن حقيقة معنى الكلام هو ما أفاده بحسب اللغة أو العرف أو الشرع، شيخ الإسلام رحمه الله ينفي أن يكون في اللغة مجاز، ويقول: إن الكلمة في سياقها وفي محلها لا تدل إلا على ما يراد بها، وكلامه عند التأمل هو الصواب، والعلماء مختلفون في الحقيقة والمجاز هل هي ثابتة في اللغة والقرآن، أو في اللغة دون القرآن، أو لا في اللغة ولا في القرآن؟ يعني: المجاز على أقوال ثلاثة معروفة، ومن أراد البسط هذا فعليه بقراءة كتاب الشيخ الشنقيطي وهو: "منع جواز المجاز في القرآن"، وكذلك يقرأ: "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم، ويقرأ كتاب: "الإيمان" لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد وضح هذا توضيحا جليسا إذا قرأه الإنسان بتأمل عرف أنه الحق، ورأيت في مختصر الصواعق لابن القيم أن من علماء النحو من قال: لا حقيقة في اللغة، كلها مجاز. أين نذهب إذا صارت كل الدنيا مجازا؟ هذا لا شك في أنه من الأوهام والأغلاط، أو من الفلسفة المتعمقة فأحسن الأقوال ما ذهب إليه شيخ الإسلام. أسئلة: - مر علينا أنه يجوز للمصلي أن يشير إشارة مفهومة عنه، ففي أي حديث هذا؟ - مر علينا أيضا أنه يكتفى بالإشارة برد السلام للإنسان وهو يصلي؟ - هل إشارة الأخرس التي تقوم مقام نطقه كإشارة المتكلم؟ نعم، ولكنها لا تبطل الصلاة. - هل يجوز للإنسان أن يتنحنح بدون حاجة؟ 217 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمام بنت زينب، وإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها". متفق عليه - ولمسلم: "وهو يؤم الناس في المسجد". قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة"؛ أمامة هي بنت ابنته وأبوها أبو العاص بن الربيع رضي الله عنه، وهو ممن وعد النبي صلى الله عليه وسلم ووفى له وكانت أسلمت قبله ثم أسلم بعد ذلك، فردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه بعد ست سنوات، واعلم أن الرجل إذا أسلمت امرأته قبله فإن أسلم في العدة فهي زوجته ولا خيار لها. رجل كافر له امرأة كافرة فأسلمت فيجب التفريق بينهما، فإن أسلم وهي في العدة

فهو زوجها ولا خيار لها، وإن أسلم بعد انقضاء العدة، فقال أكثر العلماء: إن النكاح ينفسخ وتبين منه، ولا تحل له إلا بعقد جديد؛ لأن العلقة بينهما زالت بانتهاء العدة، وقيل: بل هي بالخيار إن شاءت انتظرت حتى يسلم زوجها فترجع عليه، وإن شاءت تزوجت، فيكون الفرق بين إسلامه في عدتها، وإسلامه بعد العدة أنه قبل العدة لا خيار لها [يبقى] الزوج زوجها، [أما] بعد العدة فعلى القول الراجح لها الخيار: إن شاءت انتظرت الزوج لعله يسلم، وإن شاءت تزوجت. زينت رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرت فردها النبي صلى الله عليه وسلم عليه بعد ست سنين. توفيت زينت رضي الله عنها في حياة أبيها صلى الله عليه وسلم، ولها بنت صغيرة ويقال: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام- كان يحملها إبان مرض أمها، أو موتها؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام- من خلقه الحسن العظيم: أنه في مهنة أهله حتى إنه كان يحمل الصبيان يدللهم - عليه الصلاة والسلام- هذه البنت الصغيرة كانت معه وهو يصلي بالناس يحملها على كتفه إذا قام، وإذا سجد وضعها، والظاهر أيضا أنه يضعها في الركوع؛ لأنه صعب أن يضعها على كتفه في الركوع فيضعها، وإذا قام بحملها، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. ولمسلم: "وهو يؤم الناس في المسجد" أي: وهو - عليه الصلاة والسلام- إمامهم. ففي هذا الحديث فوائد كثيرة: أعلاها وأهمها وأعظمها: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يلاطف الصبيان إلى هذا الحد. ومنها: ملاطفة الصبيان والشفقة عليهم والتواضع لهم؛ لأن هذا مما يلين القلب ويرقق القلب. ومنها: جواز العمل اليسير في الصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحملها إذا قام، ويضعها إذا سجد، وهذا عمل ولو كان يبطل الصلاة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هل يجوز أو لا يجوز؟ نقول: عند الحاجة ولو لإسكات الصبي يجوز ومع غير الحاجة يكره. وبناء على هذا نقول: إن الحركة في الصلاة من غير جنس الصلاة تنقسم إلى خمسة أقسام: واجبة، مستحبة، مكروهة، محرمة، فهي من المسائل التي تجري فيها الأحكام الخمسة، واجبة إذا توقفت عليها صحة الصلاة، يعني: إذا لم تصح الصلاة بدونها صارت

واجبة، كيف ذلك؟ لها صور عديدة؛ منها: إذا رأى الإنسان على ثوبه نجاسة، وعليه ثوب آخر فهنا لابد أن يتحرك، ماذا يصنع؟ يخلع الثوب؛ لأنه لو أبقاه مع علمه بالنجاسة بطلت الصلاة. ومنها: لو اجتهد في القبلة واتجه إلى غير القبلة ثم أتاه إنسان وأخبره بأن اتجاهه معاكس للقبلة فماذا يجب عليه؟ يجب عليه أن يتجه إلى القبلة، وقد جرى هذا للصحابة - رضي الله عنهم- في مسجد قباء؛ فإنهم كانوا في صلاة الصبح متجهين إلى بيت المقدس بناء على الأصل، فأتاهم آت وقال لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه قرآن وأمر أن يستقبل الكعبة، فلما قال لهم هذا استقبلوها. وكيف كان دورانهم؟ يعني: هل هو على اليمين أو على اليسار؟ دوران كامل؛ لأنهم استداروا فكانت ظهورهم نحو بيت المقدس ووجوههم نحو الكعبة، دوران كامل صار مكان الإمام مكان المأمومين، وهذا العمل واجب. ومنها: لو كان الرجل عادما للثوب فإنه يصلي عاريا {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. في أثناء الصلاة جاءه الخادم بالثوب هل يقول: لا أتحرك؟ لا، يجب أن يتحرك ويلبس الثوب، إذن ما هو الضابط في الحركة الواجبة؟ ما تتوقف عليها صحة الصلاة. المستحب: ما يتوقف عليه كمال الصلاة. مثل التقدم إلى الصف كرجل يصلي في الصف الثاني فبانت فرجه في الصف الأول، نقول: تقدم إليها، والتقدم هنا مستحب؛ لأنه من كمال الصلاة، ومن ذلك لو كان رجلان يصليان سواء جماعة فجاء ثالث ليدخل معهما فهنا لابد من حركة، الحركة هنا سن أو واجبة؟ سنة، وهي أن يتقدم الإمام ليكون أمام المأمومين. يسأل بعض الناس، هل يكبر الداخل قبل أن يجذب المأموم، أو يقدم الإمام، أو ينتظر حتى يجذب المأموم أو يقدم الإمام أيهما؟ (السؤال مرة ثانية) دخل رجل واثنان يصليان سيصلي معهما، هل نقول: قدم الإمام أو أخر المأموم؟ الأول أولى؛ لماذا؟ لأنه إذا قدم الإمام أو أخر المأموم سيتفادى الحركة في صلاته، سيدخل والمسألة قد تمت لا يقال: إن هذا يستلزم انفراد المأموم؛ لأن هذا لا يضر هذا جزء يسير، وابن عباس لما أخره الرسول - عليه الصلاة والسلام- من اليسار إلى اليمين حين مر من ورائه انفرد أو لم ينفرد؟ انفرد، لكن هذا انفراد لا يضر، وعليه فإذا سألنا عن المسألة التي ذكرناها نقول: أخر المأموم، أو قدم الإمام قبل أن تكبر، تأخير المأموم من اليسار إلى اليمين إذا كانا اثنين من الواجب أو من المستحب؟ إن قلتم: من المستحب، أخطأتم، وإن قلتم: من الواجب أخطأتم، إن قلتم: من الحرام أخطأتم أكثر، إذا قلتم: من المكروه أخطأتم

أقل، نقول: إن قلنا بأنها لا تصح صلاة المأموم عن يسار الإمام مع خلو يمينه فالحركة واجبة؛ لأنها تتوقف عليها صحة الصلاة، وإن قلنا: بأنه سنة بأن كونه عن يمينه أفضل من كونه عن يساره، وتصح الصلاة فالحركة مستحبة، وهذه المسألة فيها خلاف، والراجح أن وقوف المأموم عن يمين الإمام مستحب، وليس بواجب، وأنها تصح صلاة المأموم عن يسار الإمام مع خلو يمينه، لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر في ذلك غاية ما هناك أنه فعل والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، وهذه قاعدة أصولية فقهية "أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد لا يدل على الوجوب". فإن قال قائل: كون الرسول يتحرك، وابن عباس يتحرك ألا يدل على الوجوب؟ قلنا: لو كانت هذه الحركة محرمة - يعني: كثيرة بحيث تبطل الصلاة - لقلنا هذا يدل على الوجوب، لكن هذه حركة يسيرة لإكمال الصلاة، فالقول الراجح في هذه المسألة أن الصلاة تصح عن يسار الإمام مع خلو يمينه فيما إذا كانا اثنين، وهذا اختيار شيخنا عبد الرحمن رحمه الله وتنزيله على القواعد واضح كما سمعتم، بقينا بالحركة المكروهة، هل اليسيرة لغير حاجة هذه مكروهة، مثاله: إنسان قام يصلح الغترة، أو الطاقية، أو العقال، أو ما أشبه ذلك، حركة ما لها حاجة هذه مكروهة تنقص الصلاة، لكن لا تبطلها، فإن قيل: هل منها أن يحك جلده إذا التهب عليه؟ مكروه أو غير مكروه؟ نقول: حك الجلد إذا التهب عليه أفضل من تركه؛ يعني: فتكون الحركة مستحبة؛ لأن اشتغال قلب الإنسان سبب الالتهاب أكثر من اشتغاله بحركة يده لتبريد الحكة، ومن المعلوم أنا نرتكب الأدنى قبل الأعلى. لو قال قائل: دائما يحك الإنسان وإذا به ينتقل الالتهاب إلى محمل آخر هل يتابعه؟ يتابع، إلا إذا توالى وكثر فلا يتابع فإنه محرم؛ لأن الحركة المباحة هي اليسيرة ولحاجة أو الكثرة للضرورة، اليسيرة لحاجة عرفتموها كالحكة، وما أشبه ذلك، الكثيرة للضرورة كإنسان عدا عليه سبع وهو يصلي فأراد أن يدافع عن نفسه واقتضى ذلك عملا كثيرا، العمل هنا جائز أو غير جائز؟ جائز للضرورة، أما إذا كان العمل كثيرا متواليا لغير ضرورة فإنه يبطل الصلاة. المحرم: الكثير المتوالي لغير ضرورة هذا حرام، ويبطل الصلاة. فإذا قال قائل: ما هو الضابط في الكثير واليسير؟ قلنا: الضابط العادة والعرف، فإذا رأينا هذا الرجل يتحرك حركات كثيرة لم تجر العادة بها فهو كثير، ويمكن أن يقال ضابطه: أن من شاهده يعمل هذه الأعمال يظن أنه في غير صلاة، يعني: هذا هو الذي ينافي الصلاة.

ومن فوائد حديث أبي قتادة رضي الله عنه: جواز إدخال الصبيان المسجد، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بهذه الجارية، فيجوز أن يؤتى بالصبيان إلى المسجد، لكن بشرط ألا يخاف منهم أذى أو تشويش، فإن خيف منهم ذلك فإنهم يمنعون، ولكن كيف الطريق إلى منعهم هل نحن نباشر المنع أو نتصل بآبائهم، الثاني أولى يعني: أن نتصل بالآباء؛ لأنك لو منعت هذا الصبي وقام يصيح عند الباب أو ضربته، إن كان ممن يتأدب بالضرب فسيؤثر هذا على أبيه، سيقول: لماذا لم تعلمني أن أمنع عيالي؟ أما إذا لم يعلم له أب فأي إنسان يراه وهو يؤذي الناس ويشوش عليهم فله إخراجه، أما إذا لم يكن منهم أذية فلا. ومن فوائد الحديث: جواز حمل الطفل في الصلاة، مع أن الغالب أن الأطفال ثيابهم نجسة، فهل يقال: إن هذا مما يسامح فيه، أو يقال: نبقى على الأصل وهو وجوب طهارة الثياب، وطهارة ما يحمله الإنسان؟ الثاني أقرب وأحوط، ويجاب عن حديث أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنها لم تتنجس، ألبسها ثيابا نظيفة ثم أحضرها أو حضرت هي، المهم أن لدينا الآن احتمال أن تكون هذه الطفلة متلوثة بالنجاسة أو تكون متطهرة منها، لدينا نص واضح على أنه لا يجوز للإنسان أن يلابس - إذا كان يصلي- النجاسة، فنحمل هذا المتشابه - أعني: حديث أمامة - على المحكم وهو أنه لا يجوز للإنسان أن يحمل الطفل الذي تلوث بالنجاسة، لو غلب على ظنه لكن لم يتيقن أنه نجس أيجوز أن يحمله؟ نعم يجوز؛ لأن الأصل الطهارة وعدم النجاسة. 218 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحية، والعقرب". أخرجه الأربعة، وصححه ابن حبان. "اقتلوا" أمر، وهل هو للإباحة أو للاستحباب؟ سيأتي إن شاء الله، "الأسودين" يعني: الحية، والعقرب، العقرب سوداء والحية ليست سوداء، وهذا من باب التغليب، وغلبت العقرب لا لنها أقرب أو أشد لسعة، لكن لأنها أكثر طوافا بالناس فغلبت، وقيل: الأسودين الحية، والعقرب، وهذا الحديث يشمل جميع الحيات وجميع العقارب. ففيه إذن فوائد، منها: الأمر بقتل الحية والعقرب في الصلاة، وهل هذا الأمر للإباحة؛ لأن الأصل ألا يتحرك الإنسان في صلاته إلا بما هو من جنسها، أو مصلحتها، وهذا لا علاقة له بالصلاة، فيكون الأمر للإباحة كأنه قال: يباح لكم قتل الأسودين، أو إن الأمر للاستحباب؟

الثاني أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن قتلهما حتى يقال: إن قوله: "اقتلوا" للإباحة بل هو للاستحباب؛ ولأن القواعد الشرعية تقتضي ذلك؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خمس يقتلن في الحل والحرم". وذكر منها العقرب. ومن فوائد هذا الحديث: أن كل ما كان طبيعته الأذى من الحيوان فإن الإنسان مأمور بقتله، أخذنا هذا العموم من العلة في الأمر بقتل الحية والعقرب. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره العموم في الصغار والكبار من الحيات والعقارب، فتقتل جميع الحيات الصغار والكبار. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره أن الحية تقتل في البيوت، لكن هذا الظاهر مخصوص بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن قتل الحيات؛ لأن الحيات اللاتي في البيوت ربما تكون من الجن، كما دل على هذا سبب النهي؛ فإن سببه أن شابا كان حديث عهد بعرس فجاء إلى أهله ووجد امرأته على الباب، فسأل لماذا؟ فأشارت إليه أن انظر، فنظر في الفراش وإذا بحية منطوية، فأخذ الرمح ووكزها حتى ماتت ثم مات هو في الحال، قال الراوي: فما يدري أيهما أسرع موتا الحية أو الرجل، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم على إثر ذلك عن قتل الحيات اللاتي في البيوت؛ لأنه يخشى أن تكون من الجن، والجن إذا قتل منهم الإنس أحدا اقتصوا منه؛ إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى نوعين وهما: الأبتر وذا الطفيتين، "الأبتر": قصير الذنب؛ لأن هذين النوعين يخطفان البصر ويتبعان ما في بطون النساء، تضع الحوامل منها إذا رأتها؛ فلعظم جرمها استثناهما النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قال قائل: في الحيات التي نهينا عن قتلها ماذا نصنع: أنبقيها معنا في البيت هذا مشكل؛ لأنه سيفزع الأهل والصغار، وسيبقى صاحب البيت في قلق؟ فقلنا له: حرج عليها ثلاث مرات، وقل: "أنا منك في حرج إن بقيت في بيتي"، فإذا حرجت عليها ثلاثا ورجعت فاقتلها؛ لأنك حرجت عليها ثلاثا إن كانت جنية عرفت أنك ستقتلها ولن تأتي، وإن كانت حية من حيات الأرض فإنها لا تدري ولا تعرف، فإذا جاءت فاقتلها فلكل داء دواء. هل يؤخذ من هذا الحديث: أن جميع ما يؤمر بقتله إذا عرض لك في الصلاة أن تقتله؟ الجواب: نعم؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، والشريعة الإسلامية كلها مبنية على العلل فلا تتناقض.

وظاهر الحديث من فوائده: أنه لو احتاج قتل الأسودين إلى عمل كالتقدم قليى لأخذ العصا أو لأخذ الحجر أو ما أشبه ذلك فليفعل، لاسيما إن خاف أن تهاجمه. ومن فوائده: أن ظاهر الحديث سواء هاجمت أم لا تهاجم، وسواء خاف مهاجمتها أم لم يخف لأن المقصود إتلاف هذا النوع من الحشرات. فإن قال قائل: إذا كان الله عز وجل يأمر بقتلها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فما الفائدة من خلقها؟ لأنه قد يقوله قائل، ويعتذر معتذر كيف يخلق شيء ونؤمر بإعدامه؟ والجواب من عدة أوجه: الوجه الأول: بيان قدرة الله عز وجل، حيث أودع في هذه المؤذيات ما يؤذي، وأودع في النافعات ما ينفع، فالذئب جسمه صغير بالنسبة للبعير وأيهما أنفع؟ البعير، وهذا يضر فيستفاد من ذلك تمام قدرة الله - تبارك وتعالى- أن خلق هذين المتناقضين. ومنها: أن يعرف الإنسان قدر نفسه، وأن شيئا حقيرا بالنسبة إليه يؤذيه ويقلقه وربما يهلكه، حتى لا يتعاظم ويقول: أما من أنا، ولذلك نجد البعوضة تسلط على الإنسان في فراشه ولا يستطيع النوم وهي ما هي، وقال رجل من الجبابرة: ما هي الفائدة من خلق الذباب؟ فقال له بعض الحاضرين: الفائدة أن يرغم أنفك، أو قال: أن يرغم أنف الجبابرة؛ لأن هذا الذباب بأرجله الملوثة وهو كريه المنظر يقع على أنف الجبار فيرغمه ويهينه ويذله، وهذا أيضا ربما تكون من الحكم. من فوائد وجود هذه المؤذيات: أن الله خلقها ليلجأ العبد إلى ربه - جل وعلا- ويكثر من الأوراد الحافظة له عن شرار خلق الله، وبعض الناس لولا خوفه من مثل هذا ما قرأ الأوراد، إذن الفائدة: أن يرجع الإنسان إلى الله - تبارك وتعالى- في قراءة ما شرع من الأوراد التي تحفظه. ومن الفوائد أيضا: أن هذه المؤذيات يسلط عليها شيء ليس بشيء بالنسبة لها، ونضرب لكم مثلا: يقولون: إن القنفذ هو خشاش صغير، لكن قد كساه الله تعالى جلدا من الشوك يأتي على الحية ويأكلها، يبدأ بها من الذنب من ذيلها يرعاها رعيا وهي إذا ردت رأسها لتهشه ما تستطيع من الشوك فيبقى معها مصارعة ويقضي عليها، هذا مشاهد، ما الذي يقضي على هذا القنفذ؟ الحدية، وهو طائر صغير يأتي على القنفذ فإذا أحس به انكمش وأخرج الشوك، فيأخذ يذقنه من أحد الشوك، ثم يصعد به في الجو، يطير به ثم يطلقه فإذا أطلقه تبعه، فإذا وصل الأرض داخ لا يتحرك هو إذا داخ - سبحان الله- ينكمش الجلد الشوكي وهو - فيما أظن- لحمه شهي

4 - باب سترة المصلي

للحدية فتقع عليه وتفترسه وتأكله، هذا من آيات الله أن الله عز وجل يريك آياته في هذه المخلوقات بعضها يغلب بعضا وهو أقل منها، ولو أن الإنسان تأمل أكثر لوجد أكثر من هذه الحكم. 4 - باب سترة المصلي السترة: ما يضعه المصلي بين يديه ليتقي به مرور المار، وقال بعض أهل العلم: ومن أجل أن يقتصر نظره على ما دون السترة فهي تحجب النظر عن أن يطيش يمينا وشمالا. 219 - عن أبي جهيم بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه". متفق عليه، واللفظ للبخاري. ووقع في البزار من وجه آخر: "أربعين خريفا". "لو" هذه شرطية بدليل أن لها فعل شرط وجوابه، فعل الشرط ما هو؟ "يعلم" وجوابه: "لكان أن يقف"، ولها معان متعددة كما ذكرها صاحب مغني اللبيب ابن هشام رحمه الله. وقوله: "المار بين يدي المصلي" المرور: التعدي من اليمين إلى الشمال، أو من الشمال إلى اليمين، هذا المرور بين يديه، وبين يدي المصلي اختلف فيه العلماء فقيل: إن مرجع ذلك إلى العرف، وقيل: إنه بقدر ثلاثة أذرع من قدميه، وقيل: إنه بقدر مسجده، يعني: من مسجده فأدنى إلى قدميه هذا ما بين يديه، وما وراء ذلك فليس بين يديه، وهذا أقرب ما يكون من الأقوال أن بين يديه ما بينه وبين موضع جبهته في السجود. وقوله: "لكان أن يقف أربعين خير له" هذه جواب الشرط "أن يقف" اسم كان "وخيرا" خبرها، والتقدير: لكان وقوفه أربعين خيرا له، ولم تميز الأربعين: أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة، بألفاظ الصحيحين لم تميز، لكن في البزار من وجه آخر: "أربعين خريفا"، والخريف: السنة؛ لأن الخريف أحد الفصول الأربعة التي في السنة وهي الربيع، والصيف، والشتاء، والخريف، ويعبر عن السنة بالخريف؛ لأنه أحد فصولها، والتعبير بالبعض عن الكل سائغ لغة ومطرد. "خير من أن يمر بين يديه" أي: بين يدي المصلي، وهذا على سبيل المثال؛ يعني: لو يقف هذه المدة أربعين سنة لكان خيرا من أن يمر، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لن يقف أحد أربعين سنة حتى المصلي لن يبقى أربعين سنة، لكن هذا من باب المبالغة في المنع من المرور بيد يدي المصلي.

في هذا الحديث فوائد، منها: تحريم المرور بين يدي المصلي، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب عليه الإثم، ولا يمكن أن يترتب الإثم على فعل إلا وهو محرم. ومن فوائده: أن ظاهر الحديث لا فرق بين أن يصلي في الفضاء أو في المسجد أو في بيته، لعموم قوله: "المار بين يدي المصلي". ومن فوائد الحديث: أنه لا فرق بين أن يكون المار يقطع الصلاة أو لا يقطعها. ومن فوائد الحديث: أن ظاهره العموم في المصلي، وأنه لا فرق بين المصلي نفلا أو المصلي فرضا. ومن فوائده: أن ظاهره لا فرق بين الإمام المنفرد والمأموم؛ وذلك لأنه مطلق بين يدي المصلي، أما الإمام والمنفرد فظاهر، وأما المأموم فقد دلت السنة على استثنائه، وذلك في مرور عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بين يدي المصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم في منى في حجة الوداع، وعليه فيستثنى من ذلك المرور بين يدي المأمومين، ولكن هل مروره بين أيديهم وعدمه على حد سواء؟ الجواب: لا؛ لأن مروره بين أيديهم يشوش عليهم، وربما يتأذون به، لاسيما إذا كثر الناس وهو يريد أن يركع أو يسجد سوف يتأذى، لكن أحيانا يحتاج الإنسان على المرور بين يدي المصلين، فإذا احتاج فلا بأس، وأما بدون حاجة فلا ينبغي أن يمر بين أيديهم وإن كان لا لإثم عليه. ومن فوائد الحديث: أن الأحكام الشرعية تؤخذ من عدة صيغ: إما من الأمر، أو النهي، أو ترتيب ثواب، أو ترتيب عقاب، أو ذكر التحريم أو الإيجاب، فتؤخذ الأحكام مما يترتب عليه. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان لو خير بين أن يقف أربعين سنة أو أن يمر بين يدي المصلي فليختر الوقوف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك خير له من أن يمر بين يديه، أقول: يكفي أن يقف دقيقة؛ لأن المصلي في الغالب لن يبقى أكثر من ثلثي ساعة، يكفي أربعين دقيقة، لكن الناس ما يقفون ولا أربعين ثانية ولا أقل، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر هذا التحذير. ومن فوائد هذا الحديث: أن المساوئ تتفاضل؛ يعني: بعضها أسوأ من بعض، كما أن الحسنات تتفاضل وجه ذلك: قوله: "حير له من أن يمر بين يديه"، ولا شك أن السيئات تتفاوت منها الصغائر والكبائر، والكبائر تتفاوت بعضها كبيرة وبعضها أكبر، وكذلك الصغائر. ومن فوائد هذا الحديث: أن نقول: هل إذا مر المار بيد يدي المصلي هل يبطل الصلاة؟ يؤخذ من دليل آخر، فقيل: إنه لا يبطل الصلاة سواء كان رجلا أو امرأة صغيرة أم كبيرة، وقيل: بل إنه يبطل الصلاة في الثلاثة اللاتي ستذكر - إن شاء الله- فيما بعد؛ وهذا هو الصحيح.

صفة السترة للمصلي

صفة السترة للمصلي: 220 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك- عن سترة المصلي. فقال: مثل مؤخرة الرحل". أخرجه مسلم. "سئل النبي صلى الله عليه وسلم" وأبهمت السائل؛ لأنه ليس هناك ضرورة إلى ذكر السائل، إذا أن المقصود هو معرفة الحكم، وهذا يفيدك فيما يرد مبهما في الأحاديث مثل: "عن رجل"؛ أو "قال رجل" أو ما أشبه ذلك، تجد بعض الناس يتعب تعبا عظيما في تعيين ذلك الرجل، وهذا إذا لم تدع إليه ضرورة ضياع للوقت، أما إن دعت إليه ضرورة لكون الحكم يختلف من شخص لأخر فلابد من معرفة هذا المبهم، وإلا فلا حاجة، وهنا تقول: "سئل"، والسائل لا حاجة إلى أن نبحث من هو؛ لأن المقصود معرفة الحكم. "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سترة المصلي" يعني: عما يضعه المصلي سترة له كيف يكون في الطول والعرض، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنه مثل مؤخرة الرجل، الرحل: هو ما يسمى بشداد عند الناس: شداد يشد على البعير على ظهره ويركبه الراكب، ويجعل خلف ظهره لوحا يستند إليه، يسمى هذا مؤخرة الرحل، وهو نحو ثلثي ذراع طولا وعرضا أقل من ذلك هذه السترة الكاملة، وهناك سترة أخرى ستأتي - إن شاء الله تعالى-، ولكن السترة الكاملة هي أن تكون كمؤخرة الرحل. ففي هذا الحديث من الفوائد: أن الصحابة - رضي الله عنهم- حريصون على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لا لمعرفة الحكم فقط، ولكن العمل به، خلافا لما يفعله بعض الناس اليوم يسأل لمعرفة الحكم، ولكن دون العمل؛ ولهذا إذا جازت له الفتوى أخذ بها وإن لم تجز له الفتوى ذهب يسأل آخر، لكن الصحابة - رضي الله عنهم- على العكس من هذا، لا يسألون إلا عند الحاجة، وإذا سألوا عملوا بما يصدر من النبي صلى لله عليه وسلم. ومن فوائد هذا الحديث: أن السترة كأنها شيء مقرر عند الصحابة؛ لأن السؤال لم يرد عن حكم السترة ولكن عن كيفية السترة. ومن فوائد هذا الحديث: أن السترة الكاملة أن تكون مثل مؤخرة الرحل. فإذا قال قائل: ما الفائدة من وضع السترة؟ فالجواب: أن الفائدة أولا: حماية حرم المصلي؛ لأن ما بين المصلي وسترته محترم لا يجوز لأحد أن يمر به. وثانيا: أنها تحبس النظر عن أن يطيل الإنسان نظره فيما وراء السترة، وهذا شيء مجرب.

والفائدة الثالثة: أن الإنسان يشعر بأنه آمن مطمئن من أن يمر أحد بين يديه من أجل السترة فيطمئن؛ ولذلك انظر هذا في المسجد الحرام إذا وضعت شيئا تجعله سترة احترمه الناس وأمنت، وإن لم تضع فإنك لا تأمن أن يمر بين يديك رجل أو امرأة. 221 - وعن سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم". أخرجه الحاكم. قوله: "ليستتر" اللام هنا لام الأمر، ودليل ذلك جزن الفعل بها، ولام الأمر ولام كي تشتبهان عند أول وهلة ولكنهما تختلفان في العمل، لام كي، أو لام التعليل- يكون الفعل بعدها منصوبا؛ وهذه أي لام يكون الفعل بعدها مجزوما، لكن إذا كان الفعل من الأفعال الخمسة لا يظهر الفرق؛ لماذا؟ لن الأفعال الخمسة تنصب وتجزم بحذف النون، فلا يظهر الفرق إلا بالسياق، ومن الفروق بينهما في النطق: لام الأمر تختلف، فتارة ينطق بها ساكنة، وتارة ينطق بها مكسورة، أما لام التعليل فهي دائما مكسورة، لا يمكن أن تسكن، ولام الأمر تسكن بعد (ثم، والفاء، والواو) كما في قول الله تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء} [الحج: 15]. {فليمدد}: اللام هنا لام الأمر ساكنة لوقوعها بعد الفاء {ثم ليقطع فلينظر} اللام" لام الأمر، وصارت ساكنة لأنها بعد (ثم)، وقال عز وجل: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم} [الحج: 29]. قوله: {وليوفوا} اللام هنا لام الأمر، وسكنت لأنها وقعت بعد الواو، كثير من القراء الذين يعتمدون الناس على قراءتهم تجده يسكن اللام التعليل بعد هذه الحروف، وهذا لحن يختلف فيه المعنى، فيجب أن يرد على الإمام إذا قرأها ساكنة وهي لام تعليل؛ وذلك لأن هذا تعبير لحنا يحيل المعنى، إذن "ليستتر" (اللام) لام الأمر، وهنا مكسورة أم ساكنة؟ مكسورة، لأنها لم يسبقها (واو) ولا (فاء) ولا (ثم)، "ليستتر أحدكم في الصلاة"، والمراد بذلك: السترة التي وضع أما المصلي، وليس المراد: السترة التي يلبسها المصلي. "ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم" السهم الذي يرمى به، وهو عبارة عن شيء دقيق مدبب الرأس يرمى به بالقوس فهو صغير كالأصبع أو يزيد قليلا، وإذا نسبته إلى مؤخرة الرحل صار صغيرا جدا بالنسبة لها. في هذا الحديث فوائد، منها: الأمر بالسترة في الصلاة، وهل هذا الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ نقول: أولا ليس من حقنا إذا ورد في الكتاب والسنة أمر أن نقول: إنه للوجوب،

أو للاستحباب؛ إذ وظيفتنا أن نقول: سمعنا وأطعنا ونستتر، ولكن إذا ابتلينا وخالفنا حينئذ نسأل هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؛ لأنه إذا كان للوجوب كان لابد من التوبة والإتيان به إن أمكن، أو ببدله إذا لم يمكن، أو الاستغفار والتوبة إذا لم يمكن البدل ولا الأصل، وأما قبل ذلك فغرضنا ووظيفتنا القبول، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء والصحيح أنها ليست للوجوب لوجود قرائن، القرائن هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه ... ". الحديث. إذا صلى إلى شيء يستره، وهذا يدل على أن الإنسان قد يصلي إلى ذلك الساتر، وقد لا يصلي. ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في منى، فمر ابن عباس رضي الله عنهما راكبا على حمار قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار. قال أهل العلم: أي إلى غير سترة؛ لأن الجدار انتفاؤه معلوم في منى في ذلك الوقت؛ إذ ليس في منى بناء إطلاقا فلا حاجة إلى الاحتراز منه، وهو أصلا غير موجود فيكون مراد ابن عباس: إلى غير جدار، أي: إلى غير سترة، وهذا يدل على عدم وجوب السترة، وإن كان فيه احتمال أنه يريد إلى غير جدار أنه يستتر بالعنزة، لكن الذي يظهر أن مراد ابن عباس نفي وجوب السترة، وإذا تعارضت الأدلة فلا شك أن الاحتياط الفعل، لكن تأثيم الإنسان بالترك إلى دليل واضح. ومن فوائد هذا الحديث: أن السترة مشروعة لكل مصل حتى النافلة حتى المأموم مع الإمام، أما المنفرد والإمام فهو واضح لكن يقال: إنه وردت استثناءات، فالسترة بالنسبة للمأموم غير مشروعة؛ لأن الصحابة لم يكونوا يتخذونها خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن سترة الإمام سترة لمن خلفه. فإذا كانت سترة لمن خلفه كان اتخاذ المأموم سترة من باب التعمق في الدين والتنطع فيه، لكن يبقى السؤال: إذا كان المأموم مسبوقا فهل يتخذ السترة لما بقي من صلاته؟ الظاهر لا يحتاج إلى حركة، مشروعيتها مشكوك فيها، وإذا كان كذلك فالأولى ألا يتخذ سترة، لكن له أن يرد من يمر بين يديه في حال قضاء ما فات. ومن فوائد هذا الحديث: أن السترة تصح بالصغير والكبير لقوله: "ولو بسهم". ومن فوائده: أن السترة الكبرى أفضل من الصغرى؛ لأن قوله: "ولو بسهم" يفيد التقليل يعني: على الأقل بسهم، فهل تجزئ السترة بما دون السهم؟ سيأتينا - 'ن شاء الله تعالى- في آخر الباب أنه يجزئ الخيط، والخيط ليس بسهم وليس بشيء قائم، فيكون المراد بقوله: "ولو بسهم" أي: فيما إذا كانت السترة قائمة.

الأشياء التي تقطع على المصلي صلاته

الأشياء التي تقطع على المصلي صلاته: 222 - وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقطع صلاة الرجل المسلم - إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل- المرأة، والحمار، والكلب الأسود ... " الحديث، وفيه: "الكلب الأسود شيطان". أخرجه مسلم. 223 - وله: عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه دون: "الكلب". قوله صلى الله عليه وسلم: "يقطع صلاة الرجل". "يقطع"؛ أي: يفسد؛ لأن القطع معناه: عدم الوصل، ومعلوم أنك إذا قطعت الحبل انفصل بعضه عن بعض، فلا يمكن أن ينبني آخر الصلاة على أولها إذا حصل واحد من هذه الأمور. وقوله: "صلاة الرجل" بناء على الغالب، فالرجولة ليست شرطا؛ لأن المرأة والرجل في هذا الحكم سواء، وقوله: "المسلم" ليس قيدا أيضا، بل هو بيان للواقع؛ لأن غير المسلم لا صلاة له أصلا حتى لو صلى وزعم أنه يتقرب لله بهذه الصلاة فلا صلاة له. وقوله: "إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل" "بين يديه"؛ يعني: قريبا منه؛ لأن بين يديه تحتمل البعد وتحتمل القرب، لكن إذا علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دنا من الجدار حتى لم يكن بينه وبينه إلا مثل ممر الشاة عرفنا أن المراد ب"يديه" أي: قريبا منه، ولكن هل لها حد بالذراع أو حد بحال المصلي؟ الجواب: الثاني، حد ذلك أن يكون قريبا من موضع سجوده، وهذا يختلف، فطويل الظهر يمتد ما بين يديه أكثر من قصير الظهر، وبعض العلماء يحده بثلاثة أذرع، لكن ليس هناك دليل والتحديد يحتاج إلى دليل، فإذا لم يكن دليل رجعنا إلى الأصل وهو أن الإنسان إنما يملك من الأرض مقدار ما يحتاج إليه، والذي يحتاج إليه هو منتهى سجوده، وقوله: "مثل مؤخرة الرحل" قد يشكل؛ لأن ظاهره أنه لابد أن تكون السترة مثل مؤخرة الرحل مع أنه سبق أنه يقول - عليه الصلاة والسلام-: "ليستتر أحدكم ولو بسهم"، فيكون هذا مما ليس له مفهوم، والقيد قيد للأكمل والأفضل وليس للقدر المجزئ، وقوله: "المرأة" يعني: البالغة؛ لأنه لا يطلق على الأنثى امرأة إلا إذا كانت بالغة، وأما الصغيرة فلا تدخل في لفظ اسم المرأة، "والكلب الأسود" يعني: الذي كله سواد، فلو كان لونه أسود وأبيض لم يقطع الصلاة؛ ولو كان أبيض لم يقطع الصلاة، ولو كان أحمر لم يقطع الصلاة، ولو كان أصفر لم يقطع الصلاة، ولو كان أورق- يعني: لونه مختلط بين البياض والسواد - لم يقطع الصلاة، "الحمار" معروف، والحديث مطلق يدخل فيه الحمار الأبيض والأسود، والصغير والكبير.

وفيه: "الكلب الأسود شيطان"، وسبب هذه الجملة أن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بال الأسود من الأحمر، والأبيض والأصفر وما أشبه ذلك؟ فقال له: "الكلب الأسود شيطان"، قيل معناه: أنه شيطان متصور بكلب، وقيل معناه: شيطان أي: شيطان الكلاب، كما أن للإنس شياطين، وللجن شياطين، وشيطان الإنس ليس هو شيطان الجن، فيكون معنى الشيطان: أنه أشدها شرا وضررا وقبحا، وليس المعنى: أنه شيطان تصور بكلب. هذا الحديث فيه فوائد، منها: أن هذه الثلاثة تقطع الصلاة، سواء كان ذلك في صلاة النفل أو الفريضة، وسواء كان المصلي إماما أو مأموما أو منفردا، ولكن سبق أن المأموم سترته سترة إمامه، وعلى هذا فيخرج من هذا العموم. ومن فوائد هذا الحديث: بيان فوائد السترة وهي أنها تمنع من بطلان الصلاة إذا مر من ورائها واحد من هذه الثلاثة لقوله: "إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل"، وإذا قلنا بأن السترة تجزئ ولو دون ذلك كفت السترة. ومنها: أن المرأة الصغيرة لا تقطع الصلاة، فلو مرت فتاة صغيرة بين يدي المصلي فإن صلاته باقية على صحتها. ومنها: أنه لا فرق بين أن تكون المرأة المارة غافلة أو منتبهة؛ لأن الحديث مطلق، فإن دفعت بدون قصد فهل تقطع الصلاة أو لا تقطع؟ هذا عندي فيه تردد، وهذا يقع أحيانا في الزحام تدفع المرأة حتى تمرق بين يدي المصلي، فهل نقول: إن هذا بغير اختيارها فلا يقال إنها مرت، أو يقال: إن اشتغال المصلي بمرور المرأة بين يديه لا فرق فيه بين أن تكون باختيارها أو بغير اختيارها، فإذا رجعنا إلى الأصل قلنا: الأصل صحة الصلاة، فلا يمكن أن نبلها إلا بشيء مؤكد. فإن قال قائل: كيف نجيب عن اعتراض عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حيث أنكرت هذا وقالت: شبهتمونا بالكلاب والحمير، وقد كنت أنام معترضة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي؟ فالجواب عن هذا من وجهين: الوجه الأول: أنه لا يمكن أن يعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول أحد كائنا من كان، حتى لو كان أفقه الصحابة وأشدهم اتصالا بالرسول صلى الله عليه وسلم، لأننا إنما أمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ثانيا: أن اعتراضها رضي الله عنها لا وجه له؛ لأن الحديث ورد في غير الصورة التي ذكرت، والحديث وارد في المرور وهي لم تمر - هي مضجعة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تمر - فيكون هذا الاعتراض لا وجه له.

وقولها رضي الله عنها: "شبهتمونا بالكلاب" جوابه سهل أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وليس قصده الحط من قدر المرأة أو أن تكون كالكلب والحمار، لكن لما كان المصلي مقبلا على الله عز وجل، كان المرور بين يديه يخشى أم يفتنه ويتعلق قلبه بها، وليس ذلك من باب الإهانة لها أو قرنها بالحمار والكلب. ومن فوائد هذا الحديث: أن الحمار يقطع الصلاة سواء كان صغيرا أو كبيرا، أسود أو أبيض لعموم قوله: "الحمار". ومن فوائد هذا الحديث: أن الكلب الأسود يقطع الصلاة، وهل الأسود وصف فردي غير معتبر، أو هو وصف معتبر؟ الجواب: الثاني؛ لأن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اشتراط أن يكون أسود فبين له أن الأسود شيطان. ومن فوائد هذا الحديث: أن الكلب الأسود يقطع الصلاة سواء كان صغيرا أو كبيرا. ومن فوائده: أن غير الأسود لا يقطع الصلاة، ولكن إذا كان فيه بقع بيضاء أو بقع صفراء، والأغلب السواد هل يقطع الصلاة؟ الجواب: لا، لا يقطع الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط أن يكون أسود؛ إلا أن بعض العلماء ألحق بالأسود الخالص ما فوق عينه بياض؛ لأن هذا يعني أن الأسود الخالص قد لا يوجد إلا قليلا، وقال: إن الذي فوق عينه بياض يسير يلحق بالأسود. ومن فوائد هذا الحديث: أن في الكلاب شياطين وفيها ما ليس كذلك؛ لقوله: "الكلب الأسود شيطان". ومن فوائد هذا الحديث: أن الكلب الأسود لا يباح صيده؛ لأنه شيطان فلا يباح صيده، ولذلك يحرم اقتناؤه ولو للصيد أو الماشية أو الزرع، قال أهل العلم: ويقتل بكل حال، بخلاف الكلاب الأخرى فلا تقتل إلا إذا حصل منها إيذاء لا يندفع إلا بالقتل، وأما بدون سبب فلا. ومن فوائد هذا الحديث: حرص الصحابة - رضي لله عنهم- على معرفة الحكم والأسرار في التشريع؛ لأن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحكمة في كون الأسود يقطع الصلاة وغيره لا يقطع. ومن فوائد هذا الحديث: أن الأحكام الشرعية معللة بالحكمة، ولكن التعليل قد يكون معلوما لنا، وقد يكون مجهولا لنا، وقد يكون معلوما لكل أحد، وقد يكون معلوما لبعض الناس، والعلماء - رحمهم الله- يسمون ما لا تعرف علته بالحكم التعبدي، أي: أن وظيفتنا أن نتعبد لله بهذا، سواء علمنا الحكمة أو لا؛ لأن هذه حقيقة العبودية؛ ولهذا لما سئلت أم المؤمنين

فائدة السترة وحكمها

عائشة رضي الله عنها ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، قالت: "كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة". 224 - ولأبي داود، والنسائي: عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه، دون آخره، وقيد المرأة بالحائض. أتى المؤلف رحمه الله بهذه الأحاديث مع أن الأول يغني؛ لأنه من رواية مسلم من باب التقوية، وفي بعضها زيادة وبعضها نقص، قوله: "قيد المرأة بالحائض" هل المراد: الحائض بالفعل أو التي قد حاضت؟ الثاني هو المراد يعني: البالغة. وأخذ من هذا الحديث: أن الحيض يحصل به البلوغ؛ لأنها تصل به - أي: الأنثى- إلى أن توصف بأنها امرأة فيحصل به البلوغ، وبلوغ الأنثى يحصل بواحد من أربعة أمور: أولا: إنزال المني. الثاني: إنبات العانة. والثالث: تمام خمس عشرة سنة. والرابع: الحيض. والحمل لا يحصل به البلوغ لكنه علامة عليه، والبلوغ إنما حصل بالإنزال السابق للحمل؛ لأنه لا يمكن أن تحمل المرأة إلا بإنزال، وعلى هذا فيقال: الحامل بالغة لا شك، لكن بماذا حصل البلوغ؟ بالإنزال السابق للحمل، وليس بالحمل، ولكن الحمل دليل وعلامة على أنها قد بلغت. فائدة السترة وحكمها: 225 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان". متفق عليه. وفي رواية: "فإن معه القرين". قوله: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس" ليس المراد بذلك: أن يستر كل جسمه، بل المراد: إلى سترة؛ لأن السترة تمنع الناس من المرور بينك وبينها، فالمراد إذن: السترة، وقوله: "فأراد أحد" "أحد" هذه نكرة في سياق الشرط؛ لأن قوله: "فأراد" معطوف على قوله: "إذا صلى" فهي داخلة في ضمن الشرطية، ويكون المراد بالأحد: العموم سواء كان رجلا أم امرأة، صغيرا أو كبيرا، فأراد أن يجتاز بين يديه؛ أي: يمر بين يديه، "فليدفعه" (الفاء) رابطة للجواب وهو جواب الشرط إذا، و (اللام) في قوله: "فليدفعه" اللام للأمر، وقد مر لكم أن جواب الشرط

يجب قرنه بالفاء في سبعة مواضع؟ إذا كان جواب الشرط واحد من هذه السبعة فإنه يجب اقترانه بالفاء أو بإذا الفجائية "اسمية" يعني: إذا كان الجواب جملة اسمية "طلبية": إذا كان الجواب جملة طلبية أمر أو نهي، أو ما أشبهه، و"بجامد" إذا كان جواب الشرط فعلا جامدا، الجامد هو الذي لا يتصرف مثل: عسى، وليس، وما أشبه ذلك، وب"ما" يعني: إذا قترن بما النافية، فإذا كان جواب الشرط مقترنا بما النافية وجب أتقرن به الفاء، و"قد" إذا كان مقترنا بقد وجبت الفاء، و"بلن" وإذا كان مقترنا ب"لن" وجبت الفاء، "وبالتنفيس" إذا كان مقترنا بالسين أو سوف، والأمثلة تمر بنا، لكن هذه هي المواضع التي يجب فيها الاقتران بالفاء، أو ب"إذا" الفجائية، ولكنه قد يأتي في النظم غير مقترن بالفاء، كقوله: [البسيط] من يفعل الحسنات الله يشكرها هذه الجملة اسمية وخلت من الفاء لكنه للضرورة. إذن "فليدفعه" من أي الأنواع السبعة؟ طلبية. "فليدفعه فإن أبى" أي: امتنع "فليقاتله" يعني: يدفعه بشدة وقوة، وليس المراد بالمقاتلة كالتي تؤدي إلى القتل؛ لأن دم المرء المسلم لا يحل بمثل هذا، لكن المراد: المدافعة بشدة كقوله صلى الله عليه وسلم في الصائم إن أحدا سابه أو قاتله فليقل: "إني امرؤ صائم". "قاتله" يعني: المضاربة، "فإنما هو شيطان" الجملة هنا تعليلية للجملة التي قبلها "فليقاتله"، كأن قائل يقول: لماذا يقاتل؟ قال: إنه شيطان؛ لأنه حاول إفساد المصلي، أو تنقيص أجره، ولا يحاول إفساد العبادة أو تنقيصها إلا الشيطان. فعليه يكون معنى قوله: "فإنما هو شيطان"؛ أي: أن فعله فعل الشيطان، وذلك لمحاولة إبطال العبادة، أو تنقيصها، وفي رواية: "فإن معه القرين" القرين: يعني: من الشياطين، يعني: هو الذي أمره أن يجتاز من أجل إفساد العبادة؛ لأن كل معصية فإنها بأمر الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وكل طاعة فهي من وحي الملك والنفس المطمئنة. في هذا الحديث فوائد، منها: أن ظاهر قوله: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس" أن وضع السترة ليس بواجب؛ لأن قوله: "إذا صلى إلى شيء يستره" يفيد أنه قد يصلي إلى شيء يستره وقد لا يصلي، وسبق الخلاف في هذه المسألة، وأن الذي يترجح أن اتخاذ السترة ليس بواجب. ومن فوائد هذا الحديث: الإشارة إلى فائدة السترة، وهي أنها تستر الإنسان من الناس،

وسبق لنا أنها تستر من الناس من جهة أن من مر من ورائها لا يضر المصلي شيئا، سواء كان ممن يقطع الصلاة أو لا، وأيضا هي تحمي الإنسان؛ لأن من مر به وأمامه السترة احترمه وتجنب أن يمر بين يديه، فهي تستر من الناس من هذين الوجهين. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب مدافعة من أراد أن يجتاز لقوله: "فليدفعه فإن أبى فليقاتله"، وهذا يدل على أنه لابد من المدافعة، وهذا في الفريضة أو النافلة واضح فيما إذا كان المار ممن يقطع الصلاة، فواضح أنه يجب؛ لماذا؟ لئلا يفسد عبادة واجبة، والعبادة الواجبة يجب على الإنسان إتمامها أما في النافلة أو إذا كان المار ممن لا يقطع الصلاة فالظاهر أن الأمر ليس على الوجوب بل على سبيل الاستحباب، وقد يقول قائل: إنه من باب الوجوب لا من حيث إفساد الصلاة، بل من حيث إنه تعزير وتأديب للمار حتى يتنبه؛ لأن بعض الناس - ونراهم في الحرم المكي- يمشي وعيونه في السماء ولا يبالي، فإذا شعر بأن المصلي سيدفعه فإن أبى فإنه يقاتله حينئذ ينتبه، المهم أن وجوب الدفع ظاهر فيما إذا كانت الصلاة واجبة والمار ممن يقطع الصلاة فيما عدا ذلك يحتمل أن يكون للوجوب، ويحتمل أن يكون للاستحباب؛ وذلك لأن صلاة النافلة لو قطعها الإنسان عمدا بدون عذر فله ذلك، ولكن نقول: قد نوجبه من جهة أخرى وهي التعزيز والتأديب لهذا، وأنه يجب على الإنسان أن ينتبه لإخوانه، ويرجح هذا- أي: يقويه- قوله: "فإن أبى فليقاتله". ومن فوائد الحديث: أنه إذا أراد أحد أن يجتاز ممن يجاوز ما بين يديه فليس له الحق في مدافعته، لكن ما الذي بين يديه؟ قال بعض العلماء: يرجع في ذلك إلى العرف فما عد بين يدي المصلي فهو ما بين يديه، وما لا فلا، وقيل: يتقدر هذا بثلاثة أدرع من قدم المصلي، والأرجح أن ما بين يديه إن كان شيئا محددا كالسجادة والبلاطة في المسجد الحرام فما كان داخل المحدد فهو ما بين يديه، وما جاوزه فليس بين يديه، وإن لم يكن هناك محدد فما بين يديه هو منتهى سجوده، يعني: موضع الجبهة عند السجود؛ وذلك لأن هذا المصلي له مكانا محترما، فما مكانه المحترم؟ مكانه المحترم هو الذي يحتاجه للصلاة عليه، والرجل لم يحدد شيئا معينا لم يضع سترة ولم يكن له مصلى محددا، فإذن نقول: إنه لا يملك من الأرض إلا مقدار ما يحتاج في صلاته وهو منتهى سجوده. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا صلى إلى غير سترة فليس له الحق أن يمنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد الأمر بما إذا صلى إلى سترة، وهذه المسألة لولا أحاديث أخرى لكان هذا مقتضى النص، لكن هناك أحاديث أخرى تدل على أنه يدفعه مطلقا إذا أراد أن يجتاز بين يديه، وهذا هو الصحيح: إذا أراد أن يجتاز بين يديك وإن لم يكن لك سترة فلك أن تدفعه، لكن تفترق السترة

وغيرها بأن ما بينه وبين السترة كله محترم ولو بعد عن موضع السجود؛ إلا إذا كان بعدا فاحشا، وأما إذا لم يكن له سترة فإلى منتهى سجوده هذا هو الفرق. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو أراد أحد أن يناول شخصا من بين يدي المصلي فلا بأس، الدليل قوله: "أن يجتاز"، وأما لو مد يده إلى الذي وراء المصلي يناوله شيئا أو يسلم عليه فلا بأس، لكن إذا كان هذا يحصل به تشويش على المصلي مثل أن يؤدي إلى أن المصلي ينظر أو يتابع النظر على هذا الذي مد يده، فحينئذ نقول: لا تفعل؛ لماذا؟ لأنه يؤدي إلى التشويش على المصلي وإدخال النقص في صلاته، أما إذا كان المصلي لا يهتم بذلك كرجل معروف بالخشوع في صلاته أو رجل أعمى لا ينظر إليه فلا بأس. ومن فوائد هذا الحديث: جواز مقاتلة من أبى أن يندفع، وحاول أن يجاوز لقوله: "فإن أبى فليقاتله"، ومرادنا بالجواز: أنه لا تمتنع المقاتلة لكنها مأمور بها. فإن قال قائل: أخشى لو قاتلته أن يقاتلني؟ قلنا: نعم، هذا ظاهر اللفظة "فليقاتل"؛ لأن المفاعلة تقتضي الفعل من الجانبين، فيقول: أخشى أن يقاتلني ثم تطول المسألة يضربني أضربه، نقول: إذا كان يخشى فساد صلاته بكثرة الحركة فلا يفعل؛ لأن أصل المقاتلة من اجل حماية الصلاة، فإذا أدى ذلك إلى فسادها فلا يفعل، وإذا تجاوز من فعل المأمور به من المدافعة ثم المقاتلة فالإثم على من؟ على المار. ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بقرن الأحكام بعللها؛ لقوله: "فإنما هو شيطان"، وهذا أمر مطلوب للمفتي أن يقرن الأحكام بعللها أو بأدلتها، لاسيما إذا شعر بأن المستفتي لم يطمئن كثيرا بحيث قد يكون استغرب الإفتاء، فهنا ينبغي إن لم يجب أن يقرن الفتوى بالدليل أو بالعلة الواضحة حتى يطمئن المستفتي، على أنني أحبذ أن يقرن الفتوى بالدليل في كل فتوى إذا أمكنه ذلك؛ لأنه إذا قرن الحكم بالدليل صار المستفتي يفعل اتباعا للدليل، وهذه المسألة مهمة؛ لأن الفعل اتباعا للدليل هو تحقيق المتابعة للرسول - عليه الصلاة والسلام-، وأنت إذا قلت للمستفتي: هذا حرام هذا واجب؛ فإنه سيقتنع ما دام يعرف أنك من أهل الفتوى، لكن إذا قلت: يجب لقول الله تعالى، يجب لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، يحرم لقول الله تعالى، يحرم لقول الرسول، فإنه لا شك يزداد طمأنينة من وجه، ويشعر بأنه إذا فعل ما أفتيته به فهو متبع للدليل؛ وهذه مسألة مهمة ينبغي للإنسان المفتي أن يقرن الحكم بالدليل ما أمكنه حتى يكون مرشدا من وجهين: من وجه بيان الحكم، ومن وجه حمل الناس على الاتباع والتأسي، أما إعطاء الحكم جافا بدون دليل فإنه لا شك أنه يجزئ، ولكنه مع الدليل أحسن،

حكم اعتبار الخط سترة

وإذا رأيت من المستفتي أنه استغرب الحكم - وهذا يعرف بملامح وجهه- فهنا يجب أن تذكر الدليل؛ لماذا؟ لكي يطمئن من وجه، ولئلا يذهب إلى آخرين يستفتيهم ويفتونه بغير علم. ومن فوائد هذا الحديث: أن المار بين يدي المصلي مع المدافعة - بل حتى مع عدم المدافعة- شيطان، وذلك لمشابهة الشيطان في محاولة تنقيص العبادة أو إبطالها. ومن فوائد اللفظ الآخر: أن القرين من الشياطين يأمر بالعدوان والظلم، وهو كذلك؛ ولهذا قال الله عز وجل: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدوة كأنه ولي حميم وما يلقها إلا الذين صبروا وما يلقها إلا ذو جظ عظيم وإما بنزغنك من الشيطن نزغ فاستعذ بالله} [فصلت: 34، 36]. فأرشد الله تعالى إلى مقابلة المسيء من الإنس والمسيء من الجن. حكم اعتبار الخط سترة: 226 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن فليخط خطا، ثم لا يضره من مر بين يديه". أخرجه أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، ولم يصب من زعم أنه مضطرب، بل هو حسن. قوله: "إذا صلى أحدكم فليجعل". "إذا صلى" أي: إذا أراد أن يصلي، ولو أخذنا بظاهرها لكان إذا فرغ من الصلاة، وهذا غير مراد قطعا، إذن "إذا صلى" أي: إذا أراد أحدكم أن يصلي. فإن قال قائل: ما الفائدة من إطلاق الفعل على إرادته؟ قلنا: الفائدة من ذلك أن يتبين للمخاطب أن المراد: الإرادة الجازمة التي تستلزم الفعل، هذا هو فائدة التعبير بالفعل على إرادته؛ ولذلك لو أن الإنسان أراد أن يصلي لكن يصلي مثلا بعد ساعة أو ساعتين لا يقال: هذا الفعل مقارنا للإرادة، لكن الفعل يكون مقارنا للإرادة إذا كانت الإرادة قريبة من الفعل. وقوله: "فليجعل تلقاء وجهه شيئا" أي: شيئا فوق العصا، بدليل قوله: "فإن لم يجد فلينصب عصا" يعني: "إن لم يجد" معناها: التحول من حال عليا إلى حال دونها، فعليه يكون المراد

ب"شيئا" وإن كان نكرة، فالمراد به: شيئا فوق العصا مثل مؤخرة الرجل، فإن لم يجد شيئا فلينصب عصا ينصبها قائمة، وليس يضجعه على الأرض، اللهم إذا كانت الأرض صلبة لا يمكن أن يغرزه فيها فحينئذ يضعه عرضا لا طولا. فإن لم يكن عصا فليخط خطا، كيف يخط خطا؟ هل يخطه طولا أو عرضا؟ عرضا، وقال بعضهم: ينبغي أن يجعله مقوسا، لكن الحديث كما ترون مطلق، ولا شك أن المراد به، العرض، لكن هل يجعله مقوسا ممدودا؟ الأمر في هذا واسع، "ثم لا يضره ما مر بين يديه" "بين يديه" أي: ما وراء هذه السترة، وليس المراد بين يديه أي بينه وبين السترة، بل من وراء هذه السترة، قال ابن حجر رحمه الله: "ولم يصب من زعم أنه مضطرب" وهو ابن الصلاح رحمه الله، قال: من زعم أنه مضطرب لم يبين اسمه لفائدتين: الفائدة الأولى: أنه لا داعي لذكر الاسم؛ لأن المقصود هو الحكم. ثانيا: أنه ربما يكون أحد من الناس يزعم أنه مضطرب فيكون عدم التعيين مفيدا للعموم- أي: كل من زعم-، والاضطراب: هو اختلاف الرواة في حديث بحيث لا يمكن الجمع ولا الترجيح، والنسخ معروف أنه لابد من تأخر الناسخ، فإذا وجدنا حديثا اختلف الرواة في سنده أو متنه على وجه لا يمكن الجمع ولا الترجيح علمنا بأنه مضطرب، إلا أن نعلم تأخر أحد الحكمين فيكون ناسخا. في هذا الحديث فوائد، منها: الأمر بوضع السترة لقوله: "فليجعل" وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون في الفضاء والبنيان، ولا بين أن يخشى مارا أو لا يخشى، وقال بعض أهل العلم: إن ذلك فيما إذا خشي مارا، أما إذا لم يخش مارا فلا حاجة إلى السترة؛ كإنسان دخل المسجد وليس فيه أحد، ويعلم أنه لن يأتي أحد أو إنسان في برية ولا يخشى أحدا يمر فإنه لا يضع السترة، لكن هذا القول ضعيف، والصواب: أن السترة مشروعة سواء خشي مارا أم لا. ومن فوائد هذا الحديث: التدرج من الأعلى إلى الأدنى، وأن الإنسان ينبغي أن ينشد الكمال أولا، فإن لم يحصل فما دونه، وهذا شيء يكون في مواضع كثيرة، مثلا نقول: في الوضوء الأصل: أن يتوضأ ثلاثا ثم مرتين ثم واحدة، فالتدرج من الأعلى إلى الأدنى كثير ومنه هذا الحديث. ومن فوائد هذا الحديث: أن الأفضل فيمن أراد أن يستتر بعصا أن يجعله قائما لقوله: "فلينصب عصا" وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا أراد ان يضع سترة يركز العنزة على الأرض حتى تكون قائمة. ومن فوائد هذا الحديث: أن المصلي إلى سترة يجعلها تلقاء وجهه لا يميل عنها يمينا ولا

مسألة الخط بالتلوين وهل يعتبر سترة؟

يسارا، وهذا هو ظاهر النصوص أن السترة تكون بين يديك تماما وفي حديث: "أنه لا ينبغي أن يصمد إليها، بل يجعلها على الحاجب الأيمن أو الحاجب الأيسر" لكنه ضعيف. ومن فوائد هذا الحديث: أن الحط يكفي عن العصا، وهي المرتبة الثالثة، والحط هنا فيما إذا كانت الأرض يؤثر فيها الخط كالرملية والحصبائية فهذه يمكن، لكن إذا كان لا يمكن كأرض صلبة فهل هناك فائدة للخط؟ لا، وما لا فائدة منه لا يمكن أن يأمر به الشرع، فالمراد إذن: الأرض التي يؤثر فيها الخط. مسألة الخط بالتلوين وهل يعتبر سترة؟ إذا قال قائل: هل يقوم مقام الخط المؤثر التلوين أو لا يقوم؟ ننظر الخط لابد أن يؤثر حفرة في الأرض، كالخط كما لو وضع كومة من الرمل أو كومة من الحصباء أثرها ظاهر إما انخفاضا وإما ارتفاعا، هذا الخط هل يحصل به هذا؟ لا يحصل به هذا، لكنه في الحقيقة حماية للمصلي، بمعنى: إذا كان المسجد مفروشا وفيه شيء يشبه المحراب وصلى الإنسان في هذا المكان فإن هذا المحراب يعتبر حماية للمصلي، وإن كان ليس فيه شيء نازل ولا مرتفع لكن هل يجزئ عن السترة؟ الجواب: نقول: إذا قلنا لا يجزئ فإن المصلي إذا لم يكن له سترة ما هو منتهى المكان المحترم؟ موضع السجود وهذا في موضع السجود فلا يضره من مر وراءه. فالذي يظهر لي: أن الخط بالتلوين لا يكفي؛ لأنه لا يؤثر لا انخفاضا ولا ارتفاعا لكن إذا قدر أن الإنسان يصلي على فراش فيه هذا التخطيط فإنه على فرض أننا لا نعتبره شيئا نقول: هو داخل حرمة المصلي فلا يجوز المرور بينه وبينه. أسئلة: - رجل صلى ووضع سترة، فما موقفه منه؟ - وهل الأمر في الحديث للوجوب؟ - ما معنى قوله: "فإن معه القرين"؟ - من هو القرين؟ - هل يؤخذ من هذا التعليل أن كل معصية إنما هي بأمر الشيطان؟ - هل هناك شاهد من القرآن أن كل معصية من الشيطان؟ {لا تتبعوا خطوت الشيطن} [النور: 21].

مسألة حكم العمل بخبر الآحاد والحديث الضعيف

- حديث أبي هريرة هل هو صحيح أم حسن؟ حسن. - وهل الحسن حجة؟ نعم في العقائد والأحكام. - هل الاضطراب موجب ضعف الحديث؟ مسألة حكم العمل بخبر الآحاد والحديث الضعيف: مسألة العمل بخبر الآحاد هل يعمل بخبر الآحاد والمراد الصحيح، والحسن، أما الضعيف فلا يعمل به، هذا نذكره إن شاء الله: مذهب أهل السنة والجماعة أنه يعمل بخبر الآحاد في العقائد والعبادة والأخلاق والمعاملة بين الناس، وفي كل فرع من فروع الشريعة بدون تفصيل؛ ما دام صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يعمل به، بل ما دام حسنا فإنه يعمل به. وذهب أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة ونحوهم أنه لا يعمل به في العقائد، وعللوا ذلك بأن أخبار الآحاد تفيد الظن، والعقائد لابد فيها من القطع. فيقال: إذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الإنسان يجب أن يعقد مدلوله ما دام يرى أنه صحيح النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المقصود العلم بوصول الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ لا فرق بين خبر الآحاد والمتواتر. ثم إننا نقول: حتى في الأعمال التي لا تعتبرونها عقيدة لابد أن يصحبها عقيدة، عندما يصلي الإنسان راتبة هل يصحب صلاته عقيدة او لا؟ نعم. ما العقيدة؟ أنها من شرع الله، والعقيدة في شرع الله كالعقيدة في صفات الله وأفعال الله، ولا فرق لأن شريعة الله ثبتت بقوله وجيه، فلا فرق إلا فرقا صوريا، يقولون: إن هذا عمل القلب، وهذا عمل الجوارح. فالصواب: أن خبر الآحاد حجة يحتج به ولا يعمل به ولا يعتقد مدلوله؛ لأنه ضعيف، ولكن هل يذكر وينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو لا؟ فيه تفصيل: أما ذكره لبيان ضعفه فهو جائز، بل واجب؛ لأن المقصود من ذلك أن يتوقى الناس العمل به فيذكر ويبين أنه لا عمل عليه، وأما ذكره للعمل به فإنه لا يجوز مطلقا؛ لأنك إذا ذكرته ولم تتعقبه بيان الضعف سوف يعتقد السامع انه ثابت عن الرسول - عليه الصلاة والسلام- وهذا خطر؛ إذ إنك إذا اعتقدت أنه ثابت ثم قلت بمدلوله وليس كذلك - أي: ليس بثابت- فقد افتريت على الرسول صلى الله عليه وسلم كذبا، أو قلت ما ليس لك به علم، يعني إذا تنازلنا وقلنا: لم يفتر كذبا، قلنا: إنه قال ما ليس له به علم. وهل يذكر للترغيب في فضائل الأعمال، والترهيب من مساوئ الأعمال أو لا؟ ذهب بعض أهل العلم: إلى أنه لا يذكر حتى في الترغيب والترهيب، وقال: إنما فيما صح

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاية في الترغيب والترهيب، وهذا ما دام ضعيفا فليطرح ولم يستثنوا شيئا، فقالوا: لا يجوز العمل بالضعيف ولا يجوز ذكره إلا مقرونا ببيان ضعفه مطلقا. وقال بعض أهل العلم: يجوز العمل بالضعيف في الفضائل أو المساوئ لكن بشروط ثلاثة: الشرط الأول: ألا يكون الضعف شديدا بحيث يصل إلى قريب الوضع والكذب، فإن كان الضعف شديدا فلا يجوز ذكره حتى في الفضائل. الشرط الثاني: أن يكون أصل ما ورد فيه ثابتا بدليل صحيح، مثل أن يرد حديث في فضل صلاة الجماعة ضعيف، لكن مرتب فيه أجر كثير والحديث ضعيف، هنا يمكن أن تقول بذكر هذا الحديث؛ لأنه ينشط على صلاة الجماعة فإن ثبت تقرر الأجر للمصلي، وإن لم يثبت استفاد منه النشاط والرغبة في العمل فهو لا يضر. الشرط الثالث: ألا يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ لأنه لا يمكن أن تعتقد أنه قاله إلا إذا صح، بل تقول: يروى أو يذكر أما ما أشبه ذلك، فللعلماء إذن قولان في ذكر الحديث الضعيف والعمل به. 227 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم". أخرجه أبو داود، وفي سنده ضعف. "الصلاة" منصوبة، كيف تكون منصوبة وهي تلي الفعل، والمعروف أن الفاعل يكون مرفوعا؟ الصلاة مفعول مقدم، "لا يقطع الصلاة شيء" و"شيء" نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء، "وادرءوا ما استطعتم" يعني: ادفعوا من أراد أن يمر ما استطعتم، فهاهنا حكمان: الأول: أن الصلاة لا يقطعها شيء، أي شيء يمر لا يقطعها: امرأة، رجل، حمار، كلب، بعير، شاة، أي شيء. الحكم الثاني: الدفع "ادرءوا ما استطعتم"، وهذا يعم دفع كل من أراد أن يمر بيد يدي المصلي سواء كان يقطع الصلاة أو لا. والحديث يقول المؤلف رحمه الله: في سنده ضعف، وعليه فلا يثبت به حكم ما دام ضعيفا، ولم يرد من وجوه متعددة تعضده حتى يصل إلى درجة الحسن، فإنه لا عمل عليه، وإذا قدرنا أنه صح بغيره أو صار حسنا بغيره فإنه يقال: إنه عام، وأحاديث قطع الصلاة بمرور الكلب الأسود والمرأة والحمار مخصصة، وتخصيص العام موجود بكثرة في الكتاب والسنة. وعلى هذا فنقول: إن هذا الحديث ضعيف، وإن صح فإنه عام مخصوص بالأحاديث الدالة على أن مرور الكلب الأسود، والمرأة، والحمار يقطع الصلاة.

5 - باب الحث على الخشوع في الصلاة

5 - باب الحث على الخشوع في الصلاة الحث والحض معناها واحد، والمراد بذلك: طلب الإسراع في الشيء، يقال: "يسار سيرا حثيثا" أي: سريعا، ومنه قوله تعالى: {يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا} [الأعراف: 54]. أي: سريعا، فمعنى "الحث" يعني: طلب المسارعة إلى هذا. "الخشوع في الصلاة" فسره العلماء بأنه سكون الأطراف مع طمأنينة القلب، يعني: أن القلب يحضر في الصلاة وتسكن الأطراف، فلا عبث ولا لغو والقلب حاضر متوجه إلى الله عز وجل، فإذا توجه القلب إلى الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما في القلب، فإنه لابد أن يخشع الإنسان ويقصر فكره على من يناجيه وهو الله - تبارك وتعالى- إذن هو معنى نفسي يستلزم طمأنينة القلب وسكون الجوارح. واختلف العلماء - رحمهم الله- هل الخشوع واجب أو سنة؟ والصحيح: أنه سنة، لكنه سنة مؤكدة؛ إذ إنه هو روح الصلاة حقيقة، فالصلاة بلا حضور قلب ما هي إلا قشور بلا لب، وينقص من ثواب الصلاة بقدر ما نقص من الخشوع، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "القواعد النورانية": أن الخشوع في الصلاة واجب، واستدل لذلك بأدلة كثيرة، لكن يعكر عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان يأتي إلى ابن آدم في الصلاة فيقول: اذك كذا اذكر كذا حتى لا يدري ماذا صلى". فهذا يمنع أن نقول: إن الرجل إذا استوعبت الوساوس صلاته بطلت. فالذي يظهر: أن الخشوع سنة مؤكدة جدا، وأن من غلب الوسواس على أكثر صلاته فهو على خطر عظيم. أسئلة ومناقشة: - ما المراد بقول المؤلف: باب سترة المصلي؟ - في الحديث ما يدل على تحريم المرور بين يدي المصلي ما هو الحديث؟ - ما وجه التحريم من هذا الحديث؟ - لو قال قائل: إن المصلي لا يمكن أن يبقى أربعين سنة؟ - المبالغة تارة تكون بالأقل، وتارة تكون بالأكثر نريد أمثلة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} [الزلزلة: 7]. - كلمة "بين يديه" هل هي محدودة أو تختلف باختلاف الناس؟ - هل تصح السترة بالخط، وما الدليل؟ -

رجل يصلي فمر بين يديه كلب أبيض، هل يقطع صلاته؟ - رجل وضع ستر في صلاته وأراد أحد أن يمر بينه وبين سترته، فما موقف المصلي؟ - هل المراد بالمقاتلة: شدة المدافعة، أو القتل؟ - هل لديك شاهد بأن المقاتلة تطلق على شدة المدافعة أو على التشابك بالأيدي؟ - حديث: "لا يقطع الصلاة شيء ... " هل يمكن أن يعارض حديث أبي ذر؟ - الخشوع في الصلاة ما منزلته في الصلاة؟ قال أهل العلم: هو لب الصلاة وروحها. - فما المراد بالخشوع في الصلاة هل هو البكاء أو ماذا؟ - لو قال قائل: إنه يذكر عن عمر أنه قال: إن كنت لأجهز جيشا وأنا في الصلاة، هل تقول: إن عمر ليس من الخاشعين في الصلاة؟ لا، لأنه لا يجوز في الخوف ما لا يجوز في غيره، والدليل صلاة الخوف، فالخوف يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره. وهل مثل ذلك أن يفكر الإنسان في مسألة علمية أشكلت عليه؟ لا؛ لأن الوقت فيه متسع. فإذا قال قائل: لو حدثت حادثة تستلزم التعجيل فهل له أن يفكر؟ الظاهر أن له أن يفكر بشرط ألا يخل بالصلاة؛ وذلك لأن العلم نوع من الجهاد في سبيل الله. لو قال قائل: هل له أن يفكر في معنى ما يقرأ وما يقول من تسبيح ودعاء؟ نعم؛ لأنه من تمامها. هل إذا رأينا شخصا يعبث بأي شيء هل نستدل بهذا على أن قلبه غافل؟ نعم؛ لأنها حركة صادرة عن إرادة، والإرادة محلها القلب، فنقول: هذا ليس بخاشع، لكنه يعفى ويتسامح عن الشيء الذي يحتاجه الإنسان كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حمله أمامة. لو تذكر الإنسان في صلاته شيئا وخاف أن ينساه مرة أخرى فأخرج القلم ورسم بكفه، هل يجوز؟ نعم يجوز بشرط الحاجة، وألا يترتب على ذلك ضرر فربما يشاهده شخص فيقع في عرضه إن لم يكن فعله محل التأسي، به فيما ليس من جنس فعله إذا كان أهلا للتأسي. فقد يكون الشيء جائزا لكن يخفى على العوام فلو فعله الإنسان وهو ليس قدوة لأكل الناس عرضه، وإن كان قدوة اتخذ الناس من هذا الفعل ما ليس يفعله الذي تأسوا به، وهذه نقطة يجب على طالب العلم أن ينتبه لها. سبق لنا أن قلنا: إن العلماء اختلفوا في الخشوع هل هو واجب أو لا؟ وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب "القواعد النورانية" - وهو كتاب مختصر مفيد - أن الخشوع واجب، واستدل بأدلة قوية، لكن يعكر على هذا: الحديث الصحيح أن الشيطان يأتي على الإنسان إذا دخل في الصلاة ويقول: اذكر كذا في يوم كذا، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك فليعد الصلاة كما قال حينما تكلم على أن ذبح الأضحية لا يكون إلا بعد صلاة العيد، قال:

"من ذبح قبل ذلك فليذبح مكانها أخرى". إنما على الإنسان أن يحرص على الخشوع في الصلاة، حضور القلب؛ لأنه إذا حضر قلبه استفاد فائدة عظيمة من صلاته سوف يتأثر إذا انتهى من الصلاة تأثرا بالغا، لكن إذا دخل فيها ثم من وقت ما يدخل ينفذ له بعض الوساوس التي كان قبل الدخول غافلا عنها، ولم تطرأ على باله فإنه سيخرج من الصلاة بدون أن يتأثر القلب، وسيبقى دائما على هذا الحال، لكن لو عالج نفسه، وصار كلما اتجهت إلى شيء ردها واستحضر ما يقول ويفعل وهو في عراك معها، مسألة ليست هينة، لكن إذا عود نفسه مرة بعد أخرى، ومرة يستحضر نصف الصلاة، ومرة أقل ومرة أكثر وعود نفسه؛ سهل عليه، أما أن يستمر ويغفل عن هذا فإنه لن يستفيد كثيرا من صلاته إلا إبراء الذمة فقط. 228 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصرا". متفق عليه، واللفظ لمسلم. ومعناه: أن يجعل يده على خاصرته. 229 - وفي البخاري: عن عائشة رضي الله عنها أن ذلك فعل اليهود في صلاتهم. فائدة: "صلى الله عليه وعلى آله" بعض الناس يقول: "صلى الله عليه وآله"، ولكن إدخال حرف الجر أولى؛ لأنه مطابق للحديث: "اللهم صل على محمد، وعلى آله محمد"؛ ولأن "صلى الله عليه وآله" من شعار الرافضة، فينبغي أن نبتعد عن شعاراتهم؛ ولهذا أشكل على بعض الناس حينما نقول: صلى الله عليه وعلى آله، قال: كيف تقول هذا الكلام هذا شعار الرافضة؟ قلنا: بيننا وبينهم فرق في اللفظ والمعنى، في اللفظ: نأتي بحرف الجر وهم لا يأتون، في المعنى: هم يقصدون ب"الآل": آل البيت، ونحن نقصد ب"الآل": جميع أتباعه. يقول: "نهى" النهي هو طلب الكف على وجه الاستعلاء، وهل هو فعل أو ترك؟ نقول أما بالسبة لهم القلب فهو فعل؛ لأن القلب يريد أن يترك، وأما بالنسبة للجوارح فهو ترك؛ ولهذا لا يصح أن نطلق أن امتثال النهي ترك، بل نقول: أما بالنسبة لما يقع في القلب من إرادة الترك فهو فعل؛ لأنه كف النفس، وأما بالنسبة للجوارح فإنه ترك؛ أي: عدم فعل، وقولنا: "على وجه الاستعلاء" أي: أن الناهي يشعر نفسه بأنه فوق المنهي بدون تكبر، لكن خرج به ما إذا نهى عن شيء على وجه التذلل فإنه يكون دعاء، كقولنا: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. "لا" ناهية لا إشكال فيها، لكنها في هذا المقام - وهو مقام تذلل- لا يصلح أن تقول:

إنها ناهية؛ إذ إنه لا يمكن أن يوجه الإنسان النهي إلى من فوقه، ولاسيما أنه بين الخالق والمخلوق، إذا كان من شخص مماثل مساو في الدرجة فإنهم يسمونه التماسا؛ ولهذا تجد حتى في معاملة الناس في كلامهم: "يا فلان من غير أمري عليك افعل كذا"، "من غير أمر لا تفعل كذا"، فيفرقون بين الاستعلاء وبين غيرها، فإذا كانت من مماثل سماها البلاغيون التماسا، وإذا كانت من أدنى إلى أعلى فهي دعاء وسؤال، وإذا كانت من أعلى إلى أدنى فهو نهي، هي النهي يقتضي التحريم أو يقتضي الكراهة؟ سبق أن قلنا كلاما مفيدا وهو انه يقتضي الامتثال سواء كان للتحريم، أو للكراهة، وليس من حقنا أن نقول: هل هو للكراهة، أو للتحريم؛ لأن من سلفنا من الصحابة لم يقولوا إذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أهو للتحريم، وإنما كان قولهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، لكن إذا تورط الإنسان في المخالفة حينئذ لا بأس أن يسأل؛ لأنه إذا كان للتحريم وجب عليه التوبة منه، وإذا كان للكراهة فالتوبة غير واجبة؛ لأن فاعل المكروه لا إثم عليه، فحينئذ نقول: إذا سمعت الله تعالى ينهى عن شيء، أو سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن شيء فما موقفك وأنت عبد تابع؟ أن تجتنبه، وبذلك تسلم الذمة، ويسلم الإنسان من أن يتهاون، هذه نقطة مهمة جدا في مقام العبودية؛ لأنه حتى في الناس بعضهم مع بعض لو قال السيد لعبده: "يا فلان، لا تفتح الباب" هل من الأدب أن يقول: يا سيدي أنهيتني نهي منع أو نهي تأديب؟ الجواب: أبدا ليس من الأدب، بل لو أن العبد قال لسيده هذا لعد ذلك منقبة سوء وعاقبة عليه، إنما هل يقتضي النهي التحريم بالنسبة للتعبد انتهينا منه، وقلنا موقف العبد من ذلك أن يتجنب ويقول: سمعنا وأطعنا، لكن من ناحية الحكم، بعضهم قال: إن الأصل في النهي التحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه". وبعضهم قال: الأصل في النهي الكراهة، وبعضهم فصل قال: أما ما يتعلق بالأدب فهذا للكراهة، وأما ما يتعلق بالتعبد فهو - أي: النهي - للتحريم، وهذا أقرب إلى الانضباط؛ لأن كثيرا من المنهيات نرى العلماء - رحمهم الله- يجمعون على أنها للكراهة، أو يكون أكثرهم يرى أنها للكراهة، فلا تنضبط القاعدة، لكن أقرب الانضباط لها أن يقال: ما كان للتعبد فالنهي فيه للتحريم؛ لأن الله ما نهى عنه إلا وهو لا يرضاه، وما كان للآداب بين الناس والمروءة والأخلاق فهو للكراهة، هاذ تفصيل جيد وهو أقرب الأقوال الثلاثة. نرجع لشرح حديث أبي هريرة: سبق تعريف النهي، وأنه: "طلب الكف على وجه الاستعلاء"، وشرحناه أيضا وتكلمنا: هل الأصل في النهي التحريم، أو الكراهة، أو في ذلك تفصيل.

النهي عن الصلاة بحضرة طعام

يقول: " نهى أن يصلي الرجل". والرجل يطلق في الأصل على البالغ كالمرأة على البالغة، وقد يطلق على مجرد الذكورية والأنوثية، وقوله: "مختصرا" فسره بقوله: معناه أن يجعل يده على خاصرته، والخاصرة: ما فوق الحقو تسمى خاصرة، وعلله في حديث البخاري، عن عائشة أن ذلك فعل اليهود، فهل قوله: "الرجل" وصف للاحتراز، أو نقول: هو لقب ليس وصفا، فلا يدل على مفهوم ولكنه علق الحكم بالرجال بناء على أن غالب الخطابات الشرعية تكون للرجال؛ لأن الرجال هم أعظم مسئولية من النساء؟ الثاني هو المتعين، فالمرأة كالرجل في هذا. فمن فوائد هذا الحديث: النهي عن الاختصار في الصلاة، وهو ما عبر عنه الفقهاء بقولهم: "وتخصره" وهل هذا معلل؟ الجواب: بين في رواية البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه كان فعل اليهود، فإذا كان فعل اليهود فما مناسبته لباب الخشوع في الصلاة؟ إذا قلنا: إن العلة أنه تشبيه باليهود؛ فالعلة فيه التشبيه، وإذا قلنا: إن العلة في ذلك أنه يدل على أن الإنسان قد سرح قلبه؛ لأن هذه علامة من علامات غفلة القلب، فتكون وجه المناسبة للباب واضحة؛ لأن غفلة القلب تنافي الخشوع. النهي عن الصلاة بحضرة طعام: 230 - وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قدم العشاء فابدءوا به قبل أن تصلوا المغرب". متفق عليه. "إذا قدم العشاء" هو: ما يؤكل في العشي، والعشي هو آخر النهار، والغداء ما يؤكل في الغدو، والغدو أول النهار، يقول: "إذا قدم" سواء قدمه الإنسان لنفسه أو قدمته زوجته، أو قدمته أخته، أو أمه، أو الخادم، "العشاء فابدءوا به قبل أن تصلوا المغرب". مثال هذه الصورة: رجل قدم له العشاء وقد أذن للمغرب، فنقول: تعش ثم صل المغرب، والحكمة من هذا: لئلا يشتغل قلبه بالطعام الذي قدم له، واشتغال القلب ينافي الخشوع. فيستفاد من هذا الحديث فوائد؛ منها: أن العشاء كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر وقت العصر قبل المغرب، وقد كان الناس على هذا برهة من الزمان وإلى عهد قريب، ثم لما صار الناس يشتغلون عن أكل الغداء في أول النهار قلت رغبتهم في العشاء قبل الليل، وصاروا يتعشون بعد صلاة العشاء، فنقول: لو قدر أن أحدا يتعشى قبل صلاة العشاء، قلنا له: إذا قدم العشاء فابدأ به قبل صلاة العشاء.

ومن فوائد هذا الحديث: مراعاة الشريعة الإسلامية المطهرة لحال الإنسان، ووجه ذلك: أنه إنما أمر أن يتقدم العشاء قبل صلاة المغرب؛ لأن نفسه متعلقة به فأعطي للإنسان الحرية بتناول الطعام. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا لم يقدم العشاء، ولكن الإنسان جائع والعشاء في القدر فإنه يقدم صلاة المغرب؛ وذلك لأن تعلق النفس بالعشاء المقدم أقوى من تعلقها بالعشاء الذي على النهار، فلا يقول الإنسان: أنا جائع وأنتظر نضوج الطعام، ثم أتعشى، نقول: لا؛ لأن التعلق به وهو في القدر ضعيف فلا يكون كالمقدم. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره لا فرق بين أن يخاف فوات صلاة الجماعة أو لا؛ لأن الحديث عام، وعلى هذا فيكون تقديم العشاء- بل تقديم الطعام وهو يشتهيه- عذرا في ترك صلاة الجماعة، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما - على ورعه- يتعشى وهو يسمع قراءة الإمام ويبقى حتى ينتهي. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره أنه يقدم العشاء ولو خاف فوات الصلاة- أي: خروج الوقت-، ولكن هذا غير مراد؛ لأنه لا يجوز إخراج الصلاة عن وقتها، وليس هذا من الأعذار التي تبيح إخراج الصلاة عن وقتها. فإن قال قائل: إذا كانت الصلاة التي قدم الطعام في حضورها تجمع بما بعدها، فهل له أن يجمع؟ فالجواب: نعم له ذلك؛ لأن كل عذر يسقط الجماعة فإنه يبيح الجمع. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره أن الإنسان يأكل حتى يشبع، ولا نقول: كل لقمة أو لقمتين ثم قم؛ لأنه ربما يزداد تعلقا بالطعام إذا أكل منه لقمة أو لقمتين، وعليه فنقول: له أن يأكل حتى يشبع ثم يقوم للصلاة ليكون فارغ القلب. ومن فوائده: أنه يقاس على الطعام إذا حضر كل ما يشتغل به القلب، والقياس حينئذ صحيح، قياس مماثل أو قياس مساواة، وعلى هذا فإذا كان الإنسان ليس عليه إلا ثياب قليلة، واشتد عليه البرد وقد سمع إقامة الصلاة فهل يذهب ويصلي مع اشتغال قلبه وتألمه من البرد، أو نقول: البس ثم صل؟ الثاني: وكذلك لو كان حر مزعج يحتاج إلى أن يغتسل حتى ينشط

ويزول عنه الحر، فنقول كذلك يعذر فنأخذه قاعدة عامة: "كل مشغل عن حضور القلب في الصلاة فإنه يبدأ به قبل الصلاة ما لم يخش خروج الوقت". 231 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى، فإن الرحمة تواجهه". رواه الخمسة بإسناد صحيح. وزاد أحمد: "واحدة أو دع". قوله: "إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى" الحصى: المراد به: الذي فرش به المسجد، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تفرش المساجد بالحصى الصغار، وقوله: "فإن الرحمة تواجهه" يعني: أنه إذا سجد على الحصى مع شدته وصلابته فإن الرحمة تواجهه؛ أي: يكون ذلك سببا للرحمة، وذلك لمشقة السجود عليه؛ لأن هناك فرقا بين أن يسجد على حصى أو يسجد على فراش، فالحصى نقول: لا تمسحه، دعه على ما هو عليه، واسجد عليه لتنال بذلك الرحمة حيث قمت بالسجود لله عز وجل مع صعوبته. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان ألا يعبث في الصلاة فلا يتحرك إلا لحاجة لقوله: "فلا يمسح الحصى" ومنها أنه إذا احتيج إلى الحركة فإنها تتقدر بقدرها وهذا تفيده رواية الإمام أحمد: "واحدة أو دع". ومنها: أن المساجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت تفرش بالحصى؛ لأنه أنظف من التراب، ولعل الرمل حول المدينة قليل، وإلا فالرمل أسهل للناس، وكانت المساجد إلى زمن قريب تفرش بالرمل. ومن فوائد هذا الحديث: أنه كلما صعبت العبادة على وجه لا يمكن دفع الصعوبة به فإنه يزداد الأجر لقوله: "فإن الرحمة تواجهه"، ولكن هل يطلب الإنسان المشقة مع إمكان التسهيل؟ لا؛ ولهذا لو كان الإنسان في البر والماء بارد وأمكنه أن يسخن الماء فهل الأفضل أن يتوضأ ويغتسل بالماء البارد، أو نقول: سخن الماء؟ الثاني بلا شك؛ لأن الله يقول: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم} [النساء: 147] لكن إذا كان لابد من مشقة للعبادة؛ فهنا نقول: الجر على قدر المشقة.

حكم الالتفات في الصلاة وأنواعه

232 - وفي الصحيح عن معيقيب نحوه بغير تعليل. يعني: بغير قوله: "فإن الرحمة تواجهه". حكم الالتفات في الصلاة وأنواعه: 233 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد". رواه البخاري. - وللترمذي وصححه: "إياك والالتفات في الصلاة فإنه هلكة، فإن كان لابد ففي التطوع". قوله صلى الله عليه وسلم: "هو اختلاس" الاختلاس معناه: أخذ الشيء بخفية، وكأن الشيطان إذا أراد أن ينقص صلاة الإنسان سول له فالتفت، وقوله: "عن الالتفات" الالتفات نوعان: التفات بالجسد، والتفات بالقلب، والالتفات بالجسد نوعان: التفات مبطل للصلاة، والتفات منقص لها يأتي في الفوائد إن شاء الله. "اختلاس" أي: أخذ بخفية "يختلسه الشيطان من صلاة العبد"، وعلل في رواية الترمذي أنه "هلكة"، أي: فوات لخير كثير، "فإن كان لابد ففي التطوع" هذا يحتاج إلى مراجعة، وهل هذه الزيادة أصحيحة م لا؟ لأن الأصل أن الفرض والنافلة سواء فيحتاج إلى ثبوت شهادة، ولم أتمكن من مراجعته فليراجع. قولها: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات". السائلة: عائشة رضي الله عنها، فيستفاد منه: حرص الصحابة رجالا ونساء على العلم، واعلم أن سؤال الصحابة - رضي الله عنهم- عن العلم ليس لمجرد أن يعلموا فقط، بل ليعلموا ويعلموا؛ فإنهم يسألون عن الحكم ليطبقوه، خلاف ما كان عليه بعض الناس اليوم يسأل عن الحكم لا ليطبقه، بل إن بعض الناس يسأل إن جاز له الحكم اقتصر على سؤال الرجل المعين، وإن لم يصلح له سأل آخر وهلم جرا حتى يصل إلى الفتوى التي توافق هواه، وهذا حرام تلاعب بدين الله، ولهذا قال أهل العلم: إن تتبع الرخص فسق. وصرح العلماء - رحمهم الله- بأن الرجل إذا استفتى عالما هو أهل للفتوى ملتزما ما يقوله فإنه

لا يجوز أن يسأل غيره وهو كذلك؛ لأنه لو سأل غيره لكان متلاعبا، نعم لو أن إنسانا في قرية وليس عنده إلا طالب علم فسأله، ومن نيته أنه إذا تمكن من سؤال عالم أهل للفتوى سأله، فهنا نقول: لا بأس أن نستفتي هذا وتعمل بقوله، ثم إذا قدرت على عالم من أهل الفتوى فاستفته، ويكون هذا كالتراب يستعمل عند عدم الماء. ومن فوائد هذا الحديث: أن للشيطان سلطة على بني آدم في ا'مالهم لقوله: "هو اختلاس يختلسه الشيطان". ومن فوائد هذا الحديث: أن الشيطان لا يقدر على صلاة المؤمن فيأخذها هكذا مجابهة، ولكنه يختلسه اختلاسا؛ لأن المؤمن قلبه حاضر، ولا يمكن أن يأتي بمنقص لصلاته، لكن الشيطان قد يسلط عليه فيختلس منه. ومن فوائد هذا الحديث: التحذير من الالتفات في الصلاة، ثم الالتفات نوعان: نوع التفات بالقلب، وهذا أشد وأخطر من الالتفات بالبدن؛ لأنه يضيع فائدة الصلاة، وقد شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوسواس في الصلاة، فقال: إن ذلك شيطان يقال له خنزب، ثم أمر من أصابه ذلك أن يتفل عن يساره ثلاث مرات، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الصحابي: ففعلت ذلك؛ فأذهب الله عني ما أجد. وهل الالتفات بالقلب يبطل الصلاة؟ سبق القول في هذا، وأن العلماء اختلفوا فيما إذا غلب الوسواس على أكثر الصلاة هل تبطل الصلاة أو لا؟ ورجحنا أن ذلك لا يبطلها لكن ينقصها، أما الالتفات بالبدن فهو نوعان: التفات بالبدن كله وهذا مبطل للصلاة؛ حيث اشترط استقبال القبلة، أما إذا سقط استقبال القبلة فهذا شيء آخر، لكن حيث اشترط فإن الالتفات بجميع البدن يبطل الصلاة، وهذا يقع أحيانا نشاهده في المسجد الحرام إذا كان الناس متزاحمين تجد بعض الناس يقف في الصف والكعبة أمامه ثم تجده منحرفا من أجل أن يتسع المكان؛ لأن عرض الإنسان يأخذ مكانا أكثر مما إذا كان طولا؛ وعليه فيجب التنبه لهذا؛ لأن هؤلاء قريبون من الكعبة وفرضهم الاتجاه إلى عين الكعبة، أما لو كانوا بعيدين وفاتهم التوجه إلى الجهة كان أهون، أما الالتفات ببعض البدن كالالتفات بالعنق؛ فهذا لا يبطل الصلاة لكنه ينقصها إلا إذا كان هناك مصلحة أو حاجة، فإن كان هناك مصلحة أو حاجة فلا بأس، مثل الحاجة: ما أشرنا إليه قبل قليل من أن الإنسان إذا تسلط عليه الشيطان بالوساوس فإنه يلتفت ويتفل عن يساره وما تقتضيه المصلحة؛ كأن يشاهد المأموم من أجل أن يقتدي به، فإن الصحابة كانوا

حكم البصاق في الصلاة وضوابطه

يشاهدون الرسول - عليه الصلاة والسلام- وإذا كانوا في أطراف الصف لابد أن يلتفتوا فيكون هذا لمصلحة، بل لمصلحة وحاجة أيضا وهي متابعة الإمام؛ ولهذا أول ما صنع له منبر جاء ليصلي عليه على درجاته وقال: "إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي". ومن ذلك أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عينا في إحدى غزواته يبحث عن العدو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الشعب الذي يأتي منه هذا العين. والعين هو الجاسوس هذا لحاجة، فالمهم أن الالتفات ببعض البدن مكروه إلا لحاجة أو مصلحة. ومن فوائد هذا الحديث: التحذير من الالتفات؛ لأنك إذا التفت فقد ائتمرت بأمر عدو لك وهو الشيطان، والواجب الحذر من هذا، ولكن إبطال الصلاة وعدمه على حسب ما سمعتم. وقوله: "فإن كان ففي التطوع" هذه الكلمة زائدة إن صحت فهي أصل من الأصول في أن النوافل تختلف عن الفرائض، وقد جمعت الفروق فبلغت أكثر من عشرين فرقا بين صلاة النافلة وصلاة الفريضة. حكم البصاق في الصلاة وضوابطه: 234 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه، فلا يبصقن بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن شماله تحت قدمه". متفق عليه. - وفي رواية: "أو تحت قدمه". هذا أيضا يتعلق بالخشوع في الصرة "إذا كان أحدكم في الصلاة" يعني: يصلي، والصلاة كلمة عامة تشمل الفرض والنفل، "فإنه يناجي ربه" أي: يكلمه بخفاء؛ لأن من أوصاف الصوت أن يكون نداء، وأن يكون مناجاة، ويدل لهذا قول الله - تبارك وتعالى- لموسى: {وندينه من جانب الطور الأيمن وقربنه نجسا} [مريم: 52]. فإذا كان المخاطب بعيدا فنداء، وإن كان قريبا فمناجاة فقوله: "يناجي ربه" أي: يكلمه، والرب عز وجل يكلم لكن بصوت مرتفع أو خفي؟ خفي. "فلا يبصقن بين يديه" البصاق: معروف، وما بين يديه يعني: بينه وبين موضع سجوده، وكلما قرب فهو أقبح بين يديه، "ولا عن يمينه"، إذن أين يبصق؟ يقول: "ولكن عن شماله تحت قدمه"، وفي رواية "أو تحت قدمه" عن شماله بعيد من القدم، أو "تحت قدمه" أي القدمين؟ اليسرى ليجتمع الشمال والبصق تحت الرجل.

في هذا الحديث فوائد منها: عظم شأن الصلاة، وأنها صلة بين العبد وبين ربه؛ لأنه يناجي الله وما أحلى المناجاة من الحبيب، فإن أحب شيء إلى الإنسان هو الله عز وجل، وإذا كان يناجيه فهذا قرة عينه؛ ولهذا كانت الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يقول لبلال: "أرحنا بها". وما أكثر الذين يقولون: أرحنا منها: وهي عندهم أثقل من الجبال، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من هؤلاء. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات الربوبية لله عز وجل، وهذا أمر في الحقيقة لا يحتاج إلى إثبات لأنه واضح. ومن فوائده: النهي عن بصق الإنسان بين يديه إذا كان يصلي، لماذا؟ علل في أحاديث أخرى بأن الله تعالى قبل وجهه. فإذا كان الله قبل وجهه فهل من الأدب أن تبصق بين يديك والله تعالى قبل وجهك؟ لا، والله لو واحدا من عامة الناس كان قبل وجهك لاستحييت أن تبصق بين يديك، فكيف بالرب عز وجل، هذا النهي هل هو للتحريم أو للكراهة؟ قال بعض أهل العلم: إنه للكراهة، والصواب أنه للتحريم؛ لما فيه من سوء الأدب مع الله عز وجل. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا كانت العلة باعثة على الامتثال؛ فإنه ينبغي أن تقدم على الحكم، وجهه: أنه اخبر بأنه يناجي الله ثم فرع عليه "لا يبصقن قبل وجهه"، فإذا كانت العلة مما يبعث على الامتثال فقدمها قبل الحكم ليرد الحكم على النفس وقد تهيأت لقبوله. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينهى المصلي عن البصق عن يمينه، لكن ما العلة؟ العلة: أن عن يمينه ملكا، وهو الذي يكتب الحسنات، والبصق عن اليمين أهون من البصق قبل وجهه، ولذلك يتوقف الإنسان في كونه للتحريم بخلاف الأول. فلو قال قائل: كيف تحكم على أنها للتحريم وبجملة أخرى على أنها للكراهة؟ قلنا: لا مانع من هذا، وليس فيه إلا أننا استعملنا المشترك في معنيين، المشترك النهي استعملناه مرة في الكراهة ومرة في التحريم لظهور الفرق بين قبح الفعلين؛ فإن البصق قبل وجه المصلي أشد - بلا شك- قبحا من البصق عن اليمين. إذا لم يبصق أمامه ولا عن يمينه، أين يبصق؟ بين الرسول - عليه الصلاة والسلام- ذلك. ومن فوائد هذا الحديث: أن من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا ذكر الممنوع فتح الباب الجائز،

وجهه: أنه قال: "ولكن عن شماله تحت قدمه"؛ ولهذا نظائر، وفي القرآن أيضا لما قال الله - تبارك وتعالى- {يأيها الذين ءامنوا لا تقولوا رعنا} قال: {وقولوا انظرنا [البقرة: 104]. ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول القائل: ما شاء الله وشئت، قال: بل ما شاء الله وحده، ولما جاءوه بالتمر الجيد الذي يأخذون الصاع منه بالصاعين والصاعين بالثلاثة نهاهم عن هذا، وقال لهم: بيعوا التمر الرديء بالدراهم، واشتروا بالدراهم تمرا طيبا، وهكذا ينبغي لطالب العلم إذا ذكر وجها ممنوعا أن يفتح الباب المباح، وما من وجه ممنوع إلا ويقابله المباح وهذا والحمد لله في كل شيء؛ لأنك إذا قلت: هذا حرام ولا يجوز ولم تفتح للناس بابا مباحا فالناس لابد أن يفعلوا ما كانوا يفعلونه فإذا ذكرت المباح عدلوا عن المحرم إلى المباح. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الحركة للحاجة لقوله: "ولكن عن شماله تحت قدمه" وهذه حركة بلا شك. وهل يؤخذ من هذا الحديث تحريم بلغ النخامة؛ لأنه أبيحت الحركة في الصلاة من أجل درئها؟ ربما يؤخذ، والفقهاء - رحمهم الله- صرحوا بأن بلع النخامة حرام على الصائم وغير الصائم، وقالوا: إذا ابتلعها الصائم بعد أن وصلت على فمه أفطر، ولكن نقول بأنه يفطر فيه نظر، والقول بالتحريم ليس ببعيد؛ لأنها في الحقيقة مستقذرة؛ ولأنها قد لا تخلو من أمراض تعود إلى المعدة ثم تتسرب إلى البدن. ومن فوائد هذا الحديث: أن النخامة طاهرة، وجه ذلك: أنه قال: "تحت قدمه"، وإذا بصق تحت قدمه فلابد أن يلصق منها شيء في القدم، ولو كانت نجسة ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يبصقها الإنسان تحت قدمه. فإذا قال قائل: هل تقيسون على ذلك كل ما خرج من البدن؟ قلنا: نعم، الأصل أن كل ما خرج من البدن فهو طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن لا ينجس". إلا ما دل الدليل على نجاسته مثل البول والغائط هذا نجس؛ لأن الدليل دل عليه، الدم أكثر العلماء على أنه نجس من الآدمي ولكنه يعفى عن يسيره، والصحيح أنه ليس

- وجوب إزالة ما يشغل الإنسان عن صلاته

بنجس، والدليل على هذا العدم - يعني: عدم الدليل- أين الدليل من الكتاب والسنة على أن دم الآدمي نجس؟ لا تجد، وإذا وجد الإنسان دليلا على هذا فعليه أن يأخذ به، ولكن إذا لم يجد دليلا فإنه لا يضيق على عباد الله ويلزمهم بما لم يلزمهم الله عز وجل، القيء أكثر العلماء على أنه نجس لكنه لا دليل على هذا، وكيف يكون نجسا ولم ترد السنة الصحيحة الصريحة بنجاسته مع أنه مما يبتلى به الناس كثيرا، فما أكثر المتقيئين، وما أكثر أن يتقيأ الصبي على أمه، ومثل هذا الذي تتوافر الدواعي على نقله ويحتاج الناس إلى بيانه لا يمكن إلا أن يكون مبينا واضحا. فالقاعدة إذن: أن كل ما خرج من الآدمي فهو طاهر، لأن الآدمي طاهر إلا ما دل الدليل على نجاسته، وليس لنا بد من أن نقول ما قاله الله ورسوله في هذا وغيره. ومن فوائد هذا الحديث: جواز النخامة في المسجد وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن، ولكن الفقهاء قالوا: إذا كان في المسجد فلا يبصقن فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البزاق في المسجد خطيئة"، ولاسيما المساجد المفروشة بالفرش؛ لأنه إذا بصق سوف يبقى أثرها حتى لو حكها برجله لابد أن يبقى أثرها. أسئلة: - ما أقسام الالتفات في الصلاة؟ - ما معنى التفات القلب؟ - ما معنى التفات البدن؟ - ما معنى قوله: "اختلاس يختلسه الشيطان"؟ - متى يجوز الالتفات؟ - قوله: "فإنه يناجي ربه" اشرح هذا القول؟ كونه يناجي ربه معناه: أن يتأدب مع الله عز وجل وألا يلتفت إلى سواه. - ما مناسبة ذكر هذا الحديث في باب الخشوع في الصلاة؟ - هل في حديث أنس: "إذا تنخم أحدكم" ما يدل على طهارة البصاق؟ - وجوب إزالة ما يشغل الإنسان عن صلاته: 235 - وعنه رضي الله عنه قال: "كان قرام لعائشة رضي الله عنها سترت به جانب بينهما، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي". رواه البخاري. قوله: "قرام لعائشة". القرام: قالوا: إنه ستر رقيق يستر به الباب، وقوله: "سترت به عائشة

بيتها"؛ لأنه إذا جعل على الباب فإنه يمنع من مشاهدة ما وراءه" وقوله: "بيتها" أي: بيتها الذي هي ساكنة فيه، وسيأتي الخلاف ها بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ملك لهم أو أضيفت البيوت إليهن باعتبار السكنى فقط لا باعتبار الملك، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "|أميطي عنا قرامك هذا" أميطي بمعنى: أزيلي، ومنه الحديث: "تميط الأذى عن الطريق صدقة". أي: تزيله، "فإنه" أي: القرام "لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي" بمعنى: أنه - عليه الصلاة والسلام- ينظر إلى هذه التصاوير التي فيه، والمراد بالتصاوير هنا: مجرد النقوس وليست تصاوير الحيوان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها حين رأى النمرقة التي بها الصورة أن تمزقها، واتفقا - أي: البخاري ومسلم- على حديثها، أي: حديث عائشة في قصة أنبجانية أبي جهم، وهذه الأنبجانية كان أبو جهم رضي الله عنها أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم خميصة، والخميصة كساء معلم له أعلام، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعلامها نظرة واحدة، فلما انصرف من صلاته أمر أن ترد الخميصة إلى أبي جهم، وأن تؤخذ منه الأنبجانية وهي كساء ليس فيه خطوط وهو أيضا فيه نوع من الغلظة، وفيه: "فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي". ألهتني؛ أي: شغلتني عن صلاتي، أي: عن الإقبال عليها بالقلب. في هذا الحديث فوائد؛ منها: جواز ستر البيت بالقماش، وجه هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عائشة على ستره، لكنه أمرها أن تميطه من أجل أنه يشغله في صلاته، وهذا مقيد بما إذا لم يصل حد الترف فإن وصل إلى حد الترف دخل في النهي المستفاد من قوله - تبارك وتعالى- {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31]. فإن كان لحاجة كأن يكون الجدار بارزا ويكسى بالقماش لتوقي برودته في الشتاء وحرارته في الصيف، فهذا جائز ولا إشكال فيه؛ وذلك لأنه قد علم أن كسوة الجداران بالقماش تجعله لطيفا؛ أي: تجعل الجدر لطيفة لا تكون شديدة البرودة في الشتاء ولا شديد الحرارة في الصيف. ومن فوائد هذا الحديث: إضافة البيت الذي تسكنه عائشة إليها لقوله: "بيتها"، فهل هذا البيت ملك لها، أو أنه أضيف إليها لأنها ساكنة فيه؟ الظاهر الأول أنه ملك لها، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي بقيت النساء في بيوتهن، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث. ولو كان ملكا له - أي: للرسول - لم يرثنها؛ أي: لم ترث المرأة بيتها التي هي ساكنة فيه. فإذا قال قائل: إذا قلتم بأن بيت ملك له فيرد عليه إشكال، وهو هل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

متساوية بحيث لا يفضل أحدها على الآخر؟ إن قلتم: نعم، فهذا يحتاج إلى إثبات ودليل، وإن قلتم: لا - وهو الغالب- ورد إشكال وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدل بين زوجاته فيما يملك العدل فيه. والجواب على هذا أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم برضاهن، وإذا رضيت الزوجات أن تفضل إحداهن على الأخرى في المنزل فلا حرج؛ لأن الحق لمن؟ فإذا رضين بالمفاضلة فلا حرج. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يصلي إلى شيء يشغله لقوله: "أميطي قرامك عني"، ومن ثم كره العلماء - رحمهم الله- أن يكتب في قبله المسجد شيئا قالوا: لأنه يلهي المصلي وصدقوا، هذا بقطع النظر عن المكتوب فإذا كان المكتوب شيئا منكرا ازداد ظلمة إلى ظلمته، ومن هذا ما يكتب في بعض المساجد: (الله، محمد)، لفظ الجلالة يكون عن يمين المحراب، ومحمد عن يسار المحراب؛ فإن هذا منكر ولا شك، ووجه كونه منكرا: أن وضعهما مكتوبين على حد سواء نوع من جعل النبي صلى الله عليه وسلم ندا الله تعالى؛ ولهذا لما قال له رجل ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا، بل ما شاء الله وحده". والرجل الذي لا يعرف المنزلة: منزلة الرب عز وجل، ومنزلة الرسول إذا رآها هكذا مكتوبين يظن أنهما في منزلة واحدة، وكذلك لو كان مكتوب في الجدار أشياء لا يستقيم معناها كالذين يكتبون على المحراب: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا} [آل عمران: 37]. هذا لا يجوز؛ لأن المحراب موضع الصلاة وليس الطاق الذي في القبلة، وهم يجعلون هذه الآية منزلة على الطاق الذي في القبلة، والطاق الذي في القبلة قد اختلف الناس فيه أي: في جوازه؛ فمنهم من يرى أنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مذابح كمذابح النصارى. وفسروا ذلك بالمحاريب، والصحيح: أن المحرم إنما هو ما أشبه محاريب النصارى؛ لأنه قيد "نهى عن مذابح كمذابح النصارى"، وأما المحاريب التي لا تشبه محاريب النصارى فليس فيها كراهة، بل فيها مصلحة، بل فيها الدلالة على القبلة وعلى مكان الإمام، إذن إذا رأينا هذه الآية مكتوبة على المحراب فإننا نتصل بالمسئولين ونبلغهم بذلك، وإذا أبلغناهم بهذا برئت الذمة، ومنها أن تكتب أسماء لله عز وجل لم تثبت أو أسماء للرسول صلى الله عليه وسلم لم تثبت؛ فهذا ينهى عنه ويزداد النهي حيث إن هذه الأسماء لم تثبت. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر قد يلهيه الشيء عما هو أهم منه لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنها لا تزال تصاويره تعرض لي".

ومنها: أنه إذا غلب الوسواس على أكثر الصلاة لم تبطل لقوله: "لا تزال تعرض لي في صلاتي" و"لا تزال" من الأفعال الدالة على الاستمرار، وهذا القول هو الراجح من أقوال العلماء؛ لأن السنة تدل عليه؛ ولأن القول يبطلان الصلاة إذا غلب الوسواس على أكثرها مشقة على الناس. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا حصل للإنسان ما يخل بكمال صلاته من فعل فاعل فإنه يطلب من هذا الفاعل أن يزيله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تزيله. ومنها: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه لم يزل هذا القرام بنفسه؛ لأنه لو أزال بنفسه لكان في ذلك مشقة عليها، لكن أمرها أن تزيله هي لأنها هي التي وضعته. ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي إذا رأى الإنسان شيئا منكرا أو سمع شيئا منكرا من شخص أن يتصل بهذا الشخص يبين له المنكر حتى يزيله الشخص بنفسه، وهذا يقع كثيرا، تسمع مقالة الشخص أنه كتب مقالا أو تكلم بكلام ليس بصواب فهل الأولى أن ترد عليه أو الأولى أن تتصل به وتبين له الخطأ ليكون هو الذي يباشر تصويب ما قال؟ الثاني بلا شك؛ لأن هذا أحسن، أما إذا أصر وعاند والأمر منكر لا يدخل فيه الاجتهاد فيجب عليك أن تبين الحق. قال: 236 - واتفقا على حديثها في قصة أنبجانية أبي جهم، وفيه: "فإنها ألهتني عن صلاتي". "الأنبجانية" ذكرنا أنها كساء غليظ، وأما "الخميصة" فهي كساء معلم له أعلام، وذلك أن أبا جهم لما أهدى خميصته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبل الهدية ويثيب عليها، فيحتمل أن تكون هذه الأنبجانية أثاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهم على هديته، ويحتمل أنها لأبي جهم، على الاحتمال الأول لا الإشكال، وعلى الاحتمال الثاني يقال: كيف يطلب النبي صلى الله عليه وسلم من أبي جهم أنبجانية؟ وسيأتي الجواب عن هذا الإشكال. فمن فوائد الحديث المتفق عليه: جواز صلا الإنسان بالثياب الرفيعة المنزل والقيمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة، ومحل ذلك: ما لم يشغله عن صلاته، فإن شغله عن صلاته فلا يفعل. ومن فوائد ذلك: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم حيث إنه لما رد على أبي جهم هديته طلب منه ما عند أبي جهم وهو الأنبجانية سواء قلنا إنها من النبي صلى الله عليه وسلم أو لا، ووجه كون ذلك من حسن الخلق: أنه إذا طلب النبي صلى الله عليه وسلم منه الأنبجانية طاب قلبه ولم ينكسر، وهذا أمر يجب على الإنسان أن يراعيه فيما إذا حصل ما يوجب كسر القلب أن يحرص على التئام القلب. ومن فوائد هذا الحديث: جواز سؤال الإنسان إذا علمنا أن المسئول يسر بهذا السؤال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلب أنبجانية أبي جهم؛ لأنه يعلم علم اليقين أن أبا جهم يسر بذلك ولا يستثقله.

التحذير عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة

ومن فوائده: كراهة كل ما يلهي عن الصلاة لقوله: "فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي". ومن فوائده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر يعرض له ما يلهيه عما هم أهم. التحذير عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة: 237 - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم". رواه مسلم. قوله: "لينتهين أقوام" في هذه الجملة إشكال في إعراب الفعل؛ لأن الفعل الآن مفتوح ولم نر ناصبا ينصبه؛ هذا فعل مضارع اتصلت به نون التوكيد المباشرة، متى يبنى المضارع؟ يبنى الفعل المضارع إذا اتصلت به نون التوكيد أو نون الإناث، "أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة" يعني: لينتهن عن هذا أو لا ترجع إليهم، هذا مثل قوله: "أو لتخطفن أبصارهم". الجملة في قوله: "لينتهين" جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات القسم واللام والنون، والتقدير: والله لينتهين؛ أي: يتركن. في هذا الحديث: التحذير من رفع البصر إلى السماء في الصلاة من قوله: "أو لا ترجع إليهم". ومن فوائده: أن رفع البصر إلى السماء في الصلاة محرم، بل قال قائل: إنه من الكبائر. لم يكن قوله بعيدا؛ لأنه رتب عليه وعيد، واختلف العلماء - رحمهم الله- هل تبطل الصلاة إذا رفع الإنسان بصره إلى السماء أو لا تبطل؟ أكثر العلماء على أن الصلاة لا تبطل، وقال بعض العلماء - ومنهم الظاهرية-: إن الصلاة تبطل؛ لأنه فعل فعلا منهيا عنه في الصلاة، فكما تبطل الصلاة بالكلام تبطل برفع البصر إلى السماء، لكن القول الصحيح ما عليه الجمهور أن الصلاة لا تبطل، لكن الرجل قد فعل محرما وعرض نفسه للعقوبة. ومن فوائد هذا الحديث: الإنكار على من نشاهدهم إذا رفعوا رءوسهم من الركوع رفعوا وجوههم إلى السماء، وهذا غلط، وعلى من رآهم أن ينصحهم ويبين لهم؛ لأنهم جهال لا يعرفون وأنت عالم فبين لهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية". فإن قال قائل: الحديث "يرفعون أبصارهم" فما قولك فيما لو رفع وجهه وأغمض عينه؟ فالظاهر أنه لا فرق، وأن قوله: "يرفعون أبصارهم" من باب الأغلب أن الإنسان إذا رفع وجهه رفع بصره، وعليه رفع وجهه وهو مغمض عينيه دخل في النهي.

النهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين

فإن قال قائل: لو رفع بصره إلى السماء دون وجهه هل يدخل في الحديث؟ الظاهر أنه يدخل في الحديث، وإن كان الأغلب أن المعنى رفع البصر مع الوجه. ومن فوائد هذا الحديث: تعظيم شأن الصلاة، وأن الإنسان يجب أن يكون فيها على كمال الأدب مع الله عز وجل. ومن فوائد هذا الحديث: بيان قدرة الله - تبارك وتعالى-؛ لأن ما هدد به النبي صلى الله عليه وسلم ممكن وهو أن تخطف أبصارهم في لحظة، والله تعالى على كل شيء قدير. ومن فوائد هذا الحديث: أن التحريم إذا كف الإنسان عن المحرم حصلت به الفائدة، فإذا ترك الإنسان رفع البصر إلى السماء خوفا من هذا لا نقول: إن الرجل مراء، أو أن الرجل أراد بعمله الدنيا، بل نقول: إن الإسلام يرغب الناس ويرهبهم إما بما في الآخرة من ثواب أو عقاب، وإما بما في الدنيا من جزاء أو عقاب، أليست الحدود الشرعية على الزنا والقذف والسرقة موجبة للكف عنها؟ فإذا كف الإنسان عنها خوفا من هذه العقوبة لا نقول: إن الرجل أراد بعمله الدنيا، أليس ذكر الغنيمة في الجهاد في سبيل الله والأسرى وما أشبه ذلك مما يرغب في الجهاد؟ فإذا أراد الإنسان هذه الأشياء مع ثواب الآخرة فإننا لا نقول: إن الرجل مراء أو مشرك. الحديث: "لينتهين أقوام" هل يشمل الواحد؟ نعم يشمل الواحد؛ لأن كلمة "أقوام" تشمل الواجد وما زاد. النهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين: 238 - وله عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان". هذا الحديث ينبغي أن يكون سابقا، أين محله؟ "إذا قدم العشاء فابدءوا به قبل أن تصلوا المغرب" يعني: لو وضعه المؤلف هناك أو أخر ذاك إلى هنا لأنهما من باب واحد، قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بحضرة طعام" "لا صلاة" "لا" نافية للجنس، و"لا" ترد نافية للجنس، وترد نافية للوحدة، يعني: للواحد، فالأولى مبنية يعني اسمها مبني، لأنه مركب معها، وهي تفيد النص على العموم يعني: أن نفيها نص في العموم، مثال ذلك: "لا رجل في البيت" فهي نافية لجنس الرجال، أي: لا يوجد رجل واحد، ولا اثنان، ولا نصف رجل؛ لأنها نافية للجنس لا للمعين، وأما النافية للوحدة - يعني: للواحد- فإنها تعمل عمل ليس وليست نصا في العموم، فإذا تكلم الرجل العربي وقال: "لا رجل في البيت" فليس ككلامه فيما إذا قال: "لا رجل في البيت"،

لماذا؟ لأن الأولى نافية للجنس، أي: لا رجل في البيت، أي: لا يوجد أحد من هذا الجنس، لكن إذا قال: "لا رجل في البيت" عرفنا أنها نافية للواحد؛ يعني: ليس بالبيت رجل واحد، بل رجلان أو ثلاثة أو عشرة، ولهذا يقول: "لا رجل في البيت، بل عشرة"، لكن لو قال: "لا رجل في البيت" لا يمكن أن يقول: "بل عشرة"، والفرق ظاهر، فلننظر إلى هذا الحديث: "لا صلاة بحضرة طعام" هل هي نافية للجنس أم لا صلاة بل صلاتان؟ لا، إذن هي نافية للجنس، أي: أن الصلاة: جنس الصلاة فرض أو نفل ذات ركوع وسجود أو جنازة هذا النفي هل هو نفي للوجود يعني لا يمكن أن يصلي أحد بحضرة الطعام، أو نافية للصحة، أو نافية للكمال؟ هذا ينبني على قاعدة معروفة وهي أن الأصل في النفي وروده على نفي الوجود هذا الأصل، فإن تعذر حمله على ذلك لكون الشيء موجودا انتقلنا إلى نفي الوجود الشرعي وهو نفي الصحة؛ لأن ما لا يصلح شرعا وجوده وعدمه سواء في الشرع، فإن تعذر ذلك يعني: دل الدليل على صحة هذا المنفي انتقلنا إلى مرحلة ثالثة وهي نفي الكمال، إذن نفي الوجود هنا متعذر؛ لأن الإنسان قد يصلي بحضرة الطعام، وقد يصلي وهو يدافعه الأخبثان، نفي الصحة ينبني على وجود الخشوع في الصلاة، إن قلنا: إن الخشوع في الصلاة واجب، وأن الإنسان إذا شغله شيء عن حضور القلب في الصلاة كلها أو أكثرها فصلاته باطلة فالنفي للصحة، وإذا قلنا: إنه - أي: الخشوع في الصلاة - سنة وليس بواجب فالنفي هنا للكمال. بقي أن يقال: هل يمكن أن نحمله على نفي الكمال مع إمكان جمله على نفي الصحة؟ الجواب: لا؛ لأن الأصل في النفي نفي الحقيقة لا الكمال، فنحن قد بحثنا هذا في أول الباب، وبينا أن الذي يظهر ما ذهب إليه الجمهور من أن الخشوع في الصلاة سنة مؤكدة، وإن كان ظاهر كلام شيخ الإسلام رحمه الله في "القواعد النورانية" أنه واجب؛ لأنه أخذ يستطرد في الأدلة ويقول: ومما يدل على وجوب الخشوع ثم يسوق الدليل. وقوله: "بحضرة الطعام" هذا ليس على إطلاقه، بل بحضرة طعام هو في شوق إليه، وتناوله في حقه حلال لابد من هذا القيد، فإن لم يكن مشتاق إليه لم يدخل في الحديث، وإن كان مشتاقا لكن لا يحل له فإنه لا يدخل في الحديث كما سنبين في الفوائد. "ولا وهو بدافعه الأخبثان"، أي: ولا والمصلي؛ فتكون الواو للحال وهو يعود على المصلي، "ويدفعه" أي: تارة يقوى على الصبر على الأخبثين، وتارة لا يقوى مدافعة، و"الأخبثان" هما البول والغائط، والخبث هنا من النجاسة؛ يعني: أنهما نجسان، ونجاستهما بالإجماع بل بالنص والإجماع. فلنعد إلى الفوائد في هذا الحديث، من الفوائد: اعتناء الشرع بالصلاة، وأنه ينبغي للإنسان

أن يقبل عليها وهو خالي الذهن عير مشتغل بشيء، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بحضرة الطعام. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو غلبت الوساوس من تناول الطعام ومدافعة الأخبثين على الصلاة فإنها لا تصلح، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بناء على وجوب الخشوع. ومن الفوائد: تأخير الصلاة عن أول وقتها إلى آخره إذا كان بحضرة طعام أو يدافعه الأخبثان، وجه ذلك: أن تقديمها في أول الوقت سنة، والصلاة حال مدافعة الأخبثين وحضور الطعام إما محرمة أو مكرهة كراهة شديدة، ومن المعلوم أنه إذا تعارض فعل السنة مع درء محرم أو مكروه كراهة شديدة أن يقدم الثاني. ومنها: أن المحافظة على كمال ذات العبادة أولى من المحافظة على كمال وقتها، وجه ذلك: أن الصلاة في أول الوقت أفضل من حيث الزمن، لكن صلاتها بخشوع وحضور قلب أفضل، الفضيلة الأولى تتعلق بالزمن وهذا يتعلق بذات العبادة، وعليه فمراعاة الفضيلة التي تتعلق بذات العبادة أولى من مراعاة الفضيلة التي تتعلق بزمان العبادة. قال أهل العلم: وكذلك ما يتعلق بمكانها: إذا تعارضت فضيلة تتعلق بالمكان وفضيلة تتعلق بحضور القلب؛ فالأولى المحافظة على ما يتعلق بذات العبادة، ومثلوا له بالدنو من الكعبة والرمل إذا تعارض دنوه من الكعبة والرمل في طواف القدوم فمراعاة الرمل أولى من مراعاة القرب من الكعبة؛ لأن الرمل يتعلق بذات العبادة بذات الطواف، وأما القرب فيتعلق بمكانها، ومن ذلك أيضا: لو تعارض السعي بين العلمين في المسعى لكن في الدور الأعلى أو المشي بين العلمين لعدم القدرة على السعي فأيهما يقدم؟ الأول يقدم، هذا إذا قلنا: إن بين الدور الأرضي والأعلى فرقا، أما إذا قلنا: لا فرق؛ لأن الهواء تابع للقرار فلا تعارض أصلا، لكن بعض العلماء أشكل عليهم السعي في الطابق العلوي، ولكنه لا وجه للإشكال لأن الهواء تابع للقرار، والجبلان - الصفا والمروة- يرتفعان فوق مستوى الطابق الأعلى والأوسط أيضا، فيصدق على من سعى في الطابق الأعلى والطابق الأوسط أنه سعى بين الصفا والمروة فلا وجه للإشكال، وبناء على هذا يقول: ليس هناك معارضة بل هناك مفاضلة هل يتعب ويصعد أو يسعى في الأرض، وأكثر الناس أحب إليه أن يصعد ويسعى في استراحة وعدم ضيق. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره أنه يراعي الطعام الحاضر ولو فات الوقت لعموم قوله: "لا صلاة بحضرة طعام"، وهذا عام في الأوقات كلها؛ يعني: عام في كل الوقت، يعني: لا تصلي بحضرة طعام ولو فات الوقت، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، وقال: إن تأخير الصلاة عن وقتها من أجل الحصول على فراغ القلب وعدم شتاته جائز؛ لكن الجمهور يقولون: إنه إذا

خاف فوات الوقت فإنه يصلي ولو كان بحضرة الطعام وهذا أقرب، لكن مسألة مدافعة الأخبثين قد يقال: إنه يؤخرها عن الوقت؛ لأنه لا يمكن أن يصلي وهو يدافع الأخبثين، لاسيما إذا كان من الناس الذي إذا اشتد عليهم الحصار انطلق الأمر من أيديهم، فهذا يعني: أنه لو تمسك ربما يحدث بعير اختيار منه، فالفرق بينهما من حيث المراعاة واضح جدا. ومن فوائد هذا الحديث: مراعاة حال الإنسان وقيامه بحقوق نفسه؛ لأن كونه يحضر الطعام بين يديه وهو مشتاق إليه جدا ويتشوش فكره إذا لم يأكل فنقول له: "كل" هذا لا شك أنه مراعاة ورأفة وتيسير على العبد. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لابد أن يكون مشتهيا للطعام جدا، من أين يأخذه؟ من أننا نعلم أن العلة في النهي عن الصلاة عند حضور الطعام هو ذهاب الخشوع واشتغال القلب، فإذا لم يكن مشتاقا إليه كثيرا فإنه لا نهي؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. ومن فوائد الحديث أيضا: أنه لو حضر عنده طعام لا يمكنه تناوله وهو مشتهيه فإنه لا يدع الصلاة من أجله بل يصلي، وجه ذلك: لأن تركه للصلاة لا يفيد شيئا؛ إذ إنه لو ترك الصلاة ووقف يأكل هل يمكن أن يأكل؟ لا يمكن، وله أمثلة منها: أن يكون الطعام لغيره وهو يعلم أنه لا يأذن في أكله، فهنا الطعام حرام عليه لا يجوز أن يأكله حتى سواء صلى أو لم يصل. ومنها: لو قدم لفطور عند غروب الشمس وقد استيقظ فهل نقول: انتظر لا تصل العصر حتى تفطر بعد الغروب؟ الجواب: لا؛ لأنه لا يستفيد من هذا شيئا، غذ إن لا يمكن أن يأكل. ومن فوائد هذا الحديث: أن إحساس الإنسان بالبول أو الغائط بدون مدافعة لا يمنع من الصلاة؛ لقوله: "يدافعه"، فإحساس الإنسان بالبول أو الغائط بدون مدافعة لا يمنع من الصلاة؛ لقوله: "يدافعه"، فإحساس الإنسان بامتلاء المثانة من البول دون ان يكون هناك مدافعة لا يمنعه من الصلاة لعدم اشتغال القلب. فإن قال قائل: وهل مثل ذلك إذا كان يدافع الريح؟ الجواب: نعم؛ لعدم الفرق؛ ولأن الريح إذا امتلأت الأمعاء منها ربما تخرج بدون اختيار الإنسان فيكون عذره باحتقان الريح كعذره باحتقان البول أو الغائط. ومن فوائد هذا الحديث: وصف البول والغائط بأنهما الأخبثان، فهل يعني ذلك أنهما أغلظ النجاسات؟ الجواب: بالنسبة للآدمي لا شك أنهما أغلظ النجاسات، فالمذي مثلا نجس ولكنه أخف من البول والغائط، فإنه يكفي فيه النضح، والدم - دم الآدمي- عند من يقول بنجاسته أخف من البول أو الغائط فهما أخبثان بالنسبة لما يخرج من الإنسان وليس أخبثان بالنسبة لجميع النجاسات؛ لأن نجاسة الكلب أخبث فإنها لا تطهر إلا بسبع غسلات إحداهما بالتراب. فإن قال قائل: هل النفي هنا "لا صلاة" نفي للابتداء، أو للابتداء والاستمرار؟ فالأصل أنه للابتداء, لكن لو حدث أو لو طرأ على الإنسان في أثناء الصلاة مدافعة الأخبثين فهل تبطل الصلاة, أو نقول: لك أن تنصرف ولك أن تستمر؟ الجواب: الثاني, أن له أن يستمر وله أن ينصرف لكن إذا كانت المدافعة شديدة فالأولى ألا يستمر لما في ذلك من الأضرار على نفسه, واشتغال القلب كثيرًا عن صلاته, فما وجه دخول هذا الحديث في باب الخشوع في الصلاة هو واضح؛ لأن مدافعة الأخبثين وحضور الطعام المباح الذي يشتهيه ينافي الخشوع.

239 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التثاؤب من الشيطان, فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع». رواه مسلم. والترمذي وزاد: «في الصلاة». «التثاؤب» مبتدأ «ومن الشيطان» خبره؛ يعني: أن الشيطان هو الذي يأتي بالتثاؤب, وما هو التثاؤب؟ معروف, ومثل هذه الأشياء لا يمكن أن تحدها أو تعرفها. لو قال لك مثلًا: ما هو العطاس؟ العطاس ربما نقول: أقرب إلى أن يحد وهو «خروج الريح من الأنف بصفة مخصوصة, لكن التثاؤب ماذا نقول؟ هذه الأشياء الفطرية الطبيعية تعريفها صعب, لكن قوله: «من الشيطان» أي: أن التثاؤب الشيطان سببه, «فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» «إذا تثاءب» أي: أتاه التثاؤب؛ لأن قوله: «فليكظم» يقتضي أنه إذا كظم لا يتثاءب, لكن إذا تثاءب أي: طرأ عليه التثاؤب وأحسن به, «فليكظم»؛ أي: فليمنع, ومنه قوله تعالى: {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 119]. أي: المانعين «ما استطاع» أي: بقدر استطاعته, فإن عجز لم يذكر في الحديث لكن جاء في حديث آخر «صحيح»: «إن عجز وضع يده على فيه» , وضعها وضعًا طبيعيًا لا مقلوبة كما اختاره بعض العلماء يقولون: تضعها مقلوبة, وعلل هذا بأنه إذا وضعها على فمه على ظهرها كأنما يدافع الشيطان بيده, ولكن نقول: الحديث لا يدل على ذلك. يقول: زاد الترمذي: «في الصلاة» يعني: أن قوله: «التثاؤب من الشيطان»؛ يعني: أن الشيطان هو الذي يحمل المصلي على التثاؤب؛ لأنه يدل على الكسل والاسترخاء, لكن الأخذ بالعموم أولى؛ لأن سبب التثاؤب واحد لا في الصلاة ولا في غيرها, وهو ميل البدن إلى الكسل, ومن ثم نعلم أن الطفل إذا أتاه النوم من أين نعلم أنه يريد النوم؟ من كثرة تثاؤبه, والإنسان إذا صار كسلام يكثر تثاؤبه. في هذا الحديث من الفوائد: أن للشيطان تأثيرًا على البدن حتى إنه يطرأ منه التثاؤب, ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». ويشهد لهذا أن النبي

صلى الله عليه وسلم أخبر بأن للشيطان في قلب ابن آدم لمة يأمره بالمعصية وينهاه عن الخير. فالشيطان له تأثير على البدن, وهل له تأثير على المرض العضوي, أو نقول: له تأثير على الأمور النفسية فقط كالكسل والغم, والحزن وما أشبه ذلك؟ أما شياطين الجن المعتدون فيؤثرون على البدن تأثيرًا عضويًا, وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان إذا وضع الصبي من بطن أمه يلكزه في خاصرته إلا عيسى؛ ولذلك من حين ما يوضع الطفل من بطن أمه تسمع له صراخ. على كل حال: تأثير الشيطان على البدن من حيث الانفعالات والحزن والفرح بالباطن أمر معلوم لكن هل يؤثر على الأعضاء؟ هذا محل تردد إلا ما جاءت به النصوص. ومن فوائد هذا الحديث: أن عداوة الشيطان تكون في الأمر بالمعصية وفي إيجاد الكسل في الطاعة؛ لأن التثاؤب دليل على الكسل, وإذا حصل في الصلاة دل على أنها ثقيلة على المصلي. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان إذا غلبه التثاؤب فإنه مأمور بكظمه بقدر ما يستطيع, وبهذا نعرف خطأ أولئك الذين إذا حصل لهم التثاؤب صار لهم صوت يشوش به على من حولهم, وهم مخالفون للسنة في هذا؛ لأن الصوت يمكن كظمه, قال بعض أهل العلم: إذا أردت أن تكظم فعض على الشفة السفلى, على كل حال هو مجرب, لكن لا تعض عضًا شديدًا؛ لأنه ربما تخرق الشفة وأنت لا تدري لكن هو مجرب. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات القدرة ونفيها على الإنسان لقوله: «ما استطاع» , وفيه أيضًا إثبات الإرادة للإنسان لقوله: «فليكظم» , فيكون في ذلك رد على طائفة مبتدعة ضالة من هم؟ الجبرية. أسئلة: - ما هو الخشوع في الصلاة؟ - ما الدليل على أن الخشوع ليس بواجب؟ - وهل ينافي الصلاة؟ - وما وجه حديث أنس: «إذا قدم العشاء فابدءوا به»؟ - هل الالتفات يبطل الصلاة؟ - قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم في الصلاة فهو يناجي ربه» كيف ذلك؟ حديث: «قسمت الصلاة» لماذا نهى أن يبصق بين يديه؟

وجوب تنظيف المساجد وتطييبها

6 - باب المساجد «المساجد» جمع مسجد؛ أي: مكان السجود, وهو نوعان: الأول: مكان مخصوص كالمساجد المعروفة المقامة في الأحياء. والثاني: عام لكل الأرض, فيكون محل السجود مسجدًا. دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا». والمراد بهذه الترجمة التي ذكرها المؤلف المراد الأول: المساجد الخاصة التي تبنى ليتخذها الناس مصلى, وأحكام المساجد كثيرة أفردها بعض العلماء بالتأليف لأهميتها, وبعض العلماء يذكر شيئًا منها في الباب المناسب, هل نقول أن المناسب أن تذكر هذه المساجد أي يذكر الكلام عليها حينما يتكلم عن طهارة بقعة المصلي أو أن تذكر في باب الجماعة؟ الجواب: لكل أحد من العلماء رأي في هذا والمقصود ألا تخرج عن إطار كتاب الصلاة لتعلقها بالصلاة. وجوب تنظيف المساجد وتطييبها: 240 - عن عائشة رضي الله عنه قالت: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور, وأن تنظف وتطيب». رواه أحمد, وأبو داود, والترمذي, وصحح إرساله. قولها رضي الله عنها: «أمر» الأمر هو طلب الفعل على وجه الاستعلاء بأن يقول السيد لعبده: افعل كذا, فإن كان على وجه التذلل فهو دعاء ومسألة, وإن كان من القرين لقرينه فهو التماس, هكذا قال علماء البلاغة, فإذا توجه الأمر من الله أو من رسوله فهو أمر يقصد به الفعل. وقولها رضي الله عنها: «أمر ببناء المساجدد». «أمر» لم تذكر الصيغة التي وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم, هل قال مثلًا: ابنو المساجد في الدور, أو قال: لا تخلو الدور من المساجد, أو ما أشبه ذلك؟ فيقال: الأصل أن يحمل قول الصحابي أمر بكذا على الأمر الحقيقي, وهو ابنوا المساجد. فإن قال: قائل: ربما يفهم الصحابي الخبر أمرًا؟ فالجواب: هذا بعيد أن يفهم الصحابي الخبر أمرًا, ثم أبعد منه أن يحدث بما لا يتيقن أن النبي صلى الله عليه وسلم أراده, فقول بعض العلماء - رحمهم الله -: إن الصحابي إذا عبر بكلمة «أمر» ليس صريحًا في الأمر لاحتمال أن يظن الخبر أمرًا, هذا قول ضعيف جدًا ولا يعول عليه؛ لأن الصحابي يعلم صيغة الأمر؛ ولأنه لا يمكن أن يتكلم بما لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أراده. وقولها رضي الله عنها: «ببناء المساجد في الدور» الدور جمع دار, والمراد بها: الأحياء, وسميت دورًا لاجتماع الدور فيها, «وأن تنظف وتطيب» تنظف من الأذى, وأعظمه النجاسة والقذر, وتطيب

يحتمل أن المراد بالتطهير: وضع الطيب فيها إما بالبخور, أو بالأدهان أو ما أشبه ذلك, ويحتمل أن يراد بالتطيب: إزالة آثار التنظيف, كقول عائشة رضي الله عنها في السواك الذي دخل به أخوها على النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتضر قالت: «فقضمته وطيبته». أي: جعلته طيبًا يمكن التسوك به, والمعنيان كلاهما صحيح, فإن تطييب المساجد بهذا وهذا من الأمور المطلوبة. في هذا دليل على مسائل: منها: حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن تجتمع أمتته في هذه العبادة العظيمة - الصلاة - في مكان واحد؛ ولذلك أمر ببناء المساجد. ومنها: أن بناء المساجد فرض كفاية؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب؛ والمقصود من بناء المساجد: هو تحصيل المسجد, وهذا يكفي من الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة, فيكون بناؤها فرض كفاية, وقد ورد في فضل بناء المساجد أحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة». لأن الجزاء من جنس العمل. ومنها: أنه يجب أن يوضع فغي كل حي مسجد وهذا يختلف, يعني: من ناحية الحكم يختلف إذا كانت الأحياء صغيرة متقاربة, هل نقول: يلزم أن نبني في كل حي مسجدًا؟ لا, لكن إذا كانت كبيرة أو متباعدة وجب أن نبني في كل مسجدًا؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بهذا. من فوائد هذا الحديث: مشروعية تنظيف المساجد وهو نوعان: نوع واجب, وذلك بتنظيفها من القذر, ودليل هذا قوله صلى الله عليه وسلم حين بال الأعرابي قال: «أريقوا على بوله سجلًا من ماء» أو قال: «ذنوبًا من ماء». ويدل لذلك أيضًا قوله تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: 125]. والثاني: تنظيف عن الأذى الذي ليس بقذر, فهذا الأصل فيه أنه سنة كأن تلقط ورقة ساطقة أو ريشة ساقطة أو ما أشبه ذلك, لكن إن خيف أن تجتمع هذه الأوساخ حتى تكون رائحة سيئة خبيثة, فالتنظيف حينئذٍ يكون واجبًا لإماطة الأذى. ومن فوائد هذا الحديث: تطييب المساجد, وهو كما قلنا في الشرح «تطييب» بمعنى: إزالة أثر الأذى والقذر وما أشبه ذلك, وتطييب بمعنى: وضع الطيب فيها, وكلاهما مشروع. فإن قال قائل: ما بالك تفصل هذا التفصيل مع أن الحديث واحد: «أمر ببناء المساجد وأن تنظف وتطيب»؟

قلنا: لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم يفسر بعضها بعضًا, فيجب أن يحمل ما دل منها على شيء على ما تقتضيه النصوص الأخرى؛ لأن الشرع يكمل بعضه بعضًا, فلا يمكن أن نأخذ بحديث وندع الأحاديث الأخرى, كما لا يمكن أن نأخذ بآية وندع الآيات الأخرى. ومن فوائد هذا الحديث: هل يمكن أن نقول: يجب على أهل الأحياء أن يصلوا في مساجدهم؟ هذا فيه شيء من الثقل, أما وجه القول بالوجوب فلأننا نقول: إذا لم يكن الناس يأتون إلى هذه المساجد صار بناؤها عبثًا وإضاعة مال ولا فائدة منه, ومعلوم أن الشريعة لا تأتي بمثل هذا, فيكون وجوب بناؤها دليلًا على وجوب الحضور إليها, وإلا فلا فائدة, فإن استقام هذا الاستدلال فذلك المطلوب, وإن لم يستقم قلنا: إن وجوب الحضور إلى المساجد له أدلة أخرى, وأنه لا يجوز أن يتخلف الناس عن المساجد ويصلون في بيوتهم. وقوله: «وصحح إرساله الترمذي». الإرسال في اصطلاح المحدثين: تارة يراد به ما رفعه التابعي أو الصحابي الذي لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم, يعني: تارة يريدون بالمرسل هذا, وهذا هو المرسل الخاص الذي أسنده التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي الذي لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم, فالذين لم يبلغوا التمييز في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رووا الحديث فهو مرسل؛ لأنهم يسمعوه منه, فنقطع أن بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم واسطة كمحمد بن أبي بكر فإنه ولد في عام حجة الوداع فلو أسند حديثًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لقلنا: إنه مرسل, ولكن هل هو حجة - أعني: مرسل الصحابي - أو لا؟ الصحيح: أنه حجة؛ لأن الصحابي لا يمكن أن يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا جازمًا به إلا إذا كان رواه عن صحابي أو تابعي ثقة؛ لأن عندهم من الأمانة والخشية لله عز وجل والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عندنا, وتارة يطلق المرسل عند المحدثين على ما سقط منه راوٍ في أي مكان من السند, وهذا يعلم بالتتبع, لكن لا تظن أنه كل ما قيل في الكتب المصنفة إنه مرسل؛ يعني: أنه رفعة التابعي أو الصحابي الذي لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأننا بالتتبع وجدنا أنهم قد يطلقون المرسل على ما سقط منه راو أو أكثر في أي مكان. إذا تعارض مرسل وواصل فهل نأخذ بالمرسل لأنه أحوط, أو نأخذ بالواصل لأن معه زيادة علم؟ الصحيح: الثاني أننا نأخذ بالواصل, والقول بأننا نأخذ بالمرسل لأنه أحوط يقابل بأننا نأخذ بالواصل لأنه أحوط, حتى لا تدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم, فالصحيح أنه إذا كان الواصل ثقة فإننا نأخذ بوصله؛ لأن الوصل زيادة, وزيادة الثقة مقبولة. ***

النهي عن اتخاذ القبور مساجد

النهي عن اتخاذ القبور مساجد: 241 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». متفق عليه. وزاد مسلم: «والنصارى». وفي رواية في غير هذا الحديث: «لعنة الله على اليهود والنصارى». «قاتل» بمعنى: أهلك يتعين هذا؛ لأن من قاتل الله فهو هالك على كل حال, وجاءت بلفظ المقاتلة؛ لأنه لما كان هذا المعاند المخالف لشريعة الله عز وجل سميت الدعوة عليه بالإهلاك مقاتلة كقتال المتنازعين, اليهود هم الذين يزعمون أنهم أتباع موسى, سموا بذلك إما لأن جدهم يسمى يهوذا, ولكنه عرب فصار يهودًا, وإما أنه من هاد يهود بمعنى: رجع لقولهم: {إنا هدنا إليك} [الأعراف: 156]. وقوله تعالى: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا} لمن {للذين هادوا} [المائدة: 44]. ويحتمل أن يكون هذا راجعًا للأمرين جميعًا: أنهم هادوا؛ أي: رجعوا إلى الله وتابوا من عبادة العجل, وأن جدهم كان يسمى بهذا الاسم, ثم قال: «اتخذوه قبور أنبيائهم مساجد» هذه الجملة تعليل للحكم الذي قبلها يعني: كأنه قيل: لم؟ فقال: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد, أي: صاروا يصلون عند القبور سواء بني عليها أو لم يبن؛ لأنه إذا اتخذ هذا المكان مصلى فقد اتخذه مسجدًا بلا شك سواء بنى عليه بناية أو لم يبن, وزاد مسلم: «والنصارى»؛ النصارى هم أتباع عيسى, وسموا نصارى إما لقولهم: {نحن أنصار الله} [الصف: 14]. وإما نسبة إلى بلدهم «الناصرة» وهي معروفة, ويمكن أن يقال للوجهين جميعًا. أسئلة: - للمساجد معنيان ما هما؟ - ما حكم بناء المساجد في المدن والقرى؟ - هل يمكن أن يستدل بهذا على وجوب صلاة الجماعة؟ - قولها: «تنظف وتطيب» ما الفرق بينهما؟ - ما هو الدليل على أن مثل هذا يكون تطيبًا؟ - «قاتل الله اليهود» , ما المراد بـ «قاتل»؟ ولماذا جاءت بلفظ المقاتلة؟ - ما معنى قوله: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»؟ ***

242 - ولهما: من حديث عائشة رضي الله عنها: «كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا» , وفيه: «أولئك شرار الخلق». قوله: «ولهما» أي: للبخاري ومسلم «كانوةا» أي: النصارى «كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح» هذا أعم من كونه نبيًا أو غير نبي, الصالح هو المستقيم في دينه سواء كان نبيًا أو غير نبي «بنوا على قبره مسجدًا» وهذا يوضح معنى قوله: «اتخذوةا قبور أنبيائهم مساجد» , وفيه: «أولئك شرار الخلق» يعني: عند الله «أولئك» بالكسر؛ لأن الكاف اسم للإشارة تكون حسب المخاطب, واسم الإشارة يكون حسب المشار إليه, وفي هذا امتحان للطالب. فإذا قيل لك: أشر إلى واحد مخاطبًا اثنين كيف تقول: «ذلكما» كما قال عز وجل عن يوسف: {ذلكما} يخاطب صاحبي السجن {مما علمني ربي} [يوسف: 37]. أشرف إلى أنثى مخاطبًا أنثى؟ «تلك» هذه هي اللغة المشهورة الفصحى أن الكاف تكون بحسب المخاطب, إن مفردًا مذكرًا صارت مفردًا مذكرًا, وإن مثنى صارت للتثنية, وإن جمعت جمع ذكور صارت للجمع بالميم, وإن جمعت جمع إناث صارت بالجمع بالنون قال الله تعالى: {قالت فذالكن الذي لمتنني فيه} [يوسف: 32]. «فذلكن» تشير إلى واحد وهو يوسف, ولهذا أتى بـ «ذا» تخاطب نسوة جماعة, فيه لغة أخرى أن الكاف بالفتح والإفراد مطلقًا على اعتبار الشخص, وإذا كان المخاطب جماعة أو منثى فهو باعتبار الجنس باعتبار الشخص لكونها مفردًا مذكرًا وباعتبار الجنس لكونها مفردة لا مثناة, ولا مجموعة, فيه لغة ثالثة: أنه إذا خوطب بها النساء فهي بالإفراد والكسر, مطلقًا وإذا خوطب بها الرجال فهي بالإفراد والكسر لكن اللغة الأولى هي الفصحى هنا «أولئك شرار الخلق» المخاطب أنثى واحدة والمشارة إليه جماعة وهم الذين يبنون على قبور صالحيهم. في هذا الحديث من الفوائد: أن الشرك عظيم جدًا, وذلك لعظم وسائله وذرائعه, فأصل المسجدلا إذا بني على القبر إنما يصلى لله لكن في هذا المكان هذا هو الأصل, لكن لما كان يخشى أن صاحب القبر يعبد صار البناء على قبره من كبائر الذنوب, والتعظيم في الوسيلة يدل على عظم الغاية. ومن فوائد هذا الحديث: حماية الشريعة لجانب التوحيد حماية كاملة بحيث سدت جميع الوسائل التي قد تؤدي إلى الشرك. ومنها: تحريم بناء المساجد على القبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الدين يبنون المساجد على القبور بأنهم شرار الخلق.

ومنها: أن البناء على القبور فيه التشبه باليهود والنصارى, فيكون هذا الواقع في هذه الأمة مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لتركبن سنن من كان قبلكم» , قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟ ». وعلى هذا فالذي يبني مسجدًا على القبر مشابه تمامًا لليهود والنصارى. ومن فوائد الحديث: وجوب هدم المسجد المبني على القبر, وجه الدلالة: أن البناء هذا من كبائر الذنوب ولا يجوز إقرار الكبائر, هذه واحدة. ثانيًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهدم المسجد الضرار. مع أنه لم يبن على قبر لكن فيه مضارة لمسجد إلى جانبه, فما كان وسيلة إلى الشرك فهدمه من باب أولى. ومنها: مسألة اختلف فيها هل تصلح الصلاة في هذا المسجد الذي بني على القبر أو لا تصح؟ في هذا خلاف بين أهل العلم منهم من قال: إنها تصح؛ لأن المحرم هو بناء المسجد, وهو منفصل عن الصلاة, ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة في المساجد المبنية على القبور فهو كما لو صلى الإنسان في مكان مغصوب, والراجح أن الإنسان إذا صلى في مكان مغصوب فصلاته صحيحة مع الإثم وهذا مذهب الأئمة الثلاثة, القول الثاني: أن الصلاة فيه لا تصح؛ لأنه منهي عنها بطريق اللزوم, وهو أن الصلاة في هذا المسجد وسيلة إلى عبادة صاحب القبر فتكون منهيًا عنها نهي الوسائل, وإذا كان العمل منهيًا عنه صار إيجابه مضادة لله ورسوله, فيقتضي المنع منع تنفيذ هذا الشيء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» وهذا القول أقرب للصواب, إن الصلاة في المساجد المبنية على القبور حرام غير صحيحة, لاسيما إذا كان المصلي ممن ينظر إليه النار نظر إمامة؛ أي: أنهم يقتدون به, فهنا يتضاعف الإثم ويقوى القول بأن الصلاة غير صحيحة. ومن فوائد هذا الحديث: أن الشرع يتفاضل لقوله: «أولئك شرار الخلق» وهو كذلك كما أن الخير يتفاضل, ويلزم من هذا أن تتفاضل الأعمال, ويلزم لزومًا آخر أن يتفاضل العمال, وهذا هو الحق أن الأعمال تتفاضل صالحها وسيئها, وأن العمال يتفاضلون بحسب أعمالهم, وعليه فنقول: الإيمان يزيد وينقص؛ لأن العمل من الإيمان؛ إذا تفاضل العمل لزم من ذلك تفاضل الإيمان, وهذا هو الحق أن الإيمان يتفاضل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, ويزيد أيضًا لقوة الآيات المشاهدة وضعفها, فإن الإنسان كلما شاهد الآيات ازداد إيمانًا بالله عز وجل ولهذا قال إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -: {رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 360]. والإنسان يشاهد هذا في نفسه كلما رأى آية عظيمة خارجة عن المألوف

حكم دخول الكافر للمسجد

فإنه يزداد إيمانًا بلا شك, وقولنا: خارجة عن المألوف؛ لأن المألوفات قد لا تؤثر في الإنسان تأثيرًا بينًا لأنها مألوفة عنده كطلوع الشمس وغروبها, لا شك أنها من آيات الله العظيمة ومع ذلك هي عند الناس مألوفة لا تؤثر ذلك التأثير, لكن لو يحصل كسوف أو أشياء أخرى في الشمس أو القمر ازداد الإنسان إيمانًا؛ إذن الإيمان يزيد باليقين القار في القلب وبالأعمال. قال رحمه الله: حكم دخول الكافر للمسجد: 243 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلًا, فجاءت برجل, فربطوه بسارية من سواري المسجد». الحديث. متفق عليه. «بعث خيلًا» أي: للقتال والجهاد في سبيل الله, «فأسروا رجلًا» جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا الرجل يقال له: ثمامة بن أثال, جاءوا به وكان قد خرج يعتمر فأصابوه في الطريق فأتوا به وهو من أشراف أهل اليمامة وله كلمة فيهم, ربطه النبي صلى الله عليه وسلم بسارية أي: بعمود من ساري المسجد, والغرض من ربطه شيئان: الأول: أن يشاهد صلاة المسلمين. والثاني: أن فيه نوع من الإهانة أن يكون رجل يربط بعمود من عمد المسجد, هذا فيه نوع من الإهانة, لأنه كان شريف قومه. وقول المؤلف رحمه الله: « .... الحديث» يعني: إلى آخر الحديث يشير إلى أن الحديث مطول, وأنه اختصره وأتى بالشاهد فقط, القصة: أنه لما جاءوا به وربطوه في المسجد مر به النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: «ماذا عندك؟ قال له: «إن تقتل تقتل ذام دم» يعني: تقتل مستحقًا للقتل, وإن تنعم تنعم على شاكر, وإن أردت المال فسل ما تشاء, ثلاثة أشياء خير النبي صلى الله عليه وسلم فيها «إن تقتل تقتل ذا دم» , أي: مستحقًا للقتل, و «إن تنعم تنعم على شاكر» , «وإن تريد المال فسل ما شئت» تركه النبي - عليه الصلاة والسلام - جاء في اليوم الثاني ومر به, وقال: «ماذا تريد؟ » قال: ما قلته: «إن تنعم تنعم على شاكر» , ولم يذكر إن تقتل تقتل ذا دم, ولا إن كنت تريد المال فسل, أتى بشيء واحد يعرض بأن النبي صلى الله عليه وسلم يمن عليه ويطلقه وأنه سينعم على شاكر فتركه, في اليوم الثالث مر به وقال: «ماذا عندك» فأعاد عليه قال: عندي ما قلت لك, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاقه؛ فوقع هذا المن من رسول الله صلى الله عليه وسلم موقعه من هذا الرجل الكبير, فخرج من المسجد وذهب واغتسل, ثم جاء فدخل المسجد, وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله, تشهد وأعلن ذلك في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فبشره النبي صلى الله عليه وسلم, يعني: بشره بالخير, ثم أقسم أنه كان لا يرى وجها أبغض إليه من وجه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: وإن وجهك اليوم لأحب الوجوه إلي, وكنت لا أرى دينًا أبغض إلي من دينك, وإن دينك اليوم أحب إلي من كل دين. فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك

وأمره أن يذهب إلى عمرته؛ فذهب واعتمر ودخل مكة يلبي بغير تلبية المشركين, تلبية المشركين يقولون: لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك, هو قد دخل بالتلبية الخالصة بالتوحيد فأنكرت عليه قريش, وقالوا له: صبأت, قال: لا, أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم, والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة إلا بأذن النبي صلى الله عليه وسلم, لما قال هذا وكانوا هموا بقتله قال بعضهم لبعض: لا تقتلوه يحبس عنا الطعام؛ لأن مكة غير ذي زرع, فتركوه ومنع صدور الحنطة إليهم, فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده وتقول: أنت تصل الرحم وتكسب المعدوم, وذكروا من صفاته - عليه الصلاة والسلام - وأخبروه بما قال ثمامة بن أثال, فشفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة أن يبعث إليهم بالحنطة صلة للرحم. وتعظيمًا للبيت, وإن كان هؤلاء مشركين. هذه قصة ثمامة بن أثال, وفيها عبر وهي: أن المن قد يكون خيرًا من الانتقام, فإن النبي صلى الله عليه وسلم لو قتله قتله على الكفر ولم يستفد هذه الفائدة العظيمة: إعلانه في مكة التي أهلها مشركون أنه تابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا أن يحصل أنهم يتشفعون به إلا ثمامة ليرسل لهم الطعام. وفيه أيضًا: دليل على أنه يجوز للإمام أن يمن على الأسير بغير فداء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم من عليه. نرجع إلى المقصود من المؤلف لسياق هذا الحديث: ففيه دليل على جواز ربط الأسير من حيث الجملة سواء في المسجد أو في السوق أو في البيت المهم ربط الأسير, والأسير يخير فيه الإمام بين أمور: القتل, والمن مجانًا, والفداء بأسير مسلم, والفداء بمال, أو منفعة يخير فيه, وهل هذا التخيير على حسب شهوته وإرادته, أو على حسب المصلحة؟ الثاني؛ لأن كل من له ولاية على شيء فالوةاجب عليه أن يراعي المصلحة فيما خير فيه, لا يراعي مصلحته الشخصية, فاختار النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأربعة خيارات أن يمن عليه, فإذا كان الإنسان يعلم أن هذا الأسير إذا من عليه لكونه شريفًا يرى أن المن عليه كبير أن يمن عليه وتكون العاقبة والنتيجة حميدة. من فوائد هذا الحديث: جواز دخول الكافر المسجد؛ لأن ثمامة ما ربط في اسارية إلا بعد دخوله المسجد, فهل يجوز دخول الكافر المسجد أو لا؟ يجوز, بعض العلماء يقول: لا يجوز مطلقًا, واستدلوا بقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. وقالوا: إذا كان الكافر يمنع من دخول حرم مكة وإن كان في غير المساجد, فالمساجد التي هي بيوت الله من باب أولى, وأجابوا عن حديث ثمامة بأنه منسوخ, ولكن هذا ليس بصواب؛ لأن لمكة وحرمها من التعظيم والتشريف

والإكرام ما ليس لغيرها؛ ولهذا لا يوجد بقعة يشرع لقاصدها أن يحرم إلا مكة, فلا يمكن أن يقاس عليها غيرها, وادعاء النسخ يحتاج إلى شيئين: الأول: العلم بالتاريخ. والثاني: تعذر الجمع, فإن لم يتعذر الجمع فهو واجب, وإذا لم نعلم التاريخ فيجب التوقف, إذن الصحيح أنه يجوز أن يدخل الكافر المسجد, ولكن هل هذا بلا قيد أو بقيد؟ يجب أن يكون بقيدة, فإذا علمنا أنه دخل المسجد ليأخذ صورة يعرضها على قومه ويقول: انظروا إلى مساجد المسلمين, وانظروا إلى الكنائس عندنا كيف تكون الكنائس مرصعة بالذهب وموشاة بالنقوش وما أشبه ذلك, وهذه مساجدالمسلمين, فهذا يمنع منعًا باتًا ولا يمكن أن يمكن من دخول المسجد لما في ذلك من الضرر على المسلمين فهذا يمنع, كذلك إذا خيف منه الإضرار بالمسجد كتخريق فرشه وإفساد أنواره وما أشبه ذلك, فإنه يمنع بلا شك؛ لأن هذا لو وقع من غير الكافر منع فكيف بالكافر. الثالث: أن يدخل المسجد لمصلحة المسجد كرجل مهندس فني دخل ليصلح المسجد يصلح أضواءه أو مكبر الصوت فيه أو غير ذلك فهذا لا شك أنه جائز؛ لأن دخوله الآن لمصلحة المسجد وليس في دخوله ضرر. الرابع: أن يدخل المسجد ليطلع على صلاة المسلمين لا لقصد الشماتة بهم, ولكن ليتعرف على الإسلام كيف هو وكيف العبادات فهذا جائز, بل مطلوب لعل في ذلك دعوة له للإسلام فهذا مطلوب. الخامس: أن يدخل المسجد ينتفع بدخوله كما لو دخل ليشرب من الثلاجة التي في المسجد أو دخل المسجد لهبوب رياح باردة, أو لحرارة شمس أو ما أشبه ذلك فهنا نمكنه من الدخول حتى يرى أن في الإسلام فسحة, وأن الإسلام يراعي مصلحة البشر إذا لم يكن في ذلك ضرر على الدين, والقاعدة أنه إذا تضمن دخول الكافر المسجد إضرار بالمسجد أو بسمعة المسلمين فإنه يمنع, وإذا كان لمصلحة الداخل كشرب ماء, أو استظلال عن شمس, أو اتقاء لبرد فهذا جائز, وإذا كان للدعوة إلى الإسلام ومعرفة عمل المسلمين في صلاتهم فهذا مطلوب, وكذلك لو كان لمصلحة المسجد إذا لم يوجد مسلم يقوم مقامه, فإذا وجد مسلم يقوم مقامه فلا ينبغي أن يؤتى بكافر. ومن فوائد هذا الحديث: أن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم سواري؛ أي: أعمدة وهذا معروف, ولكن كلما قلت الأعمدة في المسجد فهو أفضل حتى لا تحول الأعمدة بين المصلين. فإذا قال قائل: وهل يجوز أن يصلي الناس بين الأعمدة في الجماعة؟

حكم إنشاد الشعر في المسجد وشروطه

نقول: أما إذا كان العمود صغيرًا لا يقطع الصف فلا بأس, وأما إذا كان واسعًا يقطع الصف فهذا يكره, إلا إذا دعت الحاجة إلى هذا كالحرمين في أيام المواسم فإن الناس يحتاجون إلى أن يصلون بين السوةاري حتى لو كان حجمها صغيرًا, لأن الحاجة داعية لذلك. أسئلة: - ما اسم الرجل الذي أسره المسلمين؟ - ما مكانته في قومه؟ - ما نتيجة من الرسول عليه؟ حكم إنشاد الشعر في المسجد وشروطه: 244 - وعنه رضي الله عنه «أن عمر رضي الله عنه مر بحسان ينشد في المسجد, فلحظ إليه, فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك». متفق عليه. يقول: أن عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين مر بحسان بن ثابت أشهر شعراء النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرهم شعرا في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وهو الشاعر المشهور, يقول: مر به عمر وهو أمير على المؤمنين ينشد في المسجد, يعني: يتلوا قصائده, وهل هو بغناء أو لا؟ نقول: لا يشترط أن يكون بغناء, الإنشاد هو إلقاء الشعر سواء كان بغناء أو بغير غناء, «فلحظ إليه» أي: نظر إليه نظر خفية كالمنتقد له, ففهم ذلك حسان رضي الله عنه فقال: «قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك»: قد كنت أنشد فيه - أي المسجد -, وفيه من هو خير منك يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومعنى الحديث ظاهر: أن حسانًا رضي الله عنه كان ينشد في المسجد فلما رأى عمر رضي الله عنه ينظر إليه نظر إنكار أجابه ودافعه بأنه كان ينشد وفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي هذا الحديث فوائد؛ منها: جواز إنشاد الشعر في المسجد لهذا الحديث, وهل نقول: إنه بإقرار عمر, أو بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم؟ الثاني بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم, لكن هذا مشروط بأن يكون موضوع الشعر موضوعًا مفيدًا وليس موضوع لهوٍ وإنشاد للمآثر وما أشبه ذلك مما ينشد عن السابقين فيكون الشعر فيه مصلحة. الشرط الثاني: ألا يؤذي بذلك أحدًا, فإن آذى المصلين فإنه يمنع للأذية, ودليل هذا الشرط أن النبي صلى الله عليه وسلم منع آكل البصل والثوم من دخول المسجد لئلا يتأذى الناس بالرائحة, فكيف إذا تأذوا بما يسمعون من أصوات هذا المنشد يشوش عليهم صلاتهم ودعاءهم وقراءتهم, وغير ذلك! ! الشرط الثالث: ألا يلزم منه تجمع الناس عنده حتى يشوش على أهل المسجد؛ لأنه إذا

كان المنشد جيد الإنشاد حسن الصوت فإنه لابد أن يسلب عقول الناس ويتجمعوا إليه فإذا حصل هذا منع لئلا يشوش على الناس, ولئلا تحصل الفتنة بهذا الرجل فيزدحم الناس عليه. ومن فوائد هذا الحديث: أدب عمر رضي الله عنه؛ حيث إنه لم ينكر عليه رأسًا, لكن لحظك عليه لحظة؛ لأنه - أي: عمر رضي الله عنه - كان في قلبه أن هذا الرجل لا يمكن أن ينشد في المسجد إلا عن برهان لكن مع ذلك لم يتركه بل لحظه. وفيه من الفوائد: بأنه أخبره أأن النبي صلى الله عليه وسلم يقره. ومن فوائد هذا الحديث: جواز العمل بالإشارة, ولاسيما التي تظهر على وجه افنسان فهو يشبه العمل بالفراسة, يؤخذ من فهم حسان أن عمر ينكر عليه, وهذا شيء مفطور عليه الناس أنهم يحسون برضا الإنسان وكراهة الإنسان فيما يظهر على وجهه, وقد قال الله تعالى: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح: 29]. وقال: {تعرفهم بسيماهم} [البقرة: 273]. وقال: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفناهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد: 30]. فالعمل بمثل هذه القرائن له أصل في الشريعة, لكن هل يكون هذا بينة ملزمة أو لا؟ الجواةب: لا, لكنه قرينة ينبغي بعد وجودها أن يبحث الإنسان. ومن فوائد هذا الحديث: جرأة الصحابة - رضي الله عنهم - بالحق وذلك في قول حسان: «قد كانت أنشد فيه وفيه من هو خير منك» لأن هذه بالنسبة لعمر رضي الله عنه عبارة قوية, وكان يغني عنها لو شاء بأن يقول: قد كنت أنشدفيه وفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضًا: العمل بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم, وأن ما أقره فهو حجة؛ لأن حسانًا استدل بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم إياه على الإنشاد في المسجد, ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل؛ ولهذا جعل العلماء سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام: القول, والفعل, والإقرار, يعني: إقرار غيره على الشيء, ولكن ما أقر عليه فإما أن يكون مما يتعبد به فيكون عبادة, وإما أن يكون مما لا يتعبدبه فلا يكون عبادة, ولكن يكون جائزًا. ولكن الذي يقره من العبادات هل يكون من سنته التي يدعى إليها جميع الناس أو لا يكون؟ الجواب: سبق لنا هذا, وقلنا: إنه لا يكون من سنته التي يدعى إليها الناس, وضربنا لهذا أمثلة؛ منها: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي كان يقرأ لقومه في سفره فيختم بـ {قل هو الله أحد}. فأقره لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه لأمته لم يقل لأمته إذا قرأتم القرآن فاختموا بـ {قل هو الله أحد} , أو هو يفعله أيضًا لكنه من باب الجائز, لكن إقرار مثل هذا الفعل من السنة, ففرق بين أن تقول:

حكم إنشاد الضالة في المسجد

الفعل من السنة, أو الإقرار من السنة, نحن لا ننكر على هذا الرجل إذا التزم بـ {قل هو الله أحد} يختم بها لا ننكر عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره لكننا لا نقول للناس اختموا قراءة الصلاة بـ {قل هو الله أحد} , ومن ذلك الوصال في الصوم هو جائز, لكن المبادة بالفطر أفضل منه حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر». ومن ذلك أيضًا إقراره عائشة رضي الله عنها على الإتيان بعمرة حينما أنشأت الإحرام بالعمرة لتكون متمتعة, ولكن حال بينها وبين إتمامها أنها حاضت في أثناء الطريق فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل الحج على العمر لتصير قارنة وأخبرها أنها بذلك حصل لها حج وعمرة, فقال لها: «طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك» , لكنها لم تطلب نفسها إلا بأن تأتي بعمرة مستقلة حتى لا يفخر عليها زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ويقلن: أتينا بعمرة وحجة وأنت أتيت بالحج, وحينئذ لا نقول: يسن لكل امرأة أحرمت متمتعة ثم حاضت قبل أداء العمرة وقرنت أن تعتمر بعد الحج, لكن لو فعلت فلا حرج, لا نقول: إنها مبتدعة, أو ننهاها عن هذا, بل نقول: لا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط أمته كلامًا عامًا, ويقول: من اعتمرت متمتعة ثم حاضت قبل أن تؤدي العمرة فلتأت بها بعد الحج, بل إن ظاهر محاورته مع عائشة أن الأفضل عدم ذلك؛ ولهذا جاء في بعض روايات مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد قال لها ذلك مداراة لها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يكون الإنسان قلقًا في شيء من عبادته, ما دام الأمر واسعًا فليفعل. ومن فوائد الحديث: بيان حرمة المساجد وأن ذلك أمر مشهور عند الناس؛ وذلك لأن عمر لحظ حسانًا, وحسان أخبر بأنه يفعل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. حكم إنشاد الضالة في المسجد: 245 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع رجلًا ينشد ضالةً في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك, فإن المساجد لم تبن لهذا». رواه مسلم. قوله: «من سمع رجلًا ينشد» كلمة «رجل» يعني: أن رجل, حتى لو فرض أنه لو سمع امرأة فالحكم واحد, «ينشد ضالة» أي: يسأل عنها من رأى ضالته, من عينها, من حفظها, وما أشبه ذلك من العبارات, والضالة هي الضائع من المواشي, وهي ضالة الإبل, ضالة الغنم, ضالة البقر, فمن سمع من ينشدالضالة «فليقل: لا ردها الله عليك» الجملة هنا خبرية؛ لأن الفعل فيها ماض منفي, والمراد بها: الدعاء, يعني: أنك إذا سمعته تدعو الله ألا يردها عليه, «فإن

المساجد لم تبن لهذا» يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلًا من النبي صلى الله عليه وسلم للحكم, ويحتمل أن تكون مقرونة بالقول لهذا المنشد, بمعنى أن نقول: عندما نسمع من ينشد الضالة «لا ردها الله عليك» فإن المساجد لم تبن لذلك, ويحتمل أن نقتصر على قوله: «لا ردها الله عليك» ونقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم علل الدعاء بعدم ردها أن المساجد لم تبن لذلك الاحتمال متوازن, ولكن في هذه الحال ينظر ما تقتضيه الحال إذا كان قولها لهذا الذي ينشد فيه طمأنينة فالأولى أن تقال: وإذا كانت ربما تفتح باب الجدل؛ لأن قوله: «هذه المساجد لم تبن لهذا» لكن ما المعنى؟ فالأولى حذفها فينظر الإنسان في هذه المصلحة, فإن لم تتبين المصلحة فالأفضل أن يقولها؛ لأنها لا شك سوف تقنع هذا المنشد إذا بين له أن المساجد لم تبن لهذا؛ إذن لأي شيء بنيت؟ قلنا كما قال الرسول - عليه الصلاة والسلام - لقراءة القرآن والذكر والصلاة, والعلم وما أشبه هذا. من فوائد هذا الحديث: تحريم إنشاد الضالة في المسجد, وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لنا, بل أمرنا أن ندعو الله تعالى ألا يردها عليه, ولا شك أن من دعا على صاحب الضالة ألا يردها عليه لا شك أن عدوان, والعدوان لا يجوز إلا إذا كان في مقابل عدوان, يعني: لو سمعت رجلًا ينشد ضالة في السوق, هل يجوز أن تقول: لا ردها الله عليك؟ لا يجوز, وما كان ممنوعًا فإنه لا يباح إلا لدفع ما هو مثله أو أعظم, وعلى هذا فنقول: في هذا الحديث دليل على تحريم إنشاد الضالة في المسجد. وهل يقاس على الضالة اللقطة؛ لأن الضالة هي الضائع من الحيوان: إبل, أو بقر, أو عنز, واللقطة من غير الحيوان, فهل نقول: إن إنشاد اللقطة كإنشاد الضالة؟ الجوةاب: نعم, والقياس قياس جلي لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن المساجد لم تبن لهذا» , نقول: وكذلك لو أنشد ضائعًا غير ضالة فالحكم واحد, وهل مثل ذلك لو نشدها يعني: يطلب من هي له مثل أن يكون شخص وجد شيئًا في السوق, دخل المسجد وقال: أيها الناس, من ضاع له كذا وكذا, أو هذا يختلف عن الأول؟ الأول: يطلب ماله, وهذا يطلب التخلي عن مال غيره, فالصورتان بينهما فرق لا شك, فهل هما سواء في الحكم؟ الجواب: لا ليسا سواء في الحكم؛ لأن الثاني محسن, ولكن يقال: العلة «فإن المساجد لم تبن لهذا» تنطبق عليه؛ لأن المساجد ليس موضع إنشاد الضائع أو الضال؛ ولهذا فرق بعضهم فقال: إن كان وجدها في المسجد فليقل: لمن هذا؟ لأن الناس محصورون في المسجد, وإن كان وجدها خارج المسجد فليطلب صاحبها عن الأبواب خارج المسجد, وهذا القول جيد وربما لا يسع الناس العمل إلا به, فمثلًا نحن هنا في المسجد حينما قمنا وجد أحدنا قلمًا, أو ساعة, أو كتابًا فله أن يقول: لمن هذا الكتاب؟ لمن هذا القلم؟ أما لو كان شيئًا وجده في الشارع ثم وجد الناس مجتمعين فقال: هذه فرصة فجعل يسأل لمن هو له, فهنا

القول بالتحريم أولى, والمذهب أنه مكروه وليس بمحرم؛ لأنه في الحقيقة في منزلة بين منزلتين, لكن الذي يظهر أنه محرم للتعليل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «فإن المساجد لم تبن لهذا» , ويمكن أن تحصل المصلحة بإنشادها عند باب المسجد يصوت بأعلى صوته ويسمعه أهل المسجد أو الذين يخرجون منه رويدًا رويدًا. وهل يحرم ما يفعله بعض الناس اليوم: إذا وجدوا شيئًا علقوه في قبلة المسجد؟ الجواب: هذا لا بأس به؛ ففيه مصلحة من جهة أن صاحبه يجده وانتفاء مضرة, لكن هذه المسألة يخشى منها شيء وهو أن يأخذ هذه اللقطة غير صاحبها ولاسيما إن كانت مفاتيح أو أشياء خطيرة, فإذا خشي هذه المفسدة فالأولى أن يجتمع أهل المسجد أو أهل الحي, ويجعلون اصطلاحًا بينهم: أن من وجد شيئًا في المسجد يسلمه إما للمؤذن وإما للإمام, وقدرت جرت عادة الناس عندنا من قبل على هذا إذا وجد الإنسان شيئًا في المسجد أعطاه للمؤذن, وإذا ضاع لإنسان شيء في المسجد ذهب إلى المؤذن رأسًا, وهذا أحسن من أن يعلق. من فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز إحداث شيء في المساجد ينافي ما بنيت له لقوله: «فإن المساجد لم تبن لهذا» , ولكن هل يجوز أن يضع أهل الحي الطعام في المساجد عند الإفطار, أو عند عيد الفطر؛ لأنه في الأعياد جرت عادة بعض الناس أن أهل الحي يجتمعون كل واحد منهم يأتي بطعام ويجلسون عليه جميعًا, فهل يجوز أن يجعل ذلك في المسجد؟ الجواب: نعم؛ لأن هذا فيه خير وإحسان, والأكل في المسجد من حيث هو ليس حرامًا, ولا ينافي ما بني المسجد له, اللهم إلا إذا كانوا يأتون بالغداء أو العشاء في وقت يجتمع الناس فيه للصلاة حينئذ يمنعون من أجل مراعاة الناس. ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقرن الأحكام بعللها, وقرن الحكم بعلته يفيد ثلاث فوائد: الأولى: زيادة طمأنينة النفس؛ لأن الإنسان متى علم من الحكم ازداد طمأنينة, والنفس البشرية لا شك أنها عندما يحصل لها زيادة علم فإنه أبلغ في الطمأنينة, كما قال إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما قال: {رب أرني كيف تحي الموتى} قال الله له: {أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260]. ولهذا نجد الصحابة أنفسهم وهم أشد الناس إيمانًا وأقواهم إيمانًا بالرسول - عليه الصلاة والسلام - يسألونه عن بعض الأشياء التي تخفى عليهم, لما وضع الجريد على القبرين اللذين يعذبان ماذا قالا؟ قالا: لم صنعت هذا يا رسول الله؟ فأخبرهم.

فقرن الأحكام بالعلل فيه هذه الفائدة العظيمة, وهي زيادة الطمأنينة بأن الإنسان يأتي بالحكم ويلتزم الحكم إذا علم علته ونفسه مطمئنة تمامًا. الفائدة الثاني: بيان أن هذه الشريعة الإسلامية مبنية على الحكم ووضع الأشياء في مواضعها, وليست تشريعات خالية من الحكمة وهذه فائدة عظيمة؛ ولهذا لا تجد شيئًا في الشريعة الإسلامية إلا وله حكمة, فإما أن تكون معلومة لنا, وإما أن تكون أفهامنا قاصرة, لكن من حكمتها: الابتلاء؛ أن الله تعالى يبتلي الإنسان بعبادة يقوم بفعلها وهو لا يدري ما الحكمة فيها, وهذه حكمة لا شك لأنها تفيد زيادة التعبد والتذلل لله عز وجل, وإن مقام الإنسان أن يقول: سمعنا وأطعنا. الفائدة الثانية: أنه إذا كانت هذه العلة متعدية أمكن القياس على المعلول في حكمه, مثال ذلك: قول الله - تبارك وتعالى -: {قل لا أجد في ما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145]. وحديث أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة فنادى يوم خيبر: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس». هنا نقيس على ذلك كل رجس, ونقول: كل رجس فهو حرام, والرجس هو النجس؛ ولهذا من القواعد المقررة: «أن كل نجس حرام, وليس كل حرام نجسًا»؛ فالسم مثلًا حرام وليس بنجس, الدخان حرام وليس بنجس, لكن لحم الخنزير نجس فهو حرام, فهاتان قاعدتان مفيدتان: كل نجس حرام وليس كل حرام نجسًا, فهذه ثلاثة قواعد في ذكر العلة المقرونة بالحكم. ومن فوائد هذا الحديث: أن الله - سبحانه وتعالى - قد يقدر للإنسان ما يهتدي به إلى ضالته أو تأتي الضالة نفسها مأخوذة من قوله: «لا ردها الله عليك» , وحينئذ ينبني على هذه الفائدة أن تلجأ إلى الله عز وجل كلما ضاع لك شيء فقل: «اللهم رده علي»؛ لأن الذي يرده هو الله سبحانه وتعالى, فقد يأتي الرد بدون فعل أي سبب من الإنسان, ودليل ذلك في القصة التي ذكرها الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده من الرجل الذي ضاعت ناقته وعليها طعامه وشرابه, فلما أيس منها نام تحت شجرة ينتظر الموت, وإذا بخطامها قد تعلق بالشجرة فأخذها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك, أخطأ من شدة الفرح». من الذي ردها علي؟ الله عز وجل وإلا فالرجل قد تعب وأيس منها, فالمهم أنه إذا حصل ضياع من أي شيء من أموةالك فالجأ إلى الله فإن الله تعالى قادر على ردها, ويؤخذ من هذا أيضًا: أن ما كان أهل الجاهلية يستعملونه من الاستعانة بالجن في رد الضالة باطل, وكذلك الاستعانة بسيد الجن في مكانة باطل؛ لأن هذا إنما يملكه الله عز وجل.

حكم البيع والشراء في المسجد

أسئلة: - ما شروط إنشاد الشعر في المسجد؟ - هل في هذا دليل من السنة على جواز إنشاد الشعر في المسجد؟ - ألا يقول قائل: إن حسان منهم لأنه أراد أن يدفع عن نفسه؟ هذا غير وارد, ودليله أن عمر اقتنع به. - سمع رجلًا يقول: من حفظ لي الجمل الأورق, وهو في المسجد ماذا يقول له؟ حكم البيع والشراء في المسجد: 246 - وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد, فقولوا له: لا أربح الله تجارتك». رواه النسائي, والترمذي وحسنه. «إذا رأيتم» كلمة «رأيتم» محتمل أن يكون المراد بالرؤية: العلم, ويحتمل أن يراد بالرؤية: رؤية البصر, والاحتمالان لا يتناقضان؛ لأن من رأى القائل ببصره فقد علمه, ومن كان أعمى ولكن سمع فقد علم, وعلى هذا فإذا أردنا أن نجعلها أعم قلنا: المراد بالرؤية هنا: رؤية العلم. «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع» الفرق أن البائع هو الذي طلبت منه السلعة, والمبتاع هو الذي طلب السلعة, وهذا التعريف أعم من أن يقول: البائع من باع المتاع, والمتاع من بذل التقود؛ لأنه أحيانًا يكون المبيع هو المطلوب؛ فلهذا نقول: الفرق بينهما أن البائع سلعته مطلوبة, والمشتري طالب سلعة. إذا باع ثوبًا بعمامة أيهما المبيع؟ الثوب, إذا باع ثوبًا بدينار؟ فالمبيع الثوب, إذا باع دينارًا بثوب؟ نقول: أيهما أقوى الآن هل مطلوب الدينار أو الثوب؟ الدينار هو المبيع, والمعروف عند الفقهاء أن ما دخلت عليه الباء هو الثمن؛ لأن الباء للمعاوضة والبدلية, فما دخلت عليه الباء هو الثمن والثمن يكون باذله من؟ المشتري سواء كان الذي دخلت عليه الباء هو النقود أو المتاع, وعليه فإذا قلت: بعت عليك ثوبًا بدينار, فالثمن الدينار, وإذا قلت: بعت عليك دينارًا بثوب, فالثمن الثوب. قوله: «من يبيع أو يبتاع في المسجد, فقولون: لا أربح الله تجارتك» قولوا له: الأمر موجه للجميع, فهل مطلوب من كل فرد, أو المقصود الجمع دون المجموع؟ الثاني هو المراد, والمعنى الأول محتمل, فعلى الثاني إذا قالها واحد من الناس كفى, وعلى الأول لابد أن يقول ذلك كل من سمعه, وأيهما أبلغ في الزجر؟ أنه من الجميع؛ فقولوا: لا أربح الله تجارتك؛ أي: لا

جعل فيها ربحًا, والتجارة هي: الأموال التي يطلب فيها الربح من أي نوع كانت, من ثياب, أو أوان, أو أخشاب, أو حديد, أو سيارات, أو مكائن, أو غير ذلك, كل ما يطلب فيه الربح فهو تجارة؛ ولهذا ندعو عليه بما يناقض قصده؛ لأنه إنما باع واشترى في المسجد بقصد الربح فتدعو عليه بما يناقض قصده «لا أربح الله تجارتك» , ويقال في تعليل هذا ما قلنا في تعليل إنشاد الضالة, أي: أن المساجد لم تبن لهذا, أي: للبيع والشراء, وإنما بنيت لذكر الله تعالى وقراءة القرآن, والصلاة وما أشبه ذلك. في هذا الحديث: جواز البيع والشراء, وجهه: أنه لما منع في المسجد علم أنه في غير المسجد جائز. ومن فوائده: تحريم البيع والشراء في المسجد سواء وقع الإيجاب والقبول في المسجد, أو وقع أحدهما خارج المسجد والثاني في المسجد لقوله: «من يبيع أو يبتاع» , قد يقع الإيجاب خارج المسجد والقبول داخل المسجد, كما لو وقع ذلك من رجلين عند دخول المسجد, فقال أحدهما للآخر: بعت عليك كذا, فقال الثاني: قبلت, فهو داخل في الحديث؛ لأنه قال: «من يبيع أو يبتاع». المثال فيما تأخر الإيجاب لو أن القبول هو الذي تأخر, ولكن القبول صار خارج المسجد والإيجاب كان داخل المسجد يصح أو لا يصح؟ كرجلين اتجها إلى باب المسجد وقبل الخروج قال أحدهما للآخر: بعت عليك كتابي هذا, وبعد الخروج قال الثاني: قبلت, فكلاهما محرم. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا وقع البيع والشراء في المسجد فهو باطل, وجهه: أن كل شيء نهي عنه من عبادة أو معاملة إذا فعل على الوجه المنهي عنه كان باطلًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل». هذا دليل التعليل, ولو أننا صححنا ذلك لكان لازمه أن ينفذ العقد, وفي هذا مضادة ومحادة لله - تبارك وتعالى - إذ إن النهي عنه ماذا يقتضي؟ يقتضي عدمه, وعدم تعاطيه, فإذا صححناه صار ذلك معاكسًا لما جاء به الشرع. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجوز في المسجد ما سوى البيع كالهبة, والإبراء من الدين, وعقد النكاح, واستيفاء الدين والقرض, وما أشبه ذلك لعدم دخولها في البيع والشراء, وعلى هذا فلو أن شخصًا استوفى دينه من غريمه في المسجد فهو جائز, ولو أبرأه - أي: الدائن أبرأ غريمه من الدين في المسجد - فهو جائز.

عقد الضمان والكفالة جائز أو لا؟ جائز ليس بيعًا ولا شراء, وأبو قتادة ضمن الدين - دين الميت - والظاهر أنه كان في المسجد. عقد النكاح يجوز أو لا؟ يجوز؛ لأن جميع ما سبق ليس بيعًا ولا شراء. عقد الإجارة جائز أو لا؟ الإجارة بيع لكنها بيع المنافع, وعلى هذا فلو اتفق صاحب الدار والمستأجر وعقدا ذلك في المسجد فالإجارة باطلة, ولكن ماذا نفعل لو تعاقدا في المسجد ثم إن المستأجر استوفى المنفعة؟ نقول: العقد غير صحيح, ويفرض لصاحب الدار أجرة المثل لا الأجرة التي عقد عليها, فإذا قدر أنه أجره بعشرة آلاف وكانت أجرة المثل فيها خمسة آلاف فكم للمؤجر؟ خمسة آلاف فقط, ولو كان العكس فاستأجرها بخمسة آلاف وكانت أجرة مثلها عشرة فكم على المستأجر؟ عشرة آلاف؛ لأنه لما تعذر إلزامها بما جرى به العقد, رجعنا إلى قيمة المثل في العرف. الخياطة في المسجد: لو أن شخصًا حائكًا أو خياطًا بيده صار في المسجد وجعل يخيط فيه ما الحكم؟ الجواب: إن كانت الخياطة لنفس الخائط كرجل يرقع ثوبه فلا بأس, ولو كانت الخياطة بأجرة فهذا لا يجوز؛ لأنه صار تجارة, والتجارة في المساجد لا تجوز, أما إذا صنع الإنسان ذلك لنفسه أو تبرع به لشخص آخر فلا بأس. والخلاصة: أن ما كان عقد معاوضة فهو كالبيع, وما كان تبرعًا أو ليس فيه معاوضة أصلًا - يعني: ليس صالحًا للمعاوضة - فهو جائز. الطلاق على عوض: لو أن الرجل اتفق مع زوجته أن يخالعها في المسجد يصح الخلع أو لا؟ يصح؛ لأن هذا العوض في أحد الطرفين ليس ماليًا إنما هو الفراق والفسخ, فهو غير داخل في البيع, لو أن رجلًا باع أو اشترى في المسجد لا للتجارة لكن مر به إنسان وفي يده رغيف وهو في المسجد وهو جائع فاشترى منه الرغيف أيجوز أو لا يجوز؟ إن نظرنا إلى قوله: «لا أربح الله تجارتك» قلنا: هذا خاص بما كان للتجارة دون ما كان لغيرها والفرق ظاهر؛ لأنه لو أجيزت التجارة في المسجد للبيع والشراء لبقيت المساجد أمكنة للتجارة, لكن الشيء النادر الذي يفعله الإنسان للحاجة أو ما أشبه ذلك, الظاهر أنه لا يدخل في هذا إلا أننا قد ننهى عنه احتياطًا ولئلا يغتر الناس بفعل الفاعل, لأن الناس ما لذي أدراهم أن هذا للتجارة أو غير التجارة. هنا مسألة يحتاج الناس إليها: إذا وقف عليك فقير وأنت في المسجد وأردت أن تتصدق عليه بخمسة ريالات وليس معك إلا فئة عشرة فهل يجوز أن تقول للفقير: هذه فئة عشرة

حكم إقامة الحدود في المسجد

وأعطني خمسة أو لا يجوز؟ هي مصارفة لا شك, لكن هل أراد بها التجارة؟ إنما أراد بها دفع حاجة أخيه فهذا جائز, وقد كان الناس أدركناهم في المسجد الحرام يبيعون ماء زمزم يدورون به على الناس في فخار - دورق - ويسقون الحجاج بفلوس هذه تحل لأنها ليست تجارة, حتى لو فرض أن حامل الدورق طلب بنفسه الفلوس من الناس فهذا جائز؛ لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا أربح الله تجارتك» يدل على أن المراد بذلك ما كان للتجارة, ولكن كما قلت لكم الأولى المنع منه لئلا يتهم الإنسان؛ ولأن نية التجارة في القلب لا يطلع عليها. ومن فوائد الحديث: تعظيم المساجد, وأنها ليست محلًا لكسب الدنيا, وأنها للآخرة فقط. حكم إقامة الحدود في المسجد: 247 - وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقام الحدود في المساجد, ولا يستفاد فيها». رواه أحمد, وأبو داود بسندٍ ضعيفٍ. قوله - عليه الصلاة والسلام - إن صح الحديث عنه -: «لا تقام الحدود» الحدود: جمع حد وهي في اللغة: المنع, ومنه حدود الأرض تمنع من دخول الجيران بعضهم على بعض, والمراد بها هنا: العقوبات المقدرة على المعاصي, فنقول: الحدود جمع حد, وهي عقوبة مقدرة شرعًا في معصية للتكفير عن صاحبها ومنع غيره منها؛ لأن الحدود تكفير, ولننظر في الحدود: حد الزنا, حد القذف, حد السرقة, حد قطاع الطريق هذه أربعة, حد الخمر مختلف فيه والصحيح أنه ليس حدًا كما سيأتي, السادس: قتل المرتد عده بعضهم وليس بصحيح؛ لأن قتل المرتد ليس حدًا بدليل أن المرتد لو تاب بعد القدرة عليه يرفع عنه القتل, والحد لا يرفع بعد القدرة عليه, القصاص عده بعضهم من الحدود وهو غلط؛ لأن القصاص حق للآدمي, قال الله تعالى: {فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف} [البقرة: 178]. الحدود الواضحة التي ليس فيها إشكال: حد الزنا, حد السرقة, حد قطاع الطريق, حد القذف, أربعة لا إشكال فيها. «لا تقام الحدود في المساجد» والحكمة من ذلك أنه يخشى من تلوث المسجد هذا من وجه, يخشى من أفعال منكرة قد تقع فيه من المحدود أو من الناس الذين يحضرون, يخشى من الصراخ والعويل في المساجد, وهذا ينافي حرمتها. قوله: «ولا يستفاد فيها» أي: لا يقتص في المساجد سواء كان القصاص في النفس أو فيما

تمريض المرضى في المسجد

دونها, مثال القصاص في النفس أن يقتل رجل آخر وتمم شروط القصاص فيقتص منه, قال الله تعالى: {والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة: 45]. فلا يستفاد في المساجد ولو ربما دون النفس؛ وذلك لما ذكرنا آنفا. في هذا الحديث فوائد منها: إثبات الحدود لقوله: «لا تقام الحدود» , وهذا يدل على أن هذا حدودًا تقام, وحكم إقامة الحدود فرض كفاية كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين خطب على المنبر وذكر الرجم, وقال: «أخشى إن طال بالناس زمان أن يقولوا: لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل». إقامة الحدودفرض على كل واحد؟ نعم, يعني: على كل من فعل المعصية التي توجب الحد, ولا فرق بين الشريف والوضيع, والذكر والأنثى, ولا تجوز المحاباة فيها إلا من تاب قبل القدرة عليه فإنه يسقط عنه الحد. ومن فوائد هذا الحديث: تحريم إقامة الحدود في المساجد؛ لأن الأصل في النهي التحريم؛ ولأن المعنى يقتضيه لأنه يحصل بذلك ما ينافي تعظيم المسجد. ومن فوائد هذا الحديث: ثبوت القود لقوله: «ولا يستفاد فيها» , والقود واجب, لكن له شروط, وبماذا يسقط؟ إذا عفا صاحب الحق سقط. وفي هذا الحديث تحريم القود في المساجد للنهي عنه, ولأن ذلك ينافي حرمة المساجد وتعظيمها. أسئلة: - هل يجوز البيع والشراء في المسجد؟ - هل المحرم للتجارة فقط؟ - هل يدخل القصاص في الحدود أو لا؟ - أين الدليل على أن القصاص يسقط بالعفو؟ تمريض المرضى في المسجد: 248 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أصيب سعد يوم الخندق, فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد, ليعوده من قريب». متفق عليه. «أصيب سعد» هو سعدبن معاذ رضي الله عنه, سيد الأوس وأفضلهم وأشهرهم, وقولهم: «يوم الخندق» أي: في غزوة الخندق, وذلك أنه أصابه سهم في أكحله, الأكحل: أسفل الإبهام,

والغالب أنه ينزف منه الدم ويموت الإنسان, لكنه دعا الله عز وجل ألا يميته حتى يقر عينه في بني قريظة؛ لأنهم كانوا حلفاءه, «فضرب عليه النبي صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد» أي: مسجده, والخيمة: هي عبارة عن خبار ينفرد به الإنسان, والمراد بالمسجد: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم, فـ «أل» في قوله: «في المسجد» للعهد الذهني؛ لأن العهود ثلاثة: الذهني: وهو ما يفهم بالذهن. والذكري: وهو ما سبق له ذكر. والحضوري: وهو ما عبر عن الوقت الحاضر, كقوله تعالى: {الآن وقد عصيت قبل} [يونس: 91]. وقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]. فـ «أل» هنا للعهد الحضوري. العهد الذهني: هو الذي يكون معلومًا عند الناس كما لو تقول: سنذهب إلى القاضي للتحاكم عنده, من القاضي؟ قاضي البلدة المعروف؛ لأن هذه تعين الإنسان بعينه. العهد الذكري: أن يسبق لهذا المذكور؛ أي: للذي دخلت عليه «أل» ذكر مثل قول الله تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولا (15) فعصى فرعون الرسول} [المزمل: 16]. من الرسول؟ الأول الذي هو موسى - عليه الصلاة والسلام -, إذن المسجد هنا للعهد الذهني؛ لأنه معروف عندهم. «ليعوده من قريب» اللام هنا للتعليل, أي: فعل ذلك لأجل أن يعوده من مكان قريب. وقوله: «من قريب» أي: من مكان قريب. هذه القصة سعدبن معاذ رضي الله عنه سيد الأوس كما قلنا, وكانت بني قريظة حلفاء لهم, لما أصيب وكانت بنو قريظة قد نقضوا العهد سأل الله عز وجل ألا يميته حتى يقر عينه في بني قريظة, فاستجاب الله دعاءه, بقي جرحه ملتئمًا لم ينزف الدم حتى حصلت غزوة بني قريظة ونزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه, وظنوا أنه كقضية عبد الله بن أبي ابن سلول أنه سيطلب العفو والتجاوز, لكن هناك فرق بين سعد بن معاذ, وعبد الله بن أبي ابن سلول: الثاني منافق, والأول مؤمن, نزلوا على حكمه رضي الله عنه, فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه من يأتي به من المسجدإلى بني قريظة وحضر, فلما حكموه قال: حكمي نافذ على هؤلاء, وأشار إلى النبي صلى الله عليه وسلم, لكنه قد غضب بصره احترامًا للنبي صلى الله عليه وسلم قال: وعلى هؤلاء - يعني: على بني قريظة -, قالوا: نعم, اتفق الخصمان على أن يكون هو الحكم بينهم, فحكم رضي الله عنه أن تقتل المقاتلة, وأن تغنم الأموال, وأن تسبى الذرية مع أنهم كانوا حلفاءه, وكان مقتضى العهد أن يطلب العفو عنهم, لكنه بإيمانه بالله عز وجل ورسوله حكم بهذا, فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم فيهم يحكم الله من فوق سبع سماوات رضي الله عنه في هذا المكان الضيق الضنك وفق للصواب, حصل ما حصل ثم رجع إلى خيمته فانبعث الدم من أكحله ومات رضي الله عنه, أقر الله عينه في بني قريظة أيما قرار, حيث كان هو الحكم فيهم, وهذا من

إجابة دعوته, وقد اهتز عرش الله عز وجل لروحه, وفي هذا يقول القائل: [الطويل] وما اهتز عرش الله من أجل هالكٍ ... سمعنا به إلا لسعدٍ أبي عمرو رضي الله عنه, وجمعني وإياكم وإياه في دار النعيم المقيم حتى نذكره بهذا ونذكر ذلك إن شاء الله تعالى. في هذا الحديث فوائد: أولًا: جواز ضرب الخيمة في المسجد, ولكن بشرط أن يكون الذي تضرب عليه الخيمة أهلًا لذلك من كونه سيدًا وشريفًا في قومه, وإلا فلا يمكن أن تضرب خيمة لكل إنسان مرض, الشرط الثاني: ألا يتأذى المسجد وأهله, وهذا أخذناه من النصوص العامة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يؤذى أهل المسجد, حتى قال للرجل الذي يتخطى الرقاب: «اجلس فقد آذيت». فهذان شرطان, والثالث: أن يكون هذا الغرض صحيح, الغرض الصحيح ما ذكره في الحديث. ومن فوائد هذا الحديث: بيان منزلة سعدبن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حين خصه بهذه الفضيلة أن يمرض في مسجده حتى يعوده من قريب. ومن فوائد هذا الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعاملته لأمته, حيث كان يعود مرضاهم, ويزور أصحاءهم, ويتواضع حتى للعجوز والطفل الصغير - عليه الصلاة والسلام -. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية عيادة المريض, وضابط المريض الذي يعاد: أنه هو الذي ينقطع من الخروج من بيته, أما المريض الذي يخرج فهذا لا يعاد؛ لأنه لا حاجة إلى عيادته. ومن فوائد هذا: أن قرب مكان العيادة سبب لوجودها وهذا هو الواقع؛ يعني: لو كان هناك مسلم مريضًا وهو قريب منك سهل عليك أن تعوده, فإذا كان بعيدًا شق عليك وربما لا تعوده في الأسبوع إلا مرة. 149 - وعنها رضي الله عنها قالت: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني, وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد ... ». الحديث. متفق عليه. قولها: «يسترني» يعني: عن الرجال وهي تنظر إلى الحبشة وهي جزء من أفريقيا, قدم منها أناس أسلموا إلى المدينة ليتعلموا دينهم من النبي صلى الله عليه وسلم, وكان أهل الحبشة أهل مرح ولعب, فما

استطاعوا أن يملكوا أنفسهم أن يلعبوا في المسجد برماحهم ونبلهم. وقولها: «يلعبون في المسجد» «أل» للعهد الذهني كما سبق؛ أي: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم, وكان هذا أيام عيد, فتكلم فيهم عمر رضي الله عنه فقال: «دعهم حتى يعلم اليهود أن في ديننا فسحة». هذا الحديث فيه فوائد عظيمة: منها: جواز اللعب بالرماح والنبال وما أشبه ذلك في المسجد هكذا نقول, لكن هل هو من السنة أو من الأمر الجائز؟ الثاني: من الأمر الجائز, ولا نقول للناس إذا كان يوم العيد: هاتوا النبادق والسيوف والعبوا في المسجد, ولكن هذا مشروط بشيئين: ألا يتأذى المسجد وأهله بهذا اللعب. الشرط الثاني: أن يكون ذلك لغرض صحيح وهو أن يعلم أعداء الإسلام أن دين الإسلام دين يسر وسهولة, وأعطاء النفوس حظها من المرح واللعب في الأيام المناسبة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا حرج في أيام الأعياد أن تقام مثل هذه الأفعال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أٌر الحبشة على هذا, لكن قلنا: لابد أن يكون هناك مصلحة إذا كان في المسجد, أما في غير المسجد فهو من الأمور المباحة؛ ولهذا لما أنكر أبو بكر رضي الله عنه على الجارتين اللتين كانتا تغنيان قال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعهما فإنها أيام عيد». وهذا مما يدل على كمال الإسلام أنه يعطي النفوس بعض الحرية والانطلاق في المرح واللعب؛ لأن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تبقي النفس مكبوتة لا تتحرك ولا تمرح ولا تمزح لابد من شيء ولكنه في الحدود الشرعية. ومن فوائد هذا الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة أهله, وقد قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي». اللهم صل وسلم عليه. وهكذا ينبغي للإنسان أن يدخل السرور على أهله حتى في هذه الأمور بشرط ألا يحصل في ذلك مفسدة, فإن حصل في ذلك مفسدة فلا يمكن الإنسان أهله أن يذهبوا إلى محل الألعاب واللهو, وهناك مثلًا رجال ينظرون وأناس يخشى منهم الفتنة, لكن لا بأس أن يخرجهم في بعض الأحيان حتى يحصل لهم من الفرح والمرح ما هو مقيد بالشريعة. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: لها أشبعت؟ حتى قالت: شبعت, يعني: لم يجعلها تتفرج لمدة وجيزة ثم يصرفها, أبقاها حتى انتهت رغباتها وكذلك ينبغي في معاملة الأهل لاسيما في الشابات من بنات أو زوجات أو ما أشبه ذلك؛ لأن لكل مقام مقالًا, ولكن

الشابة يجب أن يقدر لها قدرها. ومن فوائد هذا الحديث: جواز نظر المرأة إلى الرجال, وجهه: أن عائشة تنظر إلى الحبشة وهم رجال وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: كيف تقولون بهذا, وقد قال الله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} [النور: 31]. فالجواب: أن الله قال: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} و «من» للتبعيض, والتبعيض لا يقتضي الكل, لو كان لفظ الآية: (وقل للمؤمنات يغضضن أبصارهن) لكان في هذا إشكال مع هذا الحديث, لكن {يغضضن من أبصارهن} , وعليه فنقول: الآية لا تعارض هذا الحديث؛ لأن لما دخلت عليها (من) صار الواجب غض بعض البصر, ومتى يكون واجبًا؟ إذا خيفت الفتنة, لو كانت المرأة تنظر إلى الرجال تتمتع بالنظر إليهم أو تتلذذ بالنظر إليهم صار هذا حرامًا. فإن قال قائل: ما الجواب عن حديث عبد الله بن أم مكتوم حين دخل على زوجتي الرسول صلى الله عليه وسلم فأمرهما أن تحتجبا عنه, فقالا: يا رسول الله, إنه رجل أعمى, فقال: «أفعمياوان أنتما؟ ». فالجواب: أن هذا حديث ضعيف لا يصح, وإذا كان ضعيفًا سقطت المعارضة به؛ لأنه لا يقاوم الصحيح إلا ما كان صحيحًا, أما إذا كان ضعيفًا فلا يعتبر معارضًا, قال أهل العلم: ويدل لذلك أننا نحن لم نؤمر بالحجاب؛ لأنه لو كان يحرم على المرأة أن تنظر إلى الرجل لقلنا للرجل: غط وجهك كما قلنا تغطي وجهها حين صار نظر الرجال إليها محرمًا, وقول المؤلف رحمه الله: «الحديث». وتقرأ الحديث بالنصب, ويكون التقدير: اقرءوا الحديث, أو أكملوا الحديث, وربما نقول: هي منصوبة بنزع الخافض؛ يعني: إلى الحديث؛ أي: إلى نهايته. 250 - وعنها رضي الله عنها: «أن وليدة سوداء كان لها خباء في المسجد, فكانت تأتيني فتحدث عندي ... ». الحديث. متفق عليه. قوله: «وعنها» أي: عائشة رضي الله عنها, «أن وليدة سوداء» يعني: عبدة أمة, و «سوداء» هذا وصف لبيان الواقع, وليس بشرط أن تكون سوداء أو بيضاء, «كان لها خباء في المسجد» الخباء هو: الخيمة الصغيرة, «فكانت تأتيني فتحدث عندي»؛ تأتيها أي: في بيتها؛ لأن بيت عائشة رضي الله عنها إلى جنب المسجد, وله باب على المسجد.

ساق المؤلف هذا الحديث لفائدة: وهي جواز ضرب الخباء للأمة إذا لم يكن لها من يكفلها وهذا ضرورة, ولعل هناك أيضًا أشياء خاصة اقتضت ذلك؛ لأن هذه القضية قضية عين, لا نستطيع أن نقول: يستفاد منها أن تضرب الأخبية للإماء, فهذه قضية عين اقتضت أن يضرب لهذه الوليدة خباء في المسجد. ومن فوائد هذا الحديث: أن تحدث الناس بعضهم إلى بعض من طريق السلف؛ لأن الإنسان لابد أن يتكلم مع الناس فهو مدني بالطبع, ومن ثم نرى الرجل إذا كان منزويًا لا يحدث الناس ولا يحدثونه نجد أنه يكون في نفسه انقباض, ولو أنه انطلق لكان خيرًا له. فإن قال قائل: كثرة الكلام يخشى منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت». فالجواب: أن الخير نوعان: خير في ذات الكلام؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والتسبيح, وما أشبه ذلك, وخير لغيره - يعني: لغير ذات الكلام - وهو أن يكون الكلام من الكلام المباح لكنه يريد أن يحدث إخوانه لإدخال السرور عليهم والانبساط فهذا خير, حتى لو كان مضمون الكلام ليس خيرًا في ذاته؛ لأن إدخال السرور على إخوانه من الأشياء المطلوبة التي يثاب الإنسان عليها. أسئلة: - هل يجوز أن يضرب خباء في المسجد, وهل لذلك شروط؟ - هل يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال؟ - ما هو الدليل على جواز ذلك؟ حديث عائشة. وجه الدلالة: إقرار النبي. - كيف تجمع بين هذا الحديث, وقوله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} [النور: 31]؟ 251 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها». متفق عليه. «البزاق»: هو الريق الغليظ سواء كان نخامة أو غير نخامة, وأما الريق الخفيف الذي لا يؤثر فهذا لا يسمى بزاقا, وقوله: «في المسجد» «أل» للعهد الذهني أو للاستغراق؟ الثاني؛ أي: في كل مسجد, وقوله: «خطيئة» أي: سيئة؛ لأنها من خطئ يخطئ فهو خاطئ, بخلاف أخطأ يخطئ فهو مخطئ, فهذا مما يعذر به, خطيئة أي: سيئة, «وكفارتها» أي: سترها والتجاوز عنها, «دفنها»

يعني: أن تدفن هذه النخامة, وهذا ظاهر فيما إذا كان المسجد قد فرش بالحصباء, أو الرمل أو ما أشبه ذلك, أما ما كان مفروشًا بالفرش القطنية أو الصوفية كما في وقتنا الآن فكفارتها فركها حتى تزول. في هذا الحديث: دليل على احترام المساجد, وأنه يجب أن تصان عن كل هذا, وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف البزاق في المسجد بأنه خطيئة. ومن فوائد هذا الحديث: أن الشيء يداوي بضده, جهه. قوله: «كفارتها دفنها» , فإن البزاق في المسجد يبرز صورة البزاق, فإن دفنه زال ذلك. ومن فوائد هذا الحديث: أن البزاق طاهر, وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفارتها دفنها» , ولم يقل: يصب الماء عليها, كما قال في بول الأعرابي: «أريقوا عليه سجلًا من ماء». ومن فوائد هذا الحديث: أن البزاق في المسجد خطيئة ولو أراد الإنسان أن يدفنها, وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم وصفها بأنها خطيئة, ثم ذكر كفارتها, ومن المعلوم أن الإنسان لا يحل له أن يفعل الخطايا ويكفرها, لكن الكفارة تكون إذا وقعت الخطيئة دون قصد, أما إذا فعلت الخطيئة بنية التكفير فهذا لا يجوز. ولهذا لو أن إنسانًا قال: إنه يجامع في نهار رمضان مع عزمه علىأن يكفر أيحرم أو لا يحرم؟ يحرم, مع أن التكفير يستر الذنب ويتجاوز به عنه. كذلك لو قال إنسان في واجبات الحج التي تجبر بالدم: إنه يريد ألا يبيت في منى لا يرمي الجمرات ولا يطوف للوداع, ولكنه مستعد أن يذبح عن كل واجب فدية أيجوز؟ لا يجوز؛ ولهذا يغلط بعض الناس حيث يظن أن الإنسان مخير بين ترك الواجب والفدية, فيقال: لا, الأمر ليس إليك, لكن إذا فات الأمر بغير قصد فإنك تفدي, أما أن تكون مخيرًا فهذا يعني هدم النسك بالكلية؛ إذ لو قلنا بذلك لاقتصر الحاج على الأركان والباقي يفدي عنه ويمشي لأهله, فتجده يحرم ويقف بعرفة, يحرم من أين؟ من أي مكان أراده؛ لأن الإحرام من الميقات واجب, لكن أصل الإحرام ركن, أحرم, ووقف بعرفة وطاف وسعى أربعة أشياء فعلها والباقي قال: نفدي عنه كونه من الميقات هذه فدية, المبيت بمزدلفة فدية, رمي الجمار فدية, المبيت في منى فدية, طواف الوداع فدية, الحلق أو التقصير فدية, البقاء بعرفة إلى الغروب فدية, هذه سبع يقول: ما يهمني, يشتري له ثورًا ويذبحه ويقول في أمان الله, هذا لو قلنا بأن الإنسان مخير بين هذا وهذا, لكن نقول: الواجب يجب فعله, لكن إذا فات فوات الحرص فإنه يفدي. إذن نأخذ من هذا الحديث: تحريم البزاق في المسجد, ولكن لكل داء دواء: «كفارتها دفنها».

ومن فوائد هذا الحديث: أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مفرش بالتراب بما تتغطى به النخامة لقوله: «كفارتها دفنها» , وبهذا نجيب على من أنكر وجود هذه العلامات على تسوية الصف - الخطوط - وقال: هذه بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها؛ فيقال: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليس صالحًا لها؛ لأن ليس مفروشًا بالقطن أو الصوف أو ما أشبه ذلك, مفروش بالحصباء, إذا كان مفروشًا بالحصباء كيف يمكن أن نصب عليه شيئًا يجعل له لونًا معينًا, لا يمكن, قالوا: يمكن أن يخط خط والصحابة ما خطوا خطا؟ والجواب: هذا الخط يزول بالمشي عليه, وحينئذ يكون الخط عبثًا, قالوا: يمكن أن يوضع خيط, قلنا: الخيط أيضًا يعثر به الناس ولا يمكن, ونحن لا نقول: إن وضع هذه الخطوط عبادة بذاتها لكنه وسيلة لعبادة مقصودة شرعًا وهي تسوية الصف, ولهذا استرحنا لما كان المسجد مفروشًا بالرمل كان الإنسان يتعب خصوصًا في الصفوف التي ليست على الأعمدة: هذا يتقدم وهذا يتأخر لما جاءت هذه الخطوط - والحمد لله - استراح الإنسان فهي مقصودة لغيرها, كما أن تأليف الكتب وطباعتها وتبويب أبواب الفقه كل هذا ليس موجودًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهل لأحد أن ينكره؟ لا يمكن؛ لأنه وسيلة لمطلوب شرعًا, وهذا مثله, ولهذا يجب على طالب العلم أن يتنبه لهذه المسألة وهي ما إذا كان فعل الشيء مقصودًا بالذات, وما إذا كان وسيلة لمقصود شرعي ثابت الأول بدعة, والثاني جائز بل هو مطلوب. فإن قال قائل: أهل البدع يقولون: إننا نتقرب إلى الله تعالى. قلنا: إذن هي عندكم مقصودة لذاتها, فهي بدعة, إذا قالوا: إن إحياء ذكرى المولد النبوي من أجل أن تقوى المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم, قلنا: قد جعل الله تعالى لمحبة رسوله أسبابًا أقوى من هذه وأدوم, أسبابًا تكون مع الإنسان إلى موته ليلًا ونهارًا, فإن كل عبادة يفعلها الإنسان وهو يشعر بأنه متأس بالرسول صلى الله عليه وسلم سوف يذكره لا بلسانه لكن بقلبه, ثم إعلان ذكرى الرسول - عليه الصلاة والسلام - في الأذان في اليوم والليلة خمس مرات على الأقل, وقد تكون ثلاث مرات إذا كان هناك جمع, وقد تكون ست مرات وسبع مرات, إذا كان هناك أذان أول في آخر الليل وأذان أول في الجمعة فانتبهوا لهذه الفائدة, ما فعل لذاته فلابد أن يثبت بنص؛ يعني: ما نتقرب إلى الله بذاته فلابد أن يثبت بنص, وما كان وسيلة لمقصود شرعي فهو على حسب ذلك المقصود. فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذا الحديث, وبين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبصق الإنسان عن يساره, أو تحت قدميه؟ قلنا: الحمد لله ليس بينهما تعارض, يجمل قوله: «عن يساره أو تحت قدميه» على ما كان خارج المسجد, وأما ما كان في المسجد فليبصق في ثوبه أو في منديله أو بين يديه, ويحك

زخرفة المساجد وزينتها

بعضه ببعض حتى تزول. ومن فوائد هذا الحديث: أن المعصية ولو يسيرة تسمى خطيئة؛ لأن الخطيئة: ما جانب الصواب, يقال: أخطأ فلان وأصبا فما جانب الصواب فهو خطأ, ومعلوم أن المعصية وإن قلت تجانب الصواب. أسئلة: - هل البزاق طاهر أو نجس؟ طاهر. - من أين يؤخذ؟ - هل هذا يدل على أن الإنسان إذا أراد أن يدفن البزاق فله فعله؟ - هل هناك شيء يمكن أن نقيس هذه المسألة عليه ويكون فيه الاقتناع؟ المجامع في رمضان ونيته التكفير. - هل يدل هذا الحديث على أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مفروش بالتراب؟ زخرفة المساجد وزينتها: 252 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد». أخرجه الخمسة إلا بالترمذي, وصححه ابن خزيمة. «وعنه» يعني: عن أنس, «لا تقوم الساعة» يعني: ساعة البعث, والساعة تقوم إذا أنهى - تبارك وتعالى - هذا العالم نفخ في الصور فصعق الناس, ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون, فالساعة لا تقوم حتى يصل الأمر إلى هذا, «حتى يتباهى الناس في المساجد» يتباهون؛ أي: يتفاخرون أيهما أبهى مسجده؛ فهذا يقول: مسجدنا أبهى؛ شيدناه تشييدًا فاخرًا؛ لأن فيه رسوم, لأن فيه جص مثلًا, وما أشبه ذلك, ومن ذلك أنهم يتباهون بفراش المسجد, أيضًا يقول: مسجدنا قد فرش بالفرش الفاخر الغالي, وما أشبه ذلك. إذن أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر يكون قبل قيام الساعة, فهل هذا يعني أنه من أشراط الساعة؟ قد يوحي هذا بأنه من أشراط الساعة, ولكنه ليس بصريح, ولهذا لا يمكن أن نقول: إن الناس منذ صاروا يتباهون بالمساجد فهو دليل على قرب الساعة, وأنه من أشراطها, وهذا يقع - أي: مثل هذا التغير - كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تعود - يعني: بلاد العرب - مروجًا وأنهارًا». هل

معنى ذلك أنه علامة من أشراط الساعة؟ لا, لكنها لا تقوم الساعة حتى يكون هذا. يستفاد من هذا الحديث: إثبات قيام الساعة, وهو أمر ثابت بالقرآن والسنة والإجماع, وهو من أركان الإيمان؛ لقوله: «لا تقوم الساعة» , فمن أنكر قيام الساعة فقد كفر؛ لأن الله عز وجل قد أثبته في القرآن, والنبي صلى الله عليه وسلم أثبته في السنة, والمسلمون أجمعوا على هذا, وكل إنسان ينكر خبرًا أخبر الله به ورسوله من غير تأويل فإنه كاذب؛ لأن هذا هو التكذيب, أما التأويل فينظر إذا كان النسخ يحتمل التأويل فهو شبهة تمنع ردته, وإذا كان لا يحتمل فإنه تأويله لا يسمى تأويلًا, ولكن يسمى تحريفًا ولا يفيد صاحبه. ومن فوائد الحديث: إثبات آية من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى» , وهل حصل هذا؟ نعم, حصل هذا يتباهى الناس بالمساجد من قديم الزمان, ولا يزالون يزدادون في التباهي. ومن فوائد هذا الحديث: الإشارة إلى أن الأفضل ألا تكون المباهاة في المساجد؛ وجهه: ومن فوائد هذا الحديث: الرد على من أنكر على من بنى المساجد وعلى وجه متواضع, وقال: سبحان الله تبنى بيتك على وجه مشيد ومزخرف وبيت الله أولى, ويقول الآخر: كيف تبنى الكنائس على وجه فخم محسن ومساجد المسلمين لا يفعل فيها هذا؟ نقول: لأن المسلمين لا تهمهم المظاهر, وإنما الذي يهمهم هو المعاني التي بنيت من أجلها المساجد وهي إقامة الصلاة, وقراءة القرآن, والذكر, وما أشبه ذلك. 253 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت بتشييد المساجد». أخرجه أبو داود, وصححه ابن حبان. «ما أمرت» أي: ما أمرني الله أن أشيد المساجد, والتشييد أي: طيها بالشيد, والشيد هو: الجص, وقوله: «المساجد» جمع مسجد, والمراد: ما بني للصلاة فيه. قوله - عليه الصلاة والسلام -: «ما أمرت» يستفاد منه فوائد: أولًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤمر وينهى, فهو إذن عبد من عباد الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يأمره وينهاه. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتي بالشريعة من عند نفسه, بل هو ينتظر أمر الله عز وجل إذا أمره الله

فعل, وإن لم يأمره أمسك. ومن فوائد هذا الحديث: الإشارة إلى عدم تشييد المساجد؛ لأنها لو كان تشييدها خيرًا لأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما من خير إلا أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ودل الناس عليه, إما من نفسه ابتداءًا أو من الله عز وجل. ومن فوائد هذا الحديث: أن الأولى أن تكون المساجد متواضعة, يعني: متواضع فيها في بنائها, وأما زخرفتها خلاف مقصود الشارع؛ لقوله: «ما أمرت بتشييد المساجد» , هذا إذا كان التشييد لا يلزم منه محظور, أما إذا كان فيه محظور فإنه ينهى عنه, ولا يقتصر على القول بأننا ما أمرنا بذلك, فمن هذا ما ينشر في قبلة المسجد, في بعض المساجد ينشر الله وإلى جانبه محمد, والذي ينظر إليهما يعتقد أنهما سواء, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ند لله تعالى؛ لأن الحرف واحد ولفظ الجلالة على اليمين, ولفظ محمد على اليسار, وهذا لا شك أنه دخيل على الإسلام, فالمسلمون لم يكونوا يكتبون في القبلة شيئًا, بل يكرهون ذلك كما نص عليه الإمام أحمد رحمه الله فكيف إذا كتبت مثل هذه العبارة؟ أرى أن من رأى أحد المساجد فيها هذه الكتابة أن يبلغ المسئولين في وزارة الشئون الإسلامية حتى تبرأ ذمته. وفي هذا الحديث: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لتزخرفنها كما زخرفتها اليهود والنصارى» , وهذا هو الذي حصل أنها زخرفت, أحيانًا يدخل الإنسان المسجد ويقول: ما هذا أهذا قصر ملك أم حجرة تاجر, حتى إنه في بعض الأحيان تجد الفراش لينًا كأنه فراش ×××, وهذا من الترف الزائد الذي لا ينبغي أن يعتاده المسلمون, نسأل الله الهداية. 254 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي أجور أمتي, حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد». رواه أبو داود, والترمذي واستغربه, وصححه ابن خزيمة. «عرضت علي» يعني: أوحي إلي بها؛ لأن الأجور إنما تكون بعد؛ يعني: في يوم القيامة, فالذي عرض عليه أنه - عليه الصلاة والسلام - بين له ثوابها, وقوله: «أجور أمتي» يعني: الثواب, وسمى الله - تبارك وتعالى - أجرًا من كرمه - تبارك وتعالى - كأن العبد يعامل ربه معاملة الأجير لأجيره, أو الأجير لمستأجره, ومعلوم أن الأجير مع المستأجر يتعامل بمعاوضة فيلزمه أن يسدد الأجر, فكأن الله تعالى جعل العمل والثواب عليه مثل عقد الإجارة, ونظير ذلك قوله تعالى:

تحية المسجد

{من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له} [البقرة: 245]. من المعلوم أن الله عز وجل غني عنا وعن قرضنا, لكن شبه معاملته بالقرض لوجوب وفاء القرض على المستقرض, وكأن الله تعالى ضمن للعامل أن يثنيه, كما أن المقترض يردد القرض على مقرضه, وقوله: «أجور أمتي» المراد بها: أمة الإجابة؛ لأن أمة الدعوة من لا يستجيب منهم ليس له أجر؛ ولهذا نقول: إن الأمة إذا جاءت في الحديث فلها معنيان: المعنى الأول: أمة الدعوة, وهذه تشمل كل إنسان بلغ التكليف من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم, هذه أمة الدعوة. أمة الإجابة هم الذين استجابوا للرسول صلى الله عليه وسلم واتبعوا شريعته. يقول: «عرضت علي أجور أمتي» والعارض هو الله عز وجل, والمعنى: أن بين للرسول صلى الله عليه وسلم أجور أمته حتى في هذه المسألة وهي: «حتى القذاة» , وهي: القذى التي تكون في العين وهو شيء يسير جدا جدا, ولولا أن القذاة تكون في العين ما أحس بها, فهي عبارة عن أذى صغيرة كقطعة الصلصلة الصغيرة, أو حبة رمل, أو ما أشبه ذلك. «يخرجها الرجل من المسجد» تنظيفًا للمسجد. فيستفاد من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على أجور الأمة؛ لقوله: «عرضت علي أجور أمتي». ومن فوائده: الحث على تنظيف المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في ذلك أجرًا, وإن كان القذى يسيرًا, ولكن إذا كان القذى نجسًا وجبت إزالته وتطهير موضعه, وإن لم يكن نجسًا فإن كان مؤذيًا للمصلين وجب إزالته أيضًا, وإن لم يكن مؤذيًا ولكنه خلاف النظافة التامة فإنه يستحب إزالته. ومن فوائد هذا الحديث: تعظيم شأن المساجد, وأنه ينبغي أن تكون نظيفة منقاة من كل أذى, وهذا لا يعارض ما سبق من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في تشييد المساجد؛ لأن هذا ما يكون في الأراضي في أرض المسجد من الأذى ونحوه. تحية المسجد: 255 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلين ركعتين». متفق عليه. قوله: «إذا دخل أحدكم المسجد» المسجد: المكان المعد للصلاة الذي تقام فيه الصلاة, وليس المراد: كل مصلى, بل المساجد المعهودة المفتوحة للناس يصلون فيها, و «أل» في قوله: «المسجد» للاستغراق؛ أي: أي مسجد تدخله صغيرًا كان أو كبيرًا جامعًا كان أو للصلوات الخمس, «فلا يجلس» أي: في المسجد إذا كان يريد الجلوس, «حتى يصلي ركعتين» وهاتان

الركعتان تسميان عند أهل العلم: تحية المسجد. ففي الحديث فوائد: منها مشروعية الصلاة عند دخول المسجد قبل أن يجلس؛ لقوله: «فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» , وهل هذه المشروعية على سبيل الوجوب, أو على سبيل الاستحباب؟ اختلف في هذا أهل العلم, وأكثرهم على أنها على سبيل الاستحباب, وحجة القائلين بالوجوب: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجلس حتى يصلي ركعتين, والأصل في النهي التحريم؛ لأن هذه عبادة, والأصل أن النهي في العبادات التحريم, ومن الأدلة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب الناس يوم الجمعة فدخل رجل فجلس, فقال له: «أصليت؟ » قال: لا. قال: «قم فصل ركعتين وتجوز فيهما». وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع الخطبة وهي موجهة إلى الناس والناس مشرئبون لسماعها فقطعها ليخاطب هذا الرجل. ثانيًا: أنه أمره أن يصلي ويتجوز في صلاته, مع أن الصلاة هذه سوف يتشاغل بها عن استماع الخطبة, والتشاغل عن استماع الخطبة محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب, فقد لغوت». هذا مع أنه نهى عن منكر. وجه ثالث: أنه قال: «تجوز فيهما» مما يدل على أن هذه الصلاة شبه ضرورة تتقدر بقدرها, ولا شك أن هذا استدلال قوي, فالقول بالوجوب قوي جدًا. أما حجة القائلين بأنها لا تجب فاحتجوا بأمور منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخبره بأن عليه خمس صلوات في اليوم والليلة, قال: هل علي غيرها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا, إلا أن تطوع». فقوله: «لا» يشمل كل صلاة سواء كانت ذات سبب أم لا, ولكن في هذا الاستدلال شيء من النظر؛ لأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الصلوات الخمس الدائمة, فليس يوجد صلاة دائمة بدوام الأيام وواجبة غير هذه الصلوات الخمس, نعم يستدل بهذا الحديث على عدم وجوب صلاة الوتر؛ لأنها صلاة تتكرر في اليوم والليلة, فيستدل بهذا الحديث على عدم وجوبها. ويقال في الرد على هذا الدليل: صلاة دخول المسجد لها سبب عارض فتقييد بسببها؛ كصلاة الكسوف مثلًا على قول من يرى أنها واجبة, فإنها خارجة عن الخمس لكن لها سبب أوجبها, وكصلاة العيد فإنها واجبة وهي خارجة عن الصلوات الخمس لكن لها سبب وهو العيد, فمراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا, إلا أن تطوع»: الصلوات التي تدور بدوران الأيام. كذلك أيضًا يقال في رد هذا الاستدلال: لو أن الإنسان نذر أن يصلي وجبت عليه الصلاة؟ وجبت عليه الصلاة مع أنها ليست من الصلوات الخمس, لكن لها سبب وهو النذر, فالمهم

أن الاستدلال بهذا الحديث لا يستقيم. قالوا: ومن الأدلة على أنها ليست واجبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى الجمعة فيبدأ بالخطبة ولا يصلي ركعتين, وهذا يدل على أن تحية المسجد ليست بواجبة, فهذا الاستدلال قد يقول قائل: إن فيه شيئًا النظر؛ لأن الخطيب لا يجلس في الخطبة إلا بين الخطبتين, وهو جلوس يسير لإظهار الفرق بين الخطبتين بالفعل وبالقول, أما بالقول فيسكت عند الخطبة الأولى, وأما بالفعل فيجلس, وأيضًا الخطبة تبع للصلاة – صلاة الجمعة – وهو لن يجلس بعد الجمعة بل سيبدأ بصلاة الجمعة فضعف الاستدلال. استدلوا أيضًا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة ودخل المسجد الحرام بدأ بالطواف, ثم صلى بعد ذلك ركعتين, وهذا الاستدلال أيضًا في نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ الطواف وجعل يمشي ولم يجلس, فإنه – عليه الصلاة والسلام – لم يجلس, بل طاف ثم صلى ركعتين. فالمهم: أن القول بوجوب تحية المسجد قول قوي لا يكاد الإنسان يأتي بدليل واضح يدل على عدم وجوبها. استدلوا أيضًا: بعدم الوجوب بقصة كعب بن مالك رضي الله عنه حين دخل المسجد حين تاب الله عليه وتلقاه الناس يهنئونه, ولم يذكر في الحديث أنه صلى ركعتين, لكن هذا الاستدلال أيضًا فيه شيء من النظر؛ لأنه قد يقال: إن كعب بن مالك ليس على وضوء, ومن ليس على وضوء لا تجب عليه الصلاة, وكيف يمكن أن نقول بوجوب الصلاة وهو على غير وضوء. فإن قال قائل: إن كعب بن مالك يحكي عن نفسه أنه جاءت البشرى بعد صلاة الفجر والأصل بقاء وضوئه, فقد دخل المسجد وهو على وضوء. قلنا: هذا متعينًا, وإذا كان الاحتمال في الاستدلال بطل الاستدلال به. استدلوا أيضًا: بقصة الثلاثة الذين دخلوا المسجد؛ فأحدهم جلس في الحلقة, والثاني وراء الحلقة, والثالث ولى, ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة. والجواب أن يقال في هذا الاستدلال: إن هذه قضية عين, فلعل النبي صلى الله عليه وسلم شاهدهم حين دخلوا فصلوا, وليس في الحديث أنهم لم يصلوا ركعتين, على كل حال: فالإنسان إذا أراد أن يبرئ ذمته فلا يجلس إذا دخل المسجد وهو على طهارة حتى يصلي ركعتين. من فوائد هذا الحديث: أن الركعتين تصليان كل وقت لعموم قوله: «إذا دخل أحدكم المسجد» , فإن «إذا» ظرف زمان يطلق غير مقيد, فيصلي تحية المسجد في أي وقت دخل حتى بعد صلاة الفجر, حتى بعد صلاة العصر, حتى عند قيام الشمس عند الزوال, ويصلي تحية المسجد متى دخل, وقيل: لا يصلي تحية المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة بعد صلاة الصبح

حتى تطلع الشمس, ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس». وهذا نهي عن الصلاة, عن أي صلاة؛ لأن (لا) نافية للجنس, فيكون نفيها نصا في التعميم فلا يصلي, ولكن الجواب عن هذا أن يقال: هذا الحديث «لا صلاة بعد صلاة الصبح ولا صلاة بعد صلاة العصر» خاص في الوقت, عام في الصلاة؛ كيف؟ خاص في الوقت من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس ومن صلاة العصر إلى الغروب, وهو عام في الصلاة, وحديث أبي قتادة عام في الوقت خاص في الصلاة, فبينهما عموم وخصوص من وجه كل واحد منهما أعم من الآخر, وحينئذ ننظر أيهما أقوى عمومًا, فإذا نظرنا أيهما أقوى عمومًا تبين أن الأقوى حديث أبي قتادة: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» , فيؤخذ بعمومه ويقال: في أي وقت تدخل المسجد لا تجلس حتى تصلي ركعتين, وهذا القول هو الراجح أن تحية المسجد ليس فيها وقت نهي. فإن قال قائل: هل يمكن أن يقاس عليها بقية النوافل التي ليس لها سبب كسنة الوضوء, وصلاة الاستخارة, فيما يفوت وما أشبه هذا؟ فالجواب: نعم, يقاس عليها؛ لأن العلة واحدة, وهي وجود السبب, فلقوة هذا السبب ارتفع النهي, وأيضًا في بعض ألفاظ حديث النهي: «لا تتحروا الصلاة» , وهذا يدل على أن المقصود بذلك من يتحرى الصلاة ويصلي في وقت النهي, وهو الذي يصلي صلاة تطوع ليس لها سبب, فالصواب إذن: الرواية الأخرى عن الإمام أحمد, وهي مذهب الشافعي واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا نهي عن كل صلاة ذات سبب, من ذلك مثلًا ركعتا الوضوء, وركعتا الطواف, وركعتا الاستخارة فيما يفوت وغير ذلك. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو صلى فريضة عند دخوله المسجد لكفى, وجه الدلالة: أن الفريضة يصدق عليها أنها ركعتان, فإذا دخل المسجد وصلى صلاة الفجر وجلس فقد أدى ما عليه؛ لأن الحديث عام فلا يجلس حتى يصلي ركعتين, والمقصود هو افتتاح المسجد بصلاة ركعتين, وهذا يحصل بالفريضة كما يحصل بالنافلة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لو صلى ركعة واحدة لم تجزئه كما لو كان الإنسان لم يوتر فدخل المسجد فأوتر بركعة واحدة فإنه لا يجزئ لظاهر الحديث؛ لأنه قال: «حتى يصلي ركعتين» ولم يطلق, يعني: لم يقل: حتى يصلي, لو قال: حتى يصلي فلا إشكال, وكذلك لو دخل وصلى صلاة المغرب فإنه لم يصل ركعتين بل صلى ثلاثة, لكن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في الشيء الدائم, أما الشيء النادر فإذا سمي صلاة شرعًا أجزئ عن ركعتين, وعلى هذا فإذا دخل المسجد

في آخر الليل ولم يوتر فأوتر بركعة ثم جلس فقد أدى ما عليه, ويكون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «حتى يصلي ركعتين» بناء على الغالب, وإلا فلو صلى ركعة أو ثلاث ركعات لأدى ما عليه. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا دخل المصلى فلا تحية عليه, المصلى الذي عده الإنسان مكانًا للصلاة في بيته أو في مزرعته أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا المصلي لا يسمى مسجدًا. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا دخل مصلى العيد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لأن مصلى العيد مسجد. فإن قال قائل: ما هو الدليل على أن مصلى العيد مسجد؟ فالجواب: الدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء أن يخرجن لصلاة العيد ليشهدن الخير ودعوة المسلمين, وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى, وهذا الحكم خاص بالمساجد؛ أعني: أن الحائض لا تدخل المسجد, خاص بالمساجد, فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكمًا خاصًا بالمساجد ثابتًا لمصلى العيد دل ذلك على أن مصلى العيد مسجد؛ ولهذا قال فقهاؤنا رحمهم الله – أعني: الحنابلة -: مصلى العيد مسجد لا مصلى الجنائز, كيف مصلى الجنائز؟ لأنهم كانوا يجعلون للجنائز مصلى خاصًا خارجًا عن المسجد فلا يكون هذا المسجد الذي ترك للصلاة على الأموات ليس له حكم المساجد بخلاف مصلى العيد. فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيدلما دخل لم يصل ركعتين؟ فالجواب: بل صلاهما؛ لأن صلاة العيد من حين يأتي الإمام يشرع فيها. فإن قال قائل: الناس يخرجون إلى مصلى العيد مبكرين وهو وقت نهي, فما الجواب؟ الجواب: أما على قول من يرى أنه لا تصلى تحية المسجد وقت النهي فإنه لا يصلي, وأما على القول الراجح أنه يصلي تحية المسجد ولو وقت النهي؛ لأنه لا فرق بين مصلى العيد والمساجد الأخرى. ومن فوائد هذا الحديث: تعظيم المساجد, وهذا هو الشاهد لسياق هذا الحديث في باب المساجد؛ بحيث لا يجلس الإنسان فيها حتى يؤدي التحية لله عز وجل. ثم قال المؤلف رحمه الله:

7 - باب صفة الصلاة

7 - باب صفة الصلاة أي: هيئتها القولية والفعلية، وإنما عقد العلماء- رحمهم الله- لصفة الصلاة بابًا، وصفة الحج بابًا، وللصيام بابًا، وللزكاة بابًا، لأن العبادة لا تصح إلا بشرطين: أحدهما: الإخلاص لله. ... والثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا تمكن المتابعة إلا إذا علمنا كيف نعمل، أما أن نتخرص ونعمل فلا يصح، وحينئٍذ يتبين أنه لابد للإنسان أن يعرف صفة النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي كما صلى، لاسيما وأنه قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وحينئٍذ نأخذ صفة الصلاة من السنة، ونستعين على ذلك بما كتبه أهل العلم- رحمهم الله- في كتب الفقه. بدأ المؤلف بحديث ينبغي أن يكون أصلًا في الموضوع وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قمت إلى الصلاة ... إلخ". والمؤلف رحمه الله يختصر الأحاديث فلا يأتي إلا بالشاهد، وليته لم يفعل؛ لأن مثل هذا الحديث قصة ينبغي أن تروي كما هي من أولها إلى آخرها؛ ولأن ما حذفه فيه فوائد كثيرة، لكن يجاب عن هذا بأن المؤلف أراد أن يكون هذا الكتاب مختصرًا. أسئلة: - لماذا احتاج العلماء- رحمهم الله- إلى التبويب لصفة الصلاة؟ - هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بأن نصلي على الصفة التي صلاها؟ 256 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". أخرجه السبعة، واللفظ للبخاري. حذف المؤلف أول الحديث، لأنه ليس له علاقة واضحة بهذا الباب, ولكن ليته لم يحذفه؛ لأن فيه فوائد وهو سطر أو أقل، وأوله: أن رجلًا دخل المسجد وصلى لكن دون أن يطمئن في الصلاة، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، قال: السلام عليك، قال: "عليك السلام" ثم قال: "ارجع فصل فإنك لم تصل". "ارجع فصل" ليس فيها إشكال، "فإنك لم تصل" نفى أن يكون صلى مع أنه صلى بالفعل، لكن هذه صلاة غير مجزئة بل غير صحيحة، فلهذا نفى أن يكون قد صلى، وهذا نفى الوجود الشرعي أو الحسي؟ الشرعي قال: "لم تصل"، فرجع

الرجل وصلى كما صلى أولًا، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام وقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" فرجع للمرة الثانية وصلى كالأول، ثم جاء فسلم فرد عليه السلام وقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" ثلاث مرات، قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، سبحان الله! صحابي لا يعرف كيف يصلي، ويقول هذا الأسلوب العجيب، قال: والذي بعثك بالحق ولم يقل: والله يا رسول الله، قال: والذي بعثك بالحق إشارة إلى أنه سيلتزم بما قال الرسول- عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه مبعوث بالحق، وإذا كان قد أقر بأنه مبعوث بالحق فإنه يلزم أن يعمل بما قال، "والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا" ولم يسكت رضي الله عنه، بل طلب العلم: "فعلمني"؛ فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء" أي: إذا أردت القيام، واعلم أنه يعبر بالفعل عن إرادته إذا كانت الإرادة جازمة قريبة من الفعل، فإذا كانت الإرادة جازمة قريبة من الفعل بهذين القيدين أطلق الفعل على الإرادة، ومنه كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: "أعوذ بالله من الخبث والخبائث" إذا دخل يعني: أراد الدخول، هنا: "إذا قمت إلى الصلاة" يعني: إذا أردت القيام جازمًا قريبًا "فأسبغ الوضوء" أسبغ بمعنى: أكمل، كما في قول الله تعالى: {وأسبغ عليكم نعمه، ظاهرًة وباطنًة} [لقمان: 20]. أي: أكملها، "أسبغ الوضوء"، "الوضوء" يقال: بفتح الواو وبضم الواو، فإن قيل بضم الواو فالمراد به: الفعل، يعني: حركات المتوضئ، وإن قيل بالفتح فالمراد به: الماء الذي يتوضأ به، وكذلك نظائره كالطهور والطهور، والسحور والسحور، وحينئٍذ "ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء" بضم الواو، "تسحروا فإن في السحور بركة". هل بالفتح أو بالضم؟ هذا يحتمل أن المعنى: فإن في فعلكم بركة، ويحتمل أن المعنى: أن في الطعام الذي تأكلونه في آخر الليل بركة، وكلاهما صحيح، إذن فإن في السحور بركة، يجوز أن تقرأه: في السحور، أو في السحور. "فأسبغ الوضوء" أي: للفعل، "ثم استقبل القبلة فكبر" لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من الشروط سوى الوضوء واستقبال القبلة، فإما أن يكون الرجل، لم يخل بشئ؛ لأنه مشاهد فهو مستور عورته ورجل يميز يعني بقية الشروط معروفة. فيبقى علينا إذا كنت تعلل بعدم ذكر الشروط بأنه يرى لو أخل بها فلماذا ذكر الوضوء؟ فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من حال هذا الرجل الذي لا يحسن أن يصلي أن فيه احتمالًا كبيرًا أنه لا يحسن الوضوء، وهذا واضح، "ثم استقبل القبلة فكبر" أي: قل: الله أكبر، وهذه تكبيرة الإحرام، وسميت بذلك لأن الإنسان إذا كبر دخل في حريم الصلاة كما أنه إذا لبى دخل في حريم النسك، "ثم استقبل القبلة فكبر" أي قل: الله أكبر هذا التكبير، ولم يقل: كبر الله، لأن

الأمر معلوم، "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" "اقرأ" يعني: بعد التكبير، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الاستفتاح، إما رفقًا بحال هذا الرجل لئلا تكثر عليه الطلبات فيضيع بعضها بعضًا؛ وإما لأنه- أي: الاستفتاح- غير واجب، ولاشك أن الاستفتاح غير واجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". "ما تيسر معك من القرآن" "معك" بمعنى: عندك، والتيسر ضد التعسر بأن يكون الإنسان حافظًا فهذا الذي يريد أن يقرأه سهلًا عليه أن يقرأه من القرآن؛ أي: كلام الله عز وجل، وسمي قرآنًا، لأنه يقرأ ويتلى، أو لأنه مجموع مجتمع بعضه إلى بعض، ومنه القرية لأنها مجتمعة بعضها إلى بعض، فقرأ يقرأ قرآنًا يكون من هذا الباب، ولا مانع أن تقول: إنه مشتق من هذا من القراءة التي هي التلاوة، ومن القراءة التي هي جمع الشيء، قوله: "من القرآن" مصدر كالرجحان، والغفران، والشكران، يعني: أنه مصدر على وزن "فعلان" فهل هو بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول، إن كان بمعنى فاعل فالمعنى: أن كلام الله جامع لأحكام شرعية عقدية اجتماعية كل شيء، وتؤيده قوله {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيٍء} [النحل: 89]. أو هو بمعنى مفعول، أي: مقروء؛ لأن الناس يقرءونه؟ نقول: هو صالح لهذا وهذا، وليس بينهما منافاة، بل يكون بمعنى هذا وهذا، فهو قارئ أي: جامع للأحكام التي تحتاجها الأمة، وهو بمعنى مقروء فيكون بمعنى مقروء فيكون بمعنى اسم الفاعل، واسم المفعول. "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا" الركوع هو انحناء الظهر تعظيمًا لمن يركع له، وسيأتي- إن شاء الله- بيان الواجب منه، الركوع: حتى الظهر تعظيمًا لمن يركع له، "حتى تطمئن راكعًا" يعني: حتى تستقر، مأخوذ من الطمأنينة وهي الاستقرار. "ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا" اللفظ: "حتى تعتدل"، وفيه رواية: "حتى تطمئن"، فيحمل هذا اللفظ "حتى تعتدل" على اللفظ الآخر، "حتى تطمئن" وتكون أفعال الصلاة كلها على حد سواء. فإذا قال قائل: لماذا لا نأخذ بلفظ: "تعتدل" لأنه أيسر؟ قلنا: إذا أخذنا بلفظ: "تعتدل" أهملنا لفظ: "تطمئن"، وإذا أخذنا بلفظ "تطمئن" فقد أخذنا بهذا وهذا. "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا" السجود هو: الخرور من القيام إلى الأرض بحيث يضع الإنسان جبهته على الأرض إجلالًا لله عز وجل وقوله: "تطمئن ساجدًا" كما قلنا في "تطمئن راكعًا" ولا يخفى عليكم أن كلمة "ساجدًا" و" راكعًا" منصوبان على الحالية.

"ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا" أي" قاعدًا، ولم يبين في الحديث كيف الجلوس، "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا" السجدة الثانية. "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" "افعل ذلك" المشار إليه: القراءة، الركوع، الرفع منه، السجود، الرفع منه، السجود مرة ثانية، ثم الرفع، القيام، وقوله: "في صلاتك كلها" يحتمل أن المعنى: في كل الصلاة المعينة، ويحتمل: في كل الصلوات المقبلة، فأيهما أعم، فيكون المعنى: افعل هذا في جميع صلاتك كما فعلت في الركعة الأولى افعل في الركعة الثانية، وافعل في الصلاة المقبلة. ولابن ماجه بإسناد مسلم: "حتى تطمئن قائمًا" الإسناد صحيح، والمعنى لا ينافي قوله: "حتى تعتدل قائمًا" فنقول: نرجح ما اتفق عليه السبعة فلا منافاة. في هذا الحديث الذي يترجم عنه بأنه حديث المسيء في صلاته هذه العبارة لم ترد عن الصحابة، فلا أحب أن يعبر بها؛ لأن الإساءة إنما تكون في الغالب عن قصد، وهذا الرجل لم يقصد، وعليه إذا لم تثبت عن الصحابة، فنقول: الأولى أن يعبر فيقال: حديث الجاهل في صلاته؛ لأنه جاهل هذا هو حقيقة الأمر. في هذا الحديث فوائد: ملاحظة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ يعني: ليس يجلس بين أصحابه يحدثهم ويغفل عن الناس الذين يدخلون، بل يراقب- عليه الصلاة والسلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى الخلق، فيراقب أفعالهم ليهديهم الصراط المستقيم، ولاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد راقب هذا الرجل. ومن فوائد الحديث: مشروعية السلام وتكراره ولو لم يطل الفعل، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر هذا الرجل على تكرار السلام. ومنها: أنه إذا سلم الإنسان ولو كرر السلام إذا كان تكراره مشروعًا فإنه يرد عليه، أما إذا كان سلامه غير مشروع فهل يرد عليه أو لا؟ الجواب: لا، لا يجب الرد؛ ولهذا قال الفقهاء- رحمهم الله-: من سلم على شخص في حال لا يسن فيها السلام فإنه لا يجب رد السلام عليه، كالمشتغل بالقراءة وما أشبه ذلك، ويدل لهذا أن الصحابة إذا أرادوا أن يسألوا الرسول- عليه الصلاة والسلام- ليسوا يسلمون عليه ما داموا معه فلا حاجة أن يلقى السؤال فيسلم، السلام للقادم أو ما كان في حكم القادم. ومن فوائد هذا الحديث: جواز إقرار الإنسان على عمل فاسد من أجل إصلاح العمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الرجل على الصلاة في المرة الثالثة، وهو يعلم أنه لو كان عنده علم لاطمئن في صلاته لكن بشرط- يعني: إذا أقررناه على العمل الفاسد- أن نبين الصحيح، ويدل لهذا قصة عائشة رضي الله عنها في بريرة. وكانت أمة لقوم من الأنصار كاتبوها- يعني: باعوا نفسها عليها- على تسع أواٍق

من الفضة، خرجت الأمة تطلب من الناس المعونة، فأتت إلى عائشة، فقالت لها عائشة: إن أراد أهلك أن أعدها لهم وولاؤك لي فعلت؛ يعني: أنقدها نقدًا، وليست مؤجلة وتعرفون الكتابة لابد أن تكون مؤجلة، وهل عرفتم الكتابة؟ هي شراء العبد نفسه من سيده ذهبت إلى أهلها، وقالت لهم، فقالوا: لا، الولاء لنا، فرجعت إلى عائشة وقالت: إن أهلها أبوا إلا أن يكون الولاء لهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع، فقال: "خذيها واشترطي لهم الولاء"، فأخذتها واشترطت الولاء لهم، مع أن هذا الشرط باطل، أبطله النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أقرها على هذا الباطل من أجل أن يبين إبطاله وإن شرط وهذه مصلحة ولذلك اشترط عليها الولاء لهم، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا وأبطل الشرط، فإقراره على شرطه مع أنه فاسد- والشروط الفاسدة كلها حرام سواء التزمها الإنسان أم لم يلتزمها- من أجل أن يبين أن الشرط الفاسد لا ينفذ ولو شرط، إقرار النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل على صلاته الباطلة من أجل أن يبين أن من فعل الصلاة الباطلة فإنها لا تجزؤه حتى يقيمها كما أمره الله. أسئلة: - هذا الحديث له اسم عند أهل العلم يعرف به ما هو؟ - وما هو الاسم الذي قلنا إنه ينبغي أن يكون عليه؟ - ما الذي حذف من الحديث؟ - هل لما حذف له تعلق بصفة الصلاة؟ - ما معنى قوله: "أسبغ الوضوء"؟ ... - ما معنى الركوع؟ - ما معنى قوله: "اطمئن"؟ - قوله: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها"؟ ومن فوائد الحديث: أن من ترك شيئًا من الواجبات جاهلًا فلا إعادة عليه، إلا إذا كان في وقت يطالب به، وهذه قاعدة مفيدة، فهذا الرجل لم يؤمر بالإعادة إلا مما كان في وقته، وعلى هذا فلو قدر أن إنسانًا له سنة أو سنتان يصلي ولا يطمئن ثم جاء يسأل في وقت الضحى هل نأمره بإعادة صلاة الفجر وما قبلها؟ لا، وهذا الحكم تشهد له أصول الشريعة، فإن الله تعالى قال: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. وهذا يعم جميع المحظورات كما هو معروف، ويعم الواجبات التي جاءت السنة بعدم قضائها، ويدل لهذا أيضًا أن الجاهل بالشريعة كالذي لم يبعث إليه رسول، وقد قال الله- تبارك وتعالى- {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} [الإسراء: 15]. وقال- تبارك وتعالى: {رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165]. وقال تعالى: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولًا يتلوا عليهم ءايتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} [القصص: 59].

ويدل لهذا أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المستحاضة التي كانت تدع الصلاة وقت استحاضتها بانية على الأصل، وهو أن الأصل أن الدم حيض فلم يأمرها بالإعادة، ويدل لهذا أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمار بن ياسر رضي الله عنه حين تمرغ على الصعيد من أجل التطهر من الجنابة وصلى بهذا ولم يأمره بالإعادة؛ لأنه كان جاهلًا وبنى على قياس ليس بصحيح بعد أن تبين الحكم بالنص، المهم أن هذه قاعدة تنفعك، ولكن هل نطلق العذر بهذا النوع من الجهل، أو نقول: إذا لم يفرط؟ هذه مسألة في الحقيقة تحتاج إلى تحر. قد تقول: إنه إذا كان في بادية ولا يطرأ على باله وجوب هذا الشيء وليس عنده علماء وكل من حوله جهال ليس في الصلاة فقط حتى في الصيام مثلًا، لو فرض أن امرأة بلغت بالحيض لا بالسن ولم يطرأ على بالها ولا على بال أهلها أنها تصوم حتى تبلغ خمس عشرة سنة، وهي قد بلغت في السنة الثانية عشرة فتركت قبل الخامسة عشرة ثلاث رمضانات فإننا لا نأمرها بالقضاء، ونقول: استجدي النشاط على الطاعة في المستقبل، لكن لو كان هذا الذي جهل الأمر في مدينة العلم فيها واسع وكثير والعلماء كثيرون لكنه تهاون ولم يسأل، أو قيل له: اسأل، فقال: {يا أيها الذين ءامنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101]. فهذا ليس بمعذور؛ لأنه أمكنه ونبه على هذا ولم يفعل. فالحاصل: أن الجهل المطبق الذي لا يطرأ على بال الإنسان وجوب الشيء وهو في غفلة تامة لا في تغافل، فهذا لا يلزم بقضاء ما فات من الواجب. فإن قال قائل: هذا واضح فيما إذا كان الحق بين العبد وبين ربه، ولكنه إذا كان الحق يتعلق به حق الغير، كما لو كان لا يزكي على ماله جهلًا منه بوجوب الزكاة، فهل يلزمه أن يزكي لما مضى، أو نقول: هو على القاعدة؟ الظاهر: الثاني، لأن حق الفقراء في الزكاة ليس حقًا محضًا، بل هو أوجبه الله لهم، يعني: ليس كالذين الذي نقول: يجب على الإنسان قضاء الدين ولو طالت المدة، بل هذا حق أوجبه لهم ففيه شائبة أكبر من حق الله عز وجل من شائبة المخلوق، هل نقول مثل ذلك لو أن شخصًا ترك واجبًا من واجبات الحج، ولم يعلم أن فيه الفدية، هل نقول: تسقط عنه؟ الجواب: لا، وجه ذلك: أن الفدية ليس لها وقت معين، فإذا لم يكن لها وقت معين فمتى ذكر أو علم وجب عليه أن يقوم بها. ومن فوائد هذا الحديث: حسن فهم الصحابة- رضي الله عنهم-، فهذا الرجل أعرابي لما أراد أن يقسم على أنه لا يعرف غير هذا؛ عدل عن الإقسام بالله إلى الإقسام بصفة تشعر بأنه ملتزم بما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "والذي بعثك بالحق"، وهل نقول: إنه إذا حلف على شيء فإنه يختار من أسماء الله ما يناسبه؟ الجواب: في هذا تفصيل، أما إذا كان الشيء يحتاج إلى ذكر المناسب فليذكره، وأما إذا كان لا يحتاج فالقسم بالله أولى- يعني: بلفظ الله-.

ومن فوائد هذا الحديث: أن طلب التعليم لا يدخل في السؤال المذموم، لأن الرجل قال: "علمني"، وليس كالمال؛ يعني: سؤال العلم أهون بكثير من سؤال المال؛ لأن المال النفوس مجبولة على محبته، فسؤال الغير المال يكون ثقيلًا عليهم، لكن العلم ليس ثقيلًا على النفوس وبذله سهل، فسؤاله ليس فيه كراهة إطلاقًا، بل قد نقول: إنه واجب، ولكن هل نقول: إن الإنسان ينبغي أن يسأل في الوقت المناسب، أو يسأل ولو شق على المسئول؟ الأول: أحيانًا لا يناسب السؤال، لاسيما إذا لم يكن ضروريًا فهنا لا تسأل تحرج صاحبك، ربما يتحمل ويتحمل ويتحمل، لكن مع إحراج؛ مثل أن يكون محتاجًا إلى أن يقضي حاجته، أو محتاجًا إلى موعد قرره من قبل أو ما أشبه ذلك، ويعلم هذا بحال العالم الذي تريد أن تسأله فرق بين أن يكون متأهبًا لتلقي الأسئلة، وأن يكون على عجل، فلا تسأل إلا عن المسائل الضرورية فلا بد منها. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يشرع الوضوء لكل صلاة؛ لقوله: "إذا قمت إلى الصلاة" وهذا يعم جميع الصلوات، ولكنه ليس على سبيل الوجوب إلا على من أحدث؛ ولهذا قال أهل العلم: يستحب تجديد الوضوء عند كل صلاة؛ لأنهم أخذوا هذا من عموم قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} [المائدة: 6]. ولكن لا يجب إلا عن حدث؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يصلي أحيانًا الصلوات الخمس كلها بوضوء واحد. ومن فوائد هذا الحديث: أن الوضوء شرط لصحة الصلاة؛ لأنه أمر به للصلاة وهو سابق عليها، وكل ما يجب للصلاة قبلها فهو من شروطها؛ لأن الأركان نفس ماهية العبادة والشروط سابقة تقضي قبل الدخول في العبادة، لكن بعضها قد يلزم أن يصحب العبادة إلى آخرها كاستقبال القبلة، والطهارة، وستر العورة، وما أشبه ذلك. ومن فوائد هذا الحديث: عدم التفصيل في المجمل إذا كان معلومًا؛ لقوله: "أسبغ الوضوء"، ولم يبين كيف الوضوء؛ لأنه معلوم على أنه ربما يكون هذا الرجل لا يعرف الوضوء لكن لو كان لا يعرفه لقال: علمني؛ لأن المقام مقام تعليم. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب استقبال القبلة؛ لقوله: "ثم استقبل القبلة"، وسبق لنا أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة إلا في مواطن، ما هي؟ يسقط في النافلة في السفر، وعند الخوف، وعند العجز، كمريض لا يمكن أن يوجه للقبلة، وأسير، وما أشبه ذلك، وإذا اجتهد وأخطأ. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب تكبيرة الإحرام لقوله بلفظ: "الله أكبر"، فلو أتى بلفظ يدل عليها مثل أن يقول: الله أعظم، لا يجزئ إلا "الله أكبر" بهذا اللفظ، لو قال: الله أجل، أو أعظم، أو أعلم ما يكفي، ولها شروط في الواقع: يشترط أن تكون بهذا اللفظ، ويشترط الترتيب بين الكلمتين "الله أكبر" فلو قلت: الأكبر الله، لم يجزئ؛ لأن الألفاظ الأذكار توفيقية، ويشترط ألا يمد

الهمزة لا في الجزء الأول منها ولا في الثاني، فلو قال: الله أكبر ما أجزأت، ولو قال: الله أكبر ما أجزأت؛ لأنه يحول الجملة إلى استفهامية، يشترط أيضًا ألا يمد الباء فتقول: الله أكبار، قال أهل العلم بأن "أكبار" جمع كبر كأسباب جمع سبب، والكبر: من أسماء الطبل فلا يجزئ، فلو قال: الله ومدها مدًا طويلًا يمد اللام في الله طويلًا جدًا هل يجزئ أو لا؟ الظاهر أنه يجزئ، لكنه أخطأ من حيث التجويد. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب قراءة القرآن حسب ما تيسر باللسان لقوله: "اقرأ ما تيسر معك من القرآن"، وهذا الحديث مجمل، لكن بينت السنة أنه يجب أن يقرأ الفاتحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب"، فإن عجز عنها قرأ ما يكون بقدر آياتها وكلماتها؛ يعني: يعد آيات تكون على قدر كلمات الفاتحة أو أزيد، فإن لم يعرف شيئًا فالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. ومن فوائد هذا الحديث: الإشارة إلى تيسير الشريعة الإسلامية لقوله: "ما تيسر معك من القرآن"، إذا قدر أنه حين دخل الوقت لم يكن يعرف الفاتحة لكن بإمكانه أن يتعلمها، فهل نقول: آخر الصلاة حتى تتعلمها وتقرأ، أو صل في أول الوقت بدون قراءة؟ الأول نقول: إذا كان يمكنه أن يتعلمها قبل خروج الوقت فليفعل؛ لأنه قادر على أن يأتي بالركن قبل خروج الوقت، أما إذا كان لا يستطيع فليصل في أول الوقت على الحال التي يستطيعها. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الركوع لقوله: "اركع" وهو من الأركان، لأن الله تعالى عبر به عن الصلاة التعبير بالجزء عن الكل يدل على أنه ركن فيه، هكذا ذكر العلماء هذه القاعدة المفيدة، وقد عبر الله بالركوع عن الصلاة في قوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43]. وقوله: {يا أيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا} [الحج: 77]. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الطمأنينة وهي الاستقرار، وهل المراد: الاستقرار بقدر الذكر الواجب، أو الاستقرار وإن كان أقل؟ هذان قولان للعلماء، منهم من يقول: يجب أن يستقر بقدر ما يقول: سبحان ربي العظيم. ومنهم من يقول: الاستقرار وإن لم يكن بقدر قول سبحان ربي العظيم، ولكن لو ركع بأسرع مما يقول: سبحان ربي العظيم، وقلنا: إن سبحان ربي العظيم واجبة في الصلاة ومن تركها عمدًا بطلت صلاته لترك الواجب، لكن إذا قلنا: إنها ليست بواجبة أو نسي فصلاته صحيحة، إذا قلنا: أن المراد الطمأنينة ولو أقل من الذكر الواجب، ذكرنا أن الراكع ينحني لكن إذا كان لا يستطيع أن ينحني فماذا يصنع؟ يومئ برأسه وينحني بقدر ما يستطيع، وهذا يأتينا- إن شاء الله- في صلاة أهل الأعذار، وإذا كان أحدب صفته قائمًا وراكعًا على حد سواء فماذا يصنع؟ النية له هي الركوع، ولهذا عبارة الفقهاء: "والأحدب

يجدد للركوع نية"؛ يعني ينوي الركوع الأحدب الذي لا يمكنه، قال ابن عقيل رحمه الله: "كفلك في العربية" ما معناها؟ معناها: أن فلك تصلح للمفرد والجمع فتقال في المفرد، وتقال في الجمع، قال الله- تبارك وتعالى-: {والفلك التي تجرى في البحر} [البقرة: 164]. هذا مفرد أم جمع؟ مفرد تجري، وقوله: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس: 22]. هذه جمع، لا شك أن التشبيه هذا قاله على سبيل التقريب وإلا ما يشبه الفقه بالنحو، ويذكر أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة والكسائي كانا عند هارون الرشيد فادعى الكسائي أن من كان جيدًا في علم النحو أمكنه أن يتلف الفقه، قال: لأنه مادام أجاد فنا من الفنون يمكنه أن يتلف فنًا آخر، فقال له أبو يوسف: أرأيت لو سها في سجود السهو؟ قال الكسائي: لا، قال من أين أخذت هذا؟ قال: من قواعد النحو، قال: عندي قاعدة أن المصغر لا يصغر، والسجود بالنسبة للصلاة مصغر، هذه ذكرت في حاشية الروض المربع، والله أعلم بصحتها. إذا كان الإنسان لا يمكنه الركوع لكنه يمكنه القيام فماذا يصنع؟ يومئ فيه الركوع ويحني ظهره بقدر المستطاع، إذا كان ظهره منحنيًا كالراكع فكيف يركع؟ بالنية. "ثم اركع حتى يطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا" "وتطمئن قائمًا"؛ يعني: لابد من الاعتدال والطمأنينة، الطمأنينة كما قال الفقهاء: السكون وإن قل، وعلى القول الآخر: السكون بقدر الذكر الواجب، ومعلوم أن القيام بعد الركوع ليس فيه ذكر واجب إلا قول: "ربنا لك الحمد" للإمام والمنفرد، أما المأموم فإنه يقول: "ربنا ولك الحمد"، في حال نهوضه من الركوع، "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا"، ولم يبين في هذا الحديث كيف السجود وعلى أي عضو يسجد، ولكن قد جاءت به السنة في مواضع أخرى يسجد على الأعضاء السبعة، وهي: الجبهة، ويتبعها الأنف واليدان؛ أي: الكفان، والركبتان، وأطراف القدمين، ويقال في "حتى تطمئن" ما قيل في "حتى تطمئن راكعًا". ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: وجوب الرفع من السجود والجلوس بين السجدتين لقوله: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا"، هل نقول" يكتفي بالقول: إن الجلوس بين السجدتين من الأركان، أو لابد أن نقول: الرفع من السجود والجلوس، يعني: نعدهما شيئين؟ الجواب: الثاني؛ لأننا نقول: الرفع الجلوس. فإن قال قائل: إذا جلس فقد رفع، فلا حاجة أن نقول: الرفع. والجواب: أن يكون هناك حاجة لو أنه كان ساجدًا وسمع وجبة- يعني: شيء له صوت، ثم فزع وهو ساجد، وقام وقال: ما دام قمت (لا أرجع) يستقيم أولا يستقيم؟ لا يستقيم؛ لأنه لابد

أن يكون الرفع متعبدًا به لله عز وجل وهذا ما نوى، ويذكر أن بعض أهل العلم قال: الرفع من الركوع والجلوس بين السجدتين، وإن كان بعضهم قال: يغني عن قولنا: الرفع من السجود طول الجلوس بين السجدتين، "ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا". ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان إذا جلس بعد السجدة الأولى أجزأه الجلوس على أي صفة كانت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لم يقيده بصفة، لكن دلت السنة أن الجلوس يختلف بين التشهدين وبين الجلسة بين السجدتين في التشهدين، إذا كان في الصلاة تشهدان يكون الجلوس في التشهد الأول افتراشًا والجلوس للتشهد الثاني توركًا، ووضع اليدين سواء في الجلوس بين السجدتين يكون افتراشًا ويكون إقعاء على قول بعض العلماء، والصحيح: أنه لا يسمى إقعاء، ووضع اليدين قال الفقهاء: إنهما تكونان مبسوطتين على الفخذين، ولكن السنة تدل على أن وضع اليدين بين السجدتين كوضعهما في التشهدين، "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا" ويقال فيها كما قلنا في الأولى. ومن فوائد الحديث: أن السجود مرتين ركن من أركان الصلاة، فلو نسي إحدى السجدتين في الركعة الأخيرة ثم سلم فهل تصح صلاته لو أتى بسجود السهو؟ لا تصح؛ لأن سجود السهو لا يغني عن الركن، لكن لو ترك التشهد الأول صح، ولهذا أخطأ بعض المأمومين الذي نسى السجدة الثانية في الركعة الأخيرة، ثم تشهد وسلم فقيل له: إنه نسى السجدة الأخيرة، فانصرف وسجد سجدتين للسهو، فخاطبه بعض المؤمنين قال: ما سجدنا إلا رمة واحدة، قال: هاتان السجدتان تجبران ما نقص؟ خطأ، وجهله نوعه مركب، فالسجدتان لا تجزآن عن الأركان؛ ولهذا لم يعتد النبي صلى الله عليه وسلم بهما حين سلم قبل أن يتم. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الإحالة على العموم لقوله: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وقد جاء تعليم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه، فإن عمر رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة قال: "ألم تكفك آية الصيف". فأحاله على آخر سورة النساء، فإنها صريحة في تبين معنى الكلالة، فالإحالة لا بأس بها في مسائل العلم لكن بشرط أن تكون معلومة، أما إذا أحاله على شيء قد يخفى فيقول الحكم كذلك بشرط، هذا ما يعرف حتى تعرف المسألة المحال عليها، وأما مع الجهالة فلا يجوز: أسئلة: - هل هذا الحديث له سبب، ما هو؟

- كم رده النبي صلى الله عليه وسلم وما الحكمة في ترديده؟ - قوله: "إذا قمت إلى الصلاة" ما معناها، وهل يشمل كل صلاة؟ - الإسباغ ما معناه؟ - قوله: "ثم استقبل القبلة" ما معناه؟ - متى يسقط استقبال القبلة؟ - ما هو الدليل على سقوط استقبال القبلة حال الخوف؟ - رجل كبر في الصلاة وقال: الله اكبر هل تجزئه، ولماذا؟ - ما هو الدليل على أن ذلك يكون استفهامًا؟ - قوله: "اقرأ ما تيسر معك" إذا تيسر {قل هو الله أحد} هل تكفيه؟ - ما هو حد الركوع الواجب؟ أنه يمكن مس ركبتيه بيديه هذا حده أكثر العلم، وبعضهم قال: أن يكون الركوع التام أقرب منه إلى القيام التام. - ما هي الطمأنينة؟ - قوله: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" ما المراد به؟ * نرجع إلى شرح بقية الروايات الخاصة بالحديث: - ولابن ماجه بإسناد مسلم: "حتى تطمئن قائمًا". بدل "حتى تعتدل قائمَا"، والفرق بينهما ظاهر؛ لأنه مجرد الاعتدال بلا طمأنينة لا يكفي، فلا بد من الطمأنينة. فإن قال قائل: هذا مشكل- وهو حقيقة إشكال- كيف تكون القضية واحدة، والقصة واحدة، والمكان الواحد، والزمان واحد، والقائل واحد، ثم يقول بعض الرواة: "حتى تطمئن"، وبعض الرواة: "حتى تعتدل" مع أن الثاني أتى بلفظ يخالف، قال: "حتى تعتدل" فما هو الجواب على هذا الإشكال؛ لأن القضية ليست متعددة حتى نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال مرة: "حتى تعتدل"، ومرة: "حتى تطمئن"؟ الجواب: أن يكون هذا سهل، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حتى تطمئن، أو حتى تعتدل" لكن البعيد لا يسمعها كما يسمعها القريب، فقد يكون أحد الراويين سمعة يقول: "حتى تعتدل" والثاني سمعه يقول: "حتى تطمئن".

فإن قال قائل: هذا مقبول إذا كان الصحابي اثنين، لكن إذا كان الصحابي واحدًا، نقول: الصحابي من روى عنه عدد كثير فسمعه أحد الرواة يقول: "حتى تعتدل"، وآخر يقول: "حتى تطمئن"، وإنما قلنا ذلك لأن من قال: "حتى تطمئن" فقد أتى بمعنى "حتى تعتدل"، وزيادة فنأخذ بهذا ونقول: حتى تعتدل تحمل على حتى تعتدل وتطمئن، وكما في الجلوس بين السجدتين فإنه قال: "حتى تطمئن ساجدًا". قال: 257 - ومثله في حديث رفاعة بن رافع عند أحمد وابن حبان: "حتى تطمئن قائمًا". هذا ليس فيه إشكال، السبب: تعدد الصحابي، وكما قلنا: أن القريب يسمع أكثر مما يسمع البعيد على أن فيه احتمالًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حتى تعتدل"، ثم أعاد وقال: "حتى تطمئن" فنقول: الحمد لله ليس هناك تناقض، والمراد: الطمأنينة. قال: - ولأحمد: "فأقم صلبك حتى ترجع العظام". أخذ بعض العلماء من هذا أنه إذا رفع من الركوع أرسل يديه، وقال: "حتى ترجع العظام" يعني: إلى طبيعتها، ومن جملة العظام اليدان، لكن هذا المأخذ مغالاة في التعميم؛ لأن الكلام على العظام التي تتأثر بالركوع وهي الصلب والورك وما أشبه ذلك، ثم لدينا حديث أحسن من هذا في الدلالة، وهو ما رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل كفه اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" كلمة "في الصلاة" تشمل كل الصلاة، لكن من المعلوم أنه يخرج الركوع، لأن اليدين على الركبتين، ويخرج السجود؛ لأن اليدين على الأرض، ويخرج الجلوس؛ لأن اليدين على الفخذين، يبقى الوقوف الذي قبل الركوع، والذي بعده يدخل في العموم، الإمام أحمد رحمه الله قال: إن الإنسان إذا رفع من الركوع مخير. الآن استثنينا الركوع والسجود والجلوس من عموم "في الصلاة" والعادة أن المستثنى يكون أقل من المستثنى منه هذا هو الراجح، حتى إن بعضهم لم يصحح الاستثناء إذا كان المستثنى أكثر قالوا مثلًا: إن الرجل إذا قال للشخص: له عندي عشرة إلا سبعة يلزمه عشرة؛ لأن هذا الاستثناء غير صحيح، إذا كان المستثنى أكثر فاذكر المستثنى، واقصر عليه قل: عندي له سبعة دراهم، أما أن تقول عشرة إلا سبعة، فهذا قلب. على كل حال: الذي يظهر لي والذي نعمل به ومشايخنا هو أن ما بعد الركوع كالذي قبل

الركوع، إلا شيخنا عبد الرحمن رحمه الله فإنه اتبع في ذلك نص الإمام أحمد، وقال: إن الإنسان مخير بين أن يضع اليد اليمنى على اليسرى وأن يرسل، ورأيته يرسل كثيرًا. - وللنسائي وأبي داود من حديث رفاعة بن رافع: "إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى ثم يكبر الله تعالى، وبحمده، ويثنى عليه". - وفيها: "فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله، وكبره، وهلله". قال: "لا تتم"، ولم يقل: لا تصح، أو لا تقبل، وفرق بين التعبيرين بين "لا تتم"، أو "لا تصح أو لا تقبل"، أو ما أشبه ذلك، "حتى يسبغ الوضوء"، كما أمره الله لقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق واسمحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6]. "كما أمره الله تعالى" أي: ترفع سبحانه عن كل نقص، فتعالى في مكانه وتعالى في صفاته. "ثم يكبر الله تعالى" وهذه تكبيرة الإحرام. "ويحمده ويثنى عليه" هذا الاستفتاح، وفيها- أي: في هذه الرواية-: "فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله". في هذه الرواية في حديث رفاعة فوائد: منها: أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تتم به الصلاة، وتمامها هنا يتناول الواجب والمستحب كما سيتبين. ومن فوائدها: أن الوضوء شرط لصحة الصلاة ويكون سابقًا. ومنها: وجوب الترتيب في الوضوء لقوله: "كما أمره الله". ومنها: أنه لو مسح المغسول وغسل الممسوح لم يجزئه، ما هو الممسوح، الرأس، والمغسول؟ الباقي؛ لأن قوله: "كما أمر الله" هو أمر بالغسل: الوجه واليدين والرجلين، وأمر بمسح الرأس، فلو مسح المغسول وغسل الممسوح لكان غير صحيح؛ لأمه لم يتوضأ كما أمر الله، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". أي: مردود على صاحبه، فأما إذا مسح المغسول فلا شك أن وضوءه لا يصح؛ لأن المسح دون الغسل، ولا يمكن أن يجزئ الأدنى عن الأعلى. لو قائل: إذا غسل المسموح، فالغسل أكمل. فيقال في الجواب عن هذا: الغسل أكمل لكن الشرح أكمل فيجب اعتناق الشرع، والله عز وجل، يقول: {ليبلوكم أيكم أحسن عملًا} [الملك: 2]. فإن قال قائل: إن إيجاب المسح في الرأس رخصة؛ لأنه لو أمر الناس أن يغسلوا رءوسهم في الوضوء لشق عليهم ذلك، في أيام الشتاء المشقة ظاهرة؛ لأن الشعر سيحتقن فيه الماء وهو

خطر على الإنسان، خاصة في أيام الشتاء تحصل أذية وهي تسرب الماء من الشعر إلى البدن والثياب فيتأذى بذلك الإنسان. فإذا قال قائل: إن مسح الرأس بدلًا عن غسله من باب الرأس، والإنسان إذا فعل ما هو أعلى من الرخصة فإنه يصح كما لو صام الإنسان في السفر فله ذلك؟ فالجواب على هذا أن نقول: هذه الرخصة موافقة تمامًا لروح الشريعة الإسلامية وهي التيسير، فهذا الرجل خالف لا من جهة اللفظ {وامسحوا برءوسكم}، ولا من جهة روح الدين الإسلامي التسهيل والتيسير، وأما الصيام فلولا أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر. لقلنا: من صام في السفر لم يجزيء كما قال ذلك أبو محمد علي بن حزم يقول: لو صام في السفر فصيامه غير صحيح، لابد أن يقضي. ولكن هذا القول مردود على قائله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر ولا إشكال في هذا. لو قال قائل: لو غسل ومسح؛ يعني: صب الماء على رأسه، ثم مسحه كالعادة هل يجزئ أو لا؟ هنا نقول: الخلاف الآن في الصفة يعتبر ماسحًا لكنه مسح فيه غلو، والمسألة فيها خلاف: من العلماء من قال: إذا غسل بعد المسح فإنه لا يصح، ومنهم من يقول: إن أمر يده على رأسه صح واعتبر المسح. ولو قال قائل: إنه لا يصح حتى لو مسح لكان له وجه من أجل المخالفة: {وامسحوا}. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة إلى فعل أوامر الله لقوله: "كما أمر الله". وهذه نقطة مهمة جدًا؛ أي: أن الإنسان يفعل العبادة امتثالًا لأمر الله، كثير منا يفعله على أنها عبادة واجبة فقط، ولا يستشعر من الفعل أنه مطيع لله عز وجل، وهذه تفوت الناس كثيرًا ونحرم خيرًا كثيرًا بهذا الفوات، عندما تتوضأ أنو أنك تمتثل أمر الله حين قال: {فاغسلوا وجوهكم} حتى يتم لك الإخلاص والانقياد والذل، أيضًا تلاحظ شيئًا آخر وهو أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به حتى تتم لك المتابعة مع الإخلاص، شيء ثالث: وهو احتساب الأجر، لأن الإنسان إذا توضأ خرجت خطايا أعضائه مع آخر قطرة من الماء، كون الإنسان ينوي الاحتساب هذا مهم جدًا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا"، "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا". "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا". انتبه لهذا أنك محتسب الأجر على الله عز وجل،

وهذا يؤدي أنك تحب الله عز وجل، حيث إنك ترجو هذا الثواب، وما أكثر الذي يفوتنا من هذه الأمور، فنسأل الله أن يوقظنا وإياكم. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لابد من التكبير، وسبق في رواية أبي هريرة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي أن تقدم الثناء والحمد على الله قبل القراءة لقوله: "يحمد الله ويثنى عليه"، هل هناك حمد وثناء؟ نعم: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". يحمد الله ويثنى عليه. قلنا: هذا دعاء الاستفتاح، فإنه فيه الحمد والثناء، فهل هذا يرجح أن تستفتح: بـ "سبحانك اللهم وبحمدك" أم ماذا؟ اختار ابن القيم رحمه الله أنه يرجح، وقال: إن الاستفتاح بـ "ٍسبحانك اللهم وبحمدك" أرجح من الاستفتاح بقولك: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي". وذكر نحو عشرة أوجه تدل على رجحان هذه ذكره في زاد المعاد. لكنه غير مسلم له؛ لأن حديث: "اللهم باعد" أصح بكثير من هذا، فقد أخرجه الشيخان وغيرهما. والراجح في هذا: أن نعمل بهذا تارة، وهذا تارة، فتارة نقول: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد"، وفي بعض الأحيان نقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". فلو قال قائل: أفلا يمكن أن نجمع بينهما؟ فالجواب: لا، لا نجمع بينهما، لأن أبا هريرة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يقول بين التكبير والقراءة، قال: أقول: "اللهم باعد .. الخ". ولو كان يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك" لذكره. قوله: "فإن كان معك قرآنًا فاقرأ" وهذا مطلق فيحمل على المقيد، وهو أن الواجب أن تكون القراءة بفاتحة الكتاب، وقوله: "وإلا" يعني: وإلا لم يكن معك قرآن "فاحمد الله" يعني قل: "الحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله"، هذا البدل الآن هل يساوي المبدل منه أم لا؟ الجواب: لا، يساوي آية وبعض آية من الفاتحة؛ ولهذا نقول: البدل لا يشترط أن يساوي المبدل منه، انظر إلى الصيام في كفارة اليمين كم؟ ثلاثة أيام، والإطعام عشرة مساكين، فلا يشترط أن يكون البدل مساويًا المبدل منه، وسيأتي إن شاء الله. - ولأبي داود: "ثم اقرأ بأم الكتاب وبما شاء الله". الواو للجمع، يعني: اقرأ بالأمرين بفاتحة الكتاب وبما شاء الله، أم الكتاب هي الفاتحة،

وسميت أمًا؛ لأن الأم ما يئول إليه الشيء ويقصد؛ ولهذا سمى كتاب الأعمال إمامًا، كما قال عز وجل {وكل شيٍء أحصيناه في إمام مبين} [يس: 12]. لأنه يقتدى به. "أم الكتاب": الفاتحة، جميع معاني القرآن الإجمالية تشتمل عليها الفاتحة، ففيها حمد وثناء وربوبية وإلهية وعبادة وأخبار الأمم السابقة في الإجمال، وأحوال الخلق ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم، وهم الذين علموا الحق وعملوا به، وقسم غضب الله عليهم وهم الذين علموا الحق ولم يعملوا به كاليهود، وقسم أرادوا الحق فضلوا عنه كالنصارى، المهم أن فاتحة الكتاب جمعت المعاني التي جاء بها القرآن، ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى كتاب ابن القيم "مدارج السالكين" فإنه أتى فيه بالعجب العجاب حول الكلام على الفاتحة وما تضمنته. - ولابن حبان: "ثم بما شئت". بدل "بما شاء الله" والمعنى الواحد، لأن ما شاء الله لابد أن يشاءه العبد، وما شاءه العبد فقد حصل بعد مشيئة الله فهما متلازمان. من فوائد الحديث: أولًا: الرد على الجبرية؛ لقوله: "إذا قمت" فأثبت للإنسان قيامًا بإرادته، ومن وجه آخر: "فأسبغ الوضوء" فيه رد على الجبرية، لأننا لو قلنا: إن الإنسان مجبر على عمله ما صح أننا نأمره بشيء؛ لأننا إذا وجهنا إليه أمرًا بشيء وهو مجبر صار هذا من تكليف ما لا يطاق. ومن فوائد هذا الحديث: أن الوضوء شرط لصحة الصلاة لقوله: "أسبغ الوضوء" ثم وهو كذلك، وإسباغ الوضوء هو إكماله، وهو نوعان: إكمال واجب، وهو أن يقتصر فيه على مرة واحدة مرتبًا، وإسباغ كامل وهو أن يأتي به مرتين أو ثلاثة، فقد جاءت السنة بمرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثة ثلاثة، وعلى وجه مختلف السنة أن يغتسل وجهه ثلاثًا ويديه مرتين، ورجله مرة، فليفعل الإنسان هذا، وهذا لتحصل له السنة على جميع وجوهها. فإن قال قائل: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الغسل من الجنابة؟ فالجواب: أن الغسل من الجنابة بالنسبة للوضوء قليل نادر، والنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم على الكثير الغالب، ونحن نعلم من طريق آخر أنه لابد لمن قام إلى الصلاة أن يغتسل من الجنابة كما في الآية الكريمة: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} [المائدة: 6]. ومن فوائد الحديث: وجوب استقبال القبلة لقوله: "ثم استقبل القبلة"، والقبلة إن كان الإنسان يمكنه أن يشاهد الكعبة- شرفها الله- وجب أن يستقبل عينها، وإن كان لا يمكنه ذلك استقبل الجهة حتى لو كان في المسجد الحرام، وكان الناس يعانون في المسجد الحرام من

تحرى الاتجاه إلى الكعبة لكن الرئاسة العامة للحرمين- بارك الله فيهم- جعلوا الآن خطوطًا في الأماكن التي ليس فيها بلاط متجه للكعبة من أجل أن يكون التحري منضبطًا. سقوط استقبال القبلة في ثلاثة أحوال العجز، ودليل ذلك قول الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. كإنسان مريض على سريره لا يستطيع أن يتجه فيسقط عنه الاستقبال. الثاني: الخوف، لقول الله تعالى: {فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا} [البقرة: 239]. والخائف إذا كان هاربًا لا يتسنى له أن يقف ليستقبل القبلة، لأنه خائف لو وقف أدركه العدو، لو وقف إذا كان هاربًا من نار أدركته النار، لو وقف إذا كان هاربًا من الماء أدركه الماء المهم الخائف. الثالث: النافلة في السفر فإنه يسقط استقبال القبلة ويتجه الإنسان حيث كان وجهه، دليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به، والأفضل أن يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام فإن لم يفعل فلا حرج، هذه ثلاث أحوال يسقط بها استقبال القبلة. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب التكبيرة الأولى لقوله: "فكبر" يعني: يقول: "الله أكبر"، هذه التكبيرة لا يمكن أن يدخل الإنسان في الصلاة إلا بها، لو وقف واستشعر عظمة الله عز وجل، وقال: الله أجل، الله أعظم، فإن ذلك لا يجزئه، لابد أن يأتي بالتكبيرة، والتكبيرة لها شروط وقد سبقت. أن يقول: الله أكبر بهذا اللفظ، ولا يجزيء غيرها إلا لإنسان لا يستطيع. والتكبيرات [التي هي] غير تكبيرة الإحرام قيل: إنها سنة، وقيل: إنها واجب، والقائلون بأنها واجب يستثنون تكبيرة واحدة وهي ما إذا أدرك الإمام راكعًا فهنا يكبر للإحرام قائمًا، وإذا أهوى إلى الركوع فالتكبير في حقه سنة، وعللوا ذلك بأنه اجتمعت عبادتان في وقت واحد فاكتفى بإحداهما، وهي تكبيرة الإحرام؛ ولأن الإنسان يأتي في الغالب مستعجلًا فلا يتمكن من التكبيرة فصارت في حقه غير واجبة. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب قراءة ما تيسر من القرآن بعد التكبيرة لقوله: "فكبر ثم اقرأ" وعلى هذا لو قرأ قبل أن يكبر فقراءته غير معتد بها لابد أن تكون القراءة بعد دخوله في الصلاة لقوله: "ثم اقرأ ما تيسر". ومن فوائد هذا الحديث: أنه لابد من قراءة، والقراءة لابد فيها من عمل وهو تحريك الفم والشفتين، وعلى هذا فلو قرأ بقلبه لم يصح، يعني: لو أمر القرآن على قلبه فإنه لا يصح؛ لأنه لم يقرأ؛ ولهذا نقول: إن من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظًا فلابد أن يقرأها بالنطق فلو أمرها على قلبه لم تنفعه. وهل يشترط أن يسمع نفسه أو يكفي أن يبين الحروف؟ في هذا قولان لأهل العلم، منهم من قال: لابد أن يسمع نفسه، ومنهم من قال: النص عام، فإذا نطق بالقرآن مبينًا للحروف فإنه

يكفيه؛ وهذا القول أقرب للصواب؛ لأنه يصدق عليه أنه قرأ، ولأننا لو قلنا: إنه يشترط أن يسمع نفسه لانفتح على الإنسان باب الوسواس فيقول: هل أنا أسمعت نفسي أو لا، ثم إن رفع صوته زيادة شوش على الناس، فالراجح أنه لا يشترط أن يسمع نفسه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهل نقول هذا في كل قول اعتبر فيه النطق أنه لابد أن يسمع نفسه أو لا؟ مثلًا لو طلق الإنسان زوجته، وقال: زوجتي طالق، بكلام لم يسمعه لكنه نطق به، فهل تطلق أو لا؟ نقول: أما على القول بأنه لا يشترط في القول إسماع النفس فإنها تطلق، وأما على القول بأنه يشترط إسماع النفس فقالوا: إنها تطلق أيضًا احتياطيًا للطلاق، وأوجبنا إسماع نفسه في القراءة احتياطًا للركن أن يأتي به، والقول الراجح في الأمرين: أنه لا يشترط إسماع نفسه لا في الطلاق ولا في القراءة، لكن لو أطلق وسواس، يعني: بعض الناس- نسأل الله العافية- يصاب بالوسواس في الطلاق، هو طلق لكن بغير إرادة هل يقع الطلاق أم لا؟ لا يقع الطلاق، لأنه مغلوب عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في إغلاق". ومن فوائد هذا الحديث: " تيسير هذه الشريعة الإسلامية التي اسأل الله أن يتوفاني وإياكم عليها كلها يسر؛ ولهذا قال: "ما تيسر معك من القرآن"، وهكذا كل أوامر الشريعة على هذا الأساس، اسمع قول الله عز وجل: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العشر} [البقرة: 185]. واسمع قوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. واسمع توصية النبي صلى الله عليه وسلم لرسله الذين يبعثهم إلى دعوة الناس يقول: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين". ومن تأمل الشريعة وجدها مبنية على ذلك إن وجئت الأوامر من أصلها وجدتها ميسرة إن جئت الأوامر حين الصعوبة تجد أنها تيسر والحمد لله. فإن قال قائل: هل يقرأ القرآن بلغته أو باللغة العربية؟ فالجواب: باللغة العربية؛ لأنه لا يصدق عليه أنه قرأ القرآن إلا إذا قرأه باللغة العربية، "اقرأ ما تيسر من القرآن" اللغة غير العربية لا تسمى قرآنًا. فإن قال قائل: إذا كان لا يستطيع إلا لغته نقول: الحمد لله يأتي بدل القرآن بالذكر الذي يتلى في أثناء هذا الحديث: "احمد الله وكبره وهلله"؛ لأن الذكر لا يشترط أن يكون باللغة العربية. فنقول: الآن أنت عاجز عن الفاتحة، "هلل واحمد وكبر" بلغتك. ومن فوائد هذا الحديث: أن الذي يلي القراءة الركوع: "ثم اركع"، فلوسها واستفتح، ثم ركع، ثم قام، وقرأ الفاتحة، فإن ذلك لا يصح، بل عليه أن يعيد الركوع مرة ثانية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب هذه الأركان بـ "ثم".

ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الركوع والطمأنينة فيه لقوله: "اركع"، وسبق لنا تعريفه ومقدار الواجب منه، وكذلك مقدار الواجب من الطمأنينة. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الرفع من الركوع لقوله: "ثم ارفع"، وهل يشترط قصد الرفع من الركوع أو لا؟ الجواب: نعم يشترط، وعلى هذا فلو أن إنسانًا كان راكعًا، ثم سمع سقوط شيء، ثم قام هل يعتد بهذا القيام أم لا؟ فالجواب: أنه لا يكفي؛ لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص [عليه بقوله]: "ثم ارفع"، فلا بد من إرادة الرفع ونية الرفع. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لابد من القيام، القيام بعد الركوع لقوله: "حتى تعتدل قائمًا" والرواية الأخرى: "حتى تطمئن"، فلو رفع قليلًا من الركوع وهو منحن لم يجزيء، اللهم إلا أن يصيبه شيء ما يستطيع أن يستقيم، فهنا نقول: اتق الله ما استطعت؛ لأن أحيانًا يصاب الإنسان بما يسمى بشد العصب، لا يستطيع أن ينهض فنقول: اتق الله ما استطعت. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب السجود بعد الرفع من الركوع لقوله: "اسجد" وهذا مطلق، لكن جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنها أنه لابد من السجود على سبعة أعضاء: الجبهة، ويتبعها الأنف، والكفين، والركبتين، وأطراف القدمين، وبأيهما يبدأ بالركبتين، أم باليدين الحديث هنا ليس فيه شيء، فإذا رجعنا إلى الأصل- بقطع النظر عن ورود السنة- وجدنا الترتيب الجسدي أن يبدأ بالركبتين ثم بالكفين، ثم الجبهة من الأنف، وهذا هو المطابق للحال الطبيعة، وهو أيضًا المطابق للسنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير". والبعير إذا برك يبدأ باليدين، هذا المعروف كل إنسان يشاهد البعير إذا برك يبدأ باليدين فينحط مقدم جسمه قبل مؤخره، وقد جاء في نفس الحديث المذكور: "ولبضع يديه قبل ركبتيه"، فاختلف العلماء – رحمهم الله – في هذا؛ منهم من أخذ بآخر الحديث، ومنهم من لم يأخذ به، وقال: الأصل في الحديث الجملة الأولى وهي المطابقة أيضًا للأحاديث الأخرى مثل: "إذا سجد أحدكم فلا يفرض يديه افتراض السبع". وقالوا: العمل على الجملة الأولى فماذا نصنع في الجملة الثانية، قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد": إنها منقلبة على الراوي، وقال: إن انقلاب الشيء على الراوي ليس بغريب، وذكر لهذا أمثلة، وصدق رحمه الله أنها منقلبة عند التأمل؛ لأنه إذا قال: "لا يبرك كما يبرك البعير" كان الذي يتوقع السامع أن يقول: "ولبضع ركبتيه قبل يديه"، لكن قال: "وليضع يديه"، حاور بعض الإخوان الذين يقولون: إنه يضع اليدين قبل

فقال: إن ركبتي البعير في اليدين، فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير، بل قال: "فلا يبرك كما يبرك ... "، فالنهي عن الكيفية لا عن العضو الذي يسجد عليه، وهذا واضح لمن تأمله، فتقديم الركبتين إذن موافق للترتيب الطبيعي للبدن، وهو أيضًا موافق للسنة. أسئلة: - ما معنى الطمأنينة؟ - هل يشترط أن تكون بقدر الذكر الواجب أو لا؟ - كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لم تصل" مع أن الرجل صلى؟ - النفي يكون على ثلاثة وجوه بمراحل، ما هي؟ - كيف أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي ثلاث مرات في الحديث، ولماذا صبر عليه؟ - لماذا قال: "والذي بعثك بالحق"، ولم يقل: والله؟ - قوله: "ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه" ما المراد به؟ - أم الكتاب هي الفاتحة لماذا سميت بهذا؟ 258 - وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقاٍر مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته" أخرجه البخاري. قال المؤلف- رحمه الله تعالى- فيما نقله في سياق الحديث في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمنا بصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أمر ضروري؛ لأن كل عمل لا يقبل إلا بأمرين: إخلاص، ومتابعة. والمتابعة لا تمكن إلا إذا عرفنا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد الله حتى نتابعه. قوله: "اجعل" تفسرها الرواية الأخرى "رفع"، و "حذو" بمعنى: حذاء، أي: مساويًا لها، وأصل هذه المادة: المساواة، ومنه الحذاء؛ لأن كل واحد من الحذاءين يساوي الثاني. "حذو منكبيه" المنكب: هو الكتف، وهل يجعل الكف، أو أطراف الأصابع، أو أسفل الكف؟ كل هذا وردت به السنة، وعلى هذا يكون من العبادات المتنوعة، لكن سياق الحديث الذي معنا "جعل يديه حذو منكبيه" نقول: إذا أشكل علينا هل المراد أعلى اليدين أو أسفل اليدين، فيحمل على الوسط، ولم يبين كيفية الأصابع هل هو يفرق بين الأصابع هكذا أو يضم؟ وهل هو يقول هكذا كأنه طائر، أو يقول هكذا؟ يفهم هذا من أحاديث أخرى غير هذا.

"وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه" يعني: ضم يديه على ركبتيه حتى تتمكن اليدان من الركبتين، وقد عبر الفقهاء عن ذلك بكونه يقبض ركبتيه. "ثم هصر ظهره" هصر: يعني نزل، وضده أن يقوس الظهر وهنا تقويس الظهر، وهصر الظهر ومساواته مع الرأس، المشروع: الثاني، أن يهصر ظهره ويساويه مع رأسه، أما أن يحتودب فلا، وقد جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يهصر ظهره ويجعل رأسه حياله حتى لو صب عليه الماء لاستقر من شدة المساواة. بعض الناس تجده يقوس ظهره، وبعض الناس يعدل ظهره لكن يرفع رأسه وظهره، وبغض الناس يهصر ظهره ورأسه حتى ينزل كثيرًا، ولكن الأمر في ذلك واسع، يعني: كله جائز وكله مجزيء، لكن خير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، اعرف كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع واركع مثله. "فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه" إذا رفع يعني: من الركوع. "استوى" يعني: اعتدل، والاستواء في الأصل بمعنى الكمال، ويطلق على معان كثيرة حسب ما يتقيد به، فإن جاء مطلقًا فهو بمعنى الكمال، ومنه قول الله- تبارك وتعالى-: {ولما بلغ أشده واستوى} [القصص: 14]. أي: كمل في العقل وذلك ببلوغه أربعين سنة. الثاني: ويأتي مقيدًا بـ "على" ومنه قوله –تبارك وتعالى-: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستوأ على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} [الزخرف: 12 - 13]. فيكون بمعنى: "على"، ومنه قوله تعالى: {الرحمان على العرش استوى} [طه: 5]. أي: علا على العرش. الثالث: وتأتي مقيدة بـ "إلى" نقول: "استوى إلى كذا" ومعناه: قصد إلى كذا على وجه تام في الإرادة والقدرة، "استوى إلى كذا" أي: انتهى إليه على وجه تام من الإرادة والقدرة، ومنه قول الله- تبارك وتعالى-: {ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات} [البقرة: 29]. على أحد التفسيرين. الرابع: أن يقيد بالواو فتكون بمعنى التساوي، نقول: استوى فلان والباب، يعني: تساوى مع الباب، "استوى فلان والسقف" هذا في الغالب، ومنه قولهم: "استوى الماء والخشبة" يعني: تساوى مع الخشبة، ويسمون هذه (الواو) واو المعية وتنصب ما بعدها يسمى مفعولًا معه، وبالمناسبة نذكر لكم بيتًا في المفاعيل يقول: إن المفاعيل خمس مطلق وبه ... وفيه معه له فانظر إلى المثل ضربت ضربا أبا عمر غداة أتى ... وسرت والنيل خوفًا من عقابك لي

"ضربت ضربًا" يعني: مفعولًا مطلقًا، وإن شئت فقل: مصدرًا، "أبا عمرو" مفعولًا به، "غداة أتى" مفعولًا فيه، و "سرت والنيل" مفعولًا معه، "خوفًا من عقابك لي" مفعولًا لأجله. يقول: "استوى حتى يعود كل فقاٍر مكانه" فقار يعني: فقرات الظهر، إذا اعتدل الإنسان بعد الركوع عادت كل فقرة إلى مكانها. "فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما" إذا سجد وضع يديه على الأرض "غير مفترش" لا يفرش الذراعين بل ينصب الذراعين، "ولا قابضهما" أي" قابض يديه؛ يعني: يضمهما إلى صدره بل يفرج؛ لأن هذا أقوم وأنشط، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، إذن يكون سجوده بالنسبة للرجلين على صدور القدمين؛ لأنه لا يتم استقبال أطراف أصابع القبلة إلا إذا كان على الصدور، ولهذا قال النووي رجمه الله: ينبغي إذا سجد أن ينصب قدميه، يعني: يظهر حتى تتجه الأصابع إلى القبلة. "وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى" إذا جلس في الركعتين، يعني: في التشهد الأول أو الأخير في الصلاة الثنائية، لأن الأخير في الصلاة الثنائية جلوس في الركعتين. "جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى" كيف يجلس على اليسرى؟ يجعل ظهرها إلى الأرض وبطنها إلى آليته، فيجلس عليها وينصب اليمنى يستقبل بأطراف أصابعها القبلة ويجعلها منصوبة. "وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته" قدمها يعني: أخرجها من يمينه، وليس المعنى: قدمها إلى الأمام، المعنى: أنه يقدمها إلى الجنب، "وينصب الأخرى" أي: اليمنى وجلس على مقعدته. هذا الحديث ذكر فيه عدة صفات لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم منه: مشروعية التكبير لقوله: "إذا كبر"، وهذه تكبيرة الإحرام، وحكمها أنها ركن لا تنعقد الصلاة إلا بها، فلم أن الإنسان نسى ثم استفتح وقرأ الفاتحة بدون تكبير فصلاته لا تصح، لا فرضًا ولا نفلًا. ولو أتى بثناء غير التكبير؛ فإن قال: الله أعظم، الله أجل، الله أعلم. هل يصح؟ الجواب: لا يصح؛ لأن العبادات توفيقية، فلو قال: الله أعلم، الله أجل فقد عمل عملًا ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون مردودًا. إذن لابد أن يقول المصلي: "الله أكبر"، لو قال: "الله أكبر" لم يصح لأمرين: أولًا: لأنه مخالف للنص فهو عمل ليس عليه أمر الله ورسوله. ثانيًا: لأنه دون قوله: الله أكبر، لأن معنى الله أكبر يعني: أكبر من كل شيء، لكن "الله أكبر" هو بمنزلة قول القائل: هذا ولدي الأكبر، فلا يدل على أنه أكبر من كل شيء.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي رفع اليدين إلى المنكبين، وليس مفرقًا بين أصابعه، بل الأصابع مضمومة متجهة إلى القبلة. فما هي الحكمة من هذا الرفع؟ قال بعض أهل العلم: الحكمة الإشارة إلى رفع الحجاب بينك وبين الله لأن الإنسان في الدنيا غافل، فإذا أقبل على الصلاة أقبل على الله، فكأنه يرفع الحجاب بينه وبين ربه هذه واحدة. ثانيًا: أنه زينة للصلاة، وهذا أمر مشاهد؛ ولو أنك تكبر بدون رفع تشعر بأن الصلاة ناقصة فهو زينة للصلاة وكمال، ولهذا كان مشروعًا في كل تكبيرات الجنازة؛ لأنه يحصل به الفرق بين أركان صلاة الجنازة يعني: الفرق الظاهر الحسي، وقد جاءت السنة- والحمد لله- بذلك أنك ترفع في صلاة الجنازة في كل التكبيرات. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يسن للمصلي إذا ركع أن يمكن يديه من ركبته، يعني: يثبت يديه على ركبته كالقابض عليهما، فلو جعل يديه تتدلى وهو راكع لم تحصل له السنة، ولكن الركوع مجزيء، وكذلك لو أنه مس الركعتين مسا دون أن يمكن اليدين فإن الركوع مجزيء لكن لم يحصل له السنة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للراكع أن يهصر ظهره لا يرفع فيحتودب بل يصهره، وفي حديث عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم لم يشخص رأسه ولم يصوبه" يعني: لم يرفعه ولم ينزله، وعلى هذا فيكون مساويًا لظهره تمامًا، وهذا هو الأفضل، فإن احتودب أو نزل أكثر أو أرتفع فالركوع مجزيء لكن فاتت السنة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لابد في الرفع من الركوع أن يطمئن حتى تعود الفقرات إلى محلها وقد سبق في حديث أبي هريرة أنه لابد من الطمأنينة، فلو لم يفعل، ورفع ثم نزل ساجدًا فصلاته غير صحيحة. ومن فوائد هذا الحديث: أن السنة عند السجود ألا تفترش الذراعين، لقوله: "غير مفترض"، بل قد جاء النهي في ذلك، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفترض الرجل ذراعيه في السجود افتراض السبع، ويعني السبع: الكلب، والكلب إذا ربض وشاهدته وجدته قدم ذراعيه وبسطهما على الأرض. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينهي الإنسان عن التشبيه بالحيوان لاسيما في العبادة، ولم

يأت التشبه بالحيوان إلا في مقام الذم، فلننظر من الذين شبهوا بالحمار؟ اليهود الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، فشبههم الله بالحمار الذي يحمل أسفارًا، أي: كتبًا، وهل يمكن أن ينتفع الحمار بالكتب إذا كانت على ظهره؟ لا يمكن، وجاء التشبيه بالحمار، لأنه أبلد الحيوانات، وكذلك أيضًا شبه بالحمار الرجل يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب كما في المسند أن الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب كالحمار. من الذي شبه بالكلب؟ الذي آتاه الله العلم ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه، ولم يتبع ما آتاه الله من العلم فهذا كمثل الكلب عليه يلهث أو تتركه يلهث، وكذلك في الذي يرجع في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نقٍر كنقر الغراب، يعني: في الصلاة. فالمهم أن بني آدم كرمهم الله عز وجل وفضلهم على كثير ممن خلق، فلا ينبغي أن يضعوا أنفسهم موضعًا غير لائق بهم. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للساجد أن يقبض يديه إلى أضلاعه لقوله: "غير منقوش ولا قابض". فإن قال قائل: أرأيتم لو كان المكان ضيقًا كما يوجد في مواسم الحج والعمرة هل نقول: فرج أو لا؟ لا، لماذا؟ لأنه يؤذي جاره، وترك السنة من أجل دفع الأذية أولى من الأذية. أسئلة: - ما معنى قوله: "إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه"؟ - هل هذا الرفع سنة أو واجب؟ - ما معنى قوله: " غير مفترش ولا قابضهما". - هل يستثنى من الإبعاد شيء أي الذراعين؟ - ما معنى قوله: "جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى"؟ - "وإذا جلس في الركعة الأخيرة" ما المراد بقوله: "في الركعة الأخيرة"؟ ؟ ؟ للفوائد: من فوائد حديث أبي حميد: أنه ينبغي للساجد أن يستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، أطراف الأصابع هي الأصابع، وعلى هذا فيهصر رجله حتى تستقبل الأصابع القبلة. وهل يجزئ أن يضع أطراف الأصابع على الأرض بدون استقبال القبلة؟

الجواب: نعم يجزئ لعموم قوله في حديث ابن عباس: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم" إلى أن قال: "أطراف القدمين"، لكن السنة أن تستقبل الأصابع القبلة. وماذا تكون الرجلان في هذه الحال أمفرقتين أم مضمومتين؟ قال بعض أهل العلم: تكون مفرقتين، حتى حدد بعضهم أن ذلك بمقدار شبر، ومعلوم أن التحديد يحتاج إلى توقيف، ولو قال هذا القائل: إنه يفرج بين رجليه حسب الطبيعة والناس يختلفون: بعض الناس عريض وبعضهم دقيق، يعني: لو قيل: إنه يجعل الرجلين على طبيعتهما لا يضم بعضهما إلى بعض ولا يفرج، لكن كونه يحدد بالشبر لا، ومع هذا نقول: إن ظاهر السنة أن يضم بعضهما، أي: بعض القدمين إلى بعض؛ لأنه هكذا جاء في صحيح ابن خزيمة رحمه الله، وأيضًا جاء في صحيح مسلم عن عائشة لما فقدت النبي صلى الله عليه وسلم وطلبته وجدته ساجدًا ناصبًا قدميه، فوقعت يدها عليهما منصوبتين، وهذا يدل على أنهما مضمومتان وإلا لما أحاطت يدا المرأة بهما، وأبدى بعض العلماء الحكمة في ذلك وهو أن هذا أستر للعورة فيما لو كان الثوب قصيرًا، فإن صحت هذه العلة فهي، وإن لم تصح فالسنة هي المتبعة لقوله: "استقبل بأصابع رجليه القبلة". ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا جلس في التشهد الأول جلس مفترشًا، والافتراش: أنه يجلس على اليسرى وينصب اليمنى، وهي يطيل هذا الجلوس أو لا؟ قال بعضهم: إنه يطيل هذا الجلوس فيقرأ التشهد الأول والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتبريك، والأرجح أنه لا يفعل هذا، وأن يقتصر على قوله: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"؛ لأن محل الدعاء الطويل، إنما هو التشهد الأخير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود لما ذكر التشهد إلى قوله: "وأن محمدًا عبده ورسوله" قال: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء". وذكر ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفف هذا التشهد، حتى كأنما جلس على الرضف يعني: الحجارة الحامية، لكن الحديث هذا فيه نظر؛ لأن بعض أهل العلم ضعفه، فالأرجح أنه لا يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التشهد كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله. لو جلس على غير هذه الصفة؛ يعني: لو جلس متربعًا يجوز أو لا؟ نعم يجوز، لكن لا ينبغي إلا لعذر، ولو جلس مقعيًا فسيأتي الكلام عليه أنه مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه في الركعة الأخيرة يتورك، وصفته كما جاء في حديث أبي حميد أنه يقدم رجله اليسرى، أي: يخرجها من يمينه، وليس المعنى يمدها أمامه، ولكن يقدمها، أي: لا يقعد عليها، بل يقدمها حتى تخرج من يمينه، وينصب اليمنى ويجلس على مقعدته، هذا هو التورك، والحكمة من مونه يجلس هذا الجلوس لها وجهان: الوجه الأول: الفرق بين التشهدين الأول والثاني، حتى إذا دخل أحد ووجده متوركًا عرف أنه في التشهد الأخير هذه واحدة. الوجه الثاني: أن مدته أطول من التشهد الأول، فكان الأيسر أن يتورك ليتورك على الأرض فيكون طمأنينته على الأرض أكثر. هذا التورك معروف أنه في الثلاثية والرباعية، لكن هل يتورك في الصلاة الثنائية في التشهد الأخير؟ في هذا خلاف بين أهل العلم بعضهم قال: يتورك؛ لأن طول الجلوس موجود حتى في الثانية فيتورك، وبعضهم قال: لا يتورك، وهذا هو الأرجح، لأنه وإن وجدت العلة الأولى وهي طول الجلوس، فقدت العلة الثانية وهي الفرق بين التشهدين، فالصحيح: أن التورك إنما يكون في التشهد الأخير، في كل صلاة فيها تشهدان وهي الثلاثية والرباعية والوتر إذا أوتر بتسع، فإنه سيجلس في الثامنة ويتشهد ولا يسلم، ثم يقوم إلى التاسعة ويتشهد، فهنا نقول: تورك؛ لأن في هذه الصلاة تشهدين. وهل هناك صفة للتورك غير هذه؟ نعم، هناك صفة أخرى، وهي: أن يفرش رجليه اليمنى واليسرى ويخرجهما من يمينه، وهذه أحيانًا تكون أريح للإنسان؛ لأن بعض الناس يصعب عليه أن ينصب اليمنى مع التورك ويكون إسدالهما على اليمنى أسهل فيتورك. هذا التورك فيه صفة ثالثة أنه يسدلهما من اليمين ويجعل اليسرى بين الفخذ اليمنى وساقها كالمعلق. هذه أيضًا أحيانًا تكون مريحة للإنسان، لو كان الإنسان في تعب فهذه أريح من غيرها، لأنها تشد العضلة عضلة الساق، وعضلة الرجل اليسرى، فعلى كل حال هذه مسألة ثانوية، أعني: مسألة الراحة وعدم الراحة، المهم: السنة ثلاث صفات للتورك فأيهما تختار؟ سبق لنا أن القول الراجح في هذه المسألة: أن تعمل بهذه تارة وبهذه تارة، وبينا أن لذلك ثلاث فوائد: الفائدة الأولى: تمام التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم. الثانية: أن ذلك أحضر لقلب العبد؛ لأنه إذا عدل عما كان يألفه من قبل فسيعدل بنية حضور القلب. الثالثة: أن في ذلك حفظًا للسنة؛ لأنه إذا اقتصر على صفة وترك الأخرى فيها لأجزأه ذلك؛ لأن الكل وارد، وقد سبق أن قلنا: إن الأمر فيه واسع، ولكن الأفضل أن نعمل هذه السنة وهذه مرة أخرى، هذه ثلاث فوائد وأهمها التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.

صفة الاستفتاح ومعانيه

ومن فوائد هذا الحديث: حرص الصحابة- رضي الله عنهم- على حفظ السنة، فإن هذا الحديث فيه طول، لكن الصحابه - رضي الله عنهم- أحرص الناس على حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم. صفة الاستفتاح ومعانيه: 259 - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ... إلى قوله: من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك ... إلى آخره". رواه مسلم. - وفي رواية له: "إن ذلك في صلاة الليل". قوله: " إذا قام إلى الصلاة" ظاهر الحديث: إذا قام قبل أن يكبر فيقول هذا قبل التكبير، لكن في بعض الألفاظ: "وكبر" نقله بعض الشراح عن رواية مسلم ولم أرها فيه يعني: في صحيح مسلم، بل إذا قام إلى الصلاة. وعلى هذا فنقول: يحتمل أن يكون هذا قبل التكبير أو بعده، فإن كان بعد التكبير فهو أحد الوجوه في صفة الاستفتاح، وإن كان قبله فليس كذلك. قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض" وجهت، أي: جعلته وجاهه، والمراد بالوجه هنا: الوجه الحسي والوجه المعنوي. أما الوجه الحسي: فهو الوجه الذي في الرأس. وأما الوجه المعنوي: فهو القلب، فيكون المراد: وجهت قلبي ووجهي. وقوله: "للذي فطر" هذا بيان الجهة التي وجهها إليها وهو الذي فطر السموات والأرض، يعني: الله عز وجل كما قال تعالى: {فاطر السموات والأرض} [فاطر: 1]. قال أهل العلم: والفطر هو فعل الشيء أولًا، فيكون معنى "فطر السموات" أي: خلقها على غير مثال سبق، يعني: هذه أول مرة تخلق السموات والأرض على هذه الصورة، و "السموات والأرض" تقدم الكلام عليها كثيرًا، وبينا السموات سبع بنص القرآن والسنة، وأن الأرضين وهي أيضًا سبع على ظاهر القرآن وصريح السنة. إلى قوله: "من المسلمين"، قوله من؟ قول الله تعالى، لأن الآية هكذا: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام: 162 - 163]. إذن فصوابها إلى قوله: "وأنا أول المسلمين". قوله: "حنيفًا وما أنا من المشركين" حنيفًا يعني: مائلًا عن الشرك، فالاستقامة في قوله:

"وجهت وجهي للذي" وعدم الميل إلى الشرك في قوله: "حنيفًا"، وأكد ذلك بقوله: "وما أنا من المشركين" {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} [الأنعام: 162]. المراد بـ {صلاتي}: الصلاة المعروفة المعهودة شرعًا، {ونسكي}؛ قيل المراد بذلك: النسيكة وهي الذبيحة، فالمراد بالنسك: الذبائح التي يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل واستدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]، فذكر النحر بعد الصلاة، وقيل المراد بالنسك: العبادة، فعلى الأول يكون عطف نسك على صلاة من باب عطف المتباينين، وعلى الثاني من باب عطف العام على الخاص. وأيهما أولى أن نقول: المراد بالنسك: جميع العبادات، أو المراد بالنسك الذبيح؟ الأول أولى، لماذا؟ لأنه يشمل الذبيحة وغيرها وكلما كان المعنى أشمل وأعم فهو أولى. وقوله: {لله رب العالمين} اللام هذه للإخلاص، وقوله: {رب العالمين} أي: خالق العالمين مالكهم مدبرهم، و "العالم" كل من سوى الله فهو عالم من الإنس والجن والملائكة وغيرهم، وسموا عالمًا؛ لأنهم علم على خالقهم عز وجل، وجمعوا باعتبار الأجناس والأنواع فإنهم أجناس وأنواع. {لا شريك له} هذا تأكيد للنفي، و {بذلك} أي: بما ذكر من الإخلاص واجتناب الشرك {أمرت} والآمر هو الله عز وجل، ولم يسم للعلم به، كقوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفًا} لم يسم الخالق لماذا؟ للعلم به. {وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} أورد بعض العلماء إشكالًا على هذا وقالوا: كيف يكون أول المسلمين وقد سبقه أمم وأنبياء ورسل كلهم مسلمون؟ فقيل: المعنى أول المسلمين من هذه الأمة فتكون الأولية نسبية؛ أي: باعتبار هذه الأمة، وقيل: إن الأولية هنا أولية صفة لا أولية زمن يعني: أنا أسبق الناس إلى الإسلام، وعلى هذا المعنى فلا نحتاج إلى أن نقول: إن الأولية نسبية؛ لأننا نعلم أن أشد الناس انقيادًا وإسلامًا لله: الرسول صلى الله عليه وسلم ومن المعلوم أننا نحن إذا قلنا: {وأنا أول المسلمين} لا يمكن أن نريد أول المسلمين زمنًا، لأن هذا يكذبه الواقع، لكنك تقر بأنك أول من يؤمن بهذا ويسلم لله عز وجل، سبقًا زمنيًا أو حاليًا؟ حاليًا. قوله: "اللهم أنت الملك" اللهم، أي: يا الله هذا أصلها، فحذفت ياء النداء وعوض عنها الميم، وذلك لكثرة الاستعمال، وللتيمن بذكر الله عز وجل، قبل أداة النداء وعوضت عنها الميم، قالوا: لأنها جارية على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله، وكانت في الآخر تيمنًا بالبداءة باسمه- جل وعلا-، وعلى هذا فنقول: "اللهم" منادي مبني على الضم في محل نصب. "أنت الملك" يعني: ذا الملك التام والسيطرة التامة، فهو- سبحانه وتعالى- ملك الملوك لا مالك إلا الله عز وجل وملكه جامع بين الملك الذي هو مطلق التصرف وبين الملك الذي هو

السيطرة التامة، ولهذا جاء في سورة الفاتحة قراءتان: {مالك يوم الدين}، و {ملك يوم الدين}، فإذا ضممت القراءتين بعضهما إلى بعض نتج عن ذلك أنه مالك ملك في الدنيا، قد يكون الإنسان ملكًا وليس بملك، فالإنسان يملك السيارة وليس بملك، يملك شاته وليس بملك، فإذا جمعت القراءتين نتج منهما أنه ملك مالك –سبحانه وتعالى-. "لا إله إلا أنت" أسأل ما معنى لا إله إلا أنت؟ لا معبود حق إلا أنت، إذن "إله" بمعنى: مألوه، يعني: لا معبود حق إلا أنت، وأما ما عبد من دون الله فهو وإن سمي إلهًا فليس بإله؛ لأنه ليس بحق كما قال عز وجل: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو البطل} [الحج: 62]. "أنت ربي وأنا عبدك" هذا من تحقيق الربوبية والإلوهية، تحقيق الربوبية في قوله: "أنت ربي"، والإلوهية في قوله: "وأنا عبدك" لأن العبد لابد أن يتعبد بما أراد معبوده ... إلخ. كأن المؤلف رحمه الله لم يسقه تمامًا كله اختصارًا أو اقتصارًا؛ لأنه مقيد لصلاة الليل، وليس استفتاحًا عامًا في كل الصلوات، فلذلك لم يسقه تامًا رحمه الله. في هذا الحديث فوائد منها: جواز الاستفتاح بها الذكر، دليل ذلك وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المصلي موجه وجهه الظاهر والباطن إلى الله عز وجل. ومن فوائده أيضًا: أن الذي فطر السموات والأرض هو الله- تبارك وتعالى- لم يخلقهما أحد سواه ولم يشارك في خلقهما أحد سواه، ولم يعنه على خلقهما أحد قال الله- تبارك وتعالى-: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرٍة في السموات ولا في الأرض} يعني: على وجه الاستقلال- {وما لهم فيهما من شرك} – على وجه المشاركة- {وما له منهم من ظهير} [سبأ: 22] أي: ما لله منهم من مساعد ومعين، فنفي الله – تبارك وتعالى- الاستقلال والمشاركة والمعاونة؛ لأن الكل له عز وجل. نشرح ما حذفه المؤلف: {حنيفًا وما أنا من المشركين} {حنيفًا}: أي: مائلًا عما سواه، {وما أنا من المشركين} من باب التأكيد، فيستفاد من ذلك: أن المعاني العظيمة ينبغي أن تؤكد بمؤكدات معنوية لا بالتأكيد المعروف عند النحويين. ومن فوائد هذا الحديث: أن الصلاة وسائر العبادات يجب أن تكون خالصة لله لقوله: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}. ومن فوائد الحديث: الاستدلال على استحقاق الإلوهية بثبوت الربوبية لقوله: {لله رب العلمين}. والله- تبارك وتعالى- يحتج على الذين يشتركون به في ألوهيته بإقرارهم بربوبيته؛ يعني: كيف تؤمنون بأنه رب وهو الخالق وحده ثم تعبدون معه غيره، هذا مناف للعقل.

ومن فوائد هذا الحديث: أن محيا الإنسان ومماته لله؛ يعني: هو الذي يتصرف للإنسان في حياته وكذلك بعد مماته؛ لكمال ربوبيته –تبارك وتعالى-. يتفرع على هذه الفائدة: أنك لا تسأل لإصلاح حياتك أو مماتك إلا الله عز وجل، لأنه هو الذي يملك هذا {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} وإجابة الله –تبارك وتعالى- الدعاء لمن لجأ إليه لا نحصي أفرادها، بل ولا أنواعها، بل ولا أجناسها، لو أنك تدبرت القرآن وجدت أن أدعية الرسل- عليهم الصلاة والسلام- كيف تستجاب لهم، وإذا تأملت التاريخ وجدت كيف يستجاب الدعاء لمن اتبعوهم بإحسان، وإذا تأملت عصرك وجدت أيضًا أمثلة على إجابة الدعاء، فإذا كان محياك ومماتك لله فلا تلجأ إلا إليه، لا تلجأ لأحد، لكن لا بأس أن تستعين بمن جعله الله تعالى سببًا بشرط أن تعتقد أنه سبب لا أصل، وإلا فمن المعلوم أن الإنسان يجوز أن يطلب من أخيه أن يساعده في شيء، أو فقير يطلب من غني أن يعطيه من الصداقة هذا شيء جائز، لكن يجب أن تعتقد أنه سبب، ولهذا قد لا ينفع، قد يحصل لك المطلوب وقد لا يحصل. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكلف بأوامر الله لقوله: {وبذلك أمرت} فهل إذا أمر هو-عليه الصلاة والسلام- يكون أمره أمر لنا؟ الجواب: نعم؛ لأنه إمامنا، ومخاطبة الإمام بالآمر مخاطبة لمن وراءه، ولهذا لو قال الإمام لقائد الجند أي: العسكر: يا فلان، اذهب إلى الناحية الفلانية، المراد: هو ومن كان تابعًا له، فالأوامر الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم له وللأمة، وليعلم أن الأوامر الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما هو خاص به بلا إشكال، مثاله قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك ووزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: 1 - 4]. لمن الضمائر؟ للرسول، ولا يتعداه لغيره، خاص به بلا إشكال. القسم الثاني: أوامر دل الدليل المقارن على أنها عامة له ولأمته، مثل قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]. الخطاب أولًا للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم صار لعامة الأمة في نفس الآية: {إذا طلقتم} ولم يقل: إذا طلقت، وهذا واضح أن الخطاب الأول ليس خاصًا بالرسول صلى الله عليه وسلم. القسم الثالث: ألا يكون فيه دليل على هذا ولا على هذا، فهل يكون خطابًا للأمة من الأصل، أو يقال: هو خطاب خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم والأمة تفعله تأسيًا به لا على أنها مواجهة بالخطاب؟ فيه قولان للعلماء، والخلف بينهما قريب من اللفظ؛ لأن الكل متفقون على أن الأمة تمتثل أمرًا أو نهيًا.

ومن فوائد الحديث: الإخلاص لله (عز وجل) في قوله: "اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت" وهذا فرض على كل مخلوق أن يخلص لله (عز وجل) في ألوهيته. ومن فوائد هذا الحديث: إقرار النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن الله ربه وهو عبده لقوله: "اللهم أنت ربي وأنا عبدك" وهو (صلى الله عليه وسلم) أقوم الناس عبادة لله (عز وجل) حتى قال- عليه الصلاة والسلام-: "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم لما أتقي". وكان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، فقيل له: يا رسول الله، كيف تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ! قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا". الربوبية والألوهية كلاهما ينقسم إلى عام وخاص؛ اجتمعت الربوبية العامة والخاصة في قول الله تعالى- نقلًا عن السحرة-: {قالوا ءامنا برب العالمين* رب موسى وهارون} [الأعراف: 121 - 122]. أين العامة؟ قوله: {برب العالمين}، الخاصة: {رب موسى وهارون}، كذلك العبودية تنقسم إلى عامة وخاصة، فقول الله- تبارك وتعالى: {إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدًا} [الأعراف: 93]. هذه عامة، كل من في السموات وهم عبيد لله لا يمكن أن يخرجوا عن قضائه وقدره قيد أنملة ولا شعرة، وقول الله- تبارك وتعالى-: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا} [الفرقان: 63]. هذه خاصة، والخاصة فيها ما هو أخص وهي عبودية الرسل؛ فإن عبودية الرسل أخص من عبودية بقية المؤمنين؛ لأنهم قاموا بالرسالة والعبادة، كما تقول مثلًا: المهاجرون جمعوا بين الهجرة والنصرة، والأنصار أخذوا بالنصرة فقط؛ فهم أنصاره وليسوا بمهاجرين. الرسل- عليهم الصلاة والسلام- قاموا بالعبادة كما قام غيرهم من المؤمنين، ولكنهم- عليهم الصلاة والسلام- زادوا على العبادة القيام بأعباء الرسالة، وإبلاغ الرسالة ليس بالأمر الهين صعب صعب صعب، ولهذا لما قال عز وجل: {إنا نحن نزلنا عليك القرءان تنزيلًا} قال: {فاصبر لحكم ربك} [الإنسان 22 - 23]، لأن هذا تحميل يحتاج إلى صبر وهو كذلك، المسألة ليست هينة، الإنسان الذي يجابه الناس وكلهم مشركون معاندون ويحتاجون إلى دعوة، ولا يخفى علينا ما حصل للإنسان من المضايقة إذا دعا ولم يجد قبولًا، بل إذا أراد محاضرة في المسجد وجاء إلى المسجد الذي فيه محاضرة ولم يجد إلا صفًّا ونصفًا ماذا يكون؟ أزمة نفسية أم لا؟ أزمة نفسية يضيق صدره كيف لم يأت إلا هذا العدد القليل، لكن يجب أن يتسلى الإنسان بأمرين: الأمر الأول: النبي (صلى الله عليه وسلم) كم بقي يدعو الناس سرًّا مختفيًا؟ والثاني: أن وسائل نقل العلم الآن- والحمد الله- اتسعت، فالذي لم يحضر إلى مجلس العلم اليوم نفسه يمكنه أن يكون شاهدًا؛ أي: يكون حاضرًا بالسماع- سماع الأشرطة- وهذا لا

شك أن يسلي الإنسان ويهون عليه المسألة، تجد مثلًا بعض المدرسين يأتي من مكان بعيد وإذا جاء إلى المسجد يجد نصف صف من الطلبة، بعض الناس لما وجدهم نصف صف قال: انتهى الأمر لابد لي من الرجوع، لا اصبر- أيها المعلم-؛ لأن الذي لم يحضر الدرس يستطيع أن يسمع الأشرطة. نرجع الآن إلى أقسام العبودية صارت قسمين: الأول: عامة، والثاني: خاصة، والثانية فيها ما هو أخص. قال المؤلف ... إلخ ما ذكره، وتمامه: "وظلمت نفسي واعترفت بذنبي"، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "ظلمت نفسي واعترفت بذنبي" ظلم النفس إما بتقصير في واجب أو بفعل محرم، فيستفاد من هذا إثبات أن النبي (صلى الله عليه وسلم) ظالم لنفسه؛ لأنه يخشى- عليه الصلاة والسلام- أن يكون فرط في واجب، والمتتبع لسيرته يعلم أنه (صلى الله عليه وسلم) أطهر الناس وأبعدهم عن المعاصي، لكن لكمال تواضعه لله عز وجل وخشيته وخوفه من التقصير في الواجب قال: "ظلمت نفسي". ومن فوائد هذا الحديث: إثبات أن النبي (صلى الله عليه وسلم) له ذنب، من أين نأخذه؟ من قوله: "اعترفت بذنبي". يقول بعض الناس: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يذنب ولا أدري ماذا يكون موقفهم من مثل هذا الحديث؟ قالوا: الذنب للأمة، هل يمكن أن الرسول يعترف بذنب أمته؟ الاعتراف لمن عليه الحق، ثم نقول لهم: ألم يقرءوا قول الله تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19]. هذه لا يستطيع أحد أن يقول: {لذنبك}، أي: ذنب أمتك، لكن خصوصية الرسول –عليه الصلاة والسلام- أنه لو فعل شيئًا فإنه لا يقر عليه بل ينبهه الله (عز وجل)، دليل هذا قول الله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفورٌ رحيمٌ * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 1 - 2]. فنبهه الله وفتح له باب المغفرة والرحمة، وقال (عز وجل): {عفا الله عنك} [التوبة: 43]. هل هناك عفو بدون تفريط في شيء؟ لا، {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43]. وما يضر الأنبياء إذا صدر عنهم معصية ثم ينبههم الله عليها، ثم استغفروا فغفر لهم ماذا يضرهم؟ لا يضرهم شيء بل يكون أحسن من الحال الأولى، هذا آدم عصى واجتباه الله (عز وجل) بعد أن استغفر وقال: {لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 149]. نوح سأل ما ليس له به علم؛ وذلك لأن ولده ليس من أهله وهو لا يعلم ذلك {إنه عملٌ غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظم أن تكون من الجاهلين} [هود: 46]. فالمهم أن الرسل- عليهم الصلاة والسلام- قد يقع منهم الخطأ، ولكن ميزتهم وخصيصتهم أنهم لا يقرون عليه. لكن هنا شيء يجب أن نعلم أن الرسل معصومون منه وهو ما يخل بالأمانة، هذا شيء محال

عليهم؛ لأننا لو جوزنا هذا لادعى مدعٍ أنهم قد يكونون قد خانوا الرسالة، وهذا لا يمكن، يمتنع عليهم الكذب، فإنه لا يمكن أن يفعلون بأي حال من الأحوال لا جدًّا ولا مزحًا، يمكن أن يتأولوا ويأتوا بالتورية هذا ممكن، أما الكذب الصريح فلا يمكن هذا في حقهم، حتى إن النبي لا يمكن أن يشير بعينه على خلاف ما يفهمه مخاطبه يعني: لا يخون ولو بلحظة البصر؛ لأن هذا نوع من الخيانة، فالمهم أن ما يتعلق بالأمانة والصدق هم ممنوعون مما يخل به، كذلك ممنوعون مما يخل بالشرف والأخلاق هم ممنوعون منه بتاتًا؛ لأنهم إنما بُعثوا بمكارم الأخلاق، وبُعث النبي ليتمم مكارم الأخلاق، لكن ما يقع منهم من الذنوب فهي ترجع إلى ما تقتضيه النفس ويخطئ فيه الاجتهاد فقط. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- مفتقر إلى دعاء الله لقوله: "فاغفر لي ذنوبي جميعًا". ومن فوائد هذا الحديث: التوسل إلى الله- تبارك وتعالى- بذكر صفته لقوله: "إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"، فإذا كان لا يغفر الذنوب إلا أنت فإلى من نرجع؟ إليه- سبحانه وتعالى-؛ لأنه لا ملجأ لنا ولا منجى في طلب المغفرة إلا إليه- سبحانه وتعالى-. وقوله: "واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئ الأخلاق لا يصرف عني سيئها إلا أنت"، "اهدني لأحسن الأخلاق" أي: هداية علم وإرشاد، وأحسن الأخلاق أي: أكملها وأتمها، والأخلاق جميع خلق وهو الصفة الباطنة، والخَلق الصفة الظاهرة، فالإنسان خَلق وخُلق، الخُلق في الباطن والخَلق في الظاهر، وهذا يشمل الأخلاق فيما بين الإنسان وفيما بينه وبين العباد، "أحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت" هذا إظهار افتقار لله (عز وجل) وتوسل له بهذه الصفة، وهي أنه لا يستطيع أحد أن يهدي لأحسنها إلا الله (عز وجل). قال: "واصرف عني سيئ الأخلاق لا يصرف عني سيئها إلا أنت" عكس ما سبق، اصرفها عني بحيث لا أهتدي لها ولا أتلبس بها "لا يصرف عني سيئها إلا أنت". "لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك" لبيك، أي: إجابة لك، وهي- كما ترون- بصيغة التثنية، وهل المراد الدلالة على التكرار، أو المراد حقيقة التثنية؟ الأول هو المراد؛ أي: أن المعنى: إجابة لك بعد إجابة مثل قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} [الملك: 4]. المراد: مطلق التعدد؛ أي: كرة بعد كرة، فيشمل إلى ما شاء الله، ومعنى "لبيك": إجابة، وهو واضح في كلام

الناس، إذا دعاك رجل تقول له: لبيك، وقيل المعنى: إقامة من قولهم: ألب في المكان؛ إذا أقام فيه، ولا مانع من أن نقول: إجابة لك وإقامة على طاعتك؛ فيكون شاملًا للمعنيين، "وسعديك" أي: إسعادًا بعد إسعاد، والمراد بـ "سعديك" أي: معونتك وإسعادك؛ أي: أكون سعيدًا، ونقول فيه كما قلنا في "لبيك" أن المراد بذلك: مطلق التكرار لا التثنية. "والخير كله في يديك" أي: الخير في الدنيا والآخرة كله لله (عز وجل) هو الذي يقدره، وهو الذي يعطيه من شاء ويمنعه من شاء على ما تقتضيه حكمته وعدله. "والشر ليس إليك" يعني: الشر لا ينسب إلى الله (عز وجل)؛ لأن أفعاله كلها خير وليس فيها شرٌّ بوجه من الوجوه، حتى ما يكون من المخلوقات من الشرور فإنه لا يكون شرًّا بالنسبة لإيجاد الله له، "والشر ليس إليك أنا بك وإليك" أنا بك، أي: وجودي بك وقوتي بك وعملي بك، فالباء هنا للاستعانة، "وإليك": الغاية والقصد، ففي الأول استعانة، وفي الثاني إخلاص إليك وحدك لا أرجع لغيرك، "أنا بك وإليك تباركت وتعاليت" تباركت أي: حلت البركة فيك" بمعنى: أن اسمك مبارك وذكرك مبارك وكلامك مبارك، وكل ما يصدر عن الله (عز وجل) فإنه مبارك، "فتعاليت" أي: ترفعت مكانًا ومنزلة، وهو أبلغ من قوله: "علوت"؛ لأن فيها- أي: في تعاليت- إشارة إلى الترفع ترفعه عن كل سفور- سبحانه وتعالى-. "أستغفرك": أطلب مغفرتك، والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه، "وأتوب إليك": أرجع إليك من معصيتك إلى طاعتك، وهي بمعنى: أسألك التوبة، فهي خبر بمعنى الدعاء، نرجع إلى فوائد الحديث من قوله: "واهدني لأحسن ... ". ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) مفتقر إلى الله- تبارك وتعالى-؛ وذلك بطلب دعائه إياه، ولو كان غنيًّا عن الله ما احتاج أن يدعوه. ومن فوائد هذا الحديث: أن كل أحد محتاج إلى حسن الأخلاق بل إلى أحسنها؛ لأنه إذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) محتاجًا لذلك فمن دونه من باب أولى. فإن قال قائل: أو ليس الله تعالى قد قال: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ} [القلم: 4]. فالجواب: بلى، فيقول: إذن ما الفائدة من قوله: "اهدني لأحسن الأخلاق" فنقول: أولًا: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث دعا إلى ما هو أكمل مما أخبر الله به عنه: "لأحسن الأخلاق" هذه واحدة. ثانيًا: أن الدعاء قد يكون المراد به: الثبات على أحسن الأخلاق، وإن كان في الداعي أصل الخلق الحسن، لكن يسأل الله أن يثبته. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا قادر على الهداية لأحسن الأخلاق إلا الله (عز وجل) لقوله: "لا يهدي لأحسنها إلا أنت". ومن فوائده: التوكل على الله بصفاته المناسبة لما يدعو به الإنسان لقوله: "لا يهدي لأحسنها إلا أنت". ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان محتاج إلى أمرين بالنسبة للأخلاق: خلو من الأخلاق السيئة، واتصاف بالأخلاق الكاملة، ولهذا قال: "اصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت"، ولا يكمل الإنسان إلا بهذا: بالخلو من الأخلاق السيئة، والاتصاف بالأخلاق الحسنة.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا بأس بالتلبية في غير الأحرام لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لبيك"؛ وذلك لأن "لبيك" بمعنى: أجاب وأقام، وهو في كل عبادة بحسبها، فالذي يقول في دعاء الاستفتاح "لبيك" لا يريد أنه دخل في النسك، يريد أنه لبى الله في غير العبادة، ومن خصال النبي (صلى الله عليه وسلم) وأخلاقه: أنه إذا رأى في الدنيا ما يعجبه قال: "لبيك إن العيش عيش الآخرة"، كلما رأى ما يعجبه. افترض أنك مثلًا رأيت سيارة فخمة أعجبتك ماذا تقول؟ تقول: "لبيك إن العيش عيش الآخرة"، رأى قصرًا أنيقًا أعجبه ماذا يقول؟ يقول: "لبيك إن العيش عيش الآخرة"، فيقول: "لبيك" من أجل أن يجلب نفسه إلى عبادة الله؛ لأن النفس قد تنصرف إلى زهرة الدنيا، ويقول: إن العيش عيش الآخرة، يسلي نفسه أنه إذا فاته عيش الدنيا فالعيش عيش الآخرة، وهذا حق، ولهذا هؤلاء الذين عندهم القصور وعندهم السيارات هل سيخلدون في هذه القصور، هل ستبقى لهم هذه السيارات؟ أبدًا، إذن هذا العيش ليس بشيء، العيش حقيقة هو عيش الآخرة. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) مفتقر إلى الله تعالى في الإسعاد لقوله: "وسعديك". ومن فوائده: أن الخير بيد الله، وإذا كان بيد الله فمن تطلب أن يعطيك الخير؟ الله (عز وجل) حتى في الأمور التي يكون فيها البشر سببًا اسأل الله، لو أنت مثلًا عند الطبيب ليعالجك لا تجعل قلبك معلقًا بالطبيب وحده، اجعله معلقًا بالله (عز وجل)؛ لأن الخير في يده- سبحانه وتعالى-. ومن فوائد هذا الحديث: أن الشرَّ لا يُنسب إلى الله لقوله: "والشر ليس إليك"، وهنا إشكال بل إشكالات: الأول: إذا قلنا: إن الشر ليس يُنسب إلى الله، فهل نقول: إن الشر غير مُقدر لله؟ قد يقول قائل: إن الشر غير مقدر لله؛ لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال: "الشر ليس إليك". فالمعاصي والفساد والقحط والجدب ليس من تقدير الله؛ لأنه شر، والشر ليس إليه. هذا واحد.

الإشكال الثاني: كيف تجمع بين هذا وبين قول النبي- صلى الله عليه وسلم- في الإيمان بالقدر: "أن تؤمن بالقدر خيره وشره". والقدر من الله (عز وجل) خيره وشره، فأثبت أن في قدر الله شرًّا. الجواب: أما الأول فنقول: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "الشر ليس إليك"، ولم يقل: الشر ليس منك، أي: لا يُنسب إليه الشر، فيقال: إن الله شرير (عز وجل) حاشاه وكلا، وفرق بين العبارتين، وإذا عرفت الفرق بين العبارتين تبين أنه لا حجة لبعض القدرية الذين يقولون: إن الله مقدر للخير وليس مقدرًا للشر، ويستدلون بهذا الحديث. نقول: أمعنوا النظر، افهموا العبارة: "الشر ليس إليك" غير "الشر ليس منك" هذه واحدة، أما الجمع بين هذا الحديث وحديث الإيمان بالقدر: "أن تؤمن بالقدر خيره وشره" فنقول: المراد بالشر الذي في الإيمان بالقدر: شر المخلوقات المفعولات لا شر الخالق الفاعل، ففعل الله ليس فيه شر؛ الشر في المفعولات يعني: في المخلوقات؛ يعني: مثلًا خلق الله (عز وجل) سِباعًا وثعابين وعقارب كل هذه شرور بالنسبة للإنسان، يخلق الله تعالى الزلازل والصواعق والفيضانات كلها شر بالنسبة للإنسان، لكن بالنسبة لإيجاد الله لها وفعله لها هل هي شر؟ لا؛ والله هي خير عظيم لها فوائد جمة، أشار الله تعالى إلى بعضها في القرآن، قال الله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41]. والرجوع إلى طاعة الله خير عظيم، {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء} [الشورى: 37] هذا خير أيضًا. ومن الخير: أن تعلم كمال قدرة الله (عز وجل)؛ حيث خلق للناس ما فيه منفعة عظيمة وكثيرة، انظر إلى الذئب جسمه بالنسبة للبعير صغير كيد من أيديه ومع ذلك انظر ضرره على الخلق وانظر نفع البعير. قال الله (عز وجل): {ولهم فيها منافع ومشارب} [يس: 73]. فيتبين بذلك قدرة الله (عز وجل) كيف خلق من الضار نافع، ومن الحِكم: أن كثيرًا من الناس لا يقرأ الأوراد ولا يلتفت إليها إلا إذا خاف من ذات الشرور، ولولا ذات الشرور ما اهتم بالأوراد ولا بالذكر هذه فائدة، وهناك فوائد أخرى تظهر للمتأمل. يتبين الآن أن إيجاد الله تعالى لهذه الشرور ليس شرًّا بالنسبة إلى الله، بل هو خير عظيم يظهر للمتأمل، وبذلك صدق قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "والشر ليس إليك". هل يجوز أن يقول الإنسان: بيدك الخير والشر؟ الجواب: لا؛ لأنه إذا قال هذا نسب الشر إلى الله، إذا قال هذا خالف ما جاءت به السنة: "الخير في يديك والشر ليس إليك".

ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان لا تقوم مصالح دينه ودنياه إلا إذا آمن بهذه القضية العظيمة، التي أشار إليها النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أنا بك وإليك"؛ ففيه الإشارة إلى الاستعانة بالله والإخلاص له بقوله: "أنا بك وإليك". ومن فوائد هذا الحديث: البركة العظيمة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته لقوله: "تباركت"، وقد فسرها الإمام محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- فقال: "تباركت" أي: أن البركة تُنال بذكرك، وهذا لاشك أنه داخل في المعنى، لكن المعنى أعم، فكل ما يصدر من الله فهو خير وبركة ولاسيما في الشرائع، رجل سمَّى الله حين ذبح الذبيحة فكانت حلالًا، والآخر لم يُسم فكانت حرامًا، والفعل واحد، والسكين واحد، وإنهار الدم واحد، والذبح واحد، التي سمَّى عليها الله طيبة- حلال- طاهرة، والثانية خبيثة حرام نجسة، كله بسبب ذكر الله (عز وجل)، إذا سمَّى الإنسان على الأكل بارك الله فيه، وإذا لم يُسم شاركه الشيطان ونُزعت منه البركة، وهلُمَّ جرًّا. تجد البركة في كل ما يتعلق بالله (عز وجل) ينبني على هذه الفائدة: ألا تطلب البركة إلا من الله (عز وجل). ومن فوائد هذا الحديث: تنزه الله- تبارك وتعالى- عن كل ما لا يليق بجلاله لقوله: "تعاليت" يستدل بها أيضًا على علوه تعالى المكاني، وأنه تعالى فوق كل شيء. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو المعصوم- يسأل الله المغفرة، ويتفرع منها: أن سؤالنا نحن للمغفرة أشد إلحاحًا؛ لأن الواحد منا لا يدري هل غُفرت له الذنوب أو لم تُغفر، فهو يأتي بالأسباب الموجبة للمغفرة، لكن لا يعلم هل تحصل المغفرة أو لا؛ لأنه قد يكون السبب الذي عُلقت عليه المغفرة في حقه ناقصًا لا يقوى على أن يكون سببًا لمحو الذنوب ومغفرتها. ومن فوائد هذا الحديث: افتقار النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى مغفرة الله لقوله: "أستغفرك". ومن فوائد الحديث: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- مفتقر إلى التوبة إلى الله (عز وجل) ومَن دونه من باب أولى. انتهى الكلام على هذا الحديث، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتأسين به. 260 - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا كبر للصلاة سكت هنيهةً قبل أن يقرأ، فسألته، فقال: "أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد". متفق عليه. قوله: "إذا كَبَّر للصلاة" أي: إذا قال: الله أكبر، والمراد بذلك: تكبيرة الإحرام، "سكت هُنَيْهَةٌ" أي: سكت سكوتًا قليلًا، فـ "هنيهة" وصف لموصوف محذوف، والتقدير: سكوتًا هنيهة؛ أي: قليلًا "قبل أن يقرأ فسألته". هنا اختصر المؤلف الحديث، وليته لم يصل إلى هذا القدر من

الاختصار، قال أبو هريرة: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ "، هذه الجملة التي حذفها المؤلف فيها فوائد، لكن كأن المؤلف- رحمه الله- يختصر الحديث بقدر ما يريد أن يكون دليلًا عليه وعلى المسائل الفقهية، لكن نقولها: قال: "بأبي أنت وأمي" بأبي متعلق بمحذوف، والتقدير: أفديك بأبي وأمي؛ يعني: أجعل أبي وأمي فداء لك. "أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ " يعني: أخبرني عن هذا السكوت ما تقول؟ والمراد بالسكوت هنا: عدم الرفع بالصوت، والأصل في السكوت: هو الإمساك عن القول، يقال: تكلم وسكت، ولكن المراد به هنا: عدم رفع الصوت بدليل قوله: "ما تقول". قال: أقول: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب"، "اللهم" يعني. يا الله، "باعد بيني وبين خطاياي" أي: اجعلها بعيدة عني، "كما باعدت بين المشرق والمغرب" وهذا أبلغ ما يكون في البُعد كما قال الله تعالى في القرآن: {حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} [الزخرف: 38] باعد بيني وبينها حتى لا أفعلها؛ لأنها بعيدة المنال، و"الخطايا" جمع خطيئة، وهي ما خَطئ به الإنسان؛ أي: فعله عن عمد، وأما ما أخطأ به فهو ما فعله عن غير عمد. "اللهم نقني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس" هذه الخطايا المتلبس بها. "نقني منها" أي: خلصني منها، "كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس". وخصَّ الثوب بالأبيض؛ لأن الأبيض يظهر عليه أثر الدنس أكثر مما يظهر على غيره، ولهذا تجد الإنسان في الشتاء إذا لبس ثياب الشتاء السوداء متى يغسل الثوب بعد كم؟ بعد شهر، وإذا لبس البياض في الصيف يغسله كل أسبوع؛ لأن الأبيض يؤثر فيه الوسخ أكثر من غيره، ويظهر فيه أثر الوسخ أكثر من غيره، فلهذا قال: "كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس" هذا تنقية الإنسان من الذنوب. قال: "اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد" هذا الغَسل يزيل الأثر نهائيًّا فهنا خطايا لم يتلبس بها الإنسان، فماذا يقول؟ باعد بيني وبينها، خطايا تلبس بهذا وتلطخ بها يقول: "اللهم نقني من خطاياي" تنقى منها: تخلص، وتركها يحتاج إلى غسل يزيل أثرها بالكلية، انظر للترتيب، ترتيب طبيعي مناسب للواقع. وقوله: "بالماء" معروف، "الثلج": تجمد الماء، "البرد": هو الثلج النازل من السحاب، كونها تُغسل بالماء ليس فيه إشكال؛ لأن الماء مزيل، لكن البَرَد والثلج أيهما أشد إزالة الماء الحار أو الثلج والبرد؟ الماء الحار، لكن القضية ليست قضية ثوب يُغسل لكنها قضية ذنوب، والذنوب في الأصل حارة وعقوبتها النار، والشيء إنما يُداوى بضده، فلذلك ذكر الثلج وذكر البرد. هذا الحديث- كما رأيتم- حديث تستفتح به الصلاة بعد تكبيرة الإحرام، فإذا أضفناه إلى ما سبق وإلى ما يلحق تبين أن الاستفتاح له أنواع كما سيذكر- إن شاء الله- في الفوائد.

من فوائد هذا الحديث: مشروعية التكبير عند الدخول في الصلاة، وهذه تكبيرة الإحرام، وقد سبق أنها ركن من أركان الصلاة، وأنه لا يدخل الإنسان في صلاته إلا بها لا في الفريضة ولا في النافلة، فلو نسي أن يكبر لم تنعقد الصلاة، لا نقول: بطلت صلاته، بل لم تنعقد صلاته، والفرق بين قولنا: لم تنعقد الصلاة وقولنا: بطلت؛ أن بطلت فيما صح أولًا ثم طرأ عليه البطلان، وأما لم تنعقد فهو لم يصح ابتداءً. ومن فوائد الحديث: مشروعية الإسرار بالاستفتاح لقوله: "سكت هنيهة". ومن فوائده: أن السكوت يطلق على القول الذي لا يُسمع مع أنه- أي: القائل المتكلم- تكلَّم ولم يسكت. ومنها: أن الصلاة ليس فيها سكوت بل كلها ذكر، دليل ذلك أن أبا هريرة- رضي الله عنه- سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- ماذا يقول؟ ولم يقل لِمَ سكت؟ قال: ماذا تقول؟ وهو دليل على أن الصلاة ليس فيها سكوت مطلق بل لابد فيها من ذكر. ومن فوائد هذا الحديث: تأدب الصحابة- رضي الله عنهم- مع النبي؛ لأن أبا هريرة قدَّم ما يفيد الأدب في قوله: "بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك". ومن فوائد هذا الحديث: جواز فداء النبي- صلى الله عليه وسلم- بالأبوين، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم أقرَّه على ذلك، فالدليل هو إقرار النبي- صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وهل يُفدى الأبوان بغير النبي- صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: نعم، إذا كان هذا الذي افتديته بالأبوين له مقام في الإسلام من علم أو مال أو ما أشبه ذلك. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية الاستفتاح بهذا الدعاء؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يستفتح به، وهل يُقال: إنه خاصٌّ بالصلاة الجهرية، أو يقال: كما ثبت في الصلاة الجهرية ثبت في السرية؟ الثاني، لكن لما كانت الصلاة السرية لا يُجهر فيها بشيء لم يكن مستغربًا أن يسكت بين القراءة والتكبير. إذا قال قائل: كيف نجمع بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى التي تدل على أن النبي- صلى الله عليه وسلم- يستفتح بغير ذلك؟ فالجواب: أن هذا من تنوع العبادات، وتنوع العبادات أنواعًا، منها ما يكون التنوع فيه في أذكارها، ومنها ما يكون التنوع فيه في أعدادها، ومنها ما يكون التنوع فيه بأوقاتها حسب ما يقتضيه الحال، فمثلًا صلاة العشاء كان النبي- صلى الله عليه وسلم- تارة يُقدمها وتارة يؤخرها بحسب الحال، الوتر تارة يوتر بخمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة هذا تنوع بالعدد، التنوع بأذكارها الاستفتاح في التشهد، الذكر بعد الرفع من الركوع هذا متنوع بأذكارها. فإذا قال قائل: ما هو الجواب عن هذا الحديث مع أحاديث أخرى تدل على الاستفتاح بغيره؟

فالجواب: أن هذا من باب تنوع العبادات، ثم هل يقتصر الإنسان على نوع منها أو يفعل هذا مرة وهذا مرة، أو يجمع بينها؟ نقول: الأفضل أن يفعل هذا مرة وهذا مرة، وألا يجمع بينها إذا دلَّ الدليل على هذا، وأما من تمسك بنوع منها واقتصر عليه فهذا على خير لاشك، لكن تمام التأسي بالرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يفعل هذا مرة وهذا مرة. وفي فعل العبادات المتنوعة على وجوهها فوائد ثلاث: الفائدة الأولى: تمام التأسي بالنبي- صلى الله عليه وسلم-. والفائدة الثانية: أحْضَر للقلب؛ لأنه لو لزم شيئًا واحدًا صار يقوله بغير حضور قلب. الثالثة: أحفظ للسُّنة. هذه ثلاث فوائد في كون الإنسان يفعل العبادات المتنوعة التي جاءت على وجوه تارة هذه وتارة هذه، لكن ما أمكن جمعه فإنه يُجمع كأذكار الصلوات بعد التسليم هذه وردت بهذا وبهذا وبهذا، ولكن العلماء قالوا: إنه يُجمع بينها ولا يُقتصر على نوع لإمكان الجمع، والجمع بينها مع إمكانه أحوط في التأسي بالنبي- صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه قد ينقل عنه بعض الصحابة ما لم يسمعه الآخر، فالاحتياط أن يأتي بكل ما ورد متى أمكن الجمع. إذا قال قائل: ألا يمكن الجمع في أدعية الاستفتاح؟ فالجواب: لا يمكن؛ لأن أبا هريرة لما سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- ما تقول؟ قال: أقول كذا، وهذا يدل على أنه لا جمع. ومن فوائد هذا الحديث: ما دلَّ عليه هذا الاستفتاح من الأدعية العظيمة وهو: أولًا: المباعدة بين الإنسان وبين الذنوب: "اللهمَّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب"، وهذا قبل الفعل. والثاني: "اللهمَّ نقني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس"، فيشرع الدعاء بهذه الجملة لأجل تنقية الإنسان من الذنوب، وهذا دون الأول. ثالثًا: أنه ينبغي الدعاء بالجملة الأخيرة: "اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" وبذلك يعود ثوب الإنسان نظيفًا. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قد يُخطئ؛ لأنه قال: "اللهم نقني من خطاياي"، "اللهم اغسلني من خطاياي"، لو كان الدعاء مقصورًا على الجملة الأولى "اللهم باعد" لقلنا: إن هذا لا يدل على أنه يُخطئ، لكن لما جاءت "نقني" و"اغسلني" دل هذا على أنه يُخطئ، ولكن الله تعالى أجاب دعاءه فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فلو قال قائل: إذا كان قد غُفر له ما تقدم وما تأخر فما فائدة الدعاء؟

فالجواب من وجهين: الأول: أن الدعاء نفسه عبادة. والثاني: أنه قد يكون من أسباب مغفرة ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر: أدعيته التي يكررها دائمًا- عليه الصلاة والسلام-، كما أننا الآن أخبرنا الله- عز وجل- أنه يصلي هو ملائكته على النبي- صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك أمرنا أن نصلي عليه، لكن مع الفرق بين هذا والذي قبل: أن صلاتنا على النبي- صلى الله عليه وسلم- منفعتها لنا أكثر، فهو من مصلحتنا ومنفعتنا من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا. ومن فوائد هذا الحديث: أن الأشياء تداوى بضدها لقوله: "بالماء والثلج والبرد" وآثار الذنوب العقوبة بالنار وهي حارة فناسب أن يكون الغَسل بالماء والثلج والبرد، وهذا هو الموافق للفطرة والطبيعة أن الأدواء تعالج بأضدادها، ولهذا قال النبي- صلى الله عليه وسلم- "الحمى من قيح جهنم فأبردوها بالماء". الحمى: حمى البدن سخونة قال: "أبردوها بالماء البارد"، والماء البارد يزيلها وهذا مجرب، مع أن المريض لاشك أنه يتعب جدًّا ويتأذى به لكن يصبر؛ لأن الحمى إذا مس الإنساء ماء ساخنًا تأذى به، لكن يُقال: هذا دواء، فكما أن تشرب دواءً مرًّا وتصبر على مرارته أو دواء كريه الرائحة وتصبر، فاصبر على برودة هذا فإنه شفاء، يوجد بعض الناس بجعل المريض أمام المكيف من أجل أن يبرد، ولكن هذا قد يكون له سلبيات، إنما لو أتيت بخرقة نظيفة ووضعتها على وجه المريض أو كمادات لنفع بذلك نفعًا عظيمًا، قصدي من هذا المثال أن الأدواء تُقابل بضدها. 261 - وعن عمر- رضي الله عنه- أنه كان يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك". رواه مسلم بسند منقطع، ورواه الدارقطني موصولًا وموقوفًا. "موصولًا وموقوفًا" يعني: عن عمر: هذا الاستفتاح كان عمر يجهر به يُعلمه الناس كما جهر ابن عباس- رضي الله عنه- في قراءة الجنازة وقال: ليعلموا أنها سُنة، فكان عمر- رضي الله عنه- يقرأ هذا الاستفتاح ويجهر به؛ لأنه ثناء على الله- عز وجل- ثناء محض، لكن الثناء على الله متضمن للدعاء في الواقع؛ لأن المُثنى على الله ماذا يريد؟ يريد الثواب، فهو متضمن للدعاء. قوله: "سبحانك اللهم" تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به من أوصاف العيوب أو مماثلة المخلوقين، والله- عز وجل- منزه عن أمور ثلاثة: الأول: عن كل صفة نقص كالعمى والصمم والخرس وما أشبه ذلك، هذا وكل صفة نقص فالله تعالى مُنزه عنها.

الثاني: كل نقص في صفاته- يعني: صفات الكمال- لا يمكن أن يلحقها نقص؛ فقوته لا يلحقُها ضعف، وقدرته لا يلحقها عجز، وعلمه لا يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان. كل صفات الكمال التي اتصف بها- جل وعلا- فإنه منزه عن نقصها، ليس فيها نقص بكل حال من الأحوال، حياته لم تسبق بعدم ولا يلحقها فناء، وهلُمَّ جرًّا. الثالث: مماثلة المخلوقين؛ منزه عن مماثلة المخلوقين سمعًا وعقلًا، قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]. وقال تعالى: {هل تعلم له سميا} [مريم: 65]. وقال تعالى: {ولم يكن له كفوًا أحد} [الإخلاص: 4]. وقال تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون} [البقرة: 22]. والنصوص في هذا كثيرة. إذن متنزه عن أمور ثلاثة، فإن قال قائل: الثالث داخل في ضمن الأول؛ لأن مماثلة المخلوق عيب. قلنا: لكن النص عليها أولى؛ حتى لا يظن الظان أن الكمال في المخلوق كالكمال في الخالق! "سبحانك اللهم" اللهم يعني: يا الله، وسبق الكلام عليها، "وبحمدك" قيل: المعنى: وبحمدك سبحت، فيكون هذا ثناء على الله وحمدًا لله أن وفق القائل بالتسبيح. إذا قيل إن التقدير: وبحمدك سبحت، ولكن هذا قول ضعيف، والصواب أن الباء للمصاحبة، وأن الواو من باب عطف الصفات بعضها على بعض، والمعنى: ومع تسبيحي إياك أحمدك؛ فيكون في الأول نفي النقص، ويكون في الثاني إثبات الكمال، ولاشك أن هذا أعلى من الأول، المعنى: أن الإنسان إذا قال: "سبحانك اللهم وبحمدك" فقد جمع لله بين نفي ما لا يليق به وإثبات كماله- عز وجل- وذلك بحمده، فالباء للمصاحبة، والواو من باب عطف الصفات مثل: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى} [الأعلى: 1 - 4]. "وتبارك اسمك" يعني: اسم الله- عز وجل- مُبارك ما خالط شيئًا إلا نزلت فيه البركة، وهل المراد: كلمة اسم الله، أو كل اسم الله؟ الثاني؛ لأن "اسم" هنا مفرد مضاف فيعمُّ، كل أسماء الله فيها بركة، ولذلك نتوسل إلى الله تعالى بها، فنقول: يا رحمن ارحمنا، يا غفور اغفر لنا، ولولا أن فيها بركة ما صحَّ أن نتوسل إلى الله تعالى بها، هذه معنى "تبارك اسمك". ومن بركات اسم الله- عز وجل-: أنه لو سمى الإنسان على الذبيحة حلَّت ولو ترك التسمية لم تحل، ومن بركته: أن الإنسان إذا أتى أهله وقال: "باسم الله، اللهمَّ جنبني الشيطان وجَنِّب الشيطان ما رزقتنا، ثم قُدِّر بينهما ولد لم يضرَّه شيطان أبدًا". والأمثلة على ذلك كثيرة. "وتعالى جدُّك" "تعالى": تَرفَّع وعَظُمَ، وقوله: "جدك" أي: غناك؛ لأن الجد بمعنى: الغنى، وربما يكون أوسع من هذا المعنى يكون الغنى والقوة وما أشبه ذلك، ومنه قول الذاكر: "ولا

ينفع ذاك الجدِّ منك الجدُّ"، "وتعالى جدك، ولا إله غيرك" أي: لا معبود حق غير الله، والمعبودات من دونه باطلة. قال الله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير} [الحج: 62]. من فوائد هذا الحديث: أنه يُسن الاستفتاح بهذا الذكر، دليله إن شئت فقل: فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- وإن لم تطمئن لذلك لكون الإسناد منقطعًا، فقيل: دليله فعل أمير المؤمنين عمر، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، ونحن نُشهد الله أن عمر- رضي الله عنه- منهم؛ فإذا جاءت سُنة عن أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي ولم تأتِ سُنة نبوية بخلافها كانت سُنة نبوية، يعني: ليست كفعل الرسول، لكن سُنة أمرنا النبي- صلى الله عليه وسلم- باتباعها: "عليكم بسنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، أما إذا جاءت السُّنة النبوية بخلافها فلاشك أن الأصل مُقدَّم على الفرع، ولهذا احتَّج بعض الناس في صلاة التراويح، وقال: ثلاثًا وعشرين سُنة عمر، ماذا نقول؟ نقول: سُنة النبي- صلى الله عليه وسلم- أفضل، ثم هل صح هذا عن عمر، من يقول أنه صح عن عمر؟ غاية ما هنالك حديث يزيد بن رومان أن الناس كانوا يقومون في رمضان بثلاثٍ وعشرين: وهذا على ما فيه من انقطاع لا يصح إضافته لعمر؛ لأنه مضاف إلى زمن عمر، وعمر ليس كالنبي- صلى الله عليه وسلم- ما فُعل في عهده فهو حُجة، يعني: عمر قد تخفى عليه هذه السُّنة، وليس هناك وحي يُقوِّم ما اعوج مع أنه- رضي الله عنه- صحَّ عنه- الموطأ- بأصح إسناد أنه أمر أُبي بن كعب، وتميم الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وهذا لاشك أصلب بكثير من حديث يزيد بن رومان؛ لأن من البعيد جدًّا جدًّا جدًّا أن يُخالف عمر هَدْي النبي- صلى الله عليه وسلم-. على كل حال نعود للحديث: نقول: هذا إن صحَّ عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه استفتح بهذا الدعاء، وإن لم يصح فهو سُنة عمر- رضي الله عنه- وعمر له سُنة متبعة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للقدوة والأسوة في عباد الله أن يجهر بما يخفى على الناس؛ لأن عمر كان يجهر به كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة وقال: "ليعلموا أنها سنة"، وهل من ذلك ما جاء عن أبي قتادة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يسمعهم في صلاة الظهر أو العصر القراءة أحيانًا؟ نعم، قد يقال: هذا منه حتى يعرفوا أنه يقرأ سورة مع الفاتحة، وقد يقال: ليس منه، لكن النبي- صلى الله عليه وسلم- يريد أن يوقظهم بعض الشيء؛ لأن الإمام إذا أراد الصلاة السرية قد يسهى المصلون، فإذا رفع صوته أحيانًا صار هذا كالتنبيه.

الاستعاذة ومعناها

أسئلة: ما معنى: "سبحانك اللهم وبحمدك"؟ "لا إله غيرك" أين الخبر؟ هل فعل عمر حُجة؟ هل نجمع بين هذا الدعاء والذي قبله؟ ومن فوائد هذا الاستفتاح: تنزيه الله- تبارك وتعالى- عن كل ما لا يليق به لقوله: "سبحانك". ومن فوائده: إثبات الكمالات لله- عز وجل- لقوله: "وبحمدك"؛ لأن الحمد هو وصف المحمود بالكمال سواء كان على وجه الكمال المُتعدي أو اللازم. ومن فوائد هذا الحديث: أن اسم الله- تبارك وتعالى- مُبارك، يعني: أنه تحل البركة بذكره لقوله: "وتبارك اسمك". ومن فوائده: أن عظمة الله- تبارك وتعالى- فوق كل عظمة وغناه فوق كل غنى لقوله: "وتعالى جدك". ومن فوائده: انفراد الله- تبارك وتعالى- بالألوهية، وأنه لا إله غيره، وكل ما سواه باطل. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية الاستفتاح بهذا الذكر، فيكون من باب العبادات المتنوعة، والصحيح في هذه المسألة: أن في العبادات المتنوعة أن الإنسان يفعل هذا تارة وهذا تارة، وقد بيَّنا فوائد ذلك، وهو واضح والحمد لله. الاستعاذة ومعناها: 262 - ونحوه عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- مرفوعًا عند الخمسة وفيه: وكان يقولو بعد التكبير: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه، ونفثه". "أعوذ" بمعنى: أعتصم، والعوذ إنما يكون مما يخاف منه ويُكره، وأما "ألوذ" فهي فيما يُؤمل ويُرجى، فالعوذ: فرار: واللياذ: إقبال؛ لأن العوذ مما يخاف منه، واللياذ: مما يرغب فيه، وعليه قول الشاعر [البسيط]: يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره ... ولا يهيضون عظمًا أنت جابره

وهو يخاطب بشرًا بما لا يليق إلا بالله- عز وجل- لكن هكذا الشعراء يُغالون في القدح ويغالون في المدح: {والشعراء يتبعهم الغاون * ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} [الشعراء: 224 - 224]. إذن "أعوذ بالله": أعتصم به، "السميع" أي: المتصف بالسمع، وسمعُ الله- تبارك وتعالى- نوعان: سمع إجابة، وسمع إدراك، وهو في هذا يشمل الأمرين جميعًا، وتفاصيل ذلك أظنها لا تحتاج إلى إعادة، لأنها معلومة لكم، "العليم" أي: ذو العلم، وعلم الله- تبارك وتعالى- محيط بكل شيء جملةً وتفصيلًا سابقًا ولاحقًا وحاضرًا، وآيات إثبات علم الله- عز وجل- كثيرة وهو من صفات الكمال، وإنما ذُكرا هذان الاسمان، لأن "السميع" بمعنى: المجيب مناسب تمامًا لقولك: "أعوذ"، و"العليم" كذلك مناسب لقولك: "أعوذ"؛ لأن ما من مُعيذ إلا وعنده علم كيف يعيذ. "من الشيطان الرجيم"، "الشيطان" هو إبليس، مشتقٌّ من: شَطَنَ إذا بَعُد؛ لأنه- أعني: الشيطان- بعيد من رحمة الله- والعياذ بالله-، ويدل على أنه مشتق من شَطَنَ أنه متصرف كما قال- عز وجل-: {وحفظناها من كل شيطان رجيم} [الحجر: 17]. إذن هو مشتق من شَطَنَ إذا بَعُد لبعده عن رحمه الله، والمراد به: الجنس لا الشيطان المعني الذي أبى أن يسجد لآدم، وقوله: "الرجيم" تصلح أن تكون بمعنى: المرجوم، وتصلح أن تكون بمعنى: الراجم؛ لأن (فعيلًا) تأتي بمعنى (فاعل)، وتأتي بمعنى (مفعول)، وعليه فنقول: إذا كانت بمعنى الرجم، فالمعنى: أنه يرجم بني آدم بالمعاصي ويحملهم عليها حملًا، وإذا قلنا: بمعنى مفعول، أي: مرجوم؛ لأنه مطرود بعيدٌ من رحمة الله- عز وجل-. "من همزه ونفخه ونفثه" هذه ثلاثة أشياء: الهمز، والنفخ، والنفث، "الهمز" قيل: إنه اسم للجنون؛ لأن الشيطان قد يُصيب الإنسان بالجنون. وأما "النفخ" فمن الكبر، واشتقاقه ظاهر؛ لأن الإنسان إذا أصيب بالكبر- والعياذ بالله- انتفخ الشيطان، ينفخ الإنسان حتى يكون مستكبرًا. وأما "النفث" فقيل: إنه الشعر؛ لأن الشعراء يتبعهم الغاوون، قال الله- عز وجل-: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [الشعراء: 221 - 223] فيه احتمال في ذهني لكن ما رأيته، إن المراد بالهمز يعني: اللمز الخفيف الذي يحمل الإنسان على المعصية، والنفخ يعني: شدة الأمر بالمعصية، والنفث أشدُّ، لكنني لم أر هذا، ومن اطلع عليه في اللغة أو غريب الحديث فليخبرنا به، أما المشروع فكما سمعتم أولًا لو حدث للإنسان هذا فلا بأس. وقوله: "بعد التكبير" أي: بعد التكبير والاستفتاح، وإنما احتجنا لهذا التقدير؛ لأن الاستعاذة إنما تكون عند القراءة، والقراءة لا تكون إلا بعد الاستفتاح.

فمن فوائد هذا الحديث: الذي زاده أهل السنن: استحباب هذا الذكر "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ولمزه ونفثه"، فإن اقتصر على "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" أجزأ، لكن هل تجب الاستعاذة أو لا؟ يعني: هل تجب سواء كانت في الصلاة، أو خارج الصلاة؟ الجمهور على أنها ليست بواجبة، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها واجبة؛ لأن الله أمر بها فقال: {فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [النحل: 98 - 100]. قالوا: فإن الله أمر ثم قال: {إنه ليس له سلطان}، وفي هذا إشارة إلى أنه إذا لم يستعذ الإنسان فقد يُسلط الشيطان عليه، والقول بوجوب التعوذ عند قراءة القرآن قول قوي لا شك؛ أولًا: لأن الله أمر به. ثانيًا: لئلا يحول الشيطان بينك وبين تدبر القرآن، والنشاط في قراءته؛ لأن الإنسان عند قراءة القرآن يبتلى بأمرين: إما الكسل وعدم الاستمرار فيه، وإما عدم التدبر، فإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم؛ حماك الله منه ووفِّقت للاستمرار في القراءة والتدبر. ومن فوائد هذا الحديث: أن الاستعاذة من الأمور الخفية لا تكون إلا بالله، انتبه للقيد: "من الأمور الخفية"، الاستعاذة من الأمور الحسية تكون بالله وبغيره، ولكنها لا تكون بمن لا يمكن أن يُعيذ، الاستعاذة من الأمور الخفية لا تكون إلا بالله؛ لأنه لا يقدر عليها إلا الله كالاستعاذة من الشياطين. الاستعاذة من الأمور الحسية تكون بالله وبغيره بشرط أن يكون المستعاذ به قادرًا على الاستعاذة، أما إذا كان غير قادر فلا، فلو استعاذ الإنسان بصاحب القبر من شخص تسور عليه بيته فهذا شرك، لماذا؟ لأنه لا يقدر، ولولا اعتقاد هذا المستعيذ بأمر خفي سري يعتقده في هذا القبر ما فعل، استعاذ هذا الرجل بجاره حين قفز عليه السارق يجوز أو لا؟ يجوز، ولهذا جاء في الحديث: "من وجد مُعاذًا فَلْيَعذ به" لما ذكر ما ذكر من الفتن قال: "مَنْ وجد مُعاذًا فليعذبه"، هذا حكم الاستعاذة، الاستغاثة نفس الشيء، إذا استغاث عن شيء خفي لا يمكن أن يُغيث منه المخلوق فهذا لا يجوز إلا لله وحده إن استغاث على دفع شيء محسوس فهذا جائز بشرط أن يكون المستغاث به قادرًا. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات هذين الاسمين الكريمين من أسماء الله وهما: "السميع"، و"العليم" وما تضمناه من وصف. ومن فوائد الحديث: الحذر من الشيطان من وجهين: أولًا: لأننا أمرنا بالاستعاذ بالله منه.

أوضاع منهي عنها في الصلاة

والثاني: بانه وصف بأنه "رجيم" يرجم الإنسان بالمعاصي. ومن فوائد هذا الحديث: أن للشيطان هَمزًا ونفخًا ونفثًا، ولولا أن له ذلك ما صح أن يستعاذ من هذه الثلاثة. أخيرًا: ما موقع "من همزه ونفخه ونفثه" مما قبلها؟ ارتباطها بالإعاذة العامة. أوضاع منهي عنها في الصلاة: 263 - وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة: بـ {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2]. وما كان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم". أخرجه مسلم وله علة. قولها: "يستفتح الصلاة بالتكبير" أي: يبدأ بقوله: "الله أكبر"، والصلاة هنا عامة تشمل الفريضة والنافلة وذات الركوع وما ليس فيها ركوع. وقولها: "بالتكبير" أي: يقول: "الله أكبر"، و"القراءة" في إعرابها وجهان: النصب، والجر، فعلى قراءة الجر يسقط الاستفتاح، يكون معنى الحديث: يستفتح الصلاة بالتكبير وقراءة الحمد لله رب العالمين، وعلى قراءة النصب "والقراءة" أي: يستفتح القراءة بـ {الحمد لله رب العالمين} وعلى هذا لا يمنع أن يكون قبلها استفتاح، ولهذا ترجح رواية النصب القراءة بـ "الحمد لله رب العالمين"، الحمدُ كيف كان بـ "الحمدُ" والباء حرف جر؟ القراءة بالحمدُ لله رب العالمين" أي: بهذه السورة، وعليه نقول: "الباء" حرف جر، و"الحمد لله رب العالمين" مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة التي منع من ظهورها الحكاية ... إلخ السورة، هذه السورة هي سورة الفاتحة، وسميت سورة الفاتحة؛ لأنه افتتح بها القرآن الكريم، وليس لأنها أول ما نزل؛ لأن الآيات الأربع في سورة {اقرأ} هي أول ما نزل، هذه السورة لها خصائص عجيبة: أولًا: أنها أعظم سورة في القرآن. وثانيًا: أن قراءتها ركن لكل صلاة لا تصح الصلاة إلا بها.

وثالثًا: أنها رقية من كل مرض، أي مرض اقرأ عليه الفاتحة؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "وما يدريك أنها رقية"، وأطلق كل مرض اقرأ عليه الفاتحة، لكن بصدق تجد الأثر. {الحمد لله رب العالمين}، الحمد، هو وصف المحمود بالكمال، وليست ثناء على الله بالجميل الاختياري كما هو معروف في بعض الكتب؛ لأن الذي يمنع من قولنا: الثناء ما جاء في الحديث الصحيح: "إن الإنسان إذا قال: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم}، قال: أثنى علي عبدي". إذن المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، واللام في قوله "لله" للاستحقاق وللاختصاص، للاستحقاق باعتبار الحمد هو المستحق، والاختصاص هو الحمد كله. من أين عرفنا الحمد كله؟ من "أل" الدالة على الاستغراق، الاختصاص من اللام في قوله: "لله" و"الله" عَلَمٌ على رب العالمين لا يُسمى به غيره، "رب العالمين" هذا نعت، يعني: وصفًا، ولكنه كالتعليل لما سبق وهو ألوهية الله- عز وجل- فهو مستحقٌّ للألوهية؛ لأنه رب العالمين، أي: خالقهم ومالكهم ومدبرهم، والمراد بـ "العالمين" هنا: ما سوى الله، وسُمُّوا عالمين من العلم، لأنهم عَلم على الله- عز وجل- ففي كل المخلوقات آية لله رب العالمين كما قال الناظم [المتقارب]: فيا عجبًا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد فالخلق كله علم على الله، وإن شئت تأمل في نفسك تجد العجب العجاب، في الصفات المعنوية والصفات الخلقية والصفات الخلقية تجد العجب العجاب، لو سألت الأطباء ما في هذا البطن من المعامل المكررة للطعام يدخل الطعام أصنافًا مصنفة ويخرج صنف واحد، ويدخل فيه القاسي واللين ويخرج على صفة واحدة، هذا المعامل في الحقيقة لها أقوام توزع هذا يذهب هنا وهذا يذهب هنا، شيء عجيب، ولهذا قال الله- عز وجل-: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21]. خذ كل شيء، وما أحسن أن تطالع لهذا الغرض كتاب "مفتاح دار السعادة" لابن القيم- رحمه الله- تجد العجب العجاب. إذن "العالمين" جميع المخلوقات سُمُّوا بذلك؛ لأنهم عَلَم على خالقهم- جل وعلا-، "الرحمن الرحيم" ما أحسن هذا الوصف بعد قوله: "رب العالمين" للإشارة إلى أن ربوبيته- عز وجل-

مبنية على الرحمة لا على التأسف والخطأ والخطل والزلل بل على الرحمة، "الرحمن" باعتبار الوصف، و"الرحيم" باعتبار الفعل. "الرحمن" باعتبار قيام الرحمة به، وأنها رحمة واسعة، ولهذا جاء على هذا الوجه "رحمن" على وزن فَعْلان، وهذا الوزن في اللغة العربية يدل على الامتلاء والسعة كما يقال: غضبان أي: ممتلئ غضبًا، سكران ممتلئ سكرًا، وما أشبه ذلك. "الرحيم" باعتبار الفعل بمعنى: راحم، وقد فسر بعض أهل العلم "الرحمن": ذو الرحمة العامة، و"الرحيم": ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين، لقوله تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيمًا} [الأحزاب: 43]. {مالك يوم الدين} وفي قراءة: {ملك} والقراءتان كل واحدة تحمل معنًى؛ فـ "مالك" من المُلك وهو التصرف، و "مَلِك" من الملكوت وهو السلطان، فإذا جمعت القراءتين نتج من ذلك أن الله تعالى مَلِك مالك، في المخلوقات ملك لكن ليس بمالك. الملك غير المالك بالمعنى العام هو الذي ليس له سلطة في مملكته، السلطة لغيره والتدبير لغيره، لكن يُسمى مَلِكًا بالوراثة هذا مَلِك لكن غير مالك، يوجد الآن في بريطانيا التي تُسمى العظمة ملكةٌ مالكة أم غير مالكة؟ غير مالكة، وزوجها الذي يسمى ملك غير مالك، ويوجد مالك غير ملك كل واحد منكم معه كتاب هو مالك له ولكنه ليس مَلِكًا. و"يوم الدين" هو يوم الجزاء؛ لأن الدين تارة يُطلق على العمل، وتارة يُطلق على الجزاء، قال الله- تبارك وتعالى-: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6]. هذا دين العمل، وقال الله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} [الانفطار: 17 - 19]. وهذا يبين الجزاء، ومن الأمثال السائرة: "كما تدين تدان" أي: كما تعمل تُجازى. فـ "مالك يوم الدين" أي: مالك يوم القيامة، وخص ملكه بهذا اليوم؛ لأنه في هذا اليوم تتلاشى جميع الملكوتات لا مَلِك، لا أحد في هذا اليوم، يستوي الملك ويستوي أدنى واحد من رعيته، بل من كان أكرم عند الله فهو أعلى وأكبر، يقول الله- عز وجل- في ذلك اليوم: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [الانفطار: 16]. يجيب نفسه؛ لأنه لا ملك لأحد في ذلك اليوم، الملك كله لله- عز وجل-، وإلا فمن المعلوم أن الله مالك يوم الدين ومالك الدنيا أيضًا كما قال- عز وجل-: {قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه} [المؤمنون: 88]. {إياك نعبد وإياك نستعين} إياك نعبد؛ أي: لا نعبد إلا إياك، ووجه كونها بهذا المعنى: أنه قُدم المعمول وهو "إياك" وتقديم المعمول على عامله يدل على الحصر، بل القاعدة أعم من هذا وهي "تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر"، والعبادة هي التذلل لله- عز وجل- مع المحبة والتعظيم، مأخوذ من قولهم: طريق مُعَبَّد أي: مذلل للسالكين، ونحن نقول بدله: طريق

مزفلت، فالطريق المعبد المذلل للسالكين اشتق منه العبادة أن الإنسان يقوم بعبادة الله تعالى تذللًا له ومحبة وتعظيمًا هذه لله. {وإياك نستعين} أي: نطلب العون منك لا من غيرك؛ أي: نطلب أن تعيننا على جميع أمورنا في الدنيا والآخرة، ولهذا حذف المستعان عليه لإفادة التعميم. "وإياك نستعين" نقول فيها بالنسبة للاختصاص كما قلنا في "إياك نعبد" أي: لا نستعين إلا إياك. فإن قال قائل: ألسنا نستعين بغير الله؟ فالجواب: نستعين به على أنه سبب لا على أنه مستقل، واستعانتنا بالسيد استعانة بالله تعالى؛ لأننا نعلم أن الله تعالى إذا لم يُسخر هذا الرجل الذي استعنا به لم ينفعنا بشيء، فحقيقة الاستعانة بالمخلوق أنها استعانة بالله خالقه- عز وجل-؛ لأنه هو الذي يُسخر لمن استعانه، ومع هذا نقول: الاستعانة المطلقة في كل شيء لا تكون إلا لله- عز وجل-. {اهدنا الصراط المستقيم} اهدنا الصراط: الهداية هنا يراد بها: هداية الإرشاد والعلم وهداية التوفيق والطاعة، ودليل ذلك حذف حرف الجر، أي: أنك لم تقل: "اهدنا إلى الصراط المستقيم" فيكون المعنى: اهدنا إليه وفيه، اهدنا إلى هذا العلم وفيه، هذا التوفيق، و"الصراط المستقيم" هو دين الإسلام، وسُمي صراطًا؛ لأنه طريق واسع يسع كل من يدخله، قيل: والصراط لا يكون صراطًا إلا إذا كان طريقًا واسعًا، وكان طريقًا سهلًا، وكان طريقًا مستقيمًا ثلاث أوصاف: واسع، سهل، مستقيم، قالوا: والاشتقاق يدل عليه؛ لأن صَرَطَ الشيء أي: ابتلعه بسرعة، ويُقال في اللغة العامية عندنا: "ظراط الشيء" يقول: أعطيته لحمًا فظرطه بسرعة، يعني: بلعه مباشرة بدون أن يعض بها. إذن الصراط ما جمع ثلاثة أوصاف: السعة، والسهولة، والاستقامة، والاستقامة يعني: أنه لا اعوجاج فيه ولا ارتفاع ولا نزول؛ لأن الارتفاع والنزول هو في الحقيقة انحراف، عرج طريقًا من اليسار وعرجه طولًا وعلوًّا ونزولًا تكون المسافة واحدة، وقوله: "المستقيم" هذا من باب التأكيد؛ يعني: الذي لا اعوجاج فيه، وهذا مستفاد من معنى الصراط، لكنه أظهر هذا الوصف للتشويق إليه، هذا الصراط المستقيم صراط مَنْ؟ {صراط الذين أنعمت عليهم}، والذين أنعم الله عليهم أربعة أصناف كما قال الله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [النساء: 69]. هؤلاء أنعم الله عليهم نعمة الهداية العلمية ونعمة الهداية العملية. {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم} الغضب هو وصف لله- عز وجل- قائم بذاته على وجه الحقيقة، لكن هنا لم يقل: غير الذين غضبت عليهم بخلاف الإنعام قال: {الذين أنعمت

عليهم}، والحكمة من هذا: تلافي إضافة الغضب إلى الله- عز وجل- في هذا السياق وإلا فقد اضاف الله الغضب إلى نفسه في مواضع أخرى كما قال- عز وجل-: {من لعنه الله وغضب عليه} [المائدة: 60]. وقال في قاتل العمد: {وغضب الله عليه ولعنه} [النساء: 93]. أي فائدة أخرى أن من غضب الله عليه غضب عليه أولياء الله؛ لأن أولياء الله يحبون ما أحبه الله ويكرهون ما كره الله، فلما كان الغضب من الله ومن أولياء الله صار التعبير باسم المفعول أعمُّ، فمَن المغضوب عليهم؟ المغضوب عليهم يُعرف صنفهم إذا قسمت أقسام الناس في هذه السورة، {ولا الضالين} الضال: الذي لم يهتد للطريق، يطلب الطريق لكن ضلّ، كما لو خرج الإنسان في البرية ثم ضلَّ الطريق فهو يبحث عنه، وقد يسلك طريقًا فيه هلاكه وهو لا يدري، فالضال هو مَنْ جهل الحق بعد طلبه، {المغضوب عليهم}: هم الذين علموا الحق وخالفوه: {الذين أنعم الله عليهم} هم الذين علموا الحق واتبعوه، فالأقسام ثلاثة: عالم بالحق متبع له، فهذا أنعم الله عليهم، وعالم بالحق خالفه فمغضوب عليهم، وطالب للحق لم يوفق له الضال، هذه أقسام حاصرة، على رأس المغضوب عليهم: اليهود: وعلى رأس الضالين: النصارى، ولهذا جاء في الحديث وإن كان فيه نظر تفسير {المغضوب عليهم} باليهود، و {الضالين} بالنصارى. وهذه السورة في الواقع إذ تأملها الإنسان وتعمق فيها علم الحكمة من كونها أم القرآن، وأم الكتاب؛ لأن جميع معاني القرآن ترجع إليها، فيها علم التاريخ، أحوال الأمم، الرسل، كل شيء، كل الموضوعات التي اشتمل عليها القرآن أساسها موجود في الفاتحة، ولهذا استحقت أن توصف بأنها "أم القرآن"، واستحقت أنها لا تصح صلاة أحد إلا بقراءتها وهذه مزية عظيمة، آية الكرسي أعظم آية، {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن، ومع ذلك تصح الصلاة بدونهما، لكن هذه لها هذه المزية؛ لأنها قد جمعت معاني القرآن الكريم، ومن أراد التوسع فيها فعليه بكتاب "مدارج السالكين" لابن القيم، فقد أتى فيه بالعجب العجاب حول تفسير هذه السورة العظيمة. فتقول: "وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه" "كان" أي: النبي- صلى الله عليه وسلم-، "إذا ركع" يعني: حنى ظهره "لم يشخص رأسه ولم يصوبه" الإشخاص: الرفع، والتصويب: التنزيل، فهو لا يرفعه ولا ينزله، بل يجعله محاذيًا لظهره، ثم كيف حال الظهر؟ دلت الأدلة الأخرى على أنه يسوي ظهره تمامًا حتى لو صُبَّ الماء لاستقر من شدة تسوية الظهر، ولكن بين ذلك؛ يعني كيفية استواء ظهره المشار إليه في الحديث بأنه لا يكون فيه الإشخاص والتصويب.

"وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا" لم تذكر التكبير أو التسبيح أو التحميد؛ لأنها أرادت أن تتكلم على الأفعال التي هي الأركان. "وكان إذا رفع لم يسجد حتى يستوي قائمًا" يستوي أي: يعتدل، وقد مرَّ علينا أنه لابد من الطمأنينة، "وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي ساجدًا" هذا فيه طي، إذا رفع من السجدة أفادت: أنه يسجد بعد الرفع من الركوع، فإذا سجد وقام لم يسجد الثانية حتى يستوي جالسًا. "وكان يقول في كل ركعتين التحية" يعني: في الفرائض، كل ركعتين يقول فيها التحية، إن كانت ثنائية فجميع التحية، وإن كانت ثلاثية أو رباعية فالركعتان الأوليان يقتصر فيهما على التشهد الأول، وقولها: "التحية" هذا من باب التعبير بالبعض عن الكل، والمراد: جميع التحيات. "وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى" كان يفرش اليسرى يعني: يجلس عليها وينصب اليمنى، وقد أخرجها من جانبه الأيمن، فيكون أصابع اليمنى إلى الأرض وظهر اليسرى إلى الأرض، ولم تفصل- رضي الله عنها-، لكن سبق في حديث أبي حُميد التفصيل وهو أنه في التشهد الأخير يتورك. "وكان ينهي عن عقبة الشيطان" يعني: جلسته على عقبيه، وهل هو الإقعاء الذي ذكره ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يفعله إذا جلس، أو هو الإقعاء الذي هو كإقعاء الكلب؟ ظاهر الحديث أنه الأول؛ يعني: أن قوله: "عقبة" في معنى: العقيبة؛ أي: الجلوس على عقبيه، وسيأتي في الفوائد كيف نجمع بين هذا وبين حديث ابن عباس. "وينهي أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع" وهذا في حال السجود؛ لأنه لا يمكن أن يفترش الذراعين إلا إذا سجد، لو أراد أن يفترش ذراعيه في الجلوس لا يمكن، وفي القيام من باب أولى. إذن ينهى عن افتراش الذراعين في حال السجود، وقولها: "افتراش السبع" من باب التشبيه للتقبيح؛ لأنه يكون كالسبع، والإنسان منهي عن التشبه بالحيوان فإنه مُكرم عليه فكيف ينزل بنفسه للتشبه بالحيوان، لاسيما وهو يناجي الله- عز وجل- في الصلاة؟ ! "وكان يختم الصلاة بالتسليم" يعني: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا انتهى من الصلاة سلَّم، و"أل" في قولها "بالتسليم" يُحتمل أن تكون لبيان الحقيقة، ويحتمل أن تكون للعموم، فإن قلنا: إنها لبيان الحقيقة صارت التسليمة الواحدة كافية؛ لأنها يحصل بها التسليم، وإن قلنا: إنها للعهد صار المراد بالتسليم التسليمتين. قال: "أخرجه مسلم وله علة".

من فوائد هذا الحديث: ضبط عائشة- رضي الله عنها- لأحوال النبي- صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وعباداته ومعاملاته؛ لأن أخص الناس به زوجاته، فإنهن يعلمن من السر ما لم يعلمه غيرهن. ومنها: سعة علمها- رضي الله عنها-، حيث ساقت هذا الحديث كله بجمله وأفراده. ومنها: مشروعية افتتاح الصلاة بالتكبير، وهذا التكبير ركن من أركان الصلاة لا تنعقد الصلاة إلا به، ويجب أن يكون التكبير بهذا اللفظ "الله أكبر" فلو أتى بمعناه لم يصح، واختلف العلماء- رحمهم الله- فيمن لا يعرف الأذكار إلا بلغته، هل يأتي بها بلغته أو يكلف أن يتعلمها بالعربية؟ والصواب: أن يأتي بها بلغته، أما القرآن فقد عُلم أنه لا يجوز أن يُترجم حرفيًّا، أما أن ينقل معناه فلا مانع، ولا يقرأ بغير العربية، وأما الأذكار فلا بأس، والله- عز وجل- يعلم لغة كل قوم. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يجهر بالاستفتاح ولا بالتعوذ ولا بالبسملة لقولها: "والقراءة بالحمد لله رب العالمين". ومنها: أن الإنسان لا يُقدِّم السورة التي بعد الفاتحة على الفاتحة، لم يكن هذا مشروعًا فإن تعمد على وجه التلاعب فصلاته باطلة، وإن تعمد لا على وجه التلاعب فصلاته غير باطلة، لكنه أخطأ، وإن نسي فإنه لا شيء عليه، ولكن يعيد السورة بعد الفاتحة، وهل يسجد للسهو؟ قيل: إنه يسجد للسهو استحبابًا لا وجوبًا؛ لأن مثل هذا القول لا يُبطل الصلاة عمده، لكنه أتى به في غير موضعه وقالوا كل من أتى بقول مشروع في غير موضعه فإنه يستحب له أن يسجد للسهو، وعلى هذا فمن نسي وقرأ السورة قبل الفاتحة قلنا له: اقرأ الفاتحة، ثم اقرأ السورة، ثم اسجد للسهو استحبابًا، ولا نقول: إنه واجب؛ لأن الإنسان لو تعمده لم تبطل صلاته. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية الركوع في الصلاة، وهو ركن من أركان الصلاة؛ لأن الله تعالى عبّر به عن الصلاة، وإذا عبر الله بالبعض عن الكل دل ذلك على أنه لابد من وجود هذا البعض في الكل، وهذه القاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في "كتاب الإيمان" حيث ذكر فيه أنه إذا عبَّر عن الشيء ببعضه دلَّ على أن هذا البعض واجب في ذلك الكل. هل عبّر الله تعالى عن الصلاة بالركوع؟ نعم، في قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43]. الركوع الواجب منه الانحناء، ولكن هل له ضابط؟ قيل: إن ضابط الانحناء أن يُمَكِّن المعتدل في طول يديه وقصرهما من مس الركبتين، وقيل: إن الواجب أن يكون إلى الركوع الكامل أقرب منه إلى القيام الكامل، وذلك لأن الانحناء قد يكون أقرب إلى القيام، وقد يكون أقرب إلى الركوع، وقد يكون مساويًا، يعني: ليس انتصابًا ولا ركوعًا تامًّا، قالوا: الواجب هو أن يكون إلى الركوع الكامل أقرب منه إلى القيام الكامل، وأظن أن هذا متقارب، بمعنى: أنك لو نظرت إلى الرجل المعتدل في طول الذراعين وجدت أنه إذا أمكنه أن يمسَّ ركبتيه كان إلى الركوع الكامل أقرب منه إلى القيام الكامل.

ومن فوائد هذا الحديث: أن السنة في الركوع ألا يرفع رأسه ولا ينزله عن ظهره، لقولها- رضي الله عنها-: "لم يشخص رأسه ولم يصوبه"، ولكن بين ذلك، ومعلوم أنه إذا كان الرأس بين ذلك سوف يكون مساويًا في الظهر، وهل يشمل هذا أن يصوب الظهر مع الرأس، أو يشخص الظهر مع الرأس؟ نعم، نحن مثلًا لدينا أربعة أشياء: الأول: أن يرفع الرأس والظهر. والثاني: أن ينزل الرأس والظهر؛ لأن بعض الناس تجده عندما يركع ينزل مرة بظهره ورأسه. والثالث: أن يكون الظهر مستويًا، ولكن يرفع رأسه. والرابع: أن يكون الظهر مستويًا، ولكن ينزل الرأس، فهي نفت الارتفاع والانخفاض في الرأس سواء؛ أي: أن استواء الظهر والرأس في هذه الحالة يكون سواء ارتفاعًا وانخفاضًا، إلا أن الرأس ينزل، بينما الظهر يبقى مستويًا، فالاعتدال هو المفروض، ولهذا ذُكِرَ "أن من صفة النبي- صلى الله عليه وسلم- في ركوعه أنه لو صبَّ الماء على ظهره لاستقر". ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية الرفع من الركوع لقولها- رضي الله عنها-: "وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا" يعني: حتى يستقر قائمًا، وهذا الرفع ركن من أركان الصلاة، فلو أن الإنسان وهو راكع سجد قبل أن ينهض فقد ترك ركنًا من أركان الصلاة؛ إذن لابد أن يرفع حتى يستوي قائمًا. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية السجود لقولها: "وكان إذا رفع من السجدة"، والرفع من السجود ركن من أركان الصلاة لابد منه. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب البقاء بعد السجود قاعدًا حتى يستقر لقولها: "إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا"، وهذا الجلوس حكمه ركن من أركان الصلاة. ومن فوائد هذا الحديث: التشهد في كل ركعتين سواء كانت ثنائية أو ثلاثية أو رباعية؛ الثنائية كالفجر يتشهد في الثانية، الثلاثية كالمغرب، الرباعية كالظهر والعصر والعشاء، هذه التحية هل هي ركن أو لا؟ نقول: مقتضى سياق الحديث أن تكون ركنًا؛ لأنها ذكرتها مع الأركان، ولكن السنة يفسر بعضها بعضًا ويقيد بعضها بعضًا، ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه ترك التشهد الأول ذات يوم وجير هذا الترك بسجود السهو، والأركان لا تُجبر بسجود السهو، فدل هذا على أن التشهد واجب، ولكنه يسقط بالسهو ويُجبر بسجدتين قبل السلام كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- تمامًا. فإن قال قائل: هل كلامها هذا يشمل الفرض والنفل؟

فالجواب: أنه يشمل الفرض والنفل؛ لأن ما يثبت في الفرض يثبت في النفل، وما يثبت في النفل يثبت في الفرض إلا بدليل، والدليل على أن ما ثبت في النفل يثبت في الفرض، وما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا بدليل: أن الصحابة- رضي الله عنهم- لما حكوا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به، قالوا غير هذا: أنه لا يصلي عليها المكتوبة، فاستثناؤهم هذا يدل على أن من المتقرر عندهم أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل، وعلى هذا فنقول: النفل جاز فيها الركعة الواحدة كالوتر، والخمس بتسليم واحد، والسبع بتسليم واحد، والتسع بتسليم واحد، إلا أنه يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يُسلم، هذه الثلاث ورد فيها سُنَّتان.: الأولى: إذا أوتر بثلاثٍ فصفتان: الأولى: أن يسلم من ركعتين ثم يأتي بواحدة، والثانية: أن يوتر بثلاثٍ سردًا دون التشهد؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى أن يشبه الوتر بصلاة المغرب، بقية النوافل يُسلم من كل ركعتين، وعليه فلابد من التشهد في كل ركعتين، وما ورد في فضل أربع ركعات بتسليم واحد فهو ضعيف لا يعوَّل عليه: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، وقد صحح كلمة "النهار" كثير من العلماء، ومنهم الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله- حيث ذكر أن هذه اللفظة الزائدة "النهار" تعتبر زيادة صحيحة. من فوائد هذا الحديث: أن المشروع في جلسة الصلاة أن يفترش المصلي رجله اليسرى وينصب اليمنى، وقد تم شرحها فيما سبق، لكن ظاهر الحديث أنه في كل الصلوات، يعني: الثلاثية والرباعية والثنائية. وقد يقول قائل: إنه ليس ظاهر الحديث؛ لأنها قالت: "وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفترش" أي: يفترش في هذه التحية، وهذا حق كلما جلس الإنسان للتشهد في ركعتين فإنه يفترش. فقد يقول قائل: ليس ظاهر الحديث أنه في الصلاة الثلاثية والرباعية في كلا التشهدين،

فإن أبى آبٍ إلا أن يقول: ظاهر الحديث أنه يفترش رجله اليسرى وينصب اليمنى في جلسات الصلاة للتحيات الأولى والثانية. قلنا: هذا الظاهر مرفوع بما جاء صريحًا في حديث أبي حُميد وغيره أنه في الصلاة الثلاثية والرباعية يتورك في التشهد الأخير ولا يفترش، ولهذا اختلف العلماء- رحمهم الله- في هذه المسألة؛ فمنهم من قال: إنه يفترش في جميع جلسات الصلاة في التحيات الأولى والثانية وبين السجدتين، ومنهم من فصّل، وهذا التفصيل هو الصواب. إذن التشهد الأخير تورك، التشهد الأول افتراش، الجلوس بين السجدتين افتراش. ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن مشابهة الشيطان لقولها: "وكان ينهي عن عقبة الشيطان". فإذا قال قائل: الحديث نهى عن التشبه بالشيطان في شيء واحد وهو الجلسو، فكيف تُعَمم؟ فالجواب عن هذا: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أضاف العقبة إلى الشيطان تقبيحًا لها لكونها قعدة الشيطان. ثانيًا: أن لدينا حديثًا عامًّا وهو: "أن من تشبه بقوم فهو منهم"، ولا يمكن أن يرضى أحد بتشبهه بالشيطان، وسبق القول في عقبة الشيطان أنها: أن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه، وظاهر هذا الحديث العموم؛ لأن سواء كانت القعدة بين السجدتين أو في التشهدين، وهذا ما ذهب إليه أصحاب الإمام أحمد- رحمهم الله- وقالوا: إن هذه القعدة مكروهة، ولكن ابن عباس- رضي الله عنهما- ذكر أن هذا الإقعاء من السُّنة، ولا يبعد أن يكون ابن عباس- رضي الله عنهما- رأى النبي يفعل ذلك ولم يعلم بما فعله أخيرًا من كونه يفترش أو يتورك، وقولهم: "لا يبعد" ليس معناه يقينًا، لكن لا يبعد هذا كما فعل عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- في التطبيق والوقوف بين المأمومين، حيث كان ابن مسعود- رضي الله عنه- يقف بين المأمومين، يعني: إذا صاروا ثلاثة وقف بينهما، ولكن هذا الحكم منسوخ؛ لأنه إذا كان الجماعة ثلاثة صار إمامهم أمامهم. ثانيًا: التطبيق: أن يضع إحدى يديه إلى الأخرى بين فخذيه إذا ركع، ابن مسعود- رضي الله عنه- متمسك بهذا مع أنه منسوخ؛ لأن الرجل إذا ركع أين يضع يديه؟ على ركبتيه، فلا يبعد أن يكون ابن عباس- رضي الله عنهما- كحال عبد الله بن مسعود. ومن فوائد هذا الحديث: النهي أن يفترش المصلي ذراعيه كافتراش السبع، والسبع هنا

مواضع رفع اليدين وصفته

المراد به: الكلب، كيف يفترش؟ إذا سجد يضع الذراعين على الأرض؛ لأن الإنسان مأمور بأن ينصب الذراعين ويعتدل في السجود. ومن فوائد هذا الحديث: حكمة النبي- صلى الله عليه وسلم- في قوة التعبير عن العمل، الأول: قالت: "عقبة الشيطان"، والثاني: "افتراش السبع"، وهذا يسمى عند البلاغيين: التشبيه للتقبيح؛ لأن التشبيه أنواع منها: تشبيه للتقبيح. ومن فوائد هذا الحديث: أن ختام الصلاة بالتسليم، فيشرع عند ختمام الصلاة أن يُسلِّم يقول: "السلام عليكم ورحمة الله"، وسبق في شرح الحديث "أل" للعهد أو لبيان الحقيقة؟ إن قلنا: للعهد فكم يكون التسليم؟ يكون تسليمتين، وإن قلنا: لبيان الحقيقة جاز الاكتفاء بواحدة، والصواب أنه للعهد، وأنه لابد من تسليمتين. مواضع رفع اليدين وصفته: 264 - وعن ابن عمر- رضي الله عنهما-: "أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع". متفق عليه. 265 - وفي حديث أبي حميد، عند أبي داود: "يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر". 266 - ولمسلم عن مالك بن الحويرث- رضي الله عنه- نحو حديث ابن عمر، لكن قال: "حتى يحاذي بهما فروع أذنيه". "حذو" يعني: مساويًا لمنكبيه، والمنكب: هو ما بين رأس الكتف والعنق، وقوله: "إذا افتتح الصلاة" يعني: إذا كبر تكبيرة الإحرام، لأنه يفتتح بها الصلاة كما جاء في الحديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم- وكما سبق عن عائشة: "يفتتح الصلاة بالتكبير، وإذا كبّر للركوع" يعني: إذا شرع في التكبير للركوع، ليس المعنى: إذا وصل إلى الركوع، بل إذا شرع. هذان موضعان، الثالث: "وإذا رفع رأسه من الركوع" بعدما يستتم قائمًا يرفع. هذه ثلاثة مواضع. فتأخذ من هذا الحديث فوائد منها: حرص الصحابة- رضي الله عنهم- على تتبع أفعال النبي- صلى الله عليه وسلم-. ومنها: جواز النظر إلى الأمام، ولننظر هل هذه الفائدة ممكن أن نأخذها من هذا الحديث أو لا؟ الظاهر أننا نأخذها، وأنها ليست إبلاغًا من النبي- صلى الله عليه وسلم- لابن عمر، يعني: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يقل: إني أرفع يدي إذا كبّرت، ولو كان الأمر كذلك لكان ابن عمر- رضي الله عنهما- يذكره؛ لأن نسبته إلى قول النبي- صلى الله لعيه وسلم- أبلغ، ويدل على جواز نظر المأموم للإمام ما ثبت في صحيح البخاري وغيره

في أثناء صلاة الكسوف حين قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "وذلك حينما رأيتموني تقدمت- لما عُرِضت عليه الجنة وذلك حينما رأيتموني تأخرت- لما عرضت عليه النار"، ويدل لذلك أن الصحابة- رضي الله عنهم- لما سُئلوا كيف تعلمون أن النبي-صلى الله عليه وسلم- يقرأ؟ قالوا: نعرف ذلك باضطراب لحيته، أي تحركها، وهذا يدل على أن المأموم يرى الإمام، ويدل لذلك- وهو الدليل الخامس-: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- حينما صلى على المنبر أو ما صُنع قال: "فعلت ذلك لتأتموا ولتعلموا صلاتي"، وهذا يدل على أنهم يرونه، ولكن هل هذا سنة مع كل إمام من أجل أن يتحرى المأموم متابعته، أو هي سنة في إمام يقتدى ويتأسى به لعلمه ولتطبيقه السنة؟ الظاهر الثاني؛ أي: أنه إذا كان الإنسان إمامًا عالمًا معروفًا ووجد حوله المأموم جاز أن يفعل ذلك لعلمه ولتطبيقه السنة حتى يقتدي به؛ لأنه ليس كل عالم يطبق السنة، وأما إذا لم يكن عالمًا فالمسألة واضحة أنه لا يقتدى به، والظاهر لي الثاني- والله أعلم- أنه إذا كان الإمام ذا علم ودين يعمل بالسنة فإنه لا بأس أن ينظر إليه المأموم من أجل أن يتعلم صلاته، لكن بشرط ألا يؤدي ذلك إلى الالتفات، فإن أدى إلى الالتفات بكون المأموم بعيدًا في أقصى الصف فلا يفعل؛ لأن الأصل في الالتفات في الصلاة أنه مكروه. من فوائد هذا الحديث: مشروعية رفع اليدين حذو المنكبين؛ يعني: ليس اليمنى قبل اليسرى، لا. فإن قال قائل: ما هي الفائدة من ذلك؟ فالجواب: أنها زينة للصلاة، وإشارة إلى رفع الحجاب بينك وبين الله- عز وجل-. ومن فوائد هذا الحديث: أن الرفع يكون إلى حذو المنكبين، وفي حديث مالك بن الحويرث: "حتى يُحاذي بها فروع أذنيه"، وفي حديث ثالث لم يذكره المؤلف: "حتى يُحاذي شحمة أذنيه"، فهل الصفة واحدة، ويكون الذي ذكر أنه حذو المنكبين اعتبر أسفل الكف، والذي ذكر إلى فروع الأذنين اعتبر أعلى الكف، أو هي صفات متعددة؟ الظاهر الثاني، وأن الأمر في هذا واسع، إذا رفع اليدين إلى حذو المنكبين فسنة، أو دفع إلى شحمة الأذنين فسنة أيضًا، كما أنه إذا رفع يديه إلى فروع الأذنين كذلك فقد فعل سنة، وأما مبالغة بعض الناس أو تساهل بعض الناس فمخالف للسنة مضاد لها، بعض الناس تجده إذا أراد أن يكبر يبالغ إلى

فوق الرأس؛ هذا ليس بصحيح، وبعض الناس يكبر إلى حذو الصدر، هذا أيضًا خلاف السنة، وهل يكون هذا بدعة أو تقصيرًا في السنة؟ فيه احتمال أن الرجل يتعبد لله بهذا، لكن نظرًا لأنه يرى أنه السنة يخرج بهذا عن البدعة، ويكون بذلك جاهلًا فيعلم، يقال: هذا ليس من السنة، لو رفع يديه في الدعاء إلى أعلى صدره أو إلى فروع الأذنين أو إلى أكثر هذا لا بأس، وكلما ازداد ابتهال الإنسان إلى الله ازداد رفع اليدين، حتى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- في دعاء الاستسقاء كان يرفع يديه كثيرًا حتى يرى الرائي أن ظهر الكف إلى السماء، وليس كما فهم بعض العلماء من أنه جعل ظهر كفيه إلى السماء، ثم زاد على ذلك وقال: إذا كان الدعاء لجلب خير فافعل هكذا، وإن كان لدفع شر فقل هكذا؛ هذا لا صحة له، والصواب- كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- أنه للمبالغة في رفع اليدين صارت ظهورهما إلى السماء. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية رفع اليدين إذا كبّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، هذه ثلاثة مواضع، بقي موضع رابع يثبت أيضًا في الصحيح عن ابن عمر وهو: "إذا قام من التشهد الأول، ووجه ذلك: أن الصلاة بعد التشهد الأول تخالف هيئتها قبل التشهد الأول؛ يقتصر فيها على الفاتحة، وتُخفف ركعاتها وسجداتها أكثر مما سبق فكأنه دخل في صلاة جديدة، ولكن متى يرفع إذا قام من التشهد الأول؟ يرفع إذا قام، وأما ما ذُكر عن بعض الإخوة الحريصين على اتباع السنة أنه يرفع وهو جالس فهذا غلط لاشك، إنما يرفع إذا قام، وهل يرفع في بقية الانتقالات؟ الجواب: اسمع قول ابن عمر: "كان لا يفعل ذلك في السجود" وروي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يرفع يديه في كل خفض، كلما خفض وكلما رفع، لكن هذا الحديث غير صحيح. أولًا: لأنه لا يقاوم حديث ابن عمر في الصحة؛ لأن حديث ابن عمر في الصحيحين، وهذا ليس فيهما. ثانيًا: أنه كما قال ابن القيم- رحمه الله- في "زاد المعاد": إن الراوي وهم، فأراد أن يقول: يكبر كلما خفض ورفع، فقال: يرفع يديه كلما خفض ورفع. فإن قال قائل: إنكم تقولون: إن المثبت مقدم على النافي على الوجه الأول؟ فالجواب: نعم، نقول هذا، لكن ابن عمر الآن يعتبر في قوله: "وكان لا يفعل ذلك في

السجود" مثبتًا في الواقع؛ لأن الرجل يراقب الصلاة من أولها إلى آخرها، ويقول: يرفع في كذا، ولا يرفع في كذا وهذا إثبات، وليس كالإثبات والنفي المطلق. صحيح أن الإثبات والنفي المطلق فيه زيادة علم مع المثبت فيقدم، لكن المنهي عنه أن يأتي رجل ويفصل في مثل هذا يقول: كان يفعل كذا في كذا، ولا يفعل هذا في كذا، فهذا صحيح، وأنه نقل متيقن، ولذلك كان القول الراجح أنه لا يُسن رفع اليدين إلا في هذه المواضع الأربعة وهي: عند تكبيرة الإحرام، عند الركوع، عند الرفع منه، عند القيام من التشهد الأول. لو قال قائل: إذا كان هناك رجل مسبوق وأدرك مع الإمام ثلاث ركعات من الظهر مثلًا وقام يقضي الرابعة هل يرفع يديه أو لا؟ هذا محل نظر، قد نقول بالقياس، وقد نقول بعدم القياس، لأن العبادات ليس فيها قياس تبقى على ما هي عليه، وقد نقول: إن هذه حال نادرة لم تقع للنبي- صلى الله عليه وسلم-، وهي في الحقيقة قيام من تشهد، فتشبه تمامًا القيام من التشهد الأول، والأمر في هذا واسع عندي بمعنى: أنه إذا رفع فلا ننهاه، وإذا لم يرفع فلا نأمره. لكن هنا سؤال: متى يكون الرفع، هل هو مع ابتداء التكير، أو بعد التكبير، أو قبل التكبير؟ فالجواب: أن كله سنة، ورد عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه إذا كبّر رفع، وورد أنه يرفع ثم يكبر، وورد أنه يرفع مع التكبير. حديث أبي حميد يقول: "يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر"، فيكون الرفع قبل التكبير. حديث ابن عمر: "يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة"، فيكون الرفع بعد التكبير؛ لأنه لا يعد مفتتحًا للصلاة إلا إذا كبر. كما جاء أيضًا في الحديث الذي لم يذكره المؤلف: "أنه يكبر مع الرفع"، فيكون هذا مما اختلفت فيه السنة: كبر أولًا ثم ارفع، ارفع أولًا ثم كبر، اجعل التكبير مع الرفع. أسئلة: - لو قال قائل: إن قول ابن عمر: "كان لا يفعل ذلك في السجود" نفي وهذا مثبت، والقاعدة أن المثبت مقدم على المنفي، فكيف نقول؟ - هل رفع اليدين مع التكبير أو معه أو بعده؟ * * *

صفة وضع اليدين في القيام

صفة وضع اليدين في القيام: 267 - وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره". أخرجه ابن خزيمة. "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم"، المعية هنا تقتضي المصاحبة في المكان، أي: معه في المسجد، أو غير المسجد، المهم أن المعية هنا المصاحبة في المكان، وقوله: "فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" في أي موضع من الصلاة؟ نرجع إلى البخاري من حديث سهل بن سعد: "أن الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة"، وهذا في القيام الذي قبل الركوع والذي بعده، لكن الفرق بين حديث وائل وحديث سهل: أن حديث وائل بين أين يكون موضع اليدين، ولم يرد حديث صحيح صريح في موضعهما وأمثل ما في ذلك هذا الحديث حديث وائل بن حجر -على ما فيه من المقال- أنه يضع يده على صدره هذا أمثل ما جاءت به السنة، وقيل: على نحره، وقيل: على سرته، وقيل: أسفل، فالأقوال إذن أربعة، وأمثلها وأقربها للسنة حديث وائل أنها على الصدر، أما الذين قالوا: إنها على النحر، فاستدلوا بقول الله تعالى: {فصل لربك وانحر} وقالوا: معنى النحر المأمور به: أن يضع يده اليمنى على اليسرى على النحر، وأما الذين قالوا: على الصدر، فاستدلوا بحديث وائل، وأما الذين قالوا: إنه أسفل من السرة أو على السرة، ففي حديث عن علي رضي الله عنه لكنه ضعيف، فأمثل ما ورد في هذه المسألة هو حديث وائل. نرى بعض الناس -من العجب العجاب- يضع يده اليمنى على اليسرى على الجنب الأيسر، وسألناهم لماذا؟ فقالوا: لأن القلب في الجانب الأيسر، فمن المناسبة أن تكون اليدان على القلب، وهذا غلط، إحداث شريعة لم ترد بها السنة، ولنا أن نجيبهم ونقول: أيضًا الفهم والإدراك يكون في المخ لأنه -والله أعلم- كان الإنسان يكون به، فهذه المسائل -مسائل العبادات- توقيفية تمامًا. إذا قال قائل: ما الحكمة من وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة؟ قلنا: الإشارة إلى ذل العبد بين يدي ربه؛ لأن هذه صفة الذليل. هذا من جهة، من جهة أخرى: أنه أتم للخشوع؛ لأنه كأنه والله أعلم أن الإنسان يجمع نفسه على نفسه. فإن قال قائل: تجد بعض الناس يسدل؛ أي: يرسل يديه إما في جميع القيام، وإما في القيام بعد الركوع.

نقول: هؤلاء -عفا الله عنهم- ليسوا على صواب من جهة السنة، فالإرسال ليس بسنة لا قبل الركوع ولا بعد الركوع، والإمام أحمد رحمه الله قال: إنه إذا قام من الركوع يخير بين أن يضع اليمنى على اليسرى أو يرسل، وكأنه -والله أعلم- لم يصح عنده، فقال: إن شاء الأمر على طبيعته وأرسل يديه، وإن شاء وضع اليمنى على اليسرى، لكن الأرجح أن يضع يده اليمنى على اليسرى قبل الركوع وبعد الركوع. فإن قال قائل: إذا كنت أصلي خلف إمام يرسل يديه، وأنا أرى أن السنة خلاف ذلك، فهل أتابع إمامي أو لا؟ الصواب: لا، لأن وضع اليد اليمنى على اليسرى لا يقتضى مخالفة الإمام ولا في التخلف عنه؛ لأنه يتابعه في القيام والركوع والسجود والقعود، ونظير ذلك: لو كان الإمام لا يرى التورك في التشهد الأخير من الثلاثية والرباعية، وأنا أرى التورك في التشهد الأخير من الثلاثية والرباعية، فهل أوافق الإمام أو لا؟ لا أوافقه؛ لأني إن توركت لا أختلف عليه، وكذلك بالعكس لو كان الإمام يرى التورك وأنا لا أرى التورك فلا يلزمني أن أتابعه في هذا. مسألة الجلسة في الوتر من الصلاة، يعني: إذا أراد أن يقوم للثانية أو للرابعة يرى الإمام الجلوس فيجلس والمأموم لا يرى الجلوس، فهل يجلس أو لا؟ نقول: يجلس لمتابعة إمامه، لأنه لو لم يتابعه لنهض قبله، وهذه مخالفة، لو كان الأمر بالعكس الإمام لا يرى الجلوس والمأموم يرى الجلوس، فهل يجلس أو لا يجلس؟ يقول شيخ الإسلام رحمه الله: لا يجلس، لأنه إذا جلس لزم أن يتخلف عنه، والجلسة التي تسمى جلسة الاستراحة ليست كما يفعله بعض الناس الآن تجده يجلس ثم يقوم مع أن حديث مالك بن الحويرث يقول: "حتى يستوي قاعدًا" إذا كان في وتر من صلاة لم ينهض حتى يستوي قاعدًا، ثم وصف قيامه فقال: "فيعتمد بيديه على الأرض ثم يقوم"، وإذا تأملت هذه الصفة وهذا الفعل علمت يقينا -أو قريب اليقين- أن الصواب في جلسة الاستراحة إنما هي للحاجة فقط؛ لأن كونه يعتمد على يديه بعد أن يجلس يدل على أنه لا يستطيع أن ينهض بسرعة، وهذا القول هو الوسط في هذه المسألة: أنها للحاجة سنة، ولغير الحاجة لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعلها عند الحاجة فيما يظهر، وهذا هو الذي يقتضيه المعنى، ومالك بن الحويرث من الوفود، والوفود أكثر ما كانوا في السنة التاسعة بعد أن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم اللحم. * * *

حكم قراءة الفاتحة

حكم قراءة الفاتحة: 268 - وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن". متفق عليه. -وفي رواية لابن حبان والدارقطني: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب". -وفي أخرى لأحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن حبان: "لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم. قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". هذه الاحاديث في بيان حكم قراءة الفاتحة: الأول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن يقرأ بأم القرآن" "لا صلاة" هذا نفي للجنس، وهو أعلى أنواع النفي، لأنه نص فيه، ونص في العموم أيضًا، و"صلاة" هنا عامة تشمل كل ما يسمى صلاة، فيدخل في ذلك الفريضة والنافلة وصلاة الجنازة، ولا يدخل في ذلك الطواف، وإن كان قد أثر عن ابن عباس أنه قال: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام"، فإن هذا فيما أعلم بالإجماع لا يدخل فيه الطواف. بقي: هل يدخل فيه سجود التلاوة، سجود الشكر؟ الجواب: لا يدخل، لأهن هذين ليس فيهما قيام، وقراءة القرآن من أذكار القيام. وقوله: "لا صلاة" كما قلت لكم نفي عام، "لمن لم يقرأ بأم القرآن" أم القرآن: الفاتحة، وسميت بذلك، لأن جميع معاني القرآن ترجع عليها، ففيها التوحيد بأنواعه، وفيها قصص الأنبياء، وفيها أقسام الناس، وفيها الإيمان باليوم الآخر، هي أم القرآن في الحقيقة، وقد أحلتكم فيما سبق على "مدارج السالكين" لابن القيم رحمه الله. وفي رواية لابن حبان: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب". أتى المؤلف بهذه الرواية؛ لأنها صريحة في عدم الإجزاء "لا تجزئ"، وإن كنا في الحقيقة لا نحتاج إليها، لماذا؟ لأنه قال: "لا صلاة"، والنفي في الأصل يكون لنفي الوجود، فإن وجد ولم يصح أن يكون نفيا للوجود صار نفيًا للصحة ولابد، لأن من ليس بصحيح فوجوده كعدمه شرعًا، فإن لم يمكن أن ينزل على نفي الصحة صار نفيًا للكمال. هنا لا مانع من أن نقول: إنه لنفي الصحة؛ لأننا لا نعلم أن صلاة صحت بدون قراءة الفاتحة، وحينئذ يتعين أن يكون النفي لنفي الصحة، لكن ابن حجر رحمه الله أتى بما هو صريح

هذه الروايات فيها فوائد

لئلا يجادل مجادل فيقول: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" أي: لا صلاة كاملة كما ذهب إليه بعض الناس، وسيأتي ذكرها في الفوائد. قال: وفي أخرى لأحمد وأبي داود والترمذي، وابن حبان: "لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ " هذه بمعنى: كأنكم، وهي مشربة معنى الاستفهام "تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم" أي: نقرأ. قال: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا حين انصرف من صلاة الفجر، وكان الصحابة يقروءن مع النبي صلى الله عليه وسلم الفاتحة وغير الفاتحة، فقال لهم: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". فحكم وعلل؛ فحكم بالنهي عن القراءة خلف الإمام واستثنى الفاتحة، ثم علّل بأنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها. هذه الروايات فيها فوائد: أولًا: فضيلة الفاتحة وذلك من وجهين: الوجه الأول: أن جميع الصلوات لا تصح إلا بها. الوجه الثاني: أنها هي المصحّحة للصلوات. ومن الفوائد: أن من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته باطلة، تؤخذ من النفي، ومن لفظ ابن حبان والدارقطني: "لا تجزئ". ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا فرق بين الإمام والمنفرد والمأموم، وجهه: العموم بدون استثناء، وأما ما ورد من أن "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"، فهذا حديث مرسل لا يصح لا سندًا ولا حكمًا. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا فرق بين كون الصلاة جهرية أو سرية، وهذه مسألة اختلف فيها العلماء على أربعة أقوال: الأول: قول من يقول: إن من كان له إمام لم تجب عليه الفاتحة فإنها سنة في حقه، وعلى هذا القول لو أن الإنسان كان مأمومًا ودخل مع الإمام في أول الصلاة وكبر واستفتح، ثم قرأ سورة المزمل ومشى مع الإمام تصح صلاته أو لا؟ تصح؛ لأن قراءة الفاتحة عند هذا سنة وليس بواجب، ولا يخفى ما في هذا القول من البعد. القول الثاني: أنها تجب على المأموم في السرية والجهرية، واستدل هؤلاء بالعموم "لا صلاة لمن ... " و"من" اسم موصول تفيد العموم؛ أي: لا صلاة لمن لم يقرأ سواء كان مأمومًا أو منفردًا أو إمامًا، وسواء كانت الصلاة سرية أم جهرية، واستدل هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إلا

من سمع قراءة إمامه فلا بأس، وقالوا: إن حديث عبادة بن الصامت في صلاة الفجر نصّ في موضع النزاع فلا عدول لنا عنه، وعلى هذا القول لا تسقط عن المأموم لو نسيها، فإذا نسي أن يقرأ في إحدى الركعات؛ قلنا: قد فاتت ركعة، ائت بركعة بدلها، إلا أنها تسقط عن المسبوق إذا جاء والإمام راكع فإنه يركع بدون فاتحة، دليل ذلك حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فدخل في صلاته ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الركعة. والقول الثالث: أنها واجبة على الإمام، وعلى المأموم ليست واجبة، واستدلوا بقول الله تعالى: {وإذا قرئ القرءان فاستمعوا له، وأنصتوا لعلكم ترحمون (204)} [الأعراف: 204]. وقالوا: هذا عام، والمأموم تبع لإمامه، واستدلوا أيضًا بمعنى معقول وهو أنه كيف نلزم المأموم بقراءة الفاتحة في الجهرية وقد استمعها وأمن عليها، والمستمع المؤمن كالفاعل بدليل قول الله -تبارك وتعالى- في قصة موسى وهارون، قال موسى: {ربنا إنك ءاتيت فرعون وملأه زينة وأمولًا في الحيوة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أمولهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم (88)} [يونس: 88] فقال الله تعالى: {قد أجيبت دعوتكما} [يونس: 89]. ومعلوم أن الداعي موسى بنص القرآن، ولكن هارون كان يؤمن، فجعل الله تعالى دعوة موسى دعوة لهارون، فدل ذلك على أن قراءة الإمام في الجهرية التي يسمعها المأموم ويؤمن عليها أنها قراءة له، فاستدلوا إذن بالنص والمعنى، وقالوا: إذا لم نقل: إن قراءة الإمام قراءة للمأموم في الجهرية فما فائدة الجهر حينئذ، وما الفائدة من كون الإمام يقرأ والمأموم يقرأ؟ وهذا القول كما ترى قول قوي جدًا أثرًا ونظرًا. والقول الرابع: أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد، واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وبقوله "لعلكم تقرءون خلف إمامكم". قالوا: نعم. قال: "لا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم حين انفتل من صلاة الفجر وهو نصٌّ في موضع النزاع، وأجابوا عما استدل به القائلون بالتفصيل بين السرية والجهرية بأن قوله تعالى: {وإذا قرئ القرءان فاستمعوا له، وأنصتوا} [الأعراف: 204] عام مخصص بالأدلة الدالة على وجوب قراءة الفاتحة، فيكون المعنى: إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا إلا في الفاتحة فلابد منها، واستدلوا على المعنى المعقول والقياس بأنه لا فائدة من جهر الإمام بالقراءة إذا كان لا يغني عن قراءة المأموم، بأن هذا قياس في مقابلة النص فلا يعتبر، وحقيقته: أننا نشهد الله عز وجل أنه لولا حديث عبادة بن الصامت لكان القول الواضح الجلي أن المأموم إذا سمع قراءة إمامه فلا قراءة عليه؛ لأنه يسمعها ويؤمن عليها فهي كقراءته بنفسه، لكن ماذا نقول وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد انفتل من صلاة الفجر: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن"؟ على هذا

القول يقولون: إنها تسقط عن المأموم إذا كان مسبوقًا ولا يعيد قراءة الفاتحة، واستدل هؤلاء بحديث أبي بكرة رضي الله عنه حين دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، فركع قبل أن يدخل في الصف، ثم دخل في الصف، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "من فعل هذا؟ " قال: أنا. قال: "زادك الله حرصًا ولا تعد"، ولم يأمره بقضاء الركعة التي لم يدرك منها إلا الركوع وما بعده، ولو كان لم يدركها لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضائها كما أمر الذي لا يطمئن في صلاته أن يعيد الصلاة، وهذا واضح. فيستثنى من ذلك على هذا القول: المسبوق إذا أدرك بعض الفاتحة ثم ركع الإمام هل نقول: إنه يكملها ثم يتابع ولو رفع الإمام من الركوع؟ الجواب: لا، إن تمكن من إدراكها قبل أن يرفع فعل، وإن لم يتمكن فإنه يركع؛ لأنه الآن مسبوق وهو يريد أن يدرك الركوع، ولو أكمل الفاتحة لفاته الركوع. هناك قول خامس أشد من هذه الأقوال يقول: إن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد والمسبوق والذي أدرك الصلاة من أولها، وإلى هذا ذهب بعض المتأخرين ومنهم الشوكاني في "شرح المنتقى" وقال: "لا تصح"، وأجاب عن حديث أبي بكرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ولا تعد" ولكن هذه الإجابة ساقطة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاتعد" وكلمة "لا تعد" ننظر هل المعنى: لا تعد إلى السرعة لإدراك الركعة، أو المعنى: لا تعد إلى الركوع قبل أن تدخل في الصف، أو المعنى: إلى الاعتداد بالركوع إذا لم تدرك الفاتحة؟ كل هذا محتمل، نقول: أما الأول: لا تعد إلى الإسراع فهذا صحيح، والثاني: لا تركع قبل الدخول في الصف فذلك صحيح، الثالث: فيه احتمال، ولكن يبعده أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإلغاء هذه الركعة، ولو كان هذا العمل مردودًا -أي: عدم قراءة الفاتحة في حال السبق- لبينه له النبي صلى الله عليه وسلم كما بين ذلك لمن صلّى وهو لا يطمئن. إذن الصواب في هذه المسألة: أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد في السرية والجهرية إلا المسبوق، وكما قلت لكم: إنه لولا حديث عبادة بن الصامت لكان القول المتعين هو التفريق بين السرية والجهرية وأن الإنسان إذا سمع قراءة إمامه الفاتحة سقطت عنه؛ لأنه استمعها وأمن عليها، ولكن لا نستطيع أن نتجاسر على هذا القول، وحديث عبادة نصّ في الموضوع على أن القول بالتفصيل هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، والقول بالوجوب مطلقًا هو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله فقد ذهب إلى أنها واجبة على المأموم مطلقًا بكل حال، ولولا النص لقلنا بالتفصيل كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. * * *

أحكام البسملة

أحكام البسملة: 269 - وعن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بـ {الحمد لله رب العالمين (2)}. متفق عليه. -زاد مسلم: "لا يذكرون: {بسم الله الرحمن الرحيم (1)} [الفاتحة: 1] في أول قراءة ولا في آخرها". -وفي رواية لأحمد، والنسائي، وابن خزيمة: "لا يجهرون بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} ". -وفي أخرى لابن خزيمة: "كانوا يسرون". -وعلى هذا يحمل النفي في رواية مسلم، خلافًا لمن أعلها. هذه الأحاديث في بيان البسملة: هل يجهر بها كما يجهر بالفاتحة أو لا؟ أما إذا قلنا بأنها آية من الفاتحة فلابد من الجهر بها، فلا يسر بها كما لا يسر بباقي الآيات. وإذا قلنا: إنها ليست من الفاتحة فإنه لا يجهر بها، بل يسر كما يسر بالاستفتاح. والعلماء في هذه المسألة مختلفون: منهم من قال: إنها من الفاتحة وهو مذهب الشافعي رحمه الله، وعلى هذا القول يجهر بها؛ لأنها بعض آياتها. ومنهم من قال: ليست من الفاتحة كما هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهذا القول هو الراجح، ودليله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن الله: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين (2)} قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال {الرحمن الرحيم (2)} قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {ملك يوم الدين (4)} قال: مجدني عبدي، وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين (5)} قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين (7)} قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". وأنت إذا قسمت الفاتحة نصفين تبين لك أن أول آياتها {الحمد لله رب العلمين} هي الأولى، {الرحمن الرحيم} هي الثانية، {ملك يوم الدين} الثالثة، {إياك نعبد وإياك نستعين} الرابعة، هي الوسطى من السبع، وهي التي بين الإنسان وبين ربه، والثلاث الأول لله {اهدنا الصراط المستقيم} الخامسة، {صراط الذين أنعمت عليهم} السادسة، {غير المغضوب عليهم ولا الضآلين}

السابعة، وهذه الثلاث للإنسان: فثلاث لله، والثلاث الأخيرة للآدمي، والرابعة الوسط بين الله وبين العبد، ثم إننا لو قلنا: إن البسملة من الفاتحة لزم أن تكون آياتها ثمانية آيات، أو أن تكون آياتها الأخيرة بطول غيرها مرتين فلا تناسب؛ لأننا لو قلنا: البسملة من الفاتحة صارت الأولى: {الحمد لله رب العالمين}، الثانية: {الرحمن الرحيم}، الثالثة: {ملك يوم الدين}، الرابعة: {إياك نعبد وإياك نستعين}، الخامسة: {اهدنا الصرط المستقيم}، السادسة: {صرط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين}، السابعة وهذه طويلة فلا تناسب الآيات بعضها مع بعض، ثم المعنى كما علمتم لا يتناسب. فالصواب الذي عندي كالمقطوع به: أن البسملة ليست من الفاتحة، وإذا لم تكن منها فلا تعامل معاملة الفاتحة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر لا يجهرون بها، ولو كانت من الفاتحة لجهروا بها. تكميلًا لكلامنا الأول نقول: إذا قلنا: إن البسملة من الفاتحة؛ لزم أن تكون الفاتحة ثماني آيات متناسبة أو سبع آيات مع طول الأخيرة، وهي ليست ثماني آيات بالنص والإجماع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي السبع المثاني"، فلا يمكن أن نقول: إنها ثماني آيات. إذن نقول في حديث أنس رضي الله عنه فوائد منها: الاستدلال بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقرأ بالبسملة، الاستدلال بفعل أبي بكر، الاستدلال بفعل عمر، وهنا نقاش وهو أن يقال: لماذا لا يستدل بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وحده أليس كافيًا؟ بلى، لكنه ذكر أبا بكر وعمر لفائدتين: الفائدة الأولى: أن هذا الحكم لم ينسخ، بل قد بقي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثانية: أن ذلك إجماع؛ لأنه قد مضى عهدان بعد عهد النبوة والخلفاء لا يقرءون البسملة، فيكون هذا إجماعًا، وتكون البسملة لا تقرأ بالنص والإجماع. ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة الفاتحة؛ حيث تقرأ قبل كل شيء من القرآن لقوله: "يفتتحون الصلاة". ومن فوائد هذا الحديث: إطلاق الكل على الجزء؛ لقوله: "يفتتحون الصلاة"، والمراد: بـ"يفتتحون" القراءة؛ لأن الصلاة تفتتح بالتكبير، ومن بعده دعاء الاستفتاح، لكن عنوا بالصلاة هنا: قراءة الصلاة. ومن فوائد هذا الحديث: أن المحكي يبقى على ما هو عليه لا يغير؛ لأن اللفظ الذي عندي بـ {الحمد لله رب العلمين} على الحكاية، ولو أعملت الباء مسلطة على الحمد لقال "بالحمد" ولمسلم: "لا يذكرون {بسم الله الرحمن الرحيم} في أول القراءة ولا في آخرها" وهذا نفي لذكر البسملة وهل المراد: أنهم لا يبسملون سرًا ولا جهرًا؟

نقول: نعم هذا ظاهر اللفظ؛ لأنه جزم بأنهم لا يذكرونها، ولكن سيأتي في ألفاظ أخرى ما يؤيد ما ذكره ابن حجر رحمه الله أن المراد: لا يجهرون بها، وهذا الحمل متعين من أجل أن تتفق الروايات على هذا المعنى. وفي رواية لأحمد والنسائي وابن خزيمة: "لا يجهرون بـ {بسم الله الرحمن الرحيم}، وهذا نفي للجهر، فيدل على أنهم يسرون بها؛ لأن نفي الأخص يدل على وجود الأعم، وفي أخرى لابن خزيمة: "كانوا يسرون"، وهي بمعنى: لا يجهرون، لكنها صرحت بالأخص. قال: وعلى هذا يحمل النفي في رواية مسلم، أين رواية مسلم؟ "لا يذكرون {بسم الله الرحمن الرحيم} "، فيحمل المعنى على أنهم لا يجهرون بها. سؤال: سبق لنا القول الراجح أن البسملة ليست من الفاتحة، فما هو وجه الرجحان؟ 270 - وعن نعيم المجمر رضي الله عنه قال: "صليت وراء أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم}. ثم قرأ بأم القرآن، حتى إذا بلغ: {ولا الضآلين}. قال: آمين، ويقول كلما سجد، وإذا قام من الجلوس: الله أكبر، ثم يقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه النسائي وابن خزيمة. "المجمر" سمي بذلك؛ لأنه كان يجمر المسجد؛ أي: يأتي بالبخور والجمر ويضع فيه العود حتى يخرج منه الدخان طيب الرائحة. قال: "صليت وراء أبي هريرة فقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} ... إلخ" قوله: "فقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} "، لم يبين هل قرأها جهرًا أو قرأها سرًا؟ لكن الذي يظهر من السياق أنه قرأها جهرًا، ثم قوله: "حتى إذا بلغ {ولا الضآلين} قال: آمين"، أيضًا لم يتبين هل قالها سرًا أو جهرًا؟ لكن سياق الحديث يدل على أنها كانت جهرًا، وأن الصلاة كانت جهرية، "وكان أيضًا يقول: كلما سجد، وإذا قام من الجلوس: الله أكبر)) كلما سجد، وإذا قام من الجلوس يعني: التشهد الأول يقول: "الله أكبر"، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه أنه يقول: الله أكبر إذا خفض وإذا رفع، وهذه تسمى تكبيرات الانتقال، فاختلف العلماء -رحمهم الله- هل هي واجبة أو لا كما سيأتي في الفوائد -إن شاء الله-.

ثم يقول إذا سلم: "والذي نفسي بيده إني لأشبهكم" هذا قسم، أقسم رضي الله عنه أنه أشبههم صلاة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقسم بالذي نفسه بيده، والمراد: نفسه بيده تصريفًا وقبضًا وتأجيلًا، فالذي بيده الأنفس لله عز وجل إن شاء قبضها وإن شاء أجلها، وإن شاء أضلها وإن شاء هداها كما قال عز وجل: {ونفس وما سوها (7) فألهمها فجورها وتقوها} [الشمس: 7 - 8]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بهذا أحيانًا. "إني لأشبهكم" الجملة جواب القسم، وعليه فتكون هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، وإن، واللام. "إني لأشبهكم"، وإنما أقسم رضي الله عنه حثًا للناس وترغيبًا لهم أن يفعلوا مثل فعله؛ لأن القسم مما يزيد طمأنينة وقبولًا، "لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" (صلاة) هذه منصوبة على أنها تمييز؛ لأن ما جاء من بعد اسم التفضيل يكون تمييزًا لقوله تعالى: {أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا} [الكهف: 34]. فـ {مالًا} تمييز و {نفرًا} تمييز أيضًا. في هذا الحديث فوائد منها: جواز الجهر بـ {بسم الله الرحمن الرحيم}؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه جهر بذلك، ولكن هل الجهر هنا من أجل أن من السنة الجهر بها أو للتعليم كما فعل عبد الله بن عباس رضي الله عنه حين جهر بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة وقال: ليعلموا أنها سنة؟ في هذا احتمال، وإذا كان فيه احتمالان فالواجب أن يرد إلى المحكم، والمحكم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا لا يجهرون بها، وهذا هو المعتمد، وعليه فيكون فعل أبي هريرة رضي الله عنه من باب التعليم والإيضاح، ولهذا أقسم في آخر الحديث أنه أشبه الناس صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد هذا الحديث: تسمية الفاتحة بـ"أم القرآن"، وأم الشيء مرجعه، وسميت الفاتحة "أم القرآن"؛ لأن جميع معاني القرآن موجودة فيها؛ ففيها التوحيد، وفيها الفقه، وفيها السير، وفيها الإيمان باليوم الآخر، وفيها أقسام الناس المنحصرة وهي: المهديون، والذين أنعم الله عليهم، والضالون، والمغضوب عليهم؛ لذلك سميت "أم القرآن"، ومن ثم قراءتها في الصلاة صارت ركنًا لا تصح الصلاة إلا به. ومن فوائد هذا الحديث: التأمين بعد قوله: {ولا الضآلين} والتأمين سنة، وهو اسم فعل بمعنى: اللهم استجب، واسم الفعل عند النحويين: "ما دل على معنى الفعل ولم يقبل علامته"، هذا هو اسم الفعل، فإن قبل علامته فهو فعل إما ماض، أو مضارع، أو أمر، ويقال: آمين، ولا يقال: آمّين، وإن كان بعضهم ذكر أنها لغة ولكنها رديئة جدًا؛ لأن آمّين بتشديد الميم بمعنى: قاصدين، لكن آمين بمعنى: اللهم استجب، ويجوز قصر الهمزة فيقال: "أمين"، لكنها لغة ضعيفة أيضًا إلا أنها ليست كالأولى، والمد هو الصواب "آمين".

وهل يقولها المأموم بعد قول الإمام: {ولا الضالين}، أو ينتظر حتى يؤمن الإمام؟ القول الأول هو المتعين أنه يقولها المأموم، إذا قال الإمام: {ولا الضالين} لما في صحيح مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال الإمام: {ولا الضالين} فقولوا: آمين". وأما قوله: "إذا أمن الإمام فأمنوا" فليس تعني: ألا تؤمنوا حتى يؤمن، ولكن معناها: إذا أمن أي: إذا بلغ محل التأمين، ومتى يبلغه؟ إذا قال: {ولا الضالين}، أو المعنى: إذا شرع في التأمين فأمنوا، وليس المعنى: إذا انتهى منه، لأنه إذا جاء المحتمل صريحًا في أحد الاحتمالين تعين حمله على هذا الصريح. ومن فوائد هذا الحديث: التكبير عند كل سجود وإذا قام من الجلوس، وهذا التكبير يسمى تكبير الانتقال، والتكبيرات ثلاثة أنواع: أولًا: تكبيرة لا تنعقد الصلاة بدونها وهي تكبيرة الإحرام. ثانيًا: تكبيرة مستحبة، وهي تكبيرة المسبوق إذا أدرك الإمام راكعًا فإنه يكبر للإحرام أولًا قائمًا، ثم يكبر للركوع استحبابًا لا وجوبًا. الثالث: بقية التكبيرات، والصحيح أنها واجبة؛ يعني: أن من تعمد تركها فلا صلاة له، ومن نسيها يجبر ذلك بسجود السهو، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على التكبير، ولم يحفظ عنه أنه ترك التكبير أبدًا، فمواظبته عليه مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" يدل على وجوبها وأنه لابد منها، وهذا هو القول الراجح، ومقابله أن التكبيرات ما عدا تكبيرة الإحرام ليست بواجبة، وأنها سنة، والصواب أنها واجبة، وأن من تعمد تركها عالمًا بوجوبها بطلت صلاته، ومن نسيها جبر ذلك بسجود السهو. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الإقسام لتحقيق الشيء وإن لم يستقسم القائل، من أين يؤخذ؟ من قوله: "والذي نفسي بيده إني لأشبهكم"، وإن شئت فقل: من أجل أن تسلم من اللفظ لإقسام أبي هريرة، فينبغي للإنسان إذا كان الموضع مما يحتاج إلى توكيد، فينبغي له أن يؤكده بالقسم، لأن هذه طريقة القرآن والسنة، لا يقول: أنا أخبر والذنب على من لا يقبل الخبر، هذا ليس بصحيح، أنت مخبر داع إلى الله عز وجل فأكد خبرك بما يؤكده لتتم الدعوة إلى الله. صحيح ليس عليه إلا البلاغ، وقد يقال: إنه إذا دعت الحاجة إلى الإقسام ولم يقسم فإنه لم يأت بوسيلة القبول وهي القسم، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم في ثلاثة مواضع من القرآن:

الموضع الأول: قوله: {ويستنبئونك أحق هو} -أي: القرآن- {قل إى وربى إنه لحق} [يونس: 53]. الموضع الثاني: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا} [التغابن: 7]. الموضع الثالث: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم} [سبأ: 3]. لأهمية المقسم عليه، فأمر الله نبيه أن يقسم، أما إقسام النبي صلى الله عليه وسلم فقد بلغت فوق ستين مرة، وأما في القرآن فحدث ولا حرج كثيرة جدًا، المهم أنه ينبغي للإنسان في المواطن التي تحتاج إلى قسم أن يقسم، وليس من شرط ذلك أن ينكر المخاطب أو أن يظهر منه التردد، وإن كان البلاغيون يقولون: إنه لا ينبغي القسم إلا إذا أنكر المخاطب، فهذا ربما يقال اصطلاحًا، أما من حيث الشرع فإنك تقسم على كل أمر له أهمية، وينبغي للناس أن يؤمنوا به ويقبلوه. ومن فوائد هذا الحديث: دقة التعبير في أساليب كل الصحابة -رضي الله عنهم- حيث قال: "إني لأشبهكم" والشبه لا يقتضي المماثلة في كل وجه، ولكن يقصد المقاربة التامة خلافًا للمعاصرين الذين يقول القائل منهم القول، وربما يكون خطأ ويقول: هذا هو السنة تحقيقًا، لكن أبا هريرة يقول: "إني لأشبهكم"، وهذا لا ينبغي للإنسان أن يفعله في مثل هذه الأمور، بألا يجزم بالكمال؛ لأنه ربما يكون هناك نقص وهو لا يعلمه، فاحترز في الكلام حتى لا يؤخذ عليك، واعلم أن الناس لو أخذوا عليك مرة واحدة كلامًا فسيكون هذا هدمًا للحصن الذي تتحصن به وسيؤخذ عليك، ويقال: ألم يقل كذا وكذا، فيعارضوا القول الصواب الذي قاله؛ لأنه أخطأ فيما سبق، فاحترز غاية الاحتراز، لا في الشروط فقط بل في الأحكام أيضًا، لا تجمل الأحكام إذا كانت تحتاج إلى تفصيل، بل فضل الكلام إذا احتاج إلى زيادة، بعض الناس قد يفتي بالإجمال يقول: لو طولت المخاطب لا يفهم، نقول: يا أخي، فصل للمخاطب، لو كان يحتاج إلى التفصيل ففصل له. 271 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا: {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1]. فإنها إحدى آياتها". رواه الدارقطني، وصوب وقفه. "وهو الصواب" أي: وقفه، "إذا قرأتم الفاتحة" يعني: أم القرآن، وتسمى أم القرآن، وأم الكتاب، والفاتحة، لأنه افتتح بها المصحف.

شروط كون قول الصحابي حجة

"فاقرءوا {بسم الله الرحمن الرحيم} فإنها إحدى آياتها" هذا لو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان مشكلًا، وجه الإشكال: أنه يخالف عمل النبي صلى الله عليه وسلم الذي بقي إلى موته واستمر عليه الخلفاء الراشدون، لكن الحمد لله أنه لم يصح وأنه موقوف، وإذا كان موقوفًا فهو من قول أبي هريرة. شروط كون قول الصحابي حجة: ومعلوم أن قول الصحابي ليس بحجة؛ لأن العلماء اختلفوا في قول الصحابي هل هو حجة أو لا؟ فمنهم من قال: إن قوله في التفسير حجة بكل حال حتى ألحقهم بعضهم بالمرفوع كالحاكم رحمه الله، مثلًا قوله تعالى: {ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم} [لقمان: 6]. أقسم ابن مسعود أن ذلك هو الغناء، فهل نقول: إن تفسير ابن مسعود لهذه الآية بالغناء مرفوع؟ يرى بعض العلماء ذلك أن تفسير الصحابي للقرآن بمنزلة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فيكون حجة، وقد سبق لنا في التفسير أن المرجع في تفسير القرآن إلى القرآن، ثم السنة، ثم إلى أقوال علماء الصحابة. ومن العلماء من قال: إن قول الصحابي ليس بحجة مطلقًا سواء في تفسير آية أو في حكم، لأنه لا معصوم إلا محمد صلى الله عليه وسلم، والصحابي يجوز عليه الخطأ، ويجوز ألا يرفع خطؤه بوحي، وعلى هذا فلا حجة. ومنهم من فرق بين علماء الصحابة وفقهائهم فقال: إن قولهم حجة دون غيرهم، وأنتم تعلمون أن الأعرابي لو جاء إلى بعيره وأناخها عند النبي صلى الله عليه وسلم وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله وانصرف إلى أهله لكان صحابيًا، فهل مثل هذا يحتج بقوله في أمور الدين وأحكام الدين؟ يرى بعض العلماء أن الخلاف الذي حصل بين العلماء يستثنى منه هذه المسألة، لأن مثل هذا ليس عنده من الفقه ما يجعل قوله حجة، لكن العلماء الفقهاء من الصحابة قولهم حجة لأنهم أقرب إلى الصواب من غيرهم، وعلى هذا القول لابد من شروط: الشرط الأول: ألا يخالف النص، فإن خالف النص فإنه مردود حتى لو كان قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، لأن الحجة بما قاله الله ورسوله. وعلى هذا لو قال قائل: هل يمكن أن أحدًا من هؤلاء الأئمة الأعلام الخلفاء الراشدين يخالف النص؟ الجواب: نعم ممكن، لكن نعلم علم اليقين أنه لن يخالف النص عمدًا هذا مستحيل لما نعلم من أحوالهم لكن قد يخالفه خطأ، وأمثلة هذا كثيرة، وانظر إلى حديث الطاعون -أعاذنا الله وإياكم والمسلمين منه- حينما صار أمير المؤمنين عمر إلى الشام، في أثناء الطريق قالوا له: يا أمير المؤمنين، وقع في الشام طاعون يموت في اليوم آلاف كيف تقدم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

على هذا البلاء؛ فتوقف، وكان من عادته رضي الله عنه أنه في الأمور العامة لا يعتد برأيه يشاور، مع أن رأيه قريب جدًا من الصواب، وكان يصيب كثيرًا في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمر: "إن يكن فيكم محدثون فعمر"، لكن توقف وشاور الصحابة الأنصار والمهاجرين والكبراء منهم، ولم يصل إلى نتيجة إلا أنه ترجح أن يرجع فأمر بالرجوع، فحصل بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه مناقشة والقصة مشهورة، حتى جاء عبد الرحمن بن عوف وأخبرهم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها". انظر الآن كل الذين مع عمر لم يبلغهم هذا الخبر، فجائز أن الصحابي الكبير يخفى عليه الحكم؛ لأنه لم يبلغه النص، أرأيتم عمر بن الخطاب أنكر على القارئ الذي قرأ من القرآن آية، أنكر عليه؛ لأن عمر لم يسمعها من الرسول، حتى احتكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقر هذا وهذا، مع أن إنكار شيء من القرآن ليس بهين، لكن أنكره عمر لأنه ما بلغه. فالمهم: أنه يشترط لكون قول الصحابي حجة -والصحابي كما سمعتم أولًا هو من كان فقيهًا- ألا يخالف النص، فإن خالف النص فلا، ولهذا قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟ ! ". يوشك أن تنزل على الناس حجارة من السماء؛ لأنهم خالفوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم لقول أبي بكر وعمر مع أن قول أبي بكر وعمر له تأويل في مسألة المتعة -متعة الحج- كان النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة لحجة الوداع أمر بالتمتع، وأن من لم يسق الهدي فإنه يجعلها عمرة، وحتم في ذلك وغضب لما لم يقبلوا، أما أبو بكر وعمر فرأيا رضي الله عنه أن يقوم الناس أيام الحج بالحج فقط ويجعلوا العمرة في وقت آخر حتى يكون البيت دائمًا معمورًا بالزوار وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك لكون أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأراد أن يبين أنها ليست من أفجر الفجور، فتأولا رضي الله عنه وأمرا بإفراد الحج. فعلى كل حال تقول: الشرط الأول: ألا يخالف النص. الشرط الثاني: ألا يخالف صحابيًا آخر، فإن خالف صحابيًا آخر فإنه لا يكون حجة؛ لأننا نقابل هذا الصحابي بالصحابي الآخر، فماذا نصنع؟ نقدم من نرى أنه أرجح لعلمه الواسع، فإذا

التأمين وأحكامه

لم يترجح عندنا أحد القولين حينئذ نقول: ليس كل قول على الآخر حجة، وننظر نحن في الأدلة هل تدل على أحد القولين أو لا. بحثنا هذا يعود إلى قول أبي هريرة رضي الله عنه: (فإنها إحدى آياتها) فالصواب: أن البسملة ليست إحدى آيات الفاتحة، وأنها آية مستقلة تفتح بها السّور، إلا سورة براءة فإن الصحابة رضي الله عنهم- حذفوها يعني: لم يبدءوها بالبسملة؛ لأنه وقع عندهم اشتباه، ولكن هذا الاشتباه -يا إخوان- لا تظنوا أنه لما اشتبه عليهم الأمر حذفوا شيئًا من القرآن؛ لأن الأصل عدم الفصل، فهم ساروا على قاعدة والمواضيع التي في سورة براءة قريبة من المواضيع التي في سورة الأنفال، ونحن نعلم أنها هكذا أنزلت، بمعنى: أن نعلم أنه لا بسملة؛ لأنه لو كان بسملة لم يكن الله تعالى ليضيعها، فقد قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]. التأمين وأحكامه: 272 - وعنه رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال: آمين». رواه الدارقطني وحسنه، والحاكم وصححه. -ولأبي داود والترمذي من حديث وائل بن حجر نحوه ... هذه أيضًا فيها دليل على استحباب التأمين وأن الإمام يرفع صوته بذلك، وكذلك المأموم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن الإمام فأمنوا"، وظاهر هذا أن نقتدي بالإمام تمامًا، فإذا جهر جهرنا بالتأمين وهذا هو القول الراجح بل المتعين، وأما من ذهب من العلماء بأنه لا يجهر بـ"آمين" فهو ضعيف ما دامت السنة ثبت بها رفع الصوت بـ"آمين" فهذا هو المتعين، والقول بأن هذا من باب التعليم قول في الحقيقة لا يمكن أن يثبت قائله على قدم إلا عند المضايقة في المناظرة. انتبه: أحيانًا بعض العلماء -رحمهم الله- يأتون بجواب يحملهم عليه المضايقة في المناظرة فيقولون: لعله كذا، ونضرب مثلًا أوضح من هذا وهو الجهر بالذكر أدبار الصلوات؛ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا صريح؛ لأنه مرفوع.

قال بعض أهل العلم: إنما رفع صوته بذلك ليعلم الناس، هل هذا الجواب صحيح؟ لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلم أصحابه بالقول دون أن يحدث بدعة في دينه وهو رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة، فيقول للناس: اذكروا الله كذا وكذا مثل ما علم الأنصار قال: "تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين"، فكيف يواظب على شيء هو بدعة لأجل أن يعلم الناس، أليس يستطيع أن يعلم بقوله؟ بلى، ولا شك، فإذن نقول: لماذا لم نجهر بـ"سبحان ربي الأعلى" في السجود و"سبحان ربي العظيم" في الركوع، لماذا لم نجهر بالاستفتاح ليعلم الناس؟ فهذا الجواب إنما قاله من قاله عند المضايقة؛ لأنه لا يستطيع أن يقول: هذا غير صحيح، لأنه ثابت فيجيب بهذا الجواب البارد، وانتبهوا لهذا إذا طالعتم كتب الخلاف تجدون العجب العجاب من أجوبة العلماء -رحمهم الله-، وسبب ذلك: أنهم يعتقدون أولًا ثم يستدلون ثانيًا، فإذا اعتقدوا شيئًا وجاءت النصوص بخلافه حاولوا أن يجيبوا عن ذلك بأجوبة قد تكون مستكرهة أحيانّا؛ لأن هذه الأدلة أثبت، بخلاف ما يعتقدون فتجدهم يلوون أعناق الأدلة إلى ما يريدون، وهذه خطيرة جدًا، ولولا إحسان الظن بالعلماء -رحمهم الله- لكانت المسألة خطيرة، لكنا وقعنا فيما وقع فيه بنو إسرائيل من تحريف الكلم عن مواضعه، ولهذا أنصح نفسي وإياكم أن نطالع الأدلة على أننا لا نعتقد شيئًا أبدًا حتى تدل الأدلة عليه، أو أن نعتقد ولكن نستدل، فإذا وجدنا الدليل يخالف ما اعتقدنا أخذنا به وتركنا الأول، وما أكثر ما يتراجع العلماء الأئمة عن أقوالهم إذا تبين لهم الحق، بل حتى الخلفاء الراشدون إذا تبين لهم الحق رجعوا إليه. أسئلة: -لماذا سميت الفاتحة بـ"أم الكتاب"؟ -ما هو الضابط في الضال؟ -ما هو الضابط في المغضوب عليهم؟ -ما هو إعراب آمين؟ -ما معنى قوله: "وإذا قام من الجلوس قال الله أكبر"؟ -ما معنى صوب وقفه؟ -هل قول الصحابي حجة؟

متى تسقط الفاتحة

متى تسقط الفاتحة: 274 - وعن عبد الله بن أبى أوفى رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا، فعلمني ما يجزئني منه. فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ... ". الحديث رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والدارقطني، والحاكم. قوله: "لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا" يعنى: لا أستطيع أن أقرأ القرآن في الصلاة، أو المعنى: أن آخذ شيئًا من القرآن في الصلاة، وليس المعنى: أنه لا يستطيع أن يأخذ شيئًا من القرآن بالتعليم، فإن هذا بعيد لاسيما في عهد الصحابة -رضي الله عنهم-. قوله: "فعلمني ما يجزئني منه" "من" هنا بدلية؛ أي: ما يجزئني بدلا عنه، وتأتي "من" للبدل، ومثالها قوله تعالى: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} [الزخرف: 60]. هنا يتعين أن تكون "من" بمعنى: بدلكم، وليس المعنى: أن يجعل الله منا ملائكة، لا المعنى: أن يجعل بدلكم ملائكة، ومنه قولك: "بعت هذا الشيء بكذا" فإن "الباء" هنا للبدل. يقول: "فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، قال: "قل: سبحان الله" أي: تسبيحًا لله عز وجل، و"سبحان" اسم مصدر منصوب على المفعولية المطلقة وعاملها محذوف وجوبًا، ومعنى التسبيح: تنزيه الله -تبارك وتعالى- عن كل ما لا يليق به من فعل أو وصف مأخوذ من قولهم: "سبح في الماء": إذا مشى فيه وأبعد، وقوله: "الحمد لله" الحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، فإذا جمعت سبحان مع الحمد حصل الكمال المطلق، الكمال الخالي من أي نقص، الخلو من النقص يستفاد من قوله: "سبحان"، والكمال من قوله: "الحمد لله". وقوله: "ولا إله إلا الله" كلمة الإخلاص -نسأل الله أن يميتنا وإياكم عليها- كلمة الإخلاص أي: لا معبود حق إلا الله عز وجل فكل ما يعبد من دون الله وإن سمي إله فإنه باطل لا يصح أن يسمى بذلك كما قال الله عز وجل: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62]. إذا كان لا معبود إلا الله، فسيأتي -إن شاء الله- في الفوائد أن ذلك يستلزم ألا تعبد أحدًا سوى الله عز وجل؛ لأنك أقررت بأنه لا معبود حق إلا الله. "والله أكبر" يعني: أكبر من كل شيء في الذات والوصف، وفي كل شيء، فإن الله -تبارك

وتعالى- قال في كتابه العزيز: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر: 67] {وله الكبرياء في السماوات والأرض} [الجاثية: 37]. الكبرياء في المعنى، ولا يوصف أحد بالكبر سوى الله عز وجل من وصف بالكبر سوى الله فهو ناقص، فالكبر وصف نقص بالنسبة للمخلوق، ووصف كمال بالنسبة للخالق. "ولا حول ولا قوة إلا بالله" حول بمعنى: تحول؛ فهي اسم مصدر؛ لأنها دلت على معنى المصدر ولم تضمن حروفه، المعنى: لا تحول ولا قوة على التحول إلا بالله؛ فالأول: الإرادة، والثاني: الفعل، أو إن شئت فقل: الثاني القوة ويترتب عليها الفعل، والمعنى: أنه لا أحد يستطيع أن يتحول من حال إلى أخرى إلا بالله، والباء هنا في قوله "إلا بالله" للاستعانة، و"العلي" أي: ذو العلو مكانة ومكانًا، فإن الله -سبحانه وتعالى- فوق كل شيء، وهو العلي بصفاته عن كل شيء، فيشمل هنا العلو المعنوي والعلو الحسي، "العظيم" أي: ذو العظمة في جميع صفاته، علمه عظيم، قدرته عظيمة، سمعه عظيم. فهذه خمس جمل تجزئ عن الفاتحة لمن لم يستطيع أن يقرأها. قال: "الحديث"، الحديث يقولون: إنه يجوز أن تقرأه بالنصب يعني: أكمل الحديث، أو يكون مجرورًا على نزع الخافض على تقدير المضاف، أي: إلى آخر الحديث. في هذا الحديث فوائد وهي: سقوط قراءة الفاتحة عمن عجز عنها، ولكن هل يجب على الإنسان أن يتعلم الفاتحة أو لا؟ الجواب: يجب، وإذا لم يتعلمها، يعني: لم يجد من يعلمه إلا بأجرة وجب عليه أن يستأجره ويعلّمه إياها، لأن قراءة الفاتحة واجبة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومن فوائد هذا الحديث: أن من عجز عن القرآن أجزأه ما ذكره، ولكن لو عجز عن الفاتحة وقدر على غيرها، فهل يلزمه أن يقرأ غيرها دون هذا الذكر، أو ينتقل من الفاتحة إلى هذا الذكر؟ الظاهر الأول، ولكن ظاهر الحديث: الثاني، وقد يقال: إن هذا ليس ظاهر الحديث؛ لأنه يقول: "لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا"، فيعم الفاتحة وغيرها، والأول هو الذي مشى عليه الفقهاء -رحمهم الله- وقالوا: إذا كان لا يستطيع الفاتحة ولكن معه شيء من القرآن وجب عليه أن يقرأ ما معه من القرآن، سواء كان بقدر الفاتحة أو أكثر أو أقل، لكن لا يلزمه ما زاد على الفاتحة، فلو فرضنا أنه يحفظ سبع آيات الآية منها أطول من آيات الفاتحة لم يلزمه إلا مقدار الفاتحة، وإذا لم يحفظ من القرآن إلا أقل من الفاتحة لم يلزمه سواها، وهل يكتفي به أو يكمل من هذا الذكر؟ نقول: يكتفى به؛ لأن ما معه من القرآن من جنس الفاتحة فيكتفي به.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان مؤتمن على دينه، فإذا قال: لا أستطيع. لا تقول: احلف أنك لا تستطيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستحلفه، وعلى هذا لو وجب على الإنسان كفارة ظهار وقال: لا أجد رقبة تحلفه؟ لا، قال: لا أستطيع أن أصوم تحلفه؟ لا، إذا قال: لا أستطيع أن أطعم تحلفه؟ لا، وكل هذا قد جاءت به السنة وذلك في حديث من جامع في نهار رمضان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستحلف الرجل، ولا يجوز أن يحلف الإنسان على دينه؛ لأنه مؤتمن عليه، ولو قال الرجل: إني قد أخرجت زكاتي نحلفه؟ لا نحلفه، ولو قلنا له: صل. فقال: صليت لا نحلفه؛ لأن الإنسان مؤتمن على دينه. ومن فوائد هذا الحديث: أن هذه الكلمات الخمس تجزئ عن الفاتحة، مع أنها من حيث الكم أقل من الفاتحة أو أكثر؟ أقل، فيترتب عليه فائدة: وهي أن المبدل لا يلزم أن يكون مساويًا للمبدل منه. وهذا واضح وله أمثلة؛ مثًلا في كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام بدل الصيام إطعام عشرة مساكين؛ فصار البدل ليس كالمبدل منه، فلا يلزم من كون الشيء بدلًا عن الآخر أن يكون مساويًا له. ومن فوائد هذا الحديث: الجمع بين تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به والثناء عليه بما هو أهل له لقوله: "سبحان الله، والحمد لله"، وهذا هو غاية ما يكون من وصف الكمال. ومنها: الإشارة إلى أنه يبتدأ بالتخلية قبل التحلية؛ يعني: يبتدأ بالشيء المنفي قبل الشيء المثبت، ووجهه: ليرد الشيء المثبت على شيء خال مما ينافيه، تؤخذ من قوله: "سبحان الله، والحمد لله"، بل حتى كلمة الإخلاص فيها هذا "لا إله" نفي، "إلا الله" إثبات، وقد قيل: التخلية قبل التحلية، وهذا كما أنه في المعقولات هو أيضًا في المحسوسات، فالإنسان عندما يريد أن ينظف المكان هل يأتي بالأشياء التي تجمل، أو يزيل الأشياء المؤذية الوسخة أولًا؟ الثاني، فهو في المحسوسات والمعقولات. ومن فوائد هذا الحديث: تنزيه الله -تبارك وتعالى- عن كل ما يليق به لقوله: "سبحان الله" ووصفه بالكمال لقوله: "الحمد لله". ومنها: فضيلة كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله"، وإذا اعتقد الإنسان هذا الاعتقاد صادقًا فإنه ينتفي عنه أن يعبد أي شيء سوى الله عز وجل ويكون مقصوده الأعظم هو الله عز وجل لا يلهيه عن ذلك دنيا ولا مناصب ولا أولاد ولا غيرها، ومعلوم أن عبادة غير الله أنواع كثيرة: من سجد لصنم فقد عبد غير الله فيكون كاذبًا في قوله لا إله إلا الله، ومن تعلق قلبه بالدنيا وليس له هم إلا الدنيا فإنه لم يحقق عبادة الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم،

كيفية القراءة في الصلاة

تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة"، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتعلقون بهذه الأشياء عبادّا لها، ومن المعلوم أنه ليس المعنى: أن الإنسان يسجد للدينار أو للدرهم، لكن المعنى أن قلبه متعلق بهذه الأشياء، فمحبته لها زاحمت محبة الله عز وجل. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يمكن أن يتحول أحد من حال إلى أخرى أو يقوى على ذلك إلا بالله، ويتفرع على هذا أن يعتمد الإنسان على ربه غاية الاعتماد حتى في أيسر الأشياء يعتمد على الله، ولهذا جاء في الحديث: "ليسأل أحدكم ربه حتى شراك نعله". فأنت يا أخي المسلم اعتمد على الله عز وجل في كل شيء، لا تعتمد على حولك وقوتك، فإنك إن فعلت هزمن ووكلت إليها ولم يحصل مقصودك، ولكن إذا اعتمدت على الله-سبحانه وتعالى- يسر لك الأمر، ولهذا لو قال الإنسان: "والله لأفعلن كذا" فإن الغالب أنه لا ييسر له ذلك، وإذا قال: "والله إن شاء الله" يسر له؛ لأنه علق ذلك بمشيئة الله تعالى. كيفية القراءة في الصلاة: 275 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، فيقرأ في الظهر والعصر -في الركعتين الأوليين- بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحيانًا، ويطول الركعة الأولى، ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب". متفق عليه. أبو قتادة رضي الله عنه بين أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورتين ولم يبين هاتين السورتين، لكن السنة ثبتت أن الغالب أنها تكون من أوساط المفصل: "الشمس وضحاها"، "والليل إذا يغشى"، وما أشبه ذلك. وقوله: "يسمعنا الآية أحيانًا" يعني: أنه -عليه الصلاة والسلام- يتقصد أن يرفع صوته ليسمع من وراءه لقوله: "يسمعنا"، وهذا يدل على الإرادة، لم يقل: ونسمع منه الآية، ولو قال: نسمع منه الآية لكان ربما يكون جهره بها تلقائيًا، لكن قوله: "يسمعنا" يدل على أنه يريد هذا، والحكمة من ذلك إما لينتبه المصلون، وإما ليعلموا أنه يقرأ سورة، وإما لأن الآية التي جهر بها تحمل معنى خاصًا ينبغي التنبه له، المهم أنه يسمعهم الآية.

وقوله: "أحيانًا" أي: وأحيانًا لا يسمعنا، ولكن حذف الطرف الثاني للعلم به من قوله: "يسمعنا الآية أحيانًا". ويقول رضي الله عنه: "يطول في الركعة الأولى" يعني: أطول من الثانية، فإذا قرأ بمقدار خمس دقائق في الأولى قرأ في الثانية بمقدار ثلاث دقائق؛ يعني: بعد الفاتحة وورد أيضًا - وسيأتينا إن شاء الله - أنه يجعل صلاة العصر على النصف من صلاة الظهر، فتكون القراءة في الظهر أطول من قراءته في العصر. أسئلة: - سبق لنا أن بعض الواجبات يسقط إلى بدل، نريد مثلًا على ذلك؟ - ومن الواجبات من يسقط إلى غير بدل، مثل؟ - إذا عجز عن البدل فماذا يكون؟ يسقط عنه، مثاله: كفارة القتل الخطأ. - ما الدليل على الاقتصار في الركعتين الأخريين من الظهر والعصر بالفاتحة فقط من حديث أبي قتادة؟ نعود للفوائد: من فوائد هذا الحديث: حرص الصحابة على نقل السنة بدون تغيير ولا زيادة ولا نقص؛ لأن أبا قتادة نقل السنة في قراءة الظهر والعصر في الركعتين الأخريين على وجه مفصل، وهكذا يجب على من ورث الصحابة في نقل السنة ألا يزيد ولا ينقص ولا يغير. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي أن يسمع الآية أحيانًا في قراءة الظهر والعصر، دليله: فعل النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: أما يخشى أن يشوش هذا على من وراءه من الناس؟ فالجواب: نعم ربما يشوش، لكن الذين وراءه قراءتهم تبع لقراءة الإمام، فلا يخل ذلك بقراءتهم. ومن فوائد حديث أبي قتادة: حكمة الشريعة في أنه كلما كثر العمل ازداد تخفيفًا، ومن ذلك ما حصل في صلاة الكسوف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطول في القراءة أول ما يقرأ على آخر القراءة، وهذه من السياسة الحكيمة؛ لأن النفوس مهما كانت في الحرص على الطاعة لابد أن يلحقها كسل أو ملل، فروعي هذا وصارت العبادة تخفف. فإن قال قائل: ألسنا في رمضان نكثر من الصلاة في العشر الأواخر أكثر من العشر الأول والأوسط؟ فالجواب: بلى، لكن لمزية اختصت بها العشر الأواخر وهي ليلة القدر، فهل مثل ذلك إذا كان المعلم يراعي التلاميذ فيشدد عليهم في أول الحفظ وفي الآخر يخفف، يعني: مثلًا أنه

مقدار القراءة في صلاتي الظهر والعصر

قال: احفظوا "بلوغ المرام" واقرءوا عليه فكان في أول الأمر يشدد عليه وفي آخر الكتاب يخفف، هل نقول: هذا أيضًا من السياسة الشرعية؟ الظاهر نعم صحيح، فإنه لا يمكن أن نجعل أول الشيء مثل آخره، بل لابد أن نراعي أحوال الناس. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا تسن الزيادة على قراءة الفاتحة في الركعتين الأخريين في الظهر والعصر. مقدار القراءة في صلاتي الظهر والعصر: 276 - وعن أبي سعيد الخدري رضي اله عنه قال: "كنا نحرز قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر: {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة، وفي الأخريين قدر النصف من ذلك، وفي الوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، والأخريين على النصف من ذلك". رواه مسلم. هذا الحديث يقول "كنا نحرز" الحزر بمعنى: التقدير والحرص، فمعنى "نحرز" يعني: نخرص، ونقدر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل كذا، ومن المعلوم أن الحزر ليس كالمتيقن أيهما أولى بالترجيح؟ المتيقن. يقول " فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر: {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة، وهي معروفة، وهي طويلة، {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة من طوال المفصل، بل هي خارجة عن المفصل؛ لأن المفصل سوره قصار، ولهذا سمي مفصلًا، لكن {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة خارجة عن المفصل فهي طويلة؛ وظاهر كلامه أن الركعة الأولى كالثانية؛ لأنه قال: "في الركعتين الأوليين"، أما في الركعتين الأخريين فيقول: "قدر النصف من ذلك" وهذا واضح في أن القراءة في العصر أقصر من ذلك، يقرأ في الركعتين الأوليين قدر النصف من {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة وفي الأخريين قدر النصف من ذلك، فتكون العصر أطول ما فيها كأقصر ما في الظهر والحكمة في ذلك - والله أعلم - أن الناس بعد العصر يشتغلون بالتجارة والبيع والشراء وما أشبه ذلك؛ فلهذا روعي التقصير في صلاة العصر، وإلا فوقتها طويل، لأنه سيمتد إلى اصفرار الشمس، أو إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، فوقتها طويل يحتمل أن يقرأ {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة وما هو أطول، لكن مراعاة لأحوال الناس؛ لأن الشريعة الإسلامية تراعي أحوال الناس، أرأيتم الذين رأوا التجارة واللهو وهم يستمتعون إلى خطبة النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا وما بقى معه إلا اثنا عشر رجلًا من أهل المسجد، كلهم خرجوا لا للهو بل للتجارة، ولهذا قال: {وإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُوًا انفَضُّوا إلَيْهَا} [الجمعة: 11]. أي: إلى التجارة لا إلى اللهو، واللهم: هو الذي كان

يصحب التجارة، وهو أنه جرت العادة أن الركب إذا جاءوا وأقبلوا إلى المدينة جعلوا يضربون بالدف لأجل أن يفزعوا الناس وينبهوهم على أنه قد جاءت عير فلما سمعوا هذا خرجوا لأنهم في حاجة شديدة، خرجوا يريدون ماذا؟ يريدون التجارة، والضمير واضح قال: {انفَضُّوا إلَيْهَا}، ولم يقل "انفضوا إليه" أي: إلى اللهو، قال: {انفَضُّوا إلَيْهَا وتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ ومِنَ التِّجَارَةِ واللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11] ثم أرشدهم الله عز وجل، فالنفوس مجيولة على محبة ما يربحها وعلى ما يناسبها فلذلك خفف في صلاة العصر من أجل أن ينتشر الناس في طلب الرزق. في هذا الحديث فوائد منها: البناء على غلبة الظن، وهذه قاعدة شرعية، ولكن هل هي مطردة، أو فيما إذا تعذر اليقين؟ الجواب: في بعض الأحوال تكون مطردة ويكتفي الإنسان بغلبة الظن، وفي بعض الأحيان لابد من اليقين، فإذا كان هنا أصل يبنى عليه فلابد من يقين يرجع ذلك الأصل ولا يكتفى بالظن، وإذا لم يكن هناك أصل يبنى عليه، فإن من التيسير على العباد أنه يكتفي بغلبة الظن، مثال ذلك: إنسان شك وهو يطوف هل طاف ستة أشواط أو سبعة، وغلب على ظنه أنها سبعة ماذا نقول؟ يكتفي بغلبة الظن؛ لأنه ليس هناك شيء يعارض، فيكتفي بغلبة الظن ويبني على ظنه ولا يلتفت للشك، ولا يعود نفسه الشك، وإذا كان على طهارة فأحس بحركة وغلب على ظنه أنه أحدث من هذه الحركة هل يبني على غلبة الظن؟ نعم، لأن لدينا أصل وهو الطهارة، فالأصل بقاؤها، فلا يمكن أن يزيلها غلبة الظن، ومن أين أخذنا من هذا الحديث البناء على غلبة الظن؟ من قوله: "حزرنا". ومن فوائد هذا الحديث: أن طول القراءة بالركعتين الأوليين على حد سواء؛ لأنه قال: في الركعتين الأوليين قدر {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة، وهذا يعارض حديث أبي قتادة؛ لأن حديث أبي قتادة: "كان يطول في الأولى ويقصر في الثانية" فبأيهما نأخذ؟ هل نأخذ بما يدل عليه حديث أبي قتادة؛ لأنه يقين، ما قال: إنه ظن، بل جزم به فهو متيقن له، ونقول: إن الخرص قد يخطئ، فقد يظن الظان أن الثانية كالأولى وهي أقل منها وهذا وارد، أو نقول: يمكن الجمع بين الحديثين، فالأغلب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل الأولى أطول من الثانية، وأحيانًا تكون الأولى والثانية متساويتين، فيكون يفعل هذا أحيانًا وهذا أحيانًا، أحيانًا تكون الثانية أطول من الأولى كما في سورتي الجمعة والمنافقون، أو سبح والغاشية، أيهما أطول الجمعة والمنافقون أو سبح والغاشية؟ إذن نقول: الغالب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجعل الركعة الأولى أطول من الثانية وربما جعلهما متساويتين، وربما زاد في الركعة الثانية على الأولى، لكن لا تكون زيادة الثانية على الأولى زيادة بينة كزيادة النصف مثلًا بل زيادة يسيرة بل قال بعض أهل العلم: نقدم حديث أبي قتادة، وعلل ذلك بأن حديث أبي قتادة مبني على يقين، وحديث أبي سعيد

مبني على ظن، والظان قد يتوهم، وأيضًا حديث أبي سعيد انفرد به مسلم، وحديث أبي قتادة أخرجه الشيخان، فهو أقوى سندًا وأقوى دلالة، وعلى هذا حكم أصحابنا فقهاء الحنابلة - رحمهم الله - في هذه المسألة، وقالوا: إنه يطيل في الأولى ويقصر في الثانية بدون تفصيل، والأمر في هذا واسع - والحمد لله - إذا زاد إذا تساوت الركعتان، وإن طالت الأولى فهو المفضل لما ذكرنا من الوجهين من حيث الثبوت ومن حيث الدلالة. من فوائد حديث أبي سعيد: أن صلاة العصر تكون أكثر من صلاة الظهر؛ لأن الأولى من ركعات العصر على قدر الأخيرة من ركعات الظهر، وهذه الفائدة لم توجد في حديث أبي قتادة، ووجهه ظاهر وهو ما بينته لكم من جهة أن الناس محتاجون بعد العصر إلى البيع والشراء وما أشبه ذلك، الناس في صلاة الظهر مشغولون فلا يحضرون في أول الوقت؛ حيث إنهم مشتغلون في فلائحهم وأحوالهم، فناسب أن تطال الركعة الأولى في الظهر حتى يتمكن البعيد من إدراك الركعة الأولى. ومن فوائد الحديثين: بيان تمام سياسة الشريعة الإسلامية، وأن الشريعة الإسلامية بكل ما تحمله معنى هذه الكلمة؛ سياسة الناس في عباداتهم، وسياسة للناس في معاملتهم، وسياسة للناس في علاقتهم التي تسمى في عصرنا (الدبلوماسية)، ومن فصل السياسة عن الشريعة فقد أخطأ خطأ عظيمًا. كل الشريعة سياسة، كل الشريعة أعلى أنواع الدبلوماسية؛ لأنها من عند الله عز وجل، هو الذي شرعها للعباد ورتبها لهم غاية الترتيب، وسبحان الله كيف يقول القائل: إن الشريعة الإسلامية أثبتت السياسة بين الرجل وبهيمته: لا تحمل البهيمة فوق ما تطيق، ولا تمنعها من العلف والشراب، ولا تبيتها في مكان حار في أيام الصيف؛ فيقتلها الحر، أو في أيام الشتاء فيقتلها البرد، هذه سياسة، فكيف لا تبرم وتبين وتثبت السياسة بين الدول، وأقرأ سورة (براءة) تجد غاية ما يكون من السياسة في العلاقات بين الدول الكافرة والدول المسلمة، لكن لما ضيقت الكنيسة الخناق على الناس في العبادة، ورأوا أنهم لا يستطيعون أن يجمعوا بين الدنيا والآخرة فصلوا الدين عن السياسة، وجعلوا للسياسة مجرى وللدين مجرى آخر. وكذلك أيضًا قالوا في الاقتصاديات مع أن الشرع منظم لها غاية التنظيم، ألم ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال؟ ألم يقل الله عز وجل: {وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]؟ ، ألم يقل النبي - عليه الصلاة والسلام-: "لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه"، وما أكثر الأمثلة على هذا، لكن في الحقيقة أن كثيرًا من الباحثين - ولاسيما العصريون - عندهم

قدر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب والعشاء والفجر

شيء من الجهل في الشريعة، وعندهم الضعف الشخصي؛ وعندهم أنهم يدارون، ولا أستطيع أن أقول: يداهنون؛ لأن هذه تهمة عظيمة، لكن يدارون غيرهم، ولو مشوا على يريد الله عز وجل ورسوله لبرزوا على غيرهم غاية البروز ولأخذ غيرهم منهم كما اخذ الآن من الإسلام كثيرًا من الأخلاق الفاضلة مثل الصدق والنصح، يمكن أن تجد احد المسلمين يغشك في السلعة عند البيع، والكافر لا يغشي وهذا وارد، بعض المسلمين لا ينفذ العمل المستأجر عليه كما ينبغي والكافر ينفذ، وإن كنا لا نردي بهذا مدح الكافرين، لكن قصدهم في إحسان المعاملة لئلا يجتمع حشف وسوء كيلة. فالحاصل: أن الدين الإسلامي دين سياسة في عبادة الله عز وجل، وفي معاملة الناس، وفي الأخلاق، وفي العلاقات الدولية، وفي كل شيء فنحتاج إلى نظر، يعني: كثير من طلبة العلم تجده مثلًا يقرأ الحديث: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" وما أشبه ذلك من الأحاديث، فينظر إليها من زاوية واحدة فقط وهي تحريم البيع على بيع المسلم والخطبة على خطبته، ولكن لا يتكلم على المعنى المهم وهو السياسة في العلاقات بين الناس؛ لأنك إذا بعت على بيعه فسوف يكون في قلبه شيء عليك، مهما كنت معه في المصاحبة والقرب، لو بين مثل هذه الأمور فضلًا عن شرح الأحاديث حتى يتبين للناس سمو الدين الإسلامي ويتقبلوه ويعتنقوه عن قناعة فضلًا عما يكون بين العبد وربه فهذا هو الغاية. قدر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب والعشاء والفجر: 277 - وعن سليمان بن يسار رضي الله عنهما قال: "كان فلان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل وفي العشاء بوسطه وفي الصبح بطواله. فقال أبو هريرة: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا". أخرجه النسائي بإسناد صحيح. قوله: "كان فلان يطيل الأوليين من الظهر". "كان فلان" أبهم هذا الرجل ولم يعين اسمه، إما أن يكون نسيانًا من الناقلين عن سليمان بن يسار، أو لسبب من الأسباب، وفي مثل هذا الحال لا يهمنا تعيين الشخص؛ لأنه لا يختلف فيه الحكم، فلا يضر أن يكون هذا الشخص مجهولًا. يقول: "كان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف العصر" يشبه حديث أبي سعيد السابق: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل في قراءة الظهر ويخفف في قراءة العصر، وسبق بيان السبب في ذلك، "ويقرأ في المغرب بقصار المفصل". والمفصل: هو ما كثرت فواصله لقصر سوره. قال أهل العلم: ويبدأ بـ "ق" وينتهي بـ"الناس"، وطواله من "ق" إلى "عم"، وقصاره من الضحى إلى آخر القرآن،

وأوساطه ما بين ذلك؛ ولا يضر أن يكون في أوساطه ما هو طويل وفي قصاره ما هو طويل أيضًا؛ لأن العبرة بالغالب والأكثر. "قال أبو هريرة رضي الله عنه ما صليت وراء أحد أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا". إذن فالأفضل على العموم أن تكون قراءة الإنسان في الفجر بطوال المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل وفي العشاء بأوساطه، وكذلك في الظهر والعصر، فثلاث صلوات تكون بأوساط المفصل، وصلاة بطواله، وصلاة بقصارها هذا هو الغالب، وقد يكون الأمر بالعكس، ويدل على تطويل القراءة في الفجر أن الله تعالى عبر عنها في القرآن، فقال - تبارك وتعالى -: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]. أي: وأقم قرآن الفجر، وهذا يدل على أن القرآن في الفجر ذو شأن كبير، ولذلك عبر عن الصلاة به هذا هو الغالب، وإن خرج الإنسان على الغالب وقرأ بطواله أو أوساطه في المغرب فا بأس، فقد قرأ النبي فيها بسورة الطور، وبسورة المرسلات، وبسورة الأعراف، كذلك لو قرأ في صلاة الفجر بقصاره فلا بأس، لاسيما إذا كان لسبب كان يكون الإنسان في سفر أو مريضًا أو ما أشبه ذلك. 278 - وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور". متفق عليه سمع ذلك وهو أسير من جملة أسرى بدر رضي الله عنه، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بسورة الطور في صلاة المغرب يقول رضي الله عنه: فلما بلغ قول الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ (35)} [الطور: 35]. كاد قلبي يطير لقوة هذا الدليل المفحم المقنع حتى دخل الإيمان في قلبه، ثم اطمئن الإيمان في قلبي بعد ذلك؛ لأن هذه الآية دليل واضح على أن الخلق حادث بعد أن لم يكن وأن الذي أحدثه هو الله؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يقول: أنه حادث من غير شيء، إذ أن الدليل العقلي يقتضي أن كل حادث له محدث؛ لأنه كان عدمًا ثم حدث فلابد له من محدث، ولا يمكن أن يقول قائل: إن الشيء أحدث نفسه بنفسه؛ لأنه قبل الحدوث كان عدمًا، والعدم لا يحدث شيئًا، فتعين الآن أن هناك محدثًا ليس بحادث هو الله عز وجل، وهذا من الأدلة التي تسمى بالسبر والتقسيم؛ يعني: أن نحصر الأشياء الممكنة ثم نقول: أهذا أو هذا أو هذا، حتى نصل إلى البرهان، ومثل ذلك قول الله - تبارك وتعالى - فيمن أعطاه الله مالًا وولدًا: {وقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا ووَلَدًا} قال الله له: {أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 77 - 78]. والجواب: لا هذا ولا هذا؛ فإذن هو كاذب في أمله حيث قال: {لأُوتَيَنَّ مَالًا ووَلَدًا} ولذلك قال عز وجل: {كَلاَّ} يعني: لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عهدًا عند الله {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ونَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَدًا} [مريم: 79].

صفة القراءة في فجر الجمعة

هذا الحديث هل نقول: أنه يؤخذ منه أنه يستحب أن يقرأ بسورة الطور، أو نقول: أحيانًا؟ الجواب: أحيانًا؛ لأن السورة التي لم يلازم عليها النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون مشروعة بعينها، مجرد أنه فعلها مرة أو سمعت منه مرة لا يدل على أنها مقصودة بعينها، وقد أشار إلى هذه القاعدة ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" وشرحه في الحقيقة شرحًا قويًا متينًا يستفيد منه طالب العلم المرتفع قليلًا انتفاعًا عظيمًا، ولذلك تجد أهل العلم يكثرون النقل عنه، عنده قدرة على صيغ القواعد والاستدلال بالأمور العقلية، فيقول: إذا كانت السورة يلازمها النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: إنها سنة بعينها كما نقول في سبح والغاشية في الجمعة، وفي العيد، وفي {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة، أما إذا كان يقرؤها مرة، فنقول: من السنة ان تقرأها مرة، وهذا القول قول تطمئن له النفس، ولهذا لا نقول للناس: اقرءوا في صلاة المغرب بسورة الطور، بل نقول: نعم اقرأ لها أحيانًا. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا بأس أن يخرج الإنسان عن القاعدة العامة في صلاة المغرب وفي القراءة بقصار المفصل، فإن سورة الطور من طوال المفصل كما لا يخفى. صفة القراءة في فجر الجمعة: 279 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ} [الإنسان: 1]. متفق عليه. "كان يقرأ" سبق لنا أن "كان" تفيد الدوام غالبًا لا دائمًا، "يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة وهي معروفة يقرؤها كاملة ويسجد فيها، ويقرأ في الركعة الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ، والسورتان بينهما تشابه من حيث الموضوع لا من حيث الكثرة أو القلة؛ لأن بينهما فرقًا بينًا، لكن موضوعهما متقارب. الحكمة من قراءة {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة: هي أن فيها مبدأ الإنسان ومنتهاه، والثواب والعقاب، ويوم الجمعة فيه مبدأ الخلق، وفيه قيام الساعة؛ يعني: فيه المبدأ والمنتهى، فكان من المناسب أن يذكر الناس بهذا في أول اليوم، وأول صلاة في الجمعة هي صلاة الفجر هذا هو السبب في قراءة هاتين السورتين، كذلك سورة الإنسان فيها ذكر المبدأ والمعاد، والثواب والعقاب، {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1]. {هَلْ} حرف استفهام لكنها ليست للاستفهام بل للتقرير؛ يعني: قد أتى على الإنسان حين من الدهر {لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} قبل أن يولد الإنسان ليس شيئًا، ثم ولد وخلق من أمشاج، ثم جعل له السمع والبصر، ثم هدي السبيل سواء كان كافرًا أو شاكرًا {إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وإمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان: 3]. هذا التفصيل تفصيل للضمير الهاء في {إنَّا هَدَيْنَاهُ} يعني: أن الله هداه السبيل سواء كان شاكرًا أو كفورًا بين

له السبيل، لكن الكافر استحب العمى على الهدى، والمؤمن وفق لإتباع الهدى، ثم ذكر - سبحانه وتعالى - ثواب هؤلاء وهؤلاء فقال: {إنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وأَغْلالًا وسَعِيرًا (4)} [الإنسان: 4]. آية واحدة في بيان عقوبة الكافرين لماذا؟ لأنه ما ذكر من أوصاف الكافرين إلا وصفًا واحدًا هو الكفر، فلم يذكر في العقاب إلا شيئًا واحدًا سلاسل وأغلالًا وسعيرًا، ولأن رحمة الله - تبارك وتعالى - سبقت غضبه، فكان من المناسب أن تكون آيات الرحمة تبسط وتقال، وآيات العقوبة تكون دون ذلك. وفي الأوصاف التي خالفها الكفار ذكر {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ويَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) ويُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا} [الإنسان: 7 - 8]. ويحلفون لله في ذلك {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً ولا شُكُورًا (9)} [الإنسان: 9].وعملهم دائر بين الخوف والرجاء {إنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 10]. فسجل أوصافًا متعددة فتناسب أن يذكر الثواب مفصلًا؛ وهذا من بلاغة القرآن التي ولا شك فيها سورة {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة أيضًا مبدأ الخلق ومنتهاه، والثواب والعقاب، وليس كما يظن بعض الجهال من انه ميز فجحر الجمعة بالسجدة، ولذلك تجد بعضهم يقرأ أي آية فيها سجدة ربما لا يقرأ إلا آيات قليلة فيها سجدة، ويقول: حصلت السنة؛ لأنه بعقله أن {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة من اجل السجدة وهذا غلط عظيم، خصت هذه السورة لما فيها من ذكر ما يقع في هذا اليوم من ابتداء الخلق وانتهائه ثم العقوبة والثواب، ومن الجهل أن بعض الأئمة يقرأ قبل آية السجدة آيتين أو ثلاثًا وبعدها آيتين أو ثلاثة، ويقول: الحمد لله السجدة وحصلناها هذا جهل عظيم، بعضهم يقرأ بعض السورة إما من أوسطها أو أولها أو آخرها وهذا غلط عظيم أيضًا؛ لأنه إذا فعل هذا كأنما يعترض على السنة، وأن الأولى والأجدر أن يقرأ للناس بهذا دون أن تقرأ السورة كاملة، ومنهم من يرى أنه الحاذق فيتحذلق ويقرأ نصف سورة السجدة ونصف سورة الإنسان! ! كل هذا من الجهل، ونحن نقول لهؤلاء: إما أن تأتوا بالسنة على وجهها، وإما أن تقرءوا ما تيسر من القرآن من وجه آخر، وأما أن تجعلوا السنة عضين تعملون ببعض دون البعض فهذا لا تقرون عليه. من فوائد هذا الحديث: استحباب {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة في فجر الجمعة في الركعة الأولى وفي الثانية {هَلْ أَتَى}. 280 - وللطبراني من حديث ابن مسعود "يديم ذلك". يعني: يقرأ كل جمعة بهذا، فيستفاد من هذه الزيادة: أنه لا عبرة بقول من قال من العلماء:

ينبغي ألا يديم ذلك لئلا يظن العوام أنها واجبة؛ لأنه ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يديم هذا فلندم هذا، ولا ينافي الدوام أن يقرأ الإنسان بغيرهما مثلًا في الشهر مرة، أو بالشهرين مرة، العبرة بالأغلب، وهو إذا قرأ ولو مرة في السنة علم الناس أن قراءتهما ليست واجبة. من فوائد هذا الحديث: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يقرأ ما يناسب الوقت، فهل نأخذ من هذا أنه ينبغي للإنسان أن يقرأ ما يناسب الحال؟ مثل إذا نزل المطر هل يقرأ آيات المطر الدالة على أن الله تعالى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته، هل مثلًا إذا اشتد الحر يقرأ آيات الحر مثل قوله: {لا تَنفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81]. لا أستطيع أن أجبر على هذا وأقول: إنه سنة؛ لأن العلة المستنبطة هي على حسب فعل المعلل بها، ولكن الإنسان لا يجزم بأن هذه علة بخلاف العلة المنصوص عليها فإنه يقاس عليها، لكن إذا كانت مستنبطة فلا يستطيع الإنسان أن يقيس؛ لأنه قد تكون العلة غير ما ذكر، وهذه خذها معك مفيدة جدًا أن العلة المستنبطة لا يقاس عليها، وأما العلة المنصوصة فهي التي يقاس عليها لا شك فمثلًا {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإنَّهُ} أي: هذا المطعوم {رِجْسٌ} [الأنعام: 145]. هذه أستطيع أن أقول: كل نجس حرام، لأن العلة منصوص عليها، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يجزنه". هنا يمكن أن أقول: كل شيء يحزن أخاك المسلم فهو منهي عنه سواء هذه المناجاة أو غيرها ويكون مناط الحكم هو المعنى الذي دلت عليه العلة، ويكون الحكم المعلل بهذه العلة كأنه مثال. أسئلة: - ما هو المفضل؟ - لماذا سمي بهذا؟ - ما هو طوال المفضل، وما قصاره، وما أوساطه؟ - هل يجوز للإنسان أن يقرأ في المغرب بطوال المفضل، وما الدليل. - قراءة {الّم (1) تَنزِيلُ} السجدة سنة في كل وقت أم في وقت دون وقت؟ ما تقول فيمن يقرأ هذه السورة وبعض هذه السورة هل أصاب السنة؟ - لو طرأ عذر وقد شرع في السجدة أو الإنسان هل له أن يقطعه؟ نعم إذا عرض عارض، فالعارض له حكمه. - لو قرأ الرسول مرة بسورة فما هو الضابط؟

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تدبر القراءة في الصلاة

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تدبر القراءة في الصلاة: 281 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فما مرت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل ولا آية عذاب إلا تعوذ منها". أخرجه الخمسة، وحسنه الترمذي. هذا الحديث قد رواه مسلم رحمه الله، وكان ينبغي للمؤلف رحمه الله أن يذكر أن الذي رواه مسلم في صلاة الليل، قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ... " ثم ذكر الحديث، وأنه قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران يقرؤها مترسلًا عليه الصلاة والسلام فما مرت به آية رحمه إلا سأل ولا آية وعيد إلا تعوذ ولا آية تسبيح إلا سبح هكذا في مسلم وليت المؤلف ساق رواية مسلم لكان فيها زيادة على ما ساقه الآن وهو أيضًا أصح ممن خرجه فإما أن يكون المؤلف رحمه الله في تلك الساعة لم يستحضر رواية مسلم أو لسبب ما ندريه، على كل حال: الحديث في مسلم يقول: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم" يعني: صلاة الليل، وقد صلى حذيفة وابن عباس وابن مسعود كلهم صلوا مع الرسول صلى الله علي وسلم صلاة الليل لكن في ليال مختلفة وقوله "فما مرت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل" آية رحمة يعني مثلًا: {وقُل رَّبِّ اغْفِرْ وارْحَمْ وأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} {المؤمنون: 118]. فيقف ويقول: "رب أغفر لي وارحمني"، {واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لَنَا وارْحَمْنَا} [البقرة: 286] هذا دعاء يقول: "آمين"، "ولا آية فيها عذاب إلا تعوذ منها" أي: من العذاب، وليس من الآية، يقول: أعوذ بالله مثل: {والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} فقول: أعوذ بالله ولا آية تسبيح إلا سبح مثل: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} يقول: "سبحان الله"، لكن (ٍسبح اسم ربك العظيم)، و (سبح اسم ربك الأعلى)، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نجعل في ركوعنا: "سبحان ربي العظيم" وفي سجودنا: "سبحان ربي الأعلى"، وهذا لا يمنع أن نسبح حتى عند انتهاء القراءة. ففي هذا الحديث فوائد منها: جواز الجماعة في النافلة في البيت، والدليل: فعل حذيفة، أو إقرار الرسول؟ إقرار النبي صلى الله علي وسلم، وهل هذا يعني سنة، بمعني: إذا اجتمع جماعة في بيت عزاب، قالوا: سنجعل لأنفسنا صلاة ليل نتهجد فيها جميعًا، أو أن هذا أحيانًا إذا وجد ضيفًا أو ما أشبه ذلك يقوم صاحب البيت معه في صلاة الليل؟ الجواب: الثاني، أما اتخاذ ذلك راتبة فلا، لكن أحيانًا لسبب لا بأس بذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي إذا مرت بالمصلي آية رحمة أن يسأل، أو آية عذاب أن يتعوذ، أو آية تسبيح أن يسبح، دليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وكان يقول: "صلوا كما

رأيتموني أصلي"، ولكن هل هذا خاص بالنافلة وبالتهجد؛ لأن السنة فيهما الإطالة أو هو عام؟ نقول: أما في السورة التي وقع فيها ذلك فلا شك في ثبوتها، بمعنى: أن الإنسان إذا قام يتهجد فليسأل عند آية الرحمة، وليتعوذ عند آية الوعيد، وليسبح عند آية التسبيح؛ لأن هذا مطابق للسنة تمامًا، وأما الفريضة فقد يقول قائل: ما ثبت في الفريضة يثبت في النافلة إلا بدليل، وما يثبت في النافلة يثبت في الفريضة وهذا صحيح، لكن قد يعارض هذا الأصل أن الناقلين لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الفريضة لا يذكرون أنه يقف عند آية الرحمة، ولا عند آية الوعيد، ولا عند آية التسبيح فالظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يفعل ذلك في الفريضة، والفرق بين صلاة الليل والفريضة ظاهر؛ لأن صلاة الليل تستحب فيها الإطالة ولأن الإنسان إما أن يصليها وحده، أو يصليها معه من يكون متابعًا له أطال أم قصر، والفريضة ليست كذلك يصلي معه ناس، وأيضًا قد لا يحبون أن يطيل ووقوفه عند آية الرحمة وآية الوعيد وآية التسبيح قد يكون فيه إطالة عليهم، ولهذا ذهب بعض الفقهاء رحمهم الله- إلى أن الوقوف عند آية الوعيد أو الوعد أو التسبيح في التهجد سنة وفي الفريضة مباحة، بمعنى: أننا لا ننهاه ولا نأمره بذلك وهذا هو الظاهر أن الإنسان لو فعله في الفريضة ولاسيما إذا صادف آخر القراءة فلا ينهى عنه، لكن لا نقول: إنه ينبغي أن تفعله بخلاف صلاة الليل. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر في القراءة إذا كان إمامًا في صلاة الليل وكذلك في الدعاء والتسبيح لأن حذيفة يسمعه، ولا يمكن أن يسمعه إلا إذا جهر، لكن الجهر ليس رفيعًا. ومن فوائد هذا الحديث: تمام عبودية النبي صلى الله عليه وسلم حيث يسبح ربه عز وجل إذا مررت به آية تسبيح ولعمر الله إنه للأشد الناس وأقواهم عبادة لله عز وجل. ومن فوائد هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى ربه- تبارك وتعالى- كما أن غيره مفتقر إلى الله وأدلة هذا كثيرة جدًا، حتى إن الله أمره وقال: {واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]. ويتفرع على هذه الفائدة الرد على من قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم يدفع الضرر عمن استغاث به في قبره، وهم بذلك مشركون لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حيا لقاتلهم؛ لأنه هذا هو الشرك أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم يغيثهم من الشدة وهو في قبره، لكن الهوى- والعياذ بالله- يعمي ويصم، وما أيسر أن نقول لهؤلاء الجهال المشركين: اقرءوا قول الله تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ

ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ} {الأنعام: 50] اقرءوا قول الله تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًا إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ ولَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ ومَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] اقرءوا قول الله: {قُلْ إنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًا ولا رَشَدًا (21) قُلْ إنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} {الجن: 21] أنا لا أستطيع أن يجيرني أحد ممن الله لو أراد بي شيئًا {ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)} [الجن: 22]. فإذا قال أحدهم: إني دعوته عند القبر الشريف، وتحت الحجرة الشريفة فزال ما بي من الضرر، نقول: هذا حصل عند الدعاء؛ أي: عند دعائك إياه، لا بدعائك إياه. انتبه للفرق حصل عند دعائك إياه، لا بدعائك إياه: فتنة، فإذا قال: كيف لا بدعائه إياه؟ أنا دعوت واستجاب قلنا: اقرأ قول الله عز وجل: {ومَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] فإذا قال: نعم، الآية صريحة، لكن قال: {مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف: 5] والرسول استجاب لي، فنقول: اقرأ قول الله عز وجل: {قُلْ إنِّي لا أَمْلِكُ لكُمْ ضَرًا ولا رَشَدًا} {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] وحينئذ لا يستطيع أن يجيب لكن الله قد يفتن الإنسان بتيسير أسباب المعصية له امتحانًا فقد امتحن الله بني إسرائيل في الحيتان يوم السبت بأن حرمت عليهم الحيتان يوم السبت. إذن لا يمكن الصيد يوم السبت الحرام فماذا فعلوا في هذا اليوم؟ فطال عليهم الأمد فقالوا: مشكل! يوم السبت يأتي الصيد شرعًا أي: أي أن الحيتان تأتي شرعًا طافية يكاد الإنسان يمسكها بيده وفي غير يوم السبت لا يرونها انظر إلى المحنة طال عليهم الأمد قالوا: إذن اصنعوا شباكًا يوم الجمعة فيتساقط فيها الحيتان وخذوا الحيتان يوم الأحد وحينئذ لم تكونوا صدتم يوم السبت فماذا كانت العقوبة؟ أسوأ عقوبة والعياذ بالله قال الله عز وجل: {ولَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ} - قلًا كونيًا - {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]. فكانوا قردة خاسئين، فالصحابة - رضي الله عنهم - حرم عليهم الصيد حال الإحرام، فسلط الله الصيد وهم محرمون بحيث يمسكون الزاحف، وينالون برماحهم السائر، يعني: الأرانب والظباء يمسكونها مسكًا بأيديهم، والطيور ما تحتاج إلى سهام بالرمح يضرب الرمح فتصيدها، هذا تسهيل أو لا؟ تسهيل لكنه امتحان من الله عز وجل، فماذا صنع صحابة رسول الله - عليه الصلاة والسلام-؟ تجنبوا ذلك ولم يأخذوا شيئًا - رضي الله عنهم-. الرجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، هذه محنة، لكن قال: إني أخاف الله، والله تعالى قد يبتلي الإنسان بتسهيل أسباب المعصية له فيبلغها، فاحذر إذا تيسرت لك أسباب المعصية أن تقع فيها، فإنها فتنة، حتى لو تيسرت لك لحذر أن تقع فيها، تيسر لك الربا، لا تتعامل به، تيسر لك الزنا؛ لا تقربه، وهلم جرًا.

ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ قراءته مترسلًا، لاسيما في التهجد كما جاء ذلك في حديث حذيفة في صحيح مسلم، وهذا أبلغ في التدبر وفي إتيان الحروف حقها في النطق وصفاتها في المخارج، لكن لا على سبيل ما يفعله المتشددون في التجويد المتشدقون فيه بحيث ربما يخرج الحرف حرفين أو أكثر، ورأيت في هذه السنة في حفل تخرج من يقرأ بالتجويد فإذا به يحمر وجهه، وتنتفخ أوداجه، ويهز كل بدنه ويتكلف، وإذا قرأ جملتين أو ثلاثة تعب ووقف - يعني: دقيقة - كل هذا من أجل أن يطبق ما يزعم أن هذا تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية وعيد تعوذ. هل يفرض الضمير فيقول: "اللهم ارحمني"، "اللهم أعذني من النار" أو يجمعه؟ الثاني، يجمع وينوي عن نفسه وعمن كان مؤتمًا به، ولهذا جاء في الحديث - حديثًا استدل به بعض العلماء - أن الإمام إذا خص نفسه بالدعاء دون المأمومين فقد خانهم، هذا صحيح؛ لو أن الإمام يقول في قنوط الوتر: "اللهم أهدني فيمن هديت"، وهم يقولون: آمين فما الذي بقي لهم؟ ما بقي لهم شيء، فكل الدعاء لنفسه، ويجبرهم على أن يؤمنوا لنفسه وهذه خيانة، ولذلك لو كان معك أحد فأت بضمير الجمع، وانظر إلى الحكمة المبنية على العلم والرحمة كيف جاء في سورة الفاتحة جاءت بصيغة الجمع: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6)} مع أن القارئ إذا كان يصلي وحده ما معه أحد، لكن لعلم الله - ولا نقول على الله إلا ما نظن أنه حق - لعلم الله أن هذه السورة ستتلى، وسيكون خلف القارئ من يؤمن على دعائه فجاءت بصيغة الجمع {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6)}، فهذا الإمام ينهى عن ذلك، وأما التأمين على دعائه فليؤمن المأموم ما دام تبعًا له، وهذا يدل على جهل هؤلاء، وهم بمنزلة العوام. والزيادة في صحيح مسلم: أن ذلك في صلاة الليل، وفيه أيضًا زيادة: أنه لا يمر بآية تسبيح إلا سبح وذكرنا، هل يتعدى ذلك إلى الفرض أو لا يتعدى، وأشرنا إلى القاعدة، أن ما يثبت في النفل يثبت في الفرض إلا بدليل، وقلنا: إن الذين نقلوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم المفروضة لم يذكروا هذا، وانتهينا إلى أنه لا بأس به في الفريضة، وأنه في صلاة الليل مسنون. * * *

النهي عن القراءة في السجود والركوع: 282 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم". رواه مسلم. قوله: "ألا" أداة استفتاح وتنبيه وهي هنا أداة تنبيه؛ لأن المؤلف رحمه الله حذف أول الحديث وهو أنه قال صلى الله عليه وسلم: "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ألا وإني نهيت"، ولهذا جاءت الواو بعد ألا. قوله: "ألا وإني نهيت" الواو حرف عطف على ما حذفه المؤلف رحمه الله من أول الحديث "نهيت": الناهي هو الله عز وجل؛ لأنه لا أحد ينهى الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلا الله - سبحانه وتعالى-، والنهي: طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة، وهي المضارع المقرون بلا الناهية. هذا هو النهي، فإذا قلت: "لا تفعل كذا" هذا نهي، وإذا قلت: "اترك كذا" فهذا ليس بنهي، مع أنه طلب كف، لكنه ليس بالصيغة المعروفة التي هي المضارع المقرون بلا الناهية، وإذا قال زميلك: "لا تفعل كذا" فإنه ليس بنهي اصطلاحًا، لماذا؟ لأن زميلك إذا قال: "لا تفعل" ليس على وجه الاستعلاء، وإذ قال الغلام لسيده: "لا تكلفني يا سيدي" فهذا ليس بنهي؛ لأنه ليس على وجه الاستعلاء، وإنما هو على وجه الرجاء، فالمهم اضبط القيود حتى تعرف النهي، "طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة هي لا الناهية" هذا معناه في اللغة وفي عرف العلماء، لكن قد يرد شيء يدل على النهي بدون أن يكون بهذه الصيغة، مثل نصوص الوعيد تتضمن النهي بلا شك وزيادة، ولكنها ليست بالصيغة المعروفة، الجملة التي معنا "نهيت"، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الصيغة التي جاءت من الله عز وجل موجهة إلى الرسول، فلا نستطيع أن نقول: هو بالصيغة المعروفة، بأن قال الله: لا تقرأ القرآن يا محمد راكعًا ولا ساجدًا، أو أنها بصيغة الوعيد على من قرأه، فمع هذا الاحتمال ننظر للراجح، فما هو الأصل الذي يرجح أحد الاحتمالين؟ أنه بصيغة معروفة: "لا تقرأ القرآن". قوله: "راكعًا" حال من فاعل "أقرأ" "أو ساجدًا"، (أو) للتنويع، ثم لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا، كان من عادته أنه إذا نهى عن شيء ذكر ما يحل محله، قال: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب"، لأن الركوع أصلًا للتعظيم، فالانحناء للغير يعني: التعظيم له، فكان من المناسب أن يكون ذكره هو ذكر التعظيم "عظموا فيه الرب"، والأمر بالتعظيم هنا مجمل، لكن بينته السنة

حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا ركع: "سبحان ربي العظيم"، ولما نزلت آية: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} قال: "اجعلوها في ركوعكم". وقوله: "الرب"، "أل" هنا للعهد الذهني؛ لأنه معلوم بالذهن، وليس للعهد الذكري ولا للعهد الحضوري، أما العهد الذكري فانتفاؤه لأنها لم يسبق لها ذكر، وأما الحضوري فلأنها لم تأت على الوجه المعروف في "أل" الحضورية، وقوله: "وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء"، لكن مع التسبيح الواجب وهو "سبحان ربي الأعلى"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يقول: "سبحان ربي الأعلى"، ولما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال: "اجعلوها في سجودكم"، يعني: قولوا في السجود: "سبحان ربي الأعلى"، وإنما كان ذكر السجود بهذه الصيغة "سبحان ربي الأعلى"، لأن وضع الإنسان جبهته وهي أعلى ما في جسمه تدل على النزول، فكان المناسب أن ينزه الله عز وجل عما كان عليه العبد الآن، ويقول: هذا من باب ذكر الشيء بمقابله، فأنت لما نزلت جبهتك أثنيت على الله عز وجل بأنه الأعلى الذي لا يليق به أن يكون نازلًا، "فقمن أن يستجاب لكم" "قمن" لها معنى: حقيق أو حرى المعنى: أنكم إذا دعوتم الله حال السجود فهذا أقرب إلى الإجابة، حري أن يستجاب لكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر "أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، مع أننا لو نظرنا إلى الأمر الحسي لكان السجود أبعد؛ لأن الإنسان كله يكون في الأرض لكنه لما كان نزولًا لله عز وجل كان ذلك أقرب إلى الله. في هذا الحديث دليل على فوائد منها: أن الشيء المهم ينبغي أن يستعمل الإنسان فيه ما يدل على الانتباه لقوله: "ألا" كل شيء تريد أن تنبه عليه وتعتني به فأت بأداة التنبيه، وانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" كيف كرر هذه الأداة التي هي للتنبيه والاستفتاح لأهمية الموضوع. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عبد يوجه إليه الأمر والنهي لقوله: "ألا وإني نهيت" ومن فوائده أن الأحكام الثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم هي لأمته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبرنا أنه نهي إلا من أجل أن نتأسى به، واعلم أن الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما دل الدليل على أنه خاص به فهو خاص به.

والقسم الثاني: ما دل الدليل على أنه للأمة فقط فهو للأمة. والثالث: ما لم يدل عليه دليل لا هذا ولا هذا فهو له وللأمة لأن الله تعالى قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] فهنا لما نهي الرسول- عليه الصلاة والسلام- هل نقول: إن النهي خاص به أو عام؟ عام؛ لأنه إذا لم يوجد دليل على الخصوصية وجب أن يكون عامًا أي إنسان يقول لك هذا موجه للرسول فقل: نعم، لكنه إذا وجه للرسول فهو موجه لنا؛ لأننا مأمورون بإتباعه. ومن فوائد هذا الحديث: عظمة القرآن العظيم وجهه: أنه نهى الإنسان المصلي الذي يناجي الله أن يقرأ القرآن في حال الركوع والسجود؛ لأن حالة الركوع والسجود فيها نوع من التواضع من الإنسان، فلا يليق بالقرآن أن يكون تاليه على هذا الحال، أرأيت الآن لو أنك تحدثني وأنت راكب أو تحدثني وأنت ساجد أو تحدثني وأنت قائم أيهما أبلغ في التعظيم؟ وأنت قائم لو حدثني وأنت راكب قلت: هذا الرجل لا يبالي بي ولا يهتم بي، أو واحد مثلًا يحكي كلامًا لشخص يقول: أيها الناس اصبروا فإني سأحدثكم حديثًا عن فلان حضر الناس وجلسوا يتحدثون ماذا يصير هذا؟ غير لائق لهذا قال أهل العلم: لما كان القرآن الكريم عظيم المنزلة كان حقه أن يكون حال ارتفاع الإنسان يعني: وهو قائم. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان لو قرأ القرآن وهو راكع أو ساجد بطلت صلاته لأنه أتى بقول منهي عنه بخصوص الصلاة فكان مفسدًا لها، فلو أن الإنسان ركع وبدأ يتلو قول الله تعالى: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]. فصلاته باطلة؛ لأنه أتى بقول منهي عنه فتبطل صلاته، كما لو تكلم في الصلاة بكلام الآدميين المنهي عنه، وإلى هذا ذهب ابن حزم رحمه الله، والظاهر أن الظاهرية مثله، وقالوا: هذا منهي عنه بخصوصه، والإنسان إذا قرأ القرآن في حال الركوع، فإنه عاص لله معصية خاصة بالصلاة فتبطلها، لكن أكثر أهل العلم يقولون: إن الصلاة صحيحة ويجيبون عن هذا بأن النهي ليس لذات القرآن ولكن لمحل القرآن وإلا فإن القرآن مشروع في الصلاة فهو من جنس الأذكار المشروعة فيها، فالنهي ليس لذات القرآن، بل لكونه في هذا المحل، وبعدوا بذلك عن القول بإبطال الصلاة. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان لو دعا في سجوده بآية من كتاب الله مثل أن يقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ} [آل عمران: 147]. فإن ذلك جائز؛ لأنه لم يقرأ القرآن لكن دعا بالقرآن بخلاف ما لو قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ

رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]. فهنا ينهى عنه، ولذلك لو أن الجنب دعا بالآية: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ} [آل عمران: 147] لكان هذا جائزًا لأنه دعا بالقرآن والحديث الذي معنا "أن أقرأ القرآن" بأن يتلوه يريد قراءته، وعليه فإذا دعا بما يوافق القرآن فلا حرج عليه في ذلك ولا إثم عليه. ومن فوائد هذا الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وحكمته في تعليمه، وهو أنه لما ذكر ما ينهى عنه عوض عنه ما يحل ويؤمر به، كيف هذا؟ أنه لما قال: "نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا وساجدًا" أتى بعوض وهو أن الركوع يعظم فيه الرب، وأن السجود يكثر فيه من الدعاء وهذه الطريقة هي طريقة القرآن الكريم قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة: 104] فنهى عن الكلمة وأتى بعوضها كذلك السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: ما شاء الله وشئت، ولكن ما شاء الله وحده"، ولما أوتي إليه بتمر جيد قال: "من أين هذا؟ " قالوا: يا رسول الله، نأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة قال: "أوه عين الربا"، وأرشد عليه الصلاة والسلام إلى أن يباع التمر الرديء ويؤخذ القيمة ويشترى بالدراهم تمرًا جيدًا، فلما نهى عن هذه المعاملة أتى بمعاملة بدلها. وهكذا ينبغي لكم إذا نهيتم الناس عن شيء والناس قد ابتلوا به، أن تذكروا عوضه المباح لئلا توقعوهم في حرج أو لا يمتثلوا ما نهيتم عنه، ثم إذا فعلتم هذا فإنما سرتم على ما سار عليه القرآن وسار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أما بعض الناس مثلًا يأتي ويوعظ الناس ويقول: هذا حرام، وهذا حرام ويسكت، والناس محتاجون إليه إذا لم يجدوا بدله فلن يمتثلوا ليس هذا بصواب بل يقول: هذا حرام أن يقول: ولكن هذا حلال لأجل أن يكون للناس متسع. ومن فوائد هذا الحديث: أن الركوع محل التعظيم: "عظموا فيه الرب"، الواجب: "سبحان ربي العظيم" كما جاءت به السنة، لكن لو قال: "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، يجوز أو لا يجوز؟ يجوز؛ لأن هذا من تعظيم الرب، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلق، لكنه بين أنه يقول: "سبحان ربي العظيم"، وإذا أتى بما يدل على تعظيم الله فهو جائز لا شك لأنه داخل في العموم. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات اسم الرب لله عز وجل الرب في القرآن الكريم لم يأت إلا مضافًا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ}، {رَّبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ}، وما أشبه ذلك، لكن السنة

جاءت به معرفًا بـ "أل" في هذا الحديث، وهو كما رأيتم في الصحيحين، وكذلك في السنن: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب". فالرب عند الإطلاق هو الله- سبحانه وتعالى- وعلى هذا فيجوز أن تضيفه إلى الأسماء الحسنى لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الله به. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي الاجتهاد في الدعاء حال السجود اجتهد في الدعاء يعني: بالغ فيه ببذل الجهد القلبي والنطقي؛ بمعنى: أن تدعو الله بإخلاص وصدق وافتقار إلى الله عز وجل ما تدعو على أن هذا الشيء معتاد لك كما يوجد منا في كثير من الأحيان يدعو الإنسان على شيء معتاد لا أدع الله بإلحاح وصدق وإخلاص، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على هذا لأن هذا أرجى للإجابة. ومن فوائد هذا الحديث أن للإنسان أن يدعو بما شاء وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيد، لم يقل: الدعاء للآخرة، أو لا تدعو للدنيا فادع بما شئت أما الدعاء للآخرة فواضح الدعاء للدنيا يجوز تقول: "اللهم ارزقني بيتًا ملكًا واسعًا" يجوز أن تقول: "اللهم ارزقني سيارة فخمة" يجوز أن تقول: "اللهم ارزقني لباسًا جديدًا"، أي شيء تدعو به جائز إلا أن تدعو بإثم أو قطيعة رحم، وأما قول بعض العلماء لا يجوز الدعاء بشيء من أمور الدنيا فهذا ضعيف إلى من أذهب إذا احتجت شيئًا في دنياي؟ أدعو غير الله؟ ! ثم إني دعوت في الصلاة التي هي أقرب للإجابة فادع الله بما شئت من أمور الدين والدنيا، إنسان عليه درس صعب فجاء في سجوده فقال: "اللهم سهل علي مادة الإنجليزية" جائز أم غير جائز؟ جائز كل دعاء يجوز ما لم يكن إثًمًا أو قطيعة رحم ادع الله به، وجه ذلك: أن نفس الدعاء عبادة، أنا ما خرجت بدعائي عن عبادة الله عز وجل نفس الدعاء عبادة، حتى لو سألت شيئًا من أمور الدنيا فهو عبادة، فكيف نبطل الصلاة بذلك؟ فالقول بأنه لا يجوز الدعاء بشيء من أمور الدنيا قول ضعيف ولاسيما وأن لدينا عموم: لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم التشهد قال: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء". ومن فوائد هذا الحديث: أن بعض الأحوال تكون أقرب إلى الإجابة من بعض فهنا الدعاء في السجود أقرب إلى الإجابة من الدعاء في الركوع لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه وقال: "إنه أحرى"، فالإنسان له أحوال تكون الإجابة فيها أقرب كذلك هناك أزمان تكون الإجابة أقرب: كثلث الليل الآخر، وبين الأذان والإقامة وما أشبه ذلك كذلك يكون بعض الأمكنة أقرب إلى إجابة الدعاء كالكعبة المشرفة وما أشبه ذلك، المضطر يجاب من أي الأنواع؟ من الأحوال. إذا قال قائل: أليس قد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزلت سورة النصر

أذكار الركوع والسجود ومعانيها

كان يكثر أن يقول في ركوع وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم أغفر لي"؟ فالجواب: بلى، لكن هذا لا ينافي "عظموا فيه الرب"؛ لأنك إذا قلت هذا مرة في الركوع - وأكثر الأذكار تعظيم- لم يخرج عن الحديث، وعليه يكون قول الإنسان: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" في الركوع لم يتعارض مع هذا الحديث. أذكار الركوع والسجود ومعانيها: 283 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي". متفق عليه. "كان يقول في ركوعه وسجوده" أي: إذا ركع وإذا سجد بالإضافة إلى تسبيح الأصل وهو "سبحان ربي العظيم" في الركوع و "سبحان ربي الأعلى" في السجود، يقول في الركوع: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك" سبحانك أي: تنزيهًا له عن كل ما لا يليق بعظمته وسلطانه - جل وعلا - فينزه عن كل نقص القدرة لله عز وجل بلا عجز، والقوة بلا ضعف، والسمع بلا صمم، والبصر بلا عمى .... وهكذا، فالتسبيح أي: التنزيه عن كل ما لا يليق بالله عز وجل وقالوا: إنه مأخوذ من قولهم: "سبح الرجل في الماء": إذا نزل فيه وأبعد. وقوله: "اللهم" يعني: يا الله، هذا أصلها، حذفت الياء تبركًا بالبداءة باسم الله عز وجل، وعوض عنها الميم حتى لا تنقص الجملة، وصارت الميم في الآخر، لأنها تدل على الضم والجمع فكان قائل: "اللهم" قد جمع قلبه ولسانه على دعاء الله عز وجل. "وبحمدك" الواو حرف عطف، والباء للمصاحبة؛ يعني: وذلك تسبيحي مقرون بالحمد، والحمد يكون على كمال الصفات، فإذا جمعنا بين التنزيه وكمال الصفات كمل الموصوف؛ لأنه لا يكمل الشيء إلا بانتفاء وإثبات؛ بانتفاء العيوب وإثبات الكمالات، فلهذا إذا جمع بين التسبيح والحمد؛ فقد جمع بين نفي كل ما لا يليق بالله عن الله وإثبات صفات الكمال لله عز وجل. "اللهم اغفر لي" أي: يا الله اغفر لي والمغفرة: هي ستر الذنب والتجاوز عنه، لأنها مأخوذة من المغفر: وهو ما يوضع على الرأس مما يسمى بالبيضة والخوذة ليتقي به سهام العدو، فهو جامع بين الستر والوقاية، ولهذا لا تحل المغفرة إلا بذلك فلو أن الإنسان فضح بذنبه في الدنيا ولم يعاقب عليه في الآخرة، فإنه لا يقال: غفر له؛ لأنه عوقب، وإذا ستر عليه في الدنيا ولكن عوقب عليه في الآخرة، فإنه لا يقال: إنه غفر له، لأنه عوقب عليه، فالمغفرة تتضمن هذين الشيئين وهما الستر والوقاية. هذا الحديث له سبب وهو: أن الله أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ ... }

الآيات. قالت عائشة: "لم يكن يدع الدعاء بهذا حين أنزلت عليه هذه السورة"، وهي - أعني: السورة - إيذان بقرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، كما فهم ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ووافقه على هذا عمر. في هذا الحديث دليل على فوائد منها: استحباب هذا الدعاء في الركوع والسجود. فإن قال قائل: أما السجود فواضح؛ لأنه محل دعاء، لكن الركوع أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الركوع عظموا فيه الرب" والسجود أكثروا فيه من الدعاء؟ فالجواب: بلى، ولكن دعاء الله لا ينافي تعظيمه، ويكون هذا الدعاء مستثنى، فيقال: ادعوا بهذا في الركوع كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون هذا مستثنى من قوله: "عظموا فيه الرب" والسجود ادعوا فيه. ومن فوائد هذا الحديث: كمال الله عز وجل في صفاته لكونه تنزه عن كل نقص واتصف بكل كمال، من أين يؤخذ هذا؟ من قوله: "سبحانك اللهم". هذا التنزه من كل نقص، والثاني: ثبوت صفات الكمال من قوله: "وبحمدك". ومن فوائد هذا الحديث: طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يغفر له كما أمره الله {واسْتَغْفِرْهُ}، وفي هذا إشكال؛ وهو أن الله - تبارك وتعالى - أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 1]. والفتح قد حصل، فيكون المعلول حاصلًا وهو المغفرة، فكيف يدعو بالمغفرة؟ فالجواب: أن هذا من باب كمال التذلل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لله عز وجل، وأن هذا من باب التأكيد لما ثبت، والتوكيد لما ثبت أمر معلوم في اللغة العربية. فإن قال قائل: لعل هذا من باب تعليم الأمة وليس مقصودًا لذاته؟ فالجواب: هذا جواب سخيف إذ كيف يشرع النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا في صلاته من أجل التعليم مع أنه يمكن أن يعلم الناس بالقول، ويقول: استغفروا الله كما أمركم بهذا صلى الله عليه وسلم، وهذا الجواب - أعني: أن المقصود بذلك التعليم دون التعبد به - جواب كما قلت لكم سخيف، وقد أجاب به من قال: بعد الصلاة لا يجهر بالذكر، وقال: إن جهر النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة من أجل تعليم الناس هذا خطأ ومغالطة؛ إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم يمكنه أن يعلم الناس بالقول دون أن يشرع شيئًا في العبادة. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يقع منه ما يحتاج إلى المغفرة لقوله: "اللهم اغفر لي" فهل يعني ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم تجوز عليه الذنوب؟ الجواب: نعم، لكن هناك ذنوبًا لا يمكن

أن تقع من النبي صلى الله عليه وسلم وهو كل ما ينافي كمال المروءة أو كمال الرسالة، هذا ممنوع مطلقًا؛ فالرسل الكرام - عليهم الصلاة والسلام - يمنعون مما يخل بالمروءة والآداب مثل: الزنا، اللواط، السرقة وما أشبه هذا. هم معصومون منه، معصومون أيضًا مما يخل بالرسالة كالكذب والخيانة، الكذب ينافي الرسالة؛ لأن الكاذب ليس أهلًا للصدق، الخيانة أيضًا تنافي الرسالة؛ إذ إن الخائن لا يمكن أن يوثق بقوله. أما الذنوب الأخرى التي تقع عن اجتهاد فهذه تقع، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]. فقال: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ} قدم العفو قبل ذكر الذنب، وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1)} [التحريم: 1]. فبين الله أن هذا ذنب، لكنه غفر لقوله: {واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. ومن ذلك أن الله تعالى قال: {واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]. فصرح أن له ذنبًا، وكذلك للمؤمنين والمؤمنات، وأما قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، علانيته وسره"، فالمراد: ذنب أمته، فهذا من باب تحريف الكلم عن مواضعه. ونقول: أأنتم أعلم برسول الله من رسول الله؟ سيقولون: لا، إذن كيف ينسب إلى نفسه ذنبًا وهو لا يفعل الذنب وهو لا شك لو كان، لكان جناية على نفسه - عليه الصلاة والسلام - إذ يصفها بالذنب وهي لم تذنب، فإذا تقرر هذا فاعلم أن الرسل معصومون من الاستمرار في الذنب؛ بمعنى: أنه لابد أن يتوبوا إلى الله إما بانتباه من أنفسهم، وإما بتنبيه من الله، وبهذا يحصل الفرق بينهم وبين سار المؤمنين، فالمؤمن غير معصوم من الاستمرار في المعصية، لكن الرسل معصومون، وبهذا يحصل الفرق بين الذنوب التي تقع من المؤمنين ومن النبيين. ثم اعلم أيضًا أن الإنسان يكون الذنب له بمنزله صقل الثوب وغسله؛ حيث يخشى من الله عز وجل، ويرى الذنب أمام عينيه، ويجد نفسه مستحيًا من الله - تبارك وتعالى -، فينيب إليه ويزداد رغبة بالوصول إلى مرضاته، بخلاف الإنسان الذي لم يشعر بالتقصير يستمر على ما هو عليه، ولهذا لما أكل آدم - عليه السلام - من الشجرة وأخرجه الله من الجنة، قال الله تعالى فيه: {وعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهَدَى} [طه: 121 - 122]. فكان الاجتباء بعد المعصية. جرب هذا نجد إذا أذنبت ذنبًا وجدت نفسك منكسرة منهزمة أمام الله عز وجل، فتكثر من العمل الصالح، وتزداد رغبة فيما عند الله، فيكون هذا الذنب سببًا لتطهير القلب، ويكون الإنسان بعد التوبة خيرًا منه قبل التوبة.

تكبيرات الانتقال وأحكامها

تكبيرات الانتقال وأحكامها: 284 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد ثم يكبر حين يهوي ساجدًا، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها، ويكبر حين يقوم من اثنين بعد الجلوس". متفق عليه. هذا الحديث في بيان التكبيرات- تكبيرات الانتقال وكذلك تكبيرة الإحرام- يقول أبو هريرة صلى الله عليه وسلم: "كان النبي إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم"، وهذه تكبيرة الإحرام، وسبق أن لها شروطًا منها: أن تقع بهذا اللفظ، فلو قال: الله أعظم، أو أجل، أو أعز، أو أكرم لم تنعقد الصلاة، فيقول: "الله أكبر". قال: "ثم يكبر حين يركع" يعني: إذا أهوى إلى الركوع، لأن هذا التكبير تكبير انتقال فيكون حالة الانتقال، قوله: "ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع"، يقول إذا رفع في حال النهوض: "سمع الله لمن حمده"، ومعنى "سمع الله لمن حمده" أي: استجاب لمن حمده، واستجابة الحمد هي الإثابة عليه؛ لأنه ليس دعاء، ولكن متضمن للدعاء؛ لأن كل من أثنى على الله عز وجل ماذا يريد من الله؟ يريد الثواب والآجر، فالثناء على الله متضمن للدعاء. يقول: "ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد". "وهو قائم" يعني: بعد أن يستتم قائمًا يقول: ربنا ولك الحمد، "ربنا": منادي منصوب بياء النداء المحذوفة؛ لأنه مضاف، والتقدير: يا ربنا وقله: "ولك الحمد" معطوف على جملة محذوفة بعد النداء؛ يعني: يا ربنا أثبنا ولك الحمد، فالواو حينئذ معطوفة على جملة محذوفة، وسبق معنى الحمد. "ثم يكبره حين يهوي ساجدًا" ويجوز: "يهوى" بفتح الياء من يهوى أو من هوى، وهذا أيضًا تكبيرة انتقال ما بين القيام والسجود، وقوله: "ساجدًا" حال من فاعل يهوي، "ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها، ويكبر حين يقوم من اثنتين بعد الجلوس"، هذه التكبيرات- كما تعلمون- متفق على أن تكبيرة الإحرام ركن لابد منه. ولكن هل يشترط أن تكون بلفظ التكبير، أو تكون بلفظ التكبير وما كان في معناه؟ فيه خلاف، والقول الراجح: أن تكون بلفظ التكبير "الله أكبر"، لو مد الهمزة في "الله" لم تصح؛ لأنها تقلب الجملة الخبرية إنشائية، ولو مد الباء في قوله: "أكبر" لم تصح التكبيرة؛ لأنها تنقل المعني إلى معنى آخر، فـ"أكبار" عندهم في اللغة جمع كبر كأسباب جمع سبب، والكبر هو: الطبل، فالمعنى يفسد بهذا بلا شك.

هل يُشترط أن تكون بالهمزة، أو يجوز أن تكون بالواو؟ اللغة العربية تًجيز أن تبدل الهمزة واوًا إذا ضُم ما قبلها، وعليه كثير من المؤذنين اليوم؛ إذ نجده إذا كبر يقول: "الله أكبر"، والحمد لله أن كانت فيه لغة، كما أننا نحمد الله أن وجدت في إن وأخواتها لغة بنصب الجزأين، وعليه يتخرج صحة قول بعض المؤذنين: "أشهد أن محمدًا رسول الله"، لو سألت المؤذن ماذا تريد بهذه الجملة؟ قال: أنا أريد بها أم محمدًا رسولُ الله، فهو قد اعترف الآن بأن "الرسول" خبر لكنه نصبها، وهي لغة والحمد لله وعليها قول الشاعر: إنّ حُرَّاسَنَا أُسْدًا -بالنصب- أمّا على اللغة المشهورة فإنه إذا قال: "أشهد أن محمدًا رسولَ الله" فالجملة لم تتم؛ لأن "الرسول" تكون صفة تحتاج إلى خبر. وبقية التكبيرات غير تكبيرة الإحرام اختلف فيها العلماء -رحمهم الله-، منهم من قال: إنها سُنة تصح الصلاة بدونها ولو تركها عمدًا، ومنهم من قال: إنها واجبة ولكنهم اتفقوا على أنها ليست من الأركان. مَنْ قال: إنها واجبة، يعني: أنه لو تعمد تركها بطلت الصلاة، وإن تركها سهوًا جُبرت بسجود السهو؛ هذا القول هو الراجح أنها واجبة، دليل الوجوب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُواظب عليها لم يتركها قط، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أُصلي"، وأي شيء واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "صلوا كما رأيتموني أُصلي" لا يمكن أن نقول: إنه سُنة، وأن الإنسان مُخير بين فعله وتركه من جهة النظر، إن هذه الانتقالات لابد لها من فاصل تميز بعضها عن بعض وذلك بالتكبير. من فوائد هذا الحديث: أن التكبير يكون عند الانتقال من الركن إلى الركن، ولابد أن يكون فيما بين الركنين، مثلًا إذا أراد أن يسجد يكبر، يكون التكبير ما بين حركته إلى الهوي يسجد لو بدأ به قبل أو كمله بعد، فكمن تركه على المشهور من المذهب، قالوا: لأنه قبل أن يُهوي إلى السجود، ومثلًا في قيام له ذكر خاص، فلا يمكن أن تدخل ذكرًا في غير محله، كذلك في السجود، السجود له ذكر خاص، لو أكملت التكبير في السجود لأدخلت ذكرًا في غير محله، لذا بدأ به قبل أو أكلمه بعدُ فإنه لا يُجزئ، ولكن نعلم أن هذا أمر لو أخذنا به لشققنا على كثير من الأئمة فضلاٌ عن المأمومين.

ولهذا كان القول الراجح في هذه المسألة: أنه لو شرع فيه قبل أن يتحرك إلى الركن الثاني، ولكنه أكلمه في حال الهوي فلا بأس، وكذلك لو أكمل بعد أن وصل إلى الركن الثاني فلا بأس، لو كبَّر التكبير كله قبل أن يهوي فهنا نقول: لا يُجزئ؛ لأنه أتى بذكر مشروع في غير محله وترك ذكرًا واجبًا في محله، كذلك أيضًا لو لم يكبًّر إلا إذا وصل إلى الركن الثاني فإن ذلك لا يُجزؤه، لماذا؟ لأنه ترك ذِكرًا واجبًا في محله وأتى بذِكر في غير محله. والعجب: أن بعض المجتهدين من الأئمة عن غير علم في حال السجود يقول: لا أكبِّر حتى أصل إلى الأرض، لماذا يا شاطر؟ قال: لئلا يسبقني الناس في السجود، لو كبّرت من حين أهوي لوصل الناس للسجود قبلي، وهذا لا يجوز، لأن الواجب أن يقوم الإنسان بما عليه ومن خالف على نفسه، أما أن أُغير ما شُرع من أجل هذا المأموم فهذا لا يجوز، إذن القول الراجح: أن تكبيرات الانتقال واجبة، وأنه لا حرج أن يبدأ بها قبل أن يتحرك أو يُنهيها بعد أن يصل إلى الركن الثاني. ومن فوائد الحديث: أن ظاهره أن التكبيرات سواء، يعني: تكبيرة الهُوِي إلى السجود كتكبيرة القيام للجلوس ولا فرق، لأن أبا هريرة لم يقل: وكان يُطيل التكبير في المكان الفلاني، أو يقصرهما في المكان الفلاني، وهذا هو الأصل؛ لأنه لو كان هناك تغيير لنُقل وذُكر، فلما لم يُنقل ويُذكر عُلم أنه لا تغيير، وأن التكبيرات على حد سواء، وهذا هو الراجح وهو الذي يُعد فيما أظنه سُنة النبي صلى الله عليه وسلم وكنا قبلُ نسير على حسب ما يعمله مشايخنا -رحمهم الله- نفرق بين التكبيرات؛ يعنى: تكبيرة الجلوس بين اثنتين، وتكبيرة الجلوس للتشهد الأول وللتشهد الأخير، حتى صلى معنا بعض طلبة الحديث وقال لي: ما دليلك على هذا التكبير؟ فما لي إلا عمل المشايخ، قال: عمل المشايخ ليس بحجة، عمل المشايخ يُحتج له ولا يُحتج به، وظاهر السُّنة أولى بالإتباع، فقلت: جزاك الله خيرًا، هذا -إن شاء الله- هو الحق، وبدأنا -والحمد لله- نسير على هذا وأول ما بدأت أعمل -يعنى: هذه التكبيرات التي لا يتميز بعضها عن بعض-، بدأ الناس يقولون: سبحان الله، سبحان الله! لماذا؟ لأنّا عودناهم على التفريق بين التكبيرات كما كان عليه عمل المشايخ كما قلت سابقًا، لكن في النهاية حصل الخير وعرفوا الحق. وفيه من الفوائد مع موافقة ظاهر السُّنة: أن المؤمنين كل واحد منهم يحترز ويحتاط وينتبه، لئلا يقوم في محل الجلوس، أو يجلس في محل القيام، يعني: يضبط نفسه، أما لو كان على حسب التغير لكان آلة ميكانيكية؛ إذا جاء التكبير الذي يُمد قام، وإذا جاء الذي يُخفف جلس، فكان في هذا فائدة ثم فيه فائدة ثالثة: وهي أنه إذا كان بعض المأمومين ليس يشاهد في مكان آخر، كما في

محل النساء مثلًا، وكان الإمام يُميز بين التكبيرات، ثم قال: "الله أكبر" وجلس في الثالثة وسبحوا به، سيقوم بلا تكبير، الذين في المكان الثاني سوف يبقون جالسين؛ لأن هذا التكبير تكبير جلوس، ولا يعلمون أنه تغير في هذا الحال يبقون جالسين، أما إذا كان التكبير لا تمييز فيه فإنه لا تمييز لتكبير الجلوس والقيام، فإذا نبهه الذين في مكانهم وقام، فإذا الذين لا يشاهدونه قد قاموا بناء على هذه الركعة الثالثة مثلًا. فما أكثر إتباع السُّنة بركة حيث يحصل به فوائد كثيرة. بعض الأئمة يفرق جدًا جدًا في هذا التمييز حتى رأيت من يُفرق بين الجلوس للتشهد الأول والجلوس للتشهد الثاني، وصليت وراءه، فوجدته كلما وصل إلى الجلوس للتشهد الأول جعل يمده مدًا عاديًا مثل بقية الأئمة، وإذ أتى إلى التشهد الأخير يمد طويلًا فتعجبنا؛ لأن هناك أئمة جُهال تجد أحدهم يصلي في الطرقات ويقول: "الله ويخفي آخر التكبير؛ أي: يلفظ بلفظ الجلالة بصوت مرتفع، بينما يخفي آخر التكبير "أكبر" إخفاء عظميًا يغلب على ظني أنه ليس عندهم مستند من الشرع وهو كذلك، لكن مستندهم أنهم يسمعون أئمة الحرم إذا كبروا صار آخر التكبير خفيفًا؛ لأنهم يبعدون عن اللاقطة، فظن بعض هؤلاء أن هذا هو السُّنة، ولذلك يجب على الإمام أن يتعلم، قال بعض الناس: إن هذا التكبير مده أو خفضه حسب الطبيعة، لكن هذا غير صحيح؛ لأنه لو كان حسب الطبيعة لم يكن فرق بين الجلوس للتشهد والجلوس لما بين السجدتين؛ لأنهم في كل رفع يطيلون التكبير بل هو شيء متعمد ليس على حسب الطبيعة يتعمدون المد وغيره، ولم أر في كتب الفقهاء السابقين التمييز بين التكبيرات إلا في التكبيرة من القيام إلى السجود أو من السجود إلى القيام، وذلك لطول المسافة، فيطيلون التكبير، لكن السُّنة أحق أن تُتبع ألا نفرق بين هذا وهذا. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإمام يقول: "سمع الله لمن حمده"، وبعد أن يستتم قائمًا يقول: "ربنا ولك الحمد"، وهل المأموم مثله، وهل المنفرد مثله؟ الجواب: أما المنفرد فنعم مثله يقول: "سمع الله لمن حمده" حين الرفع، ويقول بعد استكمال القيام: "ربنا ولك الحمد". أما المأموم، فقال بعض أهل العلم: إنه يقول: "سمع الله لمن حمده"، ويقول: "ربنا ولك الحمد" كالإمام، ولكن القول الراجح في هذه المسألة: أن المأموم إذا قال الإمام: "سمع الله لمن حمده" يقول: "ربنا ولك الحمد"؛ لأن هذا هو صريح الحديث حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به" إلى أن قال: "وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد"، مع أنه قال: "إذا كبر فكبروا"، ففرق بين التكبير وبين التسميع، التكبير قال: "إذا كبر فكبروا"، التسميع، إذا قال:

سمع الله لمن حمده فقل: سمع الله لمن حمده، بل قال: "إذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد" وعلى هذا فالمأموم يقول: "ربنا ولك الحمد" حين نهوضه من الركوع. *وفي قوله: "ربنا ولك الحمد" سنن متنوعة: الأولى: "ربنا ولك الحمد" كما في الحديث. الثانية: "ربنا لك الحمد" بحذف الواو. والثالثة: "اللهم ربنا ولك الحمد" بالجمع بين اللهم والواو. والرابعة: "اللهم ربنا لك الحمد". كل هذه ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهل الأولى المحافظة على واحدة من هذه الصيغ والاستمرار فيه، أو الأولى أن يُقال هذا مرة وهذا مرة، أو الأولى أن يؤخذ بأكثر منها وهو: "اللهم ربنا ولك الحمد"؟ الصواب: الثاني دون الثالث ودون الأول؛ بمعنى: أنك تأخذ بهذا تارة وبهذا تارة، هذا واضح فيما إذا كان الإنسان بُصلي لنفسه، وفيما إذا كان مأمومًا أن ينوع، لكن إذا كان إمامًا فهل يُنوع أو لا ينوع؟ ننظر كما قلنا لكم سابقًا: لأن المسألة تربية وتعظيم للدين، وعلى ذلك فإذا كانوا جماعة طلبة علم فالأولى من الإمام أن ينوع؛ لأن الأمر ليس مُشكلًا عليهم، لكن إذا كانوا عوامًا هل من المستحين أن الإمام يقول: "اللهم ربنا ولك الحمد" اليوم، و"ربنا لك الحمد" غدًا، هذا يُشكل عليهم على أنه سيخالف السُّنة من وجه آخر، وهو أن يجهر بـ "ربنا ولك الحمد" وهو غير محل جهر الإمام لا يجهر بربنا ولك الحمد؛ لأنه يُسمع ويجهر بالتسميع ويكفي. هذه المسائل يجب أن يراعى فيها أحوال العوام، القراءات الواردة في القرآن الكريم لا شك أنها سُنة، وأن الإنسان ينبغي أن يقرأ بها على الروايات حفاظًا على ما ورد في القرآن، ولأجل أن يعرف أن بعض القراءات يفسر بعضها بعضًا، لكن هل يقرأ بهذه القراءات المخالفة عندما يكون بين أيدي العوام؟ لا، لا يقرأ؛ لأن العوام كما قيل: هوام ما يفقهون الشيء، ثم في ظني أن القرآن سينقص قدره في نفوسهم إذا كان هذا يقرأ كذا، وهذا يقرأ كذا، حتى إني سمعت بعض العوام يسخر بقراءة الإمالة في "طه" و "الشمس وضحاها" وما أشبه ذلك، إذن كيف أقرأ بالإمالة بين العوام؟ إن القراءة بالإمالة تؤدي إلى أن يستهينوا بالقرآن ويسخروا به، القرآن مُعَظم في قلوب الناس لا تقرأ عليهم غير ما يفهمون، ولهذا جاء في حديث علي: "حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله" 4، وقد أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه

أذكار القيام من الركوع ومعانيها

على من قرأ آية من القرآن على خلاف ما قرأها عمر، يعني: كذب بها، لكن قبل أن تثبت عنده روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالعامي إذا أتيت إليه بقراءة خارجة عما يعرف ربما يُنكرها، ويُكذّب بها، ويسخر بالذي قرأها أيضًا؛ لأنه لا يعرف، فلاحظوا هذه المسألة في توجيهاتكم للناس، دعوا الدين محترمًا بين العوام حتى يبقى مؤثرًا في نفوسهم، أنا أذكر أن التهجد في رمضان كان (23) ركعةـ، لأن التراويح عند الناس معظمة جدًا، فبدأ الناس يختصرونها حتى أوصلوها إلى (13) ركعة فخفت بذلك عند الناس، لكن -الحمد لله- الآن لما كان أكثر الأئمة يقتصرون على إحدى عشرة وثلاث عشرة بقي التعظيم، فالأصل أن العوام يبقون على ما هم عليه ما لم يُخالف الشرع. ومن فوائد هذا الحديث: التكبير إذا سجد وإذا رفع من السجود في جميع الركعات، كم يكون من تكبيرة إذا استثنينا تكبيرة الإحرام؟ في الرباعية يكون حوالي (21) تكبيرة. يقول: "ويكبر حين يقوم من اثنتين بعد الجلوس" حين يقوم يعني: إذا شرع في القيام إلى الركعة الثالثة كبّر، وهذه التكبيرة كغيرها؛ أي: أنها من واجبات الصلاة، والواجبات عند أهل الفقه -رحمهم الله- يقولون: مَنْ تعمد تركها بطلت صلاته، ومن سها فيها جُبرت بسجود السهو قبل السلام؛ لأنها عن نقص. أذكار القيام من الركوع ومعانيها: 285 - وعَنْ أَبِي سَعِيد الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِن الرُّكُوعِ قال: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ , وَمِلْءَ الأَرْضِ , وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ. رواه مسلم. يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد"، وأما حين رفعه فيقول: "سمع الله لمن حمده"، ولم يشأ أبو سعيد رضي الله عنه أن يقول ذلك؛ لأنه يريد أن يُبين الذكر الذي يكون بعد القيام من الركوع، وسبق الكلام على قوله: "اللهم ربنا لك الحمد" وبيَّنا أن السُّنة وردت في هذا على أربعة أوجه. قال: "ملء السموات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد": ملء الشيء: ما ملأه، و "السموات"كما نعلم سبعة واسعة عظيمة كما قال عز وجل: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} [الذاريات: 47]. وملء الأرض: يعني الأرضين السبع كلها، واختلف العلماء في معنى "ملء" فقيل: المعنى أنه لو كان أجسامًا لملأ السموات والأرض، وهذا فيه نظر؛ لأنه إذا كان أجسامًا فسوف

يحصل فرق عظيم في الكمية؛ لأن الأجسام الكبيرة يقل عددها إذا ملأت السموات والأرض، والصغيرة يكثر عددها، وهكذا يختلف اختلافًا كثيرًا في الكمية، وإذا كنا نريد أن تكون الكتلة واحدة لا يحتاج إلى أن نقول: لو كان أجسامًا لملأ ذلك، فإذا كنا نقدر أن هذا الحمد أجسام متفرقة لزم من ذلك أن تختلف الكمية اختلافًا كثيرًا، أرأيت حب البر كم يكون عدده إذا وضعته في الفنجان؟ قل مثلًا: خمسمائة حبه، لكن حب الحمص يكون أقل من هذا بكثير، وإن جعلتها كتلة واحدة لا تقل: أجسامًا، قل: كتلة كالهواء، ملأت هذا هواء، وقيل: معنى ((ملء السموات والأرض)): أن حمد الله عز وجل مالئ للسموات والأرض؛ لأن كل ما في السموات والأرض فهو مخلوق لله عز وجل، وقد حمد الله نفسه على خلق السموات والأرض فقال: {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} [الأنعام: 1]. وعلى هذا فمعنى: ((ملء السموات)): أن حمد الله عز وجل شامل لكل ما في السموات والأرض؛ لأنه خلقه، وهو- سبحانه وتعالى- محمود على خلقه، وهذا أقرب إلى المعنى أنه لعظم هذا الحمد كان شاملًا لكل ما في السموات والأرض. قال: ((وملء ما شئت من شيء بعد)) هل الله شاء شيئا بعد هذا؟ نعم، شاء شيئا قبل السموات والأرض وشاء شيئا بعد السموات والأرض، أما ما بعد السموات والأرض فالجنة والنار، وأما قبل السموات والأرض نعرف بعضها ولا نعرف البعض. لكن كلمة ((بعد)) ألا تعين أن يكون المراد ما بعد فناء السموات والأرض؟ الجواب: البعدية تكون باعتبار الزمن، وعلى هذا تكون ((بعد)) أي: بعد السموات والأرض، وتكون البعدية بمعنى الحال، أو بمعنى وراء، أو بمعنى سوى، فيكون ((ما شئت من شيء بعد)) أي: بعد السموات والأرض السابق واللاحق، وهذا هو الأصح؛ لأن هذا أعم. ((أهل الثناء والمجد)) بفتح اللام أو بضمها؟ هي عندنا بالفتح على أنها منادى، والأصل: ((يا أهل الثناء والمجد)) ويجوز الرفع من حيث الإعراب والمعنى أيضًا، ويكون المعنى: أنت أهل الثناء والمجد، لكن الأول أبلغ، مناداة الله عز وجل ووصفه بهذا أبلغ؛ لأن النداء به يتضمن الإقرار به، والنداء به والخبر فقد يتضمن الإقرار فقط ((أهل الثناء)) يعني: أنك يا ربنا أهل للثناء، وهو تكرار أوصاف الكمال، كما يقول الله عز وجل حين يقول المصلي: {الرحمن الرحيم}: أثنى على عبدي)) 1. يعنى: أنك أهل لأن يكرر الثناء عليك، و ((المجد)): العظمة والسلطان، ولذلك تجدون في ((سورة البروج)) ما يدل على العظمة من أولها إلى آخرها. أولها الإقسام بالسماء ذات البروج، ثم في أثنائها بالعرش المجيد، ثم في آخرها {بل هو

قرءان مجيد} [البروج: 21]؛ لأن المقام يقتضي هذا؛ لأن الله تحدث فيها عن قوم اعتدوا على أوليائه وفتنوا المؤمنين والمؤمنات، فصار ذكر العظمة والمجد فيها مناسبًا تمامًا. إذن نعود إلى الحديث: ((المجد)) يعني: العظمة والسلطان، ولا أحد أعظم من الله، ولا أحد أكمل من سلطان الله عز وجل. ((أحق ما قال العبد)) ((أحق)) بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: ذلك أحق ما قال العبد، يعني: أن الثناء على الله عز وجل وتمجيده وتعظيمه أحق ما قال العبد؛ يعني: أصدق وأوفق وأشد مطابقة للحال، لو أنك أثنيت على واحد من أهل الدنيا قد يكون هذا حقا، وقد يكون باطلًا، لكن إذا أثنيت على الله فهو أحق. ((ما قال العبد وكلنا لك عبد)) كلنا يعني: الخلق والبشر، كلنا عباد الله عز وجل بالعبودية الشاملة وهي عبودية القدر، وذلك أن العبودية تنقسم إلى قسمين: عبودية شرعية، وعبودية قدرية كونية، فقول الله عز وجل عن نوح: {إنه كان عبدا شكورا} [الإسراء: 3]. وقوله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1]. أي العبودية؟ الشرعية، وقوله: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا} [الفرقان: 63]. هذه عبودية شرعية، وقوله عز وجل: {إن كل من في السموات والأرض إلا أتي الرحمن عبدا} [مريم: 93]. هذه العبودية القدرية الكونية، فقوله: ((كلنا لك عبد)) هذا يشمل هذا. ((اللهم لا مانع لما أعطيت)) اللهم بمعنى: يا الله ((لا مانع لما أعطيت)) هل المعنى: لا مانع لما أعطيت في الفعل، أو لما قدرت أن تعطيه؟ الثاني؛ يعني: لا أحد يمنع ما قدرت أن تعطيه، مهما بلغت الأمة من قوة فلن تستطيع أن تمنع ما قضى الله أن يعطي من العلم والمال والصحة والبنين والجاه، كل شيء قدر الله أن يعطيه لا أحد يستطيع أن يمنعه. فإن قال قائل: نجد بعض الناس يمنع فضل الله؟ نقول: نعم، يمنع فضل الله؛ لأن الله لم يقدره، ولو قدره الله ما استطاع أحد أن يمنعه، لكن الله تعالى قد يسلط آحادا من الناس يمنعون فضل الله أن يصل إلى عباد الله، لكن هذا إنما يكون بقضاء الله وقدره. ((ولا معطي لما منعت)) إذا قدر الله عز وجل أن يمنع هذا الشخص شيئا من فضله ما أحد يستطيع أن يعطيه، فإن أعطاه علمنا أن الله قدره لم يمنعه، وهذا إشارة إلى أن الأمور كلها بيد الله عز وجل. ((ولا ينفع ذا الجد منك الجد))، الجد يعني: الغنى والحظ، و ((منك)) تدل على أن ((ينفع)) بمعنى: يمنع، يعني: لا يمنع صاحب الجد من الله جده حتى وإن كان ذا سلطان عظيم، وقوة عظيمة، ومال كثير فإنه لا ينفعه هذا من الله شيئا. من فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي بعد الرفع من الركوع قول: ((اللهم ربنا لك الحمد ... )

الخ، و ((ربنا لك الحمد)) قدم فيها الخبر على المبتدأ لإفادة الحصر والاقتصار، وقرنت الحمد بـ ((أل)) الدالة على الاستغراق؛ يعني: كل الحمد. ومن فوائده: أن الحمد المطلق لا يستحقه إلا الله عز وجل، وأن حمد الناس على ما يفعلونه من خير حمد مقبول ليس على سبيل الإطلاق. أولًا: لنقص هؤلاء الذين يجودون بالخير عن الكمال. ثانيًا: لا يجودون بكل الخير، وحينئذ لا يستحقون الحمد المطلق، والذي يستحق الحمد المطلق هو الله عز وجل. ومنها: إثبات السموات والأرض، وكون السموات سبعًا معلوم، وكون الأرضين سبعًا معلوم، أما كون السموات سبعًا فمعلوم بالكتاب والسنة، وأما كون الأرضين سبعًا فمعلوم بالسنة الصريحة وبالقرآن في ظاهره، فالسنة الصريحة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتطع شبرًا من الأرض طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين))، وأما الظاهر من دلالة القرآن فقوله عز وجل: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12]. والمماثلة هنا في العدد قطعًا لا في الكيفية والصفة؛ لأن السموات أعظم بكثير من الأرض، فتعين أن يكون ذلك فيما يمكن وهو العدد. ومن فوائد هذا الحديث: أن الله- سبحانه وتعالى- له مخلوقات كثيرة غير السموات والأرض فهناك مخلوقات قبل السموات والأرض، وهناك مخلوقات بعدها، وقد مر علينا في ((النونية)) أن العلماء اختلفوا في العرش والقلم أيهما أسبق، وأن القول الراجح هو أن العرش أسبق. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات المشيئة لله عز وجل لقوله: ((ما شئت من شيء بعد))، واعلموا أن مشيئة الله وإن أطلقت في مواضع فإنها مقرونة بعلم وحكمة، ليس لمجرد المشيئة كما قال ذلك من ينكرون حكمة الله عز وجل، ودليل هذا قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليمًا حكيما} [الإنسان: 30]. فقوله: {إن الله كان عليما حكيما} تشير إلى أن مشيئة الله مبنية على العلم والحكمة. ومن فوائد الحديث: أن الله تعالى أهل لأن يثنى عليه بكمال الصفات؛ لقوله: ((أهل الثناء)). ومنها: أنه أهل للمجد وهو العظمة والسلطان. ومن فوائد الحديث: أن مثل هذا الثناء على الله عز وجل أحق ما قال العبد، يعني: أثبته وأولاه بالصواب؛ لأن ما يقوله العبد ينقسم إلى أقسام، منها ما هو إثم وزور، ومنها ما هو لغو وباطل، ومنها ما هو قربة وأحق ما يكون هو الثناء على الله عز وجل.

هيئة السجود وأحكامه

ومنها: اعترافنا بأن جميع الخلق عبيد لله عز وجل لقوله: ((وكلنا لك عبد))، وهذا اعتراف بذل العبد للرب عز وجل، ولازم هذا الإقرار أن يكون الإنسان مطيعًا لله عز وجل بامتثال أمره واجتناب نهيه، وإن لم يكن كذلك فليس عبدًا، لأن حقيقة العبودية التذلل للمعبود. ومنها: تفويض الأمور إلى الله عز وجل، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ويتفرع على هذه الفائدة: أنك لا تعلق قلبك بغير الله؛ لأن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، فلا تعلق قلبك يا أخي إلا بربك عز وجل لأن الخلق لا ينفعونك ولا يضرونك. ومنها: تمام قدرة الله عز وجل أنه لا أحد يمنع ما أراد الله إعطاءه، ولا يعطي ما أراد الله منعه، وهذا دليل على كمال القدرة؛ لأن العاجز لا يمكن أن يمنع غيره ولا أن يعطي، وقدرة الله- تبارك وتعالى- عامة شاملة لكل شيء، فكلما شاء الله شيئا فهو قادر عليه، بل هو قادر على ما لم يشأ، لكنه إذا اقتضت الحكمة أن يشاءه شاءه. ومنها: أن أهل الحظ والغنى والكمال والسلطان والقصور والمراكب لا تنفعهم هذه من الله عز وجل، حتى لو كانت السيارات مصفحة ضد الرصاص فى راد لقضاء الله، لأن الله تعالى قد يقدر على هذا الذي تحصن بهذه الحصون أسباب هلاكه بأشياء ما تخطر له على بال فلا ينفع ذا الجد من الله عز وجل جده وحظه، بل الله عز وجل قادر عليه ولو كان في جحر ضب. أسئلة: - اشرح قوله: ((اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت))؟ - ما معنى قوله: ((لا ينفع ذا الجد منك الجد))؟ هيئة السجود وأحكامه: 286 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين)) 1. متفق عليه. أولًا: يجب أن نعلم أن ابن عباس رضي الله عنهم من المكثرين من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه كان صغيرًا، فهل مثل هؤلاء نحمل كل ما ورد عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم على أنه علم الاتصال؟ الجواب: لا؛ لأن هناك أشياء رووها كانت قبل أن يولدوا فلا نحملها على الاتصال كلها، ولكن من توفيق الله عز وجل أن العلماء قالوا: إن مرسل الصحابي حجة؛ يعني: كأنه متصل، فمثلًا إذا روى ابن عباس حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان وقوعه قبل أن يولد ابن عباس فإننا نحمله على الاتصال، لا نقول: إن هذا مرسل، بل نحمله على الاتصال؛ لأن الصحابي لا يمكن أن يروي

عن أحد إلا وقد تأكد أنه- أي: السند- قد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال العلماء: مرسل الصحابي يحمل على الاتصال، فإذا رأينا أحاديث كثيرة عن ابن عباس أو أحاديث كثيرة عن أبي هريرة- مع أنه قد تأخر إسلامه- فإننا نقول: هذه الأحاديث على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما علمنا أنه أدركه؛ فهنا لا إشكال. الثاني: ما علمنا أنه لم يدركه، فهذا وإن كنا نعلم أنه لم يأخذه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة إلا أننا نعلم أنه لن يأخذه إلا عن صحابي يثق به. الثالث: ما جهلنا على الاتصال. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت)) الأمر هنا معلوم ولذلك لم يسم؛ لأنه معلوم، وهذا كقوله تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} [النساء: 28]. الخالق معلوم- وهو الله عز وجل-، هنا الآمر معروف وهو الله عز وجل؛ إذ لا أحد يستطيع أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بشرع إلا الله- تبارك وتعالى- فهنا حذف الفاعل للعلم بالآمر، وفي رواية في البخاري: ((أمرنا أن نسجد))، فإما أن يكون الراوي نقلها بالمعنى، وإما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم حدث بهذا الحديث في موضعين؛ لأنه لا يمكن أن يقول: ((أمرت أن أسجد)) و ((أمرنا أن نسجد)) في مكان واحد، فإما أن يكون الراوي رواه بالمعنى؛ لأن ما أمر به الرسول فهو أمر لأمته، رواه بالمعنى، وإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تحدث به في موضعين. ((أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم))، وفي لفظ: ((أعضاء))، والمعنى واحد، ((على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه)) إشارة إلى أنه بعض منها، فله استقلال وله اتصال، يعني: له استقلال عن الجبهة، وله اتصال بالجبهة، الذي جعله مستقلا الفاصل بين رأس الأنف وأصل الأنف، فإن هذا الفاصل يفصل بينه وبين الجبهة، وأما الاتصال فمن المعلوم أن عظم الأنف متصل بعظم الجبهة؛ ولهذا لم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم مستقلا ولا منفصلا. ((وأشار بيده إلى أنفه، واليدين)) والمراد باليدين: الكفان، وهذه قاعدة يجب عليك- أيها الطالب- أن تعرفها: إذا أطلقت اليد فهي الكف، وإن قيدت فبما قيدت به، فقوله- تبارك وتعالى-: {والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما} [المائدة: 38]. المراد الكفان؛ لأنها مطلقة وقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]. قيدت بالمرفق، وعلى هذا فيكون قوله تعالى في التيمم: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} يكون المراد باليدين: الكفان فقط ولا يدخل الذراع؛ لأن اليد إذا أطلقت يراد بها الكف. ((واليدين والركبتين)) الركبتان معروفتان وهما: مفصل ما بين الساق والفخذ، ((وأطراف القدمين)) هي الأصابع.

في هذا الحديث فوائد منها: وجوب السجود على هذه الأعضاء السبعة؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب، ولأنه لا يتحقق كمال السجود إلا بذلك. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم عبد يتوجه إليه الأمر، أمره سيده- سبحانه وتعالى- أن يسجد على سبعة أعظم وحينئذ تنتزع خصائص الربوبية من حق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو الذي انتزعها صلى الله عليه وسلم خصائص الربوبية لا تكون إ لا لله عز وجل، مهما بلغ العبد من الكمال فإنه لن يستحق شيئا من خصائص الربوبية. ومنها: أن هذه الأعضاء تسمى أعظما؛ لأنها عظام: اليد، الجبهة، الركبتان، أطراف القدمين. ومنها: أنه لا تجزئ الجبهة عن الأنف ولا الأنف عن الجبهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الجبهة أشار إلى الأنف، فلو وضع إنسان أنفه على الأرض دون الجبهة لم يتم السجود، ولو كان العكس وضع الجبهة دون الأنف لم يتم السجود، وعلى هذا يلفت نظر أولئك الذين يلبسون العقال ويكبونه بحيث يكون العقال يحول بين جباهم أن تصل إلى الأرض؛ لأن بعض الناس يكب العقال؛ يعني: ينزله على الجبهة فترتفع الجبهة. وهل إذا كان على جبهة الإنسان شيء-كالعقال- لمرض أو نحوه هل يجزئه السجود عليه؟ الجواب: نعم، كما يجزئ السجود في الخفين مع أن أطراف الأصابع لا تمس الأرض. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب السجود على الركبتين جميعا، فلو رفع إحداهما لم يتم السجود، وفيه أيضًل وجوب السجود على أطراف القدمين وهي الأصابع، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن تكون الأصابع موجهة إلى القبلة أو أن نسجد على ظهور الأصابع، فإنه يدخل في قوله: ((أطراف القدمين)). وهنا مباحث مهمة: المبحث الأول: لو أن الإنسان عجز عن السجود على الجبهة والأنف لجراح فيهما فهل يسجد على بقية الأعضاء أو لا يسجد؟ ننظر إلى قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. فإذا طبقنا هذه الآية على هذه المسألة قلنا: يجب السجود على بقية الأعضاء، وعليه فيجب أن يقرب من الأرض ما يمكن، ويضع يديه وركبتيه وأطراف قدميه على الأرض، ودليل هذا قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. وقال عز وجل {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 286]. وهذا وسعها، وقال تعالى: {والذين أمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها} [الأعراف: 42]. وقال بعض أهل العلم: إنه عجز عن السجود بالجبهة سقط السجود على بقية الأعضاء لكن هذا القول ضعيف تضعفه الآية {فاتقوا الله ما استطعتم}، نعم، لو فرض أن الإنسان في ظهره مانع يمنع من الانحناء، فهنا نقول: يسقط عنه بقية الأعضاء؛ يعني: لا نقول للرجل الذي لا

يستطيع أن ينحني: ضع يديك على الأرض؛ لأن هذا ليس بساجد، أما إذا كان يستطيع أن ينهصر حتى يقرب من الأرض؛ فهذا يجب عليه أن يسجد على ما يستطيع من الأعضاء. هناك مبحث آخر: هل يجزئ بعض العضو عن كله، بمعنى: أن يضع الإنسان أطراف الأصابع إذا سجد، أو لابد يبسط راحته؟ فالجواب: هل يقال: إن سجد على يديه؟ نعم هو سجد، لكن ليس على وجه الكمال، فلو وضع أصابعه الخمسة على الأرض مع رفع الراحة أجزأ، لكن الكمال أن يضع الراحة. مبحث آخر: لو سجد على إحدى يديه ورفع الأخرى هل يجزئ؟ لا يجزئ إلا لعذر، كما لو كانت الأخرى مشلولة أو مكسورة معلقة في عنقه أو ما شبه ذلك، فهنا نقول تجزئ الواحدة لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. لو أنه سجد ووضع أحد الكفين على الآخر يجزئ أو لا يجزئ؟ الجواب: لا يجزئ لأن هذا لا يصدق عليه أنه سجد على سبعة أعضاء؛ إذ إنه جعل العضو فوق العضو فلا يجزئ. مبحث آخر: لو أنه أصيب بحكة في إحدى رجليه، ثم رفع الأخرى وحك بها التي أصابتها الحكة ثم عاد عن قرب هل يصح سجوده أو لا يصح؟ الظاهر لي أنه يصح؛ لأن هذه حاجة، ولأن الزمن يسير. مبحث آخر: بعض الناس إذا سجد وضع رجله على الرجل الأخرى هل يجزئ أو ل؟ لا يجزئ كما قلنا في اليد. يلتحق بهذه المباحث: إذا حال بينه وبين موضع سجوده حائل فهل يصح سجوده أو لا يصح؟ ذكرنا الآن أنه إذا كان الحائل أحد الأعضاء فإنه لا يصح، وإذا كان غير أحد الأعضاء فإن كان متصلا به- أي: بالساجد- كالمشلح والغترة والثوب فلا بأس به لحاجة، ولغير حاجة يكون مكروهًا، دليل هذا قول أنس رضي الله عنه: ((كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه))، فدل هذا على أنهم لا يستعملون بسط الثوب إلا لحاجة. وعليه نقول: يجب أن يكون الحائل منفصلا؛ لأنه كما سبق أن قلنا: إن كان الحائل أحد الأعضاء فإنه لا يصح، وإن كان غير أحد الأعضاء فإن كان متصلا به- أي: كالمشلح والثوب والغترة، فإن كان لحاجة فلا بأس به، وإن كان لغير حاجة فهو مكروه، وأما الحائل المنفصل فإن كان خاصا بالجبهة والأنف أو بالجبهة وحدها فمكروه؛ لأنه يشبه فعل الرافضة، الرافضة لا يسجدون على شيء إلا على تربة، والتربة عبارة عن حجر من فخار يقال: إنه

مصنوع من قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو قبر الحسين، المهم أن هذا مكروه إذا كان لا يتسع إلا للجبهة فقط، أما إذا كان يتسع للجبهة والأنف والكفين فهذا لا بأس به، كلامنا الآن في المنفصل، الدليل على أنه لا بأس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد على الخمره وهي بقدر ما يخمر به الرأس؛ يعني: مثلا إذا كانت تسع اليدين والجبهة والأنف فإن ذلك لا بأس به؛ لآنه منفصل، والمنفصل ليس فيه محظور إلا خوف مشابهة الرافضة في فعلهم. ذكرني حديث أنس: ((إذا لم يستطع أحدنا أن يمكن الجبهة من الأرض)) بفائدة مهمة وهي: أنه لابد في السجود من الاستقرار، فلابد أن يستقر الإنسان، فلو سجد على قطن ومست جبهته وأنفه هذا القطن لكن لم يكبسه، فإن السجود لا يصح؛ لأنه لابد أن يمكن، وبهذا نعرف أن الأولى في المساجد ألا يجعل تحت الفراش إسفنج؛ لأنه ربما يكون بعض المصلين يكتفي بمس الجبهة الفراش فلا يكبسه، ثم إن كوننا نصل إلى هذا النوع من الترف أمر لا يستسيغه الإنسان؛ فهو يعني: أننا نجعل المساجد المخصوصة بالعبادات كفرش النوم، هذا شيء تشمئزه النفس، لكن بعض الناس ابتلى بهذا، نسأل الله أن يهديهم. هل يصح السجود على الأرجوحة- شيء يتأرجح مثل: الميزان- فلو فرضنا أن هناك خشبة كبيرة يمكن السجود عليها لكنها بأرجوحة؛ فإن ذلك لا يجزئ؛ لماذا؟ لعدم الاستقرار؛ لأن هذا الرجل لو يميل قليلًا لرجحت به الكفة، ولو تقدم قليلًا لرجحت الأخرى؛ ولهذا قال العلماء: لا يصح سجوده لوجوب الاستقرار في السجود وهذا غير مستقر. هل يصح السجود في الطائرة؟ نعم يصح؛ لأنها مستقرة، فالإنسان يسجد بكل طمأنينة، وكان قد وقع في هذا خلاف أول ما ظهرت الطائرات، ولكن- الحمد لله- الظاهر: أنه انعقد الإجماع على صحة الصلاة فيها. هذا ما يتعلق بحديث ابن عباس، وقد ذكرنا في أثناء الشرح أن السجود على أطراف القدمين يشمل السجود على بطون الأصابع وعلى ظهورها، ولكن الأفضل أن يكون السجود على بطون الأصابع لتكون الأصابع مستقبلة القبلة، بحيث يمكن مشاهدة القدمين منصوبتين، لكن اليوم نرى كثيرًا من الناس لا يمكن أن يسجد على جميع الأصابع، يسجد على الإبهام وما حوله إما أصبع أو أصبعان، فهل يجزئ هذا أو لا يجزئ؟ الجواب: يجزئ؛ لأننا ذكرنا أن بعض العضو يجزئ، لكن الكمال أكمل. أسئلة: - إذا تعذر السجود على الجبهة هل يسقط السجود عنه؟ - إذا كان لا يستطيع أن ينحني إطلاقًا ماذا يفعل؟

287 - وعن ابن بحينة رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه)). متفق عليه. ((كان إذا صلى)) يقول العلماء- رحمهم الله-: إن ((كان)) إذا صار خبرها فعلا مضارعا فإنما تدل على الدوام، ولكن غالبا لا دائما، والدليل على أنها ليست دائمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه أصحابه أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بـ ((سبح)) و ((الغاشية))، ونقلوا عنه أنه كان يقرأ الجمعة بـ ((الجمعة)) و ((المنافقون))، فلو قلنا: إن ((كان)) تدل على الاستمرار والدوام لكان في هذا تناقض، ولكنها تدل على الدوام والاستمرار غالًا، فقوله عز وجل: {وكان الله على كل شيء مقتدرا} [الكهف: 45]. تدل على الدوام والاستمرار، فالإطلاق بأن ((كان)) تفيد الدوام والاستمرار غير صحيح. ((كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه)) الكفين، أم الذراعين والعضدين؟ الثاني هو المقصود؛ لأنه هو الذي به بياض الإبط وبياض الإبط داخله؛ لأن داخل الإبط أبيض من بقية البدن؛ حيث إن بقية البدن يتعرض للشمس والهواء فيسود، بخلاف المناطق الداخلية فإنها تبقى بيضاء. في هذا الحديث فوائد منها: أنه ينبغي للساجد أن يفرج بين يديه إذا سجد حتى يبدو بياض إبطيه، وإذا كان الإنسان ليس عليه رداء إنما عليه قميص فماذا يصنع؟ نقول: يفرج بحيث لو لم يكن عليه إلا رداء لبان بياض إبطيه، وإلا من المعلوم أن القميص لا يمكن أن يبين بياض الإبط، ويستثنى من هذا- أي: من التفريج- ما إذا كان في جماعة، فإنه لو كان في جماعة وفرج لآذى من بجانبه وأشغله عن صلاته فلا يفرج، إذن تكون هذه المسألة في الإمام والمنفرد، أما من كان مع الجماعة فلا يفرج؛ لأن ترك السنة لدفع الأذى أولى من فعل السنة مع الأذى؛ لأن الأذية تتعدى للغير؛ ولهذا لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقرءون في الليل ويجهرون نهاهم وقال: ((لا يؤذين بعضكم بعضا في القراءة)). ومن فوائد هذا الحديث: أن بشرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بيضاء وهو كذلك فإنه أزهر اللون صلوات الله وسلامه عليه. 288 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك)). رواه مسام. فبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا كيف يكون وضع اليدين فقال: ((إذا سجدت فضع كفيك)) يعني: على الأرض، ((وارفع مرفقيك)) يعني: عن الأرض، وليس فيه التفريج، لكن أضف هذا إلى

حديث التفريج يكون ارتفاعا مع التفريج، فصار الساجد يضع الكفين ويرفع المرفقين ويفرج بين اليدين والجنبين هذا هو الأصل. ولكن لو أنه لم يفعل هل يكفي أو لا يكفي؟ يكفي؛ لأن هذا من باب الأفضلية. وقوله: ((ضع كفيك)) لم يبين كيف يكون الوضع؟ هل يضع الكفين مفرجة بين الأصابع أو مضمومة الأصابع؟ الجواب: يضعها مضمومة الأصابع، وهل يضعها مستقبلة القبلة أو منحرفة يمينًا أو شمالًا، نقول: يضعها مستقبلة القبلة حتى مع المجافاة الأفضل أن تبقى متجهة إلى القبلة، خلافا لما يفعله بعض الناس إذا جافى جعل الأصابع مستقبلة محرفة عن القبلة وهذا غلط، بل تبقى اليدان متجهة إلى القبلة مضموم، وأين يكون مكانها هل هي على حذاء المنكبين، أو على حذاء الأذنين، أو على حذاء الجبهة؟ الجواب: كل هذا وارد إن شئت فقدم حتى تسجد بين الكفين، وإن شئت فأخر حتى تسجد إلى شحمة الأذنين، وإن شئت تأخرت تحاذي المنكبين، الأمر واسع. وتعلمون أن الصلاة ليست صلاة واحدة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم فيكون في هذا تناقض، الصلوات لا يحصيها إلا الله، فمرة يفعل كذا، ومرة يفعل كذا، فهل الأفضل أن يقتصر على نوع واحد، أو يأتي بالأنواع كلها؟ الجواب: الثاني؛ لأن عندنا قاعدة العبادات الواردة على وجوه متنوعة فالأفضل أن يفعلها على جميع الوارد هذا تارة وهذا تارة، وذلك للوجوه التالية: أولًا: أن بذلك تتحقق الأسوة بالرسول- عليه الصلاة والسلام- لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا مرة وهذا مرة. الثاني: فيه حفظ السنة الأخرى، لأنك لو اقتصرت على واحد من الوجوه نسيت الوجوه الأخرى. ثالثًا: أن فيه دفعًا للسآمة والملل. رابعًا: أن فيه انتباها؛ لأن الإنسان إذا صار على وتيرة واحدة صار كأنه ماكينة تشغيل أوتوماتيكية، وإذا كان ينتقل صار ينتبه اليوم على هذا الوجه، والثاني على هذا الوجه، ولذلك إذا اقتصر الإنسان على استفتاح واحد تجده إذا كبر تكبيرة الإحرام شرع في أدعية الاستفتاح بدون شعور، لكن لو كان يستفتح بهذا مرة وهذا مرة صار ذلك أشد انتباها، أهم شيء في هذه الوجوه هو تمام التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم. من فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأمته كل شيء تحتاجه حتى في كيفية السجود كيف تسجد؛ لأن هذا من تمام إبلاغ الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، ولا أحد أشد من النبي صلى الله عليه وسلم في إبلاغ الرسالة.

صفة الأصابع في السجود والركوع

ومن فوائد هذا الحديث: ما دل عليه لفظه من أن السنة أن يرفع مرفقيه ويضع كفيه على الأرض. صفة الأصابع في السجود والركوع: 289 - وعن وائل بن حجر رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع فرج بين أصابعه، وإذا سجد ضم أصابعه)). رواه الحاكم. ((كان إذا ركع فرج بين أصابعه))، وأين تكون الأصابع؟ تكون على الركبتين، فيضع يديه على ركبتيه مفرجة الأصابع، هذا هو الأفضل، كأنه قابض على الركبة، أما إذا سجد فإنه يضم أصابعه ولا ينشرها، وهذا ليقع الفرق بين الركوع والسجود أن وضع الأصابع في الركوع مفرق، وأن وضعها في السجود مضموم. الجلوس في محل القيام وأحكامه: 290 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا)). رواه النسائي، وصححه ابن خزيمة. ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم)) رؤية عين، ((يصلي متربعًا)) تريد بهذا الجلوس مكان القيام فإنه يصلي متربعًا، التربع أن يجعل الساق والفخذ أربعًا، ما هو اسمه العامي؟ بلغة القصيم ((مفخي))، على كل حال: هذا معنى عرفي عند الناس لكنه في محل القيام، والحكمة من ذلك: أنه إذا تربع صار أريح له وأثبت وأكثر طمأنينة، حتى إن ابن القيم رحمة الله قال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا آكل متكئًا)). قال: من الاتكاء التربع على الأكل؛ لأن المتربع جالس جلسة المطمئن، ومن المعلوم أن القيام أطول من غيره من الأركان، فلذلك كان يصلي متربعًا هذا في حال القيام، ومتى يكون الجلوس في محل القيام؟ يكون في النافلة مطلقًا؛ المتنفل يجوز أن يتنفل قائمًا أو قاعدًا، ويكون أيضًا في الفريضة عند العجز عن القيام أو الخوف للقيام، أو متابعة الإمام في الفريضة صلى جالسًا في هذه الأمور الثلاثة عند العجز واضح لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 195]. رجل بينه وبين عدوه جدار قصير إن قام رآه العدو وإن صلى قاعدًا لم يره؟ نقول: صل قاعدًا.

الدعاء بين السجدتين

الثالث: إذا كان خلف إمام يصلي جالسا من أول صلاته فإنه يصلي جالسا ويتربع، في القيام قبل الركوع واضح أنه يتربع في القيام بعد الركوع يتربع أيضًا لأنه قيام وإن كان قصيرًا لكنه يتربع في حال الركوع. قال الفقهاء- رحمهم الله-: إنه يثني رجليه؛ أي: يكون جلوسه كالجلوس بين السجدتين في هذا الركوع لكن هذا فيه نظر، والصواب أنه يبقى متربعا؛ وذلك الراكع إذا كان قائما تبقى رجلاه منصوبتين كالقيام من قبل، وعلى هذا نقول: إذا تربع في حال القيام قبل الركوع فإنه يتربع في حال القيام بعد الركوع على القول الراجح، وأما بقية الجلسات فإنه إما مفترش وإما متورك الدعاء بين السجدتين: 291 - وعن ابن عباس رضي الله عنهم: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي، وارحمني، وأهدني، وعافني، وارزقني)) 1. رواه الأربعة إلا النسائي، واللفظ لأبي داود، وصححه الحاكم. قوله رضي الله عنه: ((كان يقول بين السجدتين)) تقدم الكلام على ((كان)) وأنها تقتضي الاستمرار غالبًا، يقول: ((اللهم اغفر لي)) أي: يا الله اغفر لي، وماذا تعني كلمة اغفر لي؟ تعني شيئين: الأول: ستر الذنوب عن العباد. والثاني: التجاوز عنه فلا عقوبة، وإنما قلنا: إنها تعني الأمرين؛ لأن أصلها مأخوذة من المغفر، المغفر شيء يوضع على الرأس عند القتال ليتقي به المقاتل سهام العدو، فهو جامع بين الستر والوقاية، وقوله: ((وارحمني)) يعني: أفض على من رحمتك حتى يزول المكروه بالمغفرة ويحصل المطلوب بالرحمة. فإن قال قائل: أليس المغفور له مرحومًا؟ فالجواب: بلى، لكن إذا اجتمعا افترقا. ((وارحمني وأهدني)) أي: هدايتين: هداية توفيق، وهداية العلم والإرشاد؛ لأن من الناس من يحرم الهدايتين، ومن الناس من تحصل له هداية العلم والإرشاد دون التوفيق، لكن إذا حصلت هداية التوفيق فالغالب أنها مصحوبة بهداية العلم، أنت إذا سألت الله أن يهديك ماذا تريد؟ الاثنين: هداية العلم والإرشاد وهداية التوفيق، هداية العلم والإرشاد لكل أحد، أوجب الله على نفسه أن يهدي عباده هداية إرشاد فقال عز وجل: {إن علينا للهدى} [الليل: 12]. جملة مؤكدة بإن واللام

مصدرة بما تقتضي الإيجاب، أوجب الله على نفسه أن يهدي عباده هداية العلم والإرشاد، وقال عز وجل: {إنا هدينه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} [الإنسان: 3]. يعني: هديناه السبيل سواء كان شاكرًا أو كان كفورًا، والمراد بالهداية هنا: هداية علو وإرشاد، وقال عز وجل: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]. هديناهم يعني: دللناهم بالعلم والإرشاد، فالمهم أن قول المصلي أو غير المصلي إذا سأل الله الهداية يريد الهدايتين هداية العلم والإرشاد وهداية التوفيق، ولهذا جاءت في سورة الفاتحة غير معداة بحرف بل {أهدنا الصراط}، وليست أهدنا إلى الصراط؛ لأنه لو قال: أهدنا إلى الصراط صار الأمر ظاهرًا بأن المراد: هداية العلم والإرشاد، أهدنا إليه يعني: دلنا إليه، لكن أهدنا هنا هذه تدل على أنه يركب الطريق المستقيم، ولا يمكن أن يركبه إلا بعد العلم. ((وأهدني وعافني)) من ماذا؟ عافني من كل مرض سواء كان مرضًا نفسيًا، أو مرضًا قلبيًا، أو مرضًا جسميا عضويا أو كليًا، انوها بقلبك أنك تسأل العافية من كل شيء، لكن ما هو الأهم؟ الأهم: العافية من أمراض القلوب، اللهم عافنا من أمراض القلوب والأبدان، العافية من أمراض القلوب أهم؛ لأنه إذا مرض القلب، ثم مات خسر الإنسان دنياه ولآخرته، لكن أمراض الأبدان غايتها ونهايتها أن يموت الإنسان، ولا بد منه؛ ولهذا لما جاء ملك الموت إلى موسى- عليه الصلاة والسلام- يقبض روحه وصقه فرجع إلى الله عز وجل وقال: أرسلتني إلى رجل لا يريد الموت. قال: اذهب إليه وقل له يضع يده على جلد ثور، فله ما تحت يده من السنوات يعيشها، فبلغ موسى قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت لابد من هذا، مهما طالت بك الحياة فلابد من الموت. كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يومًا على آلة حدباء محمول قال: إذن الآن، وسأل الله أن يدينه من الأرض المقدسة مقدار رمية بحجر. المهم يا إخوان أن أقول: إن المرض الذي يسأل الإنسان العافية منه هو جميع الأمراض، لكن أهمها مرض القلب، اللهم أحيي قلوبنا يا رب العالمين. ((وعافني وارزقني)) وارزقني ماذا؟ أكل، شرب، لباس، سكن، نكاح، كل شيء، ومن ذلك رزق الدين؛ العلم والإيمان والعمل الصالح، وهذا أهم الأرزاق أن يرزقك الله علمًا وإيمانًا وعملا، هذا أفضل شيء. من فوائد الحديث: أن الجلسة بين السجدتين جلسة دعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخصها بالدعاء.

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى مغفرة الله ورحمته وما ذكرنا في الحديث. ومنها: أنه ليس للنبي صلى الله عليه وسلم من خصائص الربوبية شيء؛ إذ لو كان شيء لتصرف لنفسه. ومنها: الجمع بين سؤال المغفرة والرحمة، فالمغفرة لفعل المعاصي، والرحمة لترك الطاعات؛ أي: أن الإنسان إذا سأل الله المغفرة فالمراد: مغفرة الذنوب الواقعة، وإذا سأل الرحمة فالمراد: أن الله يرحمه بفعل الطاعات. ومنها أيضًا: حاجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الهداية لقوله: ((وأهدني))، وعرفتم في الشرح أن الهداية نوعان: هداية علم وإرشاد، وهداية توفيق وسداد، وذكرنا لهذا أمثلة، فمن الأول العلم والإرشاد قوله تعالى: {إن علينا للهدى} [الليل: 12]. ((علينا)) هذه للوجوب، والمراد بالهدى: البيان والإرشاد، ومنه قوله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]. ومنه قوله تعالى: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلنه سميعا بصير* إنا هديناه السبيل} [الإنسان: 3، 2]. أي: بينا له السبيل {إما شاكرا وإما كفورا} [الإنسان: 3]. إذا سألت الهداية فما المراد؟ الهدايتان. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم محتاج إلى العافية في بدنه والعافية في دعوته وشريعته لقوله: ((وعافني)) وسبق لنا معنى العافية وأنها عافية الدين والدنيا. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم محتاج إلى الرزق لقوله: ((وارزقني))، وبينا أن الرزق عام. ومن فوائد الحديث: أننا ندعو الله- تبارك وتعالى- بهذة الجمل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) 1. وهذا دليل خاص، الدليل العام {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا} [الأحزاب: 21]. ومنها: هل يقتصر على هذا الدعاء أو يزاد فيه؟ فالجواب: لا بأس بالزيادة ما لم يتخذها الإنسان عبادة، فإن اتخذها عبادة صار فيها نوع استدراك على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فهل يجوز للإنسان أن يدعو لأولاه في هذا الجلوس؟ نعم، لكن بعد أن يأتي بالوالد؛ لأن الوالد مقدم. ومنها: لو اقتصر على بعض هذه الجمل، مثلا على سؤال المفغرة، على سؤال الرحمة، على سؤال العافية، هل يجزئه في هذا المكان، أو لابد من ذكر الخمس: ((أغفر لي وارحمني وأهدني وعافيني وارزقني))؟ ذكر الفقهاء- رحمهم الله- أن الواجب من هذه الخمس سؤال المغفرة. ومنها: بيان ضعف من قال من الفقهاء: إن الواجب أن يؤدي سؤال المغفرة بلفظ: ((رب اغفر لي))، والصواب: أن ذلك ليس بواجب، وأنه لا فرق بين أن يقول: ((اللهم اغفر لي)) أو يقول: ((رب اغفر لي)).

حكم جلسة الاستراحة

حكم جلسة الاستراحة: 292 - وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه ((أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا)). رواه البخاري. قوله: ((رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت هذه الرؤية حين وفد مالك بن الحويرث ومن معه إلى المدينة لتلقي العلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والدين، والظاهر أنه كان في عام الوفود، في السنة التاسعة من الهجرة، وقوله رضي الله عنه ((فإذا كان في وتر من صلاته))، الوتر: هو الركعة الأولى أو الركعة الثالثة فيما إذا كان في الصلاة الرباعية، وعلى هذا فإذا كان في الصلاة الثنائية يكون الوتر الركعة الأولى، وكذلك في الثلاثية، لكن في الرباعية يكون الوتر في موضعين: في الركعة الأولى، وفي الركعة الثالثة، وقوله: ((لم ينهض)) يعني: للقيام، ((حتى يستوي قاعدًا)) يستوي يعني: يستقر قاعدًا، ((قاعدًا)) حال من فاعل ((يستوي)). في هذا الحديث فوائد منها: الاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يأمر بذلك لقوله: ((إذا كان في وتر من صلاته))، ولم يسقه مالك بن الحويرث إلا من أجل أن يأخذ به الناس، ولولا ذلك لكان سياقه عبثا لا فائدة منه. ومنها: أن الإنسان ينبغي له أن يجلس إذا كان في وتر من صلاته اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا يعارض أحاديث كثيرة تدل على عدم الجلوس، وأن الإنسان ينهض من السجود إلى القيام بدون جلوس، فكيف نجمع بينهما؟ قال بعض العلماء: نجمع بينهما بأن نقول: حديث مالك بن الحويرث في آخر عمره- عليه الصلاة والسلام- فيكون هو المعتمد؛ لأننا نأخذ بالآخر، فالآخر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: إنها لا تسن مطلقا؛ لأن أكثر الأحاديث على عدم ذكرها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وفصل قوم فقالوا: إذا كان الإنسان لا يستطيع أن ينهض رأسا من السجود إلى الوقوف فيجلس ليعطي جسده حظه من الراحة، فجمعوا بين الأحاديث وقالوا: إن هذا هو الظاهر؛ لأن مالك بن الحويرث رضي الله عنه إنما قدم المدينة عام الوفود بعد أن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم اللحم؛ ولهذا لم يأت في أي حديث الأمر بهذه الجلسة إنما هي داخلة في العموم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، وعلى هذا فمن احتاج إليها لكبر أو مرض أو وجع في الركبتين أو ما أشبه ذلك فليجلس، ومن لا فلا. وهذا القول المفصل هو الراجح، وعليه اعتمد ابن القيم ومن قبله الموفق رحمة الله، وبه تجتمع الأدلة.

ولكن هنا سؤال: إذا كان الإنسان إماما فالأمر إليه إن شاء جلس وإن شاء لم يجلس، لكن هل يسن أو لا يسن؟ على حسب التفصيل الذي سمعتم، لكن إذا كان مأمومًا فهل يجلس أو لا يجلس؟ فالجواب: المأموم نبع للإمام، إن جلس الإمام جلس، وإن لم يجلس فلا يجلس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)). فإن جلس فاجلس، وإن لم يجلس فلا تجلس، لكن هل هذا على سبيل الوجوب إذا لم يجلس الإمام ألا أجلس، أو على سبيل الاستحباب؟ صرح شيخ الإسلام بأنه على سبيل الاستحباب؛ يعني: إذا كان المأموم يرى الجلسة سنة، أو كان في الحالة التي يكون فيها الجلسة سنة؛ فالأفضل ألا يجلس إذا كان الإمام لا يجلس، وكأنه رحمة الله، عدل عن القول بالوجوب؛ لأن الجلسة هذه خفيفة لا تؤدي إلى مخالفة ظاهرة للإمام، وإلا لكان الأصل أنه لا يجوز الجلوس من أجل متابعة الإمام. فإن قال قائل: لا يجلس تبعًا لإمامه، وأن نقول: لو أن الإمام ترك التورك تدينا والمأموم يرى أنه سنة فإنه يتورك، ولو ترك الإمام رفع اليدين عند الركوع والرفع منه والقيام للتشهد فاقتدينا؛ فإن المأموم يرفع يديه إذا كان يرى ذلك، فما الفرق؟ فالجواب: ظاهر الجلسة فيها نوع مخالفة للتخلف عن الإمام، وأما الرفع فليس فيه التخلف، غاية ما هنالك أنه خالفه في كونه رفع يديه، وكذلك يقال في التورك؛ لأن بعض العلماء يقول: لا يتورك وبعض العلماء يقول: يتورك في كل تشهد بعده سلام، وعلى هذا فيتورك في الفجر في الثنائية، وإذا كنت لا أرى التورك فلا أتورك، هذا هو الفرق. هل قال أحد بوجوب جلسة الاستراحة؟ الجواب: حكي بعضهم الإجماع على أنه لا قائل بذلك، وادعى بعض المتأخرين المتشددين في إتباع السنة أن ذلك واجب؛ يعني: الجلسة للاستراحة، واستدلوا بأنه جاء في بعض روايات البخاري لما ذكر السجدة الثانية قال: ((ثم ارفع حتى تستوي قاعدًا))، لكن هذه الرواية أشار البخاري رحمه الله نفسه إلى أنها شاذة، وإذا كانت شاذة فلا عمل عليها. فالصواب: أن تجعل جلسة الاستراحة سنة لمن احتاج إليها لمرض، أو كبر، أو وجع في الركب، أو ما أشبه ذلك، وإلا فلا، ثم حديث مالك أمامنا الآن يقول: ((حتى يستوي قاعدًا)) لابد من استقرار، ولهذا سماها الفقهاء جلسة الاستراحة، أما ما يفعله بعض الناس الآن يريد أن يجلس الجلسة تجده يجلس لحظة ثم يقوم، وهذا لم يأت بالسنة، فإما أن يستوي قاعدًا، وإما أن يترك، أما أن يأتي بنصف السنة فهذا كالذي يقرأ: {الم* تنزيل} السجدة في فجر الجمعة ويقسمها نصفين.

القنوت وأحكامه

هذه الجلسة هل لها ذكر؟ الجواب: لا، ليس لها ذكر، هل لها تكبير؟ الجواب: لا، ليس لها تكبير، وهذا دليل واضح على أنها جلسة غير مقصودة؛ لأنه لو كانت مقصودة لكان لها ذكر كسائر الجلسات، ولو كانت مقصودة لافتتحت بالتكبير واختتمت بالتكبير كسائر الجلسات، ويؤيد ذلك أن في حديث مالك بن الحويرث أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يقوم من الجلسة اعتمد على يديه، وهذا واضح أنه كان يشق عليه أن ينهض مباشرة، وإلا لما احتاج إلى الاعتماد على اليدين، وهذه أيضًا مما توهم فيها بعض الناس بأن الاعتماد على اليدين في هذه الحال سنة، وليس بسنة؛ لأنه واضح أنه يقول: ((اعتمد على يديه))، والاعتماد على الشيء لا يكون إلا عند الحاجة إليه، وإلا فلا حاجة إلى الاعتماد. فإن قال قائل: إذا صار الإنسان في حال تشرع له جلسة الاستراحة، فمتى يكبر إذا رفع من السجود، هل يكبر إذا قام من الجلسة، أو يكبر إذا نهض من السجود؟ الجواب: الثاني؛ لأن الأحاديث: ((وإذا رفع من السجود كبر))، فيكبر عند أول رفعه من السجود، وهذا لا إشكال فيه إذا كان الإنسان منفردا أو كان مأموما، لكن الإشكال إذا كان إماما وكبر حين ينهض من السجود ثم جلس فإنه يخشى من مسابقة المأمومين له، فهل نقول: إنه يكبر إذا قام من السجود، والمأموم إذا عرف من حال الإمام أنه يكبر إذا قام من السجود فسوف لا يسابق الإمام، وهذا هو المتعين أنه يكبر إذا قام من السجود وهو إذا كبر إذا قام من السجود ورآه الناس جالسا جلسوا معه وزال الإشكال. القنوت وأحكامه: 293 - وعن أنس رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب ثم تركه)). متفق عليه. هذه مسألة القنوت في الفرائض، القنوت في الوتر لا تسن المداومة عليه، ولهذا قال بعض العلماء: إنه لا يسن القنوت في الوتر إلا في رمضان، وقال آخرون: لا يسن إلا في النصف الآخر من رمضان لا في بقية السنة، وظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تهجده أنه لا يقنت؛ لأن جميع الواصفين لتهجده لا يذكرون القنوت، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم الحسن بن علي رضي الله عنهم دعاء القنوت وفيه: ((اللهم أهدني فيمن هديت)). أما في الفرائض فلا قنوت لا قبل الركوع، ولا بعد الركوع، وحديث أنس في قنوت النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا ثم تركه؛ هذا لسبب، وما شرع لسبب فإنه يزول بزواله.

قوله: ((شهرًا)) ظرف زمان، ولم يقل: من أوله ولا من وسطه ولا من آخره، فيكون المراد: مدة الشهر سواء من أوله أو وسطه أو آخره، والشهر إذا أطلق فهو ما بين الهلالين، ولا عبرة بالأيام ما دامت الأهلة ترى وتشاهد، وهل ينبني على ذلك أن جميع ما قدر بالشهور هل يعتبر بالأيام وتكمل (30) يومًا، أو بالأهلة؟ الجواب: الثاني، ولهذا إن امرأة توفي عنها زوجها وقلنا: تعتد أربعة أشهر وعشرا، فالمعتبر الهلالية من أول العدة إلى آخرها، وقول من قال: إنها بالعدد إذا مات في أثناء الشهر تكون بالعدد بالنسبة للشهر الأول والأخير، وبالأهلة بالنسبة لما بينهما فقول ضعيف والصواب أن المعتبر الأشهر الهلالية هكذا إذا أطلقت. وقوله: ((يدعو على أحياء من العرب، ثم تركه)) ((تركه)) يعني: ترك القنوت، لأي سبب هو قنت- عليه الصلاة والسلام- لانجاء المستضعفين، فلما أنجاهم الله توقف، وهؤلاء قنت عليهم شهرا ثم تركه، إما لأن المسألة برزت عن أولها وزال ما في نفوس الناس، وتكره لئلا يكون سنة راتبة أو لسبب من الأسباب لا نعلمه، فما هو القنوت؟ القنوت في الأصل: الدعاء بإخلاص وإلحاح، وله معان كثيرة، حتى إنه يطلق على ((السكوت)) كما في قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238]. ويطلق على الدعاء المعروف في قنوت الوتر: ((اللهم أهدنا فيمن هديت)) .. ألخ، ويطلق على الدعاء المناسب للحادثة، وهذا هو المراد في هذا الحديث، إذن المراد بالقنوت في هذا الحديث: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم المناسب للحادثة، ولما كان الناس يقنتون في فتنة البوسنة كان بعض الأئمة- كما بلغني- يدعو بدعاء القنوت يقول: ((اللهم أهدنا فيمن هديت))، وهذا لا مناسبة له أصلا. في هذا الحديث من الفوائد: جواز القنوت بالدعاء على أحياء من العرب أو غير العرب إذا كانوا مؤذين للمسلمين، ولكن هل هذا في كل مصيبة نزلت؟ لا، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت على العرب الذين حصل منهم ما حصل، كذلك أيضا في الأحزاب نزل بالمسلمين نازلة عظيمة وصفها الله تعالى بقوله: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} [الأحزاب: 10]. ولم يقنت في بدر كان له عريش يدعو الله فيه لا في الصلاة، وعليه فليس كل نازلة يقنت لها، ثم القنوت لمن؟ هل كل واحد يقنت؟ فيه أقوال للعلماء: المذهب أنه لا يقنت إلا الإمام الأعظم فقط، الإمام الأعظم مثلًا هنا في السعودية هو الملك فهد لا غيره، فجميع الناس في جميع المساجد لا يقنتون، وعللوا ذلك بأنه لما قنت النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت أحد سواه في مساجد المدينة، ولم يأمر أحدا أن يقنت. هذه واحدة. ثانيًا: قالوا: إن المعني بشئون المسلمين هو الإمام الأعظم ليس كل أحد، فيكون مشروعية القنوت خاصا به، وهذا القول له وجهة نظر، لكن إذا أذن بالقنوت لجميع المساجد صار

مشروعًا، بماذا يكون مشروعا؟ بإذن الإمام وأمره فيكون مشروعًا، فإن لم يأمر فليس بمشروع. فإذا قال قائل: إن قلوبنا تفطر وأكبادنا تتفطر إذا سمعنا ما نسمع عن أخبار إخواننا في مشارق الأرض ومغاربها، كيف لا نقنت، لا نستطيع أن نصبر. قلنا: الحمد لله، هل إجابة الدعاء مخصوصة بالقنوت؟ لا، ادع لهم في السجود، في الجلوس بين السجدتين، فيما بعد التشهد، بين الأذان والإقامة، في آخر الليل، في جميع الأحوال والأوقات التي ترجى فيها الإجابة. يرى بعض أهل العلم أن القنوت إذا نزلت بالمسلمين نازلة مشروع لكل مصل حتى الإنسان في بيته يصلي الفريضة يقنت، وهذا قد يقال: إنه وجيه إذا قنت الإنسان في بيته؛ لأنه لا يظهر فيه مخالفة ولي الأمر، أما أن يقنت في مسجده لكونه إماما دون إذن فهذا يؤدي إلى الفوضى، ولو فتح الباب لكان كل واحد يعتقد أن هذه النازلة نازلة عظمى، تحتاج إلى قنوت فيقنت، ثم لو فتح الباب صار بعض الناس يقنت وبعض الناس لا يقنت، فماذا يقول العامة؟ يقول العامة في الذي يقنت: هذا هو المؤمن حقا الذي في قلبه غيرة على المسلمين، والآخر اتركه ما في قلبه غيرة ميت، وهذا معناه: القدح في بعض أئمة المسلمين. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا رأى الإمام المصلحة في ترك القنوت فإنه يقطعه، قد يرى المصلحة في ترك القنوت إذا رأي من الناس مللا أو تضجرا أو ما أشبه ذلك، الحمد لله الأمر واسع فإذا اشتدت الأزمة أعاده. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا ينبغي أن يطيل الإمام القنوت لقوله: ((يدعو على أحياء من العرب))، وهذا يحصل بمطلق الدعاء بدون إطالة، خلافا لبعض الناس الذين يطيلون القنوت، ولاسيما في قنوت الوتر في رمضان، حتى بلغني أن بعض الناس يجعل القنوت خطبة موعظة وهذا غلط، أنت إذا كان فيك رغبة للدعاء وصدرك منشرح به، لكن وراءك من ليس كذلك، وخير الكلام ما قل ودل، سمعنا أن بعضهم يبقى في قنوت الوتر في رمضان (45) دقيقة؛ هذا فيه مشقة على الناس، أنت إن أطلت أطل خمس دقائق، وإلا فالحمد لله القنوت الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي لا يستغرق دقيقتين، فالمهم مراعاة الناس في هذه المسألة. القنوت عند النوازل هل يكون في الفجر والمغرب فقط، أو في جميع الصلوات؟ الثاني، في جميع الصلوات: الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم،

ومن خصه بالفجر والمغرب قال: لأن المغرب مستقبل فرائض الليل، والفجر مستقبل فرائض النهار، ولكن ما دامت السنة ثبتت بأنه يقنت في جميع الصلوات فلا عدول عنها. -ولأحمد والدارقطني نحوه من وجه آخر، وزاد: ((وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا)). وهذه الزيادة ضعيفة، وقد أنكرها ابن القيم إنكارًا شديدًا وحق له أن ينكرها؛ لأن المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ترك القنوت على هؤلاء تركه مطلقًا، ولا يمكن أن يدعي مدع أن الرسول صلى الله عليه وسلم واظب على قنوت الوتر في الصبح ثم لا يعرفه كبار الصحابة؛ لأنه لو فعل هذا طول حياته لكان نقله أمرًا ضروريا، فالصواب: أن القنوت في الفجر كغيره، إن وجدت نازلة نزلت بالمسلمين قنت فيها كما يقنت في غيرها وإلا فلا. 294 - وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ((كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم)). صححه ابن خزيمة. هذا بيان سبب القنوت: الدعاء لقوم كمستضعفين مضطهدين، أو على قوم كمعتدين ظالمين. إذا نزلت بالمسلمين نازلة لا تتعلق بالآدمي كالأوبئة والفيضانات والزلازل، فهل يقنت الإنسان أو لا يقنت؟ الجواب: لا يقنت؛ لأن هذه تقع كثيرًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يقنت لها، وكل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله مع عدم المانع ففعله بدعة، وهذه قاعدة ينبغي أن يعض عليها الإنسان بالنواجذ؛ لأنها مفيدة جدًا، وبه ندحض حجة الذين يقولون بالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم أو بالاحتفال بذكرى بدر، أو بالاحتفال بذكرى القادسية، أو ما أشبه ذلك، فبدر موجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرت عليه في حياته إحدى عشرة مرة، والقادسية أيضًا مرت بزمن الخلفاء الراشدين ولم يحتفلوا بها، فنقول: ما دام السبب موجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعل مقتضاه ولا مانع فإن فعله يكون بدعة.

حكم القنوت في الفجر: 295 - وعن سعد بن طارق الأشجعي رضي الله عنه قال: ((قلت لأبي: يا أبت، إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، أفكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بني، محدث)). رواه الخمسة، إلا أبا داود. قال: ((قلت لأبي: إنك قد صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي)) وهؤلاء هم الذين يصدر الناس عن سنتهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)). ((أفكانوا يقنتون في الفجر؟ )) والاستفهام هنا استفهام استعلام واستهداء واسترشاد، الهمزة للاستفهام، والفاء عاطفة، وإذا كانت عاطفة لزم من هذا ألا تكون الصدارة للهمزة؛ لأن العطف يقتضي أن يكون هناك معطوف عليه، اختلف المعربون في مثل هذا التركيب، فمنهم من قال: إن الهمزة داخله على شيء محذوف يقدر بما يناسبه، فتكون همزة مصدرة في جملتها المحذوفة، ومنهم من قال: بل إن الفاء عاطفة على ما سبق، إن كان قد سبق كلام، وتكون مزحلقة، بمعنى: أن الأمر يتطلب أن تكون الفاء عاطفة على مقدر مناسب للمقام، ونسلم كذلك أيضًا تأتي الهمزة وبعدها الواو مثل: {أو لم يسيروا في الأرض}، نقول فيها مثل قولنا في ((أفكانوا يقنتون)) الهمزة للاستفهام، و ((الواو)) حرف عطف، والمعطوف عليه مقدر بما يناسب المقام. وقوله: ((أي بني، محدث)) ((أي)) حرف نداء؛ لأن حروف النداء ستأتينا في الألفية بعد زمن قريب إن شاء الله، وإن كان بعضكم يقول: بعد عشر سنين، الله أعلم. حروف النداء كثيرة، ((أي)) للقريب، فهي تنوب مناب الياء لكنها للقريب، و ((بني)) مصغرة، هل التصغير للرأفة والعطف والحنان، أو لأن الابن صغير؟ الأول؛ لأن ظاهر سؤاله أنه كبير فاهم، فيكون هذا التصغير للرأفة والرحمة والتلطف مثل ما يقول العوام عندنا: يا وليدي ما تدر ما الحل، ((يا وليدي)) بدل ((يا ولدي)) تحننًا وتعطفًا، وقوله: ((محدث)) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو محدث وهذا في غاية ما يكون من الإنكار؛ لأنه إذا كان محدثًا، فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

دعاء القنوت

في هذا الحديث فوائد منها: حرص السلف الصالح على العلم، حتى الأولاد يسألون آباءهم. ومنها: جواز سؤال الابن لأبيه عن مسائل العلم، ومعنى ((جواز)) أي: أنه ليس بممنوع، وإلا فالأصل أن يسأل. ومن فوائد الحديث: أن ما ورد عن الخلفاء الراشدين فهو حجة، ومنها أنه سأل عن الخلفاء الراشدين لئلا يقال: إنه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان موجودًا ثم نسخ، ليبين أنه ليس بموجود، ولذلك لم يفعله الخلفاء الراشدين. ومنها: التلطف بالابن وكذلك البنت بما يدل على الحنان والرأفة والرقة لقوله: ((أي بني))، وهل يؤخذ أيضًا الرفق والعطف والحنان من حرف النداء ((أي)) بدل الياء؟ الجواب: نعم، يمكن أن يؤخذ لأنه ما دام ينادي بها القريب، فكأن هذا المنادي يقول لمن يخاطبه: أنت مني قريب. ومنها: أن القنوت في الفجر بدعة وهو كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا لسبب، فإذا فعلته بدون سبب فهذا إحداث في دين الله ما ليس منه. ومنها: التحذير عن الشيء ببيان وصفه المنفر عنه بدلًا عن ذكر حكمه لقوله: ((أي بني محدث))؛ لأن نفور النفس من الشيء المحدث المبتدع أشد من أن يقال: هذا حرام، أو ما أشبه ذلك. دعاء القنوت: 296 - وعن الحسن بن علي رضي الله عنهم أنه قال: ((علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم أهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت)). رواه الخمسة، وزاد الطبراني والبيهقي: ((ولا يعز من عاديت))، زاد النسائي من وجه آخر في آخره: ((وصلى الله تعالى على النبي)). الحسن بن علي بن أبي طالب هو سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مع أخيه الحسين رضي الله عنهم سيدا شباب أهل الجنة، ولكن أيهما أفضل؟ الحسن بن علي أفضل من أخيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصه

ذات يوم وقال: ((إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين)). ووقع كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما مات علي بن أبي طالب رضي الله عنه بايع بعض الناس الحسن، وقالوا: إنه أحق بالخلافة، ولما خاف الفتنة رضي الله عنه تنازل عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه، فانطفأت بذلك فتنة عظيمة وشكر المسلمون الحسن رضي الله عنه، والعجب أن الرافضة تتعلق بالحسين أكثر من تعلقها بالحسن؛ وذلك لأن قصة مقتل الحسين تهيج الأحزان، وهم يريدون تهيج أحزان الناس، حتى بزعمهم يتشيعون للحسين رضي الله عنه ويعطفون عليه، ويكرهون معاوية وأمراءه، فالمسألة سياسية لا دينية، والمسألة لإضلال الناس لا لهدايتهم، نسأل الله أن يهديهم سواء السبيل. قال: ((علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر)) ظاهر اللفظ: أن هناك كلمات أخرى لقوله: ((في قنوت الوتر))، ولم يقل: أقنت بهن في الوتر. ((اللهم أهدني فيمن هديت)) اللهم بمعنى: يا الله أهدني فيمن هديت، الهداية هنا تشمل هداية العلم والإرشاد وهداية التوفيق والسداد؛ يعني: العلم والعمل. وقوله: ((فيمن هديت)) أي: في جملة من هديت، وفيها نوع توسل إلى الله بأفعال الله. ((وعافني فيمن عافيت)) المعافاة: السلامة من كل ما يؤذي من أمراض وهموم وعدوان على الغير، ولهذا قال بعض العلماء: المعافاة أن يمنع الله شرك عن الناس، ويمنع شر الناس عنك، فهي لفظ عام، وتشمل المعافاة في أمور الدين وأمور الدنيا، ونقول: ((فيمن عافيت)) كما قلنا ((فيمن هديت)). ((وتولني فيمن توليت)) والمراد هنا: الولاية الخاصة؛ لأن الله عز وجل ولي كل أحد بالمعنى العام وهو التدبير والتصريف وما أشبه ذلك، ولاية خاصة وهي الولاية التي تقتضي العناية، فمن علامات من تولاه الله: اللطف به، ودلالته على الخير إعانته عليه، وهذا الأخير هو المراد بهذا الدعاء. ((وبارك لي فيما أعطيت)) أي: أنزل البركة لي فيما أعطيت من علم وولد ومال وغير ذلك مما أعطى الله؛ لأن الله تعالى إذا أنزل البركة في شيء سد ما يسده غيره بأضعاف مضاعفة، وإذا نزعت البركة من شيء فإنه أسرع ما يزول ولا ينتفع به الإنسان، البركة في العلم أن الله يوسع العلم للإنسان، ويوسع انتشار العلم على يديه، ويجعله عاملًا بعلمه، كل هذا من بركة العلم. وقوله: ((وقني شر ما قضيت)) ((وقني)) فعل أمر ونون الوقاية وياء المتكلم فهي من ثلاث كلمات؛ القاف التي هي فعل أمر، والنون التي للوقاية، والياء التي هي ضمير، ومعنى ((قني)): اجعل لي وقاية من شر ما قضيت، بحيث لا يرد على، أو إذا ورد علي لم يضرني، فوقاية الشر على وجهين:

الأول: ألا ينزل بالإنسان شر. والثاني: أنه إذا نزل لا يضره. كلمة ((ق)) فعل أمر من وقى، حذف منها حروف العلة وهي الواو في أولها والألف في آخرها ولها نظائر مثل ((ع)) من الوعي ((ف)) من الوفاء، وقد ذكر الخضري رحمه الله في حاشيته على شرح ابن عقيل عدة كلمات من هذا النوع، وعلى هذا لو قال قائل: زن ((ف)) أمرًا من وفى، فما وزنها؟ الآن وفى يفي ما الذي حذف منها؟ الفاء واللام، فيكون ((ف)) على وزن ((ع)). ((ع)) من الوعي. وقوله: ((شر ما قضيت)) أي: شر الذي قضيته، فالشر هنا في المقضي وليس في القضاء، واعلم أن أفعال الله عز وجل لها جهتان: الجهة الأولى: صدورها من الله عز وجل، فليس في شر إطلاقًا، كلها خير، أما من حيث المفعول المخلوق فهذا فيه خير وفيه شر، قال الله تعالى: {قل أعوذ برب الفلق* من شر ما خلق} [الفلق: 1 - 2]. فما وقع من الشر بالنسبة لفعل الله فهو خير، وبالنسبة للمفعول فمنه خير ومنه شر. مثال ذلك: إن الله عز وجل يقدر الجدب والقحط، القحط: قلة المطر، والجدب: قلة النبات نفس هذا الشيء شر، لا يلائم الطبيعة، وربما يضر، لكن كون الله يقدره خير؛ لأن فيه مصلحة أشار الله إليها في قوله: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41]. كذلك المرض من حيث هو مرض شر، لكن من حيث تقدير الله له خير؛ وذلك لأن أي مريض ربما يحمله مرضه إلى اللجوء إلى الله عز وجل وكم من إنسان كان مرضه سببا لاستقامة دينه، ولأجل أن يعرف الإنسان به قدر نعمة العافية؛ لأنه لا يعرف العافية إلا من ابتلي بضدها، كما قال الأول ((وبضدها تتميز الأشياء))، وأيضًا ما يترتب على هذا المرض من كفارة الذنوب والثواب عند الاحتساب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والشر ليس إليك)). يعني: لا ينسب الشر إلى الله عز وجل قضاء وقدرًا وإنما ينسب الشر إلى المقضيات والمخلوقات أما فعل الله فكله خير، هذا هو الفرق بين القضاء والمقضي، القضاء خير كله يجب علينا أن نرضاه، المقضي منه خير ومنه شر، ولا يجب علينا أن نرضى به إذا كان معصية لله، لو قدر الله انتشار الفواحش والربا والخمر فنحن نرضى بقضاء الله أي يكون الله قضى أن تنتشر هذه الأشياء، لكن بالنسبة لهذه الأشياء لا نرضاها، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في النونية:

فلذاك نرضى بالقضاء ونسخط ال مقضي مضا الأمرين متحدان إذن ((شر ما قضيت)) لا يقال: هذا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الشر ليس إليك))، ((وقني شر ما قضيت)) وقوله: ((قضيت)) اعلم أن القضاء نوعان: قضاء شرعي، وقضاء كوني، أما الشرعي فمثاله قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23].هذا قضاء شرعي، وهل يلزم امتثال النفي له؟ لا، من الناس من يعبد الله وحده، ومن الناس من يشرك، الثاني: القضاء الكوني القدري، وهذا لابد أن ينفذ في الإنسان على كل حال مثل قوله تعالى: {فلما قضينا عليه الموت} [سبأ: 14]. هذا قضاء قدري، ومثل قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} [الإسراء: 4]. هذا قضاء قدري؛ لأن الله لا يقضي عليهم شرعا أن يفسدوا في الأرض بل ينهاهم عن هذا. قوله: ((وقني شر ما قضيت)) القدري أو الشرعي؟ القدري؛ لأن الشرعي ليس فيه شر. ((وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك))، تقضي: تحكم بما شئت، ولا يقضى عليك لا أحد يحكم عليك، واسمع إلى قوله تعالى: {والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء} [غافر: 20]. لا حق ولا باطل، لأنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا، وتأمل بلاغة القرآن لم يقل: لا يقضون بالحق، لأنهم لا يقضون بشيء ولا يملكون القضاء بشيء، وهل يقضي على نفسه؟ نعم يقضي على نفسه، قال الله - تبارك وتعالى-: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام: 54]. ((كتب)) بمعنى: أوجب، فهو يقضي على نفسه، ويقضي على غيره، لكنه لا يقضي عليه فإنه لا يذل، والمعروف أنه بدون فاء ((إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت))، إنه لا يذل من واليت: أي من كنت وليا له، والمراد بالولاية هنا: الولاية الخاصة، أما الولاية العامة الشاملة لجميع الخلق، فهذه قد يذل من يولى، لكن الولاية الخاصة لا يمكن أن يذل، ((تباركت ربنا وتعاليت)) تباركت ربنا؛ أي: عظم شأنك وحلت البركة باسمك، ((ربنا)) يعني: يا ربنا ((تعاليت)) ترفعت عن كل نقص، و ((تعاليت)) أيضًا يمكن أن نحملها معنى آخر أي: ترفعت فوق كل شيء؛ أي: علوا ذاتيا. وزاد الطبراني: ((ولا يعز من عاديت)) بعد قوله: ((لا يذل من واليت)) يعني: لا يمكن لمن كان عدوا لله أن تكتب له عزة، والعزة هي الغلبة والرفعة والظهور على الغير. وزاد النسائي من وجه آخر في آخره: ((وصلى الله تعالى على النبي)) يعني: يختم الدعاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. في هذا الحديث فوائد منها: أهمية هذا الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه سبطه، فدل ذلك على فضله وأهميته.

ومنها: مشروعية هذا الدعاء في قنوت الوتر؛ لأن قال: ((علمني كلمات أقولهن في قنوت الوتر)). ومنها: أنه قد يظهر منه أن قنوت الوتر أوسع من هذا، ولهذا قال: ((أقولهن في قنوت الوتر))، و ((في)) للظرفية، ويحتمل أن المعنى: أن هذا هو قنوت الوتر فقط والعمل على الأول، وأنه لا بأس بأن يزيد في قنوت الوتر ما يناسب الحال، ولكن لا يطيل إذا كان إماما إطالة تمل من وراءه وتتعب من وراءه. ومنها: ثبوت القنوات في الوتر لقوله: ((في قنوت الوتر))، ولكن هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقنت في الوتر؟ لكن تعليمه الحسن يكفي في إثبات مشروعيته، ولكن مع ذلك الذي أرى الأ يداوم عليه حتى نأخذ بالسنة القولية والسنة الفعلية. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان مفتقر إلى الهداية: هداية العلم والإرشاد، وهداية التوفيق منه- سبحانه وتعالى- وهو كقوله: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم)). ومن فوائد هذا الحديث: سؤال العافية، وأن الإنسان مفتقر إليها؛ لأن الإنسان مفتقر إلى الكمال وإلى زوال النقص، فالكمال: ((اللهم أهدني))، وزوال النقص: ((عافني)) ويشمل العافية من مرض القلب ومرض البدن، أما مرض القلب فإنه يدور على شيئين: شبهة وشهوة، ولست أريد بالشهوة: شهوة الجماعة، لكن أريد بالشهوة: الهوى مرض القلب؛ إما شبهة بالأ يعرف الحق أو يلتبس عليه الحق نسال الله العافية، وإما شهوة بألا يريد الحق يتبع هواه، وهو يعلم أن الحق في خلافه. ومن فوائد هذا الحديث: سؤال العبد ربه أن يبارك له فيما أعطاه؛ لأن الله إذا لم يبارك في الشيء لم ينتفع به العبد، وإذا بارك فيه انتفع به واتسع انتفاعه، وللبركة أسباب كثيرة منها: في المعاملات قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار؛ فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما))، ومنها- أي: من أسباب البركة-: لعق الصفحة والأصابع بعد الأكل، ومنها: ألا يكيل الإنسان طعام البيت، يعني مثلا: إنسان أتى بكيس رز للبيت لا يكيله؛ لأنه إذا كاله نزعت منه البركة، وإذا تركه أنزل الله فيه البركة، يأخذ كل يوم ما يحتاج بدون ما يكيله ويمضي هكذا جاءت به السنة.

ومن فوائد هذا الحديث: أن ما بأيدينا من خير، علم أو مال أو ولد أو جاه فهو من الله لقوله: ((فيما أعطيت)). ومن فوائد هذا الحديث: سؤال العبد ربه أن يقية شر المخلوقات من الإنس والجن والحيوان والقريب والبعيد، بل ومن نفس الإنسان كما جاء في الحديث: ((نعوذ بالله من شرور أنفسنا))، وفي القرآن الكريم: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} [يوسف: 53]. ومن فوائد هذا الحديث: أن في مقضيات الله عز وجل ما هو خير وما هو شر وهذا من حكمة الله؛ لأنه لا يمكن أن يعرف الخير إلا إذا كان شرا لو كانت مقضيات الله عز وجل كلها خير ما عرفنا الشر أبدًا، لو كانت مخلوقات الله- تبارك وتعالى- كلها على نمط واحد مهتدين ما عرفنا الكافر من المؤمن؛ ولا يمكن أن نعرف الأشياء إلا بضدها. ومن فوائد هذا الحديث: أن الله- سبحانه وتعالى- له الحكم المطلق من كل وجه لقوله: ((إنك تقضي ولا يقضى عليك))، وهذه المسألة على أربعة أقسام: من الناس من لا يقضي ولا يقضى عليه، ومنهم من يقضي ويقضى عليه، ومنهم من يقضي ولا يقضى عليه، وهذا خاص بالله عز وجل، ومنهم من لا يقضي ويقضى عليه ولا شك أن أعلى الأقسام ما يثبت لله من ذلك وهو أنه يقضي ولا يقضى عليه، وهذا خاص به- تبارك وتعالى-. ومن فوائد هذا الحديث: تمام سلطان الله تعالى يكون القضاء بيده، وأنه لا أحد يسلط عليه فيقضي عليه. ومنها: أن من والاه عز وجل فلا ذل له لقوله: ((ولا يذل من واليت)). فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد وصفهم الله بالذل في قوله تعالى: {وأنتم أذلة} [آل عمران: 123]؟ فالجواب: بلى، والمراد بالذل هنا: الذل النسبي، يعني: بالنسبة لقوة الكفار أنتم أذلة ومع ذلك نصركم الله. إذن من فوائد هذا الحديث: أنه لا يذل من والاه الله عز وجل لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا يذله أمام نفسه ولا أمام غيره، فإنه يغلب نفسه الأمارة بالسوء، ويفعل ما به رضا الله عز وجل ولا يرد على هذا ما يقع بعض الأحيان من ذل أولياء الله عز وجل لأن هذا الذل شيء طارئ عاقبته العزة كما قال الله- تبارك وتعالى- في سورة آل عمران حين بين الفوائد العظيمة في غزوة أحد التي

انهزم فيها المسلمون: {ويتخذ منكم شهداء} [آل عمران: 140]. وهذه غنيمة، ومنها أنه من أجل أن يمحق الكافرين، ومعنى ذلك: أن الكافر إذا انتصر ازداد طمعا فقاتل، فإذا قاتل صارت الهزيمة عليه هو، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله على قصة أحد فوائد عظيمة فقهيه وعقدية من أحب أن يراجعها فليفعل فإنه مفيد، فصار هذا الأمر أمرًا طارئا، لكن عواقبه العز. ((تباركت ربنا وتعاليت)) تبارك هذه فعل يوصف الله به عز وجل ومعنى تبارك: أنه متعال، وأنه ذو بر وإحسان، فكل ما في الكون من بركة فهو من آثار تباركه- تبارك وتعالى-. فإن قال قائل: هل هذا الفعل مختص بالله، بمعنى: أنه لا يجوز أن يقول لشخص: تباركت؟ فالجواب: إن كان مطلقا فلا يجوز، وإن قيده بأن قال: تباركت علينا، أي: أصابتنا البركة لحضورك؛ فهذا لا بأس به بشرط أن تكون هذه البركة محسوسة معلومة، مثل أن يكون مجلس هذا الذي قدم إلى البيت مجلس علم ودعوة وإرشاد، بعض الناس يكون فيه بركة كما قال أسيد بن حضير لما أنزل الله آية التيمم بسبب انحباس الناس في طلب عقد عائشة رضي الله عنها أنزل الله آية التيمم، وآية التيمم فيها فرج وتيسير قال: ((ما هذه أول بركتكم يا آل أبي بكر))، أما إن قصد التبارك الشخصي الجسدي فهو لا يجوز إلا واحد من الخلق- وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم-. ((تعاليت)) من العلو، والتاء هذه تدل على المبالغة؛ أي: ترفعت عن كل نقص، وترفعت أيضًا فوق كل شيء، فالتعالي هنا يشمل التعالي المعنوي والتعالي الذاتي. ثم قال: زاد الطبراني والبيهقي ((ولا يعز من عاديت)) هذه ضد قوله: ((لا يذل من واليت)) من عاداه الله عز وجل فلا عزة له وهو وإن صار له عزة في الوقت فالعاقبة الذل، واسمع إلى قول الله عز وجل في سورة المنافقون قال: {ليخرجن الأعز منها الأذل} [المنافقون: 8]. ويعنون بالأعز: هم أنفسهم، والأذل يعنون به: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله عز وجل ردًا عليهم: {ولله العزة وللاسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 8]. كان المتوقع أن يكون الجواب: والله هو الأعز ورسوله والمؤمنون، لكن لو كانت العبارة هكذا لصار للمنافقين عزة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أعز، لكن نفى عنهم العزة مطلقا ولله العزة وحده ولرسوله وللمؤمنين، وهذا نظير قول الله تعالى: {والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء} [غافر: 20]. لا حق ولا باطل {إن الله هو السميع البصير} [غافر: 20]. هذا نفي العز لمن عادى الله، كما أنه أيضًا قد يحصل العز لمن عادى الله لمصالح أخرى. ثم قال: ((وصلى الله تعالى على النبي)) يعني: محمد صلى الله عليه وسلم هذه زادها النسائي، والصلاة على

النبي يعني: طلب الصلاة عليه من الله، أنت إذا قلت: صلى الله على نبينا محمد، فهو مثل قولك: ((اللهم صل على محمد)) وإن قولك: ((صلى الله على محمد)) خبرًا، لكنه بمعنى الدعاء، فالمعنى واحد، لكن ما هي الصلاة على النبي؟ قيل: إن الصلاة على النبي يعني: الرحمة، فمعنى ((اللهم صل على محمد)): اللهم ارحمه، لكن هذا القول ضعيف يضعفه قول الله تعالى: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 157]. والعطف يقتضي المغايرة، لكن لنا أن نقول: إن الصلاة أخص من الرحمة؛ لأنها تفيد معنى الصلة، فهي أخص من الرحمة، وإن كان فيها رحمة لكن ليست الرحمة العامة، ونقل العلماء عن أبي العالية رحمه الله من التابعين أنه قال: ((صلاة الله على عبده: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى))، وهذا الكلام لأبي العالية يحتاج إلى نقل صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب قبوله، وإن لم يصح فلا يجوز أن نفسره بهذا؛ أي: بأنها ثناؤه عليه في الملأ الأعلى؛ لأن هذا يحتاج إلى دليل، ولكنا نقول: هو رحمة أخص من الرحمة العامة، وهذا لا يضرنا. أبو سيف محمد يحيي. كثيرًا ما يقول الناس: ((فلان- رضي الله عنه-))، ((فلان رحمه الله)) التعبير هذا صحيح أو لا؟ صحيح، لأنه ليس خبرا حتى نقول: إن هذا من باب الشهادة بما لا يعلم العبد، ولكنه دعاء، والدعاء يأتي بلفظ الماضي، بعض الناس المتأخرين عدلوا عن كلمة: ((رحمه الله)) إلى كلمة: ((يرحمه الله))، ولكنهم عدلوا وما عدلوا في الواقع؛ لأن ((يرحمه الله)) دعاء وهي بمعنى: ((رحمه الله)) وإن كان المضارع يفيد الاستمرار فهي أبلغ إذا جعلناها خبرًا. لذلك نرى أن يسير الناس على ما سار عليه العلماء السابقون، كل العلماء السابقين يقولون: ((رحمه الله))، ((تغمده الله برحمته)) وما أشبه ذلك، ولكن مع هذا لا نحرم أن يقول الإنسان: ((يرحمه الله))، أما لو كان مخاطبا فنعم يقال: ((يرحمه الله))، وقد قالت عائشة: ((يرحم الله أبا عبد الرحمن)) تعنى: عبد الله بن عمر، كذلك أيضًا قال بعض الصحابة لصاحب له رآه ميتا: ((يرحمك الله يا أبا فلان))، يخاطبه، فالشاهد: أن ((يرحم)) و ((رحم)) معناهما واحد، لكن إتباع ما كان عليه الناس أولًا أولى. 297 - وللبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح)). وفي سنده ضعف. ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاء))، وأطلق الدعاء لم يبينه، ولا ندري ما هذا الدعاء، وإذا جاء مطلقا فلنا أن ندعو بما شئنا، ولكن قوله: ((ندعو به في صلاة الصبح)) هذا ضعيف، لأن

حكم تقديم اليدين قبل الركبتين للسجود

النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت في الفرائض إلا بسبب، لم يجعل القنوت في الفرائض لا في الصبح ولا في غيره سنة مطلقة. حكم تقديم اليدين قبل الركبتين للسجود: 298 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه". أخره الثلاثة. - وهو أقوى من حديث وائل بن حجر: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه". أخرجه الأربعة. فإن للأول شاهدًا من حديث ابن عمر رضي الله عنه صححه ابن خزيمة، وذكره البخاري معلقًا موقوفًا. "لا يبرك كما يبرك البعير"، يعني: لا يضع يديه قبل ركبتيه، لأن البعير إذا برك قدم يديه قبل ركبتيه وهذا مشاهد، ثم قال: "وليضع يديه قبل ركبتيه"، والمراد باليدين هنا: الكفان؛ لأن اليد إذا أطلقت فهي الكف كما في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالًا من الله والله عزيز حكيم} [المائدة: 38]. والمراد: الأكف، وقال عز وجل في التيمم: {فامسحوا بوجوهكم وأيدكم منه} [المائدة: 6]. والمراد: الكفان فقط، فيكون قوله: "وليضع يديه" يعني: الكفين، "قبل ركبتيه" فينحني قبل أن يصل إلى الأرض، هذا مدلول الحديث. فيؤخذ منه: أنه يشرع للمرء إذا أراد السجود أن يقدم يديه ثم ركبتيه لئلا يتشبه بالبعير لو قدم الركبتين، لأن البعير إذا برك يبرك على ركبتيه كما هو مشاهد. ومن فوائده أيضًا: التفصيل بعد الإجمال، حيث قال: "فلا يبرك كما يبرك البعير"، ثم قال: "وليضع" وهذا من حسن التعليم لأن الإنسان يجمل ثم يفصل؛ لأنه إذا ورد النص مجملًا تطلعت النفس إلى معرفته، فإذا جاء التفصيل صار واردًا على محلٍ قابل، بل متطلع له، ولكن عند التأمل يتبين أن الحديث متناقض، لأن قوله: "فلا يبرك كما يبرك البعير" ثم قال: "وليضع يديه" متناقضان؛ لأن المعروف أن البعير إذا أراد أن يبرك يضع يديه أولًا ثم يبرك، ولهذا قال ابن القيم رضي الله عنه: إن آخر الحديث منقلب على الراوي، والراوي بشر يخطئ ويصيب، وأن صواب العبارة الأخيرة: "وليضع ركبتيه قبل يديه" وما قاله رضي الله عنه متجه.

صفة وضع اليدين في التشهد

قال بعض الذين يؤيدون أن يضع اليدين قبل الركبتين: إن ركبة البعير في يديه. وجوابنا على هذا أن نقول: صحيح، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير، بل قال: "كما يبرك"، والتشبيه هنا للهيئة والكيفية وليس للعضو المسجود عليه، وإذا فسرنا الحديث بذلك صار غير متناقض، وصار أوله وآخره سواء. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينهى الإنسان أن يتشبه بالبهائم في صلاته؛ لأن الإنسان منهي عن التشبه بالهائم حتى في غير الصلاة، فكيف بالصلاة؟ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش السبع"، ونهى أن ينقر الإنسان صلاته نقر الغراب، ونهى أن يرجع الإنسان في هبته، ومثله بالكلب يقيء ثم يعود في قيئه، ووصف الرجل يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة أنه كمثل الحمار، وهلم جرًا، مما يدل على أن الإنسان لا يتشبه بالحيوان؛ لأن الله تعالى قد كرمه وفضله على الحيوان؛ فلا يوعز نفسه إلى أسفل وأوضع. فإن قال قائل: أرأيتم لو كان الإنسان لا يستطيع أن يقدم ركبتيه إما لألمٍ أو كبرٍ أو ضعفٍ أو مرضٍ أو ما أشبه ذلك فهل يقدم اليدين؟ فالجواب: نعم، يقدم اليدين؛ لأن ذلك هو الممكن في حقه، وقد قال الله- تبارك وتعالى- {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286]. وقال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. وأما حديث وائل بن حجر الذي قال المؤلف: إن الحديث الذي قبله أقوى منه؛ يعني: حديث أبي هريرة يقول: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه"، أخرجه الأربعة، لماذا كان أقوى؟ يقال: لأن الأول له شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنه صححه ابن خزيمة، وذكره البخاري معلقًا موقوفًا. هذا الاستدلال لا يحتاج إليه؛ لأن الحديث الأول حديث أبي هريرة يطابق الثاني على حسب التأويل الذي شرحناه، وحينئذٍ لا نحتاج إلى ترجيح. صفة وضع اليدين في التشهد: 299 - وعن ابن عمر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى، وعقد ثلاثًا وخمسين، وأشار بأصبعه السبابة". رواه مسلم. - وفي روايةٍ له: "وقبض أصابعه كلها، وأشار بالتي تلي الإبهام". هذا الحديث في بيان وضع اليدين في التشهد يقول: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قعد في التشهد وضع

يده اليسرى على ركبته اليسرى" على الركبة من غير إلقام لها فيضعها وضعها، أما اليمنى فيقول: "واليمنى على اليمنى" يعني: على الركبة اليمنى على طرفها، "وعقد ثلاثًا وخمسين"، هذا اصطلاح عند الدرب بدل أن يقول: ثلاث وخمسين فهو يعقد بأصبعه كذا ... ، وهو أن يقبض أصابعه كلها حتى الإبهام يضمها إلى الثلاثة، ويبقي السبابة قائمة ويشير بها كما جاء في الحديث. قال: "وأشار بأصبعه السبابة"، ولكن متى يسير هل يبقى مشيرًا دائمًا، أو يشير بالتحريك إذا دعا؟ الثاني هو المراد، ويبقى مشيرًا بها؛ لأنه إذا ضم الأربعة هكذا بقيت كأنه يشير قائمة هكذا، وهذه إحدى الصفتين. والصفة الثانية: أنه يحلق الإبهام مع الوسطى، يعني: يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق الإبهام مع الوسطى، أي: يجعلهما حلقة، ويبقي السبابة قائمة، وإذا دعا حركها إشارةً إلى علو الله- سبحانه وتعالى-. يؤخذ من هذا الحديث: مشروعية وضع اليدين على الوصف المذكور في التشهد، لكن لو وضعها على غير هذه الصفة، لو وضع اليدين كلتيهما مبسوطتين، هل يجزئ أو لا؟ يجزئ، لأن هذا على سبيل الأفضلية فقط. ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره أنه لا يفعل هذا في الجلوس بين السجدتين؛ لأنه قال: إذا قعد في التشهد"، وأما الجلوس بين السجدتين فظاهر النص أنه لا يفعل، ولكن الجواب عن هذا من وجهين، لأننا نرى أن وضع اليدين بين السجدتين كوضعهما في التشهدين، فالجواب أن يقال إذن: إن ذكر بعض أفراد العام لحكمٍ مناسبٍ للعام يعني لا يخالفه، ولا يعد ذلك تخصيصًا كما نص على ذلك أهل الأصول ومنهم الشيخ الشنقيطي رحمه الله في كتابه "أضواء البيان"، ومقال ذلك لو قلت لك: أكرم الطلبة، ثم قلت: أكرم عبد الله وهو منهم، هل يعد هذا تخصيصًا؟ لا يعد، نقول: هذا ذكر بعض أفراد العام بحكمٍ يطابق العام، فيكون ذكره بالتخصيص من باب العناية به، ولو قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت، لا تكرم عبد الله وهو منهم يكون تخصيصًا؟ نعم، لأن الحكم هنا مخالف للعموم، فيقول: إن قول ابن عمر رضي الله عنه: "إذا قعد للتشهد" هذا خاص، لكن له رواية أخرى: "إذا قعد في الصلاة" وهذه عامة، فيكون ذكر التشهد من باب ذكر أفراد العام بحكمٍ لا يخالفه، ثم إنه قد روى الإمام أحمد رحمه الله في المسند عن وائلٍ بن حجر نصًا صريحًا في الموضوع، فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يضع اليد اليمنى بين السجدتين كما وصف في التشهد، وهذه الرواية صحح إسنادها بعضهم وجودها بعضهم، وعلى هذا تكون مؤيدة للقول بالعموم. قال بعض العلماء معلًا رواية الإمام أحمد: إنها شاذة؛ لأن أكثر الرواة لم يذكروها، وإني

صيغ التشهد ومعانيها

أتعجب من هذا الكلام، لأن الشاذ: ما رواه الثقة مخالفًا لم هو أرجح منه، وهنا لم يرد عن الثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبسط يديه اليمنى على فخذه اليمنى، لو ورد لقلنا: هذه شاذة، وما دام لمن يرد فإننا نقول لمن قال: إن اليد اليمنى توضع على الفخذ مبسوطة كاليسرى نقول: عليك بالدليل، لم يرد في أي نصٍ مما اطلعت عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس بين السجدتين يضع يده اليمنى مبسوطة، وهذا واضح، وكنت أرى- فيما سبق- أن اليد اليمنى تكون مبسوطة بين السجدتين، وتكون في التشهد مضمومة الأول والثاني، وأقول: إن حكمة الشارع أنه جعل لكل جلسةٍ خصيصة، فالجلسة في التشهد الأخير لها خصيصة ما هي؟ التورك، الجلسة في التشهد الأول لها خصيصة عن جلسة ما بين السجدتين، وهي ضم الأصابع، والجلسة التي بين السجدتين تكون اليد مبسوطة، فتكون كل جلسةٍ لها مزية، وهذا قياس نظري، لكن لما رأيت صاحب زاد المعاد ابن القيم- رحمه الله- ذكر أنه يضع اليد اليمنى بين السجدتين كما يضعها في التشهد، واستدل بحديث وائل بن حجر الذي ذكرته في المسند، قلنا: النص مقدم على القياس، وموقفنا أن نتبع ما جاءت به السنة. أسئلة: - هل يجوز للإنسان عند السجود أن يقدم يديه؟ - أين تكون اليدان في حال القيام؟ - أي تكون اليدان عند السجود؟ - أين تكون اليدان عند الجلوس؟ صيغ التشهد ومعانيها: 300 - وعن عبد الله ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو". متفق عليه، واللفظ للبخاري. - وللنسائي: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد". هذا الحديث روي عن عبد الله بن مسعودٍ على وجهين: الوجه الأول: ما ذكره المؤلف.

والثاني: قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمنا السورة من القرآن". وهذا أبلغ، لأن قوله: "علمني" ثم قال: "كفي بين كفيه" يدل على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، يعني: كأن الرسول أمسك بكف ابن مسعودٍ وجعلها بين كفيه من أجل أن ينتبه. "كما يعلمنا السورة من القرآن" يعني: اعتنى بهذا اعتناءً بالغًا، أما اللفظ الثاني فهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم التفت إلى أصحابه وقال: "إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله" ... إلخ. قوله: "إذا صلى" لم يبين في هذا اللفظ موضع هذا التشهد، لكن بين في ألفاظٍ أخرى أنه في التشهد، وقوله: "فليقل" اللام للأمر، وتسكن بعد الفاء كما هي القاعدة. "التحيات لله" "أل" للاستغراق، أي: جميع التحيات لله، و"التحيات" جمع تحية: وهي: الإكرام والتعظيم وما أشبه ذلك. وقوله: "لله" اللام هنا لها معنيان المعنى الأول: "الاختصاص، والمعنى الثاني: الاستحقاق، أما الاختصاص فلا أحد يقال له التحيات على العموم، وأما الاستحقاق، فلأن الله- تبارك وتعالى- أحق من يحيا، فاللام هنا دالة على معنين: الاختصاص والاستحقاق، و"لله"- تبارك وتعالى- اسم رب العالمين- جلا وعلا-، و"الصلوات" الواو حرف عطف جملة على جملة، وليس عطف مفرد على مفرد؛ لأن الجملة الأولى تامة لقوله: "التحيات لله"، وعلى هذا نعرب "الصلوات والطيبات" على أنها مبتدأ والخبر محذوف؛ أي: "والصلوات لله والطيبات لله، ولا يصح أن نقول: إنها معطوفة على التحيات، لأن هذه الجملة "التحيات لله" استكملت أركانها. "الصلوات" ما المراد بالصلوات؟ هل المراد بالصلوات: الدعوات؛ يعني: أنه عز وجل هو أحق من يدعى، أو المراد بالصلوات: العبادة المعروفة؟ من حيث اللغة: يحتمل المعنيين، لكن من حيث الدلالة الشرعية لا يحتمل إلا المعنى الثاني وهي العبادة المعروفة، ويؤيد ذلك أمران: الأمر الأول: أن معنى الصلاة في اللغة نقل إلى معنى شرعي فصار له حقيقة شرعية؛ وهي العبادة المعروفة، فيجب أن تحمل الصلاة على المعنى الشرعي؛ أنها نقلت. الأمر الثاني: أن هذا التشهد في الصلاة، فكان من المناسب ذكر الصلاة على وجه الخصوص، وهذا الأمر الثاني خاص بهذه المسألة؛ أما الأول فهو عام، كلما دار الأمر بين المعنى اللغوي والشرعي في لسان الشارع حمل على المعنى الشرعي، إلا أن يفسر من عند النبي صلى الله عليه وسلم فهنا نأخذ بما فسره مثل قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها وصلي عليهم} [التوبة: 103]. هذه معناها: الدعاء وليس معناها: العبادة المعروفة، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: "اللهم صل عليهم".

"والطيبات" الطيب: ضد الخبيث، وضد ما ليس بطيبٍ ولا خبيث، فما هي الطيبات؟ الطيبات تشمل أشياءً كثيرةً لا تحصر. أولًا: الطيبات من الأوصاف كلها لله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا". ثانيًا: الطيبات من الأفعال، فكل أفعالٍ لله طيبة، حتى الأفعال التي يكون فيها ضرر على قومٍ هي في الحقيقة طيبة لما تتضمنه من الحكمة. المعنى الثالث في الطيبات: الطيبات من الأعمال، فلله الطيبات من العمال، وأما الخبائث فلا يقبلها الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا" وأما الخبيث فلا يقبله. ثم قال: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" هذا سلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه هل هو السلام الذي هو التحية المعروفة بين الناس؟ الجواب: لا، ولذلك لا يجهر الصحابة بهذا حتى يرد الرسول- عليه الصلاة والسلام-، ولو كان هو السلام بالخطاب المعروف لأبطل الصلاة، لكنه دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة. فإن قال قائل: إذا كان دعاء فما فائدة الخطاب: السلام عليك أيها النبي؛ لأنه إذا كان دعاء فالدعاء للغائب؟ فالجواب: أن هذا يدل على قوة استحضار الداعي، كأنما النبي صلى الله عليه وسلم أمامه يخاطبه، ولذلك نقول: إن هذا الدعاء بهذا اللفظ باقٍ إلى يوم القيامة كما سيأتي في الفوائد. وقوله: "أيها النبي": هذا منادى حذفت منه ياء النداء، والأصل: يا أيها النبي، و"النبي" يقال: النبيء، ويقال: النبي وهو الأكثر، أما على الوجه الأول: "النبيء" فهو فعيل بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، لأن كلمة فعيل نأتي للمعنيين جميعًا، إذا جعلناه بمعنى: فاعل صار معناه: المنبئ عن الله عز وجل وإذا جعلناه بمعنى: مفعول صار المعنى: المنبأ من الله، وكلا المعنيين صحيح ما دام اللفظ يحتمل هذا وهذا، وهو صادق بالمعنيين، فليكن للمعنيين، فإن قلنا: "النبيء" اسم مفعولٍ بمعنى: الذي أنبأه الله أو اسم فاعلٍ بمعنى: الذي ينبئ عباد الله بما أوحى الله إليه فهذا كلاهما صحيح لقول الله عز وجل: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم* وأن عذابي هو العذاب الأليم} [الحجر: 49 - 50]، أما إذا كانت بدون همزة النبي فقيل: إنها بمعنى المهموز، ولكنها حذفت الهمزة تخفيفًا، وقيل: إنها بمعنى الرفيع الشأن الرفيع المنزلة، وأنه مشتق من "النبوة" لا من "النبأ" ألا يمكن أن نقول في النبي بدون همز: إنه صالح للمعنيين؟ جميعًا؟ بلى، يصح، فنقول: هو رفيع المنزلة: وهو منبئ من الله، وهو منبي لعباد الله، إن النبي صلى الله عليه وسلم يوصف بأنه نبي ويوصف بأنه رسول كما قال تعالى: {محمد رسول الله} [الفتح: 29]. وقال: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67].

السلام ما معناه؟ معناه: الدعاء له بالسلامة من كل مؤذٍ. إذا قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم سالمًا من كل مؤذ؟ فالجواب: بلى، لكن قد يأتيه الأذى، ولهذا كان دعاء الرسل يوم القيامة عند الصراط: "اللهم سلم سلم"، فهو معرض للأذى. هذه واحدة. ثانيًا: السلامة من الأذى أو العدوان، عليه لئلا يعتدي أحدٌ على قبره، وقد وقع هذا: حاول اثنان من الملاحدة أن يتوصلوا إلى جسد النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذاه ذكروا أن بعض الخلفاء رأى في المنام وهو في بلد الخلافة، أن شخصين يحفران خندقًا ليتوصلا به إلى الجسد الشريف، تكررت الرؤيا عليه، ففزع من هذا فزعًا عظيمًا، وارتحل بنفسه من بلد الخلافة إلى المدينة، ثم قال: ادع لي كل من كان في المسجد، أو كل من كان في المدينة، فدعاهم أي: دعوا الناس إليه، فنظر في وجوههم فلم يجد الرجلين اللذين وصفا له في المنام، فقال: ادع أهل المدينة قالوا: لا يوجد أحد إلا رجلان غريبان في المسجد فقال: عليّ بهما، فلما جاءا وجد الوصف الذي رأى في المنام ينطبق عليهما، فأمسك بهما، وحقق معهما، وإذا هما يحفران خندقًا من محلٍ بعيدٍ في الليل، ويسكنان في النهار في المسجد، ثم أمر أن تحفر الأرض التي حول القبر إلى الجبل الحصي وتصب رصاصًا لا يقدر عليه أحد، وهذا من حماية الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم. "السلام عليك أيها النبي" قلنا: إنه السلامة من الأذى، هل يمكن أن يكون هناك أذى معنوي؟ قلنا: نعم، العدوان على شريعته لا شك أنه من الأذى، فحينئذٍ يكون "السلام عليك أيها النبي"، نسأل الله تعالى أن يسلم هذه الشريعة التي هي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم من كل ما يؤذيها، ولهذا قال بعض أهل العلم في قوله تعالى: {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر: 3]. قالوا: وكذلك شانئ سنته هو الأبتر، فصارت السلامة عامة في كل شيء. "ورحمة الله" الرحمة صفة وجودية، والسلام صفة عدمية، فيدعو له أولًا بانتفاء الأذى عنه، ثم بحصول الرحمة له، فيكون إيجادًا بعد إعدام، ورحمة الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم ثابتة، ولكننا نقول هذا تأكيدًا كما أمرنا الله أن نصلي عليه مع أنه قال: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [الأحزاب: 56]. لكن هذا من باب التأكيد من وجه، ومن باب مصلحتنا من وجهٍ آخر، لأننا إذا صلينا عليه امتثالًا لأمر الله أثبنا على هذا، وقضينا بعض حقوقه صلى الله عليه وسلم، وحصلنا على خيرٍ كثيرٍ بالصلاة عليه، إذا صلينا عليه واحدة صلى الله علينا بها عشرًا- صلوات الله وسلامه عليه-. "ورحمة الله وبركاته" البركات زيادة الخيرات وثبوت الخيرات؛ لأنها مأخوذة من البركة وهي: مجمع الماء، وعادةً يكون كثيرًا ثابتًا.

"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" بدأ بالرسول- عليه الصلاة والسلام- قبل النفس، لأن حق الرسول علينا أعظم من حقوقنا على أنفسنا، ولهذا الترتيب في التشهد ترتيب عجيب أولًا: حق الله عز وجل، ثم حق الرسول- عليه الصلاة والسلام-. "التحيات لله والصلوات والطيبات" هذا لله، "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" هذه للرسول، "السلام علينا" لأنفسنا، "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" هذا، عام وبدأنا بأنفسنا؛ لأن ذلك هو الأولى، ابدأ بنفسك، "وعلى عباد الله الصالحين"، وهذه العبودية الشرعية، وتشمل كل عبدٍ صالح سواء من هذه الأمة، أو من الأمم السابقة، أو من الملائكة، أو من الجن، كل عبدٍ صالحٍ يدخل في هذا العموم، "وعلى عباد الله الصالحين"، فهذه الجملة من أجمع الجمل. "أشهد ألا إله إلا الله" أشهد إقرارًا باللسان واعتقادًا بالجنان، فلا يكفي النطق باللسان ولا الإقرار بالجنان لابد من الأمرين، إذن "أشهد" يعني: أعترف بلساني وأعتقد بقلبي، "أن لا إله إلا الله" أي: لا إله حق، وليس معناه نفي الألوهية فيمن سوى الله، لأنه يوجد من سمي إلهًا ولكنه باطل، فيتعين أن يكون المعنى: لا إله حق، فالخبر إذن محذوف وتقديره: "حق"، وقد زعم بعض المعربين أن تقدير الخبر: "موجود" أي: لا إله موجود، وهذا غلط عظيم، لأنك لو قلت: لا إله موجود إلا الله صارت الأصنام آلهة وإلهًا؛ فهذا التقدير خطأ عظيم، والذي قدره من النحاة غفلوا عن مستلزماته، فيجب أن نقدره بكلمة "حق" لدلالة القرآن على هذا {ذلك بأن الله هو الحق} [الحج: 9]. وعلى هذا يكون قوله: "لا إله" ليس خبلا "لا" بل هو يدل من خبرها المحذوف. "أشهد أن لا إله إلا الله" في نسختي: "لا شريك له" وهذا غير صحيح، "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" أشهد بلساني معتقدًا بجناني بأن محمدًا رسول الله، ذكر باسمه فقط دون اسم أبيه وذلك للعلم به، واسم الأب أو الجد أو القبيلة إنما هو من أجل التعيين، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم متعين، وعليه إذا تعين اسم الإنسان باسم أبيه فقط يكفي. "أشهد أن محمدًا عبده ورسوله" هذه الشهادة واجبة، "أشهد أن محمدًا عبده" أي: المتعبد له المتدلل له، وهو أشد لناس عبادةً، حتى كان يقوم في الليل- صلوات الله وسلامه عليه- حتى تتورم قدماه، ويقول: "أفلا أكون عبدًا شكورًا" ورسوله أي: مرسله على الناس جميعًا، بل إلى الإنس والجن كما قال الله تعالى: {وأرسلناك للناس رسولًا وكفى بالله شهيدًا} [النساء: 79]. قال: "ثم يتخير من الدعاء ما أعجبه إليه". "ثم ليتخير" اللام هذه للإباحة، ويتخير بمعنى: يختار: أي: يرى ما هو خير، "وأعجبه إليه" أي: أسره إلى نفسه فيدعو به.

رواية النسائي: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد" وماذا يقولون؟ ليت المؤلف رحمه الله أتى بها، كانوا يقولون قبل أن يفرض عليهم التشهد: "السلام على الله من عباده السلام، على جبريل السلام، على ميكائيل"، وما أشبه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام" لأنك لو قلت: السلام على الله لأوهم هذا أن الرب عز وجل يمكن أن يلحقه نقص وضرر فتدعو له بالسلامة مع أنه عز وجل هو السلام السالم من كل نقص، ولكن قولوا: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، فإنكم إذا قلتم ذلك سلمتم على كل عبدٍ صالح في السماء والأرض، سواءً كان من الملائكة، أو من بني آدم السابقين، أو من الجن كل عبدٍ صالح في السماء والأرض فإنه تشمله هذه الكلمة: "عباد الله الصالحين"، ووجه ذلك في اللغة: أنها جمع مضاف، والجمع المضاف يكون للعموم، بل المفرد المضاف يكون للعموم. - ولأحمد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد، وأمره أن يعلمه الناس". "علمه" أي: علم ابن مسعود التشهد، وأمره أن يعلمه الناس حتى لا يظن الظان أن ذلك خاص به. في هذا الحديث فوائد عظيمة منها: مشروعية هذا الدعاء وأنه فرض، والفرض هو الشيء اللازم الذي لا انفكاك عنه، ولكن هو ركن في الصلاة أو ليس بركن؟ دلت السنة على أنه ليس بركنٍ في التشهد الأول، ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام عنه ساهيًا جبره بسجود السهو، ولو كان ركنًا لأتى به، أما في الأخير وهو الذي يعقبه السلام سواء كانت الصلاة ثنائية أو ثلاثية أو رباعية فإنه ركن لا تصح الصلاة إلا به. ومن فوائد هذا الحديث: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ السنة والعناية بها، يؤخذ هذا من اللفظ الذي حذفه المؤلف، وهو قوله- أعني ابن مسعود-: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمنا السورة من القرآن"، لأن هذا القبض يوجب انتباه المخاطب، وأن يعتني بما يقال له. فإن قال قائل: هل يمكن أن ينبه المخاطب بقبض يدٍ واحدة؟ الجواب: نعم، يمكن. فإن قال قائل: وهل يسن في السلام أن يقبض الإنسان بيديه كلتيهما، يعني: في المصافحة، أو تكفي يد واحدة؟ فالجواب: أننا لا نعلم أن السنة جاءت إلا بالمصافحة بيدٍ واحدة وهي اليمنى، لكن جرت العادة عند الناس أنهم أحيانًا يقبضون على الكف فيكون بين الكفين، أو يمسكون الذراع- ذراع اليد- إشارةً إلى إكرام هذا المسلم، فإذا كان الإنسان يفعلها أحيانًا دون أن يتخذها سنةً فأرجو ألا يكون به بأس إن شاء الله.

ومن فوائده: أن الله- جل وعلا- مستحق لهذه التعظيمات "التحيات لله" ومنها: العناية بالصلاة، حيث خصها بالذكر بقوله: "والصلوات". ومن فوائد هذا الحديث: أن الله عز وجل هو المستحق للطيبات لا في أفعاله وأوصافه ولا في أفعال خلقه، فهو طيب، وأوصافه طيبة، وأفعاله طيبة، فلا يقبل إلا الطيب. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم المقرون بـ"أل" لقوله: "السلام عليك" وقد ورد بالتنكير، لكن الذي في الصحيحين هو المعروف "السلام"، وعلى رواية التنكير يكون التنكير للتعظيم، أي: سلام عظيم عليك أيها النبي. فإن قال قائل: هل هذا السلام- الذي يقوله المصلي- هل هو سلام المتلاقيين، أو هو مجرد دعاء لغائب؟ فالجواب: الثاني، ولهذا لا يجهر الصحابة بهذا السلام حتى يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرد، وهم أيضًا لا يشعرون بهذا فهو دعاء لغائب. فإن قال قائل: إذا كان دعاء لغائب فلماذا لم يرد بصيغة السلام على النبي كما وردت التحيات بصيغة الغائب، : "التحيات لله" حتى يتناسق الكلام؟ فالجواب: أن الإنسان لما عظم الرب عز وجل، ومن تعظيمه تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، استحضر الإنسان بقلبه كأن النبي صلى الله عليه وسلم أمامه فقال: "السلام عليك" هذا من وجه، من وجهٍ آخر: إن الالتفات عن مساق الكلام يوجب الانتباه، انظر إلى الفاتحة: {الحمد لله رب العالمين* الرحمن الرحيم* مالك يوم الدين} كلها بصيغ الغائب، ثم قال: {إياك نعبد} لم يقل: إياه نعبد، كأن الإنسان لما أثنى على الله بهذه الأوصاف العظيمة صار كأنه استحضر ذلك بقلبه، وكأنه الإنسان يخاطب الله عز وجل. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه الأذية أن يؤذى وأن يضر لقوله: "السلام عليك أيها النبي"، وأما السلام على الله فعرفتم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال: "إن الله هو السلام" ولا يمكن أن يلحقه نقص. ومن فوائد هذا الحديث: ثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "السلام عليك أيها النبي"، ورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود من طريقٍ آخر قال: "كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك، فلما مات صرنا نقول: السلام على النبي"، وعندي أن هذا اجتهاد من عنده رضي الله عنه، ولكنه ليس بصوابٍ من وجهين أو أكثر:

الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم عبد الله بن مسعود هذا الحديث، ولم يقيد، لم يقل: ما دمت في حياتي، بل أمره أن يعلمه الناس بهذه الصيغة. ثانيًا: أن الذي يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا يسلمون عليه كتسليم المقابل لمقابله حتى نقول: إن المقابلة فاتت بموته، لكن يقولون ذلك على وجه الادعاء لا على وجه المخاطبة. ثالثًا: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه علم الناس التشهد، وهو خليفة على منبر النبي صلى الله عيه وسلم بلفظ: "السلام عليك أيها النبي"، وهذا بمشهد الصحابة، وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه أحد، وهو- بلا شك- أعلم من عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه وأفقه، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن يكن فيكم محدثون فعمر"، فالصواب المتعين الذي جرى عليه الناس كلهم فيما نعلم أن كل الفقهاء على أن اللفظ الصحيح في ذلك هو: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى رحمة الله، ولهذا شرع لنا أن ندعو له بذلك، وكذلك مفتقر إلى أن يبارك الله له في عمله، ولهذا أمرنا أن ندعو له بذلك. فإن قال قائل: الرحمة والبركة ثابتتان للرسول- عليه الصلاة والسلام- فكيف ندعو له بهما؟ فالجواب أن نقول: الصلاة ثابتة للرسول- عليه الصلاة والسلام- وقد أخبر الله بها أنه يصلى على رسوله قبل أن يأمرنا بذلك، فقال عز وجل: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا} [الأحزاب: 56]. إذن فصلاتنا عليه ودعاؤنا له بالرحمة والبركة ليس لأنه محتاج، إذ إن هذا ثابت له، لمن من باب التوكيد من وجه، ومن باب كتابة الأجر لنا من وجهٍ آخر. ثالثًا: ولربما يكون من أسباب أن صلاة الله عليه ورحمة الله له وبركاته دعاؤنا. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات الرحمة لله، واعلم أن الرحمة تطلق على معنيين: المعنى الأول: أن تكون صفة لله عز وجل، وهذا كثير وهو الأصل كما قال عز وجل: {وربك الغفور ذو الرحمة} [الكهف: 58]. الثاني: أن تطلق على آثار رحمة الله لا على الرحمة بل على آثارها، مثل قول الله- تبارك وتعالى-: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته} [الشورى: 28]. المراد: آثار الرحمة وذلك بنبات الأرض ونحوها، ومنه قوله تعالى في الحديث القدسي في الجنة: "أنت رحمتي أرحم بها من أشاء"، هذه رحمة مخلوقة من آثار رحمة الله عز وجل بالمناسبة {وهو الذي ينزل

الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته} ما المراد برحمته؟ المطر وما ترتب عليه من النبات، في سنةٍ من السنوات أتانا المطر وتدارك علينا ليلًا ونهارًا، وتهدمت كثير من البيوت هنا، حتى كان المطر في المساجد ينزل من السطح إلى الطابق الأرضي وتضرر الناس ورفع الله عنهم الضرر وأصبح بعض العوام يقول في قوله تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته}: إن رحمة الله هي الشمس، لماذا؟ لأنه حصل لها رفع الأذى والضرر. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى بركة الله عز وجل، هذا وهو النبي، فكيف بنا نحن؟ نحن أشد فقرًا إلى بركة الله عز وجل من النبي صلى الله عليه وسلم بركة في العمل، بركة في العلم، بركة في الجاه، بركة في الأموال، بركة في الأولاد، كل هذا نحتاج إليه، أحيانًا يضيع الوقت على الإنسان يومًا كاملًا ما استفاد شيء فانتبه لهذا! إذا عرفت أنك لا تنتج أو لا تعمل كثيرًا فاحذر احذر احذر، لأن الله قال: {ولا تطع من أغفلنا قبله عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} [الكهف: 28]. ضائع. من فوائد هذا الحديث: الرد على الذي يعتلقون بالرسول- عليه الصلاة والسلام- يطلبون منه كشف الضر وجلب النفع، وجه ذلك أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عبد ومحتاج إلى الرحمة وإلى البركة. ومنها: المنحة من الله عز وجل أن يبارك في عمله وعمره وجميع أحواله. ومنها: ما سبق في آداب الكل والشرب من صحيح مسلمٍ من لعق الأصابع، والاجتماع على الطعام، وأن يأكل من أعلاه. ومنها: أن الإنسان إذا بورك له في شيءٍ فليلزمه، لا يبقى كل ساعةٍ له رأي، فمثلًا إذا شرع يحفظ "عمدة الأحكام" فليستمر، لا يقول: إذا أخذ ما أخذ أعدل إلى كتابٍ آخر، ومن ذلك أيضًا: أن يراجع المسألة ويتبع الفهرس يطلب مكان هذه المسألة، بعض الناس يتتبع الفهرس إذا رأى عنوانًا يعجبه أخذه ثم ترك الذي من أجله كان يطالع الفهرس، وهذا غلط، هذا يضيع عليه الوقت، ما دمت أنك تريد مسالةً معينةً لا تعدل إلى غيرها، إذا أعجبك بحث في هذا الفهرس ضع عليه علامةً وإذا انتهيت من المسألة ارجع إليه، هذا إذا أردت البركة في العلم وفي الوقت، وأما إذا كنت كلما صار أمام عينيك عنوان أعجبك تترك المسألة التي من أجلها تراجع الفهرس فيضيع عليك الوقت فهذه من البركة، المهم: أن أسباب البركة كثيرة. مسألة: ودعاء الإنسان ربه عز وجل بالبركة ليس معناه: أن يمسك عن فعل الأسباب، يعني: إذا دعوت الله بشيءٍ فلابد أن تفعل أسبابه، وإلا كان تركك الأسباب طعنًا في حكمة الله عز وجل، إنسان يقول: "اللهم ارزقني ذريةً صالحة"، نقول: تزوج يا رجل. قال: هذا بيد الله من أين تأتي الذرية؟ من الزواج، وليست الذرية تنبت من السطح، بل لابد من الزواج أولًا؛ يقول: "اللهم ارزقني رزقًا واسعًا" وجلس نام على فراشه، وقال: الله يرزق الحيات في جحورها. نقول: هذا

غلط، قال الله عز وجل: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} [الملك: 15]. وقال عز وجل: {فإذا قضيت الصلاة- يعني الجمعة- فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا} [الحجرات: 10]. فإذا كنت تريد البركة، أو أي شيءٍ تريده فافعل الأسباب، وإلا كنت طاعنًا في حكمة الله عز وجل من حيث لا تشعر. "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، نقول في السلام: ما قلنا في السلام على الرسول، بمعنى: أن يسلمنا الله من كل الآفات العقلية والفكرية والجهل وغير ذلك، وفي هذا الترتيب مناسبة عظيمة: أول ما في هذا التشهد هو الثناء على الله عز وجل الذي حقه هو أحق الحقوق، ثم بعد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن حقه أعظم من حقوق الأنفس والأولاد والآباء، ثم حق الإنسان. "السلام علينا" تبدأ بنفسك، "وعلى عباد الله الصالحين": الرابع: حق العموم، وأظن أننا نسينا أن نقول: "علينا" على من؟ قيل: على الأمة الإسلامية لأنها كواحد، وقيل: إن قوله "علينا" يعني: "من حولنا إذا كان يصلي في بيته، فالمراد: نفسه وأهل بيته إذا كان في جماعة، فالمراد: هو والجماعة. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان إذا دعا فليبدأ بنفسه، الدليل: "السلام علينا"، فبدأ بنفسه. ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة الصلاح: "اللهم اجعلنا من الصالحين"، كل صالحٍ يدعو له المسلمون في كل صلاة وهو لا يدري، فإذا أوصاك واحد بالدعاء مثلًا تقول: الحمد لله أنا أدعو لك في كل صلاةٍ إن كنت صالحًا، لأن الحديث يقول: "على عباد الله الصالحين". ومن فوائد هذا الحديث: أن من عباد الله من ليس بصالح، لأنه قيد العباد بالصالحين فقال: "عباد الله الصالحين". فمن هو من عباد الله وهو ليس بصالح؟ هو من كان عبدًا لله بالعبودية الكونية القدرية لا الشرعية، كل الخلق عبيد لله عز وجل، قال تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا} [مريم: 93]. لكن العبد الصالح هو الذي أريد بهذا الحديث. ومن فوائد هذا الحديث: أن اللفظ العام يشمل جميع أفراده، دليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض"، مع أن الإنسان حين يدعو بهذا قد لا يستحضر العموم، لكن نقول: اللفظ موضوع للعموم، فنأخذ من ذلك أن العموم يشمل جميع الأفراد، ولهذا قال الفقهاء: لو قال الإنسان: "بيوتي وقف" يثبت الوقف لكل البيوت؟ نعم. لأنه لفظ عام، ولكن اللفظ العام يجوز للمتكلم له أن يريد بض الأفراد، مثل قول الله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} [آل عمران: 173]. من القائل؟ واحد، فالمراد بالناس هنا: الجنس لا العموم، {إن الناس قد جمعوا لكم} من الناس؟ أبو

سفيان ومن معه، فهنا أراد الله عز وجل بهذا العموم شيئًا خاصًا، وهذا ما يعبر عنه أصول الفقه بالعام الذي أريد به الخاص، إذا قال الإنسان: "بيوتي وقف"، ثم قال: "أردت من بيوتي ثلاثة" وهن ثلاثون بيتًا يقبل أو لا يقبل؟ يقبل؛ لأنه يجوز أن يريد المتكلم لا باللفظ العام بعض أفراده، ويسمى العام الذي أريد به الخصوص، قال: "نسائي طوالق" وعنده أربع يطلقن؟ يطلقن، إذا قال: "ما أردت إلا فلانة؟ " يقبل؛ لأنه أراد بهذا الآن الخصوص فيصح. لكن لو قال: "نسائي الأربع طوالق" ثم قال: "ما أردت إلا فلانة". لا يقبل، لأنه نص على العدد فلا يقبل. الشاهد: أن الأصل في العام أنه يشمل جميع الأفراد، ولذلك لو جاء ذلك في لفظ عام: وقال: يخرج منه كذا وكذا؛ فلك أن تطالبه بالدليل؛ لأن الحجة معك، تقول: ما الدليل على أن هذا الفرد خرج من العموم والإنسان عنده دليل من النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض"، إذا دلت القرينة على أن المراد المخصوص، يعني مثلًا قال: أكرم الطلبة، ومعلوم أن الطلبة فيهم صنف مهملون، وفيهم صنف يحضرون بالأبدان ولا يحضرون بالقلوب، والرجل قال لخادمه: أكرم الطلبة، هل يكرم كل الطلبة؟ إذا نظرنا إلى اللفظ قلنا إنه: يكرمهم كلهم، لكن إذا نظرنا للمعنى وأنه إنما أراد إكرام من هو مجتهد نحمل اللفظ على الخاص بالقرينة. ومن فوائد هذا الحديث: الإقرار لله عز وجل بالتوحيد، الإقرار باللسان المطابق بالقلب: "أشهد أن لا إله إلا الله". ومنها: أن التعبير بـ"أشهد" يدل على كمال اليقين، لأن الأصل في الشهادة ما شوهد، فإذا كمل اليقين عبر عنه بالشهادة. ومن فوائد هذا الحديث: أن لا إله حق إلا الله عز وجل وجميع الآلهة باطلة، قال الله عز وجل: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23]. نقول: لما قالت قريش: إن اللات إله هل صار بذلك إلهًا؟ أبدًا، ولا العزى ولا هبل ولا غيرها، كل مما سوى الله ممن يتعبد له فهو باطل. ومن فوائد هذا الحديث: علو قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم حقه لقوله: "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذه الشهادة بعد شهادة أن لا إله إلا الله، فدل هذا على أن حق النبي صلى الله عليه وسلم بعد حق الله ولا يشاركه مخلوق في هذا الحق. فإن قال قائل: ألم يقل الله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا} [النساء: 36]؟ فالجواب: بلى، لكن عباد الله لا تتحقق حتى يشهد الإنسان أن محمدًا رسول الله ويتبع شريعته، ولهذا لا يشكل عليك أن الله لم يذكر حق الرسول في هذه الآية، لأننا نقول: عبادة الله تتحقق إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتبع إلا بعد الشهادة له بالرسالة.

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم عبد لا يعبد، هو عبد فلا يستحق أن يعبد، لأنه لو يستحق أن يعبد لكان ربًا، ولكنه عبد. ومنها: إثبات الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "ورسوله"، وإثبات العبودية والرسالة فيهما فائدة الرد الغالين والمفرطين في حق الرسول- عليه الصلاة والسلام-؛ وجه ذلك: أن الغالين قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم له تأثير في المخلوقات وله حق في الربوبية؛ وهذا يكذبه قوله: "عبده"، والثاني: المفرطون قالوا: إنه ليس برسول، أو إنه رسول إلى العرب خاصةً، وفي الجمع بين العبودية والرسالة رد على الطائفتين جميعًا. ومن فوائد هذا الحديث: رفع الإشكال الذي أورده بعض العلماء في قوله: "السلام عليك أيها النبي"، ولم يقل: "أيها الرسول"؛ لأن الحديث جمع بين الوصفين: النبوة في أول الحديث، والرسالة في آخر الحديث؛ فصار ذكر الرسالة بعد ذكر النبوة تصريح بالمضمون، ولو ذكر في الأول الرسول لكان إثباتًا لنبوة بطريق اللزوم وليس بالتصريح، وهنا نذكر حديث البراء بن عازب الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم إياه بقوله عند النوم وفيه: "آمنت بنبيك الذي أرسلت" فلما أعادها البراء على النبي صلى الله عليه وسلم قال: آمنت برسولك الذي أرسلت، قال: "لا، بنبيك الذي أرسلت"، فمن العلماء من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه حفاظًا على الألفاظ النبوية في الأذكار فلا تغير ولو إلى معنى يتضمن المغير، ومنهم من قال: المراد أنه لو قال: برسولك الذي أرسلت، لم يتعين أنه النبي؛ لأن الله أرسل جبريل كما قال عز وجل: {إنه لقول رسولٍ كريم* ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين} [التكوير: 19 - 20]. وجبريل ليس بنبي، فإذا قال: "برسولك الذي أرسلت" لم يتعين أن يكون المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قال: "بنبيك الذي أرسلت" تعين أن يكون المراد: النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك وجه آخر في عدم تغييره التعبير وهو: أنه لو قال: "برسولك الذي أرسلت" لصار دلالة ذلك على النبوة من باب اللزوم، فإذا قال: "بنبيك الذي أرسلت" صار من باب التصريح، يعني: ليس ضمنًا. ومن فوائد هذا الحديث: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لا تدخل في هذا التشهد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بها بل قال: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه". ومنها: جواز الدعاء بكل ما يريده الإنسان وهو يصلي لأنه قال: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه"، لو دعا بشيءٍ من أمور الدنيا جاز خلفًا لبعض العلماء الذي يقول: إذا دعا في الصلاة بشيءٍ من أمور الدنيا بطلت الصلاة، هذا خلاف الحديث، الحديث: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه"، يجوز أن يدعو الله عز وجل بأن ينجح في الاختبار؟ نعم يجوز، وإذ أعجبه شيئًا

محرمًا ودعا به يجوز أو لا يجوز؟ لا يجوز حتى لو أعجبه، لأن هذا من الاعتداء في الدعاء، والله تعالى يقول: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية} [الأعراف: 55]. ومن فوائد هذا الحديث أن للإنسان أن يفكر في الصلاة فيما يرى أن يفعل، يعني: يفكر يطول أو لا يطول، يدعو بكذا أو لا يدعو بكذا، لأن هذا حديث النفس ولا يؤثر؛ لأنه لا يمكن أن يتخير الأعجب إلا بعد أن يفكر. إذا قال قائل: تفكيره هذا هل يعد نقصًا في الصلاة؟ الجواب: لا، لأن هذا مما يتعلق بالصلاة كتفكيره في معنى "سبحان ربي العظيم" و"سبحان ربي الأعلى" وما أشبه ذلك. ومن فوائد هذا الحديث: أن التشهد فرض لقوله في رواية النسائي: "قبل أن يفرض علينا التشهد" ولكن هل هو فرض لازم وهو ركن، أو فرض يجبر بغيره؟ فيه تفصيل، أما التشهد الأول فقد دلت السنة على أنه يجبر بغيره وذلك بسجود السهو، وأما التشهد الأخير فهو فرض لابد منه، إذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوع حادثة تدل على أنه يجبر بغيره. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للعالم أن يقول لمن يفهم: "علم الناس"، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن مسعودٍ أن يعلمه الناس. ومنها: جواز التوكيل في إبلاغ العلم، وهذا له شواهد، الذين يبعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس هم وكلاء له ونواب عنه، ولكن بشرط أن يكون هذا الذي قام بتعليم الغير فاهمًا عارفًا، أما الإنسان الذي لا يتصور الشيء أو لا يفهمه لا يجوز أن يتحدث، في سنةٍ من السنوات تكلمنا عن ليلة النصف من شعبان وقلنا: إن الناس يظنون أن ليلة النصف من شعبان يكتب فيها ما يكون في السنة وهذا ليس بصحيح، وإنما الذي يكتب فيها ما يكون في السنة هي ليلة القدر وهي في رمضان في العشر الأخير. بعض العوام قال: فلان- يعني: أنا- يؤكد أن ليلة النصف هي ليلة المحو والكتب، يكتب فيها كل شيء، عكس ما أريد، حتى ذكروا لنا أن ناسًا من الرياض لما قدم إليهم جعل يجادل ويقول: أنت أفقه من الشيخ؟ فالمسكين فهم العكس، فأقول: لابد لمن ينقل كلام العلماء أن يكون متقنًا له عارفًا لمعناه لئلا يضل. 301 - ولمسلم: عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ... ". إلى آخره. تقدم لنا ذكر التشهد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه ابن مسعود وأمره أن يعلمه الناس وهو: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا

وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول عبده ورسوله: ، وفيه صفة أخرى: حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد: "التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله"، وهذه تختلف في هذه الجمل عن حديث ابن مسعود أيهما نختار؟ اختار بعض العلماء تشهد ابن مسعود، وقال: لأنه ثابت في الصحيحين، فهو أقوى من حديث ابن عباسٍ الثابت في مسلم، ولأنه فيه عطف لهذه الجمل: "التحيات لله، والصلوات والطيبات"، أما هذا فليس فيه عطف، والعطف يقتضي المغايرة، فيكون حديث ابن مسعود الأعلى معنى أكثر من حديث ابن عباس، ولهذا رجحوا حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنهما، ولكن الصحيح: أنه لا ترجيح ما دام يمكن العمل بالحديثين جميعًا كما هو القاعدة المتبعة فيما إذا وردت النصوص مختلفة وأمكن الجميع بينها، فإننا لا نلجأ إلى الترجيح، لأن الترجيح معناه: الأخذ بالراجح وإهمال الآخر، وهذا لا ينبغي، والجمع هنا ممكن، وإذا بالجمع فكيف نجمع؟ هل نقولهما في آنٍ واحد، ونقول: "التحيات لله، والصلوات والطيبات، التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله"؟ لا، ولكن نقول هذا أحيانًا وهذا أحيانًا لنعمل بالسنة، وهذا هو الصحيح أنه ينبغي للإنسان أن يتشهد بما دل عليه حديث ابن مسعود أحيانًا، وأحيانًا بما دل عليه حديث ابن عباسٍ حتى يأتي بالسنة على وجهيها، وفي هذا أيضًا فائدة: إذا تشهد بهما جميعًا وهو حفظ السنة، ولذلك الذين يستمرون على حديث اين مسعودٍ لو تسألهم عن حديث ابن عباسٍ ما يعرفونه، فإذا عمل بالنصين جميعًا صار في ذلك حفظ للسنة. وقد سبق لنا فائدة إتيان بعض العبادات على وجوهٍ متنوعة، وقلنا: من فائدتها أن تنوع الذكر سكون أبلغ في الثناء على الله، لأن في هذا الذكر ما ليس في الثاني. وقلنا أيضًا من فوائده: أن الإنسان يستحضر ما يقول، لأنه إذا ذكر الله بهذا الذكر في هذه المرة ثم ذكره بالذكر الآخر في المرة القادمة صار قلبه حاضرً، أما إذا لزم ذكرًا واحدًا فصار- كما يقولون- كالآلة الأوتوماتيكية يفعله على العادة بخلاف ما إذا جعل نفسه تتطلع مرةً إلى هذا ومرةً إلى هذا، صار عنده استحضارًا أكبر. الفائدة الثالثة: أن هذا أيسر على المكلف فيما كانت الأنواع بعضها أيسر من بعض، فإن هذا قد يكون في بعض الأحيان ما يناسبه إلى الأسهل والأيسر، مثال ذلك: أذكار الصلوات، الذكر خلف الصلوات فيه عدة وجوهٍ منها: أن تذكر الله فتقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، كل الأربع تذكرها (25) مرةً فيكون المجموع مائة. ومنها: أن تقول: "سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله (33)، الحمد لله (33)، الله أكبر (34) فيجتمع مائة.

ومنها: أن تقول: سبحان الله، والحمد لله والله أكبر (33) وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، فيجتمع منها المائة. ومنها: أن تقول: سبحان الله (10) مرات، والحمد لله (10)، والله أكبر (10)، مرات، وهذا يجتمع منها ثلاثون إذن هذا أيسر ربما في بعض الحالات يكون هذا أنسب لك لكونك مشغولًا أو ما أشبه ذلك. فالمهم: أن من جملة فوائد إتيان العبادات على وجودهٍ متنوعة: أنه قد يكون في ذلك تيسير على المكلف، وهذه القاعدة هي التي نص عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكثير من أهل العلم أن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوعة ينبغي للإنسان أن يعمل بها كلها كل واحدةٍ من آنٍ لآخر. ومن ذلك أيضًا- ومع الأسف لا نعمل به-: القراءات الواردة في القرآن، فإنه ينبغي للإنسان أن يتعلمها، وأن يقرأ بها، أحيانًا بهذه القراءة وأحيانًا بهذه القراءة، لأن الكل وارد عن رسول الله- عليه الصلاة والسلام- وثابت عنه، فإذا لزمنا قراءة قارئٍ واحدٍ أغفلنا بقية القراءات، وإذا فهمنا القراءات كلها وقرأنا به ما استطعنا كان هذا أحسن وأوفق وأشد اتباعًا للسنة حتى لا تلزم طريقة واحدة، فالقراءات المعروفة السبع ينبغي لطالب العلم أن يتعلمها، ولاسيما الصغير، لأنه إذا تعلمها من صغره لا ينساها، الكبير قد يتعلمها لكن ينسى ما كان يعرفه من قبل، لكن الصغير يسهل عليه أنت يتعلم القراءات السبع، ويقرأ أحيانًا بهذا وأحيانًا بهذا، لكن لا يقرؤه عند العامة، لأنه إذا قرأه عند العامة صار في ذلك فتنة، فإن العامة إذا قرأ عليهم قارئ في كتاب الله ما لا يعرفون أنكروا عليه إنكارًا شديدًا، ثم إذا صح ما قاله صار في قلوبهم شيء من القرآن، فلهذا أن تقرأ القراءات لا ينبغي عند العامة؛ لما في ذلك من الفتنة، وهذا من أحد الأسباب التي جعلت أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يوحد المصاحف على مصحفٍ واحد، فإن الناس بدءوا يختلفون في القراءات وحصل بذلك فتنة، فرأى رضي الله عنه- بتوفيق الله له وللأمة والحمد لله- أن يجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ على لغة قريش، وهذا المصحف الواحد متضمن للقراءات السبع ما تخرج عنه. * * *

صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: 302 - وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يدعو في صلاته، ولم يحمد لله، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عجل هذا، ثم دعاه، فقال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو لما شاء". رواه أحمد، والثلاثة، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم. هذا الحديث- كما ترون- مطلق أو مجمل، لم يبين الرسول- عليه الصلاة والسلام- كيف يحمد الله، وكيف يثنى عليه، وكيف يصلى عليه صلى الله عليه وسلم، فيمكن أن يفصل بالتشهد، لأن التشهد أوله ثناء على الله، ثم سلام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى عباد الله الصالحين، ثم صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يدعو الإنسان، فيحمل هذا الحديث الذي أجمل فيه الرسول- عليه الصلاة والسلام- حمد الله، والثناء عليه، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم على التشهد، وأنه ينبغي للإنسان في تشهده أن يبدأ بالتشهد، ثم بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم على عباد الله الصالحين، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك، ثم يدعو، والأفضل في هذا المقام وفي غيره: أن يتخير الإنسان من الأدعية ما وردت به السنة قبل كل شيء، حتى وإن لم يكن من الدعاء الواجب فإنه ينبغي أن يختاره قبل كل شيء، ثم بعد هذا يدعو بما شاء، هذا هو الأفضل، ولا نقول كما قال بعض الناس: لا تدع إلا بما جاءت به السنة ولا تزد عليه، فإن هذا خطأ، لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- قال في حديث ابن مسعود: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء" وأطلق، فنقول: ما وردت به السنة هو خير مما تدعو به أنت، ثم بعد ذلك تدعو بما شئت، مما وردت به السنة ما سيأتي- إن شاء الله تعالى- وهو أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ الإنسان من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، فإن الدعاء هذا واجب عند كثيرٍ من أهل العلم، حتى إن أحد التابعين- وهو طاوس- لما صلى ابنه لم يدع بذلك أمره أن يعيد الصلاة. فالدعاء بهذا- أي: التعوذ من هذه الأربعة- واجب عن بعض أهل العلم، وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، فلا ينبغي للإنسان أن يدعه، وكون الناس يتهاونون به لاسيما في صلاة التراويح هذا من الجهل، كيف يتساهل بهذا الدعاء العظيم؟ تستعيذ بالله من

كل شرٍ في الحقيقة من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. لو جمعت لك هذه الأدعية جمعها لك الرسول- عليه الصلاة والسلام- متى تحصل هذه الأدعية الجامعة النافعة التي أمرت أن تدعو الله بها في التشهد الأخير وتدعها على أساس أنها ليست بواجبة، وما يدريك أنها ليست واجبة، إذا كان الرسول أمر بها، فلقائلٍ أن يقول: ما أمر به الرسول فالأصل فيه الوجوب، وألزمت بأن تقولها، وإن كان جمهور أهل العلم يرون أنها ليست بواجبة، ولكنهم متفقون على أنها من السنة، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يدعها. 303 - وعن أبي مسعودٍ الأنصاري رضي الله عنه قال: قال بشير بن سعد: يا رسول الله، أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ فسكت، ثم قال: قولوا: "اللهم صل على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما بارك على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم". رواه مسلم. - وزاد ابن خزيمة فيه: "فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ " تقدم لنا التشهد الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وذكرنا أن اختلاف الروايتين، بل اختلاف الصيغتين أن هذا مما جاءت به السنة في بعض العبادات، وبينا أن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوعةٍ أن الصحيح فيها أن يفعل الإنسان هذا تارةً وهذا تارةً، لأجل أن يجمع بين السنن ويفعل جميع ما ورد، وبينا أن تنوع العبادات من رحمة الله بالعباد ومن حكمته لم يتضمنه من المصلحة، وأشرنا إليها فيما سبق، فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التسليم عليه أمر الله تعالى بها في القرآن فقال: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا} [الأحزاب: 56]. فأمر الله تعالى بالصلاة عليه، السلام علمه النبي- عليه الصلاة والسلام- أصحابه بأن أمرهم أن يقولوا: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". أما الصلاة فلم يعلمهم، ولكن إذا صلى الإنسان على أي صيغةٍ كانت حصل بذلك الامتثال، لأن ما طلبه بشير بن سعد رضي الله عنه ليس كطلب اليهود في قصة البقرة التي أمروا أن يذبحوها فقالوا: ما هي؟ ما هي؟ ما هي؟ وإنما أراد رضي الله عنه أن يتبين له الكمال وإلا فإنه يعرف، وكل عالمٍ باللسان العربي يعرف أن المطلق يكتفى فيه بأي صيغةٍ كانت، فلو أن الإنسان قال: "اللهم صل على محمد" لكان قد امتثل قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه}، ولكن

بشيرًا رضي الله عنه أراد الكمال، كما أن قوله: {وسلموا تسليمًا} لو قال: السلام على رسول الله كفى، ولكن الرسول- عليه الصلاة والسلام- علمهم صفةً أكمل: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، فكان بشيرًا رضي الله عنه أراد أن يتعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم الصيغة الكاملة فقال: "قولوا: اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم، اللهم بارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركت على إبراهيم في العالمين". قوله: "اللهم صل على محمد" اختلف العلماء في معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: إن الصلاة من الله: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الآدميين: الدعاء، ولكن هذا لا دليل عليه، بل إن الدليل على خلافه، لأن الله قال في القرآن: {أولئك علهم صلوات من ربهم ورحمة} [البقرة: 157]. فدل على ذلك أن الصلاة غير الرحمة، وهنا أضافها الله؟ على نفسه {عليهم صلوات من ربهم ورحمة}، فدل هذا على أن الصلاة من الله ليست هي الرحمة، إذ لو كان كذلك لكان الله تعالى عطف الشيء على نفسه، وهذا خلاف بلاغة القرآن. فما هي الصلاة من الله؟ أحسن ما قيل في ذلك ما قاله أبو العالية رحمه الله: "بأن الصلاة من الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى" أن الله تعالى يذكره بالصفات الحميدة في الملأ الأعلى من الملائكة- عليهم الصلاة والسلام- الذي يحملون العرش ومن حوله، هؤلاء هم الملأ الأعلى، فيثني الله على عبده محمد- عليه الصلاة والسلام- بأن يصفه بصفاتٍ كثيرةٍ صفات المحامد التي يستحقها صلى الله عليه وسلم، وأما صلاتنا نحن فإذا قلنا: "اللهم صل على محمد" فإننا ندعو الله أن يثني عليه في الملأ الأعلى وكذلك الملائكة؛ فإن دعاء الملائكة بالصلاة على الإنسان معناه: أنها تسأل الله أن يثني عليه في الملأ الأعلى كما جاء في الحديث الصحيح في منتظر الصلاة، الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه تقول: "اللهم صل عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه"، وهذا أيضًا مما يدل على أن الصلاة غير الرحمة، بل هي أبلغ. والحاصل: أن معنى قولك: "اللهم صل على محمد": اللهم أثن عليه في الملأ الأعلى، أي: اذكره بصفات الكمال في الملأ الأعلى، وهذا من رفع الذكر له صلى الله عليه وسلم الذي أخبر الله به في قوله: {ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: 4]. إذا كان كذلك فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فيما أوحاه الله إليه أن من صلى عليه مرةً واحدةً صلى الله عليه بها عشرًا، فأنت إذا قلت: "اللهم صل على محمد" تسأل الله أن يثني عليه مرة، فإن الله يثني عليك عشر مرات، ولهذا ينبغي الإكثار من

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لاسيما في يوم الجمعة، فإن الرسول أمر أن نكثر عليه في هذا اليوم من الصلاة. "اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد"، "على محمد" من الذي قال: "قولوا: اللهم صل على محمد"؟ محمد- عليه الصلاة والسلام- وهو أعلم الناس بما يستحق من الأوصاف، وهو أيضًا أنصف الناس للأمة بما يعلمها من الصفات الكاملة والصيغ المحبوبة إلى الله وإلى رسوله، وبهذا عرفنا أن قول بعض الناس: "اللهم صل على سيدنا محمد" أنه قول مخالف لما جاءت به السنة، وأنك لا تقل: "اللهم صل على سيدنا محمد" هو سيد لك قلته أم لم تقله، لكن إذا كنت تعتقد أنه سيد حقيقةً فالتزم قوله، لأن السيد هو المتبوع، فإذا كنت تقول: "سيد" لا تخرج عن قوله، ولا تخرج عن توجيهه وإرشاده وتعليمه، وهو لم يقل لأمته: "قولوا: اللهم صل على سيدنا" قال: "قولوا: اللهم صل على محمد"، وأنت إذا كنت تعتقد أنه سيدك حقيقة، فإن السيد لابد أن يكون مطاعًا. "اللهم صل على محمد" ومحمد اسمه، وله أسماء أخرى منها: أحمد، وقد ذكر هذين الاسمين في القرآن فقال: {محمد رسول الله والذين معه} [الفتح: 29]. {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران: 144]. وقال عن عيسى أنه قال لبني إسرائيل: {ومبشرًا برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6]. وتأمل الحكمة في إخبار عيسى بأنه أحمد دون محمد، لأن أحمد اسم تفضيلٍ مبني من اسم الفاعل واسم مفعولٍ فهو حامد محمود، ليتبين بذلك فضله في بني إسرائيل؛ لأن أحمد اسم تفضيل، والصحيح أنه مأخوذ من المبني للفاعل والمبني للمفعول، يعني: هو أحمد الناس لله، وهو أحق الناس أن يحمد- عليه الصلاة والسلام-، فهو جامع بين الأمرين: اسم فاعلٍ واسم مفعول، ولهذا جاء بلفظ أحمد، ولا شبهة للنصراني في قوله: "إن الذي بشر به عيسى أحمد، وإن نبيكم أيها العرب اسمه محمد". نقول: لا مانع من أن يسمى الإنسان باسمين أو أكثر، فالمسيح اسمه المسيح، واسمه عيسى فله اسمان، ولا مانع من ذلك، ثم إن عيسى- عليه الصلاة والسلام- بشركم به، وجاءكم محمد بالبينات، ولهذا قال {فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6]. وهل جاءكم أحد غير محمد- عليه الصلاة والسلام- ما جاءكم إلا محمد، فلا شبهة له فيما ادعى. والحاصل: أن محمدًا علم من أسمائه صلى الله عليه وسلم وله أسماء متعددة، واعلم أن أسماء النبي صلى الله عليه وسلم

أعلام وأوصاف، فهي من حيث دلالتها على الذات أعلام، ومن حيث دلالتها على المعنى أوصاف، فـ"محمد" اسم مفعول من حمدت، وجاء بلفظ التشديد للمبالغة لكثرة الخصال التي يحمد عليها صلى الله عليه وسلم. "اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد" من هم آل محمد؟ قال بعض العلماء: آل الرسول صلى الله عليه وسلم هو أزواجه وقراباته، وقال آخرون: بل آله: أتباعه على دينه، والصحيح: أن "آل" من الكلمات المشتركة التي تصلح لهذا ولهذا، فإن قيل: آل: أصحابه وأتباعه، فالمراد بـ"الآل": الأقارب لكن المؤمنون منهم، لأن غير المؤمن من قرابة الرسول- عليه الصلاة والسلام- ليس من آله، بدليل أن الله قال لنوحٍ لما قال: {إن ابني من أهلي} [هود: 45]. قال: {إنه ليس من أهلك} [هود: 46]. وعلى هذا فآل النبي إذا جيء بالآل والأصحاب والأتباع صار المراد بالآل: الأقارب المؤمنون، وصار المراد بالصحابة: أصحابه، وبالأتباع: كل من تبعه إلى يوم القيامة، وأما إذا جاءت "آل" مفردة فإنها للأتباع على الدين، والآل تطلق على الأتباع على الدين وإن كانوا غير قرابة، قال الله تعالى: {ويوم تقوموا الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. يعني: أتباعه على ما هو عليه من الباطل. وقوله: "كما صليت على إبراهيم"، هذه الكاف كثر خوض العلماء فيها وأوردوا إشكالًا، فقالوا: "كما صليت" المعروف أنه المشبه أدنى من المشبه به، وهنا ضبه الصلاة المطلوبة لمحمدٍ- عليه الصلاة والسلام- بالصلوات التي كانت على إبراهيم، ومعلوم أن محمدًا- عليه الصلاة والسلام- أشرف الخلق عند الله- سبحانه وتعالى-، فكيف تطلب صلاة دون الصلاة على إبراهيم على هذه القاعدة، ولكن نقول: إن الكاف هنا ليست للتشبيه ولكنها للتعليل، يعني: "اللهم صل على محمد"، لأنك صليت على إبراهيم، وهذا كقوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198]. يعني: لأنه هداكم، وإذا كانت للتعليل صارت الفائدة منها التوسل إلى الله- عز وجل- بإنعامه السابق اللاحق، يعني: فكأنما هذه عادتك وكرمك وإحسانك وقد صليت على إبراهيم، فإنا نسألك أن تصل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقوله: "إبراهيم" هو أبو الأنبياء وهو مع نوحٍ هما اللذان جعلت في ذريتهما النبوة والكتاب كما قال تعالى: {ولقد أرسلنا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} [الحديد: 26]. وبهذا نعرف بأن من قال إن إدريس قبل نوح فإن قوله خطأ؛ لأن الله قال: {وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب}، قال: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده} [النساء: 163]. فلا نبي قبل نوح، وقوله: كما صليت على إبراهيم، إبراهيم صلى الله عليه وسلم هو أبو الأنبياء وهو الذي أمرنا باتباع ملته، لأن ملته الحنيفة- عليه الصلاة والسلام- {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين} [النحل: 123].

إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- من أشد الناس صبرًا على أقدار الله، صبر على أمرٍ يتعجب الإنسان من صبره عليه، كان له ابن وحيدًا فريدًا أتاه على كبر، ولم يكن له ولد غيره، ومن المعلوم بطبيعة البشر أن الإنسان يحب ولده، ولاسيما إذا أتاه على كبر {فلما بلغ معه السعي} [الصافات: 102]. لم يكن في حالة طفولةٍ لم يلتفت إليه ولم يكن في حال كبر انعزل عنه وفارقه، بل كان في أشد حالٍ يتعلق بها الوالد بولده، قد بلغ معه السعي وصار يمشي معه، أمره الله تعالى بأن يذبح ابنه، سبحان الله العظيم! إن هذا لهو البلاء المبين أمره الله أن يذبحه، فعرض ذلك على الابن امتحانًا له لا استشارة له، أو أخذ برأيه لكن ليمتحنه قال: {إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى} [الصافات: 102]. كان جواب الابن سديدًا عظيمًا: {قال يا أبت افعل ما تؤمر} الله أكبر! هذا هو المفروض أن يكون ابنك عونًا لك على طاعة ربك، ومع ذلك من الذي سيفقد الحياة؟ هذا الابن، فقدم طاعة الله على فقد حياته {افعل ما تؤمر} أيضًا لم يقل: افعل ما رأيت، {افعل ما تؤمر} إشارةً إلى أن هذا الأمر لابد أن يطاع، {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات: 102]. انظر الأمر، ما قال: إن شاء الله افعل ما تؤمر، لكن فيما يتعلق بفعل نفسه قال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} وفعلًا صبر، {فلما أسلما} [الصافات: 103]. يعني: استسلما لأمر الله استسلامًا تامًا كاملًا {وتله للجبين} [الصافات: 103]. أي: على الجبين، وإنما تله على الجبين، وتله أيضًا ليس بالفرق الكامل لأجل ألا يعجز عن كبح نفسه في امتناعه من ذبحه، جعل جبينه إلى الأرض حتى لا يشاهد وجهه حين ذبحه {فلما أسلما وتله للجبين} أتى الفرج من رب العالمين- سبحانه وتعالى-، ولهذا حذف الجواب ليذهب في تقديره كل مذهب، كل ما يمكن أن تقدره جوابًا فهو صالح إذا كان السياق يساعد عليه {فلما أسلما وتله للجبين* وناديناه أن يا إبراهيم} [الصافات: 104]. وقول من قال من المعربين: إن الواو هنا زائدة غلط، ولكنها عاطفة على شيْ محذوف {قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين} [الصافات: 105]. صدق الرؤيا؛ لأنه فعل كل الأسباب التي أراد ما بقي إلا أن يذبحه. وقول من قال- بناءً على ما جاء في الإسرائليات-: إنه وضع السكين على رقبته فانقلبلت وما أشبه ذلك، كل ذلك كذب، لأنه لم يذكر في القرآن، ولأنه لو كان الأمر كذلك لعرف أن المسألة امتحان وانتهى الأمر، لكن جاء الفرج من الله عز وجل {قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين* إن هذا لهو البلاء المبين} [الصافات: 105، 106]. يعني بالبلاء: الاختبار المظهر لصدق المختبر، و {مبين} هنا بمعنى: مظهر: قال تعالى: {وفديناه بذبحٍ عظيم} [الصافات: 107]. إلخ، ولهذا سمي إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن كما قال تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلًا}

[النساء: 125]. وكما اتخذ الله إبراهيم خليلًا اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خليلًا كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا". وبهذا نعرف أن ما يوجد في بعض صيغ الصلاة على الرسول- عليه والصلاة والسلام- أن إبراهيم خليل الرحمن، ومحمد حبيب الرحمن، هذا غلط عظيم، وفيه تنقص للرسول- عليه الصلاة والسلام- لماذا؟ لأن الخليل أشرف من الحبيب، كل مؤمنٍ حبيب الله {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222]. والله يحب المؤمنين وما أشبه ذلك، لكن الخلة لا، ما تعلم أن أحدًا خليل الله إلا محمدًا وإبراهيم هذا الذي نعلمه، وعلى هذا فالذي يقول: محمد حبيب الله وإبراهيم خليل الله مخطئ، بل محمد خليل الله وإبراهيم خليل الله، والخليل أشرف وأعظم مرتبةً من الحبيب. وأما قوله: "إنك حميد مجيد" فالحميد فعيل بمعنى فاعل وبمعنى مفعول، فحميد بمعنى فاعل، أي: حامد، فالله عز وجل حامد لكل من يستحق الحمد من عباده، ولذلك يثني على من يستحق الحمد من الأنبياء والصالحين، فهو فاعل، أي: فاعل للحمد، ومنه "سميع" بمعنى: سامع، وبصير بمعنى: مبصر، ومحتمل أن يكون (حميد) بمعنى: محمود، لأن الله- سبحانه وتعالى- محمود على كل حال، وهو محمود أيضًا على نعمه السابغة الكثيرة، وإذا كان اللفظ محتملًا للمعنيين ولا تناقض بينهما، فإن الصحيح أنه شامل لهما، وهذا ما يعرف عند العلماء بالمشترك، فإذا كان اللفظ المشترك صالحًا للمعنيين بدون تناقضٍ ولا تنافر، فإن الأول حمله على المعنيين جميعًا ما لم يوجد دليل على أن المراد أحدهما. وقوله: "وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد" البركة: كثرة الخير واستقرار الخير، ومنه سميت البركة لكثرة ما فيها من الماء وقراره، فمعنى البركة: أن نسأل الله عز وجل أن ينزل الخير الكثير على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وكذلك على آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم بأن يجعل فيهم الخير الكثير الدائم من علمٍ نافعٍ وعملٍ صالحٍ ومصالح في الدنيا والآخرة، وبهذا عرفنا أن هذه الصلاة التي علمها النبي- عليه الصلاة والسلام- أمته هي أفضل ما يكون من صيغ الصلاة، وأن تلك الصيغة التي ابتدعها من ابتدعها من الناس كلها عند هذه الصيغة لا تساوي شيئًا، ونحن نحث جميع من أرادوا الصيغة المفضلة في الدعاء والذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها على أن يلتزموا بما جاء في الشرع، فإنه خير من كل ما أحدث، وكثير مما أحدث تجده دائمًا قليل البركة وقليل النفع. * * *

الدعاء بعد التشهد وأحكامه

الدعاء بعد التشهد وأحكامه: 304 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال". متفق عليه. - وفي روايةٍ لمسلم: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير". هذا الحديث أمر فيه النبي- عليه الصلاة والسلام- إذا تشهدوا أن يتعوذوا بالله من أربع، ولكن هذا في التشهد الأخير كما تقيده رواية مسلم، لأن التشهد الأول ينبغي تخفيفه وعدم الإطالة فيه، لكن في التشهد الأخير تدعو بما شئت، ولكنك لا تختار دعاءً خيرًا مما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الاستعاذة من هؤلاء الأربع. وقوله- عليه الصلاة والسلام- "فليستعذ" اللام فيها للأمر، والأصل في الأمر الوجوب، ولهذا ذهب طائفة من أهل العلم أنه يجب على الإنسان أن يستعيذ بالله من هذه الأربع في كل صلاة، حتى إن بعضهم قال: إن وجوبها أوكد من وجوب الصلاة على النبي التي ذهب كثير من أهل العلم أنها ركن، وأمر طاوس- وهو أحد التابعين- ابنه لما لم يتعوذ من هذه الأربع أن يعيد الصلاة، وهذا يدل على أنه يراها واجبة أو ركن، وعلى هذا فلا ينبغي للإنسان أن يخل بها لسببين: الأول: أمر النبي- عليه الصلاة والسلام-، السبب الثاني: ما تشتمل عليه هذه الأمور العظيمة من وقاية. قوله: "اللهم إن أعوذ بك من عذاب جهنم" وجهنم هي النار- نعوذ بالله منها- وسميت جهنم، لأنه مجهمة مظلمة- والعياذ بالله- ما فيها خير ولا نور، وقعرها بعيد، حتى إن الرسول- عليه الصلاة والسلام- كان مع أصحابه ذات يومٍ فسمع وجبة؛ يعني: صوت شيءٍ وقع، فقال: "أتدرون ما هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين سنةٍ يهوي فيها الآن في قعرها"- والعياذ بالله-، وعذاب جهنم لا يتصور وليس له نظير، ولا يمكن أن يبلغه الخيال- والعياذ بالله-، لأنه عذاب دائم مستمر {لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون} [الزخرف: 75]. حتى إنهم يقولون: {يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77]، يتمنون الهلاك، ولكنه لا يحصل لهم، حتى إنهم يقولون لخزنة جهنم: {ادعوا ربكم يخفف عنا يومًا من العذاب} [غافر: 49]. هؤلاء الكفار قالوا: "يخفف"، ولم يقولوا: يرفع عنا يومًا، أو دائمًا، فلم يسألوا التخفيف

الذي يكون دائمًا، لأن ذلك غير حاصل، وهم أيضًا آيسون من هذا، ولهذا ما سألوا الدفع ولو ساعةً من نهار، لأنهم قد علموا أن ذلك لا يمكن، وأيضًا هم ليس عندهم من الجرأة ما يدعون الله. قالوا لخزنة جهنم: {ادعوا ربكم}، أما هم- والعياذ بالله- فإنهم أذل في نفوسهم من أن يدعو الله عز وجل، ولعل هذا- والله اعلم- بعد أن يقول لهم الرب عز وجل: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108]. هذا العذاب لا يتصور، يموتون من العطش فإذا استغاثوا- بعد أن يلحق بهم العطش ما يلحق- يغاثوا بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه. "المهل": الرصاص المذاب- والعياذ بالله- أو أشد من ذلك، يشوي الوجوه قبل أن يصل إليها، ثم إذا شربوه- والعياذ بالله- يقول الله عز وجل: {وسقوا ماءً حميمًا فقطع أمعاءهم} [محمد: 15]. {كالمهل يغلي في البطون* كغلي الحميم} [الدخان: 45 - 46]، هذا غيثهم والعياذ بالله، ومع ذلك تحترق جلودهم، وكلما نضجت جلودهم يقول الله عز وجل: {بدلناهم جلودًا غيرها} [النساء: 56]. لا لتخفيف الألم عنها ولا لكي تبرأ، ولكن {ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزًا حكيمًا} [النساء: 56]. وتأمل مثل قوله: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم} [النساء: 56]. تدل على التكرار وأن ذلك دائمًا متكرر- والعياذ بالله-. هذا العذاب العظيم الذي ما نحيط بوصفه فضلًا عن تصور حقيقته، هذا العذاب العظيم جدير بكل مؤمنٍ أن يسأل الله عز وجل أن يعيذه منه في كل صلاةٍ ما أعظمها من فائدةٍ أن يعيذك الله من هذا العذاب، ولهذا كان القول بوجوب الاستعاذة من هذه الأربع قولًا قويًا جدًا. أما قوله: "ومن عذاب القبر" ففيه إثبات عذاب القبر، وأنه كائن لا محالة وهو كذلك، وقد دل عليه الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، أما الكتاب فإن الله تعالى يقول في آل فرعون: {النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. وفي قراءة: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}، وفي قوله: {غدوًا وعشيًا} {ويوم تقوم الساعة} دليل على أن هذا العرض يكون قبل قيام الساعة، وكذلك قوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم} [الأنعام: 93 [. وكأنهم يشحون بأنفسهم أن تخرج فتتفرق في الجسم فينزعونها نزعًا شديدًا كما ينزع السفود من الصوف المبلول- والعياذ بالله- {أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} [الأنعام: 93]. {اليوم} "أل" هذه للعهد الحضوري كما هو معروف في علم النحو {عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} [الأنعام: 93]. وكقوله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} [الأنفال: 50]. الشاهد قوله: {يضربون وجوههم وأدبارهم} هذه آيات عظيمة تدل على ثبوت عذاب القبر. أما الأحاديث فكثيرة جدًا بحيث تكاد تبلغ حد التواتر، فمنها حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن

النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير". يعني: ما يعذبان في أمرٍ شاقٍ عليهما، ولذلك جاء في روايةٍ في الصحيح: "بلى إنه كبير"، فهما يعذبان في أمرٍ كبير، أي: في أمرٍ عظيم شاق عليهما تركه، ولكنه كبير بهذه الذنوب، "أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول" يعني: لا يبالي إذا أصاب البول ثوبه أو بدنه ولا يهتم بذلك حتى يتطهر، "وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" ينم بين الناس فيفسد بين الناس- العياذ بالله-، ولذلك قال النبي- عليه الصلاة والسلام-: "لا يدخل الجنة نمام". استنبط بعض العلماء من حديث ابن عباسٍ مسألةً مهمةً فقال: إذا كان الإنسان يعذب في قبره، لأنه لا يستنزه من البول الذي يشترط لصحة الصلاة الاستنزاه منه، فما بالك بالذي يترك الصلاة، لأن هذا الذي أخل بالاستنزاه من البول ترك شرطًا من شروط الصلاة فقط، فكيف بالذي يدع الصلاة بالكلية؟ ! فأنا لا أشك في أن الذي يدع الصلاة بالكلية كافر، بل هو أكفر من اليهود والنصارى، بمعنى انه: لو كان في بيتٍ من بيوتنا يهود ونصارى ما رضينا بذلك، لكن الذين لا يصلون لا مع الجماعة ولا في بيوتهم يكون أكفر من اليهود والنصارى، لأنهم مرتدون، لا تحل ذبائحهم، ولا تحل لنا نساؤهم، ولا يدفنون مع المسلمين، ولا يغسلون، ولا يدخلون مكة وحرمها، لأنهم مرتدون لا يجوز أن يبقوا لحظةً في الدنايا إلا بعدما يستتابون ثلاثة أيامٍ على القول بالاستتابة ثم إذا لم يصلوا يقتلون، ولا يقتلون حدًا، لأن الحد يطهر المحدود، ويوجب أن يكون المحدود مسلمًا يدفن مع المسلمين ويصلى عليه، لكنهم يقتلون كفرًا، فيخرج بهم إلى أماكن يرمثون فيها رمثًا؛ لأنهم ليس لهم حرمة، إذا حشروا يوم القيامة يحشرون مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، فأنا لا أشك في أن من ترك الصلاة تركًا مطلقًا أنه كافر خارج عن الإسلام- والعياذ بالله- والأدلة عندنا في ذلك من الكتاب والسنة وأقوال السلف ظاهرة، وقد سقناها عدة مرات، حتى إن عبد الله بن شقيق- وهو من التابعين- كان يقول: "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة". وهذا نقل للإجماع، وقد نقل غيره من علماء المسلمين أيضًا الإجماع على أن الصحابة مجمعون على كفر تارك الصلاة. ولهذا أنا أعجب من بعض الناس الذين يستنكرون هذا القول، ويقولون: أن الإمام أحمد

انفرد به، والحقيقة: أن استنكارهم إياه لعدم التأمل الجيد في الأدلة، ولو تأملوا الأدلة تأملًا جيدًا لوجدوا أن الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والنظر الصحيح كلها متطابقة على أن تارك الصلاة كافرًا كفرًا مخرجًا عن الملة، وأما انفراد الإمام أحمد رحمه الله بذلك فيعتبر من مناقبه، ومن دلالة فهمه لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقول الصحابة، وتعظيمه للآثار الواردة، فنحن لا نقدح في أحدٍ من أهل العلم الذي يقولون بخلاف ذلك؛ لأن هذه مسألة اجتهادية، ولكننا نعيب على من عاب على من يقول ذلك كأنه يلزم أو يشير بكلامه إلى الإمام أحمد رحمه الله لانفراده بذلك. ولكنه لا شك أن من تأمل الكتاب والسنة وأقوال السلف والمعاني الصحيحة خاليًا من الاعتقاد والتمذهب لا شك أنه يتبين له، أن القول الراجح المتعين به هو القول بكفر تارك الصلاة كفرًا مطلقًا مخرجًا عن الملة- والعياذ بالله- ومما ينبغي لكل مستدلٍ أن يستدل قبل أن يعتقد حتى يكون اعتقاده مبنيًا على استدلالٍ سواءً كان هذا الاعتقاد في الأمور العلمية أو في الأمور الحكمية يعني: حتى الحكم لا تحكم على شيءٍ إلا بعد أن تبنيه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما إذا اعتقدت ثم أردت أن تبني الأدلة على الاعتقاد فهذا خطر عظيم، ولذلك تجد بعض الناس يتعصب للذي يعتقد ثم يريد أن يستدل، تجده أحيانًا يحاول أن يرد الأدلة إلى ما كان يعتقد إما بتأويلٍ أو بتعميمٍ أو بتخصيصٍ حسب ما بكون موافقًا لما يذهب إليه، وهذه مسألة خطيرة جدًا بالنسبة لطالب العلم، والذي أدعوكم جميعًا إليه هوأان يكون اعتقادكم المبني سواء كان هذا الاعتقاد مبنيًا على أمورٍ علميةٍ كالاعتقاد في أسماء الله وصفاته وأخباره، أو على أمورٍ حكمية أن يكون ذبك مبنيًا على الدليل بأن تستدل أولًا ثم تحكم ثانيًا بقدر المستطاع، قد لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى الحق بالدليل، إما لأنه ليس عنده الأدلة الكافية للاستدلال؛ أنه ما عنده علم، وإما أن المسألة تأتيه في حالةٍ لا يتمكن من البحث والاستدلال والمناقشة، فيكون في هذه الحال مضطرًا إلى التقليد، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن التقليد بمنزلة أكل الميتة". إذا لم تجد طعامًا فكله لا يحل إلى للضرورة، لأن الله يقول: {فاسألوا أهل الذكر} بشرطٍ وهو {إن كنتم لا تعلمون}، أما من أمكنه أن يعلم فإنه لا يجوز له أن يقلد، لكن كما قلت لكم قد لا يستطيع الإنسان ولا يتمكن له أن يصل إلى الدليل، إما لكون

المسألة فورية ولا يتمكن، وإما لكونه غير أهلٍ للبحث والنظر في أدلة أهل العلم، وحينئذٍ يكون فرضه التقليد وقد اتقى الله ما استطاع. لكن مع ذلك طالب العلم- أقول لنفسي ولكم- حتى لو اضطر في بعض الأحيان إلى التقليد لعدم التمكن من الاستدلال فلا يدع المسألة، بل يبحث ويجتهد حتى يفتح الله تعالى عليه، ثم إما أن يكون الأمر اتضح له بأنه على صواب أو أنه على خطأ، فإن كان على صوابٍ فليحمد الله وليستمر، وإن كان على خطأ فليستعتب وليرجع إلى الصواب. 305 - وعن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه أنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "علمني دعاءً أدعو به في صلاتي. قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم". متفق عليه. أولًا: اعرف أهمية هذا الدعاء وقدره لمن سال، ولمن سئل: فالسائل: أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه، وهو أحب الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب في هجرته، إذن لابد أن يكون لهذا الدعاء، شأن كبير، والمسئول: النبي- عليه الصلاة والسلام-، فسوف يعلم الصديق رضي الله عنه أجمع دعاءٍ وأنفعه. وقوله: "علمني دعاءً أدعو به في صلاتي" في هذا دليل على طلب العلم حتى من الكبراء، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يأنف من طلب العلم، أو يقول: أنا عندي علم فلا تعلون، هذا أبو بكرٍ رضي الله عنه أعلم الصحابة ومع ذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ان يعلمه دعاء. وفي قوله: "علمني دعاءً أدعو به في صلاتي" دليل على أن الدعاء في الصلاة من أفضل ما يكون، فإن الصلاة فيها السجود الذي قال فيه النبي- عليه الصلاة والسلام-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، وأمرنا أن نجتهد فيه بالدعاء، وقوله: "في صلاتي" لم يبين الموضع، فهل يكون في السجود أو بين السجدتين، أو بعد التشهد؟ ظاهر صنيع المؤلف رحمه الله أنه يكون بعد التشهد، لأنه ذكره في أدعية التشهد، ولكن الحقيقة أنه- أعني: الحديث- ليس فيه دليل على ذلك، فأنت لو دعوت الله في حال السجود أو بعد التشهد فكله حسن وحسب ما تيسر لك. قال النبي- عليه الصلاة والسلام-: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" هذا جمع بين الاعتراف والسؤال والثناء، فجمع كل أنواع ما يدعى به، لأن دعاء الله عز وجل إما أن يكون بالاعتراف وذكر الحال، أو بالثناء المجرد، أو بهذا وبهذا جميعًا، فهنا دعاء وثناء وذكر حال، أما الاعتراف وذكر الحال ففي قوله: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا" هذا اعتراف من الإنسان بأنه ظالم لنفسه

ظلمًا كثيرًا، وفي رواية: "ظلمًا كثيرًا"، والفرق بينهما: أن الكبر باعتبار الكيفية والكثرة باعتبار الكمية، وأكثر الروايات على: "كثيرًا". وقوله: "ظلمت نفسي" لماذا قال: "ظلمت نفسي" والإنسان لا يظلم نفسه وإنما يظلم غيره؟ نقول: لأن نفسك أمانة عندك، يجب عليك أن ترعاها حق رعايتها، فلهذا إذا نقصتها شيئًا مما يجب لها فإنك تكون ظالمًا لها، وبماذا يكون ظلم النفس؟ ظلم النفس يدور على شيئين: إما تفريط في واجب، أو انتهاك لمحرم هذا ظلم النفس، فمن فرط في واجباته فقط ظلم نفسه، ومن انتهك محارم الله فقد ظلم نفسه، ولهذا قال عز وجل: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق: 1]. وقوله: "ولا يغفر الذنوب لا أنت" هذا الثناء ثناء على الله بأنه لا أحد يغفر الذنوب إلا الله كما قال تعالى في سورة آل عمران: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران: 135]. لو اجتمع الخلق كله على أن يغفروا لك زلةً من الزلات في حق الله عز وجل فإن ذلك لا يمكن، أما الذنوب التي بينك وبين الخلق فيمكن أن يغفروا لك كما قال الله تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} [الجاثية: 14]. وقال تعالى: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}] التغابن: 14]. لكن في حق الله تعالى لا يمكن لأحدٍ أن يغفر لك ذنبًا وإنما الذي يغفره الله عز وجل. وقوله: "ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر ليه مغفرةً من عندك" هذا الدعاء "فاغفر لي" وقد سبق لنا مرارًا وتكرارًا أن المغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه؛ لأنها مأخوذة من المغفر الذي يغطى به الرأس عند الحرب، والمغفر يغطي الرأس ويقيه السهام ففيه ستر ووقاية، وقوله: "فاغفر لي مغفرةً من عندك" نكرها "مغفرة" لأن التنكير يدل على التعظيم، ثم زادها تعظيمًا بقوله: "من عندك" فأضافها إلى الله عز وجل لن المغفرة من الكريم تكون أعظم وأكبر. وقوله: "وارحمني" عطف على "فاغفر لي" وذلك أن الإنسان محتاج إلى معونة الله تعالى في شيئين: غفران لذنوبٍ مضت، ورحمة يسلم بها من ذنوبٍ مستقبلة، والمغفرة للذنوب الماضية والرحمة للعصمة من الذنوب في المستقبل وجه آخر، قد يقال: المغفرة بها زوال المكروب، والرحمة بها حصول المطلوب، لأن الله عز وجل يذكر نعمه على عباده ويجعلها من آثار رحمته، وكله صحيح، فأنت إذا سالت الله المغفرة والرحمة، تسأل الله مغفرة ما سلف والرحمة في العصمة مما يستقبل، أو تسأل الله مغفرة الذنوب التي بها زوال المكروب والرحمة التي بها حصول المطلوب.

ثم قال: "إنك أنت الغفور الرحيم" هذا كالتعليل للدعاء، لأنه سال شيئين هما المغفرة والرحمة، ثم أتى بعدهما باثنين من أسماء الله يتضمنان ذلك ومهما "إنك أنت الغفور الرحيم"، و"أنت" هنا يقول أهل النحو: إنها ضمير فصل، وضمير الفصل له ثلاث فوائد: التوكيد، والثاني: الحصر، والثالث: التمييز بين الخبر والصفة، ولهذا سمي فصلً يفصل. فأنت إذا قلت: "زيد الفاضل" يحتمل ان تكون "الفاضل" صفة لزيد والخبر ما بعد خبر، ولكن إذا قلت: "زيد هو الفاضل" يتعين أن تكون "الفاضل" خبرًا، ولهذا سمي ضمير فصل، والصحيح من أقوال المعربين: أنه حرف لا محل لله من الإعراب كما قال تعالى: {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم} [الشعراء: 40]. الغالبون أم الغالبين؟ {الغالبين} بالياء، فدل هذا على أنها لا محل لها من الإعراب، هذا الدعاء الذي علمه النبي- عليه الصلاة والسلام- الصديق رضي الله عنه ينبغي للإنسان أن يدعو به في صلاته إما بعد التشهد لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء"، ولا شك أن ما عينه النبي- عليه الصلاة والسلام- وأرشد إليه خير مما نعينه نحن؛ لن الأدعية الواردة انفع وأجمع من الدعية المستحدثة، وإن كان الإنسان له أن يدعو بما شاء ما لم يكن إثمًا، لكن الحفاظ على الأدعية الواردة أحسن، وإما أن يقال: محله السجود لقول النبي- عليه الصلاة والسلام-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وأي دعاءٍ دعوت به سواء هذا أو هذا فإنه لا بأس به. هذا الدعاء قلنا: غنه تضمن ثلاثة أمور يتوسل بها إلى الله في الدعاء: أولًا: الاعتراف والثناء والطلب، وقد يكون الدعاء مجرد إخبار بالحال واعتراف لقول موسى: {رب إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقير} [القصص: 24]. أخبر عن نفسه فقط، والله عز وجل إذا أخبره عبده بحاله فمعناه: أنه يسأل أن يزيل تلك الحال إلى حالٍ خير منها، وقد يكون الدعاء دعاءً مجردًا فقط مثل قول الإنسان في صلاته: "رب اغفر لي وارحمني" بين السجدتين ما تقدمه ثناء، بل هو دعاء محض، وقد يكون الدعاء ثناءً محضًا؛ يعني: تثني على الله عز وجل، "اللهم أنت الكريم العظيم الرحيم" وما أشبه ذلك. فهذا أيضًا من الدعاء، ولهذا قال الرسول- عليه الصلاة والسلام-: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... " إلخ، هذا الحديث الذي علمه الرسول- عليه الصلاة والسلام- أبا بكرٍ جامع للأصناف الثلاثة. * * *

صفة التسليم وأحكامه

صفة التسليم وأحكامه: 306 - وعن وائلٍ بن حجر رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عله وسلم فكان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح. هذا الحديث مما يستغرب على المؤلف رحمه الله في تصحيحه، لأن أكثر الذين خرجوه قالوا: إنه ضعيف بزيادة "بركاته"، ولكن بعض أهل العلم كالمؤلف يرى أن سنده صحيح، فإن كان هذا الحديث صحيحًا فإنه ينبغي للإنسان أن يفعله أحيانًا فيقول: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، كما أن نسخ أبي داود أيضًا اختلفت في هذا الحديث ففي بعضها يقولها في التسليمة الأولى فقط، وفي بعضها يقولها في التسليمتين جميعًا، ولكن أكثر الأحاديث الواردة عن الرسول- عليه الصلاة والسلام- أنه كان يقول: "السلام عليكم ورحمة الله" فقط، ور يزيد: "وبركاته"، وقد أعل لعض العلماء هذا الحديث بالشذوذ وقال: إن الأحاديث الكثيرة المتتابعة عن الرسول- عليه الصلاة والسلام- ليس فيها: "وبركاته"، ورواة هذا السند أيضًا متكلم فيهم، وما دام الحديث فيه الخلاف في متنه وسنده فالأولى أن يقتصر على ما تضافرت به النصوص: "السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله"، فإن هذا أسلم للإنسان وأبرأ لذمته، لأن إثبات شيءٍ زائدٍ في شريعة الله يحتاج إلى سندٍ صحيح يكون حجة للإنسان بينه وبين ربه إلى يوم القيامة، وما دام أكثر الأحاديث متكاثرة عن الاقتصار على ذلك بدون "وبركاته" فهي أولى لاسيما أنها في بعض الأحيان تحدث تشويشُا، ولكن التشويش بما ثبتت به السنة لا يهم، لأن الناس لو شوشوا أول مرةٍ يعتادون إنما إذا كان الأمر لم يثبت ثبوتًا يطمئن إليه الإنسان فالأولى ألا يفعل، نعم إذا كان الإنسان يريد أن يفعل ذلك فيما بينه وبين نفسه في صلاة النوافل إذا ترجح عنده أن الحديث صحيح، فإن ترجح عنده ضعفه فلا يقوله لا في النوافل ولا في غيرها. الأذكار دبر الصلوات ومعانيها: 307 - وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". متفق عليه. هذا من الأذكار التي يقولها النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاته، وقد أمر الله بالذكر بعد الصلاة، فقال- جل وعلا-: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم} [النساء: 103].

فالذكر بعد الصلاة مأمور به بنص القرآن في الحضر وفي السفر، فهذه الآية جاءت في سياق صلاة الخوف وفي السفر، ولهذا قال بعدا: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} [النساء: 103]. فالأذكار المشروعة بعد الصلوات مشروعة في الحضر وفي السفر، وقوله عز وجل: {فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم} يدل على تأكد هذا الذكر، لأن الله أمر به في كل الحالات سواءً كنت قائمًا مثل: أن يكون لك شغل فتقوم بعد السلام مباشرةً ملزمًا بهذا الذكر المشروع، وكذلك تؤدى هذه الأذكار إذا كنت قاعدًا، وإذا كنت مريضًا فليكن على جنبك، وهذا يعني: أن هذه الأذكار المشروعة عقب الصلوات أنت مأمور بالإتيان بها أمرًا مؤكدًا سواءً في سفرٍ أو حضر، يعني: تذكر الله عز وجل، وهذا الذكر المجمل في كتاب الله عز وجل بينه النبي- عليه الصلاة والسلام- بالسنة، لأن السنة تبين القرآن وتفسره، وتقيد مطلقه وتخصص عامه، وربما تأتي بأمورٍ ليست في القرآن في ذاتها ولكنها في القرآن من حيث عمومها، فغن كل ما أتانا الرسول- عليه الصلاة والسلام- فإن الله أمرنا بقبوله وأخذه، وما نهى عنه فإن الله أمرنا باجتنابه مما كان يقول النبي- عليه الصلاة والسلام في أذكار الصلوات هذا الحديث الذي ذكره المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. فنقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وما معنى "لا إله إلا الله" يعني: لا معبود حق إلا الله، لا نقول: لا معبود إلا الله، لو قلت ذلك كان ذلك كذبًا؛ لأن هناك من يُعبد من دون الله، ولو قلت: لا موجود إلا الله كان هذا قولًا بوحدة الوجود؛ يعني: أن الخلق كلهم الله اهـ، لأن الخلق موجودون، ولهذا يغلط من قال: لا إله إلا الله، لي: لا موجود إلا الله، وإن قلت: لا إله موجود إلا الله كان ذلك أيضًا خطأ، لأنك إذا قلت: لا إله موجود. قلنا: بل هناك إله موجود كما قال الله تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهةً لعلهم ينصرون} [يس: 74]. وقال: {فلا تدع مع الله إلهًا آخر} إذن لا إله حق إلا الله، وفرق بين موجود وبين حق، لأن الموجود منه ما هو حق ومنه ما هو باطل {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل} [لقمان: 30]. فإن الصواب أن "لا" نافية للجنس وأن "إله" اسمها، وأن خبرها محذوف تقديره: حق، وإنما سرنا إلى ذلك حتى لا نفسر بخلاف الواقع أو بتفسيرٍ ليس بصحيح، و"إلا الله" فإن "إلا" أداة استثناء، و"الله" بدل من الخبر المحذوف "إله" بمعنى: مألوه، وليست بمعنى: آله، لكن- سبحانه وتعالى- مألوه أي: معبود حبًا وتعظيمًا، وأهل الكلام ومن ضاهاهم يجعلون إله بمعنى: آله، ويفسرون الإله بالقادر على الاختراع وعلى الصنع، فيقولون: "لا إله إلا الله" أي: لا قادرة على الاختراع والإبداع إلا الله، ولو كان هذا معنى "لا إله إلا الله" ما أنكره المشركون، لأن المشركين يقرون بهذا أنه لا خالق إلا الله، لكن {إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون* ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون} [الصافات: 36]. فلو كان هذا

التفسير هو تفسير "لا إله إلا الله" لكان المشركون موحدين، وهذا التفسير الذي فسر به المتكلمون كلمة الإخلاص من أبطل التفاسير، ولا يصح. وقوله: "وحده" تأكيد للإثبات، "ولا شريك له" تأكيد للنفي، لأن كلمة الإخلاص تضمنت إثباتًا ونفيًا، تضمنت إثبات الألوهية الحق لله، ونفي الألوهية الحق لغير الله، فلهذا "وحده" يكون تأكيدًا للإثبات و"لا شريك له" يكون تأكيدًا للنفي. "له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير" "له الملك" جملة خبرية قدم فيها الخبر، وتقديم الخبر يدل على الحصر، "له" يعني: لله وحده الملك، فلا أحد مالك إلا الله، وهو- سبحانه وتعالى- مالك الملك، ولهذا قال: "له الملك" وجاءت الفاتحة {مالك يوم الدين} و {ملك يوم الدين}، وذلك لأن كمال الملك في الملكية والتصرف أو التدبير. الله عز وجل مالك مالك، والخلق منهم من يكون مالكًا وليس بملك، ومنهم من يكون ملكًا وليس بمالك، هناك أناس يملكون لكن ليس لهم بتدبيرٍ الملك شيئًا، وهناك أناس يدبرون وليس لهم صفة الملك فهم مالكون وليسوا بملوك، أما الرب عز وجل فإنه ملك الملوك، ومالك الملك، ولهذا قال: "له الملك". فإن قلت: إن الله تعالى أثبت لغيره ملكًا قال لسليمان: {هب لي ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعدي} [ص: 35]. وقال الله تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون: 6]. وقال: {أو ما ملكتم مفاتحه} [النور: 61]. فكيف نقول: إن الملك يختص باله؟ فالجواب: أن الملك الذي لغير الله ملك محدود من حيث الشمول ليس بشامل، ومن حيث التصرف أيضًا ليس بشامل، فأنت إما تملك مالك فقط لا تتملك مال فلان، ومال فلان وملكك لمالكٍ محدود أيضًا لا تملك التصرف المطلق كما تشاء وإنما تتصرف في ملكك كما أذن الله لك، فملكنا محدود مهما كان لنا من الملك، وقوله: "له الملك وله الحمد" الحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، وهذا هو الفرق بين الحمد والمدح. المدح تصف الممدوح بصفات الكمال لكن بدون محبة، لكن الحمد تجد قلبك ممتلئ محبةً لهذا الموصف، فالحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، وانظر إلى الفائدة في قرن الحمد بالملك ليتبين لك أن ملك الله عز وجل مبني على الحمد، فكم من ملك لا يُحمد، وكم من مالكٍ لا يُحمد، لكن الرب عز وجل محمود، فملكه مقرون بالحمد، ولهذا قل: "له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير" كل شيء فالله تعالى قادر عليه، سواء ما يتعلق بأفعاله أو بأفعال الخلق. الله تعالى قادر على أن يوجد المعدوم وبعدم الموجود، وقادر على أن يغير ويحول الشيء من شيءٍ إلى شيء، قدرة مطلقة لا حدود لها، ولا تقيد بشيء، ولا تخصص

بشيء، على كل شيءٍ قدير، {وما كان الله ليعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليمًا قديرًا} [فاطر: 44]. ثم ختم هذا الذكر بشيءٍ من التفصيل من تمام ملك الله فقال: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". "لا مانع لما أعطيت" يعني: أنما أعطى الله العبد فإنه لا أحد يمنعه، ما معنى "ما أعطيت" يعني: ما وصل إلى المعطى بالفعل، أو ما قدرت أن تعطيه؟ ما قدرت أن تعطيه، لأن قوله: "لا مانع" المنع يكون قبل الوصول، فلا أحد يمنع ما أعطاك الله عز وجل أبدًا وهو كقوله: "ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليبك"، فالذي قدر الله أن يصل إليك ما أحد يمنعه أبدًا لابد أن يصل، "ولا معطي لما منعت" الشيء الذي منعه الله عز وجل لا يمكن أن يعطيك إياه أحد، ولا يمكن أن يصل إليك مهما بدلت من الأسباب التي توصل إلى هذا الشيء الذي تريده، فإنه لا يمكن أن يصل إليك مادام الله قد منعه. "ولا معطي لما منعت" إذا آمن الإنسان بهاتين الكلمتين- والإيمان بهما واجب- فإنه يعتمد في رزقه على الله، وفي دفع الضرر على الله، وفي جلب النفع على الله، ويكون دائمًا معتمدًا على ربه معتقدًا أنه- سبحانه وتعالى- هو حسبه لا غيره. "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" الجد: قال العلماء: هو الحظ والغنة، "ذا الجد" أي: صاحب الجد منك متعلق بـ"ينفع"، ولهذا كلمة" ينفع" إما أن تتضمن معنى: يغني، أو معنى: يمنع، صاحب الغنى وصاحب الحظ لا ينفعه حظه من الله ولا غناه من الله {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيدة} [النساء: 78]. فصاحب الحظ والغنى في الدنيا مهما كان عنده ما ينفعه فهو غير نافعٍ له في الآخرة كما قال: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، ما قال: "جده" قال: "الجد"، يعني: حتى ولو كان على جد أعظم شيءٍ فإنه لا يمكن أن ينفعه من الله عز وجل، وهذا إذا آمن الإنسان به- ويجب عليه أن يؤمن به- يستلزم أن يكون الإنسان معتمدًا على ربه في حمايته لا على جنده ولا على ماله ولا على نصيبه وحظه، وإنما هو على ربه لا شريك له. وبهذا التقرير الذي لم نف بما تدل عليه هذه الكلمات العظيمة يتبين أهمية الذكر بعد الصلاة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". قوله: "اللهم" أصلها: يا

الله لكن حذفت ياء النداء تيمنًا بذكر اسم الله قبله، وعوض عنها الميم للدلالة عليها، واختيرت الميم دون غيرها من الحروف لدلالتها على الجمع، كأن الداعي جمع قبله على الله- سبحانه وتعالى-. 308 - وعن سعدٍ بن أبي وقاص رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر". رواه البخاري. قوله: "يتعوذ بهن: هذا فيه عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبةً، وهو شاذ وقليل كما قال ابن مالك [الرجز]: وشذ نحو زان نوره الشجر ولكن ما دام المعنى واضحًا لأنه لا بأس به، يقول: "كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة". "دبر" يحتمل أن يكون معناه: ما بعد الصلاة، ويحتمل أن يكون معناه: آخر الصلاة، لأن آخر الشيء: دبره، فدبر الشيء: هو آخره، وكذلك دبر الشيء: ما بعده، فتسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين المراد: ما بعد الصلاة، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: "اللهم أعني على ذكرك" هذا آخر الصلاة قبل السلام، والمرجح: أن ما كان ذكرًا المراد بالدبر فيه ما بعد الصلاة، وما كان دعاءً فالمراد بالدبر فيه، ما كان في آخر الصلاة، والقرينة التي ترجح ذلك: أن الذكر أمر الله به بعد الصلاة فقال: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا} [النساء: 103]. فيكون كل ذكر دبر الصلاة يكون بعد الصلاة، وأما الدعاء فإننا نرجح أن دبر الصلاة فيه آخرها، وذلك لقول النبي- عليه الصلاة والسلام- في حديث ابن مسعود: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء، ولأن الإنسان يدعو الله عز وجل في أثناء الصلاة قبل أن ينصرف منها، وإن كان في صلاته كما قال النبي- عليه الصلاة والسلام- "يناجي ربه". وعلى هذا فيكون المشهور أن يتعوذ من هذه الأشياء في آخر الصلوات يقول: "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن" كلاهما شح ومنع، لكن البخل: منع لبدل المال في محله، والجبن: منع لبدل النفي في محله، ولهذا ضد الجبن: الشجاعة، وضد البخل: الكرم، فالبخل هو الذي يمنع ما ينبغي بذله من المال أو من الأعمال أيضًا، ولهذا جاء في الحديث عن النبي- عليه الصلاة والسلام-: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي".

وأما الجبن فإنه يمنع ما ينبغي بذله من النفس، وضده الشجاعة، واعلم أن منع ما لا ينبغي بذله من المال ليس ببخل، ولكنه اقتصاد واعتدال، فإذا كان يتهور بالإنفاق وإنما ينفق المال حسب ما شرعه الله ورسوله فهذا ليس ببخيل، وإنما هو مقتصد ومعتدل في إنفاقه، والله عز وجل يقول: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف: 31]. ولهذه المناسبة أود أن أنبه على أن بعض الناس يتبع النساء فيما ينفق، حتى إنك تجده يشتري أشياءً ليس لها داعٍ وليس لها حاجة، كل ذلك من أجل إرضاء أهله، وهذا أمر لا ينبغي، لا الذي ينبغي أن يكون الإنسان معتدلًا في إنفاقه، ويمكنه أن يقنع زوجته أو من طلب من أهله أن يشتري كذا وكذا بما يعطيه الله عز وجل من البيان والإقناع. وأما الجبن فإنه لا بكون جبنًا إلا إذا كان في موضعٍ ينبغي فيه الإحجام، ولهذا كان لا ينبغي أن تقدم على أمرٍ إلا بعد أن تعرف النتيجة كما قال المتنبي [الكامل]: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعتا لنفسٍ مرةٍ ... بلغت من العلياء كل مكان فالإنسان لا يتهور، بل ينظر ويتأمل، فإذا كان للإقدام مكان أقدم، وإذا كان للإحجام مكان أحجم، وكمل قيل أيضًا- وأظنه للمتنبي-[الطويل]: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندا "وضع الندى" يعني: الكرم، "في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندا" فإذا كان حاجة تقتضي الكلام والعفو والصفح صار السيف وضعه مضر بالعلا، فإذا كان الأمر بالعكس صار الكرم وضعه مضرًا بالعلا، فإذا كان الأمر بالعكس صار الكلام وضعه مضرًا بالعلاـ والمهم: أن الجبن الذي هو ضد الشجاعة لا يكون جبنًا إذا كان المقام لا يقتضي الإقدام، ومن ثم ينبغي للإنسان أن يتأمل في أموره، وألا يتعجل حتى يعرف النتائج. "وأعوذ بك من أرد إلى أرذل العمر" أرذله: أنقصه وأردؤه والإنسان يرد إلى أرذل العمر إما لعله طارئة، وإما لتقدم السن، الكبير إذا كبر يرد إلى أرذل العمر تجده مصل الصبي، بل إنه أبلغ من الصبي؛ لأن الصبي حتى الآن لم يعرف ويرجى أن يعرف، فأهله يتحملون منه هذا الرداء وهذا في عقله؛ لأنهم يؤملون أنه يزول ويترقى العقل والفهم، لكن الذي- والعياذ بالله- وصل إلى الكبر حتى صار عقله بمنزلة الصبي يكون الرجاء فيه بعيدًا، ثم إن هذا الذي رد

إلى أرذل العمر قد عرف بعض الأشياء، ولهذا تجده في بعض الأحيان يصر على أهله أن يأتوا بها، مثلًا إذا كان من أصحاب الغنم صار يهدي بالغنم يوقظ أهله من النوم في وقت الليل ويقول: احضروا لي العنزة الفلانية، وإذا كان من أهل الأموال تجده أيضًا يهدي فيها هذا بتعب، لكن الصبي في باله هذا الشيء؟ أبدًا، ولهذا سمي: "أرذل العمر"، وأرذل صفة اسم تفضيل، يعني: أنه ما في العمر أرذل منه ولو حال الصغر، وهذا يعني: أنه ليس هناك في العمل أرذل من أن يرد إلى أرذل العمر، أقول: أرذل العمر قد يكون طارئًا وقد يكون فارغًا عارضًا، كما لو حصل للإنسان وجع في دماغه من حاجة أو غيره وقد يكون بسبب الكبر. "وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر"، "فتنة الدنيا" تقدم لنا معناها وهي تعود على أمرين: إما شبهات، وإما شهوات، الشبهات معناها: أن الإنسان يخفى عليه الحق إما بكثرة البدع والأفكار السيئة، أو لغير ذلك من الأسباب، فتجده يكون حيوانًا- والعياذ بالله- لا يدري أين يذهب، وإما شهوة يكون عارفًا بالحق عالمًا به لكنه تريده نفسه تريد وتهوى خلاف الحق. النصارى فتنتهم شبهة أم شهوة؟ الآن شهوة، ولكن فيما سبق قبل بعثة الرسول- عليه الصلاة والسلام- كانت شبهة؛ لأنهم ضالون، واليهود شهوة؛ لأنهم عالمون بالحق. وكل من خالف الحق عالمًا به فقد فتن فتنة شهوة- والعياذ بالله-، وكل من خالف الحق جاهلًا به، فقد فتن شبهة. كثير من الناس الآن فتنوا في الدنيا فتنة شهوة يعلمون ما أوجبه الله عليهم ولا أظن أن الناس في عصرٍ من العصور المتأخرة كانوا أعلم بالمسائل الشرعية من عصرنا هذا، لكن- والعياذ بالله- صار عندهم شهوات ميل إلى الباطل. "وأعوذ بك من عذاب القبر" عذاب القبر ثابت كما سبق بالقرآن والسنة وإجماع المسلمين. ما دليله من القرآن؟ عدة آياتٍ منها قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. ومنها قوله تعالى: {ولو ترى الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون} [الأنعام: 93]. اليوم "أل" هنا للعهد الحضوري مثلها قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم ... } يعني اليوم الحاضر، {اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} [الأنعام: 93]. ومنها: قوله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذي كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} [الأنفال: 50]. "إذ" ظرف، فصار هذا الأمر متى؟ حينما يتوفون. وأما السنة فدلالتها كثيرة ظاهرة تبلغ إلى قريب التواتر، أما إجماع المسلمين فكل المسلمين يقولون في صلاتهم: "أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر .. إلخ"، فهل

يتعوذ الناس من شيءٍ لا وجود له؟ لا يمكن، لولا أن له وجودًا ما تعوذوا بالله منه، وعلى هذا فيكون عذاب القبر ثابتًا بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ولكن هذا العذاب من نعمة الله عز وجل أن الله لا يطلع عليه أحدًا أبدًا إلا من شاء من خلقه، لأنه لو اطلع عليه لما تدافنوا، ولو اطلع الناس عليه لكان في ذلك فضيحة للمقبور، ولو اطلع الناس عليه لكان في ذلك عار على أهله، ولو اطلع الناس عليه لكان في ذلك أذى على أهله، ولكن من حكمة الله عز وجل أن الله أخفاه، ولو اطلع الناس عليه أيضًا ما كان للإيمان به فائدة، لأنه يكون الآن من أمور الشهادة والفضل، كل الفضل للإيمان بالغيب. عذاب القبر الأصل أنه على الروح، ولكنها قد تتصل بالبدن، ولاسيما حال الدفن حين يسال الإنسان عن ربه وعن دينه ونبيه، فإنه يضرب بمرزبة من حديدٍ إذا لم يجب، يصيح صيحةً يسمعها كل شيءٍ إلا الثقلين- نعوذ بالله، وقد ثبت عن النبي- عليه الصلاة والسلام- أنه مر بقبرين في المدينة وقال: "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة". فهذه الخمس كان الرسول- عليه الصلاة والسلام- يتعوذ بهن في دبر كل صلاة: "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر". 309 - وعن ثوبان رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". رواه مسلم. هذا أيضًا من الأذكار التي ينبغي أن يقولها الإنسان بعد الصلاة: "كان- عليه الصلاة والسلام- إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا" يعني قال: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله. ومعنى: "أستغفر الله": أسأل الله المغفرة، والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه، هذه المغفرة قال العلماء: مشتقة من المغفر، والمغفر هو: الذي يوضع على الرأس من حديدٍ ونحوه ليتقى به السهام إذن فهو ساتر وفي نفس الوقت وقاية. وقوله: "استغفر ثلاثًا" الحكمة من الاستغفار بعد الانصراف من الصلاة؛ لأن الإنسان لا يخلو من تقصير، فهذا الاستغفار إن كانت الصلاة تامة كان كالطابع لها، وإن كان فيها نقص كان كفارة لها، كما جاء ذلك في كفارة المجلس، فهذا الاستغفار بعد أداء العبادة، وهذا كقوله

تعالى في الحج: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} [البقرة: 199]. وقوله: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" لا تقل: إنه لم يذكر فيه هذا الوضع "وتعاليت"، تقول: "تباركت يا ذا الجلال والإكرام"؛ لأن الأذكار توفيقية، ما يزاد فيها إلا ما جاء به النص، والنص هنا ما ذكر "وتعاليت"، فتقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". ما معنى "أنت السلام"؟ يعني: السالم من كل نقصٍ ومن كل عيب، فالله عز وجل سلام، أي: سالم من كل نقصٍ ومن كل عيب .. فإذا قلت: هذه الصيغة فعال كيف تحولها إلى فاعل؟ نقول: هذه من باب الصفة المشتبهة، والصفة المشتبهة تدل على الثبوت والاستمرار، بخلاف اسم الفاعل فإنه قد يدل على الحدث بدون ثبوتٍ واستمرار، فالسلام أبلغ من السالم، ولهذا جاء اسمًا لله عز وجل "ومنك السلام" هنا السلام بمعنى: التسليم، كالكلام بمعنى التكليم، يقال: كلمته كلامًا وكلمته تكليمًا، فسلام هنا بمعنى: تسليم، أي: منك التسليم، يعني: إنك أنت المسلم لمن تشاء من خلقك، فالسلامة ما تطلب إلا من الله عز وجل وهو عز وجل سالم سلام، سالم من كل نقصٍ وعيب. "تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، "تباركت" قلنا: إن المعنى: كثرت خيراتك، لأن أصل البركة الخير الثابت الدائم، مأخوذ من بركة الماء لكثرة الماء فيها وسعتها ودوامه وثبوته فيها، فمعنى: "تباركت" أي: أنك يا ربنا كثير الخيرات والبركات، وهنا لم يقل: بوركت، بل قال: "تباركت" لأن التبارك صفته، بخلاف غيره فإنه يكون مباركًا وليس هو المتبارك، ولهذا قال الله تعالى عن عيسى وعن يحيى: {وجعلني مباركًا} [مريم: 31]. أي: لما كنت، لكن تفاعل صفة ذاتية فيه. "تباركت يا ذا الجلال والإكرام" "ذا" بمعنى: صاحب، "الجلال" بمعنى: العظمة يعني: يا صاحب العظمة، "والإكرام" لها معنيان: أحدهما: أنه أهل لأن يكرم عز وجل وأن يعظم. والثاني: أنه مكرم لمن يستحق الإكرام من خلقه بالثواب الجزيل والثناء، وهذا الإكرام يتعلق بالله عز وجل وبالخلق، فبالله من حيث إنه محل التكريم والتعظيم وبالخلق، لأنهم مكرمون يكرمهم الله عز وجل، ونظيره "الودود" بمعنى: الواد، وبمعنى: المودود، فهو يود من شاء، وغيره أيضًا من أحبابه يودونه، إذن الإكرام صفة تتعلق بالخالق وبالمخلوق، إذن ينبغي لنا- إن سلمنا- أن نقول: "أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنك أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا

الجلال والإكرام، قبل كل ذكر ولهذا تقول عائشة: كان النبي- عليه الصلاة والسلام- لا يجلس إلا بمقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" ثم ينصرف، فدل هذا على أن هذا الذكر قبل كل الأذكار، والمناسبة فيه ظاهرة أيضًا؛ لأنه ينبغي أن يلي الصلاة لأجل أن يكون طابعًا لها أو كفارة لها. 310 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سبح الله دبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، وحمد لله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، غفرت خطاياه، ولو كنت مثل زبد البحر". رواه مسلم. - وفي روايةٍ أخرى: "أن التكبير أربع وثلاثون". قوله: "دبر كل صلاة" يعني: المكتوبة، "غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" يعني: في كثرتها، وزبد البحر كثير لا يحصيه إلا الله عز وجل ففي هذا دليل على فضيلة هذا الذكر دبر الصلوات، كل صلاة مكتوبة: الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء تسبح الله ثلاثًا وثلاثين فتقول: سبحان الله، سبحان الله، حتى تكمل ثلاثًا وثلاثين، وتقول بعد: الحمد لله الحمد لله حتى تكمل ثلاثًا وثلاثين، وتقول: الله أكبر حتى تكمل ثلاثًا وثلاثين فهذه تسع وتسعون كلمة، يقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير". وفي لفظ لمسلم: أن التكبير أربع وثلاثون بدون: "لا إله إلا الله"، وبالتكبير أربعًا وثلاثين مرة تكمل المائة. ما معنى "سبحان الله"؟ معنى "سبحان الله": تنزيهًا لله عز وجل عن كل نقص، فالله عز وجل كامل من جميع الوجوه، كامل في أسمائه وفي صفاته وفي أفعاله، فأسماؤه كلها حسنى تدل على معانيها الحسنة التي لا أحسن منها، وصفاته كلها عليا، يقول الله عز وجل: {ولله الأسماء الحسنى} [الأعراف: 180]. ويقول: {وله المثل الأعلى} [الروم: 27]. يعني: الوصف الأكمل، وكذلك أفعاله، فإن أفعاله كلها حميدة مرتبطة بالحكمة، فهو- سبحانه وتعالى- يفعل ما يشاء بحكمة، فهو منزه عن العبث، منزه عن اللغو، منزه عن اللهو، منزه الباطل، منزه عن كل عيب، قال الله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض ما بينهما باطلًا} [ص: 27]. {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين* لو أردنا أن نتخذ لهوًا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} [الأنبياء: 17].

وقال عز وجل: {وما ربك بغافلٍ عما يعملون} [الأنعام: 132]. وقال تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيامٍ وما مسنا من لغوب} [ق: 38]. على غير ذلك مما يدل دلالةً ظاهرةً على أن الله تعالى منزه عن كل عيب، ولهذا ينزه عن نفي السمع، أو نفي البصر، أو نفي الحكمة، أو نفي المغفرة، أو نفي الرضا، أو ما أشبه ذلك، خلافًا لمن قال- والعياذ بالله-: إن الله تعالى لا سمع له، ولا بصر له، ولا حكمة له، ولا رحمة له، ولا مغفرة له، ولا يحب، ولا يحب- والعياذ بالله- ووصفوه بصفات النقص مدعين أنهم بذلك أثبتوا له الكمال، وهم- والله- إنما أثبتوا له النقص- والعياذ بالله- من حيث لا يشعرون، فلا أحد يصف الله تعالى بأكمل مما وصف به نفسه، وقد وصف نفسه بأنه غفور، وأنه ذو رحمة، وأنه قوي، وأنه حكيم، وأنه سميع بصير، وأنه على كل شيءٍ قدير، وأنه يحب ويحب ويرضى ويسخط، ويفعل ما يشاء- سبحانه وتعالى- فهو منزه عن كل نقص. وأما قولك: "الحمد لله"، "الحمد" معناه: وصف المحمود بالكمال، فبالتسبيح يكون التخلي عن كل صفات النقص، وبالحمد يكون الاتصاف بصفات الكمال، فيكون من قال: "سبحان الله والحمد لله" جامعًا لله تعالى بين النفي والإثبات، بين نفي النقص الذي دل عليه: "سبحان الله" وإثبات الكمال الذي دل عليه "الحمد لله". وأما "الله أكبر" فهي كالطابع على هذا، يعني: أكبر من كل شيءٍ عز وجل له الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، وأخبر النبي- عليه الصلاة والسلام- أن السموات السبع والأرضين السبع في كف الرحمن كخردلةٍ في كف أحدنا، فهو عز وجل له الكبرياء في السموات والأرض، وأما ختم هذه الكلمات الثلاث بكلمة التوحيد: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير" فهذه الكلمة كلمة الإخلاص التي بعث بها جميع الرسل، {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. كل الرسل بعثوا بهذا، {ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36]. فكل الرسل متفقون على معنى هذه الكلمة، وأنه لا أحد يعبد في السموات أو في الأرض بحقٍ إلا الله عز وجل. وقوله: "له الملك وله الحمد" فيه الثناء على الله عز وجل بتمام الملك وبتمام الصفات وكمالها، "له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير" كل شيء فالله قادر عليه لا يستثنى من هذا شيء فمل شيءٍ تتعلق به القدرة ويمكن أن يوصف الفاعل بأنه قادر عليه فإن الله عز وجل قدير

عليه، {وما كان الله ليعجزه من شيءٍ في السموات ولا في الأرض إنه كان عليمًا قديرًا} [فاطر: 44]. إذن بعد كل صلاةٍ مكتوبة تقول: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين، والحمد لله ثلاثُا وثلاثين، والله أكبر ثلاثًا وثلاثين، وتختم المائة بقولك: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير" أو تقول: "الله أكبر" أربعًا وثلاثين تختم بها المائة، هذا جائز وهذا جائز. فإن قلت: هل الأفضل أن أفردها، أو الأفضل أن أجمعها؟ يعني: الأفضل أقول: "سبحان الله" حتى أكمل، "الحمد لله" حتى أكمل، "الله أكبر" حتى أكمل، أو الأفضل أن أجمعها فأقول: "سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر"؟ فالجواب: أن تلك الصفتين قد وردت عن النبي- عليه الصلاة والسلام-، فهذا جائز، وهذا جائز وعلى القاعدة السابقة أن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوعةٍ ينبغي أن نفعلها على كل وجه. وقوله: "غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" ظاهر الأحاديث العموم، "غفرت خطاياه" جمع مضاف والجمع المضاف يفيد العموم، فظاهره أن الخطايا ولو كانت من الكبائر فإنها تغفر له إذا قال هذا الذكر، وهذا ما ذهب إليه بعض أهل العلم، ولكن جمهور أهل العلم يقولون: إن جميع الأحاديث الواردة في مغفرة الذنوب أو تكفير السيئات مقيدة باجتناب الكبائر، والدليل على ذلك قول النبي- عليه الصلاة والسلام-: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن ما اجتنبت الكبائر" قالوا: فإذا كانت هذه الفرائض العظيمة- الصلوات الخمس أعظم فريضة عملية- لا تقوى على تكفير الكبائر، فإن من دونها من باب أولى ألا تكفر بها الكبائر ولا شك أن هذا قول وجيه وهو قول الجمهور، لكن لإطلاقه يرجى أن يكون هو الصواب، وإننا نرجو الله عز وجل أن يعفو عنه بهذا العمل جميع ذنوبه، لكن لا تجزم إلا إذا اجتنبت الكبائر. 311 - وعن معاذٍ بن جبل رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أوصيك يا معاذ: لا تدعن دبر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي بسندٍ قوي. هذا الحديث أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يقول دبر كل صلاة، والمراد: كل صلاةٍ مكتوبة، كما جاء ذلك مقيدًا في بعض الروايات يقول: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، الإعانة على هذه الأمور يحصل بها سعادة الدنيا والآخرة.

"على ذكرك" يعني: بالقلب واللسان. "وعلى شكرك": بالقلب واللسان والجوارح. "وعلى حسن عبادتك": فهو أخص من الشكر، لأن الشكر يحصل بالعبادة، وإن كانت على غير الوجه الأحسن، لكن على حسن عبادتك أخص. وفي الإعانة على هذه الأمور إعانة على ما فيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وفي سؤال العبد ربه أن يعينه على ذلك عنوان على افتقاره إلى ربه، وأنه- سبحانه وتعالى- إن لم يعنه فإنه لا يسعد وهو كذلك إذا لم يمدك الله عز وجل بعونه، فإنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعفٍ وعجزٍ وعورة، ولهذا قرن الله الاستعانة بالعبادة فقال: {إياك نعبد وإياك نستعين}، وقال: {فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123]. فلابد من استعانة العبد بربه، فإن لم يعنه شغل وعجز عن إدراك العمل. وفي قوله: "حسن عبادتك" لم يقل: "على عبادتك"، لأن الإنسان قد يعبد ربه، ولكن لا يكون عمله حسنًا إما لعدم إخلاصه، وإما لعدم متابعته، والعمل لا يكون حسنًا إلا بأمرين: بالإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: "أن تقول دبر كل صلاة" اختلف العلماء في معنى: "دبر"، فقال بعض العلماء: أي بعد الصلاة، وهذا هو المشهور عند أكثر أهل العلم، وقال بعض العلماء: "دبر كل صلاة" أي: في آخر الصلاة قبل السلام، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: لأن محل الدعاء آخر الصلاة ليس بعد الصلاة، الذي بعد الصلاة الذكر، وأما الدعاء فهو قبل، وعلى هذا فإذا جاءت كلمة "دبر" إن كان دعاء فهو قبل السلام، وإن كان ذكر فهو بعد السلام، ولهذا دليل من القرآن والسنة، أما من القرآن في الذكر فقال الله تعالى: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله} [النساء: 103]. فجعل محل الذكر بعد الصلاة، فكل ذكرٍ مقيد بدبر الصلاة فالمراد بعدها، وأما في الدعاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود لما ذكر التشهد: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء". وقال: "إذا تشهد أحدكم التشهد الأخير فليقل: أعوذ بالله من عذاب جهنم"، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ما بعد التشهد وقبل التسليم محلًا للدعاء، وحديث معاذٍ هذا قد ورد في بعض ألفاظه أن الرسول أمره أن يقول: "في صلاته"، وهذه الرواية تؤيد ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أنها تقال قبل السلام لا بعده. * * *

فضل آية الكرسي ومعانيها: 312 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاةٍ مكتوبةٍ لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت؟ . رواه النسائي، وصححه ابن حبان. - وزاد فيه الطبراني: "و {قل هو الله أحد}. آية الكرسي هي التي ذكر فيها الكرسي وهي قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم} [البقرة: 255]. هذه آية الكرسي، أما قوله، {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256]، فهي ليست من آية الكرسي؛ لأن آية الكرسي آية واحدة وهي هذه، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعبٍ قال: "أي آية أعظم في كتاب الله؟ " قال: "آية الكرسي، فضرب على صدره وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر" يعني: هنأه بعلمه؛ حيث علم أن أعظم آيةٍ في كتاب الله هي آية الكرسي، وأما أعظم سورة؟ فإن سورة الفاتحة هي أعظم سورةٍ في كتاب الله، هذه الآية العظيمة من قرأها في ليلةٍ لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح. ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل أبا هريرة رضي الله عنه وكيلًا عنه على الصدقة- صدقة الفطر- فلما جاء ذات ليلةٍ جاءه رجل- شيطان في صورة رجل- فأخذ من التمر، فأمسكه أبو هريرة وقال: "لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقال: هذا الرجل إنه فقير، وذو عيال، وطلب أن يعفو عنه، أبو هريرة رضي الله عنه رق له وعفا عنه، فلما أصبح وغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك البارحة؟ "، جاءه الوحي من الله أن هذا الشيطان جاء إلى أبي هريرة بهذه الصورة، فقال: يا رسول الله، إنه شكا إلي أنه ذو عيالٍ وفقر، فأطلقته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: : "كذبك وسيعود" كذب يعني: أخبرك بالكذب وسيعود، قال أبو هريرة: فعلمت أنه سيعود لقول النبي صلى الله عليه وسلم فعاد وفعل مثل ما فعل في المرة الأولى، واعتذر بما اعتذر به في المرة الأولى، ولكن لما اعتذر أعطاه أبو هريرة، أعطاه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: "كذبك وسيعود" لم يقل: فلا تعطه، وإلا لما أعطاه، لكن لم يقل له: فلا تعطه، ثم لما غدا أبو هريرة على الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: "ما فعل أسيرك البارحة؟ " فقال أبو هريرة: شكا إلي أنه ذو عيالٍ وفقر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كذبك

وسيعود" فعاد في الليلة الثالثة، ولكنه أمسكه أبو هريرة واعتذر، ولكن قال: "ما أطلقك إلا عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إني أخبرك بآيةٍ إذا قرأتها لم يزل عليم من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح آية الكرسي، فلما أصبح أبو هريرة غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر فقال: "صدقك وهو كذوب"، صدقك ليس لأنه صاحب عيال، لكن صدقك بأنك إذا قرأت هذه الآية في ليلةٍ لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. هذه الآية اشتملت على عشر جمل {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم} [البقرة: 255]. أما معانيها من حيث الإجمال ففي قوله: {لا إله إلا هو} توحيد الله عز وجل، وهذه كلمة أعظم كلمةٍ يقولها الإنسان "لا إله إلا الله" بعث بها الرسل، وأنزلت به الكتب، {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. وفي الأثر الذي قال الله تعالى فيه لموسى: "لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفةٍ ولا إله إلا الله في كفةٍ مالت بهن لا إله إلا الله" كلمة عظيمة، لأن فيها توحيد الله بالألوهية، "لا إله إلا الله" إثبات ونفي، وهذا هو حقيقة التوحيد، الإثبات بدون نفي ما يدل على التوحيد، والنفي المطلق تعطيل محض، لو قلت: "زيد قائم" ما دل على أن غيره لم يقم، لكن إذا قلت: "لا قائم إلا زيد" دل على أن غيره ليس بقائم، كذلك لو قلت: "لا إله إلا الله" دليل على أنه لا إله إلا الله، ما فيه إله سوى الله، ولكن هذه الجملة فيها خبر مقدر لابد منه وهو: "حق" يعني: لا إله حق إلا الله، و"الله" يدل من ذلك الخبر، لأننا لو قلنا بهذا التقدير فهو يعني: أنه توجد هناك آلهة تعبد من دون الله تسمى: آلهة، لكنها آلهة ليس لها حق في الألوهية، ولهذا قال الله تعالى في آيةٍ أخرى: {إن هي إلا أسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23]. فهي وإن عبدت واتخذت إلهًا فإنها ليس لها ألوهية حقيقة، ولهذا نقول: "لا إله حق إلا الله". وقوله: {الحي القيوم} هذان وصفان ينتظمان جميع الأسماء الحسنى، ولهذا ورد في الحديث

أن اسم الله الأعظم هو الحي القيوم، وقد ذكر هذان الاسمان في كتاب الله في ثلاثة مواضع: في سورة البقرة في آية الكرسي، وفي سورة آل عمران: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم* نزل عليك الكتاب بالحق} [آل عمران: 2 - 3]. والموضع الثالث: في سورة طه في قوله: {وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلمًا} [طه: 111]. فهما منتظمان لجميع الأسماء الحسنى، "فالحي" معناه: ذو الحياة الكاملة التي لم تسبق بعدمٍ ولا يلحقها فناء، حياة غير الله عز وجل ناقصة، مسبوقة بعدمٍ وملحوقة بفناء، أما حياة الرب عز وجل فإنها لم تسبق بعدمٍ ولا يلحقها فناء، حياة غير الله عز وجل ناقصة، مسبوقة بعدمٍ وملحوقة بفناء، أما حياة الرب عز وجل فإنها لم تسبق بعدمٍ ولا يلحقها فناء، ثم هي حياة كاملة، كل صفات الكمال تضمها هذه الحياة، بخلاف حياة غيره فهي ناقصة. "القيوم" يقول علماء النحو: إنها صيغة مبالغة على وزن "فيعول"، إذن معناه: أن هناك شيئًا كثيرًا من القيومية فمعنى القيوم: القائم بنفسه القائم بنفسه على غيره كما قال الله تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت} [الرعد: 33]. أي: أيكون هذا كمن لا يقوم بذلك، من القائم على كل نفسٍ بما كسبت؟ الله عز وجل {ما من دابةٍ إلا هو آخذ بناصيتها} [هود: 56]، فهو القائم على غيره، {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم: 25]. كل شيءٍ قائم بالله عز وجل وهو القائم بنفسه. {لا تأخذه سنة ولا نوم} السنة: هي النعاس، يعني مقدمة النوم، والنوم هو: الاستغراق في الراحة؛ أي: فترة راحة للبدن والعقل، تغيب خلالها الإرادة والوعي جزئيًا أو كليًا، وتتوقف فيها الوظائف البدنية جزئيًا، فالرب عز وجل لا تأخذه السنة ولا النوم، لماذا؟ لكمال حياته وقيوميته، لكمال حياته لا يحتاج إلى النوم، نحن نحتاج إلى النوم؛ لأن حياتنا ناقصة نحتاج إلى نومٍ نستريح به من تعبٍ سابق، نستجد به النشاط لعملٍ مستقبل، أما الرب عز وجل فإنه لا يحتاج إلى ذلك لكمال حياته، {لا تأخذه سنة ولا نوم} كذلك لكمال قيوميته، هو القائم على عباده، لو أنه عز وجل جاز عليه النوم أو النعاس أين يكون تدبير العباد في ذلك اليوم؟ ولمن؟ لا يمكن، فهو عز وجل لكمال قيوميته لا يمكن أن تأخذه سنة ولا نوم، بل هو ممتنع غاية الامتناع أن يكون- سبحانه وتعالى- ينام أو تأخذه السنة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام"، وكلمة" "لا ينبغي" في القرآن والسنة معناها: الشيء الممتنع غاية الامتناع، "يرفع القسط ويخفضه"، سبحانه وتعالى، والذي يكون بيده رفع القسط وخفضه لابد أن يكون دائمًا لا تأخذه سنة ولا نوم.

ثم قال: {له ما في السموات وما في الأرض}: وهذه الجملة تدل على عموم ملك الله، له ما في السموات وما في الأرض، وعلى اختصاص الله تعالى بذلك الملك، أما عموم الملك فهو مأخوذ من قوله: {ما في السموات} {ما} من الأسماء الموصولة فهي للعموم، وأما انفراده بالملك فهي مأخوذة من تقديم الخبر {له ما في السموات وما في الأرض} ففيها عموم ملكه- سبحانه وتعالى-. {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} {من} استفهام بمعنى النفي، من الذي يستطيع أن يشفع عند الله لا بإذنه؟ لا أحد، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يشفع إلا بإذن الله، وذلك لكمال سلطانه وعظمته، لا أحد يقدر أن يتكلم ولا بالشفاعة إلا بإذنه، ولهذا ملوك الدنيا كلما كان الملك أهيب في قلوب الناس تجد الكلام في مجلسه أقل، يهابونه في كلامه لعظمته عندهم، فالرب عز وجل لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه ولو كان أقرب الخلق إليه وأعظمهم عنده منزلة، لماذا؟ لكمال سلطانه عز وجل، لا أحد يتكلم إلا بإذنه. {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} هذه أيضًا جملة تدل على عموم علمه- سبحانه وتعالى- {ما بين أيديهم} المستقبل، {وما خلفهم} الماضي، فكل ما كان وما يكون فالله عالم به. {ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء} قال بعض العلماء: {من علمه} أي: من معلومه، فعلمه مصدر بمعنى: اسم مفعول كما في الحديث: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، "رد" بمعنى: مردود، فعلم بمعنى: معلوم، يعني: لا يحيطون بشيءٍ مما يعلمه الله إلا بما شاء، وقيل: المعنى: لا يحيطون بشيءٍ من علم الله، أي: ما يعلمون شيئًا عن الله إلا بما شاء، يعني: ما نعلم شيئًا من أسمائه، ولا من صفاته، ولا من أفعاله إلا بما شاء، والصحيح كان الآية شاملة لهذا وهذا، فنحن لا نحيط بشيءٍ من معلوماته، ولا بشيءٍ مما يتعلق بعلم ذاته وأسمائه وصفاته إلا بما شاء. ثم قال: {وسع كرسيه السموات والأرض}، الكرسي دون العرش، وأقل منه بكثير، وهو واسع للسموات والأرض السموات كم عدد السموات؟ سبع، وهي واسعة أم لا؟ واسعة: {والسماء بنيناها وإنا لموسعون} [الذاريات: 47]. انظر المسافات بين الأرض والسماء الدنيا، والمسافات بين السماء الدنيا والثانية، وبين الثانية والثالثة، وبين الثالثة والرابعة، وكلما اتسعت المسافة ازداد الكبر، قشرة البيضة العليا أوسع من الصفرة التي في جوفها، والبياض الذي تحت القشرة أوسع من الصفرة، إذا كان الكرسي محيطًا بالسموات والأرض فمعناه: أنه عظيم جدًا

وهو دون العرش، ولهذا جاء في الحديث أن السموات السبع والأرضين السبع في الكرسي كحلقةٍ ألقيت في فلاةٍ من الأرض. ما هي الحلقة؟ أي: حلقة الدرع، وهي حلقة مثل حلقة السلسلة الصغيرة تلقى في فلاةٍ من الأرض تسع نصف الفلاة أو ثلاثة أرباع الفلاة؟ لا، ليست بشيءٍ بالنسبة للفلاة، السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقةٍ ألقيت في فلاةٍ من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة، يعني: أن هذا شيء لا يتصور من حيث العظمة، علام تدل عظمة هذه المخلوقات؟ تدل على عظمة الخالق- جل وعلا- لأن عظم المخلوق يدل على عظم الخالق، كما أن عظم المصنوع من صنعنا يدل على عظم الصانع، فالرب عز وجل إذا كان كرسيه قد وسع السموات والأرض فما بالك بالعرش، وهو دليل على عظم الله عز وجل وكمال قدرته. {ولا يئوده حفظهما} {يئوده} بمعنى: يثقله، {حفظهما} حفظ السموات والأرض بما فيهما من المخلوقات التي لا يحصى أجناسها إلا الله فضلًا عن أنواعها، فضلًا عن أفرادها، لا يثقل الرب عز وجل حفظ السموات والأرض لكمال علمه وكما قدرته، وكونه حافظًا فيه كمال الرحمة وكمال الإحسان، فهو لكمال العلم والقدرة والرحمة والإحسان يحفظ السموات والأرض ولا يثقله حفظهما. {وهو العلي العظيم} سبحانه وبحمده من هذه عظيمة مخلوقاته، وهذه عظيمة صفاته، فهو العظيم بكل معنى العظمة، وهي العلي بذاته وصفاته، أما العلي بذاته فهو فرق كل شيء، ليس فوق الله شيء، وليس مع الله شيء، بمعنى: أنه ليس شيء محاذيًا لله، وليس شيء فوق الله، بل كل شيء تحت الله عز وجل هذا علو الذات. فإن قلت: أليس قد ثبت في الحديث الصحيح: "أن المقسطين على منابر من نورٍ يوم القيامة علي يمين الرحمن" فهل يلزم من ذلك أن يكونوا محاذين له؟ الجواب: لا، لا يلزم، هم على يمين الرحمن لكنهم تحت، ولا يلزم من أن يكونوا محاذين له؛ لأن الله عز وجل له العلو المطلق من جميع الوجوه، والعلو معناه: أنه لا أحد يساويه، بل كل شيء فهو تحت الله عز وجل كذلك أيضًا له علو الصفات، ما معنى علو الصفات؟ معناه قوله تعالى: {ولله المثل الأعلى} [النحل: 60]. كل صفة عليا وكمال ليس فيها نقص بوجه من الوجوه فإنها لله- سبحانه وتعالى-.

وجوب تعلم صفة صلاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)

بهذه المعاني القليلة التي يتبين بها شيء من هذه المعاني العظيمة يتبين وجه كون هذه الآية أعظم آية في كتاب الله {ولا يئوده حفظهما} إذا قرأها الإنسان في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ؛ لأنه قرأ فيها {ولا يئوده حفظهما} إذن أنا ممن في السموات والأرض، فحفظ الله (عز وجل) لي لا يثقله (عز وجل)، ولهذا صار من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح. يقول (النبي صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث: "أن من قرأها كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت". المعنى: أنه إذا مات دخل الجنة، الأحياء لا يدخلون الجنة، لكن إذا مات دخل الجنة، وهذا دليل على فضلها، وأنه ينبغي للإنسان أن يقرأها خلف كل صلاة مكتوبة؛ وكذلك ينبغي أن يقرأ معها {قل هو الله أحد} (الإخلاص)؛ وكذلك ورد في بعض الأحاديث: {قل أعوذ برب الفلق} (الفلق)} قل أعوذ برب الناس} (الناس). وجوب تعلم صفة صلاة الرسول (صلى الله عليه وسلم): 313 - وعن مالك بن الحويرث (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري. مالك بن الحوريرث (رضي الله عنه) قدم وافدًا مع نحو عشرين رجلًا من قومه، وكان قدومه في آخر حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يتجهز إلى غزوة تبوك، يقول: فمكثنا عنده نحو عشرين ليلة، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) رحيمًا رفيقًا، فلما رأى أنا اشتقنا إلى أهلنا قال لهم: اذهبوا إلى أهليكم فعلموهم وأدبوهم، وأشدهم النبي (صلى الله عليه وسلم): إرشادات منها: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم". ومنها: "صلوا كما رأيتموني أصلي" قوله: "صلوا كما رأيتموني" هذا يعود إلى كيفية الصلاة في أقوالها وأفعالها وأوقاتها، وهذا الأمر الأصل فيه الوجوب، وأن كل ما صلاة النبي (صلى الله عليه وسلم) فإنا نفعل كما فعل، ولكن بعض أهل العلم عارضة بحديث المسيء في صلاته، وقال: إنه لا يجب من الصلاة إلا ما ذكر في حديث المسيء في صلاته؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم): لو كان هناك شيء واجب لعمله هذا الرجل الذي قال: والله لا أحسن غير لهذا، فلما لم يعلمه علم أنه لا يجب سوى ما ذكر في حديث المسيء في صلاته، وحديث المسيء في صلاته وهو قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) له: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تطمئن قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في

صلاة المريض

صلاتك كلها"، ولكن لا يصح هذا ولا هذا، لا يصح أن نقول: كل ما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) استنادًا إلى قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ولا يصح أن نقول: لا يجب سوى ما ذكر حديث المسيء في صلاته فإن هذا منقوض، هذا عبد الله بن مسعود يقول: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد" وهذا واضح في أن التشهد فرض ومع ذلك ما ذكر في حديث المسيء في صلاته، ومنها: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صح عنه أنه قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" مع أن ذلك يذكر في حديث المسيء، بل قال: "اقرأ ما تيسر معك من القرآن"، وإن كان في بعض الروايات في غير الصحيحين: "اقرأ بأم القرآن" لكن الصحيح المحفوظ: "اقر ما تيسر معك من القرآن". وأما قوله (صلى الله عليه وسلم): "وصلوا كما رأيتموني أصلي" فإن فيه أشياء غير واجبة مما كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يفعله بالإجماع، فدل على أن هذا الحديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" يتوجه إلى الأمر الوجوبي فيما جب، والأمر الاستحبابي فيما يستحب. ويستفاد من هذا الحديث: الاقتداء بالفعل لقوله: "صلوا كما رأيتموني" وهذا كقوله وهو يفعل المناسك: "لتأخذوا عني مناسككم"، فالتعليم يكون بالقول ويكون بالفعل، والتعليم بالفعل أقوى تصورًا من التعليم بالقول، لكنك لو أردت أن تشرح لإنسان ما كيفية الصلاة مثلًا، أو تقوم تصلي أمامه أيهما أقرب تصورًا وفهمًا؟ أن تصلي أمامه، ولهذا كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أحيانًا يعلم الناس بالقول، وأحيانًا بالفعل. ويستفاد من هذا الحديث فائدة مهمة وهي: أنه يؤمر الإنسان بأن يتعلم كيفية صلاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)؛ لأنه إذا أمرنا أن نصلي كما صلى فلا طريق لنا إلى أن نصلي كما صلى إلا بالعلم، وحينئذ نقول: إنك مأمور بأن تتعلم صفة الصلاة من سنة النبي (صلى الله عليه وسلم). صلاة المريض: 314 - وعن عمران بن حصين (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب وإلا فأوم". رواه البخاري. عمران بن حصين (رضي الله عنه) كان أصيب بداء البواسير، وهو داء معروف في المقعدة، فجاء النبي (صلى الله عليه وسلم) يعوده؛ لأن هذه من عادة النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يعود المرضى، فقال له: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب". قوله: "صل قائمًا، فإن لم تستطع" المراد بذلك: صلاة الفرض؛ لأن صلاة النفل يجوز أن

يصلي فيها قاعدًا وإن كان قادرًا على القيام، لكنه يكون أجره على النصف من أجر صلاة القائم كما ثبت ذلك في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم). وقوله: "صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا" بماذا نعرف عدم الاستطاعة؟ هل معناه: أنه لا يمكن أن يعتمد قائمًا أبدًا، أو معناه: أنه يستطيع لكن بمشقة شديدة لا يستحضر معها ما يقول في صلاته، أو أن المراد: أقل مشقة؟ فهذه ثلاث حالات. نقول: المراد: المشقة التي توجب اشتغالك عما تقوله في صلاتك؛ يعني: إذا كنت لو وقفت شق ذلك عليك مشقة شديدة بحيث لا تدري ما تقول، أو إذا وقفت صار في رأسك دوران وما أشبه ذلك فصل قاعدًا، إذا تمكنت أن تصلي قائمًا على عصا أو مستندًا إلى جدار أو إلى عمود هل يلزمك؟ نعم يلزمك أن تستند إلى جدار أو نحوه، أو تعتمد على عصا ونحوه، إذا استطعت أن تقف قائمًا لكن منحنيًا تفعل أو تجلس؟ تفعل ولو منحنيًا حتى ولو كان انحناؤك كانحناء الراكع تقوم لعموم قوله: "صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا" ولكن كيف تقعد: هل تفترش أو تتورك أو تقعي، أو تتربع؟ نقول: نتربع، إذا صليت قاعدًا فتربع، ويومئ بالركوع والسجود، لكن يكون متربعًا في حال القيام وفي حال الركوع، أما في حال السجود فيسجد، وفي حال الجلوس بين السجدتين أو في التشهد فيكون جلوسه على العادة. "فإن لم تستطع فعلى جنب" إذا لم تستطع الصلاة قاعدًا فعلى جنب، ونقول في عدم الاستطاعة قاعدًا كما قلنا في عدم الاستطاعة قائمًا تصلي على جنب، على أي الجنبين؟ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما عين، يجزئ على الجنب الأيمن وعلى الجنب الأيسر، لكن الجنب الأيمن أفضل ثم الأيسر، فإن لم تستطع أن تصلي على جنب، أحيانًا لا يستطيع المريض أن يصلي، يعني: لا يقدر أن يومئ برأسه ولا بعينه فإنه يصلي بقلبه يقول: "الله أكبر" ويقرأ الفاتحة وما تيسر، ويقول: "الله أكبر" وينوي أنه ركع، ثم يكبر وينوي أنه رفع، لعموم قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} (البثرة: 286). وقوله: تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن). وقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، وأما ذهب إليه بعض أهل العلم من أنه إذا عجز عن الأفعال سقطت الصلاة فلا وجه له، فهل الصواب: أنه عجز عن الأفعال طولب بالأقوال؟ لا، إذا كان يستطيع أن يتكلم ولا يتحرك كما لو أصيب- والعياذ بالله- بشلل فماذا يفعل؟ ينوي بقلبه حتى القول ينوي القول بقلبه والفعل بقلبه، لعموم قوله تعالى: {اتقوا الله ما

استطعتم}، وقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وكيف يرمي برأسه في الركوع؟ ينحني، وفي السجود: ينحني أكثر، فإن لم يستطع الإيماء بالرأس أو ما بالعين عند بعض أهل العلم؛ لأنه ورد فيه حديث لكنه ضعيف، فأخذ به الفقهاء -رحمهم الله- فقالوا: "يومئ بعينه"، وهل يومئ بالأصبع؟ لا، الإيماء بالأصبع ما وجدت له أصلًا لا في السنة ولا في أقوال أهل العلم، لكن العامة يستحسنونه قالوا: لأن الأصبع مثل البدن، لكن هذا استحسان عامي لا يعتمد عليه، ما دام أنه لا أصل له في السنة ولا في كلام أهل العلم فإنه لا يعتمد عليه. 315 - وعن جابر (رضي الله عنه) قال: "عاد النبي (صلى الله عليه وسلم) مريضًا، فرآه يصلي على وسادةٍ، فرمى بها، وقال: صلى على الأرض إن استطعت، وإلا فأوم إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك". رواه البيهقي، وصحيح أبو حاتم وقفه. هذا فيه دليل على أنه لا ينبغي للمريض إذا عجز عن الوصول إلى الأرض أن يصنع له وسادة يسجد عليها سواء صح هذا الحديث مرفوعًا أو موقوفًا، وذلك لأننا منهيون عن التكليف، وهذا من التكليف، فما دام الله تعالى قد أوسع علينا- والحمد لله- أن نومئ فلا حاجة أن نأتي بوسادة لنسجد عليها. نعم، لو فرض أن إنسانًا مصابًا بوجع في رأسه أو بعينه، ولا يستطيع أن يتحرك إلا إذا شد رأسه فهو يضع الوسادة، لا لأجل أن يسجد عليها لكن لأجل أن يلين رأسه، هذا يكون الغرض منه ليس هو التعبد، ولكن الغرض هو التطبب لا بأس به، أما إذا كان من أجل أن يسجد عليها تعبدًا لله تعالى فهذا لا ينبغي، ولهذا قال أهل العلم: إنه يكره أن يرفع وسادة يسجد عيها، كأن المؤلف (رحمه الله) أتى بحديث عمران بن حصين بعد حديث مالك ليبين أن عموم قوله (صلى الله عليه وسلم): "صلوا كما رأيتموني أصلي" مخصوص بهذا الحديث وأمثاله أن من لا يستطيع أن يصلي كما صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فليصلي بحسب استطاعته وحاله. وأعلم أن الصلاة لا تسقط عن المريض أبدًا ما دام عقله ثابتًا، لكن إذا قدر أن هذا المريض لا يستطيع أن يتوضأ، ولا يستطيع أن يتيمم، ولا يستطيع أن يجتنب النجاسة في ثوبه أو بدنه أو مصلاه، فماذا يفعل؟ يصلي على حسب حاله، وهذه مسألة: كثير من العامة يبقى في المستشفى

8 - باب سجود السهو وغيره من سجود التلاوة والشكر

أو على فراشه في بيته مريضًا لا يصلي، نقول له: لماذا؟ يقول: ثيابي نجسة، أو بدني نجس، هذا ليس بعذر هذا لو ماتا ولم يصل فهو على خطر، ولذلك يجب أن يبين للناس أنه يصلي على حسب حاله؛ {فاتقوا الله ما استطعتم}، وهل يعيد إذا صلى على حسب حاله بدون وضوء ولا تيمم ولا اجتناب نجاسة إذا عافاه الله؟ لا؛ لأنه قد فعل ما أمر به فاتقى الله ما استطاع. **** 8 - باب سجود السهو وغيره من سجود التلاوة والشكر هذه ثلاثة أنواع من السجود: سجود السهو، سجود التلاوة، سجود الشكر، أما سجود السهو فسببه: أن يسهو الإنسان في صلاته، وأما سجود التلاوة فسببه: إذا مر بآية سجدة وهو يتلو القرآن يسجد، وأما سجود الشكر فيه: أن تتجدد له نعمة، أو تندفع عنه نقمة، وسيأتي- إن شاء الله تعالى- بين حكم سجود التلاوة والشكر. أولًا: سجود السهو: أعلم أن السهو المضاف إلى الصلاة يكون على نوعية؛ تارة يتعدى ب"في" وتارة يتعد ب"عن" فإن تعدى ب"عن" فهو مذموم ومتوعد عليه في قوله تعالى: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} (الماعون: 4 - 5). السهو في الصلاة هو إضاعتها وعدم الاهتمام بها وعدم العناية لها، ولهذا قال بعض أهل العلم: الحمد لله الذي لم يقل: "الذين هم في صلاتهم ساهون"، وإنما قال: {الذين هم عن صلاتهم ساهون}، كما خمد الله بعض أهل العلم حيث قال: {والكافرون هم الظالمون} (البقرة: 254). ولم يقل: "والظالمون هم الكافرون"؛ لأنه لو قال: "والظالمون هم الكافرون" صار كل ظالم كافرًا، ولو كان ظلمه لا يخرجه من الإسلام. المهم أن الله (عز وجل) توعد الذين هم عن صلاتهم ساهون: {فويل للمصلين} الذين هم عن صلاتهم ساهون}، هم يصلون لكنهم لا يهتمون بصلاتهم، يفرطون في الواجب، أو يفعلون المحرم، وإذا كان الوعيد لمن يصلي وهو ساهٍ عن صلاته، فما بالك بمن لا يصلي أبدًا- والعياذ بالله- إنه أعظم وأشد، أما السهو في الصلاة، فإنه سهو يكون فيها لا عنها؛ بأن ينسى الإنسان شيئًا منها أو ينسى فيزيد شيئًا ليس منها، والنسيان على هذا الوجه أمر جبلي طبع عليه البشر، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون"، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) ينسى كما ينسى البشر، لكن ما طريقة البلاغ لا يمكن أن ينساه، وإن نسيه نذكره، {سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله} (الأعلى: 6 - 7). وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة (رضي الله عنها) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سمع رجلًا يقرأ

صفة سجود السهو

في الليل فقال: "يرحمه الله، لقد ذكرني آية كنت أنسيتها"، وفي لفظ: "كنت أسقطتها"، يعني: ـسقطها نسيانه، وإنما قال: في الآية: "أنسيتها" ولم يقل: "نسيتها"؛ لأن هذا لا ينبغي في الآية إذا أنسيتها أن تقول: نسيتها، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، وإنما يقول نسيت". كلمة "نسيت" تدل على أن هناك شيئًا من الإهمال، فقال: "بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا"، لكن في الأفعال يصلح أن تقول: نسيت أن أسجد، نسيت أن أركع، وما أشبه ذلك، ولهذا لما وقع من النبي (صلى الله عليه وسلم) أن سلم قبل أن يتم صلاته قال: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني"، والمهم: أن السهو في الصلاة وهو الذهول عن بعض ما يجب فيها أو عن فعل ما يحرم فيها بحيث يفعله هذا أمر طبيعي جبلي؛ كل البشر ينسون. ذكر المؤلف (رحمه الله) في باب سجود السهو حديث: صفة سجود السهو: 316 - عن عبيد الله ابن بحينة (رضي الله عنه) "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس، وسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم". أخرجه السعة، وهذا لفظ البخاري. وفي رواية المسلم: "يكبر في كل سجدة وهو جالس ويسجد ويسجد الناس معه مكان ما نسى من الجلوس". *فائدة لغوية: بحينة اسم أمه، واسم أبيه مالك، فهو عبد الله بن مالك ابن بحينة. كيف أحرك "ابن": بالجر، أو بالرفع؟ فهو عبد الله بن مالك ابن بحينة، وقد ذكر العلماء في هذه المسألة -من باب الفائدة- أنه إذا كان الاسم الثالث اسم الجد، فإن كلمة "ابن" الثانية تكون في الإعراب تابعة لما أضيفت إليه "ابن" الأولى، وأيضًا إذا كان مضافًا إلى اسم الجد، فإن الاسم الذي قبله لا ينون، وأيضًا فإنه تكتب الهمزة في "ابن" بين الاسم الأول الذي أضيف إليه "ابن" وبين الاسم الثاني، فهذه ثلاثة فروق، مثلًا: إذا قلنا: "عبد الله بن عباس بن عبد المطلب" لكن "عبد الله بن مالك ابن بحينة" نقول: "عبد الله بن مالك ابن بحينة" ننون "مالك"، ونجعل "ابن" تابع للاسم الأول، ونفصل بينهما بالهمزة.

قوله: "قام من الركعتين ولم يجلي" يعني: ترك التشهد الأول (صلى الله عليه وسلم)، "فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبَّر فسجد سجدتين وهو جالس، ثم سلم مكان ما نسي من الجلوس"، الصورة: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يصلي الظهر، فقام من الركعة الثانية ولم يجلس للتشهد الأول وقام الناس معه، فلما انتهت الصلاة لم يبق إلا أن يسلم سجد سجدتين، يكبر كلما سجد وكلما رفع ثم سلم. يستفاد من هذا الحديث: أن التشهد الأول ليس بركن؛ لأنه لو كان ركنًا لا تصح الصلاة إلا به لوجوب الرجوع إليه حتى تصح الصلاة، لكنه واجب، خلافًا لمن قال: إنه يستدل بهذا الحديث على أن التشهد الأول ليس بواجب؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما رجع إليه، ولو كان واجبًا لرجع إليه، ولكن الصحيح أنه واجب لقول ابن مسعود: "كنا نقول قبل أن يفرض عليما التشهد .. إلخ" وهذا صريح بأن التشهد فرض. ويستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان إذا قام إلى التشهد الأول لا يرجع إليه، لماذا؟ لأنه واجب يسقط بالنسيان، ولو رجع إليه لزاد في صلاته. وهل يحرم الرجوع إذا استتم قائمًا أولًا؟ يحرم إلا إذا شرع في القراءة، قولان لأهل العلم، والصواب: أنه بمجرد أن يستتم قائمًا يحرم عليه الرجوع سواء قرأ أو لم يقرأ؛ لأنه لا دليل على التخصيص، ففي حديث المغيرة بن شعبة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "إن استتم قائمًا فلا يرجع وعليه السهو"، والنهي الأصل فيه التحريم، فالصواب: أنك إذا استتمت قائمًا ما ترجع، إن ذكرت قبل أن تستتم قائمًا ترجع، ولكن هل عليك سجود السهو؟ يقول الفقهاء -رحمهم الله-: إنه إذا نهض عن الجلوس وجب عليه أن يسجد للسهو، يعني: ارتفع بحيث تفارق أليتاه عقبيه لا هو نهض ولا استتم، يرجع ويسجد للسهو، ولكن حديث المغيرة بن شعبة الذي أشرت إليه يقول فيه النبي (صلى الله عليه وسلم): إنه لا سهو عليه، والحديث فيه كلام، فإن من أهل العلم من ضعفه، ولكن الصحيح أنه لا يصل إلى درجة الضعيف، فالفقهاء -رحمهم الله- قالوا: إنه لما ارتفع عن مكان الجلوس صار زائدًا في صلاته فوجب عليه سجود السهو، والحديث يقول: "لا سهو عليه"، ووجهه -والله أعلم-: أن النهوض ليس مقصودًا لذاته، وإنما المقصود القيام ولم يصل إلى حده، فكأن هذه الزيادة ملغاة؛ لأنها في الواقع ليست مقصودة، وإنما هي وسيلة أن يصل إلى القيام، وعلى كل حال في هذه الصورة نقول: السجود لا يجب إن سجد بناء على ما قال الفقهاء من أجل أن الحديث فيه كلام وضعف فلا حرج عليه. ويستفاد من هذا الحديث: أنه يجب على المأمومين أن يتابعون الإمام إذا قام عن التشهد

الأول سهوًا، الدليل أن الصحابة قاموا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) ولو أنه واجب لنهاهم أن يدعوا الواجب وهو التشهد من أجل متابعة الإمام الواجبة؛ لأنه لا يترك الواجب -وهو التشهد- إلا بواجب، وعلى هذا فيجب على المأمومين إذا قام الإمام على التشهد الأول سهوًا، يجب عليهم أن يقوموا معه، ولا يحل لهم أن يتخلفوا عنه. ويدل الحديث بالإيماءة: على أن الإمام إذا كان لا يجلس للاستراحة؛ فإنه لا ينبغي للمأموم أن يجلس للاستراحة ولو كان يراها، ولهذا صرح شيخ الإسلام ابن تيمية على أن جلسة الاستراحة هي عند من يرى أنها مشروعة مطلقًا إذا كان مأمومًا فإنه يتابع إمامه في عدم جلوسه، كما أنه لو كان يرى الجلسة وجلس إمامه فإنه يتابع إمامه، ومتابعة الإمام بها أهمية. ويستفاد من هذا الحديث: أن سجود السهو لمن ترك التشهد الأول، متى يكون؟ قبل السلام؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) سجد قبل السلام، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فلما سجد قبل السلام بسبب التشهد الأول وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" صار محله قبل السلام، وهل ذلك على سبيل الوجوب أو على سبيل الأفضلية؟ ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه قبل السلام وجوبًا؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم يرد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه سجد بعد السلام في حال يكون فيه سجوده قبل السلام حتى نقول: إن المسألة على التخيير والأفضلية، وإنما سجد قبل السلام في موضعه، وبعد السلام في موضعه. ويستفاد من هذا الحديث: أن الواجبات لا تسقط بالنسيان، بل لابد من فعلها أو فعل ما يكون بدلًا منها، فهنا سقط التشهد الأول، لكن لم يسقط ما يكون بدلًا منه، وهو سجدتا السهو، وعلى هذا نقول: من ترك واجبًا من واجبات الحج فهل يسقط عنه الدم على القول بوجوب الدم لمن ترك واجبًا؟ لا يسقط؛ لن له بدلًا، لكن إذا تركه سهوًا فلا إثم عليه، وإن تركه عمدًا فعليه الإثم والفدية، وإن تركه سهوًا فعليه الفدية دون الإثم. ويستفاد من هذا الحديث: تيسير هذه الشريعة وتسهيلها وأن الإنسان العامل لا يعدم عمله؛ إذ من الجائز أن يكون من ترك التشهد الأول مع وجوبه أن تكون صلاته باطلة ويلزم بإعادة الصلاة، ولكن من رحمة الله وتيسيره جعل ترك هذا الواجب به بدل يجبره وهو السجود. ويستفاد من هذا الحديث: فضيلة السجود على غيره من أفعال الصلاة؛ لأنه الذي اختاره الله أن يكون جابرًا، ما جعل الركوع جابرًا، جعل الجابر السجود ليس غير، وهذا دليل على أنه أفضل أركان الصلاة وهو كذلك؛ فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد لكن إذا قلت وأيهما أفضل القيام أو السجود؟ نقول: هذا محل خلاف بين العلماء بعضهم قال القيام أفضل وبعضهم قال السجود أفضل، والصحيح أن نقول: القيام أفضل بذكره، والسجود أفضل بهيئته،

السجود للسهو بعد السلام وحكمه

أما كون القيام فضل بذكره فلأن القيام فيه كلام الله (عز وجل) لا القيام محل القراءة وهي أفضل الذكر، بخلاف التسبيح فإنه ليس كلام الله (عز وجل) على أن هذا لا ينفي أن في القرآن تسبيحًا مثل: {سبح اسم ربك الأعلى} (الأعلى: 1). و {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} (الروم: 17). لكن السجود أفضل بهيئته، ولهذا كان العبد أفضل ما يكون من ربه وهو ساجد، والذي يعنينا في هذا الباب- وبالنسبة لهذا الحديث- أن من ترك التشهد الأول حتى قام فإنه لا يرجع إليه ولكن يجب عليه أن يسجد للسهو قبل السلام هذا الواجب عليه لهذا الحديث، ويعنينا منه أيضًا: وجوب متابعة الإمام فيما إذا ترك التشهد الأول سهوًا؛ لن الصحابة قاموا وتابعوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأقرهم على ذلك؛ ولولا أن متابعة الإمام واجبة ما سقط بها الواجب الذي هو التشهد. السجود للسهو بعد السلام وحكمه: 317 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: "صلى النبي (صلى الله عليه وسلم) إحدى صلاتي العشي ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشيةٍ في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: أقصرت الصلاة؟ وفي القوم رجل يدعوه النبي (صلى الله عليه وسلم) ذا اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقتصر، فقال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر، ثم سجد مثل سجوده، أو طول ثم رفع رأسه وكبر، ثم وضع رأسه، فكبر، فسجد مثل سجوده، أو أطول ثم رفع رأسه وكبر". متفق عليه واللفظ للبخاري. وفي رواية لمسلم: "صلاة العصر". ولأبي داود، فقال: "أصدق ذو اليدين؟ فأومئوا، أي: نعم" وهي في الصحيحن لكن بلفظ: "فقالوا". وفي رواية له: "ولم يسجد حتى يقنه الله تعالى ذلك". قوله: "إحدى صلاتي العشي"، العشي: ما بين الزوال وغروب الشمس، وفيه صلاتان: الظهر والعصر، ويقول أبو هريرة هنا: "إحدى صلاتي العشي" وفي رواية لمسلم: أنها العصر، ولا يهم أن تكون العصر أو الظهر، المهم: معرفة الحكم الذي حصل وهو أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى بهم فسلم من ركعتين، ومعلوم أن الظهر أو العصر أربعًا، إذن سلم قبل إتمامه، وماذا حدث؟ تقدم النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى خشبه معروضة في قبلة المسجد واتكأ عليها ووضع خده على ظهر يده اليسرى

وشبك بين أصابعه كأنه غضبان، والسر في ذلك -والله أعلم- أنه لما لم تكن الصلاة تامة انقبضت نفسه ولم يحصل له الانشراح (صلى الله عليه وسلم)، وهذا من لطف الله بالعبد أنه إذا صار هناك نقص في عبادته ألا ينشرح صدره حتى يأخذ يفكر فيما حصل، ولهذا قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله كذا وكذا". فالحاصل: أن من نعمة اله على العبد ألا ينشرح صدره إذا أخل بشيء من العبادات، بل تبقى نفسه منقبضة حتى يرجعها فيما فعل، وهذا من توفيق الله، هذا ما حصل للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وكما هو معلوم فإن هناك فئة من الناس يسرعون في الخروج عادة وهم "سرعان الناس" خرجوا من المسجد يقولون: "قصرت الصلاة" وبعضهم يقول: "أقصرت الصلاة؟ " أحدهم يستفهم، والآخر يثبت أنها قصرتّ ما كانوا يظنون أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) سينسى ويسلم من ركعتين، والصحابة كلهم مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومع ذلك بم يجتزئ أحد أن يكلمه؛ وذلك لأن الله تعالى قد ألقى المهابة على رسوله (صلى الله عليه وسلم) مع حسن خلقه، لكن له هيبة عظيمة وأخص الناس به أبو بكر وعمر، ولكن مع ذلك هابا أن يكلماه في هذا الأمر الذي يجر قبله مثله، ولكن كان في القوم رجل يدعوه النبي (صلى الله عليه وسلم) "ذا اليدين" لطول في يديه كأنه -والله أعلم- لكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) يداعبه ويقول: "يا ذا اليدين" حصل منه أنه يستطيع أن يتكلم، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ والله إن هؤلاء المناطقة لو أرادوا أن يأتوا بمثل هذه الكلمة وهذا التقسيم العجيب لكتبوا مجلدات، وهذا الصحابي ما قرأ المنطق ولا الفلسفة ولا السبر ولا التقسيم ولا شيء. قال: "أنسيت أم قصرت الصلاة؟ " لا يوجد غير هذا؛ لأنه ما بقي إلا أمر ثالث لا يمكن أن يقع من الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو: أن يتعمد السلام قبل التمام، الشيء الذي يمكن في حق الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو أنسيت أم قصرت الصلاة؟ لو قال قائل: إن القسمة هنا غير حاصلة؛ لأنه إما أن ينسى، وإما أن تقصر الصلاة، وهناك شيء ثالث وهو أن يتعمد أن يسلم من ركعتين بدون أن يقصر الصلاة، ولكن هذا الأخير غير ممكن في حق الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولهذا هو (رضي الله عنه) ما ذكر الاحتمالين الذين يمكن أن يقعا من الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ـ وهذا من كمال الأدب، الاحتمالات واردان يمكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نسي وسلم من ركعتين ظنًا أنها أربع، ويمكن أن الله تعالى نسخ الحكم الأول وأعاد الصلاة على ركعتين على حالها الأول، لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: "لم أنس ولن تقصر"، وهذا ولد إشكال عند الناس، والنبي (صلى الله عليه وسلم) منزه من الكذب لا يمكن أن يكذب، وهنا قال: "لم أنس ولم تقصر" ما حصل لا هذا ولا هذا، ولكن الصحابي (رضي الله عنه) لما علم أن نفي النبي (صلى الله عليه وسلم) لتغيير الحكم أمر لا

يلحقه النسيان، ولكن كونه يسلم قبل التمام أمر يمكن أن يكون نسيانًا، ماذا قال له؟ قال: "بلى قد نسيت"، النسيان ممكن، لكن كون الرسول ينفي أن يكون الحكم قد تغير وهو متغير هذا غير ممكن؛ لن هذا من باب البلاغ، ولا يمكن للرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يبلغ خلاف الشرع. قال: "بلى، قد نسيت" لما قال: "بلى قد نسيت" وعزم عليه والنبي أشد الناس توضعًا رجع إلى المصليين الآخرين والرسول كان في الأول جازم أنه ما حصل شيء لا نقص ولا نسيان، لكن لما جزم الصحابي وقال: "بلى قد نسيت" قال: يمكن، فقال: "أحق ما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: نعم، وفي رواية: "فأومئوا أن نعم" والجمع بين "قالوا" و "أومئوا" يشير جدًا، وذلك بان نقول: بعضهم أو ما يرأسه، وبعضهم قال: نعم، فلما قالوا ذلك تبين للرسول (صلى الله عليه وسلم) أن الصواب مع ذي اليدين، فتقدم فصلى ما ترك يعني: الركعتين الياقيتين، ثم سلم ثم سجد سجدتين مثل سجوده في الصلاة أو أطول ثم سلم. فيستفاد من هذا الحديث فوائد كثير: الفائدة الأولى: أن الجهل بالعين أو الجهل بالتعيين لا يقدح في صحة الحديث لقوله: "إحدى صلاتي العشي"؛ ولهذا قال أهل العلم بالمصطلح: إن اختلاف الرواة في مثل ذلك لا يعد اضطرابًا في الحديث ولا موجبًا لضعفه، كما ذكروا لذلك أمثلة متعددة منها: حديث فضالة بن عبيد في شرائه القلادة من الذهب اشتراها باثني عشر دينارًا، وقال بعضهم: بعشرة، وقال بعضهم بأقل أو بأكثر، لكن هذا الاختلاف لا يؤثر في صحة الحديث، لماذا؟ لأنه لا يعود إلى أصله، إنما يعود إلى أمر فرعي، لهذا "إحدى صلاتي العشي"، إذا قال بعض الرواة: إنها العصر، وقال بعضهم: إنها الظهر هل يوجب هذا ضعف الحديث؟ لا؛ لأن الكلام على الأصل ودرك الحكم. ويستفاد من هذا الحديث: جواز النسيان على النبي (صلى الله عليه وسلم)، من أين يؤخذ؟ من قوله: "بلى قد نسيت"، فأقره النبي (صلى الله عليه وسلم) بدليل أنه رجع إلى قول الصحابة يسألهم. ومنها: أن المؤمن كلما كان أكمل إيمانًا صارت نفسه لها حالات عند فعل الطاعة على الكمال وعند نقصها، تجده إذا أنهى العبادة كاملى انشرح صدره؛ لأن الله يقول: {أمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} (الزمر: 22). وإذا لم يتمها صار عنده شيء من الانقباض؛ لأن العبادة لم تتم، وهذا من لطف الله بالعبد، وأظن أني قد ذكرت لكم قصة في رجل كان ورعًا لا يأخذ من مال غيره شيئًا إلا بحقه، وأنه في يوم من الأيام قطع له أثله وجعلها تيبس في الشمس ليأخذها حطبًا وكان له جار، وكان هذا الجار أيضًا قد قطع أثلته وجعلها تيبس يأخذها حطبًا، هذا الرجل خرج ذات يوم ليحمل الخشب إلى بيته فجاء إلى الخشب وأناخ البعير وشد الخشب فحمله على البعير وشده ثم نهر البعير- زجرها- لتقوم ولكنها أبت أن تقوم فأخذ يضربها ويزجرها وهي لا تقوم فتعجب!

الحمل ليس بكثير والناقة جيدة لكنها أبت أن تقوم! فجلس يفتش وينظر فتبين له أن الحمل الذي عليه هو أثلة جاره فنزله منها ثم أناخها إلى جنب خشبه وشد عليها، فلما انتهى من شده ونهرها مرة واحدة قامت ومشت، هذه من حماية الله للعبد، إن الله يجول بينك وبين مالا يحل لك من حيث لا تشعر، ولكن هذا إذا كنت صادقًا مع الله (عز وجل) في تجنب محارمه؛ أما الإنسان الذي ليس صادق فقد لا ييسر الله له مثل هذه الحال، المهم: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صار منقبضًا حين سلم من ركعتين. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان إذا سلم قبل تمام صلاته ثم ذكر أو ذكر وجب عليه أن يكملها، وإذا كان قائمًا من مكانه رجع إليه؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) رجع إلى مكانه وأتم الصلاة منه، ولكن كيف يتمها؟ يتم ما بقي، وإذا كان مثلُا الآن هو جالس وسلم وقام على أن الصلاة انتهت فتبين الباقي عليه ركعة تقول: ارجع إلى مكانك، إذا رجع إلى مكانه هل نقول: اجلس لتقوم، أو لا حاجة لأن تجلس؟ يقول العلماء: يجلس ليقوم؛ لأن نهوضه الأول قبل أن يذكر هل هو للصلاة أو لينصرف؟ لينصرف فلابد أن يجلس لينهض؛ لن النهوض هنا من الجلوس إلى القيام من أفعال الصلاة. ويستفاد من هذا الحديث: أنه إذا سلم عن نقص ثم ذكر أو ذكر وأتم صلاته فإن سجود السهو يكون بعد السلام؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد السلام وقال: "وصلوا كما رأيتموني أصلي" فيكون السجود بعد السلام. ويستفاد منه: أن سجود السهو كسجود الصلاة ما ينقص عن طول سجود الصلاة خلافًا لما يظنه بعض العوام أن سجود السهو يخفف لقول أبي هريرة: "فسجد مثل سجوده أو أطول" وكلمة "أو أطول" قد يقول قائل: إنه يدل على أن سجود السهو أطول من سجود الصلاة، ولكن نقول: لا؛ لأن مثل هذا التعبير في اللغة العربية يراد به تحقيق ما سبق لا إثبات ما لحق، فنقول مثل سجوده هذا المحرر وقال: "أطول" لتحقيق تلك المثلية، ومنه قوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} (الصافات: 147). قال العلماء المحققون إن معنى {يزيدون} يعني: إن لم يزيدوا لم ينقصوا، فهو لتحقيق العدد. ولكن ماذا يقول في سجود السهو بعد السلام؟ يقول: "سبحان ربي الأعلى" مثل سجوده في الصلاة تمامًا؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "اجعلوها في سجودكم"؛ يعني: "سبحان ربي الأعلى"، وهذا يشمل سجود صلب الصلاة، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، وسجود السهو، فيقول "سبحان ربي الأعلى"، ويقول ما ورد في أذكار السجود، وأما قول بعض العامة: إنه ينبغي أن يقول: "سبحان من كتب النسيان على الإنسان وتنزه عن النسيان" فهذا لا أصل له، ولا أعلمه مشروعًا، وإذا لم يكن مشروعًا فإنه لا ينبغي للإنسان أن يتعبد به، وأن يأتي بذكر من عنده.

ومن فوائده: أن الإنسان إذا سلم قبل تمام صلاته وذك أو ذكر بوقت قريب فإنه يجب عليه أن يتمها، ولا يقول انتهت الصلاة ويتصرف، بل يجب أن يتمها إذا كانت فريضة، وإن كانت نفلًا فإنه لم يتمها بطلت، ولكن النقل لا يجب إتمامه. ويستفاد من هذا الحديث: أنه إذا سلم وذكر أو ذكر وقد قام من مكانه فإنه يرجع إلى مكانه فيتم في مكانه؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) رجع وأتم في مكانه ولأجل ألا تتبعض الصلاة وتتجزأ فيكون بعضها في مكان وبعضها في مكان آخر. ويستفاد من هذا الحديث: أن الكلام في هذه الحالة لا يبطل الصلاة؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تكلم وذو اليدين تكلم، وتكلم من تكلم من الصحابة، وخرج السرعان وهم يقولون: أقصرت الصلاة؟ كلام كثير، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فيما إذا تكلم الإنسان بعد سلامه من صلاته سهوًا هل تبطل الصلاة ويستأنفها، أم يجوز أن يبني عليها؟ على أقوال ثلاثة: ومنهم من قال: إنه إذا تكلم بطلت الصلاة سواء كان لمصلحة الصلاة أم لغير مصلحتها. ومنهم من قال: إن تكلم لمصلحتها لم تبطل وإن تكلم بكلام أجنبي بطلت، ففي هذه المسألة مثلًا صلى رجل الظهر وسلم من ركعتين ثم قال لولده: يا ولدي شغل السيارة قبل أن اذهب، فقال له ولده: ما صليت إلا ركعتين الكلام الذي تكلم هل هو لمصلحة الصلاة أو لا؟ لا، فتبطل الصلاة، ولو كان يسيرًا بخلاف ما لو تكلم لمصلحة الصلاة، كالكلام الذي حصل من الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومن تكلم من الصحابة فإنه لا يضر، ولكن الصحيح أن الكلام لا يضر سواء كان لمصلحة الصلاة، أو لغير مصلحتها ما دام يعتقد أن صلاته قد تمت؛ لن هذا الكلام الذي صدر بعد السلام كان عن جهل ببقاء صلاته، والكلام مع الجهل لا يبطل الصلاة، وعلى هذا لو تكلم الإنسان بعد سلامه من صلاته بكلاك يتصل بالصلاة أو لا يتصل ولكنه إلى الآن ما ذكر أنها لم تتم فإن صلاته لا تبطل، ودليل ذلك عموم قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة: 286). وهناك دليل آخر خاص بالمسألة وهو بان معاوية بن الحكم (رضي الله عنه) تكلم في صلاته جاهلًا ولم يأمره النبي (صلى الله عليه وسلم) بالإعادة، فقد عطس رجل من القوم فقال: "الحمد لله" فقال له معاوية: "يرحمك الله" كلام يخاطبه "يرحمك الله" فرماه الناس بأبصارهم فقال: "واثكل أمياه" كلام آخر، فجعلوا يضربون على أفخاذهم يسكتونه فكست، فلما قضى الصلاة دعاه النبي (صلى الله عليه وسلم)، قال معاوية: بأبي وأمي هو ما رأيت معلمًا أحسن تعليمًا منه، والله ما قهرني ولا نهرني وإنما قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التكبير والتسبيح وقراءة القرآن" أو كما قال (صلى الله عليه وسلم)، ولم يأمره النبي (صلى الله عليه وسلم) بالإعادة، ولو كانت الإعادة واجبة عليه لأمره بها كما أمر

المسيء في صلاته أن يعيد صلاته، وهذا القول هو الراجح، يعني أنك لو تكلمت بعد أن سلمت نسيانًا فإنه لا يضر ما دمت باقيًا على النسيان، ولكن هل إذا طال الفصل يجب عليه أن تستأنفها أو تكلمها ولو طال الفعل؟ نقول: إذا طال الفصل فاستأنف الصلاة من جديد، أما إذا كان الفصل قليلًا فإنك تكمل الصلاة ولو حصل كلام أو مشي أو ما أشيه ذلك. ويستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان إذا تعارض ظنه وظن غيره لم يلزمه الرجوع إلى قول غيره؛ لن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما رجع إلى قول ذي اليدين؛ لن عنده في ظنه أن الصلاة تامة، ولهذا قال "لم أنس ولم تقصر"، فلما رجع إلى الصحابة ترجح جانب ذي اليدين فأخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) به، ولهذا قال الفقهاء: إن الإمام إذا سبح به واحد فقط فإنه لا يرجع إلى قوله، بل إذا سبح به ثقتان رجع إلى قولهما إلا إذا جزم بصواب نفسه فإنه لا يرجع إلى قول أحد أبدًا، لو أن الإمام مثلًا سبحوا به ولكن هو متأكد فهذا لو سبح كل الجماعة لا يرجع إليهم؛ لأنه إذا جزم بصواب نفسه فلا يمكن أن يرجع إلى قول غيره؛ لن رجوعه إلى قول غيره ظن وصواب نفسه الجازم يقين. فإذا قلت: ما شأن الذين خرجوا وقالوا: "أقصرت الصلاة؟ " هل رجعوا وأتموا، أو صرفوا على ما هم عليه؟ نقول: الأحاديث ليس فيها بيان لحال هؤلاء، وإذا لم يكن فيها بيان لحال هؤلاء نرجع إلى القواعد العامة في الشريعة فنقول: أما من بقى منهم لا يدري عن الأمر فإنه معفو عنه، وأما من علم بأن الصلاة لم تتم فإنه يجب عليه إعادة الصلاة إذا طال الفصل، فعليه إعادتها من جديد، وهذا قد يقع؛ أفرض أنك صليت في جماعة وسلمت من ثلاث ركعات في الظهر ولم يقل لك أحد شيئًا، وخرج الناس، ثم علمت بعد ذلك أنك صليت ثلاثًا فقط، إذا كانت المدة الزمنية قريبة فأكملها، وإذا لم تعلم إلا بعد مدة فإنك تستأنف الصلاة من جديد، ولكن افرض أن أناسًا صلوا معم وذهبوا- وقد يكونون من غير البلد- فما شأن هؤلاء فيما بينهم وبين الله؟ نقول: إذا بقوا غير عالمين فإن صلاتهم تبرأ بها الذمة لأنهم ما علموا. ويستفاد من هذا الحديث: أن سجود السهو يكون بعد السلام، إذا سلم الإمام أو المأموم أو المنفرد قبل تمام الصلاة فإنه يكون بعد السلام، كيف يمكن للمأموم أن يسلم قبل أن تتم الصلاة؟ افرض أن المأموم فاته ركعة ولما سلم الإمام سلم ناسيًا، وهذا يقع كثيرًا، فإذا ذكر فعليه أن يقوم ويأتي بالركعة ثم يسجد بعد السلام؛ لن النبي (صلى الله عليه وسلم) سجد بعد السلام فيكبر ويسجد ويرفه بتكبير ويسجد ثانية ثم يسلم، وعلى هذا كم يكون في الصلاة من تسليم؟ ثلاث تسليمات، وهي التسليم الأول الذي سها فيه، والتسليم الثاني للخروج من الصلاة، والتسليم الثالث لسجود السهو.

حكم التشهد لسجدتي السهو

حكم التشهد لسجدتي السهو: 318 - وعن عمران بن حصين (رضي الله تعالى عنه) "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى بهم، فسها فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم". رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه. يستفاد من هذا الحديث: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تشهد بعد سجدتي السهو، وقد أخذ بذلك بعض أهل العلم على أنه إذا كان سجود السهو بعد السلام فإنه يتشهد بعد السجدتين ويسلم، ولكن القول الصحيح الراجح أنه لا تشهد في سجود السهو؛ لأن التشهد إنما يكون في آخر الصلاة وسجود السهو مكمل للصلاة وليس مستقلًا، يعني: أنه ليس صلاة مستقلة بل هو مكمل لها، والصحيح أنه لا يتشهد بسجدتين ويسلم. حكم سجود السهو قبل الكلام: 319 - وعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدركم صلى أثلاثًا أو أربعًا؟ فليطرح الشك وليبين على ما استيقن، ثم سجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى تمامًا كانتا ترغيمًا للشيطان". رواه مسلم. الصورة التي ذكرها الرسول هنا في صلاته رباعية أثلاثًا أم أرباعًا؟ قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) "فليطرح الشك"، يلغه يعني: "وليس على ما استيقن" ثلاث أم أربع، ما هو المتيقن؟ ثلاث؛ لأن الرابع مشكوك فيها والثلاث متيقنة، فعلى هذا يبني على أنها ثلاث، وإذا شك هل صلى اثنتين أو ثلاثًا فاليقين اثنتان، يطرح الشك وهو الزائد ويبنى على اليقين وهو الأقل. "ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم" وبين الرسول (صلى الله عليه وسلم) الحكمة من هاتين السجدتين، فقال "فإن كان صلى خمسًا شفعن صلاته" كيف صلى خمسًا؟ لأنه شك ثلاثًا أو أربعًا؟ قلنا: يجعلها ثلاثة فيه احتمال أن تكون أربعًا إذا أتى بركعة فقد صلى خمسًا إذا كان الواقع أنها أربعة في الأول، قال (صلى الله عليه وسلم): "شفعن صلاته" يعني: جعلنها شفعًا فصار هاتان السجدتان عوضًا عن ركعة كاملة، وإن كان صلى إتمامًا كانت ترغيمًا للشيطان، فلو أنه بني على أنها ثلاث -والواقع أنها ثلاث- يكون أتى بواحدة فقد صلى أربعًا تامًا يقول: "كانتا ترغيمًا للشيطان" يعني: ذلًا واحتقارًا له؛ لأن الشيطان هو الذي يوقع عليك الشك في عبادتك، فإذا أتيت بما يجبر ذلك الشك رغم أنفه، ولهذا قال: "كانتا ترغيمًا للشيطان"، أي: إذلالًا واحتقارًا له، وفي هذا الحديث دليل على أن

السهو مبني على غلبة الظن

الإنسان إذا شك في صلاته في عدد الركعات ولم يترجح عنده شيء فإنه يأخذ بالأقل فيكمل عليه، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم. ويستفاد من هذا الحديث: مراعاة النبي (صلى الله عليه وسلم) لكون الصلاة تقع شفعًا؛ لقوله: "إن صلى خمسًا شفعن صلاته". ويستفاد منه: أنه ينبغي للإنسان أن يراغم الشيطان ويذله ويحقره، لقوله: "كانتا ترغيمًا للشيطان" كيف تراغم الشيطان والأصل أنك كلما هممت بأمر خير فإن الشيطان يثبطك عنه دائمًا، إذن بماذا تكون مراغمته؟ أن تفعل الخير وكلما هممت بأمر سوء لتتركه فإن الشيطان يأمرك بفعله، فمراغمته: أن تترك ذلك الفعل المحرم، وكما أنه ينبغي لنا أن نراغم الشيطان فإنه ينبغي لنا أن نراغم أولياء الشيطان من الكافرين والفاسقين وغيرهم؛ لأن الله هكذا أمر، قال الله -تبارك وتعالى-: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلًا من اله ورضوانًا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} (الفتح: 29). فإن الكفار إذا رأوا المسلمين على الحالة المحمودة غاظهم ذلك، وقال الله تعالى في وصف المجاهدين: {ولا يطئون موطئًا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلًا إلا كتب لهم به عمل صالح}. (التوبة: 120). فإغاظة أعداء الله من الشيطان وأوليائه أمر محبوب إلى الله وفيه أجر لنا. السهو مبني على غلبة الظن: 320 - وعن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: "صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلمَّا سلَّم قيل له: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، قال فثنى رجليه واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل على الناس بوجهه فقال: إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فيتم عليه، قم ليسجد سجدتين". متفق عليه. وفي رواية للبخاري: "فليتم، ثم يسلم، ثم يسجد". ولمسلم: : أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام". وبالنسبة للحديث السابق، الحكمة من كون السجود قبل السلام؛ لأم هذا الشك الذي طرأ يخلخل الصلاة ويؤدي الإنسان منها جزءًا مترددًا فيه، إذا صار يشك في صلاته أصلي ثلاثة أو أربعة وقلنا: أجعلها ثلاثة وجاء بالرابعة، تجده الآن مترددًا هل هذه الرابعة أو خامسة أو رابعة فبقى

هذا الجزء ناقصًا فلهذا صار من الحكمة أن يسجد قبل السلام لئلا ينصرف من صلاته إلا وقد أتمها وجبرها. أما حديث ابن مسعود فيقول: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى بهم الظهر خمسًا، فلما انصرف قيل: "يا رسول الله أزيد في الصلاة؟ "، وإنما استفهموا عن الزيادة؛ لأن الوقت قابل للنسخ فإنه في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} (الرعد: 39). ومن الممكن أن يزيد الله في الصلاة. قال: "وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا" يعني: صليت خمسًا، "فثنى رجليه" يعني: عطفهما واتجه إلى القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، السجود هنا وقع بعد السلام؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يعلم بالزيادة إلا بعد السلام، فصار هنا بعد السلام لعدم العلم يمقتضيه، ثم قال (صلى الله عليه وسلم): "إنه لو حدث شيء في الصلاة لأنبأتكم به" (صلى الله عليه وسلم)، لا يمكن أن يحدث شيء في الشرع إلى ويخير به؛ لأنه يجب عليه البلاغ، وفي هذا دليل على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما كان يصلي بأهل مكة في عام الفتح كان يصلي ركعتين ويقول: "يا أهل مكة أتموا فإنا قوم سفر"، قال بعض الناس: إنه يصلي ركعتين إذا كان مسافرًا صلى بجماعة مقيمين يصلي ركعتين فإذا سلم قال: "أتموا" وهذا غلط، وإنما يقول: "إنا قوم سفر" قبل أن يدخل في الصلاة لأجل أن يبنوا صلاتهم على يقين، فقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "لو حدث شيء في الصلاة لأنبأتكم"، يعني: أنبأتكم قبل أن تفعلوا أم بعد؟ قبل أن تفعلوا، إذن هؤلاء الذين يصلون خلف المسافر يخبرهم أنه مسافر قبل أن يدخل في الصلاة يقول: "إني مسافر فإذا سلمت فأتموا" المهم أن الرسول قال: "لو حدث شيء لأنبأتكم به، وإنما أن بشر مثلكم"، هذا من تواضع الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو بشر كما قال الله عنه {قل إنما أنا بشر مثلكم} (الكهف: 110). "أنسى كما تنسون"؛ لن طبيعة البشر النسيان، "فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته"، فلم يدر كم صلى، ثلاثًا أو أربعًا؟ "فليتحر الصواب، ثم ليبن عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين". يستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان إذا زاد في صلاته بان صلى خمسًا في رباعية أو أربعًا نقول: يجب عليك أن تسجد، يعني: مثلُا زاد رجل ركعة في صلاته بأن صلى ثلاثًا في ثنائية، أو أربعًا في ثلاثية، أو خمسًا في رباعية ولم يدر حتى سلم يجب عليك أن يسجد؛ لأن الرسول سجد وأمر بالسجود، لا يقول: أنا أديت صلاتي بدون شك، نقول لكنك علمت بالزيادة فيجب عليك أن تسجد لها، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإنسان إذا شك في الصلاة ثم

علم أنه ليس فيها زيادة ولا نقص فإنه لا سجود عليه، مثال ذلك: شككت هل صليت ثلاثًا أو أربعًا، وجعلتها ثلاثًا وجئت بأربع، ولما جلست في التشهد الأخير ذكرت أن هذا هو الصواب، وأنك لم تزد في صلاتك ولم تنقص؛ وأنك مصيب فيما فعلت فهل عليك سجود؟ المشهور من مذهب الحنابلة: أنه لا سجود عليك؛ لأن السجود لجبر الشك وقد زال، وقال بعض العلماء: عليك السجود؛ لأن الركعة الأخيرة أديتها وأنت متردد فيها: هل هي تتميم لصلاتك أو هي ركعة زائدة، لكن ظاهر فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث يدل على أنه إذا تبين للإنسان أنه مصيب فيما فعل فإنه لا سجود عليه، كما أنه لو تبين أنه مخطئ فعليه السجود. ويستفاد من هذا الحديث: أنه لو زاد في صلاته وذكر قبل أن يسلم أنه زاد فإنه يجب عليه السجود، لكن يكون بعد السلام. فإن قال قائل: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) إنما سجد بعد السلام؛ لأنه لم يعلم إلا بعد السلام، فإن علم قبل أن يسلم لسجد قبل أن يسلم؟ نقول: لا، بل القاعدة: أن كل سجود سببه الزيادة فمحله بعد السلام. مسألة: رجل صلى الظهر خمسًا وقبل أن يسلم علم يقينًا أنه صلى خمسًا فهل نقول: سلم ثم اسجد، أو أسجد ثم سلم؟ نقول: سلم ثم أسجد؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما صلى خمسًا سجد بعد السلام فإن قلت النبي (صلى الله عليه وسلم) سجد بعد السلام؛ لأنه لم يعلم إلا بعد أن سلم فكيف تقيس عليه ما إذا علم بالزيادة قبل أن يسلم؟ فالجواب أن نقول: لما سجد النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد السلام لهذه الزيادة ولم يقل للأمة: إن زدتم فاسجدوا قبل السلام علم أن محل السجود في الزيادة يكون بعد السلام، وبهذا نقول: متى زاد الإنسان في صلاته ركوعًا بان ركع مرتين، أو سجودًا بان سجد ثلاث مرات مثلًا، أو ركعة كاملة بأن صلى خمسًا في رباعية فإنه يسلم أولًا ثم يسجد للسهو بعد السلام، ويكون الضابط الآن: "كل سجود سببه الزيادة فمحله بعد السلام". ويستفاد من هذا الحديث: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشر كغيره من البشر، كل الخصائص البشرية تنطبق عليه، فيعتريه النسيان والجهل والمرض والجوع والعطش والألم والأرق، فكل شيء يعتري البشر فإنه يعتري الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وبهذا قال: "إنما أنا بشر" وأكد البشرية بقوله: "مثلكم" كما أمره الله أن يقول: إنه بشر: {قل إنما أنا بشر مثلكم} لكن يتميز عنهم بالرسالة ولهذا قال: {يوحي إلي أنما إلاهكم إله واحد} (الكهف: 110). وينبني على هذه الفائدة بطلان دعوى من يدعي لأنه يعلم الغيب، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يعلم الغيب، وقد أمره الله تعالى أن يقول: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن اتبع لا ما يوحي إلي} (الأنعام: 15). وينبني عليه أيضًا:

أنه (صلى الله عليه وسلم) لا يملك لأحد نفعًا ولا ضرًا، وأنه عبد كغيره من العبيد، وقد أمر الله أن يقول ذلك: {قل إني لا أملك لكم ضرًا ولا رشدً} (الجن: 21). بل هو (صلى الله عليه وسلم) لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، كما أمره الله أن يقول ذلك بقوله: {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله} (الأعراف: 188). وذلك في أكثر من آية، ولهذا لو أراده الله تعالى بسوء هل يملك أن يدفع ذلك؟ {قل إني لن يجبرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدًا} (الجن: 22). هذا خاص بالرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأما العموم فقد قال الله تعالى: {وإذا أراد الله بقومٍ سوءًا فلا مرد له} (الرعد: 11) إذن لا يمكن أن يكون له (صلى الله عليه وسلم) شيء من خصائص الربوبية بل هو بشر. ويستفاد من هذا الحديث: جواز النسيان على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقوله: "أنسى كما تنسون"، ولابد أن يبلغه إلا شيئًا نسخ، فإن ما نسخ ربما ينساه النبي (صلى الله عليه وسلم)، أما شيء باق فلا يمكن أن ينساه؛ لأننا جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون شيء من الشريعة منسيًا وهذا ممتنع غاية الامتناع؛ لقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9). ويستفاد من هذا الحديث: أنه يجب على المأمومين أن ينبهوا الإمام إذا أخطأ؛ لقوله: "فإذا نسيت فذكروني" والأصل في الأمر الوجوب، والمأموم صلاته مرتبطة بإمامه، فإذا لم يذكر صار الخلل في صلاة الإمام وفي صلاته أيضًا؛ ولهذا يجب على المأمومين إذا أخطأ الإمام أن ينبهوه، هذا فيما إذا كان الخطأ مفسدًا للصلاة فإنه يجب، أما إذا كان الخطأ لا يفسد الصلاة فإنه لا يجب لكن يستحب، كما لو أنه أخطأ في قراءة الفاتحة فقال: "أهدانا الصراط المستقيم"، فهنا يجب عليهم أن يردوه؟ نعم يجب لأن هذا الخطأ يفسد الصلاة؛ لن "أهدنا" غير معنى "آهدنا"، "آهدنا" من الهداية، و "أهدنا" من الهدية، يعني أعطنا هدية، ولو قال: "الحمد لله رب العالمين" لم يجب لكن الأفضل أن يردوا عليه؛ لن هذا اللحن لا يفسد الصلاة، ولو نسي أن يجهر في قراءة جهرية يسن أن ينبهوه، ولو سجد ونسي الركوع وجب عليهم أن ينبهوه. وعلى هذا فيكون قوله: (صلى الله عليه وسلم): "إذا نسيت فذكروني"، يجمل الوجوب على ما إذا كان هذا المنسي مفسدًا للصلاة، وإلا فإنه يستحب، وهل يجب على غير المأمومين أن ينبهوه إذا أخطأ، مثل: لو فرضنا أن واحدًا كان يقرأ ويجنبه إنسان يصلي ورآه سجد مرة واحدة وقام هل يجب عليه أن ينبهه؟ الأفضل أن ينبهه، وإن كان بعض أهل العلم قال: لا يجب ذلك إلا على المأمومين؛ ن الإنسان غير ملتزم بأصل عبادة غيره والذي يترجح أنه يجب على المأمومين وغيرهم، فإذا رأى أحدهم أحدًا أخطأ خطأ يفسد العبادة وجب عليه أن ينبهه؛ لأن هذا داخل في عموم قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} (المائدة: 2)؛ ولأن هذا يشبه من أراد أن يستعمل

ماء نجسًا وأنت تعلم نجاسته فإنه يجب عليك أن تنبهه؛ لأنه لو استعمل الماء النجس تلوث به ولم يرتفع حدثه؛ ولهذا قال فقهاؤنا- رحمهم الله-: ويلزم من علم نجاسة ماء أن ينبه من أراد أن يستعمله ويعلمه بذلك. ويستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان إذا شك في صلاته وترجح عنده أحد الأمرين فإنه يبني على ما ترجح عنده لا يبني على اليقين وإنما على ما ترجح؛ ولهذا قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "فليتحر الصواب" ثم ليبن عليه: وعلى هذا فنقول: إذا شككت هل هذه ثلاثًا أو أربع، وكان في ذهنك أن الأربع هما الأقرب ماذا يكون؟ تجعلها أربعًا وتجلس وتسلم وتسجد للسهو بعد السلام، ويتفرع على ذلك قاعدة مهمة وهي: أن العبادات مبنية على الظن لا على اليقين، يعني: أن غلبة الظن في العبادات كافية ولا يشترط اليقين، وهذا في مسائل كثيرة، منها: لو أن الإنسان غلب على ظنه الإنقاء وهو يستنجي أيكفي ذلك أم يقول: لابد أن أتيقن؟ إذا غلب على ظنه أنه أنقى كفى، وكذلك إذا شك في الطواف هل طاف سبعة أشواط أو ستة أشواط؟ وترجح عنده: أنها سبعة فإنه يعمل بالراجح مع أنه ليس يقينًا بل ترجيح، وعلى هذا فقس، فإن هذا الدين يسر؛ لأنه في بعض الأحيان قد يكون اليقين معتذرًا ومتعسرًا، ولهذا كان من رحمة الله بالعباد أن جعل غلبة الظن قائمًا مقام اليقين في باب العبادات، وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) وطرده، أما الفقهاء فهم في بعض الأحيان يأخذون بهذا، وفي بعض الأحيان لا يأخذون به، ففي هذا الباب الذي نحن فيه- باب سجود السهو- يقولون: إنه لا يبني على غلبة الظن، بل يجب البناء على اليقين مطلقًا، وفي باب الاستنجاء وإزالة النجاسة قالوا: يكفي غلبة الظن مع أن الأصل بقاء النجاسة، ومع ذلك قالوا: إنه يكفي غلبة الظن، المهم أننا لا نحب أن نأتي بأشياء تضيع المقصود. مسالة إذا شك الإنسان في صلاته وترجح عنده شيء إما الزيادة وإما النقص ماذا يعمل؟ يعمل بالراجح لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "فليتحر الصواب"، ثم ليبن عليه، "ثم ليتم صلاته" بناء على ما ترجح ثم يسلم ثم يسجد للسهو مرتين ثم يسلم، ويتبين بهذا أن الشك إن كان فيه غلبة ظن أخذ بغلبة الظن وصار السجود بعد السلام، وإن لم يكن فيه غلبة ظن أخذ باليقين وهو الأقل، وصار السجود قبل السلام، والفرق بينهما: أنه إذا كان عنده غلبة ظن فإن غلبة الظن أقوى من الوهم، وما دام الشرع اعتبره صار الوهم أمرًا زائدًا، وإذا كان أمرًا زائدًا فإن القاعدة أن سجود السهو إذا كان عن زيادة فإنه يكون بعد السلام.

سقوط سجود السهو

321 - ولأحمد، وأبي داود، والنسائي؛ من حديث عبد الله بن جعفرٍ مرفوعًا: "من شك في صلاته؛ فليسجد سجدتين بعدما يسلم". وصححه ابن جزيمة. سقوط سجود السهو: 322 - وعن المغيرة بن شعبة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "إذا شك أحدكم، فقام في الركعتين، فاستتم قائمًا، فليمض ولا يعود، وليسجد سجدتين، فإن لم يستتم قائمًا فليجلس ولا سهو عليه". رواه أبو داود وابن ماجه، والدارقطني، واللفظ له بسندٍ ضعيف. هذا الحديث- حديث المغيرة بن شعبة- فيمن قام عن التشهد الأول، فبين النبي (صلى الله عليه وسلم) أن هذا له حالان: الأولى: أن يستتم قائمًا فليمض ولا يرجع، يعني: قام عن التشهد الأول الذي في وسط الصلاة حتى استتم قائمًا، فإنه لا يرجع يستمر في صلاته، ويسجد سجدتين قبل أن يسلم لأن هذا عن نقص فيكون السجود قبل السلام، وظاهر الحديث: أنه لا يرجع سواء شرع في قراءة الفاتحة أم لم يشرع وهذا هو الصحيح، وأما من قال: إن يشرع في القراءة كره له الرجوع، وإن شرع حرم الرجوع فلا وجه لقوله، فالصواب: أنه إذا استتم قائمًا فغنه لا يرجع؛ لأنه انتهى إلى الركن، والتشهد الأول واجب وليس بركن. ثم الحالة الثانية: في هذا الحديث إذا ذكر قبل أن يستتم قائمًا فإنه يرجع ويتشهد ويكمل الصلاة، لكن ذكر هنا قال: "ولا سهو عليه" يعني: لا يجب عليه سجود السهو؛ وذلك لأنه لم يصل إلى القيام، فكأن هذا الانتقال لا يعتبر زيادة؛ لأنه ما زاد ركوعًا ولا سجودًا ولا قيامًا وإنما شرع في الانتقال، والانتقال ليس ركنًا مقصودًا لذاته، فكأنه لم يزد في صلاته، هذا ما يدل عليه الحديث. والحديث- كما قال ابن حجر (رحمه الله) سنده ضعيف، ولكن الطحاوي في "شرح معاني الآثار" قال: إنه صحيح، فإن الحديث ضعيفًا فإنه يتوجه ما قال الفقهاء- رحمهم الله- حيث قالوا: إذا قام عن التشهد الأول ونهض ولم يستتم قائمًا؛ فإنه يجب أن يرجع ويتشهد ويسجد للسهو. قالوا: لأنه أتى بزيادة وهي النهوض من الجلوس، والزيادة توجب سجود السهو، كل زيادة إذا تعمدها الإنسان بطلت صلاته فإنه يجب لها سجود السهو، وعلى هذا فإنه يجب عليه أن يسجد للسهو، وأما إذا نهض ولكنه لم يفارق الجلوس- يعني: تهيأ للنهوض ولكنه ما فارقت

حكم سهو الإمام والمأموم

أليتاه عقبية- فإنه في هذا الحال يجلس، يعني: يستقر في جلوسه، ثم لا يجب عليه سجود السهو؛ لأنه لم يزد في صلاته ما زال على حد الجلوس فلا يكون عليه سجود سهو؛ فالفقهاء يقولون من قام عن التشهد الأول فله ثلاث حالات: - إما ألا ينهض، يعني: يعزم ويتهيأ ولكن ما ينهض، فهذا يأتي بالتشهد ولا شيء عليه؛ لأنه ما زاد في صلاته ولا نقص. - وإما أن ينهض ولا يستتم، فهذا يجب عليه الرجوع وسجود السهو. - وإما أن يستتم فهم يقولون أيضًا: إن شرع في القراءة حرم الرجوع، وإن لم يشرع كره الرجوع، ومع ذلك فعليه السجود هنا لأنه ترك التشهد. أما الحديث فإنه يقتضي أن يكون لتارك التشهد الأول حالان فقط: إما أن يذكر بعد أن يستتم قائمًا فلا يرجع وعليه سجود السهو، أو يذكر قبل أن يستتم قائمًا فيرجع وليس عليه سجود السهو، فإن صح الحديث- كما قال الطحاوي- فهو حجة، ولا قول لأحد بعد قول الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وإن لم يصح فإن ما ذكر الفقهاء- رحمهم الله- هو الصواب؛ لكن نرى أنه إذا استتم قائمًا لا يرجع مطلقًا، يعني أن الرجوع حرام عليه. حكم سهو الإمام والمأموم: 323 - وعن عمر (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه". رواه الترمذي والبيهقي بسندٍ ضعيفٍ. هذا الحديث- كما قال المؤلف-: سنده ضعيف، لكن إذا رجعنا إلى الأصول وجدنا أن أصول الشريعة تشهد له، فالمأموم إذا سها ولم يجب عليه إلا سجود السهو فإن الإمام يتحمله عنه، بشرط ألا يفوته شيء من الصلاة؛ وذلك لأن الإنسان المأموم مأمور بمتابعة الإمام، حتى إن الإمام إذا قام عند التشهد الأول- وهو من واجبات الصلاة- سقط عن المأموم، وجب عليه متابعة إمامه؛ كذلك إذا سها المأموم ولم يجب عليه في سهوه هذا إلا سجود السهو ولم يفته شيء من الصلاة فإنه يسقط عنه السجود، فصار سجود السهو يسقط عن المأموم بشرطين: الأول: ألا يوجب سهوه سوى السجود، والثاني: ألا يكون قد فاته شيء من الصلاة، وفي هذه الحال يتحمل الإمام عنه سجود السهو؛ لأنه لو سجد معناه: أنه خرج عن متابعة الإمام، أما إذا كان سهو المأموم يوجب أكثر من سجود السهو كما لو سها المأموم عن قراءة الفاتحة مثلًا

على القول بأنها ركن في حق المأمومين وهو الصحيح- فإنه في هذه الحال لا يحتمل عنه الإمام سجود السهو؛ لأنه لابد أن يقضي هذه الركعة التي فاتته، وحينئذ يكون سجوده وحده ليس مع الإمام، كذلك إذا كان المأموم قد فاته شتى من الصلاة وسها سواء مع الإمام أو بعدما انفرد فإنه يجب عليه سجود السهو. أما المسألة الثانية: فهي: إذا سها الإمام فهل يجب على المأموم سجود السهو؟ نقل: نعم، يجب عليك أن تسجد مع إمامك حتى لو ما سهيت أنت، فلو فرض أن الإمام نسى أن يقو: "سبحان ربي العظيم" في الركوع، فهنا نسى ذكرا ما نوعه؟ ذكر واجب، فيجب عليه سجود السهو، أنت أيها المأموم لم تنس شيئًا لكن إمامك نسى واجبًا من واجبات الصلاة يجب عليه بذلك سجود السهو. فهل إذا سجد الإمام يجب عليك أن تتابعه؟ نعم؛ لن متابعة الإمام واجبة حتى وإن كنت في محل لا يجب عليك السجود يجب أن تتابعه؛ بدليل أن الإنسان إذا كان قد فاته ركعة من الظهر بأن يكون مثلًا دخل مع الإمام في الركعة الثانية، وجلس الإمام للتشهد الأول يجب عليك- أيها المأموم- أن تجلس معه، وهل هو محل جلوس لك؟ لا، ولكن من أحل متابعة الإمام، كما أنه إذا قام إلى الرابعة فهي في حقك ثالثة، وهو لا يجلس، لكن تجلس أنت للتشهد الأول، أو تتابع الإمام؟ تتابع الإمام، فمتابعة الإمام أمر مهم، وعلى هذا فإذا سها الإمام وجب على المأموم أن يسجد وإن لم يسه هو. وها هنا مسألة وهي: لو سها الإمام وكان محل سجوده بعد السلام وأنت قد فاتك شيء من الصلاة فهل يسلم ثم يسجد بعد السلام، هذه المسألة اختلف فيها العلماء، فقال بعضهم: تنتظر وتسجد معه ثم تقوم لقضاء ما فاتك. وقال بعضهم: لا تنتظر؛ لأنه لما سلم انتهت صلاته. فمتابعته الآن معتذرة؛ لأنك إن تابعته لابد أن تسلم وصلاتك ما تمت فالمتابعة إذن متعذرة، وحينئذ تقوم أنت وتقضي ما فاتك، وهل يجب عليك سجود السهو عند تمام صلاتك؟ فيها خلاف، وأرجح الأقوال عندي: أنه إن كنت قد أدركت سهوا الإمام فإنك تسجد للسهو؛ لأن السهو لحقك إن كنت لم تدركه فإنك لا تسجد، وإن سجدت فلا حرج، لكن لا يجب إلا إذا كنت قد أدركت سهوه. 324 - وعن ثوبان (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "لكل سهوٍ سجدتان بعدما يسلم". رواه أبو داود، وابن ماجه بسندٍ ضعيفٍ.

325 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: "سجدنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في: {إذا السماء انشقت} (الانشقاق: 1) و: {اقرأ باسم ربك} (العلق: 1). رواه مسلم. كان المؤلف (رحمه الله) أنهى الأحاديث التي أتى بها لبيان سجود السهو، وقد سبق لنا عدة أنواع مما وقع للرسول (صلى الله عليه وسلم)، منها: أنه قام من الركعتين ولم يسجد، يعني: لم يتشهد التشهد الأول، هذا واحد. والثاني: أنه صلى خمسًا، ومنها: أنه سلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشي: إما الظهر وإما العصر، وسبق لنا أن فيما وقع من النبي (صلى الله عليه وسلم) من السهو دليلًا على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) تلحقه أحكام البشر، وسبق لنا: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يعلم الغيب أيضًا، وبهذا نعلم خطأ ما يفعله بعض الناس إذا انتهوا من بعض الأعمال حيث تراهم يكتبون: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} (التوبة: 105). إن هذا خطأ كبير؛ لأنه وإن كان الله يراه لكن الرسول لا يراه، ثم ن هذه الآية نزلت في تهديد المنافقين. فكيف تجعل مكتوبة على أعمال خيرية؟ لكن ظني أن أول من وضعها رجل جاهل لا يعرف القرآن، وأخذها الناس عنه تقليدًا، وهذا مما يجعلنا نتأمل غاية التأمل فيما يقال بين الناس من هذه الكلمات وغيرها؛ لأنها ربما تحمل معاني لا تصح ونحن أخذناها مسلمة. فالحاصل: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يعلم الغيب، ولا يرى شيئًا بعد وفاته حتى لو قلنا: بأنها تعرض عليه أعمال أمته إن صح ذلك فإنه لا يراها لكنه يعلمها، وفرق بين العلم وبين الرؤية، ثم إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نفسه لا يعلم إلا ما علمه الله -سبحانه وتعالى-، ولهذا قال الله تعالى {وعلمك ما لم تعلم} (النساء: 113). وهو من دعائه (صلى الله عليه وسلم)، بل إن الله أمره أن يقول: } وقل زدني علمًا} (طه: 114). وكان من دعائه: "اللهم علمني ما ينفعني وانفعني بما علمتني وزني علمًا" فمن زعم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يعلم الغيب فهو مكذب لله ولرسوله والإجماع المسلمين، ثم إن المؤلف أتى بالحديث بعد أن ذكر الكلام على السهو. فإن قال قائل مثلًا: هل نسيان الرسول (صلى الله عليه وسلم) هل يوجب نقصًا، وهل كونه لا يعلم إلا ما علمه الله هل يوجب ذلك نقصًا؟ الجواب: لا، هو أكمل البشر في علمه بالله (عز وجل) فإنه أعلم البشر بالله وبأحكامه، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) بشر كغيره خرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا، ثم علمه الله -سبحانه وتعالى- ما من به عليه من

سجود التلاوة

الكتاب والحكمة فصار يزكي الناس ويعلمهم، وكذلك بالنسبة للنسيان ما ينقصه؛ لأن هذا النسيان طبيعة بشرية لا توجب النقص، كما أنه إذا جاع أو عطش أو أصابه البرد أو الحر لا ينقصه ذلك كله. كان (صلى الله عليه وسلم) يصب على رأسه الماء من العطش وهو صائم، ما يقال هذا فيه نقص فهو (صلى الله عليه وسلم) أكمل الناس في الأحوال البشرية، لكنه ليس خاليًا منها، لابد أن تصيبه الأحوال البشرية كغيره، لكن الله تعالى أعطاه كمالًا في الصبر وحسن الخلق ومكارم الأخلاق (صلى الله عليه وسلم). سجود التلاوة: أما الموضوع الثاني في الباب فهو: "سجود التلاوة"، سجود التلاوة ظاهر اللفظ: أنه سجود سببه التلاوة، أي آية تلوتها فإنك تسجد، ولكن ليس كذلك، فهو عام مخصوص. سجود التلاوة تعني: في مواضعها، فهو سجود سببه التلاوة، لكن في مواضع التلاوة. حكم سجود التلاوة: سجود التلاوة سنة مؤكده لا ينبغي للإنسان أن يدعه، حتى قال بعض العلماء: إنه واجب، وأن من ترك السجود فهو آثم، لكن الصواب أنه ليس بواجب؛ لأن أمير المؤمنين عمر (رضي الله عنه) قرأ على المنبر يوم الجمعة سورة النحل فلما بلغ السجدة نزل فسجد، ثم قرأها في الجمعة الأخرى، ولم يسجد ثم قال: "إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء" قاله بمحضر من الصحابة، فدل ذلك على أن الصواب عدم وجوب سجود التلاوة. فإن قال قائل: ما تقول في قوله تعالى: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} (الانشقاق: 21). أليس هذا من خصائص الكفار؟ فالجواب: أن المراد بالسجود هنا: سجود الذل والخضوع؛ لأن الله ما قال: وإذا قرئ عليهم آية سجدة، إنما قال: {وإذا قرئ عليهم القرآن}، ومعلوم بالنص أنه ليس كل ما قرئ من القرآن يجب له السجود، فتعين أن المراد بالسجود هنا: سجود الذل والطاعة، يعني: أنهم لا يخضعون ولا يدلون، بل يستكبرون- والعياذ بالله-. أحكام سجود التلاوة: سجود التلاوة له أحكام أولًا: هل يسجد الإنسان في الصلاة أو لا يسجد؟ الجواب: يسجد، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قرأ في صلاة العشاء {إذا السماء انشقت} (الانشقاق: 1) فسجد فيها، فيسجد الإنسان ولو في صلب الصلاة، وإذا سجد في صلب الصلاة فإنه يكبر

إذا سجد ويكبر إذا قام، هذا هو ظاهر ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من أنه يكبر في كل خفض ورفع، يعني: كلما خفض وكلما رفع، والذين رووا ذلك عنه كابن معود، وأبي هريرة منهم من روى عنه سجود التلاوة ولم يستثنوا سجود التلاوة، فدل ذلك على أن سجود التلاوة إذا كان في الصلاة يكبر لها إذا سجد وإذا رفع، وأما ما يفعله بعض الناس من أنه يكبر إذا سجد ولا يكبر إذا رفع فإن هذا وهم منه، وليس الفعل مبنيًا على أصل صحيح، وغاية ما عنده أنه رأى كلام ابن القيم (رحمه الله) في "زاد المعاد" وهو: أنه يكبر لسجود التلاوة عند السجود ولا يكبر إذا قام، فظن أن كلام ابن القيم عام، وليس كذلك وإنما ابن القيم تكلم عن السجدة المجدة فقطـ، والسجود المجرد يأتينا حكمه- إن شاء الله- بعد قليل. الحاصل: أن السجدة إذا كانت في الصلاة فإنه يكبر لها إذا سجد وإذا قام. ثانيًا: ثم هل يقرأ السجدة في صلاة الجهر وفي صلاة السر؟ ذهب بعض أعل العلم أنه يقرأ آية السجدة في صلاة الجهر وفي صلاة السر، أما في صلاة الجهر فالأمر ثابت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وليس فيه تلبيس على المأمومين؛ لأنهم يسمعون ويعلمون أنه سجد فيسجدون، وأما في صلاة السر فقال بعض أهل العلم: إنه لا يقرأ في صلاة السر آية سجدة؛ لأنه لا يخلو من واحد من أمرين: إما أن يسجد فيشوش على المأمومين، وإما ألا يسجد فيكون قد ترك سجود التلاوة هذا هو المشهور من مذهبنا -مذهب الإمام أحمد- على أنه يكره للإمام أن يقرأ آية سجدة في صلاة السر وأن يسجد فيها، وقال بعض أهل العلم: إنه لا كراهة في ذلك، واستدلوا بحديث في سنن أبي داود- لكن فيه مقال- أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قرأ في صلاة بـ {الم تنزيل} السجدة وسجد فيها، ولكن الصحيح أنه لا يكره أن يقرأ آية سجدة وأنه لا حرج عليه إذا قرأ ولم يسجد؛ لأن السجود على القول الراجح ليس بواجب، إنما هو سنة: إن سجدت فلك أجر وإن لم تسجد فلا حرج، أما إذا كانت السجدة مجردة؛ أي: ما فيها صلاة فماذا يصنع؟ نقول: يكبر إذا سجد، على أن الحديث الوارد في ذلك فيه مقال؛ ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية لا يكبر إذا سجد، إنما يسجد بدون تكبير. ثالثًا: إذا سجد يسجد على الأعضاء السبعة، لعموم قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم". رابعًا: إذا سجد يقول: "سبحان ربي الأعلى" لعموم قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "اجعلوا في

بعض مواضع سجود التلاوة في القرآن

سجودكم"، يكررها كما يفعل في الصلاة وإن دعا بما ورد به الحديث: "اللهم لك سجدت، وبك آمنت، وعليك توكلت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، اللهم اكتب لي بها أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك زخرًا"، وهل يسلم لسجود السهو؟ الجواب: لا، لا يقوم بتسليم ولا يكبر؛ لن ذلك لم يرد عن النبي (صلى الله عليه وسلم). خامسًا: هل يسجد في كل وقت مر بالسجدة أو لا يسجد في أوقات النهي؟ الصواب: أنه يسجد كلما مر بآية السجدة، سواء الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو في آخر الليل، أو في أثناء النهار. يسجد كلما مر بالسجدة على سبيل الاستحباب كما تقدم، وآيات السجدات معروفة، وعددها أربع عشرة سجدة في القرآن كله، منها في الحج اثنتان. سادسًا: إذا مر بآية السجدة وتجاوزها ونسى أن يسجد، فإن ذكر مع قرب الفصل سجد، وإن تجاوزها طال الفصل فإنه لا يسجد؛ لأن القاعدة عند أهل العلم أن السنة إذا فات محلها فإنها تسقط؛ لأنها علقت بسبب فزال. بعض مواضع سجود التلاوة في القرآن: 326: وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: " {ص}. ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسجد فيها". رواه البخاري. يعني: ليست من السجدات المؤكدة، وإن كان ظاهر كلامه (رضي الله عنه): أن سجود التلاوة واجب؛ لأن العزيمة هي: ما كان واجبًا فعله أو واجبًا تركه، ولكن تقدم لنا أن الصحيح: أن سجود التلاوة ليس بواجب، وإنما هو سنة مؤكدة، ويكون معنى قوله: "ليست من عزائم السجود" أي: ليست من السنن المؤكدة، ثم قال: "ولكن رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) يسجد فيها" فدل هذا على أنها مما يسجد له من أجل التلاوة. وقد اختلف أهل العلم- رحمهم الله-: هل السجود في "ص" للتلاوة أو للشكر؟ فذهب بعضهم إلى أنها للشكر، وذهب آخرون إلى أنها للتلاوة، والصواب: أنها للتلاوة، وبناء على هذا فإذا مرت به وهو يصلي فإنه يسجد، وبناء على الأول- إذا قلنا إنها سجدة شكر- فإنه إذا مرت به وهو يصلي لا يسجد، ولكن الصواب: أنها سجدة تلاوة، ولهذا لا تشرع إلا إذا تلونا هذه الآيةـ ولو أن الإنسان تذكر قصة داود أو قصها على أحد فإنه لا يشرع له أن يسجد إلا إذا تلاها كما جاءت في القرآن. وأعلم أن قصة داود (عليه السلام) ورد فيها من الإسرائيليات ما ينزه عنه مثل داود؛ لأنه ورد أنه (صلى الله عليه وسلم) كان عنده تسع وتسعون امرأة، وأن أحد جنوده كان عنده امرأة جميلة فأرادها

داود ولكنه رأى أنه لا يمكن أن يأخذها من هذا الجندي قهرًا، فنفذه إلى جيش لقتال العدو لعله يقتل فيأخذها داود! هذه القصة لا ترد أو لا تحصل من أي عاقل، فضلًا عن مؤمن، فضلًا عن أحد الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ولكنها من دسائس اليهود، افتروها فتلقاها الناس عن حسن ظن أو عن حسن نية، فصاروا يكتبونها عند تفسير هذه الآية الكريمة، والصواب بلا شك: أنه ليس هذا سببها، وأنه لا يجوز أن نعتقد مثل هذا في أحد الأنبياء والرسل الكرام، وأن سبب القصة: أن داود (صلى الله عليه وسلم) - كما في القرآن- دخل محرابه- يعني: محل عبادته- وأغلق بابه من أجل أن ينفرد بالتعبد لله- سبحانه وتعالى- وكان رسولًا حكمًا بين الناس، لابد أن يتفرغ للحكم بينهم، فجاء هذان الخصمان ووجدا الباب مغلقًا، وكانا في حاجة شديدة إلى أن يقضي بينهما، فتسورا المحراب، يعني: أنهما صعدا من السور على داود وهو في محرابه يتعبد لله، فلما تسورا المحراب فإن الطبيعة البشرية تقتضي أنه إذا تسور عليك في مكانك الخاص أحد من الناس، لابد أن تخاف ولهذا قال: {إذ تسوروا المحراب، إذ دخلوا على داود ففزع منهم} (ص: 21، 22). وكأنهم جماعة لكنهم متخاصمون قالوا: {لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فأحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط} (ص: 22). فسكن روعه وطلبا منه أن يحكم بالحق بدون شطط، ثم أدلى أحدهما بحجته فقال: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة- يعني شاة- ولي نعجة واحدة، فأحرجه وضايقه، فقال: {أكفلنيها وعزني في الخطاب} (ص 23). يعني: غلبني بخطابه؛ لأنه كان فصيحًا بليغًا فأخرجه. ماذا قال داود؟ قال: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقيل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب} (ص: 24). {فتناه} يعني: اختبرناه، حيث هيأ الله تعالى الخصمين ليتسوروا المحراب عليه، كيف ذلك؟ إذا نظرنا في هذه القصة وجدنا أن داود- (عليه السلام) - قال: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} فأثبت أنه ظالم دون أن يوجه القول إليه. والمعروف في المحاكمة أنه إذا أدلى الخصم بحجته يوجه القول إلى الخصم الثاني، ويقال: هل هذا الأمر واقع أو لم يقع؟ إن أقر حكم عليه، وإن لم يقر بنظر في الأمر. أما أن يحكم على أنه ظالم بمجرد دعوى الخصم فهذا فيه شيء من الفتنة. كذلك كونه (صلى الله عليه وسلم) يدخل مكان تعبده ويغلق الباب دون حاجة الناس هذا الأمر الذي ينبغي عليه أن يفعل خلافه؛ لأن الحكم بين الناس الذي يحتاج الناس إليه لا ينبغي أن يغلق بابه فكان داود (عليه السلام) فهم أن الله ابتلاه بهذين الخصمين فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب. وليس في القصة أنه عشق امرأة هذا الجندي، ولا أنه أرسله إلى الحرب ليقتل، ولا يمكن أن يكون هذا واقعًا من نبي الله (صلى الله عليه وسلم)، استغفر ربه فخر راكعًا وأناب، فغفر الله له ذلك فصارت

حكم سجود القارئ والمستمع والسامع

السجدة منه توبة إلى الله، وصارت منا من أجل التلاوة، لما مررنا بهذه الخطبة سجدنا اقتداء بداود (صلى الله عليه وسلم)؛ لأن الله يقول: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الأنعام: 90). حكم سجود القارئ والمستمع والسامع: 327 - وعنه (رضي الله عنه): "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سجد بالنجم". رواه البخاري. 328 - وعن زيد بن ثابت (رضي الله عنه قال: "قرأت على النبي (صلى الله عليه وسلم) النجم، فلم يسجد فيها}. متفق عليه. هذان الحديثان تضمنا مسألتين: الأولى: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قرأ بسورة النجم فسجد فيا. سورة النجم آخرها قوله تعالى {فاسجدوا لله واعبدوا} (النجم: 62). فإذا بلغها الإنسان فليسجد؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) سجد فيها وسورة النجم من المفصل، أما حديث زيد بن ثابت أنه قرأ على النبي (صلى الله عليه وسلم) فلم يسجد فيها، فهذا دليل على أنه لا يسجد في هذه الآية من سورة النجم، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن السجدات التي في المفصل قد نسخت مشروعية السجود فيها، واحتجوا بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قرأ عليه زيد بن ثابت سورة النجم فلم يسجد، ومعلوم أن سجوده (صلى الله عليه وسلم) في سورة النجم كان في مكة قبل الهجرة، وقراءة زيد بن ثابت كانت بعد الهجرة في المدينة فيؤخذ بالآخر فالآخر، ولكن الاستدلال بهذا الحديث فيه نظر ظاهر؛ لأن القارئ زيد بن ثابت وليس رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولكن زيدًا لم يسجد وإذا لم يسجد القارئ فإن المستمع لا يسجد، ولهذا لما لم يسجد القارئ- وهو زيد بن ثابت- لم يسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) وحينئذ لا يمكن أن نقول: بالنسخ ويدل على بطلان القول بالنسخ أن أبا هريرة- وهو قد أسلم في السنة السابعة من الهجرة- روى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قرأ في صلاة العشاء بسورة (الانشقاق) وسجد فيها، وقال (رضي الله عنه): "لا أزال أسجد فيها حتى أموت"، أو كلمة نحوها. فالصواب: أن السجدات اللاتي في المفصل مشروعة سجودها باقية، وأنه لا دلالة في حديث زيد بن ثابت على أنها منسوخة؛ بل في حديث زيد بن ثابت دلالة على أنه إذا لم يسجد القارئ لا يسجد المستمع وها هنا ثلاثة: قارئ، ومستمع، وسامع. قال أهل العلم: فيسن السجود للقارئ والمستمع دون السامع. القارئ واضح، والمستمع هو: الذي ينصت ويتابع القارئ، والسامع هو: الذي سمع إنسانًا يقرأ سجدة وهو لم ينصت لقراءته ولم يستمع إليها، فهذا لا يسجد ولو سجد القارئ فالقارئ أصل والمستمع فرع والسامع ليس أصلًا ولا فرعًا، فإذا سجد

التكبير لسجود التلاوة

القارئ سجد المستمع، وإذا لم سجد القارئ لم يسجد المستمع، وإذا سجد القارئ لم يسجد السامع الذي سمعه. 329 - وعن خالد بن معدان (رضي الله عنه) قال: "فصلت سورة الحج بسجدتين". رواه أبو داود في المراسيل. 330 - ورواه أحمد، والترمذي موصولًا من حديث عقبة بن عامرٍ، وزاد: "فمن لم يسجدهما، فلا يقرها". وسنده ضعيف. 331 - وعن عمر (رضي الله عنه) قال: "يا أيها الناس، إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه" رواه البخاري، وفيه: "إن الله تعالى لم يفرض السجود إلا أن نشاء". وهو في الموطأ. قول عمر: "إن الله تعالى لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء" هذا قد يشكل هل المفروض بمشيئتنا؟ يقال: لا، ولكن هذا يسمى عند أهل العلم بالاستثناء المنقطع، يعني: لكن إن شئنا سجدنا، ويكون كلامه قد تم عند قوله: "إن الله لم يفرض علينا السجود"، ويكون: "إلا أن نشاء" بمعنى: لكن إن شئنا سجدنا وإن شئنا لم نسجد، وفيه دليل على أن الشيء إذا وكل إلى مشيئة العبد فإنه ليس بواجب، وإذا لم يوكل إلى مشيئته فهو واجب، فيكون ذلك مؤيدًا لما سبق من القول بوجوب الوضوء من لحم الإبل؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما سئل أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، وسئل عن لحوم الغنم، قال: إن شئت، فلما علق الوضوء بالمشيئة في لحوم الغنم دل ذلك على أن الوضوء منها ليس بواجب، وأن الوضوء من لحم الإبل واجب. التكبير لسجود التلاوة: 332 - وعن ابن عمر (رضي الله عنه) قال: "كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر، وسجد، وسجدنا معه". رواه أبو داود بسند فيه لين. هذا الحديث يدل على مسألتين مهمتين الأولى: أن سجود التلاوة يكبر له عند الانحطاط؛ لقوله: "كبر وسجد" والثانية: أنه إذا سجد القارئ فإن المستمعين يسجدون معه؛ لقوله: "وسجدنا

معه" وهذا الحديث يقول المؤلف: إن في سنده لينا، واللين معناه: أنه ليس بالقوي؛ لأن اللين ضد القوي، فيكون في هذا الحديث ضعف، ولهذا كان بعض أهل العلم يقولون: إن سجدة التلاوة ليس لها تكبير، وبعضهم يقول: لها تكبيرتان: تكبير عند الانحطاط، وتكبير عند النهوض، كما أنهم قد اختلفوا في إثبات التسليم لسجود التلاوة أيضًا، فللعلماء- في ذلك-؛ أي: في أن سجدة التلاوة يكبر لها ويسلم لهم على ثلاثة أقوال: الأول: أنه إذا سجد يكبر للسجود وعند الرفع يسلم، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ولكنه ضعيف؛ لأنه لا دليل عليه، والعبادات توقيفية لا تثبت إلا بدليل. والقول الثاني: أنه لا يكبر للسجود ولا يكبر للرفع من السجود ولا يسلم لها؛ لأن ذلك لم يصح عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأهل هذا القول ضعفوا هذا الحديث الذي رواه أبو داود، وقالوا: إن الضعيف لا تقوم به حجة. والقول الثالث: هو وسط أنه يكبر إذا سجد، ولا يكبر إذا قام ولا يسلم، قالوا: لأن هذا التكبير ورد فيه هذا الحديث، وأما التكبير إذا قام والتسليم فلم يرد فيه حديث أصلًا، ولكنه على الخلاف في غير ما إذا كان السجود في صلب الصلاة، أما إذا كان السجود في صلب الصلاة فلابد من التكبير عند السجود، وعند الرفع منه؛ لأنه إذا كان السجود في الصلاة فله حكم سجود الصلاة؛ ولهذا جميع الواصفين لصلاة النبي (صلى الله عليه وسلم) - ومنهم أبو هريرة (رضي الله عنه) الذي روى عنه أنه سجد في سورة الانشقاق في صلاة العشاء- كل الذين يذكرون التكبير يقولون: إنه كان يكبر كلما خفض وكلما رفع، ولا يستثنوا من ذلك شيئًا، فإذا جاءت العبارة عامة كلما خفض وكلما رفع قد علم منها أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يسجد سجود التلاوة في صلاة الفريضة، فإن هذا العموم يتناول سجود التلاوة، وعلى هذا فنقول: إذا كنت في صلاة وسجدت للتلاوة فكبر إذا سجدت وإذا رفعت، وإذا كنت خارج الصلاة فكبر إذا سجدت، ولا تكبر إذا قمت ولا تسلم. سجود الشكر: 333 - وعن أبي بكرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم): "كان إذا جاءه أم يسره خر ساجدًا لله". رواه الخمسة إلا النسائي. 334 - وعن عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) قال: "سجد النبي (صلى الله عليه وسلم) فأطال السجود، ثم رفع رأسه فقال: إن جبريل أتاني فبشرني، فسجدت لله شكرًا". رواه أحمد وصححه الحاكم.

9 - باب صلاة التطوع

335 - وعن البراء بن عازبٍ (رضي الله عنه) "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بعث عليًّا إلى اليمن- فذكر الحديث- قال: فكتب علي (رضي الله عنه) بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الكتاب خر ساجدًا شكرًا لله تعالى على ذلك". رواه البيهقي، وأصله في البخاري. هذه الأحاديث الثلاثة تدل على مشروعية سجود الشكر، قال أهل العلم: وإنما يشرع إذا تجددت النعمة، أما النعمة المستمرة فإنه لا يشرع لها السجود؛ لأن الإنسان دائمًا في نعمة اله كما قال الله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" (إبراهيم: 34). لكن المراد: النعم المتجددة مثل: أن يبشر بولد، أو يبشر بنجاح، أو يبشر بوجود مال ضائع، أو يبشر بانتصار المسلمين أو بدء الفتنة عنهم، أو ما أشبه ذلك، أو يحصل له حادث لولا لطف الله تعالى لأضر به فيسجد الله - سبحانه وتعالى- شكرًا لاندفاع هذه النقمة. والحاصل: أنه يستحب سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم، كما فعل النبي (صلى الله عليه وسلم)، والظاهر أنه يكبر إذا سجد ولا يكبر إذا قام ولا يسلم، والمذهب: أنه يكبر إذا سجد وإذا رفع ويسلم كسجود التلاوة، ولو قال قائل: بأن سجود الشكر لا يشرع فيه التكبير عند الانحطاط، نقول: إن الأمرا لم يكن بعيدًا؛ لأن التكبير إنما ورد في سجود التلاوة، وكما قلنا- قبل قليل- إن العبادات مبنية على التوقيف، ولكن ماذا تقول إذا سجدت للشكر؟ تسبح "سبحان ربي الأعلى"؛ لعموم قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "اجعلوها في سجودكم" وتثني على الله (عز وجل) بما له من كمال الإنعام والإفضال، وإذا ذكرت النعمة نفسها كان ذلك أولى، فتقول -مثلًا-: "اللهم لك الحمد على ما أنعمت علي من هذه النعمة أو على ما دفعت عني من هذه النقمة" وتدعو بالدعاء المناسب. **** 9 - باب صلاة التطوع 336 - عن ربيعة بن مالك الأسلمي (رضي الله عنه) قال: "قال لي النبي (صلى الله عليه وسلم): سل. فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: أو غير ذلك؟ فقلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود". رواه مسلم. فوله: "باب صلاة التطوع"، هذا من باب إضافة الشيء إلى نوعه، يعني: الصلاة تنقسم إلى فريضة وإلى تطوع، وهكذا الزكاة والصيام والحج، وهذا من رحمة الله تعالى وحكمته أن جعل

لهذه الفرائض تطوعات؛ لن الإنسان قد يخل بالفرائض فتكون هذه التطوعات تكميلًا لها، كما جاء في الحديث: "أن الفرائض تكمل بالنوافل يوم القيامة". صلاة التطوع أقسام متعددة منها: التطوع المطلق الذي يسن للإنسان كل وقت ما عدا أوقات النهي، ومنها: التطوع المقيد بوقت، ومنها: التطوع المقيد بفرض، ومنها: التطوع المقيد بسبب، فهذه أربعة أقسام: مقيد بوقت كالوتر، ومقيد بفرض كالرواتب، ومقيد بسبب كتحية المسجد، ومطلق وهو ما عدا المقيد. قال المؤلف: "عن ربيعة بن مالك الأسلمي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له: سل"، يعني: أسأل، وكان قد قضى حاجة للرسول (صلى الله عليه وسلم)، فطلب منه النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يسأل شيئا لأجل أن يكافئه لكن كانت همة هذا الرجل عالية جدًا قال: أسألك مرافقتك في الجنة" هذا سؤال يزن الدنيا كلها، لو جاءت الدنيا كلها ما صارت شيئًا بالنسبة إلى هذا المسئول: "أسألك مرافقتك في الجنة"، الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما أجابه بـ"نعم" ولا أجابه ب"لا"، ولكنه رجاه وقال: "أعني على نفسك بكثرة السجود"، أي: بكثرة الصلاة، لكنه خص السجود؛ لن السجود من أركانها، وقد يعبر عن الشيء بما هو من أركانه، كما في قوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} (البقرة: 43) , يعني: صلوا مع المصلين، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} (الحج: 77). يعني صلوا صلاة ذات ركوع وسجود، فمعنى كثرة السجود: أن يكثر الصلاة. فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: كرم النبي (صلى الله عليه وسلم) وحسن خلقه، وأنه لا يدع لأحد معروفًا إلا كافأه عليه، وهذا هو المشروع يعني: أن يكافأ الإنسان على المعروف؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "من صنع إليكم معروفًا فكافئوه"، وفي المكافأة على صنع المعروف تشجع لأهل المعروف على فعله؛ لأن الإنسان إذا كوفئ على معروف تشجع، بخلاف ما إذا لم يكافأ صاحب المعروف، كما أن في المكافأة على المعروف رفعًا لشأن الذي صنع فيه المعروف، فإنك قد تجد ذلًا أمام هذا الذي أدى المعروف، فإذا كافأته صرت معه مساويًا له، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "اليد العليا خير من اليد السفلى"، فإذا أحد أدى إليك معروفًا صارت يده بالنسبة إليك عليا، وإذا كافأته علوت أنت وصرت كفؤًا له، وفي المكافأة للمعروف امتثالًا لأمر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهذا ينبغي أن يكون على رأس الفوائد، وامتثال أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) كله خير وكله بركة، ولو لم

السنن الرواتب

يكن من امتثال الإنسان لأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلا أنه يشعر أن الرسول إمامه أمامه يعني: كأنه بين يديه يتابعه ويترسم خطاه ويمشي تبعًا له لكفاه ذلك شرفًا، وإن كان النبي (صلى الله عليه وسلم) لا شك أنه في قبره في المدينة، لكن إذا فعلت الشيء امتثالًا لأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) صار النبي (صلى الله عليه وسلم) كأنه أمامك تتبعه فيما قال: ويستفاد من هذا الحديث: علو همة ربيعة بن مالك (رضي الله عنه) حيث لم يسأل شيئًا من الدنيا وإنما سأل مرافقة النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجنة. ومن فوائده: فضل كثرة الصلاة، وأنها سبب لأن يكون الإنسان رفيقًا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الجنة، لقوله: "أعني على نفسك بكثرة السجود". ومنها أيضًا: أنه كون الإنسان يعمل عملًا صالحًا فإنه يكون محسنًا لنفسه؛ لقوله: "أعني على نفسك بكثرة السجود" فأنت إذا أكثرت السجود فهذا مصلحة لنفسك ومعونة لها، أي: معونة على ما فيه خيرها وصلاحها. السنن الرواتب: 337 - وعن ابن عمر (رضي الله عنه) قال: "حفظت من النبي (صلى الله عليه وسلم) عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح". متفق عليه. - وفي رواية لهما: "ركعتين بعد الجمعة في بيته" - ولمسلم: "كان إذا طلع الفجر لا يصلى إلى ركعتين خفيفتين". هذه من السنن المقيدة بالفرائض، ويقال لها: الرواتب وهي -كما في حديث ابن عمر- عشر، قال: "حفظت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عشر ركعات .. الخ". فيستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يحافظ على هذه الرواتب، "ركعتين قبل الظهر" يعني: بعد الأذان وقبل الإقامة، "وركعتين بعدها" إلى وقت العصر، يعني: يمتد وقت الركعتين التي بعد الصلاة إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى، "وركعتين بعد المغرب: إلى أن يدخل وقت العشاء، وركعتين بعد العشاء إلى منتصف الليل؛ لأن وقت العشاء منتهاه: منصف الليل، "وركعتين قبل الفجر"، وكان (صلى الله عليه وسلم) لا يصلي بعد أذان الفجر إلا ركعتين خفيفتين كما ثبت ذلك من حديث ابن عمر، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث عائشة، وفيه: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يخفف هاتين الركعتين؛ يعني: ركعتي الفجر، حتى تقول عائشة: "حتى أقول: أقرأ بأم

القرآن؟ " من تخفيفه لهما (صلى الله عليه وسلم)، هذه الرواتب عشر في حديث ابن عمر الركعتان اللتان قبل الظهر يبتدأ وقتهما من زوال الشمس إلى صلاة الظهر، واللتان بعدها من صلاة الظهر إلى دخول وقت العصر، والركعتان بعد المغرب من صلاة المغرب إلى دخول وقت العشاء، والركعتان بعد العشاء من صلاة العشاء إلى منتصف الليل، والركعتان قبل الفجر من طلوع الفجر إلى صلاة الفجر، أما العصر فليس لها سنة راتبة يداوم عليها الرسول (صلى الله عليه وسلم)، قال أهل العلم: إذا فاتتك الركعتان قبل الظهر فصلهما بعد الصلاة؛ لن فعلهما قبل الصلاة تعذر وهذا يقع دائمًا بان يأتي الإنسان إلى المسجد فيجدهم قد أقاموا الصلاة، ففي هذه الحال يقضيها بعد صلاة الظهر، لكن يصلي الراتبة التي بعد الظهر قبل الراتبة التي قبلها. إنسان جاء والناس يصلون الظهر فلم يتمكن من سنة الظهر، إذا صلى الظهر يصلي ركعتين بنية الراتبة البعدية، ثم بعد ذلك يقضي الراتبة القبلية، هكذا روي عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) في حديث رواه ابن ماجه، صلاة الفجر إذا فاتته سنة الفجر قبل الصلاة يقضيها بعد الصلاة، أو إذا أخرها إلى أن ترفع الشمس قدر رمح كل هذا جائز. أين تفعل هذه الرواتب العشر في المسجد أو في البيت؟ كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يفعلها في بيته ففي حديث ابن عمر صرح بأن المغرب والعشاء والفجر والجمعة كلها في البيت وسكت عن الظهر، ولكننا حسب ما نعرفه من هدي الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يصلي الرواتب في بيته، حتى قال (صلى الله عليه وسلم) " "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، وعلى هذا فالأفضل أن تصلي الرواتب في البيت قبل أن تأتي إلى المسجد حتى لو كنت في مكة أو كنت في المدينة، فالأفضل أن تصلي الرواتب في بيتك لا في المسجد الحرام ولا في المسجد الحرام ولا في المسجد النبوي؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي هو في مسجده- المسجد النبوي- ومع ذلك يصلي النوافل في البيت. ويستفاد من هذا الحديث: أن راتبة الفجر ينبغ أن تخفف، وتختص راتبة الفجر بأمور ثلاثة: الأول: أنها أفضل الرواتب، حتى قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". الثاني: أنها تفعل حضرا أو سفرًا، بخلاف راتبة المغرب والعشاء والظهر، فإن الإنسان إذا كان مسافرًا لا يصلي رواتب هذه الصلوات الثلاث، أما الفجر فتفعل. الثالث: أن لها قراءة مخصوصة، يعني: يقرأ فيها بشيء معين من القرآن وهو {قا يأيها

الكافرونْ} (الكافرون) في الركعة الأولى، {قل هو الله أحد} (الإخلاص). في الركعة الثانية، أو الركعة الأولى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون} (البقر: 136). وفي الركعة الثانية يقرأ: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهد بأنا مسلمون} (آل عمران: 64). وهل هذا يعني: أنه مخير في الأمر بحيث إن شاء قرأ: {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} دائمًا أو يقرأ: {قولوا آمنا بالله} و {قل يا أهل الكتاب} دائمًا، أو الأفضل أن يفعل هذا مرة وهذا مرة؟ الثاني: لأن كليهما ثبت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لكن إذا كان لا يحفظ الآيتين التين أولاهما في سورة البقرة والثانية في آل عمران فليقرأ: {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} فهل تصح الصلاة إن قرأ بغيرهما؟ نعم، ولو اقتصر على الفاتحة صحت أيضًا الصلاة؛ لأنه من سورة معينة في القرآن تجب قراءتها إلا الفاتحة، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا صلاة لمن يقرأ بأم القرآن". 338 - وعن عائشة (رضي الله عنها) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) "كان لا يدع أربعًا قبل الظهر وركعتين قبل الغداة" رواه البخاري. سبق لنا في حديث بن عمران أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يخفف الركعتين لصلاة الفجر فالسنة إذن تخفيفهما. فلو قال قائل: أليس من الأفضل أن أثقلهما، وأزيد في القراءة، وأزيد في التسبيح، وأزيد في الدعاء؟ قلنا: لا بل التخفيف أفضل؛ أن الله (عز وجل) يقول: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا وهو العزيز الغفور} (الملك: 2). ولم يقل: أيكم أكثر عملًا، بل قال: {أيكم أحسن}، وكلما كان للشرع أوفق كان أحسن، ولهذا قلنا: إن ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فإن الأفضل الاقتصار فيه على ما ورد، وذكرنا من تلك القواعد فوائد، منها: لو قال قائل في رمضان: أنا أحب أن أصلي ثلاثًا وعشرين ركعة، أو تسعًا وثلاثين ركعة، أو إحدى وسبعين ركعة، أو أصلي إحدى عشرة ركعة، فأيها أفضل؟ قنا: إحدى عشرة ركعة أفضل، فإذا قال قائل: إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حث على كثرة الركوع والسجود والصلاة، قلنا: لكن هذا الحث مطلق، فالشيء المطلق يقيد بما جاءت به السنة فإن عائشة لما سئلت كيف كانت صلاة النبي (صلى الله عليه وسلم) في رمضان؟ قالت: "كان لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة"، فالأفضل على هذا ألا نتجاوز، كما لو قال قائل: أنا

فضل ركعتي الفجر

أريد أن أسبح أدبار الصلوات ثلاثمائة مرة، نقول له: بل الأفضل لاقتصار على ما ورد، ثم يشرع أن تسبح ما شئت، لكن لا تنو أنه تسبيح مقيد بالصلاة؛ أي: لا تزد على ما جاء به الشرع بالتسبيح المقيد بالصلاة. هكذا أيضًا نقول: الأفضل للإنسان في راتبة الفجر أن يخففها، حتى قالت عائشة (رضي الله عنها) "حتى إني أقول: أقرأ بأم القرآن"، من شدة تخفيفه (صلى الله عليه وسلم). وماذا يقرأ في هذه الرواتب؟ أما راتبة الظهر والعشاء فلم يرد فيها شيء، وأما راتبة المغرب فقد ورد فيها حديث فيه نظر وفيه أنه يقرأ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد}، وأما الفجر فقد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يقرأ فيها: {قل يا أيها الكافرون}، وفي الركعة الثانية: {قل هو الله أحد} أو في الركعة الأولى {قل يا أيها الكافرون}، وفي الركعة الثانية {قل يا أهل الكتاب تعالوا} الآية. وفي حديث عائشة (رضي الله عنها): أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان لا يدع أربعًا قبل الظهر وركعتين قبل الغداة، في هذا الحديث دليل على أن راتبة الظهر قبلها أربع ركعات، فهل نأخذ بحديث ابن عمر أو بحديث عائشة أو نقول: إن السنة هذا وهذا؟ يرى بعض أهل العلم: أن نأخذ بحديث عائشة؛ لأن فيه زيادة علم، ويرى آخرون أن نأخذ بحديث ابن عمر؛ لأنه قال: "حفظت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "، ولكن الراجح: أن هذا، وهذا أيضًا سنة، من اقتصر على ركعتين فقد أصاب، ومن زاد إلى أربع فقد أصاب، ولكن المرجح: أن يصلي أربعًا، وذلك لأنه وردت أحاديث تدل على فضيلة الأربع قبل الظهر. فضل ركعتي الفجر: 339 - وعنها (رضي الله عنها) قالت: "لم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) على شيءٍ من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر". متفق عليه. - ولمسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". هذا الحديث أيضًا تقول عائشة (رضي الله عنها): "على شيء من النوافل"، المراد بالنوافل: النوافل التابعة للصلوات، فلم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) يتعاهد شيئًا منها أكثر من تعاهده لركعتي الفجر، ولهذا كان لا يدعهما حضرًا ولا سفرًا، وليس شيء من الرواتب يصليه النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا راتبة الفجر فقط، وانتبه لقولي: من الرواتب، احترازًا من بقية النوافل، فإن بقية النوافل كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصليها، لكن الرواتب لا يصلي منها إلا راتبة الفجر، ما الذي بقى من الرواتب؟ راتبة الظهر وراتبة

المغرب وراتبة العشاء، هذه لا تصلي، وأما الوتر فليس من الرواتب؛ لأن الرواتب هي: السنن التابعة للصلوات الخمس، والوتر ليس منها، ولهذا نقول: إن المسافر يصلي الوتر، ويقوم الليل، ويصلي الضحى، ويصلي الاستخارة، ويصلي تحية المسجد، وينتفل تنفلًا مطلقًا، كل المواطن مشروعة في حقه، باقية على مشروعيتها، أما الرواتب- وهي النوافل التابعة للصلوات المكتوبة- فلا يصلي منها إلا راتبة الفجر، فإنه لا يدعها حضرًا ولا سفرًا، وفي صحيح مسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"، (ركعتا الفجر)، كيف ركعتا الفجر: بالفتج مع أنه مبتدأ؛ لأنه مثنى لكن تسقط الألف لأن الذي بعدها همزة وصل، وقد قال ابن مالك. إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق ... وإن يكن لينا ففتحه استحق وهذا لين "ألف" فيفتح، ولا حاجة إلى أن تتوقف وتقول: ركعت الفجر، بل نقول: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" وهذا نظير قوله تعالى: {ولقد أتينا داود وسليمان علمًا وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين} (النمل: 15). لا نتوقف ونقول: "وقال الحمد لله، ليس هناك داعٍ، بل نقول: {الحمد لله الذي فضلنا على كثيرٍ من عباده المؤمنين}؛ لأن الألف تسقط عند التقائها بهمزة الوصل، وهنا "ركعتا الفجر خير من الدنيا وفيها". أي دنيا هي؟ الدنيا كلها في كل زمان ومكان ركعتان خير من الدنيا كلها، والخيرية هنا ظاهرة؛ لأن ثواب هاتين الركعتين باق، والدنيا كلها زائلة وما فيها زائل: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (الرحمن: 26 - 27). تصور كيف كانت حال الدنيا .. من مضى من الملوك والعلماء والتجار وغيرهم ماذا كانوا بعد أن ذهبوا؟ كانوا كما كانوا قبل أن يولدوا مضوا وكأن لم يكونوا بعد! يقول الله (عز وجل) في سورة الإنسان {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا} (الإنسان: 1) ثم ذكر بعد ولادته وإذا مات صار حبرًا من الأخبار: بينا يرى الإنسان فيها مخبرًا ... حتى يرى خبرًا من الأخبار كان يتحدث بالناس، ولكن الآن صار الناس يتحدثون به، فركعنا الفجر خير من الدنيا وما فيها، لو ذكر للواحد أنه يوجد في بلد بعيد، يوجد قصر (فيلا) إذا جاء الإنسان إليها فإننا نعطيها إياه مجانًا جزاء له على سفره الطويل أيذهب الناس إليها أم لا؟ لا شك أنه يذهب الناس إليها مع التعب الشديد، مع أنها ربما تنهدم قبل أن يموت صاحبها، أو يموت ويدعها! لكن "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" فضل عظيم، ولولا أنه ثابت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لقال قائل: كيف يكون هذا الفضل العظيم بهذا العمل القليل: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" وهذا يدل

على تأكدها، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يدع ركعتي الفجر، بل الواجب عليه أن يحرص عليها ويحافظ عليها. فإن قال إنسان: إذا جئت والإمام قد أقام الصلاة هل أصليها، يعني: أنا أعلم علم اليقين أنني سأدرك الإمام قبل أن يركع؛ لأني أعرف أن عادة الإمام أنه يقرأ ويطيل القراءة، فسوف أتمكن من صلاة الراتبة ثم أدخل معه، فما الجواب؟ نقول: لا يصليها، ولو صلاها فهي باطلة مع إثمه، يأثم وتبطل الصلاة؛ والدليل قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"، و"لا" نافية، والنفي هنا بمعنى النهي وهو نفي للصحة، يعني: لا تصلوا فإن صليتم فلا صلاة لكم، ولكن يصليها بعدما يسلم الإمام ويأتي بالذكر الوارد، وإن أخرجها حتى تطلق الشمس قيد رمح فلا حرج عليه، لكن كثيرًا من الناس بقول: إني لو تركتها لنسيتها، أو لتهاونت لها وثقلت علي، فإذا كان الإنسان يخشى من هذا فالأفضل أن يصليها بعد الصلاة. 340 - وعن أم حبيبة أم المؤمنين (رضي الله عنها) قالت: سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة". رواه مسلم وفي روايةٍ" "تطوعًا". - وللترمذي نحوه، وزاد: "أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر". هذا الحديث يؤيد ما سبق من حديث عائشة (رضي الله عنها) مع أن حديث ابن عمر فيه أن هذه الثنتي عشرة لو صلاها الإنسان بني الله له قصرًا في الجنة؛ أي: قصرًا في الجنة دائمًا أبديًا "أربع قبل الظهر" بسلام واحد أو بسلامين؟ بسلامين؛ لن هذا المطلق يحمل على المقيد، لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، ولا يستثنى من ذلك إلا الوتر في بعض صفاته، فمثلًا إذا أوتر بثلاث فله أن يفردها جميعًا بسلامٍ واحد وتشهد واحد، وإذا أوتر بخمسٍ فالسنة أن يسردها جميعًا بسلام واحد وتشهد واحد، وإذا أوتر بسبع فالسنة أن يسردها جميعًا بتشهد واحد وبسلام واحد، وإذا أوتر بتسع فالسنة أن يسردها جميعًا بسلام واحد وتشهدين، وإذا صلى ثمان ركعات جلس وتشهد، ثم قام وأتى بالتاسعة فتشهد وسلم، أما إذا أوتر بإحدى هشرة فإنه يصلي ركعتين ركعتين؛ أي: مثنى مثنى، وعلى هذا فنقول: إن محافظة الإنسان على اثنتي عشرة ركعة كل يوم وليلة أفضل من الاقتصار على عشر ركعات لهذا الحديث.

النفل قبل العصر والمغرب

النفل قبل العصر والمغرب: 341 - وللخمسة عنها: "من حافظ على أربع قبل الظهر وأربعٍ بعدها؛ حرمة الله تعالى على النار". 342 - وعن ابن عمر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "رحم الله امرأ صلى أربعًا قبل العصر". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنة، وابن جزيمة وصححه. 343 - وعن عبد الله بن مغفل المزني (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "صلوا قبل المغرب، وصلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة". رواه البخاري. - وفي رواية لابن حبان: "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى قبل المغرب ركعتين". 344 - ولمسلم عن أنس (رضي الله عنه) قال: "كنا نصلي ركعتين بعد غروب الشمس، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يرانا، فلم يأمرنا ولم ينهنا". هذه الأحاديث فيها بيان شيء من السنن ولكنها ليست برواتب، "أربع قبل الظهر وأربع بعدها"، ويمكن أن يراد بالأربع التي قبل الظهر: الأربع الرواتب، ويمكن أن يكون المراد: أربعًا غير الرواتب، أما "أربع بعدها" فتدخل فيها الراتبة التي بعد الظهر وهي ركعتان، فإذا حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار، كما هو مقتضي هذا الحديث، وفي إسناده ما فيه. وأما الثاني: فهو أربع قبل العصر، لقوله: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًت"، وهذا أيضًا فيه نظر، ولكنه على تقدير ثبوته فإنه يدل على استحباب أربع قبل العصر، ولكنها ليست براتبة. أما الركعتان بعد أذان المغرب وقبل صلاة المغرب فقد اجتمع فيها أنواع السنة الثلاثة: القول، والفعل، والإقرار، ففي حديث عبد الله بن مغفل أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: "صلوا قبل المغرب" ثلاث مرات، وقال في الثالثة: "لمن شاء" كراهية أن يتخذها الناس سنة، ومعنى (سنة) أي: طريقة ثابتة راتبة، وفي هذا دليل على أنه يفرق بين الشيء الراتب الذي اتخذ سنة وطريقة

التخفيف في ركعتي الفجر والاضطجاع بعدها

وبين الشيء العارض، وهذه القاعدة ذكرها أهل العلم وقالوا: الشيء قد يكون جائزًا في بعض الأحوال إذا لم يتخذ سنة راتبة، ومن ذلك صلاة الجماعة في النافلة، لا بأس بها أحيانًا كما لو صلى الإنسان صلاة الليل مع صاحب له ليكون ذلك أنشط له، فإن ذلك جائز فعله النبي (صلى الله عليه وسلم) حين صلى معه ابن عباس (رضي الله عنه وعن أبيه)، فصلى معه صلاة الليل، وفعله أيضًا ومعه حذيفة بن اليمان (رضي الله عنها)، وفعله ومعه عبد الله بن مسعود، لكنه ليس من الأمور التي يسن لها الجماعة إنما إذا صليت صلاة الليل جماعة أحيانًا فلا حرج فيها كذلك سنة المغرب ينبغي للإنسان أن يصلي قبل المغرب يعني بين الآذان وبين الإقامة لكن لا يتخذ ذلك سنة راتبة إنما يفعله أحيانًا أو في أكثر الأحيان هذا غير تحية المسجد أما تحية المسجد فمتى دخل الإنسان المسجد فغنه يصليها، ومن العجيب أنك ترى بعض الناس يأتي إلى المسجد بعد أذان المغرب ويجلس ولا يصلي، وهذا خطأ، هذا خلاف السنة التي قال فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم): "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" وخلاف السنة التي قال فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم): "صلوا قبل المغرب"، وثبت ذلك من فعله أنه كان يصلي قبل المغرب ركعتين، وثبت ذلك من إقراره، وذلك أن الصحابة كانوا يصلون قبل المغرب والنبي (صلى الله عليه وسلم) يراهم فلم يمنعهم من ذلك، فهذه النافلة ثبت فيها أنواع السنة الثلاثة: القولي، والفعلي، والإقراري، وبعض الناس لا يفعلها حتى ولو دخل المسجد، وهذا جهل منهم، وينبغي أن يبلغوا بأن هذا خلاف السنة. فإن قال قائل: كيف يجمع بين هذه الأحاديث في سنة المغرب- والأحاديث الأخرى التي تدل على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي المغرب ويبادر بها فيصليها إذا وجبت الشمس؟ الجمع بين الحديث وهذه الأحاديث أن يقال: إن السنة التي بين أذان المغرب وصلاة المغرب تكون خفيفة لا يطيل فيها، هكذا جمع ابن حجر بين الأحاديث، ويمكن أن يقال: إن صلاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) المبادرة لا ينافي أن يصلي الإنسان بعدها ركعتين، ولو كانتا غير خفيفتين؛ لأن إثبات أن هاتين الركعتين خفيفتان بدون دليل في القلب منه شيء. التخفيف في ركعتي الفجر والاضطجاع بعدها: 345 - وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني أقول: أقرأ بأم الكتاب". متفق عليه.

346 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه): "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قرأ في ركعتي الفجر: {قل يا أيها الكافرون} (الكافرون). و {قل هو الله أحد} (الإخلاص). رواه مسلم. 347 - وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن". رواه البخاري. 348 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح، فليضطجع على جنبه الأيمن". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه. أما تخصيص الركعتين اللتين قبل صلاة الفجر فقد تقدم الكلام عليهما، وأما السنة في راتبة الفجر فأن يصليها الإنسان خفيفة، وأما الاضطجاع بعدهما على الجنب الأيمن فقد ذكرت عائشة (رضي الله عنها) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على جنبه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة، فدل هذا على مشروعية النوم على الجنب الأيمن بعد سنة الفجر، ومن المعلوم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يفعلها في بيته، فإذا أذن الفجر فصلى ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على الجنب الأيمن، وهل هذا سنة مطلقًا كما اختاره بعض أهل العلم وقالوا: يسن أن يضطجع على الجنب الأيمن إذا صلى سنة الفجر مطلقًا، أو هو سنة لمن يقوم الليل فقط، لأجل أن يأخذ راحة قبل صلاة الفجر؟ اختار شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) الثاني، وقال إن الاضطجاع بعد سنة الفجر سنة لمن كان يقوم الليل، أما من لا يقوم الليل فإن ذلك ليس سنة في حقه، وأغرب ابن حزم (رحمه الله) يعني: ذهب إلى قول غريب- وقال: إن الاضطجاع بعد سنة الفجر شرط لصحة صلاة الفجر، وأما من لم يضطجع إذا تسنن للفجر على الجنب الأيمن فإن صلاة الفجر باطلة وهذا من الأقوال الغريبة جدًا؛ لأنه (رحمه الله) يرى صحة حديث أبي هريرة الذي ذكره المؤلف وهو أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر إذا صلى الإنسان سنة الفجر أن يضطجع بعدها، لكن هذا الحديث قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه لا يصح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه أمر بالاضطجاع، إنما صح ذلك من فعله لا من قوله، قم نقول لابن حزم -عفا الله عنه: حتى لو فرض أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر بالركعتين بعد الأذان على الجنب الأيمن فما علاقة ذلك بصلاة الفجر؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن بعض أهل العلم أكد هذا الاضطجاع الذي يكون بعد سنة الفجر.

قيام الليل

قيام الليل: 349 - وعن ابن عمر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "صلاة اليل مثنى مثنى، فإذا خشى أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى". متفق عليه. - وللخمسة، وصححه ابن حبان بلفظ: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى". وقال النسائي: هذا خطأ. 350 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". أخرجه مسلم. هذه الأحاديث تدل على صلاة الليل: حكمها وعددها وهئتها، أما حكمها: فإنها سنة مؤكدة، وهي أفضل من صلاة النهار، يعني: المطلق من صلاة الليل أفضل من المطلق من صلاة النهار، وأن المقيد من صلاة النهار في الرواتب فهو أفضل من المطلق من صلاة الليل. يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل"؛ أن صلاة الليل أبعد عن الرياء، فإن الإنسان فيها يكون خاليًا بربه (عز وجل) لا يطلع عليه إلا الله، وصلاة الليل أشد وطأ كما قال الله (عز وجل): {غن ناشئة اليل هي أشد وطئًا وأقوم قليلًا} (المزمل: 6)، يعني يتواطأ عليه القلب واللسان والجوارح، فهي أخشع من صلاة النهار، ولأن صلاة الليل تدل على الرغبة الأكيدة في فعل العبادة؛ لأن الإنسان يدع فراشة ويدع راحته ويقوم إلى الصلاة، فهي أدل على حرص الإنسان على عبادة ربه -تبارك وتعالى-؛ لأن صلاة الليل توافق في غالبها وقت النزول الإلهي، وقت نزول الله (عز وجل) إلى السماء الدنيا، فإن الرب -سبحانه وتعالى- ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، ويقول: "من يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر"، يقول ذلك (عز وجل) كل ليلة، ونزوله هنا حق؛ أي: يكون على حقيقته وظاهره لكن ليس كنزول المخلوقين، بل يجب علينا أن نؤمن ونقول: الله أعلم بكيفيته، لكننا نعلم أنه لا يماثل نزول المخلوقين؛ لأن الله تعالى يقول: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى: 11)، ولا يحل لأحد أن يعرف معناه ويقول: إن معنى "ينزل ربنا" يعني: تنزل رحمته، أو ينزل ملك من ملائكته، أو ينزل أمره؛ لأن هذا التحريف يعني: إخراج لكلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن معناه، فإن هذا

التحريف يأباه سياق اللفظ، يقول الرسول: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيقول: من يدعوني "ينزل فيقول" هل الرحمة تقول هذا الكلام؟ لا، الأمر لا يقول هذا الكلام، الملك لا يقول هذا الكلام، لا يقول الملك: من يدعي فأستجيب له؟ إنما الذي يقول الرب - سبحانه وتعالى-، وأيضًا نزول رحمة الله تعالى وأمره لا تختص بالسماء الدنيا، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض وليس إلى السماء الدنيا، ثم أي فائدة لنا إذا نزلت الرحمة إلى السماء الدنيا ولم تنزل إلى الأرض فتعمنا. فالحاصل: أن الذين حرفوا ذلك قالوا: ينزل أمره حوموا -والعياذ بالله- من طعم معنى هذا الحديث وشعور الإنسان بقرب الرب منه (عز وجل)، ولكنه -سبحانه وتعالى- مع كونه ينزل إلى السماء الدنيا هو قريب في علوه قريب عال فوق سمواته، وعلى عرشه؛ لأن الله ليس كمثله شيء في صفاته، فلهذا قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل"، لهذه المعاني وغيرها. وأما كيفية صلاة الليل فهي مثنى مثنى، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "صلاة الليل مثنى مثنى"، يعني: على ركعتين ركعتين، ويستثنى من ذكر الوتر، إذا أوتر بثلاث فله أن يقرنها بسلام واحد، وبتشهد واحد، وإذا أوتر بخمس فالأفضل أن يقرنها جميعًا بسلام واحد وتشهد واحد، وإذا أوتر بسبع فالأفضل أن يقرنها كلها بسلام واحد وتشهد واحد، وإذا أوتر بتسع فإنه يقرنها كلها بسلام واحد، لكن بتشهدين التشهد الأول في الركعة الثامنة والتشهد الأخير في الركعة التاسعة، وإذا أوتر بإحدى عشرة صلى ركعتين ركعتين، كما كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يفعل، وكذلك صلاة النهار مثنى مثنى ليس فيها صلاة رباعية غير الفرائض. ويستفاد من هذا الحديث: أن حديث عائشة التي قالت فيه لما سئلت عن كيفية صلاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في رمضان: "ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن طولهن وحسنهن، ويصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ويصلي ثلاثًا"، فإن ظاهر هذا الحديث أنه يصلي أربعًا بسلام واحد، ولكنه يحمل هذا المطلق على المقيد، ويقال: يصلي أربعًا لكن بسلامين وتشهدين؛ لأن صلاة الليل مثنى مثنى، ولكن كأنها تريد أنه يصلي أربعًا، ثم يصلي ثم يصلي أربعًا آخر، وبهذا تجتمع الأدلة. وأما عدد ركعات الليل، فعدد ركعات الليل لم يكن فيها توقيف عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول لا تزيد ولا تنقض، ولكن كان فعله (صلى الله عليه وسلم) أنه لا يزيد على إحدى عشرة ركعة، فيصلي الإنسان نشاطه، والأفضل إذا كان معه وقت ونشاط أن يطيل النشاط حتى لا تتجاوز في العدد إحدى

صلاة الوتر

عشرة ركعة، فإذا كان الإنسان معه ساعتان، وقال لو صليت إحدى عشرة ركعة أنهيت في ساعة نقول له أطل الركوع والسجود والقيام ما دمت تريد أن تبقى ساعتين في الصلاة، حتى لا تزيد على إحدى عشرة ركعة، ومع هذا لو زاد فلا حرج؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لما سئل عن صلاة الليل قال: "مثنى مثنى" ولم يحدد، فدل ذلك على أنه لا بأس بالزيادة. وأما من قال: إنه تحرم الزيادة على إحدى عشرة ركعة فقول لا وجهة له، وكذلك من قال: إن الأفضل في رمضان أن يزيد على إحدى عشرة ركعة، ويصلي ثلاثًا وعشرين أو ما أشبه ذلك، فإن قوله مردود، والصواب: أنه لا يزيد على إحدى عشرة ركعة، ولكن ليس على سبيل الوجوب. قال بعض الناس في قيام رمضان: إنه لا يزيد على إحدى عشرة ركعة إذا كان يريد أن يطيل القراءة في الصلاة، أما إذا كان لا يريد الإطالة فإنه يصلي ثلاثًا وعشرين، أو تسعًا وثلاثين وما أشبه ذلك، ولكن هذا ليس وجه؛ لأننا نقول: أنت إذا خففت الصلاة وزدت العدد خالفت فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) من وجهين: من وجه التخفيف، ومن وجه زيادة الركعات، ولكنك إذا قدر أنك أبقيت العدد على ما هو عليه؛ يعني: إحدى عشرة وخففت من أجل عدم إرهاق المصلين فقد خالفت في مسألة واحدة وهي التطويل وحافظت على العدد، ولا شك أن الموافقة والمخالفة في شيء أهون من المخالفة في شيئين وهذا أمر معلوم، ولذلك لو أن الناس اقتصروا في التراويح على إحدى عشرة ركعة مع التأني والخشوع والتطويل الذي لا يشق، لكان ذلك أفضل بكثير من تلك التراويح التي يصلونها كأنهم مطرودون تجد الواحد منهم يقول: "إن اليوم خرجت الأول" كأن الصلاة عندهم منافسة يتفاخرون فيما بينهم أيهم الذي يسلم أولًا، وهذا لا شك أنه إخلال بالصلاة، لاسيما أن وراء الإمام من لا يستطيع الموافقة لكونه ضعيفًا أو فيه أذى من مرض أو ما أشبه ذلك. *** صلاة الوتر: 351 - وعن أبي أيوب الأنصاري (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "الوتر حق على كل مسلم، من أحب أن يوتر بخمسٍ فيفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدةٍ فليفعل". رواه الأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن حبان، ورجح النسائي وقفه.

352 - وعن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: "ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة، ولكن سنة سنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ". رواه الترمذي والنسائي، وحسنة الحاكم وصححه. نحن الآن في صلاة التطوع، وهي: الصلوات التي ليست بمفروضة، ومنها الوتر، وقد اختلف أهل العلم في الوتر، وهو ختم صلاة الليل بركعة، فقال بعض أهل العلم: إن الوتر واجب، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) "الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا". وقال بعض العلماء: إنه ليس بواجب؛ لأن الله تعالى إنما فرض خمس صلوات فقط، وقد سئل الرسول (صلى الله عليه وسلم) هل علي غيرها؟ فقال للسائل: "لا" إلا أن تطوع". وقال بعض أهل العلم: من كان له ورد من الليل فإنه يجب عليه الوتر، ومن لا فلا. وأختار شيخ الإسلام هذا القول وقال: إن الوتر واجب على من له من الليل يصليه، فإنه يجب عليه أن يوتر، استدل بقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" وهذا أمر وبقوله: "أوتروا يا أهل القرآن"، وأهل القرآن كانوا يتهجدون في الليل ويقرءون القرآن، ولكن جمهور أهل العلم أن الوتر سنة وليس بواجب مطلقًا، وأن الأوامر الواردة فيه تحمل على الاستحباب، وما ذكر فيه أنه حق فإنه يحمل على التأكيد؛ لأن النصوص الأخرى صريحة بأنه لا يجب إلا خمس صلوات فقط، وقد قال الله (عز وجل) في ليلة المعراج بعد مراجعة النبي (صلى الله عليه وسلم) له حتى صارت الصلوات خمسًا قال: "قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي"، فقوله: "أمضيت فريضتي" يدل على أن هذا هو الذي فرضه الله على عباده فقط، ولكن الوتر سنة مؤكدة حدًا لا ينبغي للإنسان تركه، حتى قال الإمام أحمد: من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة، فقال: "لا ينبغي"، والإمام أحمد (رحمه الله) إذا قال: "لا ينبغي" يدل على أنه أمر مؤكد لا تقبل له شهادة؛ لان رجلًا يحافظ على ترك الوتر، والوتر ركعة واحدة فقط، هذا ليس فيه خير، ولهذا قال إنه رجل سوء لا ينبغي أن تقل له شهادة، وعليه فينبغي للإنسان أن يوتر، وأن يرشد أهله أيضًا إلى الوتر؛ لأن كثيرًا من النساء في البيوت والأولاد الذين لم يقرءوا يظنون أن الوتر ليس بمؤكد، فينبغي أن نبلغ أهلنا بأن الوتر سنة مؤكدة لا ينبغي للإنسان أن يدعه. ***

353 - وعن جابر (رضي الله عنه): "أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قام في شهر رمضان، ثم انتظروه من القابلة يخرج، وقال: إني خشيت أن يكتب عليكم الوتر". رواه ابن حبان. المشهور في هذا الحديث أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قام بهم ثم تأخر، وقال: "إني خشيت أن تفرض عليكم"، يعني: قيام الليل في رمضان، فأخر النبي (صلى الله عليه وسلم) لما صلى ثلاث ليال، وقال: "إني خشيت أن يفرض عليكم القيام". فإذا قال قائل: كيف يخشى أن يفرض القيام وقد قال الله (عز وجل): "أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي"؟ قلنا: لأنه ربما إذا ألزم الناس أنفسهم بأمر أن يلزمهم الله به كما ألزم بني إسرائيل الرهبانية التي ابتدعوها ولم يفرضها الله عليهم، لكن لما ابتدعوها لأنفسهم ألزموا بها. 354 - وعن خارجه بن حذافة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إن الله أمدكم بصلاةٍ هي خير لكم من حمر النعم. قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الوتر، ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر". رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الحاكم. 355 - وروى أحمد: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده نحوه. هذا الحديث فيه بيان متى يكون الوتر؟ وما وصفه؟ بين النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث أنه ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وقوله: "ما بين الصلاة والعشاء"، يعني: وسن فيها قيام الليل إذا أراد أن يقوم لقوله: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا"، لكن لو أن الإنسان لم يرد أن يصلي راتبة العشاء وأوتر بعد صلاة الفريضة فالوتر صحيح؛ لأن وقته يدخل من بعد صلاة العشاء، وقوله: "ما بين صلاة العشاء" ولم يقل: ما بين وقت العشاء، يدل على أن الإنسان لو أوتر قبل صلاة العشاء فإنه لا وتر له، فلو أن رجلًا قال: إن بعد صلاة العشاء مباشرة عندي شغلًا وسأوتر قبل صلاة العشاء؛ لأنه من حين يسلم أذهب إلى شغلي، قلنا هذا: الوتر لا يصح؛ لأن الوتر لا يكون إلا من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وعلم من ذلك: أنه إذا طلع الفجر انتهى وقت الوتر، فمن لم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر فإنه لا يوتر طلوع الفجر، وصلاة الفجر لأنه انتهى الوقت، ولكن الذي ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) انه يصلي ما فاته من صلاة الليل

يصليها في النهار، وكان (صلى الله عليه وسلم) إذا صلاها لا يوتر بل يشفع فيصلي إذا غلبه نوم أو وجع، ولم يقم بالليل يصلي من النهار ثنتي عشرة ركعة. 356 - وعن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا". أخرجه أبو داود بسند لين، وصححه الحاكم. 357 - وله شاهد ضعيف عن أبي هريرة ط عند أحمد. 358 - وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "ما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثًا. قالت عائشة، فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة، إن عيني تنامان ولا ينام قلبي". متفق عليه. - وفي رواية لهما عنها: "كان يصلي من الليل عشر ركعاتٍ، ويوتر بسجدةٍ، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة ركعة. هذا في بيان ما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يصلي من الليل، كم ركعة يصلي؟ سئلت عائشة (رضي الله عنها) كيف كانت صلاة النبي (صلى الله عليه وسلم) في رمضان؟ فقالت: "ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره عل إحدى عشرة ركعة"، ثم فصلت هذه الركعات فقالت: "يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهم وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا"، كم الجميع؟ إحدى عشرة ركعة، وقولها (رضي الله عنها): "يصلي أربعًا"، يحتمل أن يصليهن بسلام واحد ثم يصلي أربعًا أخرى بسلام واحد، ثم يصلي ثلاثًا بسلام واحد، ويحتمل أنه يصلي أربعً متشابهات في الطول، لكن يسلم من كل ركعتين، ثم يفصل ثم يصلي أربعًا متشابهات في الطول، ثم يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بثلاث، أما الاحتمال الأول فإنه يؤيده ظاهر اللفظ، وأما الاحتمال الثاني فإنه يؤيده قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "صلاة الليل مثنى مثنى"، وكذلك حديث ابن عباس (رضي الله عنه): : أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قام يصلي من الليل فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر"، فهذا يسلم من كل ركعتين.

صفات صلاة الوتر

وعلى كل حال: الذي يظهر لي أن الاحتمال الثاني أقرب، بمعنى: أن يصلي أربعًا متشابهات، لكن على ركعتين ركعتين ليوافق الأحاديث العامة في أن صلاة الليل مثنى مثنى، ولكن لما كانت هذه الأربعة الأولى متشابهات، ثم يفصل، ثم يأتي بأربع أخرى قالت: "يصلي أربعًا، ثم يصلي أربعً"، فهذا يدل على أن الأفضل للإنسان ألا يزيد على إحدى عشرة ركعة، لكن إذا كان نشيطًا ومعه وقت فيطل القراءة والركوع والسجود والقعود، وإن كان الوقت قليلًا أو ليس عنده نشاك فليقصر، كما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يفعل، فإنه كان يقوم ويصوم ويترك الصون والقيام- يعني: طول القيام- كل ذلك بحسب حاله، وهكذا ينبغي للإنسان في عبادة ربه أن يعطي النفس حظها، فإذا كلت من عمل معين واتجهت إلى آخر- وكل منهما ليس بواجب- فإنه قد يكون الخير في المفضول، لاتجاه النفس بله وقبولها إياه، فيكون الإنسان في عبادة الله (عز وجل) بسحب انشراح صدره، وطمأنينة قلبه، وهذا في غير الواجبات، أما الواجبات فلابد منها. وفي هذا الحديث دليل على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) تنام عيناه ولا ينام قلبه، فالأشياء المحسوسة ينام عنها، وأما الأشياء التي تتعلق بالقلب فإنه لا ينام عنها، ولذلك لما ساروا في الليل في بعض أسفاره وعرسوا في آخر ولما نزلوا قال: "من يرقب لنا الصبح؟ "، فقال بلال: أنا يا رسول الله، ولكنهم ناموا جميعًا حتى طلعت الشمس، فلم يعلم النبي (صلى الله عليه وسلم) بطلوع الفجر؛ لأن عينه تنام، وطلوع الفجر أمر حسي يدرك بالرؤية، وأما الأمر الذي يتعلق بالقلب والعقل فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا ينام عنه، ولذلك قال أهل العلم: أن نوم النبي (صلى الله عليه وسلم) لا ينقض وضوءه، وقال: إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يحتلم؛ لأن الاحتلام من الشيطان، ولأن الاحتلام لا يكون إلا إذا نام القلب، أما مع يقظة القلب فالاحتلام لا يأتي، وهذا كله داخل في قوله (صلى الله عليه وسلم): "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي"، فما يدرك بالقلب فالرسول (صلى الله عليه وسلم) لا ينام عنه، وما يدرك بالعين وبالحس فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كغيره من الناس ينام عنه. صفات صلاة الوتر: 359 - وعنها (رضي الله عنها) قالت: "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجل في شيء إلا في آخرها". 360 - وعنها (رضي الله عنها) قالت: "من كل الليل قد أوتر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فانتهى وتره إلى السحر". متفق عليهما. هذا الحديث الأول أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يوتر أحيانًا بخمس ركعات لا يجلي إلا في آخرهن، وهذا أحد صفات الوتر؛ لأن الوتر قد يكون بركعة وبثلاث وبخمس وبسبع وبتسع

الحث على قيام الليل والوتر

وبإحدى عشرة، إذا أوتر بثلاث فله الخيار بين: أن يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي الثالثة، أو أن يصلي الركعات الثلاث كلها بسلام واحد وتشهد واحد، فيكون سردًا بتشهد واحد لئلا يشبهها بصلاة المغرب، وإذا أوتر بخمس فإنه لا يجلس إلا في آخرهن يسردهن سردًا، كما كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يفعل، وكما روته عنه عائشة (رضي الله عنها)، وإذا أوتر بسبع فإنه يسردهن سردًا أيضًا، فلا يجلس إلا في آخرهن كما روت ذلك أم سلمة (رضي الله عنها) وإذا أوتر بتسع فإنه يسرد ثمانيًا ويجلس ويتشهد التشهد الأول ثم يقوم ويصلي التاسعة ويتشهد الأخير ثم يسلم، وإذا أوتر بإحدى عشرة فإنه يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة كما وصف ذلك ابن عباس (رضي الله عنه) لصلاة النبي (صلى الله عليه وسلم) حين نام عنده، فإنه ذكر أنه صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم واحدة، فهذه صفات الوتر الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأي صفة فعلت الوتر أجزاك ذلك، ولكن هذا على حسب نشاطك وقوتك. وأما قولها في الحديث الثاني: "من كل الليل قد أوتر النبي (صلى الله عليه وسلم): من أوله وأوسطه وآخره، وانتهى وتره إلى السحر"، فالمعنى: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يوتر من أول الليل أحيانًا، ومن وسطه أحيانًا، ومن آخره إلى السحر أحيانًا حسب نشاطه (صلى الله عليه وسلم)، لكن الغالب آخر الليل، وفي قولها: "انتهى وتره إلى السحر" دليل على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما يستمر في الوتر إلى طلوع الفجر، بل إلى السحر؛ لأن الغالب أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ينام قبل الفجر، كما في صحيح البخاري أنها قالت معنى الحديث: أنك ما ألفيته سحرًا إلا نائمًا، يعني: أنه (صلى الله عليه وسلم) ينام قبل الفجر في السحر في آخر الليل، وهذا يوافق الحديث الثابت في الصحيحين: "أفضل القيام قيان داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه"، أما وقت الوتر المحدد الواجب فهو إلى طلوع الفجر كما سبق. الحث على قيام الليل والوتر: 361 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "يا عبد الله، لا تكن مثل فلانٍ، كان يقوم من الليل، فترك قيام الليل". متفق عليه. حديث عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) نهاه الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يكون مثل شخص لم يعين، وهذا إما أم يكون مبهمًا في كلام الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ويمكن أن يكون مبهمًا في كلام عبد الله بن عمرو؛ يعني: يمكن أن يكون الرسول عينه لا تكن مثل فلان وسماه، وابن عمرو كتمه سترًا عليه، ويحتمل أن

يكون الرسول صلي الله عليه وسلم هو الذي ستره ولم يعينه سترًا عليه أيضًا، وعلي كل حال: فالمقصود هو المعني دون الشخص، وهو أنه لا ينبغي للإنسان إذا فعل عبادة من العبادات أن بقطعها، فإن أحب العمل إلي الله أدومه وإن قل بل يديم العمل؛ لأن كونه يقطع العمل الصالح بعد أن تلبس به قد يفتح له باب التهاون في جميع الأعمال الصالحة ويدع أحيانًا من الرواتب، فالذي ينبغي أن يمرن الإنسان نفسه علي العبادة ويستمر عليها ولو كانت قليلة ففيها خير وبركة. 362 - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوتروا يا أهل القرآن، فإن الله وتر يحب الوتر". رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة. هذا الحديث فيه أمر أهل القرآن أن يوتروا، وخص أهل القرآن؛ لأن أهل القرآن هم الذين يقيمون الليل بكتاب الله عز وجل، كما قال الله تعالي: {أمن هو قانت أناء الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه} [الزمر: 9]، وقال تعالي: {إن الذين يتلون كتب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية يرجون تجارة لن تبور 29} [فاطر: 29]. وقوله: "إن الله وتر" يعني: واحدا- سبحانه وتعالي- لا شريك له في إلوهيته ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، وقوله: "يحب الوتر"، فيه إثبات محبة الله صلى عز وجل، وأن من صفاته أنه يحب، ومحبة الله تعالي تتعلق بالأعمال، وتتعلق بالأماكن، وتتعلق بالعاملين أيضًا: {إن الله يحب المتقين 4} [التوبة 4]، {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا} [الصفا: 4]، وأحب الأعمال إلي الله كذا كذا، وأحب البقاع إلي الله مساجدها، فمحبة ثابتة حقًا، وقوله: "يحب الوتر" ليس معني ذلك أن الإنسان يوتر في كل شيء، ولكن المعني: أنه عز وجل يحب الوتر، فيشرع ما شاء علي وتر، ويخلق ما شاء علي وتر، فالسموات سبع، والأرضون سبع، والصلوات خمس، وتختم بالوتر، وصلاة الليل، وصلاة النهار، ولكن هذا المعني: أن الإنسان يقتصد الإيتار في كل شيء، حتى نقول: إن أردت أن تأكل فكل وترًا، إذا أردت أن تمشي فامش وترًا، إذا أردت لبس الثياب وترًا، وما أشبه ذلك؟ لا؛ لأن هذه أمور من العبادات تتوقف علي ورود الشرع بها، ولهذا قال أنس رصي الله عنه لما حكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان لا يخرج لصلاة عيد الفجر حتى يأكل تمرات. قال: "ويأكلهن وترًا"، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتاد الإيتار في كل ما يأكل لم يكن هناك حاجة إلي أن يذكر أنس أنه يأكلهن في ذلك اليوم وترًا؛ لأنه لو كان هذا من عادته لكان ذلك ثابتًا في تمرات يوم العيد وغيرها.

لا وتران في ليلة

والحاصل: أن الله عز وجل وتر يحب الوتر، لكن الإيتار يتوقف علي ما جاء فيه الوتر. 363 - وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا". متفق عليه. هذا الحديث يدل علي أن الإنسان مأمور بأن يجعل آخر صلاته بالليل وترًا، فإذا كان يريد أن يختم صلاته بالليل قبل أن ينام أوتر قبل أن ينام، وإن كان يريد أن يقوم من آخر الليل فلا يوتر حتى يقوم من آخر الليل، ثم يوتر بعد ذلك، هذا هو الأفضل، وهو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لو أوتر الإنسان في أول الليل يظن أنه لا يقوم من آخره، ثم قام من آخره فإنه يصلي لكن لا يصلي وترًا؛ لأن الوتر انتهي وأتي الإنسان بما أمر به فيه وإنما يصلى ركعتين ركعتين، حتى يطلع الفجر والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: لا تصلوا بعد الوتر، لو قال: لا تصلوا بعد الوتر لقلنا: إذا قام الرجل بعد الوتر قلنا: لا تصل. إنما قال: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" يعني: إذا ختمتم صلاة الليل فاختموها بالوتر، وفرق بين العبارتين: العبارة لا تصلوا بعد الوتر تدل علي أنه لا صلاة بعد الوتر، كما لو قيل: لا تصلوا بعد صلاة الصبح، أما إذا قيل: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" فنعم أنت الآن فعلت ما أمرت به، وجعلت آخر صلاتك بالليل وترًا، ثم قمت علي خلاف ما تظن، ما ظننت أن تقوم في آخر الليل فصل ركعتين ركعتين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثني مثني"، أما من قال من أهل العلم: عليك أن تصلي ركعة لتشفع بها الركعة التي صليتها قبل أن تنام، ثم تصلي ركعتين ركعتين، ثم توتر بركعة في آخر ذلك، فهذا ضعيف؛ لأنه وإن كان قد قاله من قاله اجتهادًا فليس كل مجتهد مصيبًا، والصواب: أنه لا تقتضي للوتر ولا إعادة له، وأن من أوتر أول الليل ظنًا منه أنه لا يكون قد قام بما أمر به قلنا: إن قام فليصل ركعتين ركعتين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثني مثني". لا وتران في ليلة: 364 - وعن طلق بن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا وتران في ليلية رواه أحمد والثلاثة، وصححه ابن حبان. تقدم أن الوتر سنة مؤكدة لا ينبغي للإنسان أن يدعه، وأن أقله ركعة، وأكثره احدي عشرة ركعة ولا يتكرر الوتر، يعني لا يكون الوتر مرتبين ولا توتر ثلاثًا.

ما يقرأ في الوتر

فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا وتران في ليلة"، يعني: ولا ثلاثة؛ لأن نفي الاثنين يقتضي نفي الثلاثة، علي أن المثني أحيانًا يراد به مطلق التكرار وإن زاد علي الاثنين كما في قول الملبي: "لبيك اللهم لبيك"، فإن هذا صورته صورة المثني، ومعناه: العدد الكثير وكما في قوله تعالي: {ثم أرجع البصر كرتين} [الملك: 4]، يعني: لو رجعت البصر كرات كثيرة لرجع إليك البصر خاسئًا وهو حسير، وبذلك نعرف ضعف قول من يقول: إن الإنسان إذا أوتر في أول الليل ظنًا منه أنه لا يقوم ثم قام في آخره أنه يصلي أول ما يصلي ركعة؛ لينتقض بها الوتر الأول ثم يصلي ركعتين ركعتين، ويختم صلاته بوتر، وهذا ضعيف، بل نقول لمن أوتر في أول الليل ظنًا منه أنه لا يقوم، ثم قام: صل ركعتين ركعتين؛ "صلاة الليل مثني مثني"، وأما الوتر السابق فهو علي ما هو عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" ولم يقل: لا تصلوا بعد الوتر، وقد سبق لنا الفرق بين العبارتين. ما يقرأ في الوتر: 365 - وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، و: {قل يأيها الكافرون} [الكافرون]. و: {قل هو الله أحد} [الإخلاص] ". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. وزاد: "ولا يسلم إلا في آخرهن". 366 - ولأبي داود، والترمذي نحوه عن عائشة رضي الله عنها وفيه: "كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة: {قل هو الله أحد} [الإخلاص]. والمعوذتين". هذه الأحاديث فيها بيان ما يقرأ في الوتر، والوتر كغيره من الصلوات لا يجب فيه إلا قراءة الفاتحة، هي التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وما سوي ذلك فهو سنة، لكن ما ورد معينًا فالأفضل أن يقرأ به الإنسان، وما كان مطلقًا فإن الإنسان يقرأ بما يشاء، مما ورد معينًا، إذا أوتر الإنسان بثلاث فإنه يقرأ في الركعة الأولي: {سبح اسم ربك الأعلى}، وفي الثانية: {قل يأيها الكافرون}، وفي الثالثة: {قل هو الله أحد}، والإيتار بهذه السور الثلاث ظاهر؛ لأن في قوله تعالي: {سبح اسم ربك الأعلى (1) الذي خلق فسوي (2)} [الأعلى: 1 - 2] ... إلخ، فيها ذكر ابتداء الخلق وتقدير الله عز وجل له والإخبار بأن من تزكي فهو مفلح، وفيه أيضًا الحث علي الرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا. وأما قوله: {قل يأيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ففيهما الإخلاص؛ ففي {قل يأيها الكافرون} الإخلاص بالقصد والإرادة، بل والعمل أيضًا، وفي {قل هو الله

أحد} الإخلاص بالعقيدة، بأن تعتقد أن الله -سبحانه وتعالي- واحد في ذاته وصفاته، وأما حديث عائشة الذي فيه الزيادة بأن يقرأ مع {قل هو الله أحد} أحد المعوذتين، فإن أتي بها الإنسان فهو حسن، وإن لم يأت فلا حرج. 367 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوتروا قبل أن تصبحوا". رواه مسلم. -ولابن حبان: "من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له". هذا يقول صلى الله عليه وسلم: "أوتروا قبل أن تصبحوا"، وفي الحديث الثاني أن من أدركه الفجر قبل أن يوتر فلا وتر له. فيستفاد منه: أنه إذا طلع الفجر وأنت لم توتر، فلا توتر ولا قبل صلاة الفجر، خلافًا لمن أجاز ذلك من أهل العلم، وقال: إنه يجوز إذا طلع الفجر وأنت لم توتر يجوز لك أن توتر بعد طلوع الفجر، وقبل الصلاة، ولكن ظاهر الأحاديث يدل علي أنه إذا طلع الفجر ينتهي الوتر، ولكن ماذا يصنع الإنسان إذا لم يوتر؟ يصنع ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غلبه نوم أو وجع صلى في النهار ثنتي عشرة ركعة، وعلي هذا يصلي من الضحى عدد وتره، ولكن يضيف إليها ركعة ليكون شفعًا، فإذا كان من عادته أن يوتر بثلاث ولم يتيسر له الوتر، فإنه يقضي في النهار أربعًا، وإذا كان يوتر بخمس يوتر بست، وهكذا. وفي هذا دليل علي أن العبادات المؤقتة لا تصح بعد وقتها، كما أنها لا تصح قبل وقتها، وبناء علي ذلك يتبين أن الصواب أن من ترك فريضة حتى خرج وقتها متعمدًا بدون عذر فإنه لا صلاة له ولو صلى ألف مرة، ولكن ليس عليه إلا أن يتوب ويستغفر ويخلص لله عز وجل في توبته، وأما أن يلزم بالقضاء وقد ترك الصلاة عمدًا حتى خرج وقتها فإنه لا يلزم بها ليس رأفة به وتسهيلًا عليه، ولكنه لعدم قبولها منه، والله عز وجل لا يقبل إلا ما كان خالصًا صوابًا، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، أي: مردود، فإذا كانت صلاة العبد مؤقتة بوقتها فإنها لا تصح بعد وقتها إلا في حال العذر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك".

368 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر". رواه الخمسة إلا النسائي. قوله صلى الله عليه وسلم: "فليصل إذا أصبح أو ذكر"، لم يبين كيف يصلي، ولكن فعله صلى الله عليه وسلم مبين لقوله، فتكون صلاة الوتر قضاء مشفوعًا بركعة، وقوله: "فليصل إذا أصبح أو ذكر" يدل علي أنه لو فرض أنك نسيت الوتر هذه الليلة ولم تذكره إلا في الليلة الثانية، فإنك توتر، لكن تقضيه شفعًا؛ لأنه فات وقته. شبهة والرد عليها: 369 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل". رواه مسلم. تقدم الكلام علي ما يقتضيه هذا الحديث، ولكن في قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن صلاة آخر الليل مشهودة" يعني: تشهدها الملائكة، وتكون موافقة لوقت نزول الرب عز وجل، فإن الله تعالي ينزل كل ليلة حين يبقي ثلث الليل الآخر إلي السماء الدنيا ويقول: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر"، كل ليلة في كل ليالي السنة، وليس في رمضان وحده، وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عدد كثير من الصحابة - رضي الله عنهم-، حتى قال بعض أهل العلم: إنه من المتواتر، ولم يسأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم: من الذي ينزل؟ لأن الأمر أوضح من أن يسأل عنه، وكل شيء من الأفعال يضيفه الله إلي نفسه فإن المراد به: ذات الله عز وجل، فمثلًا {خلق السموات والأرض} [الأعراف: 54]، يعني: هو بنفسه الذي خلقها، وكذلك {استوي علي العرش} [الأعراف: 54]، ما حاجة أن نقول: بذاته؛ لأنه فعل أضيف إلي الله، فمن يقوم به؟ يقوم به الله عز وجل، وهكذا كل شيء أضافه الله إلي نفسه فالمراد به: ذاته، وعلي هذا فالصحابة - رضي الله عنه- ما سألوا ما الذي ينزل يا رسول الله: هل هو أمره؟ هل هو رحمته؟ هل هو ملك من ملائكته؟ هل هو نفسه ينزل؟ ما سألوا عن ذلك، لماذا؟ لأنه أضيف إلي نفسه "ينزل ربنا"، فكما أنهم لم يسألوا عن قوله تعالي: {خلق السموات والأرض}، فهم-هنا-نفس الشيء؛ لأنه فعل أضيف إلي الله، فيكون من الله- سبحانه وتعالي-، ولهذا يخطئ خطأ كبيرًا من يظن أن الصحابة- رضي الله عنهم- لم يفهموا معاني أسماء الله وصفاته وأنهم فوضوها تفويضًا، وأنهم لا يعرفون إلا مجرد التلاوة فقط، بل نقول: هم أعلم الناس بمعناها، ويعرفونها معرفة

تامة، والذين قالوا: إن الله لا ينزل وإنما الذي ينزل ملائكته أو رحمته أو أمره، جنوا علي النص جنايتين-والعياذ بالله-: الجناية الأولي: أنهم صرفوه عن ظاهره، وهذه جناية كبيرة؛ لأنها من تحريف الكلم عن مواضعه. والجناية الثانية: أنهم أثبتوا له معني ما ذكره الله تعالي ولا رسوله، فيكونوا قد ألحدوا من وجهتين من جهة نفي ما دل عليه اللفظ، ومن جهة إثبات ما لم يدل عليه، والإلحاد في كلام الله ليس بالأمر الهين، قال الله تعالي: {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا} [فصلت: 40]، وقد ذم الله تعالي بني إسرائيل لكونهم يحرفون الكلم عن مواضعه: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه} [النساء: 46]، ولهذا كل من حرف كلام الله أو كلام رسول صلي الله عليه وسلم فإنه فيه شبه من اليهود، فالحذر الحذر من أتباع أولئك الذين يحرفون ما نطق الله به وما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم بأبلغ كلام وأوضحه، صادر عن عالم به وبمقتضاه، وصادر عن ناصح لمن يخاطب، فالله عز وجل يقول: {يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء: 176]، إذن هل أراد الله منا بكلامه أن نضل؟ لا، {يبين الله لكم أن تضلوا}، {يريد الله ليبين لكم ويهديكم} [النساء: 26]. هذا ما يريده الله لعباده، والنبي صلي الله عليه وسلم مبلغ عن ربه ومبين، قال الله تعالي: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]. فهو صلى الله عليه وسلم يريد البيان، ولا أحد يشك في أنه صلي الله عليه وسلم أصلح الخلق للخلق كما أنه لا أحد يشك في أنه أعلم الخلق بالله، ولا أحد يشك في أنه أفصح الخلق، فقد أجتمع في كلامه كمال الإرادة، وكمال النصح، وكمال البيان، وما بعد ذلك إمكان لأن يحرف كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يقال: أن المراد به كذا وكذا ويصرف عن ظاهرة، ثم إن في تفسير ذلك بنزول أمره فيه أيضًا خطأ من جهة: أن أمر الله هل ينتهي بالسماء الدنيا؟ لا؛ {يدبر الأمر من السماء إلي الأرض} [السجدة: 50]، ليس منتهاه السماء الدنيا، فإذا قالوا: الرحمة نفس الشيء، نقول: رحمة الله ليست تنتهي إلي سماء الدنيا، بل تنزل في الأرض، ورحمة الله أيضًا في الثلث الأخير أو في كل وقت؟ وكذلك لو قال أحد: إنه ملك ينزل، نقول: سبحان الله هل يمكن للملك أن يدعي لنفسه الإلوهية ويقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ، المهم: أن تحريف الكلم عن مواضعه هذا من أخطر ما يكون علي الإنسان، ونحن في الحقيقة لا نعلم عن الله إلا ما أخبرنا الله به ورسوله؛ لأن هذا من أمور الغيب، فما الواجب علينا إذا كنا لا نعلم إلا ما أخبرنا الله به ورسوله؟ الواجب علينا: أن نقول ما قال الله وقال رسوله ولا نتبع ذلك بعقولنا، علي أن هذه العقول التي أوجبت علي المتصفين بها أن يحرفوا كلام الله ورسوله لا شك في أنها عقول فاسدة باطلة؛ لماذا؟ لأنه لقصورهم ما فهموا من هذه النصوص إلا مثل ما يفهمون منها أنه متصف به الشبر فإنهم لما فهموا منها ذلك وأنها تقتضي التمثيل صاروا يحرفونها عن مواضعها

فعطلوها، ولهذا نقول إن أهل التأويل جمعوا بين التمثيل والتعطيل؛ لأنهم مثلوا أولًا ثم عطلوا ثانيًا، ولهذا نقول: كل معطل ممثل شاء أم أبي؛ لأنك لو سألته: لماذا حرفت هذا الكلام بأن صرفته عن ظاهرة؟ قال: لأن ظاهره يقتضي التمثيل؛ سبحان الله، الله ورسوله يخاطبان الناس فيما يقتضي أن يكون الله له مثيل، هل هذا معقول؟ يعني: أمعقول أن يكون الكتاب والسنة لا يدلان فيما يتعلق بصفات الله إلا علي ما هو كفر؟ ! لأن تمثيل الله بخلقه كفر لا شك فيه! وهو تكذيب لقوله تعالي: {ليس كمثله شيء} فهل يقول أحد: إن ظاهر كتاب الله وسنة رسوله هو: التمثيل الذي هو كفر؟ لا أحد يقول إلا من اجتالته الشياطين فصرفته عن فطرته، ونحن نقول: بل ظاهر كلام الله ورسوله حق علي الوجه اللائق به، والعقل السليم يستوجب الجمع بين ثبوت الصفة، ونفي المماثلة، فنقول: كل هذه الصفات حقيقية، لكن بدون مماثلة، وهذه القاعدة هي القاعدة السليمة الواجبة علي كل من أراد الخلاص ماذا تقول إذا وقفت بين يدي الله عز وجل والله سبحانه يقول: قال لك رسولي: "ينزل ربنا إلي السماء الدنيا"، وأنت تقول: لا، لا ينزل، لكن ينزل أمره. ما الجواب؟ والله ما يجدون جوابًا. وكذلك: {وجاء ربك والملك} [الفجر: 22]، إذا قالوا: الله لا يجيء. قلنا: سبحان الله، الله يقول: {وجاء ربك والملك} وأنتم تقولون: وجاء أمر ربك والملك، ما الذي يجعل الملك يأتي والرب لا يأتي؟ ثم من الذي يقول: إن الله أراد الأمر ولم يبينه لعباده ولا بينه رسوله؟ هل هذا إلا غاية ما يكون من التضليل وجعل كلام الله تعالي بمنزلة الأحادي والألغاز التي لا يفهمها إلا ذاك عن ذلك؟ ! فأنا أحذركم أيها الإخوة من أن تضلوا في مثل هذه التأويلات الباطلة، وأن تقولوا: كل من عند الله وهو صادر عن علم ولسنا أعلم بالله من نفسه، ولسنا أعلم بالله من رسوله، ولسنا أصدق نية ونصحًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسنا أبلغ كلامًا ولا أفقه. إذن يجب علينا أن نتلقى هذه الأمور الغيبية علي ما جاءت به بدون تحريف وبدون تعطيل، ونكون بذلك سالمين، وإن أي إنسان يؤول فإننا سنقول له: ما دليلك علي تأويلك، وما دليلك علي المعني الذي أثبته لهذا النص؟ نطالبه بأمرين، ولا يمكن أن يجد لذلك جوابًا أبدًا، نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق. 370 - وعن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل طلوع الفجر". رواه الترمذي.

صلاة الضحى

صلاة الضحى: 371 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعًا، ويزيد ما شاء الله". رواه مسلم. 372 - وله عنها: "أنها سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه". 373 - وله عنها: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قط سبحة الضحى، وإني لأسبحها". هذه الأحاديث في بيان حكم صلاة الضحى، صلاة الضحى أقلها ركعتان وأكثرها ما شئت، وابتداؤها من ارتفاع الشمس قيد رمح إلي قبيل الزوال، ارتفاع الشمس قيد رمح يكون إذا مضي نحو ربع الساعة من طلوع الشمس، وقبيل الزوال إذا بقي علي الزوال خمس دقائق أو نحوها، فيكون وقتها كل الضحى، وهي سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وأمره وإرشاده. أما فعله؛ فحديث عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى في الضحى أربعًا ويزيد ما شاء الله"، قالت: "يصلي في الضحى"، وهذا دليل علي ثبوت هذه السنة بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فعلها وهي عبادة فتكون مشروعة. وأما أمره بذلك؛ فإنه أمر أبا هريرة رضي الله عنه أن يصلى ركعتين كل يوم، قال: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام"، وكذلك أوصي أبا الدرداء بمثل هذه الوصية. وأما ترغيبه فيها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن: "علي كل سلامي من الناس صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس"- السلامي يعني: المفاصل والعظام، كل عظم عليك صدقة تتصدق عنه كل يوم إذا طلعت الشمس، كل تسبيحه صدقة، وكل تهليله صدقة، وكل تحميده صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة-، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر ذلك: "ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى"، فهذه السنن في ركعتي الضحى تدل علي أنها مشروعة. وقد أختلف أهل العلم- رحمهم الله- هل هي مشروعة أو غير مشروعة، أو مشروعة لأناس دون آخرين؟ فقال بعض أهل العلم: إنها غير مشروعة، واستدلوا بالحديثين اللذين ذكرهما المؤلف

وفيهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلى الضحى إلا إذا جاء من مغيبه، وإذا جاء من مغيبه فإنه يصلي؛ لأنه يشرع لكل إنسان قدم البلد أن يصلي ركعتين قبل أن يدخل إلي بيته، وهذه سنة يهملها كثير من الناس، أما تهاونًا أو جهلًا بها، فإذا قدمت إلي بلدك أول ما تقدم اذهب إلي المسجد وصل ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، بل أمر به جابر بن عبد الله رضي الله عنه لما قدم جابر بجمله الذي اشتراه منه النبي صلى الله عليه وسلم، واستثني جابر أن يركب عليه إلي المدينة، فلما قدم المدينة وجاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم وجده عند المسجد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صليت ركعتين؟ ". قال: لا. قال: "فادخل واركع ركعتين"، فدل هذا علي أنه يشرع لكل إنسان أن يصلي ركعتين في المسجد إذا دخل البلد، ولا فرق بين أن يصليهما في مسجد الحي الذي هو فيه أو في أي مسجد من مساجد البلد. وقالت في حديثها الآخر قالت: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى وإني لأسبحها"، قالت: ما رأيته يفعلها، وهذا نفي مطلق عام، لكنها تقول: وإني لأسبحها، يعني: لأصليها، فأستدل بعض أهل العلم بهذين الحديثين علي أن صلاة الضحى ليست بسنة، وفصل بعض أهل العلم في ذلك، فقال: إذا كان الرجل يعتاد قيام الليل فإنه لا يصليها، وإن كان لا يصلي الليل فإنه يصليها، واستدلوا لذلك بما في حديث عائشة حيث ذكرت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصلي الضحى؛ لأنه كان يقوم من الليل صلى الله عليه وسلم، وأما من لا يقوم كأبي هريرة رضي الله عنه لا يقوم الليل، ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوتر قبل أن ينام؛ لأنه كان يتحفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الليل، ولا شك أن العلم تحفظًا أو تعلمًا أفضل من قيام الليل، ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوتر قبل أن ينام، وأمره أن يصلى ركعتي الضحى، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وقال آخرون من أهل العلم: إن ركعتي الضحى سنة، لكن لا تسن المداومة عليها، بل يصلى أحيانًا ويدع أحيانًا، ولكن الذي يترجح لي أنها سنة مطلقة ولو لم يكن منها إلا أنها تكفي عن الصدقات التي تجب علي كل سلامي من الناس، فعلي هذا نقول: صل ركعتي الضحى؛ لأنها تجزئك عن كل صدقة عليك في كل سلامي منك. بقي عندنا في حديث عائشة وأمر آخر هو أنها تقول: "ما رأيته يصليها أو يسبحها وإني لأسبحها"، فكيف تخالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: لو أراد أحد أن يقول: هذا مطعن في عائشة رضي الله عنها إذ كيف تقول: "ما رأيته يصلي سبحة الضحى وإني لأسبحها"، وهل هذا إلا مخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: لا، لكنها رضي الله عنه تري من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدع العمل مخافة أن يفرض علي الناس، وقد فهمت هي رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه الصلاة لكنه يتركها مخافة أن تفرض علي الناس، وهذا لا شك فيه، أما أنها تخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا بعيد جدًا.

10 - باب صلاة الجماعة والإمامة

374 - وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال". رواه الترمذي. 375 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "من صلى الضحى ثنتى عشرة ركعة؛ بني الله له قصرًا في الجنة". رواه الترمذي واستغربه. 376 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي، فصلى الضحى ثماني ركعات". رواه ابن حبان في صحيحة. هذه الأحاديث تدل علي ما سبق من مشروعية صلاة الضحى، وتدل علي أنه كلما تأخر الإنسان فيها فإنه أفضل، لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال، وقوله المؤلف: رواه الترمذي غريب منه، فالحديث في صحيح مسلم، ولعل المؤلف أراد أنه بهذا اللفظ بعينه في سنن الترمذي فينبغي أن يراجع ويعلق علي الكتاب، فهذا الحديث يدل علي أنه كلما تأخرت في صلاة الضحى فإنه أفضل، ولكن في آخر الضحى مشغولًا بتجارته أو ما أشبه ذلك وخاف إن أخرها إلي هذا الوقت أن ينساها أو ألا يتسنى له فعلها فإنه يصليها في أول الوقت ولا حرج عليه. 10 - باب صلاة الجماعة والإمامة 377 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". متفق عليه. 378 - ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "بخمس وعشرين جزءًا". 379 - وكذا للبخاري: عن أبي سعيد، وقال: "درجة". "صلاة الجماعة" يعني: أن يجتمع الناس علي الصلاة، وقد أجمع العلماء-رحمهم الله- علي أنها من أجل الطاعات وأفضلها.

حكم صلاة الجماعة

حكم صلاة الجماعة: والعلماء اختلفوا فيها علي ثلاثة أقوال: فمنهم من قال: إنها سنة مؤكدة، ومنهم من قال: إنها فرض كفاية، ومنهم من قال: إنها فرض عين، وعلي الأقوال الثلاثة لا تبطل الصلاة ولو تركها الإنسان ولو بلا عذر، ومنهم من قال: إنها شرط لصحة الصلاة، وعلي هذا القول فإذا ترك صلاة الجماعة بلا عذر بطلت صلاته، وهذا القول الأخير هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ورواية عن أحمد أن الرجل إذا ترك الجماعة بلا عذر فإنه لا تقبل صلاته، ولو صلى ألف مرة وأنه إذا تركها بلا عذر فهو كمن صلى بلا وضوء، يعني: لا تصح صلاته ويجب عليه أن يطلب الجماعة في أي مسجد، ولكن القول الراجح من هذه الأقوال: أنها فرض عين؛ أي: أنه واجب علي كل مسلم من الرجال أن يصلى مع الجماعة، ولكنه لو ترك الصلاة مع الجماعة أثم وصحت صلاته، ويدل لذلك حديث ابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد، وهذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف تدل علي أن صلاة الفذ صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"؛ ولو كانت صلاة الفرد غير صحيحة ما صار فيها فضل أبدًا. وعليه يكون حمل هذه الأحاديث علي المعذور فيه نظر؛ لأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إن هذه الأحاديث في المعذور إذا تأخر عن صلاة الجماعة بعذر، فإنه يفوته خمس وعشرون درجة، ولكن كلامه هذا أيضًا فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا"، والحديث في الصحيح، فدل ذلك علي أن المريض الذي يعتاد صلاة الجماعة إذا تخلف عنها كتب له أجرها كاملة. فالحاصل: أن القول الصواب أنها واجبة وأنها فرض عين، ويدل علي وجوبها الكتاب والسنة والإجماع الفعلي من الصحابة- رضي الله عنهم- أما الكتاب فقوله تعالي: {وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأركعوا مع الراكعين (43)} [البقرة: 43]، لأن الله عز وجل، يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا} [النساء: 102]، يعني: أتموا صلاتهم، {فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخري لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم} [النساء: 102]، ووجه الدلالة من الآية: أن الله أوجب علي المؤمنين أن يصلوا جماعة في حال القتال، وما وجب في حال القتال فوجوبه في حال الأمن من باب أولي، ثم في قوله في الآية: {ولتأت طائفة أخري لم يصلوا فليصلوا معك} [النساء: 102]، دليل علي أنها فرض عين؛ لأنها لو كانت فرض كفاية لسقطت بالطائفة الأولي، فلما وجب علي

الطائفة الثانية أن يصلوا دل ذلك علي أنها واجبة وجوب عين، وأما من السنة فالأدالة في ذلك كثيرة منها هذا الحديث: 380 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمره بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلي رجال لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء". متفق عليه. واللفظ للبخاري. انظر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أقسم، هل أحد استحلفه؟ لا، إذن لماذا أقسم بدون أن يستحلف؟ لأهمية الأمر، لا يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم علي شيء بدون أن يستحلف إلا لما في ذلك من الأهمية، أقسم صلى الله عليه وسلم أنه هم وأكد هذا الهم بالقسم واللام وقد- فقال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب" يجمع، "ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس"، يعني: إمامًا، "ثم أخالف إلي رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم" بالنار، الرسول صلى الله عليه وسلم أحرق عليهم، هل نقول: إن المراد يحرقها وهم فيها أو يحرقها عليهم، أي: يفسدها عليهم بالإحراق؟ لفظ الحديث يحتمل أنه يحرقها وهم فيها، أو يحرقها عليهم، أي: يفسدها عليهم، وأيا كان- فسواء كان علي الاحتمال الأول أو الثاني- فإن إحراقها إفساد للمال، ولا يجوز إفساد المال إلا بشيء واجب؛ أن المحرم لا ينتهك إلا من أجل شيء واجب، لا ينتهك من أجل شيء مباح. فعلي كل حال: أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه هم أن يحرق بيوت المتخلفين عن الصلاة؛ يعني: يحرقها عليهم بالنار، فدل ذلك علي وجوب حضور الجماعة، ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما هم بشيء محرم لولا أن ذلك في مقابل ترك واجب. قال بعض الناس الذين يرون أنها لا تجب: إنه هم ولم يفعل، نقول: لكن لولا أن هذا الهم له أثر لكان ذكره عبثًا ولغوًا، ما الفائدة في أن يخبرنا إذا صار همًا ولم يفعل ولم يرد أن يفعل فيكون إبلاغه إيانًا بذلك لغوًا لا فائدة منه، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بذلك لنعلم مدي أهمية الصلاة مع الجماعة، وأنها تصل إلي هذه الدرجة أن يهم أرحم الخلق بالخلق بتحريق بيوت هؤلاء المتخلفين عليهم بالنار، ودلالة هذا علي الوجوب من أوضح ما يكون، ثم إنه قال صلى الله عليه وسلم ذلك مبينًا أن هؤلاء المتخلفين عن الجماعة مع عظم فضلها لو أنهم حصلوا علي شيء من الدنيا زهيد لكانوا يأتون إليه بكل سهولة، وهذا كقوله تعالي: {بل قلوبهم في غمرة من هذا} [المؤمنون: 63]، يعني: قلوبهم مغطاة عن أحوال الآخرة، {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون (63)}

[المؤمنون: 63]، أي: أن هؤلاء لهم أعمال الدنيا يعملونها تمامًا، ولهذا أتي بالجملة الاسمية {هم لها عاملون} يعني: يعملونها تمامًا، لكن أمر الآخرة قلوبهم في غمرة من هذا: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون}، وهو كقوله تعالي: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (22)} [ق: 22]، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان حال هؤلاء المتخلفين عن الصلاة مع فضلها وأن همتهم دنيا فاسدة، قال: "والذي نفسي بيده لو يجد أحدهم عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء"، العشاء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ليست كما في عهدنا، في عهدنا الأنوار مضيئة والشوارع مزفلتة لا غبار ولا ظلمة، لكن في عهد الرسول مشقة في الحضور إلي صلاة العشاء، هؤلاء لو يجد أحدهم عرقًا سمينًا أتدري ما هو العرق؟ العرموش: العظم إذا أكل لحمه ولم يبق إلا بقية لحم أو ما أشبه ذلك، هذا هو العرق، "أو مرماتين"، المرماتان هما: ما بين أظلاف الشاة من اللحم أو ما بين أضلاعها، وكلاهما شيء زهيد وحقير، لكن هؤلاء لو يجدون من الدنيا هذا الشيء الحقير لشهدوا العشاء مع مشقة حضورها، لكن لأنهم يريدون الدنيا وهذه حال كثير من الناس لا أقول حال أكثر الناس، لا، حال كثير من الناس، تجده مثلًا يقف عند واحد يشتري حاجة يربح فيها نصف ريال أو مائة ريال ويترك الجماعة التي يربح فيها الريالات والحسنات المضاعفة تصل سبعًا وعشرين درجة! يترك هذا مع أن نصف الريال الذي يكسبه في الدنيا أين يذهب؟ يذهب بولًا أو غائطًا أو عرقًا كله منتن الرائحة، وما يبقي بعده يرثه من لا يقل رحمه الله وربما يبذله في معصية الله فيكون خسارة عليه من الناحيتين، لكن ثواب الآخرة يبقي إلي أبد الآبدين، ما يزول ولا يفني ولا ينقص، مدخر عند الله عز وجل؛ {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره (7)} [الزلزلة: 7]، إذن في هذا الحديث دليل علي حبوط همة هؤلاء وعلي قصر نظرهم، كيف يأتون إلي الحقير من الدنيا ويدعون الآخرة وهي أعظم وأكثر أجرًا، ولكن فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم أخالف إلي رجال" دليل علي النساء لا تجب عليهن الجماعة وهو كذلك، وهو محل إجماع من أهل العلم أن المرأة لا تجب عليها الجماعة، لكن لها أن تحضر بشرط ألا تكون متبرجة ولا متطيبة ولا مرتدية ما يكون فيه فتنة. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يشهدون الصلاة" دليل علي أنه يجب الحضور مع جماعة المسلمين، وجماعة المسلمين أين تكون؟ في المساجد، فيكون فيه دليل علي وجوب حضور الجماعة في المساجد، وأما من قال من أهل العلم: إن الواجب إقامة الجماعة ولول في البيوت فإنه قول ضعيف، وقد ذهب إلي هذا من ذهب من أهل العلم وقال: إن الواجب الجماعة دون المساجد، وقال بعضهم: الواجب الجماعة، أما المساجد ففرض كفاية؛ بمعني: إذا صلى بها من يكفي وجب علي

وجوب الحضور للجماعة في المسجد

الناس أن يصلوا جماعة في بيوتهم أو في مكاتبهم، وهذا القول يجيز من قاله أن يصلي الإنسان بامرأته ويقول: إن الجماعة تنعقد بالمرأة، نتيجة هذا القول أن يصير كل واحد هنا نحن الحاضرين يصلي في ينته مع امرأته أو أمه أو أخته أو بنته، وحينئذ ماذا تكون المساجد؟ تكون المساجد معطلة. ثم إن قوله صلى الله عليه وسلم: "أخالف إلي رجال" يدل علي أن الرجال لو أقاموها في أماكنهم يجزئ عنهم ذلك أم لا؟ لا، ما قال: إلي رجل، قال: "إلي رجال"، حتى هؤلاء الرجال لو صلوها في بيوتهم لا يجزئ، لابد أن يحضروا إلي المسجد، وهذا القول هو الراجح؛ أي: أنه يجب إقامة الجماعة في المساجد، وأن إقامتها في المساجد فرض عين وليست فرض كفاية. وجوب الحضور للجماعة في المسجد: 381 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة علي المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا". متفق عليه. - وعنه قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمي فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلي المسجد، فرخص له، فلما ولي دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب" رواه مسلم. 382 - وعن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع النداء فلم يأته؛ فلا صلاة له إلا من عذر". رواه ابن ماجه، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، وإسناده علي شرط مسلم، لكن رجح بعضهم وقفه. هذا الحديث في باب صلاة الجماعة، يقول: "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر"، وهذا كما سمعتم اختلف العلماء في رفعه ووقفه، والأظهر: أنه موقوف، وهذا يدل بظاهرة علي أن الإنسان إذا سمع النداء وجب عليه أن يحضر للمسجد، فإن لم يفعل فإنه لا صلاة له، وظاهر النفي نفي الصحة؛ لأن الأصل في النفي أن يكون نفيًا لذات الشيء، فإن لم يمكن حمل علي نفي الصحة، فإن لم يمكن فهو نفي للكمال، فإذا دار الأمر بين كون الشيء نفيًا للصحة أو نفيًا للكمال، فإنه يجب أن يحمل علي أنه نفي للصحة إلا أن يمنع من ذلك مانع، فإذا قلنا: من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر، صار في ذلك فائدتان:

الفائدة الأولي: أن صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة، وأن من لم يصل مع الجماعة بلا عذر لا صلاة له، وقد سبق أن هذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وبينا أنه ضعيف، وأن الصواب صحة صلاة المنفرد في بيته بلا عذر لكن مع الإثم. ثانيًا: أنه يفيد أنه يجب الحضور إلي المساجد وليس المقصود تحصيل الجماعة، بل المقصود الحضور إلي المسجد، ولا يجوز للإنسان أن يصلي في مكان جماعة وليس بمسجد، اللهم إلا إذا كان المسجد بعيدًا يشق عليه الذهاب إليه فهذا لا بأس به، أما أن يكون المسجد قريبًا منك وتسمع النداء وتقول لمن معك في المجلس: هيا نصلي جماعة فهذا لا يجوز ولا يجزئ عنه، وإن كان بعض أهل العلم- رحمهم الله- قالوا: إن المقصود: الجماعة سواء في المسجد أو في البيت، وأنه إذا صلى جماعة في البيت ولو كان المسجد قريبًا فلا إثم عليه، وذهب آخرون إلي أن الصلاة في المساجد من باب فروض الكفايات، والصواب: أن الصلاة في المسجد فرض عين، وأنه لا يجوز التخلف عنها إلا لعذر. شرح حديث أبي هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة علي المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر" المنافقون هم: الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، مأخوذ من نافقاء اليربوع وهو: القشرة الرقيقة التي يجعلها في آخر جحره لأجل أن يخرج من باب حجر آخر إذا حصر من هذه النافقة، فكأن المنافق- والعياذ بالله- تستر بما يكون علي ما في قلبه، فإنهم يقولون: إنهم مسلمون ويحلفون علي ذلك، ويشهدون علي أنفسهم بالإسلام، لكن هم كاذبون- والعياذ بالله-، وأول ما ظهر النفاق بعد غزوة بدر؛ لأن الناس قبل غزوة بدر ليس عندهم من القوة ما يهابهم الكفار بها، فلما كانت غزوة بدر وانتصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهزم أولئك الكفار من قريش وقتلت صناديدهم قوي الإسلام وعندئذ نبع فجر النفاق- والعياذ بالله- وصار الإنسان يأتي إلي المسلمين ويقول: إنه مسلم، ويذهب إلي قومه يقول: {إنا معكم إنما نحن مستهزءون (14)} [البقرة: 14]، وكثر النفاق في المدينة- والعياذ بالله- {ومن أهل المدينة مردوا علي النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} [التوبة: 101]، المنافقون يظهرون ويأتون إلي الصلوات مع المسلمين يحضرونها لكنها ثقيلة عليهم، لماذا؟ لأنهم ليس في قلوبهم إيمان يحثهم إلي أن يأتوا إلي مناجاة الله- سبحانه وتعالي-، قلوبهم أبعد ما يكون عن الله وأكفر ما يكون بالله-والعياذ بالله-، فهم تثقل عليهم الطاعات؛ لأنهم ليس عندهم الرغبة الصادقة في طاعة الله-سبحانه وتعالي- وتثقل عليهم الصلوات لأنها آكد أعمال البدن، وكلما كانت الطاعة أوكد كانت علي المنافق أثقل، وعلم من هذا الحديث أن جميع الصلوات ثقيلة عليهم، كما قال الله تعالي في آية آخري: {وإذا قاموا إلي

الصلوات قاموا كسالي} [النساء: 142]، لكن أثقل الصلوات صلاة العشاء وصلاة الفجر؛ لماذا؟ لأن هاتين الصلاتين لا يتبين فيهما الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت المساجد والبيوت ليس فيها مصابيح، ليس فيها كهرباء حتى يعرف الناس بعضهم بعضًا فيأتون وهم لا يعرفون في صلاة العشاء فتثقل عليهم لا تخف في نفوسهم، وكذلك أيضًا في صلاة الفجر حيث إن الناس ليس عندهم أنوار فإذا ذهبوا صارت أثقل عليهم، وقيل: إن ثقلهما علي المنافقين أكثر من غيرهما؛ لأنها أوقات نوم، ويحتمل هذا وهذا. علي كل حال: صلاة العشاء وصلاة الفجر ثقيلة علي المنافقين أكثر من غيرهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا" يعني: ولو كانوا يحبون علي ركبهم، "لو يعلمون ما فيهما لأتوهما" ما معني "ما فيهما": هل المراد: ما فيهما من الأجر، أو المراد: ما فيهما من الوزر عند الترك، أو الأمران؟ الأمران أولي، يعني: ما فيهما من الأجر عند الفعل، وما فيهما من الوزر عند الترك لو يعلمون ذلك لأتوهما ولو حبوا ولما تأخروا عنها، هم إذا سمعوا هذا الحديث علموا، لكن انتفاء العلم عنهم لعدم انتفاعهم به، والشيء قد ينفي لعدم الانتفاع به؛ {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون (21)} [الأنفال: 21]. لا ينتفعون بهذا السماع فهم لو علموا ما فيهما لكن هذا العلم لا ينفعهم فيكون كالجهل تمامًا. يستفاد من هذا الحديث فوائد عديدة أولًا: وجوب الحضور إلي المسجد في صلاة العشاء وفي صلاة الفجر وغيرهما من باب أولى. ثانيًا: أن الصلوات كلها ثقيلة علي المنافقين، ولكن أثقلها العشاء والفجر. الفائدة الثالثة: أن المصلي لا ينفعه عمله ولو كان صالحًا في ظاهره، ما الدليل؟ الدليل ثقل الصلاة عليهما ولو نفعتهما لكانت خفيفة وسهلة عليهما كما قال الله تعالي: {وإنها لكبيرة إلا علي الخاشعين (45)} [البقرة: 45]. الفائدة الرابعة: أن من أحس بنفسه بثقل الصلاة عليه فليعلم أن في قلبه نفاقًا وأنه مشابه للمنافقين، في هذه الحال فعليه أن يحاسب نفسه وأن يفكر في أمره. ومن فوائده أيضًا: أن المؤمن الخالص تكون الصلاة عليه خفيفة، لأنه يحبها، ولأنه يؤمن بفائدة الوقوف بين يدي ربه عز وجل يناجيه بكلامه ويتقرب إليه بأفعاله وأقواله ويسأله حاجاته، ولهذا كانت الصلاة قرة عين الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لماذا؟ لأنه أكمل الناس إيمانًا وأعلمهم بالله عز وجل، وهي راحة القلب لمن كان مؤمنًا حقًا، أما المنافق فإنها ثقيلة عليه- والعياذ بالله-.

عدم سقوط الجماعة عن الأعمى

عدم سقوط الجماعة عن الأعمى: أما الحديث الثاني: أن رجلًا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رجل أعمي وليس لي قائد يقودني إلي المسجد، فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم" فهو إنما يعني: أنه قال: لا تأت، فلما ولي دعاه فقال: "هل تسمع النداء؟ " قال: نعم، قال: "فأجب" هذا الرجل أعمى وليس له قائد يقوده إلي المسجد ومع هذا لم يرخص له النبي صلي الله عليه وسلم أن يصلى في بيته، بل قال: "أجب"، و (أجب) فعل أمر، والأصل في الأمر الوجوب، وبهذا علم أن قوله تعالي: {ليس علي الأعمى حرج} [النور: 61]. ليس علي سبيل العموم، بل ليس عليه حرج فيما لا يمكنه فعله مع العمى، وأما ما يمكنه فعله مع العمى فإنه عليه حرج في تركه، فالعلة التي هي العمى إنما تكون مؤثرة فيما إذا كان لا يمكنه فعله مع وجود العمى. فيستفاد من هذا الحديث: أن صلاة الجماعة فرض عين وليس فرض كفاية، ووجه ذلك: أنها لو كانت فرض كفاية لكانت تغني عن مجيء هذا الرجل ولكان قد أكتفي بقيامها بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ويستفاد من هذا الحديث: أن صلاة الجماعة لا تسقط عن الأعمى لقول النبي صلى الله عليه وسلم "أجب"، وهل تسقط عن المبصر؟ لا، هي في حقه من باب أولي. ويستفاد منه: أنه إذا لم يسمع النداء فلا يجب عليه الحضور، وهي المراد: سماعه المحقق، أو بحيث تكون في مكان يسمعه لولا المانع، يعني: لنفرض أن المسجد قريب منك لكن لكثرة الأصوات والجلبة والحركات لا تسمع، فهل نقول: إنه تسقط عنه الجماعة؟ الجواب: لا، فالمراد إذا كان منه بحيث يسمعه وجب عليه الحضور، ولهذا لو كان أصم لا يسمع وكان جارًا للمسجد فلا تسقط عنه الجماعة؛ لأن العبرة أن يكون قريبًا من المسجد بحيث يسمع النداء فإن سمعهم عن بعد فظاهر الحديث أنه يجب عليه أن يجيبه حتى ولو شق عليه ذلك هذا الحضور، ولكن الظاهر: أنه إذا كان سمعه إياه بواسطة الآلة كمكبر الصوت اليوم- فهو يسمع الإنسان النداء ولو كان في أقصي ما يكون-، وعليه فالظاهر: أنه ليس بواجب إذا كان يشق عليه فمن تمسك بظاهر اللفظ أوجب الحضور عليه ولو كان بعيدًا إذا سمعه بمكبر الصوت، ومن قال: إن العبرة بالنعمة، وأنه بحيث يسمعه إذا كان بالصوت المعتاد قال: إنه إذا كان بعيدًا يشق عليه فإنه لا يجب عليه الحضور، ولكن علي كل حال إذا سمع الإنسان النداء كما في المدن الكبيرة فإنه يسمعه في مسجده ويكون حوله مسجد آخر، فإذا فرضنا أنه سمع النداء في المسجد البعيد وأما مسجده القريب فلم يؤذن، قلنا: يجب عليك أن تحضر إلي مسجدك القريب، ولو أذن مؤذن مسجد لسمعته.

صلاة المفترض خلف المتنقل

صلاة المفترض خلف المتنقل: 383 - وعن زيد بن الأسود رضي الله عنه "أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو برجلين لم يصليا، فدعا بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال لهما: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا. قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل، فصليا معه، فإنها لكما نافلة". رواه أحمد، واللفظ له، والثلاثة، وصححه الترمذي وابن حبان. 384 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فأركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلي قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعين". رواه أبو داود، وهذا لفظه. وأصله في الصحيحين. قوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، هذه الجملة تفيد الحصر وطريقة الحصر قد ذكرت هنا بلفظ "إنما"، يعني: ما جعل إلا لهذا السبب ولهذه الحكمة، و"الإمام" هو الإمام في الصلاة، بدليل تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الجملة، وقوله: "إنما جعل" هذا الجعل جعل شرعي، وقد مر علينا كثيرًا أن الجعل ينقسم إلي قسمين: جعل شرعي وجعل قدري، فإذا كان الجعل بمعني الخلق كان قدريًا، وإذا كان بمعني يتعلق بالحكم الشرعي كان شرعيًا، مثال الشرعي قوله تعالي: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} [المائدة: 103]. فإن قوله: {ما جعل الله} يراد به: الجعل الشرعي وليس الجعل القدري؛ لأن الجعل القدري في هذه ثابت، فإنها واقعة وحاصلة، ولكن المراد بـ {ما جعل} هنا أي: ما شرع {من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام}، وكذلك هذا الحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" جعل شرعًا، وأما قدرًا فإن الإمام قد يتخلف عنه المأموم، ولو كان الجعل قدريًا ما أمكن أن يتخلف، وأما الجعل بمعني: الخلق- وهو الجعل القدري- فهو كثير في القرآن كما في قوله تعالي: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} [الإسراء: 12]، {وجعلنا الليل لباسًا} [النبأ: 10]، وأمثلتها كثيرة، لكنها في الغالب تدل علي تحول شيء لشيء يعني: بمعني التصيير؛ لأنها تنصب مفعولين.

هنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، أي: ليقتدي به، وما معني هذا الاقتداء؟ هل هو اقتداء ظاهر وباطن، أو اقتداء ظاهر فقط؟ قال بعض أهل العلم: إنه اقتداء ائتمام ظاهر وباطن، وقال آخرون: إنه ائتمام ظاهر فقط؛ أي: في الجوارح، وينبني علي هذا الخلاف: ما لو اختلفت نية الإمام والمأموم؛ فكان الإمام يصلي الظهر والمأموم يصلي العصر، أو كان الإمام يصلي العصر والمأموم يصلي الظهر، فإن قلنا: إن المراد بالائتمام: الموافقة للإمام ظاهرًا وباطنًا، قلنا: إن هذا الائتمام لا يصح، لماذا؟ لأنه ما وافق الإمام في الباطن، وأما إذا قلنا: بأن المراد به الائتمام في الظاهر- وهو أن يتابع الإمام في أفعال الصلاة- فإنه يصح في هذه الحال أن يكون الإنسان مأمومًا بإمام يخالفه في النية، والقول الثاني هو الصواب، ودليل كونه هو الصواب تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الائتمام حيث قال: "فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعين"، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فسر كلامه بنفسه فإنه لا حاجة بنا إلي أن تطلب تفسير كلامه من غيره. ثم إننا نقول لمن قالوا: إن المراد به الائتمام ظاهرًا وباطنًا: إنكم تقولون: إن الرجل لو صلى نفلًا خلف من يصلي فرضًا لصحت صلاته، فلو أن الإنسان صلى الفجر في مسجد، ثم ذهب إلي مسجد آخر ووجدهم يصلون الفجر فصلي معهم بنية النافلة للإمام فرضًا وهذا اختلاف في النية، ولا يدفع هذا الإيراد أن يقال: إن نية الإمام هنا أعلي من نية المأموم لكونه ناويًا للفرض، والمأموم ناو للنفل؛ لأننا نقول: إن قلتم: إن اختلاف النية مؤثر فلا فرق بين أن تكون النيتان متساويتين أو إحداهما أعلي من الأخرى، ثم إننا نقول أيضًا: إنكم تقولون: لو صلى المأموم صلاة العيد- وهو يري أنها فرض- خلف إمام يري أنها نفل فهنا اختلف نية الإمام والمأموم والصلاة واحدة ومع ذلك تصححون هذا، وهذا دليل علي أن النية لا أثر لها، وهذا هو الصواب، وبناء علي ذلك فإنه يجوز أن يصلي الإنسان الظهر خلف من يصلي العصر أو العصر خلف من يصلي الظهر، أو يصلي العصر خلف من يصلي العشاء، كيف هل يمكن؟ نعم يكون قد صلى العصر محدثًا وهو ناس ثم ذكر عندما حضر لصلاة العشاء وقد أقيمت أنه لم يصل العصر علي وضوء؛ فنقول له: صل العصر الآن خلف الإمام وإذا انتهت الصلاة فصل العشاء، وهذا ممكن، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله نص علي أن الرجل إذا جاء والإمام يصلي التراويح فإنه يجوز أن يصلى خلفه بنية العشاء، وهذا اختلاف في النية وصلاة مفترض خلف متنفل، بل والصلاة نوعها واحد أم لا؟ لا، هذه عشاء صلاة المأموم وصلاة الإمام تراويح نافلة،

حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله: إنه يجوز أن يصلي الإنسان خلف شخص يخالفه في النية والأفعال أيضًا وأنه يجوز أن يصلي العشاء خلف من يصلي المغرب، وإذا سلم الإمام من صلاة المغرب قام المأموم فأتي بالرابعة والعكس فيصلي المغرب خلف من يصلي العشاء، وإذا قام الإمام إلي الرابعة فإنه يجلس، ثم إن كان لا يريد صلاة العشاء انتظر الإمام حتى يجلس للتشهد ويسلم معه، وإن كان يريد أن يصلي العشاء فإنه ينوي الانفراد ويقرأ التشهد كاملًا ويسلم ثم يدخل مع الإمام فيما بقي من صلاة العشاء. وجوب متابعة الإمام: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا كبر فكبروا" يستفاد منه- حسب القسمة العقلية-: أن حال المأموم في موافقة الإمام أربع حالات: إما أن يسبقه، أو يوافقه، أو يتخلف عنه، أو يتابعه. هذه أربع حالات، فإن سبقه فإن كان بتكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته؛ لأنه دخل بنية الجماعة مع غير إمام، فإن الإمام لم يكبر بعد حتى يتحقق أن له إمامًا، فإذا علم أن الإمام لم يكبر تكبيرة الإحرام قطع صلاته، يعني: نوى قطعها وكبر بعد الإمام، وإن كان غير تكبيرة الإحرام فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: إن الصلاة لا تبطل حتى يسبقه بركن كامل، وإنه لو سبقه إلي الركن لم تبطل الصلاة، ولكن يجب عليك أن تعرف الفرق بين السبق إلي الركن والسبق بالركن: أن السبق إلي الركن أن يصل المأموم إلي الركن قبل أن يصل إليه إمامه ولكن الإمام يدركه فيه، مثل: أن يكبر للركوع ويركع ثم يلحقه الإمام قبل أن يرفع، والسبق بالركن أن يسبق المأموم الإمام إلي الركن، ويتخلص منه قبل أن يصل الإمام إليه، مثل: أن يسبق الإمام إلي الركوع ويرفع من الركوع قبل أن يركع الإمام، نسمي هذا سبقًا بالركن، وعلي هذا فالسبق إلي الركن لا تبطل به الصلاة علي المشهور من المذهب، لكن عليه أن يرجع حتى يأتي به بعد إمامه، ولكن الصحيح أن السبق إلي الركن متعمدًا تبطل به الصلاة، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أما يخشي الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار"، وهذا التهديد يدل علي أن هذا الفعل محرم، والإنسان إذا فعل شيئًا محرمًا في العبادة فإن القاعدة الشرعية: أن العبادة تبطل به؛ لأنه أخرجها عما جاء الأمر به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". فالصواب: أن السبق إلي الركن إذا تعمده الإنسان بطلت صلاته، أما إذا لم يتعمده كما لو سمع صوتًا فظنه تكبيرًا لإمامه فركع فإن صلاته لا تبطل؛ لأنه معذور بالجهل، لكن إذا تحقق أن الإمام لم يركع وجب عليه أن يرجع حتى يأتي بالركوع بعد الإمام، فإن لحقه الإمام في

الركوع قبل أن يرفع فليستمر مع إمامه؛ لأنه في هذه الحال يكون معذورًا، إذن السبق- أي: سبق الإمام- إما أن يكون إلي الركن أو بالركن، فإن كان إلي الركن فالمشهور من المذهب غير تكبيرة الإحرام؛ لأن تكبيرة الإحرام تقدم أن المأموم إذا كبر قبل أن يكبر الإمام فلا صلاة له؛ لأنه نوى الإمامة بغير إمام، لكن في غير تكبيرة الإحرام المشهور من المذهب أن السبق إلي الركن محرم لا تبطل به الصلاة، والصحيح: أنه محرم تبطل به الصلاة، وأما السبق بالركن فالمذهب أنهم كانوا يفرقون بين الركوع وغيره فيقولون: إن سبق إمامه بالركوع بطلت صلاته وإن سبقه بالسجود لم تبطل؛ لأن غير الركوع عندهم لا تبطل الصلاة بالسبق إليه إلا إذا سبق بركنين، فمثلًا إذا سجد قبل إمامه ورفع قبل أن يسجد الإمام فقد سبق الإمام بركنين: أحدهما السجود والثاني الرفع من السجود، ولكن الصحيح أنه إذا تعمد سبق الإمام ولو إلي الركن بطلت صلاته. وأما الأقوال التي هي القراءة والدعاء والذكر فإن هذا لم يقل أحد من الناس إنه لابد أن تتأخر حتى تعلم أن إمامك قد قرأ مثلًا في الصلاة السرية، ولهذا لو فرض أن الإمام تعرف من عادته أنه يستفتح استفتاحًا طويلًا واستفتحت أنت استفتاحًا قصيرًا وبدأت بالفاتحة قبلة فإن ذلك لا يضر. الحال الثاني: أن يوافق الإمام، وهذه دون السبق، فإن وافقه في تكبيرة الإحرام لم تعقد صلاته؛ لأن الإمام لا يدخل في الصلاة إلا بعد تكميل التكبير، وإذا وافقته في التكبير فمعناه: أنك دخلت مع إمام لم يكن إمامًا، حتى الآن فتكون صلاتك باطلة، وأما موافقته في غير تكبيرة الإحرام فهذا لا يبطل الصلاة، لكنه إما مكروه وإما محرم، والمشهور من المذهب أنه مكروه، وظاهر الحديث: أنه محرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تركعوا حتى يركع ... " إلخ، فالصحيح: أنه محرم، وهذه المسألة يخل بها كثير من الناس حيث إن بعضهم تجده يسابق الإمام، إما أن يسابقه أو يوافقه، وهو أمر يجب علي طلبة العلم أن ينبهوا العامة عليه؛ لأنه واجب علي كل من آتاه الله علمًا أن يبينه للناس، كما قال الله تعالي: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 187]. الحال الثالثة: المتابعة، وهي: أن يشرع المأموم في أفعال الصلاة فور انتهاء إمامه أو يشرع في تكبيرة الإحرام فور انتهاء إمامه، بحيث لا يتأخر فهذا هو الأفضل وهو الأولي، فإذا كبر تكبيرة الإحرام فبادر وكبر، لا تتأخر لأنك إذا تأخرت فأتتك المتابعة في تكبيرة الإحرام، وبعض الناس نشاهدهم إذا أقيمت الصلاة يتسوكون ويؤجلون الدخول في الصلاة بتسوكهم فيؤخرون فضيلة تتعلق في نفس العبادة من أجل فضيلة لا تتعلق بنفس العبادة؛ لأن السواك سنة للصلاة

حكم الصلاة قياما خلف إمام قاعد

وليس سنه فيها، وقد سبق لنا عدة مرات أن ما كان مشروعًا في العبادة فهو أولي بالمراعاة مما كان مشروعًا للعبادة، وعلي هذا فنقول: الأفضل أن تبادر بمتابعة إمامك، فإذا قال: أنا أحب أن أتأخر في السجود لأدعو الله عز وجل فما هو الجواب؟ الجواب علي ذلك: أن لك أن تتأخر في السجود لو صليت وحدك، أما مع الإمام فأنت تبع لإمامك لا تتأخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سجد فاسجدوا"، فأمرنا أن نتابع الإمام بدون تأخير، ولمسألة الدعاء في السجود إذا كنت وحدك فادع الله تعالي بما شئت. أما الحال الرابعة: فهي التخلف عن الإمام، وهذا إن كان لعذر فلا حرج علي الإنسان فيه، كما لو تخلف الإنسان عن إمامه لعدم علمه بانتقاله إلي الركن مثل أن يكون لم يسمع أن الإمام قد كبر فكبر وشرع في الصلاة. 385 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي في أصحابه تأخرًا، فقال: "تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم". رواه مسلم. 386 - وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة مخصفة، فصلي فيها، فتتبع إليه رجال، وجاءوا يصلون بصلاته ... ". الحديث، وفيه: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" متفق عليه. 387 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "صلي معاذ بأصحابه العشاء، فطول عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتريد أن تكون يا معاذ فتانًا؟ إذا أممت الناس فاقرأ: بـ {والشمس وضحاها}، و: {سبح أسم ربك الأعلى}، و: {اقرأ باسم ربك}، و: {والليل إذا يغشي}. متفق عليه، واللفظ لمسلم. حكم الصلاة قيامًا خلف إمام قاعد: 388 - وعن عائشة رضي الله عنها- في قصة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض- قالت: "فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان يصلي بالناس جالسًا وأبو بكر قائمًا، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر". متفق عليه. هذا الحديث تقدم الكلام علي أوله، وبينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف معاذ بن جبل بكونه "فتانًا"، يعني: صادًا للناس عن دين الله، وذلك بتطويله فيهم حتى أدي أن ينصرف بعضهم من الصلاة؛ لأنه رضي الله عنه أطال إطالة غير مشروعة، فلا يجوز للإمام أن يطيل بالناس إطالة غير مشروعة.

أما إذا صلى بنفسه فليطل ما شاء، وإذا صلى لغيره فلا يتجاوز المشروع، فإن تجاوز المشروع فقد شق عليهم وحينئذ يكون آثمًا كما يدل عليه هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما حديث عائشة في قصة صلاة أبي بكر رضي الله عنه بالناس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضًا وقد استناب أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس فكان يصلي بهم رضي الله عنه، ففي يوم من الأيام أحس النبي صلى الله عليه وسلم بخفة فجاء وجلس إلي يسار أبي بكر فصلي بالناس جالسًا وأبو بكر يصلي بهم قائمًا يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يسمع صوته ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر لأنهم لا يسمعون إلا صوته. هذا الحديث لا شك أنه في مرض موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه متأخر بالنسبة للحديث السابق المروي عن أبي هريرة: "إذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعين"؛ ولهذا اختلف العلماء-رحمهم الله- فيما إذا صلى الإمام جالسًا لمرض هل يصلي المأمومون جلوسًا أو يصلون قيامًا؟ فذهب الإمام أحمد رحمه الله إلي أنهم يصلون جلوسًا تبعًا لإمامهم، وذهب غيره إلي أنهم يصلون قيامًا، أما الإمام أحمد فاستدل بعموم حديث: "إذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا" وقال: إن مثل هذا الحكم يبعد أن ينسخ لأنه من الائتمام بالإمام، فلو نسخ لكان في ذلك إخلال بحكمه الجماعة، وهي: عدم الائتمام بالإمام، ولكن غير الإمام أحمد قال: إنه منسوخ بحديث عائشة الذي ذكره المؤلف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته كان يصلى قاعدًا والناس يصلون قيامًا، ولكن الإمام أحمد رحمه الله أجاب عن هذا بأن أبا بكر رضي الله عنه كان قد ابتدأ بهم الصلاة قائمًا، فلزمهم حكم القيام، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء في أثناء الصلاة فصلي قاعدًا ولهذا أذن لهم صلى الله عليه وسلم أن يبقوا قيامًا، وهذا الذي أجاب به الإمام أحمد رحمه الله هو المتعين؛ لأن به تجتمع الأدلة، وقد قررنا غير مرة: أنه إذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه هو الواجب ولا يصار إلي النسخ مع إمكان الجمع، لكنك إذا صرت إلي النسخ مع إمكان الجمع أبطلت أحد الدليلين بالآخر، وإذا جمعت عملت بالدليلين كليهما، وهذا هو الواجب. فالصواب: أن الإمام إذا صلى قاعدًا أن نصلي خلفه قعودًا ولو كنا قادرين علي القيام، لكن لو ابتدأ بنا الصلاة قائمًا ثم حصلت له علة وجلس ما كمل الصلاة قائمًا، ففي هذه الحال يجب علينا أن نصلي قيامًا، بدليل حديث عائشة الذي ساقه المؤلف رحمه الله، وفي حديث عائشة فائدة وهي: أن الإمام الراتب يبني علي صلاة من استخلفه ولا يستأنف الصلاة من جديد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستأنف الصلاة بالناس، بل أبقاهم علي صلاتهم، ولما أكمل الناس صلاتهم لم يتابعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بقي من صلاته، فالإمام الراتب إذا وكل شخصًا ثم حضر في أثناء الصلاة وتقدم الإمام الراتب فإنه يبني علي صلاة من استخلفه، مثال ذلك: وكل رجل شخصًا

مراعاة حال المأمومين في الصلاة

يصلى بالجماعة، فلما صلى الركعتين الأوليين حضر الإمام وتقدم الإمام ليصلي بهم هل نقول للناس: استأنفوا الصلاة؟ لا، لكن يدخل فيكمل بهم الصلاة فإذا صلى ركعتين فقد تم للجماعة أربع ركعات فتجلس الجماعة ويأتي هو بما بقي من صلاته ثم يسلم بهم، هذا هو المشروع في مصل هذه الصورة. مراعاة حال المأمومين في الصلاة: 389 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أم أحدكم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة، فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء". متفق عليه. قوله: "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف"، صلى لهم ولم يقل: صلى بهم؛ لأن الإمام يصلى بالناس وللناس أيضًا، ولهذا يحسن أن تكون صلاته علي وجه الشرع لا زيادة ولا نقص؛ لأنه يصلي لهم فهو كالذي يتولي أمورهم. أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف، ولكن ما ميزان هذا التخفيف؟ هل ميزان التخفيف أذواق المأمومين؟ لا، لأننا لو رددنا الأمر إلي أذواق المأمومين سيقول أحدهم: اقتصر علي الفاتحة وقل: "سبحان ربي العظيم" في الركوع مرة، و"سبحان ربي الأعلى"، ثم قل: "رب اغفر لي" ثم أسجد، وهكذا يريد أن تقتصر علي أدني الواجب، ويأتي آخر ويقول: لا نريد أن تخفف، بمعني: لا تقرأ سورة البقرة ولا آل عمران، ولا تقول: "سبحان ربي العظيم" (50) مرة لكن يعتدل، هكذا يكون الأمر لو رجعنا إلي أذواق الناس في التخفيف لاختل ميزان الناس في الصلوات، ويصير هؤلاء يصلون علي شيء، وهؤلاء يصلون علي شيء، ولكن الميزان للتخفيف فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن وافقت صلاته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فهو تخفيف، ومن كان دون ذلك فهو تفريط، ومن كان فوق ذلك فهو إفراط وزيادة، والدليل علي أن صلاة النبي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم تخفيف قول أنس: "ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم"، فمعني ذلك: أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "فليخفف"، أي: فليصل كما أصلي، إذ من المستحيل أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء ويفعل خلافه، فلو كان هناك تخفيف مشروع- دون صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم- لفعله صلى الله عليه وسلم. والحاصل: أن التخفيف الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم هو: التخفيف الذي كان يفعله، ثم علل النبي صلى الله عليه وسلم بأن من ورائه الصغير والضعيف والكبير وذا الحاجة، يعني: وراءك اناس لهم أعذار إما عجز وإما حاجة خارجية. العجز مثل: الضعيف، والصغير، والكبير، وذا الحاجة، أي: حاجة خارجية؛ فقد يكون الإنسان مشغولًا بحرثه أو بتجارته أو بميعاد له مع أحد، فإذا أطلت إطالة أكثر من السنة حبسته عن حاجته.

إمامة الصغير المميز

ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا صلى بنفسه فليطول ما شاء"، وبهذا نعرف أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" لا يلزم أن تكون الصلاة مثل صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في القدر، بل لو طولت فإنك لم تخرج بذلك عن كونك مصليًا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي؛ لأنك صليت صلاة مأذونًا فيها، ولكن هل الأفضل: أن أزيد علي ما كان النبي صلى الله عليه وسلم، يفعل وأثقل الصلاة أكثر من تثقيل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الأفضل أن تكون كصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: الثاني، وأما التطويل الزائد فهو من باب المباح وليس من باب المشروع الذي هو الأفضل، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن الإمام يصلي كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وإن المنفرد يصلي كما يشاء، والمأموم تبع لإمامه لا يتقدم ولا يتأخر. إمامة الصغير المميز: 390 - وعن عمرو بن سلمه رضي الله عنه قال: قال أبي: "جئتكم من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقًا. فقال: إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنًا، قال: فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآنًا، فقدموني، وأنا ابن ست أو سبع سنين". رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي. قوله: "قال أبي"، وكان أبوه وافدًا مع الوفد الذين كانوا يفدون إلي النبي صلى الله عليه وسلم ليتلقوا منه الشرع ويتعلموا منه، فقال أبوه: "جئتكم من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقًا" فهنا شهد رضي الله عنه بأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق؛ لأن كل من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم ورأي ما عليه من كمال الأخلاق والآداب علم أنه رسول صلى الله عليه وسلم، يقول عبد الله بن رواحه، أو حسان بن ثابت: [البسيط] لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تأتيك بالخبر يعني: لو لم يكن فيه آيات مبينة تدل علي أنه رسول الله لكانت بديهته مجرد ما تراه وتري طلعته الكريمة الشريفة تأتيك بالخبر، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن الوفود إذا وفدوا يبقيهم عنده أيامًا حتى يتعلموا ويشاهدوا ويعرفوا طريق النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته، وفي دعوته إلي الله، وفي أخلاقه يقول: "جئتكم من عند النبي صلى الله عليه وسلم" فقال- يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- في جملة ما علمهم: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم"، وحضور الصلاة يكون بدخول وقتها وإرادة فعلها، "فإذا حضرت فليؤذن لكم أحدكم"، وفي قوله: "لكم" دليل علي أنه لابد في الأذان أن يبلغ من أذن له بحيث يرفع الإنسان صوته به حتى يسمعه من أذن له، ولهذا ذكر أهل العلم أن رفع الصوت بالأذان ركن بحيث يسمع من يؤذن له علي حسب الحال وعلي حسب المستطاع، وفي قوله:

"فليؤذن لكم" دليل علي أن الأذن فرض كفاية؛ لأنه قال: "فليؤذن لكم أحدكم"، ولم يقل: أذنوا جميعًا فهو فرض كفاية، وفي الحديث أيضًا دليل علي أن إجابة المؤذن- يعني: متابعته- ليست بواجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: "فليؤذن لكم أحدكم" لم يقل: وليتابعه من لم يؤذن، فدل هذا علي أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن" فهذا الأمر ليس علي سبيل الوجوب، وإنما هو علي سبيل الأكمل والأفضل. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم" دليل علي أن الأذان الذي يكون قبل الفجر ليس أذانًا للفجر، ولا ينسب للفجر كالأذان الذي يفعله بلال رضي الله عنه حين كان يؤذن بالليل ليوقظ النائم ويرجع القائم، فلا يكون هذا أذانًا لصلاة الفجر، وبه نعرف وهم من توهم من طلبة العلم أن قوله: "الصلاة خير من النوم" إنما يكون في الأذان الذي قبل طلوع الفجر؛ لأنه ورد في ألفاظه: إذا قلت في الأذان الأول لصلاة الفجر: "حي علي الصلاة حي علي الفلاح" فقل: "الصلاة خير من النوم"، فتوهم بعض الناس أن الأذان الذي يكون في آخر الليل هو الأذان الأول لصلاة الفجر ولكنهم أخطئوا؛ لأن هذا الأذان ليس للفجر، فإن أذان الفجر لا يكون إلا بعد دخول الفجر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم"، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في أذان بلال: "إنما كان ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم" لا للصلاة، فدل هذا علي أنه ليس أذانًا للفجر، ويكون معني قوله: "في الأذان الأول لصلاة الفجر" الأذان الذي هو أذان الفجر، ووصف بالأول؛ لأن هناك أذانًا آخر، وهو الإقامة، فإن الإقامة تسمي أذانًا كما جاء في الحديث الصحيح: "بين كل أذانين صلاة"، وفي صحيح البخاري أن عثمان بن عفان رضي الله عنه زاد الأذان الثالث يوم الجمعة، ومعلوم أن يوم الجمعة ما فيه إلا أذانان وإقامة، فقال: إنه زاد الأذان الثالث؛ لأن الأذان في اللغة: الإعلام كما قال تعالي: {وأذان من الله ورسوله} [التوبة: 3]، والإقامة: إعلام للقيام للصلاة، والأذان: إعلام بدخول وقت الصلاة. وفي قوله: "وليؤمكم أكثركم قرآنًا" دليل علي أن الأحق بالإمامة هو الأكثر قرآنًا فإذا وجد رجلان أحدهما قد حفظ عشرة أجزاء، والثاني قد حفظ عشرين جزءًا فإن الثاني أولي بالإمامة من الأول، ولو كان أصغر منه سنًا؛ لأن كثرة القرآن مقدمة. قال عمرو بن أبي سلمه: فنظروا فلم يجدوا أكثر مني قرآنًا "كل الحي ما فيه أحد أكثر من عمرو بن سلمه قرآنًا، وكان أكثرهم لأنه كان رضي الله عنه يتلقي الركبان الذين يأتون من المدينة ويستقرئهم القرآن، فكان أكثر من غيره، فقدموني وأنا ابن سبع أو ست سنين، صار إمام الحي كله وليس له إلا ست أو سبع سنين. ففي هذا دليل علي جواز إمامة الصغير، وأنه يجوز أن

يقدم في الإمامة الأكثر قرآنا

يكون الصغير- الذي لم يبلغ- إمامًا لمن كان كبيرًا بالغًا؛ لأن هذا حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: ما الذي يدرينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره، ربما لم يعلم بذلك؟ فالجواب: أن الله قد علمه بلا شك، وكون الله تعالي يقره ولم ينزل قرآنًا يبين بطلانه دليل علي أنه حق، ولهذا كان الصحيح من أقوال أهل العلم: أنه يجوز أن يكون الصغير- الذي لم يبلغ- إمامًا للكبير البالغ، وإذا كان هكذا فإنه يجوز أن يكون الصغير الذي لم يبلغ يكون مضافًا للرجل البالغ، فإذا وجد رجلان وطفل وأرادوا أن يصلوا جماعة، فإن الإمام يتقدم ويكون الطفل والبالغ خلفه لا في الفريضة ولا في النافلة، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في النافلة كما في حديث أنس بن مالك أنه صلى هو ويتيم خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل. في هذا الحديث كان عمرو بن سلمه رضي الله عنه ليس له إلا ثوب قصير إذا سجد انكشف بعض فخذه، فخرجت امرأة من الحي فقالت: غطوا عنا أست قارئكم. الإست ليس الفرج ولكنها الدبر. والمعروف عد العامة أن الإست فرج المرأة وليس كذلك فإن الإست هو الدبر-، وقولها: غطوا عنا إست قارئكم، هذا من باب المبالغة لقصر قميصه رضي الله عنه يقول: فاشتروا له ثوبًا سابغًا. يقول: فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي بهذا الثوب من قلة ذات اليد والفقر. فالمهم أنه يستفاد من هذا الحديث: أن الأولي بالإمامة الأكثر قرآنًا ولو كان هو الصغير، وأنه يجوز أن يكون الصغير- الذي لم يبلغ- إمامًا لمن كان بالغًا. يقدم في الإمامة الأكثر قرآنًا: 391 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالي، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلمًا- وفي رواية: سنًا-، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته علي تكرمته إلا بإذنه". رواه مسلم. حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "يؤم"، أي: يكون إمامًا، وهو خبر بمعني الأمر، قال علماء البلاغة: وإذا جاء الأمر بلفظ الخبر كان أوكد من الأمر المجرد كأن الأمر مفروغ منه لا يحتاج إلي أن يؤمر به بل هو أمر مسلم به معمول به. "ويؤم القوم أقرؤهم"، هل المراد: أقرؤهم جودة، أو المراد: أقرؤهم بمعني: أعلمهم بمعاني القرآن، أو المراد: أكثرهم قرآنًا، كلام النبي صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضًا، وقد سبق قبل قليل أنه قال: "وليؤمكم أكثركم قرآنًا"، وعلي هذا فيكون المراد بالأقرأ: الأكثر قراءة، كما أنه يشمل أيضًا الأجود في قراءته الذي يقيم الحروف ولا يسقط منها شيئًا، كما أنه يشمل أيضًا الأقرأ يعني:

الأعلم بمعاني كتاب الله؛ لأن الصحابة- رضي الله عنهم- في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، فتجد الأكثر قراءة هو الأكثر علمًا وهو الأكثر- في الغالب- تقوي لله عز وجل. قوله: "فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة"، وهنا قال: "أعلمهم بالسنة" لفظًا ومعنى، فالإنسان الذي عنده علم من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وفقه لهذه السنة الأولي بالإمامة ممن ليس كذلك، فإن اجتمع عالم بالسنة لكنه دون الآخر في القراءة فأيهما يقدم؟ الأكثر قراءة أقرؤهم لكتاب الله. قوله: "فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة"، الهجرة هي: هجران بلد الكفر إلي بلد الإسلام سواء كان البلد قرية، أو مدينة، أو كان مراع أو ما أشبه ذلك، فإذا هاجر الإنسان فإن أقدمهم هجرة أولي بالإمامة من غيره؛ لأن الغالب أن الأقدم هجرة أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لم يهاجر، "فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلمًا" أي: إسلامًا، وفي رواية: "سنً" يعني: أكبرهم سنًا، هذا هو الترتيب الذي رتبه النبي صلى الله عليه وسلم، ينبغي للناس أن يلاحظوه، وهذا فيما إذا أردنا أن نولي الإمام ابتداء، وأما إذا كان إمامًا راتبًا فإنه أحق من غيره وإن كان غيره أقرأ منه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: "ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه" وإمام المسجد سلطان في المسجد. فلو حضر إلي المسجد رجل أقرأ من إمامه الراتب أو أعلم بالسنة من الإمام الراتب فإنه ليس له حق أن يقدم مع وجود الإمام الراتب، ولكن إن أذن له الإمام الراتب فلا حرج، وإلا فلا. 392 - ولابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه: "ولا تؤمن امرأة رجلًا، ولا أعرابي مهاجرًا، ولا فاجر مؤمنًا". وإسناده واه. النهي هنا للتحريم؛ لأنه مؤكد بالنون الدالة علي توكيد النهي، فلا تؤمن المرأة رجلًا ولو كانت أقرأ منه؛ لأن المرأة ليست أهلًا لإمامة الرجال، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، فالمرأة لا تصح أن تكون إمامة للرجال بأي حال من الأحوال، حتى لو كانت أقرأ وأفهم فإن الرجل هو الذي يكون إمامها.

وقوله: "ولا يؤمن أعرابي مهاجرًا"، الأعرابي: ساكن البادية، والمهاجر: الذي هاجر إلي البلاد وإلي المدن، فالأعرابي لا يؤمن المهاجر؛ وذلك لأن الغالب علي الأعرابي أن يكون أدني قراءة من صاحب المدن، وأن يكون أبعد عن معرفة حدود الله عز وجل كما قال تعالي: {الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله علي رسوله} [التوبة: 97]، وإن كان من الأعراب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله. الثالث: قال: "ولا يؤمن فاجر مؤمنًا" الفاجر: هو الكافر، لا يؤمن المؤمن. قال الله تعالي: {كلا إن كتب الفجار لفي سجين (7)} [المطففين: 7]، وقال تعالي: {كلا إن كتاب الإبرار لفي عليين (18)} [المطففين: 18]، فالفاجر هو الكافر؛ لأن الكافر لا تصح صلاته، ومن لا تصح صلاته لا تصح إمامته، مثال ذلك: رجل يصلى بالناس لكنه جاحد لتحريم الزنا، أو جاحد لتحريم الخمر، أو يدعي أن لله شريكًا. هذا يكون كافرًا قد أم مؤمنًا فلا تصح إمامته. والحديث كما قال المؤلف سنده واه، "واه" اسم فاعل من وهي يهي، ومعناه: ضعيف، قال الله تعالي: {وانشقت السماء فهي يومئذ داهية (16)} [الحافلة: 16]؛ أي: ضعيفة. الحديث ضعيف، ولكن مع ذلك إذا نزلنا ما دل عليه علي القواعد الشرعية وجدنا أن قوله: "لا تؤمن امرأة رجلًا"، فهذا صحيح؛ لأن المرأة ليست أهلًا لأن تكون إمامًا للرجال، ورأينا قوله: "ولا أعرابي مهاجرًا"، ليس بصحيح بالنسبة إلي أنه لا يصح، وأما أن يكون المهاجر إمامًا للأعرابي فلا شك أنه أولي، ورأينا أن قوله: "ولا يؤمن فاجر مؤمنًا" صحيح؛ لمقتضي الأدلة الشرعية؛ لأن الفاجر كافر لا تصح صلاته، ومن لا تصح صلاته لا تصح إمامته. فأما إذا كان فاسقًا بدون كفر، فقد اختلف العلماء هل تصح إمامته أم لا؟ فالمشهور من مذهب الحنابلة: أن إمامته لا تصح، وبناء علي ذلك القول لا يصح أن يكون شارب الدخان إمامًا لأنه فاسق، ولا يصح أن يكون حالق اللحية إمامًا لأنه فاسق، ولا يصح أن يكون من يغش الناس أمامًا لأنه فاسق، ولا يصح أن يكون من يغتاب الناس إمامًا لأنه فاسق، ولو أننا قلنا بهذا القول لوجدنا أن أكثر الناس اليوم لا تصح إمامتهم، من الذي يسلم من الغيبة؟ من الذي يسلم من الغش؟ من الذي يسلم من الكذب؟ لو أننا قلنا بهذا القول ما وجدنا إمامًا إلا نادرًا، ولهذا كان القول الراجح: أن الفاسق تصح صلاته، لكن الصلاة خلف العدل أفضل بلا شك، ولهذا كان الصحابة- ومنهم ابن عمر- يصلون خلف أئمة الجور، فهم يصلون خلف الحجاج بن يوسف الثقفي- وهو من أظلم عباد الله ومن أفسق عباد الله- لكنه ليس بكافر، فالصواب: أن الفاسق تصح إمامته كما تصح صلاته، اللهم إلا أن يكون فسقه مخلًا بواجب من واجبات الصلاة كما لو أكل لحم إبل وقيل له: توضأ من لحم الإبل فإنه ينقض الوضوء فلم يقبل قولنا:

تسوية الصفوف والمقاربة بينها

هذا صلاته لا تصح؛ لأن هذا الفسق يخل بالصلاة، وكذلك لو أن الإنسان كان مسبلًا لثوبه، وإسبال الثوب محرم ومن كبائر الذنوب، وعند كثير من أهل العلم أن المسبل لا تصح صلاته؛ لأن ثوبه محرم، وبناء علي ذلك لو صلى بنا الإمام مسبلًا فالصلاة لا تصح؛ لأننا صلينا خلف إمام أتي بما يخل بالصلاة فتكون صلاة الإمام باطلة، وكذلك المأموم صلاته باطلة، أما من كان فسقه لا يتعلق بالصلاة كالغش والنميمة والغيبة وما أشبه ذلك فالصواب أن إمامته تصح. تسوية الصفوف والمقاربة بينها: 393 - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق". رواه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان. قال صلى الله عليه وسلم: "رصوا صفوفكم"، يعني: في الصف، والرص معناه انضمام بعضهم إلي بعض وليس المراد بالرص أن يحمل الإنسان نفسه علي الآخر بحيث يضيق عليه فإن خارج عن الأمر الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، بدليل الأحاديث الأخرى؛ ولأن هذا الرص يشغل المصلي أكثر مما يوجب له من الخشوع. وقوله صلى الله عليه وسلم: "رصوا صفوفكم" يشمل الأول والثاني والثالث، كلها ترص، وقوله: "قاربوا بينها" يعني: بين الصف والصف؛ أي: لا تبعدوا، بل "قاربوا بينها"، وهذا يشمل حتى مقاربة الإمام مع الصف الأول؛ لأن الذين خلفه صفوف كلهم، ولهذا قال الفقهاء- رحمهم الله- يسن تقارب الصفوف بعضها إلي بعض وقرب الإمام منها. الآن نجد في بعض الجهات الصفوف قد لا تكون متقاربة، وفي بعضها تكون الصفوف متقاربة لكن يكون الإمام بعيدًا عنهم وهذا خلاف السنة، السنة: أن يدنو من الصف الأول وكل صف يدنو من الآخر، "وحاذوا"، ما معني المحاذاة؟ هي المساواة، "حاذوا بالأعناق"، يعني: تكون أعناقكم متحاذية، والأعناق: هي الرقاب، ويلزم من تساوي الأعناق تساوي بقية الجسم؛ لأن العنق علي مستوي الجسم تمامًا، هذه كلها كما رأيتم أوامر. يستفاد منها فوائد أولًا: مشروعية المراصة لقوله: "رصوا صفوفكم" وهل هذه المشروعية مشروعية وجوب أو مشروعية استحباب؟ جمهور العلماء علي أنها مشروعية استحباب ولكن ظاهر النص أنها مشروعية وجوب وذلك؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الشياطين تدخل من بين المصلين كالحذف، يعني: أولاد الضأن الصغار، ومعلوم أن فتح المجال للشياطين لتدخل بين المصلين أمر يقتضي تسلط الشياطين عليهم، حتى تفسد عليهم

صلاتهم، ومما يقوي الوجوب: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قطع صفًّا قطعه الله" وهذا وعيد يقتضي أن يكون الأمر بالمراصة على سبيل الوجوب. ومنها: مشروعية المصافة لقوله "صفوفكم" وهو ظاهر، ولهذا يجب على الإنسان أن يصلي في الصف كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-. ومنها: مشروعية المقاربة بين الصفوف لقوله "وقاربوا بينها"، وهذا الأمر للاستحباب، وذلك لأنه لم يد في مخالفته مثل ما ورد في مخالفة المصافة، ولكن القرب بينها ما حدُّه؟ الظاهر أن حده إلى محل السجود ما دام ليس له هذا القرب، نقول: حده: أن يتمكن الصف الثاني من السجود خلف الأول براحة. ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: المحاذاة بالأعناق، وعندنا في هذا أمران: محاذاة وكونها بالأعناق، أما المحاذاة فقد امر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، والأصل في الأمر الوجوب، ويدل عليه الأحاديث الآتية -إن شاء الله تعالى- الدالة على وجوب تسوية الصف، وأما قوله: "بالأعناق" فهذا إرشاد إلى الوسيلة التي يحصل بها المحاذاة، وهي أن يكون عنقي حذاء، عنق جار من اليمين واليسار. لكن لو تحاذينا بغير الأعناق بالمناكب مثلًا يجوز أو لا؟ يجوز؛ لأنه قد حصل به المقصود؛ لأن هذا إرشاد إلى وسيلة تحصل بها المحاذاة، وما كان كذلك فإنه يذكر على سبيل المثال فقط وليس على سبيل التعيين. لو قدر أن أحدًا عنده حدب من المأمومين كيف يحاذي بالأعناق؟ يتعذر، فيحاذي بالأكعب، ولهذا نصَّ الفقهاء -رحمهم الله- أيضًا على الأكعب؛ لأن الغالب أن الأكعب لا يخصل فيها خلاف، ثم إن الأكعب مركب عليها البدن تمامًا حتى لو خطا الإنسان بكعبه يتبعه البدن، إذن هذا من فوائد الحديث: وجوب المحاذاة بين الصفوف وهو الضحيح. ومن فوائد هذا الحدبث: الإشارة إلى المعنى الذي من أجله شرعت الجماعة وهو الالتئام والاجتماع والتآلف، وذلك بالتقارب والمحاذاة والمراصة. ما رأيكم لو كان المسجد كبيرًا واسعًا حتى صار الصف الأول بينه وبين الثاني عشرة أمتار، وما بين الثاني والثالث عشرة أمتار وهكذا هل يحصل الاجتماع والالتئام؟ لا، بل يشعر كل واحد كأنه بعيد من الثاني، وكذلك لو حصل التفرق بين الأقدام في الصف الواحد، فلا يكون هناك اجتماع، ثم إن التساوي أيضًا بالمحاذاة سبب تام للتآلف وعدم الاختلاف؛ لأن الواحد إذا تقدم على أخيه لا شك أنه يصير

أفضلية الصف الأول للرجال

في القلب منه شيء؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" فجعل اختلاف القلوب مبنيًا على اختلاف الأجسام، لكن إذا صار جنبك وحرص على أن يكون وزنك تمامًا تجد أنك تألفه وتحبه وتقول: هذا ليس فيه كبر، بل هو قد جعلني كنفسه. الفائدة الأخيرة: أن الشارع إنما شرع الجماعة من أجل ائتلاف القلوب واجتماعها وكون الأمة الإسلامية جماعة واحدة. أفضلية الصف الأول للرجال: 394 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرِّجال أوَّلها، وشرُّها آخرها، وخير صفوف النِّساء آخرها، وشرُّها أوَّلها". رواه مسلم. قوله: "خير صفوف الرجال"، الصفوف: جمع صف، وهو أن يقف الإنسان إلى جنب أخيه حتى يكونوا صفًا واحدًا، وقوله "خير وأولها"، الجملة واضحة أنها خبرية (خير) مبتدأ، والخبر (أولها)، و "أولها" هو: الذي يلي الإمام وليس الذي يلي المنبر؛ لأنك لو أردت أن تعدَّ الصفوف من أين تبدأ؟ من الذي خلف الإمام، وهذا الذي نقوله في مسجد يكون منبره وسط المسجد كما يوجد الآن في المسجد النبوي وكان أيضًا في المسجد الحرام، فقد كان منبره -كما أدركته أنا- متأخرًا؛ لهذا اختلف العلماء -رحمهم الله-: هل الصف الأول هو الذي يلي الإمام أو الذي يلي المنبر؟ والصواب بلا شك: أنه هو الذي يلي الإمام، وقوله "وشرها آخرها"، آخرها آخر شيء منها يكون هو شرُّها، وذلك فيما لو تعمد الإنسان أن يدع الصف الأول؛ ليكون في الآخر كما يوجد في بعض الناس الآن، خصوصًا في يوم الجمعة تجده يأتي مبكرًأ ويتكئ على عمود في آخر المسجد، فيدخل في هذا. وهنا إشكال في قوله: "خير وشر"، إن نظرنا إلى الجملة الأولى قلنا: إن الخير موجود في الصف الأول وفي الصف الأخير، وإن نظرنا إلى الثاني قلنا: إن الشر موجود في الصف الأول وفي الصف الأخير؛ لأنه قال: "خيرها وشرها"، وهذا يقتضي أن تكون الجملتان متضادتين. والجواب على ذلك: أن يقال المراد بالشرِّ هنا: الشرُّ النسبي، فهو شر بالنسبة إلى ما قبله، ولا يلزم على هذا أن يكون في الأول شر، وقد يراد بالشر هنا: الأردأ، ولا يلزم أن يكون في الطرف المفضل شرُّ منه، كما في قوله تعالى: {أصحاب الجنّة يؤمئذ خيٌر مستقرًا} (الفرقان: 24)؛ ومن المعلوم أن مستقر أهل النار لا خير فيه إطلاقًا. ثم قال: "وخير صفوف النساء آخرها" عكس الأول، ففي هذا الحديث يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم

أن خير الصفوف بالنسبة للرجال أولها؛ لأنه الذي يلي الإمام فيكون أتبع للإمام، ويكون من ورائه متبعًا له، ثم إن فيه حثًا للتقدم إلى الخير وترغيبًا فيه، وأن شر الصفوف بالنسبة للرجال آخرها؛ لبعدهم عن الإمام، وكلما بعد الإنسان عن الإمام قلَّت متابعته وإنصاته لقراءته، ويخبر كذلك بأن خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها لبعد الآخر عن مخالطة الرجال والقرب منهم، ويكون في ذلك بعد عن الفتنة. ففي هذا الحديث عدة فوائد أولًا: ثبوت التفاضل بين الأعمال؛ أي: أن الأعمال تتفاضل فيكون بعضها أفضل من بعض وهذا أمر ليس فيه شك، ولكن يلزم من تفاضل الأعمال تفاضل العمال، فيكون الناس أيضًا يتفاضلون بأعمالهم، فيؤخذ منه: الردُّ على طائفتين مبتدعتين وهم: الخوارج والمعتزلة؛ لأن هؤلاء يقولون: إن الإيمان لا يتفاضل إما أن يوجد كله أو يعدم كله، وهذا لا شك في أنه ضلال وخطأ. ومن فوائد هذا الحديث: الحثُّ على الصفوف الأول بالنسبة للرجال، لقوله: "خير صفوف الرجال أولها"، والأول الذي له الأولوية المطلقة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لو يعلمون ما فيه لاستهمُّوا عليه؛ يعني: لكانت قرعة. ومن فوائد هذا الحديث: أن خير صفوف النساء آخرها، وهذا فيمن يصلين مع الرجال، أما إذا كانت صلاة النساء جماعة منفردة عن الرجال فالظاهر أن خيرها أولها؛ لأن الحكمة التي من أجلها كان آخرها خيرها إنما تكون في صلاتهن مع الرجال، فإذا صلين جماعة في البيت أو في مدرسة أو ما أشبه ذلك، فإن الظاهر أن الأول أفضل مما بعده. ومن فوائد هذا الحديث: البيان الظاهر على أن الشارع يتشوف إلى ابتعاد النساء عن الرجال، وهذا أمر واضح لأنه صلى الله عليه وسلم لو كان يتشوف إلى بعد النساء عن الرجال، لكانت كالرجل يستحب لها أن تتقدم إلى الخير كما يتقدم الرجل، لكن هذا دليل واضح، يعني: حتى في أماكن العبادة لا ينبغي أن تقرب من الرجال بل تبعد عنهم فيكون في هذا: إبطال لما يلهث به بعض الناس اليوم من السير خلف ركب غير المسلمين، حيث يحاولون أن يجعلوا النساء مختلطات مع الرجال، هؤلاء في الحقيقة ما نصحوا لله ولا لرسوله ولا لأئمة المسلمين ولا لعامتهم ولا نصحوا حتى أنفسهم في الحقيقة ما نصحوا لها؛ لأنهم بذلك يضيعون رعاية أهلها؛ إذ إن أهلهم وإن حافظوا عليهم فإنهم سيفعلون ما فعلوا الناس ولا أحد يرتاب بأن مخالطة المرأة للرجل خطرها عظيم، لا يصاب في ذلك إلا أحد رجلين: إما رجل له مآرب يريد أن ينفذها باختلاط النساء بالرجال، وإما رجل عديم الشهوة لا يعرف أن علاقة الرجل بالمرأة -إذا قرب

منها أنها علاقة- تحرك الساكن وتثير الهادئ. المهم أن هذا الحديث واضح جدًا فالشارع يتشوف إلى ابتعاد النساء عن الرجال حتى في أماكن العبادة. ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية المصافة بين النساء؛ لقوله: "خير صفوف النساء"، وهذه مسالة يغفل كثير من النساء عندنا في أيام رمضان، النساء يحضرن إلى المساجد -بل حسب ما بلغنا- يصلين فرادى في بعض الأحيان تجد كل واحدة تصلي وحدها مع الإمام، وهذا لا يجوز ما دام الشارع أثبت لهن المصافة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف"، ولا يرد على هذا أن المرأة إذا صلت مع الرجل صلت خلفه؛ لماذا لا يرد؟ لأنه لا مكان لها إلى جنب الرجل، فهي معذورة شرعًا؛ أي: أنها تصلي وراءه، أما إذا كان لها مكان شرعًا في الصف، فإنه يجب عليها أن تصلي في الصف فإن صلَّت وحدها بطلت صلاتها. 395 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه قال: "صلَّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلٍة، فقمت عن يساره، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي، فجعلني عن يمينه". متَّفق عليه. قوله: "صليت مع الرسول" المعية هنا معناها: المصاحبة، أي: في صحبته جماعة؛ لأن هذا هو ظاهر اللفظ، وليس المعنى: أني صليت معه، أي: صليت مثل صلاته؛ لأن من المعروف المجامعة في الصلاة أن يكون ذلك في الجماعة، وقوله رضي الله عنه "ذات ليلة"، ذات تأتي في اللغة العربية على عدة معان منها: أن تكون بمعنى الحال مثل: {وأصلحوا ذات بينكم} (الأنفال: 10). أي: أصلحوا الحال التي تكون سببًا للقطيعة بينكم. ومنها: أن تكون بمعنى: جهة كما في حديث إبراهيم كذب ثلاث كذبات في ذات الله، أي: في جهته ودينه، ومنه أيضًا قول خبيب (الطويل): ولست أبالي حين أقتل مسلمًا ... على أيّ جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع الشاهد قوله: "في ذات الإله" أي: في جهته، أي: في الأمر الذي يوصل إليه وهو الدِّين ومنها: أن تكون زائدة لا معنى لها، مثل "ذات ليلة"، و "ذات يوم" وما أشبهها، أي: صلَّيت معه يومًا من الأيام، وفائدة زيادتها هنا: المبالغة في التنكير، يعني: أنه ليلة لا أعينها وأطلقها كثير من الناس على ما يقابل "الصفة"، ولاسيما في كتاب العقائد، ولهذا يقولون الإيمان بذات الله وصفاته، فأطلقوها على ما يقابل "الصفة"، وقالوا: ذات الإنسان، أي: عين الإنسان وصفاته، أي:

ما يعتريه من الصفات وما يقوم به من الأفعال، فصار لها أربعة إطلاقات، ولكن هذه الأخيرة اختلف العلماء فيها هل هي عربية أو ليست عربية؟ يعني: هل هي لغة عربية أو لغة عرفية؟ فقال بعضهم: إنها لغة عربية، وقال بعضهم: إنها لغة عرفية، وكلام شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى يدل على أنها ليست من لغة العرب العرباء؛ أي: ليست عربية محضة، لكنها استعملها العرب فصارت لغة عرفية بينهم. ولها أيضًا معنى خامس: أن تكون مؤنث "ذو" فتكون بمعنى صاحبة كما تقول مثلًا: امرأة ذات علم ذات جمال، وما أشبه ذلك، أي: صاحبة جمال، أو صاحبة علم وما أشبهها. وقوله: "ذات ليلة"، أي: ليلة من الليالي، "فقمت عن يساره فأخذ برأسي عن يساره"، أي: عن جانبه الأيسر، "قمت"، يعني: في الصلاة "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي ... " إلخ، أخذ الشئ وأخذ به بمعنى: أمسك به، وتأتي أخذ من باب أفعال الشروع، وهذه يكون عملها عمل كان ويكون لها خبر مضارع، مثل: أخذ يفعل كذا، أي: شرع يفعل، أما التي هنا فليست أخذ من أفعال الشروع، ما معنى أخذ؟ بمعنى: أمسك وقبض، "أخذ برأسي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائي"، وضروري إذا أخذه من ورائه أن يجعله يمر من وراء الرسول صلى الله عليه وسلم، "فجعلني عن يمينه"، يعني: محاذيًا له صفًا واحدًا. هذا الحديث سببه: أن ابن عباس رضي الله عنه -من حرصه على العلم- كان يتتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ليلة من الليالي بات عند خالته ميمونه رضي الله عنها إحدى أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم ليرى صلاته فنام عنده، ولما قام الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ظن ابن عباس نائمًا، فقام يصلي وحده فقام ابن عباس رضي الله عنه يصلي معه لكنه صف عن يساره، فأخذ برأسه فجعله عن يمينه، والرسول صلى الله عليه وسلم فعل هذا الفعل كما سيأتي -إن شاء الله-. فيستفاد من هذا الحديث: أولًا: حرص ابن عباس رضي الله عنه على العلم. وثانيًا: جواز نوم القريب عند قريبته مع زوجها، لكنه كان نائمًا عندهما حتى إنه كان نائمًا في عرض الوسادة رضي الله عنه، وهذا ما لم يكن الزوجان يرضيان بذلك، فإن كانا لا يرضيان بذلك فلا يجوز. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الصلاة جماعة بدون نية الإمامة، أي: أن نية المأموم تكفي عن نية الإمام، فإذا صليت وراء إنسان يصلي وأردت الجماعة، فإنه لا يحتاج إلى أن ينوي هو. وهذه المسألة سبق أن فيها خلافًا بين أهل العلم، فذهب بعض أهل العلم إلى جواز مثل هذه الصورة، أي: أن الجماعة يكفي فيها نية المأموم للائتمام ولا يشترط نية الإمام للإمامة، وهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي، أما على مذهبنا فلا يجوز، بل لابد من نية الإمام

والمأموم، فينوي الإمام أنه إمام وينوي المأموم أنه مأموم، هل في هذا الحديث ما يدل على ذلك؟ الظاهر إما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم نوى أن يكون إمامًا أو لم ينو، لا يمكن أن نقول: أنه ما يدري عن المأموم؛ لأنه قد علم بابن عباس، بقى عندنا حال ثالثة: أنه لا نوى هذا ولا هذا فهو: إما أن يكون نوى الإمامة أو لم ينوها، ولكن تصرفه بأخذ ابن عباس من ورائه وجعله عن يمينه، فهذا يدل على أنه نوى الإمامة، وحينئذ فلا يكون في الحديث دليل على هذه المسألة، وهذا هو الصحيح؛ يعني: أنه ليس في الحديث دليل، أما كون المسألة تصح أو لا تصح، فهذه سبق الكلام عليها. ثانيًا: استدل به على جواز الانتقال من الانفراد إلى الإمامة في أثناء الصلاة، يعني: يجوز للمنفرد أن يكون إمامًا في أثناء الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما دخل على أنه وحده ثم انضم إليه ابن عباس، ولم يمنعه صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا ممنوعًا لمنعه النبي ضلى الله عليه وسلم، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: فقال بعضهم: إنه لا يصح أن ينتقل المنفرد إلى الإمامة؛ لأنه يشترط في النية أن تكون من أول العبادة، فكيف تأتي النية في أثناء العبادة؟ ! ونقول: إنها صحيحة، وأجابوا عن حديث ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن ابن عباس سيقوم معه، فقد نوى من الأصل أن يكون إمامه، والجواب على هذا أن نقول: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}، أين الدليل على أن الرسول كان يعلم ذلك، بل في بعض طرق الحديث أن الرسول قام مستخفيًا حتى لا يستيقظ ابن عباس، وإذا كان كذلك فهو دليل على أن الرسول ما نوى أن يكون إمامًا لابن عباس في المستقبل، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك في النفل دون الفرض؛ إذ إنه يجوز أن ينتقل من الانفراد إلى الإمامة في النفل دون الفرض، دليلهم: أن الأصل في النية أن تكون مقارنة لتكبيرة الإحرام، أي: من أول الصلاة إلا أنه قد خولف ذلك في النفل لهذا الحديث، أي: لورود السُّنة به، فيبقى الفرض على أصل القاعدة، وقال بعض أهل العلم: إنه يجوز أن ينتقل من انفراد إلى إمامة في الفريضة وفي النافلة واستدلوا لذلك بهذا الحديث، ووجه الدلالة: أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل، وقد ثبت جواز ذلك في النفل فيلزم منه جوازه في الفرض إلا بدليل على الفرق، وأيضًا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم مع أصحابه، فدخل رجل فقام يصلي فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه"، وظاهره أنه في الفريضة؛ لأن مشروعية الجماعة والأمر بالجماعة لا يكون في النافلة، فلولا أنه كان في الفريضة ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من يتصدق على هذا فيقوم يصلي معه" وهذا دليل واضح.

بقى أن يقال عن قولنا: إن النية لابد أن تكون مقارنة للتحريمه؟ الجواب أن يقال: أصل نية الصلاة لابد أن يكون فعلها مقارنًا للتحريمة، والتغير هنا ليس في أصل الصلاة، لكنه في صفة الصلاة وليس في أصلها، وهذه الأدلة تدل على أن تغيير الوصف في أثناء الصلاة لا بأس به، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء وهو مريض وصلَّى بالناس بقية صلاة أبي بكر انتقل أبو بكر من كونه إمامًا إلى كونه مأمومًا، وهذا تغير صفة، ففرق بين تغير الصفة وبين تغير الأصل، فالأصل لابد أن يكون من أول الصلاة، ولهذا لو أن إنسانًا في أثناء صلاته النافلة وأراد أن يقبلها إلى فريضة قلنا: لا يصح، ولو كان في أصل الفريضة فأراد أن يقبلها إلى نفل معين كالوتر لا يصلح؛ لأن هذا تغيير لأصل الصلاة. إذن القول الراجح في هذه المسألة: أنه يجوز أن ينتقل المنفرد إلى كونه إمامًا في الفريضة وفي النافلة. ويستفاد من هذا الحديث: أن المشهور فيما إذا كان إمام ومأموم أن يكون المأموم عن يمين الإمام. الاستدارة هل هي على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب؟ ذهب بعض أهل العلم -وهوالمشهور من مذهب الحنابلة- إلى أنها على سبيل الوجوب، وأنه لو صلى عن يسار الإمام مع خلو يمينه فصلاته باطلة، وذهب أكثر أهل العلم: إلى أن هذا على سبيل الاستحباب، وأن الأفضل أن يكون عن يمينه ولو صلَّى عن يساره مع خلو يمينه فصلاته صحيحة، الذين قالوا بأنه يجب أن يكون عن اليمين، وأنه لو صلَّى عن اليسار فصلاته باطلة، قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أقرَّ ابن عباس على أن يكون في يساره وفعل حركة في الصلاة، وهي أنه تحرك وحرك ابن عباس وهذا عمل في الصلاة، ولا يمكن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يرتكب هذا العمل إلا لأمر واجب، فدل هذا على أن الصلاة على يمين الإمام واجبة، وما كان واجبًا فإن تركه يبطل الصلاة، والذين يقولون: إنه على سبيل الاستحباب قالوا: إن هذا مجرد فعل، ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ولو كان هذا على سبيل الوجوب لقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تعد كما قاله لأبي بكرة، فلما لم ينهه عنه بعد انصرافه من الصلاة علم أنه على سبيل الاستحباب، ثم إنهم يقولون أيضًا: الأصل براءة الذمة فلا تشغلها بأمر يلزم المكلف به إلا بدليل، وما دام هذا الدليل محتملًا فإننا لا نلزم عباد الله بشئ محتمل، ثم إننا نقول: الأصل الصحة أيضًا حتى يقوم دليل على بطلانها بكونه عن اليسار، وأجابوا عن كون الرسول صلى الله عليه وسلم يتحرك ويحرك ابن عباس بأن التحرك لفعل السنن أمر مستحب، حتى ولو كان من أجل فعل السُّنة فإنه أمر مستحب، فهنا نحن نقول: إذا أبعد الصف عنه يدنو من الصف مع أنه على سبيل السُّنة إذا قلنا: بأن المراد به: السُّنة، كذلك أيضًا الرسول صلى الله عليه وسلم يتحرك لما هو مباح في صلاته

حينما حمل أمامة بنت زينب، فكان إذا قام حملها وإذا سجد وضعها، فليست الحركة دالة على أن ما تحرك من أجله فهو واجب، وهذا القول أصحُّ؛ أي: كونه عن اليمين من باب الاستحباب، وهو اختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمة الله. ويستفاد من هذا الحديث: أن المصلي منفردًا خلف الصف صحَّت صلاته، وجهه: أن ابن عباس حينما صار خلف الرسول -عليه الصلاة والسلام- تلك اللحظة صار منفردًا، فلم تبطل صلاته، هكذا استدل به بعض العلماء، وقال: هذا دليل على صحة صلاة المنفرد خلف الصف، ولكن هذا الاستدلال فيه نظران: النظر الأول: أن ابن عباس لم يستقر في هذا الموضع، فهو مرَّ به مرورًا، أفلا يقال: إنه صلَّى خلف الصف؟ الثاني: أن وقوفه هذا لو فرض أنه وقوف كم أخذ من الصلاة ركعة ركعتين سجدة سجدتين؟ لا شيء، فلهذا لا وجه للاستدلال بهذا الحديث على صحة صلاة المنفرد خلف الصف. ويستفاد من هذا الحديث: أن موقف الواحد مع الإمام كموقفه في الصف، يعني: أنهما يكونان سواء، على هذا بوَّب الإمام البخاري رحمة الله بأنهما يكونان حذاء سواء لا يتقدم أحدهما على الآخر، وهذا بلا ريب مقتضى النصوص؛ لأننا إذا قلنا: الواحد مع الإمام صف، فما الذي أمر به النبي -عليه الصلاة والسلام- في الصفوف؟ المراصة، والمحاذاة، واستحسان بعض أهل العلم أن يتقدم الإمام في هذه الصورة استحسان في غير محله، قال: ينبغي أن يتقدم ليتبين أنه الإمام، فيقال لهم: تبين أنه الإمام، بماذا يكون؟ بأفعال الصلاة والتكبير والانتقالات، والصواب في هذه المسألة: أنهما يكونان سواء؛ لأنهما يعتبران صفًّا واحدًا، وإذا كانا كذلك فإن الواجب أن يكون أحدهما بحذاء الثاني. ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: أنه تجوز الحركة في الصلاة للمصلحة أو الحاجة، ولكن الحركة في الصلاة تنقسم إلى خمسة أقسام، يعني: أن تعتريها الأحكام الخمسة: واجبة، ومندوبة، ومباحة، ومكروهة، وحرام، فتكون واجبة إذا توقفت عليها صحة الصلاة، وهذه تشمل مسائل كثيرة، منها: لو قيل له: إن القبلة عن يمينك يجب عليه أن يتحرك، ولو رأى في غترته نجاسة وهو يصلي وجب عليه أن يتحرك لطرحها، هذان مثالان أحدهما لفعل واجب، والثاني للتخلص من محرم، والأمثلة كثيرة، تكون مندوبة إذا توقف عليها فعل المندوب في الصلاة، مثلًا: كالتقدم للمحاذاة في الصف أو يحتاج إلى الحركة للحكة، المهم: أنه إذا كان يترتب عليه فعل مندوب في الصلاة -سواء كان فعل مندوب لتحقيق مصلحة أو للتخلص من الحكة- فهذا للتخلص من المشغل، لو كان أمامه وهو يصلي شيء ملون فتقدم ليزيله حتى لا

يشوش عليه هذه مستحبة، وأما التي لتحقيق مصلحة فما قلتم لتتميم الصف وشبهه، ومثل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس إذا قلنا: إن الوقوف على يمينه على سبيل الاستحباب يكون مباحًا إذا كانت الحركة يسيرة لحاجة، لكن ما تتعلق بالصلاة؛ لأن اليسيرة التي تتعلق بالصلاة مستحبة، مثل: إنسان جاء إليه وقال: أعطني المفتاح كي أفتح أفتح دخل يده في جيبه وأعطاه المفتاح هذا مباح، ومثل إنسان صبيه يصيح وامه تطبخ الغداء وهو يصلي فقال: أعطني إياه وجعله معه يصلي، فينزله إذا سجد ويحمله إذا قام، هذا يكون مباحًا. ويستفاد من هذا الحديث: جواز الجماعة في النافلة، والنوافل بالنسبة للجماعة تنقسم إلى قسمين: أحدهما: ما تشرع فيه الجماعة كصلاة الاستسقاء، فإنه ثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلَّى الاستسقاء بالناس جماعة، وكذلك صلاة الكسوف على القول بأنها سنة، أما على القول الراجح فإنها واجبة فلا تدخل في هذا التخصيص، وكذلك صلاة الليل في رمضان سنة ثبتت بهدي النبي -عليه الصلاة والسلام- وهدي الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه. القسم الثاني من التطوع: ما لا تشرع فيه الجماعة، فهذا إن صلَّى الإنسان جماعة فيه على وجه راتب مستمر فهو مبتدع، وكل بدعة ضلالة، وإن فعله أحيانًا فهذا لا بأس به؛ لأنه ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث، والحديث الذي بعده -حديث عتبان بن مالك- فهو جائز ولا بأس به، وبهذا نعرف الفرق بين اتخاذ الشئ مشروعًا دائمًا وبين فعله أحيانًا، وهذا فرق ينبغي للإنسان أن يعتبره، يعني: فعل الشئ أحيانًا قد يسامح فيه إذا كان من الأمور المشروعة، لكن اتخاذه سنة راتبة هذا لا يجوز إلا بدليل، ومن ذلك مثلًا الدعاء بعد النوافل، أو بعد الفرائض يرفع اليدين، فهذه إن فعلها الإنسان أحيانًأ نقول: لا بأس به؛ لأن رفع اليدين في الدعاء من الأمور المشروعة، لكن كونه يتخذه سنة راتبة كلما صلَّى تقول: من أين لك هذا؟ فهو بدعة ينهى عنه، ومنها: أن بعض الناس إذا قدم إليه الطيب يتطيب بالبخور، قال: اللهمَّ صلِّ على محمد كأنه يتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب الطيب فبناء على ذلك يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول له: لا تفعل؛ لأنَّ كونك تجعل هذا سببًا للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يعد من البدعة؛ لأن السُّنة كما تكون بالفعل تكون أيضًا بالترك، فما وجد سببه في عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- ولم يتخذه سنة فاتخاذه سنة يعتبر من البدعة، ومن ذلك أيضًا كون بعض الناس إذا تئاءب قال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" لأن هذا ليس بمشروع؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أرشدنا إلى سنة فعلية في هذا المقام وسكت عن السنة التي يزعمها بعض الناس، ماذا أرشدنا إليه؟ الكظم، ثم وضع اليد على الفم إذا لم يستطع، ولم يأمرنا بالتعوذ، لكن بعض

صلاة المرأة والصغير خلف الإمام

الناس اعتاده، قال: لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "إن التثاؤب من الشيطان"، وقد قال الله تعالى: {وإمَّا ينزغنَّك من الشَّيطان نزٌغ فاستعذ بالله}. فهو دليل على أنه يشرع، ولكن نقول: إن نزغ الشيطان الذي أشار الله إليه هو: الأمر بالمعاصي أو التثبيط عن الطاعات؛ بدليل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما فسَّرها بذلك وهو أعلم الناس بمراد ربه -عليه الصلاة والسلام-، فلو كان هذا مرادًا لكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يشرع لأمته الاستعاذة إذا حصل التثاؤب، المهم: أنه يجب علينا أن نعرف الفرق بين إثبات مشروعية الشئ وبين فعله أحيانًا إذا كان مشروعًا بشرط أن يكون له أصل في الشرع، وأمَّا إذا لم يكن له أصل، فإنه ليس مشروعًا مطلقًا. قد يقول قائل: إن هذه القاعدة توجب لكم أن تبيحوا الاحتفال بمولد الرسول -عليه الصلاة والسلام- أحيانًا. فنقول: إن الاحتفال أصلًا لم يرد بخلاف الجماعة في الصلاة، وما ذكرنا لكم من أمثلة، أما الاحتفال بمولده فليس مشروعًا إطلاقًا، فلم يرد له أصل حتى نقول: إنه مشروع، فالقاعدة التي ذكرناها قاعدة مهمة أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله وهي معروفة من التتبع. ويستفاد من هذا الحديث: أنه أخذ بذؤابته من ورائه، والذؤابة ما هي؟ ذؤابة الرأس، ففيه دليل على جواز جعل رأس الرجل ذوائب وهو كذلك، وقد كان الناس يفعلون ذلك، لاسيما في البادية، أنا أذكر أني رأيتهم في البادية الرجل له ذؤابة تصل إلى السرة أحيانًا. صلاة المرأة والصغير خلف الإمام: 396 - وعن أنس رضي الله عنه قال: "صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أنا ويتيم خلفه، وأمُّ سليم خلفنا". متَّفق عليه، واللَّفظ للبخاري. "صلى" في أي مكان؟ في بيت أم سليم، وكانت دعت النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان من أحسن الناس خلقًأ، هذه المرأة لمحبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما صنعت هذا الطعام أحبت أن يأكل منه، فدعت النبي -عليه الصلاة والسلام- فلبَّى دعوتها ولما جاء قال أنس: قمت إلى حصير لنا من النخل قد اسودَّ فنضحه بماء من أجل أن يلينه؛ لأن الحصير إذا اسودَّ من طول اللبس يكون فيه أعواد صغيرة ربما تنشف بالجلد، ولكنه نضحه ليلين، فقام النبي -عليه الصلاة والسلام- يصلي بهم يقول: "فقمت أنا ويتيم خلفه"؛ لأنهم ثلاثة،

والسنة إذا كانت الجماعة ثلاثة أن يتقدم الإمام، هذا هو الذي ثبتت به السنة أخيرًا، وكان بالأول كانت السُّنة إذا كانوا ثلاثة أن يكون الإمام بينهم واحد على اليمين وواحد على اليسار، لكنها نسخت، وكان ابن مسعود لم يعلم بنسخها؛ فصلَّى مرة بالأسود وعلقمة فجعل أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره. لكن السُّنة لا شك أنها ثبتت بأن الأمر منسوخ، يقول: "فقمت أنا ويتيم"، اليتيم عند أهل العلم هو: الذي مات أبوه ولم يبلغ، ولو كانت أمّه باقية. العامة عندنا يون أن اليتيم من ماتت أنه، لكن الصواب: أن اليتيم هو الذي مات أبوه، وقوله: : وأم سليم خلفنا" هذه يعربها ابن آجروم، بأنها: ظرف مكان منصوبة على الظرفية بالفتحة الظاهرة، أين خبر المبتدأ متعلق بالظرف، الخبر إذن شبه جملة. هذا الحديث فيه فوائد: ونأخذ من الفوائد حتى من اللفظ الذي لم يذكره المؤلف، وهي: قوة محبة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم ذكورًا وإناثًا. ومنها: جواز دعوة المرأة للرجل إذا أمنت الفتنة، مثل: لو أن امرأة كبيرة في السن دعت جيرانها فلا حرج إذا أمنت الفتنة. ومنها أيضًا: سهولة خلق النبي -علية الصلاة والسلام- وإجابته لدعوة المراة. ومنها: جواز الصلاة على الحصير، ففيه رد على من قالوا: إنه لا يجوز السجود إلا على الأرض، أو ما كان على الأرض؛ لأن الرسول سجد على حصير، وثبت عنه أنه كان يسجد على الخمرة. ومن فوائد هذا الحديث: جواز صلاة النافلة جماعة أحيانًأ؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- صلَّى بهم جماعة. ومنها: أن موقف الاثنين فأكثر يكون خلف الإمام. ومنها: جواز مصافة الصبي، وهذه أيضًأ من المسائل الكبار التي اختلف فيها العلماء، فمن العلماء من يقول: إن مصافة الصبي لا تصح إلا في النفل، ولا تصح في الفرض، ومنهم من قال: إنها تصح في النفل وفي الفرض، وهو الصواب؛ لأنه قد ثبت أن الصبي يكون إمامًا لا مصافّا، وصحة إمامته أبلغ من صحة مصافته، فقد مرّ علينا أن عمرو بن سلمة كان يؤم قومه وله ست أو سبع سنين، إذن فالقول الثاني في المسألة: أنه يصح أن يكون الصبي مصافًا للبالغ في النافلة بهذا الحديث، وفي الفريضة بأنه لا فرق، الدليل قياس الفرض على النفل لعدم وجود الفارق بينهما.

ومن فوائد هذا الحديث: أن المرأة تكون خلف الرجال ولا تصفُّ معهم، حتى ولو كانوا من محارمها. ومنها: نظر الشارع إلى ابتعاد المرأة عن الاختلاط بالرجال، حيث إنه أذن لها أن تصلي وحدها، ولا تكون مع الرجل، فيكون في هذا ردُّ لأولئك الذين ينادون باجتماع الرجل والمرأة، واختلاط النساء بالرجال، وأن هؤلاء مضادون لحكم الله عز وجل إذا كان في العبادات التي هي من أجل ما يختلط فيه الرجال والنساء، وأبعد ما يكون عن الفتنة، فكيف بالأماكن التي تكون مدعاة للفتنة، ثم إنكم أيضًا تعرفون ما يكون من فتنة المرأة إذا جاءت للعمل واختلطت بالرجل، كيف تأتي؟ لا شك أنها تأتي متبرجة، متطيبة كل ما تملك من الجمال تأتي به. 397 - وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنَّه انتهى إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصَّفِّ، ثمَّ مشى إلى الصَّفِّ، وذكر ذلك للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "زادك الله حرصًا ولا تعد". رواه البخاريُّ. وزاد أبو داود فيه: "فركع دون الصَّفِّ، ثمَّ مشى إلى الصَّفِّ". "أبي بكرة" هذا لقب، ويقولون: إنه سمي بذلك؛ لأنه نزل في حصار الطائف من السور ببكرة، يقول: "أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو"، الضمير يعود على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، والجملة: "وهو راكع" حالية في محل نصب من النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: والحال أنه راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، من الذي ركع؟ أبو بكرة قبل أن يصل إلى الصف، وطبعًا مشى إلى الصف، ودخل فيه، وفي بعض ألفاظ الحديث: "أنه جاء مسرعًا يسعى قد حفزه النفس". فهاهنا أربعة أشياء: الإسراع، والركوع قبل الوصول إلى الصف، والمشي حتى يدخل في الصف وموافقة الإمام في الركوع، أربعة أشياء، ننظر الآن ما هو المشروع منها، وما هو غير المشروع لأجل أن نطبق عليه قوله: "ولا تعد" يقول رضي الله عنه: "فركع قبل أن يصل إلى الصف" يعني: ثم دخل في الصف لا شك في هذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "زادك الله حرصًا" متى قال له؟ بعد الصلاة، إذن الحديث فيه شيء محذوف، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته سأل: "من الذي جاء؟ "، فقيل له: أبو بكرة، أو هو قال: أنا يارسول الله، فقال له: "زادك الله حرصًا"، وقوله: "زادك الله حرصًا"، حرصًا هذه مفعول ثان لزادك؛ لأن زاد تنصيب مفعولين ليس أصلهما مبتدأ وخبرًا، فهي من باب كسا وأعطى تنصب مفعولين، "زادك الله حرصًا ولا تعد"، (لا) ناهية (تعد): فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة الجزم السكون، وهو من عاد يعود، مثل: قال يقول،

والنهي منه "لا تفعل" كما قال تعالى: {فلا تقل لَّهما أفٍ} (الإسراء: 23). إذن "لا تعد" من العود، يعني: لا تعد لمثل هذا العمل، وهذا متفٌق عليه في جميع الروايات أنه "لا تعد"، وزعم بعضهم أنه قال: "ولا تعد"، وهذا لا يصح لا رواية ولا دراية، وزعم بعضهم أنه قال: "ولا تعد" وهذا أيضًا لا يصح فالرواية الصحيحة الثابتة: "ولا تعد" من العوَّد، وهي متضمنة لعدم إعادته ومتضمنة لعدم عدوه أيضًا، ننظر الآن: "لا تعد"، إلى أي شيء؟ قلنا: إنه فعل أربعة أشياء: أسرع، وركع قبل أن يصل إلى الصف، ودخل في الصف، ووافق الرسول -عليه الصلاة والسلام- في الركوع، فلم ينتظر حتى يقرأ الفاتحة، هذه الأمور الأربعة ننظر ما الذي يتوجه إليه النهي، أولًا إسراعه هل يتوجه إليه النهي؟ نعم، من أين يؤخذ؟ من دليل آخر وهو: "إذا أقيمت الصلاة فامشوا ولا تسرعوا". إذن الإسراع دخل في قوله: "ولا تعد"، دخوله قبل أن يصل إلى الصف أيضًا منهي عنه أم لا؟ نعم منهي عنه؛ لأن الإنسان مأمور بالمصَّافة، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يكبر حتى تستوي الصفوف، فمن باب أولى أن يقال: إن الإنسان لابد أن يدخل في الصف قبل أن يكبر، مشيه إلى الصف مأمور به لكي يدخل في الصف. رابعًا: دخوله مع النبي -عليه الصلاة والسلام- بدون أن يقرأ الفاتحة، هل يتوجه إليه النهي؟ لا يتوجه لقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: "ما أدركتم فصلُّوا"، الآن هو أدرك الركوع فليصلِّ ولا ينتظر؛ ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا ركع فاركعوا" فيكون النهي في قوله: "لا تعد" للإسراع أو للركوع قبل الدخول في الصف أمَّا "لا تعد" فيعني: لا تركع إذا أدركت الإمام راكعًا فهذا لا يتوجه إليه النهي؛ لأن الأحاديث الأخرى تدل على أن الإنسان إذا أتى والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام، هذه الأشياء هي التي يتوجه إليها النهي في قوله: "لا تعد"، فصار يتوجه إلى شيئين ولا يتوجه إلى شيئين آخرين، نعود إلى القصة فهي معروفة وذلك أن الصَّحابي رضي الله عنه جاء والنبي راكعًأ فأسرع وأدركه راكعًأ خوفًا من أن تفوته الركعة، وحرصًا على إدراك الركوع. فيستفاد من هذا الحديث فوائد منها: أنه ينهى الإنسان أن يسرع ولو أدرك الإمام راكعًا؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا تعد"، إلا أن أهل العلم رخَّصوا في الإسراع الذي لا يقبح، كما نَّص عليه الإمام أحمد رحمه الله، فقد قال: ما لم تكن عجلة تقبح، فقيَّدها بأن تكون قبيحة، أمَّا إذا كان إسراعًا مع هدوء وسكينة فلا حرج رخَّص فيه بعض أهل العلم، والأولى أن يبقى النص على ما هو عليه، والحمد لله هو في عافية، أمَّا ما يفعله بعض العامة الآن بأن يكون إذا جاء

والإمام راكع يقول: اصبر إن الله مع الصابرين، وربما يتنحنح، فهذا خلاف المشروع، وقد حدثني بعض الناس أن أحد الأئمة إذا سمع الداخل رفع مباشرة وإن لم يتأخر كثيرًا إذا أتى بالطمأنينة رفع ويقول: إني أفعل ذلك لأني أخشى أن يأتي هذا عجلًا فيكبر تكبيرة الإحرام وهو راكع كما يفعله بعض العامة يكبر وهو يهوي، والواجب أن يكبِّر الإنسان تكبيرة الإحرام وهو قائم، لكن المشهور من المذهب: أنه يستحب انتظار الداخل ما لم يشق ذلك على المأموم، وليس في هذا سنة متبعة عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- غاية ما هنالك أن يقال: إذا كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يعجل إذا سمع بكاء الصبي مخافة أن تفتتن أمه، مع أن التعجيل فيه تفويت للمأمومين الذين خلفه، أعني: بعض ما يرون، فالانتظار بدون مشقة على المأمومين لأجل مصلحة دينية -وهو إدراك هذا القادم لما يدرك من الصلاة- يكون من باب أولى، فالمسألة مسألة قياس واجتهاد، فإذا رأى الإمام أن الناس عندهم غشم وعدم طمأنينة وأنهم إذا جاءوا وهو راكع كبَّروا للركوع ونسوا تكبيرة الإحرام أو كبَّر بنية الدخول في الصلاة، ولكنه وهو يهوي ورأى أنه من المصلحة ألاَّ ينتظ فهذا طيب له أن يفعله. ومن فوائد هذا: أن من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة، وفي هذه المسألة معترك بين أهل العلم، فمنهم ممن قال: إنه لا يدركها؛ لأن قراءة الفاتحة ركن في الصلاة في كل ركعة؛ لقول الرسول -عليه الصلاة والسلام- للمسئ في صلاته: "وافعل ذلك في صلاتك كلها"، وقال بعضهم: بل هو مدرك للركعة؛ لأن قراءة الفاتحة في حق المأموم سنة وليست بواجبة، وقال آخرون: بل إنه إذا أدرك الركوع أدرك الركعة؛ لا لأن قراءة الفاتحة غير واجبة على المأموم، لكن لأنها سقطت في هذه الحال حيث إنه لم يدرك القيام الذي هو محل القراءة، كل هذه تعليلات، لكن ما الذي يدل عليه ظاهر الحديث؟ يدل ظاهر الحديث على أنه أدرك الركعة؛ لأن أبا بكرة رضي الله عنه عجَّل من أجل إدراك الركعة كما في بعض الطُّرق أشار إليها الحافظ في الفتح: "قال: خشيت أن تفوتني الركعة"، وهذا دليل على أنه أسرع لهذا الغرض ولم يأمره النبي - عليه الصلاة والسلام- بقضاء هذه الركعة ولو أمره لنقل، والنبي -عليه الصلاة والسلام- إذا رأى أحدًا أخطأ نبَّه على خطئه مثل الرجل الذي صلَّى بدون طمأنينة قال له: "ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ"، فلو كان أبو بكرة لم يدرك الركعة لأمره بقضائها؛ لأنه ما أسرع إلا لإدراكها، وهذا هو القول الراجح، مع أني أرى وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في كل ركعة في الجهرية والسرية، لكن الحديث واضح. ومن فوائده أيضًا: معاملة النبي -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه خير معاملة، هذا الرجل

أخطأ بلا شك، والدليل على خطئه قوله له: "ولا تعد"، لكن مع ذلك لمَّا علم النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه أراد الخير قال له: "زادك الله حرصًا"، لو أن أحدًا فعل مثل ما فعل أبو بكرة قال: من أجل ان تنالني دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم الآن يصلح؟ ما يصلح؛ لأن أبا بكرة رضي الله عنه ما كان عالمًأ بأن هذا مما ينهى عنه، وإلا لما فعل لكن لا شك أن من كان مجتهدًا حريصًا على الخير، وإن لم يصب فهو مأجور له أجر على اجتهاده وإن لم يصب الحكم. ومن فوائد هذا الحديث: أن من ارتكب محظورًا جاهلًا فلا إثم عليه، من أين يؤخذ؟ لم يقل: إنك آثم، ولا وبخه -عليه الصلاة والسلام-، وهكذا كانت عادته -عليه الصلاة والسلام- ألاَّ يوبخ من فعل الشئ جاهلًا، لم يوبخ الرجل الذي بال في المسجد، ولم يوبخ الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان، ولم يوبخ الرجل الذي تكلَّم في الصلاة؛ لأن كل هذا صار عن جهل. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينهى عن الدخول في الصلاة قبل الوصول إلى الصف؛ لقوله: "ولا تعد". ومن فوائده: أن الصلاة منفردًا خلف الصف جائزة، هذه الفائدة أخذها بعض العلماء وقالوا: إن فيه دليلًا على أن صلاة المنفرد خلف الصف جائزة؛ لأن الرسول ما أمره بالإعادة وهو قد صلَّى قبل أن يصل إلى الصف، ولو كانت ممنوعة لأمره بالإعادة، وهذا الاستدلال قريب من استدلال من استدلَّ بقصة ابن عباس السابقة حينما أداره الرسول -عليه الصلاة والسلام- وراء ظهره دلَّ على جواز الصلاة منفردًا، ولكن الصحيح أنه ليس فيه دليل؛ لأن هذا الرجل ما استمر في جميع الصلاة منفردًا، لو أتمَّ صلاته منفردًا لكان فيه دليل على أنه لا تحرم الصلاة منفردًا، لكن الرجل تقدم إلى الصف ولهذا نقول: إذا صلى منفردًا خلف الصف ركعة فأكثر لا تصح صلاته، وغن خاف فوات الركعة فله أن يدخل في الصف بشرط ألاَّ يصلي ركعة فأكثر، فإن صلَّى ركعة فأكثر فالصحيح: أنه لا تصح صلاته. ومن الفوائد: أن المجتهد معذور ولو أخطأ. ومنها: إثبات الأسباب، وأن الدعاء منها، يؤخذ هذا نت قوله: "زادك الله حرصًا". ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لغيره نفعًا ولا ضرًا، وتؤخذ هذه الفائدة من دعائه، وفيه إيراد. لو قال قائل: إن كان الأمر مكتوبًأ فلا فائدة من السؤال، وغن كان لم يكتب فالسؤال لن يأتي به فما الجواب؟ يقولون: إن أحد الطلبة أو الحاضرين أورد هذا السؤال على الشيخ محمد عبده، فقال الشيخ: إن كان الله قد شاء أن أجيبك فلا فائدة من سؤالك لي، وإن كان الله لم يشأ أأجيبك فلن أجيبك على سؤالك، ألقمه الحجر من حجته، نحن نقول: في الجواب عن أصل المسألة: ما فائدة الدعاء إذا كان الله قد قدَّره، وإذا كان الله لم يقدره، فإن الدعاء لن يأتي به

حكم صلاة المنفرد خلف الصف

فما الجواب؟ نقول: إن قدَّره بهذا السبب، فأنت عليك بالأسباب، والله تعالى له بقدرته أن يأتي بالمسببات التي يربطها بها {وقال ربُّكم ادعوني أستجب لكم} (غافر: 60). التزم عز وجل أن يستجيب وإلا لقلنا أيضًا: إذا كان الله قد قدَّر أني من أهل الجنة فلا فائدة من العمل، وإن لم يقدِّر أني من أهل الجنة فإني وإن عملت فلن أدخلها، وكذلك يقول الثاني: إن كان الله قد قدَّر لي الولد فلا فائدة من الزواج، وإن لم يقدِّر لي ولد فلو تزوجت ما جاءني ولد، وهكذا فلا أحد ينكر الأسباب أبدًا إلا رجل ضالّ أو ضائع. يستفاد من رواية أبي داود: جواز الحركة لإتمام الصلاة، وهذا يؤخذ من قوله: "ثم مشى إلى الصلاة". ويستفاد منه: أن الانفراد ببعض ركعة لا يعد انفرادًا لأنه انفرد بتكبيرة الإحرام والركوع، "ثم مشى إلى الصف"؛ فالانفراد ببعض الركعة ليس كالانفراد في الصلاة كاملة، وبهذا نردُّ على من استدلَّ بهذا الحديث على: أن الإنسان يجوز أن يصلي منفردًا خلف الصف، فنقول: يمكن الجمع بين الأدلة، بماذا؟ بأن يقال: إن الانفراد ببعض الركعة لا يعد انفرادًا، وكذلك سبق أن قلنا ذلك في حديث ابن عباس. حكم صلاة المنفرد خلف الصف: 398 - وعن وابصة بن معبٍد رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلِّي خلف الصَّفِّ وحده، فأمره أن يعيد الصَّلاة". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيُّ وحسَّنة، وصحَّحه ابن حبَّان. نتناول هذا الحديث أولًا بالكلام على إسناده، فنقول: العلماء مختلفون فيه، فمنهم من يقول: إن الإسناد مضطرب، ومعلوم أن الاضطراب يوجب ضعف الحديث، وإذا ضعف الحديث فلا حجة فيه؛ لأن من المعلوم أنه لا يحتج إلا بالحديث الصحيح، أو الحسن، أمَّا الضعيف فإنه لا يحتج به ولا يعمل به، بل ولا يجوز ذكره إلاَّ لبيان ضعفه إلا إذا كان من فضائل الأعمال، فإن بعض أهل العلم أجاز ذكره بشروط ثلاثة وهي: ألا يكون الضعف شديدًا، وأن يكون لهذا العمل أصل صحيح -العمل المرغوب فيه-، والثالث: ألا يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله. فبعضهم أجازه بهذه الشروط الثلاثة، والبعض الآخر قالوا: لا يجوز العمل بالضعيف، ولا

يصح ذكره مطلقًا، وفيما صح عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- غنّى عما كان ضعيفًا، وبعض العلماء صحح هذا الإسناد أو حسَّنه، وعلى كلا الرأيين يكون الحديث حجة، وهذا ما ذهب إليه فقهاء الحنابلة فقد احتجوا بهذا الحديث، ورأوه إمَّا حسنًا وإمَّا صحيحًا لشواهده، وقالوا: إن الاضطراب الذي في سنده يمكن زواله بترجيح أحد الطُّرق أو إنه اضطراب لا يخل؛ لأنكم تعرفون أن الاضطراب أحيانًا لا يخل إذا كان لا يتعلق بأصل المعنى مثل حديث فضالة بن عبيد حين اشترى قلادة باثنى عشر دينارًا، ففصلها فوجد فيها أكثر فاختلفوا في قيمة هذه القلادة، ومثل ذلك اختلافهم في قيمة جمل جابر، لكن لما كان هذا الاختلاف لا يتعلق بأصل الحديث، قال العلماء: إنه لا يضر؛ لأن المحدثين لا يهتمون بالشئ الذي لا يتعلق بأصل الحديث فربما نسوه فحدّث بعضهم بكذا، وبعضهم بكذا. على كل حال: هذا الحديث عند أصحاب الإمام أحمد حديث تقوم به الحجة، وينفذ به الحكم. يقول: "رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده"، "وحده" حال من فاعل يصلي، "وخلف الصف" أيضًا ظرف وهو في موضع نصب على الحال: "يصلي حال كونه خلف الصف"، وحال كونه وحده، "فأمره أن يعيد الصلاة" الفاء هنا للسببية، يعني: أمره النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يعيد الصلاة التي صلاها خلف الصف. الحديث واضح، ولكن هل الصف تام أم لم يتم؟ يحتمل أن يكون تامًّا، ويحتمل أن يكون غير تام، إن كان غير تام فإن بطلان صلاته واضح؛ لأنه صلى وحده بدون عذر، وإن كان تامًّا فإنه على رأي بعض أهل العلم أيضًا تبطل الصلاة ولو كان الصف تامًّا، وإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال، فلا يمكن أن يستدل بهذا الحديث على أن من صلى خلف الصف ولو كان الصف تامًّا بطلت صلاته؛ وذلك لأن الحديث ما بين فيه، بل قد يتراءى للإنسان يصلي خلف الصف وحده، كلمة "وحده" قد يتراءى للإنسان أن الصف الذي سبقه لم يتم ولكن هذا ضعيف. فالحاصل: أن عندنا الآن أن الصف تام احتمال، وأن الصف لم يتم احتمال آخر، الرسول -عليه الصلاة والسلام- أمر الرجل أن يعيد الصلاة لا لكونه صلى وحده، ولكن لسبب آخر؛ لأن القضية عين، وليست كلامًا عامًا، قضية أنه رأى رجلًا يصلي خلف الصف، "فأمره أن يعيد الصلاة" يحتمل أمره لأنه رآه أخل بشئ آخر فأمره أن يعيد لأجله، هذا الاحتمال وارد لكنه ضعيف يضعفه أن الفاء في قوله: "فأمره" تشي للسببية، ولو أحلنا سبب الأمر على أمر غير موجود لكنا ألغينا سببًا موجودًا وادعينا سببًا غير موجود، انتبهوا لهذه؛ لأننا سننتقل إلى حديث آخر أعظم منه خطورة، من ادعى أن قوله: "فأمره أن يعيد الصلاة" إنما هو لسبب آخر غير كونه

صلى خلف الصف نقول: هذا ضعيف لا يصح، لماذا؟ لأنه ألقى السبب الموجود وادعى سببًا غير موجود مفقود، نظير هذا ما ثبت في الصحيحين: "أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها". هذا لفظ حديث، الحنابلة يقولون: في هذا دليل على أن جاحد العارية يقطع، من استعار شيئًا ثم جحده وثبتت عنده قطعت يده، حجتهم: أن السبب الذي جاء مرتبًا عليه الأمر بالقطع هو جحد العارية، ومن لا يرى ذلك وهم الأئمة الثلاثة يقولون: إنها قطعت بغير هذا كانت تستعير المتاع فتجحده فسرقت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، وهذا ضعيف؛ لأن فيه إلغاء للسبب الموجود المذكور، وادعاء لسبب مفقود غير موجود، ولو كانت العلة السرقة لما كان لقوله: "كانت تستعير المتاع فتجحده" فائدة إطلاقًا، هم يقولون: إن فائدته التعريف إنها المرأة المعروفة التي تستعير وتجحد، وأن هذا المقصود تعيينها، فيقال: فلانة بنت فلان، وهذا أبلغ في التعيين من قوله: "امرأة مخزومية تستعير المتاع فتجحده". المهم: أنه لا شك أن عندنا في هذا الحديث أن سبب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الرجل أن يعيد الصلاة أنه صلى وحده خلف الصف، يبقى النظر الآن فيما إذا كان هناك احتمال أن يكون الصف تامًّا أو غير تام، وهذا منشأ الخلاف بين شيخ الإسلام ابن تيمية والمشهور من المذهب، المشهور من المذهب أنهم يقولون: إنه تبطل صلاته مطلقًا اتم الصف أو ما تم ويلزمه الإعادة، وشيخ الإسلام يقول: إذا كان الصف تامًّا فإنه لا يلزمه الإعادة. في هذا الدليل على وجوب تعليم الجاهل، أما على النبي صلي الله عليه وسلم فلا شك أنه واجب ولوو كان أمرًا مستحبًّا؛ لأنه لو لم يبلغ الناس بالأمر المستحب فلا يعرفونه، لكن الكلام هل نأخذ من هذا الحديث وجوب تعليم الجاهل بالنسبة لغير الرسول؟ نقول: إنه لا يؤخذ، لأن المعروف عن الأصوليين أن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، لكننا نأخذ وجوب تعليم الجاهل من دليل آخر من قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الَّذين أوتوا الكتاب لتبيننَّه للنَّاس ولا تكتمونه} [آل عمان: 187]. ومن فوائد هذا الحديث: بطلان صلاة المنفرد خلف الصف؛ لقوله: "فأمره أن يعيد الصلاة"، وهذا هو الصحيح، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى القول بصحة صلاة المنفرد وحملوا الأمر بالإعادة هنا على أنه ليس للوجوب ولكن للإستحباب، والصواب أنه للوجوب. ويستفاد من هذا الحديث: وجوب المصافة؛ لأن الإلزام بإعادة الصلاة لتركها يدل على وجوبها وهو كذلك.

ومن فوائده أيضًا: الإشاة إلى الحكمة من إيجاب صلاة الجماعة وهي أن الناس يكونون متصافين بعضهم إلى جنب بعض حتى يشعروا بالوحدة والإلفة. وممن فوائده: على المشهور من مذهب الإمام أحمد أن من صلى خلف الصف ولو كان الصف تامًّا وجبت عليه الإعادة، وهذا إن صحَّ أنه لم يجد مكانًا في الصف، أمَّا إذا لم يصح فالمسألة محتملة ولا دليل فيها، ولكن على تقدي صحة هذه اللفظة نقول: هو دليل على أن يعيد ولو كان الصف تامًّا؛ أمَّا شيخ الإسلام فيقول: إنه تجب المصافة، ولكن إذا لم يستطع أن يصف فإنه واجب غير مقدور عليه، والواجب غير المقدور عليه يسقط لقوله تعالى: {فاتَّقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. وقال: إنه مما يدل على ذلك أن المرأة أجازت الشريعةة أن تقف وحدها، لماذا؟ لتعذر وقوفها مع الرجال شرعًا فيقول بالقياس، إذن التعذر الحسي كالتعذر الشرعي، فلمَّا كان التعذر الشرعي مسقطًا لهذا الواجب فالتعذر الحسي من باب أولى، وما ذهب إليه الشيخ أصح؛ أي: أنه واجب، ولكن يسقط بالعجز. 339 - وله عن طلق بن عليٍّ رضي الله عنه: "لا صلاة لمنفرد خلف الصَّفِّ". - وزاد الطَّبرانيُّ في حديث وابصة: "ألا دخلت معهم أو اجترررت رجلًا؟ ". قوله: "وله" أي: ابن حبان؛ لأنه أقرب مذكور، "لا" نافية للجنس، و"صلاة" اسمها و"منفد" خبرها، و"خلف الصف" متعلق بمنفرد، قوله "لا صلاة" ذكنا فيما سبق أن ما نفاه الشع فيحمل أولا على نفي الوجود؛ لأنه هو الأصل، الأصل في النفي أن يكون نفيًا للحقيقة، فإن لم يكن فهو على الصحة، ويكون النفي هنا للوجود الشرعي لا الحسي، فإن لم يكن فعلى الكمال، ومن ادعى أن هذا النفي لنفي الكمال مع إمكان أن يكون لنفي الصحة لم يقبل، ومن ادّعى أنه لنفي الصحة مع إمكان نفي الوجود فلا يقبل؛ لأن المسألة مرتبة هنا "لا صلاة لمنفرد" ذهبت الأئمة إلى أن المراد بقوله: "لا صلاة": لا صلاة كاملة للمنفرد، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقالوا: إن النفي يأتي للكمال كما في قوله: "لا صلاة بحضرة طعام" فإن

المشي إلى الصلاة بالسكينة والوقار

الإنسان لو صلى بحضرة طعام فصلاته صحيحة، فكذلك "لا صلاة لمنفرد" يعني: لا صلاة كاملة لمنفرد، وهذا مردود لوجهين: الوجه الأولك أن خلاف الأصل كما قلنا. الوجه الثاني: أمره بالإعادة يجل على أنه نفي للصة وليس نفيًا للكمال. قال: وزاد الطبراني: "ألا دخلت معهم". "ألا" أداة عرض، أما "هلا" و"لولا" فهما أداة تحضيض، والفرق بين العرض والتحضيض: أن العرض طلب برفق، والتحضيض، طلب بإزعاج وشدة، فالعرض يعرض عليك شئت أو لم تشأ، وأما التحضيض فإنه يحثك، قال: "ألا دخلت معهم" ويجوز اان يكون المراد بها هنا: الأداة أداة عض، ولكن المراد بها التحضيض؛ لأن أدوات المعاني ينوب بعضها عن بعض، "ألا دخلت معهم" أي: مع الناس، وهذا يقتضي أن يكون هناك شيء يمكن أن يدخل فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقول: "ألا دخلت معهم" وليس فيه مكان، إذ إنَّ هذا أمر بما لا يمكن. "أو اجتررت أحدًا" أي: ليجع معه، "اجتررته" يعني: جذبته إلى الصف الثاني ليتأخر، وهذه الزيادة ضعيفة، لكنه يستأنس بها في قوله: "ألا دخلت معهم" على أن الصف غير تام .. ولهذا اختلف العلماء في هذه المسألة هل يجر أو لا يجر؟ فقال الشافي وجماعة: إنه يجره بناء على أن هذا الحديث صحيح، أما أصحاب الإمام أحمد فكرهوا ذلك، وقالوا: لا يجره، ولكن ينبهه بالقول، أما أن يجره أي: يجذبه فإن هذا مكروه، إنَّما تنبهه بالقول، والصحيح أنه لا يجذبه لا بالقول ولا بالفعل؛ وذلك لأن في جذبه -كما قررنا- مفاسد كثيرة: الأولى: تأخيره من المكان الفاضل إلى المكان المفضول. والثانية: التشوي عليه. والثالثة: فتح فرجة في الصف. والرابعة: حركة الصف بسبب هذه الفرجة، وما دام الأمر ليس في الشرع ما يدل على وجوبه فإن الأصل أن التصرف في الغير ممنوع إلا بدليل. المشي إلى الصلاة بالسكينة والوقار: 400 - وعن أبي هريرة ضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصَّلاة وعليكم السَّكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكو فأتمُّوا". متَّفقٌ عليه، واللَّفظ للبخاريِّ. "إذا سمعتم الإقامة"، المراد بها إقامة الصلاة، وقوله: "فامشوا" هذا جواب الشرط، وأين الشرط؟ هو قوله: "إذا سمعتم"، وقوله: "فامشوا إلى الصلاة" يعني: امشوا المشي الذي قيّده في هذا الحديث، وهذا لا ينافي قوله تعالى: {يا أيُّها الَّذين ءامنوا إذا نودي للصَّلاة من يوم الجمعة

فاسّعوا إلى ذكّر الله} [الجمعة: 9]. حيث إن ظاهر الآية ينافى ظاهر الحديث، الآية أمرٌ بالسعي، والحديث أمر بالمشي، والمراد بالسعي في الآية: الإسراع والمبادرة، وليس المراد بذلك أنك تمشي مسرعًا. وقوله: "فامشوا إلى الصلاى وعليكم السكينة" "السكينة" مبتدأ، و"الوقار" معطوف عليه، والخبر قوله: "عليكم"، والجملة في موضع نصب على الحال من الواو في قوله: "امشوا". هل يجوز أن نقول: "وعليكم السكينة والوقار" ونجعل "عليكم" اسم فعل أمر أو لا يجوز؟ ييجوز إذا لم تمنع منه الرواية؛ ولهذا قال العلماء: يجوز فيها النصب على أن "عليكم" اسم فعل أمر، ولكن الحديث بالرفع، والمعنى: أن السكينة تكون عليكم. السكينة والوقار هل هما لفظتان مترادفتان أو لفظتان متغايرتان؟ تقدم لنا مرارًا أن الأصل في العطف المغايرة، وعلى هذا فهما لفظتان متغايتان، فما وجه التغاير بينهما؟ السكينة في الجوارح، والوقار في القلب، السكينة في الجوارح يعني: يتحرك حركات غير مناسبة، والوقار بالقلب والهيئة يكون وقورًا كأنَّما ذهب إلى محل حياء وخجل وشرف هكذا ينبغي. وقوله: "علكم السكينة والوقار ولا تسرعوا" "لا" نافية، ولهذا جزمت الفعل بحذف النون، والواو فاعل، " ولا تسرعوا في المشي" وليس لا تسرعوا في التجهيز للصلاة، بل "لا تسرعوا في المشي"؛ لأن الإسراع ينافي السكينة والوقار. "فما أدركتم فصلوا" "ما" هذه شرطية، وفعل الشرط "أدركتتم"، وجوابه: "فصلوا" أي: فما أدركتم من الصلاة مع الإمام فصلوا، "وما فاتكم فأتموا" ما فاتكم يعني: من صلاة الإمام، "فأتموا" أي: فأتوا بإتمامها. ففي هذا الحديث: يأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أمته إذا سمعوا الإقامة للصلاة أن يذهبوا إليها بهذا الوصف بسكينة الجوارح، ووقار القلوب والهيئة، وألا يسرعوا؛ لأن ذلك ينافي الأدب، فأن إذا خرجت من بيتكفإنكك تخرج لتقف بين يدي الله عز وجل في بيت من بيوته، فينبغي أن تكون ملتزمًا بهذا الوصف الذي بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنت حينما تخرج من بيتك متوضئًا ومتطهرًا فإنك لا تخطو خطوة إلا رفع الله لك بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة، إذن فأنت في عبادة، وعليه فلا ينبغي لمن كان في عبادة أن يكون غير وقور ولا ساكن. ويقول لنا رسول الله صلة الله عليه وسلم: "لا تسرعوا"، لأن الإسراع أو العجلة خفة في المرء، وعدم أدب ووقار، فلا ينبغي أن يكون كذلك. ثم يرشدنا -عليه الصلاة والسلام- إلى الدخول مع الإمام على أي حال وجدناه: "فما أدركتم

فصلوا" ولا تنتظروا، تجده ساجدًا تقول: أنتظر حتى يقوم، لا، الذي تدرك صله، فإن كان الذي أدركت مما تدرك به الركعة مثل الركوع فقد أدركت، وإلا فلا. "وما فاتكم فأتموه" هل "أتموه" أم أتموا الصلاة لتأتوا بالواجب؟ الثاني؛ لأن الذي فات فات، ولكن المعنى: أتموا الصلاة. يستفاد من هذا الحديث فوائد كثيرة؛ منها: أن الإقامة تسمع من خارج المسجد لقوله: "إذا سمعتم الإقامة"، ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي للمقيم أن يرفع صوته بها، لا يقول: إن العدد الحاضر قليل يكفيهم أدنى صوت ليس الأمر كذلك بل يرفع صوته ليسمع من خارج المسجد. ويستفاد من هذا: أنه لا بأس أن ترفع الإقامة من مكبر الصوت؛ لأنه إذا رفعت من مكبر الصوت سمعه الناس وحضروا، كما أن النداء ليوم الجمعة الذي أنيط به الحكم بالحضورية يسمع من خارج المسجد، ويكون بمكبر الصوت. يقول بعض الناس: إنه يحصل بذلك مفسدة، والمفسدة هي أن الناس يتأخرون في بيوتهم إلى الإقامة. والجواب على ذلك: أنه لا يلزمهم الحضور إلا إذا سمعوا الإقامة لقوله: "إذا سمعتم الإقامة"، ما قال: "إذا أذن". ولكن هل نقول: إنه إذا كان محله بعيدًا بحيث يكون حضوره أو وصوله إلى المسجد بمنزلة حضور من سعى عند سماع الإقامة، فهل يلزمه أن يتقدم كما قال العلماء -رحمهم الله- فيمن كان منزله بعيدًا يوم الجمعة: إنه يجب عليه أن يسعى إلى الجمعة، وإن لم يسمع المؤذن إذا كان مكانه بعيدًا بحيث يدرك الخطبة والصلاة؟ يحتمل هذا، ويحتمل أن يبقى الحديث على عمومه، ويقال: لا يجب السعي إلى الصلاة إلا بسماع الإقامة. ويستفاد من هذا الحديث: مشروعية الإقامة لقوله: "إذا سمعتم الإقامة"، وما حكم الإقامة؟ تقدم لنا أنها فرض كفاية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بها فقال: "فأذنوا وأقيموا". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي المشي إلى لاصلاة بدون إسراع لقوله: "فامشوا ولا تسرعوا"؟ ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان الذي يسعى إلى الصلاة أن يكون عليه السكينة والوقار. ومن فوائده: تعظيم شأن الصلاة، من أين تؤخذ؟ حيث أمر الماشي إليها أن يكون على هذه الهيئةمن السكينة والوقار، وهذا دليل على تعظيم شأنها. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان يدخل مع الإمام حيثما وجده لقوله: "فما أدركتم فصلوا".

استحباب الكثرة في الجماعة

استحباب الكثرة في الجماعة: 401 - وعن أبيَّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرَّجل مع الرَّجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرَّجلين أزكى من صلاته مع الرَّجلن وما كان أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل". رواه أبو داود، والنَّسائيُّن وصحَّحه ابن حبَّان. قوله: "صلاة" مبتدأ، و"أزكى" خبر، والظرف "مع" حال أزكى، يعني أكثر أجرًا، مأخوذ من الزكاة وهو النمو فهو أكثر أجرًا. وقوله: "وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل" يعني: أكثر أجرًا، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل إذن صلاته مع الثلاثة أزكى من رجلين، ومع الأربعة أزكى من الثلاثة وهكذا. هذا الحديث يخبر الرسول -عليه الصلاة والسلام- فيه أن الجماعة أكثر من الانفراد، لماذا؟ حثًا للأمة على الجماعة، وعلى كثرة الجمع، فإذا كانوا مثلًا طائفة تتكون من عشرة رجالن وقالوا سنصلي خمسة وخمسة ماذا نقول؟ هذا خطأ؛ لأن الجماعة ربما تحصل بخمسة وخمسة، لكن ما كان عشرة فهو أحب إلى الله من خمسة، فاجتمعوا لأن الشرع يحب الاجتماع. يستفاد من هذا الحديث فوائد: أولها: أن الجماعة ليست شرطًا لصحة الصلاة، من أين تؤخذ؟ من قوله: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده"، وجد الدلالة: أن التفضيل يدل على أن الطرفالمفضل عليه فيه زكاة، ولو كان فاضلًا ما حصل فيه زكاة. ويستفاد منه: أن صلاة الجماعة ليست بواجبة؛ لأن الرسول صلى الله عيله وسلم قال: "أزكى" لكن الحديث ليس فيه دليل على عدم الوجوب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يخبر هنا عن فضل الجماعة وفضلها لا أنه ينفي وجوبها؛ إذ إن الفضل يكون في الواجب ويكون في أوجب الواجبات، قال الله عز وجل: {يا أيُّها الَّذين ءامنوا هل أدلُّكم على تجارةٍ تنجيكم من عذابٍ أليمٍ (10) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل اللع بأموالكم وأنفسكم} [الصف: 10 - 11]. ومع ذلك الإيمان من أوجب الواجبات، وكذلك قال تعالى في صلاة الجماعة: {يا أيُّها الَّذين ءامنوا إذا نودي للصَّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لكم} [الجمعة: 9 - 10]. فالمهم: أن ترتيب الفضل على العمل لا يدل على الوجوب، لكن لا يدل على عدم الوجوب أيضًا، وبينهما فق؛ لأننا إذا قلنا: يدل على عدم الوجوب، فمعناه أنه يعارض الأدلة

حكم إمامة المرأة لأهل دارها

الدالة على الوجوب، وإذا قلنا: لا يدل على الوجوب فمعناه: أنه بالنسبة للأدلة الدالة على الوجوب غير معارض؛ يعني: إثبات الفضل للشئ لا يدل على عدم وجوبه، بل يكون بالنسبة للوجوب أقرب. ومن فوائد الحديث: أن الجماعة تنعقد باثنين، من أين تؤخذ؟ من قوله: "مع الرجل أزكى .. ". ومن فوائده: أن الجماعة لا تنعقد بامرأة؛ أي: رجل وامرأة، من أين يؤخذ؟ من قوله: "صلاة الرجل مع الرجل"، مع أن المشهور من المذهب: أن الجماعة تنعقد بالأنثى، ويمكن الجواب عن هذا الحديث: بأنه مفهوم لقب وليس مفهوم صفة، ومفهوم اللقب ليس قيدًا، وليس بحجة، فالرجل ليس معناه دون المرأة لكن هذا علق بالرجل؛ لا لأنه رجل والمرأة ليست كذلك، بل لأنه لقِّب بهذا اللقب، ومفهوم اللقب عندهم لا حجة فيه. ومن فوائد الحديث: أنه كلما كانت الجماعة أكثر فهي أفضل، وينبني على ذلك أن نبحث هل يجب أن نذهب إلى الأكثر وندع الأقل أم لا؟ يعني: لو كنا مائة فهل الأفضل أن نتفرق ونصلي جماعة والبعض الآخر جماعة، أو نصلي جميعًا؟ قلنا: أن يصلي الجميع. ويستفاد منه: أنه لا ينبغي كثرة المساجد في الأحياء؛ لأن هذا يؤدي إلى توزيع الجماعة وتفرقهم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "ما كان أكثر فهو أحب إلى الله". حكم إمامة المرأة لأهل دارها: 402 - وعن أمِّ ورقة رضي الله عنها: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤمَّ أهل دارها". رواه أبو داود، وصحَّحه ابن خزيمة. قوله: "أمرها أن تؤم أهل داها" أي: تكون إمامة لهم، و "أهل دارها" الظاهر أن المراد به: أهل بيتها لا أهل الحي؛ لأن الدار تطلق على معنيين أحدهما: دار الإنسان الخاصة به، والثاني الدار بمعنى الحي، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظَّف وتطيّب" في الدور يعني: في الاحياء. ومنها قولهم: دار بني فلان، أي: حيُّهم. وهذا الحديث اختلف العلماء -رحمهم الله- في صحته، وفي حكمه؛ فذهب بعض أهل العلم إلى تضعيفه؛ لأنه من رواية عبد الرحمن بن خلاَّد وهو مجهول، وذهب بعضهم إلى تصحيحه، وقالوا: إنه مجهول، لكنه قد بينت حاله وعرفت، ودعوى الجهالة ليست بقائمة لمن قال بصحة الحديث. يستفاد من هذا الحديث: مشوعية الجماعة للنساء، وأنه ينبغي للنساء أن يصلين جماعة

منفردات عن الرجال، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد؛ حيث قالوا: إنه يسن إقامة الجماعة للنساء بشرط أن يكن منفردات عن الرجال، وقال بعض العلماء: إن هذا الحديث لا يصح، وأنه لا يشرع للنساء أن يصلين جماعة، نعم يباح لهن الخروج مع الرجال لكن لا يشرع. فالمسألة ليست بتلك القوة التي يجزم الإنسان فيها باستحباب صلاة النساء جماعة؛ لأن مثل هذه المسألة مما تتوفر الدواعي على نقله لو أنها ثبتت، وإنما الجماعة للرجال كما ثبت في الحديث الأول عن أبي هريرة: "أنطلق إلى رجال لا يشهدون الجماعة"، فالأصل في مشروعية الجماعة للرجال، فإن صلين جماعة فهذا خير، ولا ينكر عليهن، وإن لم يفعلن فلا يقال إنهن تركن مشوعًا، وأكثر ما ينتفع النساء في ذلك إذا كن في مدرسة كما يفعلن الآن، فإن النساء في المدارس يصلين جماعة، ويكون في هذا خير؛ لأنهن يتعلمن كيفية الصلاة المشروعة بالطمأنينة وعدم السرعة ويألف بعضهن بعضًا، وهذا الآن هو الموجود؛ يعني: أنهن يصلين جماعة. حكم إمامة الأعمى: 403 - وعن أنس رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أمِّ مكتوٍم، يؤمُّ النَّاس وهو أعمى". رواه أحمد، وأبو داّود. "ابن أم مكتوم" اسمه: عبد الله، وقيل: عمر، وكان أحد المؤذنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "استخلفه يؤم الناس" أي: يصلي بهم إمامًا، استخلفه على أي شيء؟ على المدينة، استخلفه -عليه الصلاة والسلام- عدة مرات -إذا خرج في غزو- على المدينة في رعاية شئون الناس، وكذلك أيضًا في إمامتهم، وكذلك قوله: "وهو أعمى" هذه جملة حالية حال من المفعول به في قوله: "ابن أم مكتوم"، ويجوز أن تكون حالًا من فاعل "يؤم"، والحال أنه أعمى لكننا إذا جعلناها حالًا من المفعول صارت أعم، يعني: صاررت وصفًا له في الاستخلاف وفي الصلاة؛ أي: الإمامة. فيستفاد من هذا الحديث: جواز استخلاف الأعمى في الحكم. ويستفاد منه: ضعف من اشترط في القاضي أن يكون بصيرًا، وهذا هو المشهور من المذهب، أي: أنه يشترط أن يكون القاضي بصيرًا، وأن قضاء الأعمى لا يصح إلا إذا دعت إليه الضرورة، وهذه المسألة هل عليها عمل الآن أو لا؟ لا، ليس عليها عمل الآن؛ لأن المسلمين الآن يولون القضاء من هو أعمى، وإن كان يوجد غيره، وهذا هو الصحيح؛ بمعنى: أنه يجوز تولية القاضي وهو أعمى كما استخلف الرسول -عليه الصلاة والسلام- ابن أم مكتوم وهو أعمى.

ومن فوائد الحديث: جواز إمامة الأعمى، وهذا هو الشاهد من الحديث؛ فيجوز أن يؤم الناس وهو أعمى، لكن إذا كان نائبًا عن الإمام الراتب فإنه لا ينظر هل هو أقرأ الناس أو ليس أقرأهم؛ لأنه نائب مناب الأصل، أما إذا كنا نريد أن نصلي جماعة وليس لدينا إمام راتب فإنه كما سبق: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله"؛ فإنه إذا كان أقرأهم قدِّم ولو كان أعمى، لكن لو استويا في جميع الصفات إلا العمى والبصر يقدَّم البصيرفهو أولى كما قاله الفقهاء -رحمهم الله-. ومن فوائد الحديث: منقبة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وأنه لثقة الرسول -عليه الصلاة والسلام- به في دينه وقوته كان يخلفه، وهل نأخذ منه أنه لا يجب الجهاد على الأعمى؟ ليس بظاهر؛ لأنه قد يقال: لو فرض أنه واجب عليه، فإنه تخلف بأمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- كما تخلف عثمان رضي الله عنه في تمريض ابنة الرسول -علية الصلاة والسلام-. ويستفاد منه: جواز نسبة الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك، ولم يرغب عنه، ومنه: "عبد الله ابن بحينة"، فإن بحينة هي أمه، ومنه: "عبد الله بن أبي ابن سلول"، فإن سلولًا أمه، وأبيُّا أبوه. 404 - ونحوه لابن حبَّان: عن عائشة رضي الله عنها. قوله: "ونحوه" أي: نحو هذا الحديث، والنحو عند العلماء يأتي بممعنى: المثل، ومنه علم النحو، فإنه سمي علم النحو، أي: علم المثل؛ لأنه يقال: إن أبا الأسود الدؤلي كتب قواعد أول ما بدأ في علم النحو حين اختلف اللسان، فكتب قواعد مبسطة وعرضها على علي بن أبي طالب ضي الله عنه فقال علي: "انح نحو هذا" يعني: اسلك مثله: فالنحو والمثل والشبه ووما أشبهه، كله بمعنى واحد. 405 - وعن ابن عمر رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلُّوا على من قال: لا إله إلا الله، وصلُّوا خلف من قال: لا إله إلا الله". رواه الدَّارقطنيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ. هذا الحديث -كما قال المؤلف- إسناده لا يصح، لكن ننظر إلى معناه: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله" متى؟ إذا مات، و"صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله" أي: ليكن إمامًا لكم، فالأول: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله". أي من قالها بلسانه معتقدًا لها في قلبه، وأمَّ من قالها نفاقًا فإن الله قال: {ولا تصل على أحدٍ منهم مَّات أبدًا ولا تقم على قبره} [التوبة: 84]. فإذا علمنا أنه قالها نفاقًا فإنه لا يصلى عليه، وكذلك "صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله" من قالها بقلبه ولسانه لا من قالها مناففقًا فإنه لا يصلى خلفه؛ لأن الصلاة خلفه لا تصح. ولما كان هذا الحديث صحيحًا -على الرغم من إسناده- فإننا نستفيد منه ما يلي: وجوب الصلاة على الميت المسلم لقوله: "صلوا" والأمر للوجوب هل هو فرض عين أو فرض

الدخول مع الإمام على أي حال أدركه

كفاية؟ فرض كفاية؛ لأنه لا يجب على كل واحد أن يصلي إذن يسقط بواحد، لو صلى عليه واحد من الناس كفى، ولو امرأة؟ نعم كفى ولو امرأة، لأنها من المسلمين. ويستفاد منه عن طريق المفهوم: أنه لا يصلى على الكافر، من أين يؤخذ؟ من قوله "على من قال: لا إله إلا الله"، فالكافر لا يصلَّى عليه، ويؤيده قوله تعالى: {ولا تصلِّ على أحدٍ منهم مَّات أبدًا}. ويستفاد من هذا الحديث: جواز الصلاة خلف الفساق لقوله: "صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله"، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فقال بعض العلماء: إنه لا تصح الصلاة خلف فاسق سواء كان فسقه بالاعتقاد، أو كان فسقه بالأقوال، أو كان فسقه بالأفعال، أما في الاعتقاد فأن يعتقد خلاف ما كان عليه السلف فيما يتعلق بالإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والنبيين، والقدر خيره وشره فإنه صدق، هذا إذا لم يفعله عن تأويل سائغ، فإن فعله عن تأويل سائغ لم يكن فاسقًا، الفاسق بالأقوال مثل القاذف، والفاسق بالأفعال مثل الغاش في بيعه، وما أشبه ذلك. الدخول مع الإمام على أي حال أدركه: 406 - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم الصَّلاة والإمام على حالٍ، فليصنع كما يصنع الإمام". رواه التَّرمذيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ. "إذا أتى أحدكم الصلاة" يعني: التي يريد أن يصليها مع هذا الإمام، "والإمام على حال" الجملة هذه في محل نصب على الحال، يعني: والحال أن الإمام على حاله قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا أو قاعدًا، "فليصنع" هذا جواب الشرط؛ ولهذا قرن بالفاء، ومعلوم أن جواب الشرط هنا يجب اقترانه بالفاء؛ لأنه صا طلبيًّا وجب قرنه بالفاء، وعلى هذا قول الشاعر الذي نظم المواضع التي يجب فيها ارتباط الجواب بالفاء، يقول: اسميَّةٌ طلبيَّةٌ وبجامد ... وبما وقد وبلن والتَّنفيس "فليصنع كما يصنع الإمام"، "كما" "الكاف" لا شك أنها حرف جر، لكن "ما" التي بعدها هل هي مصدرية أو اسم موصول؟ الجواب: أنها يجوز أن تكون مصدرية، ويجوز أن تكون اسمًا موصولًا ولكن لو ذكر العائد لتعين أن تكون اسمًا موصولًا، لو قال: كما يصنع الإمام لتعين أن تكون اسمًا موصولًا؛ لأن الضمير لا يعود إلا لى اسم، ولما لم يذكر العائد جاز أن

11 - باب صلاة المسافر والمريض

تكون مصدرية، يعني: حرف مصدر؛ أي: "فليصنع كصنع الإمام"، وهذا الحديث معناه واضح وهو: أن المشروع في حق الإنسان الآتي إلى الصلاة أن يدخل مع الإمام على أي حال يجده ولكنه -كما ترونه- ضعيف السند لكنه صحيح المتن. فإنه سبق أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة ولا تسرعا، فما أدركتم فصلوا"، إذن معناه: أننا إذا أتينا والإمام على حال نصنع كما يصنع الإمام، لا نقول: إن هذا الجزء من الصلاة لا تدرك به الركعة فلا تدخل مع الإماام فيه كما يفعله بعض العامة: إذا جاء والإمام ساجد قال: هذا ليس ينفعني فلن أدخل مع الإمام، نقول: أنت الآن خالفتالسُّنة وحرمت نفسك الثواب؛ لأنك إذا سجدت لله قد تكون هذه السجدة سببًا في أن يرفعك الله بها درجات فلا تحرم نفسك هذه السجدة، وهو أيضًا فيه ذكر وفيه دعاء، والجلوس بين السجدتين فيه دعاء فكيف تحرم نفسك، لكن الشيطان بدخل على بني آدم فيجعله واقفًا والإمام ساجدًا يقف فقط ليحرم نفسه الخير، لا يدخل مع الإمام، وهذا خطأ مخالف للسُّنة وحرمان لنفسه من الأجر، فالدخول معه على أي حال هو السُّنة. يستفاد هذا لاحديث على ما فيه من ضعف: أن الإنسان لا ينبغي له أن ينفرد عن الجماعة حتى فيما لا يدرك الجماعة فيه؛ لقوله: "فليصنع كما يصنع الإمام"، وهل يؤخذ منه أنك تدخل مع الإمام وإن لم تدرك الصلاة جملة، ولا تقل أذهب إلى مسجد آخر أو لا تدخل؟ يعني: جل عرف أنه الآن في التشهد الأخير وعرف أن هناك مسجدًا آخ يدرك الجماعة كاملة فهل نقول: ادخل معه أو لا تدخل معه؟ إن نظرنا إلى ظاهر اللفظ قلنا: يدخل معه ويكون هذا الرجل اتقى الله ما استطاع، ويكون فعل ما أمر به وكونه يدرك أو لا يدرك هذا شيءٌ آخر، وإذا نظرنا إلى أن الجماعة واجبة، ولابد من إدراكها قلنا له: الآن لا يستفيد بها الدخول شيئًا من إدراك الجماعة فاذهب إلى المسجد الآخر، ولكن إذا قال: أنا لا أدري هل أدرك مسجدًا آخر أو لا؟ نقول له: ادخل مع الإمام ولو في التشهد الأخير، وكونك تدرك شيئًا من الصلاة خير لك من ألَّا تدرك شيئًا أبدًا. ******* 11 - باب صلاة المسافر والمريض الإضافة هنا من باب إضافة الشيء إلى نوعه؛ لأان المسافر له صلاة تخصه، والمريض له صلاة تخصه، لكنها بالنوع والكيفية لا في الأصل. حقيقة السفر ومعناه: وقوله: "صلاة المسافر" المسافر مطلق، والسف هو الخروج والبروز، ومنه إسفار الصبح؛

قصر الصلاة في السفر وحكمه

لأنه يبرز ويخرج، ولهذا قال علماء اللغة: إن السفر: "مفارقة محل الإقامة" وسماه الله عز وجل في القرآن الكريم سفرًا، وسمَّاه ضربًا في الأرض، فقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغآئط} [النساء: 43]. وقال: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفرٍ} [البقرة: 184]. وسمَّاه ضربًا في الأرض كما في قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض ... } الآية [النساء: 101]. وقال تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض ... } [المزمل: 20]. المهم من هو المسافر؟ من فارق محل إقامته، أمَّا من نوى أن يفارق ولم يخرج فليس بمسافر لا يكون إلا إذا ضرب وخرج. وقوله: "والمريض" المريض ضد الصحيح، والمراد هنا: مريض البدن، والمرض -كما سبق- مرضان: مرض القلب، نسأل اله العافية، ومرض البدن. قصر الصلاة في السفر وحكمه: 407 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أوَّل ما فرضت الصَّلاة ركعتين، فأقرَّت صلاة السَّفر وأتمَّت صلاة الحضر". متَّفق عليه. قولها: "أول ما فرضت الصلاة" "أول" مبتدأ، ومقتضى الجملة أن يكون الخبر قولها: "ركعتان"، ولكن الخبر محذوف تقديره "أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين"، فالخبر إذن محذوف، و"ركعتين" حال من نائب الفاعل من قولها: "فرضت"، قولها: "فرضت" الفرض في اللغة: "القطع" وأمَّا في الشرع فإنه: ما أم به على سبيل الإلزام، فخرج بقولنا: "ما أمر" المباح والمكروه والحرام، ودخل المستحب، فلمَّا قلنا: "على سبيل الإلزام" خرج المستحب، إذن على هذا التعريف الفرض والواجب بمعنى واحد وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الإمام أحمد، وقال بعض العلماء: بل بينهما فرق، فالفرض: ما كانت الأدلة فيه قطعية في الثبوت وفي الدلالةفهذا فرضٌ، وما كانت الأدلة فيه ظنية فهو واجب، والصواب ظانه لا فرق بينهما، لأن الكل يأثم بتركه ويؤجر لفعله. وقولها: "الصلاة" المراد بها الفريضة وهي خمسن وقولها: "ركعتين" إلى متى؟ إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم يعني: ثلاث سنوات أو سنة حسب اختلاف أهل العلم في النعراج بقى المسلمون يصلون ركعتين ركعتين غلا المغرب، فلما هاجر النبي -عليه الصلاة والسلام- زيد في صلاة الحضر، "فأقرت صلاة السفر" يعني: بقيت ركعتين، وهنا يشكل الأمر؛ لأن منَّا من يسمي صلاة السفر قصرًا وهي الآن على مقتضى هذا الحديث ليست بقصر، وإنَّما صلاة الحضر زيادة، فنقول: تسميتها قصرًا أمر نسبي ليس على سبيل الحقيقة، وإلا الحقيقة: أنها لم تقصر بل بقيت

على الفريضة الأولى، لكن بالنسبة إلى صلاة الحضر التي زيد فيا إلى الأربع صارت قصرًا، والله عز وجل يقول: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلاة} [النساء: 101]. وقولها: "أقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر" في بعض الألفاظ: "وزيد في صلاة الحضر" وهو أوضح من قولها: "وأتمَّت"، لكن قولها: "وأتمت" أيضًا على سبيل الأمر النسبي، "أتمت" باعتبار أن صلاة السفر ركعتان. في هذا الحديث تذكر عائشة رضي الله عنها أن الصلاة لها مرحلتان: المرحلة الأولى: تساوي صلاة الحضر والسفر بأن كانت الصلاة كلها ركعتين ركعتين. والمرحللة الثانية: الزيادة في صلاة الحضر، وبقاء صلاة السفر على الفرض الأول. يستفاد من هذا الحديث، أولًا: مشروعية القصر في السفر، وقد تدل عليه قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلاة}. وهذه المشروعية هل هي على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب المؤكد الذي يكره تركه أو على سبيل الاستحباب الذي لا يكره تركه؟ في هذا خلافٌ بين أهل العلم؛ فقد ذهبت جماعة منهم أهل الظاهر وأبو حنيفة إلى أن هذه المشروعية مشروعية وجوبن وأن المسافر يجب عليه القصر، واستدلوا بهذا الحديث قالوا: لأن حديث عائشة واضح في أن صلاة السفر بقيت على الفريضة الأولى، فكما أنك لا تصلي في الحضر خمسًا فلا تصلي في السفر أربعًا يعني: كل فريضة. استدلوا أيضًا بأن الصحابة -رضي الله عنهم- أنكروا على عثمان إتمامه الصلاة في منّى، فإن عثمان رضيالله عنه بقى في خلافته ست أو ثمان سنوات يقصر الصلاة، ثم بعد أتم، وخلافته كانت اثنتي عشرة سنة، ولكن الصحابة أنكوا عليه ذلك واعتذروا له، حتى إن ابن مسعود قال لما بلِّغ بهذا الأمر: "إن لله وإنَّا إليه راجعون" فجعل هذا من المصائب التي يسترجع منها. واستدلوا أيضًا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أسفاره ما أتم ولو يومًا واحدًا، بل كل أسفاه كان يقصر الصلاة، ولولا أن هذا على سبيل الوجوب ما حافظ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لكان يفعل سواه يومًا من الأيام ليبيِّن للناس أنه ليس بواجب، أو يقول للناس: إنه ليس بواجب. أما الذين قالوا: إنه مشروع على سبيل التأكيد بحيث يكره تركه فاستدلوا بهذا الحديث قالوا: إن المقصود لا يجوز تركه لكن نظرًا للخلاف في هذه المسألة نجعل الإتمام من باب المكروه وليس من باب المحرم، واستدلوا بأن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلاة إن خفتم أن يفتنكم الَّذين كفروا} [النساء: 101]. فشرط الله تعالى لجواز القصر الخوف، فقالوا: إن عمر سأل الرسول -عليه الصلاة والسلام- عن هذا الشرط كيف نقصر ونحن آمنون، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا

صدقته". قالوا: فسماها الرسول صلى الله عليه وسلم صدقة، والصدقة ليست واجبة، وقبولها ليس بواجبن لن المصدق عليه إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل، ولكن الذين قالوا بوجوب القصر قالوا: إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أمر بالقبول فقال: "اقبلوا صدقته" والأصل في الأمر الوجوب. واستدل هؤلاء الذين قالوا: إنه ليس للوجوب بأن عثمان رضي الله عنه كان الصحابة يصلون خلفه ويتمون تبعًا له، ولو كان القصر عندهم واجبًا ما صلوا خلف إنسان خالف الفرض، ولناقشوه في ذلك حتى يعرفوا حجته في هذا الأمر، فما لم يناقشوه في هذا الأمر وتابعوه دل على عدم الوجوب، إذ إن الصحابة لا يمكن أن يوافقوا على خطأ، ولكنه سئل ابن مسعود ضي الله عنه عن كونه ينكر على عثمان ويصلي معه تمامًا فقال: "إن الخلاف شر" فعلم بهذا أنه يصلي وراءه إتمامًا درءًا للشر والتفرق على الخلافاء وأن المفسدة كبيرة جدًا لو تفارقوا وتخلَّفوا. وأما الذين قالوا: إنه ليس بمؤكد -أي: سنة- ولا يكره تركه فقالو: إن الله يقول: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلاة} [النساء: 101]. فنفى الجناح فقط، ونفي الجناح لا يدل على الوجوب، كما لو قلت: لا حرج أن تفعل كذا، هل معنى ذلك أن هذا الشيء يجب عليك؟ لا، ولكن هذا الاستدلال فيه نظر، لأن نفي الوجوب في هذا الدليل لا يمنع من الوجوب في دليل آخر؛ لأن الله قال في السعي بين الصفا والمروة: {فمن حجَّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما} [البقرة: 158]. فإن الطواف بهما فرض واجب في الحج والاعمرة على القول الراجح، والمسألة خلافية. المهم أن القول بالوجوب إذا استعرضنا أدلته وجدنا أنه قوي جدًا إلا أن الإنسان قد يكون في نفسه حرج من الإيجاب بسبب إقرار الصحابة -رضي الله عنهم- عثمان بدون مناقشة، وإلا لكان الواجب أن يناقشوه: لماذا أتممت وعمر يقصر وأبو بكر يقصر والنبي صلى الله عليه وسلم يقصر؟ كل من قبله كانوا يقصرون، فالمسألة ما ينبغي بلا شك للإنسان المسافر أن يصلي تمامًا بل يقصر إمَّا وجوبًا وإمَّا سنة مؤكدة غاية التأكيد، وكنت أرى بالأول الوجوب لكن حصل عند تردد في آخر الأمر، وقلت: إن قولها: "أقرت" على الفريضة الأولى يعني: لم تزد، وليس المعنى أنه فرض أن تكون، إنَّما أنا أرى أنه لا ينبغي للإنسان أن يتم إلا في حالة واحدة وهي إذا ائتم بمقيم بل إذا ائتم بمن يتم -هذا التعبير السليم- فإن عليه أن يتم لقوله -عليه الصلاة ولاسلام-: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا"، وتقدم لنا أن الصواب إذا أدرك مع الإمام ولو أقل من ركعة فإنه يلزمه الائتمام.

مسائل مهمة

مسائل مهمَّة: ثم هاهنا مسائل في هذا الباب، أولًا: لو أدركت الوقت وهو في البلد وسافر بعد دخول الوقت فهل نقول: إن صلاته الآن صلاة مسافر أو صلاة مقيم؟ هذا فيه خلاف بين العلماء؛ قال بعضهم: إنها صلاة مقيم؛ لأنه خوطب بها في حال الإقامة فيلزمه أن يتم، وقال بعض أهل العلم: لا يلزمه الائتمام بل له أن يصلي قصرًا؛ لأن الاعتبار في الصلاة بفعلها وهذا إنما فعلها بعد أن خرج، والآية مطلقة: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلاة} [النساء: 101] لم يستثن الله حالًا دون حال، هذا الرجل ضرب في الأرض وأراد أن يصلي فإنه يصلي ركعتين فقط كما أنه بالعكس يصلي أربعًا، ما معنى قولنا: بالعكس؟ لو دخل عليه الوقت وهو مسافر ثم قدم إلى البلد في الوقت فيصلي صلاة مقيم، لأن العبرة بفعل الصلاة وقد صلاها في الحض فيلزمه أن يصلي صلاة مقيم، وهذا القول هو الراجح أن المعتبر فعل الصلاة، كما أنه مثل هذه المسألة لو ذكر صلاة سفر في حضر ماذا يصير؟ يصلي ركعتين فقط، والمشهور من المذهب أنه يصلي أربعًا، والصواب أنه يصلي ركعتين فقط، لأن هذه الصلاة وجبت عليه ركعتين فيصلي كعتين، ولوو ذكر صلاة حضر في سفر يصلي أربعًا؛ لأن الصلاة وجبت عليه رباعية فيجب عليه أن يصلي أربعًا، المذهب يلزمه الائتمام في الصلاة كلها هذه؛ لأنهم يغلبون جانب الحضر -رحمهم الله-، ثم قال المؤلف: - وللبخاريِّ: "ثمَّ هاجر، ففرضت أربعًا، وأقرَّت صلاة السَّفر على الأوَّل". هاجر من مكة إلى المدينة، وكان عمره حين هاجر ثلاثًا وخمسين سنة هاجر فأقرت صلاة السفر الأول، يعني: على الفرض الأول "وزيد في الحضر". الصلوات التي لا تقصر في السفر: - وزاد أحمد: "إلا المغب فإنَّها وتر النَّهار، وإلا الصُّبح، فإنَّها تطوَّل فيها القراءة". هذا استثناء، هاتان الصلاتان ما تغيرتا، المغرب ثلاثسة، لماذا؟ لأنها وتر النها؛ ثم إن قصرها كيف تكون؟ ما يمكن إذا جعلنا القصر مناصفة؛ لأن ثلاث ركعات معناها أن النصف ركعة ونصف وهذا لا يستقيم، لكن قد يقول قائل: إنها تقصر إلى ركعتين؟ فيقال تفوت الوترية وهي قولها: "وتر النهار"، وقالت "وتر النهار" احترازًا من وتر الليل، وهو الوتر الذي تختم به صلاة الليل، وقالت: "إلَّا الصبح فإنها تطوَّل فيها لاقراءة" يعني: يشرع فيها التطويل؛ يعني: كانت ركعتين وبقيت ركعتين فعوضت عن الزيادة بطول القراءة، وعليه فيكون القصر في الرباعية فقط، وهي الظهر، والعصر، والعشاء الآخرة.

الفطر في السفر وحكمه

الفطر في السفر وحكمه: 408 - وعن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السَّفر ويتمُّ، ويصوم ويفطر" رواه الدَّارقطنيُّ، ورواته ثقات؛ إلا أنَّه معلولٌ. - والمحفوظ عن عائشة من فعلها، وقالت: "إنَّه لا سشقُّ عليَّ". أخرجه البيهقيُّ. هذا الحديث تقول عائشة: "إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان يقصر في السفر ويتم، ويصوم ويفطر"، فهاتان جملتان؛ الجملة الأولى: "يقصر ويتم"، والجملة الثانية: "يصوم ويفطر"، أما الثانية فنعم كان الرسول صلى الله عليه وسلم في سفره يصوم ويفطر فإنه صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه في عدة مرات في رمضان وكان يصوم، ثم لما رأى الناس قد شق علهم الصيام أفطر وأفطر الناس، وكان أصحابه أيضًا منهم الصائم ومنهم المفطر، ولا يعيب أحدهم على الآخر. وأمَّا قولها: "يقصر ويتم" فهذا منكر وليس بصحيح، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم يومًا من الأيام في سفه، بل كان يلازم القصر، وهذا أمر معروف مشهور. ولهذا نقول: إن هذا الحديث -كما قال المؤلف- معلول، وإن كان لرواته ثقات؛ لأن الراوي قد يهم وإن كان ثقة وليس معصومًا من الخطأ. وقوله: "والمحفوظ عن عائشة من فعلها"؛ إذن فيكون الحديث الأول إذا كان هذا يقابلهن وهو المحفوظ يكون الأول في اصطلاح المحدثين شاذًا؛ لأن المحفوظ يقابله الشاذ. وقالت: "إنه لا يشق عليَّ"، فيكون فعلها مبنيًا على التأويل، وهي أنها رضي الله عنها ظنَّت أن سبب قصر الصلاة هو المشقة ورأت أنه لا يشق عليها ذلك فأتمت ولكن هذا التأويل في مقابلة النص، وما كان في مقابلة النص فإن مردود على قائله كائنًا من كان، وجه ذلك: أنه كان في مقابلة النص لأنه ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يقصر في جوف مكة، ومثل هذا لا يشق عليه، وثبت عنه أنه كان يقصر في حجة الوداع في منى وهو آمن وليس عليه مشقة، وحكم القصر لم يعلق بلامشقة حتى نقول: أنه إذا انتفت المشقة اانتفى القصر، وإنما هو معلق بماذا؟ بالسفر، فمتى وجد السفر فإن الحكم يثبت، ولو كان الإنسان مسافرًا على طائرة أو سيارة مبردة، أو ينزل في فندق في أثناء إقامته فإنه يثبت له حكم المسافر؛ لأن الحكم معلق بالسفر نفسه. إذن هذا الحديث يستفاد منه: أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- في السفر يصوم ويفطر، وهذا ثابت من غير هذا الحديث. ويستفاد منه: أن عائشة رضي الله عنها كانت تتم وتقصر، وتعلل الإتمام بأنه لا يشق عليها.

ويستفاد من الحديث: أن العالم مهما بلغ علمه فإنه قد يخطئ؛ لأن عائشة لا شك أنها من علماء الصحابة، وكان الصحابة يرجعون إليها في أشياء كثيرة من العلم لاسيما فيما يختص بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم الباطنة، ومع ذلك فإنها قد تتأول وتخطئ، فهي تأولت كما تأول عثمان رضي الله عنه في مسألة الإتمام في منى. 409 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته". رواه أحمد، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان. - وفي روايةٍ: "كما يحب أن تؤتى عزائمه". هنا ثلاث مسائل رخص، ومعاصٍ، وعزائم: أولًا: يقول: "أن الله تعالى يحب". كلمة "تعالى" ما معناها؟ من العلو حسًا ومعنى، فإن الله تعالى قد ثبت له العلو الذاتي بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة، كل الأدلة الخمسة متفقة على أن الله - سبحانه وتعالى - فوق خلقه، وأن له العلو المطلق كذلك أيضًا العلو المعنوي وهو التعالي عن كل نقص وعيب، فإنه - سبحانه وتعالى - منزه عن كل نقص وعيب، فصفاته كلها عليا ليس فيها نقص، وقد سبق لنا أن كلمة "تعالى" أبلغ من كلمة "على"؛ لأنها تدل على التنزه، تفاعل يعني: ترفع وتقدس عن السفول والنزول. وقوله: "يحب أن تؤتى رخصه". "يحب" ما معنى المحبة؟ المحبة عند أهل السنة والجماعة محبة حقيقية تليق بالله - سبحانه وتعالى - وهي صفة غير صفة الإرادة. وذهب أهل التأويل - من الأشاعرة وغيرهم - إلى أن المراد بالمحبة: إما إرادة الإنعام والثواب، وإما الثواب نفسه، ولا يثبتون له - سبحانه وتعالى - محبة حقيقية، لماذا؟ يقولون: لأن المحبة ميل الإنسان إلى ما فيه جلب منفعة أو دفع مضرة، والله عز وجل منزه عن هذا. ولكننا نقول لهم: هذا الذي تفسرونه بالمحبة هو لازم المحبة عند المخلوق، أما الله عز وجل فإنه يحب الشيء لكمال جوده وكرمه لا لأنه ينتفع بهذا الشيء، فإن الله يقول في الحديث القدسي: "إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني". إذن نقول: المحبة: صفة ثابتة على وجه الحقيقة لله عز وجل، ولكنها هل تشبه محبة المخلوق للمخلوق؟ لا؛ لأن الله تعالى يقول: } ليس كمثله شيء وهو السميع البصير {[الشورى: 11].

فكل ما أثبته الله لنفسه من الصفات التي تتفق مع صفات المخلوق في الاسم فإنها تفارق صفة المخلوق في الحقيقة؛ لأن الله يقول: } ليس كمثله شيءٌ {. لماذا نفوا حقيقة المحبة؟ لأنهم يزعمون أنها تقتضي تشبيهًا وتمثيلًا، والتشبيه والتمثيل نقص، ولكننا نقول: إنها لا تقتضي تشبيهًا، فأنتم الآن تثبتون الإرادة، ومع ذلك تقولون: إنها لا تستلزم التشبيه وإنها إرادة تليق بجلاله، فنقول: أي فرق بين الأمرين؟ ليس بينهما فرق إلا قولكم بالتحكم لعقول ليس لها أصل تبني عليه. وقوله: "رخصه" الرخص جمع رخصة وهي في اللغة: السهولة، يقال: رخص له؛ أي: أذن له وسهل، وفسرها بعض العلماء بأن الرخصة: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، ولكن هذا التعريف يجعلها مشكلة، والصواب، أن الرخصة في الشرع هي الرخصة في اللغة وأنها السهولة، فيحب الله عز وجل أن يأتي العباد ما سهل به عليهم كما يكره أن تؤتى معصيته. وقوله: "كما يكره" يحتمل أن تكون الكاف للتشبيه، يعني: محبته لهذا ككراهته لهذا، ويحتمل أن تكون للتعليل؛ يعني: كما أنه يكره أن تؤتى المعصية فإنه يحب أن تؤتى الرخص، وقوله: "كما يكره" المراد بالكراهة: البغض وهو الكراهة الحقيقية، وفسرها أهل التأويل بأن المراد بها: إرادة الانتقام والعقوبة، وكل هذا - كما ذكرنا قبل قليل - من التأويلات التي هي خلاف ظاهر اللفظ والمعنى الذي من أجله أولوا هذه النصوص ثابت فيما أثبتوه أيضًا. وقوله: "أن تؤتى معصيته"، ما هي المعصية؟ هي الخروج عن الطاعة، يعني: مخالفة الأمر في المأمورات والوقوع في المنهي عنه في المنهيات، وهل تشمل المكروه والحرام؟ يعني: لو ورد نهي على سبيل الكراهة فخالفه الإنسان هل نقول: إنه عاصٍ، أو نقول: مخالف للنهي؟ مخالف للنهي بالاتفاق لا شك فيه، وأما العاصي فأكثر أهل العلم يقولون: إن المعصية لا تكون إلا في الشيء المحرم ولا نطلق على من فعل مكروهًا بأنه عاصٍ. وقوله: "عزائمه" جمع عزيمة، بمعنى: معزومة، كفعيل معنى مفعول، والمعزوم: الشيء المؤكد، ومنه العزم "عزم الإنسان" العازم: يعني بإرادة مؤكدة، فالعزائم إذن: جمع عزيمة وفي الشيء المؤكد مثل المفروضات والواجبات هذه عزائم لفعلها، والمحرمات أيضًا عزائم لتركها، لكن هنا "كما يحب أن تؤتى عزائمه" لا شك أن المراد بها: المأمورات دون المنهيات والمحرمات؛ لأن الله لا يحب أن تؤتى عزائمه المنهية. من فوائد الحديث: أولًا: كمال الله عز وجل بعلوه الذاتي والوصفي لقوله: "تعالى". وثانيًا: إثبات المحبة لله. وثالثًا: سعة كرمه وجوده؛ حيث يحب من العباد أن يأتوا الرخص.

ورابعًا: أنه ينبغي للمسافر أن يترخص برخص السفر، وهذا وجه الشاهد من هذا الحديث. فإذا قال قائل من المسافرين: أنا لا يشق علي الإتمام فلا إثم؟ نقول له: هذا خلاف ما يحبه الله، فالله تعالى يحب منك أن تأتي رخصه. لو قال: أنا لا أريد الجمع مع أنه قد جد به السير. نقول له: إن الذي يحبه الله منك أن تجمع؛ ولهذا كان القول الصحيح - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - أن الجمع للمسافر عند الحاجة وغيرها أيضًا أفضل من عدم الجمع وأننا لا نعبر فنقول يجوز للمسافر أن يجمع إلا إذا كان ذلك في مقابلة المنع فلا بأس، إنما الصحيح: أنه يستحب أن يجمع إذا دعت الحاجة إليه. ومن فوائد الحديث: إثبات أن الله تعالى يكره أن يعصى، وهذا يستلزم فائدة وهي: أن يبتعد الإنسان عن معصية الله ما دام يعلم أن الله يكرهها، فإنه لا يليق به وهو مؤمن بالله عز وجل أن يفعل ما يكرهه الله، لو أن أحدًا من المخلوقين تعلم أنه يكره أن تفعل شيئًا من الأشياء وهو عزيز لديك هل تفعل ذلك؟ لا؛ لأنه يكرهه، فالرب عز وجل أولى أن يستحي الإنسان منه ولا يقع في معصيته. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن فعل الرخص كفعل الواجبات بناء على الرواية الثانية لقوله: "كما يحب أن تؤتى عزائمه"، فهل نقول: إنه يدل على وجوب الترخص؟ نقول: لا ما يدل على وجوب الترخص؛ لأنه لو وجب الترخص لكان من العزائم، وقد علم الفرق بين المشبه والمشبه به، وأن المشبه غير المشبه به، فلو أوجبنا الرخص لكانت عزائم ولما كانت رخصًا في الواقع؛ لأن العزيمة الشيء المؤكد الذي لابد من فعله ما يستطيع الإنسان أن يتخلص منه، رخص السفر التي شرعها الله: القصر، والجمع، والفطر، والرابع مسح الخفين ثلاثة أيام، وسقوط الجمعة عن المسافر، كذلك قال بعض العلماء: من رخص السفر أكل الميتة، والصواب: أن أكل الميتة لا يختص بالسفر، والصواب: أن الإنسان لو اضطر لأكل الميتة ولو في الحضر فله أكلها؛ لأن الله يقول: } فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه {[البقرة: 173]. تحديد مسافة القصر: 410 - وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميالٍ أو فراسخ، صلى ركعتين". رواه مسلم. هذا الحديث اختلف العلماء في معناه، وفي حكمه، قوله: "ثلاثة أميال" الأميال: جمع ميل وهو مقدر بالأذرع وبالأمتار، كم الميل بالأمتار الآن؟ أكثر من كيلو ونصف (1700) متر تقريبًا،

وحده بعضهم بأنه: ما مال من الأرض عند منتهى ميل الأرض، أنت مثلًا إذا كنت تشاهد شخصًا وكان بعيدًا فما كان عند ميل الأرض- ومعلوم أن الأرض تميل- فإنه ميل، ولكن هذا الحد فيه صعوبة؛ لأن الناس يختلفون في قوة النظر، ولأن الأرض أيضًا قد تخلف بالنسبة للميل وهو نظير من حدَّ المد بأنه ملّ الكف مرتين هذا صعب، وكذلك من حدّ المثقال بالشعير بحبات الشعير، فإن هذا أيضًا غير منضبط؛ لأن في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يوجد مساحين يمسحون الأرض بحث يُحدِّون أن هذا ميل لا يزيد ولا ينقص، لكنه على سبيل التقريب. وقوله" "أو فراسخ" جمع فرسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، فبناءً على أن الحديث ثلاثة فراسخ كم تكون بالميل؟ تسعة أميال، والشك هنا من الراوي من "شعبة" شك هل قال: ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، وهذا الشك هل يوجب أن تلغي الحديث كله، أو نلغي ما وقع الشك؟ الثاني، فالأميال داخلة في الفراسخ؛ لأن الفراسخ أبعد منها، وعلى هذا فنقول: نقدر أنها ثلاثة فراسخ، فهذا يدل على أن الرسولصلىللهعليهوسلم إذا خرج ثلاثة فراسخ صلى ركعتين، هذا الحديث كما ترون استقر فيه الرأي على أنه خرج ثلاثة فراسخ. ولكن ما معنى قوله: "إذا خرج" هل المراد: إذا خرج من البلد لقصد سفر يزيد على ثلاثة فراسخ، ويكون المعنى أنه لا يبدأ صلاة ركعتين إلا إذا بعد عن البلد ثلاثة فراسخ أو ثلاثة أميال، هكذا فسره من يرون أنه لا يقصر إلا في ستة عشر فرسخًا كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بأنه لا يقصر إذا قصد ستة عشر فرسخًا، يعني: يومين قاصدين لسير الأحمال، ودبيب الأقدام فيؤولون هذا الحديث إلى أن معناه لا يبتدئ القصر إلا بعد أن يفارق البلد بثلاثة فراسخ تسعة أميال، ولكن هذا التأويل غير صحيح؛ لأن أنسًا يقول: "إذا خرج ثلاثة أميال"، فظاهره: أن منتهى خروجه يكون ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، ولأن هؤلاء الذين يقولون: إن معناه: لا تبدءوا القصر إلا بعد ثلاثة فراسخ هم أنفسهم يقولون: إنه يجوز للإنسان أن يقصر الصلاة إذا فارق البنيان، وإن لم يبعد إلا شبرين، فيكون فهمهم للحديث مخالفًا لما يقولون. فالصواب: المعنى الأول للحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى هذه المسافة قصر الصلاة، بمعنى: أنه إذا كان مُنتهى سفره ثلاثة فراسخ فإنه يقصر، ولكن هذا على سبيل الشرط، بمعنى: لأنه لو خرج أقل من ذلك فإنه لا يقصر، أو إنه بيان للواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج فعل كذا، وأنه ليس بشرط فلو سافر سفرًا أقل من هذا وهو يعد سفرًا فإنه يقصر؟ إلى هذا الأخير ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقالا: إنه لا يصح تحديد المسافة للسفر، وأنه يقصر إذا

عدد الأيام التي يجوز فيها القصر

خرج إلى مكان يعد مسافرًا، لأنه لم يكن في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام - أشياء تعين الأميال والفراسخ. عدد الأيام التي يجوز فيها القصر: 411 - وعنه رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يُصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة"، متفق عليه، واللفظ للبخاريَّ. 412 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يومًا يقصر"، وفي لفظ: "بمكة تسعة عشر يومًا". رواه البخاري. - وفي رواية لأبي داود: "سبع عشرة"، وفي أخرى: "خمس عشرة". 413 - وله عن ابن عمران بن حصين رضي الله عنه: "ثماني عشرة". 414 - وله عن جابر رضي الله عنه: "أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة"، وروايته ثقات، إلا أنه اختلف في صله. حكم الجمع بين الصلاتين في السفر: 415 - وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل في سفر قبل أن تزيغ الشَّمس أخَّر الظَّهر إلى وقت العصر، ثمَّ نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشَّمس قبل أن يرتحل صلَّى الظَّهر، ثمّ ركب". متفق عليه. قوله: "كان إذا ارتحل" تقدم لنا أن "كان" تفيد الاستمرار غالبًا، وقد يراد بها الزمن، وقد لا يراد بها الزمن، قد يراد بها مجرد اتصاف اسمها بخبرها مثل قوله تعالى: {إن الله كان غفورًا رحيمًا} [النساء: 23]، يعني: ليس معناه كان في زمن، بل المعنى: أنه اتصف بذلك، قوله: "كان إذا ارتحل" يعني: ركب راحلته، "قبل أن تزيغ" أي: تميل، ومنه قوله تعالى: {فلما زاغو أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5]، يعني: لمّا مالوا أمال الله قلوبهم.

وقوله: "أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما"؛ لأن ذلك أيسر له، فيؤخر الظهر إلى وقت العصر من أجل أن يجمع بينهما، لأنه لا يمكن أن يصليهما قبل دخول الوقت، لأنه ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، هو يؤخر ثم يجمع بينهما قال: "فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلّى الظهر ثم ركب"، وظاهر هذا الحديث - المتفق عليه-: أنه يصلي الظهر فقط، ولا يجمع، ولكنه يقول: - وفي رواية للحاكم في الأربعين بإسناد صحيح: "صلّى الظُّهر والعصر، ثم ركب". - ولأبي نُعيم في مستخرج مسلم: "كان إذا كان في سفر، فزالت الشمس صلّى الظُّهر والعصر جميعًا، ثمّ ارتحل". فعلى هذه الرواية ورواية الحاكم يكون معنى: "صلى الظهر" يعني: مع العصر، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" يعني: مع العاشر، فهنا: "صلى الظهر، واكتفى بإحدى الصلاتين عن الأخرى، "صلى الظهر" يعني: والعصر من أجل ألا ينزل فيصلي الظهر والعصر، ثم يركب ويمشي إلى الليل حتى لا ينزل. هذا الحديث أصل في الجمع بين الصلاتين، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت الصلوات: وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل، كل صلاة إلى وقت معين، وقد قال الله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} [النساء: 103]، فالأصل أن تصلي كل صلاة في وقتها هذا الواجب. واختلف العلماء في الجمع، فكانوا فيه طرفين ووسطًا: فمنهم من يقول: إن الجمع لا يجوز إلا في موضعين: في عرفة، ومزدلفة، وأن سبب الجمع فيهما هو النسك وليس السفر، فيرون أن الجمع في هذين المكانين نسك، وليس من أجل السفر، ومنهم من توسع في الجمع وأجاز الجمع حتى بدون عذر، وأما هذا التوقيت فعلى سبيل الأفضلية فقط. ومنهم من توسط وقال: إن الجمع إن كان له سبب شرعي فهو جائز، وإن لم يكن له سبب شرعي فالواجب أن تصلي كل صلاة في وقتها. أما الذين يقولون: إنه لا جمع إلا في عرفة ومزدلفة، فالذي حملهم على ذلك أنهم لا يمكنهم إنكار الجمع في عرفة ومزدلفة لثبوت ذلك وشهرته وظهوره، لكنهم حملوه على أنه نسك، وأجابوا عن كل ما ذكر فيه الجمع بأنه جمع صوري، ليس جمعًا حقيقيًّا بحيث أن كل

حالات جمع التقديم والتأخير

صلاة فعلت مع أختها في وقتها، بل قالوا: إنه جمع صوري، كيف يكون صوريًّا؟ قالوا: لأن المعنى أن تؤخر الصلاة الأولى حتى إذا لم يبق في الوقت إلا بقدرها صليت، ثم صُليت الثانية في وقتها فيكون الجمع صوريًا، ومن المعلوم أن هذا الجواب ليس بصحيح؛ لأن هذا الجمع الصوري إن ثبت فإنه ليس بسهولة، بل هو في غاية ما يكون من المشقة، بل إن تحقيقه قد يكون متعذرًا، فمن الذي يرقب الشمس في العشي حتى إذا لم يبق من كون الشيء مثل ظله، أو من كون الظل مثل الشاخص إلا مقدار صلاة الظهر، هل أحد يستطيع أن يرقب هذا إلا بمشقة، ومن الذي يستطيع أن يرقب الشفق الأحمر لصلاة المغرب حتى إذا لم يبق على مغيب الشفق الأحمر إلا صلاة المغرب صلى المغرب ثم صلى العشاء، هذا في غاية ما يكون من المشقة، ولهذا هم من أرادوا أن يوقعوا الناس في سهولة ولكنهم أوقعوهم في حرج، وأمّا الذي قالوا بالجواز مطلقًا، وأن هذا التوقيت على سبيل الأفضلية وليس على سبيل الوجوب، قالوا لأنه ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "جمع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر"، وفي رواية: "ولا سفر". قالوا: فهذا دليل على أنه يجوز؛ لأنه قال: جمع بدون سبب، ولكننا نجيب عن ذلك بأنه لم يقل: إنه جمع بدون سبب، وإنّما قال: "جمع بدون خوف، ولا مطر" يعني: فنفى هذين السببين؛ لأن هذين السببين يبيحان الجمع، فهو قد جمع بدون خوف ولا مطر، ولكن لسبب آخر، ما هو السبب؟ سئل ابن عباس رضي الله عنه لماذا جمع؟ فقال: "أراد ألا يحرج أمته"، معنى "ألا يحرجها": أي: لا يوقعها في حرج، فدل هذا على أنه وجد الحرج في إفراد كل صلاة في وقتها فإنه يجمع، وإن لم يوجد الحرج فإنه لا يجوز الجمع؛ لأن الله يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} [النساء: 103]، والنبي- عليه الصلاة والسلام- بين المواقيت؛ إذن نرجع إلى أن القول الثالث الوسط وهو أن الجمع يجوز إذا كان فيه حرج ومشقة، فعلى هذا يجوز الجمع في السفر أم لا؟ يجوز الجمع في السفر؛ لأن فيه نوعًا من المشقة وإن كانت المشقة غير كبيرة؛ يعني: بإمكان الإنسان أن يقف ويصلي، لكن هذا فيه نوع من المشقة لا سيما في الزمن الأول على الإبل، فيقال: السفر يجوز فيه الجمع إذا كان سائرًا كما في هذا الحديث. حالات جمع التقديم والتأخير: ثم نقول: ما هو الأفضل جمع التقديم أو التأخير؟ نقول: الأفضل ما هو الأيسر، فإن ارتحلت قبل أن تزيغ الشمس فالأفضل التأخير، وإن بقيت حتى زاغت الشمس فالأفضل التقديم ما دام أن

الأمر كله مبنيًّا على التسهيل والتيسير، فما كان أسهل وأيسر فهو الأفضل، فإذا كان الشرع أجاز لك أن تخرج الصلاة عن وقتها أو تقدمها قبل وقتها من أجل التيسير عليك، فكذلك نقول: الأفضل أن تتبع الأيسر، فإن كنت غير جاد في السفر - يعني: لست على ظهر السّير إنّما أنت مقيم- فهل تجمع أو لا تجمع؟ قال شيخ الإسلام وجماعة من أهل العلم: إنه لا يجوز الجمع للمسافر إذا لم يجد به السير إذا كان مقيمًا على ماء أو مقيمًا يريد أن يقيل، فإذا أبرد الوقت مشى يقول: لا يجوز له أن يجمع، ويستدل لذلك بأنه ورد في حديث ابن عمر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع إذا جدَّ به السير"، وفي لفظ: "إذا كان على ظهر سير"، وقال: إن الرسول- عليه الصلاة والسلام- في منى مقيم فكان يقصر ولا يجمع، وعلل ذلك أيضًا بأن الجمع سببه المشقة، وليس السفر، بدليل أنه يجوز للمقيم إذا وجد سببه، فالسفر ليس علة فيه، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن السفر سبب للجمع وأن المسافر وإن لم يجد به السير فله أن يجمع، واستدلوا لذلك بالأثر والنظر: أمّا الأثر فقالوا: إنه ثبت في الصحيح: "أن الرسول - عليه الصلاة والسلام- يجمع بين الظهر والعصر"، وثبت في الصحيحين أيضًا من حديث أبي جحيفةفي إقامة الرسول - عليه الصلاة والسلام- في الأبطح في مكة أنه خرج النبي - عليه الصلاة والسلام- من قبة حمراء من أدم فتقدم فصلى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، ووضعت العنزة بين يديه، قالوا: وهذا ظاهره الجمع أنه صلاهما جميعًا، فدل هذا على أنه جائز. ولكن نقول: إذا جدّ بك السير فالأفضل الجمع، وإن لم يجد بك السير فالأفضل عدم الجمع، ولكن لو جمعت فلا حرج. أما النظر فقالوا: إن كان الشرع أجاز للمسافر أن يقصر الصلاة ركعتين من أجل التيسير عليه فالجمع بين الصلاتين أيسر، يعني: مثلًا أيهما أيسر لو قيل لك: صلِّ الظهر والعصر جميعًا على أربع ركعات بدون قصر، أو صلِّ كل واحدة في وقتها على ركعتين، أيهما الأيسر؟ الأول أن أيسر؛ لأنك لا تقوم إلا مرة واحدة للصلاة ولا تتوضأ إلا مرة واحدة وتصلي وتنام خلاف أن تُطالب بكل صلاة في وقتها ولو كانت ركعتين، بمعنى: أن الإنسان يرى أن الأسهل أنه يجمع بين الظهر والعصر أسهل عليه أن يقال أقصر الصلاة وصلّ كل صلاة في وقتها، وهذا القول أصح، أي: أن السفر سبب من أسباب الجمع، لكن إن احتجت إليه فالجمع

حالات الجمع بين الصلاتين في الحضر

أفضل، وإن لم تحتج إليه فهو رخصة وليس بأفضل، وبهذا تجتمع الأدلة وهو المشهور من مذهب الحنابلة. حالات الجمع بين الصلاتين في الحضر: هل يجوز الجمع لرجل مصاب بسلس البول ويشق عليه الوضوء لكل صلاة؟ نعم، يجوز لأنه يشق عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها، وقد أجاز النبي- عليه الصلاة والسلام- للمستحاضة أن تجمع، والاستحاضة نوعٌ من الحدث الدائم. هل يجوز لامرأة ترضع أن تجمع لأنه يشق عليها أن تطهر ثيابها لكل صلاة؟ يجوز، ومن أوسع المذاهب في باب الجمع المذاهب المشهورة المتبوعة مذهب الإمام أحمد. هل يجوز الجمع لإدراك الجماعة؟ يجوز، لأن الجمع للمطر من أجل الجماعة، إذ بإمكان كل واحد منهما أن ينصرف إلى بيته، وإذا دخل الوقت صلى في بيته، وعلى هذا إذا كنا جماعة في سفر وقدمنا إلى البلد أو قريب من البلد، وعرفنا أننا إذا تفرقنا صلينا فرادى، وما دمنا مجتمعين نُصلي جماعة، فنقول: الأفضل أن تصلوا جماعة جمعًا. ويُستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: جواز الجمع لمن جدّ به السير في السفر. ثانيًا: أن الأفضل فعل الأرفق بهم من جمع التقديم أو التأخير. ثالثًا: حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لمن معه، كيف ذلك؟ لأنه إذا ركب قبل زوال الشمس أخّر الظهر، وإن ركب بعد زوال الشمس قدّم العصر، وهذا من حسن رعايته لأمته- عليه الصلاة والسلام-. ومن فوائد الحديث: هل يستفاد من هذا الحديث وجوب صلاة الجماعة في السفر؟ هل تظنون أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- يصلي وحده في السفر؟ ما نظن، لكن وجوب الجماعة في السفر هذا هو الذي قد يُناقش فيه، أما مشروعية الجماعة في السفر فلا شك فيها وتُؤخذ من هذا الحديث؛ لأن من لازم [قيام] الرسول بفعل أن يفعله الصحابة. ويبقى علينا هل نقول: إن هذا على سبيل الوجوب بناءً على الأصل، أو نقول: على سبيل الاستحباب؛ لأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب؟ الظاهر الأول أنه يدل على الوجوب؛ لأن الأصل في الجماعة الوجوب، ويؤيد ذلك قوله تعالى في سورة النساء: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم .... } إلخ الآية [النساء 102]، وهذا في السفر، وفي الحرب أيضًا، وهذا هو الحق بلا شك، بمعنى: أنه تجب صلاة الجماعة حتى في السفر، إذا كان المسافر قد مرّ في بلد وأقام فيها يومًا أو يومين هل تلزمه الجماعة في المساجد، أو للمسافرين أن يجمعوا في مكان رحلهم؟ إن قلنا بوجوب حضور المساجد

الصلوات التي لا يجمع بينها

وجب على هؤلاء المسافرين حضور المساجد، وإن قلنا بأنه لا يجب لم يجب على هؤلاء أن يذهبوا إلى المسجد، وقد سبق لنا أن الصواب: وجوب حضور المساجد، وعلى هذا فيجب عليهم أن يحضروا، ولكن مع ذلك نجد بعض الأحيان ناس عند المسجد هنا من المسافرين، نقول: صلوا، يقولوا: نحن مسافرون، وهذا بناءً على قول من يقول: إن الواجب الجماعة لا حضور المساجد، وقد سبق لنا أن هذا القول ضعيف. بقي أن يُقال: هل يشترط نية الجمع قبل أن يسلم من الأولى، أو ليس بشرط؟ المذهب: أنه لا يشترط، والصحيح أنه ليس بشرط، وأن الإنسان إذا لم ينو الجمع إلا بعد أن سلّم فليجمع ولا حرج عليه ما دام سبب الجمع موجودًا. الصلوات التي لا يجمع بينها: 416 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلّي الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا". رواه مسلم. متى كانت الغزوة؟ في السنة التاسعة من الهجرة، وتبوك محل قريب من حدود الشام، وغزا النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه حدّث أن الروم قد جمعوا له فغزاهم- عليه الصلاة والسلام-، وكانت هذه الغزوة في وقت الرُّطب ونضوج الثمار، ومع هذا المسافة بعيدة وتخلّف عنها كثير من المنافقين، وجاءوا كعادتهم يعتذرون إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام- ويحلفون إنهم معذورون، وتخلف عن هذه الغزوة ثلاثة من الصحابة السابقين بدون عذر، وهم: "كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع" بدون عذر، وأنزل الله تعالى فيهم ما أنزل في سورة التوبة، لأنهم صدقوا- رضي الله عنهم-، هذه الغزوة أقام الرسول- عليه الصلاة والسلام- فيها كم من يوم؟ عشرون يومًا يقصر الصلاة فيها، ويقول معاذ: "إنه كان يصلي الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا"، فيجعل الوقتين وقتًا واحدًا، ولم يبين معاذ هل هو جمع تقديم أو جمع تأخير، وقد سبق أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- يراعي ما هو أيسر وأصلح، فقد يكون جمع تقديم، وقد يكون جمع تقديم وقد يكون جمع تأخير. وفي الحديث: دليل على أن المسافر يجمع ولو طال سفره، لو بقي عشرين يومًا أو ثلاثين يومًا أو أكثر. وفيه أيضًا: دليل على أنه لا جمع بين العصر والمغرب، من أين نأخذه؟ من الحديث: "الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا"، ومن المعنى: أن الظهر والعصر نهاريتان، والمغرب والعشاء ليليتان.

وفيه دليل أيضًا: على أن الفجر لا تجمع لصلاة أخرى؛ وجهه؟ أنها لم تُذكر، إذن هي باقية في محلها، ووجه آخر أنه لا صلة لوقتها بغيره من الأوقات، إذ إن وقت العشاء ينتهي بنصف الليل، فيبقى نصف الليل الآخر ليس فيه وقت لصلاة مفروضة، وينتهي وقتها بطلوع الفجر، فيبقى نصف النهار الأول ليس وقتًا لصلاة مفروضة ... انظر الحكمة: نصف الليل الأخير ليس وقتًا لصلاة مفروضة، ونصف النهار الأول ليس وقتًا لصلاة مفروضة؛ ولهذا في النصف الأخير من الليل يُسن التطوع صلاة الليل، وفي النهار يُسن صلاة الضحى، وهذا من الحكمة العظيمة في الشريعة. في هذا الحديث: لو قال قائل: الوقت من زوال الشمس إلى نصف الليل متصل بعضه ببعض: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78]. فلماذا لا تجمع العصر إلى المغرب، أو تجمع الصلوات الأربع جميعًا؟ الجواب: اختلاف الصلاتين وقتًا وهيئة، هذا العصر والظهر في النهار، والمغرب والعشاء في الليل هيئة هذه قراءتها سر، وهذه قراءتها جهر، فهي مختلفة، فلا يمكن أن يجمع بعضها إلى بعض، وبه نعرف خطأ من يفعل ذلك من بعض العمال، نسمع أن بعض العمال هما وفي أوربا وغيرها مساكين يخرجون للعمل من أول النهار، وإذا جاء اليوم صلوا صلاة الأربع، هذا خطأ، ولا يحل هذا الشيء وقد تقدم لنا أن الصحيح أن من أخّر الصلاة عن وقتها بدون عذر لال تُقبل، ولو قضاها لم تقبل منه. 417 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة بُردٍ؛ من مكّة إلى عسفان"، رواه الدّارقطنيُّ بإسناد ضعيف، والصحيح أنّه موقوف، كذا أخرجه ابن خزيمة. إقرار المؤلف على الضعف فيه نظر؛ لأن الحديث فيه راوٍ متروك، فهو منكر ولا يصح أبدًا عن الرسول- عليه الصلاة والسلام-، والصواب- كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- أنه لم يرد تحديد مدة القصر، لا مسافة ولا زمنًا، وأن هذا أمر يرجع إلى العادة والعرف، فما سماه الناس سفرًا فهو سفر، وما لم يسموه سفرًا فليس بسفر، ولهذا قال المؤلف: "والصحيح أنه موقوف كما أخرجه ابن خزيمة" موقوف على ابن عباس من قوله، إذا كان من قوله أفلا يكون له حكم الرفع؟ لا، لماذا؟ لأن للرأي فيه مجالًا؛ إذ إن ابن عباس قد يكون أجاب به من يرى أن سيره

صلاة المريض وكيفيتها

هذا يسمى سفرًا في العرف فخاطبه بما يراه في ذلك الوقت، ثم لو كان هذا مرفوعًا فمما يضعف حكم الرفع أنه لو كان كذلك لكان نقله أمرًا مشهورًا معلومًا لدعوة الحاجة إلى بيانه هذا من أشد الأمور حاجة إلى بيانه إذ إنه فيصل بين ما يمكن أن يقصر فيه وبين ما لا يمكن أن يقصر فيه، وهذا لا يمكن أن يغفله الرسول- عليه الصلاة والسلام- حتى يأتي ابن عباس فيقول ذلك. 418 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي الذّين إذا أساءوا استغفروا، وإذا سافروا قصروا وأفطروا"، أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف، وهو من مرسل سعيد بن المسيب عند البيهقي مختصرًا. هذا الحديث- كما رأيتم- ضعيف، لكن معناه صحيح، فإن خير الناس من إذا أساء استغفر، كما قال الله تعالى في وصف المتقين: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} [آل عمران: 135]. صلاة المريض وكيفيتها: 419 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: صلّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، وإن لم تستطع فعلى جنب". رواه البخاريّ. قوله: "كانت بي بواسير" البواسير: جمع باسور، فيها- أي: في البواسير- صيغة منتهى الجموع؛ لأنها على وزن "فواعيل"، والبواسير جمع باسور كما قلت، وهو داء في المقعدة، وهناك داء آخر يسمى ناسورًا، وكلاهما داءان في المقعدة، والبواسير كانت بالأول من الأمراض المؤلمة المزمنة؛ لأنه قطعها ليس بالأمر السهل، ولهذا تجدون في كتب أهل العلم هل يجوز للإنسان أن يقطع البواسير، أو يحرم عليه أن يقطعها؟ قال بعضهم: إنه يحرم عليه قطعها؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى نزيف الدم حتى يموت، هل هذا القول يرد في وقتنا الحاضر؟ لا، لأن هذا الخوف الذي رتب عليه الحكم مأمون والحمد لله. وقوله: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة" يعني: كيف أصنع فيها؛ لأن الصحابة- رضي الله عنهم- كانوا حريصين على العلم، فأشكل عليه ماذا يصنع مع المشقة والألم، فقال له الرسول- عليه الصلاة والسلام-: "صلِّ قائمًا" "صلّ" فعل أمر وهو للإرشاد، لكنه للوجوب، يعني: يرشده إلى

الصفة الواجبة، والدليل قوله: "فإن لم تستطع" واعلم أن الأمر الوارد في جواب السؤال إن كان المسئول عنه شيئًا واجبًا فهو للواجب، وإن لم يكن شيئًا واجبًا فهو للإرشاد، قال الصحابة: كيف نصلي عليك، قال: قولوا: اللَّهم صلِّ على محمد ... ". هل تجب هذه الصيغة، أو لو صلى بغيرها أجزأ؟ لو صلى بغيرها أجزأ، لأنه لم يجب عن أمر واجب، ولكن سألوا عن الكيفية، فقال: كيفيتها كذا وكذا، هذه "صلّ قائمًا" نقول: مثل هذه للإرشاد، لكن قوله: "فإن لم تستطع" يدل على أن الإرشاد إلى الكيفية أنه إرشاد إلى كيفية واجبة، "صل قائمًا" "قائمًا" حال من فاعل "صلّ" يعني: صلّ حال كونك قائمًان وقوله: "قائمًا" يشمل ما إذا كان قائمًا بدون اعتماد، أو قائمًا معتمدًا، فلو فُرض أن هذا الرجل لا يستطيع أن يقف قائمًا بدون اعتماد ويستطيع أن يقوم باعتماد على عصا، أو على عمود، أو على جدار، فإنه يلزمه القيام. وقوله: "فإن لم تستطع" هل المراد: العجز مطلقًا بحيث تكون رجلاه ميتتين مثلًا أو يكون زمنًا، أو أن المراد: "إن لم تستطع" يعني: ما تقدر إلا بمشقة؟ الظاهر الأخير؛ لأن البواسير من المعروف أن المصاب بها ليس بعاجز عن القيام لكن يشق عليه، وضابط المشقة التي يسقط بها القيام ما هو؟ ضابطها أقرب شيء أنها ما يزول بها الخشوع، يعني: لا يحضر قلبه لأنه متعب فيشق عليه، هذا أحسن ما قيل فيها، وإلا لو قلنا: إن المشقة المطلقة أو مطلق المشقة ليس عندنا ضابط، لكن نقول: المشقة التي تذهب الخشوع. "فإن لم تستطع فقاعدًا" أي: فصل قاعدًا، ولم يبين الرسول- عليه الصلاة والسلام- كيف يقعد، لكن في آخر حديث في الباب حديث عائشة: "كان النبي- عليه الصلاة والسلام- يصلي متربعًا، فعلى هذا يكون هذا القعود متربعًا، ويكون متربعًا في حال القيام، وفي حال الركوع، قيل: يفترش، وقيل: يتربع يبقى على تربعه، وهذا القول الثاني هو الصحيح، أنه في حال الركوع يبقى متربعًا، كيف يركع؟ يركع بالإيماء، فيومئ أي: يخفض ظهره، قال العلماء: حتى يقابل ما وراء ركبتيه أدنى مقابلة وتتمتها الكمال بحيث يكون وجهه كله خارج حدود الركبتين، في السجود ماذا يفعل؟ إن كان لا يستطيع يسجد، وفي الجلوس بين السجدتين يجلس كالعادة مفترشًا، هذا معنى قوله: "صلِّ قاعدًا"، فإن لم يستطع السجود لأثر في رأسه أو في عينه، أو ما أشبه ذلك فماذا يفعل؟ يومي بالسجود أيضًا ويجعل السجود أخفض من الركوع، ولكن هل يجب عليه أن يسجد على بقية الأعضاء إذا عجز بالجبهة؟ قال بعض العلماء: إذا عجز بالجبهة سقط ما سواها، لأنها هي الأصل، فعلى هذا ما يجب عليه يسجد لا على كبتيه ولا على أطراف القدمين ولا على الكفين ما دام عجزت الجبهة، مثل: أن يكون في الجبهة جروح لا يستطيع أن يسجد عليها، نقول: يومئ إيماء، والصحيح أن العجز بالجبهة لا يسقط ما سواها،

يجب عليه أن يسجد على ما سواها لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". فعلى هذا نقول: اسجد على الكفين والركبتين وأطراف القدمين وأقرب من الأرض بقدر ما تستطيع. يقول: "فإن لم تستطع فعلى جنب"، "إن لم تستطع" يعني: القعود، "فعلى جنب" أيُّ الجنبين؟ الحديث مطلق فعلى جنبك، ولكن ورد حديث أنه على الجنب الأيمن إذا استطاع، فإن لم يستطع فعلى الجنب الأيسر، ووجهه في جميع الأحوال إلى القبلة. يستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: الفائدة الأولى: مشروعية عيادة المريض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عاد عمران بن حصين. ثانيًا: جواز التصريح بما يستحيا منه لنشر العلم، يؤخذ من قوله: "كانت بي بواسير". ثالثًا: حرص الصحابة- رضي الله عنهم- على العلم، من أين؟ من سؤال عمران بن حصين. رابعًا: أنه ينبغي لكل من نزلت به نازلة أن يسأل عن حكم الله في هذه النازلة، ولهذا عمران سأل النبي- عليه الصلاة والسلام-. خامسًا: وجوب الصلاة على المريض قائمًا لقوله: "صلِّ قائمًا"، والمراد الفريضة، أما النافلة فلا يجب فيها القيام، والدليل على أنه لا يجب فيها القيام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته في السفر بدون ضرورة، ولو كان القيام واجبًا ما صلى هذه من فعله، كذلك لمّا ثقل كان صلى الله عليه وسلم يصلي في الليل جالسًا حتى إذا قارب الركوع قام فركع هذا أيضًا من فعله، الدليل الثالث من قوله: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم"، ما وجه الدلالة؟ لأنه جعل ثواب القاعد على النصف، وهذا في غير العذر؛ لأنه في العذر يكون الثواب واحدًا فلا شك أن هذا الحديث في غير المعذور، وعلى هذا فيحمل على النفل، ولذلك أخرنا الاستدلال بهذا القول على الاستدلال بالفعل، وإلا ففي حال سياق الأدلة نقدم الاستدلال بالقول على الاستدلال بالفعل، لكن إذا كان فيه احتمال أو إشكال لا بأس أن نؤخره كما أنه يقدم في الاستدلال القرآن قبل السنة، فإذا كانت السنة صريحة والقرآن فيه احتمال أو السنة تدل على هذا الشيء بعينه والقرآن يدل عليه بعمومه تقدم السنة، إذن هذا في الفرض. ومن فوائد الحديث: أنه يجب القيام ولو معتمدًا على عصا، أو على جدار، أو على عمود لقوله: "صلِّ قائمًا"، وهذا يشمل أي صفة تكون في القيام. ومن فوائد الحديث: أن من عجز عن القيام يُصلي قاعدًا، وصفته على ما شرحنا. ومن فوائده: أن من عجز عن القعود صلّى على جنبه.

ومن فوائد الحديث: تيسيرًا أحكام الشريعة والحمد لله، والشريعة كلها يسر، ثم إن طرأ ما يوجب تيسير هذا الميسر يسر أيضًا، فأصل الشريعة يسر كما قال الرسول- عليه الصلاة والسلام-: "إن الدين يسر"، وإذا طرأ تيسير ما يوجب هذا اليسر يسر أيضًا، وهذا من نعمة الله علينا. مسألة: عدم سقوط الصلاة عن المريض: ومن فوائد الحديث: أن الصلاة لا تسقط عن [المريض] فيصليها على أي حال كان، ولكن إذا عجز عن هذه المراتب الثلاث هل تسقط؟ قيل: إنها تسقط؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- ما جعل إلا ثلاث مراتب فقط، فإذا عجز عن الصلاة على الجنب فإنه تسقط عنه الصلاة، وقال بعض العلماء: لا تسقط، الرسول قال: "صلِّ على جنب"، ولم يبين كيف يصلي، فمعنى ذلك: أن يُصلي على حسب حاله، يصلي برأسه إن أمكن، أو بعينه إن لم يمكن، فإن لم يمكن بالعين فإنه يصلي بالقلب: أنوي القيام، وأنوي الركوع وأنوي الرفع منه، وأنوي السجود وأنوي الرفع منه، وأنوي الجلوس للتشهد وأنطق، فإن لم يمكنه النطق ولا الفعل، هذا رجل لا يمكن لا نطق ولا فعل ماذا يفعل؟ ينوي بقلبه؛ لأن الصلاة نية وعمل، فإذا تعذر العمل وجبت النية، ولا تسقط الصلاة ما دام العقل ثابتًا، والدليل على هذا قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، والآن هذا ما نستطيع فعلينا أن نصلي بالنية، فنقول: إن قدرنا على النطق أو ننوي إذا لم نقدر على النطق، أما أن نقول لإنسان: ليس عليك صلاة وهو عاقل يدري ما يقول، ويدري ما يفعل لكنه عاجر عنه، ونقول: ليس عليك صلاة، ونقطع صلة الإنسان بينه وبين ربه، قد يبقى أيامًا أو شهورًا أو ربما سنين يكون أشل اللسان، وأشل الجوارح، لكنه عاقل ونقول: لا، لا تصلّ هذا في النفس منه شيء، فالصواب: أنها لا تسقط ما دام العقل ثابتًا، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه، مثل رجل أصيب بحروق في جنبه أو بالتهابات أو ما أشبه ذلك يُصلي مستلقيًا ويتوجه للقبلة، فإن لم يستطع الاستلقاء صلى على بطنه، أي شيء يكون فإن لم يستطع على بطنه، أو على أي شيء كيف يصلي؟ يُصلي على أي حال كان عليها، يُقال: إن بعض العامة سمع رجلًا يحدِّث بحديث: "إذا سرق تقطع يده اليمنى، فإن سرق ثانية فليقطع رجله اليسرى، فإن سرق ثالثة فليقطع يده اليسرى، فإن سرق رابعة تقطع رجله اليمنى، فإن سرق فاقتلوه"، قال العامي: كيف

يسرق بعد الرابعة؟ نقول: ربما يسرق بأسنانه، ربما يُذكر أن بعض الناس حمل على إبله فيما سبق بأسنانه. المهم: أن نقول في مسألة الجنب إذا عجز عن الأيمن يكون بالأيسر، فإذا عجز فعلى الظهر، فإذا عجز فعلى البطن. المهم: أن الصلاة لا تسقط، مشتهر عند العامة أن للإنسان يصلي بأصبعه، هذا لم يرد عن الرسول- عليه الصلاة والسلام- وإنّما يومئ، وما علمت أحدًا من أهل العلم قال بذلك، فلا أدري من أين جاء به العامة؟ ! 420 - وعن جابر رضي الله عنه قال: "عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضًا، فراه يُصلي على وسادة فرمى بها، وقال: صلِّ على الأرض إن استطعت، وإلا فأوم إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك"، رواه البيهقيُّ، وصحح أبو حاتم وقفه. ما معنى: "وقفه" يعني: أنه من قول جابر ليس مرفوعًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. قال: "عاد النبيُّ مريضًا فراه يصلي على وسادة"، المريض يصلي على وسادة، وهل المراد: أن الوسادة صارت مصلى له؟ لا، لأن هذا ما يمكن، المراد: يسجد على وسادة، قد رفعها، لأنه ما يستطيع السجود على الأرض، "فرمى بها"، من الذي رمى بها؟ الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له: "صلِّ على الأرض" يعني: اسجد على الأرض، "إن استطعت، وإلا فأوم إيماء، واجعل سجودك أخفض ركوعك"، لكن هذا الحديث- كما رأيتم- موقوف على الأصح، إنّما معناه صحيح؛ لأن الإنسان لا ينبغي له أن يتكلف في دين الله، وأن يصنع شيئًا يرفع له، وإنّما المشروع أن تُصلي بدون كلفة ومشقة بأن تحاول أن تسجد على الأرض أولًا، فإن لم تستطع أومأت إيماء، بماذا يومئ إيماء؟ بالركوع والسجود بالرأس، قال النبي صلى الله عليه وسلم- إن صحَّ الحديث-: "واجعل سجودك أخفض من ركوعك" لماذا يجعلها أخفض؟ لأن السجود أخفض حتى في الركوع يحني ظهره، والسجود يصل إلى الأرض. 421 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يصلِّي متربعا"، رواه النَّسائي، وصححه الحاكم. يصلي متربعًا كما أشرنا من قبل إلى أن التربع يكون في حال القيام، وفي حال الركوع أيضًا، أمّا الجلوس بين السجدتين وفي حال التشهد فعلى العادة.

12 - باب صلاة الجمعة

12 - باب صلاة الجمعة هذا من باب إضافة الشيء إلى زمنه ووقته، فهي الصلاة التي تُفعل في وقت الجمعة، وسمي هذا اليوم بـ"يوم الجمعة" لاجتماع الناس فيه على الصلاة، ولأنه جمع فيه من الآيات الكونية ما لم يجتمع في غيره، ففيه خُلق آدم، وفيه أدخل الجنّة، وأُخرج منها، وفيه تقوم الساعة ... إلى آخره ما فيه من الخصائص، فلهذا سُمي يوم الجمعة، وقد ذكر اسمه بلفظ في القرآن في قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنو إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9]، وهل ذكر في القرآن يوم آخر بعينه سواه؟ نعم، يوم السبت، لكن يوم السبت ذكر على سبيل التوبيخ واللوم. التحذير من ترك الجمع: 422 - عن عبد الله بن عمر، وأبي هريرة- رضي الله عنهم-، أنّهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: "لينتهينَّ أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثمَّ ليكوننَّ من الغافلين"، رواه مسلم. قوله: "عنهم" الضمير جمع والراوي اثنان فكيف يكون ذلك؟ نقول: لأن عبد الله بن عمر هو وأبوه، وقوله: "يقول" هذه جملة حالية وليست مفعولًا ثانيًا، لأن "سمع" هذه تعلق بشيء محسوس فهو كالرؤية البصرية تنصب مفعولًا واحدًا، فإذا قلت: "رأيت الرجل يسعى" جملة "يسعى" جملة حالية، وهذه أيضًا جملة حالية سُمعت؛ لأن السماع يتعلق بالأمور المحسوسة ليس بالأمور العلمية التي في القلوب. يقول: "على أعواد منبره" أعواد جمع عود، والمنبر المكان المرتفع فهو من النبر- وهو الارتفاع- وأعواد منبر الرسول صلى الله عليه وسلم هي: عبارة عن خشب صُنعت من أثل الغابة صنعها غلام لامرأة من الأنصار، وجعلها ثلاث درج، وكان النبي- عليه الصلاة والسلام- في الأول يخطب إلى جذع نخلة، وزعم بعض المؤرخين أنه كان يخطب على منبر من طين، ولكن لم يثبت، والمعروف أنه كان يخطب إلى جذع هذه النخلة، ولما صنع المنبر وصعده النبي- عليه الصلاة والسلام- حتى نزل الرسول- عليه الصلاة والسلام- وأسكته فسكت، وهذا من آيات الله الدالة على أن كل شيء من جماد هو حي، وسواء كان الجماد فيه الحياة أو ليس فيه حياة فإنه يعلم ويعرف، فهذا أحد حصى ينمو أو لا؟ ليس فيه نمو ومع ذلك يحبنا ونحبه، والحصى سمع يسبح بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والحجر كان يُسلم على الرسول- عليه الصلاة والسلام- في مكة هذا أيضًا جماد

ولكن أحس بفقد الرسول- عليه الصلاة والسلام- ما سكت إلا لما نزل الرسول- عليه الصلاة والسلام- من المنبر وأسكته، وهذا المنبر صنع له على ثلاث درج، ولما صنع له صار يخطب عليه- عليه الصلاة والسلام- وبقي في عهد أبي بكر، وعهد عمر، وعثمان، وعلي، وأول زمان معاوية، وزعم بعض المؤرخين- وأخشى أن يكون من دسائس الرافضة- أن معاوية طلب من مروان أن ينقل منبر الرسول- عليه الصلاة والسلام- إلى الشام، ويقال: إنه لما همَّ بذلك حصل في المدينة ظلمة حتى شوهدت النجوم ولمّا رأى ذلك مروان أظهر للناس أنه لا يريد أن يقلعه ويذهب به إلى الشام وإنّما يريد أن يزيده، فزاده من ثلاث إلى ست درجات، وبقي على هذا حتى احترق المسجد سنة (654) هجرية، ثم بعد ذلك احترق مع المسجد، وصار الخلفاء كل واحد منهم يأتي بمنبر حتى وقتنا هذا. فالشاهد أن قوله: "على أعواد منبره" نقول: المنبر هو عبارة عن ثلاث درج من الخشب من الأثل اتخذه النبي- عليه الصلاة والسلام- ليخطب عليه. يقول: "لينتهين" اللام هذه موطئة للقسم، والنون للتوكيد، والتوكيد هنا واجب أو كثير أو قليل؟ واجب لمام الشروط الأربعة فهو مثبت وفي قسم ومستقبل ولم يفصل عن لامه فيكون هنا التوكيد واجبًا، "لينتهين أقوام" أقوام: نكرة ولم يبينها الرسول- عليه الصلاة والسلام- لأن من عادته أنه لا يعين أحدًا حتى وإن كان يعلمه مع أنه جاء في الحديث يُحتمل أن يعلمه أو لا يعلمه، على كل حال من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يعيّن أحدًا ولو كان يعلمه، ولهذا في قصة بريرة التي كاتبها أهلها وأرادت عائشة أن تشتريها وتشترط الولاء لها فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فاستأذنت عائشة النبي- عليه الصلاة والسلام- خطيبًا في الناس فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله"، وهو يعلمهم لكن هذه من عادته؛ لأن تعيين الإنسان في مثل هذه المقامات تجريح له في الواقع، وليس المقصود أن يجرح الشخص، ولكن المقصود أن يبين الحق وأن هذا باطل فلا يجوز، والتجريح في المقامات العامة هذا لا يصلح به مصلحة أبدًا، لأن الإنسان إذا عين شخصًا ربما يحمل على أن العداوة شخصية، وأراد أن يشهر به، انظروا إلى مؤمن آل فرعون: {وقال رجل مؤمن من أل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]. لم يقل: أتقتلون موسى؛ لئلا يُتهم بأن دعوته إلى الحق دعوة شخصية عصبية، وهذا من حسن الدعوة.

يقول: "عن ودعهم الجمعات" "ودع" هذا مصدر فعله "ودع" الماضي، والمضارع "يدعُ" والأمر "دع"، وهذا المصدر قليل مثلى إذا قلت: "يذرهم"، هذه فعل مضارع، والماضي "وذره"، والأمر "ذر"، والمصدر "وذر" هذه قليلة، "عن ودعهم الجمعات". "ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين" الختم بمعنى الطبع، وسمي ختمًا مثل ما يختم الإنسان على الظرف لزيادة التوثقة، والمعنى: أنه- والعياذ بالله- يختم على القلب في غلاف لا يصل إليه خير قط، لأنهم تركوا الجمعيات يقول: "ثم ليكونن من الغافلين" هذه نتيجة الطبع أو الختم: الغفلة عن ذكر الله وعن آياته، والغفلة عن ذكر الله وآياته تستلزم أن يكون أمر الإنسان فرطًا ما يستفيد من وقته، ولا من عمره، {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هوته وكان أمره فرطًا} [الكهف: 28]. ضائعًا والعياذ بالله. هذا الحديث يستفاد منه عدة فوائد: أولًا: التحذير من ترك الجمعة من قول: "لينتهين أو ليختمن الله". ثانيًا: أن ترك الجمعات من كبائر الذنوب، من أين تؤخذ؟ من الوعيد عليه، وكل ذنب فيه وعيد فإنه من كبائر الذنوب. ثالثًا: أن الجمعة فرض عين ما الدليل؟ لأنها لو كانت فرض كفاية لاكتفي بالحاضرين ولم يكن على التاركين إثم. رابعًا: مشروعية الخطبة على المنبر لقولهما: "على أعواد منبره". خامسًا: أنه ينبغي في الأحكام العامة أن تكون علنًا مظهرًا؛ لأن الرسول أظهرها في خطبة الجمعة. والسادس: أنه ينبغي في الخطب أن يذكر فيها ما يناسب المقام؛ لأن خطبة الجمعة من أهم ما يذكر فيها الحث على الجمعة والتحذير من إضاعتها. ومن فوائد الحديث: الرد على الجبرية، من أين يؤخذ؟ من قوله: "لينتهين"، وقوله: "ودعهم" كل هذا إضافة الفعل إلى الفاعل، وهذا أمر معلوم والحمد لله، كل إنسان يعرف أنه يفعل بالاختيار ويدع بالاختيار. ومن فوائد الحديث: إثبات الأسباب، من أين تؤخذ؟ من قوله: "لينتهين أو ليختمن الله" فيجعل النبي- عليه الصلاة والسلام- ترك الجمعة سببًا للختم على القلب. ومن فوائد الحديث: أن الله عز وجل لا يجازي الإنسان بالإقدام على المعصية إلا حيث كان الخطأ منه- أي: من الإنسان-، الختم على القلب حتى يصبح الإنسان غافلًا، هذه عقوبة عظيمة ما سببها؟ سببها الإنسان في ودعه الجمعات، ولهذا قال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5]. فجعل سبب إزاغته زيغهم هم، ولكل شيء سبب.

وقت صلاة الجمعة

ومن فوائد الحديث: ذم الغفلة عن ذكر الله وعن آياته، حيث جعله النبي- عليه الصلاة والسلام- عقوبة، "ثم ليكونن من الغافلين" لماذا بالأول يقول: "لينتهين" وفي الثاني قال: "ليكونن" بالضم وبالأول فتح مع أن الفاعل جمع في كلا الفعلين؟ الأول: فاعله اسم ظاهر، والثاني: فاعله ضمير واو الجماعة، وإذا كان الفاعل من الفعل المضارع المؤكد بالنون إذا كان الفاعل اسمًا ظاهرًا لزم أن تكون النون مباشرة للفعل لفظًا وتقديرًا، وإذا باشرت الفعل لفظًا، وتقديرًا وجب بناؤه على الفتح، أما إذا باشرته لفظًا لا تقديرًا فلا يبني، المثال الذي معنا الآن: "ليكونن" هي مباشرة للفعل لفظًا نون الفعل ملاصقة لنون التوكيد لكنها ليست مباشرة له تقديرًا، لماذا؟ لأن بينه وبينها واو الجماعة المحذوفة، كما أنها إذا باشرت الفعل تقديرًا يبنى على الفتح كقول الشاعر [المنسرح]: لا تُهينَّ الفقير علَّك أن ... تركع يومًا والدَّهرُ قد رفعه أصلها: لا تهينن الفقير. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي في الخطب ألا يعين المخالف، ورد حديث: "أنه من ترك ثلاث جمع طبع الله على قلبه"، فهنا الجمعات جنس لولا تقييد هذا الحديث الثاني: "من ترك ثلاث جمع ... إلخ" لكانت عامة حتى لو ترك جمعة واحدة. وقت صلاة الجمعة: 423 - وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "كُنَّا نُصلِّي مع الرسول الله صلى الله عليه وسلام يوم الجمعة، ثُمَّ ننصرف وليس للحيطان ظلٌّ يستظل به" متَّفقٌ عليه، واللَّفظ للبخاريِّ. - وفي لفظ لمسلم: "كنَّا نجمِّعُ معهُ إذا زالت الشَّمسُ، ثُمَّ نرجع، نتتبَّعُ الفيء". هيه الأحاديث في بيان متى تصلِّى الجمعة؟ صلاة الجمعة فهمنا أنها فرض عين، لكن متى تصلى؟ هل تصلى كما يصلى الظهر بعد الزوال؟ وهل يبرد بها كما يبرد لصلاة الظهر، أو يبادر بها؟ هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وجمهور أهل العلم على أنها لا تصلى إلا بعد الزوال، واستدلوا بأحاديث التوقيت قالوا: إن الأحاديث عامة وقت الظهر وصلاة الجمعة، فقالوا: الأصل أن هذه الأوقات تشمل الجمعة كما تشمل الظهر بالاتفاق فلا تصح إلا بعد

الزوال، وقال بعض أهل العلم- وذهب إليه الإمام أحمد-: إلى أنها تجوز قبل الزوال، ثم على هذا القول اختلف القائلون به هل تجوز قبل الزوال بقليل بحيث تكون جائزة في الساعة السادسة مثلًا، أو تجوز من حين ارتفاع الشمس قدر رمح؟ على قولين المشهور من المذهب الثاني، أي: أن وقت صلاة الجمعة يدخل إذا ارتفعت الشمس قدر رمح؟ يعني: بعد طلوعها بنحو ربع ساعة، مثل العيد، لكن العيد ينتهي قبل الزوال وهي لا تنتهي إلا عند العصر أطول من العيد. ولننظر الآن هذه الأحاديث أيّ الأقوال تؤيد يقول الأول: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة"، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة- كما تعلمون- يقرأ: بـ"سبح اسم ربك الأعلى"، و"الغاشية"، وربما قرأ بـ"الجمعة"، و"المنافقون"، وكان الرسول- عليه الصلاة والسلام- يقطع قراءته آية آية، وكان يخطب فربما خطب بسورة (ق) وهي طويلة، اجتماع هذه القرائن يدل على أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- يبادر بها، وهذا الحديث الذي معنا- حديث سلمة- يقول: "ليس للحيطان ظل يستظل به"، الحيطان جمع حائط وهي ما يحوط المكان، والمراد: حيطان البيوت، وتعرفون أن البيوت في عهد الرسول- عليه الصلاة والسلام- ليست طويلة [بل] قصيرة، والحديث يقول: "ليس لها ظل"، فهل المنفي هنا الظل أو الظل بقيد يستظل به؟ الواضح أن النفي هو الظل بقيد أنه يستظل به، وعلى هذا فلا ينفي وجود أصل الظل، ويؤيد ذلك قوله في لفظ مسلم: "ثم نرجع نتتبع الفيء"، وهذا هو المتعين في الحديث، وقيل: إن معنى قوله: "يستظل به" تفسير للظل وليس تقييدًا له، يعني: وليس للحيطان ظل؛ لأن الظل يستظل به فيكون تفسيرًا له، وليس تقييدًا له، ومن المعلوم أن هذا التأويل ضعيف، والذي يضعفه أن الظل معروف أنه الذي يستظل به. 424 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "ما كنّا نقيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة"، متفق عليه، واللفظ لمسلم. وفي رواية: "في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "ما كنا نقيل" القيلولة هي: النوم نصف النهار، وأما الغداء فهو: الطعام في أول النهار، يعني: في الغدوة، والغدوة هي: أول النهار، ومعلوم أن الغداء لا بد أن يكون قبل الصلاة والقيلولة النوم نصف النهار، فيقول: "ما كنا نقيل إلا بعد صلاة الجمعة"، إذن فالجمعة قبل الزوال ما دامت القيلولة عند الزوال- النوم نصف النهار- كما قال الإمام أحمد، فهذا يقتضي أن تكون الجمعة قبل الزوال، وكذلك قوله: "ولا نتغدى" يدل على أن الجمعة يُبكر فيها؛ لأن الغداء لا

العدد الذي تنعقد به الجمعة

يكون إلا في الغدوة، أي في أول النهار، فإذا صار "لا يتغدى إلا بعد" دل هذا على أنهم يبكرون بها، وزعم بعضهم أن قوله: "ما كنا نقيل" أن القيلولة بعد الظهر وليس قبل الظهر، وأما قوله: "ولا نتغدى" فمعناه أنه يؤخر الغداء إلى بعد الظهر من أجل صلاة الجمعة، وهذا يقوله من يرى أنه لا يجوز صلاة الجمعة بعد الزوال، ولكن في هذا نظر؛ لأنه لو كانت القيلولة أصلها بعد الظهر لم يكن لقوله: "ما كنا نقيل إلا بعد الجمعة"، [فائدة]؛ لأنه إذا كانت القيلولة من العصر بعد الظهر فلا فائدة لقوله: "بعد الجمعة"؛ لأن هذا معلوم في الجمعة وفي الظهر وفي سائر الأيام، والصواب ما ذهب إليه بعض فقهاء الحنابلة من أن صلاة الجمعة تجوز قبل الزوال، ولكن المشهور من المذهب أنها تجوز من حين ترتفع الشمس قيد رمح إلى وقت العصر، ولهذا على هذا القول هي أطول الصلاة وقتًا. والقول الثاني في مذهب الحنابلة: أنها إنّما تجوز الساعة السادسة، يعني: إذا انتهت الخامسة دخل وقتها فيكون قبل الزوال بساعة. وقوله: "في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فائدة إتيان المؤلف بهذه الرواية ليكون الحديث مرفوعًا حكمًا؛ إذ إنه لو قال: "ما كنا نقيل" لأمكن لقائل أن يقول: لعل هذا بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قال: "في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم" فهو دليل على أنه مرفوع حكمًا، وقد سبق لنا في المصطلح أن الصحابي إذا قال: "كانوا يفعلون"، أو "كنا نفعل" حتى لو لم يقل: "على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم"، فالصحيح أنه مرفوع حكمًا؛ لأن الصحابي يأتي بمثل هذا للاحتجاج به على أنه من فعل الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. العدد الذي تنعقد به الجمعة: 425 - وعن جابر رضي الله عنه: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا، فجاءت عيرٌ من الشَّام، فانفتل الناس إليها، حتّى لم يبق إلا اثنا عشر رجلًا". رواه مسلم. "كان" فعل ناقص واسمها مستتر، و"قائمًا" حال من فاعل "يخطب" أما خبر "كان" فهي جملة "يخطب". "كان يخطب قائمًا" يعني: الجمعة، "فجاءت عير من الشام"، العير هي: الإبل المحملة، وأكثر ما تكون محملة بالطعام هذه العير، وقوله: "من الشام" الظاهر أن المقصود من نفس الشام ليس معناها الجهة الشمالية مثلًا، ولكن من الشام نفسها، "فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلًا"، العير هذه محملة بالطعام قدمت المدينة وكانوا بحاجة إليها، فلما سمعوا بها انفتلوا؛

يعني: انصرفوا إليها، والانفتال معناه: الانصراف، ومنه: فتل الحبل، لأنك إذا فتلته يعني تلويه فهو ليِّ وانصراف؛ حيث إنهم انفتلوا إلى العير لشدة حاجتهم، وظنوا أن الأمر لا يبلغ هذا المبلغ وإلا لو علموا أنه يبلغ هذا المبلغ هل ينصرفون؟ لا، فظنوا أن هذا الانصراف منهم لا حرج عليهم فيه لشدة حاجتهم؛ حيث إن هذا الأمر قد بلغ بهم هذا المبلغ، فخرجوا حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلًا، من هم؟ لم يُعيَّنوا، لكن بالتأكيد أن أبا بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعليًّا، هؤلاء الأجلة لا بد أن يكونوا موجودين، وقوله: "إلا اثنا عشر رجلًا" "رجل" هذه تمييز للعدد "إلا اثنا عشر"، وقوله: "إلا اثنا عشر" محله من الإعراب أنه منصوب على الاستثناء. يُستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: الفائدة الأولى: أن المشروع في خطبة الجمعة أن يكون الإنسان قائمًا لقوله: "يخطب قائمًا"، وفي القرآن ما يعضد ذلك: {وتركوك قائمًا} [الجمعة]. ويستفاد منه: لوم من خرج من المسجد للتجارة، بل ولغير التجارة بعد الأذان؛ لأن الآية في مقام اللوم. ويُستفاد من هذا الحديث: أن الجمعة تنعقد باثني عشر رجلًا لقوله: "لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلًا"، ولكن لمعارض أن يعارض فيقول: لعلهم رجعوا قبل أن يتم خطبته، فصاروا أربعين، ولمعارض آخر أن يقول: إنهم صاروا اثني عشر رجلًا على سبيل الصدفة والاتفاق، ولو كانوا أقل من ذلك لم يتغير الحكم، فالأول يقوله من يرى أن العدد لا بد أن يكون أربعين، والثاني يقوله من يرى أنه لا يشترط أن يبلغ اثني عشر رجلًا، ولكن في كلا الجوابين نظر، أمّا الذين يقولون لعلهم رجعوا فإننا نقول: الأصل عدم الرجوع، والثاني: ظاهر الحديث أنهم ما رجعوا؛ لأنه قال: "لم يبق إلا اثنا عشر رجلًا"، ولم يقل: ثم رجعوا لكان يجب أن يذكر لما فيه من زوال اللوم عنهم. وأمّا الثاني: فنقول لمن قال: إن هذا وقع على سبيل التشريع، نقول: من يقول لك هذا؟ ما ظنك هل لو خرجوا اثني عشر ولم يبق إلا ثلاثة أو أربعة يسبب أن الحكم يتغير؟ لا يتغير؛ لأن الأصل بقاء الحكم على ما كان عليه، وقد قررنا فيما سبق كثيرًا على أن المسائل التي تقع اتفاقًا ليست تشريعًا، وغاية ما فيها أن تكون مباحة فقط، وذكرنا من ذلك نزول الرسول- عليه الصلاة والسلام- ليلة المزدلفة نزل فبال، وتوضأ وضوءًا خفيفًا ثم ركب حتى أتى "مزدلفة" فهل نقول: إنه يشرع للحجاج أن ينزلوا هذا الشعب ويبولون؟ لا، ليس بمشروع، كذلك أيضًا كون الرسول- عليه الصلاة والسلام- قدم إلى مكة في حجة الوداع في اليوم الرابع، وبقي يقصر الصلاة، هل نقول: من قدم في اليوم الثالث لا يقصر؟ الجواب: لا، لا نقول ذلك؛ لأن كون

الرسول- عليه الصلاة والسلام- قدم في اليوم الرابع، وبقي أربعة أيام حتى خرج إلى "منى" هذا وقع اتفاقًا لا قصدًا، والدليل على أنه لا يختلف الحكم وأنك لو قدمت في اليوم الثالث، أو الثاني، أو الأول من ذي الحجة تقصر لو زاد على أربعة أيام، الدليل على أنه لو كان الحكم يتغير لكان بيَّنه الرسول- عليه الصلاة والسلام-؛ لأن هذا الأمر، الرسول يعلم وكل الناس يعلمون أن من الناس من يأتون قبل يوم الرابع أو بعده، فما وقع اتفاقًا لا يعتبر تشريعًا وهذا نافع لطالب العلم، إلا أن ابن عمر- رضي الله عنه وعن أبيه- من شدة تحريه للسُّنة أنه كان يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى فيما وقع اتفاقًا، حتى قيل: إنه كان يتتبع الأماكن التي ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم فيها فيبول ينزل هو أيضًا فيبول رضي الله عنه، أو التي ينزل فيها ليصلي فينزل فيها ويصلي، يعني: يتحرى كل هذا ولكن هذا، الأصل الذي مشى عليه ابن عمر خالفه عليه بقية الصحابة، وقالوا: إن هذا لا يدل على التشريع لكن يدل على الجواز، إذ لو كان ممنوعًا ما فعله الرسول- عليه الصلاة والسلام- إذن هذا الذي معنا الآن هذا من فروع تلك القاعدة، كونه لم يبق إلا اثنا عشر رجلًا وينزل الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته ويستمر، ما نقول: إنه لو بقي أقل من أثني عشر رجلًا لاختلف الحكم؛ لأن الأصل عدم اختلاف الحكم وبقاؤه على ما كان عليه، وكونه لم يبق إلا اثنا عشر رجلًا كما لو لم يبق إلا خمسة عشر رجلًا أو تسعة رجال فالحكم واحد. وهاهنا مسألة وهي أن يقول قائل: الصحابة لا شك أنهم خير القرون بنص الرسول- عليه الصلاة والسلام-: "خير الناس قرني، ثم الذي يلونهم"، فكيف يقع من خير القرون أن يخرجوا من عند النبي- عليه الصلاة والسلام- وهو قائم يخطب الناس يعظهم ويذكرهم، وتأمل قوله: {وتركوك قائمًا} الكلمة هذه تحمل لومًا عظيمًا، كيف يحدث هذا؟ زعم بعض أهل العلم أن الخطبة كانت قبل نزول هذه الآية، وأنهم لما أنهوا الصلاة قالوا الخطبة استماعها ليس بواجب، وأنه لما حصل ما حصل قُدمت الخطبة على الصلاة، فما رأيكم في هذا الجواب؟ هذا الجواب في الحقيقة من حيث تنزيه الصحابة وتعظيم الصحابة جيد، لكن من حيث الواقع ليس بجيد كيف ذلك؟ لأن الله في الآية يقول: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} [الجمعة: 10]، إذن لا يوجد خطبة والأصل أن ما كان هو الذي كان، الأصل أن ما هو موجود الآن هو الذي كان موجودًا من قبل حتى يقوم دليل على أن الحكم مختلف فكما أننا نقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فإننا نقول أيضًا: الأصل أن ما كان هو ما كان، فينسحب الحكم من الآخر إلى الأول، كما ينسحب من الأول إلى الآخر، فالأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد دليل

حكم إدراك ركعة من الجمعة

على أن الأمر تغير، وهذا هو الذي لا يشك فيه الإنسان عند التأمل أن الخطبة كانت قبل الصلاة حتى ذلك الوقت. فيستفاد من هذا الحديث: وجوب حضور الخطبة لقوله: {انفضوا إليها وتركوك قائمًا} [الجمعة: 11]. وهو كذلك حضور الخطبة واجب واستماعها واجب؛ لأن الحضور إنما هو للاستماع. حكم إدراك ركعة من الجمعة: 426 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته". رواه النسائي، وابن ماجه، والدارقطنيُّ، واللفظ له، وإسناده صحيح، لكن قوَّى أبو حاتم إرساله. يقول- عليه الصلاة والسلام-: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها فليضف إليها أخرى"، اما من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وأضاف إليها أخرى فقد تمت صلاته؛ لأنه صلى ركعتين والجمعة ركعتان، وأما قوله: "وغيرها" فهذه اللفظة الظاهر أنها غير محفوظة وأنها شاذة، فإن كانت محفوظة فيجب أن يحمل الغير على الصلاة الثنائية، لأن هذا لا يستقيم في الصلاة الثلاثية والرباعية، قلنا فيها طريقان الأول أن نقول: إنها غير محفوظة، والثاني أن نقول: على تقدير أنها محفوظة وأن الراوي منضبط، فإنها تحمل على الصلاة الثنائية، وهذا أمر لا يشك فيه أحد. وقوله: "فليضف إليها أخرى" يستفاد منه: أن ما يقضيه هو آخر الصلاة؛ لأن المضاف إلى الشيء تكميل له فيكون ما يقضيه هو آخر الصلاة وهو الصحيح كما سبق بحثه. ويُستفاد من الحديث: أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها تامة؛ لقوله: "وقد تمت صلاته". ويُستفاد منه: رحمة الله بخلقه على أن من أدرك بعض الصلاة فقد أدرك الكل وهذا في الأجر والثواب، ولكن لا يستوي من أدرك الكل ومن أدرك البعض. ويستفاد منه أيضًا: وجوب إتمام الصلاة، وأنه لا يجوز الخروج منها، يؤخذ من قوله: "فليضف إليها أخرى"، واللام لام الأمر، والأصل في الأمر الوجوب. ويستفاد منه: أنه لا يشترط لصحة الجمعة حضور الخطبة، من أين تؤخذ؟ من قوله: "من أدرك ركعة"، والذي أدرك ركعة لم يحضر الخطبة.

حكم الخطبة قائما

ولكن قد يقول قائل: يمكن أن يحضر الخطبة ويطرأ عليه طارئ كاحتياج إلى البول ويذهب ويبول ثم يرجع وتفوته ركعة. فنقول: هذه الحالة نادرة، ولا يمكن أن يحمل الحديث على النادر ويترك الشيء الكثير، ولا شك أن الشيء الكثير أن من لم يدرك ركعة فهو لم يحضر من أول الأمر. ويُستفاد من هذا الحديث بمفهومه- لأن منطوق الحديث: "أن من أدرك ركعة فقد تمت صلاته": أنّ من أدرك أقل من ركعة فإنه لا يجوز أن يضيف ركعة أخرى، ما هو الواجب؟ الواجب أن يُصلي أربعًا، وهذا يدل على رد قول من يقول: إن صلاة الجمعة فرض الوقت حتى لمن لا يجمع، ويرون أن النساء يصلين في بيوتهن ركعتين ويقولون: لا فرق، وهذا قول لا شك أنه ضعيف جدًّا، إن لم نقل إنه باطل، وهذا الحديث يدل عليه، يقول: "فإذا أدرك ركعة أضاف إليها أخرى" شرط إضافة الأخرى فقط لمن أدرك ركعة، وأن من لم يُدرك ركعة فلا يشترط أن يضيف أخرى. هل يُستفاد منه جواز اختلاف نية الإمام والمأموم، يعني: إذا أدرك أقل من ركعة ماذا ينوي؟ ظهرًا والإمام جمعة نقول: نعم، وهذه المسألة استثناها من يقول: إنه لا يصح اختلاف نية الإمام والمأموم وهو المشهور من مذهب الحنابلة، لكنهم استثنوا هذه المسألة، واستثنوا أيضًا من صلى خلف إمام في صلاة العيد، وهو من يرى أن صلاة العيد فرض والإمام يرى أنها نفل استثنوا هذه أيضًا، ولكن الصواب كما تقدم أن اختلاف النية لا يضر. حكم الخطبة قائمًا: 427 - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا، ثمَّ يجلس، ثم يقوم فيخطب قائمًا، فمن أنباك أنه كان يخطب جالسًا، فقد كذب". رواه مسلم. هذا يظهر- والله أعلم- أنه في عهد جابر بن سمرة كثر كلام الناس في الخطبة هل يخطب قائمًا أو يخطب جالسًا؛ لأن كلمة "فمن أنباك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب" هذه كلمة شديدة تدل على رد هذا الزعم. يقول: "إن الرسول- عليه الصلاة والسلام- كان يخطب قائمًا"، ونقول في إعرابها ما قلنا فيما سبق، "يجلس ثم يقوم فيخطب قائمًا" فأثبت وكرر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا، وكونه قائمًا هل هو شرط لصحة الخطبة، أو هو من مكملاتها؟ قال بعض أهل العلم: إنه شرط لصحة الخطبة، وأنه لو خطب قاعدًا فخطبته لاغية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك، ولم يترك يومًا

صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم

من الأيام في خطبة الجمعة، وما واظب عليه فهو دليل على أنه واجب؛ لأنه كالتفسير لقوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [الجمعة: 9]. ولكن جمهور أهل العلم على أن الخطبة قائمًا أفضل وليست بواجب، وأنه لو خطب جالسًا جاز وأجزأت الخطبة؛ لأن المقصود يحصل بذلك ولو كان قاعدًا وهذا مذهب جمهور أهل العلم. وقوله: "كان يخطب" سبق لنا أن "كان" تفيد الاستمرار غالبًا، وقوله: "قائمًا" هذه حال من الفاعل "يخطب" وليست خبر كان، خبر كان جملة: "يخطب". "يجلس ثم يقوم فيخطب قائمًا فمن أنبأك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب"، يجلس أي: الجلوس الأول عند الأذان والجلوس الثاني بين الخطبتين، "ثم يقوم فيخطب" وقوله: "فمن أنبأك" يعني: أخبرك، يقال: نبأ، وأنبأ وأخبر معناهما واحد، وقيل: إن الإنباء أعظم يكون في الأمور التي هي أهم يقال: نبأ، ولكن الصحيح أنه لا فرق بينهما، وقوله: "أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب" يعني: أخبر بخلاف الواقع. يستفاد من هذا الحديث: أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- كان يخطب قائمًا ويجلس قبل الخطبة وبين الخطبتين. ويستفاد منه: أن الأفضل أن يخطب الإنسان قائمًا في الجمعة، وقيل: إنه واجب لا يجوز أن يخطب جالسًا، ولكن لدينا قاعدة أن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب إلا بقرينة، وليس هناك قرينة تدل على الوجوب فيحمل على أنه الأفضل والأكمل. ويستفاد من هذا الحديث: أن بعض الناس كان يدعي في عصر الصحابة أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- كان يخطب جالسًا، من أين يؤخذ؟ من قوله: "فمن أنباك"، فإن هذا يدل على أن هناك من يقول: إنه كان يخطب جالسًا. ومنها: تغليظ القول لمن قال بخلاف الحق، من أين تؤخذ؟ من قوله: "فقد كذب"، فهذه كلمة خشنة وعظيمة لكن يستحقها من كذب، ثم إن الكاذب قد يلام على كذبه وقد لا يلام، إن كان قال قولًا يظن أنه الصواب وليس هو الصواب فهو كاذب، لكنه غير آثم، وإن قاله متعمدًا فهو كاذب آثم، ويقال للأول: مخطئ، وللثاني خاطئ، أي: واقع في الخطأ عن عمد. صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومسَّاكم، ويقول: أما بعد، فإن خير

الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ". رواه مسلم. وفي رواية له: "كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته". وفي رواية له: "من يهدي الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له". وللنسائيَّ: "وكلَّ ضلالة في النَّار". "كان إذا خطب"، نقول في "كان" ما قلنا فيما سبق أنها تدل على الاستمرار غالبًا، وقوله: "وإذا خطب" الحديث مطلق يشمل خطبة الجمعة وغيرها، فهو غير مقيد فيبقى على إطلاقه، لكنه في خطبة الجمعة الراتبة الدائمة التي تكون كل أسبوع لا شك أنها داخلة في الحديث. "احمرت عيناه" أي: احمرت من شدة الانفعال والغضب، "وعلا صوته" لأنه كلما اشتد الإنسان ارتفع صوته واشتد غضبه، والغضب هو جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور دمه وتنفتح أوداجه وتحمر عيناه، ويقف شعره هذا هو الغضب، وغضب النبي- عليه الصلاة والسلام- هنا ليس غضبًا للانتقام، ولكنه غضب للحث والإغراء على فهم ما يقول، وعلى الاتعاظ به، وإلا فليس هناك شيء أمامه يستدعي الغضب. وقوله: "حتى كأنه منذر جيش" منذر أي: يخوف بجيش؛ لأن الإنذار هو الإعلام المقرون بالتخويف، كأنه منذر جيش" والجيش هم: القوم الغزاة يكون عددهم أربعمائة فأكثر. "يقول: صبحكم ومساكم" يعني: هل يقول في الخطبة: صبحكم ومساكم، أو هذا وصف لمنذر الجيش؟ هذا وصف لمنذر الجيش الذي يأتي فزعًا ينذر الناس، يقول: "جاءكم جيش صبحكم ومساكم" ليكونوا على استعداد له. ويقول: "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله" "أما بعد" هذه الكلمة يقولون في إعرابها: "أما" نائبة عن اسم شرط، وفعل شرط، واسم آخر يتلوها، "أما" نائبة عن: مهما يكن من شيء، يقول ابن مالك: أمَّا كمها يك من شيء وفا ... لتلو تلوها وجوبًا ألفا إذن هي نائبة عن اسم شرط، وما هو اسم الشرط؟ "مهما"، وفعل الشرط "يكن" والاسم المبين المبهم في الشرط: "من شيء"، مهما يكن من شيء "بعد" هذه ظرف مبني على الضم، لماذا؟ لأنه حذف المضاف إليه ونوى معناه يعني مهما يكن من شيء بعدما ذكرت، "فإن خير

الحديث كتاب الله" وقوله: "فإن خير الحديث" هذه جواب الشرط، "خير" هنا اسم تفضيل حذفت منه الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال؛ يعني: أخير الحديث كتاب الله، وهو القرآن، فهو خير الأحاديث في الأخبار وفي الأحكام، لأنه مشتمل على غاية الصدق في الأخبار وعلى غاية العدل في الأحكام، كما أنه خير الحديث أيضًا فصاحة وبلاغة وأسلوبًا، فلا يوجد له نظير، كما أنه خير الحديث في إصلاح القلوب، يقول ابن عبد القوي رحمه الله [الطويل]: وحافظ على درس القران فإنَّه ... يليِّن قلبًا قاسيًا مثل جُلمد فلا حديث أشد إصلاحًا للقلوب من كلام الله عز وجل، وهو أيضًا خير الحديث في إصلاح المعاش معاش الخلق، لذلك لما كانت الأمة قائمة به كانت أسعد الأمم، وهو خير الحديث أيضًا في إصلاح المعاد، يقول تعالى: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} [طه 123]. لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، {ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 124]. هو أيضًا خير الحديث في قوة تأثيره، ولهذا قال الله عز وجل: {وجهادهم به جهادًا كبيرًا} [الفرقان]. وماذا أثر في البلغاء والفصحاء من قريش؟ اعترفوا فيما بينهم سرًّا بأنه ليس من كلام البشر، حتى إن بعضهم ما ملك نفسه أن يسلم حين سمع القرآن، فهو خير الكلام من كل ناحية: في لفظه ومعناه وتأثيره وعاقبته، وإصلاحه للخلق في الأعمال والقلوب والأحوال، فخير الحديث تاب الله المكتوب، وسبّق لنا أنه- أي: القرآن- مكتوب في اللوح المحفوظ، مكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة، {فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة} [عبس: 12 - 15]. مكتوب في المصاحف التي بأيدينا كما هو ظاهر. "وخير الهدي هدي محمد" ما هو الهدي؟ الهدي: الطريق والسُّنة والعمل، فيشمل الأخلاق والعبادة والمعاملة، فخير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- حتى من هدي الأنبياء السابقين؟ نعم، حتى من هدي الأنبياء السابقين، فإن خير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- ولهذا قال الله تعالى: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه} [القصص: 49]. أي: تحدى ما يوجد أهدى من القرآن والتوراة التي قالوا: إنها صحف، وهنا: "خير الهدي هدي محمد" يشمل هدي من دون الأنباء. ما رأيكم في هدي الصوفية والتيجانية والقاديانية، وما أشبهها؟ أهدي من هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- أم لا؟ لا، إذن خير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- ولهذا أعقبه بقوله: "وشر الأمور محدثاتها" "شر الأمور" الأمور المتعلقة بالدين والعبادة شرها محدثاتها، أما ما يتعلق بالدينا فإن من المحدثات ما هو خير،

وخير مما قبله أيضًا لكن المقصود هنا: ما يتعلق بأمور الدين، الحديث يتكلم عن ماذا؟ عن خير الهدي، فشر الأمور مما يعتبر هديًّا ودينًا وعبادة، "محدثاتها" اسم مفعول يعني: التي أحدثت في دين الله هي شر الأمور. لو قال لي قائل: أنا أريد الخير، أنا إذا فعلت هذا أجد في قلبي رقة ولينًا وخشوعًا، لماذا تمنعوني؟ ماذا نقول؟ نقول: هذا ليس بخير؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- يقول: "شر الأمور"، و"شر" اسم تفضيل يعني: أشر الأمور ما أحدث في دين الله حتى لو تراءى لفاعله أنه خير فهذا من تزيين الشيطان له، وإلا فليس بخير مهما كان، لو قالوا: والله نحن اجتمعنا وخشعنا وبكينا وذكرنا الله عز وجل، وذكرنا الرسول صلى الله عليه وسلم وما أشبه ذلك، نقول: هذا شر لا شك نحن نؤمن بهذا هذا القبس الذي تجدونه ينقدح عند هذا الذكر هو ينطفئ ويعقبه ظلمة وحرارة؛ لأنه يُفسد القلب، البدع مهما كانت فإنها تُفسد القلوب؛ لأنها- بإذن الله- يحدث بها رد فعل بالنسبة لسسن، ولهذا قال بعض السلف: "ما أحدث قوم بدعة إلا وتركوا من السنة ما هو خير منها"، وهذا صحيح، فالقلب إذا اشتغل بالباطل ما بقي للحق فيه محل، كما أنه إذا انشغل بالحق ما بقي فيه للباطل محل. "شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" بدعة في ماذا؟ في الدين، والبدعة ما تعبد به الله عز وجل عقيدة أو قولًا أو عملًا أو فعلًا، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا كان على عهده فليس ببدعة، وقوله: "ضلالة" الضلالة ضد الهدي فهي ميل وخروج عن الصراط المستقيم وضلال. قوله: "وفي رواية له كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة"، إذن فيكون العموم الذي ذكرناه في أول الكلام يكون مقيدًا بيوم الجمعة. "يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على إثر ذلك وقد علا صوته" يقول يعني: "أما بعد ... " إلخ. إذن نستفيد من هذا: زيادة قول: "يحمد الله ويثني عليه". الحمد هو وصف المحمود بالكمال والثناء وتكرار ذلك الوصف، فيعبر كثير من المصنفين في الحمد بأن الحمد هو الثناء بالجميل؛ يعني: أثني عليه بسبب جميله وإحسانه، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الحمد ليس بثناء، الثناء شيء والحمد شيء آخر، الدليل حديث أبي هريرة في الصحيح: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم}، قال: أثنى عليَّ عبدي"، فدل ذلك على أن الحمد ليس هو الثناء، وأن الثناء تكرار الحمد والأوصاف الجميلة، "يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على إثر ذلك وقد علا صوته"، يقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله" كما سبق.

وفي رواية له: "من يهد الله فلا مضل له" (من) شرطية جُزم الفعل بها بالكسر نيابة عن السكون؛ لأنه معتل الآخر، هل هذا صحيح؟ لا، فماذا نقول؟ فنقول: "من" اسم شرط جازم، "يهد" فعل مضارع مجزوم بحذف حرف العلة، وهو الياء، لماذا لا نقول: إنها مجزومة بالتقاء الساكنين؟ نقول: لأن الشرط عارض فقُدّم، والتقاء الساكنين ليس بعارض، "من يهد الله فلا مضل له" "لا" نافية للجنس، و"مضل" اسمها، و"له" جار ومجرور متعلق بخبرها؛ يعني: فلا أحد يضله، وقوله: "من يهد الله" يشمل من يهده الله بعلمه وقدره، ومن يهده الله فعلًا، فمن قدر الله له الهداية فلا يستطيع أحد أن يضله، ومن هداه الله بالفعل ما يستطيع أحد أن يخرجه من الهداية، يعني: أن من هداه الله لا يستطيع أحد أن يصرفه عن الهداية، ولا أن ينزعه من الهداية، فتجد مثلًا بعض الناس ليس على هدى فتأتيه رجلان أحدهما يدعوه إلى البقاء على ما كان عليه من الضلال، والثاني يدعوه إلى الهدى فيهتدي مع قوة دعاية الأول، لكن نقول: لن يمنعه الأول من الهدى، لماذا؟ لأن الله تعالى قد قدَّر له الهداية، كذلك الرجل الذي اهتدى بالفعل ويوجد أناس يحالون أن يضلوه، ولكن الله تعالى قد أبقاه على الهدى فلا يستطيعون أن يضلوه، فمن يهدِ الله تعالى قدرًا- يعني: أنه قدر له الهداية- لا أحد يمنعه منها، ومن هداه بالفعل لا أحد ينزعه منها. "ومن يضلل فلا هادي له" عكس الأولى، من قدِّر ضلالة لا يمكن أن يهتدي، أبو طالب ماذا فعل الرسول- عليه الصلاة والسلام- بالنسبة إليه؟ حاول بكل ما يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يهتدي هذا الرجل، ولكنه لم يهتد؛ لأن الله تعالى قد قدَّر له الضلال، وكذلك الإنسان الذي كان على هداية ثم بدأ ينحرف فكان أصحابه وأصدقاؤه وأهله ينصحونه يقولون: لا تنحرف، ولكنه- والعياذ بالله- أبى إلا أن ينحرف، هذا أيضًا نقول: "من يضلل فلا هادي له". وللنسائي: "وكل ضلالة في النار" بعد قوله: "كل بدعة ضلالة": "كل ضلالة في النار"؛ ما قال: كل صاحب بدعة، كل بدعة في النار؛ لأنه خلاف الحق، وما كان خلاف الحق فإنه في النار، ولكن هل يلزم من كون البدعة في النار أن يكون صاحبها كذلك؟ لا إلا إذا كانت البدعة مكفرة، فإن صاحبها يكون في النار، أما إذا لم تكن مكفرة فإن صاحبها قد يستحق العقوبة في النار لكنه لا يستحق الخلود، هذا الحديث عظيم، ولهذا الرسول- عليه الصلاة والسلام- كان يخطب به يوم الجمعة. * نرجع إلى فوائده: من فوائده: أولًا: أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- كان يتأثر عند الخطبة بقوله وحاله؛ بقوله: يعلو صوته، وبحاله: يشتد غضبه وتحمر عيناه.

إذن يُستفاد من ذلك: أنه ينبغي للخطيب أن يفعل هذا اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولأنه أقوى تأثيرًا مما إذا جاءت الخطبة باردة، ولكن هل نقول: إن هذا مشروع في كل خطبة، أو نقول: إن هذا في الخطب التي للوعظ والزجر، وأمّا الخطب التي تكون لبيان الأحكام فإنها لا تحتاج إلى هذا؟ هذا الأخير هو الأظهر؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- فيما إذا لم يكن خطبته موضوعة على الزجر والتخويف كان يقولها بدون ذلك كما في حديث بريرة قام وخطب الناس، وكما في حديث المرأة التي سرقت ما كان يحدث له هذا لأنه لبيان الأحكام مع أن فيها شيء من الزجر، لكنها ليست كخطبة الجمعة. ويُستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي أن يقول في الخطبة: "أما بعد"، ولكن هل تُقال في كل جملة أو في كل سطر أو ماذا؟ في مستهل الخطبة يعني: عند الدخول في الموضوع، وأمّا قول بعضهم: بأنه يحتاجها للانتقال من أسلوب إلى آخر ففيه نظر، لو قلنا بهذا لكان يؤتي بها إذا انتقلنا من خبر إلى إنشاء أو إذا انتقلنا من كلام على شيء إلى كلام آخر وهو ليس كذلك، لكنه يؤتي بها عند الدخول في الموضوع، وقد قال بعض العلماء: إنّها فصل الخطاب الذي أوتيه داود: {وأتيناه الحكمة وفصل الخطاب} [ص: 20]. قال: يعني يفصل آخره من أوله، ولكن هذا فيه نظر، والصواب: أن فصل الخطاب هو الحكم بين الناس. ويُستفاد من الحديث: أن خير الحديث كتاب الله من كل ناحية: في اللفظ، والمعنى، والتأثير، والحال، في كل شيء خير الحديث كتاب الله. ويستفاد منه: الحث على قراءة القرآن والتمسك به، من أين يؤخذ؟ من قوله: "خير الحديث" وما كان خير الحديث فينبغي ملازمته. ويستفاد من هذا: أن القرآن كلام الله، يؤخذ من قوله: "خير الحديث"؛ حيث وصفه بالحديث، فالحديث هو القول، فإذن القرآن يسمى حديثًا ويسمى قولًا، ويسمى خبرًا، ويسمى قصصًا أيضًا: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3]. ويُستفاد من الحديث: أن خير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- من قوله: "خير الهدي هدي محمد". ويُستفاد منه: أن كل خير يوجد في طرق أخرى غير طريق الرسول- عليه الصلاة والسلام- فإن طريق الرسول خير منه لقوله: "خير الهدي"، فأي خير يوجد في هدي غير الرسول- عليه الصلاة والسلام- فإن في هدي الرسول ما هو خير منه؛ لأن قوله: خير الهدي هدي محمد" يشمل الجزئيات والكليات، ما من خير في أي هدي يكون إلا وفي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- ما هو خير منه، إذن النظم والقوانين والدساتير الوضعية ما

استحباب طول الصلاة وقصر الخطبة

يوجد فيها من خير ففي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام- ما هو خير منها، ونحن لا نقول: إنه لا يوجد خير في غيره، بل يوجد، ولكن خير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام-. ويستفاد من هذا الحديث: أن المحدثات والبدع شر لقوله: "وشر الأمور محدثاتها" فهي شر وعاقبتها شر ولا خير فيها، بل هي شر الأمور لم يقل الرسول: المحدثات شر، بل قال: "شر الأمور محدثاتها" كل محدث فإنه شر ليس فيه خير. ويُستفاد منه: أنه مع كونه محدثًا شرًّا وعاقبته ذميمة أنه ضلال أيضًا، لقوله: "وكل بدعة ضلالة"، فلا علم ولا رشد، لا علم في البدع ولا رشد، لأنها شر الأمور ولأنها ضلالة. ويُستفاد من هذا الحديث: أن جميع البدع ضلالة كل البدع، من أين يؤخذ؟ من عموم "كل"، و"كل" هذه أنصُّ ألفاظ العموم على العموم، لأنها واضحة كلية محكمة، لا يدخل فيها شيء ولا يخرج منها شيء: "كل بدعة ضلالة". ويُستفاد من هذا الحديث: أن تقسيم البدع إلى ثلاثة أقسام أو إلى خمسة أقسام تقسيم باطل؛ لأنه مخالف للنص، والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بما يقول وأبلغهم وأفصحهم. استحباب طول الصلاة وقصر الخطبة: 429 - وعن عمَّار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنَّة من فقهه". رواه مسلم. يقول: "إن طول صلاة الرجل" المراد بالصلاة هنا: صلاة الجمعة، بدليل قرنها بقوله: "وقصر الرجل" يعني: في صلاة الجمعة، "وقصر خطبته" يعني: في خطبة الجمعة، "مئنة" المئنة بمعنى: العلامة أو بمعنى الأثر؛ لأنه قال: "من فقهه" يعني: أثر من فقهه، ومن هو الفقيه؟ نقول: الفقه في اللغة: الفهم، وأما في الشرع فهو: الفهم في دين الله، وهذاالتعريف الذي عرفت به الآن يشمل الفقه الأكبر والفقه الأصغر؛ لأن الفقه نوعان: فقه أكبر، وفقه أصغر، الفقه الأكبر: ما يتعلق بذات الله، والأصغر: ما يتعلق بأفعال العباد، يعني: علم التوحيد يسميه العلماء الفقه الأكبر، وعلم أعمال العباد من طهارة وصلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وبيع ورهن، وما أشبه ذلك يسمونها الفقه الأصغر، فإذا قلنا: إن الفقه شرعًا هو الفهم في الدين، في اللغة الفهم مطلقًا، حتى الإنسان الذي يفهم كلام الناس فيما بينهم يقال: "فقه الحديث"، لكن في الشرع هو الفهم في دين الله، هذا الفقه.

قراءة سورة (ق) في الخطبة

إذن قوله: "مئنة من فقه" أي: من فهمه في دين الله، بل ومن فهمه لأحوال الناس أيضًا، فكلمة "فقه" هنا ينبغي أن نجعلها شاملة لفقه الشرع، ولفقه أحوال الناس، وذلك لأن الإنسان في فرائضه يناجي ربه، فكلما طالت هذه المناجاة فلا شك أنه أفضل، وأمّا في الخطبة فهو يعظ الناس ويرشدهم وكلما قصر كان أكمل وأنفع، ولهذا يُقال: "خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيُمل" وهذا هو الواقع، واعتبر ذلك في رجل قام يتكلم فهو من أشد الناس تأثيرًا إذا أطال الكلام ملّ الناس وسئموا ثم إن آخر الكلام ينسي أوله، لكن إذا كان قصيرًا وجامعًا وواضحًا بيّنا جعل الله تعالى فيه خيرًا كثيرًا فالمدار على النفع إذن الحكمة في أن هذا من الفقه حكمة دلالة؛ لأنه في صلاته يُناجي عز وجل والبقاء في مناجاة الله لا شك خير كثير، وأمّا في الخطبة فإنّما يُناجي الناس، ويريد أن يدلهم ويرشدهم، وهذا يقتصر فيه على ما كان أنفع، وكلما قل الكلام ودل فإنه أفضل وأنفع. وفي هذا الحديث من الفوائد: أن الناس يختلفون في الفقه. وفيه أيضًا: أنه ينبغي مراعاة أحوال الناس؛ لأن قصر الخطبة لا شك أنه مراعاة لأحوال الناس فإذا راعيتها كان في هذا خير كثير. وهل يستفاد منه: أن الخطب خاصة بالرجال، أو يقال: إن الجمعة فقط هي الخاصة بهم؟ الظاهر أن المراد: الجمعة، وإلا قد تقوم المرأة خطيبة للنساء في مصلحة من المصالح، ولا حرج في هذا، فإن قال قائل: كيف تجمع بين هذا الحديث والذي بعده، وهو حديث: قراءة سورة (ق) في الخطبة: 430 - وعن أمَّ هشام بنت حارثة رضي الله عنها قالت: "ما أخذت: {ق والقرآن المجيد}، إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلميقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس". رواه مسلم. هذا يدل على أن الرسول يطيل؛ لأن {ق والقرآن المجيد} تقول أيضًا: "إذا خطب الناس" فمعنى ذلك: أنه لا يقتصر على هذه السورة وحدها، بل يكون هناك خطبة مع هذه السورة، وهذا يعتبر طولًا، فالجواب على ذلك: أن نجعل مثل هذا هو الميزان لقصر الخطبة؛ لأن بعض الناس يُطيل الخطبة إلى ساعة، أو ساعة وربع، وما أشبه ذلك، وهذا أطول من سورة (ق) فيُقال: إن الأمر نسبي كما قلنا في مسألة الصلاة: إنه ينبغي للإنسان التخفيف مع الإتمام، وقلنا: كيف يمكن أن نقول بذلك والرسول صلى الله عليه وسلم ربما يقرأ بسور طوال؟ فقلنا: إن التخفيف ميزانه فعل الرسول- عليه الصلاة والسلام- وكذلك هنا، فما شابه هذه الخطبة فإنها تعتبر خفيفة، ولكن

مع ذلك قد يكون هناك أحوال توجب للخطيب أن يقصر الخطبة عن هذا، وربما تأتي أحوال نادرة تحتاج إلى توضيح أكثر بأن يكون الأمر ضروريًّا أن يبين في هذه الخطبة لا في خطب أخرى مقبلة فيزيد، فالمهم: أن الأفضل أن تكون خطبة الرجل كخطبة النبي صلى الله عليه وسلم. نرجع إلى قولها: "ما أخذت {ق والقرآن والمجيد} إلا عن لسان الرسول"، قولها: ق والقرآن المجيد" (ق) هذا حرف هجائي، وقد افتتح الله بها هذه السورة كما افتتح بحروف الهجاء عدة سور من القرآن، وسبق لنا في التفسير أن العلماء اختلفوا في هذه الحروف، هل لها معنى أو ليس لها معنى، وبيَّنا أن الصواب أنه ليس لها معنى لكن لها مغزى، وهذا قول مجاهد رحمه الله إمام المفسرين التابعين، وإنما التزمنا بذلك؛ لأن الله تعالى أنزل القرآن بلسان عربي مبين، ومثل هذه الحروف لا معنى لها في اللغة العربية، فإذن لمقتضى كون القرآن بلسان عربي مبين نجزم بأنه لا معنى لها، ولسنا بذلك مغامرين أو قائلين بلا علم لأنه قد يقول قائل: فما أدراكم فلعل لها معنى الله أعلم به فلماذا تجزمون؟ نقول: نجزم بمقتضى إخبار الله عز وجل عن هذا القرآن بأنه بلسان عربي مبين، وهذه في اللسان العربي المبين ليس لها معنى، لكن كما قال شيخ الإسلام وغيره: (لها مغزى). وقولها: "والقرآن المجيد" هذه الواو حرف قسم وجر، والقرآن مقسم به، قد وصفه الله تعالى هنا بالمجيد، والمجد هو: العظمة؛ ولهذا لما قال المصلي: {مالك يوم الدين}. ماذا قال الله تعالى في جوابه؟ قال: "مجدتني عبدي"، وتقول العرب: "في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار". استمجد يعني: صار أقوى وأعظم؛ ولهذا يستعملون هذين النوعين من الشجر في القدح فيما سبق، أمّا الآن فالحمد لله قد تغير الحال وتيسر الأمر، والشاهد هنا أن الله وصف القرآن بأنه "مجيد" أي: ذو عظمة، وكل وصف للقرآن من المجد والعظمة والكرم كله يكون أيضًا لمن أخذ بالقرآن، فمن أراد العظمة فعليه بالقرآن، ومن أراد الكرم في قوله وماله وجاهه فعليه بالقرآن، فالقرآن الكريم مدرٌّ لكل خير لمن تمسك به، وهو أيضًا مجيد ذو عظمة يرفع من تمسك به، إذن هذا الكلام على الآية، وإن كان هذا موضع تفسير، لكن لا بأس أن تفسر بعض الشيء، تقول: "ما أخذتها إلا على لسان رسول الله يخطب بها". يُستفاد من هذا الحديث: أولًا: أن النساء يحضرون الجمعة، ولنقف هل دل الحديث على هذا أو لا؟ ما يتعين، لماذا؟ لأنها قد تسمع بدون أن تحضر، إذن ما دام فيه احتمال فإنه يسقط له الاستدلال، فلا يمكن أن نستدل بهذا الحديث على أن النساء يحضرن الجمعة، لأنّها قد تسمعها من الخارج كما يوجد عندنا الآن، لكن في زمن مضى كان يخصص للنساء حجرة عند المنبر يسمعن الخطبة.

ويستفاد من هذا الحديث: مشروعية الخطبة بهذه السورة، يؤخذ من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن هذه السورة سورة عظيمة فيها مبدأ الخلق، ومنتهى الخلق، ومبدأ الحياة، ومنتهى الحياة، وفيها أيضًا أخبار وقصص، وفيها تحدث عن اليوم الآخر، ولو لم يكن فيها من المواعظ إلا وقوله تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22]. هذا متى يقال؟ يوم القيامة إذا انكشف الغطاء وتبين كل شيء فحينئذٍ يخاطب خطاب تقرير وتوبيخ. "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاء" الآن "فبصرك اليوم حديد" قوي بعدما كنت قد غطى عليك، {على بصره غشاوة} [الجاثية: 23]. وهذا كقوله تعالى في سورة المؤمنون: {بل قلوبهم في غمرة} [المؤمنون: 63]. يعني: من الآخرة قلوبهم في غمرة مغمورة ما يضيئها شيء، لكن لهم أعمال من دون ذلك، انظر أتت "من" و"دون" لدنو مرتبة هذه الأعمال عن الأعمال الآخرة، وهذه الأعمال التي دون أعمال الآخرة {هم لها عاملون} هذه الجملة فيها حصر، وفيها جملة اسمية للدلالة على الثبوت والاستمرار وتكثيف الجهود لهذه الأعمال، ولكن أعمال الآخرة قلوبهم في غمرة منها- نسأل الله السلامة-، وأعمال الدنيا هم لها عاملون كأنما خُلقوا لها، وفي يوم القيامة {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22]. المهم: أن هذه السورة في الحقيقة إذا تأملها الإنسان وجد فيها من المواعظ شيئًا عظيمًا؛ ولهذا كان النبي- عليه الصلاة والسلام- في أيام الأعياد يقرأ بها في العيد وهي وسورة القمر: {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1]. وفي سورة القمر أيضًا مواعظ عظيمة. ومن فوائد الحديث: قولها: "كل جمعة يقرؤها على المنبر إذا خطب الناس" هذا عندي فيه إشكال، ما هو الإشكال، ذلك أنها تقول: "كل جمعة" كأنها تتبع خطب النبي- عليه الصلاة والسلام- لا على أنه يقرأ هذه السورة كل جمعة، فهذه تحتاج إلى مراجعة هل إن هذا على عمومها أو أن المراد: في الغالب. حكم الكلام في أثناء الجمعة: 431 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعة". رواه أحمدُ بإسناد لا بأس به. قوله- عليه الصلاة والسلام-: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب" جملة: "والإمام يخطب" جملة حالية من فاعل "تكلم"، يعني: والحال أن الإمام يخطب، وقوله: "والإمام يخطب" جواب

من تكلم، "فهو كمثل الحمار"، واقترنت الفاء بالجواب، لأن الجملة اسمية، وقوله: "كمثل الحمار" يُحتمل أن تكون بمعنى صفة، ويُحتمل أن تكون بمعنى: شبهًا كشبه الحمار، أو كصفة الحمار، فـ"مثل" تأتي بمعنى صفة كقوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير أسن} [محمد: 15].وتأتي بمعنى شبه، كقوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} [البقرة]. أي: شبههم كشبه هذا فقوله هنا: "كمثل الحمار" يحتمل أن يكون كشبهه ويحتمل أن يكون كصفته، والمعنى واحد، لكنه يختلف المعنى في الآيتين اللتين ذكرناهما. وقوله: "كمثل الحمار يحمل أسفارًا" كلمة "يحمل" الجملة هنا هل صفة أو حال؟ قد يقول قائل: إنها حال، لأن الذي قبلها معرفة، ولكنهم قالوا: إنها في مثل هذا صفة؛ لأن "أل" هنا للجنس فهو بمعنى النكرة، أي: كمثل حمار يحمل أسفارًا، ومثل ذلك قول الشاعر: [الكامل] ولقد أمرُّ على اللّئيم يسبني ... فمضيت نمَّت قلت لا يعنيني فجملة "يسبني" صفة؛ لأن المعنى: ولقد أمر على لئيم، وليس المعنى: أمرُّ على اللئيم المعروف، فلما كانت "أل" هنا للجنس صار مدخولها بمنزلة النكرة. وقوله: "كمثل الحمار يحمل أسفارًا" الأسفار جمع سفر، أو سفر وهو الكتاب، والحمار الذي يحمل أسفارًا لا يستفيد منها، هو حامل ما يفيد لكنه لا يستفيد، واختار النبي- عليه الصلاة والسلام- الحمار كما اختاره ربه- سبحانه وتعالى- في صفة الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار؛ لأن الحمار من أبلد الحيوانات، ولهذا يُضرب به المثل في البلادة. وقوله: "كمثل الحمار يحمل أسفارًا" أين وجه المشابهة؟ قد تقدم لنا في علم البيان: أن التشبيه لا بد له من مشبّه، ومشبه به، وأداة تشبيه، ووجه الشبه، وقد تحقق في هذه الجملة "كمثل الحمار يحمل أسفارًا" كل أطراف التشبيه إلا وجه الشبه؛ لأنه قد ذكر المشبه والمشبه به والأداة، "كمثل الحمار" ولكن وجه الشبه محذوف والتقدير: في عدم الانتفاع بالخطبة التي الآن تقرأ فوقه- يعني: فوق رأسه وهو حاضر لكنه لا ينتفع بها- كما لا ينتفع الحمار بالأسفار. قال: "والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعة" "الذي" هذه مبتدأ والواو للاستئناف، و"الذي" اسم موصول، وجملة "يقول" صلة الموصول، و"ليست له جمعة" خبر الذي، "الذي يقول له أنصت" ليست بمعنى: اسكت، "أنصت" يعني: أصغ إلى كلام الخطيب؛ لأن عندنا سكوتًا واستماعًا

وإنصاتًا أعلاها الإنصات {وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}. ففرق الله بين الاستماع والإنصات، ومعلوم أيضًا أن هناك فرقًا بين الاستماع والسكوت، قد يسكت الإنسان ولا يستمع للكلام، لكن الذي يقول "أنصت" يعني: أصغ إلى الإمام، وتلقَّ ما يقول ليست له جمعة. قوله: "ليست له جمعة" تقدم لنا في النفي أن النفي يحمل أولًا على نفي الوجود، فإن لم يمكن فعلى نفي الصحة، فإن لم يمكن فعلى نفي الكمال، هنا الآن نسلط هذه القاعدة على هذا النفي، "ليست له جمعة" أي: لا يوجد له جمعة هل يصح؟ لا، لماذا؟ لأنه قد حضر وسيصلي، لا يصح له الجمعة؟ الجواب: فيه احتمال لكنه تصح خطبته، وأظن المسألة إجماعية في أنها تصح، إذن لا بد أن تحمل على شيء آخر وهو: لا تكمل له جمعة فلا ينال ثوابها؛ لأن الخلل هنا ليس في نفس الصلاة حتى نقول: إنه نفي للصحة هذا شيء خارج الصلاة لكنه نفي للكمال، لأن صلاة الجمعة- كما تعلمون- تشمل خطبة قبلها، وتشمل أيضًا نفس الصلاة التي تكون الخطبة من مقدماتها {يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9]. فليس النهي عائدًا إلى ذات العبادة، وعليه فنقول: إن النفي هنا نفي للكمال. قال المؤلف: "رواه أحمد بإسناد لا بأس به"، كلمة "لا بأس به" يعني: قليلة ما تمر علينا، لأننا عرفنا الصحيح، والحسن، والضعيف، لكن هذا ما قال: لا حسن، ولا ضعيف، ولا صحيح، قال: بإسناد لا بأس به، فهل مثل هذا التعبير أقرب إلى التصحيح، أو أنه أقرب إلى التضعيف؟ هو للتضعيف أقرب، لكنه يقول: لا بأس به، لأنه معضود بالحديث الذي يعده، يقول: - وهو يُفسِّر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين مرفوعًا: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب، فقد لغوت". إذن معنى "لغوت": بطلت جمعتك، أي: بطل ثوابها؛ لأن الشيء الملغي هو الذي لا يُعتد به ولا يعتبر، ولكن المراد باللغو هنا: أنه لا ثواب له، لا يثاب ثواب الجمعة، وثواب الجمعة أفضل من غيرها بكثير، لكن يحرم هذا الثواب بسبب هذا العمل؛ لأنه قال: أنصت. يُستفاد من هذا الحديث: التحذير من الكلام والإمام يخطب يوم الجمعة، من أين يؤخذ؟ من تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم المتكلم بالحمار الذي يحمل أسفارًا، ولا ريب أن هذا التشبيه يقصد به التقبيح والتنفير، وبالمناسبة قال بعض العلماء: إن الرجل إذا عاد في هبته فعوده في الهبة جائز؛ لأن النبي- عليه الصلاة والسلام- "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه"، قالوا: والكلب

لا تكليف عليه، فإذا كان لا تكليف عليه فمعنى ذلك أنه يجوز أن يعود في الهبة! ذكرته من أجل أن تعرفوا كيف يتصور بعض العلماء هذا التصور مع أن كل أحد- حتى العامي في السوق- يعرف أن الغرض من هذا: التنفير والتقبيح، وليس في بعض الألفاظ "ليس لنا مثل السوء". العائد في هبته كالكلب. هل تقول قوله تعالى: {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} [الأعراف: 176]. إن هذا على سبيل الإباحة؟ لا أحد يقول بهذا، هذا أيضًا لو ادعى مدعٍ في هذا الحديث مثل ما ادعى في حديث الهبة، وقال: الحمار ليس عليه تكليف لو حمل الحمار أسفارًا وهو لا يفهمها ليس عليه شيء، يأثم الحمار أم لا يأثم؟ لا يأثم هل أحد يمكن أن يقول في هذا الحديث هذا؟ لا أظن أحدًا يقوله، فإذا كان هذا لا يمكن فكذلك قوله تعالى: {فمثله كمثل الكلب} لا يمكن، فكذلك في حديث الهبة ولا فرق. يُستفاد من هذا الحديث: جواز تشبيه الإنسان بالحيوان على سبيل التنفير والتحذير؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- شبهه به، ولكن هل نقول ذلك في كل مناسبة مثل لو فرضنا أننا نعلم تلاميذ ولكن ما فهموا، هل يصح أن نقول لهم ذلك؟ لا، بعض المدرسين أبلغني أنه يقول لبعض التلاميذ هكذا: أنتم كمثل الحمير تحمل أسفارًا هذا لا يجوز، لأنها إنما قليت فيمن لا ينتفع بها- بطاعة الله عزّ وجل- لا في صبي يتعلم، ولكن ما فهم من أول مرة فهي تقال في محلها. ويستفاد من هذا الحديث: حسن تشبيه الرسول- عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الربط بين هذا والحمار في وجه الشبه ظاهر المناسبة. ويُستفاد من الحديث أيضًا: تحريم إسكات هذا الرجل بالقول، من أين يؤخذ؟ من كونه حرم الأجر؛ لأن الدلالة على التحريم تارة تكون بإثبات الوزر على الفاعل، وتارة تكون بحرمانه الأجر، وهل هناك مثال لتحريم الشيء من أجل حرمان الأجر؟ ذكرناه سابقًا وهو اقتناء الكلب كالماشية ينقص به كل يوم من أجره قيراط أو قيراطان، هذا يدل على تحريم اقتناء الكلب؛ لأن فوات الأجر كحصول الإثم، فإذا كان هذا الفعل يهدم أجر الإنسان ويزيله فهو كالذي يوجب له العقوبة، فهنا لما قال: "ليست له جمعة" علمنا بأن قول الإيمان لصاحبه: "أنصت" حرام. لو أشار إليه إشارة هل يدخل في الوعيد؟ لا؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- يقول: "والذي يقول له: أنصت"، والقول إذا أطلق فالمراد به اللفظ باللسان، فالكلام بالإشارة لا يدخل في الوعيد.

يستفاد من هذا الحديث: أنه لا يجوز الكلام حال الخطبة ولو بتغيير المنكر، من أين يؤخذ؟ من قوله: "والذي يقول له: أنصت"؛ لأن المتكلم الأول فاعل محرمًا، والقول له: أنصت هذا نهي عن منكر ومع ذلك جعله النبي- عليه الصلاة والسلام- محرمًا. مسألة: هل يُستفاد من الحديث تحريم رد السلام إذا سلم عليك أحد؟ نعم، يستفاد منه؛ لأنه إذا كان لا يجوز تسكيت هذا الرجل المتكلم فمن باب أولى ألا تجيب المُسلِّم؛ لأن الأصل أنه لا يجوز أن يُسلِّم في هذه الحال، ولكن هل تمد يدك إليه مصافحة لا سلامًا؟ نعم، إن لم تنشرح له، ولكن في هذه الحال أيضًا ينبغي أن تنتبه إذا انتهى الإمام من الخطبة بأن هذا حرام لا يجوز أن تسلم في تلك الحال، ومثل ذلك أيضًا تشميت العاطس، فلو أن أحد عطس وحمد الله ما تشمته. ومن ذلك أيضًا إذا ذكر النبي- عليه الصلاة والسلام- في أثناء الخطبة هل تصلي عليه أو لا؟ نعن، الفقهاء يقولون: تُصلي إذا ذكر؛ لأن هذا الشيء يتعلق بالخطبة، ولا يتعلق بأمر خارج فهو قد يكون من أسباب اتجاه الإنسان إلى الخطبة أن يتابع الإنسان الخطيب، وإذا دعا أمّن، وإذا مر بذكر الرسول- عليه الصلاة والسلام- صلّى عليه، لكن بشرط ألا يكون مشغلًا لغيره وألا ينصرف به أيضًا هو عن الاستماع فإن كان مشغلًا لغيره أو مشتغلًا به عن الاستماع فإنه لا يجوز. ويُستفاد من الحديث: جواز الكلام بين الخطبتين؛ لأنه قيد ذلك بقوله: "والإمام يخطب"، فدل هذا على جواز الكلام بين الخطبتين. ويُستفاد منه: أنه لا يجوز الكلام ما دام الإمام يخطب، ولو كان قد انتهى من أركان الخطبة من أين تؤخذ؟ من قوله": "والإمام يخطب"، فأما قول بعض أهل العلم إن الإمام إذا شرع في الدعاء أو انتهى من أركان الخطبة جاز لك أن تتكلم فهذا ليس بصحيح، حجتهم في ذلك أنهم يقولون: إن الواجب من الخطبة الأركان وما زاد فليس بواجب، وما ليس بواجب فالاستماع إليه ليس بواجب، ولكن هذا قياس في مقابلة النص؛ لأن النص- كما ترون- شامل للخطبة كلها، فلا يجوز للإنسان أن يتكلم حتى ولو شرع الإمام في الدعاء، حتى لو شرع في قراءة آية أخرى؛ لأن الركن تم بقراءة الآية الأولى مثلًا: فالصواب أنه لا يجوز ما دام الإمام يخطب، وأما إذا سكت فلا حرج. ويستفاد من هذا الحديث: أن خطبة غير الجمعة لا يحرم فيها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب"، فلو فرض أن خطيبًا قام يخطب الناس في غير الجمعة بعد إحدى الصلوات الخمس، أو في أي مناسبة فهل يجب الاستماع له؟ لا

حكم تحية المسجد والإمام يخطب

يجب الاستماع، لكن ينبغي تأدبًا وتحسبًا للفائدة أن ينصت، أما كونه تأدبًا فلأن بعض الناس إذا كان يتكلم ورأى أن أحدًا يتكلم تجده ينفعل في نفسه ويضيع منه ما كان يريد أن يتكلم به، وهذا أمرٌ كما أن لا ترضاه أنت لنفسك لو كنت أنت الخطيب فلا ينبغي أن ترضاه لغيرك، ثانيًا: تحسبًا للفائدة ربما يأتي هذا المتكلم بفائدة ما كانت تجول في ذهنك ولا كنت على علم بها فلا تحقرن شيئًا من العلم، ربما كما قال الرسول- عليه الصلاة والسلام-: "رُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه". وهذا أمر يقع كثيرًا. بقي لنا في خطبة الاستسقاء وفي خطبة العيدين، وفي خطبة الكسوف، هل حكمها حكم الجمعة؟ أما خطبة العدين فإن الفقهاء يقولون: إنها مثل خطبة الجمعة، لكنهم مع ذلك يقولون حضورها ليس بواجب، إلا أن من حضر فلينصت، ومر علينا أن ظاهر الأحاديث أنه لا يجب الإنصات إلا في خطبة الجمعة، وبيّنا الفر بينها وبين خطبة الجمعة، خطبة الجمعة أمر بالحضور إليها، وقُدمت على الصلاة لأهميتها، وخطبة العيد ما أمر بالحضور إليها، ولم تُقدم أيضًا بل كانت مؤخرة، حتى إن الناس إذا انتهوا من الصلاة وأرادوا الانصراف ينصرفون، والقول بأنه لا يجب حضورها مع القول بوجوب الاستماع فيه شيء من الإشكال، لأن ما لا يجب حضوره لا ينبغي أن يجب استماعه ما دام لي أن أقوم وأنصرف، نعم لو قيل بأنه إذا تكلم في أثناء خطبة العيد على وجه يشوش فهذا لا يجوز ولا سيما في وقتنا الآن لو تحدث رجلان فسينصرف الناس إليهم وينسون الخطيب، مثل هذا قد يقال: إنه ممنوع، لأنه يشوش، ويوجب أن ينصرف الناس إليه. حكم تحية المسجد والإمام يخطب: 432 - وعن جابر رضي الله عنه قال: "دخل رجلٌ يوم الجمعة والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: صلَّيت؟ قال: لا، قال: قم فصلِّ ركعتين". متفق عليه. هنا "رجل" نكرة مبهم، ولكن ورد تسميته في صحيح مسلم أن اسمه: "سليك الغطفاني" من غطفان، ولكن إبهام الراوي له أثر، لكن إبهام من وقعت عليه القصة الغالب أنه لا أثر له؛ لأن المقصود المعنى؛ يعني: معنى القضية وما حصل فيها، أما أن يكون الرجل المبهم فلانًا، أو فلانًا فهذا ليس بذات أهمية. وقوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب" هذه الجملة في محل نصب حال، وقوله: "يخطب" يعني: في الجمعة، كما جاء ذلك مفسرًا في أحاديث أخر، فقال: "صليت" هذه الجملة ظاهرها الخبر،

لكنها جملة إنشائية استفهامية؛ لأن المعنى: "أصليت؟ " وإذا حذف حرف الاستفهام فالذي يقدر الهمزة لأنها الأصل، فهنا لا ندري هل التقدير "هل صليت؟ " أو نقول: التقدير "أصليت؟ ". وقوله: "قال: لا" يعني: لم أصل، و "لا" هذه جواب أو من أحرف الجواب يجاب بها المثبت، لماذا؟ لنفيه تقول: هل قام زيد؟ فيكون الجواب: "لا" إذا أجيب ب"نعم" فهو يراد به إثبات المثبت، لكن لو تسأل عن منفي فتقول: ألم يقم زيد؟ فلا تقول: "لا" ولا تقل: "نعم"، بل إنما تقول: "بلى". قال: "قم فصل ركعتين"، "قم" فعل أمر من القيام، و "فصل ركعتين" أيضًا فعل أمر، وقوله: "ركعتين" لم يبين هل ركعتين ثقيلتان أو خفيفتان، لكنه ثبت في صحيح مسلم أنه أمره بأن يتجوز فيهما، يعني: يخففهما من أجل أن يتفرغ لاستماع الخطبة. فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: أنه لا يؤنب من دخل والإمام يخطب، الدليل لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أنبه، فإن قلت: ما الجواب عما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين دخل عثمان وهو يخطب فلامه على تأخره فقال: ما زدت على أن توضأت ثم أتيت، فقال: والوضوء أيضًا وقد قال النبي- عليه الصلاة والسلام-: "إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل" فما هو الجواب؟ أن يقال: لكل مقام مقال، ولكل رجل مرتبة، فتأخر عثمان رضي الله عنه ليس كتأخر هذا الرجل الذي قد يكون من المسافرين، قد يكون من الأعراب، أو من عامة الناس، لكن هذا عثمان رضي الله عنه هو الذي كان بعد عمر هو ثالث رجل في هذه الأمة. جواب آخر: أيضًا أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلام لا شك أنه أكثر حلمًا من عمر، وعمر معروف بالشدة، فلا يبعد أن يقال إن هذا من شدة عمر رضي الله عنه، ولكن الجواب الأول أسد وأولى. ويستفاد من هذا الحديث: جواز تكلم الخطيب مع غيره، من أين تؤخذ؟ من كلام الرسول صلى الله عليه وسلام مع هذا الرجل قال: "صليت؟ "، فلو قال قائل: هذا من خصائص الرسول- عليه الصلاة والسلام-؛ فالجواب: أن القول بأن هذا من الخصائص في هذه المسألة، وفي غيرها من المسائل لا يجوز إلا بدليل، وإلا فالأصل التأسي به، ويدلكم على هذا قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الاحزاب: 21]. وقوله: {فلما قضى زيد منها وطرًا زوجنكها} [الاحزاب: 37]. التعليل: {لكى لا يكون على المؤمنين حرج في أزوج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا} [الاحزاب: 37]. فالحكم خاص والتعليل هنا عام، فقوله: {لكى لا يكون على المؤمنين} عامة، فدل هذا على أن الحكم في حق الرسول- عليه الصلاة والسلام- حكم في حق الأمة ويدلكم

لذلك أيضًا أن الله عز وجل لما أراد أن يخص نبيه بالحكم قال: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} [الاحزاب: 50]. وبهذا نعرف أن أي شخص يدعي دعوى الخصوصية في أي شيء مما جاءت به السنة، فإن قوله مردود عليه إلا بدليل؛ لأن الآيتين في سورة الأحزاب واضحتان؛ لأن الحكم الوارد في حق الرسول- عليه الصلاة والسلام- حكم له وللأمة إلا بدليل على الخصوصية. فإذا قال قائل: من حيث المعنى والتعليل ما الفرق بين الخطيب وغيره؟ لأن الخطيب إذا تكلم قطع خطبته ولم يبق على خطبته بخلاف غيره فإن الخطيب سوف يستمر ويواصل وحينئذٍ يفوت المتكلم ما يفوته من الخطبة بحسب كلامه. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي أن ينكر على فاعل المنكر ما دام المقام يقتضي التفضيل؛ وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صليت؟ " ما أنكر عليه الجلوس، بل سأله هل صلى أم لا، فمن هذا الحديث نأخذ قاعدة مهمة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي ألا نتسرع ولا نتعجل في الأمور المحتملة حتى نستفصل؛ لأنك إذا أنكرت شيئًا وهو ليس بمنكر تنسب إلى التسرع ثم تخجل، ثم هذا الرجل الذي أنت تعينه يوبخك ويخجلك، فلو رأيت مع شخص امرأة تمشي معه هل تنكر عليه بأن تقول: يا رجل كيف تمشي مع امرأة، هذا حرام ... أتقول ذلك، أو تستفصل؟ تستفصل. ويُستفاد من هذا الحديث: أنه يجوز أن يخاطب المعظم بقول: "لا" وأن هذا ليس من سوء الأدب؛ لأن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم أمام الناس: "لا" لو أنك قلت: "لا" للمعظم عندنا الآن قالوا: هذا سوء أدب الذي ينبغي لك أن تقول: "سلامًا" هذا هو الواقع الآن، لو تقول مثلًا لأبيك: "لا"، أو لأمك: "لا"، فهذا عاق، ويجب أن يقول: "سلامًا"، ولكن هذا يرد عليه؛ لأن هذا الجواب من صحابي للرسول صلى الله عليه وسلم أمام الناس، ولو كان هناك أي شيء في عدم الأدب لكان هذا الصحابي يتحرز منه، أو لكان الرسول يبينه، أو لانتقده الصحابة. ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: أن من دخل والإمام يخطب فإنه لا يجلس حتى يُصلي ركعتين، من أين يؤخذ؟ من قوله: "قم فصلِّ ركعتين". ويُستفاد من هذا الحديث: وجوب القيام في صلاة النفل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "قُم"، والأصل في الأمر الوجوب، فإن قال قائل: هذا صحيح، لكن هناك ما يدل على أن هذا الأمر ليس للوجوب لا في هذه القضية بعينها، ولكن لأن هناك نصوصًا أخرى تدل على عدم

وجوب القيام في النفل مثل ثبوت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة على راحلته بدون ضرورة، ولو كان القيام ركنًا أو واجبًا لنزل كما ينزل للفريضة، كذلك أيضًا ما ثبت في الصحيح من قوله - عليه الصلاة والسلام -: "صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم". فهذا أيضًا يدل على عدم الوجوب، وأن المسألة على سبيل الاستحباب، وكذلك ما ثبت من كون الرسول - عليه الصلاة والسلام - في آخر حياته يصلي صلاة الليل قاعدًا مع أنه يستطيع أن يقوم لكنه كان يصلى قاعدًا؛ لأنه يشق عليه بعض الشيء، إذن نقول كلمة: "قم" لا يستفاد منها الوجوب، لا لذاتها ولكن بأدلة أخرى تدل على أن الأمر ليس للوجوب. ويستفاد من هذا الحديث: وجوب صلاة ركعتين لمن دخل المسجد، من أين تؤخذ؟ من قوله: "فصل ركعتين"، فهو أمر والأصل في الأمر الوجوب، ولاسيما أن هذا الوجوب قد عرف بكون استماع الخطبة واجبًا، ولا يتشاغل عن الواجب إلا بواجب، يدل هذا على أن تحية المسجد واجبة إذا كان الرجل لو تشاغل عن الواجب إلا بواجب، يدل هذا على أن تحية المسجد واجبة إذا كان الرجل لو تشاغل عن الخطبة لكلامه إذا أنكر كلامًا على غيره فإنه تلغى جمعنه، فهذا دليل على أنه يجب الاستماع وعدم التشاغل في الخطبة، فلما أمر بأن يصلي ركعتين دل ذلك على الوجوب، وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم، ولكن بعض أهل العلم يقولون: إن الأمر ليس للوجوب؛ لأن هناك ما يصرفه، فما هو الصارف؟ أكثر ما يتعلق به من يرى أن تحية المسجد ليست واجبة، وأن صلاة الكسوف ليست بواجبة أكثر ما يتعلقون به حديث الأعرابي: "هل علي غيرها؟ " قال: "لا، إلا أن تطوع". فنقول: الصلوات الخمس متعلقة بأسبابها؛ ولهذا لو نذر أن يصلي وجب عليه الوفاء بالنذر بالإجماع مع أنها ليست من الصلوات الخمس، وهي صلاة، ولكن إن وجد صارف يصرف عن الوجوب غير هذا فنعم، وإلا هذا فلا يسقط الأمر عن الوجوب في مثل هذا الحديث، وفي حديث صلاة الكسوف، ثم إننا نقول: كثير من الذين يقولون بعدم الوجوب في صلاة الكسوف، وفي مثل هذا يقولون بوجوب صلاة العيد إما عينًا، وإما كفاية، فمع ذلك فهي لم تذكر في الحديث، وكثير منهم يقولون بوجوب ركعتي الطواف خلف المقام، ومع ذلك ليست مذكورة في الحديث لكن لها سبب. وعلى هذا فنقول: هذا الحديث يدل على الوجوب فإن وجد صارف غير هذا الحديث الذي أشرنا إليه أخذنا به، وإلا فالأصل الوجوب، لاسيما وأنه معضود بكون هذا الرجل يؤمر بأن يصلي مع تشاغله عن الخطبة، قال بعض أهل العلم: إن الصارف له عن الوجوب هو قصة

الثلاثة الذين دخلوا المسجد فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه في حلقة، فدخل رجل الحلقة، وجلس واحد خلفها، وانصرف واحد، فقال النبي - عليه الصلاة والسلام - حدثهم عن هؤلاء النفر الثلاثة: "أما أحدها فآوى فآواه الله"، من هو؟ الذي جلس في الحلقة، "وأمَّا الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه"، قالوا: فهذان رجلان جاءا فجلسا ولم يأمرهما النبي - عليه الصلاة والسلام - بالصلاة. وقالوا أيضًا في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه حينما جاء بعد أن تاب الله عليه، والنبي - عليه الصلاة والسلام - جالس مع أصحابه حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بأن يصلي ركعتين، فدل هذا على عدم وجوبهما، وأظنكم إذا تأملتم هذين الدليلين وجدتم أنهما قد يعجزان عن مقاومة القول بالوجوب، كيف ذلك؟ أما قصة الثلاثة فهي قضية عين يجوز أن هؤلاء صلوا والرسول لم يقل لهم؛ لأنهم صلوا وقد يكونون على غير وضوء، ولكن فيه بعض الشيء، وقصة الرجل الذي جعل يتخطى الصفوف فقال له النبي - عليه الصلاة والسلام -: "اجلس فقد آيت". هل تصلح صارفًا؟ لا؛ لماذا؟ قد يكون صلى وجاء يتخطى الرقاب، إذن معنى ذلك أننا نصل إلى أن القول بوجوب تحية المسجد قول قوي جدًا، وأن الذي يدعها مخاطر ومعرض نفسه للإثم؛ لن جميع الأدلة التي قيل إنها صارفة عن الوجوب فيها شيء من النظر والمرء يحتاط لنفسه. وقوله: "فصل ركعتين" هل يؤخذ منه أنه لو صلى ركعة واحدة كما لو دخل الرجل فأوتر بواحدة ثم جلس هل يكون آثما؟ أما من كان ظاهريًا فسيقول: هو آثم، يعني إذا قلنا بالوجوب فسيقول: إنه لم يأت بتحية المسجد؛ لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - يقول: "ركعتين"، وهذه ركعة، وأما من قال: إن هذا بناء على الأغلب، وأن القيد الأغلبي لا يعتبر له مفهوم؛ فسيقول: إن من صلى صلاة شرعية فإنه يحصل بها المقصود، فإذا دخلت فأوترت حصل بذلك المقصود، وهذا عندي هو الأقرب، فيكون الحديث - حديث أبي قتادة -: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" مبني على الأغلب، وما كان مبنيًا على الأغلب فإنه عند أهل العلم لا مفهوم له، وقد دل على ذلك القرآن أن ما كان مبنيًا على الأغلب فلا مفهوم له، دل عليه في آيتين مرتا علينا، قال الله تعالى في جملة المحرمات في النكاح: {وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن} [النساء: 22]، فعندنا قيدان: قيد في الربائب، وقيد في النساء أمهات الربائب، الربائب بماذا قيدهن الله؟ بـ {التي في حجوركم}،

ما يقرأ في الجمعة والعيدين

وأما أمهاتهن فقال: {التي دخلتم بهن}، ننظر هل القيدان معتبران صرح الله تعالى بهم القيد الثاني دون الأول فقال: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} [النساء: 23]. ولم يقلك فإن لم يكن في حجوركم فلا جناح عليكم، فدل هذا على أنه غير معتبر؛ لأن هذا الغالب أن ربيبته التي جاءت بها امرأته قبله الغالب أن تكون في حجر تتبع أمها، أما الثاني: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنًا} [النور: 33]. فقال بعض العلماء: إن هذا القيد أغلبي؛ لأن الغالب أنها لا تمتنع من البغاء إلا وتريد تحصين نفسها، وأنها لو امتنعت من البغاء بغير هذه العلة فإنه لا يجوز إكراهها، معنى ذلك: لو أن الرجل أكره أمته على أن تزني بهذا الرجل، وقالت: لا، هذا الرجل قبيح أحضر رجلاً جميلاً هذه امتنعت تريد تحصنًا أو لا؟ لا، هل تكره أو لا؟ إن أخذنا بقيد {إن أردن تحصنًا} نكرهها، ولكننا نقول: هذا القيد أغلبي بناء على الأغلب أنها تريد التحصن على هذا فلا مفهوم له على أن بعضهم قال: إن قوله: {إن أردن تحصنًا} بين العلة، وفيها الإشارة إلى توبيخ هؤلاء الأسياد، كيف هذه الأمة وليست حرة تريد التحصن وأنت تريد أن تكرهها على البغاء. ما يقرأ في الجمعة والعيدين: 433 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين". رواه مسلم. تقدم لنا عدة مرات أن "كان" تفيد الاستمرار غالبًا لا دائمًا، وقد يراد به مجرد اتصاف الصفة بقطع النظر عن الدوام وعدمه، وقد يراد بها أيضًا مجرد اتصاف الصفة مع وجود قرينة تدل على الاستمرار مثل: {وكان الله غفورًا رحيمًا}. هذا ما يمكن، نقول: غالبًا، ولا يمكن أن نقول مجرد الصفة التي تزول، بل هو الاستمرار الدائم الأزلي الأبدي. قال: "كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة"، وهي التي ذكر فيها قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9]، ووجه قراءته بها - عليه الصلاة والسلام -: لما فيها من تقرير التوحيد، وبيان نعمة الله - سبحانه وتعالى - على العباد، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم وتحذير مخالفته بضرب المثل القبيح للذين حملوا التوراة؛ ولأنها تشتمل على الدليل الصريح في وجوب صلاة الجمعة والحضور إليها، وعلى الترهيب من التشاغل عنها، ولو بما كان مباحًا كالتجارة، فالمهم أن فيها مناسبات متعددة لأن تقرأ في هذا الجمع الكثير، فتكون كأنها قراءة صلاة وفي نفس الوقت خطبة وموعظة.

وأما "المنافقون"، هنا عندي "والمنافقين" على الحكاية أو على إعمال العامل؟ على الإعمال، والمنافقين يعني: سورة المنافقين التي قال الله فيها: {إذا جاءك المنفقون ... } الخ [المنافقون: 1]. ومناسبة هذه للجمعة ظاهرة لما فيها من التحذير عن هذا الخلق الذميم - والعياذ بالله - خلق النفاق، سواء كان هذا النفاق اعتقاديًا أو علميًا، ولما فيها من بيان عزة الإسلام وأهل الإسلام: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8]. فيها من التحذير عن التشاغل بالأموال عن طاعة الله: {لا تلهكم أمولكم ولا أولدكم عن ذكر الله} [المنافقون: 9]. فتكون هذه أعم مما ذكر في سورة الجمعة؛ لأن الجمعة خصت بالبيع: {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا} [الجمعة: 11]. أما هذه الآية فهي عامة في الأموال والأولاد بأي طريق، ولما فيها أيضًا من تذكير الإنسان بالحال التي لابد منها وهي حال الموت حيث يتمنى الإنسان أن يرد إلى الدنيا ليعمل ولكنه قد فات الأوان: {ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} [المنافقون: 11]. فالمهم: أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لهاتين السورتين فيه مناسبات متعددة أكثر مما قلنا لمن تأمل ذلك. فيستفاد من هذا الحديث: استحباب قراءة هاتين السورتين في صلاة الجمعة، واستحباب قراءتهما كاملتين؛ يعني: لا يقرأ واحدة في الركعتين. وفيه من الفوائد: مراعاة الأحوال واحتيار الأنسب؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - اختار ما هو أنسب. ويستفاد منه أيضًا: أن المنافقين بعد الجمعة، لكن هل يستفاد منه أنها موالية لها؟ لا؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد يقرأ سورتين غير متواليتين كما في فجر يوم الجمعة يقرأ في الأولى سورة السجدة، ويقرأ بعدها سورة {هل أتى}. لكن يستفاد: أن المنافقين بعدها؛ لأن المعروف أن هذا الترتيب ترتيب منه ما هو سماعي، ومنه ما هو اجتهادي، هذا هو الصحيح في هذه المسألة، وإن كان بعض أهل العلم يقول: إن ترتيب السور سماعي توقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الصواب أن منه ما هو توقيفي، ومنه ما هو اجتهادي، بخلاف ترتيب الآيات فإن ترتيب الآيات توقيفي؛ ولهذا قال أهل العلم: يكره تنكيس السور ويحرم تنكيس الآيات، فلو أن الإنسان قرأ الفاتحة من آخرها أو سورة الناس من آخرها قلنا: إن هذا محرم ولا يجوز. 434 - وله: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: "كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة: بـ {سبح اسم ربك الأعلى}، و: {هل أتاك حديث الغاشية} ". قوله: "وله" أي: لمسلم، بهذا الحديث يتبين أن "كان" ليست للدوام دائمًا، لو كانت كذلك

للزم تعارض الحديثين؛ لأن الأول يقول: "كان يقرأ بالجمعة والمنافقين"، وهنا بسبح والغاشية. وقوله: "كان يقرأ في العيدين" هما عيد الفطر وعيد الأضحى، وليس في الإسلام عيد سواهما إلا يوم الجمعة، وقد ذكر "وفي الجمعة" فتبين أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - يقرأ هاتين السورتين في الأعياد الثلاثة: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع. وقوله: بـ {سبح اسم ربك الأعلى} " إعرابها: "الباء": حرف جر "سبح اسم ربك الأعلى" كل هذه الجملة في تأويل اسم مفرد مجرور بالباء، وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها الحكاية كأنه قال: "يقرأ بهذه السورة" فهي إذن في تأويل المفرد، وقوله: {سبح اسم ربك الأعلى}. {سبح} معناها: نزه، وقوله: {اسم ربك الأعلى} اختلف العلماء في قوله: {اسم ربك} فقال بعضهم: إن لفظ "اسم" زائد، لأن الذي يسبح هو الله، فأنت إذا قلت: "سبحان الله" لا تريد أن تسبح اللام والهاء، إنما تريد المسمى بهذا الاسم، وعلى هذا فتكون "اسم" زائدة، والتقدير: "سبح ربك الأعلى"، واستدلوا لقولهم بقوله تعالى: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه} [الفتح: 9]. وبقوله: {يأيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا وسبحوه بكرةً وأصيلًا} [الأحزاب: 41 - 42]. ويقول النبي - عليه الصلاة والسلام -: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك". فالتسبيح إذن لله عز وجل قالوا: فهذا الكتاب والسنة يدلان على أن التسبيح وارد ليس على الاسم، ولكن على المسمى، وعلى هذا فتكون "اسم" زائدة، وقال بعض أهل العلم: إن هذا دليل على أن فالاسم هو المسمى؛ لأنه قال: {سبح اسم ربك} فالمراد به: الله، الاسم هو المسمى، ولكن هذا لا دلالة في الآية عليه؛ لأنه قال: {اسم ربك}، والمضاف في الأصل غير المضاف إليه، كما أن الموصوف غير الصفة فقال: {اسم ربك}، فأنت إذا قلت: "غلام زيد" هل يكون الغلام هو زيدًا؟ لا، وكذلك لو قلت: "عمل زيد" لا يكون العمل هو زيدًا، فالمضاف لا شك أنه غير المضاف إليه، والصحيح أن الاسم للمسمى كما قال شيخ الإسلام، وقال بعض العلماء: بل إن المراد: تسبيح الله عز وجل لاشك فيه، ولكن فائدة ذكر الاسم أن يكون التسبيح باللسان؛ إذ لا يمكن تسبيح الله باللسان إلا بذكر اسمه، أما إذا لم تذكر اسم الله فإن التسبيح يكون بالقلب؛ ولهذا أنت تقول: "سبحان ربي العظيم"، "سبحان الله وبحمده"، "سبحان الله العظيم"، تذكر الاسم، فيكون فائدة ذكر الاسم هنا: الدلالة على أن المراد التسبيح باللسان وهذا لا يمكن إلا بذكر الاسم، ويدل لذلك الآية الأخرى التي أفضحت عن هذا، {فسبح باسم ربك العظيم}. أي:

سبح الله باسمه، فيكون هنا إذن فائدة ذكر الاسم عظيمة جدًا لئلا يقتصر الإنسان على التسبيح بقلبه الذي لا يظهر معه الاسم. وقوله: {سبح اسم ربك الأعلى} الربوية هنا خاصة أو عامة؟ خاصة. وقوله: {الأعلى} اسم تفضيل محلى بـ"أل" أي: الذي له العلو المطلق علو الذات وعلو الصفات، وهذا التقسيم - تقسيم العلو - إلى علو ذات وعلو صفات أخصر وأجمع وأعم من تقسيمه إلى ثلاثة أقسام: علو ذات، وعلو قدر، وعلو قهر؛ لأن القدر والقهر من الصفات فيكون هذا أجمع علو القدر، وعلو القهر، وعلو الرحمة، وعلو العفو، فيكون قولنا: علو الذات وعلو الصفات أشمل وأجمع - الله تعالى عالي الصفات وعالي الذات أيضًا - بمعنى: أن ذاته - سبحانه وتعالى - فوق كل شيء، إذن أنت أثبت له مكانًا وهو العلو المطلق العلو الذي ليس فيه شيء معناه: أن هذا المكان الذي لله عز وجل مكان عدمي ليس فيه شيء يحيط بالله عز وجل، ولو كان هناك شيء يحيط به لزم من ذلك انتفاء العلو المطلق؛ لأن هذا المحيط به يكون مساويًا له فليس هناك علو، ويلزم أيضًا منه محظور وهو إحاطة الأشياء به، ولا يحيط بالله شيء، وهذا السبب الذي أوجب لمنكري العلو أن ينكروا علو الذات حتى إنهم - والعياذ بالله - يقولون: من أثبت أن الله عال بذاته فقد وصف الله بأعظم النقص فجعلوا الكمال نقصًا، قالوا: لأنك الآن إما حيزت أو جسمت أو حصرت، ولكن هل يلزم من هذا التجسيم أو الحصر أو التحييز؟ لا يلزم بالمعنى الذي قالوه، فالله عز وجل إن أرادو بالحيز الذي نفوه أنه منحاز عن الخلائق بائن منها منفصل عنها فهذا النفي باطل؛ لأن الله تعالى نثبت أنه منحاز عن الخلائق بائن منها، لم يحل في شيء منها ولا شيء منها حل فيه، إن أرادوا، أيضًا بالحصر أن الأماكن تحصره فهذا باطل ولا نقرهم، وعلى هذا فالحصر ممنوع مطلقًا إن أرادوا بالجسم الذي جعلوا يغنون عليه ويدندونون، إن أرادوا بالجسم: مناف للأجسام المخلوقة فهذا ممتنع وباطل، وإن أرادوا بالجسم الذات المتصفة بما يليق بها فهذا حق، والمهم: أن إثباتنا للعلو الذاتي ليس معناه أننا نقر بأن شيئًا يحيط به، أو أنه - سبحانه وتعالى - لو أزيل هذا الذي علا عليه الله لخر، هذا شيء لا أحد يقوله، فلذلك العلو الذاتي قد دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، والعقل، والفطرة، وقد سبق لنا وجه دلالة الأشياء الخمسة عليه. وأما الثاني: {هل أتاك حديث الغاشية}. الخطاب لمن؟ إما للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى خطابه، و {هل} استفهام قال بعض العلماء: إن {هل} هنا بمعنى "قد" فهي للتحقيق كما في قوله تعالى: {هل أتى على الإنسن حينٌ من الدهر} [الإنسان: 1]. معناها "قد أتى". وقال بعضهم: بل هي للاستفهام، ولا نقول: إنها للتحقيق، لكنها متضمنة معنى التقرير

والإثبات، وقوله: {حديث الغشية} المراد بالغاشية: القيامة؛ لأنها تغشى الناس وتحيط بهم، وقوله: {هل أتك} حديثها أو نبأها، وهذا يحتمل أن يكون بـ {هل} المراد بها التشويق مثل: {هل أدلكم على تجرة تنجيكم من عذاب أليمٍ} [الصف: 10]. وهنا قال: {هل أتك حديث الغشية} ثم قال: {وجوه يومئذ} [الغاشية: 2]. فهذا مبتدأ لحديث مناسبة هاتين السورتين لصلاة الجمعة ظاهرة لما فيه من مبدأ الخلق، وبيان حكمة الله عز وجل وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتذكير، وبيان من ينتفع بالذكرى ومن لا ينتفع، وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام بما يجب عليه من التذكير فإنه لا يضره مخالفة من خالف: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} [الغاشية: 21 - 26]. وفيها بيان نهاية الناس، وأنها ترجع إلى الله: {إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 25 - 26]. فالمناسبة فيها ظاهرة جدًا، وهما سورتان لا تشقان على الناس، ولا تمنعان الناس من التلذذ بسماع القرآن، فقد جمعتا بين القصص والفائدة العظيمة. إذن يستفاد من هذا الحديث: أنه يسن قراءة هاتين السورتين في صلاة العيد والجمعة. مسألة: هل تسقط صلاة الجمعة بصلاة العيد؟ في آخر الحديث السابق في مسلم - وليت المؤلف جاء به - أنه قال: "وإذا كانت الجمعة يوم العيد قرأ بهما في الصلاتين جميعًا" هذا فيه فائدة عظيمة، وهي أن صلاة الجمعة لا تسقط بصلاة العيد، وأن ما ورد عن ابن الزبير من اقتصاره على الصلاة إنما أرد الجمعة ليجمع بين فعله ووصف ابن عباس له بأنه السنة، وبين ما ثبت في صحيح مسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة والعيد جميعًا في يوم واحد، وقد سبق لنا البحث في هذا وبينا أن القول الحق في هذه المسألة أن الجمعة لابد أن تقام، ولكن من حضر العيد فله الرخصة في ترك الجمعة، وعليه أن يصلي الظهر. 435 - وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد، ثم رخص في الجمعة، ثم قال: "من شاء أن يصلي فليصل". رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة. قوله: "صلى ثم رخص في الجمعة" "رخص" يعني: سهل، والرخصة في اللغة: السهولة. وقوله: "صلى ثم رخص" يعني: في نفس اليوم؛ لأن يوم العيد صادف يوم الجمعة. ثم قال: "من شاء أن يصلي فليصل"، "من شاء أن يصلي" أي: الجمعة، "فليصل"، اللام هنا لام الأمر، والمراد به: الإباحة؛ لأنه جاء جوابًا للمشيئة، وما كان معلقًا بالمشيئة فإنه للإباحة وإن شاء لم يفعله، وإن كان أحيانًا يراد به التهديد كما في قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. لأن هذا ليس باختيار الإنسان، لكن الغرض من ذلك التهديد.

وقوله: "فليصل" فيها إشكال من جهة أنه فعل أمر وبني على الكسرة، لماذا؟ لأنه مجزوم بحذف حرف العلة. هذا الحديث بين فيه زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد وكان ذلك يوم جمعة ثم رخص في الجمعة، وقال: من شاء أن يصليها فليصلها. فيستفاد منه بيان أمور: الأول: أنه إذا اجتمع يوم العيد والجمعة فإن من حضر صلاة الإمام فله أن يحضر الجمعة، وله ألا يحضر، تؤخذ من قوله: "ثم رخص في الجمعة". ثانيًا: أن هذا الحكم لا يشمل من لم يحضر؛ لأن قوله: "صلى ثم رخص" فقال: "من شاء أن يصلي فليصل" الخطاب لمن؟ للحاضرين المصلين، فمن لم يصل فلابد أن يحضر الجمعة. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي، بل يجب على الإمام أن ينبه الناس على الأحكام التي تخفى عليهم حيث قال: "فمن"، "ثم رخص في الجمعة". ومن فوائد الحديث: تيسير الله - سبحانه وتعالى - على العباد، حيث إنهم إذا اجتمعوا في هذا اليوم على إمام واحد رخص لهم أن يدعوا هذا الاجتماع، استدل به بعض العلماء على أن صلاة الظهر تسقط لقوله: "فمن شاء أن يصلي فليصل" يعني: ومن شاء ألا يصلي فلا يصل، لكنه قد وردت أحاديث تدل على أن صلاة الظهر لا تسقط؛ وذلك لأن صلاة الظهر فرض الوقت تغني عنها الجمعة عند الاجتماع، فإذا سقطت الجمعة عن الإنسان ما الذي يجب عليه؟ الظهر كالمريض إذا سقطت عنه الجمعة للعذر فإنه يجب عليه أن يصلي الظهر ولا يدعها، وهذا القول قول وسط بين ثلاثة أقوال: القول الأول: أنها لا تسقط الجمعة، وأنه يجب على من حضر صلاة العيد أن يحضر الجمعة، ويرون ضعف هذا الحديث ويقولون: إن الأصل بقاء الفريضة، وأن ما كان على ما هو عليه، وأن صلاة العيد لا تسقط بها الجمعة؛ لأنها في غير وقتها، وهذا على رأي من يرى أن صلاة الجمعة لا يدخل وقتها إلا بالزوال كما هو قول جمهور أهل العلم. القول الثاني في المسألة: أنها تسقط صلاة الجمعة والظهر عملاً بظاهر الحديث، وبظاهر ما روي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه حيث صلى العيد ولم يصل بعدها إلا العصر. والقول الثالث في المسألة: أنها تجب صلاة الجمعة، لكن يعفى عمن حضر صلاة العيد

صلاة النفل بعد الجمعة وأحكامها

فلا يصليها ولا يلزمه الحضور، ولكن يصليها ظهرًا كغيره من أهل الأعذار، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وهو الأقرب إلى الصواب. صلاة النفل بعد الجمعة وأحكامها: 436 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعًا". رواه مسلم. قوله: "إذا صلى أحدكم الجمعة" يعني: فرغ منها، "فليصل" الفاء رابطة لجواب، أين الجواب؟ الجواب: "يصلي"، والشرط: "إذا صلى"، وجواب الشرط يكون بعد فعل الشرط فورًا إلا بدليل، وعلى هذا فقوله: "فليصل بعدها أربعًا" يكون بعد الجمعة مباشرة، وقوله: "فليصل بعدها أربعًا" يعني: أربع ركعات، هذه الأربع ظاهرها أنها تصلى بتسليم واحد، وقيل: تصلى بتسليمين على ركعتين، فأما من قال بالأول فقال: هذا هو ظاهر الحديث، ومن قال بالثاني قال: إن الأحاديث المطلقة تحمل على الأحاديث المقيدة، وهو أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: "وصلاة الليل والنهار مثنى مثنى". فإن هذه الكلمة: "والنهار" اختلف فيها الحفاظ، ولكن الراجح أنها ثابتة، وعلى هذا فتكون مقيدة لكل الأحاديث المطلقة، والغريب أن الذين قالوا: إنها تصلى أربعًا بسلام واحد أيدوا مناسبة ذلك، قالوا: لئلا يظن إذا سلم من ركعتين أنه أتم الجمعة ظهرًا، أن هاتين الركعتين إتمام للجمعة ولكننا نقول: هذه المناسبة تعكس عليكم إذا قيل: إنه يصلى أربعًا، فيقال: إن الرجل صلى الجمعة، ثم صلى ظهرًا ثانيًا، وهذا القول بأن يصلي ركعتين ركعتين أبعد عن إعادة الظهر، وأبعد عن ألحاقها؛ لأن الإلحاق هنا ممتنع بواسطة السلام. وقوله: "فليصلى بعدها أربعًا" اللام هنا لام الأمر، والأصل في الأمر الوجوب، ولكن عندنا قرينة تخرجه عن الوجوب للاستحباب ما هي؟ حديث معاذ: "أعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات". وحديث الأعرابي قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع". حكم فصل الفريضة عن النافلة: 437 - وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه: أن معاوية رضي الله عنه قال له: "إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاةٍ، حتى تتكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك: ألا نوصل صلاةً بصلاةٍ حتى نتكلم أو نخرج". رواه مسلم.

هذا الكلام كلام معارض، لكنه استدل له بقوله: "فإن رسول الله"، وقوله: "فلا تصلها بصلاة" يعني: لا تأت بعدها بصلاة مباشرة حتى تتكلم، والكلام يطلق على كلام الآدميين، ويطلق على الكلام كلام الذكر، فهل المراد هنا العموم يعني: حتى تتكلم بذكر أو مع الآدميين، أو أن المراد الثاني؟ الظاهر: أن المراد العموم؛ لأن الكل كلام، ويؤيد هذا الظاهر أن الفصل بين الفرض والسنة يحصل بمثل هذه الأذكار؛ إذ إن هذه الأذكار لا يشرع جنسها في الصلاة، فلا يقال: إنها صلاة واحدة، وأن هذا الذكر بينهما من الصلاة، فما دام لا يوجد في الصلاة: "اللهم إنك أنت السلام"، ولا "أستغفر الله" ولا "سبحان الله" وما أشبهها فإن الفصل يحصل بذلك، وقال بعض العلماء: إنه لا يحصل إلا بكلام لا تبطل به الصلاة حتى تتبين المباينة، وأنه لا يمكن أن يبنى هذا النفل على الفرض؛ لأن التسبيح والذكر إذا قاله إنسان في الصلاة فلا تبطل، فلابد أن يتكلم بكلام يبطل الصلاة ليتحقق الفرق والفصل، ولكن إذا أخذنا بالظاهر وقلنا: إن جنس هذا التسبيح وإن كان لا يبطل الصلاة لكن لا يشرع مثله، فإنا نكتفي بالفصل بهذا التسبيح. وقوله: "أو نخرج" أي: من المسجد، ثم استدل لذلك: "فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك" معلوم أن المشار إليه مبهم حتى يتبين الكلام سابق أو لاحق وهنا بينه بقوله: "ألا نوصل صلاة بصلاة"، "ألا نوصل" هذه عطف بيان بالنسبة لاسم الإشارة؛ أي: بألا نصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج، وقوله: "صلاة بصلاة" "صلاة" هذه نكرة في سياق النفي، فتكون عامة للفريضة والنافلة، وكذلك "بصلاة" عامة للفريضة والنافلة، "فالفريضة" نفصلها بذكر، وكذلك نفل بنفل كصلاة الليل، والوتر، وما أشبه ذلك، لا حاجة إلى أن نفصل بينهما إلا أنه روي عن ابن عمر في الوتر بثلاث أنه إذا سلم من ثنتين كان يأمر ببعض حاجته ليفصل بينهما، وكأنه رضي الله عنه أخذ هذا من العموم: "ألا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج". فيستفاد من هذا الحديث: أولاً: بيان تبليغ الشرع؛ لأن معاوية رضي الله عنه أبلغ السائب مع أنه هو الخليفة، فلا ينبغي للإنسان أن يأنف ويقول: يبلغه غيري. ومن فوائده أيضًا: الاستدلال بالأحاديث النبوية على المسائل العلمية؛ لأن معاوية استدل، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستدل بالقرآن مثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ: {فأما من أعطى} [الليل: 5]، ومنه قوله: "الصدقة تطفئ الخطيئة،

وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعلمون} [السجدة: 16]. وأمثلة ذلك كثيرة، والصحابة - رضي الله عنهم - يستدلون بالقرآن وبالسنة أيضًا. ومن فوائد الحديث: أن الأفضل ألا توصل صلاة بصلاة حتى يكون كلام أو خروج؛ لقوله: "أمرنا ألا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج". ومن فوائده أيضًا: أن للشارع نظرًا في الفرق بين الفرض والسنة حتى لا يلتبس الأمر على العامل فلا يحاول أحد أن يزيد في فرائض الله، بل يكون أمره واضحًا متميزًا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه". لأجل أن يبقى رمضان متميزًا عن الفرض، إلا من كان له صوم ولا صام عن رمضان فهذا لا بأس. ومنها: الإشارة إلى أن الأفضل أن يصلي الإنسان النوافل في غير المسجد، من أين تؤخذ؟ من قوله: "أو يخرج"، ولا شك أن الأفضل في النوافل البيت كل النوافل، فما يفعله الناس الآن من كونهم يتنفلون في المسجد فهذا خلاف الأصل، وإن كان جائزًا خصوصًا فيما بعد السلام، أما ما قبل السلام فقد يقول الرجل: أنا أحب أن أتقدم إلى المسجد لأنال الأجر والفريضة، فهذا جائز، لكن بعد السلام أكثر الناس الآن تجدهم يصلون الراتبة في المسجد وهذا خلاف الأفضل، وإن كان جائزًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، لكن الناس يتعللون بعلتين: العلة الأولى: يقولون: إذا خرجنا إلى البيت غفلنا عنها، أو اشغلنا الأولاد. والعلة الثانية: أننا نصليها في المسجد لأجل تنشيط بعضنا بعضًا؛ لأننا إذا انصرفنا فإن الجاهل ما يدري يحسب أنه ليس هناك نافلة فنحن نفعلها ليقتدي بعضنا ببعض. أما العلة الأولى فهي علة عليلة؛ لأننا نقول في جوابها: إذا مرنت نفسك على أن تصلي الراتبة في البيت فلا تنساها لأنك منظم نفسك. وأما العلة الثانية فقد تكون وجيهة لكن جوابها أن تقول: نفهم الناس ونعودهم على السنة حتى يعرفوا، فيقال: السنة للمغرب بعده ركعتين، والعشاء كذلك، والأفضل أن تكون في البيت ويلاحظون في هذه الأمور، لأن الناس قد ينسون وقد يغفلون فيجب التنبيه. ومن فوائد الصلاة في البيت: البعد عن الرياء، ومنها: أن الأولاد الصغار يتعلمون، فالصغار إذا رأوا أباهم يصلي يقتدون به لاشك، المهم يتعلمون، وهذا هو الحكمة من قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا". يعني: لا تجعلوها بلا صلاة، بل صلوا فيها.

فضل الاغتسال والتطيب يوم الجمعة

فضل الاغتسال والتطيب يوم الجمعة: 438 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اغتسل ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم يصلي معه؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام". رواه مسلم. "من" هذه شرطية، وجواب الشرط قوله: "غفر له"، فالشرط إذن اشتمل على عدة أمور: أولًا: "من اغتسل"، والمراد: غسل الجنابة؛ لأنه إذا أطلق الكلمات بلسان الشارع فإنها تحمل على الحقيقة الشرعية، فإن لم يكن لها حقيقة شرعية حملت على الحقيقة اللغوية، وهنا لها حقيقة شرعية؛ لأن من اغتسل غسل الجنابة ثم أتى الجمعة، يعني: أتى مكان صلاة الجمعة، أم أتى صلاة الجمعة؟ إذا قلت: "أتى مكان صلاة الجمعة"، صار فيه شيئان محذوفان مكان وصلاة، وإذا قلت: "ثم أتى صلاة الجمعة" ففيه حذف واحد، وعلى كل حال فهما متلازمان، والمراد معروف؛ أي: "أتى الجمعة فصلى ما قدر له" هنا الفعل مبني للمجهول للعلم بالفاعل، من الفاعل؟ الله عز وجل، وهذا كقوله تعالى: {وخلق الإنسن ضعيفًا} [النساء: 28]. مبني للمجهول للعلم بالفاعل وهو "الله". وقوله: "ما قدر له" القدر تقدم لنا أنه هو تقدير الله عز وجل الأمور وقضاؤه إياها، وقد قدر - سبحانه وتعالى - كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، نقول هذا، لكن ربما مر عليكم في قضية محاجة آدم موسى أن آدم قال له: "أتلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ ! ". وهذا فيه إشكال؛ لأن المصبية التي حصلت لآدم قد كتبت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فما هو الجواب؟ الجواب على هذا أن نقول: إن الكتابات متعددة، فالكتابة السابقة قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهذه الكتابة غير الكتابة الأولى وهذا هو طريق الراسخين في العلم إذا رأوا الأشياء المتشابهة أن يجمعوا بينها، وتعدد الكتابة ممكن أو غير ممكن؟ ممكن، لكن المعتزلة - أي: نفاة القدر - قالوا: هذا دليل على كذب هذا الحديث، وأن الرسول ما قاله؛ لأن المكتوبات كتبت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ولهذا هم يكذبون الحديث؛ لماذا؟ لأنه لا يتمشى على مذهبهم، مذهبهم أن الله لم يقدر أفعال بني آدم، وأن الإنسان مستقل بعمله، إذا جاء مثلًا هذا الحديث فهم يقابلونه بالرد هذه طريقة أهل البدع: إذا جاءهم ما يخالف بدعهم فطريقهم الرد إذا أمكنهم الرد، فإن لم يمكنهم - كما لو كان في القرآن مثلًا - يسلكون التأويل.

يقول: "قدر له" أي: كتب وقدره الله عليه، وقال: "ثم أنصت" أنصت لماذا؟ حتى يفرغ الإمام من خطبته، قوله: "من خطبته" الظاهر أن هذا المفرد يراد به معناه، وليس يراد به العموم، يعني: أنصت حتى خطبته الأولى مثلًا ومن خطبته الثانية؛ لأن الكلام بين الخطبتين ليس بمحرم، ويحتمل أيضًا لفظ الحديث: "من خطبتيه"؛ لأن سكوت الإنسان حتى بين الخطبتين أفضل وأتم. قال: "ثم يصلي معه - يعني: الجمعة - حتى ينصرف غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". غفر، والغافر من؟ الله وحذف للعلم به؛ لأن الله تعالى يقول في القرآن: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران: 135]. لا أحد يستطيع أن يغفر الذنوب، والمغفرة تقدم مرارًا أنها هي ستر الذنب والتجاوز عنه، وليست مجرد التجاوز بل والستر ولو مجرد الستر، من أين نعرف أنها ليست هي أحد أمرين من اشتقاقها؛ لأنها من المغفر، والمغفر: هو ما يستر به الرأس عند الحرب، ويحصل به الستر والوقاية. وقوله: "ما بينه وبين الجمعة الأخرى" المقبلة، أما الماضية؟ فيها اختلاف؛ فمنهم من قال: الماضية؛ لأنها هي التي وقعت فيها الذنوب، أما المستقبل فلا. وقوله: "وفضل ثلاثة أيام" كم يكون الفضل؟ عشرة أيام، قوله: "غفر له" تقدم، وقوله: "بينه وبين الجمعة الأخرى" الظاهر أن المراد بذلك: أنه لابد أن يصلي، فأما لو لم يصل الجمعة الأخرى بدون عذر فإنه لا يحصل له ذلك، ولكن لابد أن تحصل صلاة الجمعة في الأول وفي الآخر. يستفاد من هذا الحديث إذن فوائد متعددة: أولًا: فضيلة الاغتسال. فإن قال قائل: كيف تأخذون من هذا فضيلة الاغتسال، والثواب مرتب على عدة أفعال؟ فالجواب: أنه لولا أنه له أثر في حصول هذا الفضل لكان ذكره لغوًا من القول لا فائدة منه، وهذا هو المطلوب أن يكون له أثر بحصول الفضل، أرأيت قوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا ألم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين} [المدثر: 42 - 46]. فاستدل العلماء بهذه الآية على أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة مع أن كونه يكذب بيوم الدين سبب موجب للخلود في النار، ولكن هذه الأفعال الأخرى التي لا يفعلها ذكرت؛ لأنه يعاقب عليها، فالعلماء - رحمهم الله - جعلوا ذكر هذه الأوصاف دليل على أن لها أثر في تعذيب هذا الرجل في النار. يستفاد من هذا الحديث أيضًا: أنه ليس للجمعة سنة راتبة قبلها لقوله: "فصلى ما قدر له". ويستفاد منه: أن أفعال العباد مقدرة الله لقوله: "ما قدر له"، فيكون في ذلك رد على القدرية

ساعة الإجابة يوم الجمعة

الذين يقولون: إن الله - سبحانه وتعالى - لم يقدر أفعال العبد، وأن العبد مستقل بفعله إيجادًا ومشيئة، وهذا لا شك أنه باطل، وقد سبق الكلام عليه في الشرح. ومن فوائد الحديث: فضيلة الإنصات حال خطبة الإمام لقوله: "ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته". ومنها: أنه ينبغي أن يكون الخطيب هو الإمام لقوله: "الإمام من خطبته"، ولم يقل: الخطيب من خطبته، بل قال: الإمام، ولهذا قال العلماء: يسن أن يتولى الخطبتين من يتولى الصلاة، ولو لم يتولهما من يتولى الصلاة فلا حرج، لكن هذا أفضل. ويستفاد منه: جواز الكلام بين الخطبتين لقوله: "حتى يفرغ من خطبته". ويستفاد منه أيضًا: عظم كرم الله - سبحانه وتعالى -؛ حيث جعل المحافظة على صلاة الجمعة على هذا الوصف بدلاً لمغفرة الذنوب، ولكن هل هذا يشمل الكبائر والصغائر، أو الصغائر فقط؟ الصحيح أنه لا يتناول الكبائر وأنه يختص بالصغائر؛ لأن الكبائر لابد لها من توبة خاصة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر". ساعة الإجابة يوم الجمعة: 439 - وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي، يسأل الله عز وجل شيئًا إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يقللها". متفق عليه. - وفي رواية لمسلم: "وهي ساعة خفيفة". 440 - وعن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة". رواه مسلم، ورجح الدارقطني أنه من قول أبي بردة. 441 - وفي حديث عبد الله بن سلام عند ابن ماجه. 442 - وعن جابر عند أبي داود والنسائي: "أنها ما بين صلاة العصر وغروب الشمس". وقد اختلف فيها على أكثر من أربعين قولًا، أمليتها في شرح البخاري.

هذه الأحاديث في بيان ما من الله به على هذه الأمة من ساعة الإجابة يوم الجمعة، قال الرسول - عليه الصلاة والسلام -: "إن فيه ساعة"، والمراد بالساعة: الزمن، وليس المراد بها الساعة الواحدة من أربعة وعشرين جزءًا من الليل والنهار، "لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم"، القيد الثالث: "وهو قائم يصلي" والجملة هذه حال، "يسأل الله" حال أيضًا، "يسأل الله عز وجل شيئًا إلا أعطاه إياه" أي: إلا أعطاه ذلك الشيء. وقوله: "يسأل الله شيئًا" نكرة في سياق الإثبات فتكون مطلقة أي شيء يكون، ولكنها مقيدة بما إذا لم يعتد في دعائه، فإن اعتدى فإن الله لا يجيبه لقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفيةً إنه لا يحب المعتدين} [الأعراف: 55]. فالمعتدي في الدعاء لا يجاب له حتى في وقت الإجابة؛ لأن الله تعالى لا يحب المعتدين فكيف يجيبهم، والاعتداء في الدعاء أن يدعو الإنسان بما لا يحل له إما أن يدعو بما لا يمكن شرعًا، أو بما لا يمكن قدرًا، أو بما هو محرم شرعًا، فهذا كله اعتداء في الدعاء، فلو دعا على شخص غير مستحق للدعاء عليه هل يستجاب له؟ لا؛ لأنه ظالم، والله لا يجيب دعوة الظالم، كذلك لو دعا با لا يمكن شرعًا مثل أن يقول: "اللهم اجعلني نبيا" فلا يجوز، أو دعا بما لا يمكن قدرًا، يعني مثلًا: بأن دعا أن يجعل الله له ملك السموات والأرض، فلا يصلح، لماذا؟ لا يمكن قدرًا وإن كان الله على كل شيء قديرًا لكن نعلم أن الذي له ملك السموات والأرض هو الله - سبحانه وتعالى -، فالمهم أن الاعتداء في الدعاء لا يقبل حتى في ساعة الإجابة. وقوله: "إلا أعطاه إياه" "أعطاه" فعل مطلق؛ لأنه يدل على الفورية، فقد يعطيه الله تعالى إياه فورًا وقد يتأخر، لكن لا يستبطئ الإجابة إذا استبطأ الإجابة حرمها إذا دعا ثم قال: دعوت فلم يستجب لي فإنه يحرم، بل الواجب أن يحسن الإنسان ظنه بربه، والله تعالى له الحكمة البالغة في إجابته وعدم إجابته. وقوله: "إلا إعطاه إياه" قد يقول قائل: هذا مطلق أفلا نقيده بالأحاديث الخرى الدالة على أن من دعا الله عز وجل فإن الله - سبحانه وتعالى - يجيبه، أو يدخر ذلك له إلى يوم القيامة، أو يدفع عنه من البلاء ما هو أعظم مما يدعو به، أو يترك، هل يصلح أن يقيد هذا الحديث بذلك؟ نقول: لا يصح؛ لماذا؟ ؟ لأننا لو قيدناه بذلك لم يكن لذكره في هذا الوصف فائدة؛ إذ إن هذا الحكم آنفًا: "أو يستجيب، أو يدخر، أو يدفع عنه" هذا الحكم عام في كل الدعوات. لكن لو قال قائل: نحن نجد كثيرًا من الناس يدعون في ساعة هي أرجى ما تكون من الساعات ومع ذلك لا يستجاب لهم؟ فنقول: صدق الله ورسوله وكذبت، كما قال الرسول في قصة العسل: "كذب بطن

أخيك". نقول: كلام النبي - عليه الصلاة والسلام - حق وصدق، ولكن تخلف الإجابة قد يكون لوجود مانع إما أن يدعو وهو شاك في الإجابة غير موقن فهذا سبب مانع من الإجابة، وإما أن يكون ممن يأكل الحرام، وأكل الحرام مانع من إجابة الدعاء، فقد ذكر النبي - عليه الصلاة والسلام -: "رجلًا أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، قال: فأنى يستجاب لذلك". والعياذ بالله مع أن الأوصاف الموجود كلها من أسباب إجابة الدعاء، كونه أشعث أغبر سبب من أسباب إجابة الدعاء، ولهذا يباهي الله الملائكة بالواقفين بعرفة، ويقول: "أتوني شعثًا غبرًا". كونه يمد يديه إلى السماء هذا من أسباب إجابة الدعاء، وكونه في سفر من أسباب إجابة الدعاء، وكونه ينادي يارب يا رب من أسباب إجابة الدعاء، ومع ذلك منع من إجابة الدعاء، أو استبعد النبي صلى الله عليه وسلم إجابته؛ لأنه كان يتغذى بالحرام والعياذ بالله. ثم قال: "وأشار بيده يقللها"، كيف الإشارة بالتقليل؟ المهم: أنه أشار بيده بما يدل على أنها قريبة، وفي رواية لمسلم: "وهي ساعة خفيفة" يعني: يسيرة ليست بطويلة، هذه الساعة اختلف فيها أهل العلم، يقول ابن حجر رحمه الله على أكثر من أربعين قولًا، وهي ساعة واحدة، وكم عدد الساعات؟ أربع وعشرون ساعة، ومع ذلك وصل اختلافهم إلى أكثر من أربعين قولًا هذه الأقوال قيل فيها من جملة ما قيل فيها: إنها - أي: الساعة - قد رفعت مثل ما قيل في ليلة القدر، ولكن الصواب: أنها موجودة، وأن أرجى ساعتها ساعتان بعد العصر وإذا خرج الإمام حتى تنقضي الصلاة، ويدل لذلك قوله: "وعن أبي بردة عن أبيه" أبو بردة ابن أبي موسى، عن أبيه أبي موسى قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة". رواه مسلم، ورجح الدارقطني أنه من قول أبي بردة. هذا الحديث بعض العلماء أعله بالوقف، وبعضهم أعله بأنه أخذ من صحيفة وما أشبه ذلك، ولكن هذا ليس بعلة؛ لأنه إذا تعارض رفع ووقف فمع الرافع زيادة علم إذا كان الرافع ثقة فإنه يؤخذ بقوله، وأيصًا أحيانًا يحدث الراوي عن النبي - عليه الصلاة والسلام - بالحديث معزورًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فيما إذا أراد إسناده، وأحيانًا يقوله هو عن نفسه بناء على أن ذلك هو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحدث به أحيانًا يرفعه وأحيانًا بقوله من عند نفسه، مثال ذلك أن أقول - وأنا الآن معكم - لو صلى الإنسان بلا نية فإنه لا صلاة له، إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. أقول هذا فيظن الظان أن

هذا من عندي، ولكنه في مرة أخرى أسوق الحديث، أقول: حدثني فلان عن فلان، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالآن رفعته، فإذا صح الرفع فإنه لا يعارض بكونه قد روي موقوفًا على شخص؛ وذلك لأن الرافع ربما يحدث به قائلًا به لا راويًا له، قائلًا به لأنه صح عنه. وهذا الوقت لا شك أنه من أرجى ما يكون من أوقات الإجابة لعدة أسباب: أولًا: أنه وقت اجتماع الناس على صلاة مفروضة، والاجتماع له أثر في إجابة الدعاء؛ ولذلك كان يوم عرفة يومًا يجاب فيه الدعاء، ولذلك أيضًا أمر النبي - عليه الصلاة والسلام - الحيض وذوات الخدور أن يخرجن إلى العيد؛ قالت أم عطية: ليشهدن الخير ودعوى المسلمين. فاجتماع الناس على هذه الفريضة لا شك أنه من أسباب إجابة الدعاء. ثانيًا: أن الحديث فيه: "وهو قائم يصلي"، ومن صعود الإمام إلى أن تقضى الصلاة إما أن يكون الإنسان في صلاة فعلًا كصلاة الجمعة مثلًا، وإما أن يكون منتظرًا للصلاة ومنتظر الصلاة إذا صلى ثم جلس ينتظر فهو في صلاة كما ثبت به الحديث. ثالثًا: أن هذا الوقت الذي هو وقت صلاة الجمعة لا شك أنه أفضل الأوقات بالنسبة ليوم الجمعة؛ لأنه تؤدي فيه فريضة نص الله تعالى فيها على أن لها نداء وأن لها حضور، أما الساعة الثانية فهي ما بين صلاة العصر وغروب الشمس؛ يعني: أن الساعة في هذا الوقت ما بين صلاة العصر وغروب الشمس. وقوله: "وهو قائم يصلي" يتحقق هنا؟ لا، لكن يتحقق فيما لو دخل الإنسان المسجد، لو دخل المسجد وصلى ركعتين تحية المسجد يستقيم، ثم إذا جلس بعد ذلك ينتظر الصلاة فهو في صلاة، وعلى هذا فآرجاها هذان الوقتان من خروج الإمام إلى أن تفرغ الصلاة، ومن صلاة العصر إلى غروب الشمس، فينبغي لنا أن نحافظ على الدعاء في هذين الوقتين. المعتبر في عدد الجمعة: 443 - وعن جابر رضي الله عنه قال: "مضت السنة أن في كل أربعين فصاعدًا جمعةً". رواه الدارقطني بإسنادٍ ضعيفٍ. قال: "مضت السنة" إذا قال الصحابي: "السنة" فالمراد بها: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال أهل العلم بمصطلح الحديث: ومثل هذا التعبير يكون له حكم الرفع، ثم أعلم أن السنة في لسان الصحابة

ليست هي السنة في اصطلاح الفقهاء، الفقهاء يريدون بالسنة: ما أمر به لا على سبيل الوجوب، وأما في لسان الصحابة فالمراد بها: طريقة النبي - عليه الصلاة والسلام - سواء كانت واجبة أو مستحبة، فمن الواجبة قول أنس: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، ثم دار". هذا وجوب من السنة الواجبة، ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "من السنة وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة". هذه من السنة المستحبة. هنا قال: "مضت السنة" يعني: سنة الرسول - عليه الصلاة والسلام - "أن في كل أربعين فصاعدًا جمعة". "في كل" جار ومجرور خبر مقدم، و"جمعة" بالنصب اسمها مؤخر، وأما قوله: "فصاعدًا" فمنصوبة على الحال، وقد اختلف العلماء في هذا العدد على نحو عشرة أقوال، ولكن الأقوال المشهورة هذا الحديث، وهو حديث ضعيف لا يجوز الاحتجاج به، وأما اثنا عشر فمستنده ما رواه مسلم في قصة انتظار الصحابة - رضي الله عنهم - حي جاءت العير من الشام فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلًا، وهذا لا دليل فيه؛ لأنها قضية عين، فلا ندري لو بقي عشرة ماذا يكون الحكم، لو بقي أربعة عشر ماذا يكون، فما دام أن هذا العدد وقع اتفاقًا فإنه لا يمكن أن يؤخذ شرطًا من الشروط، وذكرنا قاعدة فيما سبق أن كل ما وقع اتفاقًا فإنه لا يعتبر حكمًا شرعيًا؛ لأنه لو الأمر اتفق على سوى ذلك ما تغير الحكم، والدليل على أنه لا يتغير الحكم أنه لو كان الحكم يتغير لكان الرسول - عليه الصلاة والسلام - يبينه، وعلى هذا فإنه لا يكون فيه دليل على أنه - أي: العدد المشترط للجمعة - اثنا عشر. لكن علىقول من يقول إن العدد أربعون ماذا يجيبون عن هذا الحديث - وهو في صحيح مسلم - قالوا: لعلهم رجعوا - أي: الأربعون - قبل أن تنقضي الصلاة؛ بل قبل أن يفوت ركن من أركان الخطبة، وهذا لا شك أنه بعيد جدًا، والقول الثالث في المسألة: أن الذي يشترط ثلاثة فقط، وهذا القول هو الراجح، وسبق لنا أنه به يتحقق الجمع، وبه يتضح معنى قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9]. فإنه منادٍ وإمام وساعٍ، وهذا أحسن الأقوال، ولكن هذا لابد أن يكونوا في قري مستوطنين، وأما إذا كانوا في البر فإنه لا جمعة عليهم، وهناك من قال: تنعقد باثنين، فيرد عليهم بما ورد في السنين: "ما من ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الجمعة إلا استحوذ عليهم الشيطان". وإن الذي يتحقق به معنى الجمع ولاشك فيه هو الثلاثة فأكثر، ولأن الآية تشير إلى ذلك وإن كانت صريحة.

استغفار الخطيب للمؤمنين

استغفار الخطيب للمؤمنين: 444 - وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات في كل جمعةٍ". رواه البزار بإسناد لينٍ. قوله: "كان يستغفر" تقدم لنا مرارًا أن "كان" للاستمرار لا دائمًا، بل غالبًا، وإنما قلنا: لا دائمًا؛ لأنه تأتي أحاديث: كان يفعل كذا، ويأتي في المسألة نفسها: كان يفعل كذا خلاف الأول، وهذا يدل على أنها لا تفيد دائمًا. وقوله: "يستغفر للمؤمنين" "يستغفر" أي: يطلب المغفرة، وقوله: "للمؤمنين" الإيمان في اللغة التصديق: لكنه إذا عدي باللام صار مضمنًا معنى الاستسلام، وإذا عدي بالباء صار مضمنًا معنى الاطمئنان والإقرار، ولهذا يقال: آمن بالله، ولا يقال: آمن لله، بل إنه يقال: أسلم لله، وآمن بالله {قولوا ءامنا بالله وما أنزل إلينا ... }. إلى أن قال: {ونحن له مسلمون} [البقرة: 136]. فقال في الإسلام: {ونحن له}، وقال في الإيمان: {ءامنا بالله} المؤمن أكمل من المسلم؛ لأن الإيمان في القلب، والإسلام في الظاهر، يعني: دلالته على الظاهر أقوى، ولكن مع ذلك إذا انفرد أحدهما عن الآخر شمل الثاني، وإذا اجتمعنا افترقا، انظر إلى حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان بلا شك، وتعلق الحكم بالإسلام الشامل للإيمان: {ورضيت لكم الإسلم دينًا} [المائدة: 3]. الإسلام يشمل الإيمان، أما إذا اقترنا فإنهما يفترقان، كما في حديث عمر في قصة جبريل، وكما في قوله تعالى: {قالت الأعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمن في قلوبكم} [الحجرات: 14]. وأما في قوله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين} [الذاريات: 35 - 36]. فإنها تدل على افتراق الإيمان والإسلام، ومن العجب أن بعض أهل العلم استدل بها على ترابط الإيمان والإسلام قال: هذا دليل على أن الإيمان والإسلام شيء واحد؛ لأن الله يقول: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} أي: من المؤمنين، فظن أن الآية تدل على أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وعند التأمل يتبين: أن الآية تدل على أن الإيمان ليس هو الإسلام، كيف ذلك؟ {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين} ومن الذي خرج؟ لوط وأهله، إلا امرأته لم تخرج بل أمره الله أن تبقى، وهنا قال: {غير بيتٍ من المسلمين} البيت فيه امرأته لكنها غير مؤمنة، بل هي مسلمة يعني: مستسلمة ظاهرًا فهي لا تخالفه؛ ولهذا

جعلها الله تعالى في سورة التحريم خائنة لزوجها؛ لأنها تظهر الإسلام، وهي مبطنة للكفر، فعلى هذا نقول الآية: {غير بيتٍ من المسلمين} لأن البيت يشمل هذه المرأة وهي غير مؤمنة لكنها مسلمة. وقوله: "للمؤمنين والمؤمنات" أي: الإناث، واعلم أنه إذا أطلق الجمع، جمع الذكور شمل الإناث وأكثر ما تكون الأحكام معلقة بمن؟ بالذكور، لكن يدخل النساء تبعًا، وربما تعلق بالإناث فيختص الحكم بهن، وربما تعلق بالإناث فيكون الحكم عامًا لهن ولغيرهن، فقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وإن كان القذف معلقًا بالنساء فهو شامل للرجال. الحديث هنا مطلق ما بين أنه في الصلاة أم في الخطبة، لكن الظاهر أنه في الخطبة؛ لأنها هي التي تسمع ويؤمن عليها، فالظاهر أنها في الخطبة، ولكن يقول المؤلف: "رواه البزار بإسناد لين"، وما معنى لين؟ اللين ضد القوي، فهو في مرتبة بين الضعف والحسن، إلا أنه غالبًا للضعف أقرب، وهذا الحديث أخذ به الفقهاء - رحمهم الله - واستحبوا للإنسان أن يدعو للمسلمين في الخطبة وقالوا: إن هذا محل إجابة دعاء أو ترجي فيه الإجابة، وقال بعض أهل العلم: إن الدعاء في الخطبة واجب، وأنه يجب أن يدعو في الخطبة للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، واستدلوا بأن هذا الحديث: "كان يفعل" كذا يشعر بالدوام، وما داوم عليه النبي - عليه الصلاة والسلام - فإنه واجب ولكن الصحيح أنه ليس بواجب أولًا: لأن هذا الحديث - كما رأيتم - ضعيف. الشيء الثاني: أنه تقدم لنا أن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب، غاية ما هنالك أنه يدل على المشروعية إن كان عبادة، وعلى الإباحة إن كان غير عبادة، وقوله: "يستغفر للمؤمنين في كل جمعة" إذا قلنا بالاستحباب، كما قال الفقهاء - رحمهم الله - فإنه لا ينبغي أن يداوم عليه مداومة تلحقه بالواجب؛ لأن العامة يظنون أنه واجب، حتى إن بعض العامة الآن يظنون أنه يجب أن تختم الخطبة الأولى بقوله: "أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم"، ولو ختمها أحد بسوى ذلك لاستنكروا، ويرون أنه يجب أن تختم الثانية بقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسن} [النحل: 90]. فمن أجل هذا ينبغي للخطيب ألا يلتزم بهذا الدعاء بل أن يدعه أحيانًا، بل إنه ليس بسنة بهذا الخصوص بأن يقرأ هذه الآية: {إن الله يأمر بالعدل والإحسن} أو أن يقول: "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم"، ليس بلازم إنما ينبغي أن يدعو، وهل ينبغي أن يدعو لولاة الأمور في هذا المقام؟ نعم، من باب أولى، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله قال: لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان؛ لأن بصلاحه صلاح الأمة، وهذا صحيح، ولكن ينبغي أن يستشعر الداعي إذا دعا

حكم قراءة آيات من القرآن في الخطبة

لولاة الأمور بأنه ينوي بذلك ولي الأمر الصغير والكبير لا ينوي شيئًا معيدًا؛ لأن ولاة الأمور كما تشمل أعلى مسئول في الدولة كذلك تكون فيمن دونه من وزرائه، وأمرائه، ورؤساء الأقسام ومدرائها، وغير ذلك؛ لأن هؤلاء في الحقيقة هم الذين يسيرون دفة الدولة ليس خاصًا بالرئيس الأعلى بالدولة فهو قد لا يعرض عليه إلا المسائل الكبار التي تحتاج إلى نظر، أما المسائل الأخرى التي قد تكون أشد ضررًا أو أشد نفعًا فقد تكون فيمن دونه؛ ولهذا ينبغي للخطيب إذا دعا لولاة الأمور أن يصرح بأن يقول مثلًا: صغيرهم وكبيرهم وما أشبه ذلك، أو أن يأتي بما يشعر أن المراد بالولاة العموم حتى لا يذهب ذهن المؤمن إلى أن المراد بولاة الأمور هم السلطة العليا في الدولة. حكم قراءة آيات من القرآن في الخطبة: 445 - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخطبة يقرأ الآيات من القرآن، يذكر الناس". رواه أبو داود، وأصله في مسلم. قوله: "كان في الخطبة يقرأ آيات من القرآن" الكلام على "كان" تقدم، وقوله: "يقرأ آيات من القرآن" "آيات" مكسورة لأنه جمع مؤنث سالم فينصب بالكسرة نيابة عن الفتحة، يقول: "يقرأ آيات من القرآن يذكر الناس"، وقال: "أصله في مسلم" سبق أن أم هشام قالت: "ما حفظت ق والقرآن المجيد إلا من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها يوم الجمعة". ولعل المؤلف يشير إلى ذلك. وهذا الحديث الذي نحن بصدده يدل على أن الرسول صلى الله عليه سولم يخطب ويجعل في الخطبة الآيات وليس يقتصر على الآيات فقط، بل كان يخطب ويقرأ آيات، هذه الآيات ينبغي أن تكون مناسبة لموضوع الخطبة؛ لأن وحدة الموضوع في الكلام لها شأن كبير في انضباط الفهم، إذا إننا لو شتتنا الموضوع تشتت ذهن السامع، وكانت استفادته أقل، فإذا كانت الآيات مناسبة لموضوع الخطبة كان أحسن وأولى لأجل ألا تتشتت الأذهان، وأما قول بعض المتأخرين إنه ينبغي أن تكون الآيات التي تقرأ في الصلاة مناسبة لموضوع الخطبة، فإن هذا لا أصل له، وذلك لأن القراءة في الصلاة معينة من قبل النبي - عليه الصلاة والسلام - فتارة يقرأ الجمعة والمنافقون، وتارة يقرأ سبح والغاشية.

الذين تسقط عنهم الجمعة

الذين تسقط عنهم الجمعة: 446 - وعن طارق بن شهابٍ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعةٍ إلا أربعًة: مملوك، وامرأة، وصبي، ومريض". رواه أبو داود، وقال: "لم يسمع طارق من النبي صلى الله عليه وسلم". وأخرجه الحاكم من رواية طارقٍ المذكور عن أبي موسى. على رواية الحاكم يكون الحديث متصلًا قوله: "الجمعة حق واجب"، ما المراد بالجمعة؟ يعني: صلاة الجمعة، وقوله: "حق واجب" كلمة "واجب" صفة لحق، وهي في المعنى توكيد له، إذ إن الحق هو الشيء الواجب الثابت. وقوله: "على كل مسلم إلا أربعة" كلمة مسلم تخرج الكافر؛ لأن الكافر لا يخاطب بالجمعة، ولا غيرها من الصلوات، يخاطب أولًا بالإسلام. وقوله: "في جماعة" هذا بيان لكونها لا تصح على انفراد بل لابد أن تكون في جماعة، فإذا أضفت "واجب على كل مسلم في جماعة" فربما تشعر بأنه لابد من ثلاثة رجال فأكثر، يعني: عندنا هذا الذي أوجبناها عليه في جماعة قبله، وأقل جماعة في الصلاة اثنان في الجمعة ثلاثة. "إلا أربعة" أربعة معينون بالشخص أو بالوصف؟ بالوصف. أولًا: "مملوك" المملوك العبد ليس عليه جمعة؛ لماذا؟ لأنه مشغول بخدمة سيده، فإن كان مبعضًا بعضه حر وبعضه عبد هل تجب؟ ينظر إن كان بينه وبين سيده مهايأة بحيث يصادف يوم الجمعة الوقت الذي هو فيه مالك لمنفعته فإن الجمعة تجب عليه، ومعنى مهايأة أن يقول: "لك يا سيدي يوم ولي يوم"، فإذا كان كذلك وصادف الجمعة فإنه تلزمه؛ لأنه حينئذٍ مالك لنفسه في ذلك اليوم. ثانيًا: "وامرأة" لا تجب عليها الجمعة؛ لأنها ليست من أهل الجماعة والاجتماع مع الرجال. ثالثًا: "وصبي" لماذا؟ لأنه ليس من أهل التكليف، فقد رفع القلم عن ثلاثة منهم: "الصبي حتى يبلغ". رابعًا: "ومريض"، لماذا؟ لأنه لا يستطيع. الأربعة الآن من وجهة نظر ثانية "المملوك" الآن هل هو تخلف شرط أو وجود مانع؟ وجود مانع، "والمرأة" تخلف شرط، "والمريض" وجود مانع. فالمملوك لا تجب عليه الجمعة لوجود المانع، والمعروف من المذهب أنه لفوات الشرط؛

ولذلك لا يرون أن المملوك أهل لإمامة الجمعة ولا تكميل العدد - عدد الجمعة - على القول بأنها لها عددًا وهو المعروف بأن أقله ثلاثة، ويرون أيضًا أن المملوك لا تجب عليه الجمعة، ولو أذن له سيده وذلك لفوات الشرط، وقال بعض أهل العلم إن المملوك تجب عليه الجمعة مطلقًا، وأن حق الله مقدم على حق السيد، وأن هذا الحديث ضعيف ضعفه أهل الحديث وقالوا أن المملوك كغيره من المكلفين تجب عليه الجمعة، وحق الله مقدم على حق الآدمي وهذا مذهب الظاهرية، واستدلوا بالعموم - عموم الآية-: } يايها الذين امنوا إذا نودى للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله {[الجمعة: 9]. وهو من المؤمنين فيجب عليه الحضور، وقال بعض العلماء: إن المملوك لا تجب عليه الجمعة لوجود مانع وهو اشتغاله بخدمة سيده، وبناء على ذلك إذا أذن له سيده وجبت عليه الجمعة؛ لأن المانع زال، وهذا القول أعدل الأقوال وأوسطها؛ لأن المملوك لا يملك نفسه في الحقيقة، فإذا كان هناك مانع يعني: كما إذا لم يأذن له سيده بالجمعة فإنه لا يستطيع أن يتخلص منه، فيكون معذورًا، وإذا أذن له زال العذر. فالصواب: أن عدم وجوب الجمعة على المملوك لا لاختلاف الشرط، ولكن لوجود المانع، هل نقول: إن مثله الأجير الحر؟ فيقال مثلًا: أنا مستأجر واحد يعمل عندي يوم الجمعة، فزمنه مملوك لي، لكنهم يقولون: إن هذا - أي: حضور الجمعة - مستثنى شرعًا ما شمله عقد الإجارة بخلاف المملوك، المملوك مملوك عينه ومنفعته لسيده، وأما المستأجر فلا، وبناء على ذلك يكون الجواب ما ذكر على أن الأجراء لا يجوز أن يدعوا الجمعة من أجل أن يقوموا بما استؤجروا عليه، نعم إذا كان هناك شيء يحتاج إلى حراسة ولم يمكن أن يقوم به سوى هذا الرجل، فإن الفقهاء - رحمهم الله - يرون أن ذلك عذر في ترك الجمعة والجماعة. وقوله: "وامرأة" المرأة لا تجب عليها الجمعة لفوات الشرط؛ لأنها ليست من أهل الجمعات والجماعة؛ ولهذا لا يصح أن تكون إمامة الجمعة، ولا تحسب من العدد المشترط في الجمعة لفوات الشرط. "وصبي" لفوات الشرط أيضًا؛ لأنه ليس أهلًا للتكليف فلا تلزمه الجمعة، بل ولا الجماعة، ولا غيرها من العبادات، لكنه يؤمر بالصلاة لسبع ويضرب عليها لعشر تأديبًا له وترويضًا له على العبادة، وليس لأنها واجبة عليه. "ومريض" المريض لا تجب عليه الجمعة لوجود المانع، وهو المرض الذي يمنعه من الصلاة، ولهذا لو حضرها المريض أجزأته وانعقدت به وصح أن يكون إمامًا فيها، وظاهر الحديث الإطلاق: "مريض" ولكنه علق بوصف وهو المرض لسبب وهو المشقة، فإذا كان المرض يسيرًا لا يشق معه حضور الجمعة، فإنه يجب عليه حضور الجمعة، فهنا المرض ليس

هو العلة لكن هو سبب العلة، والعلة الحقيقية هي المشقة، ولذلك لو كان هناك مشقة في غير مرض - كما لو كان هناك مطر ووحل - فإنه يجوز ترك الجمعة كما ثبت ذلك عن النبي - عليه الصلاة والسلام - لأنه فعل يجوز لأجل المشقة، فالمرض هنا ليس العلة ولكنه سبب العلة وهي المشقة، ولكنه إذا حضر أجزأته. 447 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على مسافرٍ جمعة". رواه الطبراني بإسنادٍ ضعيفٍ. يقول المؤلف: سنده ضعيف، وعلى هذا فلا يعتمد عليه من جهة إسناده، ولكن لننظر في معناه هل هو موافق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم أو مخالف؟ نقول: أما إذا كان الإنسان في سفر، يعني: جماعة مسافرون، فإنه لا جمعة عليهم، ولا تشرع لهم الجمعة، ولا تصح منهم الجمعة؛ لأن هدي النبي - عليه الصلاة والسلام - في أسفاره أنه لا يصلي الجمعة، ولو كانت واجبة لصلاها أو مشروعة لصلاها، فلما لم يفعل علم أنها ليست مشروعة وليست من هديه - عليه الصلاة والسلام-، وهاهو في أعدل مجتمع تجتمع الأمة فيه يوم عرفة كان يوم جمعة كما هو معروف في حجة الوداع وهل صلى الجمعة أو لا؟ لا، قال جابر: "فأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أمر بلالًا فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا". هذا في المجمع الكبير الذي سينفض الناس وهم يعرفون أنه ليس في السفر جمعة وهذا واضح في أن المسافر لا تجب عليه الجمعة في نفسه ولا تشرع له ولا تصح منه. أما إذا كان مسافرًا في بلد وسمع النداء فهل تلزمه الجمعة حينئذٍ إذا كان لا يتضرر بانتظارها، أو نقول: إنها لا تلزمه؟ المشهور من المذهب: أنه إن كان يلزمه الإتمام لزمته الجمعة في غيرها، وإن كان لا يلزمه الإتمام لم تلزمه لا بنفسه ولا بغيره؛ لأن الجمعة على المذهب لا تلزم الإنسان لا بنفسه ولا بغيره، وتلزمه بغيره لا بنفسه، وتلزمه في نفسه، ومعلوم الذي تلزمه بنفسه تلزمه بغيره من باب أولى. [زيادة توضيح]: المرأة مثلًا: لا تلزمها الجمعة لا بنفسها ولا بغيرها، حتى لو سمعت النداء لا يجب عليها أن تحضر، لا بنفسها ولا بغيرها، حتى لو أقيمت الجمعة لا يلزمها، المسافر الذي أقام في البلد مدة تقطع السفر على المذهب فوق أربعة أيام هذا يقولون: تلزمه الجمعة بغيره لا بنفسه، ما معنى ذلك؟ يعني: إن أقيمت الجمعة يلزمه حضورها، وإن لم تقم لم

تلزمه، وأيضًا هو نفسه لا يصح أن يكون إمامًا فيها ولا خطيبًا، ولا يحسب من العدد؛ لأنه ليس ممن تلزمه بنفسه، إذا كان هذا المسافر لا يلزمه الإتمام كما لو كانت نيته أن يقيم أقل من أربعة أيام وهذا التفريع على المذهب، أو كان مقيمًا لحاجة ولا يدري متى تنقضي فقد يبقى عدة سنوات فهذا الرجل يقولون: لا تلزمه الجمعة لا بنفسه ولا بغيره؛ يعني: أنه لو أقيمت ما يلزمه، عند عتبة المسجد ويسمع النداء لا نقول: ادخل صل لماذا؟ لأنه مسافر فلا تلزمه الجمعة لا بنفسه ولا بغيره، ولو دخل لا يكمل به العدد، ولا يصح خطيبًا، ولا يصح إمامًا، وبناء على كلامهم - رحمهم الله - المسافرون الآن الذين يسافرون للدراسة ويبقون أربع سنين، أو خمس، أو عشر سنين وهم يعلمون ذلك، هل يحسبون من العدد؟ لا، ولا تنعقد بهم الجمعة، ولا تلزمهم وإذا فعلوا لم تصح، وعلى هذا لو وجدنا ولاية من الولايات في أمريكا أو غيرها كل الذين فيها من المسلمين كلهم جاءوا للدراسة ليسوا مستوطنين ثم أقاموا الجمعة فإن الجمعة على المذهب لا تصح منهم ويلزمهم أن يعيدوها ظهرًا، فإذا قدموا إلينا مثلًا وهم قد أقاموا هناك خمس سنين، وقالوا المدة هذه كنا نقيم الجمعة نقول: لا تصح الجمعة منكم، كم يقضون؟ يقضون الجمعة ظهرًا خمس سنين، وهل يقضونها ظهرًا تامًا أو مقصورًا؟ تامًا على المذهب؛ لأنهم يقولون: إن من وجب عليه صلاة السفر ثم ذكرها في الحضر وجب عليه الإتمام أربعًا، هذا هو معنى قولنا: "تلزم بغيره أو بنفسه، أو لا تلزم لا بغيره ولا بنفسه". ولكن ظاهر الأدلة الصحيحة عندنا أن المسافر تلزمه الجمعة ولو كان لا يريد البقاء إلا يومًا أو يومين أو أكثر، ما دام سمع النداء يجب عليه الحضور لعموم قوله تعالى: } يأيها الذين أمنوا إذا نودى للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع {[الجمعة: 9]. هذا نداء عام، نقول: من أخرج المسافر الذي أقام ينتظر حاجته ثم يرجع من أخرجه من هذا العموم فعليه الدليل، وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى وهو الصحيح؛ لأنه ينبغي لنا إذا جاءنا عموم أن نحكم بهذا العموم على جميع الأفراد ما لم يرد تخصيص، هذه القاعدة الشرعية التي مشى عليها النبي - عليه الصلاة والسلام -، قال النبي - عليه الصلاة والسلام - لما علمنا أن نقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين - قال: "إذا قلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض"؛ إذن صار العموم يعم جميع الأفراد، مع أني في ظني أن المصلي ما كان يقصد بذلك وهو يسلم على الملائكة أنه يسلم على الأموات السابقين أو الأموات الذين سيأتون من الصلحاء، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أنه يسلم على كل عبد صالح في السموات والأرض، إذن} يأيها الذين أمنوا إذا نودى للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع {الآية [الجمعة: 9]. نحن قد عرفنا أن اسم الموصول يفيد العموم، وهذا المسافر من الذين آمنوا فيجب عليه السير إلى الجمعة.

448 - وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا". رواه الترمذي بإسنادٍ ضعيفٍ، قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء. هذا الحديث يقول: "إذا استوى"، معنى "استوى": علا عليه واستقر، "استقبلناه بوجوهنا" يعني: صرفنا وجوهنا إليه لأجل أن يطابق الوجه القلب، ولا شك أن كون الإنسان ينظر إلى الخطيب ببصره يقوي نظره إليه بقلبه، فلهذا يعطي النظر إلى الخطيب، يعطيه قوة في وعي الخطبة. وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند ولكنه من حيث المعنى قوي، إلا أنه كما قال بعض أهل العلم: خاص بمن كان قريبًا؛ بحيث إذا صرف وجهه عن الخطيب لا ينحرف عن القبلة، أما البعيد الذي لا يمكن إلا بانحرافه عن القبلة، فإن استقبال القبلة أهم ثم هو يعالج نفسه في إحضار قلبه، وبه نعرف أن الخطيب نفسه لا يلتفت، خلافًا لمن استحسنه من بعض الخطباء أن الخطيب يلتفت يمينًا ويسارًا، فنقول: الخطيب مقصود وليس بقاصد، الناس يتجهون إليه ولا يتجه إليهم هذا هو المعروف من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الإنسان المعلم فلا بأس به، وأيضًا إن التفات المعلم فيه فائدة لأجل تذكير الغافل وإيقاظ الذي ينعس حتى لا يحصل غفلة، المهم أن الخطيب يستقر على المنبر ويقصد - كما قال الفقهاء رحمهم الله - تلقاء وجهه، أما الذين حوله فيلتفتون إليه؛ لأنه أبلغ في حضور القلب فيتطابق الوجه والقلب في الاتجاه إلى الخطيب. - وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة. أحيانًا نسمع في كلام المحدثين "شاهد"، "متابع"، أو ما أشبه ذلك ما الفرق بين الشاهد والمتابع؟ الشاهد في المتن معناه: أن هذا المتن له شاهد من حديث صحابي آخر، وأما المتابعة فهي بأن يوافق الراوي لفظًا آخر، ثم إنها تكون تامة إذا كان الأخذ عن الشيخ، وتكون قاصرة إذا كان الأخذ عمن فوقه؛ أي: فوق شيخه. حكم الاعتماد على عصًا أو قوس للخطيب: 449 - وعن الحكم بن حزنٍ رضي الله عنه قال: "شهدنا الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام متوكئًا على عصًا أو قوسٍ". رواه أبو داود. قوله: "شهدنا" يدل على أن معه جماعة، وهو كذلك، عندي في الحاشية يقول: "قدمت إلى

النبي صلى الله عليه وسلم سابع سبعة، أو تاسع تسعة" فيكون معه جماعة، وهؤلاء - فيما يظهر - قدموا وفدا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان الناس يقدمون إليه وفودًا، كما أنه كان يبعث إلى الناس من يدعوهم إلى الله، وبهذا انتشرت الدعوة الإسلامية من المدين جميعًا مد من مكان الدعوة إلى مكان المدعوين، والمد الآخر بالعكس يأتي المدعوون إلى مكان الدعوة فينتفعون، نظير ذلك الآن أننا من هنا - من هذه المملكة - نعطي منحًا لأناس بعيدين يدرسون في الجامعة، ونبعث أناسًا يدعون إلى جهات بعيدة يدعون بعد أن يدرسوا فتكون الدعوة الإسلامية من الناحيتين تعطي فتتبع الناس وتفتح المجال لمن أراد أن يحضر ويتفقه في الدين. وقوله: "فقام متوكئًا على عصًا أو قوس" "أو" هنا للشك من الراوي، هل كان مع النبي صلى الله عليه وسلم عصًا أو قوس، هذا إذا كان الشك من الحكم نفسه، أما إذا كان الشك ممن بعده فيكون الشك هل قال: الحكم قوس أو عصًا؟ وقوله: "فقام متوكئًا" ما معنى التوكأ، أي: الاعتماد، وإنما يعتمد من أجل أن يكون أثبت له وأنشط وأقل تكلفًا، الاعتماد يعطي الإنسان قوة ونشاطًا وثباتًا كما أنه أيضًا يعفيه من الضعف أو يمنعه من الضعف. وقوله: "متوكئا على عصًا أو على قوس" أخذ أهل العلم من ذلك أنه يستحب للخطيب أن يعتمد على قوس أو عصًا، وزاد بعضهم: "أو سيف"، لكن السيف لم يرد عن النبي - عليه الصلاة والسلام -، إنما ورد القوس أو العصا، على أن ابن القيم رحمه الله يقول: إن اعتماده على القوس أو العصا إنما كان قبل أن يبنى له المنبر، أما بعد أن بني له المنبر فإنه لم يكن يعتمد على شيء، وربما يقال: إن مسألة الاعتماد ليست من المسائل التعبدية، وإنما هي مسألة ترجع إلى الحال التي تقتضيها، فإذا كان الخطيب يحتاج إلى الاعتماد لكونه ضعيف البدن، أو كبير السن، أو ليس عنده ما يعتمد عليه في الخطبة فإنه يأخذ العصا أو القوس من أجل أن يعتمد عليها، وأما إذا لم يكن كذلك فإننا لا نطلب منه أن يستصحب العصا أو القوس، وأما السيف فإننا لا نستحبه مطلقًا خلافًا لمن قال به من الفقهاء؛ وذلك لأنه لم يرد؛ ولأن فيه إرهابًا للناس، والمقام ليس مقام إرهاب؛ لأن الذي أمامه أعداء أو أولياء؟ أولياء فلا حاجة إلى أن نرعبهم بالسيف. وأما ملاحظة بعض العلماء بأنه إشارة إلى أن هذا الدين فتح بالسيف ففيه أيضًا نظر؛ لأن السيف إنما يستعمل عند الحاجة إليه، أما إذا لم يحتج إليه فإن الدعوة تكون بالبيان والعلم، والنبي - عليه الصلاة والسلام - دعا الناس بالبيان والعلم، وفتح صدور العالم بما جاء به من

13 - باب صلاة الخوف

الحق والهدى، وكثير من الناس أسلموا بدون سيف وبدون قتال، لكن لما رأوا محاسن الإسلام، وأنه الدين الموافق للفطرة والدين الذي يتكفل بقيام الإنسان بحق ربه، وحق عباده دخلوه، ولا يعرف قدر الإسلام إلا من عرف الجاهلية وعرف الأديان التي سواه، فحينئذٍ يعرف قدر الإسلام، ولا يعرف الإسلام أيضًا إلا كان أهله متمسكين به غاية التمسك؛ ولهذا كثير من غير المسلمين اليوم لا يجدون للإسلام الطعم الذي يجده الناس في سلف الأمة؛ لماذا؟ لأن الناس لم يتمسكوا به فيظن الناس الذين لم يدخلوا في الإسلام الآن أن هذه مناهج من وضع البشر؛ لأنهم لو عاملوا المسلمين وجدوا من بعضهم معاملة سيئة لا تدعوهم إلى الإسلام. والحاصل: أن هذا الحديث يدل على أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يتوكأ، ولكن هل هذا من هديه الدائم المستمر، أو إنما اتخذه لحاجة قبل بناء المنبر؟ يرى ابن القيم رحمه الله أنه اتخذه لحاجة قبل بناء المنبر، وأما ما اطلعت عليه من كلام الفقهاء الآخرين فإنهم يرون أنه سنة مطلقًا والذي يترجح عندي أنه ليس من باب التعبد، وإنما هو من باب الحاجات، فمتى احتاج إليه الخطيب فإنه يعتمد على ذلك، ويكون مقصودًا لغيره، وإذا لم يحتج إليه فلا حاجة إليه. * * * 13 - باب صلاة الخوف صلاة الخوف أشار الله تعالى إليها بقوله: } فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا {[البقرة: 239]. وبقوله: } وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة فلتقم طائفة منهم معك ..... {إلخ [النساء: 102]. وقوله: "صلاة الخوف" هو من باب إضافة الشيء إلى سببه باعتبار صفته لا باعتبار أصل مشروعيته؛ لأن إضافة الشيء إلى سببه قد تكون باعتبار أصله، وقد تكون باعتبار صفته، فمثلًا إذا قلنا: "صلاة الكسوف" فهو باعتبار الأصل والصفة؛ لأن أصلها الكسوف لولا الكسوف ما استحبت هذه، ثم لها صفة خاصة تتميز بها عن بقية الصلوات فهذا باعتبار الأصل والصفة، وإذا قلنا: "تحية المسجد" فهي باعتبار السبب، لكن باعتبار الأصل لا الصفة، لكن أصل مشروعية الركعتين هو دخول المسجد، وهنا صلاة الخوف باعتبار الصفة، أما الأصل فهي مشروعة ولو بدون، خوف الصلوات الخمس مشروعة ولو بدون خوف، فتبين أن إضافة الشيء إلى سببه إما أن يكون باعتبار أصله أو وصفه، أو أصله ووصفه، يعني: أن هذا السبب سبب لكونها على هذه الصفة، هذا السبب لمشروعيته أو عدم مشروعيته؟ هذا السبب لمشروعيته، وكونه على هذه الصفة كل من باب إضافة الشيء إلى سببه، فصلاة الخوف كونها على هذا الوصف المعين سببه الخوف، لكن أصل مشروعية الصلاة ليس هو من أجل الخوف، نأتي إلى صلاة الكسوف ما هو السبب في مشروعية الكسوف؟ الكسوف في أصلها وفي وصفها لأنها مشروعة وعلى

شروط صلاة الخوف

هذا الوصف المعين تحية المسجد ما سببها؟ دخول المسجد سبب لأصلها أو لوصفها؟ لأصلها؛ لماذا؟ لأن الوصف لم تتميز عن غيرها، الركعتان هما الركعتان لا تتميز. إذن صلاة الخوف لو قال لنا قائل: هل هي من باب إضافة الشيء إلى سببه؟ نقول: نعم، فإذا رد علينا وقال: إن الصلوات التي تصلى مع الخوف مشروعة من قبل الخوف، قلنا: باعتبار الصفة، لا باعتبار الأصل، يعني: الصلاة التي يكون سببها الخوف بحيث تقوم على هذه الصفة المعينة لا على أنها مشروعة لأجل الخوف، لكن كونها على هذا الوصف المعين سببه الخوف. شروط صلاة الخوف: واعلم أن من شروط صلاة الخوف أن يكون القتال مباحًا، فإن كان القتال محرمًا فإنه لا تصح فيه صلاة الخوف؛ لماذا؟ لأن صلاة الخوف شرعت على هذا الوجه تخفيفًا على المقاتلين، وإذا كان القتال محرمًا فإنه لا يناسب التخفيف عنهم؛ لهذا نقول له: اترك القتال وصل صلاة آمن. وهذه المسألة يمكن أن يقال فيها ما يقال في حل أكل الميتة للمسافر سفرًا محرمًا، فإن العلماء اختلفوا فيمن سافر سفرًا محرمًا هل يجوز له أكل الميتة عند الضرورة أو لا؟ فالمشهور من المذهب: أنه لا يحل له أكل الميتة عند الضرورة حتى لو مات لا يأكلها، لماذا؟ لأن السفر محرم، وأكل الميتة رخصة، وإن كان رخصته واجبة فماذا نقول له؟ نقول له: تب وكل وارجع إلى بلدك، ويمكن أن يفرق بينها وبين السفر المحرم، أو بين جواز أكل الميتة في السفر المحرم، فالمهم: أنه يشترط عندنا أن يكون القتال مباحًا، فإن كان محرمًا فإنه لا يصلي صلاة الخوف، ولكن يجب أن نعرف الفرق بين رجل مدافع ورجل مهاجم فيما إذا كان القتال محرمًا كالقتال بين المسلمين فإنه يجب أن نفرق بين رجل مهاجم ورجل مدافع، أيهم الذي يحرم عليه؟ المهاجم، أما المدافع فإنه معذور، بل مأمور بان يدافع عن نفسه؛ ولهذا في قتال الخوارج وقتال أهل البغي الجانب الذي فيه الإمام معذور ويصلي صلاة الخوف، والجانب الآخر غير معذور فلا يصلي صلاة الخوف بناء على اشتراط أن يكون القتال مباحًا. الصفة الأولى لصلاة الخوف: 450 - عن صالح بن خواتٍ رضي الله عنه، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: "أن طائفًة من أصحابه صلى الله عليه وسلم صفت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعًة، ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى،

فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم". متفق عليه، وهذا لفظ مسلم. - ووقع في المعرفة لابن منده، عن صالح بن خواتٍ، عن أبيه. قوله: "عمن صلى" مبهم، وإبهام الصحابي لا يضر؛ لأن أهل العلم بالحديث يقولون: إن جهالة الصحابي لا تقدح في صحة الحديث؛ وذلك لأن الصحابة كلهم عدول عند أهل السنة إلا من ثبت في حقه ما ينافي ذلك، وهذا في المبهم لا يتحقق، ثم إن الصحابة - رضي الله عنهم - كما قال شيخ الإسلام إذا كان صدر عن أحد منهم ما صدر من الذنوب فإن لديه مكفرات تكفر هذه الذنوب، منها مثلًا فضل سابقته في الإسلام وفي بدر كما في حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حيث تجسس على المسلمين في مكاتبته قريشًا لما استأذن عمر رضي الله عنه أن يقتله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". المهم أن جهالة الصحابي لا تضر، هذا هو المعروف عند أهل العلم بالحديث. وقوله: "يوم ذات الرقاع" الرقاع جمع رقعة، وهي من الجلود أو نحوها، وسميت بذلك لأنهم كانوا مشاة كثير منهم ونقبت أقدامهم من الأرض، فصاروا يلبسون أو يلفون على أرجلهم رقاعًا للوقاية فسميت بهذا الاسم. وقوله: "صلاة الخوف" هل ترونها مصدرًا أو مفعولًا به؟ إذا قلت: "صليت صلاة الظهر" مفعول به؛ لأن الفعل وقع عليها، هذا هو الفرق بين المفعول به والمفعول المطلق، المفعول به يكون الفعل وقع عليه، والمفعول المطلق يكون دالًا على أحد مدلولي الفعل الذي هو المعنى. قال: "أن طائفة من أصحابه صلى الله عليه وسلم صفت معه" وطائفة بالرفع أو بالضم؟ جائز الأمرين، قال ابن مالك: وجائز رفعك معطوفًا على ... منصوب إن بعد أن تستكملا "وطائفة وجاه العدو" وجاه؛ أي: مقابل، قبل وجهه، و"العدو" المراد به: الكافر، فالكافر عدو للمؤمن بلا شك: } يأيها الذين امنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء {[الممتحنة: 1]. فأعدى الأعداء هو من عداك من أجل الدين؛ لأن عداوته - والعياذ بالله - أصيلة في قلبه. يقول: "وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا

وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم". هذا الحديث صورته: قسمهم النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى قسمين، ولابد أنه أعلمهم بذلك قبل أن يصلي وإلا ما عرفوا كيف يتصرفون، طائفة وجاه العدو تحجزه أن يهجم عليهم وطائفة أخرى تصلي معه صلت معه ركعة كاملة، ولما قام بقي قائمًا - عليه الصلاة والسلام - والذين معه أتموا لأنفسهم، يعني: ركعوا وسجدوا وتشهدوا وسلموا، وانصرفوا، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم وحده في هذه الحال هل هو إمام أو لا؟ الآن ما معه أحد ثبت قائمًا ولابد أنه يقرأ؛ لأن الصلاة ليست فيها سكوت فلابد أن يقرا، لكن ما نعرف ماذا قرأ، فجاءت الطائفة الأخرى التي كانت وجاه العدو إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم فكبروا ودخلوا معه وركعوا معه وسجدوا معه حتى جلس للتشهد وهم قاموا وهو باق على جلوسه، ثم قرءوا وركعوا وسجدوا وجلسوا للتشهد مع الرسول - عليه الصلاة والسلام -، ثم بعد ذلك سلم بهم. انظر العدل في الإسلام الطائفة الأولى أدركت معه تكبيرة الإحرام، والطائفة الثانية أدركت معه التسليم، فكان ذلك من تمام العدل، والنبي - عليه الصلاة والسلام - أراد منهم أن يكونوا جماعة واحدة وإلا فإمكانه أن يقول: أنتم في هذا الوقت احرسوا وأنتم صلوا معي، ويقول للحارسين في الوقت الثاني: صلوا معي، وأولئك يحرسون، لكن من أجل أن يشعروا بأنهم أمة واحدة وطائفة واحدة جعلهم النبي - عليه الصلاة والسلام - ينقسمون هذا الانقسام وإن حصل فيه شيء من المخالفات لكنها تغتفر من أجل المصلحة والاجتماع. شروط هذه الصفة: هذه صفة هذه الصلاة، فإذا قال قائل: ما شرط هذه الصلاة؟ قلنا: شرطها ألا يكون العدو في جهة القبلة، فإن كان العدو في جهة القبلة ما نصلي هذه الصلاة، نصلي بصفة أخرى ستأتينا - إن شاء الله تعالى - قريبًا، وأما إذا كان العدو يمينًا أو يسارًا، أو خلفًا في هذه الجهات الثلاث فنصلي هذه الصلاة، هذه الصفة توافق ظاهر القرآن؛ ولهذا قال الإمام أحمد في صلاة الخوف، أنها جائزة على جميع الوجوه التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "وأما حديث سهل - يعني: ابن أبي حثمة - فأنا أختاره"، إنما اختاره رحمه الله من أجل موافقته لظاهر القرآن: } وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم {[النساء: 102]. يقول: "ووقع في المعرفة لابن منده، عن صالح بن خوات، عن أبيه"، الآن تعارض عندنا تعيين مسلم وتعيين ابن منده، فأيهما يقدم؟ الجمع الآن ممكن فنقول: رواه عن صالح، وعن أبيه، فحينئذٍ يكون الجمع غير متعذر، وكلما أمكن الجمع فهو أولى؛ لأننا إذا رجحنا فمعناه: إلغاء

إحدى الروايتين، هذه الصورة كما قلنا هي الموافقة لظاهر القرآن في قوله: } فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم {[النساء: 102]. ومن قوله في الطائفة الثانية: } ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك {[النساء: 102]. أما الطائفة الأولى فما أدركت الصلاة كلها حقيقة وحكمًا؛ لأنه قال: } فلنقم طائفة {، والثانية أدركتها حقيقة وحكمًا؛ لأنه قال: } فليصلوا معك {، ولأن الطائفة الثانية كبرت مع الإمام وسلت مع الإمام، والطائفة الأولى كبرت مع الإمام وسلمت قبل الإمام. حكم حمل السلاح في صلاة الخوف: في القرآن ذكر الله عز وجل: } وليأخذوا أسلحتهم {، فيجب أخذ السلاح لهذه الصلاة، لا نصلي ونجعل أسلحتنا بالأرض، يجب أن نأخذ الأسلحة، وحمل السلاح هنا واجب أو سنة؟ وإذا قلنا بالوجوب فهل تصح الصلاة بدونه أو لا تصح؟ الصحيح: أنه يجب أو يستحب حسب الحاجة، وعند الشك نقول: الأصل في الأمر الوجوب فيجب الحمل، ثم هل تصح الصلاة بدونه أو لا؟ ذهب بعض أهل العلم إلى أن الصلاة لا تصح بدونه، والصواب: أن الصلاة تصح بدونه، لأن هذا ما يعود إلى الصلاة وإنما يعود إلى الحذر، فليس له تعلق بالصلاة، ثم إن الله عز وجل قال في الطائفة الثانية: } فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم {، وفي الأولى قال: } وليأخذوا أسلحتهم {، وهنا أوجب أمرين: أخذ الحذر والأسلحة؛ لماذا؟ لأن في الطائفة الثانية قد يكون العدو عرف أنهم يصلون فتأهب للهجوم بخلاف الطائفة الأولى، فالعدو قد يكون غافلًا وهذا من براعة القرآن، ومن حكمة الله عز وجل في إرشاد عباده إلى ما فيه مصلحتهم وإلى الحذر من أعدائهم قال: } وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم {، ثم إن أهل العلم قالوا في هذا الباب يجوز أن يحمل السلاح ولو كان نجسًا للضرورة حتى لو فرض أن فيه نجاسة من دماء لم تغسل على القول بنجاسة دم الآدمي، أو لو كانت من جلود نجسة أو ما أشبه ذلك، لقد اختلفت الأسلحة الآن، ولكن على كل حال الذي يحمل منها يحمل، والذي لا يحمل لابد أن يكون عنده أحد حارس له وحارس للمقاتلين. يستفاد من هذا الحديث: وجوب صلاة الجماعة، من أين تؤخذ؟ يعني: إذا كان أمر بها حال القتال فدونه من باب أولى. ويستفاد من الحديث: حسن تدبير الرسول - عليه الصلاة والسلام - حيث قسم أصحابه إلى قسمين على الوجه المذكور. ومن فوائده أيضًا: أن صلاة الخوف الركعة الثانية أطول من الأولى بخلاف سائر الصلوات فإن الركعة الأولى أطول من الثانية. ومن فوائد الحديث: جواز الانفراد للحاجة، من أين تؤخذ؟ من أن الطائفة الأولى انفردت،

الصفة الثانية لصلاة الخوف

قال أهل العلم: وكذلك لو أن الإنسان احتاج في أثناء الصلاة إلى الخروج من الصلاة مثل أن يفاجئه بول أو غائط أو ريح شديدة ما يستطيع معها البقاء فله أن ينفرد بشرط أن يستفيد من انفراده، ما معنى يستفيد؟ بأن تكون صلاته إذا انفرد أخف من صلاته مع الإمام، فإن كان الإمام يخفف ولا يمكن أن تكون صلاته إذا انفرد أخف منه، فإنه لا ينفرد، لماذا؟ لأنه لا يستفيد من الانفراد شيئًا، قال العلماء: فإن زال العذر فله أن يرجع مع إمامه وله أن يستمر في انفراده؛ يعني: مثلًا: افترض أنه هاجت معدته؛ يعني: احتاج أن يتقيأ وخاف فعجل لكن هبطت المعدة فله أن يرجع مع إمامه. ومن فوائد الحديث: العدل بين الرعية، وجه ذلك: أن النبي جعل كل طائفة تصلي ركعة معه: طائفة تدرك تكبيرة الإحرام وطائفة تدرك التسليم. الآية الكريمة هل تدل على أن الطائفتين مؤتمتين بالإمام أو لا؟ ظاهر الآية أن الذين مع الإمام هم الذين معه حقيقة وحكمًا، والأولى حكمًا لإدراكهم ركعة، ودليله من الآية قال الله تعالى: } فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا {فأثبت انفرادًا: } ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا {قال: } فليصلوا {ولم يقل: فليقوموا؛ ولهذا قال العلماء: إن الثانية مؤتمة به حقيقة وحكمًا والأولى مؤتمة به حكمًا. ومن فوائد الحديث: وجوب الحزم أو اتخاذ الحزم في الأمور، من أين يؤخذ؟ التقسيم في الطائفتين هذا من الحزم. الصفة الثانية لصلاة الخوف: 451 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجدٍ، فوازينا العدو، فصاففناهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، وركع بمن معه ركعة، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاءوا، فركع بهم ركعًة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحدٍ منهم، فركع لنفسه ركعًة، وسجد سجدتين" متفق عليه، واللفظ للبخاري. قوله: "غزوت" الغزو معناه: الخروج إلى الجهاد، وقوله: "قبل نجد" أي: جهة نجد، وعلى هذا فهي ظرف مكان منصوبة على الظرفية، وقوله: "نجد" قال العلماء: هي ما ارتفع من الحجاز، وحدودها: حدود الحجاز من الغرب والعراق وما والاه، والشام وما والاه، واليمن من الجهات الأخرى وقوله: "قبل نجد" لم يبين هذه الغزوة أي غزوة هي، والمهم هو الحكم، أما تعيين الغزوة أو أحيانًا يحرص الإنسان على تعيين الرجل الذي حصل منه القصة وما أشبه ذلك فهذا ليس بذات أهمية؛ لأن المهم الحكم.

الصفة الثالثة لصلاة الخوف

قال: "فوازينا" أي: قابلنا، "العدو"، وهم: الكفار المحاربون، "فصاففناهم" يعني: كنا صفا تجاههم. "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، وركع بمن معه وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاءوا فركع بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة، وسجد سجدتين"، هؤلاء من؟ هنا اختلف الحديث الثاني والأول، هذا الحديث لما صلى بالطائفة الأولى ركعة انصرفت الطائفة الأولى وهي على صلاتها، وقامت وجاه العدو وهي على صلاتها، ثم جاءت الطائفة الثانية فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم الركعة التي بقيت وسلم، ثم قاموا وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدو ورجعت الطائفة الأولى فأتمت لنفسها، فاختلف عن الأول اختلافًا عظيمًا، وفيه عن الأول أن الطائفة الأولى ذهبت تقاتل وهي على صلاتها مع أنها ستستدير القبلة وسيحصل منها أفعال كثيرة، ولكنه يرخص في ذلك لأجل الضرورة والحاجة، وفي هذا الحديث: دليل على أن الحركات الكثيرة في الصلاة لا تؤثر إذا كانت للضرورة، وقد سبق لنا تقسيم حركات الصلاة إلى خمسة أقسام منها: الجائز وهو الكثير للضرورة، ويدل لذلك قوله تعالى: } فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا {[البقرة: 239]. ومن فوائد هذا الحديث الزائدة على ما سبق: أنه يجوز عدم استقبال القبلة أيضًا للضرورة؛ لأن هؤلاء استدبروا القبلة للضرورة، وكذلك يسقط استقبال القبلة إذا كان الإنسان عاجزًا عنها، وكذلك يسقط استقبال القبلة في التنفل في السفر على الراحلة أو راجلًا. ويستفاد من هذا الحديث: أن الطائفة الثانية أتموا بعد سلام الإمام، والحديث الأول سلموا مع الإمام فأتموا قبل أن يسلم الإمام، ولا نظير لها في الحديث الأول، أما هذا فهو على القواعد: "ما فاتكم فأتموا"، الآن عندنا صفتان أيهما أرجح لو أراد الإنسان أن يرجح؟ الأولى أرجح؛ لأن لها ميزات؛ ولأن فيها سلامة من الأعمال الكثيرة التي في أثناء الصلاة؛ ولهذا قال الإمام أحمد: أما حديث سهل فأنا اختاره، إذن عندنا صفتان. الصفة الثالثة لصلاة الخوف: 452 - وعن جابر رضي الله عنه قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوف، فصففنا صفين: صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى السجود، قام الصف الذي يليه ... ". فذكر الحديث.

- وفي رواية: "ثم سجد وسجد معه الصف الأول، فلما قاموا سجد الصف الثاني، ثم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني ... ". وذكر مثله وفي آخره: "ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعًا". رواه مسلم. يقول جابر: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم والعدو بيننا وبين القبلة"، الجملة هذه حالية من فاعل غزونا، والفاعل هو "نا"، وقوله: "فكبر ... إلخ" يعني: تكبيرة الإحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمهم بأن يفعلوا ما ذكر كبروا جميعًا وصفوا صفين، وكبروا جميعًا وهم يشاهدون العدو، ثم ركعوا جميعًا، ثم رفعوا من الركوع جميعًا، كل هذا ليس فيه محذور عليهم؛ لأنهم يشاهدون العدو، ولكن عند السجود لو سجدوا جميعًا عدا عليهم العدو، لكن الرسول - عليه الصلاة والسلام - جعلهم على قسمين؛ انحدر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود وانحدر الصف الذي يليه معه، وأما الثاني فظل واقفًا في نحر العدو، فلما قضى السجود قام الصف الذي يليه يعني قام هو والصف الذي يليه، فلما قاموا انحدر الصف المؤخر بالسجود؛ لأنهم ما سجدوا، ثم لما قاموا تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم مراعاة للعدل حتى لا تكون الطائفة الأولى هي الصف الأول في كل الصلاة، في الركعة الثانية قاموا جميعًا وركعوا جميعًا ورفعوا جميعًا، وسجد النبي صلى الله عليه وسلم هو والصف الذي يليه، وبقي هؤلاء قيامًا، ولما جلس النبي صلى الله عليه وسلم للتشهد انحدر الصف المؤخر القائم للسجود فسجد سجدتين وجلس ثم سلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم. شروط هذه الصفة: فهذه الصفة تجوز أيضًا، لكن اشترط العلماء لجوازها شرطين: الأول: أن يكون العدو تجاه القبلة. والشرط الثاني: ألا يخافوا كمينا يأتيهم من الخلف، فإن خافوا كمينًا يأتيهم من الخلف يرجعون إلى الوجوه الأخرى، إنما إذا تم الشرطان فإنهم يصلون هذه الصلاة، وهذه الصلاة كلنا نعلم أن الجماعة كلهم شاركوا النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير وفي التسليم، اختلفوا في المكان - تعاقبوه - صار الذين في الصف الأول رجعوا إلى الصف الثاني، والعكس في الركعة الثانية. * هذه الصفة يستفاد منها فوائد: الفائدة الأولى: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على العدالة بين أصحابه. الفائدة الثانية: أنه كلما أمكنت المتابعة فهي الواجبة، وجهه: أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - جعلهم يقومون جميعًا ويركعون جميعًا، ويرفعون جميعًا، ولم يدع المتابعة إلا في حال الضرورة، فدل هذا على وجوب متابعة الإمام كما دلت عليه الأحاديث الأخرى، مثله قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ...... إلخ". فالمتابعة واجبة.

الصفة الرابعة لصلاة الخوف

ويستفاد من هذا الحديث: أن من تخلف عن الإمام لعذر فإنه يقضي ما تخلف به ويتابع الإمام، لنفرض مثلًا أنك ما سمعت تكبيرة للركوع كبر الإمام للركوع ورفع وأنت ما سمعت ما دريت إلا وهو ساجد ماذا تصنع؟ تركع وترفع وتلحق به؛ لأنك تخلفت لعذر، وعلى هذا فيؤخذ من هذا الحديث هذه الفائدة العظيمة التي قد تقع لبعض الناس إما لثقل السمع، أو لانقطاع صوت الإمام، أو لأي سبب من الأسباب، المهم: أن تقضي ما سبقك به الإمام إلا في حالة واحدة إذا وصل الإمام إلى مكانك فإنك لا تخالفه تعتبر أن الركعة التي فيها هي هذه الركعة وتقضي ركعة وليس هذا سهوًا بل هو عذر، وهذه الصورة تقع كثيرًا في مكبر الصوت، ربما يكون مسجد الجمعة فانقطع الصوت في الركعة الأولى وكان يقرأ} سبح اسم ربك الأعلى {. وانقطع الصوت فبقيت واقفًا فما أن لبثت حتى سمعته يقرأ: } هل أتاك حديث الغاشية {؛ إذن عرفنا الآن أنه في الركعة الثانية فتعتبر هذه الركعة الأولى بالنسبة لك، قال أهل العلم: وفي هذه الحال تكون لك ركعة ملفقة من الأولى والثانية بالنسبة للإمام شاركته في الأولى والثانية، فإذا سلم تأتي بركعة. ويستفاد من هذا الحديث: جواز العمل للتقدم إلى الصف؛ يعني: أنه يجوز للإنسان أن يتحرك للتقدم إلى الصف، من أين يؤخذ؟ من تقدم الصف الثاني إلى الصف الأول. ويستفاد منه: الرجوع أيضا، كيف ذلك لنفرض أنك دخلت المسجد وفيه رجلان يصليان فتدخل معهما، أين يكون موضعك أنت والمأموم الآخر؟ خلف الإمام، فيرجع المأموم فهنا رجع لمصلحة المصافة. 453 - ولأبي داود: عن أبي عياشٍ الزرقي مثله، وزاد: "إنها كانت بعسفان". الصفة الرابعة لصلاة الخوف: 454 - وللنسائي من وجهٍ آخر عن جابرٍ رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفةٍ من أصحابه ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بآخرين ركعتين، ثم سلم". 455 - ومثله لأبي داود، عن أبي بكرة. هذه صفة رابعة، وكيفيتها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أصحابه فيها قسمين: قسم وجاه العدو، والقسم الثاني صلى بهم ركعتين، وسلم وانصرف، فصارت الصلاة معه تامة من أولها إلى آخرها

لما انصرفوا وجاه العدو ورجعت الطائفة التي كانت وجاه العدو فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين فكانت هذه الصلاة ركعتين ركعتين للنبي صلى الله عليه وسلم وللجماعة. الرسول ركعتان والطائفة الأولى وركعتان للطائفة الثانية، ولم تخالف هذه القواعد إلا في مسألة واحدة وهي أن الإمام كان متنفلًا بالنسبة للطائفة الثانية وخلفه مفترضون، وقد أخذ الإمام أحمد رحمه الله بهذه الصفة، وهي مما استثني على المذهب؛ لأن المشهور من مذهب الحنابلة أنه لا يصح ائتمام مفترض بمتنفل إلا في هذه المسألة من وجوه صلاة الخوف؛ وإلا فيما إذا كان الخلاف بحسب اعتقاد الإمام والمأمومين ليس بحسب الحقيقة، ولكن بحسب الاعتقاد مثل أن تصلي خلف إمام صلاة العيد هو يعتقد أنها نافة، وأنت تعتقد أنها فريضة؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إن صلاة العيد نفل، وليست بفرض، لقول النبي - عليه الصلاة والسلام - لما سأله الأعرابي: "هل علي غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع". قالوا: فلو كان الإمام يرى أن صلاة العيد نفل وأنت أيها المأموم ترى أنها فرض جاز لك أن تصلي خلفه؛ لأن الصلاة هنا واحدة لكن اختلفت بحسب الاعتقاد، ومثلها أيضًا على قياس المذهب إذا كنت تصلى خلف إمام يرى أنها نافلة، وأنت ترى أنها واجبة فستصلي فريضة خلف متنفل بحسب اعتقاده، ولكن تقدم لنا أن القول الراجح في هذه المسألة: أنه يجوز أن يقتدي المفترض بالمتنفل، وأن هذا منصوص أحمد رحمه الله في رجل جاء في رمضان ووجدهم يصلون التراويح فدخل معهم يريد صلاة العشاء، قال الإمام أحمد: فهذا جائز، وهذه فريضة خلف نافلة، وسبق لنا أن من الأدلة على ذلك حديث معاذ، وسبق لنا أن من قال: إن حديث معاذ لم يعلم به الرسول - عليه الصلاة والسلام - فإن وجهه مردود من وجهين: الوجه الأول: أن هذا أمر بعيد، لاسيما وأن معاذًا قد شكي إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يطول في الصلاة بالناس؛ فحاله يظهر أنها بائنة للرسول - عليه الصلاة والسلام - والشيء الثاني: الوحي أنه على فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم به فقد علم به الله، والرب - سبحانه وتعالى - لا يقر أحدًا على منكر أبدًا، ولهذا لما أخفى المنافقون ما يخفون فضحهم الله فقال: } يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول {[النساء: 108]. واستدل الصحابة ومن بعدهم على جواز العزل عن المرأة عند الجماع بأن الصحابة كانوا يفعلونه والقرآن ينزل. فالمهم: أن هذه المسألة هي أحد وجوه صلاة الخوف وصورتها: أن يصلي الإمام ركعتين بطائفة ويسلم بهم، ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم ركعتين فتكون

الصفة الخامسة لصلاة الخوف

له نافلة ولهم فريضة، وقلنا: إن هذا مما استثنى على مذهب الحنابلة، والعجيب: أن بعض أهل العلم كالطحاوي (رحمة الله عليه) يقول: إن هذه الصفة منسوخة، لماذا؟ قال: لأنه لا يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل، وهذا من أعب ما يكون؛ لأي: عجيب أن ننسخ النصوص بآراء المذاهب فهذا من أبعد ما يكون، فيقال: أين النص الذي يدل على أنه لا يجوز ائتمام المفترض بالمتنفل حتى نقول: إنه نسخ، ثم إن من شروط النسخ ألا يمكن الجمع فإذا أمكن الجمع لأن نحمل هذا على صلاة الخوف كما حملها فقهاء الحنابلة حملناه فلا ينسخ، ثم لابد من شرط آخر وهو العلم بالتاريخ. فالحاصل: أن هذه الصفة أحد وجوه صفات صلات الخوف وهي جائز أيضًا. الصفة الخامسة لصلاة الخوف: 456 - وعن حذيفة (رضي الله عنه): "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة، وبهؤلاء ركعة، ولم يقضوا". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان. 457 - ومثله عند ابن خزيمة: عن ابن عباس (رضي الله عنهما). هذه أيضًا صفة خامسة، وهي أن يصلي الإمام ركعتين وكل طائفة ركعة فيقسم قسمين، ثم يصلي بالطائفة الأولى ركعة وتسلم الطائفة الأول، ثم تنصرف وجاه العدو، وتأتي الطائفة الثانية ثم تدخل معه في الركعة الثانية، وتسلم معه، فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة، وهذا كما تعلمون يعتبر تغيير كيفية وكمية بالنسبة للمأمومين، وقد اختلف فيها أهل العلم، فقال بعض أهل العلم: إنه لا مدخل للخوف في نقص العدد، وقالوا: إن هذه الرواية ضعيفة، ولا تقبل. وقال بعض العلماء: إن الرواية صحيحة، وأنه قد صح عن ابن عباس (رضي الله عنهما): "أن صلاة الخوف ركعة واحدة، وأن صلاة السفر ركعتان، وأن صلاة الحضر أربعة". فقالوا: إن هذه الصفة صحيحة، وإنها جائزة، وللضرورات أحكامها، والقاعدة التي أسس الإمام أحمد (رحمه الله) مذهبه عليها في هذه المسألة أنها تجوز؛ لأنه قال: تصح بكل وجه صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وبناء على ذلك فإن هذا الوجه يكون صحيحًا خلافًا للمشهور من المذهب، وهو أن العدد لا ينقص من أجل الخوف، ولكن الصحيح: أنه ينقص وأنه يجوز، ولكن هذه الصفات الخمس التي ذكرها المؤلف هناك أيضًا صفات أخرى لم يذكرها بعض عدها إلى أكثر من ثمانية عشر وجهًا، ولكن القاعدة أن كلما ورد عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فإنه يفعل، ثم هذا الفعل هل هو على

التخيير والتشهي أو على تقدير المصلحة؟ صوابه: أنه تخيير مصلحة، وأن الإمام يرى ما هو أصلح، وكلما أمكن اجتماع الجماعة واتحادهم فإنه أولى، ما الدليل؟ حديث جابر أنه لما كان العدو بينهم وبين القبلة لم يقسمهم الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فهذا دليل على أنه كلما أمكن في الصفات هذه كلها أن يكون الناس جميعًا على الإمام فإنه أولى وهذا هو الأصل، ولكن في بعض الأحيان تأت ظروف ما يتمكن الجيش أو الإمام بالصلاة جماعة على الإمام فجعل الله في الأمر سعة وفروجًا. ثم إنه إذا قدر أن الأمر لا يمكن، يعني: ما يمكن الجماعة لشدة القتال والتحام العدو بالمسلمين فماذا يصنعون؟ قال بعض أهل العلم: يؤخرون الصلاة حتى يأمنوا ويصلونها صلاة أمن، واستدل هؤلاء بفعل النبي (صلى الله عليه وسلم) في الخندق بأنه أخر. وقال آخرون: لا يجوز أن يؤخروا بل الواجب أن يصلوا في الوقت، ولكن على حسب حالهم إلى القبلة أو إلى غيرها بالإيماء أو بالركوع أو بالسجود حسب الحال؛ لقوله تعالى: {فإن خفتم فرجالًا أو ركابًا} (البقرة: 239). ولكن ما هو الجواب عن فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) في غزو الخندق؟ قال بعض أهل العلم: إنها لم تشرع بعد، وإنما شرعت بعد ذلك، فالرسول فعلها قبل أن تشرع صلاة الخوف. وقال آخرون: بل الجواب: انه إذا كان الناس في شدة عظيمة ما يتمكنون من مراقبة الصلاة لا بالقول، ولا بالفعل، ولا بالقلب: زاغت الأبصار وبلغت القوات الحناجر، ففي هذه الحال لهم أن يؤخروا لأنهم كيف يصلون؟ والذي يحس بذلك من هو في الموقف ففي هذه الحال يؤخر، وأما إذا كان الأمر في شدة لكن يتمكن من استحضار صلاته بقلبه ومما يقدر عليه من الإيماء فإنه يجب عليه أن يصليها في الوقت، وقد ذكر أنس بن مالك (رضي الله عنه) أنهم كانوا في إحدى الحصون في تستر- بلد من بلاد الأهواز- كانوا منهضين ذلك الحصن، وكان اشتغال القتال عند طلوع الفجر، فلم يتمكنوا من الصلاة، وأخروها إلى أن تعالى النهار عند زوال الشمس، فصلوا وفتح الله لهم وكان معهم أبو موسى الأشعري (رضي الله عنه)، يقول أنس: ما أحب أن يكون لي بهذه الصلاة الدنيا وما فيها. فهذا يحمل على ما إذا كان الخوف شديدًا جدًا ما يتمكن الإنسان من أي قول. وذهب من أهل العلم من ذهب إلى أنه اشتد الخوف حتى إذا كان الإنسان ما يتمكن من الإيماء أنه يجزئ التكبير أو التسبيح أو التهليل، يقول: "سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر" ويجزئ هذا، قالوا: لأن الصلاة ذكر، فإذا تعذر فعلها على الوجه المعلوم

فكفى أن يطلق الذكر، حتى بعضهم قال: يكبر ولو تكبيره واحدة إذا لم يتمكن من "أي شيء" فإنه يكفي الذكر، وهذه الأشياء ربما نقول بهذا القول إذا كانت المعارك مستمرة؛ يعني: ما تهدأ مثلًا بين وقت وآخر بحيث لو أخروها لاجتمع عليهم فروض كثيرة، وشق عليهم قضاؤها، يمكن في هذه الحال أن نقول: إنه يجزئهم الذكر والتكبير، لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن: 16). هل الجمع بين الصلاتين جائز في القتال؟ نعم جائز، إذا كانت مشقة المطر تبيح لنا الجمع فكيف بمشقة القتال. ثم اختلف العلماء هل تفعل صلاة الخوف في الحضر أو هي خاصة بالسفر؟ فقال بعض أهل العلم: إنها لا تفعل إلا في السفر فقط لقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرون كانوا لكم عدوًا مبينًا} (النساء: 101). ثم قال: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} (النساء: 102). فذكر صلاة الخوف وهي معطوفة على قوله: {وإذا ضربتم في الأرض}، يعني: وإذا ضربتم في الأرض وإذا منت فيهم فتكون صلاة الخوف مخصوصة بالسفر، ولكن الصواب: أنها تكون في السفر والحضر؛ لأن العلة ليست السفر، ولكن العلة الخوف، والله يقول: {فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا} (البقرة: 239). فهذا مناط الحكم، وليس مناط الحكم السفر، بل مناط الحكم الخوف وعدم الإتيان بالصلاة على الوجه المعتاد، فإذا وجد ذلك القتال ولو كان على سور المدينة فإنه يجوز أن يصلوا صلاة الخوف؛ لأن العلة واحدة. 458 - وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "صلاة الخوف ركعة على أي وجهٍ كان". رواه البراز بإسنادٍ ضعيفٍ. ومتنه منكر، هذا الحديث ليس بصحيح؛ لأنه مخالف لهدي النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومخالف لقواعد الشريعة، فهل الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصلي صلاة الخوف ركعة على كال حال، على أي وجه كان؟ لا، إذن فهو شاذ من حيث العمل- عمل النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم هو شاذ من حيث قواعد الشريعة، ما الموجب بأن نجعلها ركعة على أي وجه كان؟ ليس هناك موجب، ثم سنده أيضًا ضعيف، فاجتمع فيه الشذوذ والنكارة مع مخالفة القواعد، والثالث ضعف الإسناد. 459 - وعنه مرفوعًا: "ليس في صلاة الخوف سهو". أخرجه الدارقطني بإسنادٍ ضعيفٍ. وهذا أيضًا مثله "ليس في صلاة الخوف سهو" ليس معناه: أنه لا يسهو الإنسان فيها، بل قد

14 - باب صلاة العيدين

يسهو؛ لأنها قد تكون أقرب للسهو من صلاة الأمن، والمعنى: أنه لا يلزم سجود السهو، وهذا أيضًا ضعيف، والصواب: أنها كغيرها إذا وجد فيها سبب وجوب السجود وجب السجود. **** 14 - باب صلاة العيدين قوله: "باب صلاة العيدين" من باب إضافة الشيء إلى سببه ووقته أيضًا، يعني: الصلاة التي تصلى في العيدين بسببهما، و "العيدين" تثنية عيد، والعيد اسم لما يعود ويتكرر لمناسبة من المناسبات، فكل ما يعود ويتكرر لمناسبة من المناسبات فإنه يسمى عيدًا، والأعياد الشرعية ثلاثة فقط وهي: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الجمعة، ليس هناك عيد سواها، وعلى هذا فما يدعي من الأعياد في مناسبات أخرى كما يسمونه العيد الوطني، وعيد انتصاب الرئيس وما أشبه ذلك، كلها أعياد محدثة لا تجوز في الإسلام؛ لأنه كما قال شيخ الإسلام (رحمه الله): العيد من الأمور الشرعية التي تتلقى من الشرع، ولهذا لما قدم النبي (صلى الله عليه وسلم) المدينة ووجدهم يلعبون في يومين اتخذوهما عيدًا قال" "إن الله أبدلكم بخير منهما عيد الفطر، وعيد الأضحى"، وهذا مما يدل على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يحب أن يبقى في الإسلام عيد الفطر، وعيد الأضحى. وعلى هذا نقول: الأعياد الشرعية ثلاثة، وهي: الأضحى، والفطر، ويوم الجمعة، وهذه أعياد عامة لجميع المسلمين، وهناك عيد خاص بأهل عرفة فإنه عيد لهم ولكنه للمناسبة الشرعية وهي الوقوف بعرفة. 460 - عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس". رواه الترمذي. قوله (صلى الله عليه وسلم): "الفطر يوم يفطر" ويجوز: "الفطر يوم يفطر الناس" فإن قلنا: "الفطر يوم" صار الخبر محذوفًا، والتقدير: كائن يوم، وإن قلنا: "الفطر يوم" صارت يوم هي الخبر والظرف إذا قصد عينه لا وقوع الشيء فيه صح أن يقع عليه العمل مثل قوله تعالى: {يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا} (الإنسان: 7). {يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار} (النور: 37). فهنا يصح أن نجعل "يوم" هي الخبر؛ لأنه مقصود بعينه، ويصح أن ينصب، وهو عندي منصوب على أن الخبر محذوف؛ أي: الفطر كائن يوم يفطر الناس. "والأضحى يوم يضحي الناس" "الناس" هنا عام أريد به الخاص، وهم المؤمنون المتبعون للسنة، فخرج بذلك الكفار، فلا عبرة بموافقتهم أو مخالفتهم، وخرج بذلك أهل البدع، فلا

عبرة بموافقتهم ولا بمخالفتهم، يوجد من أهل البدع من لا يفطر مع المسلمين ولا يصوم مع المسلمين، وإنما يجعل له وقتًا خاصًا في عبادته هؤلاء لا عبرة بهم، ولكن الكلام على المؤمن المتبع، فالفطر يوم يفطر والأضحى يوم يضحي. وقوله (صلى الله عليه وسلم): "الفطر يوم يفطر الناس" هل المراد: أن الفطر حكمًا عند الله يوم يفطر الناس ولو أخطأوا، والأضحى يوم يضحي الناس ولو أخطأوا، أو المعنى: الفطر لازم للإنسان إذا أفطر الناس، والأضحى لازم له إذا ضحى الناس؟ والفرق بينهما واضح على المعنى الأول يقول: "الفطر يوم يفطر الناس" أي: أن الناس إذا أفطروا فهو الفطر عند الله، ولو أخطأوا لو تبين أنهم يخطئون في فطرهم وأن شوال لم يدخل ما يضرهم، فالفطر يوم يفطرون والأضحى يوم يضحون، حتى لو تبين أن عيد الأضحى كان متقدمًا أو متأخرًا فإنه لا يضرهم، ولا يضرهم الوقوف بعرفة إذا كانوا حجاجًا، فيكون هذا الحديث منصبًا على ما إذا أخطأ الناس في تعيين يوم الفطر أو الأضحى فإن ذلك لا يضرهم. أما الوجه الثاني في تفسير الحديث: فالمعنى: أن الناس إذا أفطروا لزم كل واحد أن يفطر، وإذا ضحوا لزم كل واحد أن يضحي ولو كان على خلاف ما يراه هو، وكلا المعنيين صحيح؛ ولهذا قال العلماء في المسألة الأولى: لو أخطأ الناس فوقفوا في اليوم الثامن أو في اليوم العاشر فإن حجهم صحيح؛ لأن "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس"، وكذلك لو أخطأوا في مسألة الفطر فأفطروا وتبين أنه لم يدخل شوال فإنه لا يضرهم إذا أفطروا ذلك اليوم، وهل يلزمهم القضاء؟ يحتمل أنه يلزمهم القضاء؛ لأنه تبين أنهم أفطروا يومًا من رمضان، ويحتمل ألا يلزمهم لعموم قوله: "الفطر يوم يفطر الناس". أما المعنى الثاني في هذه المسألة: فإنه إذا أفطر الناس لزم الإنسان الفطر وإن لم ير الهلال، وإذا صام الناس لزم الإنسان الصوم وإن لم ير الهلال، وإذا لم يفطروا الناس لم يفطر ولو رأى الهلال، وإذا لم يصم الناس لم يصم ولو رأى الهلال، مثال ذلك: رجل رأى هلال رمضان وجاء عند القاضي يشهد، ولكن القاضي لم يعتبر شهادته فإنه لا يصوم؛ لأن الناس لم يصوموا، أو رأى هلال شوال بعينه وليس عنده فيه إشكال وجاء إلى القاضي، ولكن لم تقبل شهادته فإنه يلزمه أن يصوم؛ لأن الفطر يوم يفطر الناس هذا ما دل عليه الحديث. وهذا الحديث هذا اختلف العلماء في صحته مرفوعًا؛ فمنهم من قال: إنه موقوف على عائشة لكن له شاهد من حديث أبي هريرة. والمشهور من مذهب الحنابلة في هذه المسألة:

حكم صلاة العيد في اليوم الثاني إذا ترك لعذر

أما الوجه الأول فيقولون به، وأن الناس لو أخطأوا في الوقوف فوقفوا في الثامن أو في العاشر فإن حجهم صحيح، أما في المسألة اليوم والفطر فيفرقون بين الصوم والفطر يقولون: إذا رأى هلال رمضان وجب عليه الصوم، وعللوا ذلك بأن رمضان يثبت بشهادة الواحد، وكون القاضي لا يعمل بشهادة هذا الرجل لا يقدح في حقيقة الواقع، فنقول لهذا الرجل: صم، ولكن ينبغي أن يكون صومك سرًا لئلا تخالف الجماعة، وأما إذا رأى هلال شوال بعينه ولكن القاضي لا يعتد بشهادته؛ لأنه واحد أو لجهالته بحاله، أو ما أشبه ذلك قالوا: بأنه لا يفطر إلا مع الناس؛ لأن شهر شوال لا يثبت إلا بشاهدين، وهذا محله ما لم يكن في محل وحده في مكان منفرد عن الناس فإنه إذا كان منفردًا فالعبرة برؤيته هو؛ لأنه في هذه الحال لا يخالف الجماعة فهو جماعة نفسه، ولاسيما فيما سبق من الأزمان، حيث إن العلوم لا تصل إلى كل إنسان في كل مكان، إنما جاء المؤلف (رحمه الله) بهذا الحديث في هذا الباب- وإن كان محله في باب الصوم أليق- لقوله: "الفطر يوم يفطر الناس" والفطر عيد وهو عيد الفطر، والأضحى يوم يضحي الناس وهو عيد الأضحى، والصلاة تكون في هذين اليومين، هذا هو وجه المناسبة لذكر هذا الحديث في هذا الباب؛ لأن الصلاة لا تشرع إلا إذا ثبت أن هذا اليوم يوم عيد، وإلا فلا تشرع. حكم صلاة العيد في اليوم الثاني إذا ترك لعذر: 461 - وعن أبي عمير بن أنس، عن عمومةٍ له من الصحابة، "أن ركبًا جاءوا، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم". رواه أحمد، وأبو داود، وهذا لفظه وإسناده صحيح. "عمومة" جمع عم، وهم من الصحابة لكن مجهولون، يقول العلماء: إن جهالة الصحابة لا تضر؛ وذلك لأن الأصل فيهم العدالة، وعلى هذا فالجهل هنا لا يضر. وقوله: "أن ركبًا جاءوا فشهدوا" الركب: اسم جمع لراكب، مثل: رهط اسم جمع لجماعة من الناس، وليس له مفرد من لفظه، "جاءوا فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس"، وهؤلاء الركب أيضًا مجهولون ولكن لا تضر جهالة الصحابة، شهدوا عند النبي (صلى الله عليه وسلم) أنهم رأوا الهلال بالأمس- يعني: البارحة-، وهذا كان بالنهار، وقد غم الهلال على أهل المدينة ما علموا به، "فأمرهم"، قوله: "أمرهم" ظاهر سياق المؤلف للحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر هؤلاء الركب، ولكن لفظ

الحديث: "فأمر الناس"، يعني: أهل المدينة أن يفطروا، لماذا؟ لأنه ثبت أن اليوم من شوال، وإذا كان من شوال فإنه لا يجوز صومه، "وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم" يعني: يذهبوا في الغداة من أول النهار إلى مصلى العيد، وهو كان خارج المدينة. فف هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: نأخذ فوائد الحديث الأول: أولًا: سهولة الشريعة الإسلامية وأن الأمر إذا جاء على خلاف ما فعل الناس فإنه يعفي عنهم. ثانيًا: الحرص على اجتماع المسلمين والتئامهم وعدم تفرقهم في دينهم، ولهذا قال: "الفطر يوم يفطر الناس". الفائدة الثالثة: هذا الحديث ليس على عمومه في قولها: "الفطر يوم يفطر الناس"؛ وذلك لأن المراد به المسلمون المتبعون للسنة. وأيضًا فيه تخصص آخر: "الفطر يوم يفطر الناس" فيما إذا اتفقت مطالع الهلال، وأما إذا اختلفت فالصحيح أنه لا تلزم أحكام الهلال لمن لم يوافق من رآه في المطالع، والدليل على ذلك أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- قال: "إذا رأيتموه فصوموا". ومن خالفهم في المطالع لم يكونوا قد رأوه ولا في حم من رأوه، وسبق لنا أن هذه المسألة فيها عدة أقوال، وأن الراجح أنها تختلف باختلاف المطالع. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الإنسان يجب أن يكون تابعًا للجماعة لقوله: "الأضحى يوم يضحي الناس، والفطر يوم يفطر الناس". فوائد الحديث الثاني حديث أنس: يستفاد منه: أولًا: أنه إذا غم الهلال وجب تكميل الشهر، ولا فرق بين آخر الشهر وأول الشهر يعني: لو غم هلال رمضان هل نصوم أم لا؟ الصحيح أننا لا نصوم، وإن كان بعض أهل العلم يقولون بوجوب الصوم احتياطًا، ولكن الصواب خلاف ذلك. ومن فوائد الحديث: أن صلاة العيد إذا لم يعلم بالعيد إلا بعد وقت الصلاة فإنها تؤخر إلى الغد، فإن علم بها في وقت الصلاة تصلي؛ لأنه لا داعي للتأخير، وأما قول بعض العلماء على هذا الحديث: إن ظاهره أنها تؤخر إلى الغد مطلقًا فلا وجه له، نقول: هذا الظاهر مرفوع؛ لأنهم إذا علموا في الغداة فلا وجه للتأخير؛ لأنهم سيصلونها في اليوم الثاني في مثل هذا الوقت؛ ولهذا قال الفقهاء: إذا لم يعد بالعيد إلا بعد الزوال فإنهم يصلون من الغد.

ومن فوائد هذا الحديث: أن هذه الصلاة التي أخرت إلى الغد تكون أداء أو قضاء؟ تكون أداء؛ لأن عليها أمر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكل شيء عليه أمر الله ورسوله فإنه أداء أو في حكم الأداء، وعلى هذا فنقول: الصحيح أنها تصلى في اليوم الثاني أداء؛ لأنها بأمر النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولو كانت من باب القضاء لكانت تفعل إذا زال العذر وهو الجهل على حد قوله (صلى الله عليه وسلم): "من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها". على أن القول الراجح في مسألة النوم والنسيان أن فعل الصلاة بعد زوال النوم والنسيان يعتبر أداء كما سبق. أقسام قضاء الفوائت: يستفاد منه أيضًا: أن أقسام قضاء الفوائت- سواء سميناها قضاء أو أداء- تختلف، فمنها ما يؤدى على صفته حين زوال العذر، مثل: الصلوات الخمس فإنها تؤدي على صفتها حين يزول العذر لا ينتظر إلى وقتها، وأما فعل بعض العوام الذين يكونون عليهم فوائت فيقضون كل صلاة مع نظيرها فهذا لا أصل له، وذلك كأن يكون عليه من الصلوات ما مقداره خمسة أيام يصلي الظهر مع الظهر، والعصر مع العصر فتكون مدة القضاء كم يومًا؟ خمسة أيام، ولكن هذا ليس بصحيح، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) في غزو الخندق قضى خمس صلوات فاتته في هذا اليوم في وقت واحد ولم يؤخرها إلى الغد، فهذا الوهم الذي توهمه بعض العامة لا أصل له. الثاني: ما يقضي بدله على غير صفته، وهي الجمعة فإذا فاتت لا تقضى جمعة، وإنما تقضى ظهرًا، وكذلك الوتر على القول بأنه يشفع فإنه يقضى ولا يكون على صفة أدائه. الثالث: ما يقضى في نظير وقته، وهي صلاة العيد. والرابع: ما لا يقضى، وهي الصلوات ذوات الأسباب، كصلاة الكسوف مثلًا، فالإنسان لو لم يعلم بالكسوف إلا بعد انتهائه فهل يقضيها؟ لا يقضيها، فصارت الصلوات باعتبار القضاء على هذا النحو السابق أربعة أقسام. وفي الحديث أيضًا من الفوائد: وجوب صلاة العيد لقوله: "فأمرهم"، والأصل في الأمر الوجوب، وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يخرج العوائق وذوات الخدور مع أنه في غير صلاة العيد المشروع في حق المرأة ألا تحضر المساجد لكن في العيد أمرت أن تخرج، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم: فمنهم من يقول: إنها سنة وليست بفريضة لا كفاية ولا عينًا، ودليل هؤلاء حديث الأعرابي أنه سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا، أن تطوع". قالوا: فلما لم يبين الرسول (صلى الله عليه وسلم) دل ذلك على أنه لا يجب غير الصلوات الخمس.

وقال آخرون: بل هي فرض كفاية؛ لأنها من شعائر الدين الظاهرة، وما كان هذا سببه فإنه يكون فرض كفاية مثل الأذان فهو من الشعائر الظاهرة فكان فرض كفاية، فتكون هذه فرض كفاية؛ لأن المقصود أن يذهب الناس في ذلك اليوم إلى المصلى يصلون فيظهروا هذه الشعيرة. وقال بعض أهل العلم- ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية-: إنها فرض عين، وأنه يجب على الإنسان أن يصليها؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر بها حتى الحيض، وذوات الخدور، والعوائق، وهذا يدل على أنها واجبة، لو لم تكن واجبة ما أمر بها الناس كلهم، وهذا القول أقرب إلى الصلوات. ويجاب عن حديث الأعرابي: بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما أعلمه بالصلوات المتكررة اليومية، فليس هناك شيء- غيرها- واجب؛ ولهذا يصح أن نستدل بحديث الأعرابي على عدم وجوب صلاة الوتر؛ حيث إنها يومية، وأما أن نقول: لا تجب صلاة الكسوف لحديث الأعرابي ولا تجب صلاة العيد لحديث الأعرابي، فهذا ليس بصحيح؛ ولهذا لو نذر الإنسان أن يصلي لزمه الوفاء بالنذر مع انه ليس من الصلوات الخمس، لكنه له سبب مستقل وصار به واجبًا، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "من نذر أن يطيع الله فليطعه". فالصواب: أن صلاة العيد واجبة؛ ولهذا لم يسقطها الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى في هذه الحال التي لم يعلموا بها إلى أن فات أو النهار. وفي الحديث من الفوائد: استحباب صلاة العيدين في المصلى لقوله: "أن يغدوا إلى مصلاهم" فالأفضل أن تكون خارج البلد في الصحراء، ولا فرق بين المدينة وغيرها من البلدان، أما المسجد الحرام فإن صلاة العيد فيه، وعللوا ذلك بأن مكة أودية، وشعاب، وجبال وليس فيها مكان صالح للصلاة؛ لأنهم يصلون جوار الكعبة؛ لأنهم لو تفرقوا في هذه الأودية والشعاب صار في ذلك مشقة، وبه نعرف أن المدينة الأفضل أن تقام صلاة العيد فيها في الصحراء في الخارج لا في المسجد. ومن فوائد الحديث: أن الأفضل في صلاة العيدين التكبير لقوله: "أن يغدوا" يعني: يذهبوا غدوة، ولكن لا ينافي هذا أنه يسن التأخير في صلاة الفطر؛ لأن المراد تأخير لا يخرجها عن كونها في الغداة. وفيه أيضًا من الفوائد: أنه لا ينبغي تعنيت الشاهد وإحراجه بان يقال: كيف رأيت الهلال؟ هل هو دقيق أو غير دقيق؟ أين اتجاهه؟ إلى الجنوب أو إلى الشرق؟ ما يعنت إذا شهد يقبل، اللهم إلا إذا كان متهمًا إما بالكذب وإما بقلة الضبط، بحيث ما ضبط الهلال مثلًا، فهذا ربما نقول للقاضي أن يتحرى وأن يسأله كيف رأيت الهلال؟ وأما أن كل شاهد نحضره ونقول كيف رأيته؟ فربما يمتنع ويدع الشهادة، فهذا الحديث يدل على أنه لا يعنت الشاهد، ولا أن يوصف

من السنة أكل تمرات قبل الخروج لعيد الفطر

الهلال، ولكن إن حصل من القاضي شك في شهادته فلا حرج عليه أن يتحرى، وذلك في كل الشهادات. من السنة أكل تمرات قبل الخروج لعيد الفطر: 462 - وعن أنس (رضي الله عنه): "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمراتٍ وتراتٍ". أخرجه البخاري. - وفي روايةٍ معلقةٍ ووصلها أحمد: "ويأكلهن أفرادًا". هذا الحديث يقول: "لا يغدو يوم الفطر" ما معنى الغدو؟ الخروج في الغدوة التي هي أول النهار، وقوله: "يوم الفطر" يعني: من رمضان وهو يوم العيد، "حتى يأكل تمرات" وهي جمع، وأقل الجمع ثلاثة، لاسيما وأنه هنا أكد بقوله: "يأكلهن أفرادًا". وقوله: "كان لا يغدو حتى يأكل" تقدم لنا أن "كان" تقيد الاستمرار غالبًا، وقوله: "في رواية معلقة"، المعلقة معناها: التي حذف أول إسنادها، وقد ذكر أعل العلم أن البخاري إذا ذكر التعليق جازمًا به دل ذلك على صحته عنده، لكن البخاري (رحمه الله) أحيانًا يصل سياقًا بسياق سابق، ويقول: قال فلان، فيظنه من يراه أنه معلق ولكنه يكون بالإسناد السابق، وهذا لابد من العلم به، يعني: حمل المعلق الذي أتى به بعد السياق الأول لابد أن يكون هناك قرينة تدل على أنه علقة بالإسناد الأول، وإلا فالأصل أنه معلق مطلقًا كما في هذه الرواية التي أشار إليها المؤلف هنا. وقوله: "معلقة ووصلها أحمد" يعني: في المسند، قال: "ويأكلهن أفرادًا"، لكن لفظ البخاري: "ويأكلهن وترًا"، وفرق بين يأكلهن وترًا، ويأكلهن أفرادًا؛ لأن أفرادًا يعني: ضد الجمع لا يكون اثنين جمعًا أو ثلاثة جمعًا، ولكن وترًا ضد الشفع، يعني: معناه يكون آخرها وترًا ثلاثًا، أو خمسًا أو سبعًا، أو تسعًا .. إلخ، على كل حال: لاحظ أن تأكلها وترًا كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم). 463 - وعن ابن بريدة، عن أبيه (رضي الله عنهما) قال: "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يخرج يوم الفطر حتى يطعن، ولا يطعن يوم الأضحى حتى يصلي". رواه أحمد، والترمذي، وصححه ابن حبان. قوله: "كان لا يخرج" نقول فيها كما قلنا في الأول، وقوله: "حتى يطعن"، أي: يأكل طعامًا، وهذه مجملة من حيث النوع ومن حيث العدد هو جنس الطعام، لكن ما نوع الطعام الذي

يأكله أيأكل خبزًا أو شعيرًا، أو ماذا يأكل؟ بينه الرواية السابقة وهي تمرات، لكنها أيضًا مجملة من حيث العدد، وبينتها الرواية السابقة، لكن في الأضحى "لا يطعن يوم الأضحى حتى يصلي"، وفي رواية أخرى وإن كان فيها مقال: "ويأكل من أضحيته". وفي بعضها تعيين ذلك من الكبد. ففي هذين الحديثين تستفيد: أولًا: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان في عيد الفطر يأكل قبل أن يصلي، فما هي الحكمة من كونه يأكل قبل أن يصلي؟ قال أهل العلم: الحكمة في ذلك المبادرة إلى تحقيق الفطر في هذا اليوم؛ لأن هذا اليوم يوم يجب فطره ويحرم صومه، فإذا أكل من أوله دل ذلك على المبادرة، بماذا؟ بتحقيق فطر ذلك اليوم مثل ما يسن للصائم أن يبادر بالفطر إذا غابت الشمس، فنقول: هنا للأكل لأجل المبادرة بذلك. ومن فوائد الأكل: أنه يعينه على أداء الصلاة، فإن الإنسان إذا قام من الليل في الغالب يكوم بطنه خاليًا فإذا أكل نشط، وقد يقول بعضكم: ومن فوائده: التأخر في صلاة العيد. وقد يقول آخر: لا ليس هذا من الفائدة؛ لأنه بإمكانه أن يتأخر بدون أكل، إذن فتلغي هذه الفائدة. ثم قوله: "تمرات"، لماذا خص التمر دون غيره من الخبز أو الطبيخ أو نحو ذلك؟ أولًا قد يقول قائل: لأن ذلك هو الذي يوجد غالبًا في بيته كما حدثت بذلك عائشة أنه يمضي الشهران والثلاثة ما يوقد في بيته نار صلوات الله وسلامه عليه، "قالوا: فما طعامكم؟ قالت: الأسودان التمر، والماء". وقد يقال: إن تخصيص التمر ليس على سبيل التعبد لكن على أنه الميسور، والرسول (صلى الله عليه وسلم) كان لا يتكلف مفقودًا ولا يرد موجودًا، كان يمشي على الأحوال كما كان صابرًا على الضراء شاكرًا على السراء، وقد يقال: إن ذلك من باب التعبد بدليل أنه أمر الصائم أن يفطر على التمر فيكون في التمر خصوصية ليست في غيره، وهو كذلك هذا هو الأقرب، بمعنى: أنه اختار التمر لذلك، وقد نقول: إن العلة الأمران جميعها، وهو أنه هو الميسور غالبًا عنده (صلى الله عليه وسلم)، وأنه أفضل من غيره؛ لأن التمر جمع بين ثلاث صفات: غذاء، وفاكهة، وحلوى، والرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يحب الحلوى، ويعجبه ذلك؛ لأن الحلاوة خلق المؤمن، وأشبه شيء من بالمؤمن الأشجار هو النخلة التي هي صاحبة هذا التمر فيكون لذلك مزية، حتى إن بعضهم قال: إنه يؤثر في القلب في صلاح القلب، وقال الأطباء: إنه يؤثر في زيادة النظر، وقد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "أنه من تصبح بسبع تمرات من العجوة"، وفي لفظ: "من تمر العالية لم يضره ذلك

اليوم سم ولا سحر". وهذه وقاية عظيمة، وعمم بعض أهل العلم ذلك إلى غير هذا التمر، وقال: إن النص على تمر العالية ليس لخصوصية فيه وأن المقصود التمر مطلقًا، ولهذا ينبغي للإنسان في كل يوم يفطر على سبع تمرات؛ لن فيها فائدة لمسها كثير من الناس، إذن نقول: الظاهر: أن تخصيص التمر راجع للأمرين ولا مانع. وقوله: "يأكلهن وترًا" لماذا خص الوتر؟ قالوا: لأن الله وتر يحب الوتر وتبركًا به. ثم أخبر ابن بريدة عن أبيه أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، وهذا الإجمال بينه أنس، وهو (رضي الله عنه) من أخص الناس بالرسول (صلى الله عليه وسلم)؛ لأنه كان من خدمه، وأخبر أنه لا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي، والحكمة هي أن الإنسان مأمور بالأكل من تسكه في يوم الأضحى، أليس الله يقول: {فكلوا منها}؛ أي: الأضحية، فإذا كان لدينا أكل متعد به مأمور به شرعًا فالأفضل أن يكون أول ما يلاقى معدتنا في هذا اليوم هو هذا الأكل المأمور به شرعًا ليكون تناوله تعبدًا؛ ولهذا كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يؤخر الأكل حتى يأكل من أضحيته. وفيه أيضًا فائدة: وهي أن الإنسان إذا قيل له: إن الأفضل ألا تأكل يوم الأضحى إلا من أضحيت أول شيء بادر إلى ذبحها؛ لأن النفوس مجبولة على محلة الأكل وتناول ما تشتهيه، فيكون في ذلك مصلحة وهي المبادرة بذبح الأضحية، ولا شك أن المبادرة بالذبح أفضل، حتى كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يذبح أضحيته في المصلى وليس في بيته (صلى الله عليه وسلم)، إذن كان تأخير الأكل يوم الأضحى له فائدة وتقديمه في عيد الفطر له فائدة أيضًا، وليس يوم الأضحى وإن كان يومًا يجب فطره لكنه ليس بعد يوم يجب صومه بخلاف عيد الفطر فإنه بعد يوم يجب صومه، ثم إن عيد الأضحى يسن فيه تقديم الصلاة، وعيد الفطر بالعكس يسن فيه تأخير الصلاة، فكون الإنسان ينتظر حتى يأكل ثم يخرج ربما يكون في ذلك تأخر، فلهذا كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يأكل يوم عيد الأضحى حتى يرجع ويأكل من أضحيته. يستفاد من الحديث الأول: أنه يشرع للإنسان أن يأكل قبل الذهاب إلى صلاة عيد الفطر تمرات أقلها ثلاث وأكثرها ما تتحمله معدته، لكن ينبغي أن يكون ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه، فإن لم يجد تمرًا فهل الأكل مقصودًا لذاته، أو نقول: إذا لم تجد تمرًا فلا تأكل؟ الصحيح: الأول، بمعنى: أن المعنى الأول الأكل مقصودًا لذاته، وربما نأخذه من حديث ابن بريدة، عن أبيه: "حتى يطعن" فإن هذا داخل فيه، ثم نقول: التمر حلوى، وغذاء، وفاكهة، فإذا لم

حكم خروج النساء لصلاة العيد

يجد التمر وجدنا غيره مما فيه الغذاء والطعم، وقد قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن: 16). إذن إذا بم يجد التمر فليأكل ما سواه، ولكن هل يختار الحلو، أو نقول: ما شئت؟ قال بعض العلماء: يختار الحلو؛ لأنه أقرب إلى التمر وهذا صحيح، وحينئذ يغمس الخبر بالعسل ويأكله، ولكن كم قطعة من الخبو يجعل بدل التمر؟ ثلاث قطعات، أو خمسًا حسب ما يكون. ويستفاد من الحديث أيضًا: قطع هذا الأكل على وتر، وذلك من قوله: "يأكلهن وترًا"، ثم هل نقيس على ذلك ما سواه، ونقول: كل الأكل ينبغي أن تقطعه على وتر، أو نقول: لا نقيس؛ لن تخصيص الصحابي لتمر يوم العيد بالوترية يدل على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان لا يراعي ما سواه في ذلك: أيهما؟ الظاهر- والله أعلم- الثاني أن ما سواه نلاحظ قطعه على وتر إلا بدليل، ويبقى الكلام على ما كان معروفًا بين العامة عندنا من أنه إذا صب لك فنجان شاء، وقلت: بس، قال: أوتر، فهل يكون هذا الكلام صحيحًا، وله أصل في الشرع، أو نقول: الرسول (صلى الله عليه وسلم) يتغدى ويتعشى دائمًا ولم ينقل عنه أنه كان يلاحظ ذلك، وكذلك الصحابة بين يديه يأكلون، لم يذكر عنه أنه يلاحظ اللقيمات التي يأخذها من الصحفة بحيث تكون سبعة أو سبع عشرة أو ما أشبه ذلك؟ الثاني هو الصحيح؛ لأنه لم ينقل، فلما لم ينقل ذلك مع كثرته وتكرره، ونص على بعض الأشياء صار الحكم مختصًا بتلك الأشياء، وهذا هو الأقرب عندي. ولكن يبقى أن يقول قائل: ألم يثبت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "إن الله وتر يحب الوتر"؟ بلى، إذن كيف لا يقول قائل: إنه ينبغي لنا أن نوتر في كل شيء؟ نقول: معنى الحديث: أن الله (عز وجل) شرع لعباده عبادات كثيرة كلها تقطع على وتر لأنه يحب الوتر، ولا يلزم من ذلك أن يكون سبحانه وتعالى- شرع لعباده أن يجعلوا حتى عاداتهم مقطوعة على الوتر، والدليل أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان لا يراعي هذا، ولو كان ذلك من الأمور المحببة إلى الله لكان أول الناس إثباتًا لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيكون معنى: "أن الله وتر يحب الوتر" أي: فيما شرعه، ولذلك تجد المشروعات كلها مقطوعة على وتر في الليل والنهار والصيام وتر شهر واحد، الطواف وتر، والسعي وتر، والوقوف وتر، والمبيت في المزدلفة وتر، ويمنى وتر، والرمي وتر، فهذا هو الأقرب، والله أعلم. حكم خروج النساء لصلاة العيد: 464 - وعن أم عطية (رضي الله عنها) قالت: "أمرنا أن نخرج العواتق والحيض في العيدين يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصلي". متفق عليه. أم عطية (رضي الله عنها) أنصارية، وكانت امرأة نشيطة ولها أعمال جليلة، من جملتها أنها كانت ممن

يغسل الموتى من النساء، فهي امرأة لها أعمال جليلة، تقول: "أمرنا أن نخرج" "أمرنا" هذا الفعل مبني للمجهول والآمر فيه هو الرسول (صلى الله عليه وسلم) وإذا قال الصحابي: "أمرنا" فالآمر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وإذا قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "أمرنا" فالآمر هو الله (سبحانه وتعالى) مثل قوله: "أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم". تقول: "أمرنا أن تخرج العواتق والحيض في العيدين" العواتق: هن الفتيات الأبكار البالغات، والمقاربات للبلوغ، وقيل: إن العواتق: هم النساء ذوات الأحساب اللاتي لا يخرجن للأسواق، ولا يبرزن، وقيل: إنهن الحرائر، ومنه: أعتقت الأمة، أي: حررتها، وعلى كل حال: فالمراد: أن النساء اللاتي لا عادة لهن بالخروج أمرن أن يخرجن. وقولها: "الحيض" جمع حائض، والحيض معروف، هو: الدم الطبيعي الذي يصيب المرأة في أيام معلومة إذا بلغت، "في العيدين": الأضحى، والفطر، "يشهدن الخير" الحاصل بالصلاة والذكر ودعوة المسلمين؛ لأنهم يدعون في ذلك المكان، والذي يباشر الدعوة وتكون دعوته عامة مجهورًا بها هو الإمام، فهو يدعو في الصلاة ويدعو في الخطبة، أو في الخطبة فقط؟ لا، في الخطبة والصلاة يقول: {اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} (الفاتحة: 6 - 7). وهذا دعاء. وقولها: "ويعتزل الحيض المصلي"، قولها: "ويعتزل" هو بالرفع عندي، فتكون الواو هنا استئنافية، ويجوز أن تكون بالنصب، وتكون معطوفة على " أن نخرج" يعني: وأمرنا أن يعتزل الحيض المصلي، والحيض: جمع حائض، والمصلي: مكان الصلاة الذي يصلون به؛ وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) في العيدين ما كان يصلي في مسجده، بل كان يصلي خارج البلد. ففي هذا الحديث: "أمرنا أن نخرج العواتق" دليل على الأمر بالخروج إلى الصلاة لعموم الناس؛ لأنه أمر أن يخرج هؤلاء فمن سواهم ممن يعتاد الخروج من رجال ونساء من باب أولى. فيستفاد منه: وجوب صلاة العيد، واختلف أهل العلم فيها- بعد اتفاقهم على أنها سنة، وأنها من الشعائر الظاهرة-، على ثلاثة أقوال: منهم منى يقول: إنها سنة. ومنهم من يقول: إنها فرض عين. ومنهم من يقول: إنها فرض كفاية. أما الذين قالوا: بأنها سنة فحملوا الأوامر فيها على الاستحباب استنادًا إلى الحديث المشهور وهو: "أعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة". حديث معاذ

وحديث الرجل الذي أعلمه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بشرائع الإسلام، فقال: هي على غيرها؟ قال: "لا، وإلا أن تطوع". قالوا: هذا الحديث يدل على أنه لا يجب على المرء سوى خمس صلوات، ومنها صلاة العيد غير واجبة، والذين قالوا بأنها فرض كفاية قالوا: إن هذه أمر بها وهي من الشعائر الظاهرة، والشعائر الظاهر في الإسلام لابد أن تكون موجودة؛ لأنها مظهر من مظاهر الإسلام؛ وذلك وجب الأذان على المسلمين عمومًا، وصار فرض كفاية؛ لأنه من الشعائر الظاهرة، والدليل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا نزل بقوم سمع أذانًا أمسك، وإن لم يسمع أغار عليهم، ودل هذا على أن الشعائر الظاهرة هي العلامة التي تميز بيد دار الكفر ودار الإسلام، وإذا كان كذلك فلابد أن يكون للإسلام في دار الإسلام طابع ظاهر يتبين به إن هذه دار إسلام، ويفرق فيه بينها وبين غيرها فتكون فرض كفاية، ويكون قوله: "هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع" يعني: من فروض الأعيان لا من فروض الكفايات. وقال بعض أعل العلم: إنها فرض عين كل واحد يجب أن يخرج، واستدل هؤلاء بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر النساء أن تخرج، ولو كان فرض كفاية لاكتفى بمن يحضر من الرجال، وهذا الأخير اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) وقال: إنه يجب على كل مسلم أن يخرج ويصلي العيد، فمن لم يفعل فهو آثم، وإن صلة غيره. والمسألة مترددة عندي بين فرض الكفاية وفرض العين، أما القول بأنها سنة فهو ضعيف جدًا، والاستدلال بحديث معاذ وبحديث الإعرابي استدلال به ضعيف أيضًا؛ لأنه يقال في الجواب عليه: إنما الصلوات الخمس الدائرة يوميًا لا جب سواها، والجمعة بدل عن الظهر فتكون داخلة فيه، وأما ما وجب بسبب فإنه خارج من ذلك الحصر، والدليل أن صلاة الكسوف ذهب كثير من أهل العلم إلى وجوبها، وأن تحية المسجد كذلك ذهب كثير أهل العلم إلى وجوبها، وأن الرجل لو نذر أن يصلي وجب عليه الوفاء بالنذر، وهي صلاة، وهذا متفق عليه، فدل هذا على أن المراد بالحديثين- حديث معاذ وحديث الأعرابي- الصلوات المتكررة اليومية لا يجب سوى الخمس نعم فيه دليل على عدم وجوب الوتر؛ لأن الوتر يتكرر كل يوم، ففي الحديث دليل على عدم وجوبه، وإما أن يبقى الأمر دائر بين فرض الكفاية وفرض العين، من قال بأنها فرض عين فإن قوله يتضمن القيام بفرض الكفاية وزيادة، وتحصل به إقامة هذه الشعيرة الظاهرة، ومن قال بأنها فرض كفاية يقول إذا حضر مع الإمام من يحصل بهم الواجب فإنه يسقط عن البقية، والمسألة عندي لم تتحرر تحررًا كبيرًا بالنسبة إلى أنها فرض كفاية أو فرض عين، لكن لا شك أن من أخل بها فهو على خطر.

مشروعية الخطبة بعد صلاة العيد

ومن فوائد الحديث: أنه يجوز أن يوجه الأمر إلى ذوي الرأس والتدبير، ويكون أمرًا لغيره مثل: "أمرنا أن نخرج"؛ لأن هذه المرأة- كما قلت لكم- من ذوات الرأي والعمل الجاد، ومن أمثلة ذلك: قول النبي (صلى الله عليه وسلم) لعمر بن الخطاب: "مره فليراجعها". فأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) عمر أم يأمر بمراجعتها، وقد يكون من ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم): "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع". ومن فوائد الحديث: أن مصلى العيد مسجد، ووجه ذلك: أنه أمر الحيض أن يعتزلن المصلى، وكونه يثبت له حكم من أحكام المساجد دليل على أنه من المساجد، وهو ما نص عليه فقهاء الحنابلة- رحمهم الله-، قال في المنتهي: ومصلى العيد مسجد لا مصلى الجنائز. ومن فوائد الحديث: أيضًا: أن اجتماع الناس على الخير وعلى الدعوة يكون فيه بركة ورجاء خير؛ لأن الحائض لا تشارك الناس في الصلاة، ولكن في الخير والدعوة. ومنها: جواز حضور الحائض الأماكن التي يجتمع فيها الناس؛ ولهذا تحضر عرفة، والمزدلفة، ومنى، والمسعى، لكن لا تطوف بالبيت؛ لأن البيت مسجد ولا يحل لها المقام فيه. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن دعوة المسلمين مجتمعة أرجى للقبول وأحرى لقولها: "ودعوة المسلمين"، في بقية الحديث قالوا: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب، قال" لتلبسها أختها من جلبابها"، الجلباب مثل العباءة، فدل ذلك على أن المرأة لا تخرج كما تخرج الرجال، بل لابد لها من شيء تتجلبب به حتى تستر بذلك عورتها، وهذا أحد الأدلة على وجوب احتجاب المرأة، وأنه لا يمكن أن تكون بارزة كما يبرز الرجال. مشروعية الخطبة بعد صلاة العيد: 465 - وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر، وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة". متفق عليه. وتقدم لنا "كان" تفيد الدوام والاستمرار غالبًا، يقول: "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة"، بخلاف الجمعة فهي تصلى بعد الخطبة، وسيأتي الفرق بينهما. قوله: "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمر". إذا قال قائل: ما فائدة ذكر أبي بكر وعمر، والحجة في فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) أليس كذلك؟

قلنا: بلى، الحجة في فعله، ولكنه يذكر فعل أبي بكر وعمر ليتبين أن الأمر لم ينسخ، وأنه بقي إلى ما بعد حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: ليستدل به على من خالف هدي الخلفاء من الأمراء أو غيرهم، مثل ما سيأتينا في سبب ذكر هذا الحديث، وكذلك أيضًا مثل ما ذكروا عن عثمان رضي الله عنه لمَّا كان في خلافته يقصر الصلاة في منى ثم أتمها، فكانوا يحتجون عليه بفعل الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأبي بكر وعمر. يقول: "كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة"، والحكمة من ذلك أو الفرق بينها وبين الجمعة: أن الجمعة الخطبة فيها شرط على القول الراجح ولابد منها، والشرط يتقدم المشروط، وأما الخطبة في العيدين فإنها سنَّة لو لم يخطب صحت الصلاة، ولا يجب حضورها واستماعها؛ فلهذا ترك الناس أحرارًا من صلى العيد وأراد الانصراف فلينصرف، بخلاف الجمعة فإنه يجب حضور الخطبة واستماعها، ومعلوم أنه لو قدمت خطبة العيد لكان من لازم ذلك أن يلزم الناس بالحضور والاستماع هذا هو الحكمة. ومن ثمَّ - وهي مسألة ليست من هذا الباب، لكن استطرادًا - يتبين أنه إذا اجتمع كسوف وصلاة فريضة مع اتساع الوقت لهما فالمقدم الفريضة، أولًا: لأنها أهم، والثاني: لأجل أن يترك الأمر لمن صلى الفريضة إن شاء بقي للكسوف، وإن شاء لم يبق، خصوصًا إذا قلنا: إن الكسوف سُّنَّة، وليست بواجبة، ولأن الفريضة أحب إلى الله عز وجل فينبغي أن تقدم على ما دونها، هذه المسألة استطرادية. يقول: "يصلون العيدين قبل الخطبة"، كلمة "الخطبة" مفرد، فهلي هذا من جنس الشامل للخطبتين أو أنها خطبة واحدة؟ أكثر الأحاديث على أنها خطبة واحدة، وأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يخطب في العيد خطبتين، لكن روى ابن ماجه أنه كان يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلوس؛ ألا أن الحديث ضعيف، وعلى هذا فيكون "قبل الخطبة"، "أل" هنا لبيان الحقيقة، معناه: أن الخطبة واحدة فقط. هذا الحديث حدث به الصحابة أولًا إحياءً للسُّنَّة وبيانًا لها، وثانيًا: لأن بعض الأمراء أو الخلفاء صاروا يقدمون الخطبة على الصلاة اجتهادًا منهم، وحرصًا منهم على تعلُّم الخير يستمعون إلى الخطبة فرأوا أن يقدموها، ولكن هذا الاستحسان استحسان باطل، ما الذي يبطله؟ النص، وهو نظير من قال: إن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أتم في منى، لأنه صار يصلي خلفه الأعراب والجهال، فخاف أن يظن الناس أن الصلاة ركعتان فقط فأتم لذلك، نقول هذا بعيد أن

صلاة العيد ركعتان بلا نفل

يلاحظه عثمان رضي الله عنه، لأن العلم في زمن عثمان انتشر أكثر من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - أحرص منه على ألا يضل الناس في فقه الدين، ومع ذلك كان لا يقصر الصلاة. فإذن نقول: إن الذين قدموا ذلك مثل مروان بن الحكم قدموا الخطبة على الصلاة أخطأوا وإن كان قصدهم حسنًا، ولا شك أن في مخالفة السُّنَّة فيه إثمًا في هذه الشعيرة؛ لأنك إذا قدمتها والناس كلهم يصلون ليس كلهم علماء يظنون أن الشرع هكذا، فإذا كان هذا الظن سيقع صار إنكاره واجبًا؛ ولهذا أنكر أبو سعيد على مروان حينما قدم الخطبة على الصلاة وهو محل إنكار، لأن الذي يقدم الخطبة على الصلاة مثل الذي يقدم السجود على الركوع وإن كانوا سُّنَّة، لكن ما دام هذا ورد عن الشرع مرتبًا فإنه يعمل به مرتبًا وإن كان التنظير بالنسبة للركوع والسجود، وصلاة العيد وخطبتها ليس من كل وجه، لكن قصدي أن ما ورد مرتبا فإنه ينكر علي من خالف ترتيبه ولا محل للاستحسان مع وجود الشرع. إذن يستفاد من هذا الحديث: مشروعية الخطبة في العيد، وأنها بعد الصلاة. صلاة العيد ركعتان بلا نفل: 466 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم صلَّى يوم العيد ركعتين، لم يصلِّ قبلهما ولا بعدهما". أخرجه السَّبعة. معلوم هذا لم يصلِّ قبلهما، لأنه بادر بالصلاة، ولا بعدهما؛ لأنه اشتغل بالخطبة. فيستفاد من هذا الحديث: ألَّا يسن قبل صلاة العيد صلاة ولا بعدها صلاة؛ لأن المشهور أن يؤدي صلاة العيد ثم ينصرف بعد الخطبة، هذا واضح جدًّا من الحديث. ولكن هل هذا شامل للإمام والمأموم، أو خاص بالإمام فقط؟ قال بعض أهل العلم: إنه خاص بالإمام فقط، لأن الإمام ينتظر ولا ينتظر، وأما المأموم فيشرع له أن يتطوع حتى يأتي الإمام كما يشرع ذلك في صلاة الجمعة، فإن المأموم يتقدم ويصلي إلى أن يحضر الإمام، فكذلك في صلاة العيد؛ لأن المحكيَّ هو عدم صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وليس فيه نهي والصلاة مرغَّب فيها، فإذا خرج وقت النهي فليقم المأموم وليتطوع ما شاء ولا حرج عليه في ذلك، لا نقول: إنها راتبة كصلاة الظهر مثلًا، ولكن نقول: إنها نفل جائز للمأموم بل إنه مستحب ولا تقول: إنه مستحب من أجل أنه مصلى عيد، لكن نقول: إنه مستحب، وهذا مذهب الشافعي، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يصلي بعدها في موضعها، وأن الإنسان لا

ينهى، فإذا فرغت الصلاة والخطبة فله أن يتنفل في مصلى العيد، ولا حرج عليه، وهذا القول كالذي قبله حيث يقول: إنه ما ورد النهي، والصلاة خير موضوع ومرغب فيها، فإذا لم يرد النهي فالأصل الإباحة، وأما كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ قبلها ولا بعدها فهو أيضًا في الجمعة لم يصلِّ قبلها ولا بعدها، ومع ذلك لا تكرهون للإنسان أن يتطوع في صلاة الجمعة قبل الإمام ولا بعد الصلاة. وقال بعض أهل العلم: إن تحية المسجد لا بد منها فيصليها، والأفضل أن يقتصر عليها، واستدل بفعل الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يصلون، قال: "لو كان هذا من الخير لكان الصحابة أسبق الناس إليه، ولكن تحية المسجد ثبتت بدليل آخر، فإذا جاء صلى تحية المسجد ثم جلس، ولأنه ربما إذا شرع في الصلاة يحضر الإمام، وحينئذٍ قد يبطل ما شرع فيه أو تفوته أول صلاة العيد، وهذا القول عندي أحسن الأقوال أنه إذا جاء لا يجلس حتى يصلي ركعتين. فإن قال قائل: كيف تقولون ذلك وهو مصلى وليس بمسجد؟ قلنا: هذا صحيح، أي: أنه مصلى، ولكن النبي - عليه الصلاة والسلام - جعل له أحكام المسجد، الدليل أنه منع الحائض من دخوله، ولولا أنه مسجد أو في حكم المسجد ما منع النبي - عليه الصلاة والسلام - الحيض أن يدخلنه، فهذا القول هو أعدل الأقوال، أما القول بأنّه يكره للإنسان حتى تحية المسجد وحتى لو كان بعد وقت النهي، فهذا قول لا وجه له، بل وهو ضعيف. ويستفاد من هذا الحديث: أن صلاة العيد ركعتان لقوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد ركعتين، لم يصلِّ قبلهما ولا بعدهما". ويستفاد منه: أن الفريضة تجزئ عن تحية المسجد إذا قلنا بأن صلاة العيدين فرض، بدليل أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يصلِّ تحية المسجد، ومثل ذلك الراتبة فإنها تجزئ عن تحية المسجد مثل لو دخلت لصلاة الفجر، وصليت ركعتي الفجر ولم تصل تحية المسجد أجزأ عنك وهو كذلك. وقد أخذ العلماء من هذا قاعدة وهي: أنه إذا اجتمع عبادتان من جنس وليس إحداهما مفعولة على وجه القضاء ولا على وجه التبعية للأخرى اكتفي بإحداهما عن الأخرى، واستدلوا بهذا الحديث، فهنا اجتمع عبادتان من جنس وهما الصلاة والتحية، وإحداهما ليست مفعولة. على وجه القضاء، ولا على وجه التبعية للأخرى، لئلًا يقول قائل: إن الفريضة تجزئ عن الراتبة؛ لان الراتبة تبعة للفريضة، فلا يكتفى بها عنها، وعلى هذا فنقول: إذا دخل المسجد وصلى الراتتبة أو الفريضة فلا يكتفى بها عنها، وعلى هذا فنقول: إذا دخل المسجد وصلى الراتبة أو الفريضة

صلاة العيد بلا أذان ولا إقامة ولا نفل

أجزأه ذلك عن تحية المسجد، فإن صلى الجنازة يجزئ أو لا؟ لا يجزئ يعني: لو دخل فوجدهم يصلون على الجنازة فصلى وهو يريد أن يبقى في المسجد فإنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين، لأن صلاة الجنازة ليست من جنس صلاة الركعتين، ولو دخل في مكة يريد الطواف كفى الطواف أو لا يكفي، الدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لمَّا دخل المسجد الحرام في الحج ماذا فعل؟ أول ما بدأ به الطواف، والتعليل أن الطائف بعدما ينتهي الطواف سيصلي ركعتين خلف المقام، واعلم أن بعض أهل العلم أطلق أنه يسن لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين ألا المسجد الحرام، لأن تحيته الطواف، وهذا الإطلاق فيه نظر، فيقال المسجد الحرام إن دخلته للطواف فتحيته الطواف، وإن دخلته لغير الطواف كما لو دخلته لتصلي أو لاستماع العلم أو ما أشبه ذلك فإنه كغيره من المساجد تحيته ركعتان. صلاة العيد بلا أذان ولا إقامة ولا نفل: 467 - وعنه رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى العيد بلا أذانٍ ولا إقامةٍ". أخرجه أبو داود. وأصله في البخاريِّ. خرج وصلى بالناس بدون أذان ولا إقامة ولا شيء. فيستفاد من هذا الحديث: أنه لا يؤذن لصلاة العيد، ولا يقام لها، ولا يعني ذلك أنها ليست بواجبة، فإنه ليس من شرط الوجوب أن يشرع الأذان والإقامة، فقد تجب الصلاة بدون أذان ولا إقامة كالمنذورة مثلًا، وكركعتي الطواف عند من قال بوجوبهما. وقوله: "بلا أذان ولا إقامة"، ولم يذكر شيئًا سواهما، فهل يشرع لهما نداء الكسوف؟ الصحيح: لا؛ لأنه لو كان مشروعا لنقل، ولو ثقل لبقي، ولكنه لا يشرع، خلافًا لمن قال من أهل العلم: إنه يشرع أن ينادي لصلاة العيد: "الصلاة جامعة"، وهذا هو المشهور مذهب الحنابلة، لأنهم يرون أنه ينادى للعيدين فيقال: "الصلاة جامعة"، ولكن هذا القول ضعيف، لأنه لم يرد عن النبي - عليه الصلاة والسلام - والأحاديث تنفي ذلك، فالصواب أنه لا ينادى لهما، نعم لو فرض أن ثبوت دخول الشهر جاء متأخرًا فلا حرج أن ينادى في الأسواق بنحو: "أخرجوا إلى المصلى"، وما أشبه ذلك، لأن هذا له سبب إذ إن الناس قد يظنون أنه لمَّا فات الوقت تترك الصلاة وما أشبه ذلك. * * *

صلاة العيد في المصلى

468 - وعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: "كان النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئًا، فإذا رجع إلى منزله صلَّى ركعتين". رواه ابن ماجة بإسنادٍ حسنٍ. هذا الحديث إسناده حسن عبد المؤلف، وبعض أهل العلم ضعفه وقال: إنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا ينافي حديث ابن عباس السابق، ولكن كثيرًا من الحفاظ ضعفوا هذا الحديث، وعلى تقدير ثبوته فهل نقول إن هاتين الركعتين راتبة لصلاة العيد، أو نقول إنهما ركعتا الضحى؟ الظاهر هذا إن صح الحديث. صلاة العيد في المصلى: 469 - وعنه رضي الله عنه قال: "كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلَّى، وأوَّل شيءٍ يبدأ به الصَّلاة، ثمَّ ينصرف فيقوم مقابل النَّاس والنَّاس على صفوفهم فيعظهم ويأمرهم". متَّفقٌ عليه. تقدم لنا أن "كان" تفيد الاستمرار غالبًا، وقوله: "المصلى" أي: مصلَّى العيد، وهو مكان معد لذلك، واعلم أن للنبي - عليه الصلاة والسلام - ثلاثة مساجد: المسجد الذي تقام فيه الصلوات الخمس وهو المعروف الآن، والثاني: مصلى الجنائز، والثالث: مصلى العيد، وهي معروفة في المدينة، فمصلى الجنائز كان يصلي على الجنائز غالبًا فيه، وربما يصلي على الجنازة في المسجد كما صلى على ابني بيضاء في المسجد، وأمَّا مصلى العيد فهو خارج البلد، يخرج النبي - عليه الصلاة والسلام - فيصلي فيه. قال: "وأول شيء يبدأ به الصلاة، "أول" خبر أو مبتدأ؟ مبتدأ، و"الصلاة" خبره، أول ما يبدأ به الصلاة، يعني: صلاة العيد، "ثم ينصرف من صلاته" يعني: ينتهي منها، "ثم يقوم مقابل الناس"، يقف - عليه الصلاة والسلام - مقابل الناس وظهره إلى القبلة والناس على صفوف لا يقوم إليه أحد ولا يجتمع إليه أحد، وذلك لئلًا يحصل ضجة أو تشويش أو زحام، يبقى الناس على أماكنهم ما يقربون إليه، ولكن الله عز وجل يجعل في صوته بركة فيسمعونه جميعًا، "فيعظهم"، ما هي الموعظة؟ قالوا: إنها الإعلام المقرون بترغيب أو ترهيب حسب ما يقتضيه المقام، وقوله: "ويأمرهم"، يعني: يأمرهم بما يقتضي أن يأمر به، فمثلًا في الأضحى يأمرهم بالأضاحي وكيف يضحون، مثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: "من لم يذبح فليذبح باسم الله". وكذلك إذا كان هنالك بعث - يريد أن يبعثه - من السرايا يأمر به - عليه الصلاة والسلام -.

يستفاد من هذا الحديث فوائد: أولًا: مشروعية الخروج في صلاة العيد إلى المصلى خارج البلد، والدليل عليه قوله: "كان يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى". ثانيًا: أن المدينة كغيرها من المدن يصلى فيها العيد خارج المسجد خلافًا لعمل الناس اليوم، فهم يصلون العيدين في المدينة في المسجد، ولكن السُّنَّة بلا شك أن يكون ذلك خارج المسجد. ومن فوائد الحديث: أن الصلاة لا يسبقها شيء في هذا المكان لقوله: "أول ما يبدأ به الصلاة". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للخطيب أن يكون وجهه نحو الناس لقوله: "ثم ينصرف فيكون وجهه مقابل الناس"، حتى ولو كانت القبلة خلفه، وبهذا نعرف أن استقبال القبلة له أحكام، فهو تارة يكون واجبًا، وتارة يكون مكروهًا وهو خلاف الأولى، وتارة يكون محرمًا، وتارة يكون مستحبًا، فله أربع حالات، يكون واجبًا في الصلاة، ويكون حرامًا حال قضاء الحاجة، سواء كان الإنسان في الفضاء أو في البنيان فإنه يحرم على الإنسان أن يستقبل القبلة ببول أو غائط حال قضاء الحاجة، حتى لو كان في البنيان، ويكون مستحبًّا عند الدعاء، حتى قال صاحب "الفروع": يتوجه أن يكون استقبال القبلة مشروعا في كل عبادة إلا بدليل. ثم ذكر الفقهاء - رحمهم الله - أنه يشرع للمتوضئ أن يستقبل القبلة حال الوضوء، قال في "الفروع": "هو متوجه في كل عبادة ألا بدليل، وصاحب "الفروع" هو محمد بن مفلح أحد تلاميذ شيخ الإسلام الكبار، وقد كان من أعلم الناس باختيارات شيخ الإسلام، حتى كان ابن القيم - مع كونه من خواص الشيخ - يراجعه أحيانًا ليتبين له اختيارات شيخه - رحمهم الله جميعا - وكتاب والفروع؟ تكلمنا عنه كثيرًا، وقلنا: إنه يسمى عند الناسي مكنسة الملهب، يعني: أنه حاوٍ لجميع ما في مذهب الإمام أحمد من الأقوال والروايات والأوجه والتخريجات، بل إنه رحمه الله حاوٍ لمذهب الإمام أحمد ولغيره من المذاهب فيشير إليها، ثم إن فيه التوجيهات الدقيقة التي تدل على أن الرجل عنده فقه كبير، وفيه مباحث لا تكاد تجدها في غيره من الكتب كبحثه في أول صلاة التطوع، وبيان تفاضل الأعمال، وكبحثه أيضًا في أول الحج في بر الوالدين، وهل يجوز معصيتهما أو لا يجوز؟ فهو يأتي ببحوث لا تكاد تجدها في غيره. يقول - أي: ابن مفلح -: يتوجه أن يجب استقبال القبلة في كل طاعة ألا بدليل، ومتى يكون استدبارها أولى من استقبالها؟ حال الخطبة، وإذا انصرف الإمام من الصلاة بعدما يقول: "أستغفر الله ثلاثًا"، "اللهم إنك أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، فإن الأفضل أن يستقبل الناس. ويستفاد من هذا الحديث: أنه لا يشرع المنبر في صلاة العيد، من أين يؤخذ؟ لأنه قال: "ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس"، ولو كان ثمة منبر لقال: ثم يصعد المنبر فيقابل الناس.

التكبير في صلاة العيد

التكبير في صلاة العيد: 470 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنه قال: قال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم: "التَّكبير في الفطر سبعٌ في الأولى وخمسٌ في الأخرى، والقراءة بعدهما كلتيهما". أخرجه أبو داود. - ونقل التَّرمذيُّ عن البخاريِّ تصجيحه. قوله: "عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده". من أبوه؟ أبوه: شعيب، ومن أبو شعيب؟ محمد، ومن أبو محمد؟ عبد الله بن عمرو بن العاص، الرابع هنا صحابي عبد الله بن عمرو هذه الترجمة ينبغي أن نتكلم عليها لأنها كثيرًا ما ترد والعلماء مختلفون فيها، عمرو بن شعيب، عن أبيه، أبي من: عن أبيه شعيب، أو عن أبي عمرو؟ الثاني: عن أبي عمرو؛ لأن الضمير يعود على الموضوع الذي يتحدث عنه، عن جده محل الخلاف، الأول ليس فيه خلاف عن أبيه المراد به: شعيب لكن عن جده جد من: جد عمرو، أو جد شعيب؟ قال بعض أهل العلم: إنه يحتمل أن يكون الضمير عائدًا على عمرو، فيكون المراد بجدِّه محمد، فإذا روى محمد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الحديث مرسلًا، لأن محمدًا من التابعين ليس صحابيًّا، وإذا كان منتهى السند التابعي وهو مرفوع فإنه يكون مرسلًا من أقسام الضعيف، وقال بعضهم: عن جده - أي: جدا شعيب -، عن أبيه، عن جده - أي: جد أبيه - وهو عبد الله، قال: "إذا كان هو جد أبيه فإنه منقطع، لأن شعيبًا لم يدرك عبد الله، وإذا كان لم يدركه صار فيه انقطاع. الحاصل: أن السند على كلًا التقديرين منقطع، وإذا كان السند منقطعًا لم يكن الحديث صحيحًا وذلك لجهالة الواسطة، ومن شرط كون الحديث صحيحًا أن يكون متصل السند، ولكن المحققين من أهل العلم كالذهبي وغيره يقولون: إن شعيبًا قد أدرك جده عبد الله بن عمرو فروايته عنه إذن متصلة، حتى إن بعضهم قال: إن محمدا مات قبل شعيب، وكفل عبد الله شعيبا، فيكون الحديث حينئذٍ متصلًا، ولا إشكال فيه، والقول بأن سنده متصل هو الصحيح، وأن شعيبًا روى عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص. قال البخاري رحمه الله: أدركت الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وابن معين، وعامة أصحابنا كلهم يحتجون بحديث عمرو بن شعيبة عن أبيه، عن جده يقول: فمن من الناس بعد هؤلاء؟ حتى قال إسحاق بن راهويه: إنه إذا كان ما دون عمرو ثقات فإن حديثه كحديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر؛ ولهذا ذكر النووي أن الذي عليه المحققون من أهل العلم الاحتجاج برواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وقد ذكر ذلك ابن القيم في زاد المعاد في سياق الكلام

على الحضانة في قول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: "أنت أحق به ما لم تنكحي". فالصحيح: أنه إذا سلم ما دون عمرو من الرواة، فإن رواية عمرو، عن أبيه، عن جده صحيحة، وهذا الخلاف ما لم يدل الدليل على أن المراد بالجد عبد الله، فإن دل الدليل على أن المراد بالجد عبد الله فلا إشكال، بماذا يكون الدليل؟ مثل أن يقول: عن جسده عبد الله، فإذا قال ذلك زال الإشكال، وكذلك مثل أن يقول: عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رأيت، فإذا قال: سمعت، أو رأيت زال الإشكال، صار المراد به عبد الله. نرجع للحديث: عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم -، حسب المعروف أن يقال: رضي الله عنه لأن الأخير منهم هو الصحابي فقط، وكأنه إن صحت النسخة به، يراد بذلك التغليب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الأخرى، والقراءة بعدهما كلتيهما". قوله: "التكبير في الفطر سبع"، المراد بالفطر أي: صلاة الفطر، و"الأضحى" مثله، "سبع في الأولى" واختلف العلماء: هل منها تكبيرة الإحرام أو أنها خارجة؟ فمن العلماء من يقول: إن تكبيرة الإحرام منها، وعلى هذا فتكون التكبيرات الزوائد ستًا، ومنهم من قال: إن تكبيرة الإحرام ليست منها، وعلى هذا فتكون التكبيرات الزوائد سبعا، والثامنة تكبيرة الإحرام. وقوله: "وخمس في الأخرى"، هذه لا شك أن تكبيرة القيام ليست منها؛ لأن تكبيرة القيام لا تكون في حال القيام تكون في حال النهوض من السجود، وعلى هذا فهي غير محسوبة على الاحتمال الأول تكون التكبيرات الزوائد ستًا في الأولى، وخمسنا في الثانية، والجميع إحدى عشرة تكبيرة، وعلى الاحتمال الأخير تكون الزوائد سبعًا في الأولى، وخمسًا في الثانية فيكون المجموع اثنتي عشرة. وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم بناء على صحة هذا الحديث، فمنهم من قال: إن هذا الحديث ليس بصحيح، الإمام أحمد يقول: لا يثبت من هذا شيء مرفوع عن النبي - عليه الصلاة والسلام -، وإنما هي آثار، وقال بعض أهل العلم: إن الحديث حسن، وأما ما قاله المؤلف ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه، فقد ناقشه الشارح وقال: إنه لم يجد في سنن الترمذي عن البخاري أنه صححه، وإنما تقل البيهقي عن الترمذي أن البخاري صحح حديث كثير بن عبد الله، ومن ثم اختلف العلماء في تكبيرات العيدين قال الإمام أحمد: وقد روي في ذلك ألوان

قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد

وكلٍّ جائز، لكن المشهور من مذهبه ما دل عليه هذا الحديث من أنها خمس تكبيرات زوائد في الثانية وست تكبيرات زوائد في الأولى، وهذا هو المعمول به الآن. ثم في هذا بحث هل يقول بين التكبيرتين شيئًا أو لا؟ ليس في هذا سنَّة عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولكنه يروى عن ابن مسعود أنه يحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. فإن فعل فلاك لأنه قول صحابي، وإن لم يفعل وكبَّر بدون أن يأتي بشيء بين التكبير فلا حرج عليه، إنما التكبير سنته أظهر وأشهر. هذه التكبيرات لو تركها الإنسان هل تبطل صلاته؟ لا، ألا تكبيرة الإحرام، لأنها ركن ما تنعقد الصلاة بدونها، وأما الزوائد فإنها سنَّة فلو تركها فلا شيء عليه. ثم هل يرفع يديه في كل تكبيرة أو في تكبيرة الإحرام والباقي بدون رفع؟ هذا أيضًا محل خلاف بين العلماء؛ لأن السُّنَّة ليست صريحة فيه، فقال بعض العلماء: يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام، وأما في بقية التكبير فإنه لا يرفع يديه، ولكنه ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة، وعلى هذا فيكون هو الأولى، لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان من أشد الناس تحريًا لاتباع سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه قول صحابي أو فعل صحابي قد يقال: إنه لا مجال للاجتهاد فيه، وفعل الصحابي أو قوله إذا كان لا مجال للاجتهاد فيه فله حكم الرفع، وقد يقال: إن للاجتهاد فيه مجال، إذ قد يكون فعله على سبيل القياس؛ لأن كل تكبير في قيام ترفع فيه الأيدي تكبيرة الإحرام، تكبيرة الركوع، وتكبيرة الرفع من الركوع، فربما يقيس مجتهد من أهل العلم من الصحابة أو من بعدهم هذا على ما ثبت به الحديث من رفع اليد عند تكبيرة الإحرام، وعلى كل حال حتى لو ثبت ذلك بالاجتهاد، فإن اجتهاد الصحابي خير من اجتهاد من بعده وأقرب إلى الصواب؛ ولهذا اعتمده الإمام أحمد خله، لاسيما إذا كان الاجتهاد قد جاء من الصحابة المعروفين بالعلم والفقه كابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، ومعاذ، وزيد بن ثابت وغيرهم. والحاصل: أن السُّنَّة في هذه التكبيرات أن يرفع اليدين فإن لم يفعله فلا شيء عليه. قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد: 471 - وعن أبي واقدٍ اللِّيثيِّ رضي الله عنه قال: "كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفطر والأضحى بـ {ق}، و {اقتربت} ". أخرجه مسلمٌ. تقدم لنا أن لفظ "كان" يشعر بالدوام غالبًا، ويدل على ذلك ما نحن فيه الآن "كان يقرأ

بـ {ق}، و {اقتربت} "، وثبت لنا من حديث النعمان بن بشير أنه كان يقرأ بسبح، وهل أتاك. وبهذا نعرف أن "كان" لا تقبل الاستمرار دائمًا بل غالبًا. قال: "يقرأ في الفطر والأضحى"، أي: في العيدين في الصلاة بـ {ق}، {ق والقرءان المجيد} ق: 1]. كلمة "ق" حرف من حروف الهجاء، هل له معنى؟ قال بعض أهل العلم: إن له معنى وأنه رمز إلى أشياء يعينونها، وقال بعض أهل العلم: إن له معنى الله أعلم به، وقيل: لا نقول: له معنى، ولا معنى له، إنما تقول: الله أعلم، وقال بعض العلماء: بل نقول: لا معنى له، فعندنا الآن أربعة أقوال، والصواب أننا نقول: أنه لا معنى له. فإن قلت: كيف تجزم بأنه لا معنى له وهو كلام الله عز وجل؟ قلت: أجزم بذلك استنادًا إلى قوله تعالى: {نزل به الروح الأمين * على فلبك لتكون من المنذين * بلسانٍ عربيٍ مبينٍ} [الشعراء: 193 - 195]. واللسان العربي المبين لا يجعل لهذه الحروف معني، فحينئذٍ يتبين أنه لا معنى له، واستنادا إلى أن الله عز وجل يقول لنبيه - عليه الصلاة والسلام - {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]. وهذا مما تزِّل، ولو كان له معنى لبيَّنه النبي - عليه الصلاة والسلام -، فلمَّا لم يبينه علم أنه لا معنى له. إذن يرد علينا مسألة عظيمة كبيرة وهي أن يكون في كلام الله تعالى ما هو لغو، قلنا: هذا إيراد صحيح، لكن عنه جواب صحيح، اللغو: هو الذي لا فائدة منه، وهذه الحروف لها فائدة عظيمة، وهي: أن القرآن الكريم الذي عجز هؤلاء الفصحاء البلغاء لم يأت بحروف لا يعرفونها وإنَّما أتى بحروف يعرفونها ويبنون منها كلماتهم ثم كلامهم، ومع ذلك أعجزهم. وأما "اقتربت" ففيها الإشارة إلى الأمم السابقين ومواقفهم من أقوامهم وماذا حلَّ بهم - أي: بالمكذبين بالرسل - ففيها موعظة عظيمة لمن كان له قلب، وفيها أيضًا ذكر الجنة والنار، ومآل المؤمنين المتقين: {إن المتقين في جنتٍ ونهرٍ * في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر} [القمر: 54 - 55]. وعلى هذا فنقول: يشرع أن يقرأ الإمام في صلاة العيدين بـ "ق"، و"اقتربت الساعة" أحيانًا، وأحيانًا بـ "سبح" و"الغاشية"، أيهما أفضل أن يقتصر على واحد منها دائمًا، أو أن يقول هذا مرة وهذا مرة؟ الثاني هو الصحيح، ولهذا نقول: إن الأفضل في جميع العبادات التي وردت على وجوه متنوعة أن يقرأ بهذا تارة وهذا تارة فيكون قائما بالسُّنَّة كلها. * * *

مخالفة الطريق والتكبير في الطريق

مخالفة الطريق والتكبير في الطريق: 472 - وغن جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطَّريق". أخرجه البخاريُّ. 473 - ولأبي داود: عن ابن عمر نحوه. "خالف الطريق" في ماذا؟ يعني مثلًا: إذا خرج إلى صلاة الظهر من طريق رجع من طريق آخر، إذا خرج ليشتري شيتا خرج من طريق ورجع من طريق آخر؟ لا، ولكن يفعل ذلك في الخروج إلى الصلاة خاصة ليس في كل شيء، يعني: ليس كل خروجه يوم العيد يكون فيه مخالفة، إنَّما المخالفة في صلاة العيد فقط، وهذا فعل من أفعال الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وقد سبق لنا قاعدة أفعال الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وأنه إذا كان الفعل مجردًا عن القرينة ويظهر فيه التعبد صار مستحبا فقط وليس بواجب. وعليه فنقول: يستخب الاقتداء بالنبي - عليه الصلاة والسلام - في يوم العيد إذا خرج من طريق أن يرجع من طريق آخر، فإن قلت: ألا يجوز أن يكون هذا من باب الاتفاق وليس من باب القصد؟ نقول: لا، ليس هذا اتفاقًا، لو كان من باب الاتفاق لكان الأغلب أن يكون الاتفاق من طريق واحد، بأ، يكون الطريق الذي جاء منه هو الذي يرجع منه، لكن لمَّا كان يخالف علم أنه مقصود. فما هي الحكمة في المخالفة؟ قال بعض العلماء: الحكمة لأجل أن تشهد له الطريقان يوم القيامة أنه خرج فصلى، لأن الله يقول عن الأرض: {يؤمئذٍ تحدث أخبارها} [الزلزلة: 4]. تشهد بما عمل عليها من خير وشر، فتكثر البقاع التي تشهد له يوم القيامة، هذا قول. وقيل: الحكمة أن العيد من الشعائر الظاهرة، فكان من الأنسب أن تخالف فيه الطرق ليكون ذلك أظهر؛ لأنه إذا جاء من طريق ثم رجع من آخر ظهرت هذه الشعيرة في الطريقين بخلاف ما إذا كان من طريق واحد. وقال بعض أهل العلم: إنما فعل ذلك إغاظة للمنافقين؛ لأن الناس ليسوا يقصدون كلهم من طريق واحد ويرجعون من طريق واحد، بل يختلفون، يمكن الطريق الذي خرجت منه أنت يكون مرجعا لغيرك، وبالعكس، فيكثر المسلمون في الأسواق فيكون في ذلك إغاظة للمنافقين. وقيل: إنه يفعل ذلك لأجل أن يتفقد أحوال الفقراء في كل سوق؛ لأن من عادة الرسول - عليه الصلاة والسلام - تفقد أصحابه تخوفًا من أن يكون في هذه السوق فقير جاء من الطريق الآخر ليواسيه.

ويمكن أن نقول: إن الرسول يفعل ذلك لكل هذه الحكم، ولغيرها أيضا، والذي يعينا من ذلك أنه من الأمور المشروعة. يستفاد من هذه الأحاديث - الحديث الأول -: مشروعية التكبيرات الزوائد في صلاة العيد، لقوله: "التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الأخرى". ويستفاد من الحديث: أن الحكمة في كثرة التكبير في أيام العيد تحقيقا لقوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله} [البقرة: 185]. ولهذا تجدون من غروب الشمس ليلة العيد يشرع التكبير والجهر به في الأسواق وفي المساجد وكذلك صلاة العيد وكذلك خطبة العيد يكثر فيها من التكبير، واختلف العلماء هل يبدؤها بالتكبير، أو يبدؤها بالحمد؛ ولهذا أكثر الفقهاء على أنه يبتدأ خطبة العيد بالتكبير تسع تكبيرات في الخطبة الأولى، وسبع في الخطبة الثانية، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يبدؤها بالحمد كغيرها من الخطب، ولكن يكثر فيها التكبير فيتبين بهذا الحكمة في هذه الزوائد - أي: في التكبيرات الزوائد - أن كل هذا الزمن وقت تكبير الله عز وجل. ويستفاد من الحديث: أن العدد هو هذا سبع في الأولى معها تكبيرة الإحرام فتكون الزوائد ستًا وخمسًا في الثانية وهي زوائد كلها. ويستفاد من ظاهر الحديث: أنه لا يقول بين التكبيرات شيئًا، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم أنها تكبيرات بدون ذكر بينها، وذهب آخرون إلى أنه يسن الذكر بينها اعتمادًا على ما روي عن ابن مسعود يكن أنه كان يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. أمَّا الحديث الثاني: فيستفاد منه: مشروعية قراءة "ق" و"اقتربت الساعة" لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل نقول بوجوبها؟ لا نقول به؛ لأن عندنا قاعدة سبق أن قررناها وهي أن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ثمَّ إنه عندنا أيضًا دليل آخر وهو قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب". فهذا دليل على أن غيرها لا تجب قراءته. ويستفاد من هذا الحديث: مراعاة الأحوال؛ لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يقرأ بهاتين السورتين في المجمع الكبير في صلاة العيد، ولم يقرأ بهما في صلاة الجمعة فيما نعلم، وذلك لطولهما، والجمعة يسبقها خطبة، فلو اجتمع الخطبة وطول الصلاة لشق ذلك على الناس، لاسيما والجمعة تأتي في وقت الظهيرة والحر بخلاف العيد. فإن قال قائل: لو قال الناس: يطول علينا إذا قرأ "ق"، واقتربت" فما الجواب؟

نقول: هذا ورد عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - وقد قال أنس: "ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم". ولو أننا راعينا الناس في ترك السنن لكانت مللًا ولكانت الأمة أممًا؛ لأن الناس ليسوا على مشرب واحد، والمقصود: أن يجمع الناس على ما دلَّ عليه كتاب الله وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل يقرأ غيرهما؟ نقول: ثبت في حديث النعمان بن بشير - كما سبق - أن الرسول كان يقرأ فيهما أحيانًا بسبح والغاشية. أمَّا الحديث الأخير حديث جابر، فيستفاد منه: مشروعية مخالفة الطريق في الخروج لصلاة العيد، الدليل: فعل الرسول - عليه الصلاة والسلام -. فإن قلت: أفلا يمكن أن يكون هذا وقع اتفاقا فحينئذٍ لا يدل على المشروعية؟ الجواب: لا، لو وقع اتفاقًا لكان الاتفاق الأول يرجع من الطريق الأول؛ لأن ما اتفق فيه الخروج اتفق فيه الرجوع، إذن فملاحظة المخالفة لا شك أنها أمر مشروع، وفيها الحكم التي أشرنا إليها، ألحق بعض أهل العلم بذلك صلاة الجمعة، قال: يشرع أن يخالف الطريق فيها، وتعلمون أن القياس لابد فيه من أربعة أركان وهي: أصل، وفرع، وعلة، وحكم، ما هو الأصل؟ هو المقيس عليه، والفرع: المقيس، والحكم: مقتضى خطاب الشرع، والعلة: الوصف المناسب الذي يجمع بين الأصل والفرع. هنا يقولون: نقيس صلاة الجمعة على صلاة العيد، فينبغي فيها المخالفة، أين الأصل؟ صلاة العيد، والفرع: صلاة الجمعة، والحكم: المخالفة، والعلة: شهادة الطرق للإنسان، والجمعة أقوى وأشد فرضًا من صلاة العيد، ولكننا نقول: إن هذا القياس لا يصح لاختلال شرط صحته، وهو ألَّا يكون مخالفًا للنص، وهنا في هذا القياس مخالفة - فيما يظهر - للنصوص، كيف هذه المخالفة؟ نقول: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يصلي الجمعة، وصلاة الجمعة أكثر من صلاة العيد، ومع ذلك ما ورد أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يخالف الطريق، ولا أرشد إليه لا فعلًا، ولا قولًا، ولا إيماءً، وإذا كان كذلك فليس بمشروع، وقد سبق لنا في هذا الباب قاعدة مهمة: "أن كل شيء وجد سببه في عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - ولم يرشد فيه إلى سيئة فإن السُّنَّة فيه الترك والعدم"؛ إذ إن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يمكن أن يدع ما وجد سببه وهو أمر مشروع أليس كذلك؟ وعلى هذا فنقول: هذا القياس ظاهره أنه يخالف النص فلا يعتبر، وتجاوز قوم من أهل العلم في هذه المسألة، وقالوا: يلحق به المضي إلى صلاة الجماعة، صلاة الجمعة ربما يكون فيها شيء من الشبهة، لأنها اجتماع عام وصلاة في عيد الأسبوع ففيها نوع مشابهة، لكن قالوا

أيضًا: يلحق بها بقية الصلوات، فينبغي إذا خرج إلى المسجد من طريق أن يرجع من طريق آخر، وتوسع آخرون فقالوا: ينبغي في كل عبادة يقصدها أن يذهب من طريق ويرجع من آخر، حتى لو ذهب إلى زيارة أخيه في الله، أو إلى عيادة مريض فإنه يذهب من طريق ويرجع من آخر، هذا التوسع زائد، والتوسع في دلالات القياس إلى هذا الحد كالتوسع في دلالات الألفاظ بأن تدخل في اللفظ ما لا يحتمله، وكلاهما خطأ في الاستدلال، والواجب على طالب العلم التحري والدقة في الإلحاق سواء كان ذلك عن طريق اللفظ أو عن طريق المعنى الذي هو القياس؛ لماذا لأن الذي يلحق شيئًا بشيء أو يدخل فردًا في عموم معناه أنه قال على الله قولًا، فإذا لم يكن عن علم تشهد النصوص له بالقبول فإنه لا يجوز أن يعتمد. ولهذا كان الصحيح في هذه المسألة أنه يقتصر على ما جاء به النص وهو المخالفة في صلاة العيد فقط، أما ما سواها فلا يلحق بها، فالرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يعود المرضى، وكان يشهد الجنائز، وكان - عليه الصلاة والسلام - يصلي الجمع والجماعات، ويذهب في الغزو، ويذهب أيضًا في الحج والعمرة ما ورد عنه أنه كان يخالف الطريق، نعم في ذهابه إلى عرفة ورجوعه منها ورد أنه كان يخالف الطريق، وأما أنه إذا دخل المسجد من باب يخرج من باب آخر وما أشبه ذلك فهذا ما ورد. 474 - وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما. فقال: قد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر". أخرجه أبو داود والنِّسائيُّ بإسنادٍ صحيحٍ. قوله: "قدم المدينة" يعني: قدمها مهاجرًا من مكة، وإنما هاجر النبي - عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة مع محبته لمكة؛ لأن أهل مكة منعوه أن يظهر دين الله عز وجل حتى إنهم تمالئوا على أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير المكرين} [الأنفال: 30]. "قدم المدينة" كانت تسمى يثرب، ثم سميت المدينة في كتاب الله وفي سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسمها الله تعالى يثرب إلا حكاية عن المنافقين: {وإذ قالت طآئفة منهم يأهل يثرب لا مقام لكم} [الأحزاب: 13]. لكن مع الأسف تجد أن بعض الكتاب العصريين يرون أنه من الطيب ويتطايبون إذا قالوا: قدم يثرب، وخرج من يثرب، وجاء إلى يثرب، مع أن المدينة هو اسمها، وقوله: "المدينة"، في الأصل المكان الذي يجتمع فيه الناس يسمى مدينة، ولكنها صارت علمًا بالغلبة على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كما قال ابن مالك:

وقد يصير علمًا بالغلبة ... مضافًا أو مصحوب أل كالعقبة فالمدينة إذن علم بالغلبة على المدينة التي هاجر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: "ولهم يومان يلعبون فيهما" "لهم" أي: للناس، "يومان يلعبون فيهما" قد اتخذوهما عيدًا، فقال النبي - عليه الصلاة والسلام -: "قد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر". "خيرًا منهما"، أي: من هذين اليومين، "يوم الأضحى" يعني: عيد الأضحى، و"يوم الفطر"، وهذا من النبي - عليه الصلاة والسلام - إشارة إلى أنه ينبغي أن تترك جميع الأعياد الأعياد الشرعية، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى. فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: أنه لا بأس باللعب في أيام العيد لقوله: "ولهم يومان يلعبون فيهما"، وعلى هذا فلا حرج على الإنسان أن يجعل أيام العيد أيام لعب، لكن بشرط ألا يخرج هذا اللعب عن الحدود الشرعية، فإن كان لعبًا فيه اختلاط رجال ونساء فإنه يكون حراما من أجل الاختلاط، وكذلك إن اشتمل على صور محرمة، أو اشتمل على أغانٍ محرمة، أو اشتمل على معازف محرمة، فإنه لا يجوز، وأما في حدود اللعب الذي يروح الإنسان به عن نفسه ويشعر بالفرح بالعيد فهذا لا بأس به. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتخذ في السُّنَّة عيدًا إلا ما شرعه الله وهو عيد الأضحى، وعيد الفطر، هذا وهو متخل على سبيل اللعب فكيف بما اتخذ على سبيل. العبادة كأعياد الميلاد، فإن عيد الميلاد - ميلاد الرسول - عليه الصلاة والسلام? من البلع المنكرة التي لا يجوز للإنسان أن يفعلها، هذا إذا كان بريئا مما يقترن به من المحرمات، فأما إذا اقترن به شيء من المحرمات فهو لا شك في تحريمه مثل أن يقترن به غلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وإطراء له في أمر هو ينكره مثل أن ينشدون أشعارًا تدل على أنه يدبر الكون، ويعلم الغيب، وما أشبه ذلك، وكذلك أيضًا ما يفعله بعض الجهال منهم الذين هم ناقصو عقل في الواقع مع نقصان الدين يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع هذه الأناشيد، وأنه يطرب فيحضر إليهم، ولهذا تجدهم في أثناء طربهم هذا يقومون يقولون: عليكم السلام مرحبًا بالحبيب، وما أشبه ثلاث ماذا يدّعون؟ يدَّعون أن الرسول صلى الله عليه وسلم حضر إليهم. ومن فوائد الحديث: أنه من حسن الدعوة إلى الله أن يسلِّي المدعو عما يمنع عنه بما يباح له، ما وجهه؟ "أبدلكم الله بهما خيرًا منهما"، يعني: أن النبي - عليه الصلاة والسلام عرَّض بأنه لا

ينبغي أن يحتفل بهذين اليومين، بيَّن أن هناك خيرًا منهما وهما عيد الأضحى وعيد الفطر، فهل يجوز الغناء في هذه الأيام أيام العيد؟ نعم يجوز لأن جاريتين كانتا تغنيان في عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - في أيام العيد فانتهرهما أبو بكر رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهما فإنها أيام عيد". لكن بشرط أن يخلو عن المعازف المحرمة، كالموسيقى، والعود، والرباب، وما أشبهها؛ لأن ما ورد في الغناء فقط لأجل أن يحصل للإنسان فرح وسرور وانطلاق، وكل إنسان بحسب مزاجه؛ لأن بعض الناس قد لا يفرح بهذا الشيء؛ لأن بعض الناس ربما إذا سمع الأغاني يتكتم ولا يفرح بهذا، وبعض الناس يفرح وهم عامة الناس فلهذا أطلق للناس هذا الفرح في هذه الأيام. الخروج إلى العيد ماشيًا: 475 - وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: "من السُّنَّة أن يخرج إلى العيد ماشيًا". رواه الترمذي وحسَّنه. إذا قال الصحابي: "من السُّنَّة"، فالمراد سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون له حكم الرفع. ثانيًا: إذا قال: "من السُّنَّة"، فقد يكون المراد: السُّنَّة الواجبة، وقد يكون المراد: السُّنَّة غير الواجبة؛ لأن المهم أنها طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فقول أنس رضي الله عنه: "من السُّنَّة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، هذه سنَّة واجبة، وقول علي هنا: "من السُّنَّة أن يخرج إلى العيد ماشيًا" هذا مستحب وليس بواجب. وقوله: "أن يخرج": هذه مبتدأ، "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر يكون في محل رفع مبتدأ، يعني: الخروج، و"ماشيًا" حال من فاعل يخرج، يعني: لا راكبًا. فيستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يخرج إلى العيد ماشيًا، وهذا هو الأفضل، لأنه يكتسب بذلك الأجر، والخطوات الكثيرة، ولأنه أخشع في الغالب من الخروج راكبًا؛ ولأنه أهون على الناس من ازدحام السيارات والتعب؛ ولهذا كثيرًا ما تفوت الإنسان الصلاة - صلاة العيد - إذا كان بالسيارة؛ لأنه إذا دخل السير ما يتمكن من الخروج، ولا من الرجوع، ولا من التقدم لزحام السيارات، فيبقى في سيارته، فتفوته الصلاة وهو في سيارته، لكن لو جاء ماشيًا تيسر أن يصلِّ إلى المسجد ألا أنه قد يقول قائل: إذا كان الإنسان بعيدًا كما هو موجود الآن البلاد فقد تباعدت البلاد، ومن الممكن أن يركب على السيارة من أجل إدراك الصلاة، لكن إذا أقبل إلى المسجد ينزل من بعيد ويأتي على قدميه فيحصل هذا وهذا. * * *

15 - باب صلاة الكسوف

476 - وعن أبي هريرة فقلت: "أنَّهم أصابهم مطرٌ في يوم عيدٍ، فصلَّى بهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد". رواه أبو داود بإسنادٍ ليِّنٍ. "اللين" يعني ضد القوي، وهو أقوى من الضعيف ودون الحسن، وفي مرتبة بين الحسن وبين الضعيف. وقوله هنا: "أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم في المسجد" يستفاد منه: أن الأصل في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم العيد خارج المسجد وهو كذلك. ويستفاد منه: أنه إذا حصل عذر فإنه يصلي في المسجد داخل البيت، والعذر إمَّا مطر، وإمَّا برد شديد، وريح، وإمَّا حر شديد، كما لو جاء خبر العيد متأخرًا في ارتفاع النهار، وإمَّا خوف من عدو، المهم: أي عذر يكون إذا كان هناك عذر فإنهم يصلون في المسجد، وإذا صلوا في المسجد هل يصلونها كالعادة أو كالصلاة المفروضة؟ كالعادة؛ لأنه إذا سقطت سنَّة المكان لعذر فإنها لا تسقط سنَّة الأفعال، تبقى الصلاة كما هي عليه، فيصلي أولًا ثم يأتي بالخطبة، ثم قال المؤلف: * * * * 15 - باب صلاة الكسوف "صلاة الكسوف" هنا من باب إضافة الشيء إلى سببه، يعني: الصلاة التي سببها الكسوف، يقال: الكسوف والخسوف بمعنى واحد، وقيل: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، لقوله تعالى: {وإذا برق البصر * وخسف القمرْ} [القيامة: 7 - 8]. فالخسوف للقمر، والكسوف للشمس، ولكن الأظهر أن معناهما واحد. معنى الكسوف وأسبابه: فما هو الكسوف؟ فسره الفقهاء بقولهم: ذهاب ضوء أحد النَّيرين أو بعضه؛ أي: ذهاب بعضه، ولكنه في الحقيقة ليس ذهابًا لضوئهما ولكنه احتجاب؛ إذ إن الضوء باقٍ، ولكن الذي حصل حجاب هذا الضوء، وطبعًا احتجاب بغير الغمام والسحاب وما اعتيد هذا لا يسمى كسوفًا، وإلًا قد ينحجب ضوء الشمس أو القمر بالسحاب، وبالضباب، وبالغبار، لكن هذا ليس كسوفًا. إذن بماذا ينحجب ضوء الشمس؟ يحجب ضوء الشمس بجرم القمر فتنكسف، وينحجب ضوء القمر بجرم الأرض فينكسف القمر، كيف ذلك؟ أسباب كسوف الشمس هو أن القمر

يحول بينها وبين الأرض؛ ولذلك لا يكون الكسوف إلا في آخر الشهر لإمكان حيلولة القمر بين الشمس والأرض، وأسباب كسوف القمر حيلولة الأرض بين الشمس والقمر، ولذلك يكون كسوف القمر في ليالي الإبدار؛ لأن ضوء القمر مستقاد من الشمس، قال الله تعالى: {فمحونا ءاية الَّيل} [الإسراء: 12]. ويدل على أنه مستفاد منها: أن منازل القمر كلما كان القمر قريبًا من الشمس كان ضوؤه أقل لعدم المقابلة، وكلما أبعد ازداد ضوؤه لكثرة المقابلة؛ لأن الفلك مثل القبة يعني: مكور، فإذا قابلها القمر من هنا وهي من هنا امتلًا نورًا، وإذا قرب منها ضعفت المقابلة فقلَّ النَّور. إذن سبب الكسوف معلوم من الناحية الحسية، وهو بالنسبة لكسوف الشمس حيلولة القمر بينها وبين الأرض، وبالنسبة للقمر حيلولة الأرض بينه وبين الشمس، هذا هو السبب - الحسي الفلكي. وهناك سبب شرعي ما يعلم ألا من طريق الرسل، السبب الأول الحسي: معلوم من طريق الحساب، ويعرفه أهل العلم بالفلك، لكن السبب الشرعي ما يعلم ألا من طريق الوحي، وهو الأهم وهو تخويف الله العباد، يخوف الله عباده بهذا الكسوف، يخوفهم أو يعاقبهم؟ يخوفهم، والفرق بين التخويف والعقوبة ظاهر، التخويف معناه: أن الله ينذر العباد من أن يقع بهم عقوبة وليست عقوبة. ولهذا بعض الجهال يقولون: كيف يصير إنذار ولم يحدث شيء لا زلازل ولا صواعق، ولا غيره، ابن الإنذار. نقول: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال: "يعاقب الله بهما" وقال: يخوف الله بهما فهو إنذار قد يقع المنذر به وقد لا يقع؛ ولهذا الرسول - عليه الصلاة والسلام - أمر بأن يصلى حتى ينكشف ما بنا، هذا السبب الشرعي، فهل يعارض السبب الحسي؟ لا؛ لأن الفاعل واحد، فالذي جعل القمر يحول بين الشمس والأرض، أو الأرض بين الشمس والقمر هو الله، والمخوف هو الله؛ فلا تنافي بين هذا وهذا؛ لأن الله تعالى يقدر ذلك خلقًا لحكمته شرعًا، وهو التخويف، وأما إنكار بعض الناس للسبب الحسي بحجة أن إثباته يستلزم إبطال السبب الشرعي فلا يقرون بذلك بحجة أن ذلك يؤدي إلى تكذيب حديث الرسول في قوله: "يخوف مهما عباده"، فنقول: إن هذا تصور من هؤلاء لأنه لا تنافي بينهما، فالله يقدر الشيء بأسبابه تخويفًا لعباده، الصواعق أليس لها أسباب؟ بلى، لها أسباب ويخوف الله بها العباد، والزلازل لها أسباب حسية معلومة ويخوف الله بها العباد، وكذلك الرياح وغيرها، فالأسباب الكونية لا تنافي الحكم الشرعية؛ لأن الفاعل واحد وهو الله عز وجل.

إن قال قائل: كلامكم هذا يعارض ما جاء في التاريخ من أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في اليوم العاشر من شهر ربيع الأول، أو في الثاني عشر منه، أو في الثامن منه، وهذا على قولكم لا يتطابق مع ما قررتموه، لأنه إذا كان في اليوم الثاني عشر، أو العاشر، أو الثامن والشمس هي التي كسفت فالقمر بعيد منها لا يمكن أن يحول بينها وبين الأرض؟ فالجواب على ذلك: أن هذا لا يصح، قول المؤرخين هذا لا يصح؛ ولهذا اختلفوا فيه، فليس هناك سندٌ صحيح يقول: إنه في اليوم الثاني عشر، أو الثامن، أو العاشر، ولهذا حسبه المتأخرون من أهل الفلك ووجدوا أنه - أي: كسوف الشمس في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان في يوم الثلاثاء الموافق تسع وعشرين شوال سنَّة عشر من الهجرة، وعلى هذا فلا إشكال فيه؛ لأن يوم التسع والعشرين يكون القمر قريبًا من الشمس يمكن أن يحول بينها وبين الأرض فيحصل الكسوف. كذلك أيضًا قد يقول قائل: إن الفقهاء - رحمهم الله - قالوا: إذا وقع الكسوف يوم الوقوف بعرفة - يعني: كسوف القمر - بعد أن غابت الشمس كسف القمر، فإنه يصلى الكسوف ثم يدفع على كلام الفقهاء فيدل على أن الأمر غير ما ذكرتم لأنهم قالوا هذا ثم عللوا، قالوا: "يتصور كسوف الشمس والقمر كل وقت والله على كل شيء قدير، التعليل صحيح لكن ما ينطبق على المعلل، الله على كل شيء قدير، التعليل صحيح لكن ما ينطبق على المعلل إنه يتصور كل وقت لأننا نقول: إذن ويتصور أن تطلع الشمس عند مغيب الشفق والله على كل شيء قدير، فالشيء ليس بالنسبة لقدرة الله، قدرة الله لا يحول دونها شيء، لكن الكلام على العادة المنتظمة التي أجراها الله عز وجل التي تقتضيها حكمته ألا يقع الكسوف - كسوف الشمس - إلا في وقت الاستتار في آخر الشهر ولا يقع كسوف القمر ألا في وقت الإبدار الرابع عشر أو الخامس عشر، ونحو ذلك. الكسوف هل يمكن أن يكون على بعض الأرض دون بعض؟ نعم يمكن، وهذا يدل على أن نور الشمس والقمر لا يذهب وإنما يستتر وينحجب، لا يذهب لأنه لو ذهب لكان الكسوف إذا وقع في أرض لزم أن يكون واقعا في كل الأراضي وليس الأمر هكذا، بل ربما يقع في نقطة من الأرض كليًّا، وفي نقطة أخرى جزئيًّا، وفي نقطة ثالثة لا شيء كما هو معلوم، كما أنه الآن لو حالت سحابة بيننا وبين الشمس صارت على النقطة التي تحتها الشمس محجوبة لكن على النقطة الأخرى الشمس بادية، وعلى النقطة التي بينهما الشمس نصفها ظاهر ونصفها محجوب، صلاة الكسوف ما دام الكسوف آية من آيات الله ليس من الأمور العادية وإنما هو شيء خارج عن العادة لا يقدر عليه إلا الله عز وجل كان من الحكمة أن تكون له صلاة من آيات الله خارجة عن المعتاد بالصلوات، السبب خارج عن المعتاد، والصلاة خارجة عن المعتاد أيضًا، وهذا مما يدلك على تناسب الشرع والقدر، وأنه لا تنافر بينهما ولا تنافي بينهما.

مشروعية صلاة الكسوف والدعاء فيها

مشروعية صلاة الكسوف والدعاء فيها: 477 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتموهما، فادعوا الله وصلوا حتى تنكشف". متفق عليه. وفي روايةٍ للبخاري: "حتى تنجلي". 478 - وللبخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: "فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم". "عهد" بمعنى زمان، وسمي الزمان عهدًا؛ لأن الإنسان يعهد به ويعلم به، وقوله: "يوم مات إبراهيم" هو ابن محمد رضي الله عنه، - وصلى الله وسلم على أبيه- وهذا الولد سماه النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم على اسم أبيه الخليل صلى الله عليه وسلم وبشر به أهله، وقال: "ولد لي الليلة ولد فسميته إبراهيم في الحال". وبه يعلم أن التسمية مشروعة حال الولادة إلا إذا كان الإنسان لم يهيئها، فإنه يسمى في اليوم السابع، وهذا الابن رضي الله عنه توفي وله نحو ستة عشر شهرًا، وحزن عليه النبي- عليه الصلاة والسلام- حزنًا عظيمًا، حتى إنه رفع إليه وهو ينزع فبكى ودمعت عيناه، وقال- عليه الصلاة والسلام-: "العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون". وأخبر- عليه الصلاة والسلام- أن له مرضعًا في الجنة ترضعه؛ لأنه مات قبل تمام الحولين، فكان له مرضعًا ترضعه في الجنة، وكان النبي- عليه الصلاة والسلام- قد أعطاه أحد بيوت الأنصار خارج المدينة، وكان يخرج إليه بنفسه للاطلاع على حال هذا الولد. فيستفاد من ذلك: أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- كغيره من البشر يحب أولاده محبة طبيعية، وأنه يصلهم ويتعاهدهم، وهذا داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي". "فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم" بناء على عقيدة سائدة عندهم هي: أن الشمس تنكسف لموت العظيم أو القمر معلوم أن ابن النبي- عليه الصلاة والسلام- من أعظم الناس فقالوا: كسفت الشمس لموته بناء على هذه العقيدة، واللام في قوله: "لموته" لماذا؟ للتعليل، لموت إبراهيم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله" والآيات جمع آية، وهي العلامة، وقد سبق لنا مرارًا أن الآيات نوعان: كونية، وشرعية، وأنها سميت آية؛ لأنها علامة حيث لا يقدر عليها إلا الله عز وجل فهي آية من آيات الله في حجمها ومنافعها وانتظامها وغير ذلك مما يتعلق بها. "ولا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته"، هذه من الأمور الفلكية، والأمور الفلكية لا يستدل بها على حدوث شيء في الأحوال الأرضية، ولا يكون شيء من الأحوال الأرضية سببًا لها، ولكن قد يعاقب الله أهل الأرض بأمور سماوية لكونهم عصوا الله. وقوله- عليه الصلاة والسلام-: "لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته"، قوله: "ولا لحياته" استشكلها بعض أهل العلم من حيث قالوا: إنه ليس عند العرب عقيدة بأن الشمس والقمر ينكسفان لحياة أحد، فكيف قال: "ولا لحياته"؟ وأجاب بعضهم: بأن هذا من باب التعميم، يعني: كما لا ينكسفان للموت، لا ينكسفان للحياة. قال: "فإذا رأيتموهما"، رؤية بصرية أو علمية؟ بصرية، وفيها حال مقدرة لزومًا وتقديرها: "فإذا رأيتموهما كاسفين"، لا بد من تقدير هذه الحال؛ لأن مجرد رؤية الشمس والقمر لا توجب الصلاة، "فإذا رأيتموهما" يعني: كاسفين. "فادعوا الله وصلوا حتى تنكشف" قوله: "فادعوا الله" بماذا ندعو الله؟ بأن يكشف ما بنا، وقد بين الرسول- عليه الصلاة والسلام- أن من جملة ما ندعو به الله الاستغفار، فندعوه بالاستغفار من الذنوب، وندعوه بأن يكشف ما بنا، وقوله: "صلوا" هذا مطلق، ولكنه محمول على المقيد، ما هو المقيد؟ أن نصلي الصلاة المعهودة المشروعة في صلاة الكسوف، وقوله: "حتى ينكشف" أي: حتى يزول، يعني يزول الكسوف، و"حتى" هنا هل ترونها غائية أو تعليلية؟ أن نستمر عليه حتى ينكشف، وكلاهما حق، فإن الصلاة والدعاء من أسباب انجلائه، وكذلك يشرع أن نبقى على هذه الحال إلى أن ينكشف. قال: وفي رواية البخاري: "حتى تنجلي" أتى المؤلف رحمه الله بهذه الرواية كالشرح للرواية الأولى، لأن الانكشاف يعني: الانجلاء. يستفاد من هذا الحديث: أولًا: حكمة الله عز وجل حيث وقع الكسوف في اليوم الذي مات فيه إبراهيم، وجه ذلك: لأجل أن يكون القول بإبطال تلك العقيدة في وقته ومحله، وحضور الشيء في وقته ومحله يكون له وقع في النفس أكثر. وفيه أيضًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يصاب بالمصائب الدنيوية كما حصل بموت ابنه إبراهيم، وقد

قال- عليه الصلاة والسلام-: "العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون". ومن فوائد الحديث: استحباب التسمية بإبراهيم؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- سمي به لأجل أن يكون موافقًا لأسماء الأنبياء. وفي الحديث أيضًا من الفوائد: أن الناس في عهد الرسول- عليه الصلاة والسلام- عندهم من الصراحة ما يقتضي بيان الأمر على حقيقته حين قالوا: "انكسفت الشمس لموت إبراهيم"، مع أن هذا الأمر في السنة العاشرة من الهجرة، يعني: بعد أن رسخ الإيمان والتوحيد في قلوبهم، ومع ذلك قالوا هذا القول، ولكن لحكمة؛ أي: لأجل أن يبطله النبي- عليه الصلاة والسلام-. ويستفاد من الحديث: وجوب رد الباطل، وإن أجمع الناس عليه؛ لأن النبي- عليه الصلاة والسلام- رد هذا الباطل وإن كان الناس كلهم يقولون ذلك. ومن فوائد الحديث: بيان أن الشمس والقمر من آيات الله عز وجل لقوله: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله". ومن فوائده: أن آيات الله تعالى لا تنحصر في الشمس والقمر، لأنه قال: {من آيات الله}، وآيات الله كثيرة، لكن أين المتأمل والمتدبر؟ ولهذا قال الله تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} [فصلت: 37]. والغريب أن بعض أهل العلم استنبط من هذه الآية مشروعية صلاة الكسوف لا كيفيتها، وجه ذلك: يقولون: لأن العابدين لهما إذا كسفا فإنهم يرغبون عن عبادتها؛ لأنهما تغيروا وفسدا فلا يصحان إلها، وبعضهم عكس قال: "إنهما إذا كسفتا" فهو دليل على غضبهما على العابدين لهما، وحينئذ لا يسجدون لهما، فقال الله: لا تسجدوا لهما حين يسجد لهما هؤلاء، واسجدوا لله. وعلى كل حال: فنحن في غنى عن هذا اللغط البعيد لكن ذكرته على سبيل الاستطراد. ومن فوائد الحديث: أن الحوادث الأرضية لا تؤثر في الأحوال الفلكية، من أين تؤخذ؟ من قوله: "لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته"، فالموت والحياة وغيره لا تؤثر في الشمس ولا القمر ولا النجو، نعم قد تكون سببًا لأشياء أخرى- الحوداث- مثل المعاصي ممكن أن تكون سببًا لعدم نزول المطر أو سببًا للرياح المدمرة أو الصواعق المهلكة وما أشبه ذلك. ومن فوائد الحديث: أنه لا يعمل بالحساب في صلاة الكسوف "فإذا رأيتموهما"، وعلى هذا فلو أن الحساب أطبق على أن الليلة سيكون كسوفًا وصارت السماء غيمًا ولم يتبين هل نصلي أو لا؟ لا نصلي؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- علق ذلك بالرؤية.

ومن فوائد الحديث: أنه لابد أن يظهر ذلك الأثر أو يتبين لقوله: "إذا رأيتموهما"، فعلى هذا لو كانت بالشمس كسوف جزئي ما يرى إلا بطلبه فإن الظاهر أنه لا تشرع الصلاة؛ لأن هذا ليس فيه تخويف إذا كان لم يتبين ولم يظهر إلا بطلبه، فإننا نقول: الحمد لله الذي جعله لم يتبين، ولا نصلي حتى لو كنا نتوقع ذلك بسبب قول أهل الهيئة فإننا لا نصلي. ومن فوائد الحديث: أنه لو حدثت آيات أخر أفقية أو أرضية لكنها خلاف العادة، فإننا هل نصلي أو لا نصلي؟ هذا موضع خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إنه يصلي لكل آية خرجت عن المألوف فلو حدثت صواعق عظيمة متتابعة فخاف الناس منها فإنهم يصلون، ولو حدث زلزال في الأرض فإنهم يصلون، ولو حصل رياح مزعجة غير مألوفة فإنهم يصلون، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكن بعض أهل العلم قال: لا يصلي إلا لكسوف الشمس والقمر فقط؛ لأنه في عهد الرسول- عليه الصلاة والسلام- وجدت الرياح، والعواصف، والرعد، والبرق، ولم يكن يصلي- عليه الصلاة والسلام-. وقال بعض العلماء: يصلى للزلازل فقط دون غيرها من الحوادث، واستدلوا بما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى للزلزلة، فمن نظر إلى التخصيص- الشمس والقمر- قال: لا يصلي، ومن نظر إلى العلة- وهي: التخويف والخروج عن العادة والمألوف- قال: إنه يصلى صلاة الكسوف لكل آية الزلازل وغيرها، ومنه لو فرض أنه حصل في الليل ضياء خارج عن العادة بدون قمر كأن الشمس قريبة الطلوع فإنه يصلى؛ لأن هذا يرعب ويوحش، وكذلك لو حصل ظلمة في النهار غير مألوفة يعني: ما سبقها أسباب- من غيم أو قطر، ظلمة هكذا- فإنهم يقولون: هذه من الآيات المروعة، وهي أشد ترويعًا من كسوف الشمس؛ لأنها أقل وقوعًا فيصلي لها. فأنا أقول- والله أعلم-: إن الاقتصار على ما جاء به النص أولى؛ لأن الذي جاء به النص يختلف عن الآيات التي ذكروها لأنه عام، فالقمر يشاهده كل من على وجه الأرض من ناحيته والشمس كذلك، لكن الزلازل نجدها في مناطق معينة، وكذلك العواصف والفيضانات وما أشبهها، والأصل في العبادات التوقيف حتى يتبين لنا أنها مشروعة. ومن فوائد الحديث: مشروعية الصلاة والدعاء لقوله: "فادعوا الله وصلوا" والمشروعية ثابتة بالاتفاق لم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم، ولكن هل ذلك واجب أو سنة؟ وإذا قلنا بالوجوب فهل هو فرض كفاية أو فرض عين، فها هنا ثلاثة احتمالات؛ نقول: أما الدعاء فإنه لا يجب بالاتفاق، وأما الصلاة ففيها خلاف، فمن أهل العلم من قال بوجوبها، وأنها فرض عين لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والأصل في الأمر الوجوب حتى يقوم دليل على أنه لغير الوجوب،

وأيضًا فإنها صلاة لتهديد وإنذار، فلو تركت لكان ذلك عنوانًا على عدم المبالاة بإنذار الله وتخويفه، وهذا أمر ليس بالهين أن الله ينذرنا ونقول: ما يهم، وذهب كل واحد إلى عمله ولا يهتم، فهذا مظهر غير لائق أن الرب العظيم يخوفك ونبيه يأمرك، ثم تدع هذا كأنك غير مبالٍ لا بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بتخويف الله. وأما القائلون بأنها فرض كفاية فقالوا: إنه لا يظهر أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- أمر كل أحد، وأن الناس كلهم حضروا إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام-، وأننا نلزم جميع المسلمين بأن يصلوا بل إذا حصل المظهر العام للمسلمين وأنهم قاموا بما ينبغي أن يقوموا به من الإنابة إلى الله عز وجل، والرجوع إليه فإن هذا كافٍ، وأنا متردد بين كونها فرض كفاية، أو فرض عين، أما الاقتصار على أنها سنة فقط فهذا ضعيف وإن كان جمهور أهل العلم على ذلك، لكن كيف تدفع أمر الرسول- عليه الصلاة والسلام- وقوله: "صلوا حتى ينكشف ما بكم وينجلي"، وقوله: "يخوف الله بهما عباده" وأمثال ذلك هذه أمور عظيمة ولا مدفع للجمهور لذلك إلا بحديث الأعرابي، وهو: "هل علي غيرها. قال: لا، إلا أن تطوع"، وقد سبق لنا غير مرة أن هذا لا يمكن أن يستدل به على عدم وجوب الصلاة المقرونة بسبب؛ لأن المراد بالحديث: الصلوات الخمس اليومية المتكررة، بدليل أن الإنسان لو نذر أن يصلي ركعتين لكانت الصلاة واجبة بالنص والإجماع مع أنها غير الصلوات الخمس، فكذلك الصلوات الشرعية التي لم تجب بنذر لكن لها أسباب أخر علقها الشارع بها. ومن فوائد الحديث: استمرار الصلاة والدعاء حتى ينكشف لقوله: "حتى تنكشف"، "حتى تنجلي"، ونحن في الشرح قلنا: "حتى" هنا للغاية أو للتعليل؟ قلنا: إذا كان للغاية فإنها تدل على استمرار ذلك للانجلاء، وإذا كانت للتعليل فإنه يكفي أن يصلي ويقول: عن الرسول- عليه الصلاة والسلام- قال: "صلوا لأجل أن تنجلي"، فإذا صلينا فعلنا السبب، والانجلاء عند الله عز وجل، وعلى هذا فإذا صلينا ورأينا الكسوف بدأن ينجلي نقف لأن العلة انتهت، ولكن المشهور عند أهل العلم أنها للغاية، يعني: "صلوا وادعوا إلى كذا" إلا أنهم قالوا: إنها لا تعاد مرة أخرى على صفتها، ولكن لا حرج إذا انقضت الصلاة من أن تصلى تطوعًا على صفة التطوع المعهود. ومن فوائد الحديث: أن الكسوف غمة على العباد؛ ولهذا قال: "حتى تنجلي" وفي لفظ آخر: "وحتى ينكشف ما بكم" فهو غمة؛ لأنه ما دام تخويفًا من الله عز وجل فإنه يخشى أن يقع العذاب، وهذا لا نأمنه إلا إذا انجلى. * * *

القراءة في صلاة الكسوف جهرا

القراءة في صلاة الكسوف جهرًا: 479 - وعن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الكسوف بقراءته، فصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجداتٍ". متفق عليه، وهذا لفظ مسلمٍ. - وفي رواية له: "فبعث مناديًا ينادي: الصلاة جامعة". نقول: إن الرسول جهر في صلاة الكسوف بقراءته مع أن الكسوف كان بالنهار فيما ارتفعت الشمس قدر رمح ظهر كسوفها ففزع الناس وصلوا فجهر بالقراءة- عليه الصلاة والسلام-، وهكذا كل الصلوات النهارية التي يجتمع الناس عليها فإنه يجهر فيها بالقراءة تحقيقًا للاتفاق والإلفة؛ لأن الناس إذا اجتمعوا على قراءة الإمام صار تيقظهم أبين وأظهر من كون كل واحد يقرأ لنفسه، تأمل ذلك في صلاة الجمعة؛ لأن الناس يجتمعون فيها، وفي صلاة العيدين؛ لأن الناس يجتمعون فيها، كذلك في صلاة الكسوف؛ لأن الناس اجتمعوا فيها، والمشهور في صلاة الكسوف أن تصلى في مكان واحد كالجمعة هذا هو المشهور، وهو الأفضل، وأما فعل الناس اليوم وكونهم يصلون في كل مسجد فعلى سبيل التيسير، وإلا فالمشهور أن يحضروا للمساجد الجوامع كما فعل النبي- عليه الصلاة والسلام- فإنه جمع الناس في مسجد واحد؛ ولهذا قال أهل العلم: إنه يستحب أن تصلى الكسوف في المسجد الجامع؛ يعني: دون غيره من المساجد. وأقول الآن إذا قال قائل: ما السبب في أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- يجهر فيها وهي نهارية؟ قلنا: لأنها صلاة ذات جمع، وكل صلاة نهارية ذات جمع فإنه يجهر فيها بالقراءة. لماذا نعتبر ذلك؟ لصلاة الجمعة والعيدين، الاستسقاء تابع للعيدين، أما الجهر في صلاة الليل فله سبب آخر غير الاجتماع؛ لأن الناس يصلون في مساجدهم، سببه- والله أعلم- أن ذلك أقرب إلى الخشوع؛ لأن الإمام يجهر، ولاسيما إذا كان حسن الصوت والأداء اجتمع الناس عليه وصار خشوعهم أكثر؛ ولأن في الجهر ضربًا لما عسى أن يكون من النعاس والنوم. قالت: "جهر في صلاة الكسوف ثم صلى أربع ركعات في ركعتين" قد يقال: هذا شبه تنافر، كيف هذا؟ لأن أربع ركعات لا يمكن أن تحسب ركعتين؛ لكن يتبين في هذا الحديث وبما يأتي من الأحاديث أن المراد بالركعة هنا: الركوع وليس الركعة الكاملة، فيفرق بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة". فإن قوله: "من أدرك ركعة" ليس المراد به من أدرك ركوعًا، بل المراد: من أدرك ركعة كاملة بسجدتيها فقد أدرك الصلاة، قد

تقولون: من أدرك الركوع لزم أن يدرك ما بعده ولا عكس، ولكن نقول: إن ذلك ليس بلازم قد يدرك الركوع ولا يدرك ما بعده، افرض أنه يصلي الجمعة فركع الإمام وانقطع الصوت هل يمكن الائتمام الآن؟ لا يمكن، وعلى هذا فيكون قد أدرك الركوع ولم يدرك الركعة، ومثل هذا يلزمه أن يصلي أربعًا إلا إذا كان يمكنه أن يذهب إلى مكان يدرك فيه صلاة الإمام، المهم: أن المراد بالركعة هنا أربع ركوعات صلى أربع ركوعات في ركعتين، وبهذا يتبين أنه لا تناقض بين أربع ركعات وركعتين. وقوله: "وأربع سجدات"، السجود بقي على ما هو عليه؛ لأنها ما قالت: ثمان سجدات، إنما التكرار في الركوع، والحكمة- والله أعلم- من أجل كثرة القراءة حتى يفصل بين القراءتين فيكون أريح للناس؛ ولهذا تكرر الركوع دون السجود. فيستفاد من هذا الحديث فوائد: الأولى: أن المشروع في صلاة الكسوف الجهر، ولو في كسوف الشمس والدليل على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم. الفائدة الثانية: أن المشروع أن يصلي في كل ركعة ركوعين لقولها: "فصلى أربع ركعات في ركعتين". والفائدة الثالثة: أن السجود لا يتكرر أو لا يتغير على الأصح، بل في كل ركعة سجودان فقط لقولها: "وأربع سجدات". الفائدة الرابعة: الحكمة في التشريع، وأنه مناسب للعلة والسبب، فإنه لما كان الكسوف آية حسية لما تجر به العادة صارت الصلة له آية شرعية ليس لها نظير في الصلوات، فالشرع مناسب للقدر لا تناقضان ولا تنافيان، وهذا من عظيم حكمة الرب عز وجل، وفي رواية: ثم قالت: "فبعث مناديًا ينادي الصلاة جامعة"، "الصلاة جامعة" كلمتان ذكر الشراح أنه يجوز فيهما وجهان "الصلاة جامعة"، بالرفع على أنها مبتدأ أو خبر، "والصلاة جامعة" بالنصب على أن الأول مفعول لفعل محذوفط، و"جامعة" حال من الصلاة، والتقدير: احضروا الصلاة جامعة، ونحن في وقتنا الحاضر إذا علمنا أن فيها وجهين فإننا تنشرح صدورنا لهذين الوجهين؛ لأن الذين ينادون في الغالب لا يعرفون النحو تارة يقولون: "الصلاة جامعة"، وتارة يقولون بالرفع، وتارة يسكنون أيضًا يقولون: "الصلاة جامعة" فيجرون الوصل مجرى الوقف، والأمر في هذا واسع لا يتغير الحكم، ثم هي ليست أذانًا، ولهذا- مما استدل به من يقول: إن صلاة الكسوف ليست واجبة- استدلوا بهذا: بـ "الصلاة جامعة"، فالرسول ما قال: "حي على الصلاة" الجماعة في الصلوات الخمس واجبة، يقول: "حي على الصلاة" أما هذه فأخبرهم بأن "الصلاة جامعة" يعني: فمن شاء حضر ومن شاء لم يحضر، وهذا

صفة صلاة الكسوف

وإن كان فيه شيء من الشبهة، لكن ما سبق من تغير الرسول- عليه الصلاة والسلام- تغير حاله وفزعه، وأمره بالصلاة والدعاء والاستغفار، والتكبير كل هذا يدل على الوجوب. إذ قال قائل: الآن عندنا أربع ركوعات فبأيها تدرك الركعة هل بالأول أو بالثاني؟ يعني: حضر بعد الرفع من الركوع الأول، هذا فيه خلاف: من العلماء من يقول: إنه يكون مدركا للركعة؛ لأنه أدرك ركوعًا ويجوز أن تجعل صلاة الكسوف كالنافلة العادية، وعلى ذلك فيكون هذا الرجل أدرك الركعة. ومنهم من قال: لا بد من أن يدرك الركوع الأول؛ لأنه هو الركن وهذا سنة؛ ولأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- قال: "ما فاتكم فأتموا"، وهذا القول هو الصحيح؛ لأنه لا يكون مدركا للركعة إلا بإدراك الركوع الأول، ولو قضى الركعة يقضيها بركوعين. ويستفاد من الرواية الثانية: مشروعية النداء إلى صلاة الكسوف بهذا اللفظ لقوله: "فبعث مناديًا". ويستفاد منه: أنه يكرر بحسب الحاجة؛ لأن المنادي الذي ينادي جرت العادة أنه لا يقول: "الصلاة جامعة" مرة واحدة، فيتجول وينادي وهذا لا بد فيه من التكرار، فهل يكرره ثلاثًا، أو أربعًا، أو خمسًا؟ نقول: بحسب الحال والقدر الذي يحصل به الإسماع، فمثلًا إذا قلنا في مكان فيه رجة وكثر أصوات ومحركات نزيد التكرار، وإذا كنا في محل ليس هكذا فإننا لا حاجة إلى التكرار، هل نقول: نزيد على ذلك ونقول: صلوا يرحمكم الله كما يفعله بعض الناس؟ لا، الأولى اتباع ما ورد وإن كان هذا لا يظهر فيه قصد التعبد، لكن الأولى ألا نزيد، وهل نؤذن كالصلوات الخمس؟ لا؛ ولهذا بعض الناس في كسوف مضى قالوا لي: إنه أذن، فالظاهر أنه جاهل لا يدري. صفة صلاة الكسوف: 480 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "انخسفت الشمس على عهد رسول الله فصلى، فقام قيامًا طويلًا نحوًا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع فقام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قيامًا طويلًا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، فقام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه، ثم سجد، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس". متفق عليه، واللفظ للبخاري. - وفي رواية لمسلم: "فصلى حين كسفت الشمس ثماني ركعاتٍ في أربع سجداتٍ". متى كان خسوفها؟ يوم مات إبراهيم في شوال في السنة العاشرة في يوم الثلاثاء.

يقول: "فصلى فقام قيامًا طويلًا نحوًا من قراءة سورة البقرة"، "سورة البقرة" كم جزءًا؟ جزآن ونصف تقريبًا، وقراءة الرسول- عليه الصلاة والسلام- المعروف أنه يرتلها، كم تستوعب من ساعة؟ ممكن أن تستغرق ساعتين ونصفًا تقريبًا هذا في القيام الأول فقط، يقول: "ثم ركع ركوعًا طويلًا" قريبًا من قيامه إلى قوله: "دون القيام الأول" وهذا من الحكمة؛ لأن الناس بعد القيام الأول الطويل حصل لهم شيء من التعب فخفف القيام الثاني، يقول: "ثم ركع ركوعًا طويلًا دون الركوع الأول" والعلة فيه ما ذكرنا، "ثم سد ثم قام قيامًا طويلًا" هنا لم يذكر إلا سجودًا واحدًا ولم يذكر أنه طويل، لكن قد جاء في الأحاديث الأخر بأنه سجد سجودًا طويلًا نحوًا من ركوعه، وهذا هو المعروف من صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر البراء من عازب أن قيامه بعد الركوع، وركوعه، وسجوده، وجلسته بين السجدتين، أنه قريب من السواء. يقول: "ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول" أي الأول: الأول من الركعة الأولى، أو الأول الذي قبله؟ الظاهر أنه الأول الذي قبله؛ لأنك لو قلت: دون القيام الأول الذي في الركعة الأولى؛ صار القيام الأول في الركعة الثانية مساويًا للقيام الثاني في الركعة الأولى، فالظاهر خلافه. يقول: "ثم رفع ... إلخ"، كيف استوعبت هذه الصلاة؟ تقريبًا أربع ساعات أو أكثر؛ لأن كسوف الشمس كان كليًا كما ذكره الصحابة- رضي الله عنهم- أنها صارت كقطعة نحاس أحمر، ومثل هذا قد يستوعب أربع ساعات وهو يصلي صلى الله عليه وسلم والصحابة وهم قائمون، وقد ذكر جابر بن عبد الله أنه كان في يوم حار ولا يوجد مراوح ولا مكيفات، انظر الصبر العظيم على طاعة الله عز وجل، لكن بعضهم كان يسقط مغشيًا عليه، الضعفاء تعبوا من شدة الحر ومع ذلك الرسول- عليه الصلاة والسلام- ما راعى هؤلاء؛ لأنه إذا كانت السنة التطويل فإن الفرد إذا تعب أو الفردان لا يؤثر كما سيأتي في الفوائد إن شاء الله. قال: وفي رواية لمسلم: "صلى حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات" أي: ثماني ركوعات في أربع سجدات، هذا يبين قوله: "ثم سجد" أنه سجد سجودين في كل ركعة ليوافق الأحاديث الأخرى، لكن في مسألة الركوع إذا صلى ثماني ركعات كم كل ركعة من ركوع؟ أربع ركوعات، وهذا أمر لا يمكن؛ لأن حديث عائشة في الصحيحين يدل على أنه صلى أربع ركوعات في كل ركعة ركوعان، وحديث ابن عباس المتفق عليه كم من الركوع فيه؟ أربع ركوعات، ومعلوم أن ما اتفق الشيخان مرجح على ما انفرد به مسلم لا شك فيه، ومن المعلوم أن الكسوف في عهد الرسول- عليه الصلاة والسلام- لم يقع إلا مرة واحدة بالاتفاق، وعلى هذا فيكون المقصود: أربع ركوعات وأربع سجدات، وما عدا ذلك فهو شاذ؛

لأن الشذوذ ما خالف فيه الثقة من هو أرجح منه وأحسن منه وأوثق منه، إذن المعتمد الذي فعله الرسول- عليه الصلاة والسلام- في صلاة الكسوف كم؟ أربع ركوعات وأربع سجدات فقط. نرجع إلى فوائد حديث ابن عباس رضي الله عنهما، يستفاد منه: قوة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة؛ لأنه قام هذا القيام الطويل. ويستفاد منه: أنه- بأبي وأمي- أهل لأن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إذا كان هذا عبادته لربه هذه العبادة التي لا يلحقها لاحق؛ فهو أهل لأن يغفر الله له ما تقدم وما تأخر. ويستفاد منه: تحقيق قول الرسول- عليه الصلاة والسلام-: "إني لأعلمكم بالله وأخشاكم لله". يقول عن نفسه- عليه الصلاة والسلام- وهو صادق إذا كان يقوم في الليل حتى تتفطر قدماه هذه الخشية وهذه العبادة وهذه التقوى. ويستفاد منه: أن الناس كثيرون، من أين يؤخذ؟ لأن حديث عائشة صرح بالجهر، ولم يصرح ابن عباس بأي شيء قرأ، ففيه دليل على أنه لم يسمع بل كان في المؤخر، وهذا يدل على أن الجمع كثير، وبه نرد على من قال: إن صلاة الكسوف لا يجهر فيها بالقراءة، واستدل بهذه الجملة؛ لأن بعض أهل العلم يقولون ذلك ويستدلون بقوله: "نحو من قيامه"، قالوا: لو كان يجهر لكان ابن عباس يسمع ويدري ما قرأ، لكننا نقول: كيف نرد اللفظ الصريح في حديث عائشة جهر بشيء محتمل ونحمله على وجه صحيح، ولا يلزم منه أنه لا يجهر وهو كثرة الجمع. ويستفاد من حديث ابن عباس: أنه ينبغي تطويل صلاة الكسوف ولو شق ذلك على بعض الناس، لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- أطال وهذا يشق على بعض الناس، وقد ثبت في الصحيح أن بعضهم سقط من الغشية. ويستفاد منه: أن الإنسان ينبغي له اتباع السنة وتطبيق المشروع، ولو شق ذلك على أفراد الناس إلا الأمور العارضة، لو قال لنا بعض الناس: أنا أحب أن يكون مسجدنا مسجدًا جامعًا، فلا نوافقه؛ لأن هذا يخل بمقصد الشرع باجتماع الناس كل أسبوع في مسجد واحد، ولهذا ما صار تعدد الجمعة للمسلمين إلا في القرن الثالث، يعني: مضى قرنان على المسلمين ما تعددت الجمع في مكان واحد إلا في القرن الثالث في بغداد، كل هذا حماية لهذا الجمع العظيم أن يتفرق، وأما ما يفعله بعض الناس من التهاون- حتى إني أسمع أن في بعض البلاد

الإسلامية كل مسجد تقام فيه الجماعة فإنها تقام فيه الجمع- فهذا منكر، اللهم إلا إذا كان الناس كثيرين والمساجد تضيق بهم فإنه على حسب الحاجة. ويستفاد من حديث ابن عباس: تفصيل صلاة الكسوف: قيام، ثم ركوع، ثم قيام، ثم ركوع، ثم سجود، لكن القيام الذي بعد الركوع الثاني ليس فيه قراءة، في القيام الذي بعد الركوع الأول يقرأ القرآن، لكن هل يقرأ الفاتحة أو لا؟ اختلف في هذا أهل العلم، فمهم من قال: إنه يقرأ الفاتحة، ومنهم من قال: إنه لا يقرؤها، الذين قالوا: إنه لا يقرأ الفاتحة، قالوا: إن هذه ركعة واحدة، وقد قرئت فيها الفاتحة ولا حاجة إلى إعادتها، والذين قالوا: يقرأ الفاتحة، قالوا: لما كانت هذه القراءة يعقبها ركوع صار لا بد فيها من قراءة الفاتحة كالركوع الأول، وأنا إلى الآن ما اطلعت على شيء في الأحاديث يبين أنه قرأ الفاتحة بعد الركوع الأول، ونريد منكم تحرير هذه المسألة: هل أنه يقرأ الفاتحة بعد الركوع الأول أو يقتصر على الفاتحة التي قبل الركوع الأول. ويستفاد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: الخطبة بعد الصلاة لقوله: "فخطب الناس" هذه الخطبة هل هي خطبة راتبة أو خطبة عارضة؟ فيها خلاف، فقال بعض أهل العلم: إنها خطبة راتبة، وأنه يشرع لصلاة الكسوف خطبة، واستدلوا بأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- خطب وحمد الله وأثنى عليه ووعظ الناس وهذه خطبته، ولم يقع لكسوف مرة أخرى يتركها الرسول- عليه الصلاة والسلام- حتى نعرف أنها خطبة عارضة، ففي الحقيقة لما لم يقع الكسوف مرة أخرى، ويدع الرسول- عليه الصلاة والسلام- هذه الخطبة فإننا لا ندري، لا نستطيع أن نقول: إنها خطبة عارضة، ونجزم بذلك، فالذين قالوا: إنها خطبة لازمة مشروعة لهذه الصلاة لهم وجهة قوية وهو مذهب الشافعي، وأنه يشرع أن يخطب لها لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه حمد الله وأثنى عليه، وخطب الناس ووعظهم والمشهور من مذهب الحنابلة أن هذه الخطبة خطبة عارضة لا لازمة للصلاة، وأنه إن رأى ما يوجب الخطبة خطب، وإلا فلا واستدلوا لذلك بأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- أمر بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والتكبير والعتق ولم يذكر الخطبة، وعندي أن في هذا الاستدلال نظرًا؛ لأن الخطبة إنما يخاطب بها الإمام بخلاف الأشياء الأخرى. فالقول بأن الخطبة خطبة راتبة لا عارضة قول قوي، ولكن إذا كان الإمام لا يعرف الخطبة، فما الجواب؟ الجواب: أن هذا الإيراد غير وارد؛ لأننا قلنا: إن المشروع أن تكون في الجوامع، وأئمة الجوامع غالبًا يستطيعون الخطبة، لكن على حسب الواقع وهي أنها تقام في كل مسجد، فإن بعض أئمة المساجد لا يستطيع أن يخطب، نقول: يمكن أن ينوب عنه واحد

من الحاضرين- إذا كان يعرف الخطبة- يقوم فيخطب ويذكر الناس، وعندي أنه في وقتنا الحاضر حتى لو قلنا: إن الخطبة عارضة لا راتبة، فإنه ينبغي أن يخطب؛ لأن الناس عندهم جهل عظيم وإعراض عن الآيات كبير، ولاسيما وأنه ينشر في الصحف وبين الناس الحديث عن الكسوف ووقته، فيأتي الكسوف وكأنهم متفتحون له منشرحو الصدور، ما كأنه أمر يخشى منه أو يفزع منه، وهذا لا شك أنه يقلل أهمية الكسوف في قلوب الناس، فإذا قام أحد بعد صلاة الكسوف ووعظ فيكون في هذا خير. ويستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي في صلاة الكسوف أن تكون كل ركعة أقصر مما قبلها، كل قراءة وركوع تكون قصر مما قبله لهذا الحديث؛ ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى وهي الحكمة في التشريع ومراعاة أحوال الناس، لكن بدون أن نهدر الأمر المشروع، وأنه فيما يظهر لنا أن تخفيف الرسول- عليه الصلاة والسلام- كل ركعة عما قبلها من أجل مراعاة أحوال الناس. ويستفاد منه أيضا: وجوب الرفع من الركوع ومن السجود، وأنه أمر لا بد منه، ووجوب الركوع والسجود، لكن الركوع الثاني من كل ركعة عند أكثر أهل العلم سنة وليس بواجب. روايات في كيفية صلاة الكسوف: 481 - وعن علي رضي الله عنه مثل ذلك. 482 - وله عن جابرٍ رضي الله عنه: "صلى ست ركعاتٍ بأربع سجداتٍ". 483 - ولأبي داود: عن أبي كعب رضي الله عنه: "صلى، فركع خمس ركعاتٍ وسجد سجدتين، وفعل في الثانية مثل ذلك". كم يكون الجميع إذا كان خمس في الأولى، وخمس في الثانية؟ عشرة، وذكر الفقهاء أنه يجوز إلى ست يكون ركوعين وثلاثًا، وأربعًا، وخمسًا وستًا؛ لأن هذه وردت عن الصحابة- رضي الله عنهم-، ومثل هذا من المرفوع حكمًا؛ لأنه لا مجال للرأي فيه؛ ولهذا قال أهل العلم: إذا فعل الصحابي فعلًا يتعبد به لله فليس للرأي فيه مجال فيكون له حكم الرفع، ومثلوا بصلاة علي رضي الله عنه في الكسوف، ثلاث ركوعات في كل ركعة فيكون الجميع ستا. المهم: هل هذا على سبيل التخيير والتشهي، يعني: كونه يزيد على ركوعين في كل ركعة

الدعاء عند هبوب الريح

هل هو على سبيل التخيير والتشهي، أو أنه ينبغي أن ينظر الإنسان لمقتضى الحال؟ إذا كان الكسوف قد بدأ يضمحل فإنه يجعل ركوعين في كل ركعة، وإن كان الكسوف في أوله ولاسيما أننا في الوقت الحاضر نعلم أنه سيبقى ساعتين، أو ثلاثًا فإننا نزيد في الركوعات، نعم يمكن أن يقال بهذا، لكن الذي أختاره: أن نقتصر على المرفوع الصحيح وهو أربع ركوعات في ركعتين وأربع سجدات. الدعاء عند هبوب الريح: 484 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما هبت الريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، وقال: اللهم اجعلها رحمةً، ولا تجعلها عذابًا". رواه الشافعي والطبراني. قوله: "هبت" يعني: تحركت، وقوله: "قط" هذه- كما مضى- ظرف مبني على الضم في محل نصب، وقوله: "إلا جثا" بمعنى: برك، وقوله: "على ركبتيه" يعني: برك على ركبتيه، هكذا وهذه صفة الخائف من الشيء يبرك على ركبتيه، يكون كالمستلقي في الصلاة، لكن ينزل ظهره. قوله: "اللهم اجعلها رحمة"؛ اجعلها أي: هذه الريح، وعلى هذا فهي مؤنثة كما جاءت في القرآن: {ريح فيها عذب أليم} [الأحقاف]. فهي لفظها مذكر لكن معناها مؤنث، "ولا تجعلها عذابًا"؛ لأن الرياح بعضها رحمة وبعضها عذاب. واعلم أن الرياح من آيات الله عز وجل كما قال الله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ... } إلى قوله: {وتصريف الريح} [البقرة: 164]. فتصريف الرياح من آيات الله عز وجل يصرفها شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، تصريف في الجهة، يصرفها في الحركة والاندفاع، بعضها شديدة وبعضها خفيف، يصرفها في المصالح والمضار، يصرفها في الحر والبرد، يصرفها في الارتفاع والانخفاض ... إلى غير ذلك مما لا نعلمه، تصريف هذه الرياح من آيات الله بلا شك، لو اجتمعت جميع ماكينات العالم على أن تجعل الرياح من جهة محدودة مثل تلك الرياح العاصفة لا يستطيعون، ولكن من له القدرة على كل شيء يفعل ذلك- سبحانه وتعالى-، ففي هذه الرياح آيات عظيمة من آيات الله، وهي تأتي بالخير وتأتي بالشر، ولهذا ثبت في صحيح مسلم- وليت المؤلف جاء به- من حديث عائشة أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- كان

يقول: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به"، فهنا تجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعاذ من ثلاثة أمور: شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به، وهذه لها معان مختلفة: "شرها" هي بنفسها، لأنها قد تحدث شرًا على الإنسان، إما عامًا أو خاصًا، و"شر ما فيها" قد تحمل أشياء أوبئة تحملها معها فتأتي بها إلى الناس، "وشر ما أرسلت به"؛ لأنها قد ترسل عذابًا تدمر، وأما "أسألك خيرها ... إلخ" فهو على ضد قوله" "أعوذ بك من شرها ... إلخ". وقد مر علينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن سب الريح. وأنه لا يجوز للإنسان أن يسب الريح؛ لأنها مرسلة مأمورة، فسبها سب لمن أرسلها- سبحانه وتعالى- فلا يحل لأحد أن يسب الريح مثل: أن يلعنها أو يسبها بوصف عيب أو ما أشبه ذلك، ولكن إذا قال: ريح شديدة مدمرة فهذا صحيح؛ لأن الله وصف ريح عاد بأنها: {تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} [الأحقاف: 25]. وأكثر ما جاء في القرآن الرياح بالجمع عندما تأتي بالخير كالمطر كقوله: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلدٍ ميتٍ فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور} [فاطر: 9]. قوله: {وهو الذي أرسل الرياح ... } [الفرقان: 48]. وعندما تأتي ريح بلفظ مفرد غالبًا يكون ذلك عندما تأتي بالشر والعذاب كقوله تعالى: {ريح فيها عذاب أليم} [الأحقاف: 24]. {إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} [الذاريات: 41] لكن قد تأتي الريح مفردة لكنها توصف بما يدل على الخير مثل قوله: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيبةٍ} [يونس: 22]. لأن الفلك لا يناسبها الرياح، الذي يناسبها الريح الواحدة؛ لأن الرياح تعرقل سيرها، وكانت الفلك شراعية تمشي على حسب الهواء، فلو تصرفت الرياح لكان ذلك عائقًا لها عن سيرها، فإذا جاءت ريح واحدة وكانت طيبة صار هذا أتم للنعمة. وقوله هنا: "ما هبت الريح إلا جثا"- إن صح الحديث- المراد: الهبوب الشديد؛ ولهذا في صحيح البخاري. "أنه إذا عصفت الرياح عرف ذلك في وجهه"، وعلى هذا فيكون هنا "هبت" إذا صح الحديث، "ويجثو على ركبتيه" معلوم أنه لا يجثو إلا بأفعال في نفسه، فإذا كان لا يعرف في وجهه عن الريح شيئا إلا إذا عصفت دل على أن المراد بقوله هنا: "إذا هبت" يعني: هبوبًا عاصفًا، أما الهبوب المعتاد فإن الرسول- عليه الصلاة والسلام- لا يفعل فيه هذا. وفي هذا الحديث دليل على شدة مخافة الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه وعقابه، ولهذا كان إذا رأى

سحابًا أو غيمًا صار يقبل ويدبر ويدخل ويخرج، فتقول له عائشة: يا رسول الله، الناس إذا رأوا ذلك قد يستبشرون، فقال: "يا عائشة، وما يؤمنني أن يكون في ذلك عذاب"، قد عذب قوم عاد بالريح، لما رأوا الريح مقبلة ماذا قالوا؟ {هذا عارض ممطرنا} [الأحقاف: 24]. ما ظنوا أنه ريح تدمرهم فقال الله تعالى: {بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} [الأحقاف: 24 - 25]. نسأل الله العافية. فالحاصل: أن كل من بالله أعرف كان منه أخوف؛ لأن الإنسان إذا نظر إلى ذنوبه وإلى تقصيره خاف من الله عز وجل، ولولا أن الإنسان يعتمد على خوف الله عز وجل وسعة رحمته وإحسانه لهلك، لكن يرجو ويخاف، إن نظر إلى عفو ربه وسعة فضله وإحسانه رجع، وإن رأى تقصيره قال: إني خائف، وفي الحقيقة لا تنظر إلى تقصيرك باعتبار زمانك؛ لأنك إن نظرت إلى تقصيرك باعتبار زمانك قد يؤدي بك ذلك إلى أن تعجب بنفسك؛ لأنك قد ترى كل من حولك أقل منك في عبادة الله، لكن انظر إلى تقصيرك بالنسبة إلى من سبقك، انظر إلى حال النبي- عليه الصلاة والسلام- وحال الصحابة، عمر رضي الله عنه، لما سمع القارئ يقرأ} إن عذاب ربك لواقع (7) ما له دافع} [الطور 7 - 8]. مرض حتى صار يعاد من خوفه من الله عز وجل، ونحن تمر على قلوبنا هذه وكأنها قطعة ثلج، فأنت إذا أردت أن تعرف قصورك وتقصيرك فانظر إلى حال من سبقك، أما إذا نظرت إلى حال زمانك فقد يحملك ذلك أن تقول: أنا من أولياء الله، وهذا غلط؛ لأن الكل عباد الله الذين فيما سلف والذين في وقتنا هذا، كلهم عباد الله، يجب أن يتعبدوا لله عز وجل بما شرع، ونحن إذا ظرنا إلى حال الصحابة والتابعين وجدنا أن بيننا وبينهم كما بين الثرى والثريا، وعرفنا تقصيرنا تمامًا، المهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخاف وكان يفعل هكذا. وقال: "اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابًا"، تكون الريح رحمة؟ نعم، ما الدليل؟ {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} [الأعراف: 57]. وتكون عذابًا: {وفي عادٍ إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} [الذاريات: 41]، {وأما عاد فأهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ} [الحاقة: 6]. ريح لها صوت باردة والعياذ بالله عاتية قوية {سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيامٍ حسومًا} [الحاقة: 7]. متتابعة قاطعة والعياذ بالله، والعذاب يأتي صباحًا: {فأتبعوهم مشرقين} [الشعراء: 60]: آل فرعون، ولوط أهلكوا قومه صباحًا قال تعالى: {أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} [الحجر: 66]. {إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب} [هود: 81]. لأن الإنسان إذا أصبح وأمن العقوبة بالليل قال: راح كل شيء، فيأتيه العذاب في الوقت الذي يكون فيه آمنا من الوقت الآخر الناس يخافون العذاب والسطو بالليل فإذا أصبحوا أمنوا فيأتيهم العذاب في الوقت الذي يكونون فيه آمن ما يكون، نسأل الله العافية. والحاصل: أن الله عز وجل أرسل هذه الريح على عاد فدمرتهم، لأن عادًا ماذا كانوا يقولون:

حكم الصلاة للزلازل

{من أشد منا قوة} فقال الله عز وجل: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً} [فصلت: 15]. وتأمل قوله: {الذي خلقهم} يعني: أنهم مخلوقون مربوبون مغلوبون مقهورون، أهلكوا بألطف الأشياء وهي الريح التي صارت تأخذ الواحد منهم إلى السماء ثم ينقلب فيقع في الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية نعوذ بالله، وفرعون كان يفتخر بالأنهار التي تجري من تحته، فبماذا أهلك؟ بنظيرها أي: بجنسها، أهلك بالغرق، فهذه سنة الله عز وجل نسأل الله أن يحمينا وإياكم من عذابه. قال: {ولا تجعلها عذابًا"؛ لأن الله قد يجعلها عذابًا، ثم اعلم أن هذه الرياح وإن كان لها أسباب طبيعية لكن الذي خلق أسبابها الله عز وجل، فيكون الله تعالى يحدث أسبابًا قد يعلمها بعض الناس وقد لا يعلمها، تكون منها هذه الرياح شديدة لتدمر من شاء الله أن تدمره، ولقسوة قلوبنا وعتو نفوسنا في الوقت الحاضر إذا جاءت مثل هذه الأعاصير العظيمة ماذا نقول؟ نقول: تقلبات الطقس، ما يضيفون هذا الأمر إلى الرب عز وجل، ولا يخشون ولا يخافون، لكن القلوب قاسية، هذا الحجر لا ينفع إلا أن يضربه السندان حتى يكسره، أما إذا فعلت شيئا حوله فهو قاس لا يلين، نسأل الله أن يلين قلوبنا، وهذا من جهلنا في الحقيقة. حكم الصلاة للزلازل: 485 - وعنه رضي الله عنه: "أنه صلى في زلزلة ست ركعات، وأربع سجدات، وقال: هكذا صلاة الآيات". رواه البيهقي. وذكر الشافعي عن عليٍ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه مثله دون آخره. "عنه" من؟ ابن عباس، "صلى في زلزلة"، الزلزلة: رجة الأرض، والله تعالى قد يزلزل الأرض وتهلك وتدمر، هذه الزلزلة في لحظات تدمر آلاف الناس، وآلاف المساكن، ولو أن الإنسان تصور كيف يكون بهذه الزلزلة التي مثل الشرارة كأنها شرارة من سرعتها وتحدث هذا الأمر العظيم، أنا أذكر قبل سنوات حدث زلزال في إيران دمر خمسًا وعشرين مدينة، وأكثر من مائتين قرية، وأكثر من خمسة وعشرين ألفا ماتوا في لحظة، والذي حصل في اليمن قبل عدة سنوات قال الذين وصفوه: ما حسبنا إلا أن القيامة قامت حتى خرج الناس والأم ذاهلة عن طفلها فزعا مع أنها أقل من ثانية، هذا فعل الله عز وجل إذا شاء، هذه الزلزلة من آيات الله يخوف الله بها عباده، فهل يصلى لهذه الآية أو لا يصلى؟ اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من قال: لا يصلى لها؛ وإنما يصلى للكسوف خاصة؛ لأنه الذي ورد به النص، والنبي- عليه الصلاة والسلام- قال: "آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده"، مع أننا نجد في عهد الرسول- عليه

16 - باب الاستسقاء

الصلاة والسلام- هبت الرياح والرعود وغيرها ومع ذلك ما كان يصلي غير الكسوف، لدل هذا على أنه لا يصلى إلى للكسوف. وقال بعض أهل العلم: يصلى للكسوف وللزلازل لورود ذلك عن الصحابة في الزلازل، والصحابي فعله حجة إذا لم يخالفه غيره. وقال آخرون: بل يصلى لكل آية إلا ما ورد له سنة معينة فيقتصر فيه على ما ورد، فمثلا الريح ورد بها سنة معينة وهي الاستعاذة منها وسؤال خيرها فلا يصلى لها، ولكن غيرها من الأشياء التي تخوف العباد يصلى لها، مثل لو فرض أن الله عز وجل أرسل صواعق وصارت الصواعق متتالية دائمًا دائمًا دائمًا في زمن من الأزمان هذا يرعب أشد من إرعاب الكسوف، فمثل هذا يصلى له، قال الفقهاء: وكذلك لو وجد ضياء في الليل أكثر من العادة بدون قمر فإن هذا مرعب؛ لأنه على خلاف العادة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ قال: لأن العلة: "آيتان يخوف الله بهما عباده"، تدل على أن كل ما كان كذلك فإنه يصلى له، ولكن المشهور من المذهب أنه لا يصلى إلا للزلازل فقط لورودها عن الصحابة- رضي الله عنهم-. * * * 16 - باب الاستسقاء "الاستسقاء": طلب السقيا، وهي من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي: باب الصلاة التي سببها طلب السقيا، وطلب السقيا لا يكون إلا من الله عز وجل، لأن الله تعالى هو وحده الذي ينزل الغيث، واعلم أنه كما ثبت في صحيح مسلم: "ليس السنة ألا يمطر الناس ولكن السنة أن يمطروا فلا تنبت الأرض". نسأل الله العافية؛ لأنه قد يأتي المطر وتنبت الأرض ببركة من الله عز وجل، وقد يأتي المطر ولكن لا تنبت الأرض، وهذا مشاهد أحيانًا، وعليه فإننا إذا طلبنا السقيا من الله عز وجل نطلب السقيا مع كونها غيثًا، والغيث هو: ما تزول به الشدة. والاستسقاء له عدة أوجه؛ منها: دعاء الناس أفرادًا كلٍّ يدعو مثلًا في الصلاة، يدعو في أي مناسبة، ومنها: الاستسقاء في خطبة الجمعة كما في حديث أنس، ومنها: الاستسقاء في أي مكان، أن يطلب من أحد أن يدعو الله تعالى بالسقيا، وقد طلب الصحابة من الرسول- عليه الصلاة والسلام- أن يستسقي لهم مرة من المرات فقال: "اللهم أغثنا، حتى يقوم أبو لبابة فيسد ثعلب مربده بردائه". فأمطرت السماء وكثر المطر وخاف الناس، فماذا قالوا؟ لا يمكن أن

صفة صلاة الاستسقاء والخطبة لها

يتوقف المطر حتى يذهب هذا الرجل ويسد ثعلب مربده بردائه، "ثعلب المربد": الشق الذي يدخل معه المطر، فذهب فسد ثعلب المربد بردائه، فما إن سده حتى توقف المطر هذا من بركات النبي- عليه الصلاة والسلام-. ومن آيات الله إذن الاستسقاء باب السقيا وهو على أوجه منها أن يدعو الناس أفرادًا، ومنها: أن يدعى في خطبة الجمعة، ومنها: أن يدعى في أي مكان مما يسأل فيه الإنسان أن يستسقي، ومنها- وهو الرابع- الصلاة وهو أن يخرج إلى المصلى ويستسقي للناس. صفة صلاة الاستسقاء والخطبة لها: 486 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعًا، متبذلًا، متخشعًا، مترسلًا، متضرعًا، فصلى ركعتين، كما يصلي في العيد، لم يخطب خطبتكم هذه". رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وأبو عوانة، وابن حبان. "خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعًا" يعني: في ضعة، ما معه جمهور يمشون بين يديه، ولا عن خلفه، ولا عن يمينه، ولا عن شماله، ولا لبس اللأمة ولا حمل السيف، إنما خرج متواضعًا- عليه الصلاة والسلام-، وهل خرج متجملًا بثيابه؟ لا، ولهذا قال: "متبذلًا" يعني: ليس عليه إلا لباسًا عاديًّا؛ لأن هذا ليس يوم فرح كيوم العيد حتى يخرج متجملًا، إنما هو يوم تضرع واستكانة وطلب وحاجة وفقر، فخرج- عليه الصلاة والسلام- متبذلًا، "متخشعًا" يعني: ظاهرًا عليه الخشوع على هيئته وحركته ومشيته وعلى قلبه من باب أولى، إذا خشع القلب خشعت الجوارح، "مترسلًا" يعني: في مشيه لا يسرع، وهذا ترسل أكثر مما كان يعتاد- عليه الصلاة والسلام-، "متضرعًا" إلى من؟ إلى الله عز وجل، يعني: مظهرًا للحاجة والفاقة والفقر لله- سبحانه وتعالى-، وهذا الأخير لا يعلم إلا بإخبار الرسول- عليه الصلاة والسلام- لأن محله القلب، فالظاهر: أن ابن عباس رضي الله عنهما علم هذا من إخبار الرسول- عليه الصلاة والسلام- له. "فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه"، قوله: "فصلى ركعتين كما يصلي في العيد" يعني: يكون فيهما تكبير زائد؛ لأنه لم يقل: ركعتين وسكت، بل قال: "ركعتين كما يصلي" "الكاف" للتشبيه، و"ما" مصدرية، و"يصلي" فعل مضارع، والمضارع منسبك بـ "ما" المصدرية فيؤول مصدرًا والتقدير: كصلاته في العيد، وقوله: "لم يخطب خطبتكم هذه" يشير إلى خطبة لا نعلمها في الحقيقة ولا فسرها الشراح، وكأنهم بعد عهد الرسول- عليه الصلاة والسلام-

صار الخطباء يأتون بخطب إما أنها مملة، وإما أن فيها أدعية مثلًا غير مناسبة ما نعرف، المهم: أنه لم ينف الخطبة مطلقًا، وإنما نفى الخطبة التي تشبه خطبة هؤلاء، وعلى هذا فلا يكون في هذا الحديث دليل على أن الرسول لم يخطب. يستفاد من هذا الحديث: أولًا: مشروعية الخروج لصلاة الاستسقاء لقوله: "خرج". الثاني: أنه ينبغي أن يكون على هذه الصفة متواضعًا متبذلًا متخشعًا مترسلًا متضرعًا، هيئة الفقير المسكين المستجدي، لا هيئة الفرح الذي يلبس الثياب الجميلة ويتطيب وما أشبه ذلك. ومن فوائد الحديث: مشروعية صلاة الركعتين في الاستسقاء، وأن تكون على صفة صلاة العيد؛ لقوله: "فصلى ركعتين كما يصلي في العيد"، وهذا هو الذي تدل عليه الأدلى، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يصلي ركعتين كالعادة، ولكن الصواب ما دل عليه الحديث، وأن بعض أهل العلم إلى أنه يصلي ركعتين كالعادة، ولكن الصواب ما دل عليه الحديث، وأن الألفاظ التي- تأتينا إن شاء الله- في الأحاديث مطلقة- مثل: "صلى ركعتين"- تحمل على هذا المقيد. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي أن تكون الخطبة مختصرة ملخصة مفيدة لقوله: "لم يخطب كخطبتكم هذه". ومنها: مشروعية الخطبة، كيف ذلك مع أن ابن عباس نفى؟ لا، ابن عباس نفى الصفة، ونفي الأخص يستلزم وجود الأعم. هذه قاعدة مفيدة؛ ولهذا قلنا: إن قول الله تعالى: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103]. تدل على أن الله يرى؛ لأن نفي الأخص يقتضي ثبوت الأعم. فعلى هذا نقول: هذا يدل على ثبوت الخطبة، لكن ليست كخطبة هؤلاء. ومن فوائد الحديث: أن التغير- تغير الناس- قد ظهر منذ عهد الصحابة لقوله: "كخطبتكم هذه". ومن فوائد الحديث: أنه يجب على أهل العلم أن يبينوا للناس ما خالفوا به السنة لقوله: "لم يخطب كخطبتكم هذه"؛ لأنه إذا لم يبين أهل العلم ما خالف فيه الناس السنة بقيت السنة مجهولة ثم يتوسع الأمر حتى تزول سنن كثيرة بسبب سكوت الناس، لكن هاهنا مسألة وهي أن بعض الناس يخذل أهل العلم في بيان الحق يقول: لماذا تبين والناس غير مستفيدين؟ هذا حرام، لا يجوز هذا الكلام؛ لأن هذا هو التخذيل عن الحق، والعلماء إذا بينوا الحق لو لم يكن من ذلك إلا أن الناس يعرفون أنهم على باطل سواء نفع أو لم ينفع لأن العلماء إذا سكتوا عما عليه الناس من مخالفة الحق ماذا يظن الناس؟ يظنون أن هذا صواب حق فيستمدون عليه ويستمرئونه لكن إذا رأوا الإنكار عرفوا أنهم ليسوا على حق، وهذا لو لم يكن من ذلك إلا هذه الفائدة لكان كافيا، فلا تستهن ببيان الحق أبدًا.

الدعاء في صلاة الاستسقاء

الدعاء في صلاة الاستسقاء: 487 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبرٍ، فوضع له بالمصلى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت علينا قوةً وبلاغًا إلى حينٍ، ثم رفع يديه، فلم يزل حتى رئي بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب رداءه، وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله تعالى سحابةً، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت". رواه أبو داود وقال: غريب، وإسناده جيد. "شكا" الشكاية معناها: رفع الشكوى، والشكوى هي: ذكر ما يتألم به الإنسان لمن يزيله مثل: الرجل يشكو إليك الفقر معناه يذكر لك هذا الفقر من أجل أن تزيله سواء أزلته بنفسك أو أزلته بوسيلة، الناس رفعوا إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام- ما حل بهم لأجل أن يزيل هذا ليس بنفسه، ولكن بواسطة دعائه، وقولها: "قحوط المطر" قحوط هو: فحط مصدر قحط يقحط أو يقحط بمعنى: انحبس وامتنع، والمعنى: أن المطر تأخر واحتبس فشكوا للنبي صلى الله عليه وسلم. قالت: "فأمر بمنبر فوضع له بالمصلى"، المنبر مأخوذ من النبر وهو الارتفاع، وكل شيء مرتفع بالمعنى العام منبر، لكن المراد به هنا: المنبر الذي يصنع، والظاهر أنه صنع من خشب، وقولها: "بالمصلى" المراد به: مصلى العيد. "ووعد الناس يومًا يخرجون فيه"، ولم يعين أيوم الاثنين أو الخميس أو الأربعاء، لم يعين يومًا، لكن المهم: أن يعين ذلك اليوم للناس لأجل أن يستعدوا له ويخرجوا. "فخرج حين بدا" أي: ظهر وبدأ بالهمزة بمعنى ارتفع وشرع في الشيء {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} [المائدة: 99]. يعني: ما تظهرون، إذن بدا بمعنى: ظهر. وقوله: "حاجب الشمس" قالوا: إنه ضوء الشمس، فسمي ضوؤها حاجبًا؛ لأنه يحجب قرصها عن النظر هكذا ذكره في القاموس، فيكون حاجب هنا بمعنى الضوء، وإن كان يتبادر إلى الذهن أن المراد بحاجب الشمس: قرصها، وأن الحاجب بمعنى محجوب، أي: بدا محجوبها بالأفق وظهر، ولكن الذي في القاموس: أن الحاجب هو الضوء وهذا يقتضي أن الشمس ارتفعت حتى صار لها شعاع يمنع من رؤية قرصها.

تقول: "فقعد على المنبر .. إلخ"، إذن الخطبة قبل الصلاة، "فكبر وحمد الله"، يعني: قال: الله أكبر، "وحمد الله"، يعني: قال أحمد الله، أو الحمد لله، ثم قال: "إنكم شكوتم جدب دياركم"، وتأمل أول الحديث تقول: "إنهم شكوا قحوط المطر"، وهنا قال النبي- عليه الصلاة والسلام-: "إنكم شكوتم جدب دياركم"؛ لأن العبرة بجدب الديار لا بالمطر، فالمطر قد ينزل وتجدب الديار، وجدبها بمعنى: المحل وعدم خروج النبات؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "ليس السنة ألا تمطروا إنما السنة أن تمطروا فلا تنبت الأرض شيئا". ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم الشيء الذي هو المقصود وهو جدب الديار. قوله: "وقد أمركم الله أن تدعوه"؛ لقوله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60]. وقال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعواه الداع ... } الآية [البقرة: 186]. وقال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفيةً إنه لا يحب المعتدين} [الأعراف: 55]. والآيات كثيرة، وقوله: "أمركم الله أن تدعوه"، "ووعدكم أن يستجيب لكم" أين الوعد؟ {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}، {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب}، فالأولى أمر والثانية خبر، وكلاهما لا يتخلف ما دام الله قد وعد به؛ لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد لتمام علمه وقدرته. وقوله: "ووعدكم أن يستجيب لكم" هل هذا على إطلاقه؟ الجواب: نعم على إطلاقه، لكن لا بد له من شروط، ثم الاستجابة لا يلزم أن تكون عين المدعو به، فقد يستجيب الله له بأشياء أخرى فمثلًا قد يستجيب ما طلب وقد يرفع عنه من السوء مثله أو أعظم، وقد يدخر ذلك له إلى يوم القيامة حسب ما تقتضيه حكمته- سبحانه وتعالى- إنما الأصل أنه يستجيب ما دعا به الإنسان، ثم قال النبي- عليه الصلاة والسلام- بعد أن هيأ النفوس للدعاء، وهنا هيأها من وجهين: الوجه الأول: من ذكر حالهم، وأن بلادهم قد أجدبت، وهذا يقتضي حرص الإنسان على الدعاء؛ لأنه يكون دعاء المضطر. والوجه الثاني: من ذكر أن الله تعالى أمر بالدعاء والاستجابة، لما تهيأت النفوس شرع النبي- عليه الصلاة والسلام- في الدعاء، ثم قال: "الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين" بدأ بهذه الآيات الثلاث؛ لأنها أبلغ ما يثني به الإنسان على ربه، "الحمد لله" يعني: الوصف بصفات الكمال على وجه الاستغراق والشمول والاستحقاق والاختصاص ثابت لله، و"رب العالمين" يعني: خالقهم ومالكهم ومدبرهم، و"العالمون" كل من سوى الله، وهنا ذكر الربوبية بعد الألوهية لتلازمهما؛ لأن كل من أقر بالربوبية لزمه أن يقر بالألوهية، ثم قال:

"الرحمن الرحيم" يعني: ذو الرحمة الواسعة الواصلة، الرحمة الواسعة من الرحمن، والواصلة من الرحيم، وكلاهما يدل على الرحمة، وفي ذكر هذين الاسمين الكريمين بعد قوله: "رب العالمين" إشارة إلى أن هذه الربوبية مبنية على الرحمة، ولهذا قال: "الرحمن الرحيم"، ثم قال: "مالك يوم الدين" مالك وملك قراءتان سبعيتان، فهو سبحانه ملك ومالك، وهاتان القراءتان- كما مر- كل واحدة منهما تفيد معنى لا تفيده القراءة الأخرى، فيتركب من مجموعهما معنى كامل وهو أنه- سبحانه وتعالى- ملك ومالك، ذلك لأن المالك قد يكون مالكًا، وليس بملك، وهذا كثير الإنسان يملك بيته وسيادته ويملك ثوبه، وليس بملك، وقد يكون ملكًا وليس بمالك في الحقيقة هو ملك مدبر، يقوم بالتدبير لغيره، فيكون اسمه ملك ولكن حقيقته أنه ليس بمالك لأنه مدبر، أما الرب عز وجل فإنه ملك مالك، و"يوم الدين" هذا يوم الجزاء وهو يوم القيامة. الرسول- عليه الصلاة والسلام- بدأ بهذه الآيات الثلاث التي في سورة الفاتحة، ثم قال: "لا إله إلا الله يفعل ما يريد"، قوله: "لا إله إلا الله" مر علينا معناها وإعرابها في عدة جلسات، وقلنا: إن إعرابها أن: "لا" نافية للجنس، وأن نفي الجنس نص في العموم، لأنها تنفي كل جنس، فإذا قلت: "لا رجل في البيت" معناه: لا يوجد أي رجل ولا رجال، لأنها تنفي ذلك الجنس، فهي أعم ما يكون من النفي، ولهذا قالوا: "إن "لا" النافية للجنس نافية للعموم، وأما "إله" فهي اسمها مركب معها مبني على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف تقديره: "حق"، فيكون المعنى: لا إله حق إلا الله، وأما "إلا" فهي أداة استثناء "والله" بدل من الخبر المحذوف، وعلى هذا يكون إعرابها كما سمعتم، أما معناها فالمعنى أنه لا معبود حق إلا الله- سبحانه وتعالى-، وأما المعبود على وجه باطل فكثير. ثم قال: "يفعل ما يريد" هل شرعًا أو كونًا؟ إن أريد بالفعل ما فعله بنفسه فهو يفعل ما يريد شرعًا وكونًا؛ وإن أريد بالفعل فعل غيره فالمراد: الإرادة الكونية، وإن ما أرده شرعًا قد لا يفعله الغير. ثم قال: "اللهم أنت الله لا إله إلا أنت" "اللهم" يعني: يا الله، حذفت منها ياء النداء، وعوض عنها الميم وأخرت الميم للبداءة باسم الله، وصارت الميم لأنه أدل على الجمع، كأن الإنسان جمع قلبه على ربه حينما ناداه بهذا: "اللهم أنت الله لا إله إلا أنت"، "أنت الله" جملة خبرية وهي مفيدة للحصر؛ لأن طرفيها معرفتان، وقوله: "لا إله إلا أنت" كل هذا من باب التأكيد. "أنت الغني" أي: عن كل أحد، فهو- سبحانه وتعالى- غني بذاته عن كل المخلوقات. فإن قلت: أليس الله قد استوى على العرش، ومعنى هذا أنه محتاج أن يستوي على العرش.

فالجواب: أبدًا، هو مستوٍ عليه لكنه ليس محتاجًا إليه، بل العرش وغيره محتاج إلى الله- سبحانه وتعالى-. وقوله: "أنت الغني ونحن الفقراء" توسل بغنى الله وفقرنا إلى مطلوبنا، "ونحن الفقراء" يقوله الإنسان ولو كان غنيًا؟ نعم، أليس في هذا جحد لنعمة الله؟ الجواب: لا؛ لأن المراد: الفقراء، يعني: إليك كما قال الله تعالى: {يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} [فاطر: 15]. "أنزل علينا الغيث" "أنزل" فعل دعاء، وإنما قال: "أنزل"؛ لأن الغيث يأتي من السماء، وقال: "الغيث" ولم يقل: المطر، لأنه- كما تقدم قبل قليل- قد ينزل المطر ولا يكون به الغيث، والغيث والغوث بمعنى: إزالة الشدة. "واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغًا إلى حين" قوة في ماذا؟ على طاعته، أي: في أبداننا وفي بهائمنا، لأن الغذاء يقوي البدن، فيكون قوة في أبداننا وفي بهائمنا، ويكون ذلك سببا لنا لطاعة الله- سبحانه وتعالى-، "وبلاغًا" ما معناها؟ تقدم لنا في حديث الثلاثة أن البلاغ ما يبلغ به الإنسان حاجته، فالمعنى: بلاغًا نبلغ به حوائجنا، وما نريد من النبات والماء؛ لأن الناس في حاجة إلى هذا الماء لأجل النبات ولأجل الشرب، فإن الماء الذي نشربه هو الماء الذي ينزل من السماء كما قال تعالى: {أفرأيتم الماء الذي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69)} [الواقعة: 68 - 69]. يقول: "واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغًا إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل حتى رئي بياض إبطيه" رفع يديه مبالغة في الدعاء، لكنه بالغ حتى رئي بياض إبطيه، هذه دائما ترد علينا، فما معناها؟ لأن الإبط باطن لا يتعرض للشمس ولا للهواء فيكون أبيض، وليس المعنى: أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- فيه شيء من البياض غير العادي. قالت: "ثم حول إلى الناس ظهره"، وإذا حول إلى الناس ظهره لزم أن يكون مستقبل القبلة، وقالت: "قلب رداءه وهو رافع يديه" يعني: استمر- عليه الصلاة والسلام- رافعًا يديه بعد قلب الرداء، "ثم أقبل على الناس ونزل وصلى ركعتين، فأنشأ الله سحبة فرعدت وبرقت ثم أمطرت" هذا نوع من أنواع الاستسقاء. ونأخذ من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: أنه يجوز للإنسان أن يشكو إلى أهل الصلاح ما نزل في ديارهم من القحط والجدب ليدعو الله عز وجل بالغيث، من أين يؤخذ؟ من شكاية الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا يرد عليه ما قاله الشاعر: [الكامل] وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

كيف تشكو؟ والجواب: أن الصحابة ما شكوا الله إلى الرسول، إنما شكوا الجدب لأجل أن يتوصلوا بدعاء الرسول- عليه الصلاة والسلام- إلى إزالته من قبل الله- سبحانه وتعالى- فليس هذا من باب شكوى الخالق للمخلوق، ولا أحد يشكون الخالق للمخلوق إلا سفيها. ويستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإمام أن يعد الناس يومًا معينًا للخروج إلى صلاة الاستسقاء لقوله: "فوعدهم يومًا يخرجون فيه"، وهل يأمرهم بالصوم؟ الصحيح: لا، وقال بعض الفقهاء: إنه ينبغي أن يأمرهم بالصوم، وأن يجعل خروجهم في اليوم الثالث من صومهم، وعللوا ذلك بأن دعوة الصائم مستجابة، وأنه يسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فيحصل لهم بذلك الصيام قرب الإجابة، ولكن هذا القول ضعيف، ووجه ضعفه: ما سبق لنا مرارًا من أن الشيء إذا وجد سببه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه سنة فالسنة تركه؛ لأن السنة فعل وترك، فالرسول- عليه الصلاة والسلام- لم يأمر الناس بأن يصوموا، بل وعدهم يومًا يخرجون فيه. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي أن يخطب في صلاة الاستسقاء على منبر خلاف صلاة العيد: "فأمر بمنبر فوضع له". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي أن تكون صلاة الاستسقاء في مكان صلاة العيد لقوله: "بالمصلى". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي أن تكون صلاة الاستسقاء في أول النهار لقولها: "حين بدا حاجب الشمس"، وهل هذا وقت لازم بحيث لا تصح فيه غيره؟ لم يرد عن النبي- عليه الصلاة والسلام- فيما أعلم أنه استسقى بصلاة بعد أوقات النهي، وعلى هذا فيجوز أن يستسقى بعد الظهر في الليل، هكذا قال أهل العلم، ولكن لا شك أن السنة والأفضل أن يكون أول النهار كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لمن صلى صلاة الاستسقاء أن يذكر الناس بما يجلب هممهم واستعدادهم للدعاء، وهذا يؤخذ من قوله: "شكوتم جدب دياركم". ومن فوائد هذا الحديث: تذكير الناس بما ذكر الله عز وجل لقوله: "وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم". ويستفاد من الآية الكريمة: إثبات الأمر والوعد من الله عز وجل أي: وصفه بأنه آمر، وأنه واعد، لكن لا يسمى به؛ لأن باب الصفة أوسع من باب التسمية، فإن الله تعالى يمكن أن يوصف بكل فعل فعله على الوجه الذي ذكره عن نفسه، وأما التسمية فلا يسمى إلا بما سمى به نفسه. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي بداءة الخطب بالحمد لقولها: "ثم قال: الحمد لله رب العالمين".

ومن فوائد الحديث: عموم ربوبية الله عز وجل لقوله: "رب العالمين"، والله عز وجل يذكر ربوبيته على صفة العموم ويذكرها على صفة الخصوص، ولهذا قالوا: إن الربوبية نوعان: عامة وخاصة، كما أن العبودية نوعان: عامة وخاصة، فباعتبار التدبير المطلق للخلق والملك والإيجاد هذه عامة، وباعتبار العناية الخاصة فإنها خاصة كما في قوله تعالى: {قالوا آمنا برب العالمين (121) رب موسى وهارون} [الأعراف: 121 - 122]. هذه الآية جمعت بين الربوبيتين. ومن فوائد الحديث- وهو من فوائد الآية الكريمة-: أن ربوبية الله عز وجل مبنية على الرحمة، فهي ربوبية رحمة ورأفة، وليست ربوبية يراد بها الإشقاق على الخلق لقوله: "الرحمن الرحيم". ومن فوائد الحديث- وهو أيضًا من فوائد الآية-: ظهور ملك الله عز وجل في يوم القيامة؛ لقوله: "مالك يوم الدين"، وهو- سبحانه وتعالى- مالك لكل شيء ليوم الدين وللدنيا، لكن ظهور ملكه ظهورًا جليًّا لكل أحد، وكل أحد يعترف به في ذلك الوقت، متى؟ يوم الدين، فلهذا يقول الله عز وجل: {لمن الملك اليوم} لا يجيبه أحد فيجيب نفسه: {لله الواحد القهار} [غافر: 16]. ومن فوائد الحديث- وهو من فوائد الآية أيضًا-: إثبات الجزاء لقوله: "مالك يوم الدين" أي: يوم الجزاء. وفيها فوائد أيضًا: إثبات أن كل ما سوى الله فهو مخلوق مربوب لقوله: "رب العالمين" كل من سوى الله، فهو عالم، وسموا عالمين؛ لأنهم علم على خالقهم- سبحانه وتعالى-. ومن فوائد الحديث: إثبات انفراد الله عز وجل بالألوهية؛ لقوله: "لا إله إلا الله"، وسبق لنا معناها وما يرد عليها والجواب عنه، وأنه لا يرد عليها الأصنام التي تتخذ آلهة لأنها ليست حقًّا. ومن فوائد الحديث: أن الله عز وجل لا يمنعه شيئا مما أراد لقوله: "يفعل ما يريد" كل ما أراده عز وجل بالخلق فإنه يفعله، لا أحد يمنعه، ولكن اعلم أنه يجب عليك أن تعتقد بأن الله عز وجل لا يفعل شيئا سواء كان منعًا أو إيجابًا إلا لحكمة- سبحانه وتعالى-: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلًا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27)] [ص: 27]، {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} [الأنبياء: 16]. كل شيء فإنه لحكمة الله عز وجل يفعل ما يريد لا يمنع مما أراد فعله ولا يجبر على ما يريد فعله، ولكنه عز وجل يفعل الشيء لحكمة بالغة. فإن قلت: إننا قد نرى شيئا من المشروعات والمفعولات لا حكمة له. فالجواب: أن ذلك لقصور، ولهذا قال الله عز وجل: {ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} [الإسراء: 85]. يعني: ما بقي عليكم إلا مسألة الروح حتى تسألوا عنها، ما عندكم علم. ويقول عز وجل: {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا (51)} [الكهف: 51]. فأنت إذا رأيت شيئا من مفعولات الله عز وجل وهي مخلوقات أو من مشروعات

الله وهو الوحي الذي أنزله على رسله، إذا رأيت شيئا لم يتبين لك وجه الحكمة فيه فاعلم أن ذلك لقصور فهمك، وأنك لا تستطيع أن تعلم كل ما لله تعالى من حكمة، ومن ثم كان جواب الصحابة- رضي الله عنهم- في الأمور المشروعة إذا سئلوا ما الحكمة في كذا، فجوابهم: أننا أمرنا بكذا، ولم نؤمر بكذا، لما سئلت عائشة رضي الله عنها: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: "كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة". فيطمئن الإنسان بهذا الجواب، لا يذهب يبحث عن علل ممكن أن تكون هي المقصودة للشارع ويمكن ألا تكون، ويمكن أن تكون مطردة منعكسة ويمكن أن تكون منتقضة، وهكذا الرسول- عليه الصلاة والسلام- أخبر بأن الشيطان يأتي ابن آدم ويلقي في قلبه ما يتعاظم أن يتكلم به، وأخبر- عليه الصلاة والسلام- أن هذا صريح الإيمان، وأن من أحسن به فليستعذ بالله ولينته، وأخبر أن الشيطان يأتي الإنسان يقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته، وفي رواية: فليقل: الله أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. كل هذا يدلك على أن الإنسان يستسلم لحكم الله تعالى الكوني والشرعي. ومن فوائد الحديث: تكرار التوحيد، لاسيما في مقام الدعاء، فإن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط والتكرار، من أين يؤخذ؟ من قوله: "اللهم أنت الله لا إله إلا أنت"، مع أنه قال بالأول: "لا إله إلا أنت"، لكن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط، كما أن ذلك أيضا توطئة لما يأتي بعده وهو قوله: "أنت الغني ... " إلخ. البسط في الدعاء مشهور وله أمثلة كثيرة: "رب اغفر لي، وارحمني، واهدني، واجبرني، وعافني، وارزقني" كل هذه متداخلة في الرحمة، "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، سره وعلانيته، وأوله وآخره"، يوجد تكرار لكنه فيه فائدة، "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا"، يكفي أن تقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا، لكن في تكرار الدعاء فوائد: الفائدة الأولى: أن فيه تفصيلًا. الفائدة الثانية: أنه مناجاة للرب عز وجل، والإنسان يحب أن يطول الكلام مع حبيبه، أنت إذا كنت تحب صديقًا لك تود أن تبقى معه كل الليل والنهار تتكلم معه، فكذلك الرب عز وجل- وهو أحب ما يكون للإنسان المؤمن- يحب أن يكرر معه- سبحانه وتعالى-؛ لأنه يناجيه. الفائدة الثالثة: أن كل جملة فيها إظهار الفقر إلى الله عز وجل، وإظهار الفقر إليه- سبحانه تعالى-

من أسباب إجابة الدعاء؛ ولهذا توسل موسى- عليه الصلاة والسلام- بذكر حاله: فقال: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [القصاص: 24]. لم يذكر دعاء، ذكر حاله أنه مفتقر إلى الله عز وجل مفتقر لما أنزل إليه من الخير وهذا توسل، {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر} هذه حاله {وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]، هذه توسل إلى الله بأسمائه. ويستفاد من الحديث: غنى الله المطلق عن كل شيء لقوله: "أنت الغني"، وهو- سبحانه وتعالى- غني عن كل أحد بذاته، غني عن السموات وعن الأرض، وعن الأكل وعن الشرب، وعن أي إنسان ينصره من ذلك كما قال الله تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل} [الإسراء: 111]. ويستفاد منه: أن الخلق كلهم فقراء إلى الله لقوله: "ونحن الفقراء". ويستفاد من هذه الأوصاف الماضية كلها: أنه ينبغي للداعي أن يتوسل إلى الله حين الدعاء بأسماء الله وصفاته وبذكر حاله هو كل ما سبق فيها الثناء على الله تعالى بما يستحق، وفيها ذكر حال الداعي. ويستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان إذا دعا ينبغي أن يدعو بما فيه الفائدة؛ حيث قال: "أنزل علينا الغيث" يعني: المطر الذي تزول به الشدة؛ لماذا؟ لأن المطر قد ينزل ولا تزول به الشدة كما ثبت في صحيح مسلم: "ليس السنة ألا تمطروا، إنما السنة أن تمطروا ولا تنبت الأرض شيئًا". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أيضًا أن يكرر الدعاء لقوله: "واجعل ما أنزلت قوة لنا وبلاغًا إلى حين". ومن فوائد الحديث: أته ينبغي رفع اليدين في دعاء الاستسقاء لقولها: "ثم رفع يديه". ومن فوائده: إثبات علو الله، من أين يؤخذ؟ من قولها: "ثم رفع يديه". ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه لا ترفع اليدان في الخطبة إلا في الاستسقاء، وعلى هذا يحمل حديث أنس بن مالك الثابت في الصحيحين: "أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء" فيحمل على أن المراد في حال الخطبة. ومن فوائده: المبالغة في الرفع، من أين يؤخذ؟ من قولها: "حتى يرى بياض إبطيه". ومن فوائده- وانتبهوا لهذه-: أنه ينبغي ملاحظة الإبط حتى لا يبقى فيه شعر يصد به. ومن فوائد الحديث: أن الإبط ليس بعورة، وأعلى البدن كله ليس بعورة، فإن قلت: هذا يعارضه حديث أبي هريرة: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء". فما هو

تحويل الرداء في الاستسقاء والجهر بالقراءة

الجمع؟ يحمل هذا على الاستحباب، وقد يحمل على أنه في الصلاة، وأنه في الصلاة ينبغي للإنسان أن يكون قد أخذ كامل لباسه لقوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31]. فالكلام على ما إذا كان الإبط ليس بعورة فالذي من فوقه من باب أولى، فيحمل حديث أبي هريرة على الاستحباب. ويستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي في خطبة الاستسقاء أن يتجه الإمام إلى القبلة وينقلب رداء لقولها: "ثم حول للناس ظهره، وقلب رداءه"، فما هي الحكمة في قلب الرداء؟ مرت علينا. ومن فوائده أيضًا: أن صلاة الاستسقاء بعد الخطبة لقولها: "ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين"، وهذا ظاهر في أنهما بعد الخطبة. ومن فوائد الحديث: بيان قدرة الله- سبحانه وتعالى- في قولها: "فأنشأ الله سبحانه سحابة فرعدت وبرقت"، أيهما الأول الرعد أو البرق؟ البرق أولًا؛ لأن ضوءه أسرع، ولهذا تجدها أحيانًا تبرق ويتأخر سماع صوت الرعد. ويستفاد من هذا الحديث: إضافة الشيء إلى سببه. ومن فوائد الحديث: أن الله عز وجل ربط الأسباب بمسبباتها، وهذا من بالغ حكمته، وإلا فهو قادر على أن ينزل مطرًا بدون سحاب، وبدون رعد ولا برق، ولكنه عز وجل ربط كل شيء بسببه، وأحيانًا تحدث الأمور بدون أسباب معهودة مثلما خلق عيسى- عليه الصلاة والسلام- خلقه بدون أب وخلق حواء بدون أم. تحويل الرداء في الاستسقاء والجهر بالقراءة: 488 - وقصة التحويل في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد، وفيه: "فتوجه إلى القبلة يدعو، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة". والذي في الصحيح من قصة عبد الله بن زيد أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- دعا قبل أن يصلي كما تشاهدون، وفيه أيضًا أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- توجه إلى القبلة يدعو، فظاهره أنه خرج ثم اتجه إلى القبلة، وجعل يدعو ثم صلى ركعتين، فإما أن يقال: إن الحديث الأول الذي رواه أبو داود أن فيه تفصيلًا أكثر، وأن الحديث الذي في الصحيح ما ذكر كل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما أن يقال إنه صفات متعددة؛ لأن الاستسقاء لم يقع إلا مر، فنقول: إن الرسول- عليه الصلاة والسلام- يفعل هذا أحيانا وهذا أحيانًا، كما يكون ذلك في بعض العبادات، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم مرة بدأ بالصلاة قبل الخطبة، ومرة بدأ بالخطبة، أو بالدعاء قبل الصلاة، وهذا هو الأرجح أن السنة في ذلك متنوعة، وأن الاستسقاء السنة فيه أن يكون أحيانًا تكون الخطبة قبل الصلاة، وأحيانًا تكون الخطبة بعد الصلاة.

وفي حديث عبد الله بن زيد فائدة زائدة على ما سبق، وهي: أنه جهر فيهما بالقراءة، وإذا تدبري هدي النبي- عليه الصلاة والسلام- وجدت أن الصلاة النهارية قراءتها سرية إلا في الاجتماع العام كصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء؛ لأنها تجمع كل الناس، فكان الرسول يجهر فيها. 489 - وللدرقطني من مرسل أبي جعفر الباقر: "وحول رداءه ليتحول القحط". "الباقر" وصف بذلك رحمه الله؛ لأنه كثير العلم، كأنه بقر العلم وأدركه وغاص إلى غوره، وقوله: "حول رداءه ليتحول القحط" هذا بيان حكمة التحويل، لكن كيف يكون له أثر في تحول القحط، تحول الرداء ليتحول القحط؟ قال أهل العلم: إن هذا من باب التفاؤل على الله عز وجل والنبي- عليه الصلاة والسلام- كان يحب الفأل يكره التشاؤم. فهذا من باب التفاؤل على الله تعالى أن يقلب حالنا مما هي عليه الآن إلى حال أخرى. وفيه أيضًا فائدة ثانية: وهو أنه لما كان اللباس نوعين لباس التقوى ولباس الزينة وستر العورة، كأنك حينما قلبت لباس الزينة وستر العورة تعبر بأنك سوف تلتزم بقلب الناس- لباس التقوى- من المعصية إلى الطاعة؛ لأن ما أصاب الناس من المصائب- ومنها: القحط: فهو إنما يكون من معاصيهم، فكأنك تشير إلى أنك ملتزم بأن تقلب لباس الدين من لباس المعصية إلى لباس الطاعة، ويكون في هذا فائدتان. أما بالنسبة لنا فإن الفوائد ثلاث: أولًا: إتباع السنة والاقتداء بالرسول- عليه الصلاة والسلام-، وهذا كاف عن كل حكمة. وثانيًا: أن نتفاءل على الله عز وجل أن يقلب حالنا من الشدة والقحط إلى الرخاء والخصب. والثالث: أننا نقلب لباسنا الظاهر إشعارًا بأننا ملتزمون بأن نقلب لباسنا الباطن وهو لباس التقوى الذي قلبه أهم. وعلى كل حال: كل إنسان قد عاهد الله بالمعنى العام أن يقوم بطاعته، فإن كل إنسان يشهد بفطرته أن الله رب وأنه عبد، ومقتضى هذه الشهادة الذل له والتعبد بما يؤمر به من العبادة هذا عهد عام؛ ولهذا قال الله لبني إسرائيل: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} [البقرة: 40]. {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضًا حسنًا} هذا جانب من العهد، ما الجانب الآخر؟ {لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار} [المائدة: 12].

مشروعية رفع اليدين في الاستسقاء

مشروعية رفع اليدين في الاستسقاء: 490 - وعن أنش رضي الله عنه: "أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب. فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله عز وجل يغيثنا، فرفع يديه، ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ... ". فذكر الحديث، وفيه الدعاء بإمساكها. متفق عليه. يقول: "والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب" هذه الجملة في موضع نصب على الحال، وقوله: "قائم" خبر المبتدأ، و"يخطب" يجوز أن تكون خبرًا ثانيًا، ويجوز أن تكون حالًا من الضمير المستتر في "قائم". وقوله: "هلكت الأموال" ما المراد بالأموال؟ الأموال التي يتوقف بقاؤها على السبيل والخصب مثل الإبل، والبقر، والغنم، ومثل الزروع أيضًا. "انقطعت السبل" السبل: الطرق، وانقطاعها لأجل ضعف الإبل التي تحمل الناس في هذه الطرق؛ حيث إنها قد هزلت حتى كادت لا تسير بالناس. وقوله: "فادع الله عز وجل يغيثنا" يعني: اسأله: لأن الله عز وجل هو الذي إليه الملجأ: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله- الجواب: لا- قليلًا ما تذكرون} [النمل: 62]. فالله عز وجل هو ملجأ الخلق إذا أصابتهم الضراء ما يجأرون إلا إلى الله- سبحانه وتعالى-، قال الله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجرون تخوفٍ (53)} [النحل: 53]. وقوله: "فادع الله عز وجل يغيثنا" فيها إشكال من الناحية اللغوية، فما هو الإشكال؟ هو "يغيثنا" جواب طلب، فلا بد أن يكون يغيثنا مجزومًا، فالجواب: أنها ليست جوابًا للطلب، بل هي بيان لما يقصده السائل من الدعاء، بمعنى: أن الجملة استئنافية بيان ما يريده السائل مما طلبه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه يريد الغيث. قال: "فرفع يديه نحو السماء ثم قال: اللهم أغثنا"، سبق لنا أن "اللهم" يعني: يا الله، فحذفت ياء النداء، وعوض عنها الميم، وجعلت الميم في الآخر تيمنا بالبداءة باسم الله عز وجل، "أغثنا" هذه فعل دعاء؛ لأن كل طلب موجه إلى الله عز وجل، لا يمكن أن يكون أمرًا وإنما هو دعاء، ومعنى "أغثنا": أزل عنا الشدة؛ لأن الغوث هو إزالة الشدة. وهذا الحديث- كما ترون- معناه: أن هذا الرجل دخل والرسول- عليه الصلاة والسلام- يخطب الناس يوم الجمعة فتكلم مع الرسول- عليه الصلاة والسلام- هذا الكلام، وبين له أنه في حاجة إلى الكلام؛ حيث إن الأموال قد هلكت والسبل قد انقطعت، وهو في حاجة إلى أن يطلب من النبي- عليه الصلاة والسلام- أن يدعو الله له بالغيث، فأجابه النبي- عليه الصلاة والسلام- ودعا الله، ورفع يديه وقال: "اللهم أغثنا".

قال أنس رضي الله عنه راوي الحديث: "والله ما في السماء من سحاب- يعني: منتشر- ولا قزعة- قطعة من الغيم- وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار". "سلع": جبل في المدينة معروف تأتي من نحوه السحب، يعني: السماء صافية صحوة فأنشأ الله تعالى سحابة فخرجت من وراء السلع، مثل: الترس صغيرة، ثم ارتفعت في السماء وانتشرت ورعدت وبرقت فأمطرت، "فلم ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم من منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته"، هذه قدرة عظيمة من الرب عز وجل، لو اجتمع الخلق كلهم على أن يأتوا بمثل هذا ما أتوا به، وهي آية للرسول- عليه الصلاة والسلام- دالة على صدقه؛ لأن الله تعالى أجاب دعاءه في هذا المشهد العظيم، وبهذه القدرة التامة، والسرعة البالغة، "ثم بقي المطر سبتًا كاملًا" يعني: من الجمعة إلى الجمعة، والسماء تمطر، فجاء رجل من الجمعة الثانية- أو الرجل الأول- فقال: "يا رسول الله، غرق المال، وتهدم البناء"- من كثرة السيول- غرق الزرع، وربما تكون الأودية حملت بعض المواشي فأغرقتها "غرق المال، وتهدم البناء، فادع الله يمسكها، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر"، وجعل يشير حواليه بيده- عليه الصلاة والسلام-، فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت بإذن الله، ليس بقدرة النبي- عليه الصلاة والسلام-، ولكن بإذن الله، لأنه يسأل الله يقول: "اللهم حوالينا"، فكانت المدينة ما عليها صحو خرج الناس يمشون في الشمس، وما حولها يمطر. قال أنس: "وسال قناة شهرًا". "قناة": وادٍ بالمدينة جعل يمشي شهرًا كاملًا من هذا المطر، وبهذا يتبين تمام قدرة الله عز وجل، في سوق السحاب، وفي تفريق السحاب، ويتبين أيضًا آية للرسول صلى الله عليه سولم كما مر. يستفاد من هذا الحديث: أولًا: جواز الكلام مع الخطيب؛ لأن الصحابي تكلم، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره؟ الثاني، وقد سبق أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم من سنته، وسبق أيضًا الاحتجاج بما وقع في عهد الرسول- عليه الصلاة والسلام- ولم ينكر، وإن كنا لا نعلم أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- علم به، ما وجهه؟ وجهه: إقرار الله له؛ ولهذا قال جابر رضي الله عنه: كنا نعزل والقرآن ينزل. فكل في دفع فعلًا وقع في عهد الرسول- عليه الصلاة والسلام- ولم نعلم أنه علم به كل من دفعه بهذه العلة، فإن دفعه مدفوع، وضربنا فيما سبق مثلًا بقصة معاذ بن جبل حيث كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفريضة ويذهب إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة فهي له نافلة ولهم فريضة، وقلنا: إن فيه دليلًا على جواز ائتمام المفترض بالمتنفل، وإن الذين منعوا ذلك قالوا: إننا لا نعلم أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- علم بفعل معاذ، وأجبنا عن ذلك بأن هذا بعيد، وأنه لو فرض أنه لم يعلم فإن الله تعالى يعلم ذلك؛ ولهذا إذا وقع شيء لا يعلمه الرسول- عليه

الصلاة والسلام- وهو مما لا يرضاه الله بينه الله، ما الدليل؟ {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطًا (108)} [النساء: 108]. ويستفاد من الحديث: أن المشروع للخطيب القيام لقوله: "وهو قائم". ويستفاد منه: مشروية الخطبة للجمعة، والصواب أنها واجبة، وأن الجمعة لا تصح بدونها؛ لأن الله أوجب السعي إليها وما وجب السعي إليه فهو واجب. ويستفاد من الحديث: جواز الإخبار عن الحال لا على سبيل الشكاية، من أين يؤخذ؟ من قول الرجل: "هلكت الأموال وانقطعت السبل"، هو ما أراد أن يشكو الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن أراد أن يبين الحال التي تقتضي أن يطلب منه الدعاء. ومن فوائد الحديث: أن الأشياء إنما تتبين بضدها، من أين يؤخذ؟ من هلاك الأموال وانقطاع السبل لفقد المطر، فلا تتبين نعمة الله على عباده بالمطر إلا إذا فقدوه وعرفوا ما يترتب على فقده. ومن فوائد الحديث: إثبات الأسباب، كيف ذلك؟ من قوله: "هلكت الأموال وانقطعت السبل"؛ فإن سبب ذلك القحوط: قحوط المطر، وإجداب الأرض. ومن فوائد الحديث: جواز التوسل بدعاء الصالحين الأحياء، من أين يؤخذ؟ من قول الرجل: "فادع الله يغيثنا"، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، ولم يقل: ادع أنت لنفسك، وما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه جائز، وعلى هذا فيجوز أن تطلب من رجل صالح أن يدعو لك. فإن قال قائل: أليس في هذا تزكية لهذا المطلوب وتغريرًا به يدعوه إلى الإعجاب بنفسه؟ فالجواب: أما التزكية فلا حرج علينا أن نزكي غيرنا إذا كان أهلًا لذلك، وما الجرح والتعديل الذي يتكلم الناس عليه في المصطلح إلا من هذا النوع، وما طلب تزكية الشهود في المحاكمة إلا من هذا النوع، وما الثناء على الميت الذي وقع بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأقره إلا من هذا النوع. والمنهي أن يزكي الإنسان نفسه: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (32)} [النجم: 32]. وأما الثاني: وهو تغرير هذا الرجل حتى يصل به الأمر إلى الإعجاب بنفسه، وأنه أهل لأن يقصد ويطلب منه الدعاء، فإذا خفنا ذلك فإننا نكف عنه رحمة بهذا الرجل حتى لا يهلك؛ لأن رجلًا امتدح رجلًا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "قطعت عنق- أو ظهر- صاحبك". فإذا خيف من طلب الدعاء من هذا الرجل الصالح أن يغتر فإنه لا يطلب منه. فإن قال قائل: هل طلب الدعاء من الرجل الصالح من باب المشروع أم من باب الجائز؟ فالجواب: الثاني، وإلا فالأفضل أن يباشر الإنسان الدعاء بنفسه من ربه لكنه من باب الجائز.

ومثل هذه المسألة التي وقعت إنما اتجه الرجل إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام- لسببين: أولًا: أن دعاء الرسول- عليه الصلاة والسلام- أقرب من دعاء الناس إلى الإجابة. وثانيًا: أن هذا أمر يتعلق بالمسلمين عمومًا، المنفعة من المطر لجميع الناس، والنبي- عليه الصلاة والسلام- هو الإمام، فكان توجه الدعاء منه أولى من أن يكون من غيره. ومن فوائد الحديث: مشروعية رفع اليدين حال الدعاء لقوله: "فرفع يديه"، ولكن الرسول- عليه الصلاة والسلام- لم يحفظ عنه أنه رفع يديه حال الخطبة إلا في دعاء الاستسقاء فقط؛ ولهذا أنكر الصحابة على بش بن مروان حين جعل يدعو في خطبته ويرفع يديه. لكن ثبت الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في حال الاستسقاء. ومن فوائد الحديث: أنه لا يشرع مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء، من أين يؤخذ؟ أنه لم يذكره، ولو كان ذلك واقعًا لذكر كما ذكر الرفع، ولهذا اختلف العلماء هل يسن للداعي أن يمسح وجهه بيديه بعد الفراغ من الدعاء أم لا؟ فقال بعض العلماء: إنه يسن، واستدلوا بأحاديث لكنها ضعيفة؛ إلا أن بعضهم قال: إن مجموعها يقتضي أن تكون من قبيل الحسن لغيره، كما مشى على ذلك الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، أما شيخ الإسلام رحمه الله فقد قال: إنها أحاديث ضعيفة لا ينجبر بعضها على بعض، وعلى هذا فمسح الوجه باليدين بعد الدعاء بدعة، وأما تقبيل اليدين بعد مسح الوجه بهما فهو بدعة لا شك فيها؛ لأنه لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا في حديث صحيح، ولا ضعيف ولا غيره. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجب البداءة بالحمد والثناء على الله، ولا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، من أين يؤخذ؟ الرسول دعا بدون أي حمد وثناء قال: "اللهم أغثنا". فإن قال قائل: إنه دعا في أثناء خطبة مبدوءة بالحمد والثناء؟ قلنا: إن الحمد والثناء الذي في الخطبة لم يكن من أجل الدعاء، فلا يكون في ذلك دليل على وجوب البداءة بالحمد والثناء، وأما قول الرسول- عليه الصلاة والسلام- في رجل دعا الله تعالى ولم يحمد الله، ولم يثن عليه، قال: "عجل هذا". فإنه من باب ترك المستحب لا ترك الواجب. ومن فوائد الحديث: بيان قدرة الله عز وجل؛ كيف؟ حيث أنشأ السحاب في هذه المدة الوجيزة وأمطر وما نزل الرسول- عليه الصلاة والسلام- إلا والمطر يتحادر من لحيته. وفي هذا إثبات علم الله، كيف ذلك؟ كل صفة خلق فهي دالة على العلم والقدرة؛ ولهذا

أقسام التوسل وأحكامه

قال الله تعالى: {الله الذي خلق سبع سمواتٍ ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن}. ماذا قال؟ {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما (12)} [الطلاق: 12]. ولا يمكن أن يكون خلق بدون قدرة عليه، وبدون علم بتكوين ذلك الشيء. ومن فوائد الحديث: إثبات سمع الله؛ كيف؟ أن الله تعالى استجاب دعاءه لأنه سمعه كما قال إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-: {إن ربي لسميع الدعاء} [إبراهيم: 39]. ومن فوائد الحديث: أن ابن آدم لا يتحمل لا من العدم ولا من الوجود، كيف ذلك؟ إنه في هذا الأسبوع جاء يطلب المطر وفي الأسبوع الثاني جاء يطلب إمساك المطر، فهذا دليل على أن الإنسان ليس صبورًا على كل شيء ولا يتحمل، فيكون هذا داخلًا في قوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفًا} [النساء: 28]. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز الدعاء برفع المطر لا على سبيل الإطلاق، من أين يؤخذ؟ من قوله: "حوالينا ولا علينا"، لم يدع برفعه مطلقًا حتى نقول إن هذا جائز، والناس محتاجون إلى المطر، وإذا كان يضر ناحية فإنه ينفع ناحية أخرى، قال الله تعالى: {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورًا (50)} [الفرقان: 50]. ويستفاد من الحديث في رواية البخاري: أن الصحابة رفعوا أيديهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء وهم جالسون. وفيه أيضًا: أن الرسول لا يعلم الغيب، والدليل أنه لم يعلم: أن المال هلك والسبل انقطعت حتى جاء الرجل وذكره، وقد يقال: إن الرسول- عليه الصلاة والسلام- علم وأنه سيسأل في وقت آخر، لكن الظاهر لنا والله أعلم أن هذا الرجل هو الذي بلغه. أقسام التوسل وأحكامه: 491 - وعنه رضي الله عنه: "أن عمر رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب. وقال: اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون". رواه البخاري. "قحطوا" يعني: امتنع المطر عندهم، والقحط هو امتناع المطر، و"إذا قحطوا" يعني: امتنع المطر عنهم، "استسقى بالعباس بن عبد المطلب"؛ لأن العباس بن عبد المطلب أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه عمه، علي بن أب طالب أفضل من العباس لكنه ابن عمه، ولهذا كان يستسقي بالعباس، يقول: "اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا"، يعني: أننا نطلب السقيا منك بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، بواسطة دعائه لنا، هذا ما كنا يفعلونه مع الرسول- عليه الصلاة والسلام-، ثم قال: "وإنا نتوسل إليك بعم نبينا" يعني: نتوسل إليك التوسل الذي عدم بوفاة الرسول- عليه

الصلاة والسلام- وهو التوسل الموجود في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتوسل الموجود في حياته بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما فعل الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، ومن حسن صنيع ابن حجر رحمه الله أنه أتى بحديث ابن عمر هذا بعد حديث أنس ليبين أن الاستسقاء بالرسول صلى الله عليه وسلم هو أن يطلب منه أن يدعو الله تعالى بالسقيا، وعلى هذا قول أبي طالب في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم [الطويل]: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل يعني: أن الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم لحسن خلقه وسماحته، يسألونه أن يدعو الله لهم بالسقيا فيسقيهم، والتوسل في قوله: "إنا نتوسل"، فعل مضارع مأخوذ من الوسيلة وهو التوصل إلى الشيء بالشيء، فكأن السين والصاد هنا متعاورتان يعني: كأن كل واحد منهما يكون في مكان الآخر، فالتوسل هو التوصل بالشيء إلى شيء آخر، وهو أقسام: القسم الأول: التوسل إلى الوصل إلى رضوان الله تعالى وجنته، وهذا يكون بالإيمان وبالأعمال الصالحة، فإن الإيمان والأعمال الصالحة وسيلة إلى الوصل إلى دار كرامة الله عز وجل قال الله تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب} [الإسراء: 75]. فهذه هي الوسيلة الحقيقية التي فرض على كل أحد أن يقوم بها، وهي ما يوصل إلى رضوان الله، وتفسير الآية أن يقال: أولئك الذين يدعوهم هؤلاء ويتخذونهم أربابًا من دون الله هم بأنفسهم محتاجون إلى الله: {يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب}. يعني: يطلبون الطريق الذي يجعلهم أقرب إلى الله، ولا طريق يجعل الإنسان أقرب إلى الله إلا بالإيمان والعمل الصالح. القسم الثاني: أن يتوسل الإنسان بالشيء بين يدي دعائه ليكون سببًا في إجابة الدعاء، يعني: التوسل في الدعاء لا في العبادة؛ لأن الأول متعلق بالعبادة، فهذه وسيلة ينجو بها الإنسان من النار ويدخل بها الجنة، أما هذا التوسل في الدعاء فيعني أن يتخذ الإنسان وسيلة يقدمها بين يدي دعائه لتكون سببًا في إجابته وهذا أقسام أو أنواع في الحقيقة؛ لأنه قسم، والقسم يتنوع إلى أنواع: النوع الأول: أن يتوسل بالعمل الصالح، بمعنى: أن يسأل الله شيئا متوسلًا إليه- سبحانه وتعالى- بعمله الصالح، وهذا في القرآن كثير، وهو مشروع، ومنه قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل ... } إلى قوله: {ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا} [آل عمران: 190 - 193]. أي: بسبب إيماننا فاغفر لنا، فتوسلوا بماذا؟

بالإيمان، التوسل بالعمل الصالح كتوسل أصحاب الغار الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، توسلوا إلى الله تعالى لإجابة دعائهم بماذا؟ بعملهم الصالح وإخلاصهم لله؛ لن كل واحد منهم ذكر عملا وقال: "اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فافرج عنا ما نحن فيه". فتوسلوا إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، فالتوسل بالإيمان والعمل الصالح من دأب الصالحين، ووجه كون الإيمان والعمل الصالح وسيلة ظاهر جدًّا: لأن الله عز وجل يجيب دعوة المؤمن العامل، فمن كان لله عبدًا كان الله له ربًا، فإذا كن هذا الإنسان عابدًا لله بالإيمان به- سبحانه وتعالى- وبطاعته كان ذلك من أسباب إجابة دعائه. النوع الثاني: أن يتوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، ومنه حديث ابن مسعود رضي الله عنه المشهور عن النبي- عليه الصلاة والسلام-: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك" هذه وسيلة، ما هو المقصود؟ "أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب غمي وهمي"؛ إذن توسل بماذا؟ بأسماء الله، فالتوسل إلى الله تعالى بأسمائه سواء كان على سبيل العموم كما في قوله: "أسألك بكل اسم هو لك"، أو على سبيل الخصوص كما لو قلت: "اللهم يا غفور فاغفر لي"؛ فقد توسلت بهذا الاسم إلى ما يقتضيه من المغفرة، "يا رحيم ارحمني" وما أشبه ذلك، فصار التوسل بالأسماء الحسنى له وجهان: الوجه الأول: على سبيل العموم، فيقول: "اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى"، أو "بكل اسم هو لك" كما في الحديث. والثاني: يتوسل باسم خاص معين يناسب ما دعا به مثل: "يا غفور اغفر لي، ويا رحيم ارحمني"، وما أشبه ذلك. ودليل هذا قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180]. فقد أمر الله عز وجل أن ندعوه بأسمائه، وأن نجعلها وسيلة لنا في دعائنا، التوسل بالصفات دليله: "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي". ما هي الوسيلة؟ صفة من صفات الله وهي العلم والقدرة، وربما يستدل لذلك أيضا ويجعل مثالا في حديث الاستخارة: "اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك". يعني: أسالك خير الأمرين بما تعلمه فإنك تعلم ولا أعلم، وأسألك أن تقدر لي أو أن تقدرني عليه، وجهان.

المهم: التوسل بالأسماء والصفات مشروع؛ لأن الله تعالى أمر به، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله فهو من سنته. النوع الثالث: أن يتوسل إلى الله عز وجل بذكر حاله التي تستجلب الرحمة، ومنه قوله تعالى عن موسى صلى الله عليه وسلم: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [القصص: 24]. ومنه قولنا: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فإن هذا تبرؤ من الحول والقوة إلا بالله، فهو استعانة بالله عز وجل، ومنه قولك: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا". ومنه قوله تعالى: {لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 149]. المهم هذا النوع الثالث بذكر حال الداعي التي تستجلب الرحمة؛ لأن ذكر حال الداعي لا شك أنها تستجلب وتستعطف المسئول حتى يعطف ويرحم هذا السائل؛ ولهذا جاء في قصة الثلاثة الأبرص، والأقرع، والأعمى ماذا قال الملك لهما؟ "إني فقير وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري"، هذه الأوصاف ماذا تستوجب؟ تستوجب أن يعطف عليه؛ ولهذا إذا قدم إليك إنسان بطاقة يقول: والله أنا فقير وصاحب عائلة ولا أستطيع أن أشتغل، ما المراد؟ المراد: أنه يريد منك أن تعطيه، إذن هذه الوسيلة جائزة فيها دليل من القرآن في قوله تعالى: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [القصص: 24]. ومن السنة: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلًا كثيرًا"، وإن كان الحديث هذا مشتملًا على ذكر حال الداعي، وحال المدعو، والتوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته؛ يعني: هذا الحديث جامع بين الأنواع الثلاثة، إذن التوسل إلى الله تعالى بذكر حال الداعي. النوع الرابع: أن يتوسل إلى الله عز وجل بدعاء أحد من عباد الله الصالحين، ما مثاله؟ كحديث الاستسقاء الذي معنا، فإن الصحابي الذي جاء إلى الرسول قال: "ادع الله يغيثنا" هذا التوسل بدعاء الصالحين، وكذلك قول عكاشة بن محصن: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنتم منهم". وأمثلة هذا، التوسل بدعاء الصالحين كثيرة، ومنه أيضًا فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن عمر توسل بدعاء العباس بن عبد المطلب لقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم الرسول صلى الله عليه سلم له؛ لأن الرسول قد جعل العباس بمنزلة الوالد له؛ لأن العباس أكبر من الرسول بسنتين. إذن نقول: التوسل بدعاء الصالحين هذا جائز؛ لأن النبي- عليه الصلاة والسلام- أقره، ولكن هل هو مشروع أم لا؟ هو من قسم الجائز، أما المشروع فليس بمشروع؛ لأن فيه نوعًا من التذلل للخلق، إذا قلت: يا فلان، ادع الله لي، فهذا فيه شيء من الخضوع للخلق وسؤال الخلق، ولا ينبغي للإنسان أن يسأل أحدًا من المخلوقين، لكنه- والحمد لله- لا بأس به؛ لأن الإنسان قد

يرى من نفسه أنه ليس أهلًا، ويرى في نفسه تقصيرًا فيخجل من الله عز وجل فيطلب من عباد الله الصالحين أن يدعو الله له، فهذا جائز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقره. النوع الخامس: أن يتوسل بذات أحد من المخلوقين، مثل أن يقول: "اللهم إني أسألك بنبيك" بذاته، فما حكمه؟ هذا لا يجوز، لماذا؟ لأننا سبق أن قلنا: إن الوسيلة هي ما يتوصل به إلى الشيء، وذات النبي صلى الله عليه وسلم ليست موصلة لك إلى مقصودك، وعلى هذا فلا يجوز التوسل إلى الله تعالى بنبيه، وما ورد في ذلك من حديث ضعيف: "أسألك بنبيك نبي الرحمة". فإنه محمول على واحد من أمور ثلاثة: إما أن المعنى: أسألك بنبيك، أي: بإرسالك نبيك، فيكون هذا من باب التوسل، بماذا؟ بأفعال الله التي هي من صفاته، أو أن المعنى: "أسألك بنبيك" أي: بإيماني به، وعلى هذا فيكون التوسل بالأعمال الصالحة بالإيمان بالله والرسول- عليه الصلاة والسلام-، أو أن المعنى: أسألك بنبيك؛ أي: بدعائك بأن يدعو الله لي، فيكون من باب التوسل بدعاء الصالحين، وهذا على تقدير صحة الحديث، فإن لم يصح فقد كفينا إياه، وإنما أولناه إلى أحد هذه الوجوه الثلاثة لأجل أن يطابق المعنى الذي شرعت من أجله الوسيلة وهو: أن تكون موصلة للمقصود. النوع السادس: التوسل إلى الله بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنزلته عند الله، بأن يقول: أتوسل إليك يا رب بجاه نبيك ومنزلته عندك، فهذا الصحيح أنه لا يجوز ذلك؛ لأن هذا ليس بوسيلة، والوسيلة هي ما يوصل إلى المقصود، وهذا لا يوصل إلى المقصود؛ لأن جاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الله لا شك فيه، وهو أعظم الناس جاها عنده، ولكن جاهه لا ينفعني؛ لأن جاهه إنما يكون نافعًا له هو بنفسه، أما أنا فماذا يفيدني؟ لا يفيدني شيئا، فالصحيح: أن التوسل بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم محرم ولا يجوز؛ لأنه ليس من الأمور الموصلة إلى المقصود، ولا شك أنك إذا قدمت بين يدي دعاء ربك شيئا ليس وسيلة أنه من باب الاعتداء في الدعاء، وقد نتجاوز قليلًا ونقول: إنه من باب الاستهزاء بالله عز وجل، لأن كونك تقدم شيئا تريد من الله عز وجل أن يجيب دعاءك به، وهو ليس بوسيلة، ليس معنى ذلك إلا الاستهزاء، ولكننا قد لا نتجاوز حتى نقول: إنه استهزاء، لكنه بالنسبة للمخلوقين لو أن أحدًا توسل إلي بشيء لا يفيد لعددت ذلك منه استهزاء بي. فهذه ستة أنواع. التوسل إلى الله عز وجل بأشخاص غير صالحين ما حكمه؟ أعظم حرمة من الذي قبله، لماذا؟ لأنه إذا كان التوسل بالصالحين بذواتهم حرامًا فغير الصالحين من باب أولى؛ ولهذا الأنبياء الكرام- صلوات الله وسلامه عليهم- حين طلب منهم الشفاعة اعتذروا بما فعلوا من الأمور التي

ما يفعل عند هطول المطر

تابوا منها آدم اعتذر بأكله من الشجرة، ونوح اعتذر بأنه سأل ما ليس به علم، وإبراهيم اعتذر بأنه كذب ثلاث كذبات، وموسى اعتذر بأن قتل نفسًا لم يؤمر بقتلها؛ لأن من لم يكن عابدًا قانتًا لله ليس أهلًا للشفاعة، حتى لو طلبت أن يدعو لك وهو ليس من الصالحين فهذا غلط؛ لأنه ليس محلًا لأن يكون مجاب الدعوة لكونه غير صالح، والله تعالى إنما يتقبل من المتقين، ولكن مع هذا قد يتقبل من غير المتقين لحكمة يريدها- سبحانه وتعالى-. الحاصل: أن هذه الأنواع منها جائز ومنها ما هو ممنوع، وكل هذا بمقتضى الأدلة الشرعية. شبهة والرد عليها: فإن قلت: ما نوع التوسل في قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم"؟ توسل بفعل الله، فهو من التوسل بصفات الله، أفعاله من صفاته، لكن أفعاله صفات غير ذاتية يسمونها صفات فعلية، بخلاف صفاته الذاتية الدائمة التي لم يزل ولا يزال متصفًا بها، وعلى هذا فتوسل عمر رضي الله عنه لو تمسك به متمسك وقال إن عمر يقول: "كنا نتوسل إليك بنبينا وإننا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا فيسقون"، وليس فيه أن العباس دعا؟ قلنا: الجواب على ذلك من وجهين: الأول: أنه قد روي في غير البخاري أن العباس قام فدعا الله، وأن عمر قال: قم يا عباس فادع الله، فقام فدعا. هذه واحدة. الوجه الثاني: نقول في رواية البخاري التي معنا ما يدل على أن عمر رضي الله عنه أراد أن يدعو العباس الله، كيف؟ لأنه قال: نتوسل إليك بنبيك، وقد علم أنهم لا يتوسلون بالنبي- عليه الصلاة والسلام- إلا بدعائه، فيكون توسل عمر بدعاء العباس كما كانوا يتوسلون بالنبي- عليه الصلاة والسلام-، فيكون حديث البخاري فيه إشارة إلى أن التوسل بالعباس ليس بذاته، ولكن بدعائه. فإن قلت: لماذا خص العباس مع أن في القوم من هو أفضل منه؟ أجبنا على ذلك فيما سبق: بأنه أقرب الناس إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام-، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعظمه حتى كان له بمنزلة الوالد، فلهذا توسل به عمر رضي الله عنه. ما يفعل عند هطول المطر: 492 - وعنه رضي الله عنه قال: "أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر قال: فحسر ثوبه، حتى أصابه من المطر، وقال إنه حديث عهد بربه". رواه مسلم. قوله: "أصابنا ونحن مع رسول الله"، الجملة هذه حالية، يعني: والحال أننا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحلها النصب على الحال.

وقوله: "أصابنا مطر" يعني: نزل علينا، فإما أن يكون من الإصابة، وإما أن يكون من الصوب للنزول، وكلاهما صحيح بالنسبة للمطر. وقال: "فحسر ثوبه" "حسر" يعني: رفعه حتى أصابه من المطر، ثم علل- عليه الصلاة والسلام- وقال: "إنه حديث عهد بربه" يعني: قريب عهد بالله عز وجل لماذا؟ لأنه خلق الآن فهو حديث عهد بربه، ولاحظ أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- فعل ولم يأمر، فيكون هذا الفعل دالًا على الاستحباب وليس بواجب؛ لأنه سبق لنا قاعدة أن الفعل المجرد من الرسول- عليه الصلاة والسلام- لا يدل على الوجوب، لكن إن ظهر فيه قصد التعبد كان دالًا على الاستحباب، وإن كان على سبيل العادة أو الجبلة فإنه لا يدل على الاستحباب. وقوله: "إنه حديث عهد بربه"، هل هذه العلة متعدية أو إنها لازمة؛ لأن بعض العلل تكون لازمة؟ الظاهر أنها لازمة لا متعدية، بمعنى: أنه لا يشرع أن كل شيء يخلقه الله من جديد نمسه بأبشارنا؛ يعني: لو أن الإنسان يقول: إذا نبت الزرع أول ما ينبت هل يسن لي أن أحسر عن ثوبي وأمس هذا الزرع الأخضر مثلًا؟ لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يفعله، فتكون هذه العلة قاصرة على معلولها لا نتعدى لغيره، ودليل ذلك التتبع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل هذا. وقوله: "حديث عهد بربه" يستفاد منه فائدة في أصول الدين: وهو تجدد فعل الله عز وجل، - وأن الله عز وجل يفعل ما يشاء، وفعله هنا المتجدد بالنسبة إلى المفعول، يعني: خلقه لهذا الشيء الجديد غير خلقه للشيء القديم، أما أصل الصفة وهي الخلق فهي قديمة لازمة لله عز وجل لم يزل ولا يزال خلاقًا، لكن لا شك أنه يخلق الولد بعد خلق أبيه، ويأتي الليل بعد النهار، والنهار بعد الليلة السابقة، وكل ذلك مخلوق يتجدد. فيستفاد منه: قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وإن كان الأشاعرة وكثير من المتكلمين ينكرون هذا ويقولون: إنه لا يمكن أن نقول لله أفعال اختيارية؛ لماذا؟ قالوا: لأن الفعل الحادث لا يكون إلا بحادث، والله عز وجل ليس بحادث، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، ولا ريب أن هذا التعليل لا أقول: إنه عليل، لكن أقول: إنه ميت، إذ كيف ينكر ما جاء في الكتاب والسنة من ثبوت الأفعال الاختيارية الكثيرة التي أثبتها الله لنفسه، والتي عبر عنها بقوله: {إن ربك فعال لما يريد} [هود: 107]. {فعال} صيغة مبالغة، كيف ننكر هذا من أجل حجة ضعيفة؟ من يقول: إن الفعل الحادث لا يكون إلا بحادث؟ هذه القاعدة يبطلها العقل والشرع، بل إن القديم المتصف بالصفات الكاملة أولى أن يكون قادرًا على الفعل متى شاء، هم عندهم أن الله لا يفعل فعلًا اختياريًا أبدًا؛ ولهذا يقولون: إن الله لا يتكلم بكلام يسمع، وإنما كلامه هو المعنى القائم بالنفس كالعلم والقدرة، والكلام المسموع هذا شيء مخلوق خلقه الله، وهم مع ذلك يقولون: إنها لا تقوم بها الأفعال الاختيارية، ولهذا تجد

الدعاء عند رؤية المطر

الأشاعرة لا يثبون لله صفة الخلق، وإن كان الماترديدية يثبتونها، لكن الأشاعرة يحملون كل ما جاء في صفة الخلق على معنى الإرادة. فالحاصل: أن هذا الحديث دليل على تجدد فعل الله عز وجل لكنه باعتبار المفعول يكون فعله لهذا الشيء غير فعله للشيء الذي سبقه، أما من حيث أصل الفعل وجنس الفعل فإنه قديم، فإن الله لم يزل ولا يزال- سبحانه وتعالى- خلاقًا. قوله: "حسر عن ثوبه" من فوق أو من تحت أم ماذا؟ ما حدد، يحتمل هذا أو هذا، ولكن أيهما أولى؟ الظاهر من فوق أحسن، يعني مثلًا: إذا كان عليه رداء يفتح الرداء حتى يصيب أكتافه وظهره، إذا كان عليه غترة مثلًا يكشف الغترة قليلًا حتى يصيب رأسه، فيحمل على أنه أعلاه. وفي هذا دليل على إثبات ربوبية الله عز وجل لكل شيء للجماد والناطق لقوله: "حديث عهد بربه"، والله تعالى رب كل شيء في الكون ومالكه، بل كل شيء يسبح له، قال الله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44]. {ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه} [النور: 41]. علم صلاته وتسبيحه بأي وسيلة؟ بتعليم الله له، كل شيء من الحيوانات هذه تعرف كيف تسبح الله، وكيف تعبد الله، {كل قد علم صلاته وتسبيحه} مما علمه الله، يحتمل أن معنى الآية: كل قد علم الله صلاته وتسبيحه، فالآية صالحة لهذا ولهذا، وقد قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: {ربنا الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى} [طه: 50]. فهدى كل مخلوق لما خلق له من الأكل والشرب ومن عبادة الله عز وجل وتسبيحه. الدعاء عند رؤية المطر: 493 - وعن عائشة رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: اللهم صيبًا نافعًا". أخرجاه. ولكنه في حديث عائشة لا يحسر عن ثوبه فيكون يفعله مرة ويدعه مرة، وقوله: "اللهم صيبًا" هذه على وزن "فيعل"؛ لأنه من صاب يصوب. إذا نزل فيقول: "اللهم اجعله صيبًا" يعني: نازلًا، وقوله: "نافعًا" هذا هو المقصود بالدعاء؛ لأن كونه صيبًا قد وقع، لكن المهم أن يكون نافعًا، هذا هو محط الدعاء، "اللهم صيبًا نافعًا"، و"صيبًا" ما محلها من الإعراب؟ مفعول ثان لفعل محذوف تقديره: اللهم اجعله صيبًا نافعًا، وعلى هذا يقول ابن مالك: وحذف ما يعلم جائز هذا من الذي يعلم، وقوله: "نافعًا" لم يتقيد بشيء فيكون نافعًا للبهائم، ونافعًا للناس، ونافعًا للأرض بإخراج النبات منها: {لنحي به بلدة ميتًا- هذا ينفع الأرض- ونسقيه مما خلقنا

أنعامًا- هذا ينفع الأنعام-، وأناسي كثيرًا- هذا ينفع الناس-} [الفرقان: 49]، وإنما دعا الرسول- عليه الصلاة والسلام- الله بذلك؛ لأنه إن لم يكن نافعًا فإن وجوده كعدمه؛ ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ليست السنة ألا تمطروا- السنة يعني: الجدب- إنما السنة أن تمطروا فلا تنبت الأرض". هذا هو الجدب في الحقيقة وهذا كثيرًا ما يقع، تكثر الأمطار ولكن لا يرى الناس لها أثرًا حتى يعرف الناس أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأن الله إذا لم يجعل البركة في الشيء ما نفع، وأحيانًا تكون الأمطار قليلة، ولكن يحصل خصب كثير، يحكي لنا الناس يقولون: هناك سنة تسمى سنة الدمنة- ما هي الدمنة؟ البعرة، هذه يقولون: كانت سنة خصبة وصار فيها نبات كثير، مع أن الدمنة أسفلها لا يأتيها المطر، المطر على أعلاها فقط، لكن بإذن الله- صار المطر متواجدًا يأتي رشاشًا وهو كثير فنفع الله به نفعًا كثيرًا، هذا مشهور عند العامة، الماء الذي ينزل هذا ماء نافع للأرض وللحيوان وللناس. يقول: "كان إذا رأى"، تقدم لنا أن "كان" تفيد الاستمرار غالبًا، فإذا كان كذلك سيكون هذا القول غالبًا من الرسول صلى الله عليه وسلم. 494 - وعن سعدٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في الاستسقاء: "اللهم جللنا سحابًا، كثيفًا، قصيفًا، دلوقًا، ضحوكًا، تمطرنا منه رذاذًا، قطقطًا، سجلًا، يا ذا الجلال والإكرام". رواه أبو عوانة في صحيحه. هذه من الكلمات التي تعتبر من غريب اللغة، اللغة فيها غريب وفيها مشهور، المشهور هي: الكلمات الواضحة المعنى المتداولة كثيرًا، والغريب على اسمه غريب لا يسمع إلا نادرًا قليلًا. يقول: "اللهم جللنا" يعني: اجعله لنا مثل الجلال، والجلال: ما تغطى به الإبل والدواب ليحميها البرد ومن الحرث، ومنه حديث علي رضي الله عنه: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتصدق بلحومها وجلالها، أو بجلودها وجلالها". وهذا يقتضي أن يكون السحاب قريبًأ؛ لأن السحاب كلما قرب كان في الغالب أكثر مطرًا كما هو مشاهد. ثانيًا يقول: "سحابًا كثيفًا" يعني: متراكمًا؛ لأن السحاب إذا كان متراكمًا صار رفيعًا مثل الجبال ويحجب الشمس، وهل يكون أسود؟ الحقيقة هو أحيانًا يكون كثيفًا وأبيض، وأحيانًا يكون أسود وليس بكثيف، والذين يطيرون في الجو يشاهدون هذا، ونحن نشاهده في أحيانًا سبحان الله العظيم، تكون بعض القطع من السحاب سوداء، وبعضها حمراء، وبعضها بيضاء.

قال: "قصيفًا" معناها: شديد الرعد، قالوا: لأن شدة الرعد تدل على كثرة الماء، هكذا قالوا، والرعد غير الصواعق؛ لأن السحاب أحيانًا يكون ثقيلًا جدًا في الرعد، لكن ليس فيه صواعق: شرارات تنفصل من الرعد تسقط على الأرض. أيضًا يقول: "دلوقًا" الدلوق: العجل السريع، وهذا الدلوق الغالب أنه إذا كان ثقيلًا وقريبًا من الأرض تتبين سرعته، أما البعيد فلا تتبين سرعته وكذلك يمكن أن يقول: دلوقا: أي سريع الإمطار بحيث يكون المطر شديدًا. أيضًا يقول: "ضحكونا"، و"الضحوك" قال العلماء: معناه كثير البرق، لأن البرق والرعد غالبًا يكون كثير الماء. "تمطرنا منه رذاذًا قطقطًا سجلًا". الرذاذ والقطقط هذا مطر يكون خفيفًا من حيث الحجم ولا يكون كبير النقط؛ لأن كبير النقط ربما يحصل فيه ضرر، ولكن إذ كان كثيرًا مع صغر النقط صار هذا أفيد وأقل ضررًا، وقوله: "سجلًا" معناها: الكثير الواسع. ثم قال: "يا ذا الجلال والإكرام" "ذا" منادى منصوب على النداء"، والجلال بمعنى: العظمة والإكرام- من التكريم- مصدر أكرم يكرم، فهو المعنى: أنه يكرم، أو أنه يكرم، أو المعنيان؟ المعنيان، فهو- سبحانه وتعالى- يكرم بمعنى: يعظم بالطاعة، ويكرم أي: يكرم أولياء بالثواب، وأما الجلال فإنه من صفاته الذاتية اللازمة غير المتعدية. إن قال قائل: هذا الحديث لماذا كرر الرسول- عليه الصلاة والسلام- فيه هذه الكلمات؟ فالجواب أن يقال: إذا صح الحديث فإنه قد سبق لنا أن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط والتفصيل، وذكرنا أن لهذا شواهد منها: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، سره وعلانيته، وأوله وآخره، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت"، وما أشبه ذلك؛ لأن مقام الدعاء ينبغي فيه التفصيل من أجل أن يستحضر الإنسان كل مطلوبه إن كان طلبًا، وكل مرهوبة إن كان هربًا، ولأن مقام الدعاء مناجاة لله عز وجل وكلما طالت المناجاة مع الحبيب صار ذلك أدل على المحبة. ثالثًا: ولأن الدعاء مقام ذل وافتقار إلى الله عز وجل وكلما كررت الذل والافتقار لله صار ذلك أبلغ في العبادة. فهذه وجوه ثلاثة كلها في بيان الحكمة من تكرار الدعاء وتفصيله، وقوله: "يا ذا الجلال والإكرام" هذا من باب التوسل بأسماء الله وصفاته.

مشروعية الاستسقاء في الأمم السابقة

مشروعية الاستسقاء في الأمم السابقة: 495 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خرج سليمان عليه السلام يستسقي، فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعةً قوائمها إلى السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم". رواه أحمد وصححه الحاكم. هذا الحديث فيه آيات من آيات الله، سليمان هو ابن داود أحد أنبياء بني إسرائيل، هل هو قبل موسى أم بعده؟ بعد موسى. قوله: "يستسقي" أي: يطلب السقيا من الله، "فرأى نملة" رؤية بصرية، "مستلقية" صفة لنملة، والنملة واحدة النمل، وهو معروف وهو معروف ويقال: إنه من أحكم الحشرات في قوته، وإنه يجمع القوت في وقت لا يستطيع فيه أن يخرج إلى سطح الأرض في أيام الشتاء، وأنه إذا جمع القوت أكل رءوس الحب- حب البر- لأجل ألا ينبت؛ لأنه إذا نبت فسد، فإذا جاء المطر ورأى أن البلل سيصل إلى الحب أو وصل إليه بالفعل أخرجه ونشره في الشمس حتى ييبس وبرده لئلا يعطن شيء عجيب. سأل سائل فقال: ما تقولون لو وجدت النمل ناشرًا حبه هل يجوز أن آخره؟ في الحقيقة لها قوت آخر، ولكن التغذي على قوت الغير مشكلة. يقول: "مستلقية على ظهرها"، كيف؟ قال: "رافعة قوائمها إلى السماء"؛ لأنها تعلم أن الله في السماء، تقول: "اللهم إنا خلق من خلقك" هذا اعتراف منها بربوبية الله عز وجل، وأنها مخلوقة، وأنها فرد من هذا الخلق العظيم، "ليس بنا غنًى عن سقياك" وهذا اعتراف بافتقارها إلى الله عز وجل، وأنها تحتاج إلى السقيا لأجل أن تنبت الأرض، فإذا نبتت أخذت من أشجارها وحبوبها. فقال سليمان عليه السلام: "ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم"، يقول لأصحابه الذين معه، ما المراد بالغير؟ دعوة هذه النملة، والباء هنا للسببية، أي: سقيتم بسبب دعوة غيركم. فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: ثبوت رسالة الرسول- عليه الصلاة والسلام-، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ولا يكتب حتى يمكن أن يقول: أنه تلقى ذلك من بني إسرائيل، ومثل هذا لا يصل إليه الخبر إلا عن طريق الوحي. ومنها: أن الدعاء لطلب السقيا كان معروفا في الشرائع السابقة؛ لقوله: "خرج يستسقي"، ولكن لا يلزم أن يكون على صفة الصلاة في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، المهم: أنهم يذهبون إلى خارج البلد يستسقون. ومنها: أن البهائم تعرف خالقها؛ لأن هذه النملة كانت مستلقية رافعة قوائمها إلى السماء.

ومنها: إثبات علو الله بذاته، من أين يؤخذ؟ من كونها رافعة قوائمها إلى السماء، فالحشرات تقر بأن الله في السماء، وبعض بني آدم ينكرون أن الله في السماء نسأل الله العافية، والذين أنكروا علو الله انقسموا إلى قسمين، قسم قالوا: إن الله- سبحانه وتعالى- في ذاته في كل مكان من الأرض بر، وبحر، جو، أماكن معظمة، أماكن ممتهنة، أماكن نظيفة، أماكن قذرة، فالله عز وجل بذاته في هذه الأماكن، وهذا لا شك أنه قول باطل كما سبق لنا بيانه، وحتى العقل لا يقبله، لأنه يلزم منه إما التعدد أو التجزؤ، إما أن يكون الله متعددًا يكون في كل مكان أو متجزئًا في كل مكان، وهذا لا شك أنه باطل ولا يمكن أن يقبله عقل. والطائفة الثانية التي ضلت في العلو قالت: إنه لا يجوز أن نقول: إن الله تعالى في العلو، بل يجب أن نعتقد بأن الله تعالى ليس فوق العالم ولا تحت العالم، ولا في العالم، ولا يمينًا ولا شمالًا، ولا متصلًا بالعالم، ولا منفصلًا عن العالم، كيف؟ لا يمكن هذا إلا أن يكون معدومًا؛ ولهذا قال بعض العلماء: لو قيل لنا: صفوا الله بالعدم ما وجدنا أدق من هذا الوصف؛ لأننا إذا قلنا: هذه الأوصاف السلبية في الله وأن هذا هو الواجب علينا نحو ربنا، فمعنى ذلك: أنه يجب أن نقول: لا رب. وأما أهل السنة والجماعة الذين مشوا على طريقة السلف وعلى ما يقتضيه النص والعقل والفطرة فأجمعوا على أن الله تعالى بذاته فوق كل شيء، وأنه عز وجل لا يحصره مكان، فما فوق العالم عدم، والله- سبحانه وتعالى- في ذلك فوق، وحينئذ لا يكون في اعتقادنا هذا أي تنقص لله عز وجل، وقد سبق لنا أن شبهة القائلين بأنه ليس داخل العالم ولا خارج العالم، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه ولا فوق ولا تحت ... إلخ. أن شبهتهم أنهم يقولون إذا قلنا: أن الله تعالى بذاته في السماء لزم أن يكون منحصرًا بشيء، ولكن هذا باطل؛ إذ لا يلزم أن يكون منحصرًا في شيء؛ لأنه ليس فوقه شيء، فكيف يكون منحصرًا هو فوق كل شيء- سبحانه وتعالى- ولا شيء يحصره، وهذه الشبهة التي شبهها أو التي ألقاها الشيطان في قلوبهم شبهة لا حقيقة لها، أما الذين قالوا: إن الله بذاته في كل مكان فإنهم استدلوا بآيات المعية مثل قوله تعالى: {وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4]. وقوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلا هو رابعهم ولا خمسةٍ إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} [المجادلة: 7]. فظنوا أن المعية تستلزم الحلول والاختلاط، ولكنهم ضلوا في ذلك المعية لا تستلزم هذا الحلول الذي زعموه أبدًا، فإن القرآن نزل باللغة العربية، واللغة العربية لا تمنع أن يكون الشيء فوقك وبعيدًا عنك وعاليًا عنك وتقول: إنه معي، ففي اللغة العربية يقولون: إن القمر معنا وهو في السماء، والنجم الفلاني معنا وهو في السماء، ويقول القائد للجند مثلًا: اذهبوا إلى المعركة وأنا معكم، وهو في مكانه في غرفة القيادة، وهكذا المعية في اللغة العربية لا تستلزم الحلول والمخالفة والمجامعة أبدًا لكنها قد تقتضي ذلك؛ ولهذا فهي تستعمل

على حسب ما تضاف إليه. فإذا قلت: سقاني لبنًا معه ماء، فالمعية هنا تقتضي الاختلاط والمزج، كما قال الشاعر لا أدري أيمدح من أضافوه أو يذمهم [الزجر]: حتى إذ جن الظلام واختلط ... جاءوا بمذقٍ هل رأيت الذئب قط إذن هذه المعية في البيت تقتضي الاختلاط، وإذا قلت مثلًا: "حضرت إلى الدرس ومعي كتابي" فهذا مصاحبة في المكان، وإذا قلت: "فلانة مع فلان" هذه قد تقتضي أن تكون معه في المكان، وقد تكون في البيت وهو في السوق لكنها زوجته، فتبين أن المعية يختلف معناها ومقتضياتها ومستلزماتها بحسب ما تضاف إليه ومن هنا نقول: أنتم أيها الحلولية أخطأتم في قولكم إن المعية تستلزم المشاركة في المكان؛ لأنا لو تأملنا الأمثلة لوجدنا عكس ذلك. إذن فما هو الذي يجب على المؤمن اعتقاده بالنسبة لعلو الله عز وجل؟ الواجب: أن يعتقد بأن الله تعالى عال في ذاته كما هو عال في صفاته؛ ولهذا نقول: إن العلو ينقسم إلى قسمين: علو الذات، وعلو الصفات، وكله ثابت لله عز وجل. من فوائد الحديث: أن الحشرات تتكلم: {وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]. إلا أن الله تعالى قد يفهمه من يشاء من عباده، سليمان يقول: {علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيءٍ} [النمل: 16]. قال العلماء: إن السر في تخصيص منطق الطير دون غيره، لأن الطير من أصعب ما يكون فهم لغته، ولهذا فهم ما تقول النملة، فعلى هذا نقول: إن جميع المخلوقات تتكلم وتنطق وتسبح الله عز وجل، وما كان محتاجًا منها إلى إمداد فإنه يسأل الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: أن البهائم تعرف حاجتها إلى ربها لقوله: "ليس بنا غنى عن سقياك". ومن فوائد الحديث: أن الإنسان قد يجاب مطلوبه بدعوة غيره لقوله: "ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم". ومن فوائد الحديث: ما استنبطه بعض أهل العلم من أنه ينبغي أن يخرج الأطفال ومن لا ذنب له إلى صلاة الاستسقاء؛ لأنهم أقرب إلى إجابة الدعاء، وجهه: أن النملة غير مكلفة ولهذا قال: "ارجعوا ... الخ". ومنها: أن بعض أهل العلم قال: ينبغي ألا تخرج البهائم إلى المصلى؛ يعني: إذا كانت البهائم قد أحست بالقحط والجوع، وجهه: أن النملة لم يخرجوا بها إنما هي في بيتها، والبهائم التي في الجوع قد تستسقي وهي في ربطها. ومن فوائد الحديث: إثبات الخلق لله لقولها: "إنا خلق من خلقك". ومنها: التوسل بذكر حاجة الداعي لقولها: "إنا خلق من خلقك ليس بنا غنًى عن سقياك".

ومنها: إثبات الأسباب لقوله: "ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم" الباء للسببية، وإلا معلوم أن السقيا من الله عز وجل لكن الدعاء سبب. ومنها: الآية التي جعلها الله عز وجل لسليمان حيث كان يعرف منطق النمل، وقصته في سورة النمل معروفة: {حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18) فتبسم ضاحكًا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحًا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (19)} [النمل: 18 - 19]. وهذا دليل على أنه فهم ما قالت. ومنها: أن هذه المخلوقات الضعيفة قد تنطق بكلام فصيح لقولها: "إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك" كلام عظيم تضمن الإيجاد والإمداد، ولا شك في أن هذا الكلام فصيح، وكلام النملة أيضا في القرآن بليغ جدًا؛ لأنه تضمن عدة أمور: {يا أيها النمل ادخلوا مسكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18)} [النمل: 18]. ففيه تنبيه وإرشاد وتحذير وتعليل، تنبيه: {يا أيها النمل} إرشاد: {ادخلوا مساكنكم}، تحذير: {لا يحطمنكم سليمان وجنوده}، تعليل: {وهم لا يشعرون}. فائدة إثبات علو الله وأدلته: ومن فوائد الحديث: إثبات علو الله، وذكرنا قبل ذلك أدلة علو الله وهي خمسة أنواع وليست خمسة أفراد، الدليل الأول: كتاب الله عز وجل، كتاب الله دل على علو الله من عدة أوجه؛ فمنها: التصريح بذكر العلو مثل قوله تعالى: {وهو العلي العظيم (255)} [البقرة: 255]. {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]. {وهو العلي الكبير} [سبأ: 23]. وأشباه ذلك. ومنها: التصريح بذكر الفوقية: {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 18]. {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل: 50]. ومنها: التصريح بعروج الأشياء وصعودها إليها مثل قوله: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعراج: 4]. ومثل قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10]. ومنها: التصريح بنزول الأشياء منه، كقوله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} [السجدة: 5]. {تنزيل الكتاب من الله}. هذه أنواع من جنس واحد وهو القرآن. السنة كذلك وهو النوع الثاني من أدلة العلو بجميع صفاته والسنة- كما تعرفون- قول الرسول- عليه الصلاة والسلام- وفعله، وإقراره، وقد اجتمع في العلو قوله وفعله وإقراره. قوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء". وقال صلى الله عليه وسلم: "ربنا الله الذي في السماء".

قال النبي- عليه الصلاة والسلام-: "العرش فوق الماء والله فوق العرش". وقال: "إن الله كتب كتابًا عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي". إلى غير ذلك من الأقوال الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ف ثبوت علو الله بذاته. وأما السنة الفعلية فإنه قام مقام الخطبة في أعظم مشهد شهده وهو يوم عرفة حين خطب الناس ووعظهم وذكرهم، ثم قال لهم: "ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم، قال: "اللهم اشهد- يرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إلى الناس-، اللهم اشهد". يعني عليهم، بأنهم أقروا بأني بلغت، ورفعه إلى السماء إشارة إلى أي شيء؟ إلى علو الله عز وجل ثم أعادها مرة أخرى ومرة ثالثة كل هذا تأكيد لعلو الله عز وجل، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء بمشهد من الصحابة- رضي الله عنهم- في خطبة الجمعة لما دخل الأعرابي قال: "ادع الله يغيثنا" رفع يديه، وقال: "اللهم أغثنا"، هذه سنة فعلية. أما الوصف الثالث للسنة وهو الإقرار فإنه سأل جارية لمعاوية بن الحكم قال لها: "أين الله؟ " قالت: في السماء، قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". ولو كان الله عز وجل ليس في علو لكان ينكر على هذه المرأة فتكون سنة إقرارية. الثالث من أنواع أدلة العلو: الفطرة التي فطر عليها كل إنسان- بل كل مخلوق- على أن الله تعالى في السماء، من علم النملة أن الله في السماء؟ ما فطر الله عليه الخلق، وإلا فهي لم تدرس، لكن بفطرتها التي فطر الله الخلق عليها علمت أن الله تعالى في السماء، أيضًا الإنسان بفطرته لولا أن الشياطين تجتال بعض الخلق ما كان ينصرف قلبه إذا دعا الله إلا إلى السماء؛ ولهذا كان أبو المعالي الجويني- وهو من الأشاعرة- يقرر إنكار استواء الله على العرش، يقول: إن الله كان ولا مكان، أو وليس شيء غيره وهو الآن على ما كان عليه، فقال له أبو العلاء الهمداني: يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش، لماذا؟ لأن دليل استواء الله على العرش ثابت بالسمع، يعني: لولا أن الله أخبرنا أنه استوى على العرش كنا لا نعلم، فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ ما قال عارف قط بالله وجد من نفسه ضرورة بطلب العلو، من أين أتت، هل تنكر هذه؟ لا تنكر، ولهذا أقر الجويني به واعترف، فجعل يضرب على رأسه ويصرخ ويقول: حيرني الهمداني ويكررها لأنه ما يقدر أحد أن ينكر هذه الفطرة، حتى العامي الذي في سوقه إذا قال: يا رب، أين يذهب؟ إلى السماء، هذا دليل فطري لا يمكن إنكاره أبدًا.

أما الدليل الرابع: فهو دليل العقل، أن الله تعالى بذاته فوق كل شيء، كيف ذلك؟ دليل العقل من ناحيتين: الناحية الأولى: أن نقول: هذا العلو صفة كمال أو صفة نقص؟ صفة كمال حتى السوقة إذا أراد أحدهم أن يقدح في أحد قال: يا سلفي، لأنه معروف عند كل أحد أن السفول نقص إذا كان العلو صفة كمال، والرب عز وجل قال عن نفسه: {وله المثل الأعلى} [الروم: 37]. قاعدة: كل مثل أعلى- يعني: كل وصف أعلى- فلمن؟ لله عز وجل؛ فوجب أن يكون العلو ثابتًا له. أما الوجه الثاني: فنقول: لا يخلو أن يكون الرب عز وجل فوق الخلق أو تحت الخلق أو مساويًا للخق، ننظر الآن هذا سبر وتقسيم إما فوق الخلق أو تحتهم أو محايزًا لهم- يعني: موازيًا لهم- والأمران الأخيران ممتنعان؛ لأنه يمتنع كونه تحتهم، إذا كان الخلق فوق الخالق لم يستحق أن يكون خالقًا مدبرًا، لأنه تحت وهم عليه وفوقه مسيطرون، كيف يكون خالقًا إذا كان عن أيمانهم أو عن شمائلهم؟ لأن ذلك من لوازم أن يكون مساويًا لهم، وموازيًا لهم، والفرق بين الخالق والمخلوق أمر معلوم بضرورة العقل، ما الذي يبقى أنه فوق فيكون العقل مقررًا بفوقية الله عز وجل من الناحيتين. النوع الخامس من الأدلة: هو إجماع الصحابة والتابعين وسلف الأمة وأئمتها، ليس فيهم أحد قال إن الله ليس في السماء، ولا فيهم أحد قال: إن الله ليس فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا شمال، ولا داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عنه، ونتحدى أي إنسان ينقل عن أي واحد من الصحابة والتابعين أو أئمة الأمة أنه قال هذا، لم يقل أحد بذلك، فيكون أدلة علو الله بذاته كم نوعًا؟ خمسة أنواع، وكل نوع متجزئ؛ إذن أي إنسان يقول: إن الله ليس في السماء، فإننا نقول: إن قولك باطل بالكتاب والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة؛ لأن ما خالف الثابت بدليل- هذه قاعدة- فهو باطل بنفس الدليل الذي ثبت به الخلاف، فإذا قلنا: العلو ثابت بخمسة أنواع من الأدلة فضده باطل بخمسة أنواع من الأدلة؛ لأن العكس بالعكس. إذن الحمد لله أهل السنة والجماعة- نسأل الله أن يميتنا وإياكم على ما هم عليه- يقرون بهذا إقرارا عقليًا فطريًا سمعيًا نقليًا لا يشكون فيه، ولا عندهم معارض، ولا يمكن أن ينصرف عن هذا إلا من اجتالته الشياطين، والذي تجتاله الشياطين لا تستغرب أن يتصرف بما هو غريب، انظر في القرآن: {أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر} [الحج: 18]. كل هذه جمادات، {والدواب} حيوان لكن أعجمي، {وكثير من الناس} ليس كل الناس، {وكثير حق عليه العذاب} لا يسجد ولا يقر لله تعالى بما يجب له، فلا تستغرب أن يكون من بني آدم من ينكر علو الله عز وجل الثابت بهذه الأدلة العظيمة، وقد سبق لنا الجمع بين ثبوت العلو الذاتي وبين ما ورد في الكتاب والسنة مما ظاهره أن ذلك قد يتخلف مثل حديث النزول وآيات المعية، وبينا أن الجامع لذلك هو أن الله تعالى لا يقاس

بخلقه ولا يسلط عليه العقل الذي يسلط على ما يوصف به الخلق، فالله تعالى يمكن أن يوصف بهذا، ولا يمكن التعارض بما وصف الله به نفسه. حكم رفع اليدين في الدعاء: 496 - وعن أنسٍ رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء". أخرجه مسلم. تقدم لنا أن مادة "استفعل" تدل على طلب الشيء، "استغفر": طلب المغفرة، "استسقى": طلب السقيا، ولكنها أحيانًا لا تدل على ذلك، أحيانًا تدل على الاختصاص بهذا المعنى مع المبالغة فيه مثل "استكبر"؛ لأن استكبر ليس معناها: طب الكبر، لكن المعنى: بلغ في الكبر غايته؛ لأنهم يقولون: إن زيادة المبني على زيادة المعنى، يعني: كلما زادت حروف الكلمة دل ذلك على زيادة في معناها، وهذه ليست قاعدة مطردة ولكنها غالبية، وإلا فإن كلمة "بقرة" و"بقر" أيهما أكثر معنى؟ "بقر"، وهي أقل حروفًا. يقول: "استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء" اختلف شراح هذا الحديث في معنى كلمة: "أشار بظهر كفيه" هل المعنى: جعل ظهور كفيه إلى السماء، أو أن المعنى: رفع رفعًا بالغًا حتى كانت ظهور كفيه تشير إلى السماء؟ فيها قولان لأهل العلم، منهم من قال: إن المعنى أنه جعل ظهورهما إلى السماء، وبنى على ذلك قاعدة مبنية على حديث ضعيف، ورأوا أن الدعاء إذا كان بصرف ما يضر فهو بظهور الكفين، وإذا كان بطلب ما ينفع فهو بالبطون، كأن الإنسان في النافع يقول: هكذا بيديه ... ليفرغ فيها الشيء، كالمستجدي، وأما الظهور فيقول: هكذا ... كالذي يدفع، ولكننا نقول: هذه القاعدة ينقضها هذا الحديث؛ لأن الرسول إذا استسقى ماذا يطلب؟ يطلب غيثًا، يطلب شيئًا نافعًا تزول به المضرة؛ ولهذا فإن شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: إنه لا يشرع الدعاء برفع اليدين مقلوبًا في جميع الأحوال سواء كان ذلك في طلب محبوب أو في دفع مكروه، وأن معنى هذا الحديث: أنه للمبالغة في رفعهما؛ لأنه بالغ الرسول صلى الله عليه وسلم في الرفع حتى صار ظهورهما تشير إلى السماء، وقد ثبت أنه دعا حتى بدا بياض إبطيه، وهذا هو الأصح، وأنه ليس من المشروع أن يدعو الإنسان بظهر كفيه، بل إنما يدعو ببطون كفيه؛ لأنه يستجدي ويستطعم من الله عز وجل فهذا هو الصحيح. وفي الحديث دليل على علو الله لقوله: "إلى السماء"، إشارة إلى علو المدعو- سبحانه وتعالى- يبقى النظر، هل يشرع للإنسان رفع اليدين كلما دعا أو الأصل عدم مشروعية ذلك؟ إذا قلنا: إن الأصل عدم المشروعية فمعنى ذلك: أننا لا نرفع أيدينا في دعاء إلا إذا ورد به النص،

وإلا فلا نرفع، وإذا قلنا: إن الأصل المشروعية، فمعنى ذلك: أننا نرفع أيدينا إلى الله بكل دعاء، إلا ما ورد النص بعدمه، وأسألكم الآن: ماذا تتصرفون؟ نرفع إلا ما ورد النص بعدمه، وهذا هو الأقرب للدلالة الأثرية والنظرية. أما الدلالة الأثرية: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل رفع اليدين من أسباب الدعاء، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر المرسلين" فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} [البقرة: 172]. وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} [المؤمنون: 51]. الأمر واحد {واعملوا صالحًا إني بما تعملون عليم}. ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: "الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك". لماذا ذكر الأوصاف الأربعة؟ لأنها من أسباب إجابة الدعاء؛ إذن فرفع اليدين من أسباب إجابة الدعاء. ويؤيده أيضًا ما رواه أحمد في المسند: "إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرًا". فهذا دليل على أن المشروع أن ترفع يديك. أما من الناحية النظرية: فلأن الداعي يسأل ودعاء المسئول الذي يتلقى به المطلوب اليدان، ثم إن الإنسان يجد من نفسه إذا رفع يديه أن قلبه يرتفع أكثر مما لو دعا هكذا. فالظاهر لي أن الأصل في الدعاء الرفع إلا ماورد النص بعدمه، فمثلًا الدعاء في الصلاة لا رفع فيه، لا دعاء الاستفتاح: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي"، ولا دعاء الجلسة بين السجدتين، ولا دعاء الرفع من الركوع، ولا الدعاء في التشهد، كل هذا لم يرد، بل الذي يظهر عكسه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو فعله لكان الصحابة ينقلونه؛ لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله، ثم إننا نعلم أن وضع اليدين في حال القيام على الصدر، أو على الأقل نعلم أن الرسول يضع اليمنى على اليسرى وفي التشهد والجلوس بين السجدتين على الفخذين، إذن فهذا دليل على عدم الرفع. بعد السلام يقول: أستغفر الله ثلاثًا فهل يرفع يديه؟ لا، ما الذي يدرينا؟ لم يرد ما دام قلنا: إن الأصل الرفع، ولكن عندنا قرينة قوية هنا تدل على أنه لم يرفع، ما هي؟ أن الصحابة يشاهدونه، وإذا كانوا ينقلون إشارة أصبعه في التشهد كيف لا ينقلون الرفع إذا سلم، فهذا دليل على أنه كان لا يرفع وهذا هو الصحيح. إذا انتهينا من إجابة المؤذن هل نرفع أيدينا أو لا؟ نرفع، ولو قال أحد: لا نرفع نقول: ما الأصل، وإلا فارجعوا عن قولكم إن الأصل الرفع، وقولوا: الأصل عدم الرفع.

17 - باب اللباس

على كل حال: النصوص في هذا تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يصرح فيه بالرفع، وقسم يصرح فيه بعدم الرفع، وينكر على الرافع، كما في حديث بشر بن مروان أنكروا عليه حين رفع يديه في الخطبة، وقسم يظهر فيه عدم الرفع فنأخذ فيها بالظاهر؛ لأن هذا أبلغ ما عندنا، وقسم آخر لا يظهر فيه الشيء فهو الذي يختلف فيه، إن قلنا: إن الأصل الرفع رفعنا، وإن قلنا: الأصل عدم الرفع لم نرفع. ثم قال المؤلف: * * * 17 - باب اللباس السؤال الأول: لماذا جعل المؤلف باب اللباس هنا بعد صلاة الاستسقاء مع أن المعروف عند أكثر أهل العلم أنهم يجعلونه في باب شروط الصلاة؟ الظاهر- والله أعلم-: أنه لما كان اللباس لا بد منه في الصلاة جعله في آخر كتاب الصلاة، وإلا فالأوجه أن يكون في باب شروط الصلاة؛ لأن من شروط الصلاة ستر العورة بالثياب. اللباس نوعان: لباس حسي مادي، ولباس معنوي روحي، كما يقولون، وإن كنت لا أحب أن أقول: روح وجسد؛ لأنهما متلازمان، والنعيم الذي للروح يحصل بالجسد، لكني أقول: إن اللباس نوعان: لباس حسي، ولباس معنوي، وقد أشار الله تعالى إليهما في قوله: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا ولباس التقوى ذلك خير} [الأعراف: 26]. قسم الله تعالى اللباس الحسي إلى قسمين: قسم ضروري لا بد منه، وهو ما يواري السوآت، وقسم كمالي زينة وهو ما ذكره في قوله: {وريشا}؛ لأن هذا من باب الكمال وليس من باب الضرورة، وكلاهما من نعم الله عز وجل. ومن حكمة الله- سبحانه وتعالى- أن جعل بشرة الإنسان بادية لا تغطى بلباس، وأما غيره من البهائم- فيما نعلم- فإنه مغطى بلباس شعر، ووبر، وصوف، وريش، وزعانف، وأشياء أخرى مما هو معلوم، والحكمة في هذا- والله أعلم- من أجل أن يعلم الإنسان أنه مفتقر إلى اللباس المعنوي كما هو مفتقر إلى اللباس الحسي، فيتذكر لحاجته إلى هذا اللباس أنه محتاج أيضًا إلى اللباس الذي هو خير منه، وهو لباس التقوى هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن غير الإنسان ليس له عقل يهتدي به الاهتداء الكامل إلى تحصيل لباسه، وإن كان بعض الأحيان ربما إذا أصيب بشيء بحت شعره ربما يحاول أن يتخذ من الأشعار أو غيرها ملجأ يستجير به، لكن الإنسان له عقل يهتدي به، وهو إذا رأى نفسه مجردًا من اللباس الساتر سعى في حصول ذلك. فالحاصل: أن اللباس ضرورة لبني آدم، وهو كما سمعتم ينقسم إلى قسمين: ضروري، والثاني: كمالي. أما اللباس المعنوي- وهو لباس التقوى- فإنه خير وبه يحصل اللباس الحسي: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2 - 3].

تحريم الزنا والخمر والغناء

وما هو الأصل في اللباس؟ الأصل فيه الحل، والدليل قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29]. ومما خلق: اللباس، فهو داخل في هذه الآية، ودليل آخر قوله تعالى {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]. فأنكر الله تعالى على الذين يحرِّمون هذه الزينة، ولما كان الأصل في اللباس الحل احتاج أهل العلم أن يذكروا النصوص التي تفيد التحريم؛ لأن المحرم من اللباس أقل من المباح منه؛ فلهذا أتوا بالأدلة الدالة على تحريم اللباس والتحريم أنواع قد يكون تحريماً عارضًا، وقد يكون تحريمًا دائمًا، وقد يكون تحريمًا عامًا، وقد يكون تحريمًا خاصًا، فهناك أربعة أنواع: تحريم لازم، أو طارئ، أو عام، أو خاص. مثال اللازم أو الطارئ: الأصل في الثوب أنه حلال، فإذا صورنا فيه صورة صار لبسه حرامًا، هذا التحريم طارئ أو لازم؟ طارئ. العام يعني: الذي تشمل الذكر والأنثى، مثل أن يكون مصورًا يعني: فيه صور، فإن الذي فيه صور حرام على الرجال والنساء. والخاص: كالحرير. ثم هناك تحريم طارئ، أي تحريم يطرأ على الشيء لتعلق حق الغير به كالمغصوب فهذا الأصل فيه الحل؛ لكن لمَّا كان قد تعلق بحق الغير صار حراماً. تحريم الزنا والخمر والغناء: 497 - عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليكوننَّ من أمَّتي أقوامٌ يستحلُّون الخزَّ والحرير)). رواه أبو داود، وأصله في البخاريِّ. في البخاري بهذا اللفظ، وفيه زيادة: والخمر والمعازف)) قوله: ((ليكونن أقوام)) فهنا إشكال في فتح النون، ففي هذا الفعل المضارع بدون أن نجد ناصبًا ينصبه؟ لأن هذه الفتحة ليست فتحة إعراب وإنَّما فتحة بناء، وسبب بنائه اتصال نون التوكيد به، فإن قلت: نحن نعرف أن المؤكد بالنون إذا كان لجماعة فإنه يكون مضمونًا؟ نقول: إنه يضم إذا كان مسندًا إلى واو الجماعة، وليس اسم ظاهر. قال: ((ليكونن أقاوم من أمتي))، الأقوام جمع قوم، وقوم في الأصل للرجال، كما قال الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكن خيرًا منهن} [الحجرات: 11]. وقال الشاعر [الوافر]: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقومٌ آل حصنٍ أم نساء

((أقوم أم نساء))، وهذا إذا ذكر مع النساء صار خاصًا بالرجال، أما إذا لم يذكر مع النساء فإنه يكون عامًا إلا بدليل، يعني: عامًا شاملًا، ولهذا مثلًا: {ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه}. يشمل النساء، {ولو إلى قومهم مُّنذرين} [الأحقاف: 29]. عام للرجال والنساء من الجنس. وقوله: ((من أمتي)) المراد بقوله: ((من أمتي)) هنا: أمة الإجابة، لا أمة الدعوة، وإنما قلنا بذلك، لأن أمة الدعوة الكافرين يستحلون ما هو أعظم من ذلك، وهو الشرك والكفر، فالمراد بالأمة هنا: أمة الإجابة؛ لأن النبي- عليه الصلاة والسلام- ذكر ذلك على أنه لا ينبغي في حقهم هذا الأمر. وقوله: ((يستحلون))، استحل الشيء بمعنى، جعله حلالًا، والاستحلال هنا نوعان: إما أن يراد به الاستحلال، أي: اعتقاده حلالًا مع تحريم الله له فيحلل ما حرم الله، وهذا كفرٌ ولكنه ليس المراد، وإمَّا أن يراد بالاستحلال: أن يفعله من غير مبالاة كالمستحل له وهذا هو المراد هنا، فمعنى ((يستحلون)) أي: يفعلون هذه الأشياء فعل المستحل لها بلا مبالاة. قال ((يستحلون الحر)) يعني: الفرج، قال ابن مالك: وإنَّما تلزم فعل مضمر ... متَّصل أو مفهم ذات حر و((الحر)) يقول النحويون: أصلها حرح الحاء، فحذفت لام الكلمة اعتباطًا يعني: بدون سبب، وعلى كل حال: فإن ((الحر)) اسم مكون من حرفين، وأدنى ما يكون منه الاسم المعرب ثلاثة أحرف، لا يمكن أن يوجد اسم معرب مكون من أقل من ثلاثة أحرف، ولهذا إذا جاءهم مثل: ((يد، وحر)) يقولون: حذفت اللام اعتباطًا أو ما أشبه ذلك، إذن الحر يعني: الفرج، وإذا قلت: إن الحر هو الفرج فإنه لابد أن يكون هناك صفة محذوفة وجوبًا؛ لأنه يجب أن نقدر صفة محذوفة وهو الحرام، ((يستحلون الحر)) أي: الحرام، وأما من استحل الحر الحلال فإنه مأجور لا يلام، وقد نقول: غنه لا حاجة إلى تقدير الصفة؛ لأنها معلومة من قوله: ((يستحلون))، فإن هذا يدل على أن المراد به: الحر الحرام. المهم: أنهم يستحلون الزنا والعياذ بالله، ولا يقولون: إن الزنا حلال، ولو قالوا: عن الزنا حلال كفروا، لكن يفعلونه فعل المستحل غير مبالين به، وهذا قد وجد الآن، فهناك من الناس من يفعلون الزنا- والعياذ بالله- فعل المستحيل بدون مبالاة، حتى إنه يوجد في بعض البلاد التي يقولون: إنها بلاد إسلامية يوجد فيها أسواق وبارات للزنا، بل قيل لي: إنه يوجد بارات للواط، وأنه إذا قدم أول ما السائح يعرضون عليه صورًا للمردان وصورًا للفتيات، ويقولون: اختر هذا أو هذا، وهم ينتسبون للإسلام! فصدق قول الرسول- عليه الصلاة والسلام- أنه سيكون هذا الشيء، ونحن نعلم علم اليقين أن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لابد أن يقع مهما كان الأمر، لأنه- عليه الصلاة والسلام- لا ينطق عن الهوى، فالأمور الغيبية لا يتلقاها إلا بالوحي؛ لأنه لا يعلم

الغيب، وعلم المستقبل من علم الغيب، ولا يمكن إلا أن يكون بوحي من الله تعالى. وقوله: ((الحرير)) معروف، هو عبارة: عن أسلاك تنسج منها الثياب، أتدرون من أين تأتي هذه الأسلاك من دويدة- حشرة صغيرة- تسمى دودة القز، بإذن الله تخرج منها هذه الأسلاك فتطويها على نفسها حتى تبلغ الكبر وتموت، ثم يأتون يأخذونه، وإذا أردت أن تعرف كمال قدر الله عز وجل انظر الآن التي يسمونها أم العنكبوت، ألقها وأنت قائم واقف إذا ألقيتها في الحال يخرج منها خيط يمسكها حتى لا تقع على الأرض، وهو أملس ما يكون! سبحان الله! ثم يمتد إلى أن تصل إلى الأرض بسلام، أعظم من البرجوات، أحيانًا إذا رأت أن المدى بعيد رجعت وصعدت مع هذا الخيط وقد شاهدناها، فيكون هذا الخيط- بإذن الله- ممسكًا لها أن تقع على الأرض، ويكون عمودًا لها تصعد عليه، ثم انظر أيضًا إلى ما تنسجه في الجدار أو السقف، ولا تستيعد في دودة القز، ((الحرير)) هذا هو الحرير الأصلي، أما الحرير الصناعي فلا يدخل في هذا، وسيأتي في الفوائد هل يجوز لبسه للرجل أو لا يجوز؟ نكمل الحديث لأنه مهم: ((الخمر)) تقدم أنه كل ما خامر العقل؛ أي: غطاه على سبيل اللذة والطرب، يعني: يمارسونه بيعًا وشراء وتأجيرًا وشربًا ممارسة المستحل له، حتى كأنه شراب، وهل حدث هذا؟ نعم، حدث هذا، فإن هذا موجود في البلاد التي هي بلاد إسلامية توجد فيها حانات الخمور، بل قيل لي: إنك إذا جلست في قهوة يأتون لك ما تطلب ويأتون بجرة الخمر معها- نسأل إله السلامة والعافية- وهذا من أخطر ما يكون على الأمة إذا وجد فيها مثل هذا العمل. أما الأمر الرابع فهي: ((المعازف)) وهي جمع معزف، وهي آلة العزف التي يعزف بها، قال العلماء: وتشمل جميع آلات الملاهي إلا ما استثنى منها وهو [الدف] في مناسبات معينة جاءت بها الشريعة، وإلا فالأصل أن جميع آلات العزف محرمة، وانظر كيف قرن النبي- عليه الصلاة والسلام- هذه الأربع بعضها ببعض؛ لأنها في الغالب إنما تكون من المترفين الذين لا يبالون ليس لهم همُّ إلا أن يشبعوا رغباتهم من المأكول والمشروب والملبوس والنكاح، وهي أيضًا في نفس الوقت متلازمة في الغالب، ولهذا يقال: إن الغناء رقية الزنا؛ أي: أنه مثل المرقاة له، أو أنه رقية يعني: مثل الذي يقرأ به حتى يأتي ويحصل، حتى إن بعض أهل المجون- والعياذ بالله- يقولون: إذا راودت امرأة وأبت فغنِّها، فإنك إذا غنيتها لانت ومكنتك من نفسها، وهذا شيء معروف؛ لأن هذه الألحان- ألحان الغناء- تؤثر في الإنسان حتى الجماع- والعياذ بالله- فترقق له الزنا واللواط؛ لأن كثيرًا منها- نسأل الله العافية- مشتمل على الغزل والدعوة إلى الفساد والحب والغرام، وما أشبه ذلك وهي مع كونها مدعاة لفساد الأخلاق، وهي- والله-

مفسدة للقلوب؛ لن الإنسان إذا ابتلى بها انصرف قلبه عن الله، قال ابن القيم في النونية: حبُّ الكتاب وحبُّ ألحان الغنا ... في قلب عبدٍ ليس يجتمعان تجد المفتونين بالغناء- والعياذ بالله- أحيانًا يمشون أمامك وتجده يعزف بأصابعه يغني؛ إما بقلبه، وإما بلسانه، وقال الإمام أحمد: الغناء لا يعجبني ينبت النفاق في القلب، وروي عن بعض الصحابة مثله هذا القول، لأن الإنسان- والعياذ بالله نسأل الله تعالى أن يشفي قلوبنا وقلوبكم بذكره- إذ غفل عن ذكر الله تسلط عليه الشيطان، فالقلب إما حي نير بذكره الله تعالى، وإما مظلم ميِّت بغفلته عن الله ولا شك أن الإنسان إذا ابتلى بالمعازف والغناء أنه يصده عن ذكر الله حتى أن ابن مسعود فسر قوله تعالى" {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علمٍ ويتخذها هزوًا} [لقمان: 6]. قال: ((والله الذي لا إله غيره إنه الغناء))، فعلى هذا يتبين حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في قرن هذه الأمور الأربعة بعضها ببعض؛ لأنها في الغالب متلازمة. في هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: أن فيه آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم من أين تؤخذ؟ من قوله: ((ليكونن)). ومن فوائده: تحريم الزنا. ومن فوائده أيضًا: تحريم الحرير. ومن فوائده: أن الحرير حرام على الرجال والنساء. ومن فوائده: تحريم الخمر لقوله: ((يستحلون)) معناه: أن الخمر حرام، وهو واضح مجمع عليه. ومن فوائده: تحريم المعازف. ومن فوائده أيضًا: أن الدف حرام لأنه من المعازف، فإننا نأخذ بالدليل العام حتى يوجد مخصص. لو قال قائل: إن الأشياء الأربعة حرام على الرجال، لأنه قال: ((ليكونن أقوام))؟ فالجواب: أنها إذا أطلقت شملت الجميع. ويستفاد من هذا الحديث: أن المستحلين لهذه الأشياء الأربعة كثيرون، يؤخذ من قوله: ((أقوام))؛ لأنها جمع قوم، أصل القوم جماعة بمعنى جماعات. المؤلف ساق هذا لحديث في هذا الباب ليبين تحريم نوع من أنواع اللباس وهو الحرير. قلنا: إن الحرير الأصلي هذا هو الحرام، والحرير الصناعي هل هو حلال أم حرام؟ حلال لدخوله في عموم قوله تعالى: {هو الَّذي خلق لكم مَّا في الأرض جميعًا} [البقرة: 29]. ولكن مع ذلك ينبغي للرجل ألا يلبسه لسببين:

تحريم لبس الحرير والجلوس عليه

السبب الأول: انه سبب لاتهامه بلباس الحرير، والإنسان ينبغي له أن يدفع عن نفسه ما تكون به التهمة؛ لأن أبعد الناس عن التهمة- وهو الرسول صلى الله عليه وسلم- قال لرجلين أنصاريين لما رأيا معه صفية: ((على رسلكما فإنها صفية)). مع أنه- عليه الصلاة والسلام- لا يمكن أن يتَّهم أبدًا، لكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، لكن قد توجد التهمة لمن لا يتهم. السبب الثاني: أنه إذا لبسه وهو يشبه الحرير الطبيعي ربما يقتدي به بعض الناس خصوصًا من لا يميزون التمييز الكامل بين الطبيعي والصناعي، ومعلوم أنه من كان سببًا للشر فإنه لا ينبغي للإنسان أن يتعرض له. فيه أيضًا سبب ثالث: لقولنا: لا ينبغي له أن يلبسه؛ لأنه إذا لبس هذا فإنه يكون مائعًا يوجب له الميوعة والميول إلى النساء، وربما إذا كان شابًا وسيمًا يكون سببًا للفتنة به. فعلى هذا نقول: إنه لا ينبغي للرجل أن يلبسه، ولكننا مع ذلك ما نتجاسر أن نقول: إنه حرام؛ لأن التحريم شديد جدًا حتى إن الإمام أحمد وغيره من السلف- رحمهم الله- ما يطلقون الحرام إلا على ما نص على تحريمه، وإلا فهم يقولون: ينهى وما أشبه ذلك من العبارات التي يتحرزون فيها. تحريم لبس الحرير والجلوس عليه: 498 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذَّهب والفضَّة وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والدِّيباج وأن نجلس عليه)). رواه البخاريُّ. بعض هذا الحديث سبق لنا في باب الآنية، وبعضه يختص بهذا الباب. قوله: ((آنية الذهب)) الآنية جمع إناء، وهي الأوعية التي تجعل فيها الأشياء، يقول: ((نهى أن نشرب في آنية الذهب)) الخالص أو الفضة الخالصة، ذهب وفضة جميعًا، أو ذهب ومعدن آخر غير الفضة، وهذا سبق لنا في باب الآنية. ثانيًا يقول: ((وأن نأكل فيها)) أي: آنية الذهب والفضة، لماذا؟ علل بعض أهل العلم بأن ذلك من باب الفخر والخيلاء، وعلل بعضهم بأنه إسرافٌ، وعلل بعضهم بأن في ذلك تغليقًا للنقدين؛ لأنهما دراهم ودنانير، فإذا اتخذت أواني ضاقت على الناس ولم يكن عندهم نقود، وعلل بعضهم ذلك بأن فيه كسرًا لقلوب الفقراء، الفقير الذي لا يجد ما يشرب إلا في الخزف يجد هذا يشرب في الذهب والفضة ينكسر قلبه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عللها بعلة واضحة قال:

بـ ((أنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة))، فهذه الميزة بين المسلمين والكفار، هؤلاء يتمتعون بها في الآخرة، والكفار يتمتعون بها في الدنيا، فهي ليست من أواني من يتقي الله عز وجل، مثل ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحرير: ((إنه لباس من لا خلاق له)). وقال: ((إن هذا لا ينبغي للمتقين)). قال: ((وعن لبس الحرير)) هذا الشاهد لبس الحرير، والحرير تقدم لنا أنه نسج دود القز؛ هذا الحرير الطبيعي. ((والديباج)) وهو نوع من الثياب يكون لحمته من الصوف والقطن أو نحو ذلك، ويكون سداه من الحرير؛ يعني: تجده مثلًا أشجاره حرير لكن أصل الثوب ولحمته كلها من صوف أو قطن؛ أو ما أشبه ذلك، ولكن سيأتينا- إن شاء الله تعالى- أن الديباج المراد به: ما كان أكثر ظهورًا في الثوب، أو ما كان مجتمعًا في مكان واحد أكثر من أربعة أصابع يعني معناه أنه إذا وجد حرير مع غيره من المباح إن كان الحرير هو الأكثر ظهورًا فهو حرام، وإن كان ليس أكثر ظهورًا بل الأكثر الآخر ويكون مجتمعًا في مكان أكثر من أربعة أصابع فهو حرام، فمثلًا الثوب الموشي بالحرير إذا كان ظاهره من الحرير أكثر يكون حرامًا اعتبارًا بالأكثر، وإن كان ليس فيه نقطة أو نقطتين أو ثلاثة متفرقة والأكثر خلاف الحرير، فإن ذلك يكون مباحًا. وقوله: ((وأن نجلس عليه)) حتى وإن لم نلبسه، فقوله: ((عن لبس الحرير والديباج))، هذا يستثنى منه النساء كما سيأتي- إن شاء الله تعالى- لحاجتهن إلى التزين والتجمل لأزواجهن، وفي الحقيقة: أن الرخصة في لبس الحرير للنساء كما هو مصلحة للمرأة فهو مصلحة للزوج أيضًا، فيكون مصلحة للرجال وللنساء، لكن لما كانت المرأة أحق أن تتزين بمثل هذه الثياب صار حلالًا في حقها دون الرجل. وقوله: ((أن نجلس عليه)) هل هذا خاص بالرجال أو عام للرجال والنساء؟ فيه خلاف فقال بعض أهل العلم: إنه للرجال والنساء، وأن المرأة إنما أبيح لها أن تلبس الحرير للتجمل، والفراش منفصل عنه، فلا فرق بينها وبين الرجل في عدم حاجتها إلى الفراش من الحرير، وقال بعض العلماء: بل إنه خاص للرجال وأن للنساء أن يجلسن على الفرش من الحرير لعموم الحدي؛ ولأن الجلوس يسمى لبسًا، كما في حديث أنس: ((قمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس)). في إحدى الروايات وفي بعض ألفاظه: ((من طول ما لبس))، لكن على اللفظ الأول يكون الجلوس على الشيء نوعًا من اللباس، فمن نظر إلى عموم اللفظ في حل الحرير للنساء قال:

مقار ما يباح من الحرير

إن جلوسهن عليه حلال؛ لأن هذا نوع من الاستعمال فهو كالثوب، ومن نظر إلى المعنى الذي من أجله أبيح للنساء الحرير قال: إنه لا يجوز، لأنه لا فرق، كيف نقول: هذا فراش للمرأة حرير وهذا فراش للرجل قطن، وكلاهما سواء ولهذا الاحتياط ألا تستعمل المرأة الحرير للجلوس. مقار ما يباح من الحرير: 499 - وعن عمر رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين، أو ثلاثٍ، أو أربعٍ)) متَّفقٌ عليه، واللَّفظ لمسلم. ((النهي)) هو طلب الكف على سبيل الاستعلاء، فقولنا: ((طلب)) خرج به ما ليس بطلب كالأخبار، وقولنا: ((الكف)) خرج به الأمر؛ لأن الأمر طلب الفعل، وقولنا: ((على سبيل الاستعلاء)) خرج به الدعاء، والالتماس، والإرشاد، وما أشبه ذلك، ((على سبيل الاستعلاء)) بمعنى: أن الناهي يشعر بنفسه أنه أعلى من المنهي، فالأب مثلًا إذا قال لابنه: لا تفعل كذا وكذا، هذا استعلاء؛ لأنه يشعر أنه فوقك، لكن الابن لو قال لأبيه: يا أبت لا تضربني، هذا نهي؟ لا، هذا سؤال، لأن كلمة دعاء تسعر بأن هذا دعاء عبادة، ولكن لو قلنا: سؤال كفى. يقول: ((نهر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير)) هل كلمة ((نهى)) توازن قوله: ((لا تلبسوه))؟ نقول: هذا هو الأصل، لأنه إذا قال الصحابي العارف بلغة العرب: نهى، فإن عنده علمًا يقينًا بأن الرسول قال: ((لا تلبسوا)) أو كلمة نحوها، لا يقال: لعل الصحابي فهم أنه نهي وليس بنهي كما ادّعاه بعض الأصوليين وقال: إن قول الصحابي: ((نهى)) ليس صريحًا في النهي، وجوابنا على هذا أن نقول: إن الصحابي عالم باللسان العربي، ويعرف مدلوله، فإذا قال الصحابي: ((نهى)) فهو كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تلبسوا)) ولا فرق. قوله: ((عن لبس الحرير)) هذا عام سواء كان ثوبًا أو سروالًا، أو غترة، أو غير ذلك، ويعم النساء والرجال، لكن النساء سيأتي- إن شاء الله- ما يدل على التخصيص. قال: ((إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع))، هل هذا على سبيل الشك، أو على سبيل التنويع؟ هذا على سبيل التنويع، وليس الشك، ولهذا كأنه يقول: إلا ما كان على أصبعين، وإما على ثلاث، وإمّا على أربع، والتنويع الذي نسميه أحيانًا للتخيير هذا وارد في اللغة العربية ووارد أيضًا في النصوص الشرعية، قال الله تعالى: {ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ} [البقرة: 196]. فـ ((أو)) هذه للتنويع، إذن يجوز إلى أربع، وهل يجوزك إلى خمس؟ لا، ودون الأصبع جائز من باب أولى. وقوله: ((إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع)) هنا يقتضي أن المعدود مؤنث، والأصبع كما سبق لنا مؤنثة، يقول أهل العلم- رحمهم الله-: إن هذا المراد به ما كان في موضع واحد مثل لو كان الجيب في الثوب موضع فيه أسلاك من الحرير، إذا وضعت أصابعك الأربع عليها، وإذا

حكم لبس الحرير لعذر أو مرض

هي أكثر من أربع أصابع فإنه حرام، وإن كان أربع فأقل فهو جائز مباح. فإن قال قائل: الأصابع تختلف: من الناس من تكون أصابعه دقيقة، ومنهم من تكون غليظة غير دقيقة، فأيهما نعتبر؟ نقول المتوسط، أو نقول: الأمر في هذا واسع، وأنه ما دام ما قيد فإذا صار في أربع أصابع فأقل فهو جائز. يستفاد من الحديث الأول: أولًا: تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة. ثانيًا: حل استعمالهما في غير ذلك، وقد سبق لنا ذكر الخلاف فيه، والمشهور من المذهب تحريم استعمالهما أكلًا وشربًا واستعمالًا .... إلخ. ويستفاد منه: تحريم لبس الحرير؛ لقوله: ((وعن لبس الحرير))، وعن تحريم لبس الديباج في الحرير، وتحريم الجلوس على الحرير. فإن قلت: لو أن أحدًا خاط على الحرير ثوبًا من الكتان أو من القطن حتى لا يظهر الحرير هل يجوز أو لا؟ نقول: إنه يجوز؛ لأنه ليس بظاهر فيكون جائزًا، وهذا قد يضطر الإنسان إليه، أما مع عدم الضرورة فقد لا ينبغي لكن قد يضطر، يكون الفراش الذي عنده لا يستغني عنه، ولكن لا يستطيع أن يشقه، فنقول: إذا خاط عليه ليس إذا وضع، لكن إذا خاط عليه خرقة فلا بأس، أما لو وضع عليه فراضًا أو كساءً فإن هذا لا يصلح، والفرق بينهما: أنه إذا خاط عليه صار متصلًا ببعضه، لكن إذا وضع فهذا لا يجوز. ويستفاد من الحديث الثاني: النهي عن لبس الحرير كالأول، وهل نستفيد النهي من هذا الحديث الثاني لأننا نقول: إن التحريم مستفاد من الحديث الأول؟ الجواب: نعم نستفيد؛ لأنه كلما كثرت الأدلة قوي الحكم. ويستفاد منه: جواز أربع أصابع فما دون في موضع واحد لقوله: ((إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع)). حكم لبس الحرير لعذر أو مرض: 500 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رخَّص لعبد الرَّحمن بن عوفٍ والزُّبير في قميص الحرير، في سفر؛ من حكَّةٍ كانت بهما)). متَّفقٌ عليه. ((الرخصة)) في اللغة بمعنى: السهولة، وعند الأصوليين يقولون: إن الرخصة ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، هذا التعريف فيه شيء من التعقيد، مثال ذلك: في الذي معنا الحرير حرام، الحكة تحله، إذن ثبت الحل على خلاف دليل شرعي، وهو التحريم لمعارض راجح، وهو الضرر أو الحكة هذه الرخصة، ولو قيل: إن الرخصة في اللغة هي الرخصة في الشرع، وأن المراد بها: التسهيل لسبب من الأسباب، لكنهم يقولون: غنك إذا قلت:

الرخصة هي السهولة؛ لزم أن يشمل ذلك جميع الدين؛ لأن كل يسر وسهولة، ولكننا ننفصل عن هذا الإيراد ونقول: إنه من السهولة فيما ثبت فيه الإيجاب أو التحريم، فمثلًا هذا الحكم واجب ثم نقول لهذا الرجل لا يجب عليك لسبب وهذا الحكم محرم، ونقول لهذا الرجل: لا يحرم عليك لسبب هذه الرخصة، فالتسهيل إذن يكون لسبب، بمعنى: أننا نخرج بعض الناس من الإيجاب أو من التحريم لسبب هذا هو الرخصة. قال: ((لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص الحرير))، القميص: هو الثوب ذو الأكمام، وقوله: ((في سفر)) هل هذا بيان للواقع أو قيد؟ بيان للواقع، فهو إذن ليس بقيد، قوله: ((من حكة كانت بهما)) ((من)) سببية فتكون دالة على العلة، و ((الحكة)) معروفة هي: ما يصيب البدن، مما يسمى في الوقت الحاضر ((حساسية)). وقوله: ((في قميص الحرير في سفر)) قميص الحرير يعني: قميص من الحرير، فالإضافة هنا على تقدير ((من))، وقد سبق أن الإضافة تكون على تقدير ((من، واللام، وفي))، فإذا كان المضاف إليه ظرفًا للمضاف فهذا على تقدير ((في)) كقوله تعالى: {بل مكر الَّيل والنَّهار إذ تأمروننا أن نَّكفر بالله} [سبأ: 33]. مكر الليل، يعني: مكر في الليل، وإذا كان المضاف إليه جنسًا للمضاف فالإضافة على تقدير ((من))، كما تقول: ((خاتم حديد)) و ((ثوب حرير)) وما أشبهها، أي: خاتم من حديد، وثوب من حرير، والحرير تقدم لنا أنه نسج دود القز، أما ما عدا ذلك فالإضافة على تقدير اللام وهي كثيرة جدًا. يقول: ((في سفر من حكة)) ((من)) هنا للتعليل؛ أي: بسبب حكة، والحكة هي ما يعرف عندنا الآن بالحساسية ((كانت بهما))، وإنَّما رخص في ثوب الحرير من الحكة؛ لأن الحرير فيه خاصية حيث إنه فيه تبريد هذه الحكة، بل فيه شفاء هذه الحكة، ولهذا رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم لهما في استعمال هذا الحرير. فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: أن تحريم الحرير ليس لخبثه؛ لأنه لو كان لخبثه ما كان فيه فائدة ولا شفاء؛ لأن الشفاء لا يمكن أن يكون فيما حرم الله صلى الله عليه وسلم ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستشفاء بالخمر وأنها تتخذ دواء قال: ((إنها داء وليست بدواء)). لأنها محرَّمة لخبثها، وما حرَّم لخبثه كيف يكون مفيدًا، لكن الحرير إنما حرِّم لما فيه من النعومة التي لا تليق بالرجل، ولهذا جاز للمرأة، ولو كان التحريم لخبث هذا النوع من اللباس لكان هذا شاملًا للرجال والنساء، وبهذا يندفع الإشكال الذي قد يستشكله البعض، حيث يقول: كيف كان الشفاء في شيء محرم والله تعالى لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرمه عليها؟ فنقول: إن التحريم هنا ليس بمعنى يتعلق بذات الحرير، ولكن لمعنى خارجي، ما هو المعنى

الخارجي؟ أنه يحصل بلباسه من النعومة ما لا يليق بالرجال؛ ولهذا حلَّ للنساء. ويستفاد من هذا الحديث: أن تحريم الحرير ليس كالتحريم الباقي الذي لا يجوز إلا أيضًا، ولهذا أبيح للحاجة؛ لأن الحكة من الجائز أن تزول بغيره، ومن الجائز ألا تزول به أيضًا وهكذا جميع الأدوية يمكن أن يزول المرض بها ويمكن ألا يزول بها؛ ولهذا سهل تحريمه. ويستفاد من هذا الحديث: جواز لبس الحرير للحكة لقوله: __من حكة كانت بهما))، وهل يشترط أن يكون ذلك في السفر؟ لا؛ هذا القيد بيان للواقع، يعني: أن الترخيص كان في سفر، فلو كان في حضر لم يختلف الحكم، وهذا ما يسمى عند الأصوليين بمفهوم اللقب، مفهوم اللقب هو الذي ليس له تأثير في الحكم فكل ما ليس له تأثير في الحكم فإنهم يسمونه مفهوم لقب لا يختلف فيه الحكم. سؤال: هل هذا الحكم خاص بعبد الرحمن بن عوف والزبير؟ أجاب الشيخ: لا؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فإن قال قائل: هذا ليس فيه عموم. قلنا: إن العموم نوعان: عموم لفظي، وعموم معنوي؛ فالعموم اللفظي: أن يوجد لفظ من ألفاظ العموم ورد على سبب خاص فيكون عامًا ولا عبرة لسببه، والعموم المعنوي هو أن نقول: إن العلة التي أبيح من أجلها الحرير لهذين الرجلين عامة وليست خاصة، وهي الحاجة إلى لبسه، فهذا نقول: إنه عموم معنوي، ثم إنه قد سبق لنا قاعدة نافعة في هذا الباب، وهي أنه لا يوجد أحد يخصص بحكم من الأحكام لهينه أبدًا، وإنَّما يخصص من يخصص بالأحكام لوصف كان فيه، أما أن الحكم شرعي هو لهذا الرجل دون غيره فهذا لا يمكن؛ لأن الأحكام الشرعية مربوطة بعللها ومعانيها، والأشخاص ليسوا عللًا ومعاني، إلا أنه يرد على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة بن نيار حيث ضحى بشاته قبل صلاة العيد يريد أن تكون هي أول ما يؤكل في البيت، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: من ذبح قبل الصلاة فلا نسك له، وأمر من ذبح قبل الصلاة أن يذبح مكانها أخرى، قال: يا رسول الله، أن عندي عناقًا هي أحب إلي من شاتين أفتجزئ عني؟ قال: ((نعم، ولن تجزئ عن احد بعدك)). أليس في هذا دليلٌ على التخصيص؟ نقول: نعم عند بعض أهل العلم يقولون إن هذا دليل على التخصيص العيني دون الوصفي؛ لأنه قال: ((ولن تجزئ عن أحد بعدك))، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: إن المراد بالبعدية هنا أي: بعد حالك، وأنه لو وجد إنسان على الوصف الذي وقع لأبي بردة فإنه يحل له أن يضحي بعناق، يعني: لو ضحى إنسان بشاته قبل الصلاة جهلًا ثم لم يكن عنده إلا عناق

فإننا نقول: تجزئ عنك في هذه الحال استدلالًا بحديث أبي بردة، وما ذهب إليه شيخ الإسلام لا شك في أنه خلاف ظاهر اللفظ، ولكن المعنى الذي نعلمه من الشريعة أن أحكامها معللة بالمعاني والأوصاف دون الأشخاص يرجح ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعلى هذا فتكون الشريعة ليس فيها تخصيص حكم لشخص بعينه. فإن قلت: هذا ينتقض بالخصائص التي ثبتت للرسول صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم خصص بخصائص؛ لأنه رسول الله، هذه الخصائص علِّقت بوصف وهو الرسالة، ولا يشاركه أحد في هذا الوصف؛ لأنه- عليه الصلاة والسلام- كان خاتم النبيين فتبين أن هذا الحديث يعم من سوى عبد الرحمن بن عوف والزبير. وبقي أن يقال: إذا احتيج إلى لبس الحرير لغير الحكة آخر فهل يجوز؟ الجواب: أنه يجوز؛ لأن القياس في الشريعة الإسلامية أحد الأصول يستدل بها في الأحكام، فالأصول التي يستدل بها في الأحكام: الكتاب والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح، وهذا الذي تكلمنا عليه يسمى التخصيص بالحكم، ولكن هناك تخصيص بالفضيلة ممكن أن يخص أحد من الناس بفضيلة لا يشاركه أحد فيها، مثل: أبي بكر والخلفاء من بعده، هذه الفضائل غير الأحكام، لكن الأحكام التي هي مناط التكليف هذه ما أحد يختص بها دون الآخر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي لمَّا خلفه في أهله في غزوة تبوك: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)). هذه الخصيصة كون الرسول صلى الله عليه وسلم يخص علي بن أبي طالب من بين سائر أهله وأصحابه أن يكون خليفة في أهله هذه ما تدل على أنه انفراد بحكم من الأحكام، وكذلك: ((لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله ويحبهم الله ورسوله كثير. جواز إهداء الحرير للرجال لا ليلبسوه: 501 - وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: ((كساني النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حلَّةً سيراء، فخرجت فيها، فرأيت الغضب في وجهه، فشققتها بين نسائي)). متَّفقٌ عليه، وهذا لفظ مسلم. علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو أفضل آل البيت لقرابته من الرسول، أو لما يتصف به من الخصال؟ لهما كليهما، وما فضِّل على آل البيت لقرابته، بل لما كان له من الصفات الحميدة، ولو قلنا: إن فضله لآل البيت من أجل القرابة لكان العباس أفضل منه؛ لأن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم والعم أقرب إلى ابن أخيه من ابن العم إلى ابن عمه، ولكن عليًّا رضي الله عنه تميز بخصائص من

الفضيلة لا يشاركه فيها العباس، ولهذا نعرف أن أبا بكر وعمر وعثمان امتازوا بالفضيلة على علي بن أبي طالب، وإن كان هو أفضل منهم بالقرب؛ لأن مدار الفضائل الأصلي هو الأشياء التي يتخلق بها والقرابة إلى ذلك، لاشك أن لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم حقًا على أمته؛ ولهذا الذين ليسوا بمؤمنين من قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم يجب علينا أن نكرههم وألا نولي لهم المحبة، وذلك لنهم أعداء لله وأعداء للرسول، ونوح- عليه الصلاة والسلام- قال الله له عن ابنه: {إنَّه ليس من أهلك} [هود: 46]. ولهذا آل الرسول صلى الله عليه وسلم أو قرابته الذين لا يؤمنون به ليسوا من أهله. يقول: ((كساني حلَّة سيراء)) يجوز حلة سيراء بالقطع عن الإضافة وتجوز الإضافة، فيجوز أن نقول: ((حلَّة سيراء)) ويجوز أن نقول: ((حلَّة سيراء)). على الوجه الأول نقول: ((حلة)) مفعول كسا الثاني، والمفعول الأول الياء، وحلة مضاف، وشيراء مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه لا ينصرف، والمانع من الصرف ألف التأنيث الممدودة، وعلى هذا فتكون الإضافة على تقدير: ((من))، و ((السيراء)) هي: بردة فيها أعلام من الحرير؛ يعني: خطوط من الحرير تشبه السيور؛ ولهذا سميت سيراء من السيور. أما على الوجه الثاني فنقول: ((حلة)) مفعول كسا الثاني منصوب بالفتحة الظاهرة، وسيراء صفة لحلة، وصفة المنصوب منصوب وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره، وإذا أردنا أن نحول سيراء إلى حرير نقول: ((حلة حرير)) أو ((حلة حريرًا)) فإذا جاءك ((حلة حريرًا)) فإنها إما أن تكون صفة، وإما أن تكون عطف بيان؛ لأنها بينت نوع هذه الحلة. وعلى كل حال: فما هي الحلة؟ الحلة قالوا: إنها الإزار والرداء، وقيل: الثوبان المترادفان مطلقًا، فكل ثوب فوقه ثوب فهو حلة، أو أنه الإزار والرداء، وأما السيراء فهو الحرير. يقول: ((كساني، فخرجت فيها))، لبسها رضي الله عنه وخرج، ((فرأيت الغضب في وجهه))، أولًا هذه الجملة فيها إيجاز بالحذف، وما هو الإيجاز بالحذف؟ أن يكون في الجملة شيء محذوف دل عليه السياق، ما هو الشيء المحذوف الذي دل عليه السياق. ((فرآني فرأيت الغضب في وجهه)) الرؤية هنا بصرية، وقوله: ((رأيت الغضب)) أي: أثر الغضب؛ لأن الغضب محله القلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه جمرة يقيها الشيطان في قلب ابن آدم)). لكنه يظهر على الوجه فيحمر الوجه وتنتفخ الأوداج وربما تقف الأشعار؛ أي: يقف شعر الإنسان من شدة الغضب. ((فشققها بين نسائي)) يعني: شققت هذه الحلة، وفي رواية مسلم: ((أنه جعلها خمرًا)) جمع خمار، أي: جعلها لنسائه، لكن في بعض روايات الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إليه بالحلة

ففهم منه أنه يريد أن يلبسها فقال: ((كساني))، وهذا اللفظ متعين يجب أن نفهمه؛ لأننا لو أخذنا هذا الحديث على ظاهر اللفظ الذي معنا لكان هناك تناقض؛ إذ كيف يكسوه الرسول- عليه الصلاة والسلام- ثم يغضب، ولكن الروايات الأخرى تبين ذلك، بعث إليه بهذه الحلة فظن أنه يريد أن يلبسها فلبسها، وعبر عن ذلك في قوله: ((كساني)) بناء على ظنه، وأيضًا لما رآه الرسول قال له: ((إنَّما بعثت بها لتكسوها الفواطم)) يعني: لتعطيها نشاءك، ولهذا فعل رضي الله عنه فشق هذا لنسائه. يستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: الفائدة الأولى: جواز إهداء الشيء المحرم على المهدى إليه إذا كان يحل لغيره؛ وجهه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أهداه عليًا، وهو حرام على الرجال لكنه حلال للنساء، فعلى هذا لو أهديت لشخص خاتمًا من ذهب- وهو رجل- يجوز ذلك، ولكن يجعله لنسائه، إلا إذا علمت أنك إذا أهديت له هذا المحرم ربما يستعمله هو، فإذا خشيت ذلك صار حرامًا؛ لماذا؟ من باب سد الذرائع، والقاعدة المعروفة في أصول الفقه: أن للوسائل أحكام المقاصد، وهناك عبارة أخرى يقولون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أي العبارتين أحسن؟ أن للوسائل أحكام المقاصد؛ لأنك إذا قلت: للوسائل أحكام المقاصد صار وسيلة الواجب واجبة، فتكون بمعنى: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وصارت وسيلة المحرم محرمة لا تدخل في قولك: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب إلا عن طريق العكس، مثل أن تقول: المحرم يجب اجتنابه وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. الخلاصة أن نقول: يجوز أن تهدي شخصًا شيئًا محرمًا عليه إلا إذا خشيت أن يستعمله في الحرام فلا يجوز. ويستفاد من هذا الحديث: استحباب الغضب إذا انتهكت محارم الله، من أين يؤخذ؟ من قوله: ((فرأيت الغضب في وجهه)). ويستفاد منه أن عليًا رضي الله عنه ليس بمعصوم، أنه أخطأ في لبس هذا الحرير، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب عليه، فإذا كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه غير معصوم وهو إمام الأئمة عند من يثبتون الأئمة فمن دونه من باب أولى. ويستفاد من هذا الحديث: أن الغضب ليس صفة ذم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب. ويستفاد منه: أن معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تغضب)). ليس معناه: أنه لا يعتريك الغضب، لماذا؟ لأن الرسول نفسه يغضب، فكيف ينهي عن شيء يكون فيه هو، لكن معنى ((لا تغضب)) يعني: لا تفعل فعلًا تذم عليه يكون سببه الغضب، أو أن المعنى: لا تغضب: لا تتعرض لما يغضبك، وأما الغضب الطبيعي فهذا لا يمكن النهي عنه. ويستفاد من الحديث: جواز تمزيق الثوب لجهة أخرى ينتفع به فيها؛ لأنه شق هذه الحلة

إباحة الذهب والحرير للنساء والحكمة منها

بين النساء، لا يقال: إن هذا إفساد للثوب، يعني: لو قال قائل: لماذا لم يبق علي رضي الله عنه هذا الثوب ويعطيه إحدى النساء؟ فالجواب: أنه لا حرج عليه أن يشقه ويحوله إلى صفة أخرى، فقد حوله هنا وصيره خمرًا. ويستفاد منه: أن علي بن أبي طالب له نساء كثيرات؟ محتمل لكنه لم يتزوج على فاطمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفيت. إباحة الذهب والحرير للنساء والحكمة منها: 502 - وعن أبي موسى رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أحلَّ الذهب والحرير لإناث أمَّتي، وحرِّم على ذكورها)). رواه أحمد، والنَّسائيُّ، والتِّرمذيُّ وصحَّحه. قوله: ((أحل الذهب والحرير)) هذا فعل ماض مبني للمجهول، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال ((أحل)) فالمراد: أحله الله، والصحابي إذا قال: ((أحل)) فالمراد: أحله النبي صلى الله عليه وسلم، قوله: ((أحل الذهب والحرير)) الذهب هو هذا المعدن المعروف الأصفر ويقابله الفضة وليس من الذهب ما اشتهر في الزمن الأخير فيما يسمى بالذهب الأبيض وهو الماس والبلاتين هذه تسمية اصطلاحية، لكن الذهب المقصود هنا هو الذهب الأصلي الذي هو الذهب الأحمر المعدن المعروف، وقوله: ((الحرير)) سبق أن المراد به: منسوج دود القز. وقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((لإناث أمتي)) إنا جمع أنثى، وهو شامل للصغيرة والكبيرة؛ لأنها أنثى، والأنثى تحتاج إلى الزينة وإلى اللباس الجميل لما في زينتها وجمالها من جلب مودة زوجها لها، وجلب مودة الزوج لزوجته هذا من الأمور المشروعة، فلهذا كان من حكمة الشارع أن أباح للنساء الذهب والحرير؛ ولهذا قال الله تعالى في سورة الزخرف: {أو من ينشَّؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبينٍ} [الزخرف: 18]. من يعني بذلك؟ النساء؛ لن المرأة تنشأ- يعني: تربى من أول نشأتها- في الحلية، وهي إذا بلغت تكون في الخصام غير مبينة لا تستطيع أن تفصح وأن تغلب غيرها، وهذا باعتبار الجنس، وإلا فقد يكون من النساء من تكون في الخصام مبينة لكن العبرة بالأعم، فالمرأة ناقصة ولذلك جبر الله نقصها بإباحة التحلي لها. وإباحة التحلي للمرأة بالذهب وإباحة لبس الحرير لها هل هو من مصلحتها الخاصة فقط، أو م مصلحتها ومصلحة الرجل؟ الثاني؛ فإن الرجل لا شك أنه يتمتع بزوجته بالنظر إليها إذا كانت على هذا الوصف. وقوله: ((حرم على ذكورها)) قد تقول: لماذا لم يقل: حرمًا على ذكورها؟ لأن الضمير يعود

على اثنين، والقاعدة المطردة في اللغة العربية أن الضمير إذا كان يعود إلى اثنين فإنه يجب أن يثنَّى موافقة لمرجعه وهنا قال: ((وحرّم على ذكورها))، والجواب على ذلك: أن مثل هذا وارد في اللغة العربية، بل في القرآن الكريم، وهو أن يذكر ضمير لأحد المرجعين ويحذف ما يماثله من الضمير الراجع للآخر، مثاله قوله تعالى: {والله ورسوله أحقُّ أن يرضوه} [التوبة: 62]. كان المفترض في السياق أن يقول: أحق أن يرضوهما؛ لأنه جمعهما بحرف العطف الدال على الجمع، لكننا نقول في مثل هذا: إنه حذف من الجملة ما يشبه الموجود وهو أبلغ من ذكر الفعل للضمير المطابق؛ لأنه إذا حذف من الجملة صار كأنه ذكر مرتين بخلاف ما إذا جمعا في ضمير واحد. وعلى هذا فنقول: ((وحرِّم)) أي: الذهب، و ((حرم)) أي: الحرير، وقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((على ذكورها)) ولم يقل: على رجالها؛ لأن الذكر يقابل الأنثى، والرجل يقابل المرأة، والحكم يتعلق بمجرد الذكورة لا بالبلوغ، ولهذا قال: ((حرِّم على ذكورها)) سواء كانوا بالغين أم غير بالغين. قوله: ((على إناث أمتي)) ما المراد بالأمة هنا، أمة الدعوة أم أمة الإجابة؟ هذا ينبني على خلاف أهل العلم في الكفار هل هم مخاطبون بفروع الإسلام أو ليسوا مخاطبين؟ وقد درستم في أصول الفقه أنهم مخاطبون بفروع الإسلام، وعلى هذا فيكون المراد: أمة الدعوة، فالرجل إذا كان كافرًا ولبس الحرير والذهب فإنه سيعاقب على هذا بالإضافة إلى معاقبته على الكفر وأدلة هذا مبسوطة في أصول الفقه. ويستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: حكمة الشرع في التحليل والتحريم، من أين تؤخذ؟ من تحليل الحرير والذهب للإناث وتحريمه على الذكور؛ لأن هذا هو مقتضى الحكمة؛ لأن الرجل لو يلبس الذهب ويلبس الحرير فمعنى ذلك: أنه يميل إلى النعومة وبالتالي يدعو الناس إلى الافتتان به؛ ولهذا كم من إناث سقطوا في شرك هذا الأمر حين يأتي شاب مائع يتزين ويلبس سلاسل الذهب وثياب الحرير، ثم يخرج إلى الناس ماذا يحصل من الفتنة؟ يحصل فتنة عظيمة حتى ينقلب الرجال إناثًا؛ ولهذا كان من الحكمة تحريمه على الذكور. ويستفاد من هذا الحديث: أن تحليل الذهب والحرير للإناث يشمل الصغيرة والكبيرة، من أين يؤخذ؟ من قوله: ((لإناث أمتي)). فإن قلت: تعميمك الحكم للصغيرة والكبيرة من النساء ينافي ما ذكرت من الحكمة من أن في ذلك مصلحة للمرأة ولزوجها. فالجواب أن نقول: إنه أبيح لها وهي صغيرة وإن كانت ليست في حاجة أن تتحلى بهذا من أجل تنشَّأ عليه: {أو من ينشَّؤا في الحلية} وتعتاده ولا يضر هذا.

ويستفاد من هذا الحديث: أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه لقوله: ((أحل)) و ((حرِّم))، وإنما قال ذلك دون أن ينسبه إلى نفسه، لأننا إذا علمنا أنه من عند الله عز وجل صار اجتنابنا لما حرم علينا منه أوكد وأعظم وإن كان من يطع الرسول فقد أطاع الله لكن هذا أوكد وأبلغ. ويستفاد من هذا الحديث: جواز لبس الحرير والذهب للنساء ولو كثر، لكنه كغيره من النصوص المطلقة، فالأكل والشرب حلال لكن إذا وصل إلى حد الإسراف صار حرامًا، كذلك الذهب والحرير إذا وصل إلى حد الإسراف صار حرامًا، وما ميزان الإسراف؟ ميزانه: أن يتجاوز الإنسان بفعله ما كان معروفًا عند الناس، فلو أن امرأة من التاجرات وذوات الهيئات الكبيرة لبست شيئًا كثيرًا من الذهب وجاءت امرأة صغيرة فقيرة وقالت: أرد أن ألبس مثلها ماذا نقول، هل نمنعها أو نقول: يجوز لك ذلك؟ إن منعناها احتجت علينا وقالت: الفقير ليس له قيمة عندكم حتى في هذه الأمور، وكما قال أحد الناس لما وصفوا له ديكًا صغيرًا يذبحه ويجعل في مرقه دواء؛ لأنه مريض لم يكن منه إلا أن قال: أحضروا الديك هذا الذي وصفتم لي وأمسك به وقال: استصغروك فوصفوك فهلا وصفوا شبل الأسد. لكن المعري إذا لم يكن قد تاب مما هو عليه فهو زنديق؛ لأنه ينكر حل اللحم ولا يأكل من اللحم شيئًا، المهم أن هذه المرأة فقيرة قلنا لها: حرام عليك تلبسين هذا اللباس من الذهب وعند جارتها من ذوات الهيئات والغني تلبس هذا وقلنا لجارتها في المنزل حلال ولها حرام أما تحتج علينا؟ نعم، لكن نقول: إن الله عز وجل جعل للباس المحلل والطعام المحلل، والشراب المحلل قاعدة، قال الفقهاء- رحمهم الله-: ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن يلبسه. وقوله: ((أحل الذهب والحرير)) هل يشمل الذهب الذي صنع على صورة حيوان؟ ظاهر الحديث أنه يشمله وأن الذهب لو كان على شكل حيوان كثعبان وفراشة وسمكة فإنه جائز، ولكننا نقول كما قلنا في القاعدة السابقة: الشريعة من مشرع واحد، فيحمل مطلق كلامه على مقيده، وعمومه على مخصصه، وعلى هذا فنقول: قد رددت أحاديث كثيرة في تحريم الصور ولا سيما المجسمات، وعلى هذا فلا يجوز أن تتخذ المرأة سوارًا على شكل ثعبان أو أن تتخذ قلادة على شكل فراشة أو سمكة أو ما أشبه ذلك، ظاهر الحديث: انه لا فرق بين أن يكون الذهب محلقًا أو مرصَّعًا، ما وجهه؟ العموم: ((أحل الذهب)) وهو عام يشمل المرصَّع والمحلق. وعلى هذا فنقول: إن الحديث يدل على إباحة الذهب مطلقًا ولو كان محلقًا، ولكن بعض أهل العلم ذهب إلى تحريم المحلَّق مستدلين بأحاديث- إن شاء الله- يأتي الكلام عليها.

حب الله عز وجل لرؤية أثر نعمته على عبده

حبُّ الله عز وجل لرؤية أثر نعمته على عبده: 503 - وعن عمران بن حصينٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الله يحبُّ إذا أنعم على عبده نعمةً أن يرى أثر نعمته عليه)). رواه البيهقيُّ. وذلك لكمال كرمه عز وجل وأنه إذا أنعم عليك نعمة يحب أن يرى أثر هذه النعمة عليك، والنعمة- كما تعرفون جميعًا- هي الفضل، ونعمة الله على العبد نوعان: نعمة في الدين، ونعمة في الدنيا. والنعمة في الدين: هي الإيمان والعلم، يعني: تنبني على الإيمان والعلم، فينبغي للإنسان إذا منَّ الله علي بالإيمان أن يرى الله- سبحانه وتعالى- من ثمرات هذا الإيمان ما يتبين به نعمته عليه وذلك بالعمل الصالح، كثرة الطاعات واجتناب المعاصي؛ لأن الإيمان يستلزم ذلك ولابد فإن الإيمان صلاح القلب صلحت الجوارح، أيضًا العلم هذا نعمة من الله، ولهذا قال الله تعالى لرسوله- عليه الصلاة والسلام-: {وعلَّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا} [النساء: 113]. فإن نعمة الله على العبد بالعلم من أفضل النعم، فيرى أثر نعمته عليه بالعلم في مظهره، ومتعبده ودعوته الخلق، وتعليم الخلق ما استطاع، هذا من آثار النعمة، لا يكون الرجل الذي من الله عليه بالعلم كالرجل العامي يجلس في المجلس ويقوم ولا ينتفع الناس به، أو تكون صلاته كصلاة الناس على العادة لا يظهر فيها تجديد موافق للشرع بل يصلي كما يصلي الناس، هذا ما أرى الله أثر نعمته عليه، بل لابد أن يكون لهذه النعمة آثار تظهر على سلوك الإنسان نفسهـ، وعلى سلوكه مع غيره. وأما النوع الثاني من النعمة: فهي نعمة الدنيا من المال والحسب والجاه وما أشبه ذلك، فالله عز وجل يحب من عبده أن يرى أثر نعمته عليه في ذلك، ففي المال مثلًا إذا أنعم الله عليك بالمال فإن من آثار نعمة الله عليك بالمال أن يكون لباسك جميلًا، وأن يكون لك فراش ليس للفقراء، وبيت ليس كبيوت الفقراء، وما أشبه ذلك، هذا من آثار النعمة، لا تقل أنا قد أنعم الله علي بالمال وعندي مال كثير أخرج بعباءة مرقعة وثوب متشقق ونعال متقطعة، لماذا يا أخي؟ قال: لأن هذا هو الزهد. هذا ليس بزهد، هذا قد يكون الإنسان به آثمًا؛ لأنه لباس شهرة بالنسبة إليه، فإن الشهرة كما تكون في لبس الشيء الذي يلفت النظر لارتفاعه تكون أيضًا في لبس الشيء الذي يلفت النظر لدنوه وانحطاطه، فليس هذا من لباسك أر الله عز وجل أثر نعمته عليك بلباسك ومظهرك لا تقل: أنا لا ألبس الزينة، فإذا قلت ذلك فإن الله يقول: {قل من حرم زينة الله الَّتي أخرج لعباده والطَّيبات من الرزق} [الأعراف: 32]. كذلك إذا كنت ذا حسب فأر الله نعمته

عليك بهذا الحسب؛ لا تجلس مجلس ذوي الدناءة والسفول والانحطاط، فإن لكل مقام مقالًا؛ ولهذا يعتب الناس على الرجل ذي الحسب أن يجلس في مجالس القوم الرديئة، كذلك إذا كنت ذا جاه فأر الله تعالى نعمته عليك بهذا الجاه، انفع الناس به ما استطعت، وهكذا كل نعمة من الله على عبده فإن الله تعالى يحب أن يرى أثر هذه النعمة على العبد. ساق المؤلف هذا الحديث في باب اللباس، والمناسبة فيه ظاهرة: وهي أن نعمة الله على عبده بالمال أن يظهر أثر هذا المال في ملبسه، لا يلبس لباسًا دنيئًا لباس الفقراء وقد أغناه الله؛ لأن هذا لم يظهر نعمة الله عليه بالمال. فإن قلت: إن بعض العلماء ندوب أن يلبس الإنسان الثياب الدون تواضعنا لله عز وجل كما قال ابن عبد القوي في منظومته: ومن يرتضي دون اللِّباس تواضعًا ... سيكسي اللِّباس العبقريات في غدٍ فالجواب على ذلك: أنه إذا كان من باب التواضع بحيث لا يكون حولك إلا أناس فقراء لو لبست ثيابًا رفيعة وهم عليهم ثياب دون، صار في ذلك نوع من الترفع وانكسار القلب، ففي هذه الحال إذا تركته من باب التواضع يكون هذا أمرًا عارضًا اقتضت المصلحة أن تتصف به، فلكل مقام مقال. فعلى كل حال يعود هذا للمصلحة. فائدة: إثبات صفة المحبة لله عز وجل: وفي الحديث: إثبات أن الله عز وجل يتصف بالمحبة لقوله: ((إن الله يحب)) ونصوص إثبات المحبة لله عز وجل في القرآن والسنة كثيرو، وقد أجمع السلف وأئمة الخلف ومن سلك سبيلهم على أن الله تعالى موصوف بالمحبة على الوجه اللائق به، وأنه يُحِب ويُحَب، وهذا ظاهر في القرآن والسنة قال الله تعالى: {يأيُّها الَّذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبُّهم ويحبُّونه} [المائدة: 54]. ففيه إثبات المحبة من الجانبين أن الله يحِب ويحَب- سبحانه وتعالى-، وهي محبة حقيقة كسائر صفاته، ولا يجوز لنا أن نؤولها تأويل تحريف بأن نخرجها عن معناها الذي أراد الله بها فإن هذا من القول على الله بلا علم، ومن الجناية على كلامه، ومن تحريف الكلم عن مواضعه، وهو من دأب اليهود والنصارى الذين حرفوا كلام الله وأخرجوه عن ظاهره. وقد ذهب بعض أهل التحريف إلى تحريف المحبة بمعنى: الإثابة، وقالوا: يحبهم يعني: يثيبهم، ومعنى: يحبونه أي: يفعلون ما يقتضي الثواب، فلا يثبتون أن الله يحِب ولا أنه يحَب، وقال بعض أهل التحريف: إن الله يحَب، ولكنه لا يحب؛ لأن المحبة من الإنسان ثابتة، لكن محبة الله للإنسان لا نثبتها، لماذا؟ قالوا: لن المحبة هي ميل ذي المحبة إلى ما فيه منفعة له أو

دفع مضرة هذه المحبة، يعني: ما تحب الله شيئًا تنتفع من ورائه أو تدفع به ضررًا عنك، والله عز وجل مستغن عن ذلك، فليس في حاجة إلى جلب نفع ولا إلى دفع ضرر، كما قال عن نفسه في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)). وحينئذٍ يجب أن تؤول، هم يقولون: تؤول، ونحن نقول: تحرِّف، إلى ماذا؟ قالوا: إلى إرادة الإنعام والثواب أو إلى الثواب نفسه، ولكنه سبق لنا أن قلنا: إن هذا القول باطل، لأنه يتضمن إنكار دلالة الكتاب والسنة على ما أراد الله ورسوله بهما. وثانيًا: أن اللازم الذي ذكروه غير لازم في الحقيقة؛ لأن هذا اللازم الذي ذكروه إنما يلزم على محبة المخلوق، أما محبة الخالق فلا يلزم منها ذلك، لأنها ليست كمحبة المخلوق للمخلوق، بل هي محبة لا نعلم كنهها وكيفيتها، ولكننا نعلم معناها، أما كنهها أو حقيقتها وكيفيتها فهذا غير معلوم لنا. ثم إن قولهم: إن الإنسان لا يحب إلا ما فيه نفع له أو دفع مضرة غير مسلم أيضًا حتى في المخلوق، فإن من الناس الطيبين من يحب الخير للمؤمنين كما يودون لأنفسهم يحب لأخيه أن ينفعه الله ويرفع عنه الضرر وإن كان هو بنفسه لا ينتفع بذلك ولا يتضرر، لو تضرر أخوه فليس بلازم، ثم إنا نورد عليهم فنقول لهم: ألستم تثبتون الإرادة فيقولون: بلى نثبت الإرادة، إرادة الإنسان هل الإنسان العاقل يريد شيئًا إلا ويطمع أن فيه منفعة له أو دفع مضرة ما الجواب؟ نعم، الجواب كذلك، وأنتم تثبتون الإرادة لله فيلزم على قياس قاعدتكم أن تنكروا الإرادة، فإن أجبتم بأنها إرادة خاصة بالله عز وجل لا تستلزم النقص الذي تستلزمه إرادة المخلوق، قلنا لهم: وكذلك المحبة، والنصوص الواردة في المحبة في الكتاب والسنة أكثر بكثير من النصوص الواردة في الإرادة فالصواب أن الله تعالى له محبة حقيقية، ولكنها ليست كمحبة المخلوق، بل هي أعلم وأكمل وأعظم، ولا نستطيع أن نتصورها، فالواجب علينا أن نثبت ما أثبته الله لنفسه، لأنه عز وجل أعلم بنفسه منا، فإذا أخبرنا عن نفسه بصفة فليس من حقنا أن ننكرها. ويستفاد من الحديث: كرم الله عز وجل، وأنه يحب ظهور آثار نعمته على الخلق، وذلك من أجل كرمه- سبحانه وتعالى- حتى يتبين ويظهر كرمه على خلقه؛ لأن بظهور كرمه على خلقه، وظهور آثار صفاته زيادة محبته وتعظيمه، وكلما ظهرت لنا آثار صفاته- صفات الرحمة أو صفات الغضب والانتقام- فإن ذلك يزيد فينا محبة له وتعظيمًا له. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان عبد الله عز وجل سواء أطاع الله أم لم يطعه لقوله: ((إذا أنعم عاى عبده أن يرى أثر نعمته عليه))؛ لأنه إذا لم يوجد أثر نعمة فإنه يكون قد خالف ما يحبه الله

النهي عن لبس القسي والمعصفر

عز وجل فتنقض عبوديته لله، والله تعالى وصفه بالعبودية مطلقة سواء أزهر أثر النعمة أم لم يظهرها، ولهذا مرَّ علينا أن العبودية تنقسم إلى قسمين: عامة، وخاصة، فالعامة: تشمل المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ومنها قوله تعالى: {إن كلُّ من السَّموات والأرض إلَّا ءاتى الرَّحمن عبدًا} [مريم: 93]. والخاصة: هي التي تختص بمن عبده عبودية طاعة وتذلل، وهي خاصة بالمؤمنين المنقادين لأمره، ومنها قوله تعالى: {وعباد الرَّحمن الَّذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا} [الفرقان: 63]. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز لمن أنعم الله عليه بالمال أن يلبس الثياب المناسبة لحاله، الثياب الجميلة الجيدة النوع بحسب ما تقتضيه حاله من الغنى؛ لأنه داخل في قوله: ((إذا أنعم على عبده نعمةً))، فإن ((نعمة)) هذه نكرة في سياق الشرط، ((إذا أنعم نعمة)) فتكون للعموم، أي نعمة ينعم بها عليك ينبغي ان تري ربك عز وجل أثر هذه النعمة. هذا الحديث يجب أن يقيد بقوله تعالى: {ولا تسرفوا إنَّه لا يحبُّ المسرفين} [الأعراف: 31]. وفي الحديث: إثبات الرؤية لله عز وجل ورؤيته- سبحانه وتعالى- شاملة لكل شيء يرى- سبحانه وتعالى- دبيب النمل الأسود على الصخرة السوداء في ظلمة الليل، ويرى الحبات الصغيرة في باطن الأرض، وفي قاع البحار، وهكذا بقية صفاته. فإن قلت: هل هذا النظر صفة إدارية فعلية اختيارية أو لا؟ فالجواب: أن منه ما يكون كذلك، ومنهم ما يكون عامًا كسائر الصفات، وكذلك سمعه، ولهذا جاء في بعض النصوص: ((لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)). فالنظر الذي هو نظر الرحمة والتأييد والنصر لا يشمل كل أحد، وأما النظر الذي هو نظر الإحاطة فإنه عام شامل لكل شيء لا يشذ عنه شيء أبدًا، وبهذا نجمع بين النصوص العامة في ثبوت الرؤية مثل: {وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. وبين النصوص التي تنفي الرؤية عن بعض الأشياء، بأن نقول: إن الرؤية المنفية هي الرؤيا الخاصة التي تقتضي اللطف، والإحسان، والنصر، والتأييد، هذه لا تكون لكل أحد، وأمَّا الرؤيا التي هي رؤيا الإحاطة فإنها رؤيا شاملة لا يشذ عن بصر الله تعالى شيء. النهي عن لبس القسيِّ والمعصفر: 504 - وعن عليَّ رضي الله عنه: ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسيِّ والمعصفر)). رواه مسلمٌ. قوله: (نهى)) النهي هو: طلب الكف على سبيل الاستعلاء، والأصل فيما نهى الله ورسوله عنه التحريم؛ لأن النهي أمر بالكف، وقد قال الله تعالى: {فليحذر الَّذين يخالفون عن أمره أن

تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليمٌ} [النور: 63]. إلا إذا قام الدليل على أن النهي لكراهة، مثل أن ينهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء ثم يفعله، فإن هذا دليل على أن النهي ليس للتحريم، وأمَّا من قال: إن النهي بالنسبة للأمة يبقى على التحريم، ويكون جواز الفعل من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أبعد النجعة؛ وذلك لأن الأصل أنَّا مأمورون بالتأسي بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فعل شيئًا فإننا نفعله، ويكون الجمع بين نهيه وفعله أن النهي يكون للكراهة لا للتحريم، على أن هذا أيضًا فيه نظر، إذ قد يقول قائل: هل الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ما يكره ولو تنزيهًا، ولهذا لو قيل: إن النهي للإرشاد وأنه على سبيل الأولى والأفضل لكان له وجه؛ يعني: حتى لو قلنا بأنه للكراهة، فإنه قد يعارض معارض فيقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل المكروه، وكونه ينهي عن شيء ثم يفعله يدل على أن النهي هنا للإرشاد وليس للكراهة ولا للتحريم. قال ((القسي)) ما هو القسي؟ هو نوعٌ من الحرير، وقد سبق لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن لباس الحرير، وأنه حرم على ذكور الأمة إلا إذا كان موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع، أو إذا كان أكثر ظهورًا من غيره وإن كان موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع، ما دام أكثر ظهورًا فإن العبرة بالأكثر، وبهذا نعرف أن الحلة السيراء التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب من هذا النوع، أن خطوط الحرير التي فيها كانت أكثر ظهورًا وأغلب. وقوله: ((المعصفر)) يعني: المصبوغ بالعصفر، فقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم. وظاهر الحديث: ان النهي عام للرجال والنساء، ولكن أكثر الفقهاء يقولون: إن هذا خاص بالرجال- المعصفر-؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى على عبد الله بن عمرو بن العاص ثوبين معصفرين قال له: ((أمك أمرتك بهذا؟ ))؛ لأن هذا من لباس النساء، فالمرأة يجوز لها أن تلبس الأحمر والمصبوغ بالعصفر، وأما الرجل فإنه ينهي عنه، هذا النهي يشمل ما إذا كان الثوب كله مصبوغًا بالعصفر، أما إذا كان بعضه مصبوغًا بالعصفر وبعضه ملونًا بلون آخر، فإنَّا إذا قسناه على مسألة الحرير نقول: إذا كان الأكثر ظهورًا هو الأحمر صار منهيًا عنه، وإذا كان الأكثر ظهورًا سواه، أو كانا مستويين كان ذلك جائزًا واختلف أهل العلم في هذا النهي هل هو للكراهة والتنزيه وخلاف الأولى أو أنه للتحريم؟ فذهب أكثر أهل العلم: إلى أن ذلك للتنزيه، وليس حرامًا على المرء أن يلبس ثوبًا معصفرًا أو مصبوغًا بما يشبه العصفر من الحمرة، وقالوا: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج من قبته بالأبطح وعليه حلَّة حمراء. فإذا كان عليه حلة حمراء دل ذلك على أن الأحمر جائز، لكن ابن القيم رحمه الله يقول: إن هذه الحلة الحمراء معناها: أن أعلامها حمر وليست كلها حمراء، وأنه لما كانت

جواز كف الثياب بالحرير وضوابطه

أعلامها كلها حمرًا صح أن نطلق عليها أنها حلة حمراء مثل ما نقول لكم الآن: الشماغ هذا أحمر أم أبيض؟ أحمر وإن كان فيه بياض، فابن القيم يرى أن لبس الأحمر محرمًا، وأن ما ورد من كون الرسول صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء فالمراد: أن أعلامها حمر وليس حمراء خالصة. فبناء على ذلك فإن ما يوجد من الثياب التي يلبسها بعض الناس- بعض فئات الناس مثل الكنّاسين، ومثل العاملين في الأندية الرياضية يلبسون أحمر خالصًا- نقول لهم: إن هذا إما مكروه وإما محرم، فإن كان فيه أعلام بيض أو صفر أو لون آخر زالت الكراهة؛ لأنه ليس أحمر خالصًا، والحكمة من النهي أما بالنسبة للقسي فظاهرة لأنه من الحرير، أما للمعصفر فقد قيل: إنه لباس أهل النار فلا ينبغي للإنسان أن يتشبه بهم. 505 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: ((رأى عليَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم معصفرين، فقال أمُّك أمرتك بهذا؟ )). رواه مسلمٌ. ((رأى عليَّ)) هل هي رؤية عين؟ نعم، فقال: ((أمُّك أمرتك بهذا؟ )) ((أمك)) مبتدأ، ولكنه على تقدير همزة الاستفهام، والتقدير: أؤمك أمرتك بهذا، و ((أمرتك)) الجملة خبر المبتدأ، وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن ذلك من لباس النساء لا يلبسه الرجال، ولا يخفي ما في هذا القول من التوبيخ والتقريع لعبد الله بن عمرو بن العاص؛ مثل ما يقول الناس الآن: تربية هذا الرجل تربية امرأة، يعنون: أنه ناقص التربية، فكذلك قوله: ((أمك امرأتك بهذا))؛ لأن تربية الأم ناقصة، ولأن هذا من لباس النساء. فيستفاد من هذا الحديث: وجوب الإنكار على من تلبس بالمنكر لقوله: ((أمك أمرتك بهذا)). ويستفاد منه: أن لباس الأحمر جائز للنساء؛ لأن قوله: ((أمك أمرتك بهذا)) من أجل أن النساء يعتدن ذلك فتظن المرأة أنه يجوز للرجل أن يلبسه. ومن فوائد الحديث: أن تربية الأم ناقصة لقوله: ((أمك أمرتك بهذا))، ولذلك قال أهل العلم في باب الحضانة: أنه إذا خيِّر الغلام الذي بلغ سبع سنين واختار أمه فإنه يكون عندها ليلًا وعند أبيه نهارًا لأجل أن يؤدبه ويقوم بمصالحه. جواز كف الثياب بالحرير وضوابطه: 506 - وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: ((أنَّها أخرجت جبَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم مكفوفة الجيب والكمَّين والفرجين بالدِّيباج)). رواه أبو داود، وأصله في مسلمٍ. قولها: ((الجيب)) هو الطريق يوصل معه الرأس، وقولها: ((الكمين)) معروف، وقولها: ((الفرجين))

هما شقان تشق بهما الجبة أحدهما من الأمام والثاني من الخلف، وسمي فرجين؛ لأنها تنفرج الجبة إذا شقت من الأسفل، وقولها: ((مكفوفة)) يعني: أنها كف بعضها على بعض؛ يعني: ثني بعضها على بعض وخيط بالديباج، فهذا دليل على أنه يجوز أن يكون طوق الجبة، وأن يكون أكمام الجبة، وأن يكون فرج الجبة من الحرير؛ لأن هذا يسير تابع، فهو داخل في حديث عمر السابق: ((إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع)). - وزاد: ((كانت عند عائشة حتَّى قبضت، فقبضتها، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها)). - وزاد البخاريُّ في الأدب المفرد. ((وكان يلبسها للوفد والجمعة)). ((زاد)) يعني: مسلم ((كانت هذه الجبة عند عائشة حتى قبضت)) يعني: ماتت، ((فقبضتها))، ولكن يشكل على هذا الحديث كيف كانت عند عائشة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة)). والجواب على ذلك: أن عائشة رضي الله عنها لم تتملكها، ولهذا من الذي أخذها؟ أسماء بنت أبي بكر، أخذتها أختها، ولكنها كانت عندها لنفع الناس بها. قالت: ((وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها))، و ((كان يلبسها للوفد والجمعة)) يعني: الجبة، فهذا دليل على أن عائشة رضي الله عنها ما اقتنتها لنفسها، ولكن لنفع المسلمين كانوا يغسلونها للمرضى يستشفون بها، لماذا؟ لأنها جبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق لنا أن يجوز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا بأس بها، ومن آيات الله عز وجل، أن هذه الجبة تغسل للمريض ويؤخذ الماء ثم تغسل لمريض ويؤخذ الماء، ثم لمريض ثالث، وكل ذلك ببركة النبي صلى الله عليه وسلم. الشاهد من هذا الحديث: أن جبة الرسول- عليه الصلاة والسلام- كانت مكفوفة الجيب والكمين والفرجين والديباج، فدلّ ذلك على أنه يجوز أن تكفَّف مثل هذه الأشياء وأن تخاط بالديباج، وقاس شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة مسألة الذهب، وقال: إن الذهب والحرير بابهما واحد، وأن العباءة التي تجعل بالزر الذي يكون من الذهب لا بأس بها لأنها تابعة وليست مستقلة، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز الذهب ولو كان يسيرًا تابعًا، وقال: إن الأصل بقاء الأحاديث على عمومها، وخرج ما كان موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع من الحرير بالنص فبقي الذهب على حاله محرمًا. من فوائد الحديث: جواز كف الطوق والكم والفرج من الجبة بالحرير، وجه ذلك: أن

ومن فوائد الحديث أيضًا: جواز الاستشفاء والتبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أن آثار الرسول صلى الله عليه وسلم قد تكون سببًا للشفاء كما كان عند أم سلمة جلجل من فضة وفيها شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم يستشفي بها. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يتجمل للوفد، وأن يتجمل للجمعة لقوله: ((وكان يلبسها للوفد والجمعة)) فعلى هذا لا يلام الإنسان إذا جاءه ضيف وذهب إلى بيته ولبس ثيابًا جميلة لا يلام على ذلك، بل إنه يحمد على ذلك؛ لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أما أن تأتي إلى ضيوفك وأنت حاسر عن رأسك فاتح عن صدرك مشمر لأكمامك فهذا لا ينبغي؛ لن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتجمل للوفد وهو من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وكذلك في الجمعة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس فيه أحسن ثيابه، ومنها أنه كان يلبس هذه الجبة التي فيها الحرير. * * *

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز سبق لنا أن الجنائز: جمع جَنازة أو جِنازة، وأن بعضهم قال: الجنازة بالفتح: الميت، والجنازة بالكسر: النعش عليه الميت، وقال بعض أهل اللغة: إنهما سواء، يقال: الجَنازة. ويقال: الجِنازة. والجنائز: هم الأموات، هم الأحياء في الواقع لكنهم انتقلوا من دار إلى دار أخرى، كما انتقلوا من الدار التي هي بطون أمهاتهم إلى الدنيا فيرجعون بعد الدنيا إلى البطن الأول وهو بطن الثرى والتراب، ثم بعد ذلك يخرجون من هذا البطن إلى الحياة الآخرة، وهذا من الحكمة أن يكون الخروج من البطن الأول إلى البقاء الآخر، وأما في الدنيا فهو الخروج من البطن الثاني إلى العمل، فهنا طرفان: الطرف الأول الذي هو خلق الإنسان من الطين، والطرف الآخر خروجه من هذا البطن إلى اليوم الآخر الدائم، فيكون في ذلك الطرفان الأول والطرف الأخير لكن في الحمل في بطون أمهاتهم هم طرفان، في الوسط يخرج الإنسان من بطن أمه إلى الدنيا ثم ينتقل. الترغيب في تذكر الموت: 507 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هاذم اللَّذَّات الموت)). رواه التِّرمذيُّ، والنَّسائيُّ، وصحَّحه ابن حبَّان. قول: ((أكثروا ذكره)) في نفوسكم أو فيما بينكم؟ يشمل هذا وهذا. وقوله: ((هاذم وهادم)) لغتان؛ فـ ((هاذم)) بمعنى: قاطع، و ((هادم)) من الهدم الذي هو هدم البنيان. وقوله: ((هاذم اللذات)) يعني: الذي يهذمها ويقطعها، والمراد باللذات: لذائذ الدنيا، وإلا فإن الموت بالنسبة للإنسان المؤمن ابتداء لذة لا تشبه لذات الدنيا، لكن لذات الدنيا تنقطع بالموت، وإنما أمر

النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكره؛ لأن ذلك يلين القلوب ويزهدها في الدنيا، ويذكرها الحال التي لابد من عبورها، فكما قال كعب بن زهير: [البسيط] كلُّ أنثى وإن طالت سلامته ... يومًا على آلةٍ حدباء محمول هذه الحقيقة الواقعة يجب على الإنسان أن يتذكرها لا لأجل أن يبكي، أو لأجل أن يقول: سأفارق أهلي وبلدي وإخواني وأصحابي، لكن يكثر من ذكرها لأجل الاعتبار والاتعاظ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((زور القبور تذكر الآخرة))، وإذا أكثر الإنسان من ذكر الشيء فإنه لابد أن يستعد له، والاستعداد للموت يكون بالإيمان والعمل الصالح، ولهذا لا ينفع الإنسان أن يقوم فيذكر الناس بالموت وأنهم سينتقلون من دارهم إلى القبور وما أشبه ذلك، حتى يقرن هذا بالحث على العمل الصالح واغتنام الوقت. يستفاد من الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يعظ نفسه بما يكون واعظًا، ومنه ذكر للموت. ويستفاد من ذلك: أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من ذكر هاذم اللذات، سواء يذكر بذلك نفسه أو يذكر بذلك غيره. ومن فوائد الحديث: أن الموت يقطع كل لذة، فإن الإنسان إن كان مؤمنًا انقطعت لذته من الدنيا إلى لذة خير منها، وإن كان كافرًا انقطعت لذته من الدنيا إلى حال لا لذة فيها إطلاقًا، وإنّما فيها الشقاء والبلاء؛ ولهذا ورد في الحديث الصحيح: ((أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر))، فالدنيا للمؤمن سجن، وأما الكفر فإن الدنيا جنته؛ لأنه مهما وجد في الدنيا من بؤس فإنه بالنسبة لعذاب القبر وعذاب النار يعتبر جنة، وقد ذكرت لكم ما أثرت عن ابن حجر العسقلاني رحمه الله وكان قاضي القضاة في مصر، وكان إذا حضر إلى مجلس القضاء يحضر على عربة تجرها البغال وفي موكب فمر ذات يوم بيهودي دهّان- زيات- ثيابه ملوَّثة وهو متعبٌ، فأوقف هذا الموكب اليهودي وقال لابن حجر: إن نبيكم يقول: (إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر))، والآن أنت مؤمن وأنت على ما أنت عليه من النعيم والاحترام والتعظيم، وهو- أي: هذا اليهودي- يعتبر في عيش ضيِّق ومسكين، فقال له ابن حجر: ما أنا فيه من النعيم بالنسبة لنعيم الآخرة يعتبر سجنًا، وما أنت عليه من البؤس يعتبر بالنسبة لعذاب الآخرة جنة/ فاتعظ اليهودي، وقال: اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

كراهة تمني الموت

كراهة تمني الموت: 508 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنَّينَّ أحدكم الموت لضرٍّ نزل به، فإن كان لابدَّ متمنيًا فليقل: اللهمَّ أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني ما كانت الوفاة خيرًا لي)). متَّفقٌ عليه. قوله: ((لا يتمنين)) التمني هو: طلب الشيء الذي يستبعد حصوله أو يتعذر حصوله، والفرق بين التمني والرجاء: أن الرجاء فيما هو قريب الحصول، والتمني فيما هو بعيد الحصول. وفي قوله: ((لا يتمنين)) مشكل؛ حيث كانت ((لا)) ناهية ونصبت الفعل المضارع، والمعروف أن ((لا)) الناهية تجزم الفعل المضارع، فما الجواب؟ الجواب: أن الفتحة هنا فتحة بناء لا إعراب. وقوله: ((لا يتمنين أحدكم الموت)) يعني: لا يقول: اللهم أمتني لا بقلبه ولا بلسانه، وقواه: ((لضرٍّ)) اللام للتعليل؛ أي: من أجل ضر نزل به، سواء كان هذا الضر في بدنه، أو في أهله، أو في ماله، أو في مجتمعه، أو في دينه، أو في دنياه، كل العمومات هذه، لأنه قال: ((لضرٍّ نزل به)). مثال الضر في بدنه: أن يصاب بمرض شديد سواء كان المرض بدنيًّا، أو فكريًّا، أو نفسيًّا أصيب بمرض، فتمنى أن يموت من أجل هذا الضر الذي به. بماله: مثل أن يصاب بجوائح نزول الأسعار، تلف، وما أشبه ذلك. في أهله: بموت، أو أمراض عقلية، أو نفسية، أو جسمية. في مجتمعه نكثات: في المجتمع معاص، وفسوق وما أشبه ذلك. في دينه: مثل أن يجد من نفسه إعراضًا عن دين الله وتكاسلًا في الخير وما أشبه ذلك. في دنياه واضح. المهم: أن الحديث عام: ((لضر نزل به))، فإن كان لابد متمنيًا هذا يدل على أنها حالة غير مرغوب فيها، ولكن إن كان ولابد فليقل: ((اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي)). ((اللهم)) يعني: يا الله، ولكنها حذفت منها النداء وعوضت عنها الميم، حذفت ياء النداء تبركًا بالبداءة باسم الله عز وجل وعوِّض عنها الميم وجعلت في الآخرة؛ لأن الميم تدل على الضم وهو الجمع، كأن الإنسان جمع قلبه على ربه ((اللهم أحيني)) فعل دعاء؛ لأنك لا يمكن أن تأمر الله عز وجل. وقوله: ((ما كانت الحياة خيرًا لي)) ((ما)) هذه مصدرية ظرفية، كيف ذلك؟ مصدرية؛ لأنها تؤول بمصدر، وظرفبة: لأنه يقدر قبلها ظرف، فما كانت الحياة أي: مدة كون الحياة خيرًا لي. ((وتوفني ما كانت الوفاة خيرًا لي))، أقول في ((توفني)) مثل ما أقول في ((أحيني))، و ((ما كانت

الوفاة)) مثل ما قلنا في ((ما كانت الحياة))، وإنما يقول الإنسان ذلك لأنه لا يعلم: هل الخير في البقاء او في الموت، وأكثر الناس يظنون أن الحياة للإنسان، وليس الأمر كذلك، بل قد تكون الحياة شرًا للإنسان، قال الله تعالى: {ولا يحسبنَّ الَّذين كفروا إنَّما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنَّما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذابٌ مهينٌ} [آل عمران: 178]. وقال تعالى: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (44) وأملي لهم إنَّ كيدي متين} [القلم: 44، 45]. ولهذا كره بعض العلماء أن يدعى للإنسان بطول البقاء، يعني: لا تقل: أطال الله بقاءك أو أطال الله عمرك إلا إذا قيدته فقلت مثلًا: على طاعة الله؛ لأنك لا تعلم إذا طال عمره هل يكون ذلك خيرًا له أو شرًا له، وأنا أقول: إن الإنسان قد يدرك أنه في أول شبابه خيرٌ منه اليوم، حتى الصحابة رضي الله عنهم- كان بعضهم حينما فتحت الدنيا خاف على نفسه، وأقرَّ بأنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم خيرٌ من اليوم، فالإنسان لا يدري والحي لا يأمن الفتنة، ولهذا ينبغي لك إذا دعوت الله بطول العمر لك أو لغيرك أن تقيده بأن يكون على طاعة الله عز وجل. في هذا الحديث نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتمنى الإنسان الموت لضر نزل به، وإنما نهى عن ذلك؛ لأن هذا يدل على عدم الصبر، والواجب على الإنسان أن يصبر وينتظر الفرج من الله- سبحانه وتعالى- فقد قال تعالى: {فإنَّ مع العسر يسرًا (5) إنَّ مع العسر يسرًا} [الشرح: 5، 6] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)). يقال: إن الحجاج قال لشخص من الناس- اختلف معه في كلمة (فُعْلة) - هل تأتي في اللغة العربية أم لا؟ فذهب هذا الرجل إلى البوادي والأعراب يسأل هل تأتي فعلة على هذا أم لا؟ وتعرفون أن الحجاج ربما لو ما جاء بها له يقتله، فقيل له هذا البيت: ربَّما تكره النُّفوس من الأمـ ... ـر له فرجة كحلٌ العقال ثم إنه لما أنشد هذا البيت جاء الخبر بأن الحجاج قد مات، فانطبق هذا البيت تمامًا على الحالة الواقعة. أقول: إن الإنسان يجب عليه أن ينتظر الفرج من الله عز وجل، وانتظار الفرج مع الصبر عبادة. يستفاد من هذا الحديث: تحريم تمني الموت لضر نزل بالإنسان، من أين يؤخذ؟ من النهي المؤكد: ((لا يتمنين)).

وهل يستفاد منه جواز تمني الموت لغير الضر. لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قيَّد، ولكن هذا القيد أغلبي، وقال أهل الأصول: القيد الأغلب ليس له مفهوم، وضربوا لذلك أمثلة منها: {وربائبكم الَّتي في حجوركم من نسآءكم الَّتي دخلتم بهنَّ} [النساء: 23]. من الربائب؟ بنات الزوجات، لكن قال: {الَّتي في حجوركم} يعني: عندكم في بيوتكم من {نسآءكم الَّتي دخلتم بهنَّ}، لو أخذنا بظاهر هذا القيد لكانت الربيبة التي لبست في بيت زوج أمها حلالًا، والصحيح أن الأمر ليس كذلك، بدليل أن الله عز وجل ذكر مفهوم القيد الثاني دون الأول حيث قال: {فإن لَّم تكونوا دخلتم بهنَّ فلا جناح عليكم}؛ إذن فالقيد هذا أغلبي لا مفهوم له، ومثلوا لذلك أيضًا بقوله- تبارك وتعالى-: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغآء إن أردن تحصُّنًا} [النور: 23]. فإن أردن غير التحصن مثل أن قالت: لا أريد البغاء لأن هذا الرجل الذي أحضرتموه رجل ذميم كريه المنظر، أحضروا رجلًا جميلًا، وأقول: أهلًا وسهلًا، هذه أرادت التحصن؟ لا، أبت البغاء لقبح الرجل لا للتحصن، فهل نقول: إذا أبت البغاء لقبح الرجل يجبرها؟ لا، الله يقول: {إن أردن تحصُّنًا} فيقول: لأن هذا القيد أغلبي. إذن قول النبي صلى الله عليه وسلم هنا: ((لضر نزل به)) بناء على الأغلب؛ لأن الإنسان الذي لم يأته ضرر ما أحد يتمنى الموت. ويستفاد من هذا الحديث: وجوب الصبر على الأضرار النازلة بالإنسان، من أين يؤخذ؟ من النهي عن تمني الموت لأجل الضرر؛ يعني: معناها اصبر. ويستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان إذا كان لابد متمنيًا- وهي حالة نادرة- فليقل ما ذكر. ويستفاد منه: أن الإنسان لا يعلم الغيب، من أين تؤخذ؟ من التفويض: ((اللهم أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي)) لأنني ما أعلم. ويستفاد منه: ثبوت علم الله عز وجل بالمستقبل ((ما علمت الحياة)) و ((ما علمت الوفاة خيرًا لي)). ويستفاد منه: أن الموت قد يكون خيرًا للإنسان كما أن الحياة قد تكون خيرًا له، لقوله: ((ما كانت الوفاة خيرًا لي)) وهذا لا شك أن الوفاة قد تكون خيرًا للإنسان، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرجل يأتي في آخر الزمان إلى القبر: فيقول يا ليتني مكان صاحب هذا القبر؛ لما يرى من الفتن العظيمة التي قد تحول بينه وبين السعادة الأبدية. فإن قلت: ما الجمع بين هذا الحديث، وقول مريم- عليها الصلاة والسلام- أو نقول: مريم رضي الله عنها؟ الأخير، [قالت]: {يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًا مَّنسيًا} [مريم: 23]. وكذلك ما جاء

في الحديث: ((إن أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)). وكذلك ما جاء عن يوسف: {أنت ولي وفي الدُّنيا والآخرة توفَّنى مسلمًا وألحقنى بالصَّالحين} [يوسف: 101]. كيف نجمع بينها وبين هذا الحديث؟ الجواب: أما قول مريم: {يا ليتنى متُّ قبل هذا وكنت نسيًا مَّنسيًا} [مريم: 23]، وكذلك قوله: ((اقبضني إليك غير مفتون)) فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تمني الموت إذا كان لضرر ديني أو خوف الفتنة فإنه لا بأس به، وحمل هذا الحديث الذي معنا على الضرر غير الديني، وهذا الجمع قد يكون مقبولًا، ولكننا نقول: إن هناك جمعًا أيسر منه وأبقى لعموم هذا الحديث الذي معنا، وهو أن يقال: إن مريم رضي الله عنها لم تتمن الموت، وإنما تمنَّت أنها ماتت ولم تحصل هذه الفتنة، وأظن أن هناك فرقًا بين أن يتمنى الإنسان أنه لم يحصل هذا الشيء حتى مات وبين أن يتمنى الموت متقدمًا، فالمعنى أنها تقول: {يا ليتنى متُّ قبل هذا} أي: يا ليتني لم يصبني ذلك حتى الموت، وكذلك قوله: ((اقبضني إليك غير مفتون)) ليس فيها تعجل الموت، فيها أن الله يقبضه على حال وهو غير مفتون، ولهذا ((غير)) منصوب على الحال، هو لا يقول: أسرع بقبضي وإهلاكي وموتي، لكن يقول: اقبضني على حال أكون فيها غير مفتون حتى لو حضرت الفتنة، وحضور الفتنة مع الثبات أبلغ أجرًا من الموت قبل الفتنة، كذلك أيضًا قول يوسف- عليه الصلاة والسلام-: {توفنى مسلمًا وألحقنى بالصًّالحين} هل هو طلب من الله أن يتوفاه؟ لا، وإنما طلب أن يتوفاه على الإسلام بهذا القيد، وكذلك أيضًا قول أولو الألباب: {وتوفَّنا مع الأبرار} {آل عمران: 192]. ليس طلبًا للوفاة ولكنه طلب لوفاة مقيدة، وبهذا تلتئم النصوص ولا يناقض بعضها بعضًا، والإنسان في الحقيقة حتى في الأضرار الدينية وفي الفتن لا يتمنى الموت، وإن كان لابد متمنيًا وخاف على نفسه من الفتنة الدينية لقوة الدافع ففي هذه الحال يقول: ((اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيرً لي))، إذن هذا هو الجمع. 509 - وعن بريدة رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن يموت بعرق الجبين)). رواه الثَّلاثة وصحَّحه ابن حبَّان. قال- عليه الصلاة والسلام-: ((المؤمن يموت))، ((المؤمن)): مبتدأ، وجملة ((يموت)) خبرها، وقوله:

تلقين المحتضر الشهادة

((بعرق الجبين)) الباء هذه للملابسة والمصاحبة؛ أي: يموت وجبينه في عرق، ما معنى هذا؟ قيل: معناها أن المؤمن يشدد عليه النزع حتى يعرق جبينه. وقيل: معناه أن المؤمن يعمل ويكدح، ويتطوع لله عز وجل حتى يأتيه الموت وهو لا يزال في عناء العمل ومشقته، فهذان قولان والحديث يحتملهما، وهما لا يتعارضان، وقد بيّنا مرارًا أن النص إذا كان يحتمل المعنيين ولا معارضة بينهما فإنه يحمل عليهما، فإن تعارضا طلب المرجح. وعلى هذا فنقول: إن الحديث له معنيان، وربما يكون له معنى ثالث أيضًا وهو أن المؤمن يموت وهو في حياء وخجل من الله عز وجل والعادة أن الإنسان إذا صار عنده خجل وحياء تعرق جبينه، والكافر- والعياذ بالله- قلبه قاس ليس عنده خجل ولا حياء من الله- سبحانه وتعالى-. تلقين المحتضر الشهادة: 510 - وعن أبي سعيدٍ ولأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقِّنوا موتاكم لا إله إلَّا الله)). رواه مسلمٌ والأربعة. قوله صلى الله عليه وسلم: ((لقنوا موتاكم)) معنى التلقين: أن الإنسان يقول الشيء ليتبعه غيره كما يلقن المدرس الطفل الصغير القراءة مثلًا، يقرأ ثم ذاك يتبعه، فالمعنى: قولوا: ((لا إله إلا الله)) من أجل أن يتبعوكم، وقوله: ((موتاكم)) كلمة ((موتاكم)) يراد بها هنا: الذين هم في سياق الموت فهو باعتبار ما سيكون، والوصف قد يطلق على ما يتلوه إذا كان عاقبًا له مثل: {فإذا قرأت القرآن} [النحل: 98]. هل المعنى: إذا أنهيت قراءته، أو إذا أردت أن تقرأ بحيث تكون القراءة تالية لهذا؟ هذا هو المراد، فالوصف قد يوصف به من لم يتلبس به إذا كان قريبًا من ذلك، والموت يطلق على من أخذه سبب الموت كما في الحديث الذي نتلوه كل وقت هو: ((أعود بك من فتنة المحيا والممات)). وقوله: ((لا إله إلا الله)) هذه الجملة هي كلمة التوحيد، فما معنى ((لا إله إلا الله) أي: لا معبود حق يستحق أن يعبد إلا الله عز وجل، وليس معناها: أنه لا توجد آلهة سوى الله؛ لأن هناك آلهة كثيرة تعبد من دون الله سماها الله تعالى آلهة فقال: {فلا تدع مع الله إلاهًا آخر} [الشعراء: 213]. وقال: {فما أغنت عنهم ءالهتهم التي يدعون من دون الله من شيءٍ} [هود: 101]. وعلى هذا يتبين لنا أن النفي الموجود في ((لا إله إلا الله، أو النفي الموجود في قول الرسل لقومهم: {ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 65]. أن المراد: من إله حق مستحق لذلك؛ فإنه لا أحد يستحق هذا إلا الله عز وجل.

وقوله: ((لا إله إلا الله)) اختلف العلماء لماذا لم يقل: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله))؟ فقيل: لأن من أقر بالتوحيد فإنه مقر بالرسالة؛ لأن ألوهية الله عز وجل تقتضي لكمالها أن يكون محمد رسول الله، وقيل: إن المعنى: لقنوهم لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحذف الثانية استغناء عنها بالأولى، ولكن ظاهر الحديث أنه لا حذف فيه، وأن من شهد أن لا إله حق إلا الله فإن هذه الشهادة تتضمن الإقرار بأن محمدًا رسول الله، ولهذا في حديث أسامة الذي لحق بالرجل المشرك فلما أدركه قال الرجل: لا إله إلا الله، فقتله أسامة رضي الله عنه، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال له: ((قتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله)) قال: يا رسول الله، إنما قالها تعوذًا- يعني: يستعيذ من القتل- فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يكررها: ((قتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ )) حتى قال أسامة: تمنيت أن لم أكن أسلمت بعد، فهذا يدل على أن ((لا إله إلا الله)) إذا قالها الإنسان فهو مؤمن ثم يطالب بعد ذلك بلوازمها. وقوله: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)) عرفنا معنى التلقين، وهذا الأمر ليس على سبيل الوجوب، وإنما على سبيل الاستحباب، إذ لم يعلم أن أحدًا من أهل العلم قال بوجوبه، ثم إن قوله: ((موتاكم)) الضمير يعود على المسلمين، فيكون التلقين لمن مات من المسلمين، وأما الكفار فإنهم يؤمرون أمرًا يقال لهم: قولوا لا إله إلا الله، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب وقد حضرته الوفاة: ((يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)). قال أهل العلم: والفرق بين المؤمن والكافر: أن المؤمن لو أنك أمرته أمرًا فلربما اشمأز ونفر وكره ما قلت، وربما يقول: ما نبغي هذا نسأل الله العافية، أما الكافر فإنك إذا أمرته فإن قال ذلك فقد ربح، وإن لم يقل ذلك فهو خاسر من الأصل على كفره. وقال بعض أهل العلم: بل يفرق بين الرجل الذي نرى أنه قد رجع وضاق صدره عند نزول الموت به وهو مؤمن، فهذا لا نقول: قل، ولكننا نلقنه لا إله إلا الله، نقول عنده هكذا: لا إله إلا الله، أما إذا كان قد انشرح صدره- لأن الناس يختلفون عند الموت- واطمأن فهذا لا بأس أن نقول له: قل لا إله إلا الله، أو اذكر الله أو ما أشبه ذلك؛ لأنه ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا من الأنصار فقال له: ((قل لا إله إلا الله))، فعلى هذا القول يكون الأمر عائدًا إلى حال الميت وإلى اجتهاد الحاضر، فإذا لقنته لا إله إلا الله وقال ذلك فاسكت لا تكلمه بشيء؛ لماذا؟ حتى

يكون آخر كلامه لا إله إلا الله، فإن تكلم هو بشيء مثل: أعطوني ماء، أو ما أشبه ذلك فإنك تعيد تلقينه، فإذا لقنته ولم يقل: لا إله إلا الله فأعد التلقين مرة ثانية فإن ذكر الله فاسكت، وإن لم يذكر الله فأعد التلقين مرة ثالثة، فإن ذكر الله فذاك، وإن لم يذكر الله فقد قال العلماء لا يعيد تلقينه بعد الثالثة؛ لئلا يضجر لأنه في حالة لا يشعر بها إلا من أصابته؛ فلأجل ألا يضجر لا تعدها أكثر من ثلاث مرات، وينبغي أن يقال في هذه الحال، أنه ينظر في حال الميت، وربما يكون عندما قلت له مرتين أو ثلاثًا يكون في إغماء أو في شدة شديدة، فإذا أعدت عليه تذكر. فالحاصل في مثل هذه الأمور أن الإنسان الحكيم يعرف كيف يتصرف، ولكل مقام مقال، أحيانًا ربما نرى هذا المحتضر، يتحرك حركات شديدة ويتنهد نهدات عظيمة وربما يتضجر، وربما يقول: يا ويلتاه، وغير ذلك من الأشياء، فهذا لا بأس أن تقول له: اصبر، احتسب، انتظر الفرج من الله عز وجل وما أشبه ذلك، فالذي أراه في هذه المسألة أنها ترجع إلى ما تقتضيه الحال، ويستعمل الإنسان الحكيم ما يراه أصلح. فيستفاد من هذا الحديث: مشروعية تلقين الميت، يعني: الذي حضره الأجل؛ لقوله: ((لقنوا)). ويستفاد منه: أن هذا التلقين للموتى المسلمين، لقوله: ((موتاكم))، أما غير المسلمين فيؤمرون كما عرفتم. ويستفاد منه: فضيلة هذه الكلمة ((لا إله إلا الله)) بحيث يلقن بها الإنسان عند مفارقة الدنيا، وقد ورد في الحديث أن: ((من كان آخر كلامه لا إله الله دخل الجنة)). ويستفاد منه: أنه ينبغي أن يكون الناس متعاونين فيما بينهم على نفع بعضهم بعضًا؛ لأن هذا من مصلحة الميت وهي أيضًا من مصلحته، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم))، وربما إذا رفقت بهذا المحتضر ربما ييسر الله لك من يرفق بك عند احتضارك؛ لأن هذه الحال ستمر بك، فإذا رفقت بإخوانك المسلمين فقد ييسر الله لك إذا وصلت إلى هذه الحال. * * *

حكم قراءة يس عند المحتضر

حكم قراءة يس عند المحتضر: 511 - وعن معقل بن يسارٍ رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((اقرءوا على موتاكم يس)). رواه أبو داود، والنَّسائيُّ، وصحَّحه ابن حيان. قوله: ((اقرءوا على موتاكم))، نقول في ((موتاكم)) هنا مثل ما قلنا في ((لقنوا موتاكم))، أي: المحتضر، وليس المراد: أن نقرأها عليه بعد الموت؛ لأنه بعد الموت ما نقول: قرأت عليه، نقول: قرأت عنده، أما قرأت عليه فمعناه: انه يسمع، كما يقول المحدثون: قرأت على الشيخ، وكما يقول: قرأ علي سورة كذا وكذا، المعنى: قرأها وأنا استمع إليه؛ فقوله: ((اقرءوا على موتاكم)) أي: في حال وجودهم قبل أن يموتوا، يعني: في حال الاحتضار، قوله: ((يس)) يعني: سورة يس، أو يس فقط وحدها؟ لا، سورة ((يس))، وإنما يس علم لها، ويس من الحروف المقطعة في كتاب الله والحروف المقطعة في كتاب الله أصح ما قيل فيها ما قاله مجاهد: من أنها حروف هجائية لا معنى لها، ووجه قوله هذا هو القول الراجح: أن القرآن نزل بلسان عربي باللغة العربية، ومثل هذه الحروف في اللغة العربية ليس لها معنى، إذن ما الفائدة منها؟ ذكر بعض العلماء أن الفائدة منها: هو بيان أن هذا القرآن الذي أعجز العرب وغيرهم لم يأت بجديد من الحروف، وإنما أتى بحروف كانوا يؤلفون منها كلامهم ومع ذلك يعجزون أن يؤلفوا من هذه الحروف ما يشبه كلام الله عز وجل، قالوا: والدليل على هذا أنك لا تكاد تجد آية مبدوءة بهذه الحروف الهجائية إلا وبعدها ذكر القرآن {آلم (1) ذلك الكتاب} [البقرة: 1، 2]. {آلم (1) الله لا إله إلَّا هو الحيُّ القيُّوم (2) نزَّل عليك الكتاب} [آل عمران: 1 - 3]. وهذت القول أصح ما قيل في ذلك. وأما من قال: إن يس اسم من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم واستدل لذلك بالخطاب الذي بعده {يس (1) والقرءان الحكيم (2) إنَّك لمن المرسلين} [يس: 1 - 3]. فإننا نقول له: إذن من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم (×××)؛ لنه قال بعدها: {كتابٌ أنزل إليك} [الأعراف: 2]. وهذا لا يقوله أحد، (طه، ويس) ليستا من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد اشتهر حتى عند بعض العلماء أن (طه) من أسماء

تغميض الميت

الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هذا لا يصح، وإنما (طه، ويس) مثل: (ن)، و (ف)، و (الر)، و (الم)، و (المص). هذا الحديث عند من صححه يقولون: إن الفائدة هي أن قراءة (يس) على الميت تسهل خروج الروح، نقله الإمام أحمد عن أشياخه وعن سلفه؛ لأن فيها ذكر الجنة والتشويق إليها مثل قوله: {قيل ادخل الجنَّة قال يا ليت قومي يعلمون (26) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} [يس: 26، 27]. ومثل قوله: {إنَّ أصحاب الجنَّة اليوم في شغلٍ فاكهون (55) هم وأزواجهم في ظلالٍ على الآرائك متكئون (56) لهم فيها فاكهةٌ ولهم ما يدعون (57)} [يس: 55 - 57]. وفيها أيضًا إثبات البعث وتقريره بأحسن تقرير: {أو لم ير الإنسان أنَّا خلقناه من نطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مبينٌ (77) وضرب لنا .... } إلى قوله: {فسبحان الَّذي بيده ملكوت كل شيءٍ وإليه ترجعون} [يس: 83] في آخر السورة، فإن فيها ثمانية أدلة عقلية كلها تدل على إمكان البعث، وعند من لم يصحح هذا الحديث يقول: إن قراءة سورة (يس) على الميت بدعة؛ لأنه إذا لم يثبت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يتعبد لله بشيء لم يشرعه. تغميض الميت: 512 - وعن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: ((دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة رضي الله عنه وقد شقَّ بصره فأغمضه، ثمَّ قال: إنَّ الرٌّوح إذا قبض اتَّبعه البصر، فضجَّ ناسٌ من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخيرٍ، فإنَّ الملائكة تؤمِّن على ما تقولون، ثمَّ قال: اللهمَّ اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديِّبن، وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه، واخلفه في عقبه)). رواه مسلمٌ. أبو سلمة هو زوج أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقوله: ((شقَّ بصره))، شق يعني: انفتح انفتاحًا واسعًا وصار لا ينظر إلى جهة واحدة، فهو كشخص البصر كما يقال: شخص بصره، وإنما شق بصره ينظر إلى روحه التي في جسده تقبض بإذن الله وتخرج إذا خرجت، ويقال: إنها تخرج من الخياشيم إذا خرجت رآها الميت، فينظر إليها- تعالى الله- وهذا دليل على أن الحياة تبقى في العين بعد خروج الروح. لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قد شق بصره أغمض عينيه ثم قال: ((إن الروح إذا قبض)) هنا ذكر الروح ((إذا قبض))، وكان ظاهر الأمر أن يقول: إذا قبضت، ولكنه قال: ((إذا قبض)) ذكره باعتباره لفظه؛ لأن الروح مذكر لفظًا، فذكره باعتبار لفظه، ((اتبعه البصر)) أي بصر؟ بصر الميت، ((اتبعه)) يعني: يتابعه ويشاهده. ((فضج ناس من أهله)) ضجوا يعني: بالصياح وخرجت منهم أصوات، وقوله: ((من أهله))

أي: من أهل أبي سلمة؛ لأنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الروح إذا قبض)) علموا أنه قد توفي فضجوا كعادة الناس؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة تؤِّمن على ما تقولون))، ((لا تدعوا على أنفسكم)) يحتمل أن المعنى: لا تدعوا على الميت؛ لأن الميت من أنفسهم أو على أنفسكم أنتم، كما هي عادتهم في الجاهلية إذا أصيبوا بمصائب يقولون: واثبوراه، وانقطاع ظهراه وما أشبه ذلك، أيهما أقرب؟ الثاني هو الأقرب؛ لأن دعاءهم على الميت بعيد أو متعذر. وقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((لا تدعوا إلا بخير)) يعني: ولا تدعوا بشر، بل إن لدينا ثلاثة أمور: خير وشر، ولا خير ولا شر، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تدعوا إلا بخير))، علل ذلك بقوله: ((فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون)) أي ملائكة هم؟ الذين حضروا لقبض روح الميت، أو الملائكة الموكلون بكتابة أعمال بني آدم، أم ملائكة وكلهم الله عز وجل بحضور المحتضرين، ليؤمنوا على دعاء أهليهم؟ أما الأول فبعيد؛ لأن الملائكة الذين حضروا لقبض روح الميت مشغولون بما أمروا به، وأما الثاني والثالث فكلاهما محتمل، وأيًّا كان فإن تأمين الملائكة على ما ندعو به سبب لإجابة الدعوة، وقوله: ((فإن الملائكة تؤِّمن على ما تقولون)) على أنفسكم أو على الميت؟ الظاهر: العموم؛ ولهذا ينبغي في مثل هذه الحال أن يدعى للميت: ((اللهم اغفر له، اللهم تغمده بالرحمة))، كما سيأتي- إن شاء الله- أن الرسول دعا له، ومن أحسن ما يقال: ((اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرًا منها)). ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم- الذي بالمؤمنين رءوف رحيم وأشفق عليهم من آبائهم وأمهاتهم- هذه الكلمات العظيمة التي يتمنى كل أحد أنها له، قال: ((اللهم اغفر لأبي سلمة)) اغفر له ذنوبه، ((وارفع درجته في المهديين)) يعني: في الجنة ((في المهديين)) أي: معهم، ومن هم المهديون؟ عم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ودليل ذلك قوله تعالى: {أهدنا الصراط المستقيم (1) صراط الَّذين أنعمت عليهم} [الفاتحة: 6، 7]. إذن فالذين أنعمت عليهم مهديون إلى صراط مستقيم، فيكون معنى: ((ارفع درجته في المهديين)) أي: في الذين أنعم الله عليهم. ثم قال: ((وأفسح له في قبره)) ((أفسح)) بمعنى: وسِّع، والقبر- كما نعلم- من الناحية الحسية ضيق، لكنه قد يوسَّع للإنسان حتى يكون مدَّ بصره، كيف يوسع وهو ضيق حسًّا؟ لأن أحوال الآخرة غير أحوال الدنيا، إذا كان الإنسان وهو نائم أحيانًا يرى في المنام أنه في مكان واسع فسيح بستان وما أشبه ذلك، وأحيانًا يرى أنه في مكان ضيق في نفق، ومع هذا فهو في غرفته

التي لا تزيد ولا تنقص وهو متغطٍّ بلحافه، فإذا كانت هذه حال الروح في الدنيا فما بالك بحالها في الآخرة. قال: ((وأفسح له في قبره ونوِّر له فيه)) القبر ظلمة من حيث الحس ظلمة محتومة على الإنسان، لكن يقول: ((ونور له فيه)) اجعل له فيه نورًا، إذا كان القبر فسيحًا، ونورًا فإن ذلك ينسي الدنيا كلها. قال: ((واخلفه في عقبه)) أي: كن خليفته في عقبه؛ أي: فيمن عقب من زوجة وولد، لننظر هذه الدعوات العظيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم هل قبلت أم ردّت. نحن نعلم منها أن ما وقع وهو أن الله خلفه في عقبه، أتدرون من كان خليفته في عقبه؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أعظم خلافة أن يكون زوجته وأولاده تحت رعاية النبي صلى الله عليه وسلم، نحن نقول: إن بقية الجمل الأربع إنما نرجو من الله عز وجل أنه استجاب دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم، لا سيما وأن الملائكة في مثل هذه الحال تؤمِّن على ما يقول، فاجتمع دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وتأمين الملائكة والقرينة التي شاهدناها أو التي علمناها، وهي أنه خلفه في عقبه، فيكون كل هذا مما يؤيد أن الله استجاب دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل. في هذا الحديث فوائد، منها: أن من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم عيادة المرضى؛ لأنه جاء إلى أبي سلمة عائدًا له. ثانيًا: أنه ينبغي تغميض عين الميت، الدليل: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أغمضه. ثالثًا: أن الروح جسم مرئيٌّ لأن البصر أتبعه. رابعًا: أنه قد يبقى الإحساس في البدن مع مفارقة الروح له؛ لأن البصر يتبع الروح بعد قبضه وهذا من الناحية الطبية الآن مشاهد، وأنا قد ذبحت دجاجة وبعد أن ذبحتها وماتت وسلخت جلدها وفككت صدرها وجدت أن قلبها ينبض، القلب له جهتان: جهة تدفع الدن وجهة تستقبله. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي في هذه الحال ألا يدعى إلا بخير لقوله: ((لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير)). ومن فوائده: أنه لا يلام الأهل إذا ضجوا من موت الميت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرّهم، لم يقل: لا تضجوا، بل قال: ((لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير)). ومن فوائده: ((إثبات الملائكة لقوله: ((فإن الملائكة يؤمِّنون)). ومن فوائده: عناية الله تعالى ببني آدم، حيث وكّل ملائكة يتابعونهم ويؤمِّنون على دعائهم، ومن الملائكة؟ الملائكة: عالم غيبي خلقهم الله عز وجل، من نور، وأعطاهم الله تعالى قوة في الإرادة وقوة في التنفيذ، {لَّا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6]. {يسبّحون الليل

حكم تسجية الميت

والنَّهار لا يفترون} [الأنبياء: 20]. ومع ذلك فلهم سرعة عظيمة في الذهاب والمجيء أشد من سرعة الجن، دليل هذا: {قال عفريتٌ من الجن أنا ءاتيك به قبل أن تقوم من مَّقامك وإنِّي عليه لقويٌ أمينٌ (39) قال الَّذي عنده علمٌ من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} [النمل: 40]. هذا أسرع من السريع، قال العلماء: إن هذا الذي عنده علم من الكتاب دعا الله فحملته الملائكة وجاءت به في هذه اللحظة العظيمة من اليمن وهو في الشام. حكم تسجية الميت: 513 - وعن عائشة رضي الله عنها: ((أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم حين توفِّي سجِّي ببردٍ حبرةٍ)). متَّفقٌ عليه. ((سجِّي)) بمعنى: غطي، وقوله: ((حبرة)) أي: معلمة، والبرود: نوع من الثياب تأتي من اليمن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها فسجَّوه بها، وتسجيتهم إيَّاه بها مع بقاء ثيابه عليه بدليل ما سيأتي- إن شاء الله تعالى- أما غير النبي صلى الله عليه وسلم فإنه تخلع ثيابه ثم يغطى، قال أهل العلم: الوحكمة من ذلك لئلا يحتمي مع بقاء ثيابه عليه فيسرع إليه من الانتفاخ والتغير فيسجى بعد أن تنزع ثيابه. يستفاد من هذا الحديث: مشروعية تسجية الميت، يؤخذ من تسجية الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن قد يقول قائل: هذا فعل الصحابة، وليس هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى نقول: إن الوحي أقره، فما هو الجواب على هذا الاعتراض؟ لا شك أن هذا صادر بعد موافقة الخلفاء الراشدين، والخلفاء الراشدون لهم سنن متَّبعة، ثم نقول: إن هذا إذا صح سيأتي حين قالوا: ((أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا؟ فسمعوا هاتفًا يهتف: أن غسِّلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه))، إذا صح هذا فإن إقرار الله لهم بالتسجية بدون أن يهتف هاتف يدل على أنها مشروعة. وها يستفاد من الحديث أن يسجَّى الميت بما يحب أن يستعمله في حياته؟ نعم إذا صحت العلة التي ذكرها بعض شراح الحديث من أن الرسول صلى الله عليه وسلم سجي بهذه البردة لأنه كان يحب ذلك. حكم تقبيل الميت: 514 - وعنها: ((أنَّ أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه قبَّل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد موته)). رواه البخاريُّ. وسبب ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يوم مات أحسن منه من الأيام التي قبلها، وكان أبو بكر رضي الله عنه ملازمًا للبقاء في المدينة حين مرض النبي صلى الله عليه وسلم واشتداد المرض به، فلما رآه قد أصبح بارئًا وأصبح من ذي قبل خرج إلى مكان له يسمى السنح- خارج المدينة- فتوفي النبي

صلى الله عليه وسلم من ضحى ذلك اليوم، وحصل ما حصل من انزعاج الصحابة- رضي الله عنهم- حتى إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على شدة بأسه وقوته أشكل عليه الأمر وقام في الناس في المسجد يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما صعق، وليبعثه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم من خلاف، أبو بكر لما بلغه الخبر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ووجده مغطّى، فكشف عنه وقبله وبكى، وقال: بأبي وأمي يا رسول الله، طبت حيًّا وميتًا، والله لا يجعل الله عليك موتتين، أما الموتة الأولى فقد متَّها، ثم غطَّاه وخرج إلى الناس ووجد عمر بن الخطاب يتكلم به، فقال له: على رسلك يا هذا، ثم صعد المنبر فخطب تلك الخطبة العظيمة، قال: أما بعد: أيها الناس، فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ رضي الله عنه: {وما محمَّد إلَّا رسولٌ قد خلت من قبله الرُّسل أفأين مَّات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرَّ الله شيئًا وسيجزي الله الشَّاكرين} [آل عمران: 144]. قال عمر: فما- والله- إن سمعتها حتى عقرت فلم تقلَّني رجلاي. وعرف الحق حتى كأن الناس ما قرءوا هذه الآية، فعرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم مات حقًا، وفي هذا دليل على ثبات أبي بكر رضي الله عنه لأننا نعلم- والعلم عند الله عز وجل- أن أشد الناس مصيبة برسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر؛ لأنه أحب الناس إليه حتى صرّح بذلك في مرض موته قال: ((لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام))، ومع هذا ثبت هذا الثبات، وله مقامات أخرى تدل على ثباته، مثل: قتال أهل الردة، وإرسال جيش أسامة بن زيد مع الضائقة التي كان عليها الصحابة، الشاهد من هذا الحديث أن أبا بكر قبّل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته. فيستفاد منه: جواز تقبيل الميت بعد موته لفعل أبي بكر. فإن قلت: فعل أبي بكر فعل صحابي فهل يكون فيه دليل؟ الجواب: نعم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي))، بل لقوله: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر))، بل لقوله: ((فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا)). فعلى هذا يكون في الحديث دليل على ذلك، فيجوز للإنسان إذ دخل على ميت صديق له أو قريب له أن يقبله، بشرط أن يكون ممن يحل له تقبيله حال حياته مع الرجل، والمرأة مع المرأة، والزوج مع زوجته، والزوجة مع زوجها.

الإسراع في قضاء دين الميت

وهل يستفاد من طهارة بدن الميت؟ يقال: إنه حتى لو فرض أن الإنسان باشر نجاسة وليس فيه ما يوجب أن تعلق النجاسة به فإنه لا يتنجس بذلك؛ يعني: لو باشر نجاسة وهو يابس وهي يابسة هل يلزمه الغسل؟ لا، لا يلزمه، وعلى فرض أن الميت نجس فإذا مسه الإنسان بدون أن يكون مبتلًا لم يجب أن يغسل ما أصاب الميت، ومن هنا قال العوام- والعوام الهوام لكن الهوام في بعض الأحيان تأكل الأذى ويصير فيها فائدة: - ليس بين اليابسين نجاسة، هل هذا صحيح. صحيح؛ يعني: تمس نجاسة وأنت يابس ليس عليك شيء، ولا يجب عليك أن تغسل يديك مباشرة، النجس إذا لم يتعدَّ إليك فلا بأس به، فإن تعدى إليك فإن كان لحاجة أو لمصلحة فلا بأس به أيضًا، كما لو باشرت النجس لإزالته، ولهذا الإنسان المستنجي بالماء يمس النجاسة بيده، وكذلك لو كان لحاجة كما ذكر بعضهم أن شحم الخنزير يستفاد منه في بعض الجروح، فهذا أيضًا لا بأس به للحاجة، لكن بشرط إذا جاء وقت الصلاة أن تطهِّر المحل وتزيل هذه النجاسة. الإسراع في قضاء دين الميت: 515 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((نفس المؤمنين معلَّقةٌ بدينه حتَّى يقضى عنه)). رواه أحمد والتِّرمذيُّ وحسَّنه. قوله: ((نفس المؤمن)) يعني: روحه، ((معلقة بدينه)) ما هو الدين؟ الدين هو كل ما ثبت الذمة من قرض وثمن مبيع وأجرة وصداق وعوض وخلع، وغير ذلك، وعند كثير من الناس أن الدين هو: ما أخذ عن طريق التورُّق، والتَّوُّرق هو الذي جعله الناس تورقًا، وهو أن الإنسان يحتاج إلى دراهم، ولكن ما عنده شيء، فيأتي إلى شخص يقول له: أنا أريد أن تبيع عليَّ هذه السيارة التي تساوي عشرة آلاف باثنى عشر ألفًا مؤجلًا إلى سنة، فيبيعه السيارة عليه ثم يأخذها هذا الرجل ويبيعها في السوق بعشرة، بثمانية حسب ما يسوق الله له من رزق، ويأخذ الدراهم ينتفع بها، وسمي تورقًا؛ لأن الإنسان يتوصل بهذه المعاملة إلى الورق، وهي الفضة، هذه المعاملة اختلف فيها العلماء: فمنهم من أجازها إذا دعت الحاجة إليها وهو المشهور من المذهب، ومنهم من منعها مطلقًا وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله وهو المروي عن عمرو بن عبد العزيز رحمه الله، قال صاحب إعلام الموقعين- وهو ابن القيم-: كان شيخنا رحمه الله يكرر عليه القول ويطلب منه القول إباحة التّورّق، ولكنه يأبى؛ لأنه يقول: هذه حيلة، لكن

ليت الناس بقوا على هذا الأمر، ولكنهم صاروا إلى التورط في التورق، ماذا يصنعون الآن؟ يقول: أنا أبيع عشرة آلاف دينًا يقول له: ما يخالف العشرة خمسة عشرة، يقول له: نزِّل العشرة بأربعة عشرة، نزِّل بثلاثة عشرة، نزِّل بعشرة، فهو يبيع ويشتري دراهم بدراهم، وبعدما يتفقون يذهبون إلى صاحب المحل ويشتري السلعة، وإذا كانت أكياسًا قدرنا أنها عشرة أكياس من الرز، كيف يقبضها؟ يمر يده عليها يقول: هذا قبض، ثم يقول: بعتها عليك باثنى عشر ألفًا إلى سنة، فإذا قال: هكذا قال: حسنًا، فيقول: أخرجها من المكان، يقول: هذا تكلفني وإن بعتها في السوق نزلت أكثر، أبيعها على من؟ على صاحب الدكان، أقول له: الآن اشتراها منك صاحبي بعشرة آلاف ريال، وأنا أنزلك بتسعة آلاف وخمسمائة، فيقول: نعم، فيعطيه المبلغ. فيكون هذا الفقير أكلته السباع من وجهين: الوجه الأول: هو البائع، والبائع على البائع الأول، هذا كسب عليه ألفين وهذا كسب عليه خمسمائة. هذه المسألة- مسألة التّورّق- صارت تورطًا، وصارت حيلة ظاهرة، ومن العجب أن هؤلاء الذين يصفون هذا يأتون إليهم يمسحون كما يقال- دموع التماسيح، يقول: انظروا البنوك تحارب الله ورسوله يعطونك مائة بمائة وعشرين: {فإن لَّم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله} [البقرة: 279]. يقولون: شددوا على هؤلاء، افعلوا، اتركوا، وهم يتورطون، يعني: هم فعلوا فعل البنوك وأخبث؛ لأنهم خانوا وخادعوا الله ورسوله وخادعوا المؤمنين، هؤلاء البنوك نقول: نعم، هم وقعوا في الربا صراحة، وهم يقرون على أنفسهم بالذنب، لكن هؤلاء يقولون: هذا فعلنا حلال ولذلك يسمونه التصحيح، يقولون: نصحح عليك، وهو في الحقيقة ليس تصحيحًا، ولكنه تقبيح، هذا هو الواقع، نحن الآن بلينا بهؤلاء المخادعين وهؤلاء المصرِّحين، بلينا بالبنوك ورباها الصريح- والعياذ بالله- إعلان حرب على رب العالمين، وكذلك بلينا بهؤلاء الذين سلكوا طريق المنافقين فأظهروا أنهم على صواب وهم على خطأ. وأسألكم الآن أيهما أعظم: هذه الحيلة أم حيلة اليهود لما حرمت عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها، وأكلوا ثمنها، أيهم أقرب إلى فعل المحرم؟ الأخير هو الأقرب لا شك؛ لأن أولئك ما أكلوا الشحوم، ولا باعوا الشحوم ذوبوا الشحوم إلى ودك ودهن ثم باعوها وأكلوا الثمن، ومع ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: ((قاتل الله اليهود)). ما هو الدَّين شرعًا؟ كا ما ثبت في ذمة الإنسان من ثمن مبيع أو أجرة أو قرض أو صداق أو خلع أو غير ذلك، إذا مات إنسان فإن نفسه معلقة بدينه؛ أنها لا تنبسط ولا تفرح بما لها من النعيم حتى يقضى الدين. يستفاد من هذا الحديث إثبابت عذاب القبر؛ لأنه لا شك أن تعليق النفس ومنعها من السرور والفرح والانبساط نوع من العذاب.

ويستفاد منه: أهمية قضاء الدين في حال الحياة، وجه ذلك: أنه إذا مات الإنسان علقت نفسه، وكثير من الورثة ظلمة- والعياذ بالله- تجده يرث الأموال الكثيرة من هذا الميت ويتباطأ في قضاء دينه، يقول مثلًا: أنا ورثت منه أراضي أنتظر حتى تزيد الأراضي ثم نبيع ونأخذ الدين، وهذا محرم؛ ولهذا قال العلماء: يجب على الورثة الإسراع في قضاء الدين وجوبًا، والله عز وجل جعل حق الورثة لا يرد إلا بعد قضاء الدين، قال: {من بعد وصيَّة يوصى بها أو دينٍ} [النساء: 11]. فهم ليس لهم حق في أن يأخذوا شيئًا من الميراث إلا بعد قضاء الدين. ويستفاد من هذا الحديث: عظم الدين وأنه مهم جدًا ويدل لذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على من عليه دين لا وفاء له، ويدل لذلك أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشهادة في سبيل الله تكفر كل شيء إلا الدّين وهذا يدل على أهميته. وقوله: ((دين)) يشمل دين الله ودين الآدمي، دين الله: مثل لو كان على الإنسان كفارة عتق رقبة فهذا دين، أو إطعام ستين مسكينًا مثلًا فهذا دين، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((دين الله أحق بالوفاء)). فأثبت أن الله- سبحانه وتعالى- دينًا. فإن قلت: هل يشمل ذلك الزكاة؟ نقول: إن كان الميت قد ترك إخراج الزكاة لا يريد إخراجها أبدًا فإن هذا لا يجزئ أن نخرج عنه ولا يلزمنا أن نخرج عنه؛ لأن الرجل قد عزم على ألا يخرجها، وأما إذا كان الرجل عنده تكاسل في الإخراج فقط فيقول: اليوم أخرج، غدًا أخرج، وما أشبه ذلك، فإن هذا يخرج عنه، وقد ذكر ذلك ابن القيم في كتاب ((تهذيب السنن))، على أن الإنسان الذي يترك الزكاة ما نوى إخراجها وهو مقر بوجوبها لكن لا يخرجها عصيانًا، فإنه في هذه الحال لا تخرج عنه بعد موته، وأما إذا كان تهاونًا بأن يقول: اليوم أو غدًا ولكنه أتاه الأجل فإنها تخرج عنه. إذا قلت: كيف يصح هذا الحديث وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وعليه دينٌ، فهل الرسول صلى الله عليه وسلم معلقة نفسه بدينه حتى يقضى عنه أم ماذا؟ الجواب أن يقال: إن النبي قد رهن درعه عند هذا اليهودي فقد أمن الدّين؛ ولهذا إذا أمّن الدين صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم كما فعل حين تحمل أبو قتادة الدين الذي على رجل من الأنصار هذا هو الجواب، وبعض العلماء أعلَّ هذا الحديث بالحديث الذي أشرت إليه. * * *

حكم تحنيط الميت المحرم

حكم تحنيط الميت المحرم: 516 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في الَّذي سقط عن راحلته فمات: ((اغسلوه بماءٍ وسدرٍ، وكفِّنوه في ثوبيه)). متَّفقٌ عليه. كان ذلك في حجة الوداع وهو واقف بعرفة، فجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستفتي في شأنه فأفتاهم فقال: ((اغسلوه بماء سدر))، (اغسلوه)) الضمير يعود على هذا الميت الذي سقط عن ناقته فمات، بماء وسدر مخلوطين جميعًا بأن يدق السدر ثم يوضع الماء ويضرب باليد وتؤخذ الرغوة ويغسل بها الرأس، ويبقى السَّفل يغسل به بقية الجسد؛ لأن السفل لو غسل به الرأس لبقي آثاره في الرأس بخلاف الرُّغوة. وقوله: ((وكفنوه في ثوبيه)) ((كفنوه)) يعني: غطوه واستروه في ثوبيه، والضمير في قوله: ((ثوبيه)) يعود إلى هذا الميت، وهما: الإزار والرداء اللذان أحرم بهما، والقصة، كما قلت لكم: أن هذا الرجل كان واقفًا بعرفة فأوقصته ناقته فسقط فمات فجاءوا يستفتون النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه فأفتاهم بذلك. فيؤخذ من هذا الحديث فوائد عديدة منها: جواز استفتاء العالم في وقت الوقوف بعرفة؛ لأن هؤلاء استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، فلا يقال: إن هذا اليوم دعاء فلا ينبغي أن يستفتى عن الشيء. ومنها، أن العلم أفضل من الذكر والدعاء المجرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تشاغل عن دعائه بإجابتهم وأفتاهم. ومنها: أن الحوادث موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حوادث المركوبات موجودة حتى في عهد الرسول، ويتفرع على هذه الفائدة: رد قول من قال: إنه ينبغي لكل محرم الآن أن يشترط في إحرامه أنَّ محلي حيث حبستني؛ لأن العلماء اختلفوا في الاشتراط للإحرام هل يشترط الإنسان عند إحرامه أنَّ محله حيث حبس أو ينوي ويطلق ولا يشترط؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: إنه يسن الاشتراط مطلقًا، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد. القول الثاني: إنه لا يسن مطلقًا؛ وبهذا قال ابن عمر وجماعة من أهل العلم. القول الثالث: إنه يسن الاشتراط لمن كان به مانع أو لمن كان يظن أن يحدث له مانع يمنعه من إكمال النسك، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يعني: أن الاشتراط ليس مستحبًا مطلقًا ولكن لابد من التفصيل، وهذا القول هو الراجح؛ لأن به تجتمع الأدلة فالنبي

صلى الله عليه وسلم أحرم ولم يشترط؛ لأنه ليس فيه شيء يخشى أن يعوقه عن إتمام نسكه، وضباعة بنت الزبير: يا رسول الله، إنِّي أريد الحج وأجدني شاحبة، فقال لها: ((حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني، فإن لك على ربك ما استثنيت)). فأرشدها إلى الاستثناء؛ لأنها شاكية مريضة، وهو لم يستثن؛ لأنه ليس فيه شيء يخشى أن يعوقه عن إتمام النسك، فقال بعض الناس: اليوم إنه يسن الاشتراط مطلقًا؛ لأن الحوادث كثيرة- حوادث السيارات- والإنسان يخشى أن يعوقه شيء، فنقول له: إن الحوادث موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يشترطوا إلا في الحالات المخصوصة، وأيضًا الحوادث الموجودة في عهدنا لو نسبتها إلى السلامة لم تكن شيئًا، فإذا كان كذلك فإنها ليست أمرًا مخيفًا بحيث يحتاج الإنسان إلى الاشتراط. ويستفاد من الحديث: وجوب تغسيل الميت لقوله: ((اغسلوه)). ويستفاد منه: أنه لا يجب العدد يعني: أنه لا يجب إلا الغسل، فلا يشترط العدد يعني: لا يشترك بثلاث ولا خمس ولا سبع ولا غيرها؛ وجهه: قوله: ((اغسلوه)) أنه مطلق، وسيأتينا- إن شاء الله تعالى- في اللاتي يغسلن بنت النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك))، لمنه قال: ((إن رأيتن ذلك)). وهل يستفاد منه: أنه يتعين الماء في تغسيل الميت؟ نعم؛ لقوله: ((اغسلوه بماء))، فإذا لم يوجد الماء، أو خيف أن يتفسخ الميت بغسله بالماء فماذا نصنع؟ قال بعض أهل العلم: إنه ييمّم. وقال آخرون: إنه لا ييمم؛ لأن تغسيل الميت من أجل التنظيف بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك رأيتن ذلك))، ولو كان من باب غسل العبادة ما زاد على الثلاث، وعلى هذا القول فإنه لا يشرع أن ييمم إذا لم يجد ماء ت=نغسله به. ويستفاد من الحديث: أن الماء المتغير بالطاهر لا ينتقل عن الطهورية، من أين يؤخذ؟ من قوله: ((اغسلوه بماء السدر)). ومن فوائده: مشروعية الجمع بين الماء والسدر لقوله: ((اغسلوه بماء وسدر)). ومن فوائده: جواز الاغتسال للمحرم، من أين يؤخذ؟ من قوله: ((اغسلوه))، وهذا اغتسال. ومن فوائده: جواز استعمال المحرم للسدر والمنظفات كلها ما عدا المطيب لقوله: ((بماء وسدر)). ويستفاد من الحديث: وجوب التكفين؛ لقوله: ((كفنوه في ثوبيه)). ويستفاد منه: أن تغسيل الميت وتكفينه فرض كفاية وليس فرض عين، ما وجهه؟ لأنه لم

يأمر جميع الناس أن يغسلوه ولا هو نفسه باشر غسله ولا تكفينه، فهو إذن فرض كفاية، والفرق بين فرض الكفاية وفرض العين: أن فرض العين مطلوب من كل شخص فقد أريد به التعبد لله من كل واحد، وأما فرض الكفاية فالغرض منه تحصيل ذلك الشيء بقطع النظر عن الفاعل، فالأذان مثلًا فرض كفاية؛ لأن المقصود منه الإعلام بدخول وقت الصلاة، تغسيل الميت فرض كفاية؛ لأن المقصود منه التغسيل بقطع النظر عن الفاعل. وهل يستفاد منه: أنه يشترط أن يكون الغاسل مكلفًا؛ أي: بالغًا عاقلًا؟ نعم؛ لأن توجيه الخطاب إنما يكون للمكلفين، إذ إن غير البالغ قد رفع عنه القلم. ويؤخذ منه: جواز تغسيل المحرم للميت، ألا يمكن أن يكون بعضهم لم يحرم؟ الاحتمال العقلي وارد، لكنه مخالف جدًّا لظاهر الحال، وقد ذكر أهل العلم كالمؤلف رحمه الله في الفتح أن الاحتمالات العقلية لا ترد في الدلائل النظرية؛ وذلك لأننا لو أردنا أن نورد كل احتمال يفرضه الذهن لكان جميع الأدلة يمكن أن تبطل؛ لأنه ما من دليل إلا ويمكن إيراد احتمال عقلي يبطله؛ فإذن بظهر الحال، فظاهر الحال أن جميع هؤلاء محرمون؛ إذ يبعد أن أحدًا مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحرم. ويستفاد من الحديث: ان الكفن مقدم على الدَّين، من أين يؤخذ؟ من قوله: ((كفنوه في ثوبيه)) ولم يستفصل هل عليه دين أم لا، فيؤخذ منه فائدة فرعية: أن لباس الإنسان الحي المفلس مقدِّم على دينه، لا نقول: بع ثوبك، بع سروالك، بع مشلحك، واقض به الدَّين. ويستفاد منه: أن المشروع في المحرم أن يكفن في ثوبي إحرامه لقوله: ((في ثوبيه)) أي: ثوبي الإحرام. ويستفاد منه أيضًا: أنه إذا كان للميت تركة فلا ينبغي أن يجهز إلا منها لقوله: ((في ثوبيه))، ولما في ذلك من المنة، لو أن أحدًا قال: أنا أتبرع وأقوم باللازم من التجهيز وله تركة، فنقول: لا ما دام له تركة فإن الأولى أن يجهز من تركته لهذا الحديث ولما في ذلك من المنة. وفيه جواز الوقوف على الراحلة في عرفة وما الأفضل: أن يقف راكبًا أو أن يقف ماشيًا؛ يعني: غير راكب؟ اختلف العلماء في ذلك؛ فمنهم من قال: إن الأفضل أن يقف راكبًا، وعلى هذا فالأفضل لنا إذا أردنا الدعاء أن نركب على السيارات وندعو أحسن من كوننا ندعو على الأرض، ولكن ينبغي في هذه المسألة أن يقال: إنه ينظر إلى ما هو أصلح للقلب، فإذا كان الأصلح للإنسان أن يدعو الله عز وجل وهو في الأرض بعيدًا عن الناس فليفعل، وإذا كان الأصلح أن يدعو وهو على راحلته فليفعل، لكن أيهما أصلح في الغالب؟ الغالب أن الأرض أصلح؛ لأنه يبتعد عن الناس وعن ضوضائهم، وربما يكون أدعى إلى الإخلاص لله عز وجل فليفعل الإنسان ما يراه أصلح لقلبه.

ومن فوائد الحديث: أنه إذا مات المحرم لا يكمل نسكه ولو كان فريضة، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بإتمام نسك الميت: خلافًا لما قاله فقهاؤنا- رحمهم الله-: أنه إذا مات في أثناء النسك وحجة واجب فإنه يقضي منه ما بقي، وهذا ليس بصواب، والصواب أنه لا يقضي عنه. ومن فوائد الحديث: أن الميت إذا مات محرمًا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا لقوله: ((فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا))، وذلك- والله أعلم- لأن الحج نوع من الجهاد في سبيل الله، ومن مات في سبيل الله فإنه يخرج يوم القيامة- إذا جرح في سبيل الله- وجرحه يثعب دمًا: اللون لون الدم والريح ريح المسك. ومن فوائد الحديث أيضًا: مشروعية تحنيط الميت؛ لأنه قال: ((ولا تحنطوه))، فدل ذلك على أنه من عادتهم التحنيط وإلا لم يكن للنهي عنه فائدة. ومن فوائده: وجوب اجتناب الطيب للمحرم لقوله: ((ولا تحنطوه))، وتعليل ذلك: أنه يبعث يوم القيامة ملبيًا. ومن فوائده أيضًا: أنه لا يجوز للمحرم أن بغطي رأسه لقوله: ((ولا تخمروا رأسه))، وهذا أعم من قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل ما يلبس المحرم؟ فقال: ((لا يلبس السراويل، ولا البرانس، ولا العمائم))؛ لأن تغطية الرأس أعم من خصوص اللبس. ومن فوائد الحديث: جواز استظلال المحرم بالشمسية ونحوها؛ لأن النهي عن التغطية لا عن التظليل، ولكن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجوز للمحرم أن يستظل بالشمسية ولا بالهودج ولا بالمحمل ولا بالسيارة أيضًا؛ ولهذا من أراد أن يقلد المشهور من مذهب الإمام أحمد فإنه لا يحل له أن يركب السيارة المغطاة، لابد أن يكون في سيارة مكشوفة، ولكن العمل على خلاف هذا القول، والعلماء يقولون: إن الساتر للرأي ثلاث أقسام: ساتر لا بأس به بالإجماع بل بالنص والإجماع مثل: الخيمة، والاستظلال بالثوب على الشجرة وما أشبه ذلك؛ لأنه منفصل عن المرء ولا يتبعه. والثاني: ساتر للرأس ملاصق له، فهذا حرام لا يجوز بالاتفاق. والثالث: ظل منفصل عن الرأس، لكنه تابع للإنسان يمشي بمشي الإنسان أو يمشي الإنسان بمشيه، فهذا محل خلاف والصواب جوازه. ومن فوائد الحديث أيضًا: إثبات البعث لقوله: ((فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا)). ويستفاد منه: أنه لا يجب أن يكون الكفن ثلاثة أثواب لقوله: ((في ثوبيه)). ويستفاد منه أيضًا فائدة أخرى: وهي أنه لا يشرع الزيادة على ثوبي المحرم، إلا أن يقال أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد راعى في ذلك أن هذا الرجل ليس عنده مال إلا ثوبيه، وأنه لو طلبنا زيادة

حكم تجريد الميت عن تغسيله

فمعناه: أنا سألنا الناس له، وهذا أمر لا ينبغي، لكن الأول أظهر؛ بمعنى: أنه ينبغي أن يكفن فيما هو محرم فيه فقط. هل يؤخذ من هذا الحديث قاعدة: أن من مات على شيء بعث عليه؟ يقول العلماء: إنه لا يمكن أن نستدل بالأخص على الأعم، ويمكن أن نستدل بالأعم على الأخص؛ لأن استدلالنا بالأعم على الأخص استدلال العموم على بعض أفراده، لكن استدلالنا بالأخص على الأعم معناه: أننا زدنا على النص. حكم تجريد الميت عن تغسيله: 517 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لمَّا أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما ندري، نجرِّد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرِّد موتانا، أم لا؟ ... )). الحديث، رواه أحمد، وأبو داود. قولها رضي الله عنها: ((والله ما ندري)) القائل: هم الصحابة الذين باشروا غسل النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم العباس بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما قالوا: ((والله ما ندري)) أي: ما نعلم، وأقسموا هنا بدون استقسام لدعاء الحاجة إليه، أو قد يقال: إن هذا من باب لغو اليمين، وإنهم ما أرادوا القسم. ((نجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: من ثيابه، ((كما نجرد موتانا أم لا))، وبقية الحديث: أن الله تعالى ألقى عليهم النوم فسمعوا هاتفًا يقول: ((اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه فكانوا يصبون الماء على القميص، ويدلكونه من روائه)). فيستفاد من هذا الحديث: أن المشروع عند تغسيل الميت أن يجرد، لكنه سبق لنا- بل قد قلناه في مجلس آخر- أنه يجب أن تغطى عورته- تغطى عورته بثوب- حتى لا تشاهده؛ لأنه لا حاجة إلى مشاهدتها، وسبق لنا أن الغاسل إذا أراد أن يغسله وعورته مستورة يجعل في يده خرقة لأجل أن ينظف فرجيه، ثم يزيل هذه الخرقة إذا نظفهما ويأتي بخرقة ثانية لأسنانه ومنخره؛ لأنه يبل الخرقة ويمسح أسنانه ولثته ومنخريه بدون أن يصب الماء، قال بعض العلماء: ويأتي بخرقة ثالثة لبقية الجسم، قالوا: والمستحب ألا يمس سائره إلا بالخرقة، ولكن هذا الأخير خلاف ظاهر النصوص، فإت الظاهر أن الذين يغسلون الأموات يباشرون الأموات بأيديهم. ويستفاد من هذا الحديث: خصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم وهي أنه لم يجرد حين مات. ويستفاد منه: أن المشروع تجريد الميت عند تغسيله. ويستفاد منه: جواز الحلف بدون استحلاف إن قلنا: إن هذا قد قصد وإلا فهو من لغو اليمين.

صفة الغسل

صفة الغسل: 518 - وعن أمِّ عطيَّة رضي الله عنها قالت: ((دخل علينا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ونحن نغسِّل ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك، إن رأيتنَّ ذلك، بماٍ وسدرٍ، واجعلن في الأخيرة كافورًا، أو شيئًا من كافورٍ، فلمَّا فرغنا أدنَّاه، فألقى إلينا حقوه. فقال: أشعرنها إيَّاه)). متَّفقٌ عليه. - وفي روايةٍ: ((ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها)). - وفي لفظٍ للبخاريِّ: ((فضفَّرنا شعرها ثلاثة قرونٍ، فألقيناها خلفها)). جملة: ((ونحن نغسل)) في موضع نصب على الحال أين صاحبها؟ ((نا)) في قوله: ((علينا)) وقولها: (نغسل ابنته)) أي: بناته؟ لأن بناته اللاتي متن في حياته ثلاث: زينب، ورقية، وأم كلثوم، قيل: إنها زينب، وهو الذي في صحيح مسلم، وقيل: إنها أم كلثوم، ولكن الصحيح أنها زينب، وقولها رضي الله عنه: ((دخل علينا ونحن نغسل ابنته)) لأنهم كانوا- فيما يظهر- في حجرة فدخل عليهنَّ وكلمهنَّ. وقوله: (اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك)) ((أو)) هنا للتخيير، وهل هو تخيير مصلحة أو تخيير تشهٍّ؟ تخيير مصلحة، وذلك لو أن الإنسان إذا خير بين شيئين فإن كان يعمل لنفسه فالغالب أنه تخيير تشه، وإن كان يعمل لغيره فالغالب أنه تخيير مصلحة؛ لأن الواجب على الإنسان في عمله لغيره أن يختار ما هو أصلح أما في عمله لنفسه فهو حر، وعلى هذا فقوله تعالى: {ففديةٌ من صيامٍ أو نسكٍ} [البقرة: 196]. هذا تخيير تشهٍّ؛ لأنه لمصلحتهم، وأما إذا كان لمصلحة غيره فإنه يكون تخيير مصلحة، وهنا لمصلحة الغير. قال: ((أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك)). قوله: ((إن رأيتن)) هذا قيد في قوله: ((اغسلنها ثلاثًا))، فيشمل حتى الثلاث، إن رأين أن يغسلنها ثلاثًا فعلن وإلا اكتفين بواحدة، وقوله: ((إن رأيتن ذلك)) الرؤية هنا ما هي: بصرية أو عملية قلبية؟ الظاهر أنها قلبية. يستفاد من قوله: ((أكثر من ذلك)): أنه يجوز الزيادة على السبع لقوله: ((أو أكثر من ذلك))، ولم يقيد، بل في صحيح البخاري: ((أو سبعًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك))، وفي هذا دليل على أن تغسيل الميت يراعى فيه جانب النظافة؛ لأنه لو كان من باب الاغتسالات الشرعية لكان لا يزاد على ثلاثة، بل إن الغسل الشرعي على القول الراجح مرة واحدة ما يثلث فيه إلا الرأس وقوله: ((اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا)) لماذا لم يذكر أربعًا؟ لأنه ينبغي أن يقطع على وتر، حتى لو أنقت بأربع تزيد خامسة.

ويستفاد من الحديث: جواز العمل برأي المرأة فيما يتعلق بشئون النساء لقوله: ((إن رأيتن ذلك)). وفيه أيضًا: مشروعية وضع السدر في تغسيل الميت لقوله: ((بماء وسدر))، وقد ذكرنا أن أهل العلم يقولون: إنه يدق السدر ويوضع في الماء ويخلط باليد، فإذا صار له رغوة أخذت الرغوة فغسل بها الرأس، وبقية السفل يغسل سائر الجسم. ويستفاد من قوله: ((بماء وسدر)): أن الماء إذا خالطه شيء طاهر فإنه لا يسلبه الطهورية وإلا لم يكن لذلك فائدة. ثم قال: ((واجعلن في الأخيرة كافورًا)) ((اجعلن)): فعل أمر، وهذا الأمر ليس للوجوب بل هو للاستحباب، وهو الكافور: نوع من الطيب يشبه الشب، يدق هذا ويوضع في الماء ثم يكون في آخر غسله، وإنما كان في آخر غسله؛ لأن فيه فائدة وهي تبريد الجسم وتصليبه، والثالثة: طرد الهوام عنه؛ ولهذا قال: ((اجعلن في الأخيرة كافورًا أو شيئًا من كافور)) ((أو)) هنا الظاهر أنها شك من الراوي، هل قال: ((شيئًا من الكافور))، أو قال: ((كافورًا))؟ واللفظة الأخيرة تدل على التقليل يعني: أن يجعل شيئًا من الكافور ليس شيئًا كثيرًا، ولكن شيء تحصل به الفائدة بدون أن يكون إسرافًا. فلما فرغن آذناه، وكان قد قال- عليه الصلاة والسلام- في السياق الآخر: ((فإذا فرغتن فآذنني))؛ أي: أخبرتني: قالت: ((فلما فرغن آذناه)) أي: أعلمناه بذلك، فألقى إلينا حقوه، فقال: ((أشعرنها إياه))، الحقو: الإزار، وسمِّي به؛ لأنه يربط بالحقو، والحقو: هو أعلى الفخذ مما يلي البطن، وإنما أعطاهم إياه من باب التبرك بلباسه صلى الله عليه وسلم، وقال: ((أشعرنها إياه)) أي: اجعلنه شعارًا لها، أي: مما يلي جسدها، فالشعار من الثياب هو الذي يلي الجسد، والدثار: ما فوقه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الأنصار في غزوة حنين: ((الأنصار شعار والناس دثار)). وفي رواية: ((ابدأن بميامنها ومواضع الوضوع منها))، ((ابدأن)) يعني: في التغسيل يعني بالأيمن فالأيمن، فاليد اليمنى قبل اليسرى، والرجل اليمنى قبل اليسرى، والشق الأيمن من البدن قبل الأيسر، ((ومواضع الوضوء منها))، وهي أربعة، وهي: الوجه، واليدان، والرأس، والرجلان؛ ولهذا قال أهل العلم في صفة تغسيل الميت: إن أول ما يوضع على سرير غسله أنه يرفع رأسه قليلًا، ويعصر بطنه برفق لأجل أن يخرج ما كان متهيئًا للخروج من الأذى والقدر، ثم بعد ذلك يجعل الغاسل على يده خرقة فيغسل فرجه وينجيه، ثم إذا نظفه مرة ألقى تلك الخرقة وأخذ

خرقة أخرى وبلها بالماء لأجل أن ينظف أسنانه ومنخريه بدون تنشيق؛ لأنه متعذر أن يستنشق، وبدون مضمضة وعللو ذلك بأنه لو صب الماء في فمه فإنه ينزل إلى أسفل، وإذا نزل إلى أسفل فإنه ربما يحرك ما في البطن فيخرج ويتلوث مرة أخرى، ثم يغسل وجهه، ثم يده اليمنى، ثم يده اليسرى، ثم رأسه، ثم رجليه، ثم بقية البدن يغسله غسلًا، وفي أذنيه ينظفهما بخرقة فإذا لم ينق الميت- وعلامة عدم النقاء: أن يزلُّ الماء فيكون كأن فيه دهنًا فمعناه: أنه لم ينق بعد- يعيد الغسل مرة ثانية وثالثة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السبع أو إلى أكثر، ثم بعد هذا ينشفه، ثم يكفنه بعد أن يجعل الحنوط، وعلمتم أنه يوضع السدر في الماء من أول غسلة، وأنه يوضع في آخر غسلة الكافور. يقول: وفي لفظ للبخاري: ((فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها)) ضفرنا شعرها؛ أي: جعلناه ضفائر، عند العامة يسمونه جدايل، ((وألقيناها)) الضمير يعود على الضفائر وليس عل الشعر. فيستفاد من بقية الحديث: أولًا: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مراقبة تغسيل ابنته، يؤخذ من كونه- عليه الصلاة والسلام- ينتظر إعلامهن، ومعنى ذلك: أنه كان قريبًا منهن. ومنها: أن الرجل لا يشارك في تغسيل ابنته؛ لأن الني صلى الله عليه وسلم لم يشارك، إذا لو شارك ما احتاج إلى أن يقول: ((فإذا فرغتن فآذنني)). ومنها: أنه لا يحضر تغسيل ابنته؛ لأنه لا أحد من الرجال يغسل المرأة إلا الزوج مع زوجته والسيد مع سرِّيته، وإلا فالمرأة لا يغسلها أبوها ولا ابنها ولا أخوها، قال أهل العلم: ويكره لغير من يحتاج إليه أن يحضر حتى النساء، يعني: لا يحضر تغسيل الميت إلا من احتيج إليه سواء كان رجلًا أو امرأة مع النساء. ويستفاد منه: جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم الحسية، يؤخذ من إعطائهن حقوه وأمرهن أن يشعرنها إياه. وهل يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم الصالحون؟ يرى بعض أهل العلم: أن الصالحين يلحقون بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يتبرك بآثارهم وبعرقهم بثيابهم وما أشبه ذلك، ولكن الصواب: أنه لا يلحق به؛ لأن الصحابة- رضي الله عنهم- لا شك أن فيهم صالحين مبرزين في الصلاح، بل هم أفضل الأمة بعد الأنبياء، ومع ذلك ما كانوا يتبركون بآثار بعضهم مع بعض، ولو كان هذا من الأمور المشروعة لفعلوه حتى يثبت الحكم، ولأن هذا يؤدي إلى فتنة بالصالحين والتعلق بهم وفتنة للصالح نفسه؛ فإنه إذا رأى الناس يتبركون به قد تغره نفسه ويعجب بها، ويقول: أنا من أنا، وهذا ضرر عظيم؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في رجل مدح رجلًا عنده: ((قطعت ظهر أخيك

أو عنقه))، وهذا يدل على أن مثل هذه الأمور ربما تؤدي إلى هلاك الممدوح، فالصحيح أنه لا يجوز التبرك بآثار أحد من الناس ولو كان صالحًا إلا النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: جواز لبس المرأة ما يلبسه الرجل، يؤخذ من إعطائه حقوه، لكن هل هن ألبسن هذا الحقو المرأة كما يلبسه الرجل أو جعلنه كالثوب يطفو على جسدها؟ الظاهر الثاني بدليل قوله: ((أشعرنها إياه))؛ ولهذا يجوز للمرأة أن تلبس الثياب البيضاء وغيرها مما يلبسه الرجال، بشرط أن يكون خياطته وتفصيله مخالفًا لخياطة وتفصيل ثياب الرجال؛ فاللون لا أثر له، إنما الهيئة والصفة هي التي يجب أن تميِّز الرجال على النساء. ويستفاد من الحديث: مشروعية ضفر رأس المرأة، يؤخذ من ضفر أو عطية ومن معها لشعر بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قد يناقش في هذه الفائدة بأن يقال: هل هذا بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، هل هذا بإقراره؟ أما بأمره فالحديث ليس فيه دليل، وأما إقراره فها في الحديث ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم فأقر؟ لا، ولكن الظاهر أنه مشروع؛ لأن أم عطية رضي الله عنها ممن كنَّ يغسلن النساء ويكفنِّ، فالظاهر أنها لم تفعل ذلك إلا بعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل يضفر رأس الرجل فيما لو كان رجلٌ عنده رأس طويل: هل يضفر أو يغسل ويجمع ويلقى خلفه أو يلقى على وجهه حسب اتجاه الشعر؟ أنا لا أعلم حتى الآن نصًّا في أن شعر الرجل يضفر كما يضفر شعر المرأة، والمسألة تحت البحث إن شاء الله. ويستفاد من الحديث: أنه يبدأ في تغسيل الميت باليمين لقوله: ((ابدأن بميامنها)). ويستفاد منه: أنه يبدأ بمواضع الوضوء لقوله: ((ومواضع الوضوء منها)) فهل يقاس على ذلك غسل الرجل من الجنابة؟ نقول: فيه نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ قبل أن يغتسل وضوءه للجنابة، ثم يحثي على رأسه ثم يغسل سائر جسده، وفي حديث ميمونة أنه كان يتوضأ لكنه لا يغسل رجليه ثم يغتسل، فإذا فرغ من الغسل غسل رجليه. ويستفاد من هذا الحديث: أن الذي يغسِّل المرأة المرأة وهو الذي، ويغسِّل الرجل الرجل إلا الزوج مع زوجته والسيد مع سرِّيته، وإلا من كان دون السبع فإن الفقهاء- رحمهم الله- يقولون: من كان دون السبع فإن يغسله الرجال والنساء، سواء كان ذكرًا أو أنثى، وعلى هذا فالطفل الصغير إذا مات يجوز أن تغسله النساء، والطفلة الصغيرة إذا ماتت يجوز أن يغسلها

تكفين الميت وأحكامه

الرجال، فإذا لم يوجد رجل- فيما لو كان الواجب أن يباشر التغسيل رجال- مثلًا: مات رجل بين نساء فماذا نصنع؟ يقول الفقهاء: إنه ييمم فيضرب الإنسان يديه على الأرض، ويمسح بهما وجه الميت وكفيه. وقال بعض العلماء: بل يغسله النساء بدون مباشرة بأن يصب عليه الماء صبًا بدون أن تباشر النساء؛ لأن المحذور هو المباشر ولمس ما لا يجوز لمسه، فإذا زال هذا يصبه فلا بأس به، وإذا قلنا: بأن تغسيل الميت ليس للتعبد بل هو للتنظيف، فهل يشرع التيمم إذا لم يحضر المرأة نساء أو المرأة رجال؟ لا يشرع، لأن التيمم الآن لا يفيد؛ ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الأغسال المستحبة إذا فقد الإنسان الماء فيها أو كان يضره استعماله فإنه لا يتيمم لها؛ لأن الأغسال المستحبة ليست عن جنابة، وإنما هي للتنظيف والتطهير فإذا لم يجد الماء أو كات الماء يضره فإنه لا يتيمم، والله عز وجل إنما ذكر التيمم في الطهارة الواجبة ولم يذكره في الطهارة المستحبة، لكن أكثر الفقهاء يقولون: إنه يشرع التيمم إذا عدم الماء في الأغسال المستحبة التي يتضرر بها. تكفين الميت وأحكامه: 519 - وعن عائشة رضي الله عنه قالت: ((كفِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سحوليَّةٍ من كرسفٍ، ليس فيها قميصٌ ولا عمامةٌ)). متَّفقٌ عليه. ((كفن)) أصل التكفين بمعنى: التغطية، والكفن والكفت معناه: التغطية كما قال الله عز وجل: {ألم نجعل الأرض كفاتًا (25) أحياءً وأمواتًا} [المرسلات: 25 - 26]. والكفن سمي بذلك؛ لأنه يغطي الميت. قالت: ((كفِّن)) من الذي كفنه؟ كفنه من تولى تجهيزه ومنهم عليّ بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب. تقول: ((في ثلاثة أثواب))، الثوب: هو القطعة من القماش سواء كان مخيطًا أم غير مخيط، وأما المعروف عندنا في اللغة العامية فهو أن الثوب هو المخيط، بل القميص فقط وهذه لغة عرفية خلاف اللغة العربية، ((في ثلاثة أثواب بيض سحولية)) نسبة إلى بلدة في اليمن تسمى ((سحول)). وقولها: ((من كرسف)) أي: من قطن، فـ ((من)) هنا بيانية كقولهم: خاتم من فضة، خاتم من ذهب.

وقولها: ((ليس فيها قميص)) القميص: هو هذا الثوب المعروف بالأكمام، ((ولا عمامة)) هي: ملبوس الرأس؛ أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في هذه الأثواب الثلاثة، ولم يكفن بقميص ولا عمامة، هذا هو المعنى المتبادر من الحديث، وأما من زعم من أهل العلم: أن المعنى ليس فيها قميص ولا عمامة، أي: أنها ثلاث أثواب زائدة على القميص والعمامة، وأن المشروع أن يكفن الرجل في خمسة أثواب: القميص، والعمامة، وثلاثة أثواب يلف بها فهذا بعيد من اللفظ، والصواب: أن قولها: ((ليس فيها قميص ولا عمامة)) تنفي ما قد يظن أن لباس الميت كلباس الحي حتى يتبين أن الكفن عبارة عن قطعة من خرق يلف بها الميت يدرج بها إدراجًا، قال العلماء: وكيفية ذلك أن توضع اللفائف بعضها فوق بعض بعد أن تطيب بالبخور أو نحوه، ويوضع الميت عليها ثم يردُّ طرف اللفافة العليا الأيمن، ثم يرد عليه الأيسر، ثم يفعل في الثانية التي تحتها كذلك، ثم في الثالثة كذلك، قالوا: وينبغي أن يجعل أكثر الفاضل عند الرأس، ثم يعقد هذه الخرق الثلاث ويحل العقد في القبر، يعقدها لئلا تنتشر مع حمل الميت والمشي به، فإذا وصل إلى القبر فإنها تحلّ. فيستفاد من هذا الحديث: أن المشروع أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، وأنه ليس من المشروع أن يكون فيها قميص ولا عمامة. ويستفاد منه: أن الأفضل في الكفن أن يكون أبيض، وقد دل على ذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على لباس البياض، وهل يدل على أن الأفضل أن يكون الكفن من القطن لقولها: ((من كرسف))، أو أن هذا وصف فردي لا اعتبار به؟ يحتمل هذا، وهذا يحتمل أن يقال: إن الأفضل أن تكون من القطن؛ لأن الصوف في الغالب يكون حارًا، فيؤثر في بدن الميت؛ ولأن غيره قد يكون فيه مباهاة ومفاخرة، وأما الحرير فهو حرام. ويستثنى من هذا الحديث المحرم، فإن المحرم يكفن في ثياب إحرامه في إزاره وردائه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته راحلته: ((كفنوه في ثوبيه))، فهذا مستثنى، وإلا فكل ذكر يسن أن يكفن في هذا، وما هو الواجب من هذه الثلاثة الأثواب؟ الواجب ثوب واحد يستر جميع الميت. ويستفاد من هذا الحديث: أنه لابد أن يكون الكفن شاملًا لجميع البدن، من أين يؤخذ؟ من قولها: ((كفن في ثلاثة))، و ((في)) للظرفية، والظرف لابد أن يكون محيطًا بماذا؟ بالمظروف، وعلى هذا فلابد أن يكون الكفن شاملًا لجميع الميت، فإن لم يوجد كفن يشمل جميع الميت

فإنه يكفن أعلى البدن وأسفله، يكفن بإذخر أو أوراق شجر أو ما أشبه ذلك، ما هو الدليل؟ حديث مصعب بن عمير رضي الله عنه فإنه استشهد في أحد وليس له إلا بردة إن غطّوا بها رأسه بدت رجلاه وإن غطوا رجليه بدا رأسه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه، وأن يجعلوا على رجليه شيئًا من الإذخر، يعني: يوضع على الرجلين ثم يربط بحبل لأجل ألا ينتشر، فإن لم يوجد شيء إطلاقًا لا وجدنا ثوبًا ولا إذخرًا ولا شجرًا، فقال بعض العلماء: إنه يطيَّن كيف ذلك؟ يعني: يؤتى بطين ويوضع على جسده، ولكن هذا فيما يظهر ليس بواجب؛ لأن هذا من باب التكلف والتعمق، ثم إن فيه تلويثًا للميت، والمشروع أن يطهر ويغسل وإن كان الإنسان خلق من الطين، لكن هذا يعتبر تلويثًا له، فالصحيح أنه إذا لم يوجد شيء فإنه يدفن على ما هو عليه، وسوف يبعث يوم القيامة عاريًا وإن كفن. فإن قلت: كيف يتصور ألا يوجد شيئًا؟ الجواب: يتصور بأن يعرض للرجل قطاع الطريق ويسلبونه ثيابه ومتاعه ولا يبقون عليه شيئًا، وهذا واقع في زمن سبق، فقد ذكروا لنا قصة أن جماعة من الذين يذهبون يأتون بالعلف- وهو الحشيش- اعترض لهم قطاع طريق فسلبوا ما معهم حتى الثياب، وجاءوا عراة إلى البلد، لكنهم لما قاربوا البلد جلسوا وأرسلوا واحدًا منهم في الليل وأتى لهم بثياب من أهلهم، فمثل هؤلاء إذا مات منهم ميت وليس حولهم شجر ولا شيء يغطون به الميت فإنه يدفن عاريًا، وأيضًا يستثنى المجاهد في سبيل الله إذا قتل فإنه يدفن في ثيابه مثل المحرم. 520 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((لمَّا توفِّي عبد الله بن أبيٍّ جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني قميصك أكفِّنه فيه، فأعطاه إيَّاه)). متَّفقٌ عليه. قوله: ((لمَّا توفي)) كما قال الله تعالى: {- قل يتوفَّكم ملك الموت} [السجدة: 11]. وقال: {حتَّى إذا جاء أحدكم الموت توفَّته رسلنا} [الأنعام: 6]. فهو متوفَّى وليس متوف، ولكن لو أن أحدًا قال: إنه متَّوف بمعنى: أنه متوف أجله وحياته كالذي استوفى حقه من مدينه لكان له وجه، لكن هذا يتوقف على وروده في اللغة العربية. قال: ((لما توفي عبد الله بن أبي)) - للفائدة- يقال: عبد الله بن أبي بن سلول، وسلول أمه، فكيف ننطق بأبي وكيف ننطق بابن سلول؟ هل نقول: عبد الله بن أبي بن سلول، أو عبد الله بن أبي بن

سلول؟ الأخير، فنقول: عبد الله بن أبي بالتنوين، ابن سلول بالرفع، بخلاف ما لو قلنا: ((عبد الله بن محمد بن علي)) إذا كان ((علي)) هو الجد نقول: عبد الله بن محمد بن علي، ولا ننون محمدًا ونكسر ابن، أما عبد الله بن أبيٍّ فإننا ننون أبيًّا ونجعل ابن الثانية تابعة للاسم الأول، وهناك فرق ثالث وهو أننا نضع ألف ابن في ((ابن سلول)) بخلاف ما لو كان هو الجد فإننا لا نضع ألفًا لابن. ومنه ذلك ((عبد الله بن مالكٍ ابن بحينة))؛ لأن بحينة هذه ليست جده، بل هي أم عبد الله، عبد الله بن أبي هذا- والعياذ بالله- رأس المنافقين وهو مشهور بنفاقه، وله ابن اسمه عبد الله من خيار المؤمنين، وكان عبد الله بن أبي الخبيث يتظاهر بالإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين معاملة المسلمين أخذًا بظواهرهم؛ لأن الواجب علينا نحن أن نعامل الناس بالظواهر؛ لأن البواطن إلى الله- سبحانه وتعالى-، فكما أننا نحن ملزمون بأن نعامل الناس بالظواهر، فكذلك الحكم على الناس في الدنيا بالظواهر، أما في الآخرة فالحكم بما في البواطن لقول الله تعالى: {يوم تبلى السرآئر (9) فما له من قوةٍ ولا ناصرٍ} [الطارق: 9، 10]. {- أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور (9) وحصل ما في الصُّدور} [العاديات: 9، 10]. عبد الله بن أبي ابن سلول لما مات جاء ابنه عبد الله- وهو من خيار المؤمنين- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، قميص النبي صلى الله عليه وسلم يلبسه الرسول- عليه الصلاة والسلام- ولا شك أن ما كان الرسول يلبسه فإنه يجوز أن يتبرك به الإنسان كما سبق في حديث زينب، وعلى هذا فإن عبد الله جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعطيه قميصه ليكفنه فيتبرك بذلك، ولكن هل ينفعه هذا؟ لا ينفعه، لكن بناء على الظاهر، أما الحقيقة فإنه لا ينفعه؛ لأن الكافر لا تنفعه شفاعة الشافعين. يستفاد من هذا الحديث: كرم النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث لا يرد سائلًا سأل ما يجوز. ويستفاد منه أيضًا: إذا قلنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى عبد الله بن أبي هذا مكافأة لأبيه حينما أعطى العباس قميصه في أسرى بدر، فيؤخذ منه: مكافأة المعروف بمثله، وهذه الفائدة وإن كان في أخذها من هذا الحديث شيء من الصعوبة، لكن قد دلت عليه الأدلة الأخرى، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صنع إليكم معروفًا فكافئوه))؛ ولهذا لا ينبغي للإنسان إذا أسدى إليه أحد من الناس معروفًا أن يأخذه ويسكت لابد أن يكافئه بالمال وإما بالدعاء إذا كان ككم يكافأ بالدعاء. ويستفاد منه: أن المنافق يعامل معاملة المسلم وإن كان معروف النفاق، لا سيما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))، فكان صلى الله عليه وسلم

لما يرى من المصلحة العظيمة في أن يعامل هؤلاء على ظاهر الحال وإن كان يعلمهم رأى أن يعاملهم معاملة من ينافقون فيه وهم المسلمون. وفيه دليل على مشروعية الكفن: لقوله: ((يكفنه)). وفيه دليل على جواز التكفين بالقميص لقوله: ((أعطني قميصك)). وفيه دليل على جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم لقميصه وإزاره ووضوئه وما أشبه ذلك، وهل هذا ثابت لغيره؟ الصواب: لا، وان غير النبي صلى الله عليه وسلم مهما بلغ من العلم والفضل والكرم لا يتبرك بآثاره. فإن قلت: ما الدليل على أنه يتبرك بآثاره مع أن العلة هي الصلاح؟ فالجواب: أن صلاح الرسالة والنبوة لا يساويه صلاح آخر هذا من جهة فالقياس ممتنع، ثانيًا: من جهة الأثر أن الصحابة- رضي الله عنهم- أنفسهم كانوا يعرفون التفاضل بينهم، وكانوا يقرون أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ومع ذلك كانوا لا يتبركون بآثارهم، فنقول لأي إنسان أراد أن يتبرك بشخص عالٍ أو من يزعم أنه ولي، نقول له: هذا ليس بمشروع؛ لأن ليس من عادة الصحابة ولا من سننهم. ويستفاد من هذا الحديث: أن المودة بالقرابة لا تعد من المودة في الدين، يؤخذ من أن عبد الله بن أبي ما سأل هذا لأبيه إلا من أجل محبته أن يخفف الله عنه، فإن قلت: هذا يرد عليه قوله تعالى: {لَّا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر ..... } إلى قوله: {عشيرتهم} [المجادلة: 22]. فالجواب: أن المودة والمحبة الطبيعية التي متقضاها القرابة شيء آخر، فالمواد هو: الذي يسعى في طلب المودة أكثر مما تقتضيه الفطرة، ويدلك على هذا قوله تعالى: {قل إن كان ءابآؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب} هذا خبر كان {إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربَّصوا} فإذا قدم محبة هؤلاء على محيبة الله ورسوله فهذا هو الممنوع؛ ولهذا تههدهم الله بقوله: {فتربَّصوا حتَّى يأتي الله بأمره} [التوبة: 24]. وربما نأخذ فائدة: أن تأليف رؤساء الكفر لأجل أن يتألف الإنسان قومه، ثم إن فيه أيضًا تأليفًا لعبد الله بن أبي الابن، وذاك لا ينتفع بالقميص بلا شك. * * *

استحباب الكفن الأبيض

استحباب الكفن الأبيض: 521 - وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((البسوا من ثيابكم البياض، فإنَّها من خير ثيابكم، وكفِّنوا فيها موتاكم)). رواه الخمسة إلا النَّسائيَّ، وصحَّحه التِّرمذيُّ. ((البسوا من ثيابكم البياض))، هذا على سبيل الإرشاد وليس على سبيل الوجوب، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس غير البياض، وكذلك الصحابة يلبسون ويقرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان ينهاهم عن المعصفر وعن الأحمر، فدلَّ ذلك على أن الأمر هنا ليس للوجوب. وقوله: ((من ثيابكم)) ((من)) هذه لبيان الجنس، وقوله: ((البياض)) المراد بالصفة هنا: الموصوف، يعني: الأبيض، وقوله: ((فإنها من خير ثيابكم)) أي: من خير ما تلبسون، وقوله: ((وكفنوا فيها موتاكما)) هذا الشاهد من هذا الحديث في باب الجنائز، ((كفنوا)) سبق لنا أن الكفن بمعنى التغطية: والستر، ومنه قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتًا (25) أحياءً وأمواتًا} [المرسلات: 25، 26]. وقوله: ((موتاكم)) النسبة هنا نسبة قرابة أو نسبة جنس؟ نسبة جنس، حتى الذي غير قريب لك من المسلمين إذا مات فإنه يجب عليك أن تكفنه؛ لأن تكفينه فرض كفاية. ففي هذا الحديث: إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم إلى استعمال البياض قي لباس الأحياء وفي لباس الأموات. وفيه أيضًا: قرن الحكم بعلته لقوله: ((فإنها من خير ثيابكم))، وقرن الحكم بالعلة له ثلاث فوائد: الفائدة الأول: الإشارة إلى أن هذه الشريعة لا تأمر بشيء ولا تنهي عن شيء إلا لحكمة. هذه واحدة. ثانيًا: زيادة طمأنينة الإنسان؛ لأن الإنسان إذا عرف علة الحكم فإنه يطمئن إليها أكثر. الثالث: إمكان القياس على المعلل بما يشاركه في العلة فيقاس عليه في الحكم، ويقال: حكمهما واحد، مثال ذلك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه)). هذه العلة أعلِّت لحكم واحد وهو التناجي بين اثنين دون الثالث، لكن لكل ما كان يحزن المؤمن فإنه يقتضي هذا الحديث أن يكون منهيًا عنه؛ لأن العلة وهي الأحزان موجودة، فهاذ المثال من أبرز ما يكون على ما ذكرنا، وأظهرها أن الحكمة مقرونة بالحكم، يستفاد منه هذه الفوائد الثلاث.

ويستفاد من الحديث: مشروعية التكفين بالبياض وهو كذلك، فإن كفِّن بغير الأبيض فهو جائز، لكنه لا يكفن في ثوب محرم كما لو كفن الرجل بحرير فإن ذلك حرام، أو كفن الرجل أو المرأة بمصوَّر- ثياب فيها تصاوير- فإن ذلك حرام، لو كفنوا بمغصوب كذلك حرام سواء كان رجلًا أو امرأة، وهل تكفن المرأة في الحرير؟ إذا قلنا: بجواز تكفين المرأة بالحرير حتى ولو كان ظاهر الحديث العموم- ((أحل لإناث أمتي)) - فإنه قد يقال: إنما أحل للنساء في حال الحياة لحاجتهن إلى التجمل، وأما بعد الممات فلا حاجة، فنقول: تتجمل لمن؟ لكن إذا قدرنا أنه ليس من باب الإسراف- وقد يكون الحرير رخيصًا مثلًا-، أو لا نجد إلا هذا الحرير يجوز. ويستفاد من هذا الحديث: الإرشاد إلى لبس البياض، وهو عام للرجال والنساء؛ لأن قوله: ((البسوا)) وإن كان موجهًا للرجال فالأصل اشتراك النساء مع الرجال في الأحكام، إلا ما قام الدليل عليه، كما أن الحكم الموجه إلى النساء يشمل الرجال إلا ما قام الدليل عليه، ففي قوله تعالى: {والئين يرمون المحصنات ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ...... } [النور: 4]. لو أن أحدًا رمى محصنًا من الرجال هل يجلد؟ نعم، يجلد ثمانين جلدة؛ لأن الحكم المخصص به النساء يشمل الرجال إلا بدليل، إذن يجوز للمرأة أن تلبس البياض لكن بشرط ألا يكون تفصيله كثياب الرجال؛ لأنه إذا كان تفصيله كثياب الرجال صار تشبهًا، والنبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، وقد مر علينا مسألة غريبة في باب الإحداد على الميت ولعلكم تذكرونها وهي: أن الفقهاء- رحمهم الله- يقولون: يجوز للمحادة أن تلبس الأبيض ولو كان حسنًا، ولكن ذكرنا أن ذلك ليس بصحيح، هم يعللون يقولون: هذا الحسن من طبيعته ما أضيف إليه لون أو ما أشبه ذلك حتى نقول: إنه يحرم، ولكن سبق لنا أن العبرة بالتعريف أو بالحد والضابط دون الأجزاء، والضابط أنه يحرم على المحادة أن تلبس كل شيء يدعو إلى النظر إليها ويرغب في جماعها، وعلى هذا تمنع من الأبيض، أقول: إن لباس المرأة البياض لا بأس به، ولكن هل يجوز لها أن تخرج بالبياض بدون أن يكون عليه عباءة؟ يقولون: إن الأبيض في بعض البلاد لباس عادي مثل الأسود ولا يهتمون به، لكنه عندنا وخصوصًا في نجد يرون أن البياض لباس زينة، وبناء على ذلك لا يجوز للمرأة أن تلبس الأبيض ولو كان عليها عباءة، ما دام أن العباءة ليست ضافية على كل البدن؛ لأنه إذا كان لباس زينة صار من باب التبرج. * * *

استحباب إحسان الكفن

استحباب إحسان الكفن: 522 - وعن جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كفَّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه)). رواه مسلمٌ. المراد بالأخ هنا: الأخ في الدين، فيشمل من جمع بين الأخوتين: أخوة النسب وأخوة الدين، وقوله: ((فليحسن كفنه))، الإحسان نوعان: أحدهما: أن يأتي بقدر الواجب وهذا واجب، والثاني: أن يحسن أكثر من ذلك وهذا سنة، وإحسان الكفن ليس معناه أن ننظر إلى أغلى ما يكون من الأكفان ونكفنه به، ولكن إحسان الكفن ما وافق الشرع؛ لأن الإحسان حقيقة هو ما وافق الشرع، فكل شيء موافق للشرع فهو حسن، وكل شيء مخالف للشرع فهو سيئ وليس بالحسن، وهذا نظير قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا قتلتم فأحسنوا القتلة)). وبينا فيما سبق أن هذا لا ينافي الرجم الثابت للزاني المحصن؛ لأن المراد بإحسان القتلة: أن تكون متمشية على الشريعة. فيستفاد من هذا الحديث: الأمر بإحسان الكفن لقوله: ((فليحسن كفنه)) بحيث يكفنه على الوجه المشروع. ثانيًا: استعمال الألفاظ التي تجلب الحنو والشفقة لقوله: ((أخاه)). هل يؤخذ من هذا الحديث أن غير المسلم لا يكفن لقوله: ((إذا كفن أخاه))، أو يقال: إنه مسكوت عنه؟ الظاهر: أنه مسكوت عنه؛ لأنَّا لو أردنا أن نأخذ بالمفهوم لقلنا، وإذا كفن غير المسلم فلا يحسن كفنه فيكون ذلك دليلًا على جواز التكفين، ولكن بدون إحسان، فالذي يظهر: أنه لا يؤخذ من الحديث عدم تكفين الكافر، وإنما يؤخذ من عمومات أخرى وهو أن الكافر ليس له حرمة، وإذا كان ليس له حرمة فإن المسلم لا يتولاه إلا على سبيل دفع أذيته فقط، بأن يخرج به إلى مكان يحفر له ويرمي به في الحفرة؛ لئلا يتأذى الناس برائحته ويتأذى قريبه بمشاهدته)). هل يجمع بين الرجال في الدفن، ومن يقدَّم: 523 - وعنه رضي الله عنه قال: ((كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرَّجلين من قتلى أحدٍ في ثوبٍ واحدٍ، ثمَّ يقول: أيُّهم أكثر أخذًا للقرآن؟ فيقدِّمه في اللَّحد، ولم يغسَّلوا، ولم يصلَّ عليهم)). رواه البخارسُّ. ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين)) أي: يأمر بذلك لأنَّا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يباشر التكفين، وقوله: ((من قتلى أحد)) ((قتلى)): جمع بين قتيل، بمعنى: مقتول، فهو فعيل بمعنى مفعول،

وقوله: ((أحد)) فنسبه إلى المكان وهو الجبل المشهور، وكانت الوقعة في شوال في السنة الثالثة من الهجرة، بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش الذين قدموا للأخذ بالثأر من الرسول صلى الله عليه وسلم حين قتل زعماءهم في بدر، والقصة مشهورة، كانت الهزيمة في أول النهار على المشركين لكن حصل شيء من المعصية في توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الجند والتنازع، أشار الله إليه بقوله: {حتَّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم مّن بعد ما أراكم مَّا تحبُّون} [آل عمران: 152]. أين الجواب إذا؟ من بلاغة القرآن أنه لم يذكر الجواب لأجل أن يذهب الذهن في تقديره كل مذهب، فممكن أن نقدر: وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون فحصل لكم ما تكرهون، أو فحلت بكم العقوبة أو ما أشبه ذلك. وقوله: ((يجمعهم في ثوب واحد)) هل المعنى: أنه يشق الثوب بين الاثنين، فيكفن هذا في بعضه وهذا في بعضه لئلا تمس بشرة كل إنسان بشرة الآخر، أو المعنى: أنه يجمعهم في ثوب واحد ملتصقين؟ أما الأول فهو أقرب، وأما الثاني فهو أقرب إلى ظاهر الحديث، ولكن على التقديرين ففيه إشكال عظيم نرجو الله أن ييسر حلَّه ذلك الإشكال: أن المعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفن أهل أحد في دمائهم وثيابهم، ومن المعلوم أن كل واحد منهم عليه ثوب فكيف يحتجون إلى أن يجمع الرجلان في ثوب واحد وكل واحد معه ثيابه؟ الجواب على ذلك أن يقال: إن الثياب ليست ضافية بحيث تشمل الجسم كله؛ لأن الرأس في الغالب يكون بارزًا وعليه البيضة التي تقي من السلاح، والقدمان أيضًا في الغالب تكونا مكشوفتين؛ لأن المعروف من الصحابة- رضي الله عنهم- أنهم انتهوا عما نهى عنه الرسول من تنزيل الإزار إلى أسفل الكعبين، وإذا كان كذلك فلابد أن يكمل الكفن من ثياب أخرى، وهذا يرجح الاحتمال الأول بأنه يأخذ من هذا ليكمل بهذا وتتم المسألة، ويمكن أيقال: عن أعلى الجسم من الرجلين يفصل الرسول صلى الله عليه وسلم بينها بالخرقة، وأما الرجلان فقد يضم بعضهما، والمسألة ما زالت عندي مشكلة حتى مع هذا الاحتمال. ثم يقول: ((أيهم كان أكثر أخذًا للقرآن)) ((أخذًا)) ما الذي نصبها؟ تمييز لأكثر. وقوله: ((أيهم أكثر أخذًا للقرآن)) فيه إشكال؛ لأن قوله: ((يجمع بين الرجلين)) يقتضي أن يكون أيهما أكثر، ((وأيهم)) جمع، والحديث بين الرجلين، فيقال: إن في هذا إشارة إلى رواية أخرى: ((يجمع بين الرجلين والثلاثة)). أو يقال: إنه شاهد لما قبل من أقل الجمع اثنان. وقوله: ((فيقدمه في اللحد يجعله مقدمًا على صاحبه))، كيف يقدمه في اللحد وهم في ثوب واحد؟ هذا الثوب الواحد إذا قدرنا أنه قد طوي عليهما معًا ينظر الأكثر للقرآن فيقدم في الكفن إذا وضع في القبر، وربما نقول: فيقدمه في اللحد، إن هذا يدل على أن قوله: ((يجمع الرجلين في

ثوب واحد)) يعني: يوزع الثوب الواحد على الرجلين، وإذا أنزلهما في اللحد قدّم الأكثر قرآنًا. وقوله: ((ولم يغسلوا)) يعني: ما غسلهم أحد لا بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بعدم أمره، وقوله: ((ولم يصلِّ عليهم)). كذلك فإن قلت: ألم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر أيام حياته خرج إلى شهداء أحد وصلى عليهم. فالجواب: أن الصلاة التي صلاها على شهداء أحد في آخر حياته ليست هي الصلاة على الميت؛ لأن الصلاة على الميت إنما تكون متى؟ عند موته، ولكن الصلاة التي صلاها على شهداء أحد في آخر أيام حياته قال أهل العلم: إنها صلاة دعاء كالمودع لهم صلى الله عليه وسلم. يستفاد من هذا الحديث: جواز جمع الرجلين في لحد واحد، ولكن هذا عند الحاجة، والحاجة قد تكون كثرة الموتى وتعب الأحياء في حفر القبور، وقد تكون الحاجة لعدم قدرة الإنسان على الحفر مثل لو كان الميت رجلين ونحن في بر وليس معنا آلات نحفر بها فإنه بلا شك يشق علينا أن نحفر لكل واحد قبرًا، وإن لم يكن الأموات كثيرين، المهم متى دعت الحاجة إلى ذلك جاز. وهل دفن الرجلين في لحد واحد حرام أو مكروه؟ ذهب بعض أهل العلم إلى أنه حرام، وذهب آخرون إلى أنه مكروه، فالمشهور من المذهب أنه حرام إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، واختار شيخ الإسلام أنه يكره إلا لحاجة، وعلى هذا فما يوجد الآن في بعض البلاد الإسلامية يجمع بين الأموات جميعًا يحمل على أن ذلك على سبيل الحاجة، وأن الحكم عند هؤلاء العلماء الذين أفتوهم به على سبيل الكراهة. ومن فوائد الحديث: فضيلة القرآن لقوله: ((أيهم أكثر أخذًا للقرآن)). ومن فوائده: أن المعتبر بالأقرأ الأكثر قراءة، فيؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، يعني: أكثرهم قراءة بدليل هذا الحديث أنه قدمه لكثرة قراءته، وبدليل حديث مالك بن الحويرث: ((وليؤمكم أكثركم قرآنًا)). ومن فوائد الحديث: ما أشرنا إليه قبل قليل، وهو أن الشهيد لا يغسل، والحكمة من ذلك إبقاء دمه عليه؛ لأنه يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا: اللون لون الدم، والريح ريح المسك. وهل يستفاد منه: أن ينبغي إبقاء أثر العبادة المكروه عند الناس أو لا؟ الجواب: قال بعض العلماء ذلك؛ ولهذا قالوا: ينبغي للمعتكف أن يخرج يوم العيد غير متجمل، يخرج بثياب اعتكافه،

قالوا: لأنها أثر عبادة فاستحب أن تبقى على، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن وساخة الثوب بالنسبة للمعتكف ليس من أجل الاعتكاف، ولكن يكون من المكث؛ ولهذا المعتكف يجوز أن يغتسل ويجوز أن يتطيب، ويجوز أن يلبس الثياب الجميلة هذا كله ليس له دخل بالاعتكاف، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله وهو في اعتكافه، الوسخ التي في ثياب المعتكف ليس من أثر العبادة حتى يقاس على دم الشهيد. لكن لو قال قائل: المحرم يكون أشعت أغبر لأنه مكشوف الرأس والبدن ليس عليه ثياب معروفة، فهل نقول: يسن للمحرم أن يبقى الشعت والغبر عليه، هل يشرع له ذلك أو له أن يغتسل ويزيل هذا الشيء؟ الجواب: الثاني: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل وهو محرم، وعلى هذا فإن هذه المسألة لا يقاس عليها بل هي مسألة خاصة بالشهداء. ومن فوائد الحديث: أنه لا يصلى على الشهيد لقوله: ((ولم يصل عليهم)) قال أهل العلم: وذلك لأن الصلاة على الميت شفاعة بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه)). ومن قتل شهيدًا فقد كفِّرت خطاياه فلا يحتاج إلى شافع، وهذا تعليل جيد. وهل يلحق بالشهيد- شهيد المعركة- من قتل ظلمًا، لأن من قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، فهل يلحق بذلك؟ فيه خلاف، والمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنه يلحق بشهيد المعركة، وأن من قتل ظلمًا فإنه لا يغسل ولا يكفن لا يصلى عليه، وإنما يدفن بدمه وثيابه بدون صلاة، ولكن هذا القول ضعيف لوجود الفارق بين هذا وبين المقتول ظلمًا، ما الفرق بينهما؟ أولًا: أن هذا قتل مجاهدًا في سبيل الله، وذاك قتل غير مجاهد في سبيل الله. ثانيًا: أن هذا هو الذي عرض نفسه للقتل ليقتل ي سبيل الله عز وجل وأما هذا فإنه فارٌّ من القتل ولكنه قتل ظلمًا. الثالث: أن هؤلاء الشهداء في سبيل الله عز وجل لا يساويهم أحد في الفضل والدرجة كما قال تعالى: {ولا تحسبنَّ الَّذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169]. وشهادة المقتول ظلمًا كشهادة المطعون والمبطون ونحوهم؛ لأن الكل منهم أتاه الموت بغتة ومفاجأة

كراهة المغالاة في الكفن

فلا يكون مثل الذي قتل في سبيل الله، فالصحيح: أن المقتول ظلمًا يجب أن يغسل ويكفن ويصلى عليه كسائر المسلمين. فائدة: قال العلماء: الشهيد إذا بقي حيًّا ثم مات بعد ذلك فإنه يثبت له أحكام غيره من التغسيل والتكفين والصلاة عليه، لكن إذا قتل في نفس المعركة فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه. ظاهر الحديث أنه لا يغسل ولو كان عليه جنابة، وجهه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما استفصل، وهو كذلك فصوابه أن الشهيد لا يغسل ولو كان جنبًا، وأما من قال: غنه كان جنبًا وجب تغسيله فإن قوله ضعيف؛ لأن غسل الجنابة إنما يجب على من قام إلى الصلاة لقوله تعالى: {يأيُّها الَّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصَّلاة} حتى قال: {وإن كنتم جنبًا فاطَّهروا} [المائدة: 6]. وهل هؤلاء الذين قتلوا يقومون إلى الصلاة؟ وأما استدلال بعضهم في القصة المشهورة في حنظلة الذي قتل في احد شهيدًا وغسلته الملائكة؛ فإن هذا على تقدير ثبوت القصة لا يدل على أن من كان جنبًا وجب أن يغسل؛ لن هذا من بابا الكراهة لهذا الرجل، ثم إن تغسيل الملائكة ليس عن تكليف ما يكلف بنو آدم ولو كان هذا من الواجب لقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، ومن كان جنبًا فافعلوا به هكذا، والصواب: أنه لا يغسل مطلقًا حتى ولو علمنا أنه قتل شهيدًا وهو جنب. كراهة المغالاة في الكفن: 524 - وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: ((سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: لا تغالوا في الكفن، فإنَّه يسلب سريعًا)). رواه أبو داود. ((لا تغالوا)) مأخوذة من الغلو، والمعنى: لا تبلغوا الغاية في الغلو في الكفن الذي يكفن فيه الميت، وعلل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنه يسلب سريعًا؛ أي: تأكله الأرض ويسلب عن الميت سريعًا، وقوله: ((سريعًا)) أمر نسبي بحسب الأرض؛ لأن من الأراضي ما يتأخر فيها سلب الكفن، ومنها ما يسلب، والغالب أن الأرض إذا كانت محالة أنه يسرع فيها سلب الكفن، وأما إذا كانت رملية باردة فإنه يتأخر. وعلى كل حال: فإن هذا الحديث يدل على أنه لا ينبغي المغالاة في الكفن، وإنما يكفن بما ليس فيه إسراف ولا مجاوزة حد.

وفي هذا الحديث من الفوائد: النهي عن المغالاة فيه والزيادة، وهو شامل للكمية والكيفية. وفيه أيضًا: تعليًا الأحكام لقوله: (فإنه يسلب سريعًا) وفيه: حسن تعليم الرسول (صلى الله عليه وسلم)؛ حيث ذكر الحكم مقرونًا بعلته لما فيه من الفوائد، من ذلك- وقد سبقت لنا: بيان سمو الشريعة، وأن أحكامها مقرونة بالحكمة وطمأنينة المكلف. فإذا قال قائل: المؤمن مطمئن لحكم الله سواء ذكرت العلة أو لم تذكر. قلنا: ولكن ليزداد طمأنينة؛ لأن الإنسان كلما أتته البراهين ازداد قوة ويقينًا، فليس الخبر كالمعاينة. وأما الفائدة الثالثة: فهو القياس على ما شارك هذا في العلة، مثال ذلك قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحى إلى محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145]. قوله: {فإنه رجس} يستفاد منه تحريم كل ما كان رجسًا أي: نجسًا، وعلى هذا فيلزم من كون الشيء نجسًا أن يكون حرامًا، ولا يلزم من كون الشيء حرامًا أن يكون نجسًا كما سبق. حكم تغسيل الرجل لزوجته والعكس: 525 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لها: "لو مت قبلي لغسلتك" الحديث رواه أحمد، وأبن ماجه، وصححه ابن حبان. "لو" هذا شرطية غير جازمة، ولكنها شرطية فيها شرط وجوابه، وقلوه: "مت أو مت" يجوز الوجهان، إن كانت من مات يميت فهي مت، وإن كانت من مات يموت فهي مت، وإن كانت من مات يموت فهي مت، وهما لغتان في هذا الفعل. وقوله: "لغسلتك" هذا جواب الشرط، يعني: أن الرسول (صلى الله عليه سولم) خاطب عائشة بهذه الجملة بأنها لو ماتت قبلها لغسلها، قال ذلك نم باب التحبب يعني: أنه يتولاها - عليه الصلاة والسلام- حتى بعد مماتها فغيسلها هو بنفسه. وأتى المؤلف بهذا الحديث في كتاب الجنائز لفائدة- وهي الشاهد- جواز تغسيل الرجل زوجته، وجه الدلالة من الحديث: أنه قال: "لو مت قبلي لغسلتك"، ولو كان حرامًا ما غسلها، فيستفاد من الحديث هذه الفائدة وهي محل الشاهد.

ويستفاد منه: بيان منزلة عائشة عند الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وكانت أحب نسائه اللاتي معه. ومن فوائده: أنه ينبغي للإنسان أن يتودد إلى زوجته، كما ينبغي لها أيضًا أن تتودد إلى زوجها، وفي الحديث: "تزوجوا الودود الولود"، حتى أنه أبيح للرجل مع زوجته والزوجة مع زوجها الكذب الذي ينبني عليه المحبة والمودة، هو ليس كالكذب ولكنه الكذب الذي فيه مصلحة؛ لأن المودة بين الزوجين لها فوائد عظيمة. فإن قال قائل: كيف يغسلها وقد بانت منه؟ الجواب أن نقول: لأنه قد بقى شيء من المتعلقات الزوجية وهي الإرث، وأيضًا فإن النصوص دلت بعمومها على أن الإنسان إذا مات وزوجته مع أو بالعكس فإنها تكون زوجته في الآخرة: {ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريتهم إنك أنت العزيز الحكيم} [غارف: 8}، وقال تعالى: {والذين أمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} [الطور: 21]، فآثار النكاح باقية. وهل تغسل المرأة زوجها؟ نعم، من باب أولى، لأن المرأة باق حق الزوجية في حقها، وهو العدة فهي أبلغ من الزوج، فيجوز إذن للزوج أن يغسل زوجته وللزوجة أن تغسل زوجها. هل المملوكة كذلك؟ إن قلتم: نعم؛ أخطأتم، وإن قلتم: لا، أخطأتم، فيه تفصيل: إن كانت المملوكة سرية له حتى مات فهي كالزوجة، لأنها من محللاته أو بعبارة أصح: لأنها فراش له، وإن كان لم يتسرها أو كانت مزوجة بغيرة فإنها لا تغسله. 526 - وعز أسماء بنت عميس (رضي الله عنها): (أن فاطمة (رضي الله عنها) أوصت أن يغسلها علي)، رواه الدارقطني. هذا الحديث نقول فيه كما قلنا في حديث عائشة وهو جواز تغسيل الرجل زوجته. ويستفاد منه أيضًا: جواز وصية الرجل إلى من يغسله، وجهه: أن فاطمة أوصت، وأن عليًا فعل ذلك، هل الدليل بوصية فاطمة، أو بتنفيذ علي؟ أما فاطمة فهي صحابية والاستدلال بما فعلت ينبني على الاستدلال بقول الصحابي، وأما علي إذا كان نفذ ذلك فالاستدلال بفعله ظاهر؛ لأنه [من الخلفاء الراشدين المهديين].

حكم الصلاة على المقتول في حد

حكم الصلاة على المقتول في حد: 527 - وعن بريدة (رضى الله عنه) في قصة الغامدية التي أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) برجمها في الزنا قال: "ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت". رواه مسلم. الغامدية هذه من غامد، وغامد بطن من جهينة، ولذلك ذكرها بريدة (رضي الله عنه) باسم الغامدية، وذكرها عمران بن حصين باسم امرأة من جهينة، وههما واحدة، هذه المرأة جاءت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهي حبلى من الزنا واعترفت عنده بأنها زنت، وأمرها النبي (صلى الله عليه وسلم) أن تتوب إلى الله وأن تستغفر وأن تستر على نفسها، فقالت: يا رسول الله، أتريد أن تردني كما رددت ماعزًا؟ ! مصممة (رضي الله عنها) على أن يطهرها من هذا الزنا، فقال: ما شأنك؟ قالت: إنها حبلي من الزنا، ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر أن تنتظر حتى تضع ثم تفطم الولد، فلما فطمت الولد، فلما فطمت الولد أمر بها فرجمت، فكان من جملة من رجمها خالد بن الوليد (رضي الله عنه) فحصل عليه دم من رأسها حين ضربه فسبها، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): "لقد تابت توبة لها تابها صاحب مكس لغفر له"، ولما توفيت (رضي الله عنها) صلى عليها النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال له عمر: يا نبي الله، تصلي عليها وقد زنت، فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لو سعتهم"، هذا بعد أن ماتت (رضي الله عنها). وقول المؤلف: "أمر بها فصلى عليها ودفنت" ليته أتى بحديث عمران بن حصين الذي فيه التصريح بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى عليها، وأن عمر كلمة في ذلك؛ لأن قوله هنا: "ثم أمر بها فصلى عليها" ظاهره أنه هو (صلى الله عليه وسلم) لم يصل عليها، وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعة من أهل العلم وقال: إنه لا ينبغي للإمام أن يصلى على من قتل في حد، ولكن الحديث الصحيح صريح جدًا في صحيح مسلم من رواية عمران بن حصين في أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى عليها بنفسه، فيكون صلى عليها بعد أن أمر بأن يصلى عليها. فيستفاد من هذا الحديث: أولاً: أن الزنا ليس بكفر، وجه ذلك؟ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يصلى عليها، وصلى عليها هو بنفسه، ودفنت مع المسلمين، يتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى وهي: الرد على الخوارج والمعتزلة؛ لأن الخوارج يقولون في فاعل الكبيرة: إنه كافر، والمعتزلة [يقولون: في منزلة بين المنزلتين].

حكم الصلاة على قاتل نفسه

حكم الصلاة على قاتل نفسه: 528 - وعن جابر بن سمرة (رضي الله عنه) قال: "أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) برجل قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه"، رواه مسلم. "أتى برجل" أي: جيء به إليه وهو ميت، "قتل نفسه بمشاقص"، الباء هذه للاستعانة أو للسببية؟ الأقرب أنها للاستعانة كما يقال: ذبحته بالسكين وضربته بالعصا، وقوله: "بمشاقص": جمع مشقص، قال أهل اللغة: والمشقص: نصل عريض، يعني: نصل من السهام لكنه عريض، "وقتل نفسه" الله أعلم ما سبب هذا القتل، لكن قتل النفس محرم من كبائر الذنوب، وقد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن من قتل نفسه بشيء عذب به في جهنم، وإن كان بحديدة فهو يجأ بها نفسه خالدًا مخلدًا في نار جهنم، وإن كان جسمًا فإنه يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها، إن كان مترديًا من جبل فإنه يتردي في نار جهنم خالدًا مخلدًا، المهم: أن من قتل نفسه بسبب عذب به في جهنم، وهذا داخل في عموم قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا) [النساء: 93]. إلا أن العلماء اختلفوا هل من قتل نفسه عليه كفارة أو ليس عليه كفارة؟ فالمشهور من المذهب: أن عليه كفارة، وعلى هذا فلو أن الإنسان حصل عليه حادث بتفريطه أو بتعديه ومات من فعله فإنه يجب أن يخرج عنه كفارة من تركته، بأن يشتري رقبة وتعتق، والصحيح إنه لا يحب كما سيأتي- إن شاء الله-، المهم: أنه قاتل نفسه مخلد في النار كما جاء في الحديث الصحيح. وقوله: "فلم يصل عليه" أي: النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولكن هل صلى عليه غيره؟ يحتمل لأنه لم يقل: وأمر بالصلاة عليه، بل قال: فلم يصل عليه، ولكننا نقول: لو كان غيره لم يصل عليه لقال: فلم يصل عليه بالبناء للمجهول، ولما قال: "فلم يصل" وخص الفعل بالنبي (صلى الله عليه وسلم) دل على أن صلى علي، ويؤيده لفظ رواية النسائي: "أما أنا فلا أصلى عليه". وهذا ظاهر أو كالصريح بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو الذي لم يصل عليه، وأما غيره فقد صلى عليه، ويؤيده من حيث المعنى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان قبل أن يفتح عليه إذا أتى برجل مدين ليس له وفاء لا يصلى عليه، ويقول: "صلوا على صاحبكم". إذن الذي يترجح- إن لم يكن متعينًا- هو أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يصل عليه ولكن الصحابة صلوا عليه.

فيستفاد من هذا الحديث: تعظيم قتل النفس، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) عزره بترك الصلاة عليه، ولكن هل هو تأديب له، أو ردع لغيره؟ الثاني، أما هو فلا يفيده التأديب. ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: أنه يشرع للإمام أو كبير القوم ألا يصلى على قاتل النفس، ولكن هل يكره أو يحرم؟ فيه قولان لأهل العلم، فمنهم من قال: يحرم أني صلى، ومنهم من قال: يكره، والصحيح: أنه راجع إلى مراعاة المصلحة، فإذا تعينت المصلحة في عدم الصلاة عليه وجب ألا يصلى وحرمت الصلاة، وإن كان الأمر ليس ذا أهمية عند الناس فهو إلى الكراهية أقرب، المهم أن المشروع ألا يصلى على قاتل نفسه. ويستفاد من هذا الحديث: أن قتل النفس كبيرة، كيف ذلك؟ لأن الرسول لم يصل عليه، وهذا نوع من العقوبة، وقد حد شيخ الإسلام الكبيرة في بعض كتبه بأنها كل ما رتب عليه عقوبة خاصة فإنه من كبائر الذنوب أيا كانت هذه العقوبة. وهنا سؤال يطرح نفسه: هل قاتل نفسه للتخلص من ويلات الحياة الدنيا ونكباتها هل يفيده ذلك شيئًا؟ يفيده أنه ينتقل إلى عذاب أشد، هو كالمستجير من الرمضاء بالنار كما قال الشاعر: [البسيط] والمستغيث بعمرو عند كربته *** كالمستغيث من الرمضاء بالنار أيهما أهون؟ الرمضاء أهون، فالمهم أن أولئك الذين ينتحرون- والعياذ بالله- ليتخلصوا من ويلات الدنيا ونكدها لا يزيدهم ذلك إلا بلاء وعذابًا، لأنه من حين ما تخرج أرواحهم تخرج إلى العذاب، نسأل الله العافية؛ لأنه كما جاء في الحديث: يخلدوا في النار، وقد مر علينا أن مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة وغيرها من كبائر الذنوب: أن فاعل الكبيرة تحت مشيئة الله قد يعفو الله عنه وإن لم يتب، أما إذا تاب فبالإجماع، لكنه إذا لم يتب فالصيح عند أهل السنة- وهو الحق بلا شك: أنه تحت المشيئة، لأن الله تعالى ذكر آيتين مكتنفين لآية القتل التي فيها الوعيد بالخلود: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد أفترى إثمًا عظيمًا (48)) [النساء: 48]، هذه بعد آية القتل، وهذا يدل على أن الخلود المذكور في آية القتل داخل في هذا، ولكن إذا قيل: إذا كان داخلاً في ذلك وأن القاتل تحت المشيئة فكيف نجيب عن الآية؟ نقول: اختلف في هذا أجوبة أهل العلم، وقد ذكرنا من قبل ثلاثة أجوبة: الجواب الأول:

أن هذا من باب الوعيد، والوعيد إخلافه كرم بخلاف الوعد كما قال الشاعر: [الطويل] وإني وإن أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي أوعدته أو وعدته: الإيعاد بالشر والوعد بالخير، يقول: "لمخلف إيعادي ومنجز موعدي" قالوا: وهذا كرم، وإخلاف الوعيد من كرم الله (عز وجل) ذلك أن يتوعد عبادة على فعل شيء توعدهم بالعذاب عليهم ثم بعد ذلك يعفو ويصفح: . والقول الثاني: أن هذا لمن يستحل القتل {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم} أي: من يقتله مستحلاً للقتل فالعموم مراد به الخصوص {ومن يقتل} هذه عامة ولكنها يراد بها الخصوص؛ أي: مستحلاً للقتل، ولكن الإمام (رحمه الله) أنكر هذا، قال: سبحان الله، إذا استحل قتل المؤمن فهو كافر، قتله أم لم يقتله، وصدق (رحمه الله) وما ها القول إلا كقول من قال في تارك الصلاة: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"، وقال: "من تركها فقد كفر"، قالوا: من تركها جاحدًا لوجوبها نقول: - سبحانه الله- يكفر ولو كان يصلى كل الخمس ونوافلها معها، فلا يصح أن يخصص بهذا، إذن هذا القول ليس بصحيح. القول الثالث: يقولون: إن هذا جزاؤه إن جازاه، فيجعلون الآية على تقدير شرط {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه- إن جازيته- جهنم خلدًا فيها} [النساء: 93}، وهذا كما ترون يسلب الكلام معناه، هذا جزاؤه إن جازيته، كيف يقال هذا؟ أصبح هكذا التهديد لا قيمة له. الرابع: يقولون: إن هذا من باب آيات الوعيد ولا نتعرض له، بل نقول كما قال ربنا: {ومن يقتل مؤمنًا ... عظيمًا}، ونقول: كل مؤمن لا يخلد في النار ونسكت، وهؤلاء تخلصوا من مضيق طلب الجمع بين النصوص، لكنهم ما ظهروا بنتيجة، ما حصلنا علمًا من وراء ذلك. والوجه الخامس: يقولون: إن هذا من باب التهديد الذي يراد به التنفير، وإن كان لا حقيقة له، كما نوحش أولادنا الصغار نقول: جاءكم البعبع، جاءكم الهر، وليس يوجد شيء، لكن من أجل أن يخافوا، وهذا من أضعف الأقوال. والقول السادس: يقولون: إن هذا سبب للخلود، وما يدرينا لعل هذا القاتل الذي استحل هذه الحرمة العظيمة أن يختم الله على قلبه ويطبع، حتى يكون من أهل النار فهو سب، والأسباب لا عمل لها إذا انتفت الموانع، قد يكون السبب قائمًا لكن يأتي معنى ويمنع منه، ومعلوم أن كل الأسباب لا تثبت إلا بوجود الأسباب وانتفاء الموانع، وهذا كما نقول: الولادة

حكم الصلاة على القبر

سبب للإرث، فالأب يرث من أبنه والابن يرث من أبيه، لكن قد يوجد مانع كاختلاف الدين ولا يثبت الإرث، فالقتل سبب للخلود في النار لكن يوجد مانع يمنع من ذلك، وهذا أقرب الأقوال فيما أظن. وعلى كل حال: فإن قاتل النفس- قاتل نفسه- كقاتل غيره من جهة الوعيد كما أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك، كيف لو قتل نفسه بغير مشاقص؟ العلة واحدة فتكون كلمة "بمشاقص" وصفًا طرديًا، وقد علم في باب القياس أن الوصف الطردي لا مفهوم له، الطردي الذي ليس له معنى مناسب كما في حديث: "خيرت بريرة على زوجها حين عتقت وكان عبدًا أسود"، كلمة أسود وصف طردي، لو كان عبدًا غير أسود يثبت التخيير. وهناك وجه سابع: وهو أن الخلود إذا لم يقرن بالتأييد فهو المكث الطويل، وليس المكث الدائم. حكم الصلاة على القبر: 529 - وعن أبى هريرة (رضي الله عنه) - في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد-: فسأل عنها النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: مات، فقال: أفلا كنتم أذنتموني؟ فكأنهم صغروا أمرها، فقال: دلوني على قبرها، فدلوه، فصلى عليها".متفق عليه. - وزاد مسلم، ثم قال: "إن هذه القبول مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم" وقد اختلفت الأحاديث: هل هي امرأة أو رجل؟ ففي بعضها أنها امرأة، وفي بعضها أنه رجل، وفي بعضها أنه إنسان كان يقم المسجد، والاختلاف في هذا قريب. فمن أهل العلم من ذهب إلى تعدد القصة وأنه رجل يقم وامرأة تقم، ولا مانع ولكن هذا ضعيف، وبضعفه اتحاد المخرج وكون القصة سياقها يدل على الوحدة. ومنهم من قال: إن القصة واحدة، لكن الرواة اختلفوا في اسم هذا الرجل، وهذا الاختلاف لا يعد اختلافًا ضارًا في الحديث، لأنه لا يخل بالمقصود منه، قال أهل العلم: والاضطراب في مثل ذلك لا يعد ضعفًا في الحديث، لأن المقصود واللب ليس في تعيين الرجل، إنما المقصود واللب هذه القصة بقطع النظر عن القائل أو الفاعل، ونظير ذلك اختلاف الرواة في حديث ثمن جمل جابر، ونظيره أيضًا، اختلافهم في حديث فضالة بن عبيد في قصة القلادة،

والاختلاف في ثمنها، كل هذا الخلاف يقول فيه أهل العلم: إنه لا يوجب ضعف الحديث ولا الحكم عليه بالاضطراب، كذلك هنا الاختلاف في تعيين الذي يقم المسجد هذا لا يضر، الكلام على أن هذا قصة واقعة حصلت على هذا الوجه، أما على من حصلت فالأمر يسير لا يضر. قوله: "تقم" أي: تنقيه من القمامة، والقمامة هي: الأذى كالعيدان والخرق وما أشبه ذلك. وقوله: "المسجد" "أل" هنا: للعهد الذهني، لأنه هو المفهوم عند الإطلاق، إذن ما هو المسجد؟ هو مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) فسأل عنها النبي (صلى الله عليه وسلم) وكأنه أتفقد هذه المرأة التي كانت تقم المسجد، فسأل عنها أين هي؟ فقالوا: ماتت، فقال: "أفلا كنتم آذنتموني؟ " "أفلا" الاستفهام هنا: يحتمل أن يكون للتوبيخ والإنكار، لأنهم لا يخبروا النبي (صلى الله عليه وسلم) بها، ويحتمل أنه للتعظيم، أي: تعظيم هذه المرأة وتكريمها، وقوله: "أفلا" الفاء هنا: عاطفة، والمعطوف عليه محذوف يقدر بما يناسب المقام، وقيل: إن المعطوف عليه هو ما سبق، ولكن ها قد يمتنع هذا الوجه؛ لماذا؟ لأن النبي (صلى الله علي وسلم) لم يسبق له كلام على هذه الجملة، بخلاف ما يوجد في القرآن من نحو: {أفلم يسيروا} [يوسف 109] {أو لم يسيروا} [غافر: 21] {أثم إذا وقع أمنتم به} [يوسف: 51] , إذن قوله: "أفلا" نقول: إن الهمزة للاستفهام، والفاء للعطف، والمعطوف عليه محذوف، ويقدر بما يناسب المقام، فكيف نقدر؟ نقول: احتقرتم هذه فلا كنتم آذنتموني. وقوله "آذنتموني" أي: أعلمتموني، لأن الأذان بمعني: الإعلام، ومنه قوله تعالى: {وأذن من الله ورسوله ... } [التوبة: 3]. قال: "فكأنهم صغروا أمرها" يعني: رأوا أمرها صغيرًا بحيث لا تحتاج إلى أن يخبر عنها النبي (صلى الله عليه ولسم) وفي سياق آخر: أنه كانت في ليلة ظلماء، فخافوا أن يشقوا على النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا اخبروه، وعلى هذا تكون العلة مركبة من شيئين، أحدهما: أنهم رأوا أنها امرأة صغيرة ليست ذات أهمية بحيث يخبر بها النبي (صلى الله عليه وسلم)، والثاني: أنها كانت ظلمة فخافوا أن يكون ذلك مشقة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فتكون العلة إذن مركبة من شيئين: تصغير أمر المرأة وخوف المشقة على النبي (صلى الله عليه وسلم). يقول: فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "دلوني على قبرها" وهذا أمر وهو واجب التنفيذ على الذين خوطبوا به، لأنهم لو عصوا الرول، وقالوا: لا صار الأمر عظيمًا، وهناك فرق بين من يواجه بالخطاب ومن لا يواجه، فدلوه أو فدلوه؟ الأول، متى تكون الثاني؟ إذا كانت معتلة بالألف صارت فدلوه، أما إذا كان آخرها اللام فإنه يقال: دلوه، فهي إذن فعلها ماض على وزن فعل، أما دلى فهي على وزن فعل فهي رباعية، قال تعالى: {فدلها بغرور} [الأعراف: 22].

"فدلوه فصلى عليها" وهي في قبرها، وزاد مسلم: "إن هذه القبور" "القبور" هذه بدل من اسم الإشارة، و"مملوءة" خبر، و"ظلمة" تمييز، تميز نوع المملوء مثل: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به} [آل عمران: 91]. "وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم"، "وينورها" أي: يجعل فيها نورًا، "بصلاتي عليهم" أي: بدعائي لهم، وليست الصلاة عليهم، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما صلى على قبر واحد لا على القبور كلها، فتحمل الصلاة هنا على الدعاء كما حملنا الصلاة على الأموات على الدعاء في صلاة النبي (صلى الله عليه وسلم) على شهداء أحد في آخر حياته. هذا الحديث قصته واضحة وهي أن امرأة كانت - جزاها الله خيرًا- تنظف المسجد وتزيل قماماته، ففقدها النبي (صلى الله عليه وسلم) وسأل عنها، فأخبروه أنها ماتت، فكأنه بين علو شأنها أو وبخهم حين لم يعلموه بموتها، أما هم فلم يؤذنوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأنهم صغروا شأنها وخافوا أيضًا من المشقة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، لأن الليلة كانت ظلماء، ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يدلوه على قبرها فدلوه، فخرج فصلى عليها - عليه الصلاة والسلام- وأخبر أن دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) لأهل هذه القبور سبب بإنارتها لهم. أما ما يستفاد من الحديث فهو عدة مسائل كثيرة، منها: مشروعية تنظيف المساجد بإزالة القمامة عنها، وجهه: إقرار النبي (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، أو فعل المرأة؟ الأول، وقد سبق لنا أن فعل الإنسان الشيء في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) يعتبر إقراراً، لكن من الرسول إن علم به ومن الله إن لم يعلم به الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وقد مر علينا في كتاب المساجد- في حديث عائشة (رضي الله عنها- أن الرسول (صلى الله عليه ولسم) أمر ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب، وعلى هذا فالمشروع تنظيف المساجد من الأذى وتطيبيها، يعني: تحسينها وتزيينها ووضع الطيب فيها؛ لأنها أماكن عبادة. يتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي أن يجعل في المساجد ما يريح المصلين مثل: التكييف أو المراوح، أو الأنوار إذا كان الناس يحتاجون إليها في الليل وما أشبه ذلك؛ لأن تطييب المسجد مما يريح المصلين فإن طيب الرائحة وإزالة الأذى لا شك أنه سبب لإراحة المصلين. ومن فوائد الحديث: أن جواز خدمة المرأة للمسجد، يؤخذ من إقرار الرسول (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، ولكن كما نعلم جميعًا أن الأشياء المباحة إذا كان يخشي منها شر صارت محذورة حسب ما يترتب عليها من الشر، فأنت لا تأخذ بالجواز مطلقًا، لو أن امرأة شابه جميلة قالت: إنها تريد أن تقم المسجد وتأتي في الليل وتقمه، نقول: لا، لأن هذه يخشي عليها من الفتنة، لكن الأصل الجواز والإباحة. ويستفاد من الحديث: تفقد النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه، وذلك من قوله: "فسأل عنها النبي (صلى الله عليه وسلم)،

وربما يؤخذ منه محبة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لتنظيف المسجد، لأنه سال عنها حين فقد هذا القمم من هذه المرأة. ويستفاد من الحديث: جواز الصلاة على القبر، يؤخذ من قوله: "فصلى عليها" إذن فالصالة على القبر مشروعة سواء كان ذلك من أهل البلد أو من إنسان قادم بعد أن مات الميت ودفن؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) خرج وهو مع أهل البلد، ولكن هل يشترط في جواز ذلك ألا يكون الإنسان عالمًا بموتها؟ بمعنى: هل يشترط أن يكون الإنسان متمكنًا من الصلاة على الميت قبل دفنه أولا يشترط؟ لنفرض مثلاً: إن أحدًا علم بموته فلان، ولكنه قال غدًا أخرج أصلى عليه عند القبر، أما الآن فأنا مشغول، قد نقول في ذلك: إنه لا يشرع، لأن المشروع أن تصلى على الميت حاضرًا، فإذا لم يكن صل على قبره، فإلى متى الصلاة على القبر؟ حدها بعض أهل العلم بشهر، فإذا انتهي الشهر فإنه لا تشرع الصلاة عليه، وعللوا ذلك بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى على قبر إلى شره، استدلوا لذلك بهذا الحديث قالوا: وهذا دليل على التحليل، ولكننا لا نسلم لهذا القول، لماذا لا نسلم؟ لأن صلاة النبي (صلى الله عليه وسلم) على القبر إلى شهر إنما وقعت اتفاقًا لا قصدًا وما وقع اتفاقًا لا يصح أن يكون حدًا، هذه قاعدة: كل شيء وقع اتفاقًا فإنه لا يصح أن يكون حدًا إلا أن يكون هناك دليل على منع هذا الشيء فإنه يخصص ذلك الدليل على المنع بهذه القضية المعينة، يعني: لو كان هناك دليل على أنه لا يصلي على القبر كنهي مثلاً، ثم وجدنا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صلى على قبر إلى شهر ماذا نقول؟ نقول: نبقي العموم على عمومه ونخصه بهذه الصورة المعينة فقط، لكن ليس هناك دليل يقول: لا تصلوا على القبور إلى مدة كذا، أو لا تصلوا على القبور أبدًا، وعلى هذا فما وقع اتفاقًا لا يصح أن يكون حدًا، ومن ذلك تحديد بعض أهل العلم الإقامة التي ينقطع بها أحكام السفر بأربعة أيام استدلالاً بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قدم إلى مكة في اليوم الرابع في حجة الوداع وكان يقصر الصلاة، قالوا: فما زاد على الأربعة لا يجوز قصر الصلاة فيه، فيقال لهم: لو كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أعطانا حكمًا عامًا: إن الإقامة في البلد تنقطع بها أحكام السفر لكنا جعلنا الأربعة أيام حدًا، فلما لم يرد ذلك وقد وقعت القضية اتفاقًا فإنها لا تصح أن تكون حدًا. إذن إذا قلنا: إنه لا يحد بشهر فبكم؟ أي وقت تحدده ستطالب بالدليل، بعضهم قال: إنه يصلى إلى سنه، وبعضهم قال: يصلى إلى الأبد، وبعضهم قال: إلى أن يبلى، وما الذي يعلمنا ببلاه؟ الأراضي تختلف، والناس أيضًا قد يكرم الله بعض الناس بعدم بلاء أجسادهم، لكن

الأنبياء محقق أن الأرض لا تأكل أجسادهم، وقد ذكر لنا بعض الثقات أنهم كانوا يحفرون للسور هنا في غنيزة فمروا على جانب من مقبرة قديمة، فلما حفروا عثروا على قبر فوجودا فيه ميتًا قد بليت أكفانه ولكن جسمه باق كله، حتى إنهم يقولون: شعر لحيته باق؛ ووجدوا منه رائحة ليس لها نظير، فتوقفوا وجاءوا إلى قاضي البلد وأخبروه، فقال: أدفنوه على ما هو عليه ونحو الجدار، فمن الناس من لا تأكله الأرض والتقييد بالبلي فيه نظر؛ لأننا لا نصلى على جسده، ولكن نصلى على روحه، ولهذا لو أن الرجل احترق نهائيًا أو أكلته السباع فإنا نصلى عليه، لكن ذكر بعض أهل العلم كلامًا، يقولون: إذا كان هذا المقبور مات وأنت أهل للصلاة على الميت فصل عليه، وإن مات قبل أن تكون أهلاً للصلاة عليه فلا تصل عليه، لأنه حين موته وأنت من أهل الصلاة فهي مشروعة في حقك، مثلاً: لو كان هذا الميت له عشرون سنه وعمرك تسع عشرة سنة لم يشرع لك الصلاة عليه؛ لأنه مات وأنت لم تخلص، أو لك أربع سنين لا تصل عليه؛ لأنه مات قبل أن تكون من أهل الصالة عليه، ولهذا لا يشرع لنا نحن الآن أن نصلى على النبي (صلى الله عليه وسلم) على قبره صلاة الميت ولا على قبر أبى بكر ولا عثمان ولا غيرهم من الصحابة، لأنهم ماتوا قبل أن نخلق، وهذا القول هو أحسن الأقوال عندي. ومن فوائد الحديث: جواز الإخبار بموت الميت؛ لقوله: "أفلا كنتم آذنتموني؟ "، وعلى هذا فيحمل النهي عن النعي على ما كان معروفًا في الجاهلية من أنهم إذا مات الميت خرجوا بالأسواق وقالوا: مات فلان، مات فلان، تشييدًا لذكره وإشهارًا له فهذا هو المنهي، ومن ذلك ما يفعله الناس الآن، وسنتكلم عليه في الفوائد. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لمن عمل عملاً عامًا في مصلحة عامة أن يشاد بذكره وأن يحترم ويعظم، وجهه: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: "هلا كنتم آذنتموني"، وأنه أمرهم أن يدلوه على قبرها حتى صلى عليها. ومن فوائد الحديث: أن من يصلى على القبر يجعل القبر بينه وبين القبلة لا عن يمينه ولا عن شماله ولا خلف ظهره، يؤخذ من قوله: "فصلى عليها" والمعروف أن الصلاة على الميت يكون الميت هو الذي بينك وبين القبلة. ومن فوائد الحديث: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يعلم الغيب لا ما وقع ولا ما لم يقع يؤخذ من قوله: "أفلا كنتم أذنتموني" و"دلوني على قبرها" فالرسول لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله به. وهل من فوائد الحديث: أن من صلى على الميت لا يعيد الصلاة عليه مرة أخرى؟ يحتمل أن الذين حضروا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) سبق أن صلوا، ويحتمل ألا يكونوا قد صلوا، لكن الظاهر- والله أعلم- أنهم لو صلوا لنقلوا ذلك، وعلى هذا فلا يشرع لمن صلى أن يعيد الصلاة

على الميت مرة أخرى وقال بعض العلماء: بل يعيدها مطلقًا، وقال آخرون: بل يعيدها لسبب، والسبب مثل: أن يصلى عليها جماعة لم يصلوا عليها من قبل فيصلى معهم، وهذا القول اختيار شيح الإسلام ابن تيمية وهو الصحيح، وقد يستدل له بقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة"، يمكن أن يستدل بهذا. ويستفاد من الحديث: جواز إعادة الصلاة على الميت لمن لم يصل عليه، لأن الرسول صلى عليها مع أن الصحابة كانوا قد صلوا عليها من قبل. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن القبور قد تكون ظلمة حتى بالنسبة لقوم صالحين، يؤخذ من أن أهل البقيع كلهم من الصحابة ومع ذلك قال: (إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة" فلا تغتر بالعمل، فإن العمل ليس هو كل شيء، فهؤلاء الصحابة خير القرون قد تكون قبورهم مملوءة ظلمة، كما أخبر بذلك النبي (صلى الله عليه وسلم). ومن فوائد الحديث: أن الدعاء للأموات ينفعهم لقوله: "وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم" أي: بدعائي لهم. ومن ذلك أن يقول الإنسان: اللهم أفسح لهم في قبورهم ونورها عليهم وما أشبه ذلك، فهذا ما ينبغي للإنسان أن يدعو به سواء دعا به حين زيارة المقبرة أو في بيته، أو يدعو في صلاته أن الله يفسح لأموات المسلمين في قبورهم وينور لهم فيها. وهل يؤخذ من الحديث: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يعلم الغيب؟ نقول: إذا كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يعلم بما حدث على ظهر الأرض من موت المرأة وقبرها فكيف يعلم بما في باطن الأرض؟ ! ولكنا نحن نعلم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أخبر بهذا. ومن فوائد الحديث: جواز ذكر المكروه النازل في قوم إذا كان على سبيل العموم، كيف ذلك؟ لأنه معلوم أن كون القبور مملوءة ظلمة هذا فيه كراهة، لكن الرسول قالها على سبيل العموم. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يستطيع أن يجلب الخير لأحد، ولكنه سبب من الأسباب، يؤخذ من قوله: "فإن الله ينورها" فأضاف التنوير إلى الله - سبحانه وتعالى-: ومن فوائد الحديث: إثبات الأسباب يؤخذ من قوله: "بصلاتي عليهم". فالحديث هذا فيه فوائد كثيرة في الحقيقة، وربما لو تأمل الإنسان وجد فوائد أخرى، لكن من الفوائد ما يكون ظاهرًا، ومنها ما يكون قريبًا، ومنها ما يكون بعيدًا، ولكن مهما أمكن من الاستدلال بالسنة أو بالقرآن فإنه أولى من الاستدلال بالنظر والقياس، لكن بشرط أن يكون اللفظ محتملاً لذلك، أما أن تحمل اللفظ ما لا يحتمل فهذا لا يجوز.

وممكن أن يستفاد من الحديث: أنه ينبغي لمن كان في المقبرة أن يذكر ما فيه الترغيب والترهيب لقوله: "إن هذه القبور مملوءة ظلمه" لأن الرسول قالها بعد أن صلى على المرأة، وله شاهد: وهو أن الرسول خرج في جنازة رجل فلما وصلوا إلى القبر ولم يتم اللحد جلس النبي (صلى الله عليه وسلم) وجلس الناس حوله فحدثهم عن حالة الموت، وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة"، وهو حقيقة، فإن الإنسان يمشي بين هؤلاء كانوا أمس على ظهرها كما هو عليها اليوم، بل كانوا أقوى منه وأغنى منه وأعلم منه، وهم الآن مرتهنون بأعمالهم، فلا شك أنها عبرة لكن لمن اعتبر، فالقرآن مثلاً عبرة كما قال الله: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة ... } [يونس: 57]. لكن مع ذلك يتلى على قوم فيزيدهم رجسًا إلى رجسهم - والعياذ بالله- لا ينتفعون به، فالمقابر التي نمر بها كل يوم -إلا ما شاء الله- نجد أكثر الناس غافلين، كأنهم يمرون إلا على أحجار منصوبة على أرض، كأن هؤلاء القوم ما كانوا على الدنيا وهم أكثر منهم ترفًا وتنعمًا وقوة في البدن وفي العقل، ومع ذلك أصبحوا الآن جثثًا في القبور لا يستطيعون زيادة في حسناتهم ولا نقص سيئة من سيئاتهم، فالموعظة في هذا المكان لا شك أنها مناسبة، لكن كوننا يقوم واحد من الناس ويخطب ويعظ هذا ليس بصواب، إنما لو جلس الرجل وجلس حوله أحد وأخذ يذكرهم كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) لكان هذا جيدًا ونافعًا، وأما أن نجعل المقبرة وتشييع الجنائز منابر للخطابة فهذا خلاف المشروع. ممكن أن يؤخذ منه أيضًا: أن من مات في البلد لا يصلى عليه صلاة الغائب. وربما يستفاد من الحديث: أن الذي يضع الأذى في المساجد أن يهان؛ يعني: ضد الإكرام. النهي عن النعي: 530 - وعن حذيفة (رضي الله عنه): "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان ينهي عن النعي"، رواه أحمد، والترمذي وحسنه. قوله: "كان" الجملة خبر "إن" ,"ينهي" الجملة خبر كان، و"كان" إذا كان خبرها مضارعًا فإنها تدل على الاستمرار غالبًا لا دائمًا، وقوله: "ينهي" النهي: طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة معينة وهي المضارع المقرون بلا الناهية، هذا هو النهي، وإنما قلنا: طلب الكف ليخرج بذلك الأمر؛ لأن الأمر طلب الفعل، وليخرج بذلك الاستفهام لأنه طلب الإخبار بشيء،

وقولنا: "على وجه الاستعلاء" خرج به الدعاء، فلا يسمي نهيًا مثل قوله تعالى: {بنا لا تؤاخذنا} هذا دعاء، لأنه ليس على سبيل الاستجداء، وخرج به الالتماس أيضًا وهو: أن توجه هذه الصيغة إلى من كان يماثلك أو يساويك فلا يسمي أمرًا، لأنه ليس على سبيل الاستعلاء، وقولنا: "بصيغة معينة" هي: المضارع المقرون بلا الناهية، خرج بذلك كلمة أترك أو دع، هذه طلب كف لكن ليس بصيغة المضارع المقرون بلا الناهية فلا يسمي نهيًا، وإنما يسمي أمرًا بالترك والأمر بالترك ليس نهيًا، لأن النهي له صيغة معينة وهي المضارع المقرون بلا الناهية، وقولنا: "على وجه الاستعلاء" ولا نقول: من عال على من دونه: لأنه قد يأتي إ، سان هو دونك لكن يكون له فرصة يستعلى عليك كما لو أمسك اللص سلطانًا وهو يمشي وحدة فقال له اللص: أحضر لي الأرض هذه وأخرج منها كذا وكذا، أيهما أعلى؟ السلطان أعلى في الواقع، لكن هذا اللص استعلى يعني: أنه تكلف العلو وإلا فهو ليس من شيمته ولا من حاله. إذن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إذا قال: لا تفعلوا كذا فهو على سبيل الاستعلاء، لا أنه - عليه الصلاة والسلام - متكبر مترفع عن الخلق، لكن أمره فوق أمورنا، وهو مبلغ عن الله -سبحانه وتعالى-. وقوله: "ينهي عن النعي" هل هذه الصيغة كما لو قال الراوي: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): لا تنعوا موتاكم؟ الصحيح أنها كقول الراوي: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا تنعوا موتاكم" وأمن من قال: إن هذا قد يكون فهمًا من الصحابي، وأن الرسول ما نهي لكن كره النعي فليس صريحًا في النهي، فإن هذا ليس بصواب، ذلك لأن الصحابة أدرى بصيغ الألفاظ لأنهم عرب فصحاء؛ ولأن الصحابة أورع من أن يقولوا: نهي أو ينهي وهم لم يتأكد لهم ذلك، إذن فقول الصحابي: "كان ينهي" مساو لقوله: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): لا تفعلوا كذا، ولا فرق لما ذكرت لكم. وقوله: "عن النعي"، النعي: هو الإعلام بموت الشخص، وكلمة "أل" هل هي لبيان الحقيقة أو للعهد؟ إن قلنا: لبيان الحقيقة وقعنا في مشكلة، وإن قلنا: للعهد زال عنا الإشكال، كيف ذلك؟ إذا قلنا: إنها لبيان الحقيقة صار النهي واردًا على النعي من حيث هو نعي (صلى الله عليه وسلم) النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وإذا قلنا: إن "أل" للعهد زال الإشكال، فما هو العهد هنا؟ عهد ذهني؛ يعني: عن النعي المعهود المعروف في الجاهلية كانوا إذا مات الميت خرجوا في الأسواق يقولون: مات لان، ويكيلون له من المدح والثناء ما لا يكون أهلاً له، لكنهم يطوفون في الأسواق وعلى الإحياء يعلمون الناس بموته، هذا هو الذي نهى عنه الرسول (صلى الله عليه ولسم)، وبناء على ذلك فليس في الحديث شيء مشكل، فيكون النعي الذي نهي عنه الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو النعي المعروف في الجاهلية.

يستفاد من هذا الحديث: نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن النعي، وهل هو للكراهة أو للتحريم؟ الأصل في النهي: التحريم، كما أن الأصل في الأمر: الوجوب، هذا هو الذي عليه كثير من أهل الأصول، واستدلوا بأدلة منها: قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) [النساء: 59]. ومنها: قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ... } [النور: 63]. قال الإمام أحمد: الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قوله شيء من الزيغ فيهلك، وهذا خطي لاسيما إذا رد الإنسان قوله الله ورسوله كراهية له، فإنه قد يخرج به ذلك إلى الكفر، فالمهم أن أكثر الفقهاء أو الأصوليين يقولون: إن الأصل في النهي التحريم، والأصل في الأمر الوجوب، وعلى هذا فإذا وردت نصوص من الكتاب أو السنة فيها أوامر تقول: هي واجبة أفعل، وإن لم تفعل فأنت آثم، ما لم يوجد دليل يدل على أن هذا الأمر ليس للوجوب، وسواء كان الدليل بلفظ متصل أو بلفظ منفصل أو بفعل، المهم: أن يأتي دليل، وكذلك نقول في النهي. وقال بعض الأصوليين: إن الأصل في الأمر الاستحباب، والأصل في النهي الكراهة، وعللوا ذلك بأنه لما أمر به الشارع صار مطلوبًا فثبتت المشروعية، والتأثيم بالترك يحتاج إلى دليل، والأصل براءة الذمة وعدم الإثم، فإذن إذا لم يرد دليل على أن هذا الأمر للوجوب إما بعزم من الشارع أو بتوبيخ على تركه أو ما أشبه ذلك فإن هذا الشيء المأمور به يكون مستحبًا لا واجبًا، وكذلك قالوا في النهي، ولا شك أن الأمر فيه إشكال سواء قلنا بأن الأصل الوجوب، أو قلنا بأن الأصل الاستحباب في الأمر، والأصل التحريم في النهي أو الكراهة، لا بد أن يمر بك شيء قد تعجز عن الجواب عنه، إن قلت بالوجوب ورد عليه أوامر كثيرة كلها للاستحباب، وإن قلت للندب ورد عليك أوامر كثيرة كلها للوجوب، وحينئذ لا بد من أن يكون الإنسان فاحصًا وفاهمًا لمورد الشريعة ومصادرها ومعاقلها حتى يتمكن له أن هذا الأمر للوجوب أو للاستحباب، وهذا النهي للكراهة أو للتحريم، والمسألة صعبة؛ ولهذا نجد العلماء يقوم بينهم معارك من الخلاف نحو هذا الأمر، تجد هذا يقول: هذا واجب؛ لأن الرسول أمر به والأصل في الأمر الوجوب، ثم يقول الثاني: هذا مستحب؛ لأن الأصل عدم التأثيم وبراءة الذمة، ولكننا نقول- لصفة التعبد أو بمقتضى العبادة لله (عز وجل): إذا أمرك بأمر فافعله: إن كان للوجوب أثبت

الصلاة على الغائب

عليه ثواب الواجب، وإن كان للاستحباب أثبت عليه ثواب المستحب، وأنت إن تركته على خطر، وكذلك نقول في النهي: إذا نهى عن شيء فاتركه، أنت لو نهاك أبوك عن شيء هل تقول: يا أبت، أنت عازم في النهي أو لست بعازم، أم تنتهي عنه؟ يمكن لو قلت له ذلك أن يلفعك على الرأس ويقول لك: نهيتك انته، أمرتك ائتمر، فلهذا على الإنسان الذي يريد أن يخلص ذمته يفعل ما أمر به وليترك ما نهى عنه إلا إذا قامت الأدلة الواضحة على أن للكراهة في النهي وللندب في الأمر، فهذا ظاهر وإلا فلا شك أن السلامة أن يفعل الإنسان المأمور وأن يدع المنهي بدون أن يستفصل، نعم ربما لو أن أحدًا وقع فيما نهي عنه الشارع وليس عند الإنسان يقين بأن النهي للتحريم قد يتورع المفتى عن تأثيم هذا الرجل أو إلزامه بشيء، ولكن كيف يتخلص من هذا؟ يقول: تب على الله (عز وجل) مما انتهكت من النهي وبهذا يسلم. ثم قال المؤلف: الصلاة على الغائب: 531 - وعن أبى هريرة (رضي الله عنه): "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر عليه أربعًا" متفق عليه. "نعى النجاشي" يعني: أخبر بموته في اليوم الذي مات فهي - وحى من الله- أعظم من التليفون وأسرع وأصدق وأبين، أخبره الله (عز وجل) بأن هذا الرجل مات، والنجاشي اسمه "اصحمة"، وكان ملكًا للحبشة في أفريقيا، وقد أكرم الذين هاجروا من الصحابة إليه، أكرهم وأسلم (رضي الله عنه)، لكنه لم ير النبي (صلى الله عليه وسلم) ففاتته رتبة الصحبة إلا أنه أكمل من التابعين، لأنه أدرك عهد النبوة، والعدل أن يعطي كل إنسان ما يستحق، فالذي أدرك عهد النبوة وشاهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وآمن به صحابي أعلى المراتب، والذي لم يدرك العهد دون ذلك، والذي أدرك العهد ولم يجتمع بالنبي (صلى الله عليه وسلم) بين المرتبتين، ولهذا الصحيح أن هؤلاء أفضل من التابعين من حيث المرتبة يقطع النظر عن الشخص مع الشخص، لكن من حيث المرتبة، هذه المرتبة أفضل من مرتبة التابعين، ويسمى في اصطلاح أهل العلم "مخضرمًا" لأن الخضرمة القطع، انقطع عن مرتبة الصحابة. النجاشي (رحمه الله) أسلم وآمن بالرسول (صلى الله عليه وسلم) وبعث إليه، بل أصدقه صداق أم حبيبة (رضي الله عنه) أصدقه إياه أربعمائة دينار فيما أظن، وهذا الرجل توفى في بلده، وهل عنده قوم يصلون عليه أم لا؟ لا ندري، قد يغلب على الظن أنه ليس عنده أحد، أو عنده من لا يعلم عن صلاة الجنائز، لأنهم بعيدون عن المدينة والمواصلات ليست كوقتنا هذا، على كل حال أخبرهم بموته في اليوم الذي مات فيه، وسماه أخًا لهم.

وقوله: "في اليوم الذي مات فيه" متعلق بـ "نعي" يعني: نعاه في نفس اليوم، وقوله: "خرج بهم إلى المصلى" اختلف الشراح في "المصلى" بعد اتفاقهم على أن المصلى على وزن "مفعل" أي: مكان الصلاة، لأن اسم المكان من الرباعي فما فوق يكون على وزن اسم المفعول، فيقال: مصلى، ويقال: مخرج وما أشبه ذلك، فقوله: "إلى المصلى" اختلف الشراح في المراد به، فقيل: إن المراد به: مصلى الجنائز، وقيل: إن المراد به: مصلى العيد، فرجح الأول بأن هذه صلاة جنازة، فكان الأنسب أن تكون في المكان الذي يصلى فيه على الجنائز، ورجح الثاني بأن "أل" للعهد، والمعهود في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما يقال: المصلى فهو مصلى العيد، وأما مصلى الجنائز فيقيد بالإضافة، ويقال: مصلى الجنائز، فهذا ما يرجح أن المراد به: مصلى العيد، الحكمة من ذلك: إعلاء شأن هذا الرجل، لأن الناس إذا خرجوا إلى مصلى العيد ليصلوا عليه اشتهر ورفع ذكره بين الناس وهذا مرعوف، وهذا عندي هو الأقرب، أنه خرج بهم إلى مصلى العيد تنويهًا بذكر هذا الرجل وإعلاء لشأنه (رحمه الله). قال: "فصف بهم" أي: جعلهم صفوفًا كصفوف الصلاة، و"كبر عليه أربعًا" في حديث جابر (رضي الله عنه): "كنت في الصف الثالث أو الرابع"، وهذا يدل على كثرة الذين خرجوا، لأن مصلى العيد- فيما يظهر- واسع، فإذا كان جابر في الصف الثالث أو الرابع فهذا دليل على أن الناس خرجوا بكثرة، قال: "وكبر عليه أربعًا" ولم يذكر سوى التكبير، لأن المظاهر - والله أعلم- أنه أراد أن سن عدد التكبير حيث اختلفت السنة فيه، فإنه قد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه صلى على جنازة فكبر عليها خمسًا، فلما اختلفت نص على التبكير، وأما ما يقرأ فيما بين التكبيرات فسيأتي - إن شاء الله تعالى-. ففي هذا الحديث عدة فوائد؛ منها: جواز النعي وهو: الإخبار بموت الميت ليصلى عليه، ودليلة: فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم). فإن قلت: هذا فعل، وحديث حذيفة قول، والقول مقدم على الفعل لاحتمال الخصوصية فالجواب: أن الأصل عدم الخصوصية، وأننا مأمورون بالتأسي بالنبي (صلى الله عليه وسلم) قولاً وفعلاً. إذن نقولك احتمال أن يكون خاصًا بالرسول (صلى الله عليه وسلم) الأصل عدمه، ومن العجيب أن الشوكاني (رحمه الله) - مع أنه من العلماء الفحول- يري أنه إذا تعارض القول والفعل أدنى معارضة فالحكم للقول ويلغي الفعل، يقول: لاحتمال الخصوصية، ونحن نقول: إذا أمكن الجمع فإن

الأول الجمع؛ لأن فعل الرسول لا يعارض قوله، ولهذا أمثلة كثيرة منها هذا الحديث" ومنها: حديث النهي عن الشرب قائمًا، مع أنه شرب قائمًا، ومنها: حديث النهي عن استقبال القبلة واستدبارها في البنيان، وله أمثله كثيرة، لكن الصواب في هذا أنه يجب علينا أن نأخذ بالقول والفعل، وأن نجمع بينهما ما استطعنا، نعم إذا لم نستطع وأعيانًا الأمر فيمكن أن نقول: هذا خاص بالرسول (صلى الله عليه وسلم) لأننا لا نعلم وجهًا يمكن فيه الجمع بين فعله وقوله، فحينئذ نقول: فعله خاص به ونبقى على دلالة القول. ومن فوائد الحديث: فضيلة النجاشي (رحمه الله)، وذلك لاهتمام النبي (صلى الله عليه وسلم) به، بل ولعناية الله به من قبل، فإن الله تعالى أخبر نبيه بموته، والنبي (صلى الله عليه وسلم) اهتم به كما سمعتم. فيستفاد منه: فضلية هذا الرجل، وربما يستفاد منه: فضيلة صلاح السلطان، وأن للسلطان أهمية في صلاحه؛ لأن هذا الرجل ليس رجلاً عاديًا، بل هو ملك للحبشة. فقد يؤخذ منه: الاهتمام بصلاح السلطان، ولا شك أن صلاح السلطان له أهمية عظيمة كما قال الإمام أحمد (رحمه الله): لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان، لأن بصلاحه صلاح الأمة. وقد يؤخذ منه أيضًا: فضيلة من انفرد بالصلاح في مكان أهله ذو فساد، يؤخذ من أن النجاشي (رحمه الله) كان في مكان أهل شر وفساد وهو (رحمه الله) صالح، ولا شك أن الصلاح في موضع الفساد له فضل وأهمية، ولهذا ورد في الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "طوبي للغرباء الذين يكونون في الناس كالغرباء"، الناس أهل شر وفساد وهذا أهل صلاح كأنه غريب في هذا البلد، وورد أيضًا في أيام الصبر أن للعامل فيهن أجر خمسين من الصحابة، ولا شك أن انفراد الإنسان بالصلاح في موضع يكثر فيه الفساد يعتبر من نعمة الله عليه وأن له شأنًا ينبغي أن يهتم به؛ ليكون ذلك تشجيعًا لغيره، وكذلك تقويه لهذا الرجل الذي صلح في مكان الفساد. ويستفاد من الحديث: مشروعية الصلاة على لغائب أو جواز الصلاة على الغائب، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على أقوال ثلاثة: فمنهم من يري: أنه يشرع الصلاة على كل غائب أيا كان هذا الغائب، إذا مات ميت في بلد فإنه تشرع الصلاة عليه مطلقًا ولو كان من عامة الناس، وبناء على ذلك رأي بعض أهل العلم- رحمهم الله- أنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن

ينام أن يصلى صلاة الجنازة وينوي بها الصلاة على كل من مات من المسلمين في هذا اليوم والليلة، والقول الثاني: أنه لا تشرع الصلاة مطلقًا على من مات إلا إذا علمنا أنه لم يصل عليه، أو بعبارة أصح: إلا إذا لم نعلم أنه صلى عليه، والثالث: أنه تشرع الصلاة على كل من قدم صدق وإصلاح ونفع في الأمة، كالعالم الكبير والتاجر النافع للناس بماله والسلطان وما أشبه ذلك هذا قول وسط بين القولين، ولكن الأرجح القول الثاني أن الصلاة لا تشرع إلا على من لا نعلم أنه صلى عليه، فإنه يجب علينا أن نصلى عليه. ومن فوائد الحديث: ثبوت آية للنبي (صلى الله عليه وسلم)، حيث كشف له عن موته في نفس اليوم، وهو ظاهر لقوله: "في اليوم الذي مات فيه". ومن فوائد الحديث: أنه تجوز الصلاة على الميت في مصلى العيد، بناء على أن المصلى في الحديث هو مصلى العيد. وفيه أيضًا: التنويه بفضل النجاشي، لأن خروج النبي (صلى الله عليه وسلم) بهم إلى المصلى هذا يوجب أن يكون له ذكر وشهره بين المصلين. ومن فوائد الحديث: مشروعية المصافة في صلاة الجنازة لقوله: "فصف بهم". ومن فوائد: أن صلاة الجنازة حكمها حكم الصلوات الأخرى، فيشرع لها ما يشرع للصلوات الأخرى من الوضوء، أو بعبارة أعم: من الطهارة واستقبال القبلة والتسوك وما أشبه ذلك. لو خاف الإنسان أن تفوته الصلاة على الجنازة وهو ليس على وضوء هل يتيمم؟ هذا مسألة اختلف فيها أهل العلم، فمنهم من قال: إنه يتيم قياسًا على خوف فوات وقت الفريضة، فإن الإنسان إذا لم يجد الماء حتى تضايق وقت الفريضة فإنه يتيمم، قالوا: وكذلك صلاة الجنازة إذا لم يتيمم ويصلى فاتته الصلاة، ومثلها صلاة الجمعة إذا أقيمت وأنت لست على وضوء أو أحدثت وأنت قد حضرت بوضوء فإن ذهبت تتوضأ فاتتك الصلاة، وإن تيممت أدركت الصلاة فهذه أيضًا موضع خلاف بين العلماء، فشيخ الإسلام (رحمه الله) يقول: كل صلاة تفوت إذا تطهر الإنسان لها فإنه يتيم لها، وقاس ذلك على خوف فوات المفروضة المؤقتة. فعلى هذه القاعدة نقول: إن من خاف أن تفوته صلاة الجمعة- إذا ذهب يتوضأ- له أن يتيم ويصلى الجمعة، ولا يذهب فيتوضأ فتفوته الصلاة ثم يصلى ظهرًا. ومن فوائد الحديث: مشروعية التكبير على الجنازة أربعًا لقوله: "وكبر عليه أربعًا" وهل تجوز الزيادة؟ سيأتي بيان ذلك في الحديث الذي يأتي ثم قال المؤلف:

فضل كثرة المصلين على الميت: 532 - وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: "سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا، إلا شفعهم الله فيه"، رواه مسلم. قوله: "ما من رجل مسلم يموت" كلنا يعلم أن "ما" من حيث الإعراب نافية، وأن "من" حرف جر زائد، يعني: زائد لفظًا زائد معنى، يعني: يزيد في المعنى وهو التوكيد، وقوله: "رجل" مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهروها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، و"مسلم" صفة له على لفظه، ويجوز أن نقول: "ما من رجل مسلم" على المحل، كما هي في قوله تعالى: {أعبدوا الله ما لكم من إله غيره}، {ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 65] فهو صفة على اللفظ وعلى المحل، وقوله: "يموت" هل هي صفة أو خبر؟ إذا لت: ما رجل يموت هل تم الكلام؟ لا، لكن عدم تمام الكلام من حيث المعنى لا يدل على أنه لم تتم أركان الجملة، ولننظر إلى قوله: "فيقوم" هذه معطوف على "يموت". قوله: {على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه" هذا الخبر، وقوله: "رجلاً" تمييز، لاشي شيء؟ لـ "أربعون" أي: عدد، وقوله: "غلا شفعهم" أي: قبل شفاعتهم فيه، هذا المراد بالتشفيع يعني: يقبل شفاعتهم. يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "إنه لا يموت رجل مسلم فيقول على جنازته أربعن رجلاً قد سلمت قلوبهم من الشرك فيدعون الله له إلا قبل الله شفاعتهم فيه فقوله: "ما من رجل مسلم" خرج به الكافر، الكافر لو صلى عليه ألف رجل ما نفعته صلاتهم عليه، بل إنه لا يجوز أن يصلى أحد من المسلمين على الكفار؛ لقوله الله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله} [التوبة: 84] الكافر لا يجوز للمسلم أن يصلى عليه. وقوله: "أربعون رجلاً لا يشركون بالله" هل المراد بنفي الشرك: ما يتناول الأصغر والأكبر أو هو بالأكبر فقط؟ نقول: ما يتناول الأصغر والأكبر، لأن الذين قاموا عليه لو كانوا مشركين شركًا أكبر ما صحت صلاتهم أصلاً، ولكن المراد: أنهم لا يشركون أصغر ولا أكبر، وما أعظم هذا الشرط، لأننا لو طبقناه على كثير من الناس لوجدنا أنهم خالون من هذا الشرط فما أكثر المرائين، وما أكثر الذين يحلفون بغير الله (عز وجل)! وما أكثر الذين يتعلقون بأسباب لم يجعلها الله سببًا لا شرعًا ولا قدرًا .. إلى غير ذلك من أنواع الشرك الأكبر! ! هذا ولا بد أن يكون القائم على الجنازة حاليًا من الشرك صغيرة وكبيرة، لأن من كان مشركًا لا يليق أن يكون شافعًا، كيف

نقول: إنه شافع وهو نفسه يحتاج إلى من يشفع له، الشافع لا بد أن يكون خاليًا من الشوائب التي تحول بينه وبين الشفاعة. وقوله: "أربعون رجلاً" هل هي على سبيل التحديد، أو من باب المبالغة، ما الأصل؟ الأصل: التحديد إلا إذا قامت قرائن تدل على أن المراد: المبالغة فإنه يعمل بها، وبناء على ذلك فإنه يفهم من قوله: "أربعون رجلاً" أنه لو صلى عليه تسع وثلاثون فإن شفاعتهم غير مضمونة لكنها ليست ممنوعة وفرق بين أن تكون مضمونة وأن تكون ممنوعة، ممكن أن يشفعهم الله فيه ولو كانوا دون الأربعين، لكن الشيء المضمون هو أن يكونوا أربعين، وقوله: "أربعون رجلاً" يفهم منه أنه لو صلى عليه عشرون رجلاً وعشرون امرأة لا تؤمن الشفاعة، فيقال: لا؛ الظاهر أن هذا القيد من باب الأغلب؛ لأن أغلب الذين يصلون على الجنائز رجال، فإذا جاء القيد موافقًا للأغلب لم يكن لمفهومه حكم، ثم إن كثيرًا من الأحكام الشرعية تعلق بوصف الرجولة، سواء كانت جمع تكسير أو كانت مفردًا أو كانت جمعًا سالمًا، ولا يعني ذلك أن النساء لا يدخلن في هذا إلا إذا وجد دليل يخرج النساء. ففي هذا الحديث فوائد منها: أولاً: أن غير المسلم لا تنفع الشفاعة، لقوله: "ما من رجل مسلم". ثانيًا: أن المرأة لو قام على جنازتها أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا شفعهم الله فيها؛ لأن القيد أغلبي، أو نقول: ما يثبت في حق الرجال يثبت في حق النساء إلا بدليل. ومن فوائد الحديث: أن غير المسلم لا تنفعه الشفاعة؛ لقوله: "رجل مسلم" وهو كذلك، وقد قال الله (عز وجل) {فما تنفعهم شفاعة الشافعين (28)} [المدثر: 48]. ومن فوائده: مشروعية تكثير المصلين على الجنازة طلبًا لنيل شفاعتهم ومن فوائده، أن الدعاء من الشفاعة، يعني: دعاء الإنسان للإنسان شفاعة، فإذا دعوت لأحد فمعناه: أنك شفعت له عند الله -سبحانه وتعالى- وأصل الشفاعة جعل الفرد شفعًا؛ لأن الشافع يأتي مع المشفوع له، فبدلاً من أن يكون المشفوع له واحدًا صار اثنين: هو والشافع. ومن فوائد الحديث: أن الأعداد التي يعينها الشرع توقيفيه، بمعني أننا لا نعلم حكمتها، لأن الرسول قال: "أربعون رجلاً" لماذا لم يكن ثلاثين؟ قد نقول: لأنهم أقل: وإذا قلنا: لأنهم أقل، قال قائل: والأربعون أقل من الخمسين فيأتي الدور، ولكننا نقول: إن هذه الأعداد التي يعينها الشرع ليس للعقل فيها مجال، ولهذا لا يقول قائل: لماذا كانت صلاة الظهر أربعًا، وصلاة العصر أربعًا، لماذا لم تكن ستًا أو ثمانيًا؟ والجواب: أن نقول هذه أمور توقيفية ليس للعقل فيها مدخل.

موقف الإمام في الصلاة على المرأة

ومن فوائد الحديث: فضيلة التوحيد، تؤخذ من قوله: "لا يشركون بالله شيئًا". ومن فوائد الحديث: أن المشرك - ولو شركًا أصغر- ليس أهلاً للشفاعة، من أين تؤخذ؟ من قوله: "لا يشركون بالله شيئًا إلى شفعهم"، وقد يقال: إن هذا في ضمان الشفاعة لا في أصل القول: لأنه قد يكون مشركًا شركًا أصغر وهو لا يخرج به من الإسلام، فقد يقبل الله تعالى شفاعته. ومن فوائد الحديث: مشروعية الإخلاص في الدعاء للميت، لأنك إذا تصورت أنك قد حضرت شافعًا له عند الله فسوف تخلص في الدعاء، وتلح على الله (عز وجل) في الدعاء؛ وهو كذلك لأنه أخوك. ومن فوائده: أنك إذا علمت أن هذا الرجل كافر حرم عليك الصلاة ما وجهه؟ قوله "رجل مسلم" لأنك إذا شفعت في رجل غير مسلم فهذا من الاستهزاء بالله (عز وجل)، وقد يكون متضمنًا لتكذيب خبره في قوله: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48] وهذا أمر مجمع عليه فيما أعلم، أي: أنه لا يجوز أن يصلى الإنسان على شخص يعلم أنه كافر بأي سبب كان كفره، وبناء عليه فإن تارك الصلاة على القول الراجح كافر ولا تجوز الصلاة عليه. موقف الإمام في الصلاة على المرأة: 533 - وعن سمرة بن جندب (رضي الله عنه) قال: "صليت وراء النبي (صلى الله عليه وسلم) على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها" متفق عليه. قوله: "صليت وراء النبي (صلى الله عليه وسلم) لأن المشروع في صلاة الجنازة المصافة وقوله: "على امرأة ماتت في نفاسها" "في" يحتمل أن تكون للظرفيه، ويحتمل أن تكون للسببية، لأنها تأتي لهذا وهذا، يحتمل أن المعني: في نفاسها؛ أي: بسبب نفاسها كما في الحديث: "عذبت امرأة في هرة حبستها"، يعني: بسبب هرة، ويحتمل أنها للظرفية، يعني: ماتت وهي نفساء بمرض قد يكون من غير النفاس، وقوله: "فقام وسطها" أي: متوسطًا منها. فيستفاد من هذا الحديث: أولاً: مشروعية المصافة في صلاة الجنازة لقوله: "وراء النبي (صلى الله عليه وسلم) وأما الإمام فيتقدم إلى الجنازة وحده، لأن الأصل أن كل المصلين وراءه، ويؤيده حديث (صلى الله عليه وسلم)، وأما الإمام فيتقدم إلى الجنازة وحده، لأن الأصل أن كل المصلين وراءه، ويؤيده حديث أبى هريرة في قصة النجاشي، وما يفعله العامة من كون أهل الميت يقفون إلى جانب الإمام فإنه لا أصل له. فإن قلت: إذا كان المكان ضيقًا، ولم يجد الذي قدموا الجنازة مكانًا في الصف الأول لا أصل له. فإن قلت: إذا كان المكان ضيقًا، ولم يجد الذين قدموا الجنازة مكانًا في الصف الأول فماذا يصنعون؟

حكم الصلاة على الميت في المساجد

نقول: يتقدم الإمام ويكونون خلفه ولو كان قريبين منه، فإن لم يمكن بأن كان لو تقدم ما يتمكن فهم يصلون عن يمينه وعن يساره، لأن هذه حاجة وضرورة، لكن بعض العامة يعتقدون في صلاة الجنازة أنه لا بد أن يكون مع الإمام الواحد، حتى إنهم إذا قدموا الجنازة وتأخر الذين قدموها ربما تقدم واحد من الصف يقف مع الإمام، وهذا قد جرى لنا، فينبغي لطلبة العلم أن ينبهوا العامة على أن صلاة الجنازة في المصافة كغيرها، المشروع فيها أن يتقدم الإمام على المأمومين. وقوله: "على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها" هل هو وصف طردي لا مفهوم له، أو نقول: إن هذا الحكم - أي: قيام الإمام وسط المرأة- فيمن ماتت في النفاس؟ الأول، أي: أنه وصف طردي، لأننا لا نعلم معني لتقييد ذلك بالنفساء لا نعلم ذلك وعلى هذا فيكون وصفًا طرديًا. أخذ العلماء من هذا الحديث: مشروعية وقوف الإمام في صلاة الجنازة إذا كانت المرأة أن يكون وسطها؛ يعني: متوسطًا منها لا إلى اليمين ولا إلى اليسار، فما هي الحكمة في ذلك؟ قال بعضهم: إن الحكمة هي: أن يكون حائلاً بين عجيزتها ومن وراءه، وهذه العلة النفس منها شيء، لأنه لو فرض أن يحول بين من وراءه مباشرة وبين رؤية عجيزتها فإنه لا يحول بين من كان على يمينه أو على يساره، ولم يتبين لي في ذلك حكمة تطمئن إلى النفس، إلا أن المؤمن حكمته ثبوت النص، فإذا ثبت النص فهذه الحكمة، ولهذا لما سئلت عائشة (رضي الله عنها): ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضى الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فتؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، ولم تعلل إلا بالنص. وهل يدل هذا الحديث على مشروعية الصلاة على النفساء؟ نعم، ويتفرع على هذه الفائدة: أن الشهداء- غير شهيد المعركة- يصلى عليهم، لأنه قد ورد في عد الشهداء: أن منهم المرأة تموت في نفاسها، وإذا كان كذلك فهو دليل على أن الشهداء- غير شهيد المعركة- يصلى عليهم، وهذا هو الصحيح وقد تقدم. حكم الصلاة على الميت في المساجد: 534 - وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "والله لقد صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أبني بيضاء في المسجد"، رواه مسلم. "والله لقد" الجملة قسمية، وفيها ثلاثة مؤكدات القسم واللام وقد، "والله لقد صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أبني بيضاء في المسجد" "في" للظرفية و"المسجد" هو الظرف، والمظرف هو:

الصلاة على أبني بيضاء، وعلى هذا فتكون الصلاة عليهما في نفس المسجد. وهي ذكرت ذلك، لأن من الناس من أنكر الصلاة على الميت في المسجد في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وكذلك بعده، وقالوا: لا يمكن أن يصلى على الجنائز في المساجد، لماذا؟ قالوا: لأنه يخشي من التلويث فقد يخرج من لا ميت شيء في أثناء حمله وتنزيله فيلوث المسجد فحينئذ من التلويث فقد يخرج من الميت شيء في أثناء حمله وتنزيله فيلوث المسجد، فحينئذ لا يصلى عليه في المسجد، نصلى عليه في مكان معد الصلاة على الأموات؛ ولهذا احتاجت أم المؤمنين (رضي الله عنها) إلى أن تؤكد ذلك بالقسم، فقالت: "والله لقد". وقولها: "على أبني بيضاء في المسجد" الذي في مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أما الجنائز؟ كلهم هذا هو المتبادر من الحديث وهذا الذي من أجله ساقت الحديث، الصلاة على الجنازة، والجنازة في المسجد. والعجيب: أن الذين منعوا الصلاة على الميت في المسجد قالوا: إن "في المسجد" ظرف لصلاة الرسول لا للمصلى عليه، الجنائز خارج باب المسجد والرسول في المسجد، ولا شك أن هذا خلاف ظاهر اللفظ وخلاف ما ساقت أم المؤمنين الحديث من أجله، وهو إثبات ما كان ينكره بعض الناس من الصلاة على الأموات في المساجد، ولكن هذه البلية- وهي كون الإنسان يعتقد أولاً ثم يستدل- ابتلى بها كثير من الناس، إذا اعتقد أولاً ثم استدل ثانيًا، حرف بذلك النصوص من أجل أن يوفق ما يعتقده، سواء مذهبه أو فكره، وهذه بلية عظيمة، ولهذا يجب أن يكون الإنسان مع الأدلة، أن يكون كمن لا يعرف الطريق مع الماهر في الطريق، إذا ذهبت مثلاً إلى مكة وأنت لا تعرف الطريق ومعك دليل يدل إذا قال: امش إلى كذا، هل تقول: لا وتخالفه؟ لا تخالفه أبدًا، وإنما تسلم له تمامًا، وتكون كما يقول العوام: "حط رأسك في الجلص" يعني: السطل، والمعنى: أنك لا تبصر شيئًا هذا المراد، فهذا الإنسان الذي قد تم تحكيمه للكتاب والسنة ما يعتقد شيئًا إلى تبعًا للدليل، فإذا جاء الدليل على خلاف ما كان يعتقده قال: سمعًا وطاعة، ومشى مع الدليل وترك ما يعتقده، وكذلك لو جاء دليل مخالف لمن يقلده من الأئمة قال: مرحبًا بالدليل، وترك التعصب ومشي على ما يقتضيه الدليل. ويستفاد من الحديث: جواز اليمين على الفتوى، إذا اقتضت الحاجة ذلك: {ويستنبئونك أحق هو قل أي وربي إنه لحق} [يونس: 53] {ويستنبئونك} يعني: يطلبون منك النبأ والخبر، هذا الاستفتاء، بناء على ذلك يجوز للمفتى أن يحلف على الفتوى، ولكن هل يحلف على كل شيء أو لا يحلف إلا إذا علم أن هذا هو الحكم أو غلب على ظنه؟ الجواب: لا يحلف إلا إذا علم أن هذا هو الحكم أو غلب على ظنه أن ذلك هو الحكم فيجوز، ولاسيما عند عظم المفتى به أو عند تشكك المستفتي ليطمئنه.

عدد التكبير في صلاة الجنازة

فإذا كان الأمر عظيمًا فإنه قد يحسن أن تحلف عليه، وكذلك إذا رأينا أن المستفتي قد تشكك فإنه لا حرج أن يحلف، بل قد يكون ذلك من الأمور المستحسنة. ومن فوائد الحديث: جواز الصلاة على الأموات في المساجد؛ لقولها: "صلى على ابني بيضاء في المسجد". ومنها: أن المعهود لا يحتاج إلى التنصيص عليه، من أين تؤخذ؟ من قولها: "في المسجد" لأن "أل" هنا للعهد، يعني: المسجد الذي كان يصلى فيه - عليه الصلاة والسلام-. ويتفرع على هذه الفائدة فائدة ذكرها الفقهاء في باب المعاملات وهي: الشرط العرفي كالشرط الفظي، فالشيء إذا كان معهودًا بين الناس ومعروفًا بينهم لا يحتاج إلى التنصيص عليه وذكره، فلو أن رجلاً اشترى سلعة من شخص، وهذا المشترى نقلها إلى بيته بدون إذن البائع وقال البائع: لماذا تنقلها؟ نقول: هذا شرط عرفي، معروف عند الناس أنني إذا اشتريت الشيء نقلته، كذلك لو أن رجلاً تزوج امرأة وأراد أن ينقلها إلى بيته فقالت هي وأهلها لم تشترط علينا أن تنتقل إل البيت، نقول: العرف أن ينقلها إلى بيته دون شرط، فالشيء المعهود بين الناس لا يحتاج إلى التنصيص عليه، ولذلك نقول الشرط العرفي كالشرط اللفظي، وهذه قاعدة مهمة في المعاملات. ومن فوائد الحديث: النسبة إلى الأم هل هو جائز أو لا؟ الجواب: إذا كانت النسبة إلى الأم لا تعني محو نسبته إلى الأب فلا بأس به، بشرط ألا يغضب من ذلك فتكون كالكنية ويكون الاسم الأول هو الأصل، فأما إذا تنوسي اسم الأب ومحي فإن هذا لا يجوز، لعموم قوله تعالى: {أدعوهم لآبائهم} [الأحزاب: 5] ولأنه إذا تنوسي فربما يضيع نسب هذا الرجل، ولأنه إذا تنوسي ربما يتهم هذا الرجل بأنه أبن زنا، ليس له أب، وأما إذا جعل ذلك كالكنية مع الاسم الأصلى فلا حرج، هذا النبي (صلى الله عليه وسلم) يكني عبد الرحمن بن صخر أبا هريرة، وهذا عبد الله بن مالك ابن بحينة ينسب إلى أبيه وأمه، وهذا رأس المنافقين ينسب إلى أمه فيقال: عبد الله بن أبى ابن سلول. عدد التكبير في صلاة الجنازة: 535 - وعن عبد الرحمن بن أبى ليل (رضي الله عنه) قال: "كان زيد بن أرقم (رضي الله عنه) يكبر على جنائزنا أربعًا، وأنه كبر على جنازة خمسًا، فسألته فقال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بكبرها"، رواه مسلم والأربعة. الأول: تابعي عبد الرحمن بن أبى ليلي، والثاني: صحابي، وقوله: "يكبر على جنائزنا" الإضافة

للنسبة، لكنها ليست نسبة قرابة بل نسبة بلد، يعني: على الجنائز التي تقدم إليه في بلده كان يكبر أربعًا، وقد ثبت أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كبر على النجاشي أربعًا، وأنه كبر على جنازة خمسًا فزاد واحدة. فسألته فقال: "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكبرها" يعني: يكبر خمسًا، لقوله: "يكبرها" أي: الخمس، فهي عائدة على الخمس، وليست عائدة على الخامسة. فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولاً: أن المشروع في العبادات الواردة على وجوه متنوعة أن يفعلها تارة على هذا الوجه، وتارة على وجه آخر، بدليل فعل هذا الصحابي كان يكبر على الجنائز أربعًا وكبر خمسًا وبين أن النبي (صلى الله عليه وسلم) فعل ذلك. وعلى هذا فيكون لهذا القول الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) أصل من فعل الصحابي (رضي الله عنه) وأن السنة إذا جاءت على وجوه متنوعة فينبغي أن نفعل هذا مرة وهذا مرة لأجل أن تكون للسنة كلها. ومن فوائد الحديث: أن الأكثر في الجنائز أن يكبر عليها أربعًا وهذا فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) أكثر ما يكبر أربعًا، حتى زعم بعض أهل العلم: أن التكبيرات الزائدة على الأربع منسوخة، ولكن الصحيح أنها ليست منسوخة وذلك لإمكان الجمع، ومن شرط النسخ ألا يمكن الجمع. ومن فوائد الحديث: حرص التابعين على العلم، لأن عبد الرحمن بن أبى ليلي سأل. ومن فوائده: أن ما خرج عن الأصل والعادة فإنه محل سؤال، لماذا؟ لأنه قد يخطئ الإنسان فيزيد وقد يغلط، فإذا خرج الشيء عن المعتاد، فاسأل لماذا؟ ولهذا لم سلم النبي (صلى الله عليه وسلم) من ركعتين- لحديث أبى هريرة- في قصة ذي اليدين، قالوا: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ ولما صلى خمسًا في حديث ابن مسعود قالوا: يا رسول الله، أزيد في الصلاة؟ فإذا خرج الشيء عن العادة فلا بد أن يسأل عنه؛ لئلا يكون الإنسان في خطا. ومن فوائد الحديث: أن من هدي الصحابة - رضي الله عنهم- إظهار السنة بالفعل، يؤخذ من فعل زيد (رضي الله عنه)، وهكذا ينبغي لأهلا لعلم أن يظهروا السنة بالفعل، لأن إظهار السنة بالقول لا شك أنه طريق من طرق البلاغ، وداخل في قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "بلغوا عني ولو آية"، لكن الفعل أبلغ، ولهذا لو أن رجلاً من الناس نصح نصيحة بما يتعلق بأحكام الفقه فقبلها الناس وسمعوها وبقيت في أذهانهم ما شاء الله، لكن لو فعلها فعلاً لكان ذلك أبلغ وأرسخ في الذهن، تجدهم يقولون: صلى فلان ذاك اليوم، وفعل كذا وكذا، فيبقي في أذهانهم، لاسيما ما يخرج على المألوف عندهم. ومن فوائد الحديث: مشروعية التبكيرات الخمس في صلاة الجنازة؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) فعل

ذلك، ولكن ماذا يصنع في التكبيرات؟ نحن نقول: فيا لأولى: الفاتحة، وفي الثانية: الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) وفي الثالثة: الدعاء، وفي الرابعة: الدعاء أيضًا، وفي الخامسة سكوت ثم الدعاء، وعلى هذا فإنك تدعو، ومن الممكن أنتقسم الدعاء الذي يكون في الرابعة بين الرابعة والخامسة، ومن الممكن أن تدعو دعاء مستقلاً مناسبًا للحال، فالمقصود هو الدعاء للميت، هذا وأهم شيء في صلاة الجنازة هو أن تدعو للميت. 536 - وعن علي (رضي الله عنه): "انه كبر على سهل بن حنيف ستًا، وقال: إنه بدري"، رواه سعيد بن منصور، وأصله في البخاري. على بن أبى طالب (رضي الله عنه): "أنه كبر على سهل بن حنيف ستًا، وقال: إنه بدري"، رواه سعيد بن منصور، واصله في البخاري. على بن أبى طالب (رضي الله عنه) أحد الخلفاء الراشدين، وهو يمتاز عن الخلفاء الأربعة بأنه أقربهم نسبًا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تولى الخلافة بعد قتل عثمان (رضي الله عنه) واستشهاده، لأنه أحق الناس بها بعد عثمان، وكان فيما سبق كان الخليفة هو الذي يتولى الإمام - إمامة الناس- فكبر على سهل بن حنيف ستًا، وقال: "إنه بدري" احتمالان: احتمال أنه فعل ذلك اجتهادًا منه (رضي الله عنه) لكون هذا الرجل بدريًا زاده في التكبيرات ليزيده في الدعاء، ويحتمل أن هذا من عادة الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه يكبر على أهل بدر ستًا فإن كان قد صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يصلى على أهل بدر ستًا تعيين الاحتمال الثاني، وإن لم يصح فالأصل العدم، فيترجح الاحتمال الأول بأن عليًا (رضي الله عنه) اجتهد ورأي أن أصحاب بدر لهم حق بحيث يزاد في تكبيرات الجنائز عليهم، ليزداد الدعاء لهم، وعلى هذا فإن على بن أبى طالب (رضي الله عنه) أحد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بإتباعهم ما لم يخالفوا سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فإن خالف أحد سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإنه لا يؤخذ بقوله كائنًا من كان. وعلى هذا فإذا صلينا على بدري كبرنا عليه ستًا وهذا لا يمكن اليوم، أهل بدر- رضي الله عنهم - امتازوا بميزة من جهة الأثر الذي حصل بالغزوة ومن جهة الثواب: أما الأثر: فإنه من ذلك اليوم اعتز الإسلام اعتزازًا عظيمًا: {وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} [الأنفال: 41]. ولهذا ما بزغ نجم النفاق إلا بعد غزوة بدر، لما قوى المسلمون بدأ يظهر النفاق- والعياذ بالله-، وكان بالأول غالب الكفار يبين كفره ولا يبالي هذا الأثر. وأما الثواب: فإن الله تعالى أطلع على أهل بدر وقال: "أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، ولهذا ما ارتد أحد من أهل بدر أبدًا.

وقد أشكل على بعض الناس كيف الله يقول: "أعملوا ما شئتم" هل هذا يقتضى أن يباح لهم الكفر؟ الجواب: لا؛ لأن الله (عز وجل) يعلم أنهم لم يكفروا، وهم بأنفسهم لا يمكن أن يقع منهم الكفر، لما ألقى الله تعالى في قلوبهم من الإيمان الراسخ، إذن "ما شئتم" مما دون الكفر، فالكبائر مكفرة لهم مغفورة والصغائر من باب أولى، وإنما غفرت لهم الكبائر لما حصل لهم من هذه الحسنة العظيمة التي لا يعدلها شيء، حتى حاطب بن أبى بلتعة (رضي الله عنه) لما اجتهد وظن أنه على صواب وأرسل رسالة إلى قريش- حين أراد النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يغزوهم- وجاء الوحي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وأرسل إلى المرأة من يأخذ الكتاب منها، واستأذن عمر (رضي الله عنه) أن يضرب عنق حاطب، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ففعل حاطب إذن وقع تحت هذا العموم "ما شئتم فقد غفرت لكم" إذن على بن أبى طالب (رضي الله عنه) رأي أنه يصلى على أهل بدر يكبر عليهم في الجنائز ستًا. يستفاد من هذا الحديث: أولاً: جواز الزيادة على أربع في تكبيرات الجنائز، والدليل فعل على (رضي الله عنه). فإن قال قائل: هل فعل على حجة؟ فالجواب: نعم، لأنه أحد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بإتباعهم، وهذا لا يخالف النص؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كبر أربعًا وكبر خمسًا، ولم يقل: لا تزيدوا، صحيح قد يقول قائل: إن عموم قوله (صلى الله عليه وسلم): "صلوا كما رأيتموني أصلى" يدخل فيه هذا وأننا لا نريد على ما ثبتت به السنة، ولكن يقال: لو كان هذا الأمر مقصودًا ما خالفه على (رضي الله عنه)، ثم إن القضية "صلوا كما رأيتموني أصلى" يخاطب مالك بن الحويرث، وقد شهد صلاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، صلوات ذات الركوع والسجود. ويستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي لمن فعل فعلاً يمكن أن يرد عليه سؤال أن يبين وجه فعله؛ لأنه إن كان مشروعًا فقد بين أنه مشروع، وإن كان سائغًا غير محرم فقد دفع عن نفسه الشبهه والتهمة، وأما أن يفعل الشيء الخارج عما يألفه الناس ويسكت فهذا سيكون عرضه لكلام الناس فيه، حتى ربما يقول الصواب ولا يقبلونه، لأن الإنسان إذا وجد عليه خطأ صار كل ما يقوله محل تساؤل: لعله أخطأ كما أخطأ في الأول وما أشبه ذلك! وهذا النبي (صلى الله عليه وسلم) لما حياء وخجلاً أن يريا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع أهله قال- عليه الصلاة والسلام-: "على رسلكما إنها صفية بنت حيي" الله أكبر! بالمؤمنين رءوف رحيم فالصحابيان (رضي الله عنها) قالا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإن خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا"، أو

قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة

قال: "شيئًا"، فأنظر إلى فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم)، حيث إنه لما رأي أن هذا الفعل قد يحدث به التساؤل بينه ووضحه. قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة: 537 - وعن جابر (رضي الله عنه) قال: "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكبر على جنائزنا أربعًا ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى"، رواه الشافعي بإسناد ضعيف. 538 - وعن طلحة بن عبد الله بن عوف (رضي الله عنه) قال: "صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ فاتحة الكتاب فقال: لتعلموا أنها سنة" رواه البخاري. المؤلف (رحمه الله) ذكر حديثين أحدهما مرفوع صريحًا، والثاني مرفوع حكمًا، المرفوع الصريح ضعيف كما قال: بإسناد ضعيف، ولكنه أعقبه بالحديث المرفوع حكمًا، وهو قول ابن عباس: "لتعلموا أنها سنة" ويؤيد ذلك أيضًا عموم قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن: فإن الصلاة على الجنازة داخله في اسم الصلاة فتكون داخله في هذا العموم، وعلى هذا فنقول: عندنا ثلاثة أدلة الآن: عموم وهو حديث مرفوع صحيح صريح، وخصوص وهو حديث مرفوع بسند ضعيف، وخصوص وهو مرفوع حكمًا بسند صحيح رواه البخاري. قله: "يكبر على جنائزنا أربعًا" هذا له شاهد بل عدة شواهد تدل على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يكبر على الجنائز أربعًا، ونمه ما ثبت في الصحيحين، وغيرهما أنه كبرى على النجاشي أربعًا، ولا إشكال فيه: "ويقرأ بفاتحة الكتاب"، ذكرنا ثلاثة أدلة على ذلك ولكنه قال: "في التكبيرة الأولى" وهذا الحديث- كما رأيتم- ضعيف، وحديث ابن عباس ليس فيه تعيين أن الفاتحة في الركعة الأولى، ولكننا نقول: إن هذا الحديث الضعيف يعضده القياس والمعني، أما القياس فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان لا يبدأ بشيء قبل الفاتحة في الصلاة، كما قالت عائشة: "كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين" وعلى هذا فلا شك أن المناسب في تكبيرات الجنازة أن تكون قراءة الفاتحة في التكبيرة الأولى، وأيضًا هي فاتحة الكتاب فتنفتح بها الصلاة ما عدا التكبير. وقوله: "بفاتحة الكتاب" سميت فاتحة الكتاب: لأنه افتتح بها كتاب الله (عز وجل) وليست هي أول ما نزل بل إن أول ما نزل قوله تعالى: {أقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) أقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما يعلم} [العلق: 1 - 4]. هذه الآيات الأربع هي أول ما نزل حتى قبل

البسملة وقوله: "بفاتحة الكتاب"، الكتاب: هو القرآن، وسمي كتابًا، لأنه مكتوب فهو فعال بمعني مفعول تأتي في اللغة العربية، كما في الغراس والبناء والفراش ونحوها، وسمي كتابًا لأنه بمعني: مكتوبًا؛ لأنه كتب في اللوح المحفوظ: {بل هو قرآن مجيد (21) في لوح محفوظ) [البروج: 21، 22]، وكتب في الصحف التي في أيدي الملائكة {كلا إنا تذكرة (11) فمن شاء ذكره (12) في صحف مكرمة (13) مرفوعة مطهرة (14) كرام برره) [عبس: 11]، وكتب في الصحف التي بين أيدي الناس فهو مكتوب لهذه الوجوه الثلاثة. إذا قال قائل: ماذا يستفاد من الحديث؟ نقول: يستفاد منه: مشروعية قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، وهل هي ركن، أو واجب، أو سنة؟ فالجواب: أنه ركن، لعموم قولة (صلى الله عليه وسلم): "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب" وعلى هذا فهي ركن في صلاة الجنازة لو تركها إنسان ما صحت صلاة الجنازة فلا بد منها. وأما حديث ابن عباس (رضي الله عنها) فيستفاد منه: أن ينبغي للعالم أن يجهر بما يحتاج الناس إلى تعلمه؛ لأنه الظاهر أن ابن عباس جهر حيث قال "لتعلموا أنها سنة" اللام هنا: للتعليل، والمعلل محذوف تقديره: قرأتها لتعلموا، وقوله: "أنها سنة" السنة في اللغة: الطريقة، وفي الاصطلاح: طريقة النبي (صلى الله عليه وسلم) وتشمل: القول، والفعل، والإقرار، وفي اصطلاح الأصوليين: السنة ما أثيب فاعله ويعاقب تاركه، فلها ثلاثة تعريفات، أيها المراد من كلام ابن عباس؟ المراد: المعني الوسط أي: أنها سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) لأن الظاهر أن تقسيم المشروع، المأمور به إلى سنة وواجب، الظاهر أنه حدث أخيرًا، وأن كل ما يسمي سنه في لسان الشارع، أو في لسان الصحابة فإنه يشمل الواجب والمستحب، وتعينه قواعد الشريعة، هل المراد به الواجب، أو المراد به السنة؟ هنا نقول: إن المراد بها الطريقة، فهل هي واجبة أو غير واجبة؟ واجبة، والدليل: "لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب" وأما مجرد قراءة النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يدل على الوجوب، حتى ولو قام الدليل على أنه من العبادة فإنه لا يدل على الوجوب، لأنه لم يقرن بأمر بفعله ولا ينهي عن تركه، وإنما هو داخل في عموم قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] وهذا عام خرج أفراد كثيرة ليست على الوجوب. وقوله: "لتعلموا أنها سنة" ذكرنا أنه من باب المرفوع حكمًا، فهل هناك مرفوعات؟

الدعاء للميت في صلاة الجنازة

الجواب: نعم، فيه مرفوع صريحًا ومرفوع حكمًا، فالمرفوع صريحًا هو الذي يضاف إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسه بأن يقال: قال النبي، أو فعل النبي، أو رأي النبي (صلى الله عليه وسلم) كذا، أو سمع كذا فأقره، هذا يسمي مرفوعًا صريحًا، أما المرفوع حكمًا فهو: ما ثبت له حكم الرفع ولكنه لم يصرح برفعه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وله أمثلة كثيرة منها: إذا قال الصحابي: من السنة كذا، فهو مرفوع حكمًا؛ لأن الصحابي عاشر النبي (صلى الله عليه وسلم) وله أمثلة كثيرة منها: إذا قال الصحابي: من السنة كذا، فهو مرفوع حكمًا، لأن الصحابي عاشر النبي (صلى الله عليه وسلم) وسمع منه ورأي منه، فإذا قال: من السنة، فإنما يعني: سنة من شاهده وسمع منه - وهو الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأيضًا إنما يعني: من سنته تشريع، أما إذا قال التابعي: من السنة كذا، فقيل: إنه موقوف، لأن التابعين إنما يعنون بالسنة: ما سنة الصحابة، وقيل: إنه مرفوع مرسل كما لو نسب التابعي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) مرفوعًا صريحًا، فإنه يكون مرفوعًا مرسلاً، فإذا نسب إليه مرفوعًا حكمًا صار مرفوعًا حكمًا مرسلاً، وهو محل خلاف بين المحدثين. المهم: أن هذا الحديث يدل على أن قراءة الفاتحة من السنة، أي: من سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) الشاملة الواجب والمندوب، وقد دل الحديث على وجوبها. الدعاء للميت في صلاة الجنازة: 539 - وعن عوف بن مالك (رضي الله عنه) قال: "صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على جنازة، فحفظت منه دعائه: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وقه فتنه القبر وعذاب النار" رواه مسلم. سبق أننا ذكرنا عن أهل اللغة أنهم إذا قالوا جنازة بالفتح فهي الميت، وإذا قالوا: جنازة فهي النعش عليه ميت وقوله: "حفظت من"، "من" للتبعيض وهو يدل على أن هناء دعاء آخر، هذه أدعية عظيمة جدًا، حتى قال عوف بن مالك (رضي الله عنه) - راوي الحديث- حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت لا تمنيًا للموت ولكن تمنيًا لهذا الدعاء، نرجع إلى قوله: "اللهم" يعين: يا الله، يقولون في توجيهها: حذفت ياء النداء تبركًا للبداءة بالاسم الكريم، وعوض عنها بالميم في الآخر ولم يختر من الحروف إلا الميم لدلالتها على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه ولسانه وقوله بالتوجه إلى الله فقال: اللهم، وقال ابن مالك: والأكثر اللهم بالتعويض *** وشذ ياللهم في قريض

قال الشاعر الذي أشار إليه ابن مالك: إني إذا ما حدث ألمًا *** أقول يا ألهم يا للهما والأكثر أن يقال: اللهم اللهم، يقول "اللهم اغفر لهم وارحمه" المغفرة هي: ستر الذنب والتجاوز عنه، ليست مجرد الستر ولا مجرد التجاوز، بل ستر وتجاوز، من أين عرفنا كلا المعنيين؟ من الاشتقاق، لأن المغفرة مأخذوه من الغفر، والمغفر هو: شيء من الحديد يوضع على الرأس عند الحرب، ففيه وقاية وستر، ويدل لذلك أيضًا أن الله (عز وجل) إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة وقرره بذنوبه، قال له: "قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم"، إذن المغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، "وارحمه" الرحمة فوق المغفرة، لأنه بعد إزالة العقوبات يطلب له حصول الرحمات وارحمه ففيها حصول المطلوب بعد زوال المرهوب، ولهذا دائمًا تقرن مع المغفرة متأخرة عنها، فبعد ما تزال الشوائب المانعة تأتي الرحمة، ولهذا يقولون: التحلي بعد التخلي، التحيل، يعني: التجميل وإصلاح الإنسان نفسه، وليس الحلي يكون بعد التخلي، المرأة إذا لبست الحلي ووجهها ملوث بالأوساخ، نقول: أذهبي أغسلي وجهك أولاً ثم ألبسي الحلي، فهنا تخل قبل تحل. "وعافه واعف عنه" و"عافه" من أي شيء؟ من العذاب الحاصل بفعل الذنوب، "واعف عنه" تجاوز عنه من التقصير بفعل الواجب؛ لأن الآثام سببها أمران: إما فعل محرم، وإما ترك واجب، ففي "عافه" من آثار المحرمات، و"وأعف عنه" عن آثار التهاون بالواجبات. لو قال قائل: هل هاتان الجملتان داخلتان فيما سبق؟ فالجواب: نعم، لكن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط والتكرار، وذكرنا فيما سبق: أن استحباب البسط والتكرار بالدعاء له فوائد متعددة، منها: أنه كلما طالت المناجاة مع من تحب كان ذلك أبلغ في إقامة الحجة والبيان على أنك تحبه، الثاني: أن الدعاء عبادة فكلما كررته زدت في عبادة الله عز وجل، الثالث: أن تكراره إلحاح من العبد، وهو دليل على شعور الإنسان بشدة الافتقار إلى ربه (عز وجل)، وإذا شعر الإنسان بذلك أوشك أن يمده الله بما يكون فيه الغني، أي: أن الله يحب من عبده الإلحاح والتكرار، فينال بذلك محبة الله، ومنها: أن هذا التفضيل قد يذكر الإنسان بأشياء دقيقة ليست مذكورة مثل الإجمال، يقول: "وأكرم نزله" النزل: ما يقدم للضيف

من كرامة، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "ولا يقعد على تكرمته في بيته إلا بإذنه" فـ "أكرم نزله" يعني: أجمل نزله، أي: ضيافته كريمة، وهذا يراد به: كثرة الثواب من الله (عز وجل) لهذا الميت. ووسع مدخله أو مدخله؟ إن كان من أدخل فهو مدخل، وإن كان من دخل فهو مدخل قال الله عز وجل {رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق} [الإسراء: 80]، وقال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلهم مدخلاً كريمًا} [النساء: 31] لأنها من الرباعي على وزن "مفعل"، وأما إن كانت من الثلاثي فهي على وزن "مفعل": مدخل، وهذا نقول في "مقام" و"مقام" من الثلاثي مقام، ومن الرباعي مقام، قال الله تعالى: {وإذا قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم} [الأحزاب: 13] لأنه مأخوذ من أقام في المكان فهو رباعي، وقال تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} [الإسراء: 79]، من قام يقوم وذلك في يوم القيامة، لأن يوم القيامة أيضًا محل عبور، إذن نقول: مدخله، فمدخله من الرباعي، ومدخل هذا الثلاثي، ومدخل: مكان الدخول، ما معني مدخله؟ يعني به: القبر؛ لأن المكان الذي يدخل فيه الإنسان، فوسعه يعني: أجعله واسعًا فسيحًا، فهو يوسع، ولكنه توسيع غيبي لا توسيع محسوس، وإلا لو أننا دفنا إنسانًا في قبر سعته المحسوسة مائة ذراع وليس من أهل الجنة أي: ليس من المؤمنين لا ينفعه هذا، ولو دفنا الإنسان بالتراب بدون لحد وصار التراب محيطًا به من كل جانب وهو من أهل الإيمان وسع له، فالمراد: التوسعة الغيبية التي هي خاصة بالحياة البرزخية، وهذه لا نعلم عنها إنما يعلم عنها الميت إذا مات، ولكننا علمنا عن طريق النبي (صلى الله عليه وسلم) الثابت بالوحي. "واغسله بالماء والثلج والبرد" بتنقيته من الذنوب وإزالة أوساخها، واختير الثلج والبرد، لأن هذا هو المناسب، إذا إن أثارها العقوبة بالنار وهي حارة، فناسب أن تقابل بماذا؟ بماء وثلج وبرد. "ونقه من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس" يعني: بعد الغسل يكون نقيًا من الخطايا والذنوب، كما ينقي الثوب، "الكاف" هنا للتشبيه، و"ما" مصدرية، وعلى هذا فيسبك الفعل بعدها معها بمصدر، أي: يحول إلى مصدر فيقال: كنتقيه الثوب الأبيض من الدنس، وقوله: " الأبيض" دون غيره، لأن ظهور الوسخ في البياض أكثر، فإذا كان الثوب أبيض وليس فيه وسخ علم أنه نظيف جدًا، لكن لو كان عليك ثوب أسود وفيه أوساخ لكنها قليلة وليست كثيرة، لا تظهر؛ فلهذا وصف الثوب باللون الأبيض، "من الدنس" أي: الوسخ الحسي.

يقول: "وأبله دارًا خيرًا من داره" يعني: أجعل له دارًا خيرًا نم داره، والدار التي انتقل منها دار الدنيا: دار الهموم والغم والنصب والتعب البدني والعقلي؛ ولهذا لا تجد شيئًا في الدنيا حسنًا إلا وهو مقرون معه السيئ أبدًا حتى الزمن فيه حسن وسيء كما قال الشاعر: فيوم علينا ويم لنا*** ويوم نساء ويوم نسر وهذه من حكمة الله (عز وجل) أرأيتم لو أن ما في الدنيا من الأشياء الحسنة يبقي حسنًا لا سوء فيه، أفلا يفتن الناس بذلك؟ يفتنون جدًا، لكن قرن السوء بالحسن فيما يتعلق بالدنيا ليتعظ الإنسان ويعتبر ويطلب دارًا أخرى ليس فيها حسن وسيء: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (35) الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فينا نصب ولا يمسنا فيها لغوب} [فاطر: 35] لا تعب ولا إعياء أبدًا، كاملة، لكن الدنيا فيها نقص كبير، والدار التي ينتقل إليها أول ما ينتقل من الدنيا هي: القبر، فهل يمكن أن تكون خيرًا نم داره؟ نعم، ولولا ذلك ما دعا الرسول (صلى الله عليه وسلم) بها، إذ إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يدعو بأمر محال، والقبر يكون خيرًا من الدنيا إذا فسح للإنسان مد بصره، وقيل له: نم صالحًا، وفتح له باب إلى الجنة، وأتاه من ريحها ونعيمها وفرش له من الجنة فيكون - والله- أحسن من الدنيا ألف مرة، ولهذا قال: "أبله دارًا خيرًا من داره" لكن "أهلاً خيرًا من أهله" وأهل المرء: ما يأهلهم ويأوي إليهم كالزوجة والود والأم والوالد إذا كان عنده في البيت ولا شك أن الإنسان يأنس بأهله ويسر بهم ويطيب عيشه فيهم، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: "أبدله أهلاً خيرًا من أهله" لأنه سوف ينتقل عن الأهل الأولين وعن الأهل الآخرين، فيقول: "أبدله أهلاً خيرًا من أهله" وذلك في جنة النعيم، "وزجًا خيرًا من زوجة" يعني: أبدله زوجًا خيرًا من زوجه، والزوج معروف، ويطلق على الرجل وعلى المرأة في اللغة العربية. ولكن هنا إشكال وهو أن يقال: " من هذا الذي يبدل به زوجة في الدنيا ويكون خيرًا منه مع أنه يوم القيامة يكون الرجل وزوجته وذريته {ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريتهم} [غافر: 8] وثبت أن أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) يكون زوجاته في الآخرة كيف يقول: "زوجًا خيرًا من زوجة"؟ أجاب عنه بعض أهل العلم وقال: إن الإبدال نوعان: إبدال أعيان، وإبدال أوصاف، إبدال الأعيان: أن أعطيك شيئًا وتعطيني بدله كما يحصل في المبايعات، مثلاً: المشترى يعطي الثمن والبائع يعطي السلعة هذا بدل هذا ومنه قوله تعالى: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان: 70] تكون السيئة حسنة، وإبدال أوصاف بمعني: أن العين واحدة لكن تتغير صفاتها،

ومنه قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} [إبراهيم: 48] تبدل بأوصافها {يوم تكون السماء كالمهل (8) وتكون الجبال كالعهن} [المعارج: 8، 9] كذلك الأرض تبدل فتكون قاعًا صفصفًا لا ترى فيه عوجًا ولا أمتا، وتكون بعد التكوير ممدودة: {وإذا الأرض مدت (3)} [الانشقاق: 3] فهنا نقول: أما زوجاته من الحور العين فلا ريب أنهم غير زوجاته من الدنيا وهن خير من زوجات الدنيا من وجه، وزوجات الدنيا خير منهم من وجه آخر، والزوجة في الدنيا تبدل في الآخرة بأوصافها فهذا معني قوله: "زوجًا خيرًا من زوجة". نقول: إن كانت الزوجة من الحور العين فالأمر ظاهر، وأما إن كانت من زوجاته في الدنيا فالمراد إبدال الأوصاف. يقول: "وأدخله الجنة" الجنة: سبق لنا أنها في اللغة: البستان ذو الأشجار الكثيرة، وسمي بذلك، لأن يحن من فيه، أي: يفتنه، ولكنه لا ينبغي أن يعرف بهذا التعريف في جنة الخلد، لأن جنة الخلد إذا عرفت بهذا التعريف سوف يتصورها أكثر الناس بأقل ما هي عليه في الحقيقة، ولكننا نقول: إن الجنة هي الدار التي أعدها الله تعالى للمتقين وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقوله: "وقه فتنه القبر وعذاب النار" قوله: "قه" هذه فعل أمر وتنصيب مفعولين: المفعول الأول الهاء، والمفعول الثاني "فتنة" وهي من حرف واحد، لأن فعلها مثال ناقص، وإذا كان الفعل مثالاً ناقصًا صار فعل الأمر منه على حرف واحد، الفتنة في اللغة تطلق على معان منها: الاختبار، ومنها: الصد، قال الله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] هذه بمعنى: اختبار، وقال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا} [البروج: 10] أي: صدوا، وقال تعالى: {فإنكم وما تعبدون [161، 162]، أي: بصادين، فتطلق على معان منها: الصد، ومنها: الاختبار والامتحان، والمراد بها هنا: الاختبار وهو سؤال الميت عن ربه ودينه ونبيه، وهي ثابتة لكل من يدفن، إذا دفن الإنسان فإنه يسأل عن هذه الأمور الثلاثة، إلا أن العلماء اختلفوا في الصغير والمجنون: هل يسأل أو لا يسأل؟ على قولين، ويستثني من ذلك الشهداء فإنهم لا يسألون كما رواه النسائي، قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنه" وهل يستثني الأنبياء؟ قال بعض العلماء، يستثنى الأنبياء لأنهم أولى من الشهداء، ولأن المسئول عنهم هم الأنبياء والرسل، حيث إن الأسئلة هناك هي: من ربك؟ وما دينك؟ ما نبيك؟ فلا يسألون، ومتى تكون هذه الفتنة؟ تكون إذا دفن الميت، فإن بقى يومًا أو يومين

لانتظار جماعة أو لتحقيق في أمره أو ما أشبه ذلك فإنه لا يسأل حتى يدفن؛ لأن النبي قال: "إذا دفن الميت وتولى عنه أصحابه حتى أنه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان"، فإن لم يدفن مثل أن يموت في بر وتأكله السباع فإنه يسأل؛ ولهذا نقول: فتنة القبر، "القبر" في اللغة: الحفرة التي يدفن فيها الميت، ويراد بها هنا: البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة، قال الله تعالى: {حتَّى جاء أحدهم الموت قال ري ارجعون (99) لعلى أعمل صالحًا ... } [المؤمنون: 99]. قال" "قه فتنة القبر" هذا فيه إشكال وهو إذا كان السؤال عامًا لكل أحد- ولابد منه- فكيف يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يقي هذا الميت فتنة القبر مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أوحي إلىَّ أنكم تفتنون في قبوركم- مثل أو- قريبًا من فتنة الدجال". الجواب أن يقال: إن المراد: وقاية شرها وأثرها لا وقاية فعلها أو السؤال نفسه، هذا لابد منه. وقوله: "وعذاب النار" يعني: العذاب الذي يكون في النار، والإضافة هنا بمعنى: "في"؛ لأن الإضافة تكون بمعنى: اللام، وبمعنى: "من"، وبمعنى: "في"، تكون على تقدير "في" إذا كان ما بعد المضاف ظرفًا للمضاف، يعني: على تقدير "في"، وتكون على تقدير "من" إذا كان المضاف إليه جنسًا للمضاف، وتكون على تقدير اللام فيما عدا ذلك، فخاتم حديد: على تقدير من، وقوله تعالى: {بل مكر الَّيل والنَّهار} [سبأ: 33]. على تقدير "في"، وعليه فقوله: "عذاب النار" يكون على تقدير "في" والباقي على تقدير اللام، وهذا كثير مثل: كتاب زيد؛ أي: كتاب لزيد، قال: "وعذاب النار" النار هي: الدار التي أعدها الله عز وجل للكافرين، {واتَّقوا النَّار الَّتي أعدَّت للكافرين} [آل عمران: 131]. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها فضّلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، قال: "ناركم هذه الذي توقدون". هذه فضِّلت عليها بتسعة وستين جزءًا، ونارنا هذه كافية في التعذيب، لكن هذه فوقها بتسعة وستين ومع ذلك عذاب- والعياذ بالله- متنوع ولا وقاية ولا سلامة، حتى إنهم- والعياذ بالله- يمنون فيدفعون إلى أعلاها كأنهم سيخرجون، ولكن يعادون فيها ويوبخون: {كلَّما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النَّار الَّذي كنتم به تكذبون (20)} [السجدة: 20]. نسأل الله العافية؛ ولهذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الميت أن يقيه الله تعالى عذاب النار.

* ففي هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: أنه ينبغي أن ندعو لميتنا بهذا الدعاء، الدليل: فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: أن كل واحد محتاج إلى الدعاء حتى الصحابة، ولهذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل. ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك النفع لأحد، وجهه: لو كان يملك ما دعا. ومن فوائد الحديث: إثبات نعيم القبر من قوله: "وأكرم نزله ووسع مدخله". ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الإنسان ينتقل من الدنيا إلى دار أخرى، فكلاهما دار أبدله دارًا خيرًا من داره، وينتقل أيضًا إلى أهلين آخرين وإلى زوجات أخر، كل هذا مستفاد من قوله: "دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه"، والدُّور أربع: في البطن، في الدنيا، في البرزخ، في الآخرة: إما نار، وإما جنة. ومن وفوائد الحديث: إثبات الجنة؛ لقوله: "وأدخله الجنة" وإثبات النار؛ لقوله: "وعذاب النار". ومن فوائده: إثبات فتنة القبر؛ لقوله: "وقه فتنة القبر"، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: {يثبت الله الَّذين ءامنوا بالقول الثَّابت في الحية الدُّنيا وفي الآخرة ويضلُّ الله الظَّالمين ويفعل الله ما يشاء (27)} [إبراهيم: 27]. فإن هذه تدل أيضًا على فتنة القبر، وفي هذا الحديث إشكال، وهو إذا كان الإنسان لم يتزوج من قبل، هل نقول: أبدله زوجًا خيرًا من زوجه؟ يعني: زوجًا خيرًا من زوجه الذي يتزوجه لو بقي، يعني: هل نأخذ بالعموم؛ لأن هذا الميت الذي مات في عهد الرسول ما ندري هل له زوجة أو لا، فهل نقول بالعموم وننوي زوجًا خيرًا من زوجه- أي: ممن يفترض أن يتزوجه في الدنيا من النساء-؟ يمكن أن نقول: هكذا، وإذا كانت امرأة لها زوج واحد هل نقول: أبدلها زوجًا خيرًا من زوجها؟ ما دمنا نقول: إن الإبدال يكون إبدال أوصاف وإبدال أعيان يمكن أن نقول هذا، بمعنى: أن الله سبحانه بينها وبين زوجها في الجنة، وإذا اجتمعوا في الجنة سيكون أحسن حالًا من الدنيا. ويستفاد من الحديث: الجهر بالدعاء؛ لأن الصحابي سمعه. ويستفاد أيضًا من الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على هذا الدعاء لقوله "من دعائه"، فإما أن يكون لم يسمع إلا هذا، وإما أن يكون نسي ولم يحفظ إلا هذا.

الدعاء للمسلمين في صلاة الجنازة

الدعاء للمسلمين في صلاة الجنازة: 540 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى على جنازةٍ يقول: اللهمَّ اغفر لحيِّنا وميِّتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهمَّ من أحييته منَّا فأحيه على الإسلام، ومن توفَّيته منَّا فتوفَّه على الإيمان، اللهمَّ لا تحرمنا أجره، ولا تضلَّنا بعده". رواه مسلمٌ والأربعة. تقدم لنا أن "كان" تفيد الاستمرار غالبًا لا دائمًا، يقول: "اللهم اغفر لحينا"، الضمير يعود على المسلمين لا على الأمة جميعها؛ لأنه لا يجوز أن يدعى للكافر ولو كان عربيًا، "وميتنا" أي: من مات من قبل، وشاهدنا الحاضر، و"غائبنا" من ليس بحاضر، و"صغيرنا" من لم يبلغ، "وكبيرنا" من بلغ، "وذكرنا وأنثانا" متقابلان، وكان يغني عن ذلك قوله: اللهم اغفر لنا لحينا وميتنا"؛ لأن الحي يشمل الحاضر والغائب، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، ولكن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط، قال: "ذكرنا وأنثانا"، ولم يذكر صنفًا ثالثًا يذكره العلماء وهو الخنثى المشكل؛ لأن هذا نادر جدًا، وهو إما ذكر أو أنثى أو ذكر وأنثى جميعًا، ثم هو من المسائل النادرة في بني آدم. قال: "اللهم من أحييته"، "من" شرطية، وفعل الشرط "أحييت" وجوابه: "فأحيه"، أي: فاجعله "على الإسلام"، "ومن توفيته" بمعنى: قبضته، والوفاة تطلق على الوفاة التي هي مفارقة الروح للبدن بالموت، وتطلق على الوفاة التي هي مفارقة الروح للبدن بالنوم، قال الله تعالى: {وهو الذَّي يتوفَّاكم بالَّيل} [الأنعام: 60]. وقال عز وجل: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والَّتي لم تمت في منامها فيمسك الَّتي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} [الزمر: 42]. ولكن المراد هنا بالوفاة: الموت. وقوله: "على الإيمان" أي: الإيمان في القلب والإسلام في الجوارح؛ لماذا خص الإيمان بحال الموت والإسلام بحال الحياة؟ قال بعض أهل العلم: إنه اختلاف عبارة وتفنن في التعبير، وإلا فالإسلام والإيمان شيء واحد، فيكون معنى قوله: "أحييته على الإسلام" أي: أحييته على الإيمان، "وتوفيته على الإيمان" أي: على الإسلام فهما شيء واحد، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن من تتبع النصوص تبين له أن الإسلام هو الإيمان عند الانفراد كما قال تعالى: {ورضيت

لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3]. المراد بالإسلام هنا: كل الشرع بظاهره وباطنه، والإيمان عند الانفراد يشمل الإسلام كما نقول: هذا مؤمن، فهو شامل للإيمان والإسلام، وأما عند الاقتران فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر- في الجوارح- ويدل لذلك قوله تعالى: {- قالت الأعراب ءامنَّا قل لَّم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]. وهذا واضح في أن هناك فرقًا بينهما، ويدل لذلك أيضًا حديث جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فأحابه، وسأله عن الإيمان فأجابه بما يخالف ما سبق، فدل هذا على أن الإيمان والإسلام شيئان متباينان عند الاقتران، أما إذا انفردا فهما شيء واحد. وأما قوله تعال: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين} [الذريات: 35 - 36]. فلا يدل على اتفاق الإسلام والإيمان، بل يدل على افتراقهما؛ لأن البيت كل من داخله مسلمون، ولكن الذين خرجوا ونجواهم المؤمنون؛ لأن البيت يشمل لوطًا وامرأته ومن معه وبناته، امرأته في ظاهر الحال مسلمة ولهذا قال الله تعالى: {ضرب الله مثلًا كفروا امرأت نوحٍ وامرأت لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما .... } [التحريم: 10]، وهذا يدل على أنهما كانتا كافرين بدون علم من زوجيهما، إذن هي مسلمة والبيت يقال: بيت إسلام لكن الخروج ما كان إلا لمن كان مؤمنًا فقط، فالآية لا تدل على أن الإيمان والإسلام شيء واحد. إذن لماذا فرق النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الميت بين الحياة والموت فقال: "أحيه على الإسلام"، وفي الموت: "توفه على الإيمان؛ لأنه أبلغ، وأيضًا في حال الحياة كون الإنسان جاريًا على الظاهر موافقًا للناس غير مخالف يكفي، لكن إذا نابذهم هذا المشكل، أما في حال الموت فالأمر بخلاف ذلك لأنه قد ولى. ثم قال: "اللهم لا تحرمنا أجره" الأجر: هو الثواب، وسمي أجرًا؛ لأنه في مقابلة عمل، أو أنه سمي أجرًا؛ لأن الله عز وجل التزم لعبده كالتزام المؤجر للمؤجر بالأجرة؛ ولهذا سمي الله الصدقة قرضًا ففال: {مَّن ذا الَّذي يقرض الله قرضًا حسنًا} [البقرة: 245]. فسماها الله قرضًا؛ لأنها بمنزلة القرض الذي يلتزم وفاؤه، فهنا أجره يعني: الثواب الذي كتب الله- سبحانه وتعالى- له، ولكن هل المراد أجر عمله؟ لا؛ لأننا لو دعونا الله عز وجل بألا يحرمنا أجر عمله لكنا في ذلك معتدين؛ لأن أجر عمله لنفسه، إذن الإضافة هنا لأدنى ملابسة، والمراد بأجره: الأجر الذي نكسبه من موته وذلك بتجهيزه والصلاة عليه ودفنه، وكذلك بالمصيبة به إن كان هذا الميت ممن يصاب به الإنسان، فيكون المراد؛ الأجر الحاصل لنا بما نقوم به على هذا الميت أو بما أصابنا بمصيبته، أما أجره الذي هو عمله فليس لنا فيه حق، حتى نسأل الله عز وجل ألا يحرمنا أجره.

"ولا تضلنا بعده"، تسأل الله عز وجل ألا يضلك بعده سواء كان هذا الميت من أهل العلم الذين يهدون الناس بأمر الله عز وجل، أو كان من غير أهل العلم؛ لأنه ربما إذا مات المسلم وهذا المسلم ربما لا يبقى في الناس إلا ضالة يضلون بعدهم فتسأل الله عز وجل ألا يضلك بعد هذا الميت. نرجع إلى الفوائد، فيستفاد منه: أولًا: أنه ينبغي للإنسان أن يدعو بهذا الدعاء للميت؛ وهل يبدأ به قبل الدعاء الخاص أو يقدمه على الدعاء الخاص؟ نقول: الأمر في هذا واسع، إن قدّمه على الدعاء الخاص فيه مناسبة، وهي أن يبدأ بالدعاء العام الذي يشمل الميت وغيره ثم يأتي بالدعاء الخاص، والبداءة بالعام ثم الخاص موجدة في القرآن بكثرة منها ما مر علينا في التفسير قبل ليال: {واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231]؛ لأن هذه الصلاة ما أقيمت إلا على هذا الميت فكان البداءة بحقه أولى. ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه ينبغي البسط في الدعاء لما في البسط من فوائد سبقت الإشارة إليها، نعيدها لن لم يسمع: منها: زيادة الأجر؛ لأن الدعاء عبادة، فكلما زاد الإنسان في الدعاء زاد أجره. ثانيًا: الإلحاح في الدعاء، والله عز وجل يحب الملحين في الدعاء. ثالثًا: قد يبدو للداعي أشياء ما تخطر عليه لكنها تظهر له عند البسط في الدعاء، أن فيه زيادة ذل وخضوع لله عز وجل وهذا لا شك أنه يكسب العبد زيادة في الإيمان، المناجاة مع محبوبه، فكل محبوب يفرح بطول المناجاة معه، والدعاء مناجاة مع الله وكلما ازددت دعاء ازددت محبة لله عز وجل بمعنى: أن الإنسان بالتكرار قد يزداد خشوعًا لله عز وجل. ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لأحد نفعًا ولا ضرًا، بدليل أنه دعا ولو كان يملك لقال: قد غفرت لحينا وميتنا، ولم يقل: "اللهم اغفر لحينا وميتنا". ومن فوائد الحديث: ما يتضمنه الدعاء من شعور الإنسان بعلم الله وقدرته وكرمه، والشعور بالعلم؛ لأنك لا يمكن أن تدعو من لا يعلم، وقدرته لا تدعو من لا يقدر، وكرمه لا تدعو من لا يعطي ويتفضل، فالإنسان الداعي يشعر بذلك ولا شك، وهل هذا يكون دليلًا على إثبات السمع؟ نعم؛ لأن الله تعالى إذا لم يسمع كيف يجيب. ومن فوائد الحديث: الفرق بين الإسلام والإيمان؛ لقوله: "من أحييته .... إلخ". وقد يقلب الإنسان الدليل عليك ويقول: هذا دليل على أنه لا فرق بين الإسلام والإيمان، ولكن الرسول ذكر هذا من باب التفنن وأن الوفاة على الإيمان هي الوفاة على الإسلام. ولكننا نجيب عن ذلك: بأن حال الإنسان عند الموت لا يناسبها إلا الإيمان؛ لأنه أكمل؛

الإخلاص في الدعاء للميت

ولأن الإنسان حال الموت قد لا يتمكن من فعل ما يعتبر إسلامًا، كالصلاة والزكاة والصوم والحج، فدل ذلك على الفرق، والفرق بينهما مشروط بما إذا اجتمعنا، أما إذا ذكر كل واحد على حدة دخل كل واحد منهما في الثاني. ومن فوائد الحديث: أن للإنسان أجرًا في الصلاة على الميت وتجهيزه والصبر على مصيبته، لقوله: "اللهم لا تحرمنا أجره". ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الإنسان إذا كان حيًّا لا تؤمن عليه الفتنة، لقوله؛ "ولا تضلنا بعده"، وتأمل كلمة "بعده" حيث تشعر بأن الإنسان ما دام حيًّا، فإنه لا تؤمن عليه الفتنة، وكم من إنسان يرى نفسه أنه في خير ولكنه قد يصاب من حيث لا يشعر، ولا سيما إذا كانت عبادته لله عز وجل ليست متمكنة كما قال تعالى: {ومن النَّاس من يعبد الله على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ طمأنَّ به} إذا لم يأته شيء يكدر عليه واطمأن به، {وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدُّنيا والآخرة} [الحج: 11]. والفتنة التي قد تصيب الإنسان ضعيف العبادة إما شبهة، وإما شهوة، يلتبس عليه العلم فيضل ويبقى حيران، وإما شهوة، والشهوة: قد تكون محاولة لنيل المحبوب أو لدفع المكروه، قد يرتد الإنسان إذا أصيب بمصيبة، قد يصاب الإنسان مثلًا بفقد ابنه أو ابيه أو أخيه أو أحد عزيز عليه فتؤثر هذه المصيبة في قلبه حتى يرتد- والعياذ ابلله- لفوات محبوبه، وقد تكون الفتنة طلب محبوب لا فوات محبوب، يفتن الإنيان إما بالتكاثر في الدنيا وإما بشهوة الفرج وإما بغير ذلك فيضل؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يكون حذرًا من كل شيء وألا يعتمد على ما في قلبه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: "من سمع به فلينأ عنه، فإن الإنسان قد يأتي إليه وهو مؤمن فلا يزال به حتى يتبعه بما يبعث في قلبه من الشبهات"، فالمهم: أنك كن دائمًا مراقبًا لقلبك، ولا تعتمد على مجرد ما تفعله من عبادات، العبادات صحيح أنها بمنزلة السقي للقلب، لكن تحتاج إلى صيانة. الإخلاص في الدعاء للميت: 541 - وعنه رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلَّيتم على الميِّت فأخلصوا له الدُّعاء". رواه أبو داود، وصحَّحه ابن حبَّان. يعني: أن الرسول أمرنا أن نخلص الدعاء للميت، وإخلاص الدعاء قد يكون بالتعيين، وقد يكون بالصفة، بالتعيين بمعنى: أن أدعو له وحده، ويفسّره حديث عوف بن مالك؛ لأن إخلاص الشيء معناه: توحيده وتنقيته وإزالة ما يشوبه كما تقول: الإخلاص لله عز وجل: "فأخلصوا

استحباب الإسراع بالجنازة

له الدعاء" أي: اجعلوه خاصًّا به، فهو مرادف لقولنا: خصصوه بالدعاء؛ لأن الصلاة إنما أقيمت من أجله، فيكون هو أحق الناس بالدعاء فيها، ويمكن أن يكون الإخلاص بمعنى: الإخلاص لله عز وجل وأن يكون الإنسان في دعوته صادقًا حاضر القلب، فهناك فرق بين دعاء الإنسان المخلص وبين دعاء الغافل اللاهي، وهل يمكن أن يراد الأمران؟ نعم، وبناء على ذلك نستفيد من هذا الحديث أنه لابد أن يخصص الميت بالدعاء، وأن الدعاء العام لا يكفي، ولهذا ذكر العلماء من أركان صلاة الجنازة: أدنى دعاء للميت، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أخلصوا له الدعاء"، الدعاء: اسم مطلق يشمل أي دعاء كان حتى لو دعوت له مرة واحدة، لو قلت: "اللهم اغفر له" لكفى، وعلى هذا فيمكن أن تقتصر في صلاة الجنازة على التكبيرات الأربع والفاتحة واللهم صلِّ على محمد فقط واللهم اغفر له وتسلِّم، ثم قال: استحباب الإسراع بالجنازة: 542 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحةً فخيرٌ تقدِّمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رقابكم". متَّفقٌ عليه. قوله- عليه الصلاة والسلام-: "وأسرعوا بالجنازة"، الإسراع بها يتناول الإسراع في تجهيزها والإسراع في حملها ودفنها، وظاهر الإسراع في حملها من قوله: "إن تك صالحة .... إلخ"؛ لأن الذي يكون على الرقاب هو الحمل، ولكن مر علينا أنه إذا جاءنا لفظ عام ثم فرّع على هذا اللفظ العام حكم خاص فإنه يشمل العام والخاص، ويكون ذكر هذا الحكم المرتب من باب التمثيل مثل: "قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة". فقوله: بالشُّفعة في كل ما لم يقسم" عام، "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق"، هذا خاص بالأرض؛ لأن الأرض هي التي يكون فيها الحدود وفيها الطرق، لكن في كل ما لم يقسم يشمل حتى السيارة إذا كانت بين شخصين فباع أحدهما نصيبه منها على ثالث فإن للشريك الأول أن يشفِّع، وهذا القول هو الصحيح، وإن كان المشهور من المذهب أنه لا يشفع إلا في الأراضي، لكن الصحيح أنه عام، ومر علينا أيضًا قول بعض أهل العلم في قوله تعالى: {والمطلَّقات يتربصن .... } إلَّى قوله: {وبعولتهن أحقُّ بردهنَّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} [البقرة: 228]. فإن بعض أهل العلم يقول: {والمطلَّقات} يشمل المطلقة ثلاثًا ومن لها رجعة، وقوله: {وبعولتهنَّ} لمن لها رجعة، ولكن هناك آخر أن: {وبعولتهنَّ} عام حتى فيمن

طلقت ثلاثًا، وهذا قبل أن يحدد الطلاق بالثلاث، وقد أشرنا إليه فيما سبق، لشاهد أن قوله: "أسرعوا بالجنازة" عام يشمل الإسراع في تجهيزها وفي حملها وفي دفنها، كلما أسرعنا فهو أولى؛ لأن الجنازة إن كانت صالحة فإن روح الميت تقول: "قدموني قدموني"، وإن كانت غير صالحة فلا خير في جثة غير صالحة أن تبقى عند أهلها. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أسرعوا"، الإسراع معروف وهو المشي بسرعة، إلا أن أهل العلم يقولون: بشرط ألا يشق ذلك على المشيعين، وألا يخشى منه تفسخ الميت أو خروج شيء منه مع الخضخضة، فإن خيف تفسخه- كما لو كان الميت حريقًا وخيف من الإسراع به أن يتمزق- فإنه لا يسرع به، أو خيف أن يخرج منه شيء لكونه مصابًا بالبطن، وأنه مع الخضخضة ربما يخرج شيء فإنه لا يسرع به الإسراع الذي يخشى منه ذلك، وإلا فالأفضل أن يسرع، كذلك لو كان يشق على الناس بأن حمله شباب أقوياء صاروا يطيرون به والآخرون يشق عليهم ومتابعتهم فإن هذا أيضًا ليس مقصود الشارع؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الماشي يكون أمامها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها، وهذا يدل على ألا يكون الإسراع إسراعًا شديدًا يشق على الناس. وقوله: "فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه"، نعم إذا كانت صالحة فإنكم تقدمونها إلى خير؛ لأنكم تقدمونها إلى الجنة، فإن أول مراحل نعيمه هو قبره، فإذا قدمته إلى هذا القبر فقد قدمته إلى خير من الدنيا وما فيها، ولهذا قال: "فخير تقدمونها إلى"، وقال: "وإن تك سوى ذلك"، ولم يقل: وإن تك طالحة، وهذا من حسن التعبير. قال: "سوى ذلك" كراهة أن يقول: طالحة، أو سيئة، أو ما أشبه ذلك، وهذا كما قلت: من حسن تعبير الرسول صلى الله عليه وسلم. "فشر تضعونه عن رقابكم" ولم يقل: فشر تقدمونها إليه؛ لأنه لا ينبغي لنا أن نقدم أخانا المسلم إلى شر، لكنه قال: شر تتخلصون منه، وهذا صحيح، أي: أن الإنسان يؤمر أن يتخلص من الشر، وهذا أيضًا من بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم في لفظه قال: "فشر تضعونه عن رقابكم"، ما إعراب قوله: "فخير تقدمونها إليه" "فخير": خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: فذلك خير، وعلى كونها خبرًا لمبتدأ محذوف تكون الجملة "تقدمونها إليه" صفة لخير، وعلى أن "خير" مبتدأ تكون الجملة خبر المبتدأ، وكذلك نقول: "فشر تضعونه عن رقابكم" إما أن تكون مبتدأ خبرها "تضعونه"، أو خبلا لمبتدأ محذوف؛ أي: فذلك شر تضعونه عن رقابكم. يستفاد من هذا الحديث: أولًا: كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، وذلك من قوله: "أسرعوا بالجنازة"، ثم ذكر العلة، ومن هذا المنطلق نعرف أن ما جاء به من أسماء الله وصفاته فهو مبنى على كمال العلم وكمال النصح، فليس فيه ألغاز، وليس فيه أحاج، وليس فيه تضليل للناس، فإذا قال: "إن الله يفرح بتوبة عبده؛ يعني: أشد من فرح الإنسان ببعيره التي ضلت ثم وجدها"، هل نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد الفرح؟ لا، لو كان المراد سوى الفرح لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه

فضل اتباع الجنائز والصلاة عليها

ناصح، لا يكلم الناس بكلام وهو يريد غيره بدون بيان أبدًا، وكذلك في كل الصفات، وبهذا نرد على أهل التحريف الذين اتخذوا لأنفسهم اسمًا وهو أهل التأويل، ولكنهم في الحقيقة أهل التحريف، الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بكلام وهو يريد خلافه أبدًا إلا بينه. ويستفاد من الحديث: مشروعية الإسراع بالجنازة لقوله: "أسرعوا بالجنازة". ويستفاد منه: حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم بقرن الأحكام بعللها لقوله: "فإن تك"، "وإن تك"، كل هذا لنعرف العلة في الأمر بالإسراع. ويستفاد منه: إثبات عذاب القبر ونعيم القبر يؤخذ من قوله: "تقدمونها إليه"، و"شر تضعونه". ويستفاد من الحديث: أن من المسلمين من هو صالح، ومنهم من سوى ذلك، وجهه: انه قسّم من يصلى عليه، وغير المسلم لا يصلى عليه، وهذا كقوله تعالى عن الجن: {وأنَّا منَّا الصَّالحون ومنَّا دون ذلك} [الجن: 11]. وهؤلاء الذين دون ذلك مسلمون لما أرادوا أن يقسموا أنفسهم إلى مسلمين وغير مسلمين قالوا: {وأنَّا منَّا المسلمون ومنَّا القسطون فمن أسلم .... } [الجن: 14] الآية. فالجن قسموا إلى مسلم وكافر، وقسموا المسلم إلى صالح ودون ذلك، وهذا نظير هذا التقسيم في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. فضل اتباع الجنائز والصلاة عليها: 543 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد الجنازة حتَّى يصلَّى عليها فله قيراطٌ، ومن شهدها حتَّى تدفن فله قيراطان. قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين". متَّفقٌ عليه. - ولمسلم: "حتَّى توضع في اللَّحد". - وللبخاريِّ أيضًا من حديث أبي هريرة: "من تبع جنازة مسلمٍ إيمانًا واحتسابًا، وكان معها حتَّى يصلَّى عليها ويفرغ من دفنها؛ فإنَّه يرجع بقيراطين، كلُّ قيراط مثل جبل أحدٍ". قوله: "من شهد" بمعنى: حضر، ومنه قوله- فيما سبق-: "وشاهدنا وغائبنا"، إن الشاهد بمعنى: الحاضر. وقوله: "حتى يصلى عليها" "حتى" للغاية وليست للتعليل، وقد سبق لنا أن حتى تأتي للغاية وتأتي للتعليل فهنا للغاية، وفي قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتَّى ينفضوا} [المنافقون: 7]. هذه للتعليل أي: لينفضوا.

وقوله: "فله قيراط" هذه جواب الشرط، "ومن شهدها حتى تدفن". قوله: "حتى" للغاية أيضًا، و"تدفن" فيها- كما ترون- ثلاث روايات: تدفن، وتوضع في اللحد، ويفرغ من دفنها، فوضعها في اللحد وإن لم تدفن، وتدفن وإن لم يفرغ، ويفرغ من دفنها هو الغاية، فأي هذه الثلاثة الألفاظ الشامل للمعنيين الآخرين؟ حتى يفرغ من دفنها، وعلى هذا فيكون هو المعتمد، وهذا هو سر إتيان المؤلف به. وقوله: "قيراط" القيراط في حساب الفرائض: جزء من أربعة وعشرين جزءًا أو جزء من عشرين جزءًا على اصطلاحين عند أهل الفرائض، قد ذهب إلى هذا بعض أهل العلم وقال: المراد: جزء من أربعة وعشرين جزءًا من أجر أهل الميت الذين أصيبوا به، ولكن هذا القول ضعيف بل هو قول باطل؛ أولًا: أن كون القيراط جزءًا من أربعة وعشرين جزءًا اصطلاح حادث، ولا يمكن أن تنزل ألفاظ الكتاب والسنة على الاصطلاحات الحادثة؛ لأننا لو نزلناها على الاصطلاحات الحادثة لمنعنا دلالتها عن أهل العصر الذين نزلت في عصرهم وصارت عندهم بمنزلة حروف المعجم التي ليس لها معنى، وصار المعنى إنما يستفاد في عصر متأخر، وهكذا نقول في كل من حمل ألفاظ الشرع على الاصطلاحات الحادثة؛ فإننا نقول له إذا قلت بذلك فإنك قد سلبت دلالة القرآن عن أهل العصر الذين نزل في عصرهم وكان الأحرى أن يكون بالعكس، يعني: لو فرض أن القرآن ما هو صالح إلا لعصر واحد لكانت صلاحيته لعصر من كان في عصرهم أولى، والوجه الثاني مما يبطل هذا المعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسرها هو بنفسه لما سئل: ما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين"، ولا يمكن أن يفسر كلام أحد بخلاف ما فسره هو به، فعلى هذا نقول: إن القول بأنه جزء من أربعة وعشرين جزءًا باطل من وجهين. قوله: "من شهدها حتى يصلى عليها" واضح أن هناك شهودًا للجنازة قبل الصلاة عليها، فمن الناس من سيأتي منذ خروجها من بينها حتى يصلى عليها، أو من وجوده منتظرًا لها حتى يصلى عليها؛ لأن الغاية لابد أن يكون قبلها شيء مغيًا وإلا لما صحت؛ ولهذا اختلف أهل العلم هل لابد أن يصاحب الجنازة من بيتها أو يكفي إذا صلى عليها وإن لم يعلم بها إلا حين قدمت في مكان الصلاة؟ فمن العلماء من قال: لابد من أن نأخذ بظاهر الحديث ونقول: من مشى معها من البيت حتى يصلى عليها أو جاء إلى المسجد منتظرًا حتى يصلى عليها، وأما من لم يكن كذلك فلا يحصل له الأجر؛ لأنه لو كان الأجر يحصل بالصلاة لقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من صلى على جنازة؛ لأن شهودها من بيته إلى أن يصلى عليها أكثر عملًا، ولا يمكن أن يساوي الأكثر عملًا ما كان دونه، وعلى هذا فمن صلى فقط فله أجر معلوم عند الله، ولا يلزم أن يكون هو هذا الأجر المقدم، وقال بعض أهل العلم: بل المقصود: الصلاة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من

شهدها حتى يصلى عليها"؛ لأنه ربما يشهدها في حملها وتجهيزها ثم لا ينتظر الصلاة، فيكون المقصود هو الصلاة، وإنما ذكر ما قبلها؛ لأنه وسيلة إليها، ولكن مع ذلك لا يستوي الأجران: أجر من مشى معها من بيتها أو جاء منتظرًا لها حتى حضرت، وأجر من صلى عليها مصادقة بدون أن يكون مستعدًا لها. وقوله: "حتى تدفن" عرفتم الروايات فيها: "حتى توضع في اللحد، أو حتى يفرغ من دفنها) 9، وقلنا: نعتمد حتى يفرغ من دفنها؛ لأنه تجتمع فيه كل الروايات الثلاث، فإنه إذا فرغ من دفنها فقط شهدها حتى وضعت في اللحد وحتى دفن الميت ولكن لم يتم. قوله: "قيل: وما القيراطان؟ " القائل هو: أبو هريرة كما ورد ذلك في بعض الألفاظ، ثم إنه لا يعنينا أن نعرف عين القائل؛ لن المهم الحكم، ولهذا دائمًا يحذف الفاعل أو يبهم صاحب القصة لكنه ليس هو المقصود، المقصود: معرفة الحكم. وقوله: "مثل الجبلين العظيمين" في بعض الألفاظ: "أصغرهما مثل أحد"، وفي لفظ البخاري الثاني: "كل قيراط مثل جبل أحد"، وعلى هذا فيكون أحد جبلًا عظيمًا؛ لأنه كبير. وعلى هذا يستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: الترغيب في شهود الجنازة لإدراك هذا الأجر العظيم؛ ولهذا لما ذكر ذلك لعبد الله بن عمر قال: "لقد فرطنا في قراريط كثيرة"، ثم صار لا تفوته جنازة إلا خرج معها. ويستفاد من الحديث: أن هذا الأجر مرتب على الصلاة، ولكننا لا نجرم بذلك إلا لمن شهدها حتى يصلى عليها، وأما من أدرك الصلاة فقط فالله أعلم، لكن نرجو أن يكون كذلك. ومن فوائد الحديث: اختلاف الأجر باختلاف العمل، وجهه: أنه جعل من شهدها حتى يصلى عليها له قيراط واحد، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان اثنان، وهذا من كمال العدل. ويستفاد من هذا الحديث: أن القيراطين لا يحصلان إلا لمن شهد الصلاة والدفن، يؤخذ من قوله: "ومن شهدها حتى تدفن"؛ لأنه من المعلوم أن الصلاة سابقة على الدفن، فإن شهد الدفن دون الصلاة مثل: أن يمر رجل بأناس في المقبرة يدفنون ميتًا فحضر وشاركهم في الدفن، هل يحصل له أجرًا؟ الحديث فيه دليل على أنه يحصل له قيراط إلا إذا انضمت إليه الصلاة ولا يلزم حصول الأجر بانضمام شيء إلى آخر أن يحصل به منفردًا، إن صلى عليها في المقبرة يكون أدركهم قبل الدفن فصلى عليها وبقي حتى يدفن هذا يرجع له ذلك، بناء على ما سبق من أنه لابد أن يشهدها قبل الصلاة حتى يصلى عليها أو يكفي حصول الصلاة.

ومن فوائد الحديث: حرص الصحابة- رضي الله عنهم- على العمل لسؤالهم عن هذين القيراطين. ومن فوائد الحديث: الرد على أهل التفويض، من هم أهل التفويض؟ أهل التفويض: هم الذين يقولون: إن نصوص الكتاب والسنة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته ليس لها معنى معلوم عندنا، وإنما الواجب علينا أن نفوض علمها إلى الله، ما وجه الرد؟ ذلك أن الصحابة لما جهلوا اللفظ في هذه المسألة الجزئية استفسروا عنه، فلو كانت نصوص الكتاب والسنة غير مفهومة في أسماء الله وصفاته هل يدعها الصحابة بدون استفهام مع أنها زبدة الرسالة، فلما لم يستفهموا عنها علم أن معناها معلوم عندهم وهذا هو الواقع، لأن الله قال للرسول صلى الله عليه وسلم: {وأنزلنا إليك الّكر لتبين للنَّاس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكَّرون} [النحل: 44]. أي إنسان يقول: في القرآن شيء ما بين فقد قدح في مدلول هذه الآية؛ لأن معنى قوله هذا: أن الرسول لم يبين. فعلى هذا نقول: في هذا الحديث رد على أهل التفويض، وقد علمتم ما نقلناه عن شيخ الإسلام ابن تيمية من أن قول أهل التفويض من شر أقوال أهل البدع والإلحاد، مع أن بعض الجهَّال الآن يظنون أن هذا هو مذهب السلف، ولهذا يقولون عبارتهم- الكاذبة من وجه والصادقة من وجه- يقولون: "طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم"؛ لأن السلف عندهم بمنزلة الأميين الذين يقولون: ما ندري: فالذي يقول: ما أدري عما لا يدري فهو سالم بلا شك، ومع ذلك يقولون: طريقة الخلف أعلم وأحكم، وهذا تناقض بيّن؛ لن مبنى السلامة الحقيقية على العلم والحكمة، فيلزم من كون طريقة الخلف أعلم وأحكم أن تكون أسلم، أو نقول: يلزم من كون طريقة السلف أسلم أن تكون أعلم وأحكم، ولذلك هذه العبارة وإن قالها من قالها من العلماء الأجلاء فهي في الحقيقة مردودة على قائلها، وطريقة السلف- بلا شك- أسلم وأعلم وأحكم، أهل التفويض شيخ الإسلام رحمه الله يقول: إن قولهم شر أقوال أهل البدع؛ لأن قولهم يستلزم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين الحق في أسماء الله وصفاته، بل إن الله عز وجل ما بين الحق في أسمائه وصفاته، وهذا شر، يستلزم شيئًا آخر استطال أهل التخييل من الفلاسفة وغيرهم على أهل السنة زعموا أنهم ممثِّلة وقالوا: إذا كنتم لا تعلمون معاني الكتاب والسنة فاذهبوا نحن نعلمها، فالنبوات والمعاد والإله لا حقيقة له، إنما هو تخييل قام به عباقرة الإنسانية حتى يسنوا للناس طرقًا فيمشوا عليها بسبب هذا البعبع، يعني: الذي يخوفون به الصبيان، هم يقولون: جاء عباقرة من بني آدم وسنوا لهم طرقًا يعبرون عنها بالإصلاح أو التهديد، لكنهم يقولون: هناك رب، وهناك جنة ونار، والذي لا يطيعنا يدخله هذا الرب النار،

والذي يوافقنا يدخله الرب الجنة، وإلا فإن الحقيقة لا يوجد شيء، يقولون: كل هذا القرآن والسنة المقصود به: التخويف والتقويم، وأنتم لا تدرون ما معناهما؟ فنحن أعلم منكم. المهم: أن أهل التفويض قولهم باطل لا شك، وهذا الحديث مما يبطل قولهم. ومن فوائد الحديث: تفسير المعقول، أو إن شئت فقل: تفسير الموعود بالموجود، يؤخذ من قوله: "كالجبلين العظيمين"؛ لأن الجبلين مشهودان، والقيراطان موعودان، فيفسر الموعود الذي لا يرى بالمشهود الذي يرى: {وتلك الأمثل نضربها للنَّاس وما يعقلها إلَّا العالمون} [العنكبوت: 43]. قوله: "وللبخاري أيضًا"، كلمة "أيضًا" هذه تكرر كثيرًا في كلام الناس، وهي مصدر آضى يئيض أيضًا كباع يبيع بيعًا، ومال يميل ميلًا، وما معناها؟ معنى "آضى" أي: رجع، فعلى هذا يكون "أيضًا" يعني: رجوعًا على ما سبق، لكنها محذوفة العامل وجوبًا، مثل: "سبحان" ما يذكر معها عاملها، هذه أيضًا لا يذكر معها عاملها، فهي إذن إعرابها منصوبة على أنها مفعول مطلق عاملة محذوف وجوبًا، ومعناه: رجوعًا يعني: على ما سبق. قوله: "من تبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا"، وعلى هذا فلا يكون من تبع جنازة الكافر لا يكون له مثل الأجر، بل لابد من أن يكون المتبوع مسلمًا، وهذا الحديث مقيد للحديث السابق: "من تبع الجنازة حتى يصلى عليها" مقيد له على أننا قلنا: إن الأول فيه ما يدل على أن المراد بها جنازة المسلم من قوله: "حتى يصلى عليها"، والكافر لا يصلى عليه، إذن فهو عام أريد به الخصوص، وخص من قوله: "حتى يصلى عليه". وقوله: "إيمانًا واحتسابًا" أي: إيمانًا بما عند الله- سبحانه وتعالى- من الأجر، أو إيمانًا بما جاء به الشرع من الحث على اتباع الجنائز؟ الثاني، "واحتسابًا" يعني: انتظارًا وحسبانًا للأجر على الله- سبحانه وتعالى-، فالاحتساب بمعنى: أنه يحتسب بهذا العمل الأجر عند الله، وهذا يدل على إيمانه بالجزاء، وأما "إيمانًا" فهو الإيمان بأن هذا من الأمور المشروعة التي حث عليها الشرع. قال: "وكان معها حتى يصلى عليها"، هذا القول مشعر بأنه كان متبعًا لها من بيتها، "ويفرغ من دفنها"، وهنا نقول: إننا نأخذ بهذا؛ لن الحديث الذي سبق فيه لفظان: "حتى تدفن"، "حتى توضع في اللحد"، و"حتى يفرغ" يشمل الجميع. وقوله: "فإنه يرجع بقيراطين" يرجع من المقبرة يعني: مصطلحبًا لقيراطين، الباء هنا للمصاحبة، وقوله: "كل قيراط مثل جبل أحد" يدل على عظم هذين القيراطين، ويبطل قول من يقول: إنهما جزآن من أربعة وعشرين جزءًا من أجر المصاب، فإن هذا لا وجه له بعد تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم.

ويستفاد من هذا الحديث: أولًا: أنه ينبغي للإنسان أن يلاحظ الإيمان والاحتساب حتى تكون أعماله مبنية على قاعدة من الشرع وعلى انتظار الجزاء، وأما بقية الحديث فمستفاد مما سبق. كيفية السير في الجنازة: 544 - وعن سالمٍ عن أبيه رضي الله عنه: "أنَّه رأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمر، وهم يمشون أما الجنازة". رواه الخمسة، وصحَّحه ابن حبَّان، وأعلَّه النَّسائيُّ وطائفةٌ بالإرسال. من سالم وأبوه؟ سالم بن عبد الله بن عمر، وأبوه عبد الله بن عمر، قوله: "رأى النبي" أي: رؤيا بصرية، وعلى هذا فتكون جملة "يمشون" في موضع نصب على الحال؛ لأن "رأى" البصرية لا تنصب مفعولين، وإنما تنصب مفعولًا واحدًا، فإذا جاء بعدها ما قد يوهم أنه المفعول الثاني فاجعله حالًت تقول: "رأيت زيدًا راكبًا على الجمل"، فـ "راكبًا" حال، ولا يصح أن تقول: "راكبًا" مفعول ثانٍ؛ لأن "رأى" البصرية لا تنصب إلا مفعولًا واحدًا، وقوله: "وأبا بكر" معطوف على "النبي" وجملة "صلى الله عليه وسلم" جملة اعتراضية دعائية، وهي بلفظ الخبر، لكن معناها: الإنشاء، وقوله: "وهم يمشون" هذه الجملة حالية "أمام الجنازة" يعني: قدامها. يستفاد من هذا الحديث: مشروعية كون الماشي أما الجنازة، لأن ابن عمر أخبر بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر يمشون، وهذا يحتمل أنه رآهم جميعًا، ويحتما أنه رأى كل واحد على انفراد، لكن المهم: أن الجميع كانوا يمشون أمام الجنازة، ووجه كون المشي أمامها على ما قال أهل العلم: أن المشيِّع كالشافع للجنازة، فكان الأولى أن يكون أمامها يتقدمها، ولكن الحديث يقول: إنه معلُّ بالإرسال، وما معنى الإرسال؟ الإرسال: يطلق على معنى خاصٍّ وهو ما رفعه التابعي أو الصحابي الذي لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، هذا المرسل بمعناه الخاص، وتارة يطلق الإرسال على كل ما لم يتصل سنده لسقوط راوٍ بين المحدث به وبين من عزاه إليه، وهنا الحديث متصل بالنظر إلى سالم عن أبيه، فإذا جعلناه مرسلًا بالمعنى الخاص فالذي يسقط منه ابن عمر- أبوه- يكون الرافع له تابعيًا وهو سالم، وأما إذا جعلناه بالمعنى العام فيمكن أن بعض سنده فيه انقطاع. على كل حال: الإرسال يوجب ضعف الحديث حتى تعلم من الساقط، فإن علم الساقط ممن تقبل روايته قبل وإلا ردّ، وهذه المسألة- أعني: مسألة المشاة- أين يكونون من الجنازة؟

النهي عن اتباع النساء للجنازة

كل الأحاديث التي فيها لا تخلو من مقال وضعف، لكن فيها حديث المغيرة وهو لا بأس به، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب خلف الجنازة والماشي حيث يشاء منها". فجعل الماشي مخيرًا يكون أمامها، خلفها، عن اليمين، عن الشمال، أما الراكب فيكون في الخلف؛ لماذا؟ لئلا يعيق الناس عن المشي؛ لأن الدابة ربما تحزن، وربما تهون المشي فيعيق الناس، ثم لو قلنا له: ينبغي لك أن تتقدم وكان في مؤخر الناس لزم من هذا أن يؤذيهم بالعبور من عندهم، فلهذا صار المشروع أن يكون خلفها. والظاهر لي في هذه المسألة: أن الأمر فيها واسع، يكون الإنسان أمامها، يكون خلفها يكون عن يمينها، يكون عن شمالها، أما الذي يريد أن يحمل فأمره ظاهر لابد أن يكون قريبًا منها من أي اتجاه، لكن الكلام على من يمشي أمامها قد يقال: إن هذا فعل وقضية عين، رأوا أن الأنسب في تلك القضية بعينها وما دام حديث المغيرة لفظه يقول: الماشي حيث شاء منها فإن اللفظ له مدلول عام، فيكون أولى بالإتباع. فنقول: من أراد أن يمشي أمامها فعل، أو خلفها فعل، أو عن يمينها فعل، أو عن شمالها فعل، لكن أحيانًا يكون الإنسان لا يستطيع أن يمشي أمامها فهنا يمشي خلفها؛ لأنه يتعب، وأحيانًا يرى الإنسان أنهم يسرعون فيه إسراعًا كثيرًا فيجب أن يمشي أمامهم لأجل أن يخفف من هذا الإسراع لا سيما إذا كان له كلمة بحيث يقول: لا تشقوا على الناس أو ما أشبه ذلك، فما دام الأمر موسعًا فلينظر الإنسان إلى المصلحة ويتبعها. النهي عن اتباع النساء للجنازة: 545 - وعن أمِّ عطيَّة رضي الله عنها قالت: "نهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يعزم علينا". متَّفقٌ عليه. أم عطية من نساء الأنصار، وكانت رضي الله عنها ممن يغسل الأموات من النساء، ولها أحاديث كثيرة، تقول: "نهينا عن كذا" فإنه يحمل على أن الناهي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي له الأمر والنهي في عهد الصحابة- رضي الله عنهم-، ولا سيما إذا كانت المسألة من الأمور الشرعية التي لا تصدر إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأهل العلم يقولون: إن الصحابي إذا قال: "أمرنا" أو "نهينا" فإنه يحمل على الرفع، حتى لو جاء أحد من الناس، وقال: هذا ليس صريحًا في الرفع.

نقول: هنا ليس بصريح لكنه ظاهر فيه، والاعتماد على الظاهر وغلبة الظن في الأحكام الشرعية أمر جاء به الشرع، وعلى هذا فنقول: إننا نحمله على الظاهر، فما هو الظاهر الذي حملناه عليه؟ قلنا: إن الأمر والنهي في عهد الصحابة لمن؟ للرسول صلى الله عليه وسلم، لا سيما في الأمور التعبدية الشرعية. قولها: "نهينا عن اتباع الجنائز" هذه المسألة غير زيارة القبور، اتباع الجنائز: يعني: أن تخرج المرأة مع الجنازة، واتباع المرأة للجنائز على نوعين: النوع الأول: أن تتبع الجنازة إلّى المصلى وتصلي عليها وتنصرف، فيكون القصد هو الصلاة على الميت. والثاني: أن تشيع الجنازة وتتبعها إلى المقبرة، وتدخل المقبرة فهذا أشد من الأول من حيث النهي؛ لأن هذا يستلزم زيارة المرأة المقبرة، وزيارة المرأة للمقبرة على الصحيح محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور. ولكن قد يقول قائل: إذا خرجت مع الجنازة لا لقصد الزيارة فهل تدخل في اللعن؟ سبق لنا أنه إذا كانت المرأة لم تقصد الزيارة فإنها لا تدخل في اللعن، وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها ماذا تدعو به لأصحاب القبور. وقولها رضي الله عنها: "ولم يعزم علينا" استفدنا منه أمرين: الأمر الأول: أنها رضي الله عنها فهمت أن هذا النهي ليس على سبيل العزيمة، وعلى هذا فيكون للكراهة فقط. والأمر الثاني الذي استفدناه من هذا التعبير: أن المنهيات نوعان: عزيمة وغير عزيمة، وعلى هذا فليس كل نهي للتحريم على الإطلاق، وإنما يكون النهي أحيانًا للتحريم وأحيانًا للكراهة، وهذا هو الذي مشي عليه أهل العلم، إلا أنهم قالوا: إن الأصل في النهي التحريم، لكنهم لم يقولوا: إن النهي لا يأتي للكراهة أبدًا، بل قد يكون للكراهة وقد يون للتحريم، وهذا التقسيم الذي أشارت إليه أم عطية يدل على ذلك عزيمة وغير عزيمة، فإن كان عزيمة وجب اجتناب المنهي عنه وإن لم يكن عزيمة لم يجب، لكنه يطلق عليه أنه مكروه أو أنه منهي عنه. وقولها: "ولم يعزم علينا" يدل على أن اتباع الجنائز للنساء ليس محرمًا، يؤخذ من قولها: "ولم يعزم"، والراوي أدرى بما روى، ولا يمكن أن تقول: "نهينا ولم يعزم" إلا وعندها من القرائن ما يفيدها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد بالنهي العزيمة.

ولهذا تنازع بعض أهل العلم في قولها: "ولم يعزم علينا"، وقال: إن هذا منها وفهم لها، وفهمها لا يكون حجة على ما يقتضيه النهي، فما دامت أثبتت النهي فإننا نحن نأخذ بما أثبتت، أما قولها: "ولم يعزم" فهذا مبني على فهمها، وفهمها قد يكون صوابًا وقد يكون خطأ كغيرها، على أنه في بعض الروايات: "نهينا عن إتباع الجنائز"، ولم تذكر: "ولم يعزم علينا"، قالوا: وهذا هو المحفوظ "نهينا عن إتباع الجنائز" وعلى كل حال: فهذا الحديث محل تردد ونظر: هل نأخذ بقولها: "ولم يعزم علينا" لأنها راوية الحديث وأعلم بمدلوله، ولابد أن عندها من القرائن ما أخرج النهي من العزيمة، وهي صحابية ثقة عارفة بمدلول اللسان العربي وعارفة بالأحكام الشرعية؟ هذا احتمال أن نقول: إن النهي وكونه عزيمة أو غير عزيمة الأصل فيه أنه عزيمة هذا الأصل، وعلى هذا فيكون النهي للتحريم، أما أن يقال: إن قولها: "لم يعزم علينا" بالنهي وأنه بعد أن نهينا، يعني: رخص لنا، فهذا يأباه اللفظ غاية الإباء، ولا يدل على أن المرأة يباح لها أن تتبع الجنازة، وما استدلوا به من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في جنازة وكان معه امرأة فصاح بها عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "دعها"، فهذا الحديث إن صح فإنه يكون قبل النهي؛ لأن النهي ناقل عن الأصل، وإذا تعارض حديثان فإنه يرجح ما كان ناقلًا عن الأصل؛ لأن الأول مبتن عليه وهو الأصل، فإذا جاءنا ما ينقل عنه دل هذا على أنه حكم متجدد والأول على أصل البراءة. يستفاد من هذا الحديث: أولًا: نهي النساء عن إتباع الجنازة لقولها: "نهينا عن إتباع الجنائز". ومن فوائده: أن هذا أصل من الأصول التي يعرف بها أن الشارع يفرق في الأحكام بين الرجال والنساء، وأن التفريق بين الرجال والنساء في الأحكام له أصل في الشرع، هذه المرأة تنهى عن إتباع الجنائز، والرجل يؤمر بإتباع الجنائز، بل جعله الرسول صلى الله عليه وسلم من حقوق المسلم على المسلم. وهذا يتفرع عليه فائدة: وهي حكمة الشارع في التشريع حيث ينزل كل أحد في التشريع بما يليق به، فلما كانت المرأة ليست أهلًا للتشييع- لما يخشى من تشييعها من الفتنة ومن عدم الصبر حتى تبكي وتنوح- نهاها الشارع، وأما الرجل فلقوته وجلده وصبره أمره الشارع بأن يتبع الجنازة. ومن فوائد الحديث: أن النهي ينقسم إلى: عزيمة وغير عزيمة؛ لقولها: "نهينا ولم يعزم علينا". ومن فوائده: أن النهي عند الإطلاق عزيمة، ولو كان عند الإطلاق ليس عزيمة لم يحتج إلى قولها: "ولم يعزم علينا" وهو كذلك.

ومن فوائد الحديث: أن الصحابي قد يعدل عن اللفظ الصريح لنكتة، وهو قولها: "نهينا" دون أن تقول: نهانا. فإن قال ذلك تابعي، قال: نهينا، أو أمر الناس، أو ما أشبه ذلك، فقيل: إنه موقوف، وقيل: إنه مرفوع مرسل، وعلى كلا التقديرين لا حجة فيه لأنه إن كان موقوفًا فهو من قول الصحابي أو فعله، وإن كان مرفوعًا مرسلًا ففيه ضعف من أجل الانقطاع- سقوط الصحابي-. حكم القيام للجنازة: 546 - وعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع". متفقٌ عليه. قوله: "إذا رأيتم فقوموا" الجملة شرطية، ولكن أداة الشرط فيها غير جازمة، وجواب الشرط. قوله: "فقوموا" "إذا رأيتم" يعني: رؤية عين، "فقوموا" وإن لم تحاذكم بمجرد ما ترونها فقوموا، إلى متى؟ ما بين في هذا الحديث، ولكنه بين في حديث آخر حتى تجاوز الإنسان، ثم إذا قام فإن شاء تبع وإن شاء لم يتبع، ولهذا قال بعدها: "فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع"، "من تبعها" يعني: من قام وتبعها لما مرت به فلا يجلس حتى توضع على الأرض مدة، فإن وضعت في اللحد مباشرة فحتى توضع في اللحد، والحكمة من ذلك: تنبيه النفس على هذا الأمر الذي هو مآل كل حي وهو الموت، ولهذا علله النبي صلى الله عليه وسلم بأن الموت فزع، فلا ينبغي أن تمر بك الجنازة وأنت قاعد على حديثك كأن شيئًا لم يكن، كما يرمي إليه أهل الكفر الذين يريدون أن ننسى الاتعاظ بالموت، حتى قال بعض الناس: إن أصل هذا الحفل بالسيارات والأبهة وما أشبه ذلك إن أصله كان من الغرب يريدون بذلك أن يشتغل الناس عن ذكر الموت بهذه الحال، وكذلك أيضًا لها علة أخرى وهي أنها نفس، والنفس مخلوقة لله عز وجل، وقد كانت الآن منفصلة عن بدنها فكان لها نوع من الاحترام أو الإكرام، وورد أيضًا أن معها ملكًا. وكل هذه الأشياء لا ينافي بعضها بعضًا؛ إذ يجوز تعدد العلل لمعلول واحد كما يثبت الشيء بعدة طرق، الحد يثبت بشهادة الشاهدين وبإقرار المشهود عليه وبوجود الشيء عنده، لو ادعيت على شخص أنه سرق مني كذا، أو كذا أو أنه جحد لي كذا وكذا ووجدناه عنده وأقر به هو وأتيت بشاهدين بكم طريق كان إثباته؟ ثلاث طرق، فتعدد الأدلة جائز؛ لأنه يزيد الشيء

تقوية، فهذه العلل التي جاءت بها الأحاديث في الأمر بالقيام للجنازة لا ينافي بعضها بعضًا، والمهم: أنك تقوم إذا رأيت الجنازة. وقوله: "فقوموا"، هل هذا الأمر للوجوب؟ الأصل في الأمر الوجوب، فيقتضي أنه يجب علينا أن نقوم إذا رأينا الجنازة، لكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام ثم قعد، وهذا يدل على أن الأمر ليس للوجوب، ولكن هذا الحديث "قام ثم قعد" لا يدل على أن الحكم نسخت مشروعيته؛ لأن من شرط النسخ عدم إمكان الجمع بين الدليلين، فإن أمكن الجمع وجب، ولا يجوز أن نلجأ إلى النسخ؛ لأن النسخ معناه: إبطال دلالة أحد الدليلين، وهذا لا يجوز إلا بأمر لابد لنا منه. وقوله: "ومن تبعها فلا يجلس حتى توضع"، لما في ذلك من الاحترام للميت؛ ولأن الميت إذا تبع كان إمامًا، والإمام لا يتخلف الإنسان عنه كالإمام في الصلاة نتابعه، كذلك هذه الجنازة التي نمشي بها، نحن تبعناها فلا نجلس؛ لأن هذا ينافي المتابعة، وينافي أن تكون الجنازة إمامًا لمتبعيها؛ ولهذا قال العلماء: إنه يكره الجلوس لمن تبعها حتى توضع في الأرض للدفن، وأما إذا وضعت لسبب آخر كما لو وضعوها في الأرض لإصلاحها، مثلًا مالت إلى جانب من النعش فإنهم لا يجلسون وإنما يصلحونها، ثم يحملونها ويمشون، لكن إذا وضعت في الأرض للدفن فحينئذ يجوز الجلوس؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس حين انتهى إلى قبر رجل من الأنصار، ولما يلحد جلس صلى الله عليه وسلم وجلس حوله أصحابه كأن على رءوسهم الطير، وفي يده مخصرة ينكت بها الأرض فحدثهم عن حال الإنسان عند الموت وبعده وعند دفنه حديثًا يعتبر موعظة، فهذا يدل على أنها لو وضعت على الأرض للدفن لانتهى النهي. وقوله: "لا يجلس حتى توضع" "حتى" هنا للغاية، الفرق بين حتى الغائية وحتى التعليلية: أنه إذا كان يحل محلها "اللام" فهي تعليلية، وإن كان يحل محلها "إلى" فهي غائية، وكلاهما ينصب الفعل المضارع، قوله تعالى: {قالوا لن نَّبرح عليه عاكفين حتَّى يرجع إلينا موسى} [طه: 91]. "حتى" هنا غائية، {فقاتلوا الَّتي تبغي حتَّى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات: 9]. تصلح أن تكون غائية وتصلح أن تكون تعليلية يعني: قاتلوها إلى أن ترجع، أو قاتلوها لأجل الرجوع. يستفاد من هذا الحديث: مشروعية القيام للجنازة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، ولولا أنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قام وقعد لقلنا: إن الأمر للوجوب، واعلموا أن كلمة "مشروعية" صالحة للوجوب وللاستحباب؛ ولهذا إذا قالوا: يشرع كذا؛ فلا نقول: إنه سنة أو واجب؛ لأنه صالح لهما جميعًا، إذ إن السنة مشروعة، وكذلك الواجب مشروع، إذن نقول: مشروعية القيام للجنازة إذا رؤيت.

كيفية إدخال الميت القبر

ثانيًا: أنه ينبغي للإنسان أن يولي الموت عناية واهتمامًا، ويشعر نفسه بالفزع لرؤية الميت، لقوله: "فقوموا"، فإن ذلك فزع يفزعه الإنسان حتى يقوم. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز لمن قام لرؤية الجنازة أن يتبعها أو لا يتبعها؛ لقوله: "فمن تبعها"، ولم يقل: فقوموا واتبعوها. ومن فوائد الحديث: أن حمل الميت وكذلك دفنه ليس فرض عين، وجهه: لو كان فرض عين لقال: اتبعوها، ولوجب على كل من رآها أن يتبعها، فليس فرض عين ولكنه فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإن رأيت طفلًا صغيرًا بيد رجل حمله إلى المقبرة فهل اتباعه فرض عين؟ هل الذي وحده يتمكن من دفنه؟ لو ذهب إلى المقبرة ووضعه فجاء كلب فأكله فهذا ممكن وارد، فهو يحتاج إلى مساعدة على الأقل إلى حماية الطفل عندما يذهب ليأتي بالماء واللبن، فالظاهر أنه لا يكفي واحد في دفن الجنازة. فالحاصل: أن أفراد المسائل تنطبق على الضوابط والقواعد، فما دمنا نقول: إنه فرض كفاية إذا وجدنا مع الجنازة من لا يكفي وجب علينا أن نتبع، كما لو رأينا رجلًا كبير الجسم لا يحمله إلا أربعة وليس معهم غيرهم والمقبرة بعيدة فيتعين الإتباع؛ لأننا نعلم أن هؤلاء سيشق عليهم مشقة شديدة. ومن فوائد الحديث: أن النهي عن الجلوس مغيًّا بعناية وهي: "حتى توضع" فهل يستفاد منه تقييد الأحكام الشرعية بغايتها، بمعنى: أن يصدر حكم من الشارع مغيًّا بغاية إذا وجدت زال؟ ممكن: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب"، والأحكام الشرعية المغياة بغاية كثيرة. كيفية إدخال الميت القبر: 547 - وعن أبي إسحاق، أن عبد الله بن يزيد رضي الله عنه أدخل الميِّت من قبل رجلي القبر، وقال: "هذا من السُّنَّة". أخرجه أبو داود. "أبو إسحاق" هو: السبيعي الهمداني تابعي، وعبد الله بن يزيد صحابي، إذا قال الصحابي: "من السنة" يعني بذلك: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد بالسنة المضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: الطريقة، وهي شاملة للواجب وللمستحب، بمعنى: أنه قد يقال: من السنة كذا وهو واجب، وقد يقال: من السنة كذا وهو مستحب، ففي حديث عليّ- وإن كان ضعيفًا-، ولكن نقرأ للتمثيل: "من السنة وضع اليد على اليد تحت السرة". أي سنة هذه؟ المستحب على القول بأنه حجة، قول

ابن عباس حين قرأ الفاتحة في صلاة الجنازة وقال: "لتعلموا أنها من السنة" أي سنة هذه؟ الواجبة، وقول أنس: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا" الواجب هذا بالنسبة للسنة المضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أما السنة التي اصطلح عليها الأصوليون فإنهم يعنون بالسنة خلاف الواجب، يعني: يقسمون الأوامر إلى قسمين: واجب محتم وسنة غير محتمة، وأكثرهم أيضًا لا يفرق بين المستحب وبين السنة، فيرى أنه يجوز أن تعبر: "يسن كذا"، أو "يستحب كذا"، وبعضهم يقول: لا، ما ثبت باجتهاد، فقل: مستحب، وما ثبت بدليل فقل: سنة. فيستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي في دفن الميت أن يدخل القبر من عند رجلي القبر، فيكون الميت يؤتى به في مقبرتنا هذه من ناحية الجنوب ثم يدخل هكذا ينزل تنزيلًا في القبر حتى يكون أول ما يدخل القبر رأسه، فتكون الحكمة من ذلك- والله أعلم-: لأن الرأس أشرف الأعضاء؛ ولهذا عند الصلاة يقف الإمام عند رأس الرجل؛ لأن الرأس فيه الوجه، والوجه أشرف الأعضاء، فيه الناصية التي هي محل التدبير والتنفيذ المكسب الخاص هو الناصية، وهي في مقدمة الرأس ولهذا قال الله تعالى: {مَّا من دابةٍ إلَّا هو آخذ بناصيتها} [هود: 56]. والعلماء يقولون: إن المخ فيه عدة مخازن، كل مخزن له خاصية، المخزن المقدم خاصيته التدبير، يعني: تلقي الأوامر من القلب، نحن لا نوافقهم على أن التدبير في المخ، نقول: كذبتم، التدبير في القلب؛ لأن الله تعالى نص على هذا: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها}. وقال تعالى: {فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الَّتي في الصُّدور} [الحج: 46]. يعني: ما وراء هذا التدبير من بيان على أن القلب هو محل العقل وهو محل التدبير، لكن لا شك أن المخ- بإذن الله- سكرتير موصل ومنفذ، فالتصور في المخ، يتصور الشيء ويحرره ويزينه من كل وجه، ثم يرسل للقلب يقول: ماذا تقول أيها الملك؟ يوقع الملك على أنك تفعل كذا أو دبر كذا فيشتغل الدماغ يوزع الأعضاء، فيكون الدماغ مصدرًا للقبول والتنفيذ؛ يعني: ورود وصدور، صادر ووارد، هذا الدماغ، لكن القلب لا شك أنه هو الأصل ولو جاءوا بكل ما يأتون به قلنا: كذبتم؛ لأن قول الله عز وجل واضح وصريح. الحاصل: أن الحكمة- والله أعلم- في إدخال القبر من قبل رأسه- وهو رجلي القبر- لأن الحقيقة أن جر الإنسان وقيادته تكون من الناصية، وهذا الحديث رواه أبو داود، ومن أهل العلم من قال: إنه حديث ضعيف؛ ولهذا مذهب الحنفية أن الميت يدخل من قبل القبلة- قبلة القبر- يدخل عرضًا من جهة قبلة القبر كما هو المتبع الآن عندنا، وهذا الأمر ليس على سبيل

الوجوب حتى نتكلف بحيث لو كان بجانب رجليه قبر نتعب، هذا الأمر إذا صح فهو على سبيل الاستحباب. 548 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وضعتم موتاكم في القبور، فقولوا: باسم الله، وعلى ملَّة رسول الله". أخرجه أحمد، وأبو داود، والنَّسائيُّ، وصحَّحه ابن حبَّان، وأعلَّه الدَّارقطنيُّ بالوقف. أولًا يقول: "إذا وضعتم موتاكم في القبور" يعني: عند الوضع "فقولوا" هذا جواب الشرط، "باسم الله" الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: أضع، ذكرنا فيما سبق أن المتعلق يقدر بحسب الفعل الذي تريد أن تفعله. وقوله: "وعلى ملة رسول الله" يعني: ودفناه على ملة رسول الله "والملة" هي: الدين كما قال الله تعالى: {ثمَّ أوحينا إليك أن اتَّبع ملَّة إبراهيم حنيفًا} [النحل: 123]. وقال وتعالى: {مِّلة أبيكم إبراهيم} [الحج: 78]. فالملة هي: الدين، وفي حديث آخر: "باسم الله وعلى سنة رسول الله"، والمعنى متقارب؛ لأن المراد بالسنة: الطريقة. وقوله: "وعلى ملة رسول الله" أو سنته بماذا؟ أي: في وضعه ولحده وتوجيهه إلى القبيلة، ولكن الحديث يقال: إنه معلول بالوقف، وقد سبق لنا أن من شروط صحة الحديث أن يكون سالمًا من الشذوذ ومن العلة القادحة، ولننظر في الوقف: هل هو علة قادحة أو لا؟ هذا يرجع إلى من رفعه إذا كان من رفعه ثقة، فإن الزيادة التي صار بها مرفوعًا تكون زيادة من ثقة، وزيادة الثقة مقبولة؛ لأن عندنا مثلًا إنسان حدَّث بهذا الحديث وساق السند إلى ابن عمر ثم وقف، وقال: "إذا وضعتم"، وآخر ساق سند الحديث، ووصل إلى ابن عمر، وقال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" صار مع هذا الرافع زيادة علم، هذه الزيادة إذا كانت من ثقة فإنها مقبولة، ولهذا إذا تعارض الرفع والوقف وكان الرافع ثقة فإن الوقف لا يكون إعلالًا، لماذا؟ لأنه من الجائز، بل قد يكون كثيرًا أن يكون الرافع له أحيانًا يحدِّث به رافعًا له إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأحيانًا يحدِّث به بنفسه، كما لو كنا الآن نتحدث حديثًا وقلنا: ينبغي للإنسان أن يحسن نيته وألا ينوي بعمله إلا الله فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، هذا الحديث لا شك أنه مرفوع، لكن قد يقوله المحدث استشهادًا على حال من الأحوال، ربما كان ابن عمر خارجًا في جنازة فقال لهم:

الميت يتأذى بما يتأذى به الحي

"إذا وضعتم الميت فقولوا: باسم الله وعلى ملة رسول الله"، فسمعه أحد الرواة، فحينئذ هل يرفعه أو يقفه؟ يقفه؛ أن ابن عمر ما رفعه ثم يحدِّث به ابن عمر على سبيل التحديث فيروى عنه مرفوعًا، وهذه هي القاعدة في مسألة الرفع والوقف أنه إذا تعارض الرفع والوقف وكان الرافع ثقة فإنه يؤخذ به؛ لأن معه زيادة علم، والزيادة من الثقة مقبولة، ولأن ذلك لا ينافي الوقف، فإن راوي الحديث قد يقوله من عند نفسه لتطبيق ما دل عليه الحديث. فيستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي إذا وضع الميت في لحده أن يقول: "باسم الله، وعلى ملة رسول الله" والذي يقوله الواضع دون الذي حوله، فلو قاله الذين حوله فإن ذلك لا يكفي؛ لأن هذه السنة تتعلق بالفاعل، كما لو أن أحدًا رأى شخصًا يريد أن يذبح ذبيحة فقال الذين حوله: "باسم الله" ثم ذبحها الذابح، فهل تحل الذبيحة؟ لا، لا تحل؛ لأن ما علق على فعل الفاعل فلابد أن يكون صادرًا من الفاعل نفسه. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يذكر نفسه ولو بقلبه عندما يفعل الفعل أنه متابع لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: "وعلى ملة رسول الله"، وقد ذكرنا سابقًا: أنه ينبغي للإنسان عند فعل العبادة أن يستحضر شيئين: الأول: امتثال أمر الله- سبحانه وتعالى- كأن الله يأمره الآن فهو ينفذ، والثاني: يشعر كأن الرسول صلى الله عليه وسلم الآن أمامه ليقتدي به؛ لأن هذا هو تحقيق الإخلاص والمتابعة. الميت يتأذى بما يتأذى به الحي: 549 - وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كسر عظم الميت ككسره حيَّا". رواه أبو داود بإسنادٍ على شرط مسلمٍ. "كسر" مبتدأ، وخبره "ككسره"، و"حيًّا" حال من الضمير في قوله: "كسره" يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه لا يجوز أن يكسر عظم الميت، أو بعبارة أصح: يقول- عليه الصلاة والسلام-: إن كسر عظم الميت ككسر عظمه حيًّا، يعني: في الحرمة، والاحترام وعدم التعرض له؛ لأن المسلم- بل بعبارة أعم: لأن المعصوم- معصوم في حياته وبعد مماته، فالموت لا يهدر كرامة المعصوم أبدًا بل كرامته باقية، لا يقول قائل: إن هذا ميت لا يتألم كما قيل: [الخفيف]

من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرحٍ بميتٍ إيلام فإنه وإن كان لا يتألم لكن له حرمة. هذا الحديث يدل على عدة فوائد: أولًا: تحريم كسر عظم الميت إذا كان معصومًا، يؤخذ من قوله: "ككسره حيًّا"، ومن المعلوم بالنص والإجماع أنه لا يجوز الاعتداء على الحي بكسر عظمه. ويستفاد من الحديث: أنه لا يجوز للإنسان أن يتبرع بعد موته لأحد بشيء من أعضائه، لماذا؟ لأنه يلزم منه فصل هذا العضو عن الجسد، وفصله لا يجوز، ولهذا قال فقهاء الحنابلة: لا يجوز أن يفصل منه عضو بعد موته ولو أوصى به، قال مثلًا: إذا مت فخذوا من جسدي كذا وكذا لفلان؛ فإنه لا يجوز. ويستفاد من الحديث: أنه لو ضاق القبر على الميت فإنه يجب أن يوسع حتى يمتد كاملًا، ولا يفعل كما يفعل بعض الجهال- والعياذ بالله- حيث ذكر لنا أن بعضهم إذا كان الميت قبره ضيقًا كسر عظامه وضم بعضه إلى بعض- والعياذ بالله- فإن هذا شناعة عظيمة، بل الواجب أن يبقى الميت على ما هو عليه بدون إهانة له. ومن فوائد الحديث: أنه لو وجد شخص متقطع بحادث فإنه يضم بعضه إلى بعض، كما أن الحي لو تقطع أوصاله ثم أمكن جبرها فإنها تجبر، كذلك الميت يضم بعضه إلى بعض وتربط ويصلى عليها. فإن قلت: لو وجد بعض حي مثلًا: رجل أصيب بحادث وانقطعت يده أو رجله وهو حي: فهل يصلى على رجله؟ لا؛ لأنه ما خرجت روحه هو حي، أما لو وجد بعض ميت بأن يكون هذا الإنسان أصابه حادث وتلف جسمه إلا رجله فإنه يصلى عليه- يصلى على رجله، وكذلك لو وجد جملته وفقد بعض أعضائه فإنه يصلى عليه، وقولنا في أثناء الشرح: "كسر عظم الميت ككسره حيًّا" قلنا: لابد أن يكون الميت معصومًا وهو المسلم والذمي والمعاهد والمستأمن، أما الحربي فإنه يجوز أن يكسر عظمه؛ لأنه لا حرمة له، ولكن إذا كان ذلك على سبيل التمثيل فإنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التمثيل كما مر علينا في حديث بريدة: "لا تمثلوا". أما إذا لم يكن على سبيل التمثيل فإنه لا بأس به، كيف ذلك؟ يعني مثلًا: انتهت الحرب وما أردنا أن نغيظ هؤلاء الكفار، ولكننا أردنا أن ننتفع بهذه الأعضاء من هذا الميت الكافر فالظاهر أن ذلك جائز؛ لأنه ليس من التمثيل به، وقد سبق لنا أنهم إذا مثلوا بنا فإننا نمثل بهم.

اللحد والشق في القبر

قوله: "بإسناد على شرط مسلم" ما معنى ذلك؟ على أن رجاله رجال مسلم، وأيضًا أنه لا يشترط ثبوت اللقي، بل الذي يشترط هو المعاصرة فقط. وهذه المسألة اختلف فيها البخاري ومسلم، ولا شك أن الرأي رأي البخاري فيها، فالبخاري قال: لابد من ثبوت الملاقاة بين الراوي ومن روى حتى يتحقق الاتصال. فالأقوال ثلاثة: إما أن تثبت ملاقاته، أو تثبت عدم ملاقاته، أو تثبت المعاصرة ولم تثبت الملاقاة ولا عدمها، إذا ثبت عدم الملاقاة فقد اتفق البخاري ومسلم على أنه لا يعتبر متصلًا، وإذا ثبتت الملاقاة فهو متصل يحكم بالاتصال إلا أن يصرح بأنه لم يسمعه منه فإنه صرّح بأنه لم يسمعه منه فإننا نعدو ما صرح به، وأما إذا لم تثبت الملاقاة وعدمها ولكن المعاصرة ثابتة فمسلم رحمه الله يرى أنه متصل والبخاري يرى أنه غير متصل، ولا شك أن ما ذكره البخاري أصح؛ لأن الأصل عدم الملاقاة حتى تثبت. 550 - وزاد ابن ماجه من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها: "في الإثم". وفائدة هذه الزيادة ألا يكون كسر عظم الميت ككسره حيًّا في الضمان إنما هو في الإثم فقط، بمعنى: لو أن أحدًا كسر عظم الميت لا نقول: إذا كسر الساق ففيه بعيران، ولكن نقول: إنه آثم، أما الضمان فإنه لا يضمن. اللحد والشق في القبر: 551 - وعن سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه قال: "ألحدوا لي لحدًا، وانصبوا عليَّ اللَّبن نصبًا، كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم". رواه مسلم. قوله: "ألحدوا" هذا يوصي أهله كيف يدفنونه، فقال: "ألحدوا لي لحدًا" "ألحدوا" من الرباعي بكسر الحاء، وأما من الثلاثي من لحد، فهي بالفتح "ألحدوا"، إذن يجوز فيه وجهان، واللحد سبق أنه: الشق في جانب القبر مما يلي القبلة، وسمي لحدًا لميله إلى جانب القبر، وأصل الإلحاد في اللغة: الميل كما قال تعالى: {وذروا الَّذين يلحدون في أسمائه} [الأعراف: 180]. أي: يميلون فيها، وقال: {إنَّ الَّذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا} [فصلت: 40]. وقال: {ومن ير فيه بإلحاد بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ} [الحج: 25]. إذن فاللحد سمي بذلك لميله إلى جانب القبر. وقوله: "وانصبوا عليَّ اللبن نصبًا" هذا يثبت بالضرورة من اللحد؛ لأن اللحد لا يمكن أن يستمسك اللبن فيه إلا إذا نصب نصبًا، يعني: يوقف توقيفًا؛ لأنه لو وضع تسطيحًا لخر على الميت ولم يثبت، إذن ينصب اللّبن نصبًا، وهذا أقوى للبن من أن يكسر؛ لأنه إذا كان قائمًا صار أثبت له.

وقوله: "كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم" من الذي صنع به ذلك؟ الصحابة- رضي الله عنهم- العباس، وعلي بن أبي طالب، ومن حضر من الصحابة فقد أقر ذلك. وعلى هذا فيكون في هذا الحديث فوائد: أولًا: جواز وصية المريض فيما يفعل به بعد موته، الدليل: فعل سعد بن أبي وقاص. فإن قلت: هذا فعل صحابي، فما الجواب؟ الجواب أن يقال: إن الصحابي فعله حجة إلا أن يوجد ما يخالفه من نص كتاب أو سنة أو قول صحابي آخر، فإن عارضه كتاب أو سنة رفض، وإن عارضه قول صحابي آخر نظر في الراجح، ولكن هذه الوصية من سعد يؤيدها وصية أبي بكر رضي الله عنه، بماذا أوصى؟ أوصى بالاقتصاد في الكفن أن يكفن بالغسيل دون الجديد. يستفاد من هذا الحديث: أن الأفضل في الدفن اللحد، وضده الشق، والشق أن تحفر الحفرة في وسط الأرض هذا الشق، واللحد أن تكون في جانبه مما يلي القبلة، إلا أن العلماء قالوا: إذا لم يمكن اللحد رجعنا إلى الشق، كيف لا يمكن؟ قالوا: إذا كانت الأرض رخوة مثل الرمل لا يمكن فيه اللحد، وإنما يشق شقًّا في الوسط ويوضع لبنات من الجانبين ثم يوضع الميت بينهما ثم يوضع عليه اللَّبن، وهذا معلوم أنه لا يمكن إلا هكذا؛ لأنه لو لحد لانهال عليه التراب ثم ييبس الرمل وينهال. ويستفاد من هذا الحديث: أن الذي ينبغي في اللَّبن أن يكون منصوبًا لا مسطحًا؛ لأن ذلك أثبت له وأقوى لتحمل التراب. ويستفاد من الحديث: الاقتداء بما فعله الصحابة وأقروه؛ لأن سعدًا استدل بفعل الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يدل على أن فعل الصحابي حجة ما لم يخالف الدليل. 552 - وللبيهقيِّ عن جابرٍ رضي الله عنه نحوه، وزاد: "ورفع قبره عن الأرض قدر شبرٍ". وصححَّه ابن حبَّان. يعني: أن البيهقي روى عن جابر نحو هذا اللفظ الذي ذكره سعد، ولكن فيه زيادة وهي: "رفع القبر عن الأرض بمقدار شبر"، وهذا أمر لابد أن يكون، حتى وإن لم ترد به السنة لابد أن يرتفع، وجه ذلك: أمران: الأول: أن المساحة التي شغلها الميت كانت بالأول مملوءة ترابًا والآن صارت فضاء، وقد نقل هذا التراب منها ومن غيرها من القبر.

النهي عن البناء على القبور وتجصيصها

وثانيًا: أن التراب إذا كان بأصل الخلقة فإنه منكبس تمامًا، بخلاف ما إذا حفر فإنه يتفرق ويتفتت فلابد أن يرتفع هذا التراب الدفين عن التراب الأصلي، ولكن هل يضاف إليه شيء من تراب آخر؟ الجواب: لا، لأنه ورد النهي عن ذلك أن يضاف إلى القبر شيء من تراب آخر؛ ولأنه لو أضيف شيء لارتفع ارتفاعًا أكثر من المعتاد وصار في ذلك فتح ذريعة لأن تشيد القبور وترفع وتعلى، وقد قال علي رضي الله عنه لأبي الهياج: "ولا قبرًا مشرفًا إلا سوّيته". النهي عن البناء على القبور وتجصيصها: 553 - ولمسلمٍ عنه رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصَّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبني عليه". قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم" النهي هو: طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة معينة خاصة وهي "لا" المقرونة بالفعل لمضارع، قولنا: "طلب الكف"، خرج به الأمر فليس نهيًا؛ لأن الأمر طلب الفعل، وقولنا: "على وجه الاستعلاء" خرج به الدعاء، وخرج به الالتماس؛ لأن الداعي يدعو لا على أنه أعلى من المدعو، بل على أنه أقل وأدنى مع أن الصيغة صيغة نهي، كقوله تعالى: {ربَّنا لا تؤاخذنا إن نَّسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. وخرج به أيضًا الالتماس وهو: أن يطلب الكف من مساوٍ له، فهذا يسمى عند أهل البلاغة: التماسًا، مثل أن يقول الزميل لزميله: "لا تكتب كذا" هذا يلتمس التماسًا، وخرج بقولنا: "بصيغة معينة هي المضارع المقرون بلا" خرج بذلك ما دل على النهي بصيغته التركيبية أو من حيث المادة، ما دل على النهي بمادته مثل: اجتنب، اترك، كف، هذا طلب ترك، لكن ليس بالصيغة المعينة فلا يكون نهيًا، لكن معناه نهي، إذن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم يعني: قال: "لا تفعلوا كذا". فإن قلت: هل هذا من باب الصريح المرفوع صريحًا، أو من باب المرفوع حكمًا؟ قلت: هذا من باب المرفوع صريحًا؛ لأنه أضاف النهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما لو قال: "نهينا" أو "نهي الناس" لكان من المرفوع حكمًا. ولكن قد يقول قائل: لماذا عدل الصحابي عن قوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجصصوا القبور"؟ قلنا: لعل الصحابي اختلطت عليه الصيغة المعينة التي نطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم فنقلها بالمعنى. فإن قلت: إذا كان كذلك أفلا يمكن أن يكون الصحابي فهم النهي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه؟ هذا احتمال، لكن بعيد؛ لأن الصحابي يعلم اللغة العربية ويعرف ما يراد به النهي وما يراد به الخبر، وما يراد به الأمر، ولا يمكن أن يكون صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الملازمون

له لا يعرفون مدلول كلامه ولا يفرقون بين النهي والخبر أو بين النهي والأمر، هذا شيء مستحيل، فقرينة الحال تمنع ذلك. قوله: "أن يجصص القبر" أي: أن يوضع فيه الجص أو عليه، سواء كان فيه أو عليه فلا يجصص اللحد، ولا يوضع الجص أيضًا على ظاهر القبر لما في ذلك من الغلو في المسألة الأولى، ومن ذريعة الشرك والكفر في المسألة الثانية؛ لأنه إذا جصص القبر ظاهرًا تطاول الناس في هذا وتسابقوا أيهم أحسن شكلًا، فهذا يقول: أنا أريد أن يكون قبر أبي أحسن القبور التي حوله، والثاني يقول ذلك، حتى يتباهى الناس في القبور ثم يؤدي ذلك إلى الشرك، والشرك كما قلنا سابقًا؛ لذا وضع النبي صلى الله عليه وسلم كل الحواجز التي تحجز الوصول إليه. كذلك "نهى أن يقعد عليه يعني: إذا كان فيه ميت، وكلمة "عليه" تدل على العلو، وهذا لا يكون إلا بعد الدفن، فالقعود على القبر يعني: بعد دفنه منهي عنه. الثالث: "أن يبنى عليه" يعني: أن يوضع عليه بناء سواء أكان هذا البناء شامخًا أم قصيرًا جميلًا أم غير جميل عام- "أن يبنى عليه"-، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين النهي عن الغلو في القبور وعن إهانة القبور، ليكون الإنسان سائرًا نحو هذه القبور بين الغلو والإهانة، يكون متوسطًا، ولهذا في القعود عليه إهانة له، وفي تجصيصه والبناء عليه غلو فيه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطرفين، فالواجب علينا إذن: أن نعامل هذه القبور بما تقتضيه. قوله: "نهى" يستفاد منه: تحريم تجصيص القبر، يؤخذ ذلك من النهي، والأصل في النهي التحريم حتى يقوم دليل يصرفه عن التحريم، وأيضًا فإن تجصيصه ذريعة للغلو فيه المفضي إلى عبادة من فيه، وما أفضى إليه المحرم أو كان ذريعة له كان محرمًا. ومن فوائد الحديث: تحريم الجلوس على القبر؛ لقوله: "وأن يقعد عليه"، وهو حرام، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتمضي إلى جلده خير له من أن يجلس على القبر"، وهذا يدل على غلظ التحريم فيه. ومن فوائد الحديث: النهي عن البناء على القبر لقوله: "وأن يبنى عليه"، فماذا نصنع لو أن الأمر وقع بأن بني على قبر وجصص؟ تجب إزالته حالًا المحرم لا يجوز إقراره، وعلى هذا فيجب على المسلمين أن يهدموا جميع القباب المبنية على القبور، يجب وجوبًا؛ لأنه بناء محرم نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز إحداثه، ولا يجوز إقراره عند القدرة على إزالته. فإن قلت: لو أن أحدًا بنى على القبر حماية له ادّعى أن يبني عليه حماية له.

نقول: إن حمايته تمكن بدون ذلك، بأن يوضع سور عام على المقبرة، أو إذا كان يخشى أن ينبش فإنه يسوّى بالأرض؛ ولهذا قال العلماء: إذا مات أحد من المسلمين في بلاد الكفر وخيف عليه من النبش فإنه يسوى بالأرض ولا يبرز القبر خوفًا عليه، فإذا كان الإنسان يخاف على صاحب القبر فهذا الخوف يزول بطريق آخر غير البناء عليه، وإلا فإن البناء محرم. ويستفاد من هذا الحديث: اعتبار الوسائل، وأن الوسائل لها أحكام المقاصد، وهذه القاعدة قاعدة شرعية معتبرة عند أهل العلم ولها أدلة كثيرة منها هذا الحديث، ومنها قوله تعالى: {ولا تسبُّوا الَّذين يدعون من دون الله فيسبُّوا الله عدوا بغير علمٍ} [الأنعام: 108]. لأنه لما كان سب آلهتهم ذريعة إلى سب الله نهى الله عنه، فيستفاد منه: أن الوسائل لها أحكام المقاصد. فيستفاد من الحديث: سد الشارع كل طريق يوصل إلى الشرك ولو من طريق بعيد، يؤخذ من النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه. ويستفاد من الحديث: تحريم امتهان القبور؛ لقوله: "وأن يقعد عليه"، ومن امتهانها: أن يبول أو يتغوط عليها أو بينها؛ ولهذا قال أهل العلم: يحرم البول بين القبور وعلى القبور، وكذلك التغوط؛ لأن في ذلك امتهانًا لها وهي قبور محترمة، وهل يؤخذ منه مبدأ حماية المقبرة؟ ربما يؤخذ، وإن كان من الممكن أن يقول قائل: لم تكن المقابر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم محوّطة، فيقال: إن حمايتها ليست منهيًّا عنها وهي وسيلة إلى حفظ هذه القبور من الامتهان؛ لأن القبور إذا لم تكن محوطة ربما ينتهبها الناس، وربما يعتدون على أرضها أيضًا ويلحقونها بأملاكهم. 554 - وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى على عثمان بن مظعونٍ، وأتى القبر، فحثى عليه ثلاث حثياتٍ وهو قائمٌ". رواه الدَّارقطنيُّ. عثمان بن مظعون رضي الله عنه من المهاجرين، ومات بعد أن شهد بدرًا في السنة الثانية، قال المؤرخون: وهو أول من مات من المهاجرين في المدينة، وأول من دفن في البقيع من المهاجرين رضي الله عنه، وهاجر إلى الحبشة ورجع منها لما قيل: إن قريشًا أسلموا، وتوفي بالمدينة وشهد النبي صلى الله عليه وسلم جنازته وجعل عليه حجرًا قال: "أدفن إليه من مات من أهله"، وهذا يدل على أن عثمان له منزلة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا حثا على قبره ثلاث حثيات وهو قائم، بيد واحدة أو بيديه جميعًا؟ ورد في بعض الأحاديث أن ذلك بيديه جميعًا. وهذا الحديث ضعيف لكن له

شواهد تدل على أن له أصلًا، وأنه ينبغي لمن حضر الدفن أن يحثو عليه ثلاث مرات من أجل أن يشارك في الدفن؛ لأن دفن الميت فرض كفاية، فإذا شاركتهم ولو بهذا الجزء اليسير كنت مشاركًا في الدفن الذي هو فرض كفاية. وقوله: "وهو قائم" هـ هذه الصفة طردية، أو صفة مقصودة؟ الطردي: هو الذي حصل اتفاقًا، وإذا قلنا: إنها صفة مقصودة فإنه يكون الذي يحثو قائمًا لا قاعدًا ومن المعلوم أنه عندما يريد أن يحثو لابد أن ينزل يديه وينحني، ولكن هذا لا ينافي أن يكون قائمًا، المهم: أنه يحثو بدون أن يجلس. استغفار الحي للميت بعد الدفن: 555 - وعن عثمان رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميِّت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التَّثبيت، فإنَّه الآن يسأل". رواه أبو داود، وصحَّحه الحاكم. قوله: "كان .... إلخ" يحتمل أن يكون هذا في دفن باشره النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن نقول: "إذا فرغ" يعني: فرغ الناس؛ لأنهم يدفنون بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الشيء بأمره صار كأنه هو الفاعل. وقوله: "وقف عليه" كيف ذلك وقد مر علينا النهي عن القعود على القبر؟ وقف عليه يعني بجانبه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن توطأ القبور ولكن بجانبه، ولم يحدد في الحديث أين كان الموقف، ولكن الذي يظهر أنه يكون عند رأسه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقف في الصلاة عند رأس الرجل وعند وسط المرأة، لكن الوسط هنا بالنسبة للمرأة قد زال سببه، فيقف عند رأسه ولا يزاحم إذا تيسر وإلا فعند وسطه أو عند قدميه، المهم: أن يقف عنده. وقال: "استغفروا لأخيكم" أي: اسألوا له المغفرة، وما هي المغفرة؟ ستر الذنب والتجاوز عنه، وما صورة ذلك؟ أن نقول: "اللهم اغفر له" بدليل قوله تعالى: {والَّذين جاءوا من بعدهم يقولون ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الَّذين سبقونا بالإيمان} [الحشر: 10]. وبدليل قوله تعالى: {الَّذين يحملون العرش ومن حوله يسبِّحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للَّذين آمنوا ربَّنا وسعت كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا}، هذه صيغة دعائهم: {فاغفروا للَّذين تابوا} [غافر: 7]. وعلى هذا فالاستغفار للشخص أن تقول: "اللهم اغفر له"، ولو قلت: "أستغفرك اللهم ربي لفلان" يجوز؛ لأنه طلب المغفرة، لكن الصيغة الأولى أولى.

قال: "واسألوا له التثبيت" يعني: اسألوا أن يثبته الله عز وجل، وعلل هذا الحكم بقوله: "فإنه الآن يسأل"، بعد أن يفرغ من دفنه يسأل، ولم يبيّن النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله، لكنه بين في أحاديث أخرى، وهو أنه: "يأتيه ملكان فيسألانه"، وما هو المسئول عنه؟ يسألانه عن أمور ثلاثة: عن ربه، ودينه، ونبيه. من فوائد الأحاديث التي مرت علينا: إثبات السؤال في القبر، الدلالة ليست واضحة لكن من أجل شواهدها، ممكن أن نقدم عليها ونقول: إن السؤال لابد أن يكون له نتيجة وإلا لم يكن للسؤال فائدة. يستفاد من حديث عامر بن ربيعة: أنه ينبغي قصد القبر ليحثو عليه لقوله: "وأتى القبر فحثى". ومن فوائده: أنه إذا كان يحثو لا يكون قاعدًا، بل يكون قائمًا لئلا ينسب إلى كونه مصابًا بهذه المصيبة كالجاثي على ركبتيه؛ لأن الإنسان إذا أتاه ما يفزعه أو أصيب بمصيبة حثا على ركبتيه، فهذه العادة لكن هذا يحثو وهو قائم ولا يجثو. ومن فوائده أيضًا: إثبات الصلاة على الميت لقوله: "صلى على عثمان". ومن فوائده أيضًا: أن الشيء المعلوم المتواتر عند الناس لا يحتاج إلى بيانه في كل نص، فهنا "صلى" قد تقول: كيف الصلاة؟ فيقال: إنها معلومة فلا يحتاج إلى أن يبين في كل نص كيفية هذه الصلاة التي وقعت الآن مجملة، وإلا لكانت النصوص ملء الدنيا كلها. وأما حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه ففيه: جواز طلب الدعاء لأخيك المسلم لقوله: "استغفروا لأخيكم"، ولكن هل هو مقيد بمثل هذه الحال، أو نقول: يجوز في كل مكان مثل أن تقول: لشخص: فلان أخوك مريض ادع الله له بالشفاء؟ يحتمل أن يكون مقيدًا بمثل هذه الحال؛ لأننا لم نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل مثل هذا السؤال في غير هذا المكان، ويحتمل أن يقال: إنه لما طلب من المسلمين أن يستغفروا له في هذا المكان دلّ هذا على أن الأصل عدم المنع، وأما طلب الإنسان الدعاء لنفسه، بمعنى: أن تطلب من شخص أن يدعو لك فالأولى ألا تفعل؛ لأنه قد يكون داخلًا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بايع عليه أصحابه: "ألا يسألوا الناس شيئًا". ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ينبغي إذا سأل الدعاء من شخص لنفسه أن يقصد بذلك مصلحة الداعي قصدًا أوّليًا لا مصلحة نفسه، هو كيف ذلك؟ لأن أخاك المسلم إذا دعا لك بظهر الغيب قال له الملك: آمين، ولك بمثل؛ ولأنك إذا قصدت هذا فقد قصدت الإحسان إليه لا سؤاله أن يحسن إليك، وبينهما فرق.

وعلى كل حال: فهذه المسألة الأصل عدمها؛ ولهذا ما كان الصحابي كل واحد يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: ادع الله لي إلا لسبب من الأسباب، كما قال عكاشة بن محصن: "ادع الله لي"، فإذا كان لسبب فهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء، وكذلك أيضًا إذا كان لعموم المسلمين، كسؤال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء بالمطر بالغيث فهذا لا بأس به؛ لأنك لا تسأل الناس لك، ثم إننا لابد أن نلاحظ ألا يسأل الإنسان الدعاء لنفسه على وجه التذلل للمسئول، كما يفعله بعض من يعتقدون الولاية في أناس، فيأتي كأنه عبد ذليل ربما يخضع له كما يخضع لله عز وجل ويقول: يا سيدي، ادع الله لي، فهذا يكون حرامًا من أجل ما يقترن به من الذل للمخلوق كذلك أيضًا نلاحظ عندما نسأل غيرنا ألا يكون في ذلك ضرر على المسئول، بحيث يؤدي ذلك إلى الإعجاب بنفسه، وأنه أهلٌ لأن يطلب منه الدعاء، فيظن أنه من أولياء الله الذين تجاب دعوتهم، كل هذه المسائل تجب ملاحظتها. والأفضل على كل حال: ألا تسأل مهما كان الذي يقابلك مما يكون في نظرك من صلاحه. ويستفاد من الحديث: الدعاء عند الفراغ من الدفن مباشرة؛ لقوله: "الآن" و"الآن" معروف أنه: ظرف للوقت الحاضر، ومثل ذلك لو أن أحدًا من الناس توفي وبقي في الثلاجة لمدة أيام فإنه لا يسأل حتى يدفن، فإنه لم يكن دفن كما لو مات في البحر فإنه سوف يدفن في البحر: قال العلماء: يضع في رجليه شيئًا ثم يلقيه في البحر حتى ينزل، كذلك لو فرض أن رجلًا مات في صحراء ولم يمكن نقله ولا الحفر له ووضع عليه أحجار فإن ذلك بمنزلة الدفن، والمهم: أن الأحياء إن أسلموا الميت ورأوا أنهم قد انتهى عملهم فيه فإن هذا بمنزلة الدفن، يكون السؤال حينئذ. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان في هذه الحال قد يثبت بدعوة إخوانه المسلمين له، يؤخذ من أمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار والتثبيت، وإلا لكان الأمر بذلك لغوًا لا فائدة منه، وفي الحديث دليل على أن الاستغفار والتثبيت، وإلا لكان الأمر بذلك لغوًا لا فائدة منه، وفي الحديث دليل على أن الاستغفار سبب لفتح الله على العبد سواء كان ذلك في عبادة أو في علم؛ لقوله: "استغفروا لأخيكم"، ويشير إلى هذا قوله تعالى: {إنَّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ لتحكم بين النَّاس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا (105) واستغفر الله ... } [النساء: 105، 106]. فإن في هذه الآية إشارة إلى أن الاستغفار سبب لإصابة الصواب، ولهذا كان بعض العلماء إذا وردت عليه مسألة صار يستغفر الله، والمناسبة في هذا ظاهرة؛ لأن الذنوب رين على القلوب، والاستغفار سبب لإزالة ذلك وتطهير القلوب منها، فإذا زال الرين حصل البيان، والدليل على أن الذنوب تحول بين المرء وبين رؤية الحق قوله تعالى: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأوَّلين (13) كلَّا بل ران على قلوبهم}

[المطففين: 13، 14]. فلم يعفوا الحق- والعياذ بالله- ولم يعرفوا قدر هذا القرآن العظيم؛ لأن قلوبهم قد ران عليها ما كانوا يكسبون، فالذنوب كلها شر، كلها آثام، كلها بلاء، يحصل فيها من العقوبات العامة والخاصة ما هو ظاهر، ولو لم يكن من ذلك إلا قوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي النَّاس} [الروم: 41]. ومن أراد أن يعرف آثار الذنوب وعقوباتها فليقرأ كتاب ابن القيم المعروف بـ"الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي"، فإنه ذكر في أول هذا الكتاب عقوبات عظيمة للذنوب وآثارها في المجتمع وفي الشخص نفسه. يستفاد من هذا الحديث: إثبات الأخوة بين المسلمين لقوله: "استغفروا لأخيكم"، وهو كذلك، وأقوى رابطة بين بني آدم هي الرابطة الإيمانية والأخوة الإسلامية هذه أقوى رابطة، أقوى حتى من النسب، أقوى من كل شيء، انظر إلى قوله تعالى: {الأخلاء يومئذ} يوم القيامة {بعضهم لبعضٍ عدوٌّ} كل خليل عدو لخليله {إلَّا المتَّقين} [الزخرف: 67]. فالتقوى هي الجامع التي تجمع بين الرجلين في الدنيا وفي الآخرة، خليلك في الدنيا هو خليلك في الآخرة إذا كانت الخلة لله وسببها التقوى. ويستفاد من هذا الحديث: أن الدعاء في هذه الحال يكون في حال القيام لقوله: "وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم". بقي أن يقول قائل: هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل؟ هل يستغفر ويدعو بالتثبيت؟ الظاهر: أنه كان يقول ويفعل، ولكنه يقول لينبه الناس إلى أن يقولوا، ويكون حينئذٍ قولنا: "الآن" امتثالًا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لا لمجرد التأسي، لو كان يقول هكذا ويسمع الناس ويقتدون به صار اقتداء به لمجرد التأسي، لكن إذا قال: افعلوا؛ صار فعلنا لها امتثالًا للأمر، وهذا أقوى من مجرد التأسي. ومن فوائد الحديث: أن فيه آية للرسول صلى الله عليه وسلم، كيف ذلك؟ لقوله: "فإنه الآن يسأل"؛ لأن هذا من أمر الغيب، ما تعلم ماذا يكون للميت بعد موته إلا عن طريق الوحي أو شيئًا يطلع الله تعالى عليه العباد للعبرة والعظة أو للكرامة وما أشبه ذلك، وإلا فالأصل أن هذا أمر مغيب لا يعلم إلا عن طريق الوحي، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد لنا ذلك بقوله: "فإنه الآن يسأل" لا شك أنه دليل على أنه نبي الله حقًا ورسوله حقًا لعلمه بما لا نعلمه. ويستفاد منه أيضًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لغيره نفعًا ولا ضرًّا، وإلا لما سأل ولما دعا كما هو ظاهر الحديث؛ لأنه سأل ودعا، وهذا أمر معلوم يجب علينا أن نؤمن به أي: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لنا ولا لنفسه نفعًا ولا ضرًّا؛ لأن الله أمره أن يبلغ هذا لأمته: {قل لَّا أقول لكم عندي خزائن الله} [الأنعام: 50]. {قل لَّا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا إلَّا ما شاء الله} [العراف: 188]. {قل إنِّي لا أملك لكم ضرًّا ولا رشدًا} [الجن: 21]. فيجب علينا أن نؤمن بهذا؛ لأن الله أمر رسوله أن يبلغه.

حكم تلقين الميت عند القبر

حكم تلقين الميت عند القبر: 556 - وعن ضمرة بن حبيبٍ رضي الله عنه- أحد التَّابعين- قال: "كانوا يستحبُّون إذا سوِّي على الميِّت قبره، وانصرف النَّاس عنه، أن يقال عند قبره: يا فلان، قل: لا إله إلا الله- ثلاث مرَّاتٍ- يا فلان، قل: ربِّي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم". رواه سعيد بن منصورٍ موقوفًا. - وللطَّبرانيِّ نحوه من حديث أبي أمامة مرفوعًا مطوَّلًا. قوله: "عن ضمرة" (بالفتح)؛ لأنه ممنوع من الصرف، والمانع له العلمية والتأنيث اللفظي؛ قوله: "أحد التابعين"، التابعون هم: الذين أدركوا الصحابة- رضي الله عنهم- مؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وماتوا على ذلك، وهم أقسام. يقول: "كانوا يستحبون"، وهذه هي الفائدة من قول ابن حجر: "أحد التابعين" لأنه إذا قال: "أحد التابعين" ثم قال: "كانوا" فإن الظاهر أنهم الصحابة، ويحتمل أنهم التابعون، لكن الأصل في مثل هذا التعبير أنه يريد الصحابة، قال: "كانوا يستحبون ... إلخ". هذا الحديث أتى به المؤلف رحمه الله بعد الحديث الأول، والحديث الأول صحيح، أتى به ليبين كيف كان الصحابة- رضي الله عنهم- يفعلون في الميت بعد موته استنادًا إلى الحديث الأول، ولننظر هل يصح الاستناد كما قيل أو لا يصح؟ فهذا يقول: "إذا سوي على الميت قبره وانصرف الناس عنه"، من هنا تبدأ المخالفة، وفي الحديث الأول يقال متى؟ إذا فرغ من دفنه قبل الانصراف، إذن لا يكون تطبيقًا للحديث الأول، الثاني يقول: "أن يقال عند قبره يا فلان قل: لا إله إلا الله" فينادى ويلقن، والحديث الأول ليس فيه هذا، إنَّما فيه أن يسأل له التثبيت، فلا يكون هذا الحديث تطبيقًا. "قل: لا إله إلا الله ثلاث مرات" هذا لا يستقيم أن يؤمر بالتعبد لله بعد موته؛ لأنه انقطع عمله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ... " الحديث. وأما أن نسأل الله له التثبيت فهذا ليس أمرًا بأن نقول: "قل: لا إله إلا الله". أيضًا يقول: "يا فلان، قل: ربي الله" هذا ربما يكون له أصل؛ لأن الإنسان يقال له: من ربك؟ ولكن من الذي يدرينا أن الملائكة تقول له الآن: من ربك؟ حتى يكون قولنا: "قل: ربي الله" مطابقًا لزمان الجواب؟ من يقول هذا؟ ثم من يقول: إنه يسمع؟ لأن مسألة سماع الأموات مسألة الخلاف مشهور فيها، وليس فيها نص قاطع يتبين به أنه يسمع كل ما يقال عنده.

زيارة النساء للقبور

المهم: أن هذا الحديث- كما ترون- موقوف على الصحابة، فيكون هذا من فعل الصحابة لكن الذي ينسب من فعل التابعي يسمى مقطوعًا، أما الحديث المرفوع فيقول ابن القيم: إنه لا يصح رفعه، بل قال بعضهم: إنه لا يشك في وضعه، وقد روي عن الإمام أحمد ما يدل على أنه أنكره، وعلى هذا فمسألة تلقين الميت بعد موته لا أصل لها ولا ينتفع به؛ لأن عمله انتهى، قولنا له: "قل لا إله إلا الله" ماذا يفيده؟ ومن يقول: إنه يقول: لا إله إلا الله بعد موته؟ وإنما إذا سئل أجاب، فقال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، فالصواب في هذه المسألة أنه لا يستحب تلقين الميت بعد موته سواء كان بالغًا عاقلًا أو صغيرًا، وقال بعض العلماء: إنه يلقن الكبير العاقل دون الصغير والمجنون؛ لأنهما غير مكلفين ولكن الصحيح عدم التلقين مطلقًا، وإنما يستغفر له ويسأل له التثبيت، وهذا الظاهر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه مادام يقف عليه، ويقول: "استغفروا لأخيكم"، ولا يلقنه ولم يأمر بتلقينه دل على أن هذا ليس من السنة. زيارة النساء للقبور: 557 - وعن بريدة بن الحصيب الأسلميِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". رواه مسلمٌ. - زاد التَّرمذيُّ: "فإنها تذكِّر الآخرة". وفي رواية لمسلم أيضًا: "فإنها تذكر الموت"، قوله- عليه الصلاة والسلام-: "زوروا" الزيارة هي: أن يفد الإنسان إلى المزور إما لقرابة أو صداقة أو غير ذلك فإن كانت لمرض سميت عيادة؛ لأنها تتكرر. وقوله: "كنت نهيتكم" أي: فيما سبق، وقوله: "فزوروها" أمر لكنه ورد بعد النهي، وسيأتي- إن شاء الله- الكلام عليه، وقوله: "فإنها تذكر الآخرة" الجملة تعليل للأمر بالزيارة، ومعنى قوله: "فإنها تذكر الآخرة" أي: تجعل الإنسان يذكر الآخرة؛ لأنه إذا مرّ بهؤلاء القوم وزارهم وكانوا بالأمس معه على ظهر الأرض وهم الآن في أعمالهم مرتهنين، فإنه لا شك يذكر هذا اليوم فهذا الحديث يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد نهى أصحابه عن زيارة القبور، وذلك في أول الأمر خوفًا عليهم من الشرك؛ لأن زيارة القبر قد تكون ذريعة إليه- أي: إلى الشرك- فإن الذين يزورون القبور لا تخلو حالهم من أحوال أربعة: إما أن يدعوا لأهل القبور وإما أن يدعوا الله بأهل القبور، وإما أن يدعوا الله عند القبور، وإما أن يدعوا أهل القبور أنفسهم، فهذه أحوال من يزور القبور.

أما الدعاء لهم فهذه هي الزيارة المشروعة الني كان الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، فإنه يسلم عليهم ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة، وأما دعاء الله بهم فأن يجعلهم وسيلة إلى الله عز وجل مثل أن يقول: "اللهم إني أسألك بصاحب هذا القبر"، وهذه بدعة محرمة سواء كان صاحب هذا القبر شهد له بالخير أو لم يكن كذلك حتى ولو كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يجوز لك أن تتوسل به في دعائك، وأما الدعاء عندها فأن يقصد الإنسان المقبرة يزورها معتقدًا أن الدعاء عند القبور أفضل من الدعاء في المساجد أو في البيوت، وهذا أيضًا بدعة مكروهة واعتقاد فاسد، فإنه لا مزية للدعاء عند قبر أبدًا، ولهذا كان القول الراجح: أن الإنسان لا يدعو ولا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض العلماء قال: يستحب لمن زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتجه إلى القبلة بعد السّلام عليه ويدعو، والصواب خلاف ذلك، وأن هذا المكان ليس من الأمكنة التي تقصد للدعاء، والرابع: أن يدعو أصحاب القبور، يعني: يقول: يا سيدي، يا ولي الله، يا نبي الله، أغثني، أعطني كذا، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لقوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به، فإنَّما حسابه عند ربِّه، إنَّه لا يفلح الكافرون} [المؤمنون: 117]. فهذه أحوال من زار القبور. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور"، والحكمة من ذلك: أن ذلك في أول الأمر مخافة أن تكون تلك الزيارة ذريعة إلى الشرك، فلهذا نهى عنها. ثم قال: "فزوروها" يعني: أمر بعد النهي بالزيارة، والأمر بعد النهي اختلف فيه أهل العلم، فمنهم من يقول: إن الأمر بعد النهي يفيد الإباحة، أي: أن هذا الشيء الذي كان منهيًّا عنه صار الآن مباحًا؛ وذلك لأن لما نهي عنه انتقل حكمه من الإباحة إلى النهي، فلما أذن فيه ارتفع النهي فبقيت الإباحة، ومثاله قوله تعالى: {يا أيُّها الَّذين آمنوا لا تُّحلُّوا شعائر الله ولا الَّهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلًا مِّن رَّبهم ورضوانًا وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2]. فأمر بعد النهي، ولكن هذا الأمر في الحقيقة ليس نسخًا؛ لأنه بيان لغاية النهي؛ لأنه قال: {لا تُّحلُّوا شعائر الله ولا الشَّهر الحرام}، ثم قال: {وإذا حللتم فاصطادوا}، فبين أن النهي قد انتهى وليس هذا نسخًا، لكن مثل هذا الذي معنا نسخ من النهي إلى الأمر، فهل زيارة القبور مباحة لورودها بعد النهي؟ قيل بذلك، والصواب: أن الأمر بعد النهي رفع للنهي، وإعادة لحكم المنهي عنه إلى حكمه الأول: إن كان مستحبًا فهو مستحب، وإن كان غير مستحب، فهو غير مستحب. وهذا الحديث الذي معنا فيه قرينة تدل على أن الأمر للاستحباب، وهي قوله: "فإنها تذكر الآخرة"، وعلى هذا فيكون الأمر بالزيارة مستحبًّا لهذا التعليل. وفي رواية أخرى لمسلم: "فإنها تذكر الموت": تذكر الإنسان حاله أنه سيكون إلى ما كان عليه هؤلاء، ومعلوم أن الإنسان إذا ذكر الموت فسوف يعمل له إذا كان عاقلًا.

في هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: إثبات النسخ- نسخ الأحكام- لقوله: "كنت نهيتكم"، ثم قال: "فزوروها"، وثبوت النسخ واقع بالكتاب والسنة، يقول الله عز وجل: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أنَّ الله على كل شيء قديرٌ} [البقرة: 106]. وكذلك كل أحكام الأمم السابقة التي يخالفها شرعنا كلها منسوخة، كتحريم كل ذي ظفر على اليهود وما أشبه ذلك، ومن أدلة القرآن مثال واقع في مثابرة العدو حيث أمر الله تعالى بألا نفر إلا إذا كان العدو عشرة أمثالنا، ثم ننسخ فقال الله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون ... } إلى قوله: {لَّا يفقهون (65) الآن خفَّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله} [الأنفال: 65 - 66]. وكذلك الصيام: {أحلَّ لكم ليلة الصيام .... } إلى قوله: {فالآن باشروهنَّ .... } [البقرة: 187]. وأما في السنة فالأمثلة في ذلك كثيرة، منها هذا الحديث: "كنت نهيتكم فزوروها" ففيه إثبات النسخ. فإن قلت: كيف يثبت النسخ، والله- سبحانه وتعالى- بكل شيء عليم، لماذا لم يشرع الله هذا الحكم من أول الأمر ولا يأتي بالنسخ؟ فالجواب: أن النسخ من مصالح العباد لا لخفاء الأمر على الله عز وجل، لكن العباد قد يقتضي صلاح أحوالهم الحكم المنسوخ إلى مدة ثم يكون صلاح أحوالهم بالحكم الناسخ، وهذا أمر معلوم، أي: أن أحوال الإنسان تتغير بالنسبة للأحكام، فقد تكون الأحكام في حال من الأحوال مناسبة، وفي حال أخرى غير مناسبة، وهذه هي الحكمة في ثبوت النسخ. ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: أن أحكام الله عز وجل تابعة لحكمها، وأن الحكم يدور مع علته، وجهه: أن الناس لما كانوا حديث عهد بكفر وكانت فتنة القبور قد تكون قريبة نحوهم نهوا عن زيارة القبور، ثم بعد ذلك نسخ هذا الحكم، ففيه دليل على أن الأحكام تتبع الحكم. ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه يجب على من علم الحكم الشرعي أن يرجع إليه ولو كان حكم في الأول بخلافه، بمعنى: أن الإنسان لو اجتهد فأداه اجتهاده إلى أن هذا الشيء حرام، ثم تبين له أنه حلال أو بالعكس، فيجب عليه الرجوع، كما يجب الرجوع إلى الحكم الناسخ عند وجود النسخ، والعلة الجامعة بينهما: أنه قد تبين لهذا المجتهد أن حكم الله تعالى خلاف الحكم الأول كما تبين في النسخ أن حكم الله خلاف الحكم الأول. ومن فوائد الحديث: مشروعية زيارة القبور، وأنه ينبغي للإنسان أن يزور القبور، وكلمة "زوروها" فعل، والفعل يدل على الإطلاق، والإطلاق يحصل بفعل الشيء مرة، ولكن متى تكون هذه الزيارة؟ هل لها وقت معين؟ الصواب: أنه لا وقت معين لذلك، وأن الإنسان يزور المقبرة في أي وقت شاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق، ما قال: زوروها في أول النهار ولا في آخره، ولا

في الجمعة، ولا في الاثنين، ولا في الخميس، ولا في غيرها، فتشرع زيارة القبور كل وقت، بل قد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى أهل البقيع فسلم عليهم في الليل كما عند مسلم من حديث عائشة مطولًا، فعلى هذا نقول: زيارة القبور مستحبة في كل وقت. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يفعل ما يذكره بالآخرة، وجهه: أن الرسول أمر بالزيارة؛ لأنها تذكر بالآخرة، وهذا متى أوضح القياس وأجلاه إذا ألحق الفرع بالأصل في علة منصوصة عليها فهذا أبين القياس، وعلى هذا كل ما يذكّر الآخرة فإنه ينبغي للإنسان فعله سواء زيارة القبر، أو قراءة آيات موعظة أو أحاديث موعظة أو جلوس عند واعظ كلامه مؤثر أو ما أشبه ذلك. ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ بأنواع الأسباب المؤثرة لا يقتصر على سبب واحد، بل كل الأسباب المؤثرة؛ لأنه لا شك أن القرآن أعظم واعظ وأن السنة بعده، ولكن هذا سبب آخر لاتعاظ الإنسان، فكونه يأخذ من كل نوع من المؤثرات بنصيب أحسن؛ لأن القلب أحيانًا قد لا ينتفع بهذه الموعظة العظيمة إما لكثرة ورودها عليه وإما لغفلته عندها أو ما أشبه ذلك، لكنه يتأثر بنوع آخر من المواعظ وإن كانت دونها في الأصل، وهذا أمر مشاهد. ومن فوائد الحديث: أنك لو أمسكت أخاك، قلت: اجلس بنا نتذاكر الآخرة، نتذاكر الموت، نتذاكر آيات الله عز وجل، حتى نزداد إيمانًا ويقينًا، فإن ذلك من الأمور المشروعة، وقد كان السلف- رحمهم الله- يقول بعضهم لبعض: "اجلس بنا نؤمن ساعة" يعني: نحقق الإيمان واليقين ساعة، فهذا من الأعمال الطيبة، وكذلك لو كان الإنسان أحيانًا إذا غفل جلس مع نفسه ونظر وتذكر في الأمر وأحدث بذلك إنابة إلى الله عز وجل وخشية ورجوعًا إليه، فهذا أيضًا من الأعمال المطلوبة التي يدل عليها هذا الحديث. ومن فوائد هذا الحديث: أن الموت والقبر من أمور الآخرة، فهو داخل الإيمان باليوم الآخر لقوله: "فإنها تذكركم الآخرة"؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله- في العقيدة الواسطية-: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فالقبور لا شك أنها من الآخرة وهي أول درجاتها ومراحلها، حتى قل بعضهم: إذا أردت صورة مصغرة ليوم القيامة فاخرج إلى المقبرة، تجد فيها الشريف والوضيع، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، كلهم سواء، كلهم تحت هذا التراب، كلهم عليهم ما عليهم من التراب، ما فيه أحد عنده قصر ولا أحد عنده خدم، ولا شيء، ولهذا قيل: أول عدل الآخرة القبور، جاء إعرابي إلى بلد فيها حاكم فإذا الحاكم قد مات، فسأل عنه، فقالوا: إنه مات، قال: أين ذهب؟ قالوا: ذهب إلى المقبرة، فخرج إلى المقبرة فجاء إلى المقبرة يريد أبهة، يريد الخدم والحشم، دخل ما وجد إلا حفار القبور. قال له: أين الحاكم

الفلاني؟ قال له: الحاكم الفلاني هذه. قال: يا ويله، وهذا الذي جنبه من هي؟ قال: هذه عجوز كانت مشهورة في السوق ماتت الآن وقبرها مرشوش رطب، وقبر الحاكم يابس، فقال: يا ويله هذه تسقى ماء، وهذا لا يسقى ماء، وقام متعجبًا، فقال حفار القبور: هذا ما رأيت فهذا عدل أو غير عدل؟ عدل، رجل حاكم لا يدخل عليه إلا باستئذان وامرأة في السوق ناقصة العقل هما سواء، فهذا فول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإنها تذكر الآخرة". ومن فوائد الحديث: أن ظاهرة العموم، أي: يشمل الرجال والنساء؛ لأن الأصل في الخطاب العموم، حتى وإن كان الخطاب للرجال فإنما يخاطب الرجال تغليبًا؛ ولأن الرجال هم أهل الحل والعقد والتقويم والتهذيب، فكانت توجيهات الخطاب في القرآن والسنة إلى الرجال؛ لأنهم أشرف؛ ولأنهم هم أهل توجيه الخطاب؛ لأنهم قوّامون على النساء، وعموم الحديث يتناول النساء، وأنه يشرع لهن زيارة القبور، وقد قال بذلك بعض أهل العلم، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله رد هذا القول، وبيّن ضعفه من أوجه عديدة ذكرها في الفتاوى، ويدل لذلك على استثناء النساء من هذا، إن قلنا بدخولهن فإنه يدل على استثنائهن ما في الحديث الذي بعده، لكن هنا علة أخرى نذكرها أولًا، قال: 558 - زاد ابن ماجه من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه: "وتزهِّد في الدُّنيا". "تذكر الآخرة وتزهد في الدنيا" واللفظ الثاني في مسلم: "تذكر الموت"، فعلى هذا يكون فيها ثلاث فوائد: التذكير بالآخرة وهو يوم القيامة، التذكير بالموت، التزهيد في الدنيا، ما معنى الزهد في الدنيا. تزهد فيها أي: ترغب في الإعراض عنها وعدم المبالاة بها، ومنه قوله تعالى: {وشروه بثمن بخسٍ دراهم معدودةٍ وكانوا فيه من الزَّاهدين} [يوسف: 20]. يعني: راغبين أي: الذين لم يبالوا به، فالتزهيد في الدنيا معناه: أن الإنسان لا يبالي في الدنيا ولا يهتم بها، ولكن ما معنى التزهيد في الدنيا هل معناه: ألا نعمل للدنيا أبدًا ونتركها ويجلس الواحد في المسجد لا يخرج ولا يعمل ولا يتكلم؟ لا، المعنى ألا تكون أعمالنا للدنيا ليس ألا نعمل في الدنيا، ولكن ألا تكون أعمالنا لها، بمعنى: أن أعمالنا نصرفها إلى الآخرة، حتى لو بعنا أو اشترينا فإننا نريد بذلك الآخرة يستطيع الإنسان أن يبيع ويشتري من أجل أن يقوم بكفايته وكفاية أهله، وقد ابتاع واشترى الخلفاء الراشدون- رضي الله عنهم- في خلافتهم لطلب الرزق، وقال الله تعالى: {رجالٌ لَّا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله} [النور: 37]. ولم يقل: لا يبيعون ولا يشترون.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: "إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا"، فالتزهد في الدنيا ألا تعمل لها، لا ألا تعمل فيها، فالعمل في الدنيا لا ينافي العمل للآخرة، لكن اجعل عملك في الدنيا مطية الوصول إلى الآخرة، فإذا قلنا: بع واشتر والبس الثياب وما أشبه ذلك، تقول: أزهد فألبس صوفًا، أو خيشة، ولا أنتفع بالناس، ولا ينتفع الناس مني، هذا غير صحيح قال الله تعالى: {هو الَّذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رِّزقه} [الملك: 15]. وقال تعالى: {فإذا قضيت الصَّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ... } [الجمعة: 10]. فالزهد في الدنيا تختلف أفهام الناس فيه فمنهم من يقول الزهد في الدنيا ألا تنظر إلى شيء منها أبدًا، وبعضهم يقول: لا، الزهد في الدنيا أن تعمل ما ينفعك في الآخرة ولو كان من أمور الدنيا وهذا هو الحق. فإن قلت: ما تقول في قوله تعالى لرسوله- عليه الصلاة والسلام-: {ولا تمدَّن عينيك إلى ما متَّعنا به أزواجًا مِّنهم زهرة الحياة الدُّنيا ... } [طه: 131]؟ قلنا: هذا لا ينافي ما قلنا، الله سبحانه يقول: لا تمدن عينيك إليه لتتعلق به فإنه زهرة الحياة الدنيا، لم يقل: لا تنظر إليها إطلاقًا، لا تمدن إليها بحيث تتعلق بها حتى يكون أكبر همك فإنما هو زهرة الحياة الدنيا، نعم الإنسان الذي تشغله دنياه عن آخرته لا شك أنه خاسر للدنيا والآخرة، أما الإنسان الذي جعل الدنيا مطيّة للآخرة فهذا رابح في الدنيا والآخرة ولا شك أيضًا أن الدنيا فتنة عظيمة: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ} [الأنفال: 28]. والإنسان ربما يفتتن في الدنيا سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، قد يغنيه الله ومع ذلك هو مفتون بالدنيا، كأنه ليس في جعبته قرش واحد، وقد يكون فقيرًا ويفتن في الدنيا ويكتسبها على وجه محرم. والحاصل: أن الزهد في الدنيا معناه: الإعراض عنها وألا تعمل لها، وأما العمل للآخرة في الدنيا فلا بأس به. هناك زهد وهناك ورع هل بينهما فرق؟ قال شيخ الإسلام: إن الفرق بينهما أن الورع: ترك ما ير في الآخرة، والزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، فالزهد إذن أكمل يتبين ذلك في المباح، المباح يفعله الورع؛ لأنه لا يضره في الآخرة، والزاهد يتركه؛ لأنه لا ينفعه في الآخرة، ولكن إذا كان وسيلة لنفعه في الآخرة فعله.

559 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور". أخرجه التِّرمذيُّ، وصحَّحه ابن حبَّان. "لعن" يعني قال: اللهم العن زائرات القبور، أو قال: هن ملعونات؛ فعلى الأول يكون معنى "لعن": أي دعا باللعنة، وعلى الثاني يكون معنى "لعن" أخبر بأنهن ملعونات، وكلا الأمرين سواء في المعنى، واللعن هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله- سبحانه وتعالى-، ولا يكون اللعن إلا على فعل كبيرة من كبائر الذنوب. وقوله: "زائرات القبور" للمؤنث، وتحصل الزيارة بالمرة، فإذا زارت المرأة القبور ولو مرة واحدة فقد فعلت كبيرة من كبائر الذنوب، ودخلت في لعنة الله- والعياذ بالله-. وقوله: "لعن زائرات القبور" ليس هو النهي؛ لأن النهي غير اللعن، والرسول صلى الله عليه وسلم ما قال: كنت لعنتكم فزوروها، حتى نقول: إن الحديث الأول ناسخ للثاني؛ ولهذا من حسن صنيع ابن حجر أنه أتى بالثاني بعد الأول إشارة إلى أن الثاني مخصص للأول وليس الأول ناسخًا له وهو كذلك، ومن تدبر الحديثين عرف أنه ليس بينهما نسبة نسخ إطلاقًا؛ لأن الحديث الأول: "كنت نهيتكم" عمومًا، والثاني خاص بالنساء، ثانيًا: أن الأول فيه النهي دون اللعن، والثاني فيه اللعن، فبينهما فرق واضح. إذن يستفاد من هذا الحديث: أن زيارة المرأة للقبور من كبائر الذنوب. فإن قلت: ألا تدخل في العموم السابق وتكون نسخًا؟ قلنا: لا يثبت لما عرفتم. فإن قلت: ما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "لعن الله زوّارات القبور" بالتشديد و"فعال" صيغة مبالغة؟ قلنا: إن كلمة "زوّار" تأتي للمبالغة، وتأتي للنسبة كبنَّاء ونجَّار ونحو ذلك، وإذا كان الدليل محتملًا فمع الاحتمال يبطل الاستدلال، ثانيًا: على فرض أن "زوَّارات" للمبالغة فإن "زائرات" أعم؛ لأنه إذا لعنت الزائرة فالزوّارة كثيرة الزيارة من باب أولى، ومعلوم أننا نأخذ

بالأعم؛ لأنه أكثر فائدة، وعلى هذا فيكون حديث: "زوّارات" لا يعارض هذا اللفظ، فالجواب عنه بأحد وجهين كما عرفتم. فإن قلت: ما الجواب عما رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم القبور وخروجها خلفه ثم رجوعها أمامه، ولما جاء وحدّثها بما فعل قالت: يا رسول الله، ماذا أقول لهم؟ قال: "قولي: السلام عليكم .... الخ". فإن قولها: "ماذا أقول لهم؟ " قد يشعر بجواز زيارة المرأة القبور. فالجواب على هذا: أن عائشة ما قالت: ماذا أقول لهم إذا زرت القبور؟ بل قالت: "ماذا أقول لهم؟ " فقط، هذا لفظ مسلم، فيحمل على أحد أمرين: إما أن يكون دعاءً عامًا ليس سببه الزيارة، وإما أن يكون المراد: إذا مررت بها غير قاصدة للزيارة، ويكون هذا جمعًا بين الحديثين، وإذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب المصير إليه قبل أن نتدرج إلى الترجيح أو النهي، فنقول: المرأة إذا خرجت من بيتها قاصدة الزيارة فهي داخلة في اللعن، أما إذا مرّت بغير قصد الزيارة ووقفت وسلمت، فالظاهر: أن هذا لا بأس به وهو لا يعد زيارة، ولو فرض عده زيارة لكان حديث عائشة قد يدل على جوازه. فإن قلت: ما الجواب عن زيارة عائشة رضي الله عنها لقبر أخيها عبد الرحمن حيث زارته وبكت؟ فالجواب: أنها قد قالت: "لو حضرت موتك ما زرتك"، فكأنها رضي الله عنها أرادت الدعاء له، ثم نقول: هو فعل صحابية عارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يعارض قول رضي الله عنه بقول أحد من الناس، ثم لعلها فهمت من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لها أن تقول لأهل المقابر: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" لعلها فهمت من ذلك: أنه يجوز زيارة المرأة ولم يبلغها حديث اللعن، فما دام فعلها فعل صحابي فيه احتمالات فإنه لا يكون حجة، ومهما كان في الحجة ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان زيارة القبور محرمة بمقتضى الدليل فإنها محرمة أيضًا بمقتضى النظر والتعليل، كيف ذلك؟ لأن النساء رقيقات لينات العاطفة، لو فتح لهن الباب لكانت كل امرأة تذهب كل صباح ومساء إلى قبر أمها أو أبيها تصيح عنده وتنوح؛ ولهذا أعقب ابن حجر رحمه الله حديث زائرات القبور بحديث النائحة والمستمعة، فالمرأة لا تصبر، ثم غالبًا تكون المقابر خارج البيوت، فإذا خرج النساء إلى هذه المقابر كان سببًا لتعرض الفسَّاق وأهل الفجور إليهن، وربما يحصل بذلك فتنة عظيمة، فكان مقتضى النظر والتعليل منعهن من الزيارة لخوف فتنتهن

أو الفتنة بهن، خوف فتنتهن بماذا؟ بأن يخرجن ويلازمن القبور، وأن يحصل منهن عدم صبر ونياحة وندب وما أشبه ذلك، أما الفتنة بهن فربما يكون ذلك سببًا لتسرب الفساق وأهل الفجور إليهن؛ لأن المقابر في الغالب تكون خارج البيوت والمساكن، ولا شك أن زيارة المرأة للقبر محرمة ومن كبائر الذنوب. فإن قلت: ما الجواب عما قاله الفقهاء: يكره للمرأة زيارة القبور، ويسن لهن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: أن فقهاء الحنابلة- رحمهم الله- كغيرهم من أهل العلم يخطئون ويصيبون فهم اعتمدوا في الحكم بالكراهة على حديث أم عطية السابق: "نهينا عن إتباع الجنائز ولم يعزم علينا"، وسبق الجواب عنه، ومقتضى قاعدتهم- رحمهم الله- أن زيارة المرأة للمقبرة من كبائر الذنوب؛ لأنهم نصُّوا في باب الشهادات على أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة أو لعن، وهذا فيه لعن فيكون من الكبائر. وأما قولهم: يسن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فهم قالوا: إن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نقول لهم: ائتوا لنا ببرهان ودليل يدل على ثبوت هذه الخصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب بعضهم: بأن زيارة المرأة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم ليست زيارة حقيقية؛ لأن بينها وبين القبر ثلاثة جدران، ولهذا قال ابن القيم في النونية لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى ألا يكون قبره وثنًا قال: فأجاب ربُّ العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران ففي داخل القبة الصغيرة ثلاثة جدران كلها حامية لهذا القبر، قالوا: فإذا وقفت المرأة من وراء الشباك فبينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مساحة وجدر، فلا تعد زيارة، والزيارة التي لعنت فاعلتها هي: التي تقف على القبر، وهذه لم تقف على القبر فلا تكون داخلة في اللعن، وجوابنا على هذا أن نقول: في الحقيقة هذه شبهة قوية جدًّا كما سمعتم، فإن أحدًا من الناس لو أتى خمسة قبور عليها حيطان ثلاثة مثلًا ووقف وراء الحيطان هل يكون زائرًا؟ في الواقع قد نقول: ليس بزائر، لو جاء واحد وأنت مثلًا في وسط غرفة في وسط مجلس، والمجلس في وسط الحوش، والحوش في وسط الحديقة، ومن وراء الحديثة، جدار وسلّم عليك من وراء الجدار: السلام عليك يا فلان، كيف حالك؟ كيف أصبحت؟ يكون زائرًا لك أو غير زائر؟ غير زائر، فيكون هذه ليست بزيارة، في الحقيقة أنه تعليل قوي جدًّا، لكن قد نقول: إن الزيارة مطلقة، الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق لعن زائرات القبور ولم يحدد، والقاعدة الفقهية: أن ما لم يحدد بالشرع فحده العرف.

وكلُّ ما أتى ولم يحدَّد ... بالشَّرع كالحرز فبالعرف احدد فيحدد بالعرف، ومعلوم عند الناس الآن أن الإنسان إذا تقدم من المسجد إلى اتجاه قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ووقف أمامه وسلّم عليه كلهم يقولون: هذه زيارة، ولهذا يقول المزورون: تعال نزرك؛ إذن فهي زيارة. وعليه؛ فإني أرى أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كغيره، بمعنى: أنه لا يجوز للمرأة أن تزوره، وإن كان فقهاؤنا يرون أن المرأة تزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه سنة لها كحال الرجل. واستفدنا من الحديث الأول والثاني: أنه ينبغي لزائر القبور أن يكون على جانب من الخشية والتذكر والتأمل لا يزور المقبرة وكأنما زار حفلًا: يضحك، ويتكلم في أمور الدنيا، ولهذا كره أهل العلم لمتبع الجنازة أن يتكلم بشيء من أمور الدنيا، بل الذي ينبغي أن يكون الإنسان خاشعًا متذكرًا للآخرة، وفي الحديث الصحيح الطويل المشهور حديث البراء بن عازب قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله كأنما على رءوسنا الطير، يعني: أنهم قد خفضوا رءوسهم ولا يتحركون في حالة خشوع، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان فعله. 560 - وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّائحة، والمستمعة". أخرجه أبو داود. "لعن النائحة"، من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد لعنه الله، واللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله. وقوله: "النائحة"، هناك نوح وندب؛ فالندب: رفع الصوت بتعداد محاسن الميت، ويقترن بواو الندبة فتقول: "وا سيداه" وا كذا، وتذكر الأوصاف التي هي محاسن لهذا الميت، وأما النّوح: فإنه البكاء برنّة تشبه نوح الحمام، ونوح الحمام معروف لكم جميعًا، فهذه هي النياحة. النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة؛ لأن النائحة يدل فعلها على عدم الصبر على قضاء الله وقدره؛ ولأن النائحة تفجع من يسمعها فتزداد المصيبة بذلك؛ ولأن النوح أيضًا يكون أحيانًا سببًا للطم الخدود وشق الجيوب وذر التراب على الرءوس أو التمرغ على الأرض وما أشبه ذلك، فلأجل هذه الأمور الثلاثة لعنت النائحة، لعنها النبي صلى الله عليه وسلم. أما "المستمعة": فهي التي تجلس عندها لتستمع إليها، وليست المستمعة هي السامعة، كأن

تكون مارة وسمعت فليس عليها إثم، إنما المستمعة التي تجلس تستمع إلى هذه النائحة فإن شحذتها زيادة صارت أشد، وهذا يوجد كثيرًا في أحوال النساء الآن، يحدث كثيرًا أن يجتمع نسوة: واحدة تنوح والثانية ترقق لها طول النهار، هذا الفعل يجدد المصيبة ولا يمكن أن تزول عن قلب المرأة، كلما ذكرت هذا الاجتماع ولو بعد حين فإنها تحسّ بهذه المصيبة؛ فلذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم المستمعة، السامعة مثل أن تمر امرأة إلى جوار بيت ينوح أهله فتسمع النوح أو الجيران يسمعون النوح، لكن ما يستمعون فلا يدخلون في اللعن؛ لأن السماع لا يؤخذ به الإنسان، أما الاستماع فهو: الذي يصغي إلى الشيء ويستمعه وينصت له، فهذا يكون مشاركًا للفاعل في الإثم. فيستفاد من هذا الحديث: جواز اللعن على ما دون الكفر؛ لأن النوح والاستماع له لا يخرج الإنسان إلى الكفر، وإذا كان لا يخرج إلى الكفر ومع ذلك جاز لعن النائحة، وهنا سؤال: هل يجوز إذا رأينا نائحة هل نلعنها بعينها؟ لا يجوز، وأن هناك فرقًا بين اللعن بالوصف وبين لعن الشخص: أما لعن الوصف فجائز، وأما لعن الشخص فقد نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم لما قال: اللهم العن فلانًا، وفلانًا نهاه الله وقال له: {ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم أو يعذبهم} [آل عمران: 128]. ربما هذا الذي فعل ما يوجب اللعن الآن يمنّ الله عليه فيهتدي، لو رأينا رجلًا يبول في الطريق أو يتبرز فيه هل نلعنه بعينه؟ لا، لكن لنا أن نقول- وهو يسمع-: اللهم لعن من تغوط في طريق المسلمين، وفي هذه الحال حتى هو لا يغضب مثل لو قلت له: لعنك الله. 561 - وعن أمِّ عطيَّة رضي الله عنها قالت: "أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألَّا ننوح". متَّفقٌ عليه. "أخذ" يعني: عهدًا، والمفعول به محذوف، يعني: أخذ علينا عهدًا ألا ننوح، وذلك عند البيعة حين بايعهن على ألا يشركن بالله شيئًا ولا يسرقن ... الخ، وهذا كان بعد صلح الحديبية، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبايعهن، ومن جملة ما يأخذ البيعة عليهن فيه ألا ينحن، لماذا خصّ هذا؟ لأنه كان من عادة النساء، فكان يأخذ عليهن- حتى في البيعة على الدين- ألا ينحن. 562 - وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "السميِّت يعذَّب في قبره بما نيح عليه". متَّفقٌ عليه. 563 - ولهما: نحوه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. قوله: "الميت يعذب في قبره" "الميت" مبتدأ وهو عام، وخبره "يعذب" والباء في قوله: "بما"

للسببية، و"ما" يحتمل أن تكون اسمًا موصولًا، أي: بالذي نيح عليه به، ويحتمل أن تكون مصدرية أي: بالنوح عليه، هذا إعراب الحديث، أما معناه: فإن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بأن الميت إذا ناح عليه أهله فإنه يعذّب في قبره، والنياحة سبق لنا تعريفها بأنها: صوت بالبكاء صوت خاص يشبه نوح الحمام، وهو يشبه التطريب بالبكاء بالنسبة للآدميين. وقوله: "يعذّب بما نيح عليه". يقول المؤلف: "ولهما" أي: للبخاري ومسلم، "عن المغيرة بن شعبة نحوه"، وكذلك صحّ عن عمر في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وفي لفظ لمسلم من حديث عمر: "يعذّب ببعض بكاء أهله عليه". والآن هذا الحديث يدلنا على أن النوح كما أنه سبب للعن والطرد بالنسبة للنائحة فهو أيضًا سبب لتعذيب الميت به، وهذا الحديث مما أشكل على الصحابة فمن بعدهم، حتى إن أم المؤمنين رضي الله عنها عائشة أنكرت ذلك، وقالت: إنكم ما كذبتم ولا كذبتم ولكن السمع يخطئ، فنسبت عمر وابنه إلى الخطأ في السمع والوهم، واستدلت لإنكارها بقوله تعالى: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} [فاطر: 18]. وهذه القاعدة الكلية العامة ثابتة في الكتب السابقة، وفي كتابنا القرآن الكريم قال الله تعالى: {أم لم ينبّأ بما في صحف موسى (36) وإبراهيم الَّذي وفَّى (37) ألَّا تزر وازرةٌ وزر أخرى (38)} [النجم: 36 - 38]. فهذا متفق عليه في الشرائع أن الوازرة يعني: النفس التي تتحمل الوزر لكونها مكلّفة لا تحمل وزر غيرها إلا إذا كانت هي السبب في هذا الوزر، فإنها تعاقب بمثل العامل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير كفاعله". وكذلك: "من سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"، ولهذا كان ابن آدم الذي قتل كان عليه كفلٌ من كل نفس قتلت بغير حق؛ لأنه أوّل من سنّ القتل- والعياذ بالله-. إذن نقول: هذا الحديث ظاهره مشكل بالنسبة للآية الكريمة، وعائشة رضي الله عنها قالت: إن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بيهودية تبكي، فقال: "إنها لتبكي، وإن الميت- اليهودي- ليعذب في قبره"، فاستدلت بالآية وبالحديث، فهي رأت رضي الله عنها أن هذا الحديث الذي معنا حديث ابن عمر، وحديث المغيرة، وحديث عمر مخالف للقرآن وروت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك لامرأة يهودية كان أهلها يبكون عليها وهي تعذّب في قبرها. ونحن نقول: أما توهيمها الرواة فهو في غير محله؛ لأن الأصل في الثقة عدم الوهم،

ولا سيما مثل عمر وابن عمر والمغيرة بن شعبة وغيرهم، قد يكون سمعه، لكن ما حدّث به أحدًا، وأما استدلالها بالحديث فنحن نقبله منها على العين والرأس، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك في هذه المرأة اليهودية، لكن لا يمنع أن يكون قال قولًا آخر في موضع آخر، فهي روت وعمر وابنه رويا ما رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما سمعاه منه فحينئذ يكون ردها لهذا الحديث بوجود المانع وهو: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} غير صحيح، وردّها له لوجود حديث آخر أيضًا غير صحيح، السبب أن القصة متعددة، فهي روت قصة أخرى غير التي حدّث بها النبي صلى الله عليه وسلم وسمعها عمر وابنه. وحينئذٍ يبقى علينا الآن الإشكال لا زال باقيًا بالنسبة لظاهر الحديث مع ظاهر الآية: {ألَّا تزر وازرةً وزر أخرى} [النجم: 38]، {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} آيتان فما هو الجمع؟ اختلف العلماء في الجمع، يعني: بعد أن نقول: إن الحديث ثابت فنحتاج إلى الجمع، أما على من أنكر الحديث كعائشة فإنه لا يحتاج إلى الجمع؛ لأنها رأت أن الآية مرجحة على هذا الحديث وأن هذا وهمٌ، لكن نحن نرى: أن الحديث صحيح، ولكن يبقى النظر في الجمع بينه وبين الآية، اختلف العلماء في ذلك على عدة أقوال: فمنهم من قال: إن الجمع هو: أن الحديث إنما كان فيمن أوصى بالنوح بأن كان الميت هو الذي قال لأهله: إذا مت فنوَّحوا عليَّ إذا لم تنوحوا عليّ، قال الناس: إنهم لم يهتموا به فأوصيكم بأن تنوحوا عليّ، ومعلوم أنه من أوصى بالإثم فهو آثم، فإذا نفِّذ فإنه يأثم، وهذا التعليل- كما تعلمون- عند التأمل عليل جدًّا؛ لأن الحكم أنيط بالنوح، والميت بمجرد وصيته بالإثم يكون آثمًا سواء ناحوا أو لم ينوحوا فلا يمكن أن نلغي الوصف الذي علِّق به الحكم في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ونعتبر وصفًا جديدًا لم يدل عليه الحديث، وقال بعض أهل العلم: إن هذا في رجا اعتاد أهله وذووه أن ينوحوا على أمواتهم وهو يعلم بهم ولا ينهاهم فيكون كأنه مقرٌّ لهم؛ لأنه يعلم بمقتضى عادتهم أنه إذا مات سوف ينوحون عليه، قالوا: ويجب على من كان هذه عادة أهله وذويه أن ينهاهم عند موته، ويقول: لا تنوحوا عليّ كما تنوحون على أمواتكم، فإن لم يفعل فهو آثم ويعذب في قبره، وعلى هذا فيكون هذا الرجل عذِّب في قبره على ترك إنكار المنكر بعد موته؛ لأنه من الجائز ألا ينوحوا عليه؛ لأن هذا أمر عادي، والعادي قد يتخلف فهم يؤثمونه؛ لأنه لم يوص بتركه وهم من عادتهم أن ينوحوا على أمواتهم، هذان قولان مع قول عائشة فتكون ثلاثة أقوال. والقول الرابع: يقولون: إن الحديث يقول: "إن الميت ليعذّب" والعذاب نوعان: عذاب على عقوبة، وعذاب بشيء لا يلائم الإنسان فيتعذب به، وليس فيه عقوبة، لكن يتعذب بمعنى: أنه يهتم ويحزن وما أشبه ذلك، فأما على الأول أن يكون العذاب عقوبة على فعل معصية فهذا بالنسبة للميت غير وارد؛ لأنه ما فعل ذنبًا إنما فعل الذنب غيره، وأما الثاني: وهو الاهتمام

بالشيء والتألم منه بدون أن يمسه عذاب فهذا يمكن، قالوا: ومن هذا النوع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن السفر قطعة من العذاب"، ومعلوم أن المسافر لا يجلد ولا تقطع يده ولا رجله، وإنما يكون مهتمًّا متشوش البال لا يستريح إلا إذا وصل مقره، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وهو أحسن الوجوه عندي؛ لأنه يحصل به الجمع بين الآية الكريمة وبين هذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يعذّب بما نيح عليه؛ أي: يعذّب بمعنى: أنه لا يعاقب عقوبة، ولكن يتألم ويهتم بهذا الأمر، وهذا ليس ببعيد، وحينئذٍ لا يكون مخالفًا للآية. نستفيد من قصة عائشة فائدة عظيمة بالنسبة للأحاديث: وهي أن الأحاديث التي تخالف ظاهر القرآن لا ينبغي لنا أن نقبلها حتى نتثبت تثبتًا كاملًا؛ لأنها رضي الله عنها ردته مباشرة فحكمت بوهم الراوي، ومعلوم أنه لو كان شيء يخالف القرآن ولم يمكن الجمع بينه وبين القرآن فلا شك أننا نوّهم الراوي؛ لأن خطأ الإنسان لا شك أنه أقرب من خطأ القرآن، فالقرآن ليس فيه خطأ أبدًا، لكن قد يكون الخطأ في الأفهام، بحيث لا نستطيع الجمع بينه وبين النصوص الأخرى التي هي فيها السنة، أو يكون الوهم من الرّاوي، والوهم من الراوي أمر محتمل ولا أحد يستبعد الوهم، لكن إذا رأيتم شيئًا من الأحاديث يخالف القرآن في ظاهره أو يخالف الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول من أهل العلم فلا تتسرعوا في الحكم عليه بالتصحيح، ولو كان ظاهر سنده الصحة حتى يتأكد لكم صحته؛ لأنه لابد إذا كان يخالفها ولا يمكن الجمع فلابد فيه من علة. يستفاد من هذا الحديث: أنه يجب الكف عن النياحة من وجهين: الوجه الأول: ما سبق من كون النائح قد عرّض نفسه للعنة الله عز وجل، الثاني: أن النياحة سبب لتألم الميت وتعذّبه في قبره، فإذا كان كذلك فإن نوحك يكون جناية على هذا الميت، فعليك أن تتقي الله في نفسك وفي ميتك. ويستفاد منه: أن الميت يحس بما يصنعه أهله؛ لأنه لولا أنه يحس بهذا النوع ما تعذّب به في قبره، وقد روي أحاديث لكن فيها نظر؛ فيها أن الأعمال تعرض على أقارب الميت، ولا سيما أبواه فإن كانت خيرًا استبشروا بها، والله أعلم بصحة ذلك، لكننا في مثل هذه الأمور الغيبية لا نتجاوز ما ورد به النص، كل الأمور الغيبية ليس فيها قياس؛ ولهذا لا نتجاوز ما ورد به النص، فالميت تقدم لنا أنه يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه، وهذا الحديث يدل على أنه

جواز البكاء على الميت

يسمع نوحهم، وورد أيضًا في حديث صححه ابن عبد البر وأقره ابن القيم: أن الإنسان إذا سلّم على صاحب القبر وهو يعرفه فإن الله يرد عليه روحه ويرد عليه السلام، ولكننا نتوقف: لا نحكم بحكم عام من أجل هذه النصوص الفردية؛ لأن هذه أمور غيبية، فالواجب علينا أن نقتصر فيها على ما جاءت به النصوص، وإن كان الفقهاء- رحمهم الله- قالوا: إن الميت يتأذى بكل منكر عنده سواء كان قولًا أو فعلًا، لكن هذه القاعدة تحتاج إلى ما يسندها من الدليل عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ويستفاد من هذا الحديث: إثبات الأسباب من قوله: "بما نيح عليه" الباء للسببية، وقد تقدم لنا ذلك، وأن الذي خالف في هذا الأشاعرة ينكرون الأسباب ويقولون: إن الأسباب لا تأثير لها وإنما هي علامات مجردة فقط والمؤثر هو الله، فإذا رميت زجاجة بحجر وانكسرت يقولون: الزجاجة لم تنكسر بالحجر، لكن وقوع الحجر عليها أمارة فقط، يحصل بها الانكسار فالكسر حصل عند الحجر، لا بالحجر ألقيت ورقة في النار وهي تلتهب واحترقت الورقة قالوا: النار لا تحرق، لأنك لو أثبت أن النار تحرق أثبت خالقًا مع الله، هذا وجه قولهم، إذن بماذا تغيرت الورقة بهذا الوصف؟ قالوا: حصل الاحتراق عند النار لا بالنار، ولو ركبت أنا لمبة في مكان وأضاءت هي لما أمسكت في مكانها هل أنا الذي جعلتها تمسك، لكن حصل الإمساك عند فعلي لا بفعلي، المهم أن هذا القول في الحقيقة إذا تأمله الإنسان وجد أنه أضحوكة، وأن الفطرة لا تقبله إطلاقًا. فالصواب: أنه يحصل الشيء بسببه، لكن من الذي جعل هذا السبب فاعلًا؟ الله عز وجل فحينئذٍ يعود الفعل كله إلى الله، فإن خالق السبب خالق للمسبب، لا شك في هذا. وعليه فنقول: في هذا الحديث إثبات الأسباب والعلل وهذا هو الذي دلت عليه النصوص بكثرة، سواء كانت الأحكام كونية أو كانت الأحكام قدرية فإنه لابد فيها من علل وحكم، لكن أكثرها مجهول لنا، ثم قال المؤلف: جواز البكاء على الميت: 564 - وعن أنس رضي الله عنه قال: "شهدت بنتًا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم تدفن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ عند القبر، فرأيت عينيه تدمعان". رواه البخاريُّ. أي البنات؟ هي أم كلثوم، دفنت وحضر النبي صلى الله عليه وسلم دفنها، وكانت زوجة لأمير المؤمنين عثمان

بن عفان، وأختها الأخرى رقية زوجة له أيضًا ولهذا يسمى "ذا النورين"، فإذا احتجّت الرافضة بأن عليًّا زوج بنت الرسول، نقول لهم: وعثمان زوج ابنتيه، ولو كان هذا يقتضي الفضل لكان عثمان أفضل من عليّ رضي الله عنه، ولكان العاص بن أبي الربيع مساويًا لمن؟ لعلي بن أبي طالب، ولكن الفضائل لها أسباب أخر، وقد مرّ علينا أن الصحيح عند أهل السنة والجماعة: أن عثمان أفضل من عليّ، وأن ترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة. قوله: "شهدت بنتًا للنبي صلى الله عليه وسلم تدفن"، الجملة حالية، "ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند القبر" أيضًا هذه الجملة حالية "وعيناه تدمعان" جملة حالية، "وتدمعان" خبر ومبتدأ". ففي هذا الحديث دليل على جواز البكاء على الميت سواء كان ذلك عند موته أو بعد دفنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هنا كان يبكي على ابنته وهي تدفن، والبكاء غير النياحة؛ لأن البكاء شيء تمليه الطبيعة والجبلة، وليس فيه شيء يترنم به الإنسان وينوح به كما تنوح الحمام، فهو أمر لابد منه عند كثير من الناس، ودمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم فقال: "العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون"، فمجرد البكاء ليس فيه عقوبة. وأتى المؤلف بهذا الحديث لفائدة عظيمة وهي: أن الميت لا يعذّب ببكاء أهله، فإذا جاءتنا كما في بعض ألفاظ مسلم: "يعذّب ببكاء أهله" فلتحمل هذه الأحاديث على أن المراد: النياحة، أما مجرد البكاء الذي تمليه الطبيعة وتقتضيه فإن هذا ليس فيه إثم، وليس فيه أيضًا عذاب على الميت، ولهذا جاء في بعض ألفاظ حديث عمر: "إن الميت ليعذّب ببعض بكاء أهله"، انتبه لقوله: "بعض البكاء" ما هو؟ النياحة، أما البكاء بدون نياحة فليس فيه تعذيب. فيستفاد من هذا الحديث: أنه يجوز البكاء على الميت بعد الدفن كما يجوز قبله. ويستفاد منه: رقة النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "وعيناه تدمعان". ويستفاد منه: جواز الجلوس عند القبر لقوله: "جالس عند القبر". ويستفاد منه: أنه لا تشرع الموعظة في هذه الحال عند الدفن؛ لأنه لو كانت مشروعة لوعظ النبي صلى الله عليه وسلم عند كل دفن يشهده. فإن قلت: أليس في حديث البراء بن عازب أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلس وجلس حوله أصحابه، فكأن على رءوسهم الطير فجعل .... الخ، وهو حديث طويل فهذه موعظة؟ فالجواب على ذلك: أن هذه الموعظة حصلت بسبب أنهم انتبهوا إلى القبر ولما يلحد، يعني: لم ينتهوا من الحفر، فجلس وجلس الناس حوله، فكان من المناسب أن يحدثهم، وهو حديث

النهي عن الدفن ليلا

كحديث المساجد، وليس قيامًا يقوم فيه الإنسان ويعظ الناس ويذكّرهم، ولا يقال: إن هذه الساعة ساعة يناسب فيها الوعظ؛ لأن القلوب رقيقة والناس يشاهدون المقابر ويشاهدون دفن الميت، فقلوبهم متهيئة للنصيحة. لو قال قائل هكذا قلنا: لا شك أن هذا الأمر كما قلت، ولكن هل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في هذه الحال التي اقتضاها سبب؟ الجواب: لا، وهل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم أن القلوب في هذه الحال رقيقة ومتهيئة للنصيحة؟ يعلم، ومع ذلك ما فعل، وعندي- والله أعلم- أن الحكمة من هذا لئلا يتخذ هذا الموقف مكانًا للوعظ والخطب، فإنه اتخذ لذلك ربما يأتينا أناس أهل فصاحة وبيان وانطلاق ويجلس يخطب نصف ساعة، ثلثي ساعة، ثم ينسى الناس الميت، أو ربما يدفن ويشتغلون بهذه المواضع، فخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الناس جلوسًا لانتظار الدفن فهذا لا بأس أن يحدِّث من حوله بما يرى أنه مناسب، وأما أن يقوم الرجل فيخطب فإن هذا يعتبر من البدع، والدليل على ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله في كل جنازة خرج فيها. ويستفاد من هذا الحديث: أنه يجوز أن ينزل في القبر من ليس قريبًا من الميت؛ لأن أقرب الماس إلى البنت أبوها وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم ينزل في قبرها، بل أمر أبا طلحة؛ لأنه سألهم، قال: أيكم لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا. فقال: انزل في القبر، فنزل في قبرها مع أن أبا طلحة ليس من محارمها وهي امرأة. فيستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان يجوز له أن يدع دفن المرأة ويتولاها غيره ممن ليس محرمًا لها، وهذا إذا خيف منه الفساد فإنه يمنع منه، بمعنى: أننا ننزل رجلًا ليس بثقة يتولى مس المرأة وحملها وإضجاعها في القبر إلا إذا كان إنسانًا ثقة. النهي عن الدفن ليلًا: 565 - وعن جابر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدفنوا موتاكم باللَّيل إلا أن تضطرُّوا". أخرجه ابن ماجه. - وأصله في مسلم، لكن قال: "زجر أن يقبر الرَّجل باللَّيل حتَّى يصلَّى عليه". معلوم لدينا جميعًا أن "لا" هنا ناهية، وأن الفعل بعدها مجزوم بحذف النون، وأن قوله: "بالليل" الباء هنا: للظرفية كما هي في قوله تعالى: {وإنَّكم لتمرُّون عليهم مُّصبحين (137) وباللَّيل ..... } [الصافات: 137، 138]. يعني: في الليل. وقوله: "إلا أن تضطروا" هذه استثناء من أعم الأحوال؛ يعني: في أي حال من الأحوال لا تدفنوا إلا أن تضطروا، يسمون هذا استثناء من أعم الأحوال؛ لأن الاضطرار هنا حالة وليست إنسانًا أو شخصًا حتى نقول: إنها من الجنس.

وقوله: "تضطروا" أي: يلجئكم شيء إلى الدفن في الليل ويجعلكم تلجئون إليهم. وقوله: "موتاكم" هذه النسبة لأدنى ملابسة حتى ولو كان من غير أقاربك، ولكنه من المسلمين فإنه داخل في هذه الإضافة. قال: "وأصله في مسلم"، الذي في مسلم أن رجلًا توفي في الليل فكفّنوه في غير طائل، ثم دفنوه فجاء النهي عنه في قوله: "لكن قال: زجر أن يقبّر الرجل بالليل حتى يصلى عليه". واعلم أن قوله: "حتى يصلّى عليه" ليس معناه: أنه في النهار يدفن بلا صلاة، لكن المعنى: تحسن الصلاة عليه. ففي هذا الحديث ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الدفن بالليل، ولكن هذا النهي معلل بعلتين، وليت المؤلف ساق حديث مسلم، لو فعل ذلك لكان أولى، ولكنه- النهي- معلل بعلتين، العلة الأولى: لأن يحسن كفنه بحيث يكفنوه بما تيسر من غير أن يطلبوا الأفضل والأحسن، والثانية: عدم الصلاة عليه، وليس المراد العدم بالكلية؛ لأن هذا بعيد من الصحابة أن يدفنوه بلا صلاة، ولكن الكثرة أو الصلاة بتأن وتؤدة؛ لأنه قد يكون في الليل يصلون عليه صلاة سريعة لا يعتني فيها بالأكمل، وليس المراد: أنهم لم يصلوا عليه بالكلية أبدًا هذا بعيد. فيستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي مراعاة تحسين كفن الميت، ومراعاة كثرة المصلّين عليه، ومراعاة إحسان الصلاة على الميت، يعني: يؤتى بها على الوجه الأكمل. ويستفاد منه: النهي عن الدفن بالليل إلا عند الضرورة لقوله: "إلا أن تضطروا"، ولكن هذا النهي- كما قلت- منصبٌّ على ما إذا كان هناك تقصير في تكفينه أو الصلاة عليه، وكذلك لو كان هناك تقصير في تغسيله بحيث لم يجدوا إلا ماء قليلًا لا يحصل به الإنقاء، فإننا نقول: انتظروا إلى الصباح، أما إذا لم يكن هناك سبب يقتضي التأجيل فقد ثبت أن الأموات يدفنون بالليل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مر علينا قصة المرأة التي كانت تقم المسجد فدفنوها في الليل، ولم ينههم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والصحابة- رضي الله عنهم- دفنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلًا، فإنه توفي يوم الاثنين ودفن ليلة الأربعاء، وكذلك دفن أبو بكر ليلًا، وهذا دليل على أن الصحابة فهموا من النهي عن الدفن في الليل إذا كان هناك تقصير فيما يجب للميت فإن لم يكن تقصير فلا حرج، وكذلك أيضًا لو كان هناك خوف على الميت من أن يتشقق لو بقي إلى الصباح فإنه يدفن بسرعة، وكذلك لو كان عليه خوف لو دفن في النهار فإنه يدفن في الليل، كما ذكر عن عثمان رضي الله عنه أنهم دفنوه ليلًا خفية، خوفًا ممن؟ من الخوارج الذين قتلوه أن ينبشوه ويمثلوا به. فإن قلت: ظاهر هذا الحديث جواز الدفن في كل وقت إلا في الليل في حالة الإخلال.

استحباب إيناس أهل الميت

فنقول: نعم، هذا ظاهره، لكن هذا الظاهر مقيد بحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "ثلاث ساعات نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع- يعني: قيد رمح-، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب"، هذه ثلاث ساعات ينهى عن الصلاة فيها، وعن دفن الموتى؛ فمثلًا لو وصلنا بجنازة إلى المقبرة ووجدنا أن القبر لم يحفر وبقينا نحفر القبر حتى خرجت الشمس عند انتهاء حفر القبر؛ فإنه لا يجوز أن يدفن الميت حتى ترتفع قيد رمح، وذلك نحو ربع ساعة من طلوعها، وكذلك لو أتينا به في الضحى عند الزوال، فإنه إذا بقي على الزوال نحو خمس دقائق فإننا لا ندفنه، وكذلك إذا ذهبنا به في العصر وتضيفت الشمس للغروب لم يبق عليها إلا مقدار رمح، فإننا لا ندفنه حتى تغرب لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. استحباب إيناس أهل الميت: 566 - وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: "لمَّا جاء نعي جعفر حين قتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفرٍ طعامًا، فقد أتاهم ما يشغلهم". أخرجه الخمسة، إلا النَّسائيَّ. قوله: "عبد الله بن جعفر" جعفر هو: ابن أبي طالب أخو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هذا الرجل بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية إلى مؤتة مع جماعة من الصحابة وقال لهم: "أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة"، فقادهم زيد فقتل رضي الله عنه، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، ثم قطعت يداه حتى سقطت منه الراية، فأبدل الله- سبحانه وتعالى- بجناحين يطير بهما في الجنة، ثم نزل عبد الله بن رواحة وقتل أيضًا، فأخبر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الذي قتلوا فيه، فكان يتحدث عنهم وعيناه تدمعان- عليه الصلاة والسلام-، فيقول: أخذها زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة، ولما جاء نعيه وأخبر الناس بموته- فإن العادة أن أهل الميت يحزنون وتشل أيديهم عن الحركة- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد أتاهم ما يشغلهم". فقال: "اصنعوا" أمر، وقوله: "لآل جعفر" أي: أهل بيته، وقوله: "فقد أتاهم"، هذا تعليل للأمر وهو: "اصنعوا لآل جعفر طعامًا"، والخطاب في قوله: "اصنعوا" لأهل بيته يخاطب أهل بيته صلى الله عليه وسلم. فيستفاد من هذا الحديث: أولًا: حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم وتقديره للأمور وانتباهه لها وأنه ينزل كل شيء منزلته، وهذا من حكمته التي أعطاها الله إياها، ومن رحمته التي وهبه الله إياها.

ومنها: أنه يسن بعث الطعام إلى أهل الميت في اليوم الذي يموت فيه؛ لأنه يقول: "لما جاء نعيه"، وقد سبق لنا أن عيهم كان في اليوم الذي ماتوا فيه. ومنها أيضًا: أن هذا الطعام يسن صنعه أهل الميت إذا علمنا أنه أتاهم شيء يشغلهم، أما إذا علمنا أنهم لا يهتمون بذلك مثل: أن يكونوا في فندق أو في شيء يجهز لهم الطعام، يعني: ليس هم الذين يصنعونه فإن ظاهر التعليل: أنه لا يسن. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن فيه تطبيقًا للأصل الأصيل، وهو تعاون المؤمنين بعضهم ببعض، فإن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، فهؤلاء الذين اشتغلوا بما حلّ بهم من المصيبة كان ينبغي أن يعينهم إخوانهم على مصالحهم بصنع الطعام، وهل نأمرهم بأن يجتمع الناس إليه؟ لا؛ ولهذا قال العلماء: إنه يكره الاجتماع للتعزية وانتظار المعزين، خلافًا لما يفعله كثير من الناس اليوم، تجدهم يجتمعون في البيوت استقبالًا لمن يأتون للتعزية، وهذا لا أصل له، وأقبح منه: أن بعض الناس يصنع ما يشبه وليمة العرس من قهوة وشاي ويجمع ناسًا كثيرين وأحيانًا يجلسون في الأسواق، وربما يأتون بشخص يقرأ القرآن لكن بأجرة ليس تطوعًا ولا تبرعًا، وكل هذا من البدع التي ينهى عنها؛ لأنها لم تكن في عصر الصحابة- رضي الله عنهم- ولا زمن أتباعهم بإحسان، وهذا الذي يقرأ هل ينتفع الميت بقراءته؟ لا؛ لأن هذا يقرأ للدنيا، لو نقص ما جعل له لا يقرأ، فهو يقرأ للدنيا، وإذا كان لا يقرأ إلا للدنيا فإنه لا أجر له؛ لأن من شرط الأجر على قراءة القرآن أن تكون خالصة لله عز وجل، وحينئذٍ يكون فيها ضياع وقت وإتعاب بدن وضياع مال وإثم على هذا القارئ؛ ولهذا أنا أنصح الإخوان الذين في بلادهم مثل هذه الأمور أن يحرصوا على إزالتها، ولكن بالحكمة؛ لأن الشيء المعتاد عند العامة يصعب على الإنسان أن يقوم أمامهم مواجهًا ويقول: هذا خطأ، هذا منكر، هذا محرم، يمكن لو فعل هكذا لقاموا عليه أمثال الذر على العظم ثم أكلوه أكلًا، ولكن ممكن أن يتكلم مع واحد من المسئولين عن هذه القضية، يعني: إذا مات الميت لشخص فتذهب إليه وتبين له الحق، وتقول له: لا تفعل هذا، والحق إذا بيّن بلطف مع إخلاص النية لله عز وجل، في الغالب أنه يقبل. هل يستفاد من هذا الحديث: أنه لا يصنع الطعام إلا من كان قريبًا من أهل الميت، أو نقول: إن هذه وقعت اتفاقًا وأن العبرة بعموم العلة؟ الظاهر: أنه حتى الأصحاب إذا كان هناك أصحاب لأهل الميت ورأوا أنهم أن يصنعوا لهم الطعام ويبعثوا به إليهم فإن هذا مشروع، ثم قال:

آداب زيارة القبور

آداب زيارة القبور: 567 - وعن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السَّلام عليكم أهل الدِّيار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية". رواه مسلمٌ المعروف أن "كان" إذا كان خبرها مضارعًا فإنها تفيد الاستمرار غالبًا، وقوله: "يعلمهم إذا خرجوا"، كلمة "إذا خرجوا" ليست متعلقة بـ"يعلمهم"، ولكنها متعلقة بـ"يقولوا"، والتقدير: كان يعلمهم أن يقولوا إذا خرجوا، ويحتمل أنها متعلقة بـ"يعلمهم"، ويكون تعليم النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاهم حين يخرجون معه إلى المقبرة، لكن الاحتمال الأول أقرب. قوله: "السلام عليكم أهل الديار"، جملة خيرية، و"السلام" بمعنى: السلامة من كل الآفات، ويدخل فيها السلامة من عذاب القبر. وقوله: "أهل الديار" "أهل" منصوب على أنها منادى، وحرف النداء محذوف؛ أي: يا أهل الديار، و"الديار" هي: محل الإقامة، فديار الناس في الحياة الدنيا هي القصور، وديار أهل المقابر القبور؛ ولهذا قال: "أهل الديار". وقوله: "من المؤمنين والمسلمين" هذه "من" بيانية أي: بيان لأهل لا للديار، وعطف المسلمين على المؤمنين يفيد التغاير؛ لأن هذا هو الأصل، والفرق بينهم أن المؤمن أكمل حالًا من المسلم؛ لأن المؤمن استسلم لله تعالى ظاهرًا وباطنًا، والمسلم استسلم ظاهرًا، وقد يكون عنده تقصير في الباطن؛ ولهذا قال الله تعالى: {قالت الأعراب آمنَّا قل لَّم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]. ما دخل إلى الآن لكنه حري بالدخول؛ لأن "لمَّا" تفيد النفي مع قرب الوقوع. وقوله: "إنا إن شاء الله" "إن" للتوكيد، وخبرها "لاحقون"، وجملة "إن شاء الله" معترضة بين اسم إن وخبرها. وقوله: "نسأل الله لنا ولكم العافية"، أول ما يتبادر إلى الأذهان عند أكثر الناس أنها عافية للبدن من الأسقام، ولكنها في الواقع: عافية البدن من الأسقام وعافية القلب كذلك من الأمراض؛ لأن مرض القلب يجب على الإنسان أن يسأل السلامة منه، فهو أشد من أمراض البدن، العافية لهم أي: للمؤمنين الأحياء بالنسبة لعافية القلوب للموتى غير واردة هنا، لماذا؟ لأنهم ماتوا فليس لهم عمل، لكن عافية الأبدان والأرواح واردة، من أي شيء يعافون؟ من العذاب.

نرجع للحديث فنقول: كون الرسول صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا هكذا يدل على اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء، وثانيًا: ينبغي للمسلم أن يدعو به إذا خرج إلى المقبرة، ولكن هل إذا خرج بمجرد خروجه من بيته أو حتى يصل؟ لا شك أن المراد: حتى يصل إلى المقبرة، ومنها قوله: "السلام عليكم أهل الديار"، وعندي أي: في نسختي في الشرح يقول: "السلام على أهل الديار"، فإذا صحّ اللفظ بالخطاب فإنه يحمل على أحد وجهين: إما أن الأموات يسمعون ليصح الخطاب، وإما أنه نزّل استحضاره إيّاهم كأنما يشاهدهم نزّله منزلة من يخاطب، وإن كانوا لا يسمعون بدليل أن الصحابة كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد موته يقولون: "السلام عليك أيها النبي" فهل الرسول صلى الله عليه وسلم حاضر عندهم، وكذلك إلى الآن عندما نقول ذلك هل الرسول حاضر؟ لا؛ لأنهم يسلمون عليه في أقصى المدينة وفي بلاد أخرى، فهم لا يخاطبونه مخاطبة الحاضر، ولكن يقول شيخ الإسلام: إن هذا من باب قوة استحضار القلب لهذا المدعو له كأنه أمامك تخاطبه، فإذا كان الاحتمال هذا واردًا على الاحتمال الأول فإنه لا يمكن أن تجزم بأن أهل المقابر يسمعون سلام الناس إذا سلّموا عليهم ما دام الاحتمال واردًا؛ لأن المعروف أنه إذا حصل الاحتمال سقط الاستدلال؛ لأنه ما يتعين أن يكون دالًا على ذلك. ويستفاد من هذا الحديث: أن المقابر ديار لقوله: "أهل الديار"، ولكنها ديار قوم لا يتزاورون؛ لأنهم أموات وهي دار كل حي، فإن مآل كل إنسان حي إلى هذه الدار، ومع هذا فهذه الدار ليست دار قرار، حتى القبور ليست دار قرار، وإنما هي زيارة؛ ولهذا سمع أعرابي رجلًا يقرأ قول الله تعالى: {ألهاكم التكاثر (1) حتَّى زرتم المقابر} [التكاثر: 1، 2]. فقال: والله ما الزائر بمقيم، انظر سبحان الله! أعرابي [يفهم] أن الزائر ليس بمقيم، ومعناه: أن هناك شيئًا آخر وراء هذه المقابر وهو كذلك. ويستفاد من الحديث: الفرق بين الإيمان والإسلام وهذا موضع اختلف الناس فيه، فمنهم من قال: إن الإسلام هو الإيمان، ومنهم من فرّق بينهما، وسبب هذا الاختلاف ظواهر بعض النصوص، فإن بعض النصوص يفهم منها أن الإسلام والإيمان شيء واحد، مثل قوله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين} [الذاريات: 35، 36]. فدل هذا على أن الإيمان والإسلام واحد، وقال بعض أهل العلم- وهو الحق-: إن الإيمان غير الإسلام، ودليل ذلك قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنَّا .... } [الحجرات: 14] الآية. وقوله في حديث جبريل: أخبرني عن الإسلام؟ فقال: أن تشهد .... الخ. ثم قال: أخبرني عن الإيمان؟ فدل ذلك على أن الإيمان غير الإسلام وهذا هو الحق، لكن إذا انفرد أحدهما دخل فيه الآخر، فقوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام} [المائدة: 3]. وقوله: {إنَّ الذين عند الله

الإسلام} [آل عمران: 19]. يدخل فيه الإيمان، وكذلك قوله تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19]. يدخل فيها المسلمون، أما إذا قرنا فإن الإيمان شيء والإسلام شيء آخر، والجواب عن الآية الكريمة في قصة لوط: {فأخرجنا من كان فيها .... } الآية. أن الله لم يقل: "فما وجدنا فيها غير المسلمين"، قال: "غير بيت من المسلمين"، وهذا صحيح، فإن بيت لوط بيت إسلام؛ لأن امرأة لوط لم تكن تعلن الكفر كما قال تعالى: {فخانتاهما} أي: تظهر أنها مسلمة، فالبيت بيت إسلام، لكن الذي نجا: المؤمن من هذا البيت. ويستفاد من الآية فائدة عظيمة جدًّا: وهي أن ما غلب عليه حكم الإسلام فهي بلد إسلام وإن كان فيها كفار ولو كثروا. وقوله: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" يستفاد منه: أن الحي سيموت، ولكن لهذه الجملة غرض وهي تذكير الإنسان نفسه بمآله وأنه سيلحق بهؤلاء الأموات، ففيه تعليق بالمشيئة سيأتي إن شاء الله. ذكرنا من قبل قوله: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين" ذكرنا أنه قال: "من المؤمنين والمسلمين"؛ لأن الأموات في الواقع منهم مؤمن ومنهم مسلم، فكامل الإيمان مؤمن المحافظ على ما أمره الله والمبتعد عما نهى الله، ومن كان دون ذلك فهو مسلم، ولا شك أن في المقابر من هو مؤمن ومن هو مسلم؛ ولهذا قال: "من المؤمنين والمسلمين"، قال: "وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون"، و"إنا" الضمير يعود على نفس القائل، أو عليه وعلى الأحياء الذين معه إن كان معه أحياء، أو من على الأرض الآن، المهم: أن هذا الضمير الذي هو ضمير المعظم نفسه أو ضمير ممن معه غيره صالح لهذا ولهذا. وقوله: "إن شاء الله بكم لاحقون" هذا التعليق على جملة خبرية؛ لأن "إنا لاحقون" جملة خبرية ليس فيها إشكال، وهي جملة أيضًا معلومة متيقنة كلٌّ سيموت، فلماذا جاء التعليق "إن شاء الله"؟ اختلف العلماء في الجواب عن هذا، فقيل: إنه لمجرد الامتثال لقوله تعالى: {ولا تقولنَّ لشيءٍ إنِّي فاعلٌ ذلك غدًا (23) إلَّا أن يشاء الله} [الكهف: 23]. وهذا القول فيه نظر؛ لأن قوله: {ولا تقولنَّ لشيءٍ إنِّي فاعلٌ} إنما هو بالنسبة لما تفعله أنت، أما الموت فليس من فعلك وهو متحقق، لكن ما تفعله وهو مستقبل لا تقل: إني فاعله وتجزم أنك ستفعله؛ لأن الأمر بيد الله، فقل: إن شاء الله. وقيل: إنها قيلت للتبرك، وهذا أيضًا فيه نظر؛ لأن مجرد التبرك بمثل هذا التعبير لا وجه له. وقيل: إنها ذكرت تعليقًا بناء على الحال أو المكان، الحال يعني: أنتم متم على الإيمان والإسلام، فأقول: إن شاء الله باعتبار أنني أموت على ما متم عليه لا تعليقًا للموت؛ لأن الموت

سيكون، "وإنا بكم لاحقون" على الإيمان والإسلام لا على مفارقة الدنيا؛ لأنها لا تحتاج إلى تعليق المشيئة أو في المكان، لكن هذا لا يكون إلا لأهل بقيع الغرقد، أما غيرهم فإنه ليس له خصيصة، أما في البقيع فله خاصية، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد". وهذا الدعاء قد يكون شاملًا لكل من يدفن فيه، وقد يكون خاصًّا لمن كان في ذلك الوقت الذي دعا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون هنا "إن شاء الله" عائدًا إلى المكان، أما عوده إلى الحال فهو صالح لكل بلد، وقيل: إن التعليق هنا للتعليل، المعنى أننا بمشيئة الله لاحقون بكم، أي: أن موتنا يكون بمشيئة الله؛ ففيه تفويض الأمر إلى الله عز وجل، قالوا: والتعليق هنا يراد به: التحقيق مقرونًا بماذا؟ بمشيئة الله، فيكون ذكر التعليق من باب التعليل، كأنه قال: وإنا بمشيئة الله بكم لاحقون، قالوا: ومثل ذلك قوله تعالى: {لتدخلنَّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} [الفتح: 27]. فإن هذا لا يتصور فيه إلا أن يكون من باب التعليل بالمشيئة وأن الأمور كلها بمشيئة الله عز وجل. ثم قال: "نسأل الله لنا ولكم العافية" السؤال هنا سؤال استجداء؛ لأن السؤال إذا كان سؤال استفهام واستخبار فإنه يعدّى بـ"عن"، فتقول: سألت زيدًا عن كذا، وإذا كان السؤال سؤال استجداء فإنه يتعدى بنفسه، فيقال: سألت زيدًا كذا، وهنا الذي في الحديث من هذا الباب، المفعول الأول "الله"، والمفعول الثاني "العافية"، العافية للإنسان في الدنيا تكون من أمراض القلوب وأمراض الأبدان، والعافية للأموات تكون من العذاب الذي سببه مرض القلب، أمراض الأبدان يعرفها الأطباء الذين تعلموا هذه المهنة الطب الجسمي البدني، وأمراض القلوب يعرفها أهل العلم، وهي تدور على شيئين: شبهة، وشهوة، ففي قوله تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الَّذي في قلبه مرضٌ} [الأحزاب: 32]. هذا مرض شهوة، وفي قوله تعالى عن المنافقين: {في قلوبهم مَّرضٌ فزادهم الله مرضًا} [البقرة: 10]. هذا شبهة، فالأمراض القلبية كلها لو تأملتها لوجدتها تدور على هذين المرضين: شبهة دواؤها العلم، وشهوة دواؤها العمل على صراط الله المستقيم، بألا يتبع الإنسان نفسه هواها بل ينظر إلى ما يرضي ربنا- سبحانه وتعالى- فيقوم به ولو عصى نفسه ولو أهان نفسه ولو أذلها؛ لأن إهانة الإنسان نفسه لله عزٌّ ورق الإنسان لربه حرية. إذن نقول: العافية بالنسبة للأموات هي العافية من آثار الذنوب التي هي أمراض القلوب، وأما بالنسبة لنا فمن أمراض الأبدان وأمراض القلوب. فإن قلت: ولنا أيضًا يمكن أن يكون لنا عذاب على أعمالنا؟ قلنا: العذاب على أعمالنا في الدنيا لا يتجاوز هذين الأمرين؛ لأن الإنسان قد يعاقب على

الذنب بفساد قلبه- والعياذ بالله- سواء بشهوة أو شبهة، وقد يعاقب على الذنب بالآفات المادية كالنقص في الأموال والأنفس والثمرات. نستفيد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: نصح النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وذلك يؤخذ من قوله: "يعلمهم"، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلّغ البلاغ المبين. ويستفاد منه أيضًا: مشروعية الدعاء لأهل القبور بما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم لأن الدعاء أحسنه وأجمعه وأنفعه ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن مع هذا إذا دعوت أنت بغيره مما أباح الله فلا حرج. ومن فوائد الحديث: جواز مخاطبة أهل المقابر، لقوله: "السلام عليكم". فإن قلت: هذا مشكل، إذ كيف تخاطب أقوامًا قد ماتوا ورمُّوا؟ فالجواب: أننا علينا أن نفعل وليس علينا أن نقول: لم أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، ومن الجائز يسمعهم أن الله هذا السلام، كما أن من الجائز أن يكون الخطاب ليس للإسماع، وإنما لقوة استحضار الإنسان لهؤلاء الأموات كأنهم بين يديه يسلّم عليهم، ونظير ذلك قولنا: "السلام عليك أيها النبي"، وخطاب من لا يعقل الخطاب ممكن، فقد جرى عليه الناس، فهذا عمر يقول للحجر: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع- يعني: الحجر الأسود-، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبلتك". على أني لا أريد أن أقيس مسألة القبور بالحجر؛ لأن الحجر عندنا واضح أنه جماد وأنه لن يرد إلا على سبيل أن يكون آية أو كرامة، لكن أهل القبور أمرهم غيبي فقد يكونون يسمعون هذا الدعاء. ومن فوائد الحديث: أن الإيمان والإسلام متباينان؛ لقوله: "من المؤمنين والمسلمين"، ووجه ذلك: أن الأصل في العطف التغاير، قد يكون تغايرًا بالذوات أو تغايرًا بالصفات، إلا ما قام الدليل على أنه ليس متغايرًا فيعمل به، وقد مرّ علينا مرات كثيرة أن الإيمان والإسلام إذا انفرد أحدهما شمل الآخر، وضربنا لذلك أمثلة. ومن فوائد الحديث: أن القبور ديار أهل القبور لقوله: "أهل الديار"؛ وهو كذلك لأنها ديارهم، لكنهم أقوام متجاورون ولا يتزاورون. ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه ينبغي للإنسان أن يعلّق كل شيء بمشيئة الله، فإن كان أمرًا محتمل الوقوع فهو من باب التفويض، وإن كان أمرًا حتمي الوقوع فهو من باب التعليل يؤخذ من قوله: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون".

ومن فوائده: أنه ينبغي للإنسان أن يذكر نفسه بما يحثه على اغتنام الفرص؛ لقوله: "وإنا بكم لاحقون"، فإن الإنسان إذا قال هذا مطمئنًّا به فإنه يحدوه إلى العمل، ثم إن قوله: "إن شاء الله" تزيد من ذلك؛ لأن الأمر ليس إليه بل هو إلى الله، والله عز وجل لن يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، فهذا مما يزيدك حرصًا على اغتنام الوقت وعدم إضاعته. ومن فوائد الحديث: أن المشروع أن يبدأ الإنسان بالدعاء بنفسه، يؤخذ هذا من قوله: "نسأل الله لنا ولكم العافية" لنا فبدأ بنفسه، وهذا يوافق عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"؛ لأن أقرب شيء إليك هو نفسك. ومن فوائد الحديث: جواز الاقتصار في الدعاء، فهذا اقتصار وليس اختصارًا، فالاختصار هو: قلة الألفاظ مع شمول المعنى، فإذا قلت: "اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله سره وعلانيته وأوله وآخره"، فهذا بسط. وإذا قلت: "اللهم اغفر لي ذنبي" هذا اختصار؛ لأنه شمل ما بسطت مع قلة اللفظ، أما الاقتصار فإنك تقتصر على بعض المعنى وتحذف الثاني، فهذا الفرق بين الاقتصار والاختصار، إذا قلت: "اللهم اغفر لي ولأخي" هذا اقتصار، وإذا قلت: "اللهم اغفر للمسلمين" هذا اختصار، وعلى هذا فقس. ومن فوائد الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر محتاج إلى الله عز وجل، وإلى عافيته؛ لقوله: "نسأل الله لنا ولكم العافية"، هل يصلح هذا؟ لا؛ لأنه يعلم أما هو فسيأتي في الحديث القادم. وهل يستفاد من الحديث مشروعية زيارة القبور؟ ظاهر اللفظ لا يدل على هذا، على كل حال إن أخذ من هذا الحديث فذلك المطلوب، وإن لم يؤخذ فمما سبق. 568 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه قال: "مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: السَّلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر". رواه التِّرمذيُّ، وقال: حسنٌ. هذا يستفاد منه عدة فوائد: أولًا: أنه يشرع هذا الذكر لمن مرّ بالمقبرة وإن لم يقصر الزيارة، حتى لو مررت عابرًا فإنك تقوله. ويستفاد منه أيضًا: أنه إذا أراد أن يقوله عليه أن يستقبلهم بوجهه، ولكن هل يكون من اليمين أو من الشمال أو من الأمام أو من الخلف؟ حسب السير- أي: حسب الجهة التي تأتي منها-. ويستفاد منه أيضًا: مشروعية هذا الذكر "السلام عليكم يا أهل القبور"، والذي علّمه الصحابة أن يقولوا: "أهل الديار من المؤمنين والمسلمين".

النهي عن سب الأموات

فيستفاد من هذا ومما قبله: أنك مخير بين أن تأتي بهذا أو بهذا، ولا حرج عليك؛ لأن المخاطب مفهوم أنهم أهل هذه المقبرة. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الإنسان ينبغي له أن يوطّن نفسه على مستقبله الذي لابد منه؛ لقوله: "أنتم سلفنا ونحن بالأثر"، يعني: أنتم تقدمتمونا والحال بيننا وبينكم واحد، لكن أنتم تقدمتم ووصلتم إلى المنزل ونحن لكم بالأثر، وهل يمكن أن نتخلف عنهم؟ لا يمكن أبدًا. النهي عن سب الأموات: 569 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبُّوا الأموات، فإنَّهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا". رواه البخاريُّ. 570 - وروى التِّرمذيُّ عن المغيرة رضي الله عنه نحوه، لكن قال: "فتؤذوا الأحياء". "لا تسبوا" ما هو السبّ؟ السبّ هو: ذكر العيب، فإن كان في مقابلة الشخص فهو سبّ، وإن كان في غيبته فهو غيبة، وإن كان كذبًا فهو بهتان وسبّ أو غيبة، فقوله: "لا تسبوا الأموات" هذا سبّ ولكنهم أموات، فهو سب متضمن للغيبة؛ لأنهم ليسوا عندك حتى نقول: إن هذا مجرد سب، وقوله: "الأموات": جمع محلى بـ"أل"، والجمع المحلى بـ"أل" إذا لم تكن للعهد فهو يفيد العموم، فيشمل الأموات المسلمين وغير المسلمين، حتى الكافر لا يسب إذا مات؛ لأنه- كما سيأتي- أفضى إلى ما قدّم، وهذا تعليل عدم جواز شبهم مطلقًا. وقوله: "فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" أي: انتهوا إليه ووصلوا إليه، وقوله: "إلى ما قدموا" يعني: من العمل، وهم الآن لا فائدة من سبَّهم؛ لأنهم وصلوا إلى الجزاء، وحينئذٍ يكون السب عبثًا، ثم إن كان لهم أحياء يسمعون هذا السب صار هناك علة أخرى، وهي إيذاء الأحياء، كما في رواية الترمذي: "فتؤذوا الأحياء". فكان في سب الأموات معنيان: المعنى الأول: أنه لغو؛ لأنهم أفضوا إلى ما قدمّوا. والمعنى الثاني: أنهم إذا كان لهم أحياء فسوف يتأذون، وحينئذٍ فسب الأموات دائر بين أمرين: إما لغو لا فائدة منه، وإما إيذاء للأحياء؛ فلهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو ظاهر الحديث، أي: أن ظاهره العموم، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا خاص بالمسلمين، وأما الكفار فإنه يجوز أن يسبهم الإنسان ولو بعد موتهم، واستدلوا بما ثبت في صحيح

البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "قال أبو لهب- لعنه الله- للنبي صلى الله عليه وسلم .... " ذكر الحديث. فلعن عمه، يعني: لعنه ابن عباس، وابن عباس قوله حجة في مثل هذا، فهذا يقتضي أنه إذا كان كافرًا فإنه يجوز سبه؛ لأنه ليس له عرض محترم، وهو إذا أفضى إلى ما قدم فإنه يجازى عليه، لكن بالنسبة لنا ليس له عرض محترم، ولكن هذا يأباه ظاهر الحديث، إلا أن نقول: إذا سبه الإنسان تحذيرًا من فعله وسلوكه فهذا لا حرج فيه، وإذا سبّه لبيان حاله فكذلك لا حرج فيه؛ لأن المقصود بذلك النصح، وإذا سبّه قبل الدفن فلا محذور فيه، هذه ثلاثة أشياء: أما الأول يعني: إذا سبّه تحذيرًا من فعله فهذا ظاهر؛ لأن فيه مصلحة، لأن التحذير من فعل هذا الكافر أو الفاسق فيه مصلحة عظيمة، فإذا سبّه وقال: هذا الذي ظلم الناس وهذا الذي فعل كذا ... يريد أن يحذّر منه لا أن ينتقم منه بالسبّ فهذا جائز، وإذا سبه أيضًا لبيان حاله فهو أيضًا جائز، بل قد يكون واجبًا، وهذا يقع كثيرًا في كتب أهل الحديث؛ أي: في كتب الرجال، فتجد فيها: يقول فلان، ثم يذكر بما فيه من العيب، لماذا؟ لأن هذا من باب التحذير يبين حاله، وما زال المسلمون على هذا، الثالثة: إذا كان قبل الدفن، ويستدل لذلك بالجنازة التي مرّت بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه فأثنوا عليه شرًّا؛ فقال: "وجبت". وقد يقال: إنه لا حاجة للاستثناء؛ لأن التعليل يخرجه؛ لأن قوله: "فإنهم أفضوا إلى ما قدموا" لا يكون إلا بعد الدفن، أما قبل فإنه لم يفض إلى ما قدم حتى الآن، أي: إنه لم يصل إلى المجازاة، وعلى كل حال هذا الحديث- عمومه- لا شك أن فيه تخصيصًا، والتخصيص في الحالات الثلاث التي ذكرنا. ويستفاد من هذا الحديث: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يريد أن يحمي أمته عما فيه شر، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". ومن هذا نعرف أن ما يفعله بعض الناس الآن من الرؤساء والزعماء مما لا فائدة فيه، حيث يبدءون فيما بينهم بالتشاتم، بأن يسب أحدهم نظيره بالطول، ويعيِّره الآخر بالعرض، ويقوم وسيط ثالث للدفاع عن هذا أو ذاك، فما الفائدة من هذا؟ لا فائدة فيه، هذا لغو وربما يحدث عداوة وبغضاء بين الناس، فهو قد أفضى لما قدّم وانتهى عن الدنيا، وبالنسبة إلى مبدئه إذا كان ذا مبدأ خبيث معارض للشريعة يجب أن نسبَّ هذا المبدأ نفسه؛ لأن المقصود ألا يغتر أحد بمبدئه ومنهاجه؛ أما أن نتجادل في هذا الشخص لعينه فلا شك أنه لغو وأنه يجرُّ إلى الآثام. * * *

[كتاب الزكاة]

[كتاب الزكاة] انتهى الآن الكلام على كتاب الصلاة، والعلماء- رحمهم الله- يقسمون العلم إلى أقسام، بدءوا بالصلاة، لأنها آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، والفقهاء لم يتكلموا على الشهادتين؛ لأن الكلام فيها عند أهل التوحيد والعقيدة، لكن يتكلمون على الأصول العملية، فتكلموا على الصلاة وما يتعلق بها من الشروط كالطهارة، ثم ثنُّوا بالزكاة؛ لماذا؟ لأنها آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ ولأنها قدِّمت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "والإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت". فلهذا قدموها. مفهوم الزكاة: والزكاة لها معنيان: لغوي وشرعي، والشرعي أيضًا له معنيان: زكاة النفس بالإيمان، وزكاة النفس ببذل المال. فأما الزكاة في اللغة: فهي النماء والزيادة، ومنه قولهم: "زكى الزراع" أي: نما واشتد وطال، وكذلك تأتي الزكاة بمعنى: الزيادة، فإنهم يقولون: "زكى مال فلان" يعني: زاد وكثر. وأما الزكاة في الشرع فقد قلت: إنها زكاة النفس، وزكاة المال، وكلاهما زكاة نفسٍ في الواقع، لكن الأول زكاة النفس بالإيمان، والثاني زكاة النفس ببذل المال. زكاة النفس بالإيمان لها أمثلة، منها قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} [الشمس: 9، 10]. أي: من زكى نفسه، ومنه قوله تعالى: {وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكوة وهم بالأخرة هم كافرون} [فصلت: 6، 7]. فإن كثيرًا من المفسرين يقولون المراد بالزكاة هنا: زكاة النفس بالإيمان، لأنه قال: {للمشركين * الذين لا يؤتون الزكوة}، وليس إتيان الزكاة بأعظم من فعل الصلاة، فدلَّ على أن المراد بالزكاة هنا زكاة النفس بالإيمان. وأمَّا الزكاة بالمال فهي كثيرة، منها قوله تعالى: {وما ءاتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله ومآءاتيتم من زكوة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم: 39]. المراد بالزكاة هنا:

فائدة الزكاة

زكاة المال؛ لأنه جعلها في مقابلة الربا المشتمل على الظلم، والزكاة: بذل مشتمل على الإحسان فهذا مقابل لهذا؛ إذن لا بد أن نعرف الزكاة التي هي زكاة النفس بالمال، فما تعريفها؟ تعريف الزكاة: هي التعبد لله- سبحانه وتعالى- بدفع جزء معين شرعًا من مال معين لجهة معينة، هذا التعريف فيه إبهام، حيث إنه هو مجمل يحتاج إلى شرح، فقولنا: بدفع جزء معين شرعًا هو المال الذي يجب إخراجه في الزكاة، ويختلف نوعه، فمثلًا في الذهب والفضة وعروض التجارة ربع العشر، يعني: واحد من أربعين، وذلك بأن تقسم المال الذي عندك كله على أربعين فما خرج فهو الزكاة، فإذا كان عندك أربعون ألفًا أقسمها على أربعين فيكون الذي يخرج ألفًا، عندك أربعون مليون زكاتها مليون، عندك ثمانمائة ريال أقسمها على أربعين يساوي عشرين ريال، ألف ريال تخرج خمسة وعشرين ... وهكذا، أما زكاة الحبوب والثمار فهي إما نصف العشر وإما العشر، يعني: إما واحد من عشرة، وإما واحد من عشرين، فلو كان عندك مائة صاع- على فرض أنها يخرج فيها الزكاة- فتخرج عشرة أصواع إن كانت نصف العشر وإلا فعشرون صاعًا. أما زكاة السائمة ففي الواقع لا مجال للاجتهاد فيها ولا للعقل؛ لأنها مطلوبة معينة لا باعتبار سهم معين كما سيأتي- إن شاء الله- فمثلًا خمس من الإبل فيها شاة، وخمس وعشرون فيها بنت مخاض من الإبل، في مائتين وواحد من الغنم ثلاث شياه، في ثلاثمائة وتسع وتسعين من الغنم ثلاث شياه، انظر الفرق مائتين وواحدة إلى ثلاثمائة وتسع وتسعين كله واحد ثلاث شياه، ولهذا تقدير الزكاة في الماشية أمر تعبدي؛ لأن مسائل البهيمة زكاتها غير معقولة، يعني: ما ثبت بالعقل نسلم فيها للنص تسليمًا تامًّا، إذا عددت مائتين وواحد ففي كل مائة شاة، ففي ثلاثمائة ثلاث شياه، في ثلاثمائة وتسع وتسعين ثلاث شياه، في أربعمائة أربع شياه، إذن من (201) إلى (399) كله واحد. فائدة الزكاة: الزكاة فائدتها ظاهرة، فهي فيها فائدة للمخرج منه وللمُخرج إليه، أما المخرج فقد قال الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]. فهي تطهير من الذنوب لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"، وإذا كان الرجل تصدق بدرهم صدقة تطوع فإنها تطفئ الخطيئة فإن أثرها إذا كان ذاك زكاة أعظم، ودليل ذلك قول الله تعالى

في الحديث القدسي: "ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضته عليه"، فلو سألك سائل: رجلان أحدهما تصدق بدرهم صدقة تطوع، والثاني تصدق به زكاة واجبة أيهما أفضل؟ الثاني أفضل؛ لأنه واجب، والواجب أحبُّ إلى الله تعالى من التطوع من جنسه، إذن هي تطهر من الذنوب، {وتُزكيهم بها} أي: تزكي إيمانهم وأعمالهم وأخلاقهم، أي: تزكي الإيمان؛ لأن بذل الإنسان ما يجب ابتغاء لرضا الله عز وجل لا شك أن إيمانه يزداد به، وتزكي الأعمال؛ لأن الأعمال الصالحة يزيد بها الإيمان كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وتزكي الأخلاق، لأنه يلتحق ببذل المال بصفوف الكرماء، والكرم خلق محمود فحينئذٍ يزكو خلقه أيضًا. أما المال فإن فائدتها- أعني: الزكاة- للمال فائدة عظيمة؛ لأنك إذا أخرجت زكاة المال بارك الله لك فيما أبقى، وإذا منعت فإنه قد تسحق الزكاة مالك وتسلَّط عليه الآفات حتى ينفد. ففيها إذن فائدة للمخرج وللمخرج منه، وللمخرج إليه، كيف المخرج إليه؟ هذا معلوم، حيث إن هذه الزكاة يستفيد منها الفقير ويجد نفقة بها، ويستفيد منها أيضًا المجاهدون في سبيل الله فيجدون معونة، والمؤلفة قلوبهم يجدون ما يؤلفهم على الإيمان، ففيها فوائد عظيمة. ثم إن في إيجاب الزكاة على عباد الله بيان لحكمة الله تعالى في التشريع؛ لأنك إذا تأملت الشرائع وجدت أنها كف وبذل، كف عن محبوب وبذل لمحبوب، فبذل المحبوب مثل الزكاة والحج في غالب الأحيان، وكف عن محبوب مثل الصيام والصلاة، فإن الإنسان في حال صلاته لا يأكل ولا يشرب ولا يتمتع بأهله ولا يلتفت إلى شيء غير صلاته، وفي الصيام يمسك عن الأكل والشُّرب والنكاح ومتع الدنيا التي تتعلق بالصيام، فتجد أن العبادات كف وبذل، ثم مع ذلك العبادات كف وبذل، إما بالبدن، وإما بالمال لأجل أن يتبين صدق العبودية؛ لأن من الناس من يهون عليه بذل البدن ويتعب ولا يهمه، لكن لو قيل له: أخرج قرشًا واحدًا من دراهمك، احمرَّ وجهه، وبعض الناس يهون عليه المال، ولكن يشق عليه التعب البدني، ويذكر أن بعض العلماء- غفر الله لنا ولهم- وجب على أحد الملوك عتق رقبة في بعض الكفارات، وأفتاه بأن يصوم بدل من العتق مع أن مرتبة الصيام بالنسبة للكفارات أنه يلي العتق، وما حجة هذا العالم الذي أفتى؟ ! قال: لأن عتق الرقبة للملك بسيط سيعتق عشر رقاب، لكن صيام يوم واحد أشق عليه من مائة رقبة! فقال: نؤذيه بالصيام هل هذا الاستحسان صحيح؟ لا، غير صحيح؛ لأن الاستحسان المضاد للشرع لا شك أنه سوء وليس بخير. فالحاصل: أن الله حكيم في تنويع العبادات لأجل أن يمتحن العبد هل هو عبد لله حقًّا أو هو عبد لهواه، فمن مشى مع الشرع فهو عبد الله.

متى فرضت الزكاة؟

متى فرضت الزكاة؟ ذكرنا تعريف الزكاة وفوائدها البحث الثالث متى فرضت الزكاة؟ هل في مكة أو المدينة؟ أكثر العلماء على أنها فرضت في المدينة في السَّنة الثانية من الهجرة بعد فرض الصيام، وقال بعض العلماء: إنها فرضت في مكة، وقال آخرون إنها فرضت في السنة التاسعة من الهجرة، ولكن التحقيق في هذا أن الزكاة فرضت في مكة، لكن لا على هذا التقدير المعين والأنصبة المعينة فقد قال الله تعالى في سورة الأنعام- وهي سورة مكية-: {وءاتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141]. وقال في سورة المعارج: {والذين في أموالهم حقٌ معلومٌ * للسائل والمحروم} [المعارج: 24]. فهناك زكاة واجبة مكية لكنها ليست على هذا التفصيل الذي استقرت عليه الشريعة الآن. وأما الذين قالوا: إنها فرضت في التاسعة. فيقول: هذا غير صحيح؛ لأن الذي كان في التاسعة بعث السُّعاة لأخذ الزكاة من أصحابها، يعنى: أهل المواشي، وأهل الثمار، وأما الوجوب الذي هو على ما هو عليه الآن فإن هذا كان في السنة الثانية من الهجرة، فصار للزكاة ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: الوجوب لكن على سبيل الإطلاق، والإنسان ما وجب عليه شيء معين. والثانية: الوجوب بهذا التقدير والتعيين الموجود الآن لكن بدون أن يبعث الناس لقبضها من أصحابها، وهذا كان في السَّنة الثانية من الهجرة. والثالثة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم صار يرسل السُّعاة لقبضها من أهلها، وهذا كان في السَّنة التاسعة من الهجرة. حكم الزكاة: وأما حكمها فهي فريضة بالنصِّ والإجماع، أما النص فما ذكره المؤلف في حديث ابن عباس-وسيأتي إن شاء الله-، وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على أن الزكاة فرض، وقالوا من جحد فرضيتها ومثله لا يجهله فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين، أما إذا كان مثله يجهله- كما لو كان حديث عهد بإسلام ولا يدري عن فرائض الإسلام شيئًا- فإن أصرَّ بعد التعليم صار بذلك كافرًا، هذا من جحد وجوبها، أما من أقرَّ بوجوبها ولكنه لم يؤدها كسلًا وتهاونًا ففيه خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إنه يكفر؛ لأنها ركن من أركان الإسلام، بل لأن الله قال: {وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكوة}، فجعلهم الله تعالى مشركين بذلك، وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله أن تارك الزكاة كسلًا

مسألة: هل تؤخذ الزكاة قهرا؟

وتهاونًا يكون كافرًا مرتدًّا وعلى هذا فيلحق بتارك الصلاة، ولكن جمهور أهل العلم على أنه لا يكفر بذلك، ولكنه قد ارتكب إثمًا عظيمًا أشد من الكبائر، ودليل هؤلاء حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عقوبة من لم يؤد الزكاة، ثم قال: "فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار"، ومعلوم أن من يمكن أن يكون له سبيل إلى الجنة فإنه لا يكون كافرًا؛ لأن الكافر لا يمكن أن يكون له سبيل إلى الجنة مسألة: هل تُؤخذ الزكاة قهرًا؟ بحث ثانٍ: هل إذا تركها تهاونًا تؤخذ منه قهرًا أو لا؟ الجواب: تؤخذ قهرًا، وفي هذه الحال هل تبرأ بها ذمته أو لا تبرأ؟ إن أداها لله برئت ذمته، وإن كان مكرهًا- وإن أداها لدفع الإكراه فقط وقال: هذه جزية- فإنها عند الله لا تبرأ ذمته ولا يُعد مخرجًا لها عند الله؛ لأنه ما أخرجها لله ولا امتثالًا لأمره. وهل مع إجباره وقهره على الزكاة هل يعاقب بذلك؟ اختلف فيه أهل العلم؛ فمنهم من قال: العقوبة أن يُلزم بدفعها فقط، وقال آخرون: بل يعاقب بأن يؤخذ من الزكاة شطر ماله، واستدلوا بحديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن لم يؤدها: "فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا". فقال: "آخذوها وشطر ماله" هل هذا شطر ماله كله- والشطر بمعنى: النصف- أو شطر ماله الذي منع زكاته؟ فيه خلاف أيضًا، وهذا الخلاف يحتمله اللفظ، فنرد ذلك إلى اجتهاد الحاكم، إذا رأى أن يؤخذ شطر المال كله أخذه، وإن رأى ألا يؤخذ إلا شطر المال الذي منع زكاته فليفعل؛ لأن هذا من باب التعزير فيرجع فيه إلى الإمام. 571 - عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن ... " فذكر الحديث وفيه: "إنَّ الله قد افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فتردَّ في فقرائهم". متفقٌ عليه، واللَّفظ للبخاريِّ. قوله: "بعث معاذ بن جبل إلى اليمن"، أي: أرسله، وكان ذلك في ربيع الأول سنة عشرٍ من الهجرة، أي: قبل موت الرسول صلى الله عليه وسلم بسنة، بعثه إلى اليمن داعيًا ومعلِّمًا وحاكمًا، بعثه يدعوهم إلى الله ويعلمهم ويحكم بينهم، والحكم هنا القضاء. "فذكر الحديث"، يعني: ذكر ابن عباس الحديث بطوله، وفيه أن أول ما يدعوهم إليه شهادة

أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن أجابوا أعلمهم بأن الله أفترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أجابوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم، فيه أنه قال له: "فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فتردُّ في فقرائهم"، فـ"افترض" بمعنى: أوجب، وأصل الفرض في اللغة: الحزم والقطع، ومنه سمِّي الحكم الحتمي فرضًا؛ لأنه مقطوع به لا يمكن أن يتخلف. وقوله: "صدقة في أموالهم"، "صدقة" أي: زكاة لا صدقة تطوع؛ لأنه قال: "افترض"، والفرض يكون تطوعًا، وسمِّي بذلك المال صدقة؛ لأنه دليل على صدق إيمان بأذله كيف ذلك؟ لأننا نعلم أن المال محبوب إلى النفوس، والنفوس لا يمكن أن يهون عليها بذل المحبوب إلا برجاء محبوب أعظم، وكون الدافع يفعل ذلك برجاء محبوب أعظم يدل على تصديقه بثواب هذه الصدقة، فلهذا سمِّي بذل المال صدقة. وقوله: "تُؤخذ من أغنيائهم" "تؤخذ" هنا مبني للمجهول، فمن الآخذ؟ الآخذ: الإمام أو نائبه وهو الساعي. وقوله: "من أغنيائهم"، "أغنياء" جمع غني، والغني: هو الذي عنده ما يستغني به عن غيره، هذا في الأصل، ولكن يختلف الغني باختلاف الأبواب، فعندما نقول الغني في باب أهل الزكاة يكون المراد بالغني: مَن عنده قوت نفسه وأهله لمدة سنة، وعندما قول: الغني في زكاة الفطر نقول: الغني من عنده زائد عن قوت يومه وليلته يوم العيد، وعندما نقول: الغني في باب النفقات نقول: هو من عنده ما يستطيع إنفاقه على من له إنفاق النفقة عليه، وعندما نقول: في باب الزكاة هنا نقول: الغني هو الذي يملك نصابًا زكويًّا، فهنا قوله: "من أغنيائهم" يعني: من يملكون نصابًا زكويًّا. فإن قلت: ما هو الدليل على ذلك، أفلا تكون هذه الكلمة من الكلمات التي مرجعها العُرف؟ فالجواب: أننا لا نرد الكلمات إلى العرف إلا حيث لا يكون لها حقيقة شرعية، فإن كان لها حقيقة شرعية فالواجب الرجوع إلى الشرع كما قيل: وَكُلُّ مَا أَتى وَلَمْ يُحَدَّد ... بالشّرع كالحرز فبالعرف احدد أمَّا هنا فقد حدِّد بالشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في الإبل في كل خمس شاة"، إذن عرفنا الآن أن صاحب الإبل متى يكون غنيًّا؟ إذا ملك خمسًا، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في الفضة: "ليس فيما دون

خمس أواقٍ صدقة"، إذن فالذي يملك خمس أواقٍ يكون غنيًّا، وفي الذهب: "عشرون دينارًا" فمن يملك عشرين دينارًا يكون غنيًّا، وهكذا الحبوب والثمار، "ليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقة"، فمن يملك خمسة أوسق فهو غني، فهذا الذي أوجب لنا أن نخرج كلمة "غني" عن مدلولها العُرفي إلى المدلول الشرعي، لماذا؟ لأنه وُجد لها مدلول شرعي محدد من قبل الشرع فلا يمكن أن نتعداه. وقوله: "تُؤخذ من أغنيائهم"، الإضافة هنا هل هي إضافة للجنس أو إضافة للقوم، يعني: هل المراد: أن تؤخذ من أغنيائهم المسلمين عمومًا، أو من أغنياء أهل اليمن فقط؟ الظاهر أنها عمومًا، يعني: تُؤخذ من أغنياء الناس كلهم، وبناء على ذلك "فتردُّ في فقرائهم"، "فترد" أي: الصدقة، أي: ترجع في فقرائهم، وقوله: "في فقرائهم" دون "إلى فقرائهم"؛ لأن "رد" في الغالب تتعدي بـ "إلى"، لكن "في" أبلغ في الوصول؛ لأن مدخولها يكون ظرفًا لما قبله، فهي أبلغ من كلمة "إلى". وقوله: "في فقرائهم" من الفقير؟ هل نقول: إن الفقير من كان فقيرًا عند الناس أو لا؟ يرى بعض أهل العلم أن الفقير ما سُمِّي فقيرًا عند الناس، وبناء على هذا فإن الفقر يكون أمرًا نسبيًّا. وقال بعضهم: إن الفقير هو الذي لا يجد ما يكفيه وعائلته لمدة سنة، وقدِّروها بالسَّنة، قالوا: لأن الزكاة تجب على رأس الحول، فإذا أعطينا الفقراء ما يكفيهم لهذه السَّنة لأنهم في انتظار زكاة العام الثاني فقيدوا الفقر بأن الفقير هو الذي لا يجد نفقته وعائلته لمدة سنة. لو قال قائل: لماذا لا تجعلون الفقير هو الذي لا يملك نصابًا زكويًّا؛ لأن ظاهر الحديث التقابل، فما دمتم قلتم: إن الغني هو الذي يملك نصابًا زكويًّا، فإن الفقير هو الذي لا يملك نصابًا زكويًّا، وبذلك يكون من عنده خمسً من الإبل فإنه لا يُعطى من الزكاة؛ لأنه ليس بفقيرٍ، ومن عنده أربعون شاةً لا يُعطى من الزكاة؛ لأنه ليس بفقيرٍ، ومن عنده خمس أواقٍ لا يعطى من الزكاة؛ لأنه ليس بفقيرٍ، لو قال قائل هنا واستدلَّ علينا بالمقابلة، بأن قال مثلًا: إن مفهوم القول بأنها تؤخذ من غني وتُردُّ إلى فقير يقتضي التقابل، فيقال- بناء عليه-: إن الفقير هو ضد الغني، والغني قلتم: إنه من يملك نصابًا زكويًّا، فيكون الفقير من لا يملك، فبما نردُّ على هذا؟ نقول: هذا لا شك أنه إيراد قوي؛ لأن الأصل في الكلام إذا ذكر الشيء ومقابله أن يكون مقابله ضده في المعنى، ولكنا نقول: نحن إذا علمنا أن مقصود الشارع دفع حاجة المعطي صار تقيده بأن الفقير من لا يملك نصابًا زكويًّا غير وافٍ بالمقصود؛ لأن الرجل قد يكون عنده عائلة كبيرة وخمس من الإبل لا تكفيه ولا لمدة شهرين فيكون محتاجًا إلى الزكاة، فما دمنا قد علمنا العلة-وهي أن المقصود بذلك سد حاجة الفقير- فليكن ذلك محققًا.

وقيدناه بالسَّنة لما أشرنا إليه من قبل أن الزكاة حولية وإلا فقد يقول قائل: أعطوا الفقير حتى يكون غنيًّا مكتفيًا، ولكن لو قال قائل هذا القول، قلنا: وما حد الاكتفاء؛ لأنه قال: أعطوه حتى يكون غنيًّا؟ يكون اللي عنده يكفيه حتى الموت، هذا لا يمكن؛ لأن مثل ذلك لا يُعلم إذا مات عن قرب صار كل شيء يكفيه، وإن عُمِّر فهذا يحتاج إلى آلاف الألوف فهذا لا يمكن تقديره؛ نعم لو قال قائل: أعطوا الفقير حتى تهيئوا له ما يمكن أن يعيش فيه. لكان لهذا القول وجه، ولكن متى يكون ذلك؟ إذا لم نجل هناك حاجة شديدة؛ يعني: لو فرض أن المستوى العام للشعب مستوى جيد، وأردنا أن نؤمِّن مثلًا عمارة لهذا الفقير تكفيه من الزكاة فهذا جائز، أما إذا أمّنا لهذا الفقير عمارة من الزكاة بمائة ألف حرمنا عشرات الفقراء فلا، لكن لو فرضنا أن الشعب متكامل؛ يعني: أنه طيب الاقتصاد فهذا وجه قوي؛ أي: أن يشترى للفقير شيء يكفي نفقته على الاستمرار مثل سيارات يؤجرها أو عقارات حتى يكون غير مُحتاج. وقوله: "تُؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم"، الإضافة هنا إضافة جنس أو إضافة قوم؟ فيه خلاف هو كالأول جنس هذا صحيح، لكن مع ذلك اختلف العلماء في هذه المسألة، فقال بعضهم: "إلى فقرائهم" أي: فقراء قومهم بمعنى أن زكاة أهل اليمن لأهل اليمن لا تخرج إلا إذا لم يوجد مستحق فتخرج، لكن ما دام يوجد مُستحق فإنها لا تُصرف إلى غيرهم، يعني يُقال: "من أغنيائهم فترد في فقرائهم"، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الإضافة هنا للجنس، أي: في فقراء المسلمين، وعلى هذا القول فيجوز أن ننقل الزكاة من البلد إلى بلد آخر، وسيأتي- إن شاء الله- في الفوائد. هذا الحديث صدَّر به المؤلف كتاب الزكاة؛ لأن فيه التصريح بأن الزكاة فرض. فيستفاد من هذا الحديث فوائد؛ منها: مشروعية بعث الدُّعاة إلى الله عز وجل لقوله: "بعث معاذًا إلى اليمن"، وهل بعث الدُّعاة واجب؟ الجواب: نعم واجب كفائي؛ لأن على المسلمين واجب تبليغ الإسلام، فيكون بذلك من باب فرض الكفاية، فيجب على ولاة المسلمين أن يبعثوا الدَّعاة إلى البلاد لبثِّ الإسلام. ثانيًا: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على انتشار الإسلام، يُؤخذ من بعثة الدُّعاة. ويستفاد من الحديث من الألفاظ التي حذفها المؤلف: أنه ينبغي الترتيب في الدعوة فيبدأ بالأهم فالأهم، حتى إذا اطمأن الإنسان ورضي والتزم ينتقل إلى الثاني، وهذا يؤخذ من قوله: "فإن هم أطاعوك لذلك". ويستفاد منه: أن الصلاة أوكد من الزكاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعلامهم بفرضية الزكاة إلا إذا قبلوا فرض الصلاة.

مسألة: هل يمنع الدين وجوب الزكاة؟

ومنها: أنه لا يجب على الإنسان في اليوم والليلة أكثر من خمس صلوات، ويتفرع على هذه الفائدة أن الوتر ليس بواجب؛ لأن الوتر يومي، ولو كان واجبًا لكان المفروض في اليوم والليلة ست صلوات، أما ما يجب لسبب فإنه لا يمكن أن يستدل بهذا الحديث وأمثاله على انتفاء وجوبه؛ لأن ما يجب بسبب ليس دائرًا بدوران الأيام مثل صلاة الجنازة والكسوف وركعتي الطواف وتحية المسجد وصلاة العيد؛ لأن هذه واجبة بأسباب تحدث، فإيجابها طارئ بخلاف الصلوات اليومية. ومن فوائد هذا الحديث: أن الزكاة فرض، نذكر أولًا: لماذا لم يذكر المؤلف الصوم والحج؟ إن قلت: إنهما لم يفرضا، فالجواب: خطأ؛ لأن الصوم فرض في السَّنة الثانية، والحج فرض في السنة التاسعة، وبعث معاذ في السنة العاشرة، إذن ما هو الجواب؟ الجواب أن يقال: إن المسألة مسألة دعوة يدعون إلى الأهم فالأهم، وهو قد بعث إليهم في ربيع الأول بقي على الصوم خمسة شهور، فإذا استقر الإيمان في نفوسهم فإنهم حينئذٍ يؤمرون بالصوم، أي: أن الصوم لم تدع الحاجة إلى الدعوة إليه في ذلك الوقت، وكذلك نقول في الحج؛ لأن الحج باقٍ عليه ثمانية شهور، وهكذا نقول: إن الحكمة في عدم ذكرهما هو أن الوقت لم يحن بعد، فالدعوة إليهما غير مُلحة. وفي الحديث أيضًا من الفوائد: أن الزكاة فرض لقوله: "افترض"، وأن المرجع في فرض الأشياء إلى الله عز وجل لقوله: "إن الله افترض". وفيه أيضًا: إطلاق الصدقة على الزكاة خلافًا للعرف، وهذه الفائدة تؤخذ من قوله: "افترض عليهم صدقة"، وكذلك يدل على هذا قوله تعالى: {* إنما الصدقات ... } الآية. ومن فوائد الحديث: أن الزكاة واجبة في المال لقوله: "في أموالهم". مسألة: هل يمنع الدَّين وجوب الزكاة؟ ويتفرع على هذه الفائدة أن الدَّين لا يمنع وجوب الزكاة مطلقًا، مثال ذلك: رجل عنده ألف درهم وعليه دين مقداره ألف درهم، فهل نقول: إن المال الذي بيده- وهو ألف درهم- لا زكاة عليه لأنه مدين بمثله؟ هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، لكن هذا الحديث يدل على أن الزكاة تجب عليه، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزكاة في المال، والدَّين الذي يجب على الإنسان واجب في ذمته وليس في ماله، ولهذا لو تلف ماله فهل يسقط دينه؟ لا يسقط؛ لأنه في ذمته، فالدَّين في الذمة والزكاة في المال، ويشهد لهذا الحديث ويؤيده قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103]. والآية عامة، وقوله: {والذين في أموالهم حقٌ معلومٌ} [المعارج: 24].

• وللعلماء في هذه المسألة- وهي مهمة ينبغي للإنسان أن يعرفها- ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لا زكاة لمن عليه دين يُنقص النصاب؛ سواء كانت الزكاة واجبة في أموال ظاهرة أم في أموال باطنة، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة- رحمهم الله-. والقول الثاني: أن الزكاة واجبة في المال؛ سواء كان ظاهرًا أم باطنًا، ولو كان على صاحبه دين، وهذا القول هو القول الراجح الذي تؤيده الأدلة. والقول الثالث: التفصيل؛ فإن كانت الزكاة واجبة في أموال ظاهرة لم يمنعها الدَّين، وإن كانت واجبة في أموال باطنة فالدَّين مانع لها، لكن ما هي الأموال الظاهرة والباطنة؟ الأموال الظاهرة هي التي تظهر ولا تُحاز في الصناديق مثل بهيمة الأنعام والحبوب والثمار، هذه تُسمى عند أهل العلم الأموال الظاهرة؛ لأنها ظاهرة للناس، كلٌّ يراها، فما حجة هذه الأقوال؟ أما الذين قالوا: إن الدَّين يمنع وجوب الزكاة مطلقًا، فقالوا: لأن الزكاة إنما تجب للمواساة، والذي عليه الدَّين ليس أهلًا للمواساة؛ لأنه هو نفسه يحتاج إلى من يواسيه، وعلى هذا فلا تجب عليه الزكاة، هذا هو تعليلهم مع أنهم يستدلون بآثار. أما الذين قالوا: إنها لا تمنع وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السعاة لقبض الزكاة من الأموال الظاهرة ولم يكن يأمرهم أن يستفصلوا: هل عليكم دين أم لا؟ مع أن أصحاب الأموال الظاهرة- ولا سيما أصحاب الثمار- في الغالب أنهم مدينون، ولذلك كان السَّلم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم موجودًا، كانوا يسلفون بالثمار السَّنة والسنتين، وهذا يدل على أنهم يحتاجون للدراهم، فلما لم يأمرهم النبي صل الله عليه وسلم أن يستفصلوا دل هذا على أن الدَّين لا يمنع وجوب الزكاة، ولأن هذه أموال ظاهرة تتعلق بها أطماع الفقراء ويعرفونها، وإذا لم يوجب عليه الزكاة فإن ذلك قد يؤدي إلى فتنة، فإن الفقراء ربما يثورون على الأغنياء ويبدءون بالسرقة من هذه الأموال الظاهرة. هذا هو تعليل من فرق بين هذا وهذا. وأما الأموال الباطنة فقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يبعث الناس لأخذها، وأيضًا ليست ظاهرة للفقراء بحيث لو لم تؤد زكاتها. وأما الذين قالوا بوجوب الزكاة على من عليه دين فقالوا: إن لدينا نصوصًا عامة لم تفرق بين الأموال، وأما قولكم: إن الزكاة وجبت مواساة فنقول: نعم، نحن نوجب على هذا أن يزكي ونواسيهم في إعطائهم من الزكاة، فإذا كان عليه ألف درهم وبيده ألف درهم، قلنا: أخرج زكاة الدراهم خمسًا وعشرين، ونحن نعطيك من زكاتنا خمسًا وعشرين لتوفي ما عليك، وحينئذٍ هل

آتاه نقص؟ لا، فإن قلت: ما الفائدة من كونه يُخرج خمسة وعشرين ونحن نعطيه خمسة وعشرين يكمِّل بها الذي عليه؟ قلنا: الفائدة ليشعر أنه متعبد لله بإخراج الزكاة؛ ولأن هذا أحوط له وأبرأ لذمته، فعلى هذا يكون القول الراجح أنها- الزكاة- تجب في المال ولو كان صاحبه مدينًا، نقول له: زكِّ مالك ونحن نعطيك ما توفي به دينك. وأما التعليل بأن الزكاة وجبت مواساة والمدين لا يتحملها؛ فإن التعليل في مقابلة النص عليل أو ميت مطروح، ثم نقول لهم: من الذي قال لكم إن الزكاة وجبت مواساة؟ أليست تصرف في الجهاد في سبيل الله؟ نعم، وهذا ليس بمواساة، تُصرف في الغارم في إصلاح ذات البين ولو كان غنيًّا، تُصرف لابن سبيل لكن الغالب أنه محتاج، لكن من الذي يقول إنها مواساة؟ نحن نتلمس علة ثم مع ذلك نبطل بها عموم النص! ! هذا لا يستقيم. ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: جواز أخذ الولي الزكاة من الأغنياء. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الزكاة في فقراء البلد لقوله: "فترد في فقرائهم"، وهذا مبني على أن الضمير "في فقرائهم" يعود إلى أهل اليمن، أما إذا قلنا: تعود إلى فقراء المسلمين وأن الإضافة جنسية فليس فيه دليل، ومن ثم اختلف العلماء في ذلك. ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد؛ لقوله: "في فقرائهم"، والفقراء هم أحد الأصناف الثمانية الذين قال الله فيهم: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} [التوبة: 60]. فيكون في هذا الحديث رد لقول من يقول: إنه لا بد أن تُصرف الزكاة على الأصناف الثمانية كلها وألا يقل العدد في كل صنف عن ثلاثة، وعلى هذا اضرب ثلاثة في ثمانية يساوي أربعة وعشرين، فلو كان عندك ألف ريال فزكاته خمس وعشرون ريالًا، تعطي الفقراء الثلاثة على ريال، وتعطي المساكين على ريال، وتعطي العاملين عليها على ريال، وتعطي المجاهدين في سبيل الله على ريال، ثلاثة من المجاهدين، وعلى هذا فقس، والصحيح أنه يجوز أن تُصرف الزكاة إلى صنف واحد، وأن المراد بالآية بيان المستحقين لا وجوب التوزيع على الجميع. فيه أيضًا من الفوائد: دليل على بعث الدُعاة إلى الله عز وجل، وذكرت من قبل، وهل هو على سبيل الوجوب؟ نعم ولكنه وجوب كفائي، إنما يجب على ولاة أمور المسلمين أن يبعثوا الدُّعاة إلى دين الإسلام، لا يقولوا: من جاءنا دعوناه، يجب أن يبثوا الدعوة الإسلامية، وإذا نظرنا إلى حالنا نحن المسلمين اليوم وجدنا أن عندنا تقصيرًا عظيمًا، وأن النصارى- على باطلهم- أقوى في الدعوة إلى الضلال وإلى دين منسوخ محرف، ومع ذلك يبذلون النفس والنفيس في تنصير الناس، يذهبون يقطعون الفيافي والمخاطر والمفاوز لأجل الدعوة إلى هذا

زكاة بهيمة الأنعام

الدين الذي هم عليه، ويبذلون أموالهم الكثيرة في بناء المستشفيات والمدارس وتحصيل الكسوة والنفقة، مع أن الواجب في هذا الأمر أن يقوم به المسلمون! ! ودين الإسلام دين الفطرة، أي إنسان تعرض عليه دين الإسلام عرضًا صحيحًا سليمًا فإنه سوف يقبل، قال الله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت الله التي فطر الناس عليها} [الروم: 30]. ومعلوم أن ما يوافق الفطرة فهو مقبول، ولذلك الإنسان يقبل أن يهرب من عدوه وأن يُقبل على صديقه، وهذا أمر فطري لا يحتاج إلى درس ولا تعلُّم. زكاة بهيمة الأنعام: 572 - وعن أنسٍ رضي الله عنه أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه كتب له: "هذه فريضة الصَّدقة الَّتي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والَّتي أمر الله بها رسوله: في كلِّ أربعٍ وعشرين من الإبل فما دونها الغنم في كلِّ خمسٍ شاةٌ، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمسٍ وثلاثين ففيها بنت مخاضٍ أنثى، فإن لم تكن فابن لبونٍ ذكر، فإذا بلغت ستًّا وثلاثين إلى خمسٍ وأربعين ففيها بنت لبونٍ أنثى، فإذا بلغت ستًّا وأربعين إلى ستِّين ففيها حقَّةٌ طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدةً وستِّين إلى خمسٍ وسبعين ففيها جذعةٌ، فإذا بلغت ستًّا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبونٍ، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائةٍ ففيها حقَّتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائةٍ ففي كلِّ أربعين بنت لبونٍ، وفي كلِّ خمسين حقَّةٌ، ومن لم يكن معه إلا أربعٌ من الإبل فليس فيها صدقةٌ إلا أن يشاء ربُّها. وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ، فإذا زادت على عشرين ومائةٍ إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائةٍ ففيها ثلاث شياه فإذا زادت على ثلاثمائةٍ ففي كلِّ مائةٍ شاةٌ، فإذا كانت سائمة الرَّجل ناقصةً عن أربعين شاةٍ شاةً واحدةً فليس فيها صدقةٌ، إلا أن يشاء ربُّها. ولا يجمع بين متفرِّقٍ ولا يفرَّق بين مجتمعٍ خشية الصَّدقة، وما كان من خليطين فإنَّهما يتراجعان بينهما بالسَّوية، ولا يخرج في الصَّدقةً هرمةٌ ولا ذات عوارٍ ولا تيسٌ إلا أن يشاء المصَّدِّق، وفي الرِّقة في مائتي درهمٍ ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائةً فليس فيها صدقةٌ إلا أن يشاء ربُّها، ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعةٌ وعنده حقَّةٌ، فإنَّها تقبل منه الحقَّة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهمًا، ومن

بلغت عنده صدقة الحقَّة وليست عنده الحقَّة وعنده الجذعة، فإنَّها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصَّدِّق عشرين درهمًا أو شاتين". رَوَاهُ البخاريُّ. "أبو بكر الصديق" هو الخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رضي الله عنه يبعث الناس إلى أخذ الزكاة، فبعث أنس بن مالك إلى البحرين وهي منطقة معروفة وليست هي الجزيرة المشهورة، بل إنَّ هذه الأحياء وما جاورها كلها تسمى البحرين، وقاعدتها هجر، وهي كثيرة التمر ولهذا يضرب بها المثل، فبعثه رضي الله عنه وكتب له هذا الكتاب: "هذه فريضة الصدقة" هذه المشار إليه ما كتب. وقوله: "فريضة الصدقة" أي: مفروضتها التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، وهذا يدل على أن الحديث مرفوع؛ لأنه قال: "فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين". وقوله: "والتي أمر الله بها رسوله" فيه: أن هذه الفريضة بأمر الله عز وجل، ولهذا قال: "والتي أمر الله بها رسوله"، و"الواو" هنا عطف، وهو من باب عطف الصفات؛ لأن الشيء واحد هنا لكن هو مفروض بفرض الرسول ومأمور به بأمر الله، وعطف الصفات يقع كثيرًا، والأصل في العطف أن يكون عطف أعيان، ولكنه إذا عُلم أن الأعيان لن تتعدد حُمل على أنه عطف صفات، فإذا قلت ما تقول في قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى} [الأعلى: 1 - 4]: عطف صفات، ما الدليل على أنه ليس عطف أعيان؟ فالجواب أن نقول: لأن الله واحد، الموصوف واحد، فيكون هذا العطف عطف صفات لا عطف أعيان، يقول: "والتي أمر الله بها رسوله"، رسوله صلى الله عليه وسلم محمدًا مأمور فهو ليس مستقلًّا بالأمر، بل الله هو الذي يأمره. يقول: "في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم"، "في كل" جار ومجرور خبر مقدم، و"الغنم" مبتدأ مؤخر؛ يعني: الغنم في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها فيها الغنم، يعني: وليس فيها إبل، فأربع وعشرون من الإبل لا يمكن أن تجب فيها صدقة من الإبل، لماذا؟ لأنها لا تتحمل أن يدفع منها شيء من الإبل فجعل فيها الغنم. "في أربع وعشرين فما دونها الغنم" لكن كيف توزع؟ قال: "في كل خمس شاة"، الخمس الأولى شاة، وفي العشر شاتان، وفي الخمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه، وفي أربع وعشرين أربع شياه، إذن ما بين الفرضين تابع لما قبله، فالست والسبع والثمان والتسع تابعة للخمس يكون فيها شاة، وإحدى عشرة، واثنتا عشرة، وثلاث عشرة، وأربع عشرة تابعة للعشر ففيها شاتان، وست عشرة، وسبع عشرة، وثماني عشرة، وتسع عشرة، تابعة للخمس

عشرة ففيها ثلاث شياه، وإحدى وعشرون، واثنتان وعشرون، وثلاث وعشرون، وأربع وعشرون تابعة للعشرين ففيها أربع شياه، لكن ما نوع هذه الشاة؟ هذه الشاة تكون من جنس الإبل، إن كانت طيبة فطيبة، وإن كانت رديئة فرديئة، وإن كانت وسطًا فوسطًا؛ لأن الواجب من جنس ما وجب فيه، ولكن لو فرض أن في الإبل طيب ورديء لا يمكن أن نأخذ من الطيب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حذَّر من هذا فقال: "إياك وكرائم أموالهم"؛ إذن "في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمسٍ وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى". كيف قال: "أنثى" مع أنه قال: "بنت"؟ من باب التأكيد، وقوله: "بنت مخاض" معناه: التي أمها ماخض، والماخض هي الحامل أو ما كانت مُتهيئة للحمل. قال العلماء: وهي البكرة التي تم لها سنة، فإذا كان عند الإنسان (25) من الإبل وجب عليه بكرة عمرها سنة، (26، 27، 28، 29، 30، 31، 32، 33، 34، 35) كلها فيها بنت مخاض"؛ يعني: بكرة تم لها سنة. يقول: "فإن لم تكن فابن لبون ذكره"، "تكن" هنا تامة وليست ناقصة؛ أي: فإن لم توجد، لو قلت لي: لماذا لا تجعلها ناقصة والخبر محذوف، والتقدير: فإن لم تكن موجودة؟ نقول: هذا ممكن من حيث الإعراب لكن لا حاجة أن نقدر أنها موجودة، مع أن "تكن" جاءت في اللغة العربية بمعنى "توجد"، يعني: جاءت تامِّة لا تحتاج إلى خبر، وإذا صار الأمرين الحذف وعدم الحذف في الكلام، فعدم الحذف أولى، فحينئذٍ نقول: "تكن" هنا تامة. بمعنى: توجد. يقول: "فابن لبون ذكر"، وهو جمل تمّ له سنتان، وسُمي ابن لبون؛ لأن الغالب أن أمه قد وضعت وصارت ذات لبون. وقوله: "ذكر" توكيد. يقول: "فإذا بلغت ستًّا وثلاثين إلى خمسٍ وأربعين ففيها بنت لبون أنثى" يعني: بكرة تم لها سنتان، لماذا نقول في (36) ابن لبون ذكر له سنتان، وهنا نقول: بنت لبون لها سنتان؟ نقول: لأن الأول فيه نقص وهو الذكورة والذكورة، في الحيوان كمال أو نقص؟ نقص ابن لبون بمكان بنت مخاض بينهم سنة لكن لنقصه عنها جُبر بسنة. يقول: فإذا بلغت سنًّا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل"، من (46) إلى (60) فيها حقة طروقة الجمل، حقة بالكسر، ويقال في الذكر: "حق" وهو اللي تمَّ له ثلاث سنوات، وسمِّي بذلك "حق، وحقة" لأنها استحقت أن ترحل ويحمل عليها، وبالنسبة للأنثى أنها استحقت أن تتحمل الجمل، ولهذا قال: "طروقة الجمل" فعولة، بمعنى: مفعولة، أي: يطرقها الجمل لو أرادها، وما دون ذلك فهي صغيرة لا تتحمل الجمل، فمن (46) إلى (60) فيها حقة وهي بكرة تم لها ثلاث سنوات.

قال: "فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة" كم بينهما؟ (14)، والجذعة هي البكرة التي تمَّ لها أربع سنين. قال: "إذا بلغت ستًّا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون" اثنتان تم لكل واحدة منها سنتان، والوقص أربع عشرة أيضًا. "فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل"، كم الوقص؟ تسع وعشرون. "طروقتا الجمل" أصلها طروقتان، لكن حذفت النون لأجل الإضافة، إذن بنت المخاض لم تتكرر، وبنت اللبون تكررت، والحقاق تكررت، والجذعات لم تتكرر؛ فصار الذي تكرر من هذه السن الوسط وهو "بنت اللبون والحقاق" يعني: لا توجد فريضة فيها بنتا مخاض، ولا توجد فريضة فيها جذعتان، قال: "فإذا زادت على عشرين ومائة" يعني: صارت (121)، "ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة"، يعني: من (121) تستقر الفريضة في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون. إذن ففيها بنتا لبون وحقة، في أربعين ومائة فيها حقتان وبنت لبون، وفي خمسين ومائة ثلاث حقاق، في ستين ومائة أربع بنات لبون، في سبعين ومائة حقة وثلاث بنات لبون، في ثمانين ومائة حقتان وبنتا لبون، في تسعين ومائة ثلاث حقاق وبنت لبون، في مائتين أربع حقاق أو خمس بنات لبون يخير الإنسان في هذه الحال، إذن على هذا فقس إذا زادت عشرين ومائة واحدة استقرت الفريضة في كل أربعين بنت لبون في كل خمسين حقة، ومتى بقي معك عشر فأكثر فاعلم أنك أخطأت في التقدير؛ لأنه لا يمكن أن يبقى معك عشر فأكثر أبدًا، يمكن أن يبقى خمس مثل (125) كم فيها؟ ثلاث بنات لبون بقي خمس ما يضر، لكن متى وزعت فبقي معك عشر فاعلم أن التوزيع خطًا، لو قلنا: في ثلاثين ومائة ثلاث بنات لبون لا يصح، لأنه بقي عشر، لو قلنا: في ستين ومائة ثلاث حقاق ما صحَّ؛ لأن الباقي عشر فتعيد النظر. قال: "فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون"، كلمة "على عشرين ومائة". فائدة لغوية: لاحظوا أننا نقول: مائة وعشرين وهي خطًا، قراءتنا مائة وعشرين موافقة للغة الإنجليزية تمامًا، لماذا؟ لأنها تبدأ من اليسار، والمائة يسار العشرين، فالصواب أن نقول عشرون ومائة. يقول: "ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة" لماذا؟ لأنها لم تبلغ النصاب؛ لأن أقل النصاب خمس من الإبل، وهذا ما لم يكن أعدها للتجارة، فإن كان قد أعدها للتجارة فالواحدة يمكن يصير فيها شيء، بل المعتبر فيما أعد للتجارة القيمة.

أما هنا اتخذها للتنمية؛ إنسان ينمي الإبل يتخذها للدر والنسل، ولا يضره إذا باع منها ما يزيد على حاجته أو إذا باع الأولاد، لكن إذا كان المقصود التنمية فهذه أقل نصابها "خمس من الإيل"، ولهذا قال: "فإن لم يكن". وقوله: "إلا أن يشاء ربها": الاستثناء هنا منقطع؛ وذلك لأن الواجب لا يحال على المشيئة أو لا يخير فيه الإنسان، ولو جعلناه استثناء متصلًا لكان المعنى: فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربُّها ففيها صدقة، والأمر ليس كذلك؛ لأن الواجب لا يُخيَّر فيه الإنسان ولا يُرد في أمره إلى مشيئته، فالاستثناء إذن منقطع، يعني: لكن إن شاء ربُّها أن يتصدق بشيء فلا مانع، يعني: الذي عنده أربع من الإبل لو أراد أحد أن يتصدق عنها بشاة من الغنم فلا حرج؛ لأن الصدقة خير وبابها مفتوح، وأما أن نقول: هذا واجب عليك فليس كذلك. "وفي صدقة الغنم في سائمتها ... إلخ"، "صدقة" أي: زكاة، و"الغنم" يشمل الضأن والمعز، والفرق بين الضأن والمعز واضح، التي لها ذيل مرتفع يسمى الماعز، يقول: "في سائمتها" يسميها النحويون بدل اشتمال بإعادة العامل فكأنه قال: وفي سائمة الغنم، في الإبل أظنه ما قال: "في سائمتها"، ولكنه سيأتينا- إن شاء الله- في حديث بهز بن حكيم ذكر ذلك في كل سائمة إبل، وعلى هذا فلا بد من السَّوم في الغنم والإبل أيضًا. أما الغنم فكما تشاهدون، وأما الإبل فلحديث بهز بن حكيم وللقياس الجلي، فإنه إذا كانت الغنم يشترط فيها السائمة ففي الإبل من باب أولى؛ لأن الإبل أشد مؤونة وأكثر وأعظم، ما معنى السَّوم؟ قال الله تعالى: {هو الذي أنزل من السماء ماءً لكم منه شرابٌ ومنه شجرٌ فيه تسيمون} [النحل: 10]. يعني: ترعون؛ فالسَّوم بمعنى: الرعي، وهي التي ترعى ولا تُعلف، كم ترعى السائمة، هل السنة كاملة؟ هذا يكون نادرًا في الغالب؛ لأن في أيام غير الربيع قد تحتاج المواشي إلى إعلاف؛ ولهذا قال العلماء: السائمة هنا هي التي ترعى الحول كله أو أكثره، فجعلوا الأكثر له حكم الكل، أما إذا كانت ترعى نصف الدهر وتُعلف تصف الدهر فليس فيها شيء، وإذا كانت ترعى أقل الدهر وتعلف أكثره فليس فيها شيء، وإذا كانت تعلف كل الدهر فليس فيها شيء، فكم الأقسام؟ نعدها تُعلف كل الدهر هذا واحد، تعلف بعض الدهر هذا الثاني، تُعلف نصف الدهر هذه ثلاثة، تسوم أكثر الدهر أربعة، تسوم كل الدهر خمسة، اثنان منها فيه الزكاة وثلاثة لا زكاة فيها، أما التي تُعلف الدهر أو أكثره واضح، يبقى التي تسوم نصف الدهر وتُعلف نصف الدهر هذه اشترك فيها موجب ومانع على السواء قالوا: فيغلب جانب المانع اعتبارًا بالبراءة

أحكام مهمة في السوم

الأصلية؛ لأن الأصل عدم الوجوب وبراءة الدمة ما دمنا ليس عندنا ما يُرجح جانب السَّوم فإن الأصل الوجوب. أحكام مهمة في السوم: أما إذا كان السَّوم أكثر الحول أو كل الحول فالوجوب واضح، وإذا كان الإعلاف أكثر الحول أو كل الحول الحكم واضح في عدم وجوب الزكاة، إذا كان الرعي كل الحول أو أكثر الحول فالوجوب واضح، إذا كان الرعي والإعلاف سواء فقد تنازع في الحكم موجب ومانع؛ الموجب السّوم، والمانع عدم السَّوم. قالوا: فيرجّح المانع، لماذا؟ لأن الأصل براءة الذمة وعدم الوجوب، فلا نلزم المسلمين إلا بشيء ظاهر حتى يتحقق الشرط، ماذا قلنا في إعراب "سائمتها"؟ قلنا: إنها بدل اشتمال لإعادة العامل، وهي خبر مقدم. قوله: "إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ"؛ "شاة" هذه مبتدأ مؤخر، في أربعين إلى عشرين ومائة شاة، ففي أربعين شاة، وفي خمسين شاة، وفي ستين شاة، وفي ثمانين شاة، وفي مائة شاة، وفي عشر ومائة شاة، وفي عشرين ومائة شاة. كم الوقص؟ ثمانون، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان. قوله: "فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاثة شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة". تستقر الفريضة إذن في (201) ثلاث شياه، ومن (121) إلى (200) شاتان الوقص (80)، ومن (40) إلى (120) شاة الوقص (80)، (201) إلى (399) فيها ثلاث شياه. إذن من (201) إلى (400) كله ثلاث شياه الوقص (199)، وذلك لان مثل هذه الامور مرجعها إلى الشرع، ومن أجل ذلك تقول: إننا لا نعلم الحكمة في هذا التفاوت العظيم في هذه الأوقاص. الوقص الأول والثاني متساويان، والوقص الثالث هذا هو المتباعد، ثم من أربعمائة إلى خمسمائة يكتمل الوقص مائة في كل مائة شاة. صدقة الغنم صارت أيسر من صدقة الإبل؛ لأن الإبل كبيرة وثمينة فلذلك كثرت أوقاصها وتجزئتها بخلاف الغنم. قوله: "فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاةٍ شاةً واحدة"، "شاة واحدة" هذه مفعول ناقصة؛ لأن "نقص" تنصب مفعولين، قال الله تعالى: {ثم لم ينقصوكم شيئًا} [التوبة: 4]. فنصبت مفعولين إذا كانت ناقصة شاة. "فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربُّها" "إلا" هنا استثناء منقطع، فإذا كان عند الإنسان (39) من الغنم سائمة فليس عليه زكاة، ولكن إن يتصدق كان ذلك تطوعًا؛ لأن الصدقة إذا أضيفت إلى

المشيئة صار تطوعًا، إذ إن الواجب لا مشيئة فيه، أظن اتضح الآن صدقة الغنم في أربعين شاة، وفي ثمانين شاة، وفي عشرين ومائة شاة، وفي واحد وعشرين ومائة شاتان، وفي مائتين شاتان، وفي واحد ومائتين ثلاث شياه، وفي واحد وثلاثمائة ثلاث شياه، وفي تسعين وثلاثمائة ثلاث شياه، وفي أربعمائة أربع شياه، إذا كانت (39) فليس فيها شيء إلا إذا تصدق الإنسان فلا حرج عليه. قوله: "ولا يُجمع بين متفرق ولا يُفرق بين مجتمع خشية الصدقة"، هذا الحديث أفادنا أن الاجتماع والافتراق يؤثر في الصدقة، وهذا خاصٌّ في السائمة، يعني: أنه لا يجوز للإنسان أن يجمع بين شيئين من أجل الصدقة، مثال ذلك: رجل عنده مال من الغنم أربعون شاة في الرياض وأربعون شاة في القصيم كم في كل واحد؟ شاة؛ يعني: عليه شاتان، فذهب وجمعهما في مكان واحد كم يصير عليه؟ شاة، إذن جمع بين متفرق خشية الصدقة هذا لا يجوز. وكذلك لو كان رجلان عند كل واحد منهما أربعون فخلطاهما خشية الصدقة؛ فصار على الجميع شاة واحدة ومع التفريق شاتان. أقول: هذا لا يجوز؛ وذلك لأن التحيل على إسقاط الواجب لا أثر له، فإن التحيل على إسقاط الواجبات لا يُسقطها، إذ لو كان التَّحيل على إسقاط الواجبات مؤثرا لكان كل إنسان يتمكن من إسقاط الواجب عليه بنوع من الحيلة، وكذلك التحيل على المحرمات لا يبيحها، وإلا لكان جائزًا لكل إنسان يستطيع أن يفعل المحرم بنوع من الحيلة، إذن لا يُجمع بين متفرق خشية الصدقة، ولا يُفرق بين مجتمع خشية الصدقة، كيف يُفرق بين مجتمع؟ إنسان عنده أربعون شاة في مكان ماذا عليه؟ شاة واحدة، لكنه أخذ عشرين وأبعدها عن الأخرى، فأصبح كل منهما الآن ليس فيها شيء، ففرق بين المجتمع خشية الصدقة والعلة فيه ظاهرة؛ لأن كل حيلة على إسقاط واجب فلا أثر لها، وكل حيلة على فعل محرم فلا أثر لها، إذا لم يكن للحيلة أثر بقي الواجب على وجوبه والمحرم على تحريمه، بل إن عقوبة المتحايلين على محارم الله أشدُّ من عقوبة الفاعلين لها على سبيل الصراحة؛ ولهذا قلب الله أولئك اليهود الذين تحيلوا على السبت قردة وخنازير- والعياذ بالله-؛ لأن هذا من باب الاستهزاء بالله عز وجل والاستخفاف به والاستهانة بأحكامه؛ أفليس الله عز وجل عالمًا بما تريد؟ بلى، هو عالم عز وجل بما تريد كيف تخادعه، المنافقون أشدُّ إثمّا وعقوبة من الكافرين لماذا؟ لأنهم تحيَّلوا على الله عز وجل وخادعوه، أظهروا أنهم مسلمون وهم كافرون في الواقع، بخلاف الكافرين فإنهم صرحوا بذلك وهم على كفرهم. مسألة: الاشتراك والخلطة في الماشية: هذه المسألة خاصة بالمواشي عند جمهور أهل العلم لأنها جاءت في سياقها، وعليه فإننا نستفيد منها أن خلطة الأوصاف تُؤثر في المواشي، بمعنى: أن يتميز ما لكل واحد من المالكين ويشتركا فيما يتعلق بشئون الماشية كما ستوضحه- إن شاء

الله- الاشتراك في الماشية، بل أقول بعبارة أعم: الماشية إما أن يكون المالك واحدًا، أو اثنين مشتركين فيها على الشيوع، أو أثنين مشتركين فيها شركة أوصاف، فهذه ثلاثة أقسام إذا كان واحدًا فوجوب الزكاة عليه معلوم ظاهر كما لو كان يملك أربعين شاة فعليه زكاتها. الثاني: إذا كان اشتراك على سبيل الشيوع، بمعنى: أن هذا المال مشترك بين الشخصين أنصافًا؛ يعني: له نصف والثاني له نصف فيه الزكاة؛ لأنه الآن مال مجتمع ففيه الزكاة، وإن كان كل واحد منهما لو انفرد لم تجب عليه الزكاة؛ لأنه لا يملك إلا نصف نصاب. الثالث: شركة الأوصاف أن يتميز مال كل واحد منهما، ولكن يشتركان في المرعى والمحلب والفحل والمسرح، ففي هذه الحال تجب الزكاة على هذا المال المختلط خلطة أوصاف، وإن كان كل منهما لو نظر إلى نصيبه لم يكن من أهل الزكاة هذا خاصٌّ بالماشية، أما ما عداها فإن كل واحد من المشتركين له حكم نصيبه ولا عبرة فيها بالجمع ولا بالتفريق، ولهذا لو قُدر أن أحدًا من الناس له مثلًا من المال نصف نصاب في هذا البلد ونصف نصاب في البلد الآخر فتجب عليه الزكاة وإن كان متفرقًا، لكن لو كان له نصف نصاب من الماشية هنا ونصف من الماشية في بلد آخر لم يجب عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجمع بين مُتفرق ولا يفرق بين مُجتمع خشية الصدقة، كذلك لو فرضنا أن رجلًا توفي وترك نصابًا من الذهب وورثه ابناه هل عليهما زكاة؟ لا؛ لأن كل واحد منهما لا يملك إلا تصف نصاب فلا زكاة عليهما، ولو ترك لهما أربعين من الغنم وبقيت طوال الحول لم تقسم فعليهما الزكاة، والسبب هو ما قلت من أن الجمع والتفريق في الماشية مؤثر وفي غيرها لا يؤثر، كل إنسان على حسب ملكه، فصارت الآن الماشية تختص عن غيرها بأمور منها هذه المسألة وهي: أن الجمع والتفريق يؤثران فيها بخلاف غيرها، وذكرنا أن للماشية بالنسبة للانفراد والاشتراك ثلاث حالات: إما أن ينفرد الإنسان بملكها، أو يشاركه غيره شركة مشاعة أو شائعة، أو يشاركه غير شركة أوصاف، والفرق بين شركة الأوصاف وشركة الشيوع: أن شركة الشيوع يشترك فيها الرجلان في هذا المال يكون بينهما، وشركة الأوصاف ينفرد كل واحد منهما بماله لكن يشتركان فيما يختص بالماشية من المرعى والمحلب والمسرح والفحل وما أشبه ذلك، جُمعت في قوله: إن اشتراك فحل مسرح ومرعى ... ومحلب ومراح خلطة قطعًا قال: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية"، "ما كان" هذه شرطية، "ما" شرطية و"كان" فعل الشرط، و"فإنهما يتراجعان" جواب الشرط، و"من خليطين"، "من" بيان لـ"ما" الشرطية؛ يعني: ما وجد من خليطين، و"خليطين" بمعنى شريكين، "فإنهما يتراجعان

بينهما بالسوية"، يعني: أن الزكاة تجب عليهما مع الاختلاط ويتراجعان بالسوية، والمراد بالسوية؛ أي: بالقسط وليست السوية سوية الواجب؛ لأن سوية الواجب تختلف، ولكن المراد بالسوية أي: بالقسط بحيث لا يزاد أحدهما عن نصيب حقه، فإذا كان رجلان لهما غنم مختلطة لأحدهما أربعون، وللثاني عشرون، كم الجميع؟ ستون تجب فيها شاة على صاحب الأربعين ثلثا القيمة أو ثلثا الشاة، وعلى الثاني ثلثها. هذا معنى قوله: "فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية". وفي قوله: "وما كان من خليطين" دليل على ثبوت الخلطة في الماشية، وهي كما قلت: خلطة اشتراك على سبيل الشيوع، وخلطة أوصاف. ثم قال: "ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المُصدق"، "ولا يخرج في الصدقة" أي: صدقة الإبل أو الغنم؟ الجميع، والإبل سبق لنا أنه يجب فيها شاة فيما دون الخمس وعشرين، ومن الإبل فيما بلغت الخمس والعشرين، وما زاد لا يخرج. "هرمة": يعني كبيرة السن؛ لأن كبيرة السن قد فسد لحمها وربما وقفت عن الإنتاج ففيها ظلم لأهل الزكاة، فلا يجوز أن يخرج المالك هرمة، ولا يجوز للمصدق أن يقبلها أيضًا. "ولا ذات عوار": أي: عيب؛ لأنها معيبة، والعور في اللغة: العيب. "ولا تيس" أي: ذكر المعز فلا يخرج، إلا أن العلماء استثنوا "تيس الزِّراب"- أي: الذي ينزو على الغنم- أي: الذي يزرب شرط أن يرضى ربه؛ لأن في ذلك مصلحة، ولكننا نزيد شرطًا آخر وهو: أن يكون عند المصدّق معز تنتفع بهذا التيس، التيس لا يخرج. يقول: "إلا أن يشاء المصدق". قوله: "إلا أن يشاء" هذه عائدة على الجملة الأخيرة وهي "ولا تيس"، أما الأول فلا يجوز، السبب: لأن الأول لو فرض أن المصدق أراد أن يُحابي صاحب المال ويأخذ منه معيبة أو هرمة هل يجوز؟ لا يجوز؛ لأن ما عاد إلى المشيئة في باب الولايات يجب أن يُراعى فيه الأصلح، وهذه قاعدة سبق لنا تقريرها، ومعلوم أن المصدق- وهو الذي يبعثه الإمام لقبض الزكاة- لو أراد أن يقبل المعيبة لكان هذا خيانة ولا يحل له ذلك، لكن في التيس لو رأى المصلحة في أخذه فيجوز والمصلحة فيما ذكره الفقهاء- رحمهم الله- وهو تيس الزراب يعني: الذي يُجرع الغنم، وعللوا ذلك بأن نقصه في الذكورة يجبر بكماله في الزراب، فإذا رأى المصدق أنه يأخذ التيس لأن عنده غنمًا تحتاج إلى تيس فرأى أن من المصلحة أخذه فله ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا أن يشاء المصدِّق". بقي أن نقول: إذا كان لا يخرج ذات عوار ولا هرمة ولا تيس إلا بمشيئة المصدِّق، فهل يخرج الطَّيب الأعلى؟ نقول: أما إذا رضي صاحب المال فلا حرج، وأما بدون رضاه فلا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: "إياك وكرائم أموالهم". فقوله: "لا يخرج في الصدقة هرمة

زكاة الفضة والمعتبر فيها

ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدِّق" فالاستثناء هنا كقوله سبحانه: {فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4]. هذه ثلاثة أحكام: {فاجلدوهم}، {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون}، {إلا الذين تابوا} [النور: 5]. هذه عائدة على الأخير بالاتفاق، {وأولئك هم الفاسقون} ولا تعود على الأول، وهي كقوله: {فاجلدوهم}؛ لأن الجلد لا يسقط بالتوبة بعد القدرة، وأما الثانية: {ولا تقبلوا لهم شهادةً أبدًا} ففيه خلاف، والقاعدة أن الاستثناء أو الشرط إذا تعقب جملًا فإنه يعود إلى الكل ما لم يوجد مانع، المانع هنا: أنه لا يجوز للمصدق أن يقبل ذات العوار أو الهرمة. زكاة الفضة والمعتبر فيها: قوله: "وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشرة"، "الرِّقة" بالكسر كعدة، وأصلها: ورق أو ورق وهي: الفضة، قال الله تعالى: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} [الكهف: 19]. فخذفت منها فاء الكلمة، وعوضت عنها هاء التأنيث فصارت رقة مثل عدة، لكن "في الرقة في مائتي درهم"، وهذا البدل قلنا: إنه بدل اشتمال أو بدل بعض من كل؛ لأن الرِّقة تشمل مائتي درهم وما زاد وما نقص، فقال: "في مائتي درهم ربع العشر". هذا مبتدأ مؤخر، واحد من أربعين؛ لأن العشر واحد من عشرة، والربع واحد من أربعة، إذن ربع العشر واحد من أربعين، فعلى هذا اقسم ما عندك من الفضة على أربعين والخارج بالقسمة هو الزكاة قلَّت أو كثرت. قال: "في مائتي درهم ربع العشر" هنا علَّق النصاب بالعدد في مائتي درهم، وفي حديث أبي هريرة: "ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة" فعلَّقه بالوزن، ومن ثمَّ اختلف أهل العلم؛ فقال أكثر أهل العلم: إن المعتبر الوزن؛ لأنه هو الذي ينضبط، فإن المثاقيل لم تختلف في جاهلية ولا إسلام بخلاف الدراهم فإن الدراهم مختلفة، كانت-كما قيل- في عهد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يكون ستة دوانق، ومنها ما يكون ثمانية دوانق؛ فلما تولى عبد الملك بن مروان وحُدّها وجعلها سنًا وثمانيا، يعني: جعلها وسطا سبع دوانق، وهذا متأخر عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء من قال: إن المعتبر العدد، وأن مائتي درهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تساوي في الوزن خمس أواق. قالوا: بدليل أن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا". النِّش؛ بمعنى: النصف، نصف أوقية. الأوقية تبلغ أربعين درهمًا إذا كانت ثنتي عشرة أوقية ونصف، كم يكون المجموع؟ خمسمائة، قالوا: فهذا- أي: حديث عائشة- دليل على أن الدراهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كل أربعين درهمًا يعتبر أوقية، لأنها بيَّنت قالت: "كان ثنتي عشرة أوقية ونشًّا"، والأوقية: أربعون درهمًا فتلك خمسمائة درهمًا، فهذا دليل واضح على أن

الأواقي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كل واحدة تساوي أربعين درهمًا، فالمعتبر العدد، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكن جمهور أهل العلم على أن المعتبر الوزن، ولكن ما دمنا نقول: إن العدد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم البالغ مائتي درهمًا يساوي خمس أواقٍ فإننا نعتبر الدراهم بالعدد، ونعتبر غير الدراهم بالوزن وحينئذٍ نأخذ بالدليلين جميعًا، فنقول: نصاب الفضة من الدراهم مائتا درهم قلَّ ما فيه من الفضة أو كثر، وما تعامل الناس به وسموه درهمًا فهو درهم، حتى لو كان ثقيل الوزن أو كان خفيف الوزن لا نعتبره، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأنكر على من خالف في ذلك. والقول الثاني: وهو قول جمهور أهل العلم، حتى إن بعضهم قال إن الخلاف شاذٌّ هو أن المعتبر الوزن، وننظر آخر الحديث ربما يؤيد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. "وفي الرقة في مائتي درهم ربع العُشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها"، "إلا تسعين ومائة" يعني: تسعين درهمًا ومائة؛ فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربُّها وإن كان مائة وخمس وتسعين؟ يقولون: إنهم يدعون الفصل فيما بين الأعشار عقد العدد يلغون الكسر، فكأنه قال: فإن لم يكن إلا تسعة وتسعون ومائة، وعليه فما دون المائتين من الدراهم ليس فيه زكاة؛ لأن حديثها هنا صريح بأن المعتبر العدد فجاء به منطوقًا وجاء مفهومًا. المنطوق: "في كل مائتي درهم ربع العُشرة"، مفهومه: أنَّ ما دون ذلك ليس فيه شيء، وجاء به لهذا المفهوم منطوقًا فقال: "فإن لم تكن إلا تسعين ومائة"، المهم إذا اعتبرنا الوزن في نصاب الفضة فهو أربعون ومائة مثقال، كل مثقال بالغرام أو بالغرام أربع غرامات وربع، وبناء على ذلك كم الريال العربي؟ يقول الصائغ: إنه إحدى عشر غرامًا وثلاثة أرباعه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة"، متى تكون الجذعة؟ من (61) إلى (75) إذا كان (61، 62، 63، 64) إلى (75)، وليس عنده جذعة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وعنده حقة"، الحقة من (46) إلى (69). يقول: "وعنده حقة" فإنها تقبل منه الحقة، من يقبله؟ المصدق، "ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا"، ولكن الرسول يقول: "وليست عنده جذعة"، فيفيد الحديث بأنها إن كانت عنده جذعة فإن الحقة لا تقبل منه، ولو دفع الجبران. ثم قال: "يُجعل معها شاتين إن استيسرتا له"، كم الفرق بين صدقة الحقة وصدقة الجذعة؛ يعني: الوقص؟ او العدد (46) آخرها (60) فيكون (15)، (15) في باب الجبران نقصت عن التقويم فيما كان عنده خمس من الإبل؛ يعني: خمس من الإبل العُشر فيها شاتان وهنا خمس عشرة كان جبرها شاتين؛ لأنه كلما زاد العدد نقصت النسبة كما تشاهدون فيما سبق.

فالآن لو قال قائل: لماذا كان الجبران شاتين في مقابل خمسة عشر بعيرًا؟ نقول: لأنه كلما زاد العدد نقصت النسبة بخلاف الذي عنده خمسة عشر فعليه ثلاثة شياه، وقوله: "إن استيسرتا له" يعني: إذا كانت موجودة عنده متيسرة، فإن لم تكن عنده فإنه لا يلزم بالشراء ولكن يدفع عشرين درهمًا، وهذا يدل على أنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت الشاتان تساوي عشرين درهمًا؛ يعني: الشاة بعشرة دراهم. يقول: "ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة"، "بلغت" أي: وجبت صدقة الجذعة وهي من (61) إلى (75)، "وليست عنده جذعة وعنده حقة" الجذعة: هي التي لها أربع سنوات، "عنده حقة"، يعني لها ثلاث سنوات، "فإنها تقبل منه". "تُقبل" مبنية للمجهول، والقابل هو المصدق، وتقبل منه حقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا" جبرًا لما نقص من السِّن؛ لأنه معلوم الفرق بين الحقة والجذعة سنة كاملة وهذا تتغير به القيمة، لكن الشارع هنا لم يقل: عليه الفرق بين القيمتين، وكان الذي يتبادر إلى الذهن أن يقول: فإنها تقبل منه الحقة ويدفع الفرق بين القيمتين، وإذا كان كذلك فإن هذا يختلف باختلاف الأزمان والأماكن، قد تكون سنة من السنوات الفرق بينهما خمسون درهمًا، وقد تكون في سنة الفرق مائة، وقد يكون في سنة ثلاثين لكن لم يقل ذلك، وإنما حددها بنفسه حتى لا يحصل النزاع والخصام بين المصدِّق والمصدَّق، المصدَّق هو دافع الصدقة والمصدِّق هو آخذ الصدقة؛ لأننا لو رجعنا إلى الفرق بين القيمتين لكان المصدَّق يقول: الفرق مائة، والمصدِّق يقول: الفرق مائتان يزيد، فمن أجل دفع النزاع وقطع الخصام قدَّرَهَا الشارع، نظير هذا ما جاء في "المصراة" إذا تبين له التصرية، والمصراة هي التي حُبس لبنها عند البيع من إبل، أو بقر، أو غنم، يحبس عند البيع من أجل إذا رآها المشتري يظن أنها كثيرة اللبن، فالشارع جعل له الخيار ثلاثة أيام ويُردُّ معها صاعًا من تمر عوضًا عن اللبن، ليس المحلوب بعد العقد، بل عن اللبن الموجود حين العقد؛ لأنه هو الذي نما ونشأ في ملك البائع، أما ما بعد العقد فإنه في ملك المشتري ليس له قيمة، هذا اللبن الذي هو في ضرع البهيمة عند العقد لو قدر بالقيمة يحصل نزاع هذا يقول: مد، وهذا يقول: ربع مُد؛ فالشارع قطع النزاع وجعل الواجب صاعًا من تمر حتى ينتهي الموضوع، هذا مثلها: - والله أعلم- أنه جعل شاتين أو عشرين درهمًا، يبقى عندنا "العشرون درهم" معروفة، لكن الشاتان أفلا تختلف؟ بلى، لكنها تكون على نحو الإبل جودة ورداءة، ويتبع في ذلك العدل فلا تؤخذ شاتان طيبتان والإبل من الوسط ولا العكس، وإنما تؤخذ شاتان على قدر القيمة فتكون متوسطتين، فإن لم يتيسرا لصاحب الإبل فإنه يدفع عشرين درهمًا بالعدد.

قال: "ومن بلغت عنده" أي: وجبت عنده "صدقة الحقة" ولها ثلاث سنوات، "وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدِّق عشرين درهمًا أو شاتين" لماذا؟ دفعًا للزائدة" لأن الآن المصدَّق الدافع دفع أكثر مما يجب عليه فيعطى عوضًا عن الزائد شاتين، أو عشرين درهمًا هنا يقول: "عشرين درهمًا أو شاتين"، و"أو" هنا للتخيير، ولم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن استيسرتا له"، وعلى هذا فيجب على المصدِّق أن ينظر الأصلح لأهل الزكاة بشرط ألاَّ يكون في ذلك ظلم على صاحب الحق، فإذا رأى أن الأفضل أن يدفع عشرين درهمًا فعل أو شاتين دفع شاتين. قال المؤلف: "رواه البخاري"، لكن البخاري رحمه الله رواه مفرَّقًا في صحيحه كعادته في أغلب الأحيان، حيث إنه يذكر الأحاديث مفرقة إما على حسب الأسانيد أو على حسب الأبواب كما يرى رحمه الله، لكن المؤلف رحمه الله جمعه وهذا حسن. هذا الحديث حديث عظيم وفيه فوائد كثيرة جدًّا فنبدأ بفوائده: أولًا يقول: "إن أبا بكر كتب له .... إلخ. فيستفاد من هذا: العمل بالكتابة في الحديث، وأن أصل كتابة الحديث موجودة في عهد الخلفاء كما هو موجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاة"، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص من أكثر الصحابة حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يكتب الحديث، والعمل بالكتابة في نقل الحديث وروايته أمر مجمع عليه مع دلالة النصِّ عليه وإشارة القرآن إلى ذلك، فإن الله تعالى جعل الكتابة من الطرق التي تتوثق بها الحقوق: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282]. وفيه أيضًا: جواز الإشارة إلى ما ليس بموجود بل متصور في الذهن لقوله: "هذه فريضة الصدقة"، وهو قبل أن يكتبها. ومنها: أن الصدقة بجميع أحوالها وأوصافها وأنواعها ومقاديرها فريضة حتى في صرفها فريضة ليست راجعة إلى اختياري أنا الذي وجبت علي، بل هي فريضة من الله حتى في صرفها لما ذكر الله عز وجل أهل الزكاة قال: {فريضةً من الله} [التوبة: 60]. فلا يجوز لنا أن نتعدى ما فرض الله فيها، كما لا يجوز لنا أن نتعدى ما فرض الله في الصلاة، فلا يجوز لنا أن نتعدى ما فرض الله في الزكاة. ومنها أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم يضاف إليه الفرض لقوله: "التي فرض"، إذن هو يفرض كما أنه يوجب ويأمر؛ فهو يوجب كما في قوله صلى الله عليه وسلم: غسل الجمعة واجب على كل محتلم"، وهو

يأمر كما في أحاديث كثيرة لا تحصى، وهو أيضًا يفرض كما في هذا الحديث وكما في قول عبد الله بن عمر: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعيره". فإن قلت: هل يستقل الرسول صلى الله عليه وسلم بالحكم وبحكم من عنده؟ فالجواب: أن هذا على قسمين: قسم يكون بالوحي، وقسم آخر يكون من عنده، لكن إقرار الله له يجعله في حكم الحكم، كما قلنا: إن الصحابي إذا فعل فعلًا وأقره النبي صلى الله عليه وسلم يكون في حكم السُّنة، كأن الرسول هو الذي قاله أو فعله، كذلك أيضًا ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم وأقره الله عليه فإنه يضاف إلى الله تعالى وحيًا على سبيل الإقرار. ومنها: أن هذا الفرض الذي فرضه الرسول صلى الله عليه وسلم فرض على المسلمين، فهل يؤخذ منه أن الكافر لا يخاطب بفروع الشريعة؟ ظاهره كذلك، وهو كذلك أيضًا بالنسية للمخاطبة في الدنيا، فإننا لا نخاطب الكافر بالزكاة وهو لم يستلم أبدًا، وفي حديث معاذ الذي قبل هذا الحديث أمرهم أن يدعوهم أولًا إلى التوحيد، ثم إلى الصلاة، ثم إلى الزكاة، ومن الجهل جدًّا أن تقول لكافر يقابلك- سيشرب الدُّخان- يا رجل هذا الدخان حرام، هل هذا يصلح؟ لا يصلح، فلأن تأمره الأول بالإسلام أهم من شرب الدخان. إذن هم لا يخاطبون بفروع الإسلام في الدنيا، لكن في الآخرة يعاقبون عليها، وهنا ثلاثة أمور بالنسبة لشرائع الإسلام في حق الكافر: أولاً: لا يخاطب بها في الدنيا فيلزم بها، بل نقول له: أسلم. ثانيًا: إذا أسلم لا نأمره بإعادتها أو لا نأمره بقضائها؛ لأن الله يقول: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]. ولهذا لا نضمنهم لو كانوا قاتلين لآبائنا وإخواننا وأبنائنا؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله. ثالثًا: بالنسبة للخطاب في الآخرة يعاقبون عليها؛ بدليل قوله تعالى: {يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين} [المدثر: 40 - 46]. فذكروا ثلاثة أشياء. لعل قائلًا يقول: إن كونهم يكذبون بيوم الدِّين هو الذي أوجب لهم الدخول في النار؛ لأنه كفر فلا نسلم أن يكونوا مخاطبين بالفروع، فما الجواب؟ . الجواب أن نقول: لولا أن لتركهم ذلك أثرا في دخولهم النار ما ذكر؛ لأن ذكره عبث لا فائدة منه، فهم يخاطبون بها في الآخرة، بل إنهم يعذَّبون على الأمور المباحة للمسلم من الأكل والشُّرب واللباس، هم يعاقبون عليها وهو مباح للمسلم، ما الدليل؟ قوله تعالى: "ليس

على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طعموا ... } [المائدة: 93]. مفهومه: غير المؤمنين عليهم الجناح وهذا المفهوم هو منطوق، في آية أخرى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين ءامنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيامة} [الأعراف: 32]. هي لهم في الدنيا مباحة حلال خالصة يوم القيامة ليس فيها شائبة ولا يلحقهم فيها تبعة، وهذا دليل على أن غيرهم بالعكس، فإذن الكافر مخاطب بفروع الشريعة، بل وبما أحلَّ الله للمسلم في الآخرة، هنا قال: "والتي أمر الله بها رسوله" الواو قلنا إنها من باب عطف الصفات، التي أمر الله بها رسوله، في هذا دليل على أن هذه الفريضة التي بلَّغها الرسول صلى الله عليه وسلم كانت بأمر الله عز وجل. ومن فوائد هذا الحديث: حكمة الشارع في الإيجاب في الصنف وفي الوصف وفي القدر؛ لأن الإبل ما دون ((25)) الزكاة واجبة من غير صنفها واجبة من الغنم؛ لأنها لا تتحمل أن تجب الزكاة فيها من جنسها، فلهذا جواز الزكاة الواجبة من غير جنسها، في الوصف الذي هو السن كما ترون في (25) بنت مخاضي، وفي (? 6) بنت لبون، وفي (46) حقة، وفي (6? ) جذعة، اختلفت الأوصاف باختلاف المال؛ لأن كل مال يناسبه ما أوجبه الشارع فيه، أما في القدر ففي (76) بنتا لبون زاد قدر الواجب ثم هناك حكمة أخرى، وهي: أن الأثمان المعيَّنة وهي أربعة الأول والأخير لا يتكرر والوسط هو الذي يتكرر أيضًا إذا استقرت الفريضة فإن الأول والأخير لا يدخلان أصلًا فهذان فائدتان، السن الأول أدنى السنين والسن الأخير أعلاها فلا يتكرر. ثانيًا: السن الأول والأخير لا يكون فيما إذا استقرت الفريضة؛ لأنها إذا استقرت في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. ومن فوائد هذا الحديث: ثبوت الوقص في زكاة السائمة، والوقص ما بين الفرضين وهو معفو عنه، فهل هذا الوقص يثبت في غير السائمة؟ الصحيح أنه لا يثبت، فمثلًا رجل ملك ((200)) درهم فيه الزكاة كم؟ ربع العشر، يعني: فيها خمسة، ملك (210) فيها خمسة وربع، في (? ? ? ) فيها (سبعة ونصف)، في (4? ? ) فيها (? ? ) لا نقول إننا من (? ? ? ) إلي (4? ? ) لا نزيد لأنه كان هناك وقص كنا نقول ما نزيل إلا إذا وجد نصاب جديد، ولكنه لا وقص لو زاد درهم واحد وجبت زكاته بخلاف السائمة وهذا مما تختص به السائمة. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات الخلطة والتفريق في الماشية، بمعنى: أنه إذا كان مال الرجل متفرقًا وفي كل ناحية ما هو أقلُّ من النصاب وليس ذلك حيلة فلا زكاة عليه، كما لو كان له عشرون شاة في بلد وعشرون شاة في بلد آخر فلا زكاة عليه، ولو كان عنده مائة درهم في بلد ومائة درهم في آخر وجبت عليه الزكاة.

حكم الخلطة في السائمة وغيرها

حكم الخلطة في السائمة وغيرها: الخلطة مع الغير مؤثرة في السائمة، فلو كان لرجلين أربعون شاة فيها زكاة، ولو كان لرجلين مائتا درهم فلا زكاة فيها هذا هو المشهور من مذهب أحمد، أما الخلطة في غير السائمة فلا أثر لها، فإذا أختلط في نصاب من غير السائمة فلا زكاة عليه، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الزكاة تجب على الخليطين في المال الظاهر مثل الحبوب والثمار، واستدلوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السعاة لأخذ الزكاة من الأموال الظاهرة ولم يأمرهم بسؤال الناس هل لهم شريك في هذه الأموال أو لا؟ والأصل أن عدم التفصيل يدل على العموم، وأن المال الظاهرة تجب فيها الزكاة، وإن كان نصيب كل واحد منهم أقل من النصاب، لكن المشهور من مذهب الإمام أحمد أن الخلطة لا تؤثر إلا في السائمة. ومن فوائد هذا الحديث: حكمة الشارع في استقرار الفريضة بعد انتهاء الفرض المقدر، ووجه الحكمة من ذلك: أنه لو استمر التقدير معينا بالشرع لكان في ذلك شيء من المشقة لكن إذا جعل إلى أمل ينتهي إليه ثم ثبتت القاعدة صار ذلك أسهل على الدافع وعلى المدفوع إليه. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجوز للإنسان أن يتصدق وإن لم تجب عليه الزكاة، يؤخذ ذلك من قوله: "إلا أن يشاء ربُّها". ومن فوائده أيضًا: أنه لا بد من السَّوم في زكاة بهيمة الأنعام لقوله: "في الغنم في سائمتها"، ولم يذكر شرط السَّوم في الإبل، ولكننا نقول: إنه يشترط فيها لما سيأتي- إن شاء الله- من حديث بهز بن حكيم وللقياس الجلي إذ لا فرق، فيؤخذ من هذا: أن الماشية التي تعلف أكثر الحول أو الحول كله أو نصف الحول ليس فيها زكاة؛ لأنها من السائمة. ويؤخذ منه أيضًا: أن البهيمة إذا كانت مما يركب أو يحرث عليه فإنه لا زكاة فيها، يعني: الإبل العوامل أو البقر العوامل التي يحرث عليها وإن بلغت ما بلغت فليس فيها زكا، لماذا؟ لأنها غير سائمة، ولكن الإبل العوامل أو البقر العوامل الحارثة إذا كانت تستغل بأجرة فإن الزكاة تجب في أجرتها إذا تم عليها الحول. ومن فوائد هذا الحديث: أن الشريكين يتراجعان في الضمان بالسوية، يتفرع على هذه الفائدة- وهى المظالم المشتركة- لو فرض أنه جعل ضريبة من قبل السلطان على هذا المال وهو مشترك فسلمها أحد الشريكين بغير إذن الآخر هل يرجع على شريكه؟ إذا قال الشريك أنا ما أذنت لك تدفع، نقول: الضريبة ما جعلت علي أو عليك الضريبة جعلت على هذا المال نفسه وهو مشترك فيجب أن تضمن بمقدار نصيبك، إذا كان لك من هذا المال الثلثان تضمن

ثلثي الضريبة، وإذا كان لك ثلث تضمن ثلثها، وأما أن نقول: هذا الرجل الذي حمى الملك ودفع الضريبة التي عليه نقول: ليس لك شيء لماذا لم تستأذن شريكك؟ هذا ظلم، وعلى هذا فنقول: إنه في هذه الحال إذا جعل ضريبة على مال مشترك فإن الشريكين يتراجعان بينهما بالسوية. وفيه أيضًا: تحريم إخراج المعيب، وقد دلَّ القرآن على ذلك فقال تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه ... } [البقرة: 267]. ودلَّ عليه أيضًا النظر الصحيح؛ لأنه ليس من العدل أن تخرج عن الطيب رديئًا، كما أنه ليس من العدل أن نأخذ كرائم الأموال وندع لك الأوساط أو الرديئة بل الواجب القسط. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يخرج في الصدقة تيس لقوله: "ولا تيس" إلا اذا رأى المصدِّق في ذلك مصلحة. ومن فوائد هذا الحديث: مراعاة تكافؤ الأوصاف والمعاني، يؤخذ ذلك من أن التيس ممنوع، لكن إذا كان فيه صفة مقصودة ترجح أخذه فإنه يؤخذ، فيكون ناقصًا من وجه، كاملًا من وجه آخر. ومن فوائده أيضًا: أنه لا يخرج الذكر إلا إذا شاء المصدِّق، والمشيئة هنا ترجع إلى المصلحةً. ومن فوائده: وجوب الزكاة في الفضة وأن مقدارها ربع العشر؛ لقوله: "وفي الرِّقة ربع العشر". ومن فوائده: أنه لا زكاة فيها حتى تبلغ النصاب؛ لقوله: "فإن لم يكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربُّها". ومن فوائده: أن نصاب الفضة مقدر بالعدد لقوله: "في مائتي درهم ربع العشرة"، وهل هذا مشروط بما إذا لم تكن هذه الدراهم أكثر من خمس أواقٍ أو ليس بمشروط؟ في هذا خلاف بين العلماء، فمن العلماء من يقول: في مائتي درهم إذا كانت لا تزيد على خمس أواقٍ، فإن كانت تزيل فالزكاة في مقدار خمس أواقٍ، يعني: لو فرض أن مائتي درهم تبلغ عشر أواقٍ من الفضة، فعلى هذا الرأي تجب الزكاة في مائتي درهم؛ لأنه يعتبر أن الزكاة في مائتين بشرط ألا تزيد على خمس أواقٍ ولو كان هناك مائتا درهم لكنها تبلغ أربع أواقٍ فقط، فعلى هذا الرأي لا تجب الزكاة فيها؛ لأنه يقول إن نصاب الفضة مائتا درهم إذا كانت مساوية في الوزن لخمس، أواق فإن زادت فالمعتبر الخمس وإن نقصت فالمعتبر الخمس، أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيرى أن المعتبر العدد سواء زاد على خمس أواق أو نقص، وعليه فنعكس الأحكام، ففي مائتي درهم زنتها خمس أواقٍ عند شيخ الإسلام فيها الزكاة وإن لم تبلغ خمس أواقٍ، وفي مائة وتسعين درهمًا تبلغ عشر أواقٍ ليس فيها زكاة على رأي شيخ الإسلام رحمه الله، ولكن لو أن أحداً

زكاة البقر ونصابها

احتاط وقال: آخذ بالقولين فما بلغ خمس أواقٍ أوجبت الزكاة فيه وإن لم يبلغ مائتي درهم وما بلغ مائتي درهم أوجبت الزكاة فيه وإن لم يكن خمس أواقٍ، لو ذهب ذاهب إلى هذا لكان له وجه. ومن فوائد هذا الحديث: جريان الجبران في زكاة الإبل كيف ذلك الذي ليس عنده السِّن الواجب ينتفي، من عنده أعلى منه يدفع الأعلى ويأخذ الجيران والذي عنده سن واجب أو عليه سن واجب وليس عنده وعنده دونه فإنه يدفع الأدون والجبران، الدليل قوله: "ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا لم تكن عنده السن الواجب ولا ما دونه ولا ما فوقه فإنه يرجع إلى الأصل ويخرج السّن الواجب، مثال ذلك: رجل عليه حقة وليس في إبله لا حقة ولا جذعة ولا بنت لبون ماذا يصنع؟ نقول ارجع للأصل وهو الحقة. وهل يستفاد من الحديث جواز إخراج القيمة في الزكاة؟ مقيد بالمصلحة وإلا فلا، يعني: أن الأصل أن تخرج الزكاة من جنس المال، وإن كانت الزكاة تخرج من غير جنسه كالغنم فيما دون ((25)) من الإبل فمن الغنم، فإذا كان هنالك حاجة فإنه تخرج القيمة أو كان هناك مصلحة واختار المصدق أن يأخذ القيمة فله ذلك، وقد نصَّ على هذا الإمام أحمد رحمه الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقال الإمام أحمد: إذا باع بستانه بدراهم فإنه يخرج العشر من الدراهم، ولا يقال: لا بد أن تعطينا تمرًا أو حبًا، بل يأخذ من الدراهم ولا حرج. ومن فوائد هذا الحديث: التيسير على العباد من قوله: "إن استيسرتا"، ومن أخذ ما دون الواجب أو ما فوقه إذا كان عنده ولا يكلَّف أن يحصل الواجب عليه هذا ما تيسر وربما عند التأمل يرى طالب العلم فوائد أخرى. زكاة البقر ونصابها: 573 - وعن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كلِّ ثلاثين بقرةً تبيعًا أو تبيعةً، ومن كلِّ أربعين مسنَّةً، ومن كلِّ حالمٍ دينارًا أو عدله معافريًّا". رواه الخمسة، واللَّفظ لأحمد، وحسَّنه التِّرمذيُّ وأشار إلى اختلافٍ في وصله، وصحَّحه ابن حبَّان، والحاكم. قوله: "بعثه ... " إلخ كان ذلك في ربيع الأول في السَّنة العاشرة من الهجرة، بعثه داعيًا إلى الله ومعلما وحاكما وواليا.

"فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعًا أو تبيعة"، "بقرة" منصوبة؛ لأنها تمييز للعدد ثلاثين، و"تبيعًا" مفعول "يأخذ" التبيع أو التبيعة هو الصغير من البقر الذي بلغ سنة، والتبيع ذكر، والتبيعة أنثى، والمسنة ما تم لها سنتان وهي أنثى قال: "ومن كل حالم دينارًا"، "الحالم" البالغ دينارًا هذا في الجزية، والدينار الواحدة من النقود الذهبية ويسمَّى عندنا جنيه. "أو عدله معافريًّا" "عدله" أي: ما يعادله، "معافريًّا" هذا وصف أو اسم لثوب، يسمى كذلك نسبة لمعافر حي من أحياء اليمن. ففي هذا الحديث: وجوب الزكاة في البقر وهو محل إجماع، ولكنه يلاحظ أنه لا بد أن تكون سائمة، فإن كانت لغير السَّوم فإنها ليسرى فيها زكاة، كما لو كان عند إنسان ثلاثون بقرة أعدها في مزرعته يعلفها فإن هذه ليس فيها زكاة؛ لأنها ليست سائمة. ومن فوائده أيضًا: أن في كل ثلاثين من البقر تبيعًا أو تبيعة؛ يعني: إما ذكر له سنة أو أنثى لها سنة، وهذا أيضًا محل إجماع. ومن فوائده أيضًا: أن في كل أربعين مسنة؛ يعني: أنثى لها سنتان. ومن فوائد هذا الحديث: أن ما دون الثلاثين من البقر ليس فيه زكاة، وهذا محل إجماع إلا عند بعض التابعين فإنه يقول إن الخمس من البقر فيها الزكاة كالإبل، ولكن هذا قياس مع الفارق ومع وجوب النص فلا يعتبر، والصحيح أنه لا زكاة فيما دون الثلاثين، وهذا من الوجوه التي يفرق فيها بين الإبل والبقر، وإلا فالغالب أن ما ثبت للإبل من الأحكام ثبت للبقر، يعني: فيما يتعلق بالواجب والإجزاء وما أشبه ذلك، لا فيما يتعلق بنقض الوضوء من لحمها أو الصلاة في أعطانها وما أشبه ذلك. ومن فوائد هذا الحديث: إجزاء الذكر عن الإناث، يؤخذ ذلك من قوله: "في كل ثلاثين تبيع"، وهذا يدل على أن الذكر يجزئ في هذا الموضوع، وهنالك موضع آخر يجزئ فيه الذكر بدل الأنثى وهو ابن اللبون مكان بنت المخاض، وأيضًا التيس إذا شاء المصدِّق، وأيضًا إذا كان النصاب كله ذكورًا على خلاف فيه؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إذا كان النصاب كله ذكورًا في الإبل فإن الواجب إخراج ما نصَّ عليه الشرع، يعني: بنت المخاضر، بنت اللبون، والحقة، والجذعة؛ لأن الأحاديث عامة، ولكن المشهور عند الفقهاء أنه إذا كان النصاب ذكورًا فإنه لا يكلَّف أنثى، والذي يظهر لي أن الأحوط إذا كانت الأنثى عنده أن يخرج الأنثى التي قدَّرها الشارع مثل أن يكون عنده خمسة وعشرون جملًا وعنده بنت مخاض، هل نقول: يجوز أن تخرج ابن مخاض بدلها؟ على المذهب يجوز، وعلى القول الثاني لا يجوز ما دامت بنت المخاض عندك فأخرجها.

مشروعية بعث السعاة لقبض الزكاة

ومن فوائد الحديث: ثبوت الجزية لقوله: "ومن كل حالم دينارًا". ومن فوائده: أن من هو دون البلوغ لا جزية عليه؛ لأنه ليس أهلًا للقتال فلا يكلَّف الجزية. وهل نقول من فوائده: أن مقدار الجزية دينار، أو نقول: إن هذا يختلف باختلاف الأحوال؟ الثاني، وهذا هو المعروف، قد تكون في زمن من الأزمان دينارًا وقد تكون دون ذلك بحسب النمو الاقتصادي؛ لأنه إذا كان ضعيفًا فإن تكليفهم بإخراج الدينار فيه مشقة والعكس بالعكس، أما الفقير الذي يعجز عنها فلا شيء عليه. وظاهر الحديث: أن الجزية ثابتة على كل كافر من كل حالم دينارًا، وأكثر أهل العلم يرون أن الجزية إنما تكون لأهل الكتاب فقط- اليهود والنصارى- وأما غيرهم فالإسلام أو القتال، والصحيح أن الجزية ثابتة لجميع الكفار؛ لحديث بريدة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سرية ... إلى قوله: أنهم إذا بذلوا الجزية قال النبي صلى الله عليه وسلم: فاقبل منه وكف عنهم". فالصحيح: أن الجزية إذا بذلها الكفار فإنه يكف عنهم ولا يلزمون بالإسلام، أما لو امتنعوا من الإسلام ومن الجزية فإنهم يقاتلون، لكن بشرط أن يكون لدينا القدرة على قتالهم، فإن لم يكن لدينا القدرة فإننا لا نلزم بما لا نستطيع، ولهذا لم يفرض القتال على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن هاجر وكانت له دولة قوية، وأما قبل ذلك فلا يجب. ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: التيسير على أهل الجزية بأن نأخذ منهم إما ذهبًا، وإما ثيابًا لقوله: "أو عدله معافريًّا". ومن فوائده أيضًا: جريان التقويم في الأشياء لقوله: "أو عدله معافريًّا"، ولم يقل: أو معافريًّا، بل قال: "عدله"، وقد مرَّ علينا فيما سبق أن من الأشياء ما يقوِّمها الشرع بغير نظر للاجتهاد، ومنها ما يقوِّمه فينظر إلى الاجتهاد. هذا الحديث وإن اختلفوا في وصله لكن ما فيه من الأحكام متفق عليه. مشروعية بعث السُّعاة لقبض الزكاة: 574 - وعن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم"، رواه أحمد. - ولأبي داود: "لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم". هذا بالنسبة للصدقات التي يبعث إليها السُّعاة- الجباة الذين يأخذون الصدقات- هؤلاء الجباة يجب عليهم أن يذهبوا إلى أمكنة أهل الزكاة لا يجلسون في مكان ويقولون: أحضروا لنا

لا زكاة على المسلم في عبيده وخيله

الزكاة، بل يجب أن يذهبوا هم إلى أهل الزكاة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم" أي: الموارد؛ لأن أهل الأموال والمواشي لهم أماكن يردونها فيجلس الجابي أو الساعي على الماء، وكل من جاء أخذ منه الزكاة، ولا يجوز أن يجلس في مكان ويقول: ائتوا بزكاتكم، فان فعل كان مخالفاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: "تؤخذ" جملة خبرية، ولكنها بمعنى الأمر، الرواية الثانية: "لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم" وهذا الحديث أعم من الأول؛ لأنه قال: "لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم"، فيشمل الماشية وغير الماشية مثل زكاة الثمار؛ لأن زكاة الثمار يفرضها الإمام أو نائبه، فلا تؤخذ منهم إلا في دورهم، ولا نقول: ائت بها إلينا، بل نقول: اذهب أنت إلى أهل البساتين وخذ الزكاة. من فوائد هذا الحديث: مشروعية بعث السعاة لقبض الزكاة. ومنها أيضًا: أن الواجب على العامل أن يذهب بنفسه إلى بلاد من عليهم الزكاة ليجلبها، ومنها مراعاة التيسير على أهل الزكاة، وجهه: أنه يذهب إليهم وهذا من التيسير؛ لأن المزكِّي في الحقيقة قد أخذ منه الزكاة، فإذا أخذ منه وكلِّف أن يسافر بذلك صار في هذا نوع من المشقة عليه وثقلت، ثم لو طلب منه أن يأتي بها هو فربما يتأخر ويتكاسل، فإذا ذهب الساعي إليه أخذ منه الزكاة. لا زكاة على المسلم في عبيده وخيله: 575 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقةٌ" رواه البخاريُّ. - ولمسلمٍ: "ليس في العبد صدقةٌ إلا صدقة الفطر". قوله: "ليس على المسلم في عبده"، كلمة "على المسلم" لا مفهوم لها؛ وذلك لأن الكافر يحاسب على الزكاة على القول الصحيح، لكنه وصفه بالمسلم؛ لأنه هو الذي يخاطب في أداء الزكاة. وقوله: "في عبده" الإضافة هنا للاختصاص والتملك في عبده الذي ملكه مختصًّا به، مثل العبد الذي اتخذه للخدمة في البيت، أو في الدُّكان، أو في العمل، أو ما أشبه ذلك. وقوله: "ولا فرسه" نقول فيها مثل ما قلنا "في عبده" أنه الفرس الذي اختصه لنفسه يركبه ويجاهد عليه ويسابق عليه وما أشبه ذلك. وقوله: "صدقة" أي: زكاة، والدليل أنها زكاة أنه قال: "ليس على المسلم" و"على" تفيد الوجوب، فنفى الرسول صلى الله عليه وسلم الوجوب ولا واجبة إلا الزكاة.

أما لفظ مسلم ففيه أنه قال: "إلا صدقة الفطر"، فإن على المسلم أن يؤدي زكاة الفطر عن عبده، وقوله: "إلا صدقة الفطر" يجوز فيها وجهان في الإعراب: الأول: النصب. والثاني: الرفع؛ لأن المستثنى منه تام منفي فجاز في المستثنى وجهان. ففي هذا الحديث فوائد كثيرة، أولًا: أنه لا زكاة على المسلم فيما يقتنيه من العبيد والخيل لقوله: "ليس على المسلم في عبده وفرسه". ثانيًا: عموم ذلك يتناول الخيل السائمة، فلو كان عند الإنسان مائة فرس اقتناها لنفسه وهي تسوم ترعى فليس فيها صدقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى ولم يستثن، ولو كانت السائمة مستثناة لاستثناها كما أستثنى صدقة الفطر في العبد. ومن فوائد هذا الحديث: التيسير على العباد في أنه لا يلزمهم الزكاة فيما يختصُّون به لأنفسهم. ومن فوائد هذا الحديث: أنه ليس على المسلم صدقة في فراش البيت وأواني البيت وسيارات الركوب وما أشبه ذلك، من أين يؤخذ؟ من القياس؛ لأن الفرس والأواني والفرش وشبهها لا فرق بيتها وبين هذه الأشياء، فكل ما اقتناه الإنسان من أي شيء كان فليس فيه زكاة إلا الحلي من الذهب والفضة ففيه الزكاة للأدلة الخاصة به. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا زكاة في الإبل والبقر العوامل التي أعدت للسواقي وأعدت للإيجار والحرث، ليس فيها زكاة ولو كانت سائمة؛ لأنها عوامل مع أن العوامل مشتغلة بالعمل لا تسوم في الغالب. ومن فوائد هذا الحديث: أن العروض ليس فيها زكاة- عروض التجارة- كيف؟ لأنه لو فرض أن عند الإنسان عشر خيول أعدَّها للتجارة فهل هي له أو لغيره؟ له، فتكون داخلة في قوله: "ولا فرسه"، فلا تجب الزكاة في العروض. نعم هكذا استدل بها الظاهرية وقالوا: إن العروض ليس فيها زكاة؛ لأن الحديث: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه"، والعجيب أن الظاهرية- رحمهم الله- يمنعون القياس وهنا يقيسون، وكان عليهم أن يقولوا الفرس لا تجب فيه الزكاة ولو للتجارة، وأموال التجارة ليس فيها زكاة، لكن لا يأخذونها من هذا الحديث وإلا تناقضوا، والصحيح: أن هذا الحديث لا يدل على انتفاء الزكاة في العروض كما لا يدل على ثبوتها، وذلك لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "في عبده ولا فرسه" ظاهر في أن المراد به: الذي يختصُّ به والذي اختصه لنفسه فهو عبده لا يريد أن يبيعه وكذلك فرسه، أما عروض التجارة فإن المالك لا يريدها بذاتها، لأنه يمكن أن يشتريها في الصباح ويبيعها في المساء، لكن ما أعدَّه لنفسه لا

للإمام أن يأخذ الزكاة قهرا ويعاقب المانع

يبيعه، فهو لا يريد السلعة بعينها إنما يريد قيمتها وربحها، وهذا هو الدليل على وجوب زكاة العروض؛ لأن مالك العروض لا يريد إلا القيمة فقط، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"؛ ولهذا تجد الذي يشتري العروض، اذا اشترى بيتًا مشيدًا جميلًا من أحسن البيوت للتجارة وعرضه على الناس للبيع فقال له واحد من الناس: يا رجل، هذا لا تجد مثله لا تفرط فيه ماذا تكون نيته؟ يعتقد الآن أنه صار خاصًّا به، وليست نظرته الآن إليه كنظرته السابقة، ففرق بين عروض التجارة وبين الأشياء التي يختصها الإنسان لنفسه من الأعيان كالعبد والفرس، فالصواب: أنه ليس فيه دليل على سقوط الصدقة في عروض التجارة. للإمام أن يأخذ الزكاة قهرًا ويعاقب المانع: 576 - وعن بهز بن حكيمٍ، عن أبيه، عن جدِّه- رضي الله عنهم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كلِّ سائمة إبلٍ: في أربعين بنت لبونٍ، لا تفرَّق إبلٌ عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنَّا آخذوها وشطر ماله، عزمةً من عزمات ربِّنا، لا يحلُّ لآل محمدٍ منها شيءٌ". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائيُّ، وصحَّحه الحاكم، وعلَّق الشَّافعيُّ القول به على ثبوته. هذا الحديث- حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده- اختلف فيه المحدثون هل هي ترجمة مقبولة أو غير مقبولة؟ فمنهم من ضعفها، وسبب تضعيفهم إياها: حديثه هذا؛ لأنهم استنكروا العقوبة بالمال فمن أجل ذلك ضعفوه، وقالوا: لولا حديثه هذا لكان حديثه حسنا أو موثوقًا، لكن الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق بن راهويه قبلوا حديثه وصححوه، وقالوا: إن هذا الحديث لا يوجب الطعن في الرَّجل؛ لأن هذا الحديث ليس منكرًا متنًا، إذ إن له نظائر في الشريعة، فلا يمكن أن يعلَّل الرجل أو أن يقدح في الرجل بسببه، قال ابن القيم: والقدح في هذا الرجل بسبب هذا الحديث معناه الدوران وهذا صحيح، والدَّور عند أهل العلم باطل؛ لأننا إذا أبطلنا الحديث بالرجل وأبطلنا الرجل بالحديث صار الدور، والصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل أن الرجل لا مطعن فيه، وأن هذا الحديث جارٍ على قواعد الشريعة كما سيتبين- إن شاء الله-. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "في كل سائمة إبل"، وقد سبق لنا معنى السائمة وهي التي ترعى المباح

الحول أو أكثره والمراد بالمباح عند العلماء ليس ضد الحرام، ولكن المباح هو الذي لم يزرعه الآدمي، وإنما هو كلأ أنبته الله، وقد سبق لنا في السُّلوم أن له أربع حالات سائمة: كل الحول، أو أكثر الحول، أو نصف الحول، أو أقل من النصف، أي: ليست سائمة معلوفة، والتي فيها الزكاة هي السائمة أكثر الحول، أو كل الحول. وقوله: "في كل سائمة إبل" هذا مقيد الحديث أنس السابق أو مخصص؛ لأن حديث أنس السابق ليس فيه اشتراط السموم بالنسبة للإبل، وإنما فيه اشتراط السوم بالنسبة للغنم. وقوله: "في أربعين بنت لبون" لا يخالف حديث أنس؛ لأن حديث أنس: "في ست وثلاثين إلى خمس وأربعين فيها بنت لبون"؛ إذن فالأربعون داخلة فيما سبق، ففي ست وثلاثين بنت ليون، وفي أربعين بنت لبون، وفي خمس وأربعين بنت لبون فلا يخالف حديث أنس. وقوله: "في كل سائمة إبل في أربعين" بالنسبة لما قبلها من حيث المعنى والإعراب أيضًا تعتبر بدلًا، أي: في السائمة في الأربعين منه، وهل هو بدل بعض من كل؟ نعم؛ لأن السائمة تشمل القليل والكثير، وأربعين تخص هذا العدد، وبتت اللبون هي التي تمَّ لها سنتان. قال: "لا تفرق إبل عن حسابها" الذي تجب فيه الزكاة؛ أي: لا يفرق الإنسان الإبل المجتمعة عن حسابها لتسقط عنه الزكاة، وهذا كقوله في حديث أنس: "بين مجتمع خشية الصدقة"؛ لأن الإنسان مثلا إذا كان عنده أربعون من الغنم ففيها شاة، فإذا فرقها فليس فيها شيء، عنده خمس من الإبل فيها شاة، فإذا فرقها وجعل اثنتين هنا وثلاثًّا بعيدة سقطت الزكاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تفرق إبل عن حسابها"؛ يعنى: عند العدد الذي بلغته خوفًا من الصدقة، أما إذا كان ليس خوفًا من الصدقة كما لو كان لغرض مقصود فانه لا نهي في، وعلى هذا فكون قوله: "لا تفرق إبل عن حسابها" مقيدًا بحديث أنس السابق؛ أي: لا تفرق خشية الصدقة. ثم قال صلى الله عليه وسلم "من أعطاها" أي: من أعطى الزكاة الواجبة وهي بنت لبون في الأربعين، "مؤتجرًا بها فله أجرها"، "مؤتجرًا" أي: طالبًا الأجر، فهي مفتعل بمعنى: طالب للشيء، يعني: طالبًا لأجرها فله أجرها، ومن أعطاها غير مؤتجر بها ولكنه أعطاها رياء وسمعة أو أعطاها خوفًا من السلطان أن يكرهه على دفعها فهل له أجرها؟ لا، ليس له أجرها، لكنها تجزؤه ظاهرًا، بمعنى: أن السلطان لا يطالبه بها؛ لأنه أدَّاها، أما في الآخرة فلا ينتفع بها. "ومن منعها" فلم يعطها "فإنا آخذوها وشطر ماله"، "فإن" الضمير يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعود إليه باعتبار سعاته أو باعتبار نفسه هو؛ لأنه له السلطة، "فإنا آخذوها" كيف آخذوها ليس فيها نون؟ إعراب "آخذوها" خبر إن مرفوع والنون حذفت للإضافة كما يحذف التنوين؛ ولهذا

نقول في إعراب جمع المذكر السالم والتثنية: النون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والعوض يقوم مقام المعوَّض، يقول الشاعر في رجل لا يحب الاجتماع إليه: [الطويل] كأنِّي تنوينٌ وأنت إضافةٌ ... فأنا تراني لا تحلُّ مكاني يعني: لا تحل معي. المهم أن نقول: النون خذفت هنا للإضافة، "فإنا آخذوها وشطر ماله" الواو للمعية؛ يعني: فإنا آخذوها مع شطر ماله، وعلى هذا فتكون "شطر" منصوبة على أنها مفعول معه، ويجوز أن تكون الواو حرف عطف وتكون معطوفة على الهاء باعتبار محلها؛ لأن الهاء مفعول به في الواقع فمحلها في الأصل النصب، وقد أشار إلى ذلك ابن مالك في "الألفية" بأن المعطوف على هذا لمجرور الذي محله النصب لولا الإضافة يجوز في العطف على المحل والعطف على اللفظ؛ أي: أنه يجوز نصبه مراعاة للمحل، كما يجوز جره مراعاة للفظ. قوله: "وشطر ماله" شطر هذه اسم، والشطر بمعنى: النصف، أي: آخذوا نصف ماله. العجيب: أن بعض أهل العلم- سامحهم الله- قالوا: إن في الحديث تحريفًا وصوابه: "فإنا آخذوها وشطر ماله"، أي: جعل شطرين فيؤخذ الأعلى من الشطرين؛ يعنى: نأخذ زكاته ونأخذ أعلى ما يكون من الزكاة، لماذا ادَّعوا ذلك؟ فرارًا من أن يعاقب الإنسان بأخذ شيء من ماله، والعجب أنهم قالوا هكذا، وقالوا: نأخذ خيار ماله، الأخذ من خياره هل هو الواجب أو زائد عن الواجب؟ الثاني، إذن هذه عقوبة لكنها عقوبة بالوصف لا عقوبة بالعين والذات. فقيل لهم: أنتم الآن حرفتم الحديث من أجل اعتقادكم بأن لا عقوبة في غرامة المال مثل ما قال ابن القيم رحمه الله هذا تحريف بلا شك، والحديث المحفوظ رواية وكتابة هو: "شطر ماله"، ثم إنه على زعمكم أن هذا هو الصواب وأن شطر ماله محرّف، نقول: إذا قلتم شطرين: واحد جيد وواحد رديء، فإن أخذت الجيل فهذه عقوبة، ودعواكم أن هذه عقوبة بالوصف لا بالعين دعوى باطلة، المهم أنه ثبت أصل العقوبة في المال، أنا سقته وإن كان ليس ذا أهمية ليتبين لكم خطورة اعتقاد الإنسان للشيء قبل أن يستدل عليه، ولذلك ينبغي لك أن تكون بين النصوص كالميت بين يدي الغاسل لا تتحرك إلا حيث حركت؛ لأنك مسئول عن هذه النصوص. فانظر إلى هذا التحريف في هذا الحديث بناء على اعتقاد أنه لا غرامة في المال، يا جماعة ما دليلكم على أنه لا غرامة في المال؟ قال لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا". ومتى قالها؟ في

حجة الوداع. إذن كل العقوبات بالمال منسوخة بهذا الحديث؛ لأن هذا من آخر ما حدَّث به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا عقوبة في المال. نقول لهم: سبحانك اللهم وبحمدك، ما تقولون في عقوبة الإنسان ببدنه أيهما أشدُّ: عقوبة البدن أو عقوبة المال؟ عقوبة البدن. على كل حال نقول لهم: هذا الحديث في الحقيقة قد يكون حجة عليكم؛ لأنكم تقولون بجواز تعزير الإنسان بالضرب في بدنه والمخرج واحد والحديث واحد، والضرب على البدن قد يؤثر أكثر من أخذ المال، وكثير من الناس يحمون أبدانهم بأموالهم، وهذا شيء مشاهد، لو جاء لصوص ومعك مائة مليون ريال، بل مائة مليون دينار، وقالوا: نأخذ المال أو نقتلك ماذا تقول؟ ! تقول: خذوا المال ولا تقتلوني. إذن إذا كان الشارع بإقراركم يبيح التعزير بعقوبة البدن وليس ذلك منسوخًا عندكم كيف تقولون: التعزير بعقوبة المال منسوخ؟ لهذا أقول: إن هذا الحديث، يقول: "آخذوها وشطر ماله" عقوبة له، لكن ما المراد بـ"شطر المال"، هل هو المال كله، أو المال الذي منع زكاته فقط؟ فيه احتمال هذا، أو هذا، فتحن مثلًا نقول: هذا رجل عنده مليون درهم، وعنده أربعون شاة، فجاء الساعي فمنع الزكاة يجب عليه في أربعين شاة شاة واحدة، فلم يعطها للساعي، إذا قلنا: "آخذوها وشطر ماله، " المال الذي منع زكاته كم نأخذ منه؟ ((21)) شاة، وإذا قلنا: جميع المال كم نأخذ؟ خمسمائة ألف وواحد وعشرين درهمًا. بين الاحتمالين فرقًا عظيمًا فأيهما نأخذ به؟ نقول: الأصل في مال المسلم الحرمة، فلا تأخذ بالاحتمال الزائد مع إمكان حمل اللفظ على الاحتمال الأدون؛ لأننا نقول نصف المال الذي منع زكاته مستحق بكل تقدير، ونصف جميع المال مستحق باحتمال، والاحتمال شك، وحرمة مال المسلم يقين. إذن لا نقصر اليقين بالشلك، وحينئذٍ نقول: يخرج منه نصف المال الذي منع زكاته، لكن ما تقولون لو أن ولي الأمر رأى من المصلحة أن يؤخذ نصف ماله كله من أجل ردعه وأمثاله عن منع الزكاة هل يسوغ له ذلك ويقول: أنا أتشبث بهذا الاحتمال الواقع في هذا اللفظ أو نقول لا يحل لك؛ لأنها قد تكون القيمة كبيرة كما في المثال الذي ذكرنا؟ على كل حال الشيء المؤكد الآن أنه يؤخذ نصف المال الذي مع زكاته؛ لأنه هو المال الذي حصلت فيه المخالفة والمعارضة، فكانت الحكمة تقتضي ألا تتجاوز العقوبة على المال الذي منعت زكاته هذا من وجه، ومن وجه آخر: أن الأصل في المال الحرمة فلا نستبيح ما كان مشكوكًا فيه؛ لأن المشكوك فيه لا يقصر الشيء المتيقن. ثم قال: "عزمة من عزمات ربنا"، "عزمة" فيها روايتان: "عزمةً"، و"عزمةٌ"، أمَّا على رواية "عزمةٌ" فهي خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي عزمةٌ، أو هذه عزمةٌ، وأما على رواية النصب فهو مصدر مؤكِّد للجملة قبلها "فإنا آخذوها"، والأخذ عزيمة، والعزمة مصدر، فتكون مصدرًا

مؤكِّدًا للجملة قبله مثل قولك: "تبنى أنت حقًّا" فإن "حقًّا" مؤكد لمضمون الجملة السابقة هذا أيضًا مؤكِّدة لمضمون الجملة، ومعنى "عزمة" أي: أكيدة، يعني: نأخذها أخذا مؤكَّدًا مجزومًا به، "من عزمات ربنا" أي: من تأكيدات ربنا، وهنا إشكال وهو إنه قال: "عزمة من عزمات" ولم يقل عزمة من عزمات، يقول ابن مالك: والسَّالم العين الثُّلاثي اسمًا أنل ... إتباع عينٍ فاءه بما شكل إن ساكن العين مؤنَّثًا بدا ... مختتمًا بالتَّاء أو مجرَّدا وسكِّن التَّالي غير الفتح أو ... خفِّفه بالفتح فكلَّا قد رووا فالفاء المفتوحة تكون العين فيها مفتوحة دائمًا، ولا يجوز التسكين، فهذه القاعدة "عزمة من عزمات ربنا". قال: "لا يحل لآل محمد منها شيء"، "لا يحل" أي: يحرم. من الذي يدرينا أن "لا يحل" يعني: يحرم؟ لأن الحل المطلق يقابله التحريم المطلق، فإذا قلت: "لا يحل" فهو كما لو قلت: يحرم، ولهذا قال الله عز وجل: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذب} [النحل: 116]. وهذا هو المفهوم من كلمة "لا يحل" أي: يحرم، وإن كان نفي الحل قد يراد به نفي أن يكون مستوي الطرفين فيتناول المكروه والمحرم، بمعنى أن نقول: ليس حرامًا، بل هو حلال، والحرام ليس حلالًا، ولكنه لا يصار إلى هذا إلا بدليل واضح، وإلا فالأصل أن نفي الحل إثبات للتحريم هذا الأصل. يقول: "لا يحل لآل محمد" من آل محمد؟ هم أقاربه وليس أتباعه هنا بالتأكيد؛ لأننا لو قلنا: لا يحل لأتباع الرسول الزكاة لا يستقيم؛ لأن معنى ذلك أنها لا تحل إلا إلى الكفارة؛ إذن آل محمل هم قرابته وهم بنو هاشم فقط، وقيل: بنو المطلب، والصحيح خلافه، وأن آل المطلب تحل لهم الزكاة، وإنما شاركوهم في الأخذ من الغنيمة لمساعدتهم إياهم؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في بني عبد المطلب: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام". لكن الآن هم بنو هاشم، وهل يدخل في ذلك زوجاته؟ فيه نقاش أو لا؟ ليس فيه نقاش؛ لأنه هل الآن تأتي إحدى زوجات الرسول وتقول: أعطوني من الزكاة؟ هذا غير واقع، وإذا كان غير واقع فالمناقشة فيه قد تكون من فضول العلم، ولكن لا شك أن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل البيت بنص القرآن قال الله تعالى: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلوة وءاتين الزكوة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس

أهل البيت ويطهركم تطهيرًا * واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايات الله والحكمة} [الأحزاب: 33، 34]. وقد أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلى نفسه حينما قال: "من يعذرني من رجل قال في أهلي؟ "، فأضاف الأهل إلى نفسه صلى الله عليه وسلم، لكن البحث في استحقاق نسائه من الزكاة في هذا الزمن ليس له داعٍ إنما يدخلن في أهله فيما إذا قلن: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد". في هذا الحديث دليل على وجوب الزكاة في الإبل لقوله: "في كل سائمة إبل ... " إلخ، وفيه دليل على اشتراط السوم في الإبل كما دل حديث أنس السابق على اشتراط السوم في الغنم لقوله: "في كل سائمة"، وفيه دليل على أن في أربعين من الإبل بنت لبون وهو ظاهر، ولكن هل يعارض ما تقدم في حديث أنس؟ لا؛ لأن حديث أنس من ((36)) إلى (45) بنت لبون، وهذا أربعون فهو داخل فيما سبق. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز أن تفرق الإبل عن حسابها خشية الصدقة. ومن فوائد هذا الحديث: الإشارة إلى إخلاص النية لقوله: "مؤتجرًا بها". ومن فوائده: أنه لا ينافي الكمال أن ينوي الإنسان بعبادته الأجر لقوله: "مؤتجرا"، وأما من زعم أن من عبد الله لثواب الله فعبادته ناقصة ومن عبد الله لعبادة الله فعبادته كاملة، فقد أبعد النجعة وأخطأ؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- يقول في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه {محمّدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلًا من الله وروضوانًا} [الفتح: 29]. وهذا لا ينافي كمال الإخلاص. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الله عز وجل على لسان رسوله تكفل لمن أخلص النية له أن يعطيه ما احتسب، يؤخذ من قوله: "فله أجرها". ومن فوائل هذا الحديث: تحريم منع الصدقة الواجبة، يؤخذ من العقوبة على المنع. ومنها: جواز التعزير بأخذ المال لقوله: "آخذوها وشطر ماله"، فإن قلت: هذا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام". قلنا: هذا صحيح، لكن إذا وجدت أسباب الإباحة صارت مباحة. ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: إثبات وصف شرع الله بالعدل لقوله: "عزمةٌ من عزمات ربنا"، وله شاهد في الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه".- فلله تعالى- عزائم وهي ما أوجبها- سبحانه وتعالى- على نفسه شرعًا أو كونًا، فما أوجبه على نفسه فهي عزيمة.

ومن فوائد هذا الحديث: إسناد التشريع من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله لقوله: "عزمة من عزمات ربنا"، فتشريع النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يأتي بدون هذه النسبة وأحيانًا يأتي بهذه النسبة، والكل من عند الله. فإن قلت: هل لهذا الحديث شاهد من جواز التعزير بالمال؟ فالجواب: نعم، تحريق رحل الغال ثابت بالسُّنة، وهو من التعزير بالمال؛ لأن الغال الذي يكتم شيئًا مما غنمه من الغنيمة يحرق رحله كله إلا ما استثنى الشرع. ومنها أيضًا: إضافة قيمة الضالة على من كتمها يضاعف عليه ضعفين. ومنها: إضعاف القيمة على من سرق الثمر، وكذلك هنا تضاعف القيمة على من منع الزكاة، وقد سبق لنا احتمال كلمة "ماله" هل يراد بها المال الزكوي الذي منع زكاته أو جميع المال. ومن فوائد هذا الحديث: أن الزكاة لا تحل لآل محمد لقوله: "لا يحل لآل محمد منها شيء". ومنها: كرم أصل هذا النسب الشريف حيث حرِّمت عليهم الزكاة؛ لأنها أوساخ الناس كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي أخذ الزكاة من الإنسان نوع من الذل، فإن الإنسان إذا أخذ من شيء يوصف أنه صدقة تجده يتذلل أمام هذا الرجل الذي أعطاه، فمن أجل كرم هذا النسب ورفعته منع النبي صلى الله عليه وسلم من إعطاء هذا البيت الزكاة. ومنها: أن نفي الحل يقتضي التحريم، يؤخذ من قوله: "لا يحل"، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم العباس من الزكاة لما طلب أن يعطيه، وقال: "إنها لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس"، وهذا هو الأصل في نفي الحل أن يراد به التحريم، وقد يراد بنفي الحل نفي الجواز فقط فلا يقتضي التحريم ويدخل فيه المكروه، ولكن هذا يحتاج إلى دليل، وإلا فالأصل أنه إذا نفي الحل فمقتضاه التحريم. هل يستفاد من الحديث جواز ذكر الإنسان نفسه بلفظ التعظيم؟ نعم، يؤخذ من قوله: "فإنا آخذوها وشطر ماله"، وقد يقال: إن مثل هلا إذا قاله السلطان أو الولي فإنه يصح باعتبار أنه يتوصل إلى الأمر بجنوده وقوته، وعلى كل حال: فهذا التعبير سائغ بين أهل العلم إلى زماننا هذا. فائدة: ومن فوائد هذا الحديث- ولكنه ليس من فوائد الحديث في الواقع ولكنها فائدة مستقلة-: أنه يجوز للعالم أن يعلق القول بالشيء على ثبوت دليله، وقد علق الشافعي القول به على ثبوته، وهذا مسلك صحيح، لا يقال: إن العالم إذا قال هذا فإنه لم يعطنا شيئًا: "إن صح هذا

شروط الزكاة

الحديث قلت به"، إذن ما قال بشيء، لكن فائدته أننا إذا بحثنا عن هذا الحديث وثبت فإنه يكون قولًا له، لكن لا بد من ثبوت أمرين: ثبوت الدلالة وثبوت النسبة، هذا القول الذي قاله الشافعي رحمه الله واجب على كل مؤمن إذا ثبت الدليل أن يكون قائلًا به؛ لقول الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً مبينًا} [الأحزاب: 36]. وقوله تعالى: {إنما كان قول المؤمنين} [النور: 51]. ولقوله تعالى: {يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} [الأنفال: 24]. المهم: أن الآيات في هذا كثيرة، وأن كل مؤمن يقول بلسانه وقلبه: إذا ثبت هذا الدليل فإنني أقول به، والحديث ثابت عند الإمام أحمد وإسحاق كما سبق لنا في الشرح، وعلى هذا فيكون القول به واجبًا، ودعوى من ادعى أنه منسوخ بحديث: "إن دماءكم ... إلخ" الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أقول: إن هذه الدعوى لا تستقيم؛ لأن من شرط النسخ ألاَّ يمكن الجمع هذا واحدٌ، ومن شرط النسخ أن يُعلم التاريخ بحيث تعلم تأخر الناسخ، وهنا لا نعلم هل الرسول حدَّث بهذا الحديث قبل حجة الوداع أو بعدها، وعلى كل حال فإن الشرط الأول وهو أنه لا يمكن الجمع غير متحقق هنا قطعًا، والشرط الثاني فيه احتمال أن يكون قبل أو بعد. شروط الزكاة: 577 - وعن عَليٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "إذا كانت لك مائتا درهمٍ وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيءٍ حتَّى يكون لك عشرون دينارًا، وحال عليها الحول، ففيها نصف دينارٍ، فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مالٍ زكاةٌ حتَّى يحول عليه الحول". رواه أبو داود، وهو حسنٌ، وقد اختلف في رفعه. الحديث كما رأيتم في تحسين المؤلف له يقول: إنه حديث حسن، وقد اختلف في رفعه، يعني: اختلف هل هذا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أو من كلام علي رضي الله عنه؟ والمعروف عند أهل العلم أنه عند اختلاف الرواة في رفعه ووقفه- وكان الرافع له ثقة- يحكم بالرفع، لماذا؟ لسببين: أولًا: أن فيه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة. الثاني: أن الوقف لا ينافي الرفع، فإن الإنسان إذا روى الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يقوله من نفسه من غير أن ينسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لثبوته عنده، أنا الآن ربما أقول إنما الأعمال بالنيات،

أحدث بها ولا أرفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ لا يكون بين الرفع والوقف مُنافاة، فمن ثمَّ إذا تعارض الرفع والوقف وكان الرافع ثقة فإنه يجب قبوله لعدم التنافي. وللزيادة أيضًا يقول: "إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم" اشترط النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث شرطين: الأول: بلوغ النصاب وهو مائتا درهم، ومائتا درهم بالمثاقيل مائة وأربعون مثقالا؛ لأن الدرهم الإسلامي سبعة أعشار مثقال، سبق لنا أن المثقال أربعة جرامات وربع خمس وعشرين في المائة وضربناها فبلغت خمسمائة وخمسة وتسعين جرامًا هذا هو نصاب الفضة. الشرط الثاني الذي اشترطه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وحال عليه الحول" يعني: تمت لها سنة، والمراد بالحول: الحول العالمي وهو الحول الهلالي؛ لأن الهلال هو التوقيت العالمي، لكن بنو آدم تركوا هذا التوقيت العالمي ورجعوا إلى التوقيت القانوني الوهمي، قال الله تعالى: {يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس} [البقرة: 189]. عامة، وقال عز وجل: {إنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرمٌ} [التوبة: 36]. وهذه الأشهر بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لها هي الأشهر الهلالية، إذن حتى يحول عليك الحول بالأشهر العالمية الهلالية؛ لأنها هي الأشهر الحقيقية، لكن لو قلنا الحول باعتبار هذا الطريق الوهمي فمعناه: ينقص علينا عشرة أيام أو إحدى عشر على حساب الفقهاء؛ لأن كل ثلاثة وثلاثين سنة يطلع فيها سنة وحينئذ يكون فيه ضرر على أن الحول المعتبر شرعًا وكونًا هو الحول بالأشهر الهلالية. يقول: "ففيها خمسة دراهم" انسبها إلى مائتين يكون ربع العُشر؛ لأنك إذا قسمت مائتين على أربعين الناتج خمس إذن ربع العُشر. قال: "وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون دينارًا"، "شيء" يعني: من زكاة الذهب، ليس من كل شيء؛ لأن الإنسان قد يكون عنده نصاب فضة وليس عنده نصاب ذهب، فقوله: "شيء" أي: نصاب الذهب، يقول: "حتى يكون لك عشرون دينارًا"، كم عشرون دينارا في المثاقيل؟ عشرون مثقالا؛ لأن الدينار مثقال بخلاف الدراهم فالدراهم اختلفت ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مختلفة منها أربعة دوانق ومنها ثمانية دوانق، وفي عهد عبد الملك بن مروان رأى أن يضرب سكة للمسلمين تكون ستة دوانق زاد هذه الأربعة ونقص من الثمانية دانقين، وجعل الدوانق الإسلامية ست دوانق على أن كل عشرة منها سبعة مثاقيل. إذن الدرهم أقل من الدينار في الوزن بسبعة أعشار الدينار هذا بالوزن، لكن بالحجم يمكن أن يكون أكبر منه مرة ونصف بالحجم؛ لأن الذهب أثقل من الفضة، يقول لنا الصاغة: إن الريال العربي يساوي أثنا عشر غرامًا إلا ربع، والريال السعودي يعادل اثنا عشر مثقالا إلا ربعًا، وأما الدينار فهو ثمانية مثاقيل،

هذا يدل على أن الذهب أثقل من الفضة، إذن نصاب الذهب كم يساوي؟ عشرين مثقالا، ولهذا قال: "حتى يكون لك عشرون دينارًا". وقوله: "وحال عليها الحول" هذه الجملة في موضع نصب على الحال، أي: وقد حال عليه الحول، ليس عليك في المذهب زكاة حتى يكون لك عشرون دينارًا وقد حال عليه الحول، واشتراط الحول كما سبق. فإن قلت: ما هي الحكمة من اشتراط الحول؟ لماذا لا نقول: يجب على الإنسان أن يؤدي الزكاة بمجرد ما يملكها؟ فالجواب: إنما يجب ذلك رفقًا بالمالك؛ لأن الأصل أن الزكاة إنما تجب في الأموال النامية، والنمو لا يقدر زمن معين، لكن لا بد أن يكون له زمن فلو اعتبرنا الحولين لكن أضررنا بأصحاب الزكاة، ولو قلنا بالشهر لكنا أضررنا بصاحب المال، فكان المعنى المناسب أن يكون مقدرًا بالحول. قال: "ففيها نصف دينار" إذا قسمنا عشرين على أربعين يساوي ربع العشر فما زاد فبحساب ذلك ولو قليلًا، ففي مائتي درهم ودرهم خمسة دراهم وربع عشر الدرهم، وهذا بخلاف زكاة السائمة فإن زكاة السائمة ليست كذلك. قال: "وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول"، كلمة "في مال" هذه نكرة يراد بها الخصوص في مال أي زكوي، والأموال الزكوية سبق لنا بيانها أيضًا، يُراد من الأموال الزكوية أشياء خاصة ليست كلها؛ لأن الخارج من الأرض الذي سميناه الحبوب والثمار لا يُشترط فيه الحول: {وءاتوا حَقَّه، يوم حصاده} [الأنعام: 141]. فلو أن الإنسان بذر حنطة وبقيت ستة شهور ثم حصدها فيزكيها، الآن فحينئذ صار في المال تخصيصان: أولًا: يخصص من عمومات المال بأن المراد به المال الزكوي. ثانيًا: حتى المال الزكوي ليس كل مال زكوي ليس فيه زكاة حتى يحول الحول؛ لأننا نستثني الحبوب والثمار، فإن زكاتها حين جذاذها وحصادها. 578 - وللتِّرمذيِّ؛ عن ابن عُمَرَ رضي الله عنه: "من استفاد مالًا، فلا زكاة عليه حتًّى يحول عليه الحول". والرَّاجح وقفه. هذا الحديث يقول: "من استفاد مالًا"، "استفاد" أي: جاءه فائدة، "فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول". وقوله: "مالا" نكرة في سياق الشرط فهو للعموم لكنه عام أريد به الخاص، ما الذي أريد به؟ المال الزكوي غير الثمار والحبوب.

وقوله: "من استفاد مالًا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول" ظاهره العموم أيضًا في المستفاد وليس كذلك، ليس هذا في عموم المستفاد، بل المستفاد نفسه منه ما يشترط له الحول ومنه ما لا يشترط على التفصيل الآتي: أولًا: أن يكون المستفاد من غير جنس المال الذي عندك فهذا لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول مثل: رجل عنده فضة واستفاد ذهبًا ورث ذهبًا أو رجل وهبه ذهبًا، فهنا المستفاد لا يضم إلى من عنده لا في النصاب ولا في الحول، إذا كان مستفادًا من غير الجنس الذي عندك، فإنك لا تضمه إليه لا في الحول ولا في النصاب، مثال ذلك: رجل عنده مائة درهم وبعد ستة شهور استفاد عشرة دنانير مائة درهم نصف نصاب وعشرة دنانير نصف نصاب، نصف مع نصف واحد فهل يُضم؟ لا يضم لأنه من غير جنسه، تم الحول على عشرة دنانير فليس فيها زكاة والدراهم التي معه تم عليها سنة ونصف هل فيها زكاة؟ ليس فيها زكاة؛ لأن المال من غير جنسه فلا يضم لا في النصاب ولا في الحول. ثانيًا: أن يكون المستفاد نماءً أو ربحًا للذي عنده فهل يُضم إليه؟ مثال ذلك: رجل عنده مائتا درهم وفي منتصف الحول ربح فيها مائتين إذا تم الحول الأولى عليه الزكاة يزكي الجميع؛ لأن هذا ربح المال الأول والربح تابع للأصل، عنده أربعون شاة وبعد ستة أشهر ولدت كل شاة شاتين وواحدة منهن ولدت ثلاثًا كم صار عنده؟ (121)، كم من الزكاة عليه؟ شاتان؛ لأن هذا نتاج الأصل فيزكي عن مائة وإحدى وعشرين، رجل عنده ثلاثون شاة وفي منتصف الحول ولدت عشر منها عشر شياه عليه شاة لكن من الحول الأول أو من الولادة؟ من الولادة؛ لأن الأول لم يتم النصاب الأول فيكون من الولادة، والسبب أن النصاب ما تم. القسم الثالث: أن يكون المستفاد الذي استفاده من جنس الذي عنده فهنا يُضم إلى ما عنده في تكميل النصاب لا في الحول. مثال: رجل عنده عشرة دنانير ليس فيها زكاة بعد مضي ستة أشهر وهب له عشرة دنانير كم صار عنده الآن؟ أصبح عنده نصاب فيضم هذا إلى هذا في تكميل النصاب لا في الحول وعليه متى تجب عليه الزكاة؟ إذا مضى على الأول سنة وستة أشهر، هذه أقسام ثلاثة للمستفاد، فصار الحديث يحتاج إلى تخصيص. مثال آخر للقسم الثاني: يعني: أنه إذا كان عنده نصاب ومن الأول فإن الثاني لا يشترط فيه بلوغ النصاب، بل تجب فيه الزكاة على كل حال؛ لأنه عنده من جنسه لا في الحول بمعنى: أننا لا نلزمه بإخراج زكاة المستفاد إذا تم حول الأول، وإنما نلزمه بإخراج زكاته إذا تم حوله هو، مثال ذلك عندي: مائتا درهم ملكتها في الأول من المحرم عام سبعة وأربعمائة وألف في أول

حكم زكاة البقر العوامل

يوم من رجب ملكت مائة درهم في أول يوم من محرم عام ثمانية وأربعمائة وألف تجب علي الزكاة في المائتين السابقة؛ لأنه تم لها سنة ولا تجب عليَّ زكاة المائة التي ملكتها في رجب؛ لأنه لم يتم حولها، وتجب عليَّ الزكاة فيها إذا تم حولها، ولكننا نقول: تضم إلى الأول في النصاب ولا تضم في الحول وعلى هذا فتجب الزكاة في المائة التي ملكها في الأول من رجب وإن لم تبلغ نصابًا؛ لماذا؟ لأنها مضمومة إلى ما عنده من النصاب، لكن ما يجب عليَّ إخراج زكاتها حتى أول يوم من رجب عام ثمانية وأربعمائة وألف. الدليل على هذا التقسيم أن الأول الذي يكون المستفاد من الذي عنده إما نماء وإما ربحا الدليل على ذلك أن هذا الربح من نفس المال فهو فرعه والفرع له حكم الأصل هذا واحد. ثانيًا: أن النصوص الواردة في زكاة التجارة وفي زكاة المواشي ما كانوا يستفصلون ويقولون هل هذا النماء أو الربح حصل بعد تمام الحول أو من أول الحول، فكانت العمومات تقتضي وجوب الزكاة فيه بكل حال. ثالثًا: أننا لو قلنا: إن الربح يستقل بنفسه ولا يتبع في الحول لشقت الزكاة على المالك ولحقه بذلك مشقة إذ يلزم على هذا أن يحص اليوم ربح ريالًا والثاني ربح ثلاثة من يستطيع هذا؟ فهذه مشقة، والمشقة يجب أن تراعى وأن يسقط عن المرء ما كان فيه مشقة. رابعًا: أن ذلك أحظ للفقراء وأهل الزكاة فمن أجل هذه الوجوه كان الناتج الذي هو النماء والربح تبعًا لأصله، وأما في القسم الثالث وهو أن يكون المستفاد من غير الجنس فالأمر فيه ظاهر؛ لأنه لا يمكن أن يضم إليه وهو ليس من جنسه. حكم زكاة البقر العوامل: 579 - وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: "ليس في البقر العوامل صدقةٌ". رواه أبو داود والدَّارقطنيُّ، والرَّاجح وقف أيضًا. إعراب الحديث واضح، فإن "صدقة" اسم ليس مؤخر، والمراد بالصدقة هنا: الزكاة، وسميت صدقة لدلالتها على صدق إيمان باذلها، و"البقر العوامل" يعني: البقر التي تعمل كبقر الحرث، تحرث الأرض، وبقر الدياس التي تدوس الزرع، فالناس في الزمن الأول يعانون من مشاق كبيرة في الزروع، لكن الحمد لله الآن أصبح الأمر يسيرًا، وهل في البقر غير هذا؟ نعم السناية يعني: التي تخرج الماء بواسطة رفع الغروب، في بعض البلاد تركب البقر، ولكن بعد التمرين، ولهذا يقول العلماء: يجوز الانتفاع بالحيوان في غير ما خلق له كبقر للحمل وغنم لحرث أو دياسة إذا كانت تطيق هذا.

يقول المؤلف: "إن الراجح وقفه" فمعناه: أنه من قول علي رضي الله عنه. ولننظر هل هذا الحديث له حكم الرفع لأنه قول صحابي؟ إن كان لا مساغ للاجتهاد فيه فله حكم الرفع، وإن كان للاجتهاد فليس له حكم الرفع، بمعنى: هل العقل يتدخل في هذا الحكم أو لا يتدخل؟ يتدخل؛ إذ إنه يجوز أن يقيس الإنسان هذا على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة"، فلا يكون له حكم الرفع، إذا لم يكن له حكم الرفع نرجع إلى قاعدة ثانية: هل قول الصحابي حجة؟ نقول: نعم مثل علي بن أبي طالب قوله حجة؛ لأنه من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم، لا سيما أن قوله هذا له ما يؤيده من القياس وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة"، وعلى هذا فيكون الحيوان المعد للعمل ليس فيه زكاة. وهل نتبع بالحيوان المعدات كالسيارات والماكينات وشبهها؟ نعم، لأنه لا فرق كلها غير معدة للتجارة. وهل مثل ذلك العقار المعد للتأجير؟ الجواب: نعم مثلها؛ لأنه أعدَّ للبقاء مع الاستغلال، وكل ما أعد للبقاء مع الاستغلال فإنه ليس فيه زكاة إلا ما تقدم من الذهب والفضة لعموم الأدلة فيها، وبناء على هذا نقول: سيارات النقل لا زكاة فيها؛ لأنها كالبقر العوامل تمامًا، عقارات الإجارة لا زكاة فيها؛ لأنها كالبقر العوامل، الماكينات وشبهها لا زكاة فيها؛ لأنها تشبه هذا، فكل ما أعد للبقاء والانتفاع فلا زكاة فيه. ومن فوائد هذا الحديث الأول حديث علي: أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من الأمة خطاب لجميع الأمة، وهذا باتفاق المسلمين إلا إذا دل الدليل على تخصيص ذلك الرجل بالحكم، تؤخذ هذه الفائدة من قوله: "إذا كانت لك" والخطاب لعلي، والحكم عند عامة العلماء لكل المسلمين، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "اغسل ذكرك وتوضأ"- في المذي- والحكم هنا عام لجميع الناس إلا إذا دل الدليل على تخصيص الرجل المخاطب بالحكم فيؤخذ بما دل عليه الدليل ويكون خاصًّا به، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج رجلًا امرأة على أن يعلِّمها القرآن وقال: "لن يُجزئ عن أحد بعدك مهرًا". هذا خصه به، لكنه مر علينا أن هذا الحديث ضعيف؛ لأنه شاذ مُخالف لجميع الروايات الصحيحة، وهو قوله: "لن تجزئ عن أحد بعدك مهرًا"، ومنه حديث أبي بردة بن نيار قال له الرسول صلى الله عليه وسلم في العناق: "إنها لن تجزئ عن أحد بعدك". هذا خاص، فهل تُجزئ العناق- العنزة التي لها أربعة أشهر- عن أحد بعد أبي بردة؟ لا، وسبق لنا أن شيخ الإسلام رحمه الله يقول: إنه ليس في النصوص نص يخص شخصا بعينه لعينه، ولكن

فائدة فيما لا يشترط فيه الحول

يخصه بعينه لحاله أو لوصفه أما بعينه لعينه فلا؛ لأن الناس عند الله سواء لا يمكن أن يُخص فلانًا بحكم لأنه فلان، فإن قلت: ينتقض عليك هذا بخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها خاصة به؟ فالجواب: لا ينتقض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص بها لنبوته ورسالته فلم يخص بها لعينه، وما قاله شيخ الإسلام هو الحق، وعلى هذا يكون قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: "لن تُجزئ عن أحد بعدك" أي: بعد حالك باعتبار وصفه لا باعتبار شخصه، الحديث الذي معنا الآن يُخاطب علي بن أبي طالب فهل يختص به علي أو له ولغيره؟ له ولغيره بناء على القاعدة التي ذكرناها أنه ليس في الشريعة تخصيص شخص بحكم بعينه لعينه ولكن لوصفه وحاله. ويستفاد من هذا الحديث: وجوب الزكاة في مائتي درهم. ومنها: أن زكاة الفضة ربع العُشر، تؤخذ من قوله: "خمسة دراهم"، ونسبة الخمسة للمائتين ربع العشر. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا بد من تمام الحول لوجوب الزكاة لقوله: "وحال عليها الحول"، والجملة هذه معطوفة على الشرط إذا كانت لك مائة درهم. ومنها: أن المعتبر في الدراهم العدد دون الوزن. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الزكاة في الذهب. ومن فوائده: أن نصاب الذهب عشرون مثقالا، يؤخذ ذلك من قوله: "عشرون دينارًا"؛ لأن الدينار يساوي في الوزن مثقالا. ومنها: أن الدراهم والدنانير ليس فيها وقص، يؤخذ هذا من قوله: "فما زاد بحساب ذلك": يعني: مائتا درهم زكاتها خمسة دراهم. مائتا درهم ودرهم فما زكاته؟ خمسة درهم وربع عشر الدرهم بخلاف الماشية. ومن فوائد هذا الحديث: أن زكاة الذهب ريع العشر، ويؤخذ ذلك من قوله: "إذا كانت عشرين دينارًا ففيها نصف دينار". فائدة فيما لا يشترط فيه الحول: ومنه قاعدة: ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول"، ولكننا استثنينا منها شيئا وهو الحبوب، والثمار، والركاز، وربح التجارة، ونتاج السائمة، والعسل، وعروض التجارة ستة أشياء: الأول: الحبوب والثمار، وما دليلها؟ قوله تعالى: {وءاتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141]. الثاني: ربح التجارة، دليله قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} [البقرة: 267]. لأن المسلمين يُزكون ما كسبوا عند تمام حول الأصل؛ ولأنه تابع، والتابع على اسمه تابع للأصل.

الزكاة في مال الصبي

والثالث: نتاج السائمة، دليله بعث الرسول السعاة فلا يسألون هل تم حول أو لا؟ الرابع: الركاز، دليله حديث: "في الركاز الخمس"، وجه الدلالة: أنه في القياس على الحبوب والثمار أقرب من قياسه على المستفاد؛ لأن هذا اكتسب في حال واحدة من غير تعب ثقيل، على أن بعض العلماء يقول: إن قوله: "الخمس" ليس زكاة، وأن الخمس "أل" للعهد الذهني المعروف وهو الفيء خمس الغنيمة، وليس "أل" هنا لبيان النسبة، أي: أن فيه واحدًا من خمسة، بل فيه الخمس المعهود الذي يُصرف مصرف الفيء لا مصرف الزكاة. الخامس العسل أيضًا يشبه الركاز والحبوب والثمار في اجتنائه من أصله فيزكَّى في الحال. أما الحديث الثاني: "من استفاد مالًا ... " فهو كالأول، إلا أننا ذكرنا أن المستفاد كان من جنس ما عنده فإنه يضم إليه في تكميل النصاب لا في الحول. هل يؤخذ من هذا الحديث والذي قبله بيان حكمة الشارع في مراعاة الوقت في إيجاب الزكاة؟ نعم؛ لأنه لو وجبت الزكاة في كل ستة أشهر لكان في ذلك إضرار على المال، ولو تأخر إلى سنتين لكان في ذلك إضرار على أهل الزكاة. أما حديث علي: "ليس في البقر" ففيه دليل على أن العوامل من البقر ليس فيها صدقة، فيقاس عليها العوامل من الإبل، ويقاس على ذلك أيضًا العوامل من السيارات والماكينات وكل ما يستغله الإنسان، ويقاس عليه أيضًا العقارات المعدة للتأجير؛ لأنها تشبهها في الانتفاع بها بالاستغلال، فكل هذه ليس فيها زكاة. الزكاة في مال الصبي: 580 - وعن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه؛ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ولي يتيمًا له مالٌ، فليتَّجر له، ولا يتركه حتَّى تأكله الصَّدقة". رواه التِّرمذي والدَّارقطنيُّ، وإسناده ضعيفٌ. - وله شاهدٌ مُرسلٌ عند الشَّافعيِّ. قوله: "من ولي يتيمًا"، "وليه" أي: تولى أمره، واليتيم: هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ سواء كان ذكرًا أم أنثى، وأما من ماتت أمه فليس بيتيم خلافًا للعامة، فهم يقولون: إن اليتيم من ماتت أمه، ولكن الشرع يقول: اليتيم من مات أبوه، حتى وإن كانت أمه موجودة فهو يتيم، ولو ماتت أمه وأبوه موجود فليس بيتيم. وقوله: "فليتجر له" الفاء جواب الشرط، اللام للأمر، وإنما وقعت الفاء في جواب الشرط؛

لأن الجملة طلبية، وإذا كانت الجملة طلبية كان اقترانها بالفاء لازمًا، وقد مر علينا أن الذي يقترن بالفاء وجوبًا سبعة أشياء مجموعة في قول الشاعر: اسميَّة طلبيَّة وبجامد ... وبما وقد وبلن وبالتَّنفيس التي معنا من الطلبية، وقوله: "فليتجر له" أي: لليتيم؛ أي: لأجله، والاتجار: هو التصرف في المال لطلب الربح، "ولا يتركه" معطوف على "فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة". قوله: "وله شاهد مرسل" فهو ضعيف أيضًا يقول: "ولا يتركه حتى تأكله الصدقة" "تأكله" أي: تفنيه وتخلصه، ولا يُعارض هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقة". إذا كان ما نقص مال من صدقة، وهنا يقول: "فلا يتركه حتى تأكله الصدقة" فما الجمع بينهما؟ الجمع أن يُقال إن النقص نوعان: نقص عين، ونقص معنى؛ فالصدقة لا شك أنها تنقص المال نقص عين لكنها لا تنقصه نقص معنى؛ لأن الله تعالى يُنزل فيه البركة، وبقاء الزكاة فيه تزع البركة منه مثاله إذا كان عند رجل مائة درهم كم الواجب فيها؟ خمسة دراهم أخرج الواجب خمسة دراهم نقصت المائتان وأصبحت مائة وخمسة وتسعين درهمًا؛ ولهذا لو بقيت عنده إلى العام القادم لا يزكيها لأنها نقصت، فالنقص العيني لا شك أنه يحصل بالصدقة، والنقص المعنوي لا يحصل، فإن الصدقة إذا خرجت من المال أنزل الله فيه البركة حتين إن العشرة تساوي ما يزيد عليها، بمعنى: أن العشرة قد تكون عوضًا عن عشرين أو عن ثلاثين حسب البركة. ففي هذا الحديث عدة فوائد: أولًا أن اليتيم لا بد له من ولي، لقوله: "من ولي يتيمًا"، فلا يجوز للأيتام أن يتركوا بدون ولاية، والولاية على اليتيم مصدرها إما الشرع، وإما العرف فإن كان الأب هو الذي أوصى على ولده فهنا الوصية صادرة بالعرف، وإذا كان الأب مات ولم يُوص ولكن لهذا اليتيم جدًّا فولايته من قبل الشرع، وكذلك القاضي ولي على الأيتام الذين ليس لهم ولي من قبل الشرع. ومن فوائد هذا الحديث: رحمة الله عز وجل بعباده حيث جعل لليتامى أولياء. ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: وجوب الزكاة على غير البالغ، يُؤخذ من قوله: "ولا يتركه حتى تأكله الصدقة"، إذن فمال الصبي فيه الزكاة، ومال المجنون فيه الزكاة. فإن قلت: كيف تجب الزكاة في مال الصغير والمجنون وهما غير مكلفين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة". وذكر منهم الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق.

الدعاء لمخرج الزكاة

فالجواب: أن الزكاة واجبة في المال، والمال لا فرق فيه بين أن يكون لصغير، أو الكبير، أو لعاقل، أو لمجون، ما هو الدليل على أن الزكاة في المال؟ هذه المسألة فيها خلاف، فجمهور أهل العلم على أن الزكاة واجبة في مال اليتيم لعموم الأدلة ولهذا الدليل الخاص؛ ولأن الزكاة منوطة بسبب متى وجد هذا السبب وجبت الزكاة، فهو كضمان الجنايات التي تلزم الصغير إذا جنى، وكوجوب النفقة على الصغير في ماله لمن تجب عليه نفقتهم، فلو كان أخ صغير غني وأخ فقير كبير ولا يرثه إلا هذا الأخ الصغير وجبت على الأخ الصغير النفقة مع أنه ليس بمكلف؛ لأنها واجبة في المال، فهذه هي للزكاة أيضًا، وبهذا نعرف الفرق بين الزكاة والصلاة والصوم؛ لأن هذه الأشياء عبادات دينية تتعلق ببدن المكلف، وأما الزكاة فإنها عبادة مالية تتعلق بمال المكلف. الدعاء لمخرج الزكاة: 581 - وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قومٌ بصدقتهم قال: اللَّهمَّ صلِّ عليهم". متفق عليه. قوله: "قوم" أي: جماعة، والقوم تطلق على الرجال فقط، وتطلق على القبيلة فتشمل الذكر والأنثى، ففي مثل قوله تعالى: {إنا أرسلنا نوحًا إلى قومه} [نوح: 1]. يشمل الذكر والأنثى، وفي قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهن} [الحجرات: 11]. خاص بالرجال، ومن قول الشاعر: [الوافر] وما أدري ولست إخال أدري ... أقوم آل حصنٍ أم نساء فجعل النساء مقابل القوم، فيكون المراد بالقوم: الرجال، وهنا "إذا أتاه قوم" الظاهر المراد بهم: الرجال بقرينة الحال، وهي أن الذي يأتي بالصدقات النساء أو الرجال؟ الرجال، "إذا أتاه قوم بصدقة" أي: بزكاتهم، كما مر علينا أن الصدقة تطلق على الزكاة وعلى صدقة التطوع. قال: "اللهم صلِّ عليهم" "اللهم" أي: يا لله، فحذفت "ياء" النداء وعوض عنها الميم تيمُّنا بالبداءة باسم الله، وعوضت عنها الميم للدلالة على المحذوف وصارت ميمًا متأخرة للدلالة على الضم؛ لأن الميم فيها ضم الشفتين، فكأن الداعي جمع قلبه إلى الله وضمه، وقوله: "صل عليهم" الصلاة تطلق على عدة معانٍ، فإذا قلت: صل على فلان؛ أي: ادع له وإذا قلت: "اللهم صلِّ عليه" أي: اللهم أثن عليه في الملأ الأعلى، وهو تفسير أبي العالية رحمه الله وهو أصح من تفسير من فسر الصلاة بالرحمة؛ لأن تفسير الصلاة بالرحمة يبطله قوله تعالى: {أولئك عليهم

صلوات من ربهم ورحمةٌ} [البقرة: 157]؛ لأن الأصل في العطف المغايرة، فعلى هذا فالصواب: أن الصلاة هي ثناء الله على العبد في الملأ الأعلى. فإذا قلت: "اللهم صل على محمد" أي: أثن عليه في الملأ الأعلى، والملأ الأعلى هم الملائكة المقربون. "اللهم صل عليهم" أي: على هؤلاء الذين أتوا بالصدقة، أي: أثنا عليهم في الملأ الأعلى، وإنما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا؛ لأن الله أمره به فقال: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم} [التوبة: 103]. فأمر الله تعالى بالصلاة عليهم وبين الحكمة من ذلك، وهي: أن نفوسهم تسكن وتطمئن؛ لأن المال حبيب إلى النفوس وبذله شاق عليها فإذا دعي لمن بذله سكن واطمأن وانشرح صدره، ولهذا تجد الفرق بين رجلين أعطيت أحدهما هدية أو صدقة فقال: جزاك الله خيرًا وأخلف عليك، والثاني أعطيته الهدية فمد يده وأخذها وسكت فلم يتكلم أيهما الذي يشرح صدرك له؟ لا شك أنه الأول، وإن كان الذي يعطي لله لا يهمه: {أنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} [الإنسان: 9] لكن الآداب والأخلاق أحسن. فيستفاد من هذا الحديث فوائد: أولًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد مأمور ممتثل يطلب الأجر، من أين يؤخذ؟ من كونه يقول: "اللهم صل عليه" امتثالًا لأمر الله: {وصل عليهمّ}؛ إذن فهو عبد يوجه إليه أمر فيمتثله طلبًا لأجره، وهذا كله يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مفتقرًا إلى الله عز وجل وإلى ثوابه وأنه ليس له حق في الربوبية إطلاق، وهذا أمر معلوم عند المسلمين كلهم. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يشرع لمن أعطى زكاة أن يقول لمن أعطاه: "اللهم صل عليه"، إلا إذا خشيت أن يستنكر هذا الأمر فقل هكذا أمر الله نبيه، وتذكر الآية والحديث. فائدة في حكم الصلاة على غير الأنبياء: ومن فوائد هذا الحديث: جواز الصلاة على غير الأنبياء لقوله: "اللهم صل عليهم"، والصلاة على غير الأنبياء تقع على ثلاثة أوجه: الأول: أن تكون تابعة للصلاة على الأنبياء، وهذه جائزة بالنص والإجماع قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد". فصلى عليهم تبعًا. الثاني: أن يخص بها شخص معين كلما ذكر صلي عليه فهذا لا يجوز لأنه يلحقه بالأنبياء عرفا؛ لأن الذي يصلى عليه كلما ذكر: الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي هريرة أن جبريل قال له: "رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك". الثالث: أن يصلى على غير الأنبياء استقلالًا، ولا يجعل شعارا لهذا الشخص المعين، فهذا جائز لا سيما إذا كان بسبب كما في هذا الحديث.

حكم لتعجيل الزكاة

ومن فوائد هذا الحديث: مشروعية مكافأة فاعل المعروف لأنا كفأناه بالدعاء له. ومن فوائده: أن من قام بواجب فإنه لا يكافأ بمثله، ولكن يكافأ بالدعاء له. ومن فوائده: جواز دفع الزكاة إلى الإمام، يؤخذ من دفعها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الإمام، وهل تدفع إلى الإمام مطلقا أو إذا كان عدلًا يصرفها في مصارفها؟ الأخير إذا كان عدلًا يصرفها في مصارفها دفعت إليه وإلا فلا تدفعها إليه، لكن إن أخذها منك أجزأتك وإن لم يصرفها في مصارفها، لأنك مأمور بدفعها إليه عند طلبه وأنت تبرأ ذمتك والإثم عليه. حكم لتعجيل الزكاة: 582 - وعن علي رضي الله عنه: "أنّ العبّاس رضي الله عنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ، فرخص له في ذلك". رواه الترمذي والحاكم. كلا الرجلين من آل النبي صلى الله عليه وسلم علي والعباس لكن أيهما أفضل؟ علي، والعباس هو عم لعلي وعم للنبي صلى الله عليه وسلم. يقول: "أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل" يعني: قبل أن تجب ويأتي وجوبها عند تمام الحول، "فرخص له" رخص، أي: سهل والترخيص في اللغة بمعنى التسهيل، فيكون معنى رخص: سهل له فعجّلها، وقد استدل العلماء بهذا الحديث على أنه يجوز أن يقدم الإنسان زكاة ماله قبل حلولها، ووجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص للعباس، ولو كان هذا غير جائز لمنعه. ويستفاد منه أيضًا: أنه يشرع للإنسان أن يسأل عن أمر دينه؛ لأن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لم يحكم رأيه هنا، وإلا فمن المعلوم عقلًا أن أداء الواجب قبل حلوله أولى من تأخيره لكن لما كانت المسألة مسألة شرعية استأذن العباس النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يفعل، فيؤخذ منه: مشروعية سؤال الإنسان عن دينه قبل أن يقدم على فعل الشيء. ومن فوائد هذا الحديث: أن للزكاة وقتًا تحل فيه لقوله: "قبل أن تحل"، وقد سبق ما يدل على أن حلولها يكون بتمام الحول إلا في أشياء معينة. ويستفاد من الحديث: أنه لا تعجيل لصدقة المال حتى يتم النصاب، وجهه: لأنه قال: "في تعجيل صدقته" وما لم يتم نصابه فليس فيه صدقة، فلو كان عند الإنسان تسعين ومائة درهمًا، وقد سبق أنه لا زكاة فيها إلا أن يشاء فلو أراد أن يعجل زكاة تسعين ومائة عن مائتين درهم، فهذا التعجيل غير صحيح، لأنه تقديم للشيء قبل وجود سبب الوجوب، وتقديم الشيء قبل

وجود سبب الوجوب وجوبه لا يصح كما لو صلى الإنسان قبل دخول الوقت فإن صلاته لا تصح، فهكذا إذا عجّل الزكاة قبل تمام النصاب فإنها لا تصح، لأنه لم يخاطب بها الآن، فهذه الفائدة يدل عليها النص والتعليل، ما هو النصر؟ قوله: "صدقته"، وهو قبل أن يبلغ النصاب ليس فيه صدقة، والتعليل: أنه تقديم للعبادة قبل وجود سبب الوجوب، إذن ماذا نقول لو أن رجلًا قدم زكاة تسعين ومائة عن مائتي درهم، قلنا: لا تجزى فتكون صدقة تطوع، وهذا مبني على قاعدة ذكرها الفقهاء- رحمهم الله- قالوا: ينقلب الشيء نفلا إذا بان عدم وجود سبب الوجوب كمن صلى الظهر قبل أن تزول الشمس ظانا أن الشمس قد زالت ثم تبين أنها لم تزل فإن هذا ينقلب نفلًا، لماذا؟ لأنه نوى عبادة معينة فتبين فساد التعيين فبقي أصل العبادة، ففي صلاة الظهر وهى أبين من مسألة الزكاة صلى الظهر قبل الزوال بنية أنها فريضة الظهر صلاته هذه مشتملة على بيتين كل نية داخل النية وهما نية الصلاة وأنها الظهر تبين أن الظهر لا تصح، لأنها قبل الوقت فبقيت نية الصلاة، نعم لو فرض أنه يعلم أن الوقت لم يدخل ونوى بهذه الصلاة الظهر، فإنه لا تصح صلاته، لا فرضنا ولا نفلًا، لأنه متلاعب بل نقول إنه للإثم أقرب منه إلى السلامة لأن هذا نوع من اتخاذ آيات الله هزوًا. ويستفاد من الحديث: جواز تعجيل صدقة المال قبل أن تحل بشرط أن يكون قد بلغ النصاب وإلا فلا تصح. ومن فوائد هذا الحديث: أن التعجيل رخصة وليس بسنة لقوله: "فرخص له". فإن قلت: أليس تعجيل الذين قبل وجوبه من باب حسن الأداء يعني: لو كان عليك دين لزيد مائة ريال تحل بعد شهر فأديتها في عشرة أيام أليس هذا أطيب وأفضل؟ نعم، فلماذا لا يكون تقديم الزكاة أفضل وأطيب؟ لأن الدّين قد وجب ولزمك، أما الزكاة فإنها لم تجب، لأنه من الجائز أن هذا المال يتلف أو ينقص عن النصاب فلا تجب عليك الزكاة، ولهذا كان تأخير الزكاة إلى وقت الوجوب أفضل من التعجيل، وهذه قد يلغز بها ظاهرًا لكن عند التأمل ليس فيها لغز، وهي أن يقال: حق واجب كان تأخيره أفضل من تقديمه مع جواز التقديم، أما لو لم يجز فالأمر واضح نقول: هذا هو الزكاة فإن تعجيلها من باب الجواز لا من باب الأفضلية، ولهذا قال: "فرخص له". ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهره أنه يجوز أن يعجل الزكاة لسنة وسنتين وثلاث وأكثر؛ لأن الحديث مطلق ليس فيه قيد، ولكن المشهور عند أهل العلم أنه مقيد، واستدلوا لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم حين قيل له: إن العباس منع الزكاة فقال: "وأما العباس فهي علي ومثلها"،

زكاة الحبوب والثمار

وفسروا ذلك بأن العباس قد قدم زكاة سنتين فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وهي علي ومثلها"، كأنه قال: فهي عندي ومثلها، ولكنه سبق لنا أن القول الراجح في هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضمن زكاته لكنه ضاعفها؛ لأن الرجل من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فضاعف عليه الغرام، وهو نظير قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين ينهى الناس عن الشيء يجمع أهل بيته، ويقول: إني نهيت الناس عن كذا وكذا فلا أرى أحدًا منكم فعله إلا ضاعفت عليه العقوبة لماذا؟ لأن قريب السلطان قد يتجرأ على المعصية لقربه من السلطان يستخدم قربه من السلطان لإقدامه على المعصية فيضاعف عليه الغرام، المشهور من المذهب أنه لا يجوز أن تقدم أكثر من سنتين، وما دامت المسألة فيها اشتباه فالأولى ألا تقدم أكثر من سنتين؛ لأن الأصل أن الزكاة لا تجب إلا إذا حل وقتها، فتقديمها عليه رخصة، ولم يرد أن العباس عجل أكثر من سنتين فيقتصر فيه على ما ورد. ومن فوائد هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين، لو قال قائل: هل يمكن أن يؤخذ من هذا الحديث أن العباس لم يعجل إلا صدقة واحدة عن عام واحد؟ قد يقول قائل: إننا لا نسلم أن في الحديث دليلًا على أنه لا يجوز أن تقدم أكثر من سنة؛ لأن الكلام واضح صدقته قبل أن تحل وإن كان الاحتمال الأول قائمًا؛ لأن الصدقة مفرد، وإذا أضيف المفرد كان للعموم، على كل حال أهل العلم نصوا على أنه لا يجوز تعجيل الزكاة إلا لسنتين فأقل. وقد يؤخذ من الحديث: فضل العباس؛ لأن الظاهر أن العباس ما طلب هذا إلا لمصلحة يراها كرجل طلب معونة للزواج في هذه السنة وهو محتاج وزكاتنا هذا العام فقط لا تكفيه فتقدم زكاة العام القادم، فهذا فيه مصلحة للمعطي فلا حرج وهذا قد يكون أفضل، وهل يدخل في ذلك جواز تقديم زكاة الدين قبل قبضه؟ رجل له دين على شخص وقال: أنا أريد أن أحصي مالي عينه ودينه وأخرج زكاته الآن فهذا يجوز؛ لأن تأخير إخراج زكاة الدين من باب الرفق بالمكلف، وإلا فالأصل أن زكاته واجبة بتمام الحول، نوضح أكثر بمثال: رجل بيده الآن (10000) تم حولها، وله في ذمة زيد (10000) تم حولها، أما العشرة التي بيده فزكاتها واجبة ولا إشكال فيها، والعشر التي في ذمة زيد هل يجب عليه إخراج زكاتها لا يجب، لأنه لم يقبضها فملكه عليها غير تام، لكن لو أخرجها مع زكاة العشرة التي في يده كان ذلك جائزا لا حرج فيه. زكاة الحبوب والثمار: 583 - وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقًة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقًة، وليس فيما دون خمسة أو سق من التمر صدقة". رواه مسلم.

584 - وله من حديث أبي سعيد رضي الله عنه "ليس فيما دون خمسة أو سق من تمر ولا حب صدقة". وأصل حديث أبي سعيد متفق عليه. 585 - وعن سالم بن عبد الله، عن أبيه رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًا: العشر، وفيما سقي بالنضح: نصف العشرة". رواه البخاري. - ولأبي داود "أو كان بغلًا العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح: نصف العشر". الحديث الأول يقول: "ليس فيما خمس أواق من الورق صدقة" الورق هو الفضة، والأواق جمع أوقية، وهنا التنوين في قوله: "خمس أواقٍ" هل هو تنوين إعراب، أو الإعراب على الياء المحذوفة؟ الثاني، وهذا التنوين والكسر ليس إعرابًا. وقوله صلى الله عليه وسلم "خمس أواق" الأوقية: أربعون درهمًا، فكم تكون الخمس؟ تكون مائتي درهم، وقد سبق في حديث أنس الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر"، وما كان دون ذلك ليس فيه صدقة. وقوله: "وليس فيما دون خمس ذوي من الإبل صدقة"، "الذود" كالرهط لكنه يختص بالإبل، والرهط يختص بالبشر، إذن ذود يقال لما بين الاثنين والعشرة- يعني: ثلاثة إلى تسعة- كل هذا ذود، فإذا قال: "خمس ذود" فهو من باب إضافة العدد إلى المعدود لا باعتبار دلالة اللفظ كما لو قلت: عندي خمسة رهط، قد يكون العدد خمس رجال ليس خمسة رهط أي خمسة عشر رجلًا، ولهذا توجد روايتان للحديث: "ولا ما دون خمس ذوده" وعلى هذه الرواية لا إشكال لأن الذود يطلق على الخمس وعلى الثلاث والأربع والسبع والثمان والتسع، فيقول: "دون خمسة" مجرورة بإضافة "دون" إليها، و"ذود" بدل منها هذا بالتنوين، أما بالإضافة فالمراد بـ "خمس ذود": أي خمس من هذا النوع الذي هو الإبل، وقد سبق أن الخمس فيها شاة. "وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة"، "الأوسق" جمع وسق بالفتح، و"الوسق": الحمل؛ لأنه يوسق ويربط، وكان الوسق الحمل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ستون صاغًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم الذي زنته ألفان وأربعون غرامًا، يعني: إذا قلنا: الوسق ستون صاعا يكون خمسة أوسق ثلاثمائة صاع، فنضرب ثلاثمائة صاع في ألفين وأربعين يكون ستمائة وأثنى عشر ألف غرام، كم يكون قدره بالكيلو؟ كيلوان وستمائة غرام

مسألة: اختلاف العلماء في نصاب الفضة

استدراك: ومن فوائل حديث علي: جواز تعجيل الصدقة، دليله: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعمه العباس أن يؤجلها. ومن فوائده أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المرجع في الأحكام؛ لأن الصحابة كانوا يرجعون إليه فيسألونه كما سأله العباس. ومنها: أن الأصل أن الزكاة لا تدفع إلا وقت حلولها، ولولا ذلك ما احتاج العباس أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم. قد يقول قائل: إذا جاز التعجيل جاز التأخير. نقول: لا؛ لأن التعجيل فيه فائدة للمستحقين للزكاة أمّا التأخير فهو ضرر على الدافع والمدفوع إليه، فإن المال قد يتلف ويتعلق الشيء بذمة من وجب عليه. ومنها: جواز التعبير بالرخصة فيما لم يرد فيه المنع لقوله: "فرخص له" لكنه يتوهم المنع؛ لأن الأصل أن الزكاة لا تدفع إلى عند حلولها. أما حديث جابر فمن فوائده: حكمة الشارع في إيجاب الزكاة، حيث لم يوجب الزكاة في كل قليل وكثير، لأنها لو وجبت في كل قليل وكثير لأرهقت الأغنياء، ولو لم تجب إلا في الأموال الكثيرة الطائلة لضاع حق المستحقين لها، فمن حكمة الشارع أنه قدر أنصبة مناسبة للمال كما ستشاهدون. مسألة: اختلاف العلماء في نصاب الفضة ومنها: أن نصاب الفضة مقدر بالوزن لقوله: "ليس فيما دون خمس أواق"، وحينئذ نحتاج إلى الجمع بين هذا الحديث وحديث أنس السابق الذي قدر فيه النصاب بالعدد، فهل نعتبر العدد ولو زاد في الوزن أو نقص، أو نعتبر الوزن ولو زاد العدد أو نقص؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، فمنهم من اعتبر الوزن احتجاجًا بهذا الحديث؛ لأن الحديث في النهي: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة"، فما دون الخمس ولو بلغ مئات الدراهم ليس فيه صدقة، وهذا هو المشهور من ملهب الإمام أحمد، بل هذا الذي عليه جماهير أهل العلم بل حكي فيه الإجماع، على أن المعتبر الوزن في هذا الحديث؛ لأن هذا فيه نفي: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة"، ولكن حديث أنس أيضًا نفي فإن فيه: "فإن لم يكن إلا تسعون ومائة. فليس فيها صدفة إلا أن يشاء ربها". فعلى هذا نقول: إن هذا الحديث مقدم على الحديث الآخر الذي اعتبر فيه العدد، وقال آخرون- وهم قلة، ولكن منهم شيخ الإسلام ابن تيمية-: إن المعتبر العدد وأن مائتي درهم فيها

ربع العشر قال ما فيها من الفضة أم كثر حتى لو بلغت عشر أواق فإن هذه إذا نقصت عن المائتين فليس فيها زكاة، وهذا مبني على ما سبق من حديث أنس وهو متفق عليه، وهذا أيضًا متفق عليه. ويمكن أن يجاب بأن يقال: في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت الدراهم المائتان كانت خمس أواق، وعلى هذا فلا خلاف بين الحديثين، أما نحن فإذا اختلف الوزن والعدد فإننا نقدم القاعدة بأن نقدم الأحب للفقراء، فإن كان الأحب العدد أخذنا به، وإن كان الأحب الوزن أخذنا به. والحديث الثاني حديث أبي سعيد: "ليس فيما دون خسة أوسق من تمر ولا حب صدقة"، "دون" بمعنى: أقل، و"خمسة أوسق"؛ أي: خمسة أحمال: لأن الوسق الحمل، سمي بذلك: لأنه يوسق على الناقة ويربط، وكل حمل عند العرب معروف ستون صاعا، فتكون الخمسة ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وصاع النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ كيلوين وأربعين غرامًا، فاضرب ثلاثمائة في كيلوين وأربعين غرامًا حتى يتبين لك مقدار النصاب بالغرامات وهو حوالي ستمائة واثني عشر غرامًا، هذا هو نصاب التمر، والحبوب أيضًا. وقوله: "ومن تمر ولا حب" الحب معروف، لكن هل هو الحب الذي يكون مطعومًا ومقتاتًا، أو كل حب؟ في هذا خلاف، والأقرب أن المراد به: الحب الذي يقتات ويدخر، فكل مكيل من تمر أو حب ففيه الزكاة ولا زكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق، أي: ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم. نستفيد من هذا الحديث: حكمة الشارع في عدم وجوب الزكاة في القليل، لأنه لو أوجب الزكاة في القليل لكان في ذلك إجحاف على الملاّك، ولو جعل الأمر لا حد له لكان في ذلك إهدار بحق أهل الزكاة، ولو جعل الأمر موكولًا على الناس لاختلف الناس في البذل والمنع؛ لأنا نعرف أن من الناس من هو كريم يبذل من القليل الكثير، ومن الناس من هو بخيل يمنع القليل من الكثير فلما كان الناس يختلفون في ذلك في تقدير المال حدده الشرع قطعًا للنزاع وضبطًا للواجب، إذن النصاب لا يرجع للعرف، وإنما يرجع إلى الشرع، فلو قدر أننا في زمن تكون ثلاثمائة صاع شيئًا قليلًا لا يؤبه له ولا يعد مقتنيها غنيًا فتجب الزكاة ولو كنا في وقت مائة الصاع تعتبر مالًا كثيرا، ويعد مالكها من الأغنياء، فإن الزكاة لا تجب فيها، فمن ثم حدد الشارع النصاب حتى لا يختلف الناس في وجوه الزكاة، وهناك أشياء أيضًا محددة من جنس هذا التحديد كصدقة الفطر وكصاع المصراة من الإبل أو الغنم إذا وجدها المشتري مصراة؛ أي: محبوسًا لبنها حتى يراها المشتري كثيرة اللبن فإن له الخيار بعد أن يحلبها ثلاثة أيام إن شاء أبقاها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من التمر، الصاع من التمر ليس عوضًا على ما أخذه من اللبن في هذه المدة لكنه عوض عن اللبن الموجود في الضرع حين العقد؛ لأنه هو الذي وقع

عليه العقد، أما ما بعد العقد فإنه نماء للمشتري كما سيأتي في كتاب البيوع، وإنما قدره الشارع بصاع قطعًا للنزاع وصار من التمر؛ لأن التمر أقرب ما يكون شبهًا باللبن لحلاوته والتغذي به، المهم: أن النصاب من الحبوب والثمار ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، ما دون ذلك فليس فيه صدقة، وهل نقول: "إلا أن يشاء ربه"؟ الجواب: نعم نقول: إلا أن يشاء ربه، يعني: على أن يتصدق منه لا على أنها زكاة فلا يمنع. والحديث الثالث: عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا" العشر". هذه جملة خبرية سبق فيها الخبر على المبتدأ، الخبر هو قوله: "فيما سقت السماء"، والمبتدأ قوله: "العشر". "وفيما سقي بالنضح نصف العشر"، "بالنضح"؛ أي: بالسواني، وشبهها نصف العشر، يعني: واحد من عشرين، والأول العشر واحد من عشرة. ولأبي داود: "إذا كان بعلًا العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر". ففي هذا الحديث بيان مقدار الواجب لا مقدار ما فيه الواجب؛ لأن مقدار ما فيه الواجب سبق في حديث أبي سعيد وجابر، لكن هنا بيان مقدار الواجب، فما هو الواجب في الحبوب والثمار إذا بلغت النصاب؟ الواجب يختلف "إذا كان بعلًا" يشرب بعروقه أو كان يشرب بالمطر أو كان يشرب بالعيون الجارية وكذلك بالأنهار فهذا فيه العشر كاملًا؛ لأن المؤنة فيه قليلة ليس على مالكه إلا أن يصرف الماء إذا كان يسقى بالعيون أو يسقى بالأنهار، وأما ما كان يسقى بمؤنة بمعنى: أنه يحتاج في استخراج الماء إلى مؤنة عند السقي هذا فيه نصف العشر، يعني: واحدًا من عشرين لكثرة المؤنة والتعب عليها. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء"، "ما" هذه عامة في النوع والقدر "فيما سقت"، فيقتضي وجوب الزكاة في كل ما سقته السماء، أو الذي سقي بالعيون، أو كان بعلًا يشرب بعروقه كل شيء التمر، والحبوب، والبطيخ، وكل شيء لأنه شامل، "فيما" عام في قدره، "فيما سقت السماء" يقتضي لو أن الإنسان ملك من البعل مائة صاع من البر لوجب عليه الزكاة، لأنه يصدق عليه أنه كان بعلًا فشرب بعروقه، فهل هذا الحديث على عمومه من الوجهين أي: النوع والقدر؟ الجواب لا، كيف؟ يخصصه حديثي جابر وأبي سعيد في النوع وفي القدر، إذ إن حديثي جابر وأبي سعيد يدلان على أنه ليس فيه زكاة إذا كان دون خمسة أوسق، ويدلان أيضًا على أن الزكاة إنما تجب فيما يوسق ويحمل وهو الحبوب والتمر، وأما ما لا يحمل ولا يوسق كالبطيخ والفاكهة وما أشبه ذلك فليس فيه زكاة، وعلى هذا فالحديث مخصوص بوجهين وهما النوع والقدر.

فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد أولًا: وقوع التخصيص في النصوص وأن بعضها يخصص بعضا، فإن قلت: كيف يخصص بعضها بعضا مع الانفصال، ولو كان المخصص متصلًا مثل: "قام القوم إلا زيدا" لكان الأمر واضحًا، لكن هنا منفصل ذاك حديث، وهذا حديث فكيف يصح التخصيص مع الانفصال؟ الجواب: لأن المتكلم بهما واحد، والشرع لا يختلف ولا يتناقض، ولو أننا قلنا بعدم التخصيص لتناقض في الصورة التي لا يجتمعان فيها: فإذا قلنا بتخصيص العام اتفق في الصورة المعينة التي وقع فيها التخصيص، لكن لو أني تكلمت بكلام عام ثم جاء واحد آخر يتكلم بكلام خاص فهو لا يستطيع أن يخصص كلامي؛ لأن المتكلم مختلف، أما والمتكلم واحد والشرع لا يتناقض فإن القول التخصصي واجب وهو واقع. ويستفاد من هذا الحديث: حكمة الشرع حيث فرق بين ما يسقى بمؤنة وما يسقى بلا مؤنة، فجعل الذي يسقى بمؤنة فيه على النصف مما يسقين بلا مؤنة. ويستفاد: حكمة الشرع أيضًا من وجه آخر، فإنه لما كانت الزروع أقل كلفة من الاتجار بالدراهم والدنانير جعل الشرع فيها نصف العشر أو العشر بخلاف الدراهم والدنانير وأموال التجارة ففيها ربع العشر؛ لأن تنمية تلك أصعب وأشق، فالدراهم والدنانير إن لم تحركها لا تنمو ولا تستفيد منها فلو أوجبنا نصف العشر لكانت تتلف عليه بسرعة، وأما عروض التجارة فتنمو لكنها تنمو نموًا بطيئا خفيفا، ونمو الثمار والحبوب أسرع، إذ إنه ربما يكسب الإنسان في خلال ستة أشهر تكون المائة سبعمائة أو أكثر: {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة} [البقرة: 261]. كم تكون الواحدة؟ سبعمائة، فالنمو فيها ظاهر جدًا لذلك أوجب الشرع فيها العشر إذا كان لا يحتاج إلى مؤنة في سقيه، ونصف العشر إن كان يحتاج إلى مؤنة في سقيه، إن كان يسقى أحيانًا بمؤنة، وأحيانًا بلا مؤنة اعتبرنا الأكثر، فإذا كان مثلًا يسقى بمؤنة ثمانية أشهر، وبلا مؤنة أربعة أشهر اعتبرنا الأكثر، إلا إذا كانت هذه الأربعة في انتفاء الزرع أكثر من ثمانية فإننا حينئذ نرجع إلى الأنفع، فصار إذا كان يسقى بهذا وبهذا تعتبر الأكثر قدرًا؛ لأن الأكثر قدرًا منضبط ثمانية أشهر، أربعة، تسعة أشهر وثلاثة، وذلك إذا كان الزرع يبقى سنة، فإن كان ستة أشهر فعلى النصف أربعة أشهر وشهرين

أنواع الحبوب التي تجب فيها الزكاة

أنواع الحبوب التي تجب فيها الزكاة: 586 - وعن أبي موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما: "لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر". رواه الطبراني والحاكم. "الشعير" معروف هو حب يكال ويقتات، و"الحنطة" حب يكال ويقتات لكنهما نوعان مختلفان، فيكون هذان النوعان المختلفان يتخذهما الناس قوتا، فعليه نقول: كل ما كان قوتا ففيه الزكاة، وظاهر الحديث أنه لا فرق- إذا جعلنا هذه العلة- بين ما يكال وما لا يكال، وإذا قلنا: إنه خاص بهذه الأشياء بنوعها، فإنه يبطله حديث جابر وأبي سعيد السابقين، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر صدقة"، وهذا صريح في أن الزكاة تجب في التمر مع أنها ليست من هذه الأصناف الأربعة، فيكون الحصر هنا حصر جنس أو نوع وليس حصر شخص، يعني: لا تأخذها إلا في هذه الأشياء وما كان نظير لها، أيضًا الزبيب لأنه مأخوذ من العنب فهو يكال ويدخر بعد أن يكون زبيبًا، والتمر يكال ويدخر بعد أن يكون تمرًا قبل أن يكون رطبًا، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم عد هذه الأصناف الأربعة ثم ألقينا الضوء عليها وجدنا أنها قوات للناس تكال وتدخر فعليه تجب الزكاة في كل قوت يكال ويدخر. فقولنا: "في كل قوت"، خرج به ما ليس بقوت مثل حب القت الذي يسمى البرسيم، الحب الذي يفصص هل تجب فيه الزكاة لو جمع الإنسان من هذا الذي يسمونه الفصفص فلا تجب فيه الزكاة، لأنه ليس قوتًا، فالصحيح أن الحد فيما تجب فيه الزكاة مما تخرجه الأرض أنه ما كان حبًا أو ثمرا يقتات ويدخر، لأنك إذا تأملت هذه التي يجب فيها الزكاة وجدتها كذلك، ولا بد من اعتبار التوسيق لقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق"، فلا بد أن يكون مما يوسق ويكال، وأما ما لا يوسق ولا يكال فهو وإن كان قونًا ويدخر فليس فيه زكاة، فإنه يوجد بعض الفواكه يكون قوتًا عند أهله وربما يدخرونه لا سيما بعد وجود الآلات المبردة ومع ذلك نقول: ليس فيه زكاة. "الزبيب" هو العنب إذا جف، ولكن اعلم أن العنب ينقسم إلى قسمين: قسم لا يمكن أن يأتي منه زبيب أبدا مثل العنب البلدي هنا، وقسم آخر يمكن أن يكون زبيبًا، فأيهما أشبه بتمر النخل؟ الأخير أشبه بتمر النخل، وأما الأول فأشبه بالفواكه، لأنه لا يؤكل إلا طريًا ولو يبس لفسد

خرص الثمر قبل نضوجه

ولم يؤكل، ولكن مع ذلك ذهب بعض العلماء إلى أنه تجب الزكاة فيه وإن لم يكن زبيبًا؛ لأن هذا يعتبر نادرا، فإن أكثر الأعناب- ولا سيما الأعناب الخارجية- تكون زبيبًا، وبناء على ذلك يوجد من الرطب ما لا يصلح لو جعل تمرًا. فهل نقول: إن هذا يقاس على العنب الذي لا يتأتى منه زبيب فلا تجب فيه الزكاة؟ الجواب: لا؛ لأن هذا نادر جلا، والتمر حتى وإن كان لا يؤكل إلا رطبًا، فإنه لو بقي ويبس انتفع به بخلاف العنب الذي لا يزبب، ووجوب الزكاة في العنب الذي لا يزبب عندي فيه نظر، والأقرب عندي أن الزكاة لا تجب فيه، وأنه من جنس الخضروات والفواكه، فكما أن البرتقال والتفاح والمشمش وما إلى ذلك لا زكاة فيه فهذا أيضًا لا زكاة فيه. - هل تجب الزكاة في التين؟ قال بعض العلماء: لا تجب في التين، لأنه إنما يؤكل طريا على أنه فاكهة، وقال آخرون- وهو اختيار شيخ الإسلام-: بل تجب الزكاة فيه؛ لأن التين يؤكل طريا ويدخر، وقد حدثنا من سابقنا في السن أنهم كانوا فيما سبق يدخرون التين ويكنزونه كما يكنز التمر تماما 587 - وللدارقطني عن معاذ رضي الله عنه قال: "فأما القثاء، والبطيخ، والرمان، والقصب، فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإسناده ضعيف. ولكن هذا النفي قد يستفاد من قوله: "لا تأخذ الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة"؛ لأن هذه الأصناف الأخيرة القثاء- هو عبارة عن الخيار أو يشبهه-، وأما البطيخ فهو عام يشمل كل ما يؤكل خضرا، وأما الرمان فواضح معروف، والقصب هو قصب السكر، هذا ليس فيه شيء؛ لأنه لا يكال ولا يدخر. خرص الثمر قبل نضوجه: 588 - وعن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرصتم فخذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدّعوا الثلث، فدعوا الربع". رواه الخمسًة إلا ابن ماجه، وصححه ابن جبان والحاكم. قوله: "إذا خرصتم" هو تقدير الشيء على سبيل التخمين والتحري؛ لأن تقدير الشيء إما أن يكون بالمكيال، أو الميزان، أو العد، أو الذرع، وهذا يكون تقديرا متيقنًا، مثل أن تذرع هذا

الحبل فيبلغ عشرة أمتار، تزن هذا الشيء فيبلغ عشرة كيلوات، تكيل هذا الشيء فيبلغ عشرة آصع، هذا يكون تقديرا متيقنًا إذا لم تفعل هكذا، ولكن قدرته فيسمى هذا خرصًا، والخرص معتبر فيما يتعذر فيه اليقين، أو يتعسر، بناء على القاعدة المعروفة عند أهل العلم، والتي دل عليها الشرع: "أنه إذا تعذر اليقين عملنا بغلبة الظن". "إذا خرصتم" معناه: قدرتم الشيء على سبيل التحري والتخمين، وما الذي يخرص؟ هو الثمار كالعنب والتمر؛ لأن الثمرة فيها ظاهرة بارزة فيخرص، وأما الزروع فقال العلماء: إنها لا تخرص لأن الحب المقصود مستتر بالسنابل، فلا تمكن الإحاطة به، فخرصه لا يكون على سبيل التحري؛ لأن التحري فيه متعذر، أو متعسر؛ ولهذا قالوا: لا تخرص الزروع، حتى إن بعض أهل العلم حكى الإجماع على أن الزرع لا يخرص، والعمل الآن على خلاف ذلك فإن الناس يخرصون الزروع، ويقولون: إن أهل الخبرة يقدرون ذلك بالتحري والتخمين كما يقدرون ذلك بالثمار، ولا شك أن التقدير في الثمار أقرب إلى اليقين؛ لأن الثمرة مشاهدة في العنب أو في التمر بخلاف هذا، إذن الذي يخرص الثمار فقط من التمور والأعناب. وقوله: "فخذوا ودعوا الثلث"، "خذوا" أي: خذوا ما يجب فيها من الزكاة، ففي ألف كيلو فيما يسقى بمؤنة نصف العشر خمسمائة كيلو، وفيما يسقى بلا مؤنة العشر مائة كيلو، لكن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "دعوا الثلث" هل المراد: دعوا الثلث من أصل المال فلا تأخذوا عنه زكاة، أو دعوا الثلث أي: مما يؤخذ حتى يؤديه صاحبه؟ فيه احتمالان في الحديث، وهما قولان لأهل العلم؛ لأن كلمة: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث" ظاهر الحديث يقول: "دعوا الثلث" من الواجب، لماذا؟ يبقيها للمالك، لأنه ربما يكون لديه أناس من أقاربه من أهل الزكاة فيعطيهم، أو أناس من أصحابه من أهل الزكاة فيعطيهم، فجعل الشارع ثلث الواجب باقيا للمالك يتصرف فيه كما يشاء يعطيه لمستحقه؛ لأننا لو أخذنا منه الكل، وكان له أقارب أو جيران أو أصدقاء ينظرون إلى ملكه في ثماره، ثم يحرمهم من زكاته كان في نفوسهم شيء من ذلك، فجعل الشرع له الثلث، وهذا الذي فسرنا به الحديث هو الذي يوافق ما سبق في الأحاديث في قوله: "فيما سقت السماء العشر"، لأننا لو فسرنا الحديث على الاحتمال الثاني الذي هو أن ندع ثلث الزكاة فلا تجب عليه لكان فيما سقت السماء ثلثا العشر، وفيما سقي بالنضح ثلث العشر، فجمعًا بين الأحاديث نقول إن المراد بقوله: "دعوا الثلث" أي: دعوا الثلث من الواجب يؤديه المالك حتى تبقى عموم الأحاديث على ما هي عليه، ويكون هذا له وجه من النظر، وهو تفسير يحتمله الحديث: "دعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربعة". قوله: "فإن لم تدعوا الثلث" هل هذا على سبيل الخيار المطلق للسعاة الذين يأخذون الزكاة

ويخرصونها؟ يعني: إن لم تختاروا ترك الثلث فدعوا الربع، نقول: لدينا قاعدة وهي أن كل ما جعل فيه الخيار لشخص عن طريق الولاية أو التصرف لغيره فالواجب عليه اتباع الأصلح، بخلاف ما جعل فيه الخيار مما يتصرف لنفسه فهذا يتبع ما يراه أسهل على ما يرى، أما ما جعل له الخيار فيه عن طريق الولاية أو التصرف للغير فالواجب عليه أن يتبع الأصلح. "إن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" يعني: إن رأيتم المصلحة في عدم ترك الثلث فاتركوا الربع، فما هي المصلحة؟ أما على الاحتمال الأول الذي يقول: "دعوا الثلث" يعني: لا يجب عليه بذله، فيقولون: إن السعاة ينظرون إلى هذا الرجل، إذا كان هذا الرجل مضيافا كريما يبذل كثيرًا من ماله للضيوف فهنا يترك له الثلث، وإن كان بالعكس فيترك له الربع، كذلك لو كان النخل قد أصيب بجوائح، أو كان هناك أتعاب أكثر في هذه السنة على سقيه ونحو ذلك فيترك له الثلث وإلا ترك له الربع. والاحتمال الثاني، نقول: إذا كان هذا الرجل حوله أناس كثيرون فقراء من أهل الزكاة فإننا نترك له الثلث، وإلا تركنا له الربع، فأيا كان، فإن هذه مرجعة إلى ما تقتضيه المصلحة. يستفاد من هذا الحديث: ثبوت الخرص في الثمار لقوله: "إذا خرصتم فدعوا"، ووجه ثبوته: أنه لما علق على الخرص أحكامًا كان ذلك دليلًا على نفوذها؛ لأن غير النافذ لا يترتب عليه أحكام لأنه يلغى من الأصل، فلما رتب عليه الأحكام علم أنه نافذ وصحيح. ومن فوائد الحديث: تيسير الشرع على العباد؛ لأن الخرص أسهل من التقدير بالكيل، إذ أنا لو اعتبرنا التقدير بالكيل لزم من ذلك أن يجزه صاحب المال- يعني: صاحب الثمرة-، ثم ييبس، ثم يكيل، ثم يعرف الواجب، وهذا فيه صعوبة ومشقة، فالخرص لا شك أنه من التيسير. ويستفاد منه: أنه إذا تعذر اليقين أو تعسر رجعنا إلى غلبة الظن، وهذا له نظائر في الشرع منها ما سبق في حديث ابن مسعود في الشك في الصلاة يقول: "فليتحر الصواب ثم يبني عليه" هذا أصل يشهد لهذا الحديث. والأمر بالخرص كاستعمال القرعة عند الحاجة إليها، فإن القرعة بلا شك فيها تعيين المستحق على سبيل التحري، فإنه لو اجتمع شخصان فأكثر في حق من الحقوق واستويا ولم يمكن التمييز بينهما فإننا نجري القرعة، وقد ذكرت القرعة في القرآن مرتين في قصة يونس: {فساهم فكان من المدحضين فألتقمه الحوت وهو مليم} [الصافات: 141، 142]. وفى قصة مريم: {وما كنت لديهم إذ يختصمون} [آل عمران: 44].

أما في السنة فقد وردت أيضًا في عدة مواضع تبلغ حوالي ستة مواضع، لماذا رجعنا إلى القرعة وفيها نوع من الميسر؛ لأن الإنسان قد يكون فيها غارمًا؟ نقول: لأنه لما تعذر التمييز على سبيل اليقين رجعنا إلى غلبة الظن، هذا الحديث يمكن أن يكون من جملة الأصول التي تدل على أنه إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن. ومن فوائد الحديث: أنه يجب أن يترك لرب المال الثلث أو الربع على حسب ما تقتضيه المصلحة ويقتضيه نظر الساعي؛ لقوله: "فخذوا ودعوا". ومنها: وجوب أخذ الزكاة من أهل الثمار، وهذه الفائدة قد يكون فيها مناقشة، إذا قلنا: "وجوب"، من أين يؤخذ؟ من قوله: "فخذوا" هذا أمر، ولكن قد يقول قائل: إن المراد بذلك الإباحة، يعني: بيان ما يؤخذ، وليس على سبيل الإلزام، وأن الساعي لو رأى من المصلحة ألا يأخذ الزكاة من هؤلاء بل يبين المقدار ويدع الأمر إلى إيمانهم لكان ذلك جائزًا، ولكن على كل حال إبقاء الحديث على ظاهره وأنه يؤمر بأن يأخذ أولى، لأنه لو لم يأخذ لكان بعث السعاة وتعبهم وعملهم مشقة بدون فائدة. ومن فوائد الحديث: أن ترك الثلث أو الربع موكول إلى الساعي فيجب عليه أن ينظر نحو الأصلح. ومن فوائد الحديث: مراعاة الأحوال أنه من الحكمة أن تراعى الأحوال، وهذا شيء مستقر في النفوس، وأن الشرع يراعي الأحوال حتى إنه ليجب على الشخص ما لا يجب على غيره ويحرم عليه ما لا يحرم على غيره، ويلزم بما لا يلزم به غيره حسب ما تقتضيه العلل الشرعية. ومن فوائد الحديث الأول: "لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف": أن الزكاة لا تجب إلا في هذا الأصناف الأربعة، لأنه قال: "لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف"، وهذا مذهب كثير من أهل العلم أنها لا تجب إلا في هذه الأصناف، ولكن هل هذا الحصر حصر عين أو حصر وصف؟ إن قلنا: إنه حصر عين، فمعناه: أنها لا تجب الزكاة في غير هذه الأربعة فقط فلا تجب في الرز، ولا في الدرة، ولا في الدخن، ولا في غيرها، وإن قلنا: إنها حصر وصف صار ما يماثلها ملحقا بها تجب فيه الزكاة مثل الرز والذرة والدخن وغيرها من الحبوب التي تقتات وتدخر، وذكرنا أن القول الراجح والأحوط هو أن هذا المذكور حصر- وصف لا حصر عين. ويرى بعض العلماء أنه حصر عين ويقول: إنه لا يجب أن نلزم الناس ونغرمهم في أموالهم بشيء ليس فيه دليل بيان؛ لأن اخذ المال كإسقاط المال، يعني: أخذ المال من الأغنياء وهو لا

يجب عليهم، كإسقاطه عنهم وحرمانه الفقراء، والأصل براءة الذمة؛ لأن هنا هل الاحتياط أن تلزم بالزكاة احتياطا لأهل الزكاة أو لا نلزم احتياطا لحماية أموال الناس؟ فقد تعارض الاحتياطان، قالوا: وإذا تعارض الاحتياطان تساقطا ورجعنا إلى الأصل، وهو أن الأصل براءة الذمة، هذا وجه من رجح القول بأن هذا الحصر حصر أعيان، لكن المشهور عند أكثر أهل العلم أنه حصر أوصاف. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإمام الموجه للسعاة أن يبين لهم ما تجب فيه الزكاة مما لا يجب حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم لقوله: "لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأصناف"، وهكذا شأن كل من ولى أحد على ولاية أن يبين له ما يجب عليه فيها حتى تقوم عليه الحجة وتبرأ ذمة المولى. 589 - وعن عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيبًا"". رواه الخمسة، وفيه انقطاع. قوله: "كما يخرص النخل" يعني: ثمر النخل، والعنب ثمر العنب، وسبق لنا أن معنى الخرص هو الظن والتخمين، وأنه عمل به لدعوة الحاجة إليه كما أمر بالقرعة لدعوة الحاجة إليها. وقوله: "كما يخرص النخل" هذه تشبيه للأصل بالأصل، وإلا فمعلوم أن خرص العنب في الغالب أشق من خرص النخل؛ لأن بروز ثمرة النخل واضح، لكن العنب خفي يختفي بالأوراق فهو يحتاج إلى عناية أكثر وإلى ضبط أكثر. وقوله: "تؤخذ زكاته زبيبًا" يعني: لا عتبا؛ لأن الزبيب هو الذي يدخر، أما العنب فإنه يفسد. وظاهر الحديث: أن العنب الذي تجب زكاته هو ما يكون زبيبًا، وأما العنب الذي لا يزبب فإن العلماء اختلفوا فيه؛ فمنهم من ألحقه بالفاكهة والخضروات، ومنهم من ألحقه بالذي يزبب، وقال: إنه يقدر زبيبًا، لم يذكر في الحديث نصاب الزبيب، ولكنه ملحق بثمر النخل، وقد يشعر قوله: "كما يخرص النخل" بذلك، وأن نصابه كنصاب النخل، وهو هكذا يقينا فيما عدا ثمار النخل، وثمار العنب هل يخرص أو لا مثل الزروع؟ تقدم لنا أن في المسألة خلافًا، وأن أكثر أهل العلم، بل حكي إجماعا أن الزرع لا يخرص، وعللوا ذلك بأن المقصود منه مستتر بقشوره فلا تمكن الإحاطة به، بخلاف النخل والزبيب فإن المقصود منه ظاهر بارز. وقلنا: إن عمل الناس اليوم على خلاف ذلك، وأن أهل الخبرة يعرفونه ويقدرونه تقديرا قد يكون منضبطا، وهذا هو الذي عليه العمل.

حكم زكاة الحلي

حكم زكاة الحلي: 590 - وعن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، "أن امرأةً أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ومعها ابنةٌ لها، وفى يد ابنتها مسكتان من ذهبٍ، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرُّك أن يسوِّرك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فألقتهما". رواه الثَّلاثة، وإسناده قويٌّ. - وصحَّحه الحاكم من حديث عائشة. يقول: "امرأة أنت .... " إلخ. "المسكتان" قال العلماء: هما السواران، وفي بعض ألفاظ الحديث: "مسكتان غليظتان". وقوله: "من ذهب"، ومن هذه لبيان الجنس كما يقال: خاتم من ذهب، أو من حديد، أو ما أشبه. وقوله: "أتعطين زكاة" هذا الخطاب للأم، ولم يسأل البنت، لأنها إما صغيرة طفلة، وإما صغيرة غير مميزة، وتكون وليتها أمها أو أبوها كما سيأتي في الفوائد. فقال: "أيسرك أن يسورك الله بهما؟ " السرور معناه: الانبساط والفرح وما أشبه ذلك، وهو من المعاني النفسية التي لا يمكن تعريفها لأن المسائل النفسية لا يمكن للإنسان أن يعرفها أبدا مهما عرفتها فإنك تعرفها بآثارها، ولذلك لو قال لك قائل: ما هي العداوة؟ ما تعرفها بأوضح من لفظها. ما هي البغضاء؟ ما هي المحبة؟ ما تقدر؛ ولهذا نقول: إن المعاني النفسية لا يمكن أن تعرف بمثل ألفاظها، فالمعنى: هل تسرين بأن يسورك الله بهما سوارين من نار، يعني: تحبين ذلك وتسرين به. ما الجواب؟ لا، ولا أحد يسرّه أن يسوره الله يوم القيامة سوارا من نار، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى من قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} [التوبة: 34، 35]. وفي الحديث الصحيح: "أن هذا المال يصفح صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبينه وظهرها". هكذا أيضًا هذه الأسورة التي منعت ما يجب فيها تكون عليها يوم

القيامة أسورة من نار ويكوي بها المحل، يعني: لا أحد يستطيع أن يضعه ولو شريطا على ذراعه، لكن هذه بقدر ما عليها من الأسورة التي تجب فيها الزكاة ولم تزكها فإنها تحرق بها، والعياذ بالله. قال: "فألقتهما من يد ابنتها"، وفي رواية أخرى: وقالت: "هما لله ورسوله" وتركتهما لأنها خافت، فإن هذا أمر عظيم. قال المؤلف: "إسناده قوي"، وهو كما قال، لكن صححه بعض المتأخرين وقال: إنه صحيح، ويشهد له عمومات الكتاب والسنة الدالة على وجوب الزكاة في الذهب والفضة بدون تفصيل. قال المؤلف 591 - وعن أمِّ سلمة رضي الله عنها: "أنَّها كانت تلبس أوضاحًا من ذهب فقالت: يا رسول الله، أكنزٌ هو؟ فقال: إذا أديت زكاته فليس بكنزٍ". رواه أبو داود، والدَّارقطنيُّ، وصحَّحه الحاكم. قولها: "أوضاحًا من ذهب" المعروف أن الأوضح تكون من الفضة، وسميت وضحًا لبياضها ولمعانها، ولكن ربما يراد بها من الذهب بشرط أن تقيد به، فيقال: أوضاح من ذهب، ويكون الجمع بينها وبين الفضة اللمعان في كل منهما، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أكنز هو؟ وتريد بالكنز ما يعاقب عليه صاحبه، وليست تسأل هل هو كنز مدفون، لماذا؟ لأنها تعلم ذلك، لكن هل هو يعاقب عليه صاحبه أم لا؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أديت زكاته فليس يكنز". وفي رواية أبي داود: "إذا بلغ أن يزكى فأديه زكاته وليس بكنز" وهذه زيادة مهمة جدا كما سيذكر في الفوائد، إذن يجعل هذا الحديث شاهد الحديث عمرو بن شعيب. من فوائل حديث عتاب: آن العنب يخرص كما يخرص النخل لظهور ثمرته وبروزها وبيان ثمرها، وفيه إشارة إلى أنه لا بد أن يبلغ النصاب؛ لأن هذا هو نتيجة الخرص، ولو كانت الزكاة واجبة في قليل وكثير ما احتجنا إلى الخرص، وفي قوله: "كما يخرص النخل" أيضًا إشارة إلى أن نصابه كنصاب ثمن النخل. وفيه أيضًا من الفوائد: أن الزكاة واجبة فيه لقوله: "وتؤخذ زكاته"، وأنه يجب أن تؤخذ زبيبًا، ولكن إذا كان لا يزبب فهل يلزم مالكه أن يشتري زبيبًا ليدفعه عنه؟ إن قلت: هذا على الغالب، صار لا بد أن يكون هناك شيء مقدر.

فائدة في جواز لبس الذهب المحلق

"وتؤخذ زكاته زبيبًا منه"، وعلى هذا يكون بناء على الغالب وإن لم تقدر، وتؤخذ زكاته زبيبًا صار لا بد أن يقدر هذا العنب زبيبًا ثم تخرج زكاته من الزبيب، وهذا هو ظاهر الحديث وهو الذي ذكره الفقهاء- رحمهم الله-. ولكن الصحيح: أن تؤخذ زكاته منه؛ لأن الإنسان لا يكلف أكثر مما عنده فيؤدي زكاته منه والفقير يتصرف، نعم إذا خاف لو أعطى الفقير شيئا كثيرا فسد عليه فإنه يوزعه بحيث يعطى الفقير ما لا يفسد عليه، فإذا قدرنا مثلًا أن هذا الرجل عنده زكاة تبلغ ثلاثين كيلو هذا ربما إن أعطاه الفقير ربما يفسد عليه أو يبيعه بقليل من المال، فمثل هذا نقول: حرصًا على مصلحة الفقير توزع عليه توزيعًا مناسبًا هذا إن لم يبعه فإن باعه فلا شك أنه يخرج من قيمته، ويكون الواجب عليه نصف العشر إن كان يسقى بمؤنة، وإن كان يسقى بلا مؤنة فالعشر كاملًا. فائدة في جواز لبس الذهب المحلق: أما حديث عمرو بن شعيب فمن فوائده: جواز لبس الذهب المحلق لقوله: "وفي يد ابنتها مسكتان"؛ لأن السوار محلق بلا شك، وقد تضافرت الأدلة على جوازه، وهناك أحاديث تدل على المنع من الذهب المحلق والوعيد على من فعل ذلك، ولكن العلماء اختلفوا في تخريج هذه الأحاديث؛ فمنهم من قال: إنها شاذة ولا يعمل بها، ومنهم من قال: إنها منسوخة، فأما من قال: منسوخة، فإنه يحتاج إلى إقامة الدليل على أنها سابقة، وأن الأحاديث الدالة على الجواز متأخرة؛ لأن هذه هي القاعدة، ومن قال: إنها شاذة، قال: لأنها تخالف الأحاديث الصحيحة التي هي أقوى منها، وتخالف عمل المسلمين، فإن بعض العلماء نقل الإجماع على جواز لبس الذهب المحلق، والغالب ألا يكون الجمهور على قول يخالف الحق لا سيما وأن معهم من الأدلة القوية الصريحة في جواز اللبس ما يقوي قولهم، وعلى هذا فتكون شاذة، وكنت قد بحثت معكم مسألة الشذوذ، هل يصح أن نحكم على الحديث بالشذوذ إذا كانا حديثين، أو نقول: إن الشذوذ مخالفة الراوي بقية الرواة في هذا الحديث المعين؟ كنت أظن أن الشذوذ يكون في حديث واحد يختلف فيه الرواة، فيشذ بعضهم ويزيد شيئا لم يزده غيره، ولكن رأيت كلامًا للإمام أحمد رحمة الله يدل على أن الشذوذ يقع حتى وإن كانا الحديثان مختلفين، وذلك فيما ورد من الحديث عن النهي عن الصيام: "إذا أنتصف شعبان فلا تصوموا"، قال الإمام أحمد: هذا حديث شاذ لمخالفته قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين". قال: لأن هذا الأخير ثابت في الصحيحين وغيرهما، فهو قوي ورواته حفاظ وذاك الحديث لا يساويه في القوة، فيكون مما خالف الثقة من هو أوثق منه فيحكم بشذوذه، وكذلك أيضًا هذا الحديث

الذي أشرنا إليه في مسألة الذهب المحلق. قال كثير من أهل العلم: إنه شاذ لمخالفته الأحاديث الصحيحة الكثيرة الدالة على جواز لبس الذهب المحلق، ولهذا كان الراجح القول بالجواز، وأن القول بالمنع ضعيف. ويستفاد من هذا الحديث: أن للأم ولاية على أولادها، لقوله: "أتعطين زكاة هذا؟ "، وهذه المسألة مختلف فيها عند أهل العلم، فمنهم من قال: إنه لا ولاية للأم على أولادها في المال، وأن ولاية المال للأب إما خاصة وإما للأب والجد وإن علا، أما الأم فليس لها ولاية المال على أولادها، ولكن الصحيح أن لها ولاية المال على أولادها كما لها ولاية على آداب أولادها، نعم لو كان هناك أب فهو الأولى لأنه هو الذي يحفظ المال ويحسن التصرف أكثر من الأم، إنما إذا لم يكن أب وكانت الأم هي التي تتولى مال أولادها كما لو مات زوجها وبقي أولادها عندها تتولى أموالهم أخذا ودفعًا وتصرفا فإن لها ولاية شرعية. ويستفاد من هذا الحديث: أن المخاطب بزكاة مال الصبي والمجنون وليهما لقوله: "أتعطين زكاة هذا؟ "؛ ولهذا قال العلماء: إن الزكاة تجب في زكاة الصبي والمجنون ويخرجها وليهما. ويستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يستفصل في الأمور التي قد تخفى وإلا فالأصل أن الإنسان ما يسأل كيف ذلك؟ لأنه سألها هل تعطي زكاة هذا، وإلا فلا يلزم الإنسان أن يسأل الناس هل أنتم تزكون، هل أنتم تفعلون؟ لا، لكن إذا كان المقام يقتضي السؤال فليسأل، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أتؤدين زكاة هذا؟ ". وفيه أيضًا: دليل على وجوب الزكاة في الحلي، لأنه قال: وزكاة هذا، وهو كذلك، ويؤيد هذا قوله: "أيسرك أن يسورك الله بما يوم القيامة سورين من نار؟ "، ومثل هذا الوعيد إنما ورد في ترك الزكاة، ولم يأت بطائل من قال: إنه لا زكاة في الحلي، لأنهم لم يقابلوا هذا الحديث وغيره من الأحاديث العامة بأدلة من السنة أبدا، وغاية ما هناك أنهم استدلوا بحديث رواه جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في الحلي زكاة". وهذا الحديث ضعيف. ثم هم لا يقولون بموجبه أيضًا، بل يقولون: إن الحلي تجب فيه الزكاة أحيانًا، ولو أخذوا بظاهر الحديث لكان ظاهره عدم الوجوب مطلقا مع أنهم يقولون: لو أعد حليا للإجارة لوجبت فيه الزكاة مع أنه ليس عروض تجارة، هم يقرون أن مثل هذا ليس عروض تجارة، ومع هذا يوجبون فيه الزكاة، ولو أخذوا بدلالة الحديث الذي استدلوا به لكان الواجب عليهم أن يقولوا: ليس فيه زكاة، والمهم: أن من تأمل أدلة من قالوا بعدم الوجوب لم يجد لها طائلًا.

وأما القياس على الثياب، وحوائج المنزل وما أشبه ذلك، فيجاب عنه من وجهين: الأول: أنه قياس فاسد لماذا؟ لمخالفته النص، وأول من عارض النص بالقياس إبليس، ورد الله عليه معارضته قلنا: أن نقول: أنتم عرضتم بالقياس ومع ذلك لم تأخذوا بالقياس لا طردًا ولا عكسًا. فإنكم تقولون: لو كان عنده حلي للإيجار وجبت عليه الزكاة، ولو كان عنده ثياب للإيجار لم تجب الزكاة. وتقولون أيضًا: إذا كان عنده ثياب محرمة يلبسها فليس فيها زكاة، وإذا كان عنده حلي محرم يلبسه ففيه الزكاة. وتقولون أيضًا: إنه إذا كان عنده ثياب أعدها للبس ثم عدل عن ذلك وأعدها للتجارة لم تجب فيها الزكاة، وإذا كان عنده حلي للبس، ثم عدل عن ذلك وأعدها للتجارة ففيه الزكاة. وتقولون أيضًا: لو كان عنده حلي أعده للنفقة، مثل امرأة فقيرة ليس عندها مال عندها حلي كثير وجعلته للنفقة، كلما احتاجت باعته وأنفقت على نفسها فعليها الزكاة، ولو كان عندها ثياب كثيرة جدا أعدتها للنفقة كلما احتاجت باعت وأنفقت فليس عليها زكاة، كيف يصح القياس مع هذه المخالفة العظيمة؟ لا يصبح لأن القياس معناه: إلحاق الفرع بالأصل، وهنا الفرع خالف الأصل في أكثر المسائل، فتبين بهذا أن من نفوا وجوب الزكاة في الحلي ليس عندهم دليل من أثر ولا نظر، أما الآثار فعرفتم، وأما النظر فعرفتم التناقض وعدم صحة القياس، وبناء عليه فإن أحاديث وجوب زكاة الحلي قائمة بلا معارض، وكلما جاء الدليل قائمًا سالما عن المعارض وجب الأخذ بمدلوله ومقتضاه، ولهذا صار القول الراجح وجوب زكاة الحلي وهو مذهب أبي حنيفة، ولكن بشرط أن يبلغ النصاب. فإن قلت: ظاهر هذا الحديث أنه لا يشترط بلوغ النصاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار؟ "، والسواران في الغالب لا يبلغان عشرين مثقالًا، فاختلف الجواب في ذلك، فقال الثوري رحمة الله: تضمه إلى ما عندها حتى يبلغ النصاب. وبعضهم قال: إن في بعض ألفاظ الحديث: "سواران غليظان"، والسوار الغليظ قد يبلغ؛ لأن الغليظ معناه: المتين، وهذا يبلغ. ومنهم من قال: إن هذا مطلق أو مجمل مبين بالأحاديث الدالة على أنه لا زكاة قي الذهب حتى يبلغ النصاب، ومنه حديث أم سلمة في رواية أبي داود حيث اشترط أن يبلغ ما يزكى. القول الثالث في المسألة: أن الزكاة واجبة في الحلي قليلًا كان أو كثيرًا.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الزكاة واجبة في الحلي كل سنة؛ لقوله: "أتؤدين زكاة هذا؟ "، وجه الدلالة: أن الزكاة في الأموال تتكرر كل سنة، فلو كان عند الإنسان مال دراهم أو دنانير وجب عليه أن يزكيها كل ستة وإن كانت لا تنمو، ومن قال: إن الزكاة لا تجب فيه إلا سنة واحدة فليس قوله بظاهر، بل الظاهر وجوب الزكاة في الحلي في كل سنة. ومن فوائد الحديث: إثبات يوم القيامة لقوله: "أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة؟ ". ومنها: أن الجزاء من جنس العمل، كيف ذلك؟ لما كانت المخالفة هنا في الأسورة كان العقاب في الأسورة، فالجزاء من جنس العمل، ويؤيد هذه القاعدة أن الله- سبحانه وتعالى- حكم عدل لا يظلم، وأنه جعل جزاء السيئة بالنسبة للخلق- بعضهم مع بعض- سيئة مثلها فكذلك العقوبة تكون مثل العمل، ويؤيد ذلك أيضًا قوله تعالى: {فكلًا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40] فعقوبته على حسب ذنبه، ولهذا لو رأيت حتى الحدود الدنيوية تجد أن الحدود مناسبة تماما للجرائم. ومن فوائد الحديث: إثبات أفعال الله الاختيارية، لقوله: "أن يسورك الله بهما" وقد سبق لنا أن مذهب أهل السنة والجماعة هو إثبات أفعال الله الاختيارية، يعني: المتعلقة بمشيئته، وأن ذلك لا يستلزم نقصا بل هو غاية الكمال؛ لأن الذي يفعل متى شاء خير ممن لا يفعل، وأهل التعطيل يقولون: إن الأفعال الاختيارية منتفية عن الله بحجة أن الفعل الحادث لا يكون إلا بحادث، والله- سبحانه وتعالى- هو الأول الذي ليس قبله شيء، وسبق لنا تفنيد هذا القول، وأن من كمال الله أن يكون فعالًا لما يريد كما قال الله تعالى: {فقال لما يريد} [هود: 107]. وقال: {إن الله يفعل ما يريد} [الحج: 14] وقال: {ويفعل الله ما يشاء} [إبراهيم: 27]. ومن فوائد الحديث: إثبات النار، وأن الله تعالى قد يغلب الأشياء عن معدنها الأصلي إلى أن تكون نارًا، لقوله: "سوارين من نار" هذا إن قلنا: إن السوارين من النار هما السواران الملبوسان، وإن قلنا: إنهما غيرهما فليس فيه دليل، لكن حديث أبي هريرة: "صفحت له صفائح من نار" يدل على أن السوارين من الذهب تكون يوم القيامة سوارين من نار، لكن هل المعنى: أنها تنقلب المادة، أو أنها إذا أحمى عليها حتى احمرت وصارت كالجمرة صارت نار؟ يحتمل، وهذا عندي أقرب؛ لأن الحديدة إذا أحميتها في النار صارت نارًا، أي: قطعة حمراء تلتهب أحيانًا. وفي هذا الحديث أيضًا من الفوائد ورع الصحابة- رضي الله عنهم- وشدة خوفهم من العقاب لقوله: "فألقتهما"، ولكن في هذا إشكال، وهو أن المعروف أن ولي الصغير يتصرف فيما هو أحظ للصغير، ومعلوم أن الأحظ للصغير هنا أن تخرج الزكاة وتبقي السوارين، فالجواب على ذلك أن يقال: هي ألقتهما، ولكن هل بقيا ملقيين، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرها

زكاة عروض التجارة

بعد ذلك بما يجب، والجواب أن يقال: إن هذا التردد بين هذا وهذا يجعل هذا النصر من باب المتشابه- كل نص يحتمل شيئين ولم يتبين رجحان أحدهما فهو متشابه-، والقاعدة الشرعية أن المتشابه يحمل على المحكم، والنصوص المحكمة تدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف في المال الذي هو ولي عليه إلا بما هو أحظ، وحينئذ نجزم بأن هذه المرأة إما أنها أخذتهما بعد ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أو باختيارها بعد أن تأخذهما، أو أنها ضمنتهما للبنت، وهذه القاعدة هي قاعدة الراسخين في العلم الذين يحملون المتشابه على المحكم، وأما الذين في قلوبهم زيغ فيحملون المحكم على المتشابه ليجعلوا الجميع متشابهًا! ومن فوائد حديث أم سلمة: جواز لبس المرأة الذهب من الأوضاح وغيرها لقوله: "كانت تلبس أوضاحا". وفيه أيضًا: دليل على أن الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته، وليس المال المدفون لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أديت زكاته فليس بكنز" وفيه أيضًا: أن الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته، نأخذه من مفهوم قوله: وإذا أديت زكاته فليس بكنز، فإن مفهومه: إذا لم تؤد زكاته فهو كنز، والمراد بالكنز قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة .... } [التوبة: 34]. وفيه: دليل على أنه ينبغي السؤال عن العلم لسؤال أم سلمة قالت: "أكنز هو؟ "، ويقول العلماء: إن السؤال مفتاح العلم، وقيل لابن عباس رضي الله عنه: بم أدركت العلم؟ قال: "بلسان العلماء، وقلب عقول، وبدن غير ملول". وفيه أيضًا: حرص الصحابة- رضي الله عنهم- على براءة ذممهم وسلامتها من عقاب الآخرة لقولها: "أكنز هو؟ ". وفيه: دليل علي وجوب الزكاة في الحلي، لقوله: "إذا أديت زكاته فليس بكنز". زكاة عروض التجارة: 592 - وعن سمرة بن جندبٍ رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصَّدقة من الَّذي نعدُّه للبيع". رواه أبو داود، وإسناده ليِّنٌ. "اللين" معناه: ضد القوي؛ لأن هناك لينًا له ضد وهو القوة وكأن المحدثين- رحمهم الله- إذا كان الضعف ليس بينًا واضحًا يقولون: إنه لين، فهو درجة بين الضعف المجزوم بضعفه وبين الحسن.

يقول سمرة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج" الأمر في اللغة: الطلب، وفي اصطلاح الأصوليين: طلب الفعل على سبيل الاستعلاء، أي: أن الطالب يظهر نفسه مظهر المستعلي على المطلوب وإن لم يكن عاملًا عليه في الواقع، قد يكون رجلًا قاطع طريق، أو هو من ضعة الناس وأراذلهم، فيمسك رجلًا من أشراف الناس ويأمره، والأمر في الأصل يكون من الأعلى إلى الأدنى، لكن هذا نزل نفسه منزلة الأعلى؛ ولهذا قال العلماء في التعريف: على وجه الاستعلاء، ولم يقولوا: العلو، لأنه قد يأمر وليس عليا على المأمور من حيث الواقع، لكن ينزل نفسه منزلة المستعلي، ثم إن استحق العلو فهو له وإن لم يستحقه فهو دعوى، أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأصل فيه الوجوب، لا سيما وأن المأمور به موصوف بأنه صدقة، والصدقة واجب إخراجها إذا أمر بها. وقوله: "من الذي نعده للبيع"، "الذي" اسم موصول، والاسم الموصول يفيد العموم، وإن كان مفردًا، والدليل قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} [الزمر: 33]. ولم يقل: هو المتقي، وهذا دليل على أن الاسم الموصول ولو مفردًا يفيد العموم، إذن الذي نعده للبيع عام لكل ما يعد للبيع، يعني: لا يتخذ لذاته وعينه، ولكنه متخذ للبيع، يعني: يراد به قيمته وربحه. وهذا الحديث يدل على وجوب زكاة العروض، العروض: كل ما أعده الإنسان للبيع لا لذاته مثل سلع التجار التي في حوانيتهم هذا نسميه عروضًا؛ لأنه يعرض للناس يشترونه، أو لأنه يعرض ويزول ما يبقى عند صاحبه، إذا أعطيت السلعة ربحًا بعد شرائها بساعة أو ساعتين يبيعها والإنسان يجد فرقا بين ما يشتريه لعينه وما يشتريه لربحه، الذي يشتريه لعينه لا تبيعه، اللهم إلا أن يأتيك به [ربحًا] كبيرًا، والذي تشتريه للربح تبيعه إذا ربحت ولو بعد نصف ساعة أو أقل، لأنك لا تريده لذاته وإنما تريد ربحه، فكل ما قصد به الاتجار والربح فهو عروض تجارة تجب فيه الزكاة، هل هو خاص بمال معين؟ لا؛ لأنه قال: "من الذي نعده"، إذا كان العروض من الإبل فيه زكاة؟ نعم، رجل عنده بعير واحدة أعدها للتجارة تساوي خمسمائة درهم فيها زكاة؟ نعم، ولو جعلناها سائمة لم يكن فيها زكاة؛ لأن أقل نصاب للسائمة خمس، ولو بقر عروض فيها زكاة، حمير عروض فيها زكاة، لو كلاب عروض ليس فيها؛ لأن الكلاب لا يجوز بيعها ولا حتى المعلمة منها للصيد، أمّا غير ذلك كالدجاج والحمام، والثياب والسيارات، والعقارات كالأراضي، فإنها إذا أعدّت للبيع وجب فيها الزكاة. وهذا الحديث- كما تشاهدون- أشار المؤلف إلى ضعفه؛ لقوله: "وفيه لين"؛ ولذلك اختلف أهل العلم- رحمهم الله- في وجوب زكاة العروض، لكن جماهير أهل العلم على الوجوب حتى حكاه بعض العلماء إجماعًا، والذين حكوه إجماعًا من طريقتهم أنهم لا يعتدون

بخلاف الظاهرية، يرون أن خلاف أهل الظاهر ليس له قيمة ولا يعتبر كما أن بعض أهل العلم على العكس من هؤلاء لا يعتدون بخلاف أهل الرأي، والصواب أن نعتد بخلاف كل واحد من المسلمين؛ لأن الله يقول يخاطب المؤمنين: {وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59]. لكن لا ريب أن جماهير أهل العلم يرون وجوب الزكاة في عروض التجارة وهو الصواب قطعا، وله أدلة عامة وخاصة. فمن أدلته العامة: أولًا قوله تعالى: {يأيها الذين امنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجناكم من الأرض} [البقرة: 267]. وهذا هو الزكاة تجب في الخارج من الأرض وتجب في طيبات ما كسبنا. ومنها أيضًا: قوله تعالى: {خذ من أموالهم} [التوبة: 103]. وهذا عام، والأصل فيه أنه يشمل كل شيء حتى العروض، لأنها من أموالنا. والدليل الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم". والدليل الرابع: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". وصاحب العروض لو سألناه ما نيتك بهذه العروض؟ لقال: نيتي الدراهم، أي: ليس بنيتي السلعة، ولهذا أشتري في أول النهار برا، وأشتري في آخر النهار شعيرا، وأشتري في أول النهار بقرًا، وأشتري في آخره غنمًا؛ لأنه ليس عندي إرادة لعين المال، وإنما قصدي الربح الذي هو القيمة فيكون قوله- عليه الصلاة والسلام-: "إنما الأعمال بالنيات" دالًا على وجوب الزكاة في عروض التجارة؛ لأن نية المتجر هي الأثمان- النقود- فوجبت الزكاة عليه. فيه أيضًا: دليل معنوي نظري، وهو أننا لو نفينا الزكاة في عروض التجارة لكانت أكثر أموال الأغنياء لا زكاة فيها؛ لأن أكثر أموال الأغنياء هي العروض، ولولا أنهم يتعاملون بالعروض ما نمت أموالهم، لو كان عندهم الدراهم فقط أو الدنانير ما نمت الأموال، ما تنمو أموال التجارة غالبًا إلا بعروض التجارة. فإذا قلنا: إن هؤلاء الذين عندهم ملايين يبيعون بها ويشترون للتكسب لا زكاة عليهم، انتفت الزكاة في أكثر أموال الأغنياء، وهذا يخالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" أرأيت لو أن إنسانا عنده أراض، وعقارات ومواش، وأوان، وسيارات، ومعدات تبلغ ملايين للتجارة، وإنسان عنده مائتا درهم. قلنا للأول: لا زكاة عليك. وللثاني: عليك زكاة، هل هذا معقول؟ لا، ذاك الأول عنده ملايين الملايين من العقارات، ولا يمشي إلا بالسيارات الفخمة، وعنده من الخدم والحشم ما لا يحصيهم إلا الله، والمسكين هذا الذي ليس عنده إلا (200) درهمًا قلنا: زكي، أخرج منها

كيف نؤدي زكاة عروض التجارة؟

خمسة دراهم، والأول نقول: سلام عليك ليس عليك شيء، فهذا ليس بمعقول، والشريعة لا تأتي بأمر يخالف المعقول، ولذلك أنا عندي أن وجوب زكاة العروض من الأمور اليقينية ليست من الأمور الظنية، وإن كان من أهل العلم يقولون: إن من أنكر وجوب الزكاة فيها لا يكفر للاختلاف فيها، وهذا صحيح، لو أن أحدا قال: أنا لا أرى وجوب زكاة العروض، لا نقول: إنك كافر، لكن لو قال: أنا لا أرى وجوب زكاة الذهب والفضة، قلنا: إنك كافر، فالمسائل الخلافية من فروع الزكاة لا نكفر الإنسان المخالف كما لا تكفر من قال إنه لا زكاة في الحلي. المهم: أن القول الراجح المقطوع به عندي هو وجوب الزكاة في العروض للأدلة الأثرية التي ذكرناها، وللدليل النظري الذي يعارضه شبه مكابر. كيف نؤدي زكاة عروض التجارة؟ لكن كيف تؤدي هذه الزكاة هل نعتبر ما اشتريناها به، أو نعتبر ما تساويه عند تمام الحول؛ أو نعتبر المتوسط بين هذا وهذا، أو نعتبر قيمتها في موسم من المواسم مر بها في أثناء العام؟ نقول: المعتبر قيمتها وقت وجوب الزكاة سواء كانت أكثر مما اشتراها به أو أقل أو مثل ما اشتراها به، فإن لم يعلم ما تساوي رجعنا إلى الأصل وهو ما اشتراها به؛ لأننا لو قلنا: إنها تقدر بأكثر، قلنا: الأصل عدم الزيادة، وبأنقص قلنا: الأصل عدم النقص، فيزكي ما اشتراها به. مثال ذلك: اشترى أرضًا بعشرة آلاف ريال لما جاء عند تمام الحول يرى أن العقارات في فتور، فقال: لا أبيع، هل تساوي عشرة آلاف، أو اثني عشرة، أو ثمانية ماذا نقول؟ نقول: عشرة؛ لأن الأصل أن هذه السلعة حافظة لقيمتها إلا إذا علمنا الزيادة أو النقص، وإلا فالأصل أن قيمتها محفوظة فيها، إذا كان هذا العرض الذي اشتراه كان في آخر الحول وزادت قيمته إلى الضعف هل يزكي القيمة الزائدة؟ مثال ذلك: تجب زكاته في رمضان واشترى أرضًا في رجب بمائة ألف وصارت في رمضان تساوي مائتي ألف، المائة الربح هذه لم يمض عليها إلا شهران هل يزكي الربح، أو نقول: يصير إلى أن يتم عليه الحول؟ يزكي الربح. - هل عند كساد العروض وعدم بيعها يخرج من نفس العروض؟ الجواب: نعم. - هل يخرج زكاة العروض منها في غير هذه الصورة؟ قال بعض العلماء نعم له أن يخرج زكاة العروض منها لعموم قوله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم} [المعراج: 24]. ولكن الصحيح أنه لا يجب؛ لأن المال في العروض ليس هو عين عن المال، بل القيمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن صاحب العروض الدارجة الرائجة لا تبقى عنده العروض من أول الحول إلى

زكاة الركاز

آخره لأنه يبادلها يبيع هذا ويشتري هذا يمكن أن تتبدل عنده بالحول نحو (20) صنفًا، فإذا أخرج من الصنف الذي كان عنده وقت وجوب الزكاة فهو في الحقيقة لم يخرج عن جميع الأصناف السابقة، لكن إذا أخرج من القيمة فهي الأصل، وهي الركيزة، فالراجح أنه لا يجوز أن يخرج قيمة العروض منها، اللهم إلا رجل كانت عروض تجارته من جنس واحد كل الحول كما لو كان عياشًا، أو إن شئت قلنا: كما لو كان قماحًا يبيع القمح؛ فهذا له أن يخرج من العروض؛ لأنه من أول الوقت إلى آخره هي من جنس واحد. من فوائد الحديث: وجوب الزكاة في عروض التجارة. الفائدة الثانية: أن الإنسان لو عدل عن نية العروض إلى القنية سقطت الزكاة لقوله: "فيما نعده". الثالثة: أنه لو جدد نية العروض، فإنه يكون للعروض بالنية؛ يعنى: بأن يكون الإنسان اشترى هذا الشيء ليقتنيه ثم بدا له أن يجعله تجارة فإنه يكون تجارة. مثال ذلك: رجل اشترى لبيته سكرًا، ورزًا، وشايًا، وقهوة، ودله، وإبريقًا يريد أن تكون لبيته ففتح جزءًا من بيته، دكان وبسط هذه الأشياء للبيع صار الآن تجارة أعدها للبيع فأصبحت عروضًا لعموم قوله: "فيما نعده للبيع"، وسبق أن أهل المذهب- رحمهم الله- يقولون: إنه لا يكون للعروض بالنية حتى يملكها بفعله بنية التجارة، وقلنا: إن هذا خلاف ظاهر الحديث. زكاة الركاز: 593 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وفي الرِّكاز: الخمس". متفقٌ عليه. "ركاز" فعال بمعنى: مفعول، من ركز الشيء إذا أثبته، ومنه ركزت العنزة بين يدي النبي 4 صلى الله عليه وسلم، فالركاز يدور على هذه المادة تدل على مادة الثبوت والاستقرار. هذا في اللغة. والركاز في الشرع: هو ما وجد من دفن الجاهلية فهو فعال بمعنى: مفعول؛ أي: مركوز من دفن الجاهلية، أي: من مدفونها بحيث يكون عليه علامة الكفار، مثل تاجر وجد في الأرض مدفونا حليًا عليه علامة الكفار كله صلبان، هذا نعرف أنه من مال الكفار؛ لأن المسلمين ليس هذا شعارهم فيكون هذا ركاز كذلك إنسان وجد دراهم ما تستعمل إلا في بلاد الكفر فهذا أيضًا ركاز أوان ما تستعمل إلا في الخمر فهذا أيضًا ركاز لأن الذين يشربون الخمر هم الكفار. المهم إذ وجد شينا مدفونا عليه علامة الكفر بأي علامة تكون، فهذا يسمى ركازا، فإن لم يكن كذلك فهو لقطة إن كان ليس عليه علامة الكفر فإنه لقطة.

"في الركاز الخمسة" على من؟ على من وجده، وإذا أوجب الشارع فيه الخمس دل ذلك على أن أربعة الأخماس لواجده، وهو كذلك إلا من استأجر لإخراجه، فإنه يكون لمن آجره يعني: مثلًا رجل استأجر عملًا يحفرون له هذه الأرض؛ لأن فيها كنزًا، فحفروه فوجدوه، فهل له ولهم، أو لمن استأجرهم؟ الثاني، لأنهم حفروه بالوكالة عنه. وظاهر الحديث أنه لا يكون للمالك الأول، تفرض هذه الأرض منتقلة من زيد إلى عمر إلى خالد ووجده خالد فهو لخالد. العلماء متفقون على أن الواجب الخمس كما في الحديث، لكن أين يصرف؟ قالوا: إن كانت له لبيان الحقيقة التي يراد بها بيان مقدار الواجب فمصرفه لأهل الزكاة، ومن ثم أدخله المؤلف في باب الزكاة فصرف مصرف الزكاة وينبني على ذلك أنه لا يجب الخمس إلا على من تجب عليه الزكاة وهو المسلم الحر، ولا يجب الخمس إلا إذا بلغ النصاب، وإلا إذا كان مما تجب في عينه، أو ملكة الإنسان بنية التجارة، فتجب الزكاة في قيمته أما على قول من يقول: إن "أل" هنا للعهد، والمراد به: "الخمس" الذي يصرف مصرف الفيء، فقالوا: إن الخمس هذا لا يعطى أهل الزكاة، ولكن يعطى بيت المال. وقالوا: ولا يشترط أن تكون مما تجب الزكاة فيه حتى لو وجد ركازا من خزف أو من زجاج أو من حديد أو من أي شيء وجب فيه الخمس، قالوا: ولا يشترط أن يبلغ النصاب؛ لأن هذا ما هو خمس زكاة ولكن خمس فيء فيجب في الكثير والقليل. قالوا: ولا يجب أن يكون واجده من أهل الزكاة فيجب الخمس، ولو كان الواجد كافرًا أو كان عبدا لكن تجب على سيده لماذا؟ لأن هذا ليس من باب الزكاة. قالوا: ولا يشترط أن يتم عليه الحول فيجب الخمس بمجرد ما يجده في ذلك الوقت، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله على أن هذا الخمس فيء يصرف لبيت المال ويجب في قليل المال وكثيره، وسواء كان المال مما تجب الزكاة في عينه أم لا، وسواء بلغ النصاب أم لا، وسواء كان واجده ممن تجب عليه الزكاة أم لا حتى إذا لم يجد إلا خمسة ريالات وجب عليه ريال، واستدل هؤلاء بعموم قوله: "في الركاز" عام، وبأن الأمور المطلقة في لسان الشارع تحمل على المعهود الشرعي، والخمس عند الإطلاق يراد به: ما يصرف في بيت المال وهو الفيء، وهذا أحوط، لأنك إذا تأملت هذا وجدته أحوط، إذ إنه يوجب الخمس في القليل والكثير وفي أي نوع من المال وأيا كان الواجد.

زكاة الكنز والمعادن

من فوائد هذا الحديث: وجوب الخمس في الركاز لقوله: "وفي الركاز الخمس". ثانيًا: أن الركاز لواجده وهو الباقي بعد الخمس وهو أربعة أخماس. ثالثا: أنه لا يشترط فيه بلوغ النصاب لإطلاق الحديث، ولإتمام الحول لإطلاق الحديث، ولا نوعية المال لإطلاق الحديث. ومن فوائده أيضًا على القول الراجح: أن مصرف هذا الواجب مصرف الفيء وهو بيت المال. زكاة الكنز والمعادن: 594 - وعن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه- رضي الله عنهم-: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في كنزٍ وجده رجل في خربةٍ: إن وجدته في قريةٍ مسكونةٍ، فعرِّفه، وإن وجدته في قريةٍ غير مسكونةٍ ففيه وفى الرِّكاة: الخمس". أخرجه ابن ماجه بإسنادٍ حسنٍ. "الخربة": الحلة الخربة المتهدمة وليست صالحة للسكنى يقول: "إن وجدته في قرية مسكونة فعرف" يعني: اطلب من يعرفه، وهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبره لقطة؛ لأن اللقطة هي التي يجب على صاحبها أن يعرفها، وكيف التعريف؟ يقول مثلًا: من ضاع له. الشيء الفلاني يعرفه في مجامع الناس، عند أبواب المساجد، لكن في المساجد لا للنهي عن ذلك، كيف يعرفه؟ نقول أولًا: متى تجده عرفه كل يوم، كلما اجتمع الناس عرفه: من ضاع له كذا وكذا، وهل أخصص وأقول: من ضاع له المال الفلاني الذي صفته كذا وكذا؟ لا، لماذا؟ لأنك لو عينته بوصفه كل واحد يطلبه يقول: هذا لي، ولكن أقول: من ضاع له الشيء الفلاني؟ إذا قال قائل: هل أقول الشيء الفلاني، أو أقول الدراهم أو قوارير أو الأواني إذا كان أواني؟ نعم، لا بد أن يبين الجنس. قال العلماء: يعرفه أول أسبوع كل يوم، ثم كل أسبوع لمدة شهر، ثم شهر، ثم كل شهر مرة. وبعض العلماء يقول: إن هذا التحديد يحتاج إلى دليل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "عرّفها"، فما دام الرسول أطلق فيرجع إلى العرف فتعرف في أقرب وسيلة يحصل بها معرفة صاحبها، فلو عرفها في الراديو، أو الصحف فهو أبلغ، لا سيما إذا وجدتها في طريق بين قريتين فلا تدري أين تعرفها، فأحسن لهذه أن تعرف في الصحف، أو في الإذاعة.

لعل قائلًا يقول: على من تكون أجرة التعريف؟ فيها ثلاثة أقوال: المذهب أنها على الواجد؛ لأن الرسول قال: "عرّفها" فوجّه الخطاب إليه، فأنت المسئول عن تعريفها. وقال بعض العلماء: يكون على بيت المال؛ لأن هذا لمصلحة عامة. وقال بعض العلماء: يكون على صاحبها إن وجد، فإن لم يوجد أخذه الواجد من قيمة اللقطة والباقي له؛ هذا القول أصح؛ لأن تعريفي إياه وإن كان امتثالًا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن لمصلحة صاحبها فيكون عليه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإن وجدته في قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمسة" "فيه" أي: في هذا الكنز، "وفي الركاز الخمس" والباقي لواجده، وفي هذا دليل على أن الركاز غير الكنز، فإن الكنز قد يكون ظاهر، والركاز غالبا يكون مدفونا. 595 - وعن بلال بن الحارث رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من المعادن القبليَّة الصَّدقة". رواه أبو داود. "المعادن" جمع معدن، وهو ما يستخرج من الأرض لا من جنسها، ولا من النبات، فقولنا هذا: "لا من جنسها" خرج به ما يستخرج من الأرض من جنسها مثل: الحجارة وما أشبه ذلك، مما هو من جنس الأرض فليس هذا من المعدن، "ولا من النبات" خرج به النبات فليس بمعدن، فالذهب معدن، والحديد، والفضة، والرصاص، والنحاس، والزئبق، الآن نقول: المعادن الرسول أخذ منها الصدقة ففيها إذن الصدقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ منها، ولكن هل تجب في كل المعادن، أو نقول: إن كان المعدن مما تجب الزكاة في عينه كالذهب والفضة ففيه الصدقة، وإن كان مما لا تجب في عينه كالنحاس والرصاص وما أشبهه فإن قصد به التجارة فهو عروض تجارة وإلا فلا شيء فيه؟ اختلف العلماء في ذلك؛ فمنهم من قال: إن الزكاة واجبة فيه بكل حال، لأنه خارج من الأرض بدون مؤنة شاقة فيشبه الزرع. ومنهم من قال: إن المعدن جوهر مستقل ليس من جنس الأرض، فيرجع فيه إلى الأصل، والأصل عدم وجوب الزكاة إلا بدليل، ولا يوجد دليل على وجوب الزكاة في غير الذهب والفضة إلا إذا كان عروضًا، وهذا ليس عروضًا، والاحتياط أن يخرج الإنسان زكاة المعدن مطلقًا لأن هذا هو ظاهر الحديث، ولأنه يشبه الحبوب والثمار تجب فيها الزكاة، وإن لم تكن ذهبا ولا فضة ولا تجارة.

من فوائد حديث عمرو بن شعيب: أن ما وجد في القرى الخربة إن كانت مسكونة فهو لقطة وإن لم تكن مسكونة فهو كالركاز حكمه حكم الركاز فيه الخمس. ومن فوائده: تفريق الشرع بين المختلفين حقيقة فيفرق بينهما في الحكم، فإن هناك فرقًا بين الأرض المسكونة والأرض غير المسكونة فاختلف الحكم. ومن فوائده: حكمة الشرع في التفريق في الحكم بين المختلفين في الحقيقة. ومن فوائده: أن هناك فرقا بين اللقطة وبين الركاز، فالركاز لواجده وعليه فيه الخمس، واللقطة تعرف فإن جاء صاحبها فهي له، وإن لم يأت صاحبها فهي لواجدها مسألة لو تلفت اللقطة في أثناء الحول فعلى من يكون الضمان؟ فيه تفصيل: إن كان مفرطا أو متعديّا فعليه الضمان وإلا فلا، وإن تلفت بعد الحول فعليه الضمان مطلقا؛ لأنه لما تم الحول دخلت في ملكه فكانت مضمونة عليه، يعني: إذا جاء صاحبها وقال: هذه اللقطة ووصفها كذا وكذا، وانطبق الوصف، فإنه يجب أن تردها بكل حال، وأظنها فيها قولًا آخر، لكن لا أتيقنه أنها بعد تمام الحول كما قبله، بمعنى: أنه إن تعدى أو فرط فعليه الضمان وإلا فلا، ولكن الفرق بين ما قبله وبعده أن تصرفه فيها بعد الحول جائز وقبله لا يجوز إلا إذا كان من مصلحة اللقطة، كما لو وجد مثلًا زنبيلًا من البطيخ إذا عرفه سنة هلك فيبيعه بعد حفظ صفاته، ويحفظ الثمن هذا تصرف، ولكن لمصلحة اللقطة، وكذلك لو وجد شاة تحتاج إلى الأكل إن جعل ينفق عليها، أكلت دراهم كثيرة، إذن يبيعها بعد حفظ صفاتها ويحتفظ بثمنها. أما الحديث الثاني: ففيه دليل على أن المعدن يملك بالأخذ كيف ذلك؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منه الصدقة، ولازم ذلك أن يكون ما عدا الصدقة لواجد هذا المعدن ومستخرجه، و"القبلية" نقول: إنها جمع "قبل" وهي ناحية من نواحي الفرع بين مكة والمدينة، وقيل: إنها بلدة من ساحل البحر، ونحن لا يهمنا مكانها المهم أخذ الزكاة من المعدن.

1 - باب صدقة الفطر

1 - باب صدقة الفطر كلمة "صدقة" تقدم أنها تطلق على الواجب والمستحب، ومن إطلاقها على الواجب قوله تعالى: {* إنما الصدقات للفقراء ..... } [التوبة: 60]. ومن إطلاقها على العموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار". وقوله: "صدقة الفطر" هل هي من باب إضافة الشيء إلى سببه، أو من باب إضافة الشيء إلى زمنه؟ الظاهر إلى زمنه؛ لماذا؟ لأنها تجب على الإنسان وإن لم يصم؛ فإن كان الإنسان مريضًا مثلا وجبت عليه صدقة الفطر مع أنه لم يصم رمضان، إلا أن يقول قائل: إنها من باب إضافة الشيء إلى سببه باعتبار الأعم الأغلب فهذا له وجه، لكن إذا قلنا: من باب إضافة الشيء إلى وقته، فإنه يبقى الكلام على ظاهره والمراد بـ"الفطر" أي: الفطر من رمضان. صدقة الفطر من تجب؟ 596 - عن ابن عمر رضي الله عنه قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعيرٍ على العبد والحرِّ، والذَّكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج النَّاس إلى الصَّلاة". متَّفقٌ عليه. "الفرض" في اللغة سبق أنه بمعنى القطع والتقدير، وله معانٍ متعددة بحسب السياق، لكنه يدل على الوجوب. "فرض" بمعنى: أوجب وألزم، ولا فرق بينه وبين الواجب على القول الراجح، فإن الواجب والمفروض بمعنى واحد. وقيل: إن الفرض: ما ثبت بدليل قطعي. والواجب: ما ثبت بدليل ظني. والصواب: أنه لا فرق بينهما. "فرض زكاة الفطر"، هناك سماها زكاة، والزكاة في اللغة: النماء والزيادة. وفي الشرع: ما تزكو به النفوس من مال أو عمل؛ ولهذا تسمى الأعمال الصالحة زكاة، قال الله تعالى: {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} [الشمس: 9، 10]. فكل ما تزكو به النفوس من مال أو عمل فهو زكاة شرعا لكن تطلق على المعنى الخاص، أي: أنه يراد بها بعض معانيها كما في قولنا: زكاة المال. "زكاة الفطر صاعًا" ما إعراب "صاعا"؟ حال على سبيل التأويل كما قال ابن مالك: *كبعه مدا بكذا يدًا بيد* فهو على سبيل التأويل بالمشتق، ويجوز أن تكون "فرض" بمعنى: قدر، وتكون "صاعًا"

مفعولًا ثانيًا لـ "فرض" والمراد بالصاع: الصاع النبوي الذي زنته- حسب تحريري له- كيلوان وأربعون غرامًا وهو الذي يقدّر به، جميع ما يقدر بالمكيال يقدر بالصاع النبوي وهو أربعة أمداد. يقول: "صاعًا من تمر أو صاعا من شعير" التمر معروف، والشعير معروف، و"أو" هنا للتنويع يعني: صاعًا من هذا أو هذا، وإنما نص عليهما، لأنهما القوتان الغالبان لأهل المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: "على العبد" متعلق بـ "فرض"، و"على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين". قوله: "على العبد". إذا قال قائل: كيف تفرض على العبد، والعبد هو وما تحت يده مملوك لسيده، كما قال الله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم} [النور: 33]. فهم ملك لأسيادهم فليس لهم مال؟ قلنا: تجب عليه أصالة، ويتحملها عنه السيد، وقوله: "الحر" معروف، و"المبعض" كذلك واجبة عليه؛ لأنها لا تختلف الحرية والعبودية هنا، فالحر والعبد والمبعض كلهم تجب عليهم الزكاة، ولكن نريد مثالًا يكون فيه الإنسان مبعضًا؟ إذا كان المعتق الذي أعتق نصيبه إذا كان فقيرًا فإنه يعتق نصيبه والباقي يبقى على العبودية، هذا هو المشهور من المذهب، ولكن فيه قول آخر: وهو أنه يستسعى العبد- وهو الصحيح إذا أمكن- معنى يستسعى: يعني: يطلب منه السعي، ونفس العبد يعطي أسياده الذين لم يعتقوا، فإذا لم يمكن للعبد أن يستسعى فحينئذ يكون العبد مبعضًا. إذن نقول: يمكن التبعيض إذا اعتق إنسان فقير نصيبه من عبد مشترك ولم يمكن استسعاء العبد فهذا على كل الأقوال يصح. قوله: "الذكر والأنثى" معروف، و"الخنثى" يدخل، والصغير والكبير، والعاقل والمجنون يدخل في عموم قوله: "الذكر والأنثى" فيشمل كل من كان من المسلمين. وقوله: "من المسلمين" بيان لما سبق، وهو قوله: "على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين"، وإنما خص المسلمين؛ لأن غير المسلمين لا تجب عليهم فروع الإسلام إلا بعد أن يقروا بالإسلام، أما أن توجب عليه أن يؤدي زكاة الفطر وهو ليس بمسلم كيف ذلك؟ قال: "وأمر أن تؤدى قبل خروج" "أمَر" هل هذا تفنن في العبارة، أو هناك فرق بين أصل الزكاة ووصف الزكاة؟ هنا قال: "وأمر أن تؤدى" ولم يقال: "وفرض أن تؤدى" فهل نقول: إن هذا من باب التفنن في العبارة، وأنه تحاشيا لتكرار "فرض" جعل بدلها "أمر"، أو نقول: لما كان إخراجها قبل الصلاة وصفا فيها جعل الأصل مفروضًا، والوصف مأمورا به، ولعل هذا أقرب؛ لأنه على القول الأول تكون الكلمتان مترادفتين، وعلى هذا الاحتمال تكون الكلمتان

مختلفتين، "أمر أن تؤدى"، أي: توصل إلى مستحقها، وقبل خروج الناس إلى الصلاة، أي: صلاة العيد فـ"أل" هنا للعهد الذهني: لماذا؟ لأنه لم يسبق لها ذكر هنا. من فوائد الحديث، أولًا: أن زكاة الفطر فرض واجب لقوله: "فرض رسول الله". ثانيًا: أن هذه الزكاة لا تصح إلاّ في آخر الشهرة لأنه هو وقت الفطر، فلا تصح في أول الشهر خلافا لمّا ذهب إليه بعض أهل العلم، وقال: إنها لا تصح معللًا ذلك بأن الصيام سبب، والفطر شرط، والقاعدة أنه: "يجوز تقديم الشيء بعد وجود سببه قبل وجود شرط"، مثل: يجوز تقديم الكفارة بعد اليمين، وقبل الحنث، لكن الصحيح أن الفطر سبب، وليس بشرط. ومن فوائد الحديث: أن مقدارها صاع لقوله: "فرضها صاعًا"، فلو نقصت عن الصاع لم تجزى، وهذا للقادر، معلوم أن القادر على دفع الصاع لو لم يدفع إلا نصف صاع لم يجزئ، ولكن إذا كان عاجزًا عن دفع الصاع فهل يدفع ما قدّر عليه منه؟ في هذا خلاف بين أهل العلم- رحمهم الله-: فمنهم من قال: إذا لم يستطع الصاع دفع ما قدر عليه لقوله الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. ولأن بعض الصاع ينتفع به الفقير، فكان دفع بعضه له معنى. ومنهم من قال: إن هذه عبادة مقدرة بقدر معين إذا عجز عن هذا القدر سقطت عنه، لأنها إذا لم تتم على الوصف المطلوب شرعًا فإنها لا تصح، ولكن الصحيح الأول، لعموم قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}، ولأننا نقول: لو عجز عن الوضوء كاملًا في كل أعضائه لتوضأ بما يقدر عليه؛ ولأننا نقول أيضًا: لو عجز عن الركوع والسجود صلى الصلاة وأومأ بالركوع والسجود- هذه هي القاعدة الشرعية-؛ ولأننا نقول: إن دفع البعض فيه منفعة فإذا جاء الفقير بنصف صاع من هذا ونصف صاع من آخر لكان عنده صاع. ومن فوائد الحديث: أنه يدفع- أي الصاع- من التمر والشعير لقوله: "صاعًا من تمر أو شعيره" وهل هذا التعيين من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه هو الغالب، وما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد عينه؟ المشهور من المذهب الثاني، وأن الشارع قصد عين هذا الجنس من الطعام، وعلى هذا فيدفع هذا الجنس من الطعام، وإن لم يكن طعامًا للناس وقت الدفع، "التمر" عند الناس الآن طعام، "الشعير" ليس طعامًا للآدمي، فهل نقول: إن تعيين الرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه مجزئ مطلقًا، أو نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عينه كمثال للطعام؟ لأن هذا. هو الأغلب، والمعروف عند الأصوليين أن القيد الأغلب لا مفهوم له، كما في قوله تعالى: {وربابكم التي في حجوركم} [النساء: 23]. فإن الربيبة وإن لم تكن في الحجر فإنها محرمة على زوج أمها، الظاهر المعنى الثاني؛ أي: أن هذا على سبيل المثال؛ لأنه الغالب،

فائدة: الواجبات تسقط بالعجز

بدليل ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد قال: "كنا نؤديها صاعًا من طعام، وكان طعامنا يومئذٍ التمر، والشعير، والزبيب، والأقط"، وعليه فيكون الأمر مقيدًا بما يكون طعمة للمساكين ومصلحة لهم؛ فإذا جاء وقت من الأوقات بحيث لا يكون التمر طعامًا ولا قوتًا، ولا الشعير كذلك فإنا نقول: أخرج من قوت بلدك. ومن فوائد الحديث: أن القيمة لا تجزئ في زكاة الفطر، وجه ذلك: أنه قال: "صاعًا من تمر أو شعير"، والتمر والشعير غالبًا تختلف أقيامهما، ولو كانت القيمة معتبرة لقال: صاعًا من تمر وما يعادله من الشعير، فلما فرضها من أجناس مختلفة النوع مختلفة القيمة مع الاتحاد بالمقدار علم أن القيمة هنا غير معتبرة، وهذا القول هو الراجح، وإن كان في زكاة المال قد تجزئ القيمة عن عين المال، لكن هنا لا يصح إلا صاعًا من تمر أو شعير أو من طعام. ومن فوائد الحديث: أن زكاة الفطر واجبة على كل مسلم، وما ذكر في الحديث فهو من باب تعداد الأنواع: الحر والعبد، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، فهي واجبة على كل مسلم. فائدة: الواجبات تسقط بالعجز: وهل تجب صدقة الفطر على العاجز الذي لا يقدر، مثل إنسان ليس عنده صاع؟ لا تجب، فهل تبقى في ذمته؟ لا؛ لأن القاعدة عندنا أن الواجبات تسقط بالعجز عنها حين وجوبها؛ ولهذا مر علينا في قصة المجّامع في رمضان حين كان فقيرًا وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ التمر، هل قال: فإذا قدرت فأده؟ لا، فالواجبات المقيدة بزمن إذا جاء ذلك الزمن ولم يكن الإنسان قادرًا عليها فإنها تسقط عنه، وإلا لألزمنا المسلمين بأمور كثيرة يعجزون عنها، كأن نقول: الصلاة إذا كنت غير قادر عليها ثم قدرت فيما بعد تؤديها، وكذلك أيضًا نقول في الكفارات، ونقول أيضًا في الواجبات المالية، فكل واجب إذا كان معينا بزمن وجاء ذلك الزمن وأنت غير قادر عليه فإنه يسقط. ومن فوائد الحديث: شرط الإسلام لوجوب الواجبات لقوله: "من المسلمين"، ولكن هل فقدان هذا الشرط يسقط المطالبة في الآخرة أو لا؟ الصحيح أنه لا يسقط المطالبة في الآخرة، بمعنى: أن الكفار لا نطالبهم بفعل شرائع الإسلام حال كفرهم، ولا نطالبهم بقضائها بعد إسلامهم، لكن لو ماتوا على الكفر فإنهم يعاقبون عليها هذا هو القول الصحيح. ومن فوائد الحديث: تأديتها قبل الصلاة لقوله: "وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة"، لكن ماذا تفهمون من قوله: "قبل خروج الناس إلى الصلاة"؟ هل تفهمون أنها تؤدى في نفس اليوم قبل الخروج؟ هذا هو الظاهر، وإلا لقال: وأمر أن تؤدى قبل ليلة العيد؛ لما قال: "قبل خروج الناس إلى الصلاة" كان ظاهره أنها تؤدى في صباح العيد، ولكن قبل الصلاة.

الحكمة من صدقة الفطر

ومن فوائد الحديث: أن أداءها بعد الصلاة غير مجزئ، لأنه خلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". وبهذا نعرف ضعف قول من يقول من أهل العلم: إنه إذا أداها بعد صلاة العيد في يوم العيد أجزأت مع الكراهة، فنقول له: أين دليلك على الإجزاء، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، وهو إذا أدّاها بعد الخروج للصلاة فقد فعل ما لم يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل فعل ما يخالف أمر الرسول، وإذا فعل ما يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مردود، وأيضًا سيأتيننا في حديث ابن عباس قال: "من أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" وهذا نص صريح في موضع النزاع فيجب المصير إليه؛ لأن النص سواء كان من القرآن أو السنة إذا كان صريحا في موضع النزاع وجب المصير إليه، ولا يمكن أن يكون مقبولًا رفضه. ومن فوائد الحديث: بيان حكمة الشرع في تسوية الناس في مقدار الزكاة وإن اختلفت أجناسها، أو في التسوية في الواجب للزكاة وإن اختلفت أجناسها؛ لأنه قال: "صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير"، حتى لا يختلف الناس في ذلك فيقول هذا: أنا أخرج من جنس جيد نصف صاع. ويقول الثاني: أنا أخرج من جنس رديء صاعين مثلًا، نقول: لا، الشارع قدرها صاعًا لا زيادة فيه ولا نقص، وبهذا نعرف ضعف قول من ذهب إلى أنه إذا كانت الزكاة- زكاة الفطر- من نوع جيد فإنه يجزئ نصف الصاع بدلًا عن الصاع، وممن ذهب إلى ذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، واختار هذا أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: إن صدقة الفطر من البر يجزئ فيها نصف الصاع، وقاس ذلك على الكفارات، فإن الكفارات تجدون في كتب الفقهاء يقولون: الواجب مد بر أو نصف صاع من غيره، والصواب في هذه المسألة- أعني: زكاة الفطر- أنه لا بد فيها من الصاع ولو كان النوع جيدًا؛ لقول أبى سعيد رضي الله عنه: "أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لو أدّاها من اللباس يصح؟ لا يصح؛ لأن الشارع فرضها من الطعام. الحكمة من صدقة الفطر 597 - ولابن عديٍّ والدَّارقطنيِّ بإسنادٍ ضعيفٍ: "أغنوهم عن الطَّواف في هذا اليوم". "الطواف" معناه: التردد على الشيء، "أغنوهم" الضمير يعود على الفقراء، الهاء والواو تعود على الأغنياء الذين يدفعونها، وهذا فيه إشارة إلى الحكمة من وجوب الزكاة، وكونها في يوم

مقدار صدقة الفطر ومما تكون؟

العيد؛ لأن الفقراء إذا أتاهم ما يكفيهم يوم عيدهم استغنوا عن الطواف وشاركوا الأغنياء في الفرحة بالعيد، وهذا من حكمة الشارع. مقدار صدقة الفطر ومما تكون؟ 598 - وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: "كنَّا نعطيها في زمان النَّبيِِّ صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعامٍ أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعيرٍ، أو صاعًا من زبيبٍ". متفقٌ عليه. - وفى روايةٍ "أو صاعًا من أقطٍ" - قال أبو سعيدٍ: "أمَّا أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم". - ولأبي داود: "لا أخرج أبدًا إلا صاعًا". هذا الحديث فيه إشكال من حيث ترتيب اللفظ: "كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم"، من تعطيها؟ الفقراء، وعلى هذا فالمفعول الثاني محذوف الدلالة السياق عليه، فالمفعول الأول محذوف وهو الفقراء، والثاني "هاء"، نعطيها ويعود على زكاة الفطر. وقوله: "في زمن النبي صلى الله عليه وسلم"، أضافها إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن زمنه وقت الحجة حيث فيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم، أما ما بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مما فعله الصحابة فهل هو حجة أم لا؟ نقول: إن أجمعوا عليه فهو حجة لإجماعهم، وإن اختلفوا رجعنا إلى ما يرجحه الدليل. وقوله: "صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر" في هذا إشكال؛ لأن قوله: "أو صاعًا من تمر" هذا بعض من قوله: "أو صاعًا من طعام" فكيف أتى بـ "أو"؟ قال بعض العلماء: إن المراد بقوله: "صاعًا من طعام" الذرة أو الحنطة، ولكن هذا القول ليس بصحيح، والصحيح أن "أو" هنا للتفسير يعني: صاعًا من طعام، وهذا الطعام هو التمر، والشعير، والزبيب، والأقط كما تفسره الرواية الأخرى، وقد جاء مثل هذا الترتيب في حديث مرّ علينا في دعاء الهم والعم وهو قوله: "أسالك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"، فإن "أو" هنا لا تدل على التقسيم؛ لأن ما بعدها داخل في قوله: "سميت به نفسك"؛ لأن ما سمّى به نفسه إما أنه أنزله في كتابه، أو علمه أحدا من خلقه، أو استأثر به في علم الغيب عنده، فيكون ما بعد "أو" كالتفسير لمّا أجمل فيما سبق هنا. زاد على حديث ابن عمر: الزبيب، والأقط، الزبيب: هو العنب المجفف، والأقط: اللبن المجفف سواء رصع أو لم يرصع، هل ذكر البر؟ البر ما ذكر، ولم يثبت فيه حديث عن الرسول

صلى الله عليه وسلم مع أن الفقهاء- رحمهم الله- يكادون يجمعون على أن البرّ من الأصناف التي جاءت بها السنة، ولكن الظاهر أنها لم تأت بها السنة بدليل أن معاوية رضي الله عنه لما قدم المدينة وقد كثر فيها البر قال: أري صاعًا من هذا يعدل صاعين- يعني: من الشعير، يعني: أن البر نصف الشعير، قال: فعدل للناس بذلك، وصار الناس في عهد معاوية يخرجون زكاة الفطر من البر نصف صاع، لكن أبو سعيد رضي الله عنه قال: "أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم". ولأبي داود: "لا أخرجه أبدًا إلا صاعًا" فخالف معاوية في اجتهاده، أيهما أصوب؟ أبو سعيد أصوب بلا شك، لأننا نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فرضها صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير مع أنها مختلفة في الغالب. فيستفاد من هذا الحديث: أن إعطاء صدقة الفطر صاعًا من الطعام ثابت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو من السنة حسب حديث أبي سعيد من السنة التقريرية، وحديث أبن عمر من السنة القولية. وفيه أيضًا من فوائد حديث أبي سعيد: أن اختلاف الأنواع لا يستلزم اختلاف التقدير كيف ذلك؟ لأنه قال: "صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير"، ولم يختلف المقدار مع اختلاف الأنواع. ومن فوائد الحديث: أن الأولى بالمؤمن أن يأخذ بظاهر النص لفعل أبي سعيد رضي الله عنه، لأنك إذا أخذت بظاهر النص صار ذلك حجة لك عند الله، لكن إذا خالفت ظاهر النصر لمعقول رأيته فإن ذلك قد يكون حجّة عليك، فيقال لك: ما الذي أعلمك أن الله أراد كذا أو الرسول أراد كذا، الآن نقول: يجوز أن يقدمها قبل العيد بيوم أو يومين متى؟ أي: يوم سبعة وعشرين، ثمانية وعشرين على خطر؛ لأنه إن وفى الشهر صارت قبله بثلاثة أيام وعلى هذا فهو خطر فيخرج في اليوم التاسع والعشرين. ومن الفوائد التي لا بد أن نذكرها: هل زكاة الفطر واجبة على الأعيان أو هي كالنفقة تجب على من تجب عليه نفقة الإنسان؟ الصحيح أنها واجبة على الأعيان وأن الإنسان يجب أن يؤدي زكاة الفطر عن نفسه، فمثلًا إذا كان ولد في بيت ويستطيع أن يؤدي زكاة الفطر بنفسه، فإن أباه لا يتحمل عنه هذه الزكاة، بل يجب عليه أن يخرج، المرأة الزوجة تستطيع أن تدفع صاعًا عن نفسها لا يلزم زوجها أن يخرج عنها؛ لأن ابن عمر يقول: "فرضها على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير". فهي فرض على الإنسان نفسه، لكن لو تبرع صاحب البيت، أو رب البيت بإخراجها عمن في بيته فهذا جائز؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه كان يفعل ذلك كان يخرج زكاة الفطر عمن في بيته.

وقت صدقة الفطر وفائدتها

ومن فوائد حديث أبي سعيد: أن الصحابة كانوا يخرجون زكاة الفطر من هذه الأجناس الأربعة من غير نظر للفرق بينها في القيمة، فقد يكون صاع التمر بالقيمة يساوي قيمة صاعين من الشعير فيخرج صاعًا، وكذلك نقول في الزبيب والأقط فلا عبرة بالقيمة، العبرة بهذا القدر. ومن فوائده: البقاء على ظاهر اللفظ دون تدخل العقل لقول أبي سعيد: "أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم"، لأننا لو أن العقل تدخل في هذا الأمر، لقلنا: إذا كان الزبيب أغلى من الشعير لوجب إخراج نصف صاع مثلًا، يعني: إذا كان قيمة الشعير أنقص من قيمة الزبيب بالنصف، لقلنا: إنه يجزئ أن يخرج من الزبيب نصف صاع، وإذا كانت أدنى منها بثلاثة أرباع يخرج ربع صاع وهكذا، ولكن نقول: إنه لا مدخل للعقل وللتفكير في هذا الباب. وقت صدقة الفطر وفائدتها: 599 - وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر؛ طهرةً للصَّائم من اللَّغو والرَّفث، وطعمةً للمساكين، فمن أدَّاها قبل الصَّلاة فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومن أدَّاها بعد الصَّلاة فهي صدقةٌ من الصدقات". رواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم. نقول في "فرض" كما قلنا في حديث ابن عمر، أي: أوجب على سبيل الإلزام، "طهرة" هذه مفعول من أجله؛ أي: لأجل تطهير الصائم من اللغو والرفث، "اللغو": الكلام الذي لا فائدة منه، والرفث الكلام والفعل الذي يأثم به الإنسان. * والصائم لا يخلو من إحدى ثلاث حالات: - إما أن يحفظ صومه فلا يتكلم إلا بما فيه خير ولا يفعل إلا ما فيه خير وهذا أعلى الأقسام. - وإما أن يهمل صومه يشتغل بالرفث والفسوق والعصيان فهذا شر الأقسام. - وإما أن يأتي بصومه بلغو لا فائدة فيه ولا مضرة فهذا لا إثم عليه لكنه حرم نفسه خيرًا كثيرًا لماذا؟ لأنه كان بإمكانه أن يشغل هذا الشيء الذي جعله لغوًا بما هو خير ومصلحة، فالإنسان الصائم لا يخلو من اللغو والرفث غالبًا هذه الصدقة- صدقة الفطر- طهرة له؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، فتكون هذه الصدقة كفارة لما حصل للصائم من اللغو والرفث وتطهيرًا له. الفائدة الثانية. "وطعمة للمساكين" يعني: يطعمونها يوم العيد ويأكلون ويشربون مع الناس، ويكون العيد عيدًا للجميع، ولهذا قال العلماء: إن الأفضل من أصناف زكاة الفطر ما كان أسهل مؤنة مثل التمر، التمر إذا أعطيته الفقير أكله مباشرة، ولكن إذا كان التمر ليس بالشيء المفضل عند الفقير، ويفضل عليه الرز مثلًا فإن الرز يكون أولّى.

وقوله: "للمساكين" المراد بهم: ما يشمل الفقراء، لأنه سبق لنا مرارا بأن الفقير إذا ذكر بدون ذكر المسكين فهوا يشمل المسكين، والمسكين لذا ذكر بدون الفقير يشمل الفقير، وإذا اجتمعا افترقا، فصار الفقير أشد حاجة من المسكين، في الحديث الذي معنا هل هما مجتمعان؟ لا إذن فالمسكين هنا بمعنى: الفقير والمسكين أيضًا، فتكون "طعمة للمساكين" يطعمون يوم العيد، ويكون العيد عيدًا لهم كما هو عيد للأغنياء. فإن قلت: إذا كان الإنسان لا يصوم، إما لأنه صغير ليس من أهل الصيام، وإما لأنه مريض يصوم في أيام أخر، فكيف يصح هذا التعليل "طهرة للصائم" وهذا ما صام؟ فالجواب: أن هذا بناء على الأغلب، وإذا تخلفت هذه العلة في حقه، ثبتت العلة الأخرى وهي "طعمة للمساكين". يقول: "فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات". قوله: "فرض زكاة الفطر" هذا لا شك أنه مرفوع، وقوله: "طهرة للصائم وطعمة للمساكين" هل هو مرفوع أو أنه استنباط من ابن عباس؟ يحتمل أن يكون استنباطًا، ويحتمل أنه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين فرض الزكاة بين أنها طهرة للصائم وطعمة للمساكين. وقوله: "ومن أداها قبل الصلاة" هل هو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، أو هو استنباط من ابن عباس؟ يحتمل أيضًا، لكن الظاهر أنه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم بدليل قوله في حديث ابن عمر: "وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة". في هذا الحديث بيان الحكمة من فرض زكاة الفطر وأنها تتضح في شيئين هما: طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. ومن فوائده: أنه لا بد أن تصرف زكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة لقوله: "فمن أداها .... " إلخ. ومن فوائده: أن العبادات المؤقتة إذا أديت بعد خروج الوقت فإنها لا تقبل لقوله: "ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"، إلا إذا كان لعذر فإنها تقبل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها". وهذه قاعدة ينبغي أن تعرفها أيها الطالب: كل عبادة مؤقتة لا تصح بعد خروج وقتها إلا لعذر، كما أنها لا تصح قبل دخول الوقت، فلو صلى الظهر قبل الزوال لا تصح صلاته، وعليه أن يعيدها بعد الزوال، وإذا صلى بعد أن يصير ظل كل شيء مثله بغير عذر لم تصح؛ لأنه أدّاها بعد خروج الوقت إلا لعذر فليصلها إذا ذكرها.

ومن فوائد الحديث: أنه يشترط لقبول العبادات موافقة الشرع لقوله: "فمن أدَّاها قبل الصلاة ... " إلخ. وهذا له قاعدة مرت علينا فيما سبق، وهى: أن الأعمال تنقسم إلى مقبول وغير مقبول، وأن المقبول: ما وافق الشرع، مر علينا أنه يشترط لكل عبادة أن تكون موافقة للشرع في ستة أشياء وهي تقسيم الأعمال إلى مقبول ومردود لقوله: "فهي زكاة مقبولة". ومنها أيضًا: أن الإنسان إذا نوى عبادة نية مرتبة من أمرين فبطل أحد الأمرين بقي الآخر. الآن هذا الرجل أدى زكاة الفطر بعد صلاة العيد يريد أن تكون صدقة فطر لغي كونها صدقة فطر فبقي وصف الصدقة، فصارت صدقة من الصدقات، وقد أخذ العلماء من ذلك قاعدة- من جملة الضوابط والقواعد- فقالوا: وينقلب نفلًا ما بان عدمه؛ يعني: ما بان عدم فريضته فينقلب نفلًا. مثل: أن يؤدي زكاة ما لا يظن أنه قد بلغ النصاب فلم يبلغ النصاب، فتكون نفلًا صدقة من الصدقات. ومثل: أن يصلي فيتبين أنه صلى قبل الوقت فتكون نفلًا ولا تنفعه. ومثل هذا الحديث: "من أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"، إذن ينقلب الفرض نفلًا ما بان عدمه، أي: إذا تبين أنه لا يمكن أن يكون فرضًا فإنه يكون نفلًا. ومن فوائد الحديث: تحريم تأخير زكاة الفطر إلى ما بعد الصلاة، وجهه: أنها لا تقبل بعد الصلاة، فإذا لم تقبل لم يكن قائمًا بالفرض، وإذا لم يكن قائمًا بالفرض صار آثمًا، وصار ذلك حرامًا عليه، ولكن الفقهاء الذين قالوا: إنها تقبل بعد صلاة العيد في يومه، وتكون مكروهة، وبعد يوم العيد تكون حرامًا، فعندهم: أن وقت الدفع يكون واجبًا، وجائزًا، وحرامًا، ومكروهًا تجب قبل صلاة العيد، ويستحب يوم العيد قيل الصلاة، ويجوز قبل العيد بيوم، ويكره في يوم العيد، ويحرم بعده، فعندهم أن إخراج زكاة الفطر تجزئ فيه الأحكام الخمسة، والصواب: أنه ليس فيه إلا جائزًا ومستحبًا فقط، وأن ما بعد الصلاة فحرام سواء في يوم العيد أو قبله. ويستفاد من الحديث: سمو الشريعة، وأنها لا توجب الشيء إلا لحكمة لتبيينه العلة في وجوب زكاة الفطر. هل يؤخذ من هذا الحديث: وجوب إطعام الجائع، لقوله: "فرضها طعمة للمساكين؟ " إذا كانت العلة موجبة للفريضة صارت عامة، فكل ما احتاج الفقراء إلى طعام وجب علينا إطعامهم، وهل هو فرض عين أو فرض كفاية؟ إذا وجد شخص يطعم هؤلاء المساكين الجياع فإنه لا يجب علينا إطعامهم، لأنه فرض كفاية.

2 - باب صدقة التطوع

2 - باب صدقة التَّطوُّع هذا من باب إضافة الشيء إلى سببه أو إلى نوعه؟ إن قلت: إلى سببه فالمعنى: الصدقة التي حمله عليها التطوع لله. وإن قلت: إنها من باب إضافة الشيء إلى نوعه، فمعناه: أن الصدقة تكون تطوعا، وتكون واجبة وهو كذلك، فهي إذن من باب إضافة الشيء إلى نوعه. الصدقة الواجبة. مثل زكاة المال وزكاة الفطر. مفهوم صدقة التطوع وفائدتها: وصدقة التطوع: هي ما يتقرب به الإنسان إلى الله تعالى ببذل المال من غير أن يجب عليه، صدقة التطوع من رحمة الله- سبحانه وتعالى- بعباده؛ لأن الفريضة قد يؤديها ناقصة، والنوافل تكمل بها الفرائض، كما جاء ذلك في حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن فوائد صدقة التطوع: أن فيها زيادة إيمان، فإن الإنسان يزداد إيمانا بصدقته؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ومن حكمة الله عز وجل بعباده أنه ما جعل عليهم فريضة إلا جعل لهم نافلة من نوعها، كل الفرائض لها نافلة من نوعها، نبدأ بالصلاة لها نافلة من نوعها مثل: الرواتب، والوتر، وصلاة الليل، وصلاة الضحى، الصدقة: لها الزكاة واجبة، وما عداها تطوع، الصوم: كذلك فيه واجب وفيه تطوع، الحج: فيه واجب وفيه تطوع، حتى يكمل الواجب بالتطوع. استحباب إخفاء الصدقة: 600 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "سبعةٌ يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظل إلاَّ ظلُّه ... ". فذكر الحديث وفيه: "ورجلٌ تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها حتَّى لا نعلم شماله ما تنفق يمينه". متَّفقٌ عليه. قوله: "سبعة" هل تعيينهم هنا بالشخص أو بالوصف؟ بالوصف، يعني: ليسوا سبعة أشخاص فقط. المراد: سبعة، هذا وصفهم يبلغون كثيرًا، كل من اتصف بواحد من هذه الأوصاف فهو داخل في الحديث. وقوله: "يظلُّهم الله في ظله" ليس المراد: ظل ذاته؛ لأن الله عز وجل نور وحجابه النور، والمراد: ظل يخلقه إمَّا ظل العرش أو غيره، المهم أن هذا ظل مخلوق، وليس هو ظل الله عز وجل. وقوله: "يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه" أي: يوم القيامة، فإن الظلال تتضاءل وتضمحل، وتذهب في ذلك اليوم؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- يقول: {ويسألونك عن الجبال فقال ينسفها ربي نسفًا * فيذرها

قاعًا صفصفًا * لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا} [طه: 107]. وكل ما على الدنيا سيزول: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملًا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدًا جرزًا} [الكهف: 7، 8]. صعيدًا خاليًا فيه نبات، ولا أشجار، ولا بيوت، ولا شيء. إذن هل على الأرض شيء يستظل به؟ لا، والشمس تدنو من الخلائق في ذلك اليوم قدر ميل قريبًا من رءوسهم، وستكون حارة، لكن من وقاه الله- سبحانه وتعالى- وقاه، فهؤلاء السبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر الحديث ولم يسقه المؤلف رحمة الله لأنه إنما يريد الشاهد فقط، ولكن لا حرج أن نستعرضه: الأول: "إمام عادل" فهذا يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وإنما نال هذا الأجر وغيره من أهل العدل لا ينالونه؛ لأن عدل الإمام دال على أن عدله أمر ذاتي وخلقة وليس تخلقًا؛ لماذا؟ لأن الإمام ليس أحد فوقه لو جار لا يعارض، فعدله دليل على حسن طويته وكمال نيته، وما نوع العدل في الإمام؟ نوع العدل في الإمام يكون في نوع الحكم، ويكون في المحكوم له، ويكون في المحكوم عليه، أمّا نوع الحكم فالعدل فيه أن يكون مبنيًا على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وتمت كلمت ربك صدقًا وعدلًا} [الأنعام: 115]. وأمًا في المحكوم له فألا يراعى في الإلزام بالحق قرابة، ولا شريفًا، ولا صديقًا، ولا قويًا، ولا عزيزًا، بل يكون حاكمًا بينه وبين الناس بالعدل لا يمنح القريب شيئا من أموال الدولة دون البعيد، لا يمنح الوزير، أو غيره من الأعيان شيئًا دون الآخرين، بل يجعل الناس على حد سواء، كذلك في المحكوم عليه لا يحمله بغض هذا الشخص على أن يحكم عليه؛ لأن بعض الناس إذا أبغض شخصًا- والعياذ بالله- ثم مثل بين يديه في حكومة يحكم عليه، ولهذا قال الله- سبحانه وتعالى-: {* يأيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء: 135]. وقال عز وجل: {يأيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنئان قوم على ألا تعدلوا} "شنئان" بمعنى: بغض. {على ألا تعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]. وقال تعالى: {ولا يجر منكم شنئان قوم على ألا تعدلوا} [المائدة: 8]. يعنى لا يحملنكم صدكم عن المسجد الحرام على العدوان بل الزموا العدل. "وشاب نشأ في طاعة الله" يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وإنما كان له هذا الأجر العظيم؛ لأن الشباب عادة يكونون غير مستقيمين إلا من هداه الله، فإذا نشأ في طاعة الله وألفها وأحبها وأقامها، نال هذا الأجر العظيم، الشاب من البنوة إلى الثلاثين، وقيل: إلى الأربعين، ولكن يوجد بعض الناس يصل إلى الثلاثين وهو شاب، وإذا جاوز الثلاثين انحرف ويوجد من ليس كذلك، المهم أن الشاب وهو صغير السن هو الذي نشأ في طاعة الله.

"ورجل قلبه معلق بالمساجد" هل المراد بالمساجد: أمكنة السجود، أو أزمنتها، أو نفس السجود، أو الجميع؟ الظاهر أن المراد: الجميع، بمعنى: أنه دائمًا يذكر سجوده لله عز وجل ويذكر أوقات السجود، وكلما مضى وقت للصلاة تجده ينتظر الوقت الآخر بلهف وتشوق، وأمكنة السجود وهي المساجد، كذلك إذا خرج من المسجد فقلبه باق في المسجد يألفه ويرجع إليه فيحن إليه: {إنما يعمر مساجد الله من امن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة واتى الزكاة ولم يخشى إلا الله} [التوبة: 18]. فإذن نقول: هذا الرجل المعلق بالمساجد وبالسجود، وأوقات السجود، وأمكنة السجود، وإذا كان قلبه معلقا بالمساجد فإنه من باب أولى أن يكون معلقًا بالمسجود له وهو الله عز وجل، فيكون دائمًا يذكر الله- سبحانه وتعالى- بقلبه، ولسانه وجوارحه: {يذكرون الله فيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} [آل عمران: 191]. ولا أشرح للصدر ولا أسر للقلب من تعلقه بالله- سبحانه وتعالى- وكونه دائمًا يذكره بآياته الشرعية، وآياته الكونية؛ لأن ما من شيء أمامه إلا وهو دال على الله. وفي كلّ شيء له آية ... تدل على أنه واحد فكون الإنسان دائمًا مع الله- سبحانه وتعالى- يذكره بقلبه ولسانه وجوارحه هذه هي الحياة الطيبة، وهو أسرُّ ما يكون للقلب ومع ذلك ففيه هذا الأجر العظيم. "ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه" "تحابا في الله" لا لقرابة، ولا لأمر دنيوي، ولا لأمر شخصي، ولكن لله عز وجل، "تحابا في الله" ما أحبه إلا لأنه مطيع لله عز وجل، مجتنب لمعاصيه، والحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، بل لا يمّكن أن يذوق الإنسان حلاوة الإيمان حتى يوالي في الله ويعادي في الله، فإن هذا هو العروة الوثقى. هذان الرجلان تحابا في الله اجتمعا عليه في الدنيا ما داما حيين، وتفرقا عليه- يعني: بالموت- ماتا وهما على ذلك على أنهما متحابان في الله، هل يحب الإنسان غيره بعد موته؟ نعم ليس فيه إشكال، نحن نحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحب أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، وسائر من سبقونا بالإيمان، ومع ذلك فإننا لم نعش معهم، ونحب أيضًا من عشنا معه، ومات قبلنا من المؤمنين، هذا معنى: "فتفرقا عليه"، فالتفرق لا يلزم منه التفرق في المحبة. "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله"، "دعته امرأة" لنفسها لينال شهوته منها، وهي ذات منصب، يعني: ليست امرأة دنيئة من أسافل الناس حتى تعافها نفسه من أجل ذلك، وهي ذات جمال أيضًا ليست قبيحة ينفر منها من رآها، بل هي جميلة وذات حسب، ولم يقل: ذات دين، لماذا؟ لأنه لو كان لها دين قوي ما دعته لكنها لها حسب. والمرأة قد تغلبها شهوتها حتى تدنس حسب قومها- والعياذ بالله-، كما أن الرجل قد يكون

كذلك، وهي "جميلة" فقال: "إني أخاف الله" إذن المكان خال ما عندهما أحد، والرجل قوي عنده شهوة، ما الدليل؟ الدليل: أنه لم يذكر مانعًا سوى خوفه من الله، لم يقل: والله ما عندي شهوة، ولم يقل: عندنا ناس، ولم يقل: أخشى أن يرانا أحد، أو أن يسمع بنا أحد أبدا. ما خاف إلا من الله عز وجل، هذا يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله لكمال عفته، فالأسباب للفتنة موجودة وهو الحسب والجمال، والموانع مفقودة لا توجد موانع من الخلق تمنعه، ولكن يمنعه خوف الله، فقال: "إني أخاف الله" وتركها، وهذا له أسوة بيوسف- عليه الصلاة والسلام-، فإن يوسف دعته أمرأة العزيز: {وغلق الأبواب وقالت هيت لك} [يوسف: 22]. ولكنه امتنع من ذلك خوفا من الله وإلا فإن الرجل ليس مفقود الشهوة بل عنده قدرة، {ولقد همت به وهم بها} [يوسف: 24]. ولكنه- عليه الصلاة والسلام- بعد أن هم رأى برهان الله عز وجل وهو ما جعل الله في قلبه من نور الإيمان فتركها، فصرف الله عنه السوء والفحشاء لأنه كان من عباد الله المخلصين. أما السادس: فهو "رجل تصدّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"، تصدق بصدقة، الصدقة هنا أعم من أن تكون نفلًا، فهي شاملة للواجب والمستحب، "تصدق بها. فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تفق يمينه"، قال: إن المراد بالشمال من على شماله يعني: من الناس بحيث يمدها هكذا من اليمين ولا يطلع عليها أحد. وقيل: لا تعلم شماله؛ أي: يده الشمال ما تنفق يميته، وهذا أقرب، ولكن من المعلوم أنه كناية عن شدة الإخفاء، حتى إنه لو أمكن أنه لو تعلم اليد اليسرى ما أنفقت اليمنى لحصل. لا يقال: إن هذا مجاز، نقول: لأن كل أحد يعرف بأن اليد اليسرى ليس عندها علم، لكن المعنى: أنه لشدة إخفائها لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وهذا لكمال إخلاصه لله عز وجل وكمال رحمته بأخيه الذي تصدّق عليه حتى لا يخجله أمام الناس لأن كثيرًا من الناس يكره أن يطلع الناس أنه فقير يتصدق عليه، فهذا الرجل لشدة إخلاصه وأنه لا يريد أن يمدحه أحد لنفقاته أو صدقاته، ولشدة رحمته بأخيه حتى لا يرين أحد من الناس أنه من عليه بالصدقة أخفى هذه الصدقة. أما السابع: "فرجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه" شوقًا إلى ربه عز وجل، ومحبة للقائه وأنه ذكره خاليا عن حضور الناس أو خالي القلب عما سوى الله، أو الأمران؟ الظاهر الأمران خاليا عن حضور الناس؛ فهو لم يبك رياء وملمعة خاليا قلبه عما سوى الله لأن القلب إذا صفا وخلا من غير الله صار عنده من الخشوع والشوق إلى الله عز وجل والخوف من عقابه ما لا يكون إذا كان متعلقا بغير الله- سبحانه وتعالى-، فهذا الرجل ذكر الله خاليًا سواء كان يقرأ، أو يصلي، أو يتأمل، أو يقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أو ما أشبه ذلك، المهم: أنه خال ففاضت عيناه شوقًا إلى ربّه، والإنسان أحيانًا يشتاق إلى الله- سبحانه وتعالى- حتى يود أنه ملاقيه الآن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك الشوق

إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة". والشوق إلى الله عز وجل دليل على كمال الإيمان والمحبة، فهذا الرجل كان في قلبه من محبة الله عز وجل ما أوجب له أن يشتاق إلى الله فذكر الله خاليا ففاضت عيناء من البكاء، هذا يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. واعلم أن هذه الأوصاف الحميدة قد يكون في الإنسان صفة واحدة أو صفتان أو أكثر، بل قد تجتمع كل الصفات فيه يكون إمامًا عادلًا، ويكون متصفا بالصفات الأخرى، وفضل الله تعالى يؤتيه من يشاء. نأخذ الآن من فوائد الحديث: ما أثبته المؤلف وهو قوله: "رجل تصدق بصدقة"، كلمة "رجل" ليس لها مفهوم، لماذا؟ إما لأن التعبير بالذكور أشرف من الإناث، وهذا أمر معروف، وأكثر ما عبر الله في القرآن بصيغة الذكور، لأنه أشرف، أو يقال: إن هذا مفهوم لقب، يعني: ليس أمرًا مشتقًا حتى يؤخذ منه أن ما لم يوجد فيه هذه الصفة فإنه مخالف للحكم، ومفهوم اللقب عند الأصوليين ليس له عبرة، المهم أن الرجل والمرأة في هذا سواء. وقوله: "تصدق بصدقة" يشمل الواجب والمستحب. وقوله: "أخفاها" أي: كتمها فلم يبينها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ذكرناها. فيستفاد من هذا الحديث: فضيلة إخفاء الصدقة، وأنه كلما أخفاها الإنسان كان ثوابه أكثر. فإن قلت: أليس الله- سبحانه وتعالى- يثني على العباد الذين أنفقوا مما رزقهم الله سرًا وعلانية فما هو الجمع بين الحديث وبين الآية، وكذلك ما الجمع بين قوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وان تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271]. قلنا: الأصل في الصدقة من حيث هي أن إخفاءها أفضل؛ لأنه أبعد عن الرياء، وأبعد عن إظهار المنة على من تصدق عليه، وأبعد أيضًا عن كسر خاطره أمام الناس، هذا من حيث هي صدقة، فإن اقترن بها ما يجعل إعلانها خيرًا من إسرارها صار إعلانها خيرا، لأنه قد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل، كيف يكون الإعلان خيرا من الإسرار؟ إذا كان المقصود الاقتداء، يعني: هذا الرجل تصدّق ليراه الناس فيقتدوا به هذا واحد. ثانيًا: ربما يكون هذا الرجل الذي تصدق عليه محتاجا ولا تكفيه صدقته فيتصل ق إظهارًا لحاجة الرجل لأجل أن يعطيه الناس، فإذن قد يكون في إظهارها خير إما للمتصدقين، أو للمتصدق

فضل صدقة التطوع

عليه، إما للمتصدقين إذا اقتدوا بهذا المتصدق وإما للمتصدق عليه إذا أعطاه الناس كما أعطاه هذا الرجل، وإلا فإن الأصل هو الإخفاء. فضل صدقة التطوع: 601 - وعن عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتَّى يفصل بين النَّاس". رواه ابن حبان والحاكم. "كل" هذه من ألفاظ العموم، و"امرئ" نقول فيها مثل ما قلنا في "رجل" السابقة؛ يعني: كل امرئ وامرأة. "في ظل صدقته" يحتمل أن يكون المراد بالظل هنا: الحماية، يعني: أن الله تعالى يحميه من أجل الصدقة، ويحتمل أن يكون ظلًا حقيقيا، بمعنى: أن الصدقة تجعل كالظل على رأسه، أيهما أولى؟ الثاني أولى؛ لأن الحقيقة هي الأصل، والصدقة قد تكون ظلًا، فإن الله- سبحانه وتعالى- قادر على أن يجعل المعاني أعيانًا والأعيان معاني، فهذه الصدقة وإن كانت عملًا مضى وانقضى وهو فعل من أفعاله، لكن المتصدق به شيء محسوس قد يؤتى به يوم القيامة بصفة شيء محسوس، بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان أو غمامتان، أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة، فهذا القرآن كلام الله عز وجل وهو فعل القارئ ومع ذلك يجعل الثواب كأنهما فرقان من طير صواف، فهذه الصدقة يجعلها الله تعالى شيئا محسوسًا يظل صاحبها. وحدثني وأنا صغير رجل يقول: إنه كان بخيلًا ولا يأذن لامرأته أن تتصدق بشيء من ماله فنام نومة، فرأى في المنام كأنه في يوم القيامة، وكأن الشمس قريبة من الناس، والناس يموج بعضهم في بعض، ومشقة شديدة، يقول: فجاء شيء مثل الكساء ظلل عليه، لكن فيه ثلاثة خروء تدخل منها الشمس، يقول: فرأى كأن شيئا يشبه التمرات ثلاث تمرات جاءت وسدت هذه الخروء، فانتبه ولما انتبه فإذا هو قد تأثر من الرؤيا فحكاها على زوجته، وكان هو بخيلًا، قال: رأيت كلا وكذا قالت: نعم، الذي رأيته حق: إنه جاءنا فقير، وإني أعطيته ثوبًا من عندنا، وجاء بعده فقير فأعطيته ثلاث تمرات، الثوب هو الكساء الأول والتمرات هذه الشقوق الثلاثة جاءت هذه التمرات فرقعتها، وهذا الحديث الذي معنا يشهد لصحته. ففي هذا الحديث دليل على فضيلة الصدقة، وعلى أنها تكون يوم القيامة ظلًا لصاحبها، وأنها تكون ظلًا في جميع يوم القيامة حتى يفصل بين الناس.

وفيه دليل على: إثبات يوم القيامة، وعلى الحساب والجزاء لقوله: "حتى يفصل بين الناس"، وما الذي يقضى فيه أولًا؟ أول ما يقضى بين الناس في الدماء، وأول ما يحاسب عليه الإنسان من حقوق الله الصلاة. وقوله: "حتى يفصل" هل المراد: الحكم بين الناس بين المعتدي والمعتدي عليه، أو الفصل بين الناس حتى في تمييزهم فريق إلى الجنة وفريق إلى النار؟ الأخير؛ لكنه ملازم للأول. 602 - وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أيّما مسلم كسّا مسلمًا ثوبًا على عري؛ كساه الله من خضر الجنَّة، وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنَّة، وأيُّما مسلمٍ سقى مسلمًا على ظمأٍ سقاه الله من الرَّحيق المختوم". روا أبو داود، وفي إسناده لينٌ. "اللين" أعلى من الضعف؛ يعني: لا يصل إلى درجة الحسن، ولا ينزل إلى درجة الضعيف. قوله: "أيما مسلم كسا"، "أيما" هذه أداة شرط، "أي" أداة شرط مبنية على الضم، و"ما" زائدة، وممكن أن نقول: "أي" مبتدأ مرفوع بضمة ظاهرة؛ لأنها معربة هنا هذا هو الظاهر. وقوله: "مسلم" نقول: "أي" مضاف، و"مسلم": مضاف إليه، وفعل الشرط: "أيما مسلم كسا"، وجواب الشرط: "كساه الله". قوله: "أيما مسلم" خصه بالمسلم؛ لأن غير المسلم وإن كسا غيره فلا يستفيد من هذا؛ لأن الله يقول: {وما منعهمّ أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله} [التوبة: 54]. ولهذا أجمع العلماء على أنه من شرط صحة العبادة وقبولها أن تكون من مسلم فالإسلام شرط لجميع العبادات، والردة إذا بقيت إلى الممات تحبط جميع الأعمال، وأما خضر الجنة هي ما ذكره الله تعالى: {عليهم ثياب سندسٍ خضرٌ} [الإنسان: 21]. يعني: من السندس الأخضر، واللون الأخضر لون يريح النظر ويسر النفس؛ ولهذا كانت عامة النباتات من اللون الأخضر، والله عز وجل يقول: {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} [ق: 7]. فلا شك إن الأخضر ترتاح له العين أكثر. وقوله: "على عري"؛ لأن هذا هو موطن الحاجة إذ إنه إذا كساه على كسوة، فإن هذا فيه إحسان إليه، لكن ليس فيه دفع لضرورته بخلاف ما إذا كساه على عري. وقوله: "أيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع" يعني: وجد إنسانًا جائعًا فأطعمه، "فإن الله يطعمه من ثمار الجنة"، وثمار جمع ثمرة، وهو ما يوجده الشجر، ومعلوم أن الجنة فيها أنواع متنوعة من الثمرات، قال الله- تبارك وتعالى-: {فيهما من كل فاكهة زوجان} [الرحمن: 52].

وقال في الجنتين الأخريين: {فيهما فاكهة ونخل ورمان} [الرحمن: 68]. فإذا أطعمت مسلمًا على جوع، فإن الله يطعمك من ثمار الجنة. "وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأٍ سقاه الله من الرحيق المختوم"، "الرحيق" معناه: الخالص الصافي من كل شيء، ومعلوم أن أنهار الجنة أربعة أنهار: {فيها أنهار من ماء غير أسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]. و"المختوم" بيَّن الله عز وجل بماذا هو مختوم فقال: {ختامة مسك وفى ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26]. ففي هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: فضيلة كسوة المسلمين، وإطعامهم، وإسقائهم، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الجزاء حقًا وترغيبًا. وفيه أيضًا: إثبات الجزاء لقوله: من فعل كذا فعل الله به كذا. وفيه أيضًا: أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن الأول كسا فكسي، أطعم فأطعم، سقى فسقى. وفيه أيضًا: إثبات الجنة، هذا أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام، وهي الآن موجودة لقوله تعالى: {أعدت للمتقين} [آل عمران: 133]. وستبقى دائمًا، فإنها منذ خلقت لا تفنى، وكذلك النار منذ خلقت لا تفنى. وفيه أيضًا: إثبات الأفعال الاختيارية للعبد لقوله: "كسا، وأطعم، وسقى"، ولولا أنها اختيارية ما حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ولا كان للجزاء عليها فائدة. وفيه أيضًا: أن هذه الأعمال لا تنفع إلا إذا كان الإنسان مسلمًا لقوله: "أيما مسلم" فإن وقعت هذه الأعمال من الكافر لن تنفعه، ولكن هل يجازى عليها؟ نعم، قد يجازى عليها في الدنيا فيوسع له في الرزق ويكشف عنه السوء، ويشفى من المرض وما أشبه ذلك، أما في الآخرة فلا حظ له فيها. وقوله: "وأيما مسلم سقى مسلمًا" هل يؤخذ منه أن هذا الثواب لا يكون إلا إذا كان المنعم عليه مسلمًا؟ الجواب: نعم؛ لأن الإنعام على المسلم خير من الإنعام على غير المسلم، ولكن هل في الإنعام على غير المسلم أجر؟ الجواب: نعم؛ إلا الكافر الحربي فالإنعام عليه يكون بدعوته للإسلام وإلا يقتل، فأما الذمي والمعاهد والمستأمن، والحمار، والكلب، والبعير وما أشبه ذلك ففيه أجر، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن امرأة رأت كلبًا يلهث من العطش فنزلت وملأت خفها من الماء حتى شرب فغفر الله لها؛ لأنها سقت هذا الكلب على ظمأ، قيل: يا رسول الله، هل لنا في البهائم أجر؟ قال: "في كل ذات كبد حراء أجر".

اليد العليا خير من اليد السفلى

هل يؤجر الإنسان إذا أطعم ذرة أو نملة؟ نعم، إن كانت لا تؤذي، وقد حكيت عليكم قصة ذكرها ابن القيم عن رجل رأى ذرة تمشي فوضع لها طعامًا لكنها تعجز عن حمله فلما رأت الطعام وعجزت عن حمله ذهبت إلى صاحباتها ودعتهن فجئن فلما أقبلت الذر رفع الطعام، فجاءت الذر الطعام، وهذه التي ذهبت تستصرخهن جعلت تبحث ما وجدت شيئًا فرجعت الذر، ثم وضعه مرة ثانية فرأته هذه الذرة وتيقنت فرجعت إلى صاحباتها فلما أقبلن رفعه فجعلن يطلبنه ما وجدنه فانصرفن، ثم وضعه في المرة الثالثة فرأته الذرة فذهبت ودعت صاحباتها فجئن إليه فرفعه فلم يجدنه، يقول: اجتمعن عليها فقتلنها، الذرة هذه حكاية ابن القيم التبعة عليه رحمة الله، يقول: فحكيت ذلك لشيخي، فقال رحمه الله- شيخ الإسلام-: نعم يعني: كل ما له إرادة فإنه يكره الكذب ويجازى على الظلم، ما تقولون في هذا الرجل: هل عليه دية هذه الذرة؟ هو عليه إثم؛ لأنه تسبب في قتلها، إذن نقول: كل شيء يستفيد من الطعام فلك فيه أجر. ويستفاد من هذا الحديث: أن هذا الجزاء مشروط بكون المنعم عليه به محتاجًا إليه لقوله: "على عري"، و"على جوع"، و"على ظمأ"؛ فإن لم يكن كذلك مثل أن يكسو إنسانا عنده كسوة لكن كساه نافلة فهل يصلح له هذا الأجر؟ الظاهر لا؛ لأن القياس هنا قياس مع الفارق؛ لأنه ليس دفعًا للحاجة كتحصيل الكمال النافلة. اليد العليا خير من اليد السفلى: 603 - وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفَّه الله، ومن يستغن يغنه الله". متفقٌ عليه، واللفظ للبخاري. قوله: "اليد العليا خير من اليد السفلى" هذه مبتدأ وخبر يد عليا ويد سفلى، فاليد العليا خير من اليد السفلى؛ لأن العليا عالية والسفلى نازلة، فما هي اليد العليا؟ فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بأن اليد العليا: يد المعطي، واليد السفلى: يد الآخذ المعطى؛ وهذا ظاهر؛ لأن المعطي أعلى رتبة من المعطى، على كل تقدير فتكون يده هي اليد العليا، وقيل: إن اليد العليا هي يد المعطى بلا سؤال واليد السفلى يد المعطى بسؤال، ولكن ما دام الأمر قد فسر من جهة المتكلم به فإن تفسير غيره إن كان لا ينافيه أخذ به، وإن كان ينافيه فإنه لا يؤخذ به؛ لأن المتكلم بالكلام أعلم به من غيره، إذن يد المعطي هي اليد العليا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسرها بذلك، واليد السفلى هي يد الآخذ وإنما كانت خيرًا؛ لأنها معطية باذلة، ولأن لها منه، وأما الأخرى فهي معطاة محتاجة ومتشوفة للغير.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وابدأ بمن تعول"، يعني: إذا أعطيت فابدأ بمن تعول، أي: بمن تنفق عليهم وهم عائلتك الذين في بيتك، ومنهم نفسك؛ فإنك تعول نفسك إذ إنك مأمور بإحيائها وإبقائها، ومنهي عن إتلافها والإضرار بها. قال: "وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"، "خير الصدقة" هل يشمل الزكاة، أو المراد: صدقة التطوع؟ الظاهر: أنه يعم "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"، والزكاة لا بد أن تكون عن ظهر غنى؛ لأنها لا تجب إلا في مال يبلغ النصاب، وتجب جزءًا قليلًا وهو ربع العشر في الذهب والفضة والعروض، ونصف العشر في الزروع التي تسقى بمؤنة، والعشر كاملًا في الزروع التي تسقى بلا مؤنة، وأما الماشية فليس لها حد محدود ولكنها معينة من قبل الشارع. أما الصدقة- صدقة التطوع- فقد تكون عن ظهر غنى، وقد لا تكون عن ظهر غنى، إذا تصدق الإنسان بما زاد عن كفايته وكفاية عياله حتى وإن كان فقيرًا، لو كان هو يعد من الفقراء لكنه عنده فاضلًا عن قوته وقوت عياله فتصدق به فهذا صدقته عن ظهر غنى. مثال ذلك: رجل يدخل عليه في كل يوم خمسة ريالات، ونفقته وعائلته أربعة ريالات، فتصدق بريال، صدقته هذه عن ظهر غنى، وهو يعد في هذا الدخل- في وقتنا هذا- من الفقراء. عرفا لماذا؟ لأن راتبه في الشهر (150) ريالًا، عندنا ليست شيئًا، لكن مع ذلك نقول إن هذا الرجال تصدق بصدقة عن ظهر غنى. مفهومه: أن الصدقة لا عن ظهر غنى ليست خير الصدقة؛ يعني: أن الإنسان لو تصدَّق بما ينقص كفايته وكفاية عائلته فليست الصدقة هذه خيرًا، ويؤيد هذا قوله: "ابدأ بمن تعول"، فإذا صرفت المال لغير من تعول فقد خالفت أمر النبي صلى الله عليه وسلم. فلو قال قائل: أنا أتصدق بما يأتيني من راتب وأبقى أنا وأهلي في حاجة. قلنا: هذا ليس بصواب، وليس هذا خير الصدقة، بل خير الصدقة أن تصدق عن ظهر غنى في الفاضل عن كفايتك وكفاية عائلتك. فإن قلت: ما تقول في قوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9]. وهذا في مقام مدح الأنصار- رضي الله عنهم؟ فالجواب: أن الإيثار ليس أمرًا دائمًا إنما هو يعرض لحاجة، فيبقى هذا الإنسان جائعًا ويعطي غيره لكنه يجوع ثم يجد الكفاية. فإن قلت: ما تقول في قصة أبي بكر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه حين حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فقال عمر: الآن أسبق أبا بكر، ثم جاء بنصف ماله، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تركت لأهلك؟ " قال:

الشطر، ثم جاء أبو بكر بكل ماله فقال: "ماذا تركت لأهلك؟ " قال: تركت لهم الله ورسوله. فقال عمر: لا أسابق أبا بكر بعد هذا أبدا. فأبو بكر رضي الله عنه أتى بكل ماله ليتصدق به. فالجواب- كما قال أهل العلم-: إن الإنسان له أن يتصدق بكل ماله بشرط أن يعلم من نفسه الصبر، ويعلم من أهله الصبر، أما إذا كان لا يعلم الصبر على التقشف لا هو ولا أهله، فإنه لا يتصدق بكل ماله، بل يجب عليه أن يبقي كفايته. قال: "ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله"، "يستعفف" "يستغن" الفرق بينهما أن الاستعفاف: فيما يتعلق بالشهوة الجنسية، والاستغناء: فيما يتعلق بالمال؛ يعنى: من يستعفف عن المحرم سواء كان ذلك نظرًا أو لمسًا، أو قولًا، أو فعلًا، يريد به الزنا الأكبر فمن استعف أعفه الله عز وجل، قال الله تعالى: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضلة} [النور: 33]. {والقواعد من النساء التي لا يرجون نكاحًا فليس عليهم جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن} [النور: 60]. فمن يستعفف يعفه الله أي: يعينه حتى يكون عفيفًا بدون تكلف العفة؛ لأن تكلف العفة مأخوذ من قوله: "من يستعفف"، أما العفة التي تكون طبيعية فهي قوله: "يعفه الله"، ويحتمل أن يراد بقوله: "يعفه الله" أي: يهيئ له ما يعفه من زوجة أو مملوكة يمين، "ومن يستغن يغنه الله" يعني: من يستغني عما في أيدي الناس من المال فإن الله تعالى يغنيه، وهل المعنى يغنيه الله أي: يرزقه كالًا يستغني به عن غيره أو المعنى: أن الله يجعل الغنى في قلبه، فليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس أيهما؟ شامل للأمرين، كم من إنسان خزائنه مملوءة عامرة لكن قلبه معدم- والعياذ بالله- كالأرض الرملية لا تروى من الماء فهو لا يروى من المال أبدًا، وكم من إنسان ليس عنده إلا شيء يسير جدًا فهو كالزجاجة صافية، ولا تشرب ماء، المعني: أنه لا يهتم بشيء قد استغنى قلبه بما في يده من قليل أو كثير، وهذا أمر واضح. إذن فقوله: "يغنيه الله" يشمل أمرين: الغنى الذي هو كثرة المال، والغنى الذي هو غنى القلب واستغناؤه بما في يده عن طلب غيره. من فوائد هذا الحديث: أولًا: تفاضل الناس في الدرجات لقوله: "اليد العليا خير من اليد السفلى"، وهل يؤخذ منه التفاضل في الإيمان؟ ننظر من فوائد الحديث أن المعطى خير من الأخذ وهو واضح. ومن فوائده: أن الإنفاق على الأهل أفضل من الإنفاق على غير الأهل.

فلو قال قائل: أنا عندي درهم هل أتصدّق به على فقير أو أعطيه أهلي؟ قلنا: أعطه الأهل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وابدأ بمن تعول". ومن فوائد الحديث أيضًا: أن على الإنسان عائلة، ويتفرع على هذا: وجوب الإنفاق على العائلة لقوله: "ابدأ بمن تعول". ومن فوائد الحديث: تفاضل الأعمال لقوله: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"، يلزم من تفاضل الأعمال تفاضل الإيمان، لماذا يلزم؟ لأن الأعمال من الإيمان فتفاضلها تفاضل له، وهل عندنا دليل على أن الأعمال من الإيمان؟ لقوله: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، وهذا عمل جعله الرسول صلى الله عليه وسلم إيمانًا، يؤخذ منها: الرد على ثلاث طوائف مبتدعة: المرجئة والوعيدية من المعتزلة والخوارج الوعيدية طائفتان معتزلة وخوارج، إذن المرجئة والوعيدية؛ لأنهما كل منهما يقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن المرجئة يقولون: إن الإيمان هو إقرار القلب ولا يتفاضل، وأولئك يقولون: إن الإيمان هو إقرار القلب، وجميع الأعمال، وهو إما أن يوجد كله، وإما أن يعدم كله. ويستفاد من الحديث: "أن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وهو كالفرع لقوله: "أبدأ بمن تعول"؛ لأنك إذا بدأت بمن تعول فما زاد فهو عن ظهر غنى فيكون خير الصدقة. ومن فوائد الحديث: أن من طلب العفة أعفه الله لقوله: "ومن يستعفف يعفه الله". ومن فوائده: أن من لم يطلب العفة لم يوفق لها، من أرسل نظره وشهوته فيما حرم الله بقي قلبه- والعياذ بالله- منفتحًا لا ينسد متبعًا لكل رذيلة، تؤخذ من باب المفهوم لأن الكلام له منطوق وله مفهوم. منطوقه: "ومن يستعفف يعفه الله" ومفهومه: "ومن لا يستعفف لا يعفه الله". ومن فوائده: أن الجزاء من جنس العمل: "من يستعفف يعفه الله". ومن فوائده: أن من استغنى عما في أيدي الناس أغناه الله عنهم لقوله: "من يستغن يغنه الله". ومن فوائده: أن من لم يستغن عما في أيدي الناس لم يغنه الله عنهم يبقى دائمًا متلهفًا إلى ما في أيدي الناس، حتى إنه إذا ما وجد مع أحد شيئًا وأعجبه قال: زين، هذا الذي معك من أين اشتريته؟ دلني عليه، ما الذي يفعله مثل هذا؟ يمكن أن يخجل، ويقول: خذه. هل نقول: هذا الرجل مستغن عمّا في أيدي الناس؟ لا، ما هو الشاهد من هذا الحديث للباب؟ قوله: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله"، هذا هو الذي قد يكون خارجا عن الموضوع، "ومن يستغن يغنه الله" وهذا يخاطب به من يأخذ الصدقة، وأنه كلما استغنى عما في أيدي الناس أغناه الله.

أفضل الصدقة جهد المقل

أفضل الصدقة جهد المقل: 604 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قيل: يا رسول الله، أيُّ الصَّدقةٍ أفضل؟ قال: المقلِّ، وابدأ بمن تعول". أخرجه أحمد، وأبو داود، وصحَّحه ابن خزيمة، واين جان، والحاكم. المراد بالصدقة: صدقة التطوع، لماذا؟ لأن الصدقة الواجبة تكون من غير الجهد، لأنها لا تجب إلا على من يملك النصاب. وقد يقول قائل: إن هذا ليس بلازم؛ لأن الصدقة الواجبة قد تكون أيضًا من جهد المقل، كيف ذلك؟ يكون رجل عنده عائلة كثيرة، فهذا يكون النصاب أو النصابين لا يجدان شيئًا لكفايته يعنى: هو مقل وإن كان عنده نصاب أو نصابان؛ لأن عائلته كثيرة والمؤنة شديدة، وعليه فينبغي أن نقول: الصدقة هنا شاملة للصدقة الواجبة، وهي الزكاة، وصدقة التطوع، ومن المعلوم أن جنس الواجب أفضل من جنسه من التطوع لقوله تعالى في الحديث القدسي: "ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه". فلو قال قائل: أيهما أفضل صلا? الفجر ركعتان، آو صلاة الضحى ركعتان؟ قلنا: صلاة الفجر، لأنها واجبة، درهم من زكاة أفضل من درهم من صدقة تطوع. وقوله: "جهد المقل" يعني: طاقة المقل كما في قوله تعالى: {والذين لا يجدون إلا جهدهم} [التوبة: 79]. فـ"الجهد" معناه: الطاقة، وأما "الجهد"- بالفتح-: فهو بمعنى المشقة، ومنه حديث الوحي: "غطني- يعني: جبريل- حتى بلغ مني الجهد" أي: المشقة، فالجهد بمعنى: الطاقة، و"المقل" الذي ليس عنده إلا مال قليل، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أن صدقتك على أهلك صدقة: ولهذا قال: "ابدأ بمن تعول"، فإن إنفاقك على من تعول صدقة فإذا بدأت بمن تعول، وزاد على من تعول دخل في الحديث السابق: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"، وبهذا يمكن الجمع بينه وبين الحديث السابق؛ لأن الحديث السابق يدل على أن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وهنا يدل على أن أفضل الصدقة ما كان جهد مقل. فنقول: إذا بدأت بمن تعول صار الزائد- وإن كان من جهد المقل- عن ظهر غنى، وحينئذ لا يكون بينه وبين الأول منافاة، إذن الصدقة خيرها مما كان عن ظهر غنى مطلقا، ثم إن كان هذا المتصدق غنيًّا واسع الغنى، فإن الصدقة ممن دونه أفضل، لأنها جهده.

مثال ذلك: رجل عنده مليون درهم، وآخر عنده عشرة ريالات تصدق، صاحب العشرة بخمسة ريالات، وصاحب المليون بخمسة ريالات أيهما أفضل؟ صاحب العشرة أفضل من حيث النسبة؛ لأنه تصدّق بخمس من عشرة، فهو من حيث النسبة تصدَّق بنصف ماله، والذي تصدق بخمس من مليون تصدّق بنسبة ضئيلة جدًا؛ فلهذا صار الأول أفضل؛ لأن الخمسة أشقّ عليه من مشقة الخمسة على صاحب المليون؛ لأنها نصف ماله بخلاف صاحب المليون. قد يقول قائل: إن سماحة صاحب الخمسة من عشرة تكون أحيانًا أكبر من سماحة صاحب الخمسة من مليون، إذا كان صاحب المليون بخيلًا عثر بحجر فتقطعت النعلة فانجرح قدمه جرحًا عظيمًا، فقال [كلمة معناها أن] الجرح الذي في رجله أهون عليه من الجرح الذي في نعلته، إذا كان صاحب المليون من هذا الطراز فإن الخمسة من المليون بالنسبة إليه أشقّ من خمسة من عشرة بالنسبة للأول، لكن الأخلاق النفسية الغريزية هذه ما علينا منها الكلام على الواقع، فإننا نقول: خمسة من عشرة أفضل من خمسة من مليون، بل ومن مائة؛ إذن هذا معنى قوله: "جهد المقلة" ولكن الكل عن ظهر غنى؛ لأنه قال: "وابدأ بمن تعول". في هذا الحديث من الفوائد حرص الصحابة على العلم؛ لأنهم- رضي الله عنهم- يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم والسؤال عن العلم دليل على الرغبة فيه؛ ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنه: بم أدركت العلم؟ قال: "أدركت العلم بلسان سئول، وقلب عقول، وبدن غير ملول"، "لسان سئولا" حتى إنه رضي الله عنه يأتي إلى الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبلغه أن عنده حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيأتيه في القائلة فيضع رداءه على عتبة الباب وينام حتى يقوم صاحب البيت فيسأله عن الحديث، هل منا أحد يفعل ذلك؟ حتى إن الرجل يقول: يا ابن عم رسول الله، كيف تفعل هذا؟ فيقول: أنا طالب العلم، وطالب العلم يدل نفسه لا للعالم لأنه عالم، ولكن لأجل العلم، الصحابة كانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن هل سؤالهم لمجرد العلم أو للعلم الذي يراد به التطبيق؟ الثاني، وهذه هي ثمرة العلم، ثمرة العلم أن نطبق، فإن لم نطبق صار علمنا كلًا علم بل أشد من الذي لا علم عنده؛ لأن هذا حمّل شيئًا فلم يحمله، كمثل الحمار يحمل أسفارًا، إذن عندما نأتي للعلماء ونسألهم ينبغي لنا أن نسألهم لا لأجل أن نعلم فتكون علومنا نظرية، بل لأجل أن نعلم فتكون علومنا نظرية تطبيقية، وقد كان الصحابة لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، ونحن نحمد الله عز وجل أننا اليوم نرى شبابًا يطبقون ما علموا في صلاتهم وفي جميع

أحوالهم، بينما نجد بعض العلماء عندهم علم كثير، ولكن عندما تشاهدهم في عباداتهم ومعاملاتهم تجدهم لا يطبقون ذلك كما ينبغي، لكن الحمد لله الآن الشباب الملتزمون الذين يتقون الله ما استطاعوا نجدهم يطبقون ما تعلموه، وهذه هي ثمرة العلم. ومن فوائد الحديث: أن الأعمال تتفاضل لقولهم: "أي الصدقة أفضل؟ "، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم والأعمال تتفاضل في جنسها وفي كيفيتها، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة على وقتها" قيل: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين" قيل: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". فالأعمال تتفاضل من حيث الجنس، الواجب أفضل من التطوع، الصلاة على وقتها أفضل من بر الوالدين، بر الوالدين أفضل من الجهاد، هذا اختلاف جنس، أي الصدقات أفضل؟ اختلاف نوع، أو كيفية. إذن نقول: الأعمال تتفاضل، ويلزم من تفاضل الأعمال- ونحن نقول بقول أهل السُّنة والجماعة: "إن الأعمال من الإيمان"- تفاضل الإيمان؛ فيكون في ذلك ردِّ لقول طائفتين مبتدعتين وهما: المرجئة والوعيدية. ومن فوائد حديث: أن الصدقة من قليل المال أفضل من الصدقة من كثير المال لقوله: "جّهد المقل"، واعلم أن الصدقة تتفاضل في كميتها بالنسبة إلى مال المتصدق، وتتفاضل أيضًا في محلها، أي: في موضعها الذي وضعت فيه، فالصدقة على الفقير ذي العيال الذي لا يسأل أفضل من الصدقة على فقير لا عيال عنده، أو على فقير يسأل الناس؛ لأن الأول أحوج وأورع وأزهد، والثاني الذي ليس عنده عيال يسأل، هذا في الغالب يكون عنده مال حتى إن بعضهم إذا مات وجدوا عنده أموالًا كثيرة؛ لأنه واحد ويسأل فتأتيه الأموال وهو لا ينفق. وفي الحديث من الفوائد: أن الأولى والأفضل للإنسان أن يبدأ بمن يعول، وأنه لو جاء يسألنا يقول: أنا عندي مال فمن أتصدق عليه؟ قلنا: على من تعول، ومنهم نفسك؛ لقوله: "وابدأ بمن تعول". ومن فوائد الحديث: أن الإنسان ينبغي له أن يبدأ بالأهم فالأهم؛ لقوله: "ابدأ بمن تعول" فالذي تعولهم نفقتهم واجبة عليك، أمَّا الأجانب فالصدقة عليهم تطوع، يؤخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: "فابدأ بمن تعول".

فضل الصدقة على الزوجة والأولاد

فضل الصدقة على الزوجة والأولاد: 605 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدَّقوا فقال رجلٌ: يا رسول الله، عندي دينارٌ؟ قال: تصدَّق به على نفسك، قال عندي آخر، قال: تصدَّق به على زوجك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدَّق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر به". رواه أبو داود والنسائيُّ، وصحَّحه ابن حبان والحاكم. قوله: "تصدَّقوا" هذا فعل أمر، ولكن هل هو للوجوب؟ إن كان المراد به الزكاة فعلى سبيل الوجوب، وإن كان المراد به ما زاد على الزكاة فعلى سبيل الاستحباب، والصدقة بذل المال لمستحقه، وسميت بذلك، لأنها تدل على صدق إيمان الباذل؛ لأن المال محبوب إلى النفوس كما قال الله تعالى عن الإنسان: {وإنه لحب الخير لشديد} [الغاديات: 8]. وقال تعالى: {وتحبون المال حبا جما} [الفجر: 20]. فإذا بذل محبوبه لنيل أمر غائب دلَّ على صدق إيمانك؛ لأنك أنت عندما تبذل درهمًا تريد به كم من حسنة؟ عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، هل أنت تشاهد هذا الشيء؟ لا، لكن تؤمن به، وبذلك للمحبوب يدل دلالة واضحة على أنك مؤمن بالجزاء عليه، وإلا لما بذلت هذا المال الذي تحبه وتعبت عليه. "فقال رجل: يا رسول الله، عندي دينار قال: تصدق به على نفسك"، بدأ بالنفس؛ لأن حماية النفس واجبة، فإذا كان هذا في إمداد النفس بما فيه قوامها فكيف يدفع الضرر عن النفس، يعني: أنت يجب عليك أن تنفق على نفسك، وهذا الإنفاق إمداد للنفس بما فيه قوامها فما بالك بدفع ما يضرها فإن ذلك أوجب؛ ولهذا نقول: لا يجوز للإنسان أن يتناول شيئا يضره سواء كان مأكولًا أو مشروبًا، إذا خاف الإنسان إذا أكل أن يتخم وتمتلئ بطنه حتى لا يستطيع أن ينهض إذا جلس ولا أن يركع؛ لأن بطته مملوءة، ويخشى أيضًا أن تتغير برائحة كريهة ففي هذه الحال يحرم عليه الأكل حتى لو كان الأكل من أطيب الطيبات، ونحن الآن نأكل كثيرًا وإذا أكلنا قلنا: هات بيبسي لأجل أن يهضمه، فتملأ البطن كثيرًا ثم نحاول أخذ شيء يهضم هذا الأكل، هذا مشكل! أقول: إن الإنسان مأمور بأن يتصدق على نفسه، وأن يمدها بما فيه بقاؤها، فمن باب أولى أن يكون مأمورًا بما يحمي نفسه عن الضرر. فقال: "عندي آخر" قال: "تصدق به على ولدك". وفي حديث آخر: "تصدق به علي زوجك". في رواية للنسائي: "تصدق به على زوجك" قبل الولد، وهذه الرواية أصح، ولعل الراوي إما

نسي أو اختصر هنا، المهم "تصدق به على زوجك" فيبدأ بعد نفسه بالزوجة؛ لماذا؟ لأن الإنفاق على الزوجة إنفاق على النفس في الواقع، كيف ذلك؟ إذا لم تنفق على الزوجة قالت: طلقني وتجبرك على الطلاق، فإذا طلقتها معناه: أنك حرمت نفسك من التمتع، إذن فالإنفاق على الزوجة عائد إلى مصلحة الزوج نفسه، فيكون الإنفاق عليها من باب الإنفاق على النفس: ولهذا يبدأ بها قبل الولد وقبل الوالدين، ثم إن نفقتها معاوضة عوضًا عن الاستمتاع بها، وإذا منع العوض فلصاحب الحق أن يمنع المعوض فيعود الضرر على الإنسان نفسه. قال: "عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك" "الخادم" بعد الولد، لماذا؟ لأن الولد لا انفكاك منه لكن الخادم تستطيع أن تنفك منه، بماذا؟ إن كان مملوكًا بعته، وإن كان حرًا فسخت الأجرة بينك وبينه، وذهب إلى غيرك، لكن الولد مشكل. فكم دينارًا عندنا في هذا الحديث؟ أربعة دنانير، أولًا على النفس، ثم على الزوجة، ثم على الولد، ثم على الخادم، فقال: عندي آخر قال: "أنت أبصر به" معناه: ضعه حيث شئت في المساجد، في إصلاح الطرق، في أي شيء شئت؛ يعني: بعد الأمور المرتبة أنت أبصر به. مسألة: هل يقدَّم الوالد على الولد في الصدقة؟ في هذا الحديث لم يذكر الوالد فاختلف العلماء هل الوالد مقدَّم على الولد أو العكس؟ فقال بعض العلماء: الولد مقدم على الوالد لماذا؟ قال: لأنه بضعة منك فيكون مقدمًا. وقال بعضهم: إن الوالد مقدم على الولد؛ لأن الوالد يجب بره، وبره أوكد من صلة الابن، الابن الإحسان إليه من باب صلة الأرحام، والوالد من باب بر الوالدين وهو أعظم الحقوق بعد حق الله ورسوله، وهذا هو الأقرب أن يبدأ بوالديه، ولكن لاحظوا أن هذه المسألة مفروضة في أن الوالدين لا يمكن أن يقوما بنفقتهما لكبرهما أو مرضهما أو ما أشبه ذلك وإلا لكان الولد مقدمًا، فإذا فرضنا أن أحدا من الناس عنده دينار إما أن يعطيه ولده الصغير الذي لا يستطيع أن يكتسب لنفسه كأن يكون له سنتان مثلًا، أو يكون أبوه كبير بحيث يستطيع أن يتكسب لكن لا يريد العمل، أيهما نقدم هنا؟ نقدم الولد؛ لأن الأب بإمكانه لو يريد العمل، ولكن إذا فرضنا المسألة أنه لا يمكن أبدًا أن يكتسب لا الأب ولا الابن فحينئذ يحصل الخلاف الذي ذكره أهل العلم أو يقدم الوالد. هذا الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في الترتيب يعد جوابًا على سؤال السائل، هل السائل حين سأل يريد أن يعرف الحكم ويجعل هذا العلم في جيبه، أو يريد أن يجعل هذا العلم ظاهرًا في سلوكه؟ الأخير؛ لأن هذه هي حال الصحابة- رضي الله عنهم-. ومن فوائد الحديث: مشروعية الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم: "تصدَّقوا"، وكل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه

مشروع، فإن كان من العبادات فهو إما مستحب وإما واجبا، وإن كان من غير العبادات فإنه جائز ويكون الأمر للإرشاد، وهنا الصدقة من العبادات، وعلى هذا فتكون مستحبة في المستحب وواجبة في الواجب. ومن فوائده: أنه يشرع للإنسان أن يبدأ بنفسه أولًا لقوله صلى الله عليه وسلم "تصدَّق به على نفسك". ومن فوائده: أن الإنفاق على النفس صدقة، ولكن هي صدقة شرعًا أمَّا عرفًا فلا وعلى هذا فلو أن الإنسان حلف قال: "والله لأتصدقن"، ثم ذهب إلى المطعم فأفطر هل يكون بر بيمينه؟ عرفًا: لا لأن الصدقة عرفًا إنما تكون لغير نفس الإنسان، بل ولغير نفقته على زوجته وأهله، فيستفاد من هذا: أن الصدقة في الشرع أوسع منها في العرف. ومن فوائده أيضًا: الترتيب بين المصالح، وأن الإنسان يبدأ بالأهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبدأ بنفسه ثم بولده أو بزوجه على اختلاف الروايتين، والمشهور تقديم الزوجة، وعلَّلوا ذلك بأن الزوجة إذا لم ينفق عليها قالت: طلقني، فإذا طلقها فقد فوت مصلحة تعود إلى نفسه بخلاف الولد. ومن فوائده: جواز اتخاذ الخادم لقوله: "على خادمه"، وهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم على اتخاذ الخدم، بل حتى في القرآن ما يدل عليه كما في قوله تعالى: {أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال} [النور: 31]. ولكن هل نقول: إنه يقتصر فيه على الحاجة، أو للإنسان أن يتخذ خدمًا ولو كثروا؟ الجواب: أنه ينبغي أن يقتصر في ذلك على الحاجة لأمور: الأمر الأول: أن هؤلاء الخدم إذا كثروا لزمك من المؤنة والمراعاة والمسئولية ما لا يلزمك لو كانوا أقل، وهذا قد يتعبك في يوم من الأيام. والثاني: أن كثرتهم قد تؤدي إلى النزاع فيما بينهم. والثالث: أن كثرتهم قد تؤدي إلى الترف فينغمس الإنسان فيه وتغره الحياة الدنيا. والرابع: أن هذا قد يتخذ مباهاة بين الناس أيهم أكثر خدمًا، وحينئذٍ نقول: فإذا جاز الخادم فينبغي أن يكون على قدر الحاجة فقط. ومن فوائد الحديث: أن المفاضلات قد يكون لها غاية؛ بمعنى: أن الإنسان يبين له الأفضل حسب المراتب، ثم يقال له: الباقي أنت أبصر به، ولكنه يشكل على هذا أن الإنسان أحيانا قد يرى أن هذا المفضل دون المفضل عليه في الأولوية، وهذا ما يعبر عنه عند الفقهاء بقولهم: قد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل، فيقال في الجواب على هذا: إن

حكم صدقة المرأة من مال زوجها

الحديث الذي معنا وأمثاله إنما يعني به من حيث الإطلاق، أما إذا وجدت توجب أن تفضل المفضول على الفاضل فهذه الأمور لها حكمها الخاص. ومن فوائد الحديث: جواز إخبار الإنسان عما عنده من المال، لكن بشرط ألا يقصد بذلك المباهاة والمفاخرة، والدليل على ذلك قول الرجل: "عندي دينار" "عتدي آخر"، "عندي آخر"، ولم يعنفه الرسول صلى الله عليه وسلم بل أقره، لكن ينبغي أن يكون هذا إذا لم يقصده على سبيل المفاخرة والمباهاة وإلا فلا إثم، ينبغي أيضًا ألا يخشى بذلك ضررًا، فإن خشي بذلك ضررًا فإنه لا ينبغي أن يخبر بذلك، مثال ذلك: لو كان عندك مال كثير وأخبرت زوجتك بأن عندك ملًا كبيرًا هذا قد يكون فيه ضرر، ما هو الضرر؟ كلما شاهدت عند الناس شيئًا قالت: أعطا مثله، فتفتح عليك بابًا، وكذلك أيضًا ضررًا آخر: حكي لي أن بعض الناس في زمن سبق كان معه كيس فيه تين صرصار، وكان معه صاحب له في السفر، فصاحبه في السفر ظن أن الذي معه دراهم أو دنانير فطمع فيه- والعياذ بالله- فحدثته نفسه أن يقتله، ويأخذ هذا الكيس، يقول: فلما كان ذات يوم ذهب بعيدًا، ثم جاء يقول: أعطني البندق إني رأيت أرنبًا، فكان هذا الرجل ذكيًّا ثم إنه أحس منه برائحة نتنة؛ لأن الإنسان إذا كان عنده شيء من الفتنة ظهرت رائحته، وهذا قد جرب في الأسفار، يقول: فلما قال: هات البندق، يقول: شممت رائحة خيانة، يقول: أخذت الكيس، وقلت: هنا ليس بدراهم هذا تين صرصار، قال: لا، أبدًا ما قصدت هذا. القصد من هذا: أنك لو خشيت ضررًا على نفسك فلا ينبغي، أمَّا إذا كانت المسألة مأمونة فلا بأس بذلك. حكم صدقة المرأة من مال زوجها: 606 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة؛ كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئًا". متَّفقٌ عليه. الحمد لله هذه نعمة كبيرة، هذا شيء واحد صار الأجر فيه لثلاثة: أولًا: المرأة. والثاني: الزوج. والثالث: الخادم. فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها"، كلمة "المرأة" هنا هل المراد بها: الزوجة أو ما هو به أعم؟ الثاني، يعنى: المرأة القائمة على البيت، سواء كانت الزوجة أو الأم، قد يكون الرجل ليس له زوجة، ولكن له أم وهو الذي يأتي بالمال، أو له أخته المهم ممكن أن نقول: إن المرأة هنا: ربة البيت، سواء كانت الزوجة أو غيرها.

وقوله: "من طعام بيتها" هذا الإمكان يمنعه ما في آخر الحديث، وهو قوله: "ولزوجها" وعلى هذا فيكون المراد بالمرأة بناء على القرينة في آخر الحديث: الزوج. وقوله: "من طعام بيتها" الإضافة هنا إليها على سبيل التملك، أو الاختصاص؟ الثاني، وأن البيت ملك لزوجها، وليس لها. وقوله صلى الله عليه وسلم: "غير مفسدة" هذه حال من المرأة؛ يعني: أنفقت حال كونها غير مفسدة؛ يعني: لا تريد إلا الإصلاح، لا تريد إفساد المال وتبذيره على غير وجه مشروع، بل هي تنفق على فقير، على قريب وما أشبه ذلك. المهم: أنها غير مفسدة، وهذا شرط أساسي في كل ما يطلب به الأجر، فكل ما يطلب به الأجر إذا كان مقترن به الفساد فإن الله تعالى لا يرضاه لأن الله يقول: {والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205]. {والله لا يحب المفسدين} [المائدة: 64]. وقوله: "كان لها أجرها بما أنفقت"، الباء هنا للسببية، أي: أجر إنفاقها وإعطائها، والثاني قال: "ولزوجها أجره بما اكتسب" الباء أيضًا هنا للسببية؛ لأن الزوج هو الذي اكتسب المال وأحضره إلى البيت، وهى التي أنفقت وتبرعت فلها أجر الإنفاق ولزوجها أجر الاكتساب، وهنا الجهة واحدة أو مختلفة؟ الطعام واحد، لكن الجهة مختلفة؛ لأن هذا اكتساب وذالك إنفاق، قال: "وللخازن" وهو بمعني: الخادم؛ لأن الذي يخزن الطعام ويضعه في مكانه هو خادم. يقول: "وللخازن مثل ذلك" أي: مثل أجورهم، لكن له أجر الخزانة، لأنه لا اكتسب المال ولا أنفقه، لكن قائم على حفظه فله أجر الحفظ، وهذه- كما ترون- الأجور مختلفة الأسباب. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئًا"، وهذا من نعمة الله عز وجل لا يقال للخادم: أجرك ينقص؛ لأن المال من غيرك، ولا يقال للمرأة: أيضًا أجرك ينقص؛ لأن المال من غيرك، فإذا كان الزوج قد أمر بذلك فله أجر، الأمر أيضًا مع أجر الاكتساب؛ لأن الأجور إنما تصدر من الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى- حكم عدل يعطي الإنسان أجره بقدر عمله مع الفضل في الحسنات لكن ما يعطي أحدًا حسنات غيره وإنما يعطي كل إنسان حسناته ويأجره بقدر أجره، هذا الحديث- كما ترون- فيه ثلاثة كلهم أجروا بقدر أعمالهم، وهذا هو حقيقة العمل. فيستفاد منه عدة أمور أولًا جواز إنفاق المرأة من طعام البيت بشرط أن تكون غير مفسدة. ثانيًا: أن لها أجرا في ذلك. ثالثًا: ظاهر الحديث أن هذا ثابت وإن لم يأذن زوجها بذلك، ولكن يشترط أن يكون هذا داخلًا فيما يقتضيه العرّف أي: فيما جرت به العادة؛ لأن ما جرت به العادة مأذون فيه غرفًا، والقاعدة الشرعية أن ما أذن فيه عرفًا فهو كالذي أذن فيه نطقًا، فإن تصدَّقت بأكثر مما جرت به

جواز تصدق المرأة على زوجها

العادة مثلًا أخذت الدلال وأباريق الشاي وأشياء أخرى تصدَّقت بها، والسكر والشاي وجاء الزوج لم يجد في البيت شيئًا فهذا لا يصلح، أو نقول: داخل في قوله: "غير مفسدة"؛ لأن هذا في الحقيقة- وإن كان ليس إفسادًا- فهذه الأشياء وجهت توجيهًا سليمًا أعطيت للفقراء والأقارب وما أشبه ذلك، لكن في الواقع هي من حيث البيت مفسدة لا شك. إذن نقول: لا بد أن يكون مما أذن فيه عرفًا وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون الزوج بخيلًا لا يرضى بأن تبذل شيئا أو غير بخيل، ولكن هل هو مراد؟ الظاهر: أنه غير مراد، لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا برضاه كما قال تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكونوا تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29]. فلابد من الرضا، فإذا علمت أن الزوج بخيل لا يرضى أن تتصدِّق ولو بتمرة فلا تتصدق. وهنا مسالة تشكل على بعض الناس وهي: أن يأتي الزوج أحيانًا بحاجة للبيت كثيرة لكنها تفسد إذا تأخر أكلها فتقول: الآن أنا بين أمرين إما أن أتصدِّق بها- أي: بالزائدة-، وإما أن يبقى ويفسد، وزوجي يقول: لا تتصدقي بشيء، فما الجواب؟ لا يجوز أن تتصدق، ولكن ما تقولون: إنها إذا تصدقت بالذي سيفسد، ثم عوضته من مالها الخاص فيجوز ذلك، وهذا لا شك إصلاح {والله يعلم المفسد من المصلح} [البقرة: 220]. أما عمل زوجها الأول فهذا ليس بصواب، وكان عليها أن تقنعه بقدر ما تستطيع أن ذلك لا يجوز، فيجوز من الحديث قاعدة "تصرف الفضولي"، وهو الذي يتصرف في مال موكله بغير إذنه، والعلماء اختلفوا في ذلك هل ينفذ التصرف أو لا ينفذ؟ والصحيح أنه ينفذ بالإجازة إلا ما يحتاج إلى نية مثل الزكاة، فهذا قد يقال: لا ينفذ، لاشتراط النية، وقد يقال أيضًا: إنه ينفذ؛ لأنه إذا أذن له فقد أقامه مقامه. جواز تصدق المرأة على زوجها: 607 - وعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال: "جاءت زينب امرأة ابن مسعودٍ، فقالت: يا رسول الله، إنَّك أمرت اليوم بالصَّدقة، وكان عندي حليٌّ لي، فأردت أن أتصدَّق بها، فزعم ابن مسعودٍ أنه وولده أحق من تصدَّقت به عليهم، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحقُّ من تصدقت به عليهم. رواه البخاريُّ. هذا الحديث فيه قصة وهي واضحة بينة، فقولها: "إنك أمرت اليوم بالصدقة"، تقدم لنا أن الأمر هو طلب الفعل على وجه الاستعلاء. وقولها: "بالصدقة" تحتمل أن تكون الصدقة الواجبة، وتحتمل أن تكون صدقة التطوع،

والحديث مطلق، وإذا كان مطلقًا وليس هناك قرينة تدل على تعيين أحد الأمرين كان صالحًا لهما جميعًا. وقولها: "وكان عندي حلي لي"، لا يدل على أنها أرادت أن تتصدق بجميع الحلي، لكن أرادت أن تتصدق بحلي عندها، إما عن زكاة، وإما عن تطوع. وقولها: "فزعم ابن مسعود"، أصل الزعم: يقال للقول الكاذب، ولكن قد يراد به الصدق. وقولها: "أحق" بمعنى: أولى وأجدر، "من أتصدَّق به عليهم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم "صدق ابن مسعود"، "صدق" بمعنى: أخبر بالصدق، ثم أكد هذا أيضًا لم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، بل قال: "زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم" فأكد هذا الكلام بأمرين: الأمر الأول: أنه قال: صدق. والثاني: أنه أعاد الكلام. فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد، الأولى: أن صوت المرأة ليس بعورة، وجه ذلك: أنها تكلمت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أحد، ولو كان صوت المرأة عورة وهذا الحديث فرد من أحاديث كثيرة لا تحصر في أن النساء كن يتكلمن بحضرة الرجال، ولا ينهاهن النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذا يدل على أن صوت المرأة ليس بعورة لمجرد كونه صوت المرأة، لكن لو فرض أن الإنسان صار يسترسل معها في الكلام متلذذًا بذلك فهذا حرام لأن التمتع بصوت المرأة أو بالنظر إليها محرم. كذلك أيضًا يستفاد منه: حرص نساء الصحابة على العلم، لأنها جاءت تستفتي، والاستفتاء طلب علم لأن طلب العلم لا يقتصر على أن يرتسم الإنسان على طلب العلم، وينذر نفسه لذلك ويتفرغ له فحسب، لا حتى الإنسان إذا جاء يسألك عن مسألة فإنه يعتبر طالب علم، قال النبي صلى الله عليه وسلم "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله به طريقًا إلى الجنة". ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: أن الصدقة من العبادات، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وكونها من العبادات أمر واضح، ولكن هذا نأخذه من هذا الحديث. ومن فوائد الحديث: جواز بيان الإنسان أحقيته فيما يستحقه وأن هذا ليس من باب المسألة المذمومة، وجه ذلك: أن ابن مسعود قال: إنه أحق من تصدقت بحليها عليه هو والولد، فإذا قدِّر مثلًا أن إنسانًا كتب إلى جهة توزع الكتب بأنه مستحق وأهل لذلك؛ فإن هذا ليس من المسألة المذمومة؛ لأن الجهة لا تحيط بالناس ولا تعرفهم، فكتابتك إليها مثلًا ما هي إلا تعريف وإعلام وليست سؤالًا، فإذا بيَّن الإنسان أنه أحقَّ بهذا الشيء وإن كان ذلك البيان يستلزم السؤال لكنه ليس بسؤال مذموم؛ لأن ابن مسعود قال ذلك وعلم به النبي صلى الله عليه وسلم وأقره.

ومن فوائد الحديث: أنه يجوز أن يكون الزوج والولد مصرفًا للصدقة. وجهه: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "زوجك وولدك أحق ما تصدقت عليه"، بل فيه زيادة على ذلك أنهم أحق من الناس الأباعد؛ لأن أحق اسم تفضيل تدل على مشاركة المفضل مع المفضل عليه وزيادة فهم أحق، فلو كان لها زوج فقير وفي البلد فقراء آخرون فزوجها أحق، ويتفرع على هذه القاعدة: أن الزوج محل للصدقة الواجبة على زوجته، يعني: أنه يجوز للمرأة أن تصرف زكاتها إلى زوجها، تؤخذ هذه الفائدة من عموم قوله: "أحق من تصدقت به عليهم" وهذا يشمل الصدقة الواجبة والمستحبة، فإن قلت: إنها إذا أعطت زوجها من زكاتها فإن زوجها سوف ينفق عليها من هذه الزكاة؟ الجواب: أن هذا لا يضر؛ لأن زكاتها عادت إليها بسبب آخر- وهو الإنفاق- فلا يضر، كما لو أن الإنسان تصدق على ابن عمه بشاة من زكاته، ثم مات أبن عمه وورث الشاة فتحل له؛ لأنه ملكها بسبب آخر، ومنها أيضًا: جواز دفع الصدقة إلى الولد الذكر والأنثى لقوله: "وولدك"، وظاهر الحديث العموم كما أثبتنا. لكن هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، هل يجوز للزوجة أن تصرف زكاتها إلى زوجها؟ فالمشهور من المذهب أن ذلك لا يحل، وعللوه بأنه ربما ينفق عليها من زكاتها، ولكن هذا ليس بصحيح، كذلك الأولاد دفع الزكاة إليهم لا يحل على المذهب، والصحيح أن دفع الزكاة إليهم يحل لكن بشرط ألا تكون نفقتهم واجبة، أو بعبارة أصح ألا يكون ما دفعه وقاية لما يجب عليه، نقول: يجوز أن يدفع الزكاة إلى ولده بشرط ألا يكون ما دفعه وقاية لما يجب عليه، مثلًا الولد يجب عليك أن تنفق عليه إذا كان دفع الزكاة إليه يقي مالك بحيث يستغني بالزكاة عن النفقة لا يجوز؛ لأنك الآن أعطيته من أجل توفير المال أما إذا كان لا يقي ما يجب عليك فلا بأس به، كيف ذلك؟ له صور منها: إذا كان على ابنك دين ليس سببه النفقة فإنه لا يلزمك أن تقضي دينه، فإذا قضيت دينه من زكاتك فلا بأس؛ لأنك إذا أعطيته زكاتك لم تقِ مالك إذ إن دينه لا يجب عليك قضاؤه أو وفاؤه. مثال آخر، أو صورة ثانية: مالي لا يتحمل الإنفاق على ولدي، عندي مال فيه الزكاة لكنه قليل لا يكفيني إلا أنا وزوجتي، ولا يكفيني أنا وأولادي، فدفعت زكاتي إليهم فيجوز، لماذا؟ لأن نفقتهم في هذه الحال غير واجبة عليَّ فأنا لا أسقط به واجبًا علي فيكون هذا جائزًا. فإذا قلت: ما هو الدليل على الجواز وهم أبناؤه وبضعة منه؟ فالجواب على ذلك عموم

قوله تعالى: {* إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60]. فإننا نسأل هل الولد فقير أو لا؟ إذا قالوا: فقير. قلنا: ادفع الزكاة إليه؛ لأنه استحق، فالزكاة بالوصف الذي علق به الاستحقاق فهو فقير، وأنا الآن لا يجب عليَّ الإنفاق عليه إن كانت المسألة نفقة، ولا يجب عليَّ قضاء دينه إن كانت المسألة قضاء دينه، أيضًا الزوج؛ لأن الزوج أوضح من الأولاد؛ لأن الزوج لا يمكن أن تجب نفقته على الزوجة إلا على رأي الظاهرية. فابن حزم- وهو من الظاهرية- كان يقول: إذا كانت الزوجة غنية والزوج فقيرًا وجب على الزوجة أن تنفق على زوجها؛ لعموم قوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة: 233]. قال: هي ترثه فيجب عليها الإنفاق، وسيأتي لنا- في باب النفقات- أن هذا قول ضعيف، وأن الآية ليس فيها دلالة لما ذهب إليه. إذن نقول: دفع زكاة المرأة إلى زوجها جائز بدليل هذا الحديث، دفع زكاة الإنسان إلى أولاده جائز بشرط ألا يقي بالدفع شيئًا واجبًا عليه، فإن وقى بها شيئًا واجبًا عليه لم يحل؛ لأن هذا حيلة. ومن فوائد الحديث أيضًا: وجوب تصديق المفتي إذا كانت فتواه موافقة للحق، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صدق ابن مسعود"، خلافًا لما يفعله بعض الناس ينقل إليه فتوى من شخص وهو يعرف أنها صحيحة لكن تجده أحيانًا يقول: هذا خلاف المذهب مع أنه يعتقد أن الفتوى صحيحة، فهذا حرام، بل الواجب عليك أن تصدق أيَّ إنسان يفتي بالحق وإن كان من غير أهل العلم، إذا كانت فتواه حقًّا فإنه يجب عليك أن تصدقه، وأن تقول: هذه صحيحة وليس فيها شيء. ومن فوائد الحديث: بيان أن للناس مراتب في الاستحقاق، تؤخذ من اسم التفضيل؛ لأن "أحق" يدل على أن هناك شيئًا مفضَّلًا ومفضَّلًا عليه. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن عبد الله بن مسعود يعتبر من فقراء الصحابة، ومع ذلك فهو من أفضل الصحابة، ومن أصحاب الفتيا فعليه نقول إن الفقر ليس بعيب، بل قد يكون الفقر خيرًا للإنسان، كما يذكر في الحديث القدسي: "إن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى". فالفقر قد يكون خيرًا للإنسان، وقد سبق ذكر خلاف العلماء في الفقير الصابر، والغني الشاكر، أيهما أفضل؟ على قولين لأهل العلم، والصحيح: أن كل واحد منهما أفضل من الآخر من وجه. ساق المؤلف هذا الحديث في باب صدقة التطوع كأنه يميل إلى أن المراد به: صدقة التطوع، والصواب أنه عام، أستدل بهذا الحديث من لا يرى أن الزكاة واجبة في الحلي، واستدل به

من يرى أن الزكاة واجبة في الحلي؟ فما وجه استدلال من قال: إنه يدل على عدم وجوب الزكاة في الحلي؟ من قولها: "وكان عندي حلي فأردت أن أتصدَّق به" يعني: صدقة التطوع، فهل في هذا دليل؟ أبدًا، ليس فيه دليل؛ لأنه لو كان عندك دراهم وأردت أن تتصدق بها هل يدل ذلك على عدم وجوب الزكاة في الدراهم؟ لا يدل على ذلك أبدًا، إذ ليس فيه دليل على أن الزكاة ليست واجبة؛ لأنها قد تتصدِّق تطوعًا بشيء تجب فيه الزكاة، والذين قالوا: إن فيه دليلًا على أن الزكاة واجبة في الحلي، قالوا: إن قولها: "إنك أمرت بالصدقة" أي: بإخراج الصدقة، وهي الزكاة، وأن قولها: "أردت أن أتصدَّق بها" هذا دليل على أن حليها تجب فيه الزكاة، ولكن مع ذلك ليس بصريح، فالذي يظهر لي أن هذا الحديث ليس فيه دليل لا لهؤلاء ولا لهؤلاء إنما فيه دليل على أن امرأة ابن مسعود أرادت أن تتصدَّق به. ومن فوائد الحديث: خرص الصحابة على امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى فيما تتعلق به حوائجهم، كيف ذلك؟ أرادت أن تتصدق بحليها مع أن الحلي عند النساء من أغلى ما يكون؛ لأنه مما يجلب ميل زوجها إليها وهي محتاجة إلى التجمل به أمام النساء، ومع ذلك- رضي الله عنها- أرادت أن تتصق به. وهل يؤخذ منه جواز استعمال النساء للحلي؟ نعم؛ لأن قولها: "كان عندي حلي لي"، فهذا دليل على أنها تملك، ولكن هل هذا الحلي من ذهب أو من فضة؟ هذا الحديث لم يتبين فه شيء، ولكن المعروف أن الذهب حلال للنساء مطلقًا سواء كان مرصَّعًا أو محلَّقا من الأسورة والخواتم وغيرها، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الذهب المحلق كالذهب والخواتم حرام النساء واستدلوا بأحاديث، من العلماء من قال: إنها منسوخة، ومنهم من قال: إنها مخصوصة بحالٍ دون حال، فإذا كان الناس في إعواز وفي حاجة فلا ينبغي للمرأة أن تهتم بالحلي، وإذا كان الناس في سعة فلا بأس، ومنهم من قال: إنها أحاديث ضعيفة لشذوذها وأنها شاذة؛ لأنها تخالف الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على جواز التَّختُّم بالذهب والأسورة من الذهب، وهذا القول هو أقربها عندي، وكنت أظن أن الشذوذ إنما يكون في الحديث الواحد يختلف فيه الرواة، ويكون بعضهم أرجح من بعض، فنقول: إن المرجوح شاذ، ولكن تبيَّن لي من صنيع أهل الحديث أن الشاذ ما خالف الأحاديث الصحيحة ولو كان غير وارد على ما ورد عليه المحفوظ يعني: لو كان هناك حديثان كل واحد منهما مستقل، ومن أمثلة ذلك أن الإمام أحمد رحمة الله قال في حديث أبي هريرة في النهي عن الصيام بعد نصف شعبان: إنه شاذ، ثم استدل لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين" فإن هذا الحديث الأخير متفق عليه، والأول رواه أهل السُّنن، فاستدلوا- رجمهم الله- على شذوذه بمخالفته

كراهية سؤال الناس لغير ضرورة

لحديث الصحيحين مع أن الحديث ليس واحدًا، وكذلك أيضًا قال شيخنا عبد العزيز بن باز في أحاديث النهي عن التختم بالذهب المحلق: إنها شاذة؛ لمخالفتها للأحاديث الصحيحة، فتبيِّن لي بعد ذلك أن الشاذ ما خالف الأحاديث الصحيحة سواء كان المتن وأحدًا أم مختلفًا. وهل في الحديث دليل على أن اليسار ليس شرطًا في الكفاءة؟ الجواب: لا، ليس فيه دليل. أولًا: لأنه لا يمكن أن يقال: إن المرأة التي عندها حلي تعتبر من الأغنياء، كم من امرأة عندها حلي ولكنها في تعداد الفقراء! ثانيًا: ربما هذا الإعسار حدث لابن مسعود فيما بعد. ثالثًا: أننا إذا قلنا إنه شرط في الكفاءة فالصحيح أن الكفاءة ليست شرطًا للصحة إنما هي شرط للزوم على خلاف ذلك أيضًا. ويؤخذ منه: أنه لا مانع أن تذكر المرأة زوجها باسمه. ومن فوائده: جواز التثبت في فتوى العالم، يعني: معناه أنك إذا أفتيت وشككت في الفتوى فيجب عليك أن تتثبت ولا تأخذها على أنها مقولة حق بكل حال. ويؤخذ منه: أنه لا حجر على المرأة في تصرفها في مالها ولو متزوجة، خلافًا لمن قال من أهل العلم: إن المرأة إذا تزوجت لا تتصرف في مالها إلا بإذن زوجها، ففيه دليل على أن الزوجة حرَّة في مالها تتصرف بما شاءت. ويتفرع على هذا فائدة: وهي أن بعض الأزواج الذين يأخذون الرواتب من زوجاتهم قهرًا عليهم يعتبرون ظلمة، وأن هذا لا يحل لهم، لكن لو اصطلحا على أن يمكنها من التدريس بنفس الراتب فهذا جائز ما لم يشترط عليه في العقد أنها تدرس، فإن اشترط عليه في العقد وجب تنفيذ هذا الشرط. ومن فوائده أيضًا: أنه يجوز ذكر المفتي الأول عند المستفتي، ولا يعد ذلك غيبة وإن كان يحتمل أنه اخطأ؛ لأن المقصود الوصول إلى الحق، وممكن أن يكون هناك فوائد أخر تستخرج بالتأمل والاستنباط. كراهية سؤال الناس لغير ضرورة: 608 - وعن ابن عمر رضي اله عنه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم". متفق عليه. "لا يزال"، "يزال" مضارع زاًل، و"زال" لها مضارعات ثلاثة: يزول، يزال، يزيل، فهنا "يزال"، وليست "يزول"، وهي من أفعال الاستمرار إذا دخل عليه النفي، فمعنى "لا يزال يفعل كذا"، أي: أن

فعله مستمر دائم، وهي من أخوات "كان" ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، فـ"الرجل" هنا اسمها، والخبر "يسأل". وأما قوله: "حتى يأتي يوم القيامة"، فـ"يوم" هنا فيها إشكال فهي هنا منصوبة، وهل الفاعل يكون منصوبًا؟ لا يكون منصوبًا إذن كيف جاع منصوبًا هنا؟ الفاعل هنا مستتر تقديره هو، و"يوم" ظرف. قوله: "مزعة" بمعنى: قطعة؛ لأن وجهه- والعياذ بالله- حيث أذله أمام الناس في سؤال الدنيا جاء يوم القيامة وقد أزيل لحمه حتى كان عظامًا- والعياذ بالله- عقوبة له على ما حصل منه في الدنيا من إذلال وجهه، هذا هو الصحيح في تفسير الحديث وهو ظاهره. ففي هذا الحديث عدة فوائد؛ منها: أن سؤال الناس من كبائر الذنوب، وجهه: الوعيد عليه وأن الإنسان السئول الذي لا يزال يسأل الناس يعاقب بهذه العقوبة العظيمة. ومنها: إثبات البعث لقوله: "حتى يأتي يوم القيامة". ومنها: أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن هذا الرجل لمَّا أذل وجهه في الدنيا أمام عباد الله، أذله الله يوم القيامة أمام عباد الله، وذلك بنزع لحم وجهه. ومنها: أنه يجب على الإنسان أنه إذا سأل أن يسأل الله؛ لأن الإنسان لا بد أن يكون في حاجة، فإذا كان ممنوعًا من سؤال الناس، فمن يسأل؟ يسأل الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". فأنت إذا ألجأتك الضرورة فلا تسأل إلا الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الملاذ، وهو الذي يؤمل في كشف الضر وجلب الخير. أورد المؤلف هذا الحديث والمناسبة فيه ظاهرة؛ لأن الباب صدقة التطوع، والناس يعطون السائلين، ففي هذا تحذير للسائلين من أن يسألوا ما لا يستحقون، ولكن بالنسبة للمسئول فإنه يعطي ما دام يغلب على ظنه أن هذا الرجل فقير في هيئته ولباسه، فإن غلب على ظنه أنه غني فهل يعطه أو لا؟ ينظر في ذلك للمصلحة إن كان في إعطائه مصلحة أعطاه، وإلا منعه ونصحه، بل حتى وإن أعطاه فلينصحه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل شيئًا عن الإسلام إلا أعطاه حتى كان يعطي المؤلفة قلوبهم يعطيهم الشيء الكثير من الإبل والغنم والمتاع والدراهم تأليفًا لقلوبهم، فإذا جاء هذا السائل ورأيت من المصلحة أن تؤلف قلبه بإعطائه، وإن كنت يغلب على ظنك أنه ليس أهلًا فإن إعطاءه لا بأس به؛ لأن بعض الناس قد يسأل وهو غني، فإذا لم تعطه ذهب يٌسيء إليك ينشر اسمك بالسوء بين الناس؛ فإذا أعطيه اتقاء شره وتأليفًا لقلبه فهذا لا بأس به.

609 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يسأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا فليستقَّل أو ليستكثر". رواه مسلمٌ. "من" شرطية بدليل جزم الفعل؛ لأن اقتران الفاء بالجواب قد يكون هذا واقعًا فيما إذا كانت "من" اسمًا موصولًا، إذن هي شرطية. وقوله: "تكثرًا" هذا مفعول لأجله؛ يعني: لأجل التكثر بجمع المال. وقوله: "فإنما يسأل" هذا هو جواب الشرط، وقوله: "جمرًا" الجمر معروف وهي القطعة من النار، وهي حامية كما هو ظاهر، ولكن ما معنى قوله: "فإنما يسأل جمرًا" هل معناه أنه كسائل الجمر، أو المعنى أن هذا الذي يعطاه يكون يوم القيامة جمرًا يعذَّب به؟ الثاني هو الأقرب، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن اقتطعت له شيئًا من مال أخيه فإنما اقتطع له جمرًا فليستقل أو ليستكثر". وفي رواية: "فليأخذ أو ليذر". وقوله: "فليستقل أو ليستكثر" اللام هنا لام الأمر، لكن ما المراد بالأمر؟ المراد به: التهديد، فهو كقوله: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. وليست اللام هنا للتخيير إن شاء أقل، وإن شاء أكثر، بل إنها للتهديد. هذا الحديث كالحديث الذي قبله، إلا أنه يزيد على ما قبله أنه مقيد بما إذا كان يسأل تكثر فهل يحمل الأول على الثاني، أو يقال: إن العقوبة مختلفة، وإذا اختلفت العقوبة لا يحمل المطلق على المقيد، ويكون هذا الحديث إذا سألهم تكثرًا وإن لم يكن مستمرًّا في السؤال حتى ولو لم يسأل إلا مرة واحدة، وهذا هو الأقرب الاَّ يقيد الأول بالثاني نظرًا لاختلاف العقوبة. والعلماء يقولون: إن من شرط حمل المطلق على المقيد: أن يتفقا في الحكم، لا في السبب؛ يعني: لو اختلف السبب فيحمل المطلق على المقيد، فإن اختلفا في الحكم لم يحمل المطلق على المقيد. مثال ما اختلف في الحكم: طهارة التيمم والوضوء، ففي الوضوء قال الله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق}. وفى التيمم قال: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}. السبب واحد وهو الحدث هو سبب الطهارة، والحكم مختلف؛ لأن طهارة الماء تتعلق بأعضاء أربعة وهي: الوجه، واليدان، والرأس، والرجلان. وطهارة التيمم تتعلق بعضوين وهما: الوجه، واليدان، فالحكم مختلف، ولما اختلف الحكم فإنه لا يحمل المطلق على المقيد؛ ولهذا نقول: إن المطلق في قوله في التيمم: {فامسحوا

بوجوهكم وأيديكم منه} لا يحمل على المقيد في الوضوء في قوله: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]. ويختصُّ التيمم بالكفين فقط. هنا نقول: الحكم مختلف؛ لأن عقوبة الأول أنه ينزع لحم وجهه، والثاني أنه يعذب بجمر يلقى في يده نظير ما أخذه، فلا يقيد الثاني بالأول، لكن فيه زيادة على الثاني، وهو أن يكون دائمًا يسأل الناس. من فوائد هذا الحديث: الأولى أن سؤال الناس للتكثر وجمع المال محرم، بل هو من كبائر الذنوب للوعيد عليه. ثانيًا: أن من سأل الناس للحاجةّ فلا إثم عليه؛ لأن الحديث قيد بقوله: "تكثرًا"، فدل ذلك على أنه إذا سألهم لدفع الحاجة والضرورة فلا إثم عليه. ثالثًا: أن الجزاء من جنس العمل. رابعًا: أن سياق الكلام يعيِّن المراد به، فإن اللام للأمر والأصل في الأمر أن معناه: طلب الفعل على وجه الاستعلاء، لكن هنا لا يراد به الأمر الحقيقي لقرينة السياق، فالسياق يعيُّن المراد سواء كان في كلام الله، أو في كلام رسوله، أو في كلام الآدميين. السياق يعيُّن المراد والنية أيضًا تعيِّن المراد. ومن فوائد الحديث أيضًا: استعمال التهديد في المخاطبة لقوله: "فليستقل أو ليستكثر". ومن فوائده: الإشارة إلى القناعة، وأن الإنسان ينبغي أن يكون قانعًا بما أعطاه الله عز وجل ومن أعطي القناعة بقي غنيًّا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى القلب". فإذا كان الإنسان غني القلب فهو في الحقيقة هو الغني، وكثير من الناس عنده من الأموال ما عنده ولكن قلبه فقير- والعياذ بالله- دائمًا يطلب المال ويلهث وراءه، وكم من إنسان ماله قليل وهو يرى أنه من أغنى الناس، وقد استغنى عن الناس، وهذا من نعمة الله على الإنسان؛ لأن الإنسان إذا أعطي القناعة بقي غنيًا منشرح الصدر لا ينظر إلى غيره، ويدل لذلك أن من كمال نعيم أهل الجنة أنهم {لا يبغون عنها حولا} [الكهف: 108]. حتى أدناهم لا يريد تحولًا عما هو عليه، ويرى أنه ليس في الجنة أحد أنعم منه، وهذا من نعمة الله على العباد أن يوفق للقناعة سواء كان ذلك في ماله، أو في مسكنه، أو في ملبسه، أو في مركوبه، أو في أولاده، أو في زوجته، أو غير ذلك، إذا أعطى الإنسان القناعة فيما أعطاه الله بقي غنيًّا، أما إذا نزعت القناعة من قلبه فإنه فقير مهما كان عنده من الأموال وغيرها.

610 - وعن الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها، فيكفَّ بها وجهه؛ خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". رواه البخاريُّ. هذا حديث عظيم ولننظر في إعرابه، قوله: "لأن يأخذ" اللام لام الابتداء، لأنها دخلت على المبتدأ، وقد تدخل على الخبر بالتزحلق ومنه قول الشاعر: [الرجز] أمُّ الحليس لعجوزٌ شهربه ... ترضى من اللَّحم بعظم الرَّقبة أصل هذا البيت لو مشى على الترتيب أن يقول: لأم الحليس .... الخ، لكن قال: أم الحليس فاللام في قوله: "لأن يأخذ" لام الابتداء؛ لأنها دخلت على المبتدأ، ولكن كأني بكم تقولون: أين المبتدأ؟ فنقول: المبتدأ المصدر المؤول من أن والفعل، وهذا موجود في القرآن: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة: 184]. أي: صومكم خير لكم. إذن "لأن يأخذ" تقديره: لأخذ أحدكم، "فيأتي" معطوفة على "يأخذ"، وقوله: "خير له" هذه خبر المبتدأ. في هذا الحديث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرًا مؤكدًا باللام، لو أن الإنسان لم يكن عنده مال فإنه لا يسأل الناس، بل يسعى أولًا بنفسه لطلب الرزق فإذا تعذر فليسأل، لكن طلب الرزق كيف؟ يقول: لو وصل به طلب الرزق إلى هذه الحال التي تعتبر في نظر الناس دنيئة يأخذ الحبل ويخرج إلى البر يحتطب، ويأتي بحزمة الحطب على ظهره ليس عنده سيارة، ولا حمار، ولا بغل هو بنفسه يحملها على ظهره. يقول: "فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس"؛ لأن هذا الرجل اعتمد على ما منحه الله تعالى من القوة والكف فاكتسب بفضل الله عز وجل، ولم يلتفت إلى أحد من الناس فكان ذلك خيرًا له. سواء "أعطاه الناس أو منعوه" أيهم أشد عليه أن يعطى أو يردُّ؟ أن برد أشد؛ لأن الذي يردك كأنه صفعك على وجهك وردَّك، لكن الذي يعطيك كأنه جبر خاطرك أهون، ولكن لننظر إذا قال الرجل: أنا رجل شريف ومن قبيلة شريفة ذات شرف وجاه كيف أذهب احتطب، لو احتطبت لكان الصبيان يدجلون ورائي، يقولون: خبل فلان، فماذا أصنع؟ هل نقول: لكل مقام مقال، وأن مثل هذا الرجل الذي لا يليق به أن يحتطب، نقول له: اسأل الناس؟ لا، نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق الكلام، فأنت وإن خرجت إلى البر واحتطبت وجئت بهذا لو لم تجد مهنة إلا هذا لكان ذلك خيرًا لك من سؤال الناس، إن وجد عمل غيره أشرف من هذا، ولكن

عمل يده فليفعل، ولا ينبغي إذا وجد عملًا أشرف من هذا أن يتنزل إلى هذا العمل، يعني مثلًا إن وجد أنه يخرج إلى السوق ويكون دلالًا- الذي يحمل أمتعة الناس- هذا لا شك أنه أشرف من الاحتطاب، نقول: ما دمت تعد نفسك أعلى من الاحتطاب فافعل، لكن إذا لم تجد إلا الاحتطاب فهو خير لك من سؤال الناس سواء أعطوك أو منعوك، لو وجد مهنة أنه يجلد الكتب فهلا طيب، وجد مهنة أنه يكتب الكتب هذا أفضل، لأنه يحصل العلم، يكتب الكتب فيحصل العلم من كتابته إياها. المهم: لو قال قائل: كيف يجوز أن يأخذ أجرًا على كتابة الكتب الشرعية؟ نقول: نعم هو أخذ على عمله حتى لو أنه جلس مدرسًا يدرس القرآن بأجرة فلا بأس له أن يفعل؛ لأن تعليم القرآن بالأجرة جائز، لو جلس يقرأ للموتى، إذا مات الميت جاءوا به ليقرأ للميت ويأخذ أجرة؟ فهذا لا يفعل الاحتطاب أحسن؛ لأن هذه المهنة حرام، حرام أن يأخذ الإنسان أجرًا لمجرد القراءة، أما على تعليم القرآن فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل تعليم القرآن مهرًا في النكاح، وما صح أن يكون عوضًا في النكاح فيصحُّ أن يؤخذ عليه المال؛ لأن الله قال: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24]. فجعل الله المهر مالًا. يستفاد من هذا الحديث عدة فوائد أولًا: التفاضل بين الأعمال والمهن لقوله: "لأن يأخذ أحدكم حبله ... الخ". ثانيًا: أن العمل الذي يكف وجهك عن سؤال الناس مهما كان دنيئًا فهو خير، ولا تقل: هذا لا يصح لمثلي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق. الفائدة الثالثة: ضرب المثل بالأدنى ليكون تنبيهًا على ما فوقه، يؤخذ من ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم أدنى مثل لاكتساب المال ليكون في ذلك إشارة إلى ما فوقه. ومن فوائد الحديث أيضًا: الإشارة إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يهين وجهه بسؤال الناس لقوله: "ليكف بها وجهه". ومن فوائده أيضًا: مباشرة العامل لبيع صنعته، ولا يقال: إن بيعه إيَّاها لنفسه قد يكون فيه غش؛ لأن من أراد الغش سواء باعه هو أو باعه وكيله؛ لأن الغالب أن الغاش يكتم العيب ولا يبينه وهذا يحصل في بيع الوكيل كما يحصل في بيع الإنسان لنفسه. ومن فوائد الحديث: أن اكتفاء الإنسان بنفسه خير من سؤال الناس وإن أعطي لقوله: "أعطوه أو منعوه"، هل يؤخذ من الحديث أنه ينبغي للإنسان اقتناء آلة الكسب؟ نعم يؤخذ من قوله: "حبله".

ومن فوائد الحديث: إضافة الأفعال إلى الفاعل، وهو رد على الجبرية. وفيه أيضًا: حث النبي صلى الله عليه وسلم على الاكتساب للضرورة، وهل يؤخذ منه أن الإنسان إذا كان غنيًا يكسبه لا يجب الإنفاق عليه؟ نعم، يؤخذ منه لقوله: "فيبيعه فيكفَّ بها وجهه"؛ ولهذا اشترط العلماء في باب النفقات أن يكون هذا الذي تجب له النفقة عاجزًا عن التكسب مع الفقر. ولهذا أيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لا تحل لغني، ولا لقوي مكتسب". 611 - وعن سمرةً بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطانًا أو في أمر لا بد منه". رواه الترمذي وصححه. هذا الحديث يشبه حديث ابن عمر أن الإنسان لا يزال يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم، فالمسألة كدُّ يكدُّ الإنسان بها وجهه- والعياذ بالله-. وقوله: "الرجل" هذا لا يعني تخصيص الحكم بالرجال؛ لأن كثيرًا من الأحكام علِّقت بالرجال؛ لأن جنس الرجال أشرف من جنس النساء، ولكن القاعدة العامة أن ما ثبت في حق النساء يثبت في حق الرجال، وما يثبت في حق الرجال يثبت في حق النساء إلا بدليل؛ ولهذا قال الله تعالى: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى} [النحل: 97]. وهذا يشمل جميع الأعمال، وأن النساء والرجال مشتركون فيها. وقوله: "يكدُّ الرجل مها وجهه" يعني: لو أن الإنسان كدَّ وجهه بمشاقص حديد ما يبقى اللحم، فهكذا المسألة كدُّ يكدُّ الإنسان بها وجهه، فهل أحد يرضى أن يكدَّ وجهه بيده حتى تتمزق لحومه؟ الجواب: لا؛ إذن كيف ترضى أن تسأل الناس، وهذا ما يحصل، ويظهر أثر ذلك ليس في الدنيا، في الدنيا- نسأل الله العافية- الذي يعتاد على سؤال الناس لا يهتم، الإنسان الشريف إذا سال تجده إذا أضطر وأراد أن يسأل تجده يتعب ويتردد يقدم رجلًا ويؤخر أخرى، لكن الإنسان الذي عوَّد نفسه ذلك لا يهمه أن يسأل، إنما هو في الواقع وإن كان لا يهتم ولا يتألم ولا يحمرَّ وجهه، ولا يغار دمه فإن الواقع أنه في كل مسألة يكدُّ وجهه بهذه المسألة. استثنى النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا أن يسأل الرجل سلطانًا"، "السلطان" هو ولي الأمر، أكبر ولاة الأمور في البلد، ويحتمل أن يراد به كل ذي سلطة في مكان كالأمير مثلًا في بلد فيسأل، ومع ذلك فإن بعض أهل العلم قيَّد ذلك بما إذا سأل سلطانًا ما يستحقه من بيت المال، فإّن هذا لا بأس به، وعليه فيكون الحديث استثنى مسألتين:

مسائل مهمة

الأولى: ما يستحق من بيت المال، وإن لم يحتج إليه. والثانية: قوله: "أو في أمر لا بد منه". مثل أن يضطر إلى ماء، أو إلى خبز، يضطر إلى ثياب يدفع بها البرد، يضطر إلى رداء يتغطى به عن البرد وما أشبه ذلك، فإن هذا لا بأس به ولا يعد كدًّ يكدُّ الإنسان به وجهه؛ لماذا؟ لأجل دفع الضرورة، ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى مسألتين: المسألة الأولى: أن يسال الإنسان شيئًا مستحقًّا له ممن له السلطة فيه ويشمل السلطان الكبير والسلطان الصغير. والثانية: أن يسأل الإنسان شيئًا اضطر إليه من أيِّ إنسان فإن ذلك لا بأس به ولا حرج، وأخذ الفقهاء من ذلك ضابطًا فقهيًّا فقالوا: من أبيح له أخذ شيء أبيح له سؤاله، وهذا داخل تحت عموم قوله: "إلا أن يسأل الرجل سلطانَا" يعني: فيما له أخذه فإنه لا حرج عليه في ذلك، وعلى هذا فطالب العلم إذا كان محتاجًا إلى كتب ووجه الطلب إلى المسئول عن صرف الكتب هل يعد هذا من المسألة المذمومة؟ الجواب: لا يعد؛ لأنه مستحق لها، كثير من الناس قد لا يعرف، ويكون الموزع للكتب لا يعرفه فلا يمكن أن تصل إليه الكتب إلا بالكتابة من فلان إلى فلان، وبعد فإني من طلبة العلم أستحق الكتب الفلانية مثلًا، هذا لا بأس به، وكذلك لو كان من أهل الزكاة فلا حرج عليه أن يبين للعامل أنه من أهل الزكاة؛ لأنه ممن يستحق ذلك، ومع هذا فالتنزه عن ذلك أولى إلا في مسألة الضرورة ما لم تصل الحال إلى حد الضرورة، وقد مّر علينا: "من يستغن بغنة الله" هذا في عظم المسألة فما بالكم بمن يسرق بدون سؤال فهو أشد كما يوجد من بعض الناس- والعياذ بالله- يسرقون الأموال التي يولون عليها حتى إن بعضهم يأتي إلى الدكان يشتري أغراضًا، ويقول: اكتب في الفاتورة أن هذا الغرض بعشرة وهو بخمسة، هذا لا شك إنه إثم عظيم، وأكل للمال بالباطل، وخيانة لمن ائتمنه، وهذا الذي كتب له الفاتورة يعتبر كاذبًا مشاركًا له في الإثم- والعياذ بالله-. من فوائد الحديث، أولًا: التحذير من المسالة لقوله: "المسألة كدُّ يكدُّ بها الرجل وجهه. ثانيًا: جواز السؤال إذا كان بحق كالسؤال مما ذوي السلطان. ثالثًا: جواز السؤال للضرورة لقوله: "أو في أمر لا بد منعه". لو قال قائل: كلمة "لا بد منه" ما معنى "لا بد"؟ أي: أنه مضطر له، يعني: لا مفر. مسائل مهمة: إذا قال قائل: هل يجوز السؤال لأداء فريضة الحج؛ لأن الفرض لا بد منه فهل يجوز أن يسأل لأداء الفريضة؟ تقول: أما الآن فليست بفرض.

3 - باب قسم الصدقات

- هل يجوز سؤال الإنسان ماءً يغسل به ثوبه من النجاسة؟ نقول: أما ما جرت العادة بالتسامح فيه وسؤاله فيلزمه، وأما ما فيه منة ولم تجٍر العادة بسؤاله فإنه لا يلزمه؛ ولهذا قال العلماء في باب التيمم: لا يلزمه أن يطلب الماء هبة لما فيه من المنّة، وكذلك لا يلزمه أن يطلب ليزيل به النجاسة؛ لأن في ذلك منّة عليه إلا إذا كان ممَّا جرت العادة فهذا قد يقال باللزوم، وفيه أيضًا تردد؛ لأن حق الله عز وجل أيسر من حق العباد، فالله تعالى يتسامح، لكن المنة قد تبقى عندك مكتوبة في جبينك لهذا الرجل صعبة. ألا يستثنى شيئًا ثالثًا: شيء آخر أن يسأل الإنسان لغيره؟ نقول: نعم السؤال للغير جائز إذا كان ذلك الغير مستحقًّا للسؤال، وأما إذا لم يكن مستحقًّا فلا تعنه على ظلمه، لكن إذا كان مستحقًّا فلا بأس. وهل الأولى أن يسأل للغير، أم الأولى الاَّ يسأل؟ بعض العلماء يقولون: أنا لا أسأل لغيري، وكرهوا أن يسأل الإنسان لغيره، لكنهم لم يكرهوا أن يسأل الإنسان سؤالًا عامًّا، فيقول: هؤلاء الفقراء تصدَّقوا عليهم، وجه الكراهة عند هؤلاء القوم يقول: لأنه قد يعطى خجلًا منك وحياء، فيكون سؤالك للغير كأنه إلزام للمسئول، فأنت لا تسأل لغيرك، والظاهر لي: أن في هذا تفصيلًا إذا كان الغير لا يمكن الوصول إلى المسئول فهنا يشرع أن تسال له مثل توجيه السؤال إلى وزير لا يقدر هذا الفقير أن يصل إليه فهنا يترجح الجواز أن تسأل له؛ لأن فيه معونة على البر والتقوى في أمر لا يستطيع المعان أن يصل إليه، أما إذا كان المسئول له يمكنه أن يصل فأنت تقول: اذهب أنت واسأل، لكن إن طلب منك تعريفًا بحاله بأنه رجل مستحق فما الجواب؟ يجوز أن يعطيه تعريفًا؛ لأن هذا ليس فيه مضرة بل معونة على البر. 3 - باب قسم الصدقات "القسم" بمعني: التوزيع وجعل الشيء أقسامًا قسَّمت الشيء أقسمه قسمًا، وقسمته تقسيمًا أي: جعلته أقسامًا، والمراد بهذا الباب: أين نقسم الصدقات؟ وكيف نقسمها؟ واعلم أن الله عز وجل تولى قسم الصدقات بنفسه فقال: {* إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغامرين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة: 60]. فنتكلم على الآية؛ لأنها هي الأصل في هذا الباب، والأحاديث تفسير لها وبيان، ومعلوم أن الإنسان إذا أراد أن يستدلَّ يبدأ أولًا بكتاب الله؛ لأنه الأصل، ولأنه لا يحتاج إلى النظير في سنده لأنه متواتر مقطوع به، وإنما يحتاج إلى النظر في دلالته بخلاف السُّنة فتحتاج أولًا إلى النظر في ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم إلى النظر في دلالتها على الحكم.

أقسام أهل الزكاة

أقسام أهل الزكاة: فالله عز وجل يقول: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين}. و"إنما" تفيد الحصر؛ يعني: الصدقات لا تكون إلا في هؤلاء الأصناف: {للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغامرين وفى سبيل الله وابن السبيل}. قال العلماء: والفقراء أحوج من المساكين؛ لأن الله تعالى بدأ بهم، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم. ثم قالوا: إن الفقير هو الذي يجد دون نصف الكفاية، أو لا يجد شيئًا أبدًا، وأصله موافقة القفر وهي الأرض الخالية، فالقفر والفقر يتفقان في الاشتقاق الأكبر وهو الاتفاق في الحروف دون الترتيب، فالأرض القفر معناها: الأرض الخالية، والفقر هو: الخلو، فالفقير إذن من يجد دون نصف الكفاية، أو لا يجد شيئًا. والكفاية إلى متى؟ قال العلماء تحدد الكفاية بسنة لأن السِّنة هي الزمن الذي تجب فيه زكوات الأموال فتعطي هذا الرجل ما يكفيه سنة؛ لأنه بعد السنة تأتى زكاة جديدة فيعطى إلى سنة، ثم تأتي سنة جديدة فيعطى إلى سنة وهلمَّ جرًّا. إذن قدرنا الكفاية بالسنة ووجه ما ذكرنا. الثاني: "المسكين" هو المحتاج، وسمي المحتاج مسكينًا؛ لأن الحاجة أسكنته؛ لأن العادة أن الإنسان الغني يكون عنده رفعة رأي وسلطة في القول والفعل، ويتصدر المجالس بخلاف الفقير المحتاج فإنه قد أسكنته الحاجة، لكنه أحسن حالًا من الفقير؛ لأنه يجد نصف الكفاية ودون الكفاية هذان يأخذان لحاجتهما. الثالث: وقوله: {والعاملين عليها} هم الذين ينصبهم السلطان لقبض الزكاة وقسمها وتفريقها فهم جهة ولاية وليس جهة وكالة ولهذا قال: {والعاملين عليها}، وأتى بـ"على" الدالة على أن لهم سلطة في الولاية؛ لأن "على" تفيد العلو، بخلاف الوكيل وكيل شخصي يؤدي زكاته ليس من العاملين عليها، فأنا إذا وكلتك تحصي زكاة مالي وتخرجها فلست من العاملين عليها بخلاف الذين ينصبهم السلطان الإمام فإنهم عاملين عليها؛ لأن لهم نوع ولاية وهؤلاء يعطون بقدر أجرتهم، أي: بقدر العمل الذي قاموا به؛ لأنهم استحقوها بوصف، ومن استحق بوصف كان له من الحق بمقدار ماله من ذلك الوصف فيعطون قدر أجورهم، وهؤلاء يعطون للحاجة إليهم لا لحاجتهم ولهذا يعطون ولو كانوا أغنياء، لأنهم يعطون على عمل للحاجة إليهم فنعطيهم بقدر عملهم. أما الرابع: فـ"المؤلفة قلوبهم"، "المؤلفة" هذه اسم مفعول، و"قلوب" نائب فاعل، {والمؤلفة قلوبهم}: هم الذين نفرت قلوبهم واشمأزت من الإسلام وكرهت الإسلام وكرهت المسلمين، فهم يودون العدوان على المسلمين وعلى الإسلام، فيعطون ما يحصل به التأليف؛ لأنهم استحقوا

بوصف، فاستحقوا بمقدار ما يحصل به ذلك الوصف؛ يعني: لهم شيء معين أم لا؟ لا ما يحصل به التأليف، والناس يختلفون فيما يحصل به التأليف منهم من نفسه كبيرة لا يؤلفها إلا مال كثير، ومنهم من دون ذلك يؤلفه المال القليل المهم أن تعطي من الزكاة ما يحصل به التأليف. ذكرت أن التأليف إنما يكون لمن كان في نفرة عن الإسلام أو عن المسلمين، وعلى هذا فيعطى المؤلف ما يقوى به إيمانه ويحبب الإسلام إليه، ويعطى من ليس في قلبه إيمان، ولكن يخشى من شره، يعطى ما يدفع به شره حتى لو كان كافرًا يخشى من شره على المسلمين، فإننا نعطيه من الزكاة ليس من بيت المال فقط من الزكاة ما تدفع به شره. انتبهوا لأن بعض الناس يعترض يقول: لماذا نعطي الكفار من أموال المسلمين؟ نقول: نعم، إذا كان هؤلاء الكفار يخشى من شرهم، وهم فعلًا لهم شر، وإذا أعطيناهم ألفناهم ودفعنا شرهم، فإننا نعطيهم تأليفًا لقلوبهم لا على الإسلام، لأنهم مستكبرون، ولكن لدفع شرهم عن المسلمين. ثم قال سبحانه: {وفي الرقاب}، وأنت ترى الآن أن حرف الجر اختلف، وتبيين ذلك "الرقاب" جمع رقبة. وذكر العلماء أنها ثلاثة أنواع: مسلم أسير عند الكفار يعطى الكفار من الزكاة لفك رقبته، هذا من الرقاب. الثاني: عبد عند سيده اشتريناه منه لنعتقه هذا أيضًا في الرقاب. الثالث: مكاتب اشترى نفسه من سيدة فنعطيه ما يسدد به كتابته هذا أيضًا في الرقاب. وهؤلاء يعطون لحاجتهم، لكن لا يعطون هم؛ ولهذا قال: "في" الدالة على الظرفية؛ لأن هذه جهة وليست تمليك. العبد لا نعطيه هو نعطي سيده الأسير عند الكفار لا نعطيه هو نعطي الكفار الذين أسروه، المكاتب نعطي سيده، وهذه هي النكتة في قوله: {وفي الرقاب والغارمين} {والغارمين} أيضًا تجدونها معطوفة على قوله: {وفي الرقاب}، ولم يقل: للغارمين. السادس: قال: {وفي الرقاب والغارمين} أي: في الغارمين، فالصرف إليهم صرف إلى جهة، والغارم: هو الذي لحقه الغرم وهو الضمان، وقسمهم أهل العلم إلى قسمين: غارم لنفسه، وغارم لإصلاح ذات البين، فالغارم لنفسه هو الذي لزمه الغرام لمصلحته الخاصمة، مثل رجال تداين ليشتري بيتًا، هذا غارم لكن لنفسه هذا غارم يستحق من الزكاة ما يوفى دينه ولو كثر، هل يلزم أن تعطيه المال ليوفي أو أن توفي نحن عنه؟ الثاني، لأنه قال: "في" جعله معطوفًا على المجرور بـ"في" فهي جهة ولا نحتاج إلى أن نملكه، ولكن إذا كان هذا الرجل إذا ذهبنا نحن نسدد دينه خجل وانكسر قلبه؛ لأنه رجل من قبيلة شريفة، ولا يحب أن يتبين للناس أنه مدين. في هذه الحال هل الأولى أن نذهب نحن لنسدد عنه، أو أن نعطيه ويسدد هو؟ الأفضل: الثاني، ويسدد لئلا يلاحقه الخجل والحياء، كما أنه يتأكد أن نسدد عن المدين إذا كنا نخشى إذا

أعطيناه ذهب يشتري ما لا ينفعه، ففي هذه الحال نسدد نحن عنه، فهذا الغارم لنفسه يشترط في الغارم لنفسه الاَّ يكون عنده ما يوفي به، فإن كان عنده ما يوفي به لم نعطه ولم نسدد عنه؛ لأن الذي عنده ما يوفي به ليس بغارم حقيقة إذا شاء أخذ المال الذي عنده ووفى ما عليه، إذن الغارم لنفسه يشترط لإعطائه من الزكاة ألا يوجد عنده ما يوفي به. رجل عليه الغرام خمسمائة درهم فسألناه ما هذا الغرام؟ فقال: اشتريت به دخانًا، فهل نوفي عنه وهو قد تاب توبة نصوحًا؟ نقول: هذا نعطيه إذا غرم في شيء محرم ثم تاب، بل قد يتأكد أن نعطيه؛ لأن في ذلك تأليفًا له، فإذا رأى أن إخوانه المسلمين يعينونه إذا تاب من المحرم نشطت التوبة؛ لأن الإنسان بشر، كل شيء ينشطه وكل شيء يثبطه. القسم الثاني من الغارمين: الغارم لإصلاح ذات البين، وهل يشترط أن يكون ذلك بين القبائل والجماعات التي يحصل فتنة كبيرة إذا لم يصطلحوا أو يكون حتى بين شخصين لذاتهما؟ المعروف عند أهل العلم أنه يكون بين القبائل التي يحصل بالتنافر بينها فتن، فهذا رجل يحب الخير رأى بين قبيلتين خصامًا ونزاعًا وأن الخصام والنزاع يشتد ويزداد، وخاف إن زاد أو إن ترك يصل إلى حد القتال، فجاء وذهب إلى رؤساء القبيلتين وغرم لهما مالًا، وقال: تعالوا أنتم أعطيكم عشرة آلاف وسامحوا إخوانكم، وقال للآخرين مثل ذلك كم غرام؟ عشرين ألفًا. فقالوا: لا بأس هذا يعطى من الزكاة؛ لأن هذا الرجل الطيب الخير قال لنا: أصلحت بين هاتين القبيلتين على أن أدفع لكل واحدة منهما عشرة آلاف ريال، نحن نشجعه ونقول: جزاك الله خيرًا، ونحن نعطيك من الزكاة؛ لأنك أصلحت ذات البين، وهذا الرجل غرم لإصلاح ذات البين لا لنفسه؛ ولهذا تعطيه من الزكاة ما يدفع به الغرام ولو كان غنيًا، هو عنده مئات الآلاف فيأخذ من الزكاة فإن سدَّد من عنده فهل نعطيه من الزكاة؟ لا، لا نعطيه من الزكاة، لماذا؟ لأنه الآن غير غارم، نعم إن استقرض وأوفى وليس عنده ما يسدده أعطيناه للغرم من جهة ثانية وهي الغرام لنفسه، والحاصل: أن للغارم لإصلاح ذات البين إن سلم المال من نفسه فإنه لا يستحق لماذا؟ لأنه ليس بغارم، اللهم إلا إذا كان مدفوعًا من جهة ولي الأمر، قال له: اذهب وأصلح بين هاتين الطائفتين ولو بمال، ونحن نضمنه لك، فذهب ودفع من ماله؛ فحينئذٍ يعطى لأنه نائب عن الإمام. السابع: {وفي سبيل الله} أعاد قوله: "في" "في سبيل الله" لزيادة تأكيد الظرفية، "سبيل الله" ما هو؟ في الأصل هو الطريق الموصل إلى الله، فيشمل كل عمل صالح لكن المراد به هنا: الجهاد في سبيل الله فقط، لأننا لو حملناه على كل العمل الصالح لفات مقصود الحصر في قوله: {إنما الصدقات للفقراء}، ولأننا لو عممناه لأغلقت أبواب كثيرة من أبواب الخير واعتمد

الناس فيها على الزكاة، لو قلنا: نبني المدارس، والمساجد، ونصلح الطرق، ونطبع الكتب وما أشبه ذلك، انسدت أبواب الخير في هذه الجهات؛ لأن كل إنسان يقول: هذه للزكاة، ولكن المراد بـ"سبيل الله": أي الجهاد في سبيل الله خاصة. وقوله: {وفي سبيل الله} هل يشمل المجاهد وعتاده، يعني: سلاحه ودرعه وما أشبه ذلك، أو يختصُّ بالمجاهد فقط؟ الصحيح: أنه يشمل المجاهد وأعتاده واستدل بعضهم لهذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أما خالد فإنكم تظلمون خالدًا فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله". قالوا: وسبيل الله مصارف من مصارف الزكاة، وخصَّ بعض العلماء في سبيل الله بالمجاهدين فقط، فقالوا: يعطى الغازي إذا لم يكن له مال يكفيه من الديوان العام للمسلمين- يعني: بيت المال-، ولا يشتري منها أسلحة، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن الله لم يقل: وفي المجاهدين، بل قال: {وفي سبيل الله}، فيشمل العتاد والمجاهد، فيعطى المجاهد ما يكفيه من مؤنة، ويشتري له أسلحة أيضًا، وعلى هذا فصرف الزكاة في شراء الأسلحة للمجاهدين في سبيل الله صرف في وجهه ومحله. ولكن ما هو الجهاد في سبيل الله؟ الجهاد في سيبل الله: هو أن يكون القتال لتكون كلمة الله هي العليا لا لشيء آخر، والذي جاء بهذا الميزان هو أعدل الناس وزنًا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"؛ ولهذا تجد هذا الرجل المجاهد لتكون كلمة الله هي العليا لا يمل ولا يفتر، بل هو دائمًا في عمل وإصلاح وتخطيط وتكتيك- كما يقولون-؛ أما الآخر الذي يقاتل لغير أن تكون كلمة الله هي العليا فتجده يكسل أحيانًا وينشط أحيانًا، وإذا حصل له ما يريد يقول: لا يهمني الباقي فالرجل الذي يقاتل ليحرر بلده لأنها بلده فقط هل هو في سبيل الله؟ لا، هذه قومية، والذي يقاتل لأنه شجاع يقاتل شجاعة، والإنسان الشجاع يجب أن يقاتل دائمًا؛ لأن طبيعته تملي عليه ذلك، هل هو في سبيل الله؟ لا، والذي يقاتل حمية على قومه فهذا أيضًا ليس في سبيل الله. لكن إذا قال: أنا أقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، سواء في بلدي أو في غير بلدي، فهذا هو الذي في سبيل الله، وهو الذي يستحق من الزكاة. أما الثامن: فهو ابن السبيل، ما هي السبيل؟ الطريق كما قال الله تعالى: {وأن هذا صراطى مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153]. هل المعنى ابن الطريق؟

لا، لكن يقال: ابن الشيء للملازم له كأنه ابن له؛ لأن الابن يلازم أباه غالبًا، فيقال: ابن السبيل، أي: الملازم للسفر الذي لا زال في سفره. قالوا: كما يقال: ابن الماء للطير المعروف يسمَّى هكذا؛ لأنه دائمًا لا يقع إلا على الماء، ونحن نعرف- ونحن صغار- طائرًا يسمّى دجاجة الماء، عبارة عن طير صغير يأتي في الخريف، وقبل أن تكثر البنادق كان يوجد في البيت وتصيده. على كل حال: ابن السبيل هو المسافر الذي انقطع به السفر فلم يجد ما يوصله إلى بلده ولو كان غنيًّا في بلده يعطى من الزكاة؛ لأن نفقته سرقت وانقطع، نعطيه ما يوصله إلى البلد ولو كان غنيًا في بلده، هل نشتري له شيئًا يعينه على سفره؟ نعم؛ لأن الله يقول: {وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله} [التوبة: 60]. فجعلها معطوفة على "في" الدالة على الظرفية، وعلي هذا فلا يشترط تمليك ابن السبيل، بل يجوز أن نشتري له راحلة يسافر عليها أو نشتري له متاعًا أو نعطيه هو بنفسه يشتري ولا حرج. تأملوا معى هذه الآية نجد أن أهل الزكاة ينقسمون من وجه إلى من يأخذها لحاجته، وإلى من يأخذها للحاجة إليه، دعونا نعد الذين يأخذونها لحاجتهم: الفقراء، المساكين، المؤلفة قلوبهم في بعض الأحيان، الغارمين في بعض الأحيان، وابن السبيل، والرقاب، وأما العاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم ممن نخشى شره، والغارم لإصلاح ذات البين، وفي سبيل الله فهؤلاء يأخذون للحاجة إليهم. ثم تأملوها مرة ثانية تجدون أن من هؤلاء الأصناف من يملكها ملكًا مستقرًا، ومنهم من يملكها ملكًا مقيدًا، فالذين في مدخول اللام يملكونها ملكًا مستقرًا من هم؟ أربعة: الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، فهذا الفقير قدرنا أن نفقته لمدة سنة عشرة آلاف ريال فأعطيناه عشرة آلاف ريال، وفي أثناء السَّنة أغناه الله مات له قريب فورثه وبقي معه من الزكاة خمسة آلاف ريال هل يردها؟ لا يردها؛ لأنه ملكها ملكًا مستقرًّا، هذا غارم. قال: إن عليه عشرة آلاف ريال فأعطيناه إياها فذهب إلى الذي يطلبه ورجع إلى الدفاتر وإذا المطلوب ثمانية آلاف ريال فقط، فبقي معه ألفان هل هي له أو يردها على أهل الزكاة؟ يردها على من أخذها منهم؛ لأن هذا لا يملكه إنما هي جهة تصرف إليه، وفي الرقاب، والغارمين فإذن يردها، لأنه لم يملكها ملكًا مستقرًّا، هذا الذي أعطيناه لغرمه هل يملك أن ينفق هذه الدراهم في حاجته الخاصة غير الغرم؟ لا، والذي أعطيناه لفقره هل يملك أن يصرفها في غرامه؟ نعم، الفرق أن الفقير ملكها ملكًا مستقرًّا يتصرف فيها كيف يشاء، وهذا إنما أخذها لجهة فلا يصرفها في غيرها، ولهذا لو وكَّلت إنسانًا وقلت: اقض عن فلان دينه من زكاتي

فذهب وأعطاه لفقره فإن ذلك حرام عليه، لماذا؟ لأن ما أعطي للغرام لا يصرف في غيره، ثم لما ذكر الله عزى وجل هؤلاء الأصناف الثمانية قال: {فريضة من الله} يعني: أن الله تعالى فرضها علينا فرضًا نؤديها إلى هذه الأصناف الثمانية {والله عليم حكيم} أي: عليم بمن يستحق، حكيم في وضعه الشيء في موضعه، فحكمته- جل وعلا- صادرة عن علم تام بالحق والمستحق، وعلى هذا فلو أننا صرفنا الزكاة في غير هذه الأصناف لكانت الزكاة غير مقبولة لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، إلا أن الإنسان إذا صرفها في غير أهلها ظانًّا أنه من أهلها ثم تبين أن الأمر بخلافه فصدقته مقبولة سواء كان غنيُّا ظنه فقيرًا، أم مقيمًا ظنه مسافرًا، أو غير ذلك، ما دام قد غلب على ظنه أنه مستحق، ثم تبين عدم الاستحقاق فإنها تجزئ صدقته؛ لماذا؟ لأن غالب الأحكام الشرعية مبنية على غلبة الظن؛ ولهذا لو شك في الطواف أسبعة هو أم ستة؟ وغلب على ظنه أنه سبعة بنى على غالب ظنه، لكن إذا تبين أنه خلاف ما بنى عليه وجب عليه أن يعيده، أما الصدقة فلا يجب عليه إعادتها؛ لأنها متعلقة بطرفٍ ثان وهو القادر الذي تصدق عليه، ولعلكم تذكرون قصة الرجل الذي قال: "لأتصدِّقن الليلة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على غني، والغني ليس أهلاً للزكاة فقال: الحمد لله على غني- وهذا يدل على عدم ندمه-، ثم خرج الليلة الثانية بصدقته فوقعت في يد زانية بغي، فأصبح الناس يتحدثون تصدَّق الليلة على بغي، فقال: الحمد لله على بغي، ثم خرج في الليلة الثالثة فتصدق فوقعت صدقته في يد سارق يسرق الناس، فأصبح الناس يتحدثون تصدّق الليلة على سارق، فقال: الحمد لله على سارق، ثم أوتي هذا الرجل وقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، ثم قيل له: الغني لعله أن يتصدق، والزانية لعلها أن تستعف، والسارق لعله أن يتوب ويكف عن سرقته". إذن متى غلب على ظنك أن المعطى من أهل الزكاة وأعطيته فالزكاة مقبولة. نعود مرة ثانية لننظر في هذه الأوصاف، هل هي أوصاف علِّق الاستحقاق بها بدون تفصيل {للفقراء والمساكين} [التوبة: 60]. فمقتضى ذلك أن يحل دفع الزكاة لكل من اتصف بهذه الأوصاف كائنًا من كان، شخص له أب فقير فهل يجوز دفع الزكاة له؟ نعم زوج دفع. زكاته إلى زوجته وهي فقيرة هل تصبح؟ نعم، زوجة دفعت صادقتها إلى زوجها وهو فقير يصح؛ لأن عندنا عموم، المهم: أن الآية عامة، فكل من ادَّعى أن شيئًا خرج منها من قرابة أو زوجية أو غير ذلك فعليه بالدليل، رجل دفع زكاته إلى بني هاشم مقتضى الآية يجوز لكن فيه دليل. قال

النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس". إذن العموم الآن خصص، والعموم إذا خصص يكون كالجدار إذا حصل فيه ثلمة انهدم بعضه، إذا خصص العام هل يبقى عامًا فيما عدا التخصيص، أو تبطل دلالته على العموم للاحتمال؟ بعض العلماء يقول: إذا خصص العام انهدم، ولا يمكن أن يدل على العموم. وبعضهم يقول- وهو الصحيح-: أنه إذا خصص بقي عامًّا فيما عدا صورة التخصيص، وهذا هو الحق، إذن العموم في الآية خصص بمقتضى النص، ما الذي خرج منه؟ آل محمد. هذا رجل له زوجة وأراد أن يعطيها من زكاته، قلنا لكم قبل قليل: مقتضى الآية أنه يجوز، ويجب عليكم أن تقولوا بهذا إلا بدليل، الدليل هنا نقول: الزوجة ليست محلًا لصرف زكاة زوجها؛ لأن الله أمر بالإنفاق عليها نفقة خارجة عن الصدقة قال: {وعلى المولود له، رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة: 233]. فأنت إذا أعطيتها مثلًا مائة ريال من الزكاة وهي محتاجة إلى ثوب، الثوب يساوي مائة، لولا أنك أعطيتها مائة من الزكاة واشترت به الثوب لكنت تشتريه لها، إذن فإعطاؤك إياها من الزكاة معناه توفير ما يقابل ذلك من مالك الذي يجب عليك أن تنفقه عليها حينئٍذ لا يصح؛ لأن هذا الذي أخرج الزكاة كأنه لم يخرجها؛ إذ لولا استعطاؤها بالمائة ريال التي أعطاها لكان يشتري لها ثوبًا بمائة ريال فوفر بالزكاة ماله فلا يصح. هذه المرأة كان عليها دّين سابق أو لاحق فقضى دينها من زكاته يجوز لأنها داخلة في الغارمين، وهو لا يلزمه قضاء دينها، فلذا قضي دينها لم يكن وفر شيئًا من ماله فيجزئ، وكذلك نقول: الزوجة إذا دفعت صدقتها لزوجها وهو فقير أجزأ بمقتضى دلالة الآية، ولا نقول: ما لم يكن في ذلك توفير لمالها؛ لماذا؟ لأن الزوج هو الذي يجب عليه الإنفاق، وهي لا يجب عليها أن تنفق على زوجها إلا على رأي ضعيف جدًا وهو رأي ابن حزم، إذن القاعدة عندنا: أن كل من كان قائمًا به هذا الوصف الذي هو سبب الاستحقاق، فإن دفع الزكاة إليه جائز مجزئ إلا ما قام الدليل على إخراجه، فإن ما قام الدليل على إخراجه يخرج كالذي قام الدليل على إدخاله. أسئلة هامة: أولاً: هل يجب أن تستوعب هذه الأصناف بأن نقسم الزكاة ثمانية أجزاء؟ ثانيًا: هل يجب أن نعطي من كل قسم ذكر بلفظ الجميع ثلاثة فأكثر؟ في هذا خلاف بين العلماء، أما الأول وهو استيعاب الأصناف الثمانية، فإن بعض العلماء

يقول: لا بد من استيعاب الأصناف الثمانية، إلا أن بعضهم يقول إن سهم المؤلفة قلوبهم ساقط، لأنه في قوة الإسلام زال التأليف، فلا حاجة أن نؤلف من أسلم وآمن وقوي إيمانه فهو منا، ومن لم يسلم فالسيف، ولكن الصحيح أن سهمهم لم ينقطع، وأنه باق، وأن ما ذكر عن عمر وغيره من الصحابة فمعناه: أن الناس في ذلك الوقت لا يحتاجون إلى التأليف لقوة الإسلام، وإلا فإن سهمهم باقٍ. أمَّا هل يجب أن نعمم هذه الأصناف أو لا؟ ففيه خلاف، حجة من قال: يجب التعميم، أن الله سبحانه جعل الاستحقاق في هؤلاء الأصناف الثمانية مقرونًا بالواو، والقرن بالواو يقتضي الاشتراك، كما لو قلت: هذا المال لك ولزيد، ولعمرو، ولبكر، ولخالد فإنه يكون مالًا للجميع مشتركًا، ولا يجوز أن يخصص به واحدًا دون الآخر، وهنا قال الله تعالى: {للفقراء والمساكين}، وهذا يدل على أنه لا بد أن نعطي هؤلاء كلهم، كما أننا قلنا في قوله تعالى {* وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 41]. كم هؤلاء؟ خمسة، ويجب أن نعمهم بالعطاء، فهذه الآية نظير تلك يجب أن نعمم فيها الأصناف. وقال آخرون: بل لا يجب أن نعمم الأصناف، وأن الواو هنا أشركت الجميع في أصل الحكم، وأن مصرف الزكاة لهذه الجهات، ولا يلزم إذا اشتركت في الحكم أن تشترك في العطاء، وأيدوا قولهم هذا بحديث معاذ بن جبل: "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ في فقرائهم". وبأن الظاهر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يذهب يبحث هل فيه مسافر انقطع به السفر؟ هل فيه غارم؟ هل فيه كذا من المستحقين؟ وإنما يعطى من وجده من هذه الأصناف. هذان دليلان. الدليل الثالث: أن في مراعاة إعطاء الأصناف الثمانية مشقة شديدة؛ لأنه لا بد أن يبحث الإنسان عمن في البلد من هؤلاء الأصناف، وهذا قد يشق ويلحق الناس حرج، بخلاف خمس الفيء فإن الذي يتوله الإمام، والبحث عليه سهل، وأيضًا فهذه فيها دليل وتلك ليس فيها دليل، وهذا القول هو الراجح. وإذا قلنا: إنه لا يجب استيعاب الثمانية، فهل يجب فيما ذكر مجموعا أن يعطى منه ثلاثة فأكثر، مثل: الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب والغارمين؟ فيها أيضًا خلاف، فمنهم من يقول: لا بد أن تجمع ثلاثة فأكثر من كل ما ذكر مجموعًا دون ابن السبيل مثلًا لأنه ذكر مفردًا. ومنهم من قال: إنه لا يجب؛ لأن هذه أوصاف لا أعيان. نعم، لو قلت: المال لهؤلاء الرجال لا بد أن يعطى كل واحد، أما إذا كانت المسألة بالأوصاف فمن استحق هذا الوصف أخذه. لو قلت: أكرم المسلمين، ثم لم تجد إلا مسلمًا أكرمته هكذا أيضًا تقول في هذا.

متى تحل الزكاة للغني؟

ويدل على هذا أيضًا حديث قبيصة: "أقم عندنا حتى تأتي الصدقة فنأمر لك بها". وهذا واحد، والصواب أنه يجزئ من كل صنف صنفَ ومن كل صنف واحد، ولكن الأفضل أن يراعي الإنسان الحال، فإذا كان عنده عدة فقراء وكلهم في حاجة سواء فينبغي ألا يخص أحدًا، بل ينفع هذا وهذا لأنه أحسن. هذا هو ما يتعلق في قول المؤلف: "باب قسم الصدقات"، أي: توزيعها مقسومة، ثم ذكر المؤلف الأحاديث الواردة في ذلك. متى تحل الزكاة للغني؟ 612 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها، فأهدى منها لغني". رواه أحمدٌ، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الحاكم، وأعل بالإرسال. "لا تحل" يعني: تحرم وقوله: "الصدقة" ظاهره العموم، والصدقة: كل ما بذله الإنسان يريد به وجه الله فهو صدقة، فإن بذله يريد به التودد والإكرام سمى هدية، وإن بذله يريد بذلك مجرد نفع المعطى صار هبة وعطية، فهو على حسب النية، إذا قصد به التودد والإكرام فهو هدية، إذا قصد به وجه الله فهو صدقة، إذا قصد به نفع المعطى فهو هبة وعطية، إذا قصد به دفع الشر عنه فهو فدية يفدي بها الإنسان نفسه أو عرضه أو ما أشبه ذلك، والأخير حرام على المعطى، والذي يعطي للتوصل به إلى باطل يسمى رشوة، فهذه خمسة أقسام: صدقة، هدية، هبة، فدية، رشوة. قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل"، ما معنى: "أعل"، أي: ضعِّف؛ لأن العلة ولا سيما إذا قال: "أعل بالإرسال"، الإرسال علة قادحة، فمعناه: أنه ضعِّف حيث ذكر أنه مرسل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل لغني"، من هو الغني؟ قال بعضهم: الغني: هو الذي تجب عليه الزكاة. وقال بعضهم: من ملك قوت يومه وليلته فهو غني. وقال بعضهم: من ملك خمسين درهما فهو غني. وقال بعضهم: من وجد كفايته، وعائلته سنة فهو غني، وهذا الأخير أقربها. أما الأول وهو يقول: من وجبت عليه الزكاة فهو غني، فإننا نقول: نعم هو غني من حيث

وجوب الزكاة عليه، لكن قد يكون غنيًا من حيث جواز دفع الزكاة إليه، قد يكون عند الإنسان مائتا درهم لكن مائتي درهم لا تكفيه وعائلته ولو لمدة يومين، فهل تقول: هذا غني؟ لا، كيف تجب عليه الزكاة، وتجوز له الزكاة؟ نقول: لا منافاة، فالزكاة تجب عليه لوجود سبب الوجوب، ويستحق من الزكاة لوجود شرط الاستحقاق، ولا مانع. وأصبح الأقوال في هذا: أن الغني هو الذي يجد كفايته وكفاية عائلته لمدة سنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا لخمسة، ثم عدَّهم، وذكر العدد والتثنية بالمعدود هذا من حسن التعليم بأن يحصر الإنسان الأشياء ثم يفصلها؛ لأنك إذا حصرتها، وقلت: خمسة مثلًا، ثم نسيت تقول: الباقي واحد، لكن لو تعد لك بدون عدد يمكن أن تنسى ولا تشعر أنك نسيت، فإذا بقى في ذهنك أن هذا الشيء عدده خمسة أو عشرة أو عشرين أو مائة ثم نقص عرفت أنك ناس قد نقص شيئًا، لكن إذا ذكر مرسلًا فإنه قد يسقط ولا تشعر انك أسقطته، فهذا من حسن التعليم أن نحصر الأشياء بالعدد. قال: "لعامل عليها"، وسبق معنى العامل عليها، وإنما جاز له الأخذ مع الغني، لأنه يأخذ للحاجة إليه، فنحن محتاجون إليه لقيامه على الصدقة فأعطيناه لحاجتنا نحن إليه، ولهذا يعطى كما مرا مقدار آجرته. الثاني: "أو لرجل اشتراها بماله" وهذا في الحقيقة ما أخذها من جهة الزكاة، لكن هي عين الصدقة، مثال ذلك: أعطى هذا الفقير حقة من الإبل، وهي التي عندها ثلاث سنوات، فجاء فباعها على غني حلت له هذه الحقة للغني، لماذا؟ لأنه أخذها بجهة غير استحقاق الزكاة، وهى الشراء؛ ولهذا قال: اشتراها بماله، لكن هي حقيقة عين الصدقة، إنما الفقير أخذها بجهة الصدقة، وهذا أخذها بجهة الشراء، فلمَّا اختلفت الجهة جاز. ونظير ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم بيته وطلب طعامًا فقالوا: ليس عندنا شيءً. قال: "ألم أر البرمة على النار؟ "- البرمة: إناء من خزف أو نحوه- قالوا: يا رسول الله، ذاك لحم تصدق به على بريرة- يعني: وهو لا يأكل الصدقة- فقال: "هو عليها صدقة ولنا منها هدية". فهو طعام واحد، لكن أخذه التي صلى الله عليه وسلم من بريرة ليس على سبيل الصدقة، بل على سبيل الهدية فهو نظير هذا الحديث. الثالث: "أو غارم" أي القسمين من الغارمين؟ الغارم لإصلاح ذات البين: لأن الغارم لنفسه يشترط لاستحقاقه ألا يجد ما يسدد دينه، أما الغارم لإصلاح ذات البين فيعطى ولو كان غنيًا، اللهم إلا أن يقال: إن الغارم هنا تشمل الصنفين من الغارمين، ويقال: إن الغارم لنفسه قد يكون عنده ما يكفيه من حيث الأكل والشرب واللباس والسكن، لكن ليس عنده ما يسدد دينه وهذا يعطى، فلو أن رجلًا له راتب وهذا الراتب يكفيه لأكله وشربه ولباسه وسكناه، لكن

يحتاج إلى قضاء الدَّين الذي كان عليه بسبب شراء بيت، بسبب شراء سيارة، بسبب زواج أو ما أشبه ذلك فهلا يعفى عنه. حينئذٍ نقول: هو غني من وجه، وفقير من وجه؛ يعني: لقائل أن يقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "غارم" يشمل الصنفين من الغارمين. الرابع: "أو غازٍ في سبيل الله"، هذا يعطى حتى ولو كان غنيًّا، لأنه يعطى للحاجة إليه، فهو يحتاج إليه ولو كان غنيًّا فهو يعطى سلاحًا، أو يعطى دراهم يشتري بها سلاحًا، أو يشتري بها نفقة له. الخامس: "أو مسكينًا تصدق عليه منها، فأهدى منها لغني"، هذا أيضًا ملك الزكاة لغير طريق الزكاة، بأي طريق؟ بالهدية، هذا إنسان فقير أخذ من شخص مائة كيلو بر زكاة وهو فقير فأهدى منها لإنسان غنى من هذا البر لو أن الغنى أخذ هذا البر ممن عليه الزكاة على أنه زكاة لا يجوز، لكن أخذه من الفقير على أنه هدية فجاز مع أنه زكاة. هذه خمسة أصناف بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تحل لهم الزكاة وهم أغنياء. من فوائد الحديث: تحريم الصدقة على الغني، وظاهر الحديث يشمل الواجبة والمستحبة، ولكن ذكر بعض العلماء أن الصدقة غير الواجبة تحل للغني، لكن الأولى أن يتنزه عنها وأن يقول للمصدق: أعطها من هو أحوج مني. ومن فوائد الحديث أيضًا: جواز الزكاة للعامل ولو كان غنيًا، لو أراد العامل أن يتبرع بعمله ولا يأخذ فهو محسن، لكن لو أراد أن يأخذ فلا حرج عليه، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمر حين عمل على الصدقة، فقال: يا رسول الله، أعطه أحوج مني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "خذ، ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك"، العامل عليها ولو كان واحدًا ولو كانوا جماعة، ولو كانوا جماعة من الآية: {والعاملين عليها} [التوبة: 60]. ولو كان واحدًا من هذا الحديث: "لعامل عليها". ومن فوائده أيضًا: أن الرجل إذا اكتسب لجهة مباحة ثم صرفه إلى شخص يحرم عليه لو اكتسبه بهذه الجهة لكان أخذه جائزًا. لو أن أحدًا اكتسب المال بطريق محرم وأعطاه لشخص بطريق مباح هل يحل لهذا الشخص؟ فيه تفصيل: إذا كان حرامًا لعينه فهو لا يحل لغيره مثل: خمر، خنزير، كلب وما أشبه ذلك، وكذلك لو علمت أن هذا مال فلان مغصوب، أمّا إذا كان حرامًا لكسبه فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: كله لك غنمه وعلى كاسبه غرمه، لأنك إن أخذته بطريق مباح والمال نفسه حلال لم يحرم لعينه، لا لحق الله ولا لحق الآدميين، فقد أخذ بطيب نفس من الباذل، وليس حرامًا لعينه، ولكن الأولى التنزه عن ذلك إلا لمن احتاج، فإن احتاج الإنسان إليه فلا بأس.

مثال الحاجة: أن يكون ولد عند أبيه، وليس له كسب يكتسب به، وأبوه يتعامل بالربا أو كل تعامله بالربا، فهنا الابن في حاجة من أين يأكل؟ فيأكل ولا حرج عليه؛ لأن الحاجة تبيح المكروه، كما قال العلماء: كل مكروه يباح للحاجة، وكل محرم يباح للضرورة، أما إذا كنت محتاج فإنه لا ينبغي لك أن تأكل منها بل تنزه وتورع عن ذلك وإن كان قد دخل عليك بطريق مباح. ومن فوائد الحديث: فضيلة الغزو، وأنه يعطى الغزاة من مال الزكاة، يتفرع على هذا: أن إعطاء الغزاة من الصدقة من باب أولى، وحينئذ] نقول: هل الأفضل أن تتصدق بالمال على فقير أو تعين به غازيًا في سبيل الله؟ إذا كان هذا الفقير يمكن أن يتضرر بالجوع أو بالعري في أيام الشتاء فلا شك أن دفع ضرره أولى، وكذلك أيضًا الجهاد يختلف قد يكون المجاهدون مضطرين إلى المال، وقد يكون المال من الكماليات السلاح كثير والأطعمة متوفرة وكل شيء متوفر، المهم أن ينظر الإنسان إلى المصلحة في هذا. ومنه: الإشارة إلى الإخلاص في العمل لقوله: "غاز في سبيل الله"، وهذه أحوج من يكون إليها من الناس أولئك الجنود الذين يعملون في الجيش هؤلاء أحوج- من كل أحد- إلى أن تنفخ فيهم روح الإخلاص؛ لأن المقاتل يعرض رقبته لأعداء الله فإما أن يخسر الدنيا والآخرة، وإما أن يربح إحدى الحسنيين، متى يخسر الدنيا والآخرة؟ إذا لم يخلص لله، إذا كان ينوي بذلك الحمية والقومية وما أشبهها، فإن نية القومية هذه لم يفتحها على المسلمين إلا الكفار أرادوا بالقومية شيئين كما يقولون: "ارم عصفورين بحجر" أرادوا أن يفرقوا المسلمين؛ لأن المسلم غير العربي ما يكون لديه حماسة في معونة العرب المسلمين الذين فصلوا أنفسهم عنه. وثانيًا: أن يذهب عن المسلمين الغيرة الإسلامية حتى يقاتل لا لدين الله، ولكن للقومية، وبذلك يدخل في هذه الكلمة المسلمون وغير المسلمين، فأخرجوا بها أكثر المسلمين وأدخلوا فيها من ليس بمسلم ممن يكون منغمرًا في القومية؛ ولذلك لم تقم لهم قائمة إلى الآن؛ لأن القتال الذي يمكن أن تقوم له قائمة هو الذي يكون في سبيل الله عز وجل؛ فلهذا يجب أن تبث في هؤلاء الجنود روح الإخلاص ليخلصوا لله عز وجل في قتالهم، فإذا أخلصوا لله في قتالهم أوشك أن ينصروا على أعدائهم. ومن فوائد الحديث: جواز هدية الفقير، يؤخذ ذلك من قوله: "فأهدي منها لغني". فإذا قال قائل: كيف يجوز للفقير أن يهدي إذا كان عنده فضل فلا يجوز أن يأخذ من الزكاة؟ نقول: يمكن أن يهدي الفقير، مثال ذلك: اشترى لحومًا زادت عليه، وخاف أن تفسد فأهدى منها، اشترى بطيخًا فخاف أن يفسد فأهدى منه، كان أخذ المال على أنه كفاية سنة، ولكن الأشياء رخصت فسوف يتوفر عنده شيء فيهدي منه، فالحاصل: أن الفقير له أن يهدي.

ومن فوائد الحديث: جواز قبول الغني هدية الفقيرة لأن الحديث صريح: "لا تحل إلا لكذا" فلا يقول الإنسان: لا أقبل هدية المسكين؛ لأن هذا يضره وهو أولى بها مني وما أشبه ذلك، تقول: لا؛ لأنه ربما يكون جبر خاطره أحب إليه من المال الذي يرد إليه، وما أكثر الفقراء الذين يفرحون إذا قبل الأغنياء هديتهم، وهذا الحديث وإن كان فيه علة لكن معناه صحيح منطبق على القواعد الشرعية. 613 - وعن عبيد الله بن عديِّ بن الخيار رضي الله عنه: "أن رجلين حدثاه أنَّهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصَّدقة، فقلَّب فيهما النَّظر، قرآهما جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما، ولاحظَّ فيها لغنيٍّ، ولا لقويٍّ مكتسب". رواه احمد وقوَّاه، وأبو داود والنسائيُّ. قوله: "أن رجلين حدثاه أنهما أتنا رسول الله"، في هذا إشكال وهو جهالة هذين الرجلين، وهذا يجعل الحديث مردودًا؛ لأن جهالة الراوي قدح في الرواية، فما تقولون؟ جهالة الصحابة لا تضر. قال: "يسألانه من الصدقة"، "السؤال" يطلق على طلب المال، ويطلق على الاستخبار والاستفهام عن الشيء، فإن كان للمعنى الأول تعدى إلى المفعول الثاني بنفسه، وإن كان للمعنى الثاني تعدى إلى المفعول الثاني بلفظ "عن"، فتقول: "سألت فلانًا مالًا" هذا سؤال العطاء، و"سألت فلانًا عن كذا" سؤال الاستفهام، ولهذا قال الله تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم} [المائدة: 4]. {ويسألونك عن الجبال} [طه: 105]. {ويسألونك عن اليتامى} [البقرة: 220]. وأمال سأل بمعنى طلب الإعطاء فإنه يتعدى بنفسه إلى المفعول الثاني، مثل: "سألت زيدًا مالًا"، وقد يتعدى بـ"من" مثل قوله تعالى: {وسئلوا الله من فضله} [النساء: 32]. إذا قلت: يراد بها بيان الجنس هنا "يسألانه من الصدقة" فمن أي النوعين؟ من سؤال العطاء المعدَّى بـ"من" مثل: {وسئلوا الله من فضله} [النساء: 32]. "يسألانه من الصدقة" أي: من الزكاة؛ لأن غالب ما يكون عند الرسول صلى الله عليه وسلم من الزكوات، "فقلب فيهما النظر" يعني: أنه جعل ينظر إليهما بإمعان ودقة، "فرآهما جلدين" أي: قويين، والجلد معناه: القوة والصبر ومنه تجلد على كذا، أي: تصبر عليه، فمعنى جلدين، أي: قويين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما، ولاحظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب"، قال الإمام أحمد: ما أجوده من حديث يقول: "إن شئتما أعطيتكما"، يعني: أنه- عليه الصلاة والسلام- لا يردُّ سائلًا، لكن أراد هنا أن يبين لهما الحكم، فإن كانا من أهل الصدقة أعطاهما، وإن لم يكونا من أهل الصدقة لم يعطهما، ولكنه بين فقال: "لاحظ فيها" "الحظ" بمعنى: النصيب، ومنها قوله تعالى:

{وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت: 35]. أي: نصيب عظيم. وقوله: "فيها" أي: في الصدقة، "لغني ولا لقوي مكتسب"، الغني هنا فسر بما فسرناه في الغني في الحديث الأول وهو الذي يجد كفايته وكفاية عائلته لمدة سنة، قال: "ولا لقوي مكتسب"، اشترط النبي صلى الله عليه وسلم شرطين: القوة، والاكتساب؛ فإن كان قويًّا ولا كسب له حلت له، وإن كان مكتسبًا لكن لا قوة له فإنها تحل له، كرجل ذي صنعة يعمل، ولكنه مريض لا يستطيع أن يعمل، فهذا تحل له الزكاة. إذن هذان اثنان: الغني، والقوي المكتسب، فالغني: هو الغني بماله، والقوي المكتسب: هو القوي بصنعته واكتسابه. هذا الحديث معناه الإجمالي ظاهر. أما ما يؤخذ منه من الفوائد: فأولًا: أنه يجب على من أراد أن يعطي الصدقة أن ينظر السائل هل هو مستحقُّ أو لا؟ بدليل قوله: "نقلب فيهما النظر" لا سيما إذا وجدت قرائن تدل على أنه غير مستحق كما في هذا الحديث. ثانيًا: أن الإنسان مقبول قوله في الفقر وعدم التكسب؛ لقوله: "إن شئتما أعطيتكما". ثالثا: أنه ينبغي- إن لم نقل بالوجوب- لمن عنده زكاة وجاء سائل يسأله، وظن أنه ليس بأهل أن يقول له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهذين الرجلين: "إن شئت أعطيتك ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب"، أما إذا كان الإنسان يغلب على ظنه أن السائل صادق فإنه لا يلزمه أن يقول ذلك، بل قد يكره له هذا، لأنه يخجله ويكسر قلبه، إذا قال مثل هذا القول. ومن فوائد الحديث أيضًا: تحريم الصدقة على الغني لقوله: "ولا حظ فيها لغني". ومنها: تحريمها على القوي المكتسب لقوله: "ولا لقوي مكتسب". ومنها: أن الغني ينقسم إلى قسمين: غني بالمال، وغني بالكسب والصنعة، لقوله: "لغني ولا لقوي"، ويتفرع على هذه القاعدة: أنه إذا كان لك قريب يستطيع أن يكتسب لقوته ووجود المكاسب فإنه لا يجب عليك الإنفاق عليه؛ كيف ذلك؟ لأن الرسول قارنه بالغني، وهذا يدل على أن الكسب غنى، والحقيقة أن الكسب قد يكون أضمن من المال؛ لأن المال ربما يسرق، ربما يتلف، لكن الكسب هو دائمًا مع صاحبه يتنقل معه لأنه يكسبه ببدنه. ومن فوائد الحديث: أن الصدقة تحلُّ للفقير إذا لم يكن قويًّا مكتسبًا، يؤخذ هذا من مفهوم قوله: "لغني ولا لقوي مكتسب". ومن فوائد الحديث: الرد على الجبرية لإثبات المشيئة للعبد في عدة جمل في الحديث كلها فيها الرد على الجبرية، ففي هذا الحديث: إثبات المشيئة للعبد وإثبات الفعل له؛ لأنه قال: "مكتسب"، و"قلَّب" وما أشبه ذلك.

من اللذين تتجل لهم الصدقة

614 - وعن قبيصة بن مخارقٍ الهلاليِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثةٍ: رجل تحَّمل حمالةً، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثمَّ يمسك، ورجل أصابته جائحةٌ اجتاحت ماله، فحلَّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيشٍ، ورجل أصابته فاقةٌ حتَّى يقوم ثلاثةٌ من ذوي الحجا من قومة: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ؛ فحلَّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيشٍ، فما سواهنَّ من المسألة يا قبيصة سحتٌ يأكله صاحبه سحتًا". رواه مسلمٌ، وأبو داود، وابن خزيمة، وابن حبَّان. من اللذين تتجل لهم الصدقة: قوله: "إن المسألة لا تحل إلاً لأحد"؛ لأن قبيصة سأل النبي- عليه الصلاة والسلام- من الصدقة فقال له هذا الكلام: "لا تحل إلا لأحد ثلاثة" أولًا: "رجل" بالكسر لماذا؟ بدل من "أحد"، ويجوز أن تقول: "رجل" بالضم على أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أحدهم رجل. "تحمل حمالة فحلت له المسألة" يعني: تحمل حمالة للإصلاح بين قوم، وهذا هو الغارم لإصلاح ذات البين، فهذا وجد قبيلتين متنافرتين يكاد يكون بينهما دماء فتحمَّل حمالة، فهذا تحل له المسألة حتى يصيب تلك الحمالة، ولو كان غنيًّا؛ لأن هذا من باب المساعدة والمعاونة على فعل المعروف؛ لأن فعله هذا لا شك أنه معروف يحمل عليه ويشكر عليه، فكان من المناسب أن يعطى ما تحمله تشجيعًا له ولأمثاله، إذ إن غالب هذه الحمائل تكون كثيرة. ولو قلنا: إنه لا يعطى لكانت أمواله تتلف بسبب هذه الحمالة، فمن أجل هذا كان من الحكمة أن يعطى إياها، ولكن السؤال سؤالان سؤال خفي، وسؤال علني، السؤال العلني: ما يسأله بعض الناس الآن يقوم أمام الناس في المساجد أو في المجتمعات ويتكلم، والثاني: سؤال خفي بأن يكتب ما وقع له ثم يرسله إلى من يتوسم فيه الخير، أو يذهب هو بنفسه إلى من يتوسم فيه الخير ويقص عليه القصة أيهما أعظم؟ الأول أعظم، والأول ينبغي ألاَّ يجوز إلا للضرورة، لأنه في الواقع بذل نفسه أمام الناس جميعًا، لكن الذي يسأل سؤالًا خفيًّا فيمن يتوسم فيه الخير يكون أهون، لأنه إنما أذل نفسه عند أشخاص معينين، وإن كان هذا أشد من جهة أخرى وهو إحراج المسئول؛ لأن الأول يسأل من شاء أعطاه ومن شاء لم يعطه ولا يهمه، لكن الثاني يحرج المسئول فقد يكون أشدُّ من هذه الناحية. قال: "ورجل أصابته جائحة" اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة، "حتى يصيب قوامًا من عيش، "الجائح": هو المهلك للشيء، ومعنى "اجتاحت ماله" أي: أهلكته، مثل أن يأتي زرعه

فيضان يتلفه، أو يأتي دكانه حريق يحرقه، أو يأتي ماشيته جنود يأخذونها أو ما أشبه ذلك، لكن الجائحة لا بد أن تكون بينة؛ ولهذا لم يحتج إقامة البينة على هذه الجائحة؛ لماذا؟ لأنها ظاهرة، ولهذا هنا لم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم أن يشهد عليه أحد. قال: "اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش"، "القوام": ما تقوم به حياته، و"من عيش": ما يعيش به الإنسان، وليس المراد بالعيش: ما هو معروف عندنا في اللغة العامية وهو القمح، ولكن المراد بالعيش هنا: ما يعيش به الإنسان من لباس، وطعام، وشراب وما أشبه ذلك، إذن ما تقوم به حياته. "ومن عيش" أي: ما يعيش به. ثم قال: "ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ... الخ"، "الفاقة"، يعني: الحاجة، لكنها ليست حاجة بينة للناس، إنما رجل كان غنيًّا ومعروفًا بالغني وانكسر انكسارًا بغير شيء معلوم، مثل ما يحصل في بعض الأحيان تكسد الأشياء، ويكون الرجل قد اشترى سلعًا كثيرة فخسرها، ويكون أيضًا قد اشترى هذه السلع بأكثر من ماله الذي بيده كما يوجد من أهل الطمع إذا رأوا الأشياء ترتفع ذهب الواحد منهم يشتري أكثر من ماله، فإذا نزلت الأشياء خسر وصارت ديونه عظيمة، لكن لو أن الإنسان لا يشتري إلا مقدار ما عنده ما حصل الخلل، وهذا هو العقل وهو الشرع ألاَّ تشتري أكثر مما عندك، هذا الرجل اشترى سلعًا كثيرة وهبطت الأشياء وخسر والناس يظنون أنه ما زال على غناه. إذن فالفرق بين هذا والذي قبله: أن الذي قبله تلف ماله بسبب ظاهر "جائحة"، أما هذا فإن الفاقة صارت بسبب خفي لا يعلم عنه. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابه"، قوله: "لقد أصابه" مفعول لفعل محذوف، والتقدير: حتى يقوموا فيشهدوا لقد أصابه، أما على النسخة التي عندكم: "حتى يقول" فإن مقول القول يكون قوله: "لقد أصابه"، ولا حاجة إلى التقدير. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة من ذوي الحجا"؛ لأن هذا الذي ادَّعى الفقر يدعي استحقاقًا يستلزم حرمانًا كيف ذلك؟ هذا الذي أخذ هذا المال من الزكاة أخذه إياه يستلزم استحقاقًا ويستلزم حرمانًا لغيره من الفقراء الآخرين فكان من الحكمة أن يكون الشهود ثلاثة واشترط النبي صلى الله عليه وسلم شرطين مع هذا العدد من ذوي- الحجا وهو العقل-يعني: أنهم أصحاب فطنة وانتباه ليسوا أصحاب غفلة وغرة تفوتهم الأشياء ويغرر بهم، أو ليسوا أيضًا من ذوي العاطفة الذين تغلبهم العاطفة حتى يشهدوا لإنسان بمقتضى هذه العاطفة لا بمقتضى العقل. الشرط الثاني: "من قومه"، وهذا يعود إلى اشتراط الخبرة؛ لأن قومه هم أهل الخبرة بحاله، فاشترط الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة شروط: العدد بأن يكونوا ثلاثة، العقل، الخبرة. العقل؛ لقوله: "من ذوي الحجا"، والخبرة من قوله: "من قومه"؛ لأن قومه أعلم.

فإن قال قائل: إن قومه قد يحابونه فيشهدون بما ليس بصواب؟ فالجواب: أننا إذا حصلت هذه التهمة وتحققناها فإننا لا نقبل كغيرهم من الشهداء الذين تقوى فيهم التهمة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم راعى كونهم من قومه أنهم أقرب إلى العلم بحاله. يقول: "لقد أصابت فلانًا فاقة"، اللام هنا موطِّئه للقسم، و"قد" للتحقيق، وعلى هذا فتكون الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم المحذوف، واللام، وقد، ولكن قد تجاب الشهادة بما يجاب به القسم فيقول: أشهد لقد كان كذا وكذا، والجامع بينهما هو التوكيد في كلٍّ منهما القسم مؤكد والشهادة أيضًا مؤكدة. وقوله: "أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش"، قال: "فما سواهن" أي: فالذي سواهن، وهنا حذف من الصلة، فأصلها: "فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت" حذف فضل الصلة، أو نقول: الصلة موجودة "سواهن سنحت" الجملة هذه تامة أو لا؟ إذن كلامنا الأول صواب فالذي هو سواهن سحت، والسحت: هو المال المأخوذ بغير حق، وسميِّ سحتاّ؛ لأنه يسحت بركة المال، وربما سحت المال نفسه، ولهذا تجد كثيرًا من الناس الذين يكتسبون الأموال بالباطل لا يموتون إلا وهم فقراء وهذا شيء مشاهد، فإن سحت نفس المال فالأمر ظاهر، وإن لم يسحته فقد سحتت بركته. وقوله: "وما سواهن من المسألة يا قبيصة"، دخلت الجملة الندائية هنا بين المبتدأ والخبر للتنبيه، قال: "يأكلها- وفي رواية: يأكله- صاحبها سحتّا"، أما على القول بأنه "يأكله"، فواضح أنه مطابق لقوله: "سحت"؛ لأن سحتًا مفرد مذكر، وأما على الرواية الأخرى "يأكلها"، فالمراد: الصدقة: يعني: ما سوى هذه المسألة، فإن من سأل من الصدقة فأكلها فهو سحت يأكلها. وقوله: "سحتًا"، هذه حالٌ من الهاء في قوله: "يأكلها"، وهي مؤكدة لقوله: "سحتًا". هذا الحديث كما تشاهدون أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسألة- والمراد بها: مسألة المال- لا تحلُّ إلا لواحدة من هذه المسائل. نستفيد من هذا الحديث؛ أولًا: تحريم مسألة المال إلا في هذه الأحوال الثلاثة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن المسألة لا تحل". ومن فوائد الحديث أيضًا: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كيف هذا؟ الحصر والعد؛ لأن هذا مما يزيد الإنسان حفظًا وفهمًا. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا تحمّل حمالة لغيره فإن له أن يسأل حتى يصيب هذه الحمالة كقوله: "إلا لأحد ثلاثة .... " الخ.

ومنها: جواز سؤال الإنسان لغيره؛ لأنه إذا سأل لأمر يعود نفعه إليه من أجل غيره فسؤاله لأمر يعود نفعه إلى الغير من باب أولى، فيجوز للإنسان أن يسأل الغير إذا علم أن هذا الغير مستحق، ولكن مع هذا لا ينبغي إلا إذا كان سؤاله هو أقرب إلى قضاء حاجة الغير مما لو سأل الغير حينئذٍ يكون سؤاله كالشفاعة، أما إذا كان هذا الذي قال: اسأل لي فلانًا يستطيع أن يسأل هو بنفسه، ويمكن أن تقضى حاجته فلا ينبغي حينئذٍ أن تسأل له لسببين: الأول: أن هذا قد يحرج صاحبه- أعني: المسئول-؛ لأن بعض الناس قد يهون عليه أن يعتذر من فلان، ولا يهون عليه أن يعتذر من فلان. الثاني: أن فيه شيئًا من الغضاضة عليه حتى وإن كنت تسأل لغيرك، لكن فيه شيء من الغضاضة لا سيما إذا كثرت أسئلتك الناس للناس فإن هذا يوجب الغضاضة عليك، لكن هذه المسألة إذا تحملتها فلا يهم، لكن الكلام على أن نقول: إذا كان سؤالك للغير أقرب إلى إجابته بحيث لو سأل هو لم يجب فمعونته هنا لا شك أنها مصلحة وفيها خير. ومن فوائد الحديث: أن الإسلام حريص على كرامة بنيه وعدم ذلهم ولهذا حزم عليهم المسألة لما فيها من الذل. ومنها أيضًا: أن من أصيب بجائحة اجتاحت ماله جاز له أن يسأل بقدر الحاجة فقط لقوله: "حتى يصيب قوامًا من عيش"، ثم بعد ذلك لا يسأل. ومن فوائد الحديث: أن من كان غنيًا ثم افتقر فإنها لا تحل له المسألة ولا الزكاة أيضًا حتى يشهد له ثلاثة من قومه من ذوي العقل، لأنه أصابته فاقة، وذلك لأن الأصل بقاء الغنى وعدم الاستحقاق فلا يقبل إلا ببينة، بخلاف الرجل الذي لم يكن معروفًا بالغنى إذا جاء يسأل يقول إنه من أهل الزكاة فإننا نعطيه إذا غلب على الظن صدقه. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن ما عدا هؤلاء الثلاث إذا أخذ الإنسان المال بالسؤال فإنه سحت، لقوله: "وما سواهن من المسألة". ومنها أيضًا: استعمال التنبيه للمخاطب عند الجملة المهمة، لقوله: "فما سواهن من المسألة يا قبيصة"، فإذا كان حديثه مستفيضًا وطويلًا وأنت في فقرة من الحديث ينبغي له أن ينبهِّ عليها فإنه يحسن التنبيه. ومن فوائد الحديث: أن المال الحرام ليس فيه بركة، وأنه شؤم على بقية المال: لقوله: "سحت يأكله صاحبه سحتًا". ومن فوائده أيضًا: أنه حتى لو أن الإنسان استمتع بالمال الحرام فإنه سحت حتى لو أكله وانتفع به فإنه سحت؛ لأنه يسحت البركة من وجه آخر وهو أن المتغذي بالحرام لا يستجاب

فائدة في أقسام البيئات

دعاؤه؛ ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، قال: "فأنى يستجاب لذلك". وهذا من السحت أن يسحت بركة الدعاء مع توفر أسباب الإجابة، وهي رفع اليدين إلى السماء. ومن قوله: يا رب، يا رب، يا رب، وكونه أشعث أغبر، والرابع: كونه في السفر مع توفر هذه الأسباب الأربعة يبعد أن يستجاب له، لأنه كان يتغذى بالحرام، وهذا من أعظم السحت- والعياذ بالله-. ومن فوائد الحديث: التنبيه على أنه لابد أن يكون الشاهد ذا خبرة؛ لقوله: "من قومه، فإذا لم يكن ذا خبرة فإننا لا نقبله؛ لأننا نعلم أنه شهد تخرُّصّا أو محاباة أو ما أشبه ذلك. ومنها: اشتراط العقل في الشهادة؛ لقوله: "من ذوي الحجا" أي: العقل. ومنها اشتراط التعدد في هذه المسألة في ثلاثة، لقوله: "حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، وهذا فيما إذا كان معروفًا بالغنى من قبل. فائدة في أقسام البيئات: تتميمًا لهذه الفائدة نقول: إن الشهود قد يكونون أربعة، وقد يكونون ثلاثة، وقد يكونون رجلين، وقد يكونون رجلًا وامرأتين، وقد يكونون رجلًا ويمين المدعي، وقد تكون اليمين فقط، فهذه أقسام أربعة. في الزنا واللواط لا بد فيه من أربعة رجال لقوله تعالى: {لولا جاءو عليه بأربعة شهداء} [النور: 13]. ثلاثة رجال هذا الحديث: إذا ادعى الفقر وهو معروف بالغنى فلا بد من ثلاثة رجال، رجلان في الحدود مثل حد الزنا، والقصاص، والنكاح وما أشبه ذلك مما ليس بمال ولا يقصد به المال فلا بد فيه من رجلين، رجل وامرأتان في المال وما يقصد به لقوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة: 282]. رجل ويمين المدعي كذلك في المال وما يقصد به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين، امرأة واحدة أو رجل واحد، أمرأة واحدة فيما لا يطلع عليه إلا النساء كالرضاع والاستهلال وما أشبه ذلك. الاستهلال؛ يعنى: استهلال الحمل إذا سقط، وشهدت امرأة بأنه استهل صارخًا قبلنا شهادتها وورثناه اليمين فقط وذلك فيما إذا كان هناك قرينة ظاهرة تدل على صدق المدعي مثل: القسامة في الدماء، ومثل لو أن رجلًا يسعى شديدًا خلف رجل هارب وهذا الرجل الذي يسعى شديداً خلفه أصلع ليس عليه شيء وذاك عليه شماغ وبيده شماغ، والذي يسعى وراءه يقول: أعطني شماغي، هنا إذا قال المدعين عليه: هات شهودًا أن هذا لك، فإننا نقبل قول المدعي بيمينه؛ لماذا؟ لوجود قرينة ظاهرة تشهد له. هذه أقسام البينات التي تثبت بها الحقوق، كم صارت؟ سبعة.

الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لآله

الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لآله: 615 - وعن عبد المطَّلب بن ربيعة بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الصَّدقة لا تنبغي لآل محمَّدٍ، إنَّما هي أوساخ النَّاس". - وفي رواية "أنَّها لا تحلُّ لمحمَّدٍ ولا لآل محمَّدٍ". رواه مسلمٌ. "الصدقة" هنا كلمة عامة تشمل الزكاة وصدقة التطوع، أما كونها تشمل صدقة التطوع فظاهر؛ لأن الصدقة في الأصل لا يفهم منها عرفًا إلاّ صدقة التطوع، وأما شمولها للصدقة الواجبة فلقوله تعالى: {إنما الصدقات ..... }، وهذه للزكاة لقوله في آخرها: {فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة: 60]. هنا هل المراد بالصدقة الواجبة والمستحبة، أم الواجبة؟ ننظر، إن أخذنا بالعموم قلنا: إنها شاملة لصدقة التطوع والواجبة وهي الزكاة، وإن نظرنا إلى التعليل: "إنما هي أوساخ الناس" رجحنا أن المراد بها: الزكاة؛ لأن الزكاة هي التي تنظف المال وتطهره من الآفات، فهي إذن كالماء الذي تغسل به النجاسات فيكون وسخًا، وهذا التعليل لا ينطبق على صدقة التطوع؛ لأن صدقة التطوع مكفرة للذنوب وليست مطهرة للأموال؛ لأنها ليست واجبة، وهذا هو ما ذهب إليه الجمهور؛ بمعنى: أن المراد بالصدقة هنا: الزكاة، ولكن بعض أهل العلم يقول: إنها عامة تشمل الصدقة الواجبة وصدقة التطوع. يقول: "إن الصدقة لا تنبغي" سبق لنا أن كلمة "لا تنبغي" في القرآن والسُّنة معناها الامتناع، يعني: ممتنعة، "لا تحل لآل محمد"، "آل محمد" هم بنو هاشم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم فمن كان من ذرية هاشم فهو من آل محمد، ومن فوقه من بني عبد مناف، ومن فوقه فإنهم ليسوا من آل محمد فآل الشخص إلى الجد الرابع فقط؛ إذن لا تحل لبني هاشم ذكورهم وإناثهم، لأنه قال: "لا تنبغي لآل محمد". ثم قال: "إنما هي أوساخ الناس" هذه جملة حصرية، أداة الحصر فيها "إنما" يعني: ما هي إلا أوساخ الناس، وأوساخ الناس لا ينبغي أن تكون لأطيب الناس عرقًا، وهم بنو هاشم، فإن بني هاشم أطيب الناس عرقًا ونسبًا، فلا تحل لهم الزكاة، لأنهم أشرف من أن يأخذوا أوساخ الناس. وقوله: "أوساخ الناس" المراد بالناس هنا: الذين تجب عليهم زكاة لا كل أحد؛ لأنه ليس كل أحد عليه أن يزكي، فهو إذن عام أريد به الخاص. مسألة مهمة: أحيانًا نسمع عام مخصوص، ونسمع عام أريد به الخاص، فهل بينهما فرق؟ نعم، الفرق بينهما أن العام المخصوص لفظ عام أريد عمومه، ثم أخرج من هذا العموم شيء من الأفراد:

{إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين أمنوا} [العصر: 2، 3]. الإنسان عام مخصوص، فقال: {إلا الذين أمنوا}. والاستثناء هذا يخرج بعض أفراد العموم، "فيما سقت السماء العشر" هذا عام. "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" هذا مخصص، فالعام المخصوص: هو الذي أريد عمومه أولًا ثم أخرج منه بعض الأفراد، وعلى هذا فيكون حجة فيما عدا التخصيص، فإذا استدل أحد بعمومه على أي فرد من أفراده فاحتجاجه صحيح إلا في الفرد الذي خصص. ثانيًا: أن العام المخصوص يصح الاستثناء منه بخلاف العام الذي أريد به الخاص فإنه لا يصح الاستثناء منه، العام الخاص في الوجه الأول لا يراد به العموم أصلًا بل يراد به شيء معين، وعلى هذا فأي أحد يدخل فيه شيء من العموم فإنه ممنوع، لماذا؟ لأنه أريد به الخاص فلا يمكن أن تدخل فيه شيئًا من العموم. ثالثًا: أن الذي أريد به الخاص إذا دل على فرد لا يمكن الاستثناء منه، مثاله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173]. قالوا: إن المراد بالناس: أبو سفيان {إن الناس قد جمعوا لكم}، والمراد بالناس الذين قال لهم الناس: الرجل الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأن قريشًا جمعوا لهم، فهو إذن عام أريد به الخاص، فالأول: نعيم بن مسعود، والثاني: أبو سفيان، هكذا قيل، وعلى كل حال: هذا الفرق بين العام المخصوص، والعام الذي أريد به الخصوص. في هذا الحديث من الفوائد: تحريم الصدقة على آل النبي صلى الله عليه وسلم وهل يدخل فيهم الرسول؟ نعم، يدخل فيهم، فإذا قيل: آل فلان، دخل هو- المنسوب إليه- فيهم بالأولوية، على أنه قد صرح في الرواية الثانية: "إنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد"، فيكون المؤلف أتى بالرواية الثانية؛ لأن فيها التصريح بدخول النبي صلى الله عليه وسلم. وهل هذا يشمل الزكاة وصدقة التطوع؟ أقول: في هذا خلاف بين أهل العلم، فجمهور العلماء على أن المراد به: الزكاة الواجبة، واستندوا في ذلك إلى التعليل في قوله: "إنما هي أوساخ الناس"، ولكن هذا في غير النبي صلى الله عليه وسلم أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يأكل الصدقة لا تطوعها ولا: فرضها، وهذا من خصائصه عليه السلام. واختلف العلماء هل هذا الحكم عام أو مقيد بما إذا أعطوا الخمس؛ لأن المعروف أن الخمس لذوي القربى- البني هاشم وبني المطلب أيضًا- كما سيأتي في الحديث الذي بعده ولكن هل نقول كما قال هؤلاء، وأنهم إذا لم يعطوا الخمس أعطوا من الزكاة؟ في هذا أيضًا قولان لأهل العلم، منهم من قال: إنهم إذا لم يعطوا من الخمس، إما لكونه لا خمس، وإما لظلم من ولي الأمر لا يعطيهم، فإنهم يأخذون من الزكاة لئلا يموتوا جوعًا، أو يتكففوا الناس يعني: يسألونهم-، فإن تكففهم الناس أعظم ذلاٍّ مما إذا أعطوا من الزكاة بلا سؤال، وهذا اختيار

شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو يرى أنهم إذا منعوا الخمس أو لم يكن هناك خمس، بما إذا لم يكن هناك جهاد ولا غنيمة، فإنهم يعطون من الزكاة؛ لأنهم فقراء، ولكن جمهور أهل العلم على أن المنع على الإطلاق، وأنهم لا يأخذون من الزكاة، ولو لم يكن هناك خمس، ولا يمكن أن يكون حرمانهم ما يجب لهم مبيحًا لأخذهم ما ليس لهم أخذه، فإذا حرموا الخمس فهم مظلومون، ولكن لا يقتضي ذلك حل ما منعوا منه وهو الأخذ من الزكاة إذا لم يكن هناك خمس أو منعوا من الخمس وهم فقراء، ماذا نعمل بالنسبة لهم؟ ندفع لهم صدقة تطوع على قول الجمهور، وصدقة التطوع أهون من الصدقة الواجبة. ومن فوائد الحديث: فضيلة آل النبي صلى الله عليه وسلم لكونهم أرفع شأنًا من أن يأخذوا زكاة الناس. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقرن الأحكام بالعلل لقوله: "لا تنبغي، "إنما هي أوساخ الناس"، وقرن الحكم بالعلة له ثلاث فوائد ذكرناها كثيرًا. الفائدة الأولى: اطمئنان النفس إلى الحكم؛ لأن النفس إذا علمت علة الحكم اطمأنت بلا شك. والثانية: بيان سمو الشريعة، حيث إنها لا تحكم إلا بما له علة مناسبة للحكم بها يثبت الحكم. والثالثة: إمكان القياس فيما يمكن فيه القياس عليه؛ لأن الشيئين إذا اتفقا في العلة تساويا في الحكم هنا قال: "إنما هي أوساخ الناس". وهنا في هذا الحديث: تسلية آل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النفوس مجبولة على الشح، وعلى حب المال، فإذا قيل لهم: إن هذا لا يحل لكم. يقولون: كيف الناس يتمتعون بها، ونحن نحرم منها. فإذا قيل: "أوساخ الناس" صار بذلك تسلية لهم، وهذا من حسن مداراة النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب العباس منه من الصدقة لأنه عامل قال له هذا الكلام قال: "إنما هي أوساخ الناس"، ولا شك أن الإنسان إذا علم أنها أوساخ الناس سوف يتقزز منها وبطبيعته يكرهها. ومن فوائد الحديث: جواز وصف الزكاة بالأوساخ، لكن هذا مشكل كيف نصفها بأنها أوساخ الناس وهي ركن من أركان الإسلام، وهل في الإسلام شيء وسخ مشكل هذا؟ المسألة ثقيلة ليست هينة هي بالنسبة لإخراجها وإيتائها لأصنافها تعد ركنًا من أركان الإسلام، تزكي النفس وتطهرها، وتلحقها بالكرماء والمحسنين، وبالنسبة للمعطي نقول: إنه وسخ؛ لأنه هو الشيء الذي طهر به المال، فهو كالماء الذي طهرت به النجاسة، ولا ينبغي للإنسان أن يأخذها إلا وقت الحاجة، كما لو اضطر الإنسان إلى الماء النجس يشربه!

آل النبي الذين لا تحل لهم الصدقة

آل النبي الذين لا تحل لهم الصدقة: 616 - وعن جبير بن مطعمٍ رضي الله عنه قال: "مشيت أنا وعثمان بن عفَّانّ رضي الله عنه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلَّب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم بمنزلةٍ واحدةٍ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحدٌ". رواه البخاريُّ. "مشيت" أي: سرت أنا وإياه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الغرض ولهذه الحاجة. الغرض أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى بني المطلب من خمس خيبر، والله عز وجل يقول: {* واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41]. والذي لله وللرسول يصرف في مصارف المسلمين العامة الذي يسمى الفيء، {ولذي القربى} يعني: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من يدخل في ذي القرى بنو هاشم قلنا: إنهم آل الرسول ولا شك أن من قرابته بنو المطلب، ننظر الرسول صلى الله عليه وسلم جعلهم في الخمس قسمين: بنو المطلب، يعني: عبد شمس ونوفل، والمطلب وهاشم بطنان أعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس وبطنان لم يعطهما مع أن الأربعة كلهم أبناء رجل واحد، وعثمان بن عفان، وجبير بن مطعم من البطنين الممنوعين، فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحدة لماذا؟ لأن بني المطلب- لما صارت محاصرة قريش لبني هاشم إثر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة- انضموا إلى بني هاشم وصاروا معهم وحصروا في الشعب، وأما بنو عبد شمس ونوفل فإنهم صاروا مع قريش، ولهذا كان أبو طالب يقول في لاميته المشهورة: [الطويل] جزا الله عنا عبد شمس ونوفلًا ... عقوبةً شر عاجلٍ غير آجلٍ لماذا؟ لأنهم خذلوهم، فهم بنو عمهم، وكان الواجب عليهم- ولو من حيث القرابة- أن يكونوا معهم، لكن كانوا مع هؤلاء مع قريش لذلك لما ساعدوا بني هاشم وكانوا معهم في النصرة والولاء على قريش جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم سهمًا من الغنيمة، وجعلهم شيئًا واحدًا، فهذه هي قصة الحديث، وجاء به المؤلف عقب قوله: فإن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إشارة إلى أن بني المطلب لا تحل لهم الزكاة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد" أيضًا، وربما يقال: وإشارة إلى بيان الحكمة في أنهم لا يعطون من الزكاة وأن يجعل لهم بدلًا من ذلك وهو الخمس، بإشارة إلى بني المطلب وبنو هاشم يأخذون من الخمس وكان منعهم من الزكاة جعل لهم عوضًا عنه وهو الخمس، ثم هل بنو المطلب تحل لهم الزكاة أو لا؟ في

هذا قولان لأهل العلم. منهم من قال: إنها لا تحل لهم الزكاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد". ثانيًا: ولأنهم يشاركون بني هاشم في الخمس، فإذا شاركوهم في المغنم شاركوهم في الحرمان من الزكاة. ومن العلماء من يقول: إنها تحل لهم؛ لأن العلة في منع الزكاة على بني هاشم هي القرابة، ومعلوم أن بني المطلب بنو عم لبني هاشم وليسوا من بني هاشم، ولو كانت العلة القرابة لكان بنو عبد شمس ونوفل يمنعون من الزكاة. وفي هذه المسألة عن الإمام أحمد رحمة الله روايتان: رواية أنها تحل لبني المطلب وهي المذهب. والرواية الثانية: أنها لا تحل، وهي التي مشى عليها صاحب زاد المستقنع، والصحيح أنها تدفع إلى بني المطلب، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أعطاهم من الخمس لا من أجل قرابتهم، ولكن من أجل النصرة والحماية حيث كانوا مع بني هاشم على قريش، ولو كانت العلة القرابة لم يكن فرق بينهم وبين بني عبد شمس ونوفل. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان ينبغي له أن يستعين بمن يشاركه في مهمته، وأن هذا من أسباب نجاح المهمة، دليله: أن جبير بن مطعم مشى هو وعثمان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك أيضًا له شواهد من الواقع، فإن إجابة الاثنين أقرب من إجابة الواحد، وإجابة الثلاثة أقرب من إجابة الاثنين ..... وهكذا، فإذا كنت تريد أمرًا مهمًّا فالذي ينبغي أن تأخذ معك من يشاركك في الأمر؛ لأنه يعينك على قضاء الحاجة، وربما يورد عليك المسئول إيرادًا لا تستطيع أن تجيب عنه، فإذا كان معك غيرك فإنه ينشطك، ولهذا قال موسى- عليه الصلاة والسلام- لما أمره الله تعالى أن يبلغ رسالة إلى فرعون: {واجعل لي وزيرًا من أهلي} [طه: 29، 30]. ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه يجوز للإنسان أن يستفسر عما يظن أنه حق له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عثمان وجبيرًا على السؤال، ولم يقل: إن هذا السؤال حرام عليكم. ومن فوائد الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكافئ على المعروف، وأن المكافأة على المعروف مما جاءت به الشريعة، حيث كافأ بني المطلب فأعطاهم من الخمس. ومن فوائد الحديث: أن المراد بذوي القربى في قوله تعالى: {وللرسول ولذي القربى} قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان بعض العلماء قال: المراد بهم: قرابة ولي الأمر، ولكن الصواب أنهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم أخذ موالي آل الرسول صلى الله عليه وسلم من الصدقة

ومنها: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حيث أجاب عثمان وجبيرًا بجواب يقتنعان به، وهو قوله: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد"؛ وإلا ففي إمكانه أن يقول: لا حق لكما فيه وينصرفان، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين العلة في إعطاء بني المطلب وأنهم مع بني هاشم شيء واحد. ومنها- على ظاهر صنيع المصنف رحمة الله-: أن بني المطلب لا يعطون من الزكاة كما أنهم يعطون من الخمس، وهذا أحد القولين في المسألة، ولكن الراجح خلاف ذلك. هل يفهم منه أيضًا جواز التوسل بفعل شيء إلى أن يفعل الفاعل مثله؛ بمعنى: يجوز أن أقول لشخص: أنت أعطيت فلانًا فأعطني مثله؟ نعم؛ لأنه قال: أعطيت بنى المطلب، وهذا معناه كالإلزام بأن يعطي عثمان وجبيرة أو كالتوسل: يعني: مثلما أعطيت فلانًا وأنا وإياه حاجتنا واحدة فأعطني مثله، وهذا أيضًا أمر جبلت عليه النفوس أن الإنسان يتوسل بفعل الإنسان على أن يفعل به مثل ما فعل. حكم أخذ موالي آل الرسول صلى الله عليه وسلم من الصدقة 617 - وعن أبي رافع رضي الله عنه: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا على الصدقةٍ من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني فإنك تصيب منها، قال: لا، حتى آتي النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسأله، فأتاه فسأله، فقال: مول القوم من أنفسهم، وإنها لا تحل لنا الصدقة". رواه احمد، والثلاثة، وابن خزيمة، وابن حبان. وأبو رافع، كان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ملكه من قبل العباس بن عبد المطلب، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فبشره بإسلام العباس، فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم فصار مولى للرسول صلى الله عليه وسلم مولى من أسفل وليس مولَّى من أسفل باعتبار المعنى، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعلى منه بلا شك، لكن أقول لكم: إن المعتق يسمى مولى من فوق أو من أعلى، والعتيق يسمَّى مولَّى من أسفل فكل منهما مولَّى للآخر، لكن ذاك هو المعتق فهو الأعلى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يد المعطي هي العليا"، والثاني مولى من أسفل. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم من أنفسهم يعني: وأنت مولى لي فيكون حكمك حكمي ولهذا قال: "وإنها لا تحل لنا الصدقة"، يعني: فإذا كانت لا تحل لنا وأنت مولى فإنها لا تحل لك، إذن أضيفوا إلى المسألة السابقة- وهي أن الصدقة لا تحل إلى آل محمد-: ولا لموالي آل محمد، وإذا قلنا بأن المطلبيين لا تحل لهم الصدقة فكذلك مواليهم.

ففي هذا الحديث من الفوائد أولًا: جواز استعمال الرجل على الصدقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث هذا الرجل، ولكن يشترط في الرجل الذي يستعمل على الصدقة شرطان: القوة، والأمانة. القوة بماذا؟ بأحكام الزكاة أخذًا وإعطاء، فيعرف الأموال الزكوية، ويعرف مقدار الأنصبة، ويعرف مقدار الواجب، ويعرف المستحق إذا كان قد وكل إليه الصرف، ويشترط أيضًا أن يكون أمينًا، وهذان الشرطان- القوة والأمانة- يشترطان في كل عمل، وقد ذكر هذا في موضعين من كتاب الله فقالت إحدى البنتين لأبيها صاحب مدين: {استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26]. {قال عفريت من الجن أنا أتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين} [النمل: 40]. فكل عمل لا بد فيه من القوة عليه ومن الأمانة، قويًّا يعني: أنه يعلم الزكاة أنصبتها مقدار الواجب ومستحقها حتى يصرفها إذا وكل إليه الصرف، وأمينًا بحيث لا يخون، فإن كان خائنًا أو يخاف من الخيانة فإنه لا يجوز أن يولَّى. ومن فوائد الحديث: جواز إخبار الإنسان بما ينتفع به انتفاعًا دنيويًّا، أو بعبارة أخرى جواز طلب المشاركة من شخص لينتفع بما يشارك فيه انتفاعًا دنيويًا، الدليل: "اصحبني فإنك تصيب منها". ومن فوائد الحديث: ورع الصحابة- رضي الله عنهم-، فإن أبا رافع رضي الله عنه مع كون هذا الرجل شجعه على الذهاب معه امتنع قال: "حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم"، وهذا يدل على كمال الورع في الصحابة- رضي الله عنهم-، وهناك شيء يسمَّى ورعًا وشيء يسمى زهدًا وبينهما فرق: قال ابن تيمية: الورع ترك ما يضره في الآخرة، والزهد ترك ما لا ينفعه في الآخرة. يتبين الفرق في مباشرة شيء لا نفع فيه ولا ضرر، فمباشرته لا تنافي الورع ولكنها تنافي الزهد؛ لأن الزاهد هو الذي يفعل ما فيه المنفعة والمصلحة، وأما ما لا منفعة فيه في الآخرة فيتركه. ومن فوائد الحديث: أن مولى بني هاشم لا تحل له الصدقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم من أنفسهم، ، وهل يستدل بعمومه على أن مولى القوم وارث؟ أما جمهور العلماء فيقولون: إن المولى من أسفل لا يرث، وإنما الوارث المولى من أعلى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق"، وأما المعتق فإن مولى سيده إذا لم يوجد له عاصب يذهب إلى بيت المال ولا يعطي العتيق، ولكن بعض العلماء قال: إن المولى من أسفل يرث إذا لم يوجد عاصب سواه ولا صاحب فرض وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة أنها ترث لقيطها وعتيقها وولدها الذي لاعنت عليه.

وفيه أيضًا: جواز إطلاق المولى على بني آدم، وأن تقول: هذا فلان مولاي، وما أشبه ذلك، وهو كذلك، وقد قال الله تعالى: {وإن تظهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} [التحريم: 4]. فالمولى تطلق على الله عز وجل، وتطلق على المخلوق لكن إطلاقها على المخلوق ليس كإطلاقها على الله؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- له الولاية المطلقة، وأما الإنسان فولايته مقيدة. ومن فوائد الحديث أيضًا: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وإقناعه؛ لأنه قال للرجل: "مولى القوم من أنفسهم"، وبيَّن له أنه لا تحل لهم الصدقة. ومنها أيضًا: أنه يجوز الاقتصار على المقدمات إن لم تذكر النتيجة إذا فهمت من السياق؛ لأن ذكر النتيجة- وقد فهمت من السياق- لا يفيد إلا التطويل، كيف ذلك؟ قال: "إن مولى القوم من أنفسهم" هذه مقدمة أولى، و"إنها لا تحل لنا الصدقة" هذه مقدمة ثانية، والنتيجة: "فلا تحل لك الصدقة"، لا حاجة لذكرها إذا كانت معلومة من المقدمات؛ لأن ذكر النتيجة بعد العلم يعتبر تطويلًا لا فائدة منه؛ فلهذا نقول: إن ما يزعزع به المنطقيون من تلك المقدمات والنتائج الطويلة العريضة أكثرها لا حاجة إليه. شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: كنت أعلم دائمًا أن المنطق اليوناني لا ينتفع به البليد، ولا يحتاج إليه الذكي، إذن فهو تطويل بلا فائدة. ومن فوائد الحديث: وجوب التصريح بالحق ولو على النفس؛ لقوله: "إنها لا تحل لنا الصدقة"، وهكذا يجب أن يذكر الإنسان ما له وما عليه قائمًا لله تعالى بذلك بالقسط: {* يأيها الَّذين ءامنوا كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135]. وبعض الناس تجده مع الطمع ومع الجشع يحاول أن يأخذ ما لا يستحق بالطرق الملتوية، ولكن العاقل على خلاف ذلك، ما تقولون هل يوجد أحد من آل الرسول اليوم؟ الذي يقول ذلك سنلزمه بأن يذكر سندًا من الآن إلى المنتهى، أنا قرأت في "فتح الباري"، وكتب أخرى أنه لا يوجد أحد يعلم من آل البيت إلَّا ملوك اليمن فقط، والباقي كله فيه شك. ومن فوائد الحديث: الجواب بـ"لا" كافٍ عن إعادة السؤال كالجواب بـ"نعم"، فإذا قيل: أعندك لزيد كذا؟ قال: لا، هذا إنكار كأنه قال: ليس عندي له شيء، وإذا قيل: ألك عنده شيء؟ فقال: نعم فهو كافٍ. الجواب: كأنه قال: نعم، ولهذا لو قيل للرجل: أزوجت ابنتك فلانًا؟ فقال: نعم، صح، ولو قبلت؟ قال: نعم، صح أيضًا، وهل الإشارة تقوم مقام اللفظ؟ نعم، إذا كان اللفظ ممتنعًا حسًّا أو شرعًا فإن الإشارة تقوم مقامه، والممتنع حسًّا كالأخرس، وهناك الممتنع شرعًا كالمصلي فإنه لا يتكلم شرعًا، فإن كان قادرًا على النطق فالصحيح أيضًا أن الإشارة تقوم مقام العبارة، وأنه يكتفي بذلك، وهكذا الكتابة.

جواز الأخذ لمن أعطي بغير مسألة

وفيه أيضًا مما سبق من الأحاديث: أن الصدقة لا تحل لآل النبي صلى الله عليه وسلم، فسبق أن العلماء اختلفوا في صدقة التطوع هل تحل لهم أو لا؟ واختلفوا فيما إذا منعوا الخمس هل تحلُّ لهم الزكاة أم لا؟ جواز الأخذ لمن أعطي بغير مسألة: 618 - وعن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطَّاب العطاء، فيقول: أعطه أفقر منِّي، فيقول: خذه فتموَّله أو تصدَّق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ ولا سائلٍ فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك". رواه مسلم. قوله: "كان يعطي عمر بن الخطاب" ما هذا العطاء؟ هذا العطاء هو العمالة على الصدقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الصدقة فلما رجع أعطاه منها سهم العاملين عليها، فكان عمر يقول: "أعطه أفقر مني"، وهذا من زهده رضي الله عنه حيث طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعطيها أفقر منه. وقوله: "أعطه أفقر مني" ليس أمرًا فيما يظهر؛ لأن مثل عمر لا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس التماسًا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى من عمر، إذن فما هو؟ سؤال لكنه أشد أدبًا من الالتماس، الالتماس نحو: أن يسألك قرينك وهو يشعر بأنك مثله في المرتبة لكن السؤال يسألك السائل وهو يرى أنك أعلى منه، فإن رأى أنك دونه فهو أمر، وقوله: "أفقر مني" إشارة إلى أن الناس يختلفون في الغنى والفقر، وأن الأفقر أحق بالعطاء من الأغنى. وقوله: "فتموله أو تصدق به"، "تموله" أي: اجعله مالًا لك تنتفع به في حياتك، "أو تصدق"؛ به يعني: اصرفه إلى الفقير الذي قلت: إنه أفقر منك تقربًا إلى الله، فالفرق بين الصدقة والهدية: الصدقة ما أعطي تقربًا إلى الله. ثم قال: "ما جاءك من هذا المال"، قوله: "هذا" لا شك أنه إشارة، و"المال" هل المراد بها: الجنس، أو المراد بها: العهد؛ يعني هل المراد بالمال هنا: مال الزكاة، أو المراد: جنس المال؟ يحتمل، وقد يرجح أن المراد به: الزكاة، اسم الإشارة هذا المال؛ لأن عمر كان عاملًا على الصدقة، فهذا يرجح أن يكون المراد به: مال للزكاة، ولكن حتى وإن كان اللفظ لا يشمل سواه من الأموال من حيث اللفظ فهو يشمله من حيث المعنى بالقياس؛ لأن الشمول المعنوي هو ما شمل الأشياء بالقياس، والشمول اللفظي: هو ما شمل بمقتضى دلالة اللفظ. وقوله: "وأنت غير مشرف" الواو حالية، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الفاعل في "جاءك"، أو من المفعول؟ من المفعول فهي حال من الكاف. وقوله: "غير مشرف"، المشرف

للشيء: هو المتطلع إليه، ومنه تطلع إلى الشيء يعني: أشرف عليه من بعد، فمعنى "غير مشرف" أي: غير متطلع لهذا المال يعني: أن نفسك لا تتشوف له. وقوله: "ولا سائل" أي: طالب. "فخذه" الفاء رابطة للجزاء، أين الشرط الذي هي رابطة له؟ في قوله: "ما جاءك" ففعل الشرط؛ أي: فعل جاءك، "ومن هذا المال" بيان لـ"ما"، والفاعل مستتر عائد على "ما" الشرطية، "ما" شرطية وجاء فعل الشرط وفاعلها يعود على "ما" الشرطية، "ومن هذا المال" بيان لـ"ما" الشرطية، و"خذه" جواب الشرط، وقوله "فخذه" يعني: لا ترده؛ لأنه رزق ساقه الله إليك. "وما لا فلا" "ما" شرطية، و"لا" نافية، وفعل الشرط محذوف، يعني: وما لا يأتك إلا وأنت مشرف أو سائل فلا أو ما لا يأتك مطلقًا فلا تتبعه نفسك وهذا أولى، يعني: هذا إذا جعلنا "ما" شرطية، أما إذا جعلناها موصولة فمعناه: "والذي لا يأتك" صار المقدر: والذي لا يأتيك مقدر الفعل مرفوعًا. على كل حال: "ما" يصلح أن تكون موصولة أو شرطية؛ فإن كانت موصولة فالمحذوف صلة الموصول، أو فالمحذوف جزء من الصلة؛ لأن "لا" داخلة في الصلة، وإن كانت شرطية فالمحذوف فعل الشرط. وقوله: "فلا تتبعه نفسك" أي: فلا تجعل نفسك تابعة له، أي: متعلقة به؛ فالمال إذا أتاك لا ترده، إذا لم يأتك لا تتبعه نفسك، لا تجعل نفسك تتبعه وتتعلق به، ومعلوم أن الرسول إذا نهى عن اتباع النفس للمال فنهيه عن الاستشراف والسؤال من باب أولى؛ لأن المستشرف والسائل قد أتبع نفسه المال. في هذا الحديث عدة فوائد؛ أولًا: زهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حيث طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطي المال من هو أفقر منه. ثانيًا: أن الناس يتفاضلون في الغنى والفقر، وتفاضلهم في الغنى والفقر له حكم عظيمة بالغة، ولولا هذا التفاضل ما قام للدنيا عمل ولا للآخرة أيضًا، قال الله تعالى: {أهم يقسمون رحمت ربِّك نحن قسمنا بينهم مَّعيشتهم في الحيوة الدُّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجتٍ}. لماذا {ليتَّخذ بعضهم بعضًا سخريًا ورحمت ربك خيرٌ ممَّا يجمعون} [الزخرف: 32]. لولا فقر العامل ما صار يعمل له، لو كان العامل مثلك وألزمته أو طلبت منه أن يبني لك جدارًا لقال لك: أنا مثلك، ابنه أنت، إذن نحن يسخر بعضنا بعضًا ويذلل بعضنا بعضًا؛ لأن الله تعالى: {ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجتٍ}، أيضًا من الحكم أننا نتدرج لهذا التفاضل إلى التفاضل في الآخرة: {انظر كيف فضَّلنا بعضهم على بعض وللأخرة أكبر درجتٍ وأكبر تفضيلًا} [الإسراء: 21]. الأن نقول: هذا الرجل غني عنده سيارات

وقصور وبنون ونساء، ونحن ما عندنا شيء! نقول: هذا لا شك أنه تفضيل، ولكن الفضل في الآخرة أعظم وأعظم؛ ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة يتراءون أصحاب الغرف- يعني: المنازل العالية- كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق، وهذا تفضيل عظيم أهذا هو الأفضل أم الأفضل أن يكون للإنسان قصور وخدم وحشم؟ لا، سواء، ولهذا قال: {وللأخرة أكبر درجتٍ وأكبر تفضيلًا}. كما من إنسان مهين في هذه الدنيا لا يساوي نعلة لكنه في الآخرة من أصحاب الغرف، هذا هو الفخر في الحقيقة، أما أن يكون تفاضلًا في هذه الدنيا الزائلة التي أشرنا من قبل أن صفوها منغص بكدر ثم هو ليس بدائم حتى لو صفت للإنسان غاية الصفاء، فإنه كما قال الشاعر: [البسيط] لا طيب للعيش ما دامت منغَّصةً ... لذَّاته بادِّكار الموت والهرم على كل حال: الناس في هذه الدنيا يختلفون كما قال عمر بن الخطاب: "أعطه أفقر مني". وفي الحديث: دليل على مشروعية أخذ المعطي من الزكاة إذا كان أهلًا؛ لقوله: "خذه" وهل هو على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب؟ قال بعض أهل العلم: إنه على سبيل الوجوب، وأن الإنسان إذا أهدي إليه، أو تصدق عليه بشيء وهو أهل له، ولم تستشرف نفسه، ولم يسأل فإنه يجب عليه أن يقبل، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، والأصل في الأمر الوجوب، لاسيما والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن في الناس من هو أحرج من عمر رضي الله عنه؛ فكونه يصرفها لهذا الرجل ويأمره بأخذها يدل على الوجوب. وقال بعضهم: بل هو على الاستحباب؛ لأن الأمر هنا في مقابل الامتناع لما امتنع كأنه يقول خذه فهو مباح لك، وهذا هو الأقرب، وعلى كلا القولين إذا خفت مضرة عليك في قبول هذه الهدية فلا يلزك القبول؛ لأن بعض الناس إذا أهدى هدية صار يمنُّ بها، كلما حصلت مناسبة قال: أعطيتك كذا وكذا، ثم صار يوبخ هذا الرجل ويمن عليه، فإذا كنت تخشى من هذا فلا شك أنه لا يجب عليك القبول في هذه الحال حتى على القول بوجوب القبول؛ لأن في ذلك ضررًا عليك. وفي هذا الحديث: دليل على كراهة التطلع لما في أيدي الناس أو سؤالهم؛ لقوله: "وأنت غير مشرف ولا سائل"، وهكذا ينبغي للإنسان أن يكون زاهدًا فيما في أيدي الناس لا يتطلع له، قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل قال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، هذا الرجل كيَّس يطلب عملًا يحبه الله ويحبه الناس، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ازهد في الدنيا يحبك الله،

وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس"، لا تتشرف لما في أيدي الناس ولا تسألهم، الناس يحبونك؛ لأنك لم تضايقهم في دنياهم، "ازهد في الدنيا"؛ لأن من زهد في الدنيا رغب في ضرتها وهي الآخرة فيحبه الله عز وجل. وفي هذا الحديث: دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يتبع نفسه المال، إن فاته فلا يهمه وإن حصل له بطريق مشروع فهذا رزق الله لا يحرمه نفسه لكن لا يتبع نفسه المال؛ لأنه إذا أتبعته نفسه المال فإنه لا يمكن أن يشبع أبدًا، لكن إذا زهد فيه جعله- كما قال ابن تيمية- بمنزلة الحمار يركبه أو بيت الخلاء يقضي حاجته فيه، الناس الآن يجعلون الأموال تيجانًا يلبسونها؛ هذا في الحقيقة خطأ، ونحن لا نقول: إن المال لا ينفع المال الصالح عند الرجل الصالح من أفضل الأعمال حتى جعله الرسول صلى الله عليه وسلم قرينًا للعلم قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يعلمها الناس ويعمل بها، والثاني: آتاه الله المال فسلطه على هلكته في الحق". لا ننكر أن المال نافع، ولكنا نقول: لا تتبعه نفسك؛ لأنك إن أتبعته نفسك ما شبعت منه أبدًا، اجعله مركوبًا تركبه تقض به حاجتك، وهو في الحقيقة وسيلة؛ لأن أعلى ما تنتفع به في مالك ما تأكله هذا أعلى ما يكون، وأين تضع ما تأكله وتشربه؟ في الأماكن القذرة، أعتقد أن الإنسان إذا أتاه البول والغائط يقول: اذهب إلى غرفة النوم أو إلى أين يذهب؟ دلوني على المرحاض ... رائحة منتنة وكريهة، ومكان غير مرغوب ليضع المال الذي أكله، هذا أعلى ما يصل إليه في الانتفاع به، لذلك لا ينبغي أن يكون شغل الإنسان الشاغل، لا تأخذوا عني أني أقول: اتركوا الدنيا، لكن اتركوا أن تتعلق بها قلوبكم، اجعلوا الدنيا في أيديكم لا في قلوبكم، بعض الناس يضع الدنيا في قلبه ويده خالية منها، وبعض الناس يجعلها في قلبه ويده ملأى منها، وبعض الناس يجعلها في يده وقلبه خالٍ منها، أسال الله أن يجعلني وإيَّاكم منهم، هؤلاء هم الذين وفِّقوا عرفوا قدر المال، إذن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وما لا فلا تتبعه نفسك"، وهذه كلمة في الحقيقة لو أننا اعتبرنا بها لزهدنا في المال زهدًا تامًا، ولم نأخذ منه إلا ما ينفعنا في الآخرة. - هل في هذا الحديث دليل على أن ما يأخذه عامل الزكاة يرجع إلى نظر الإمام، يعني: أن ما يأخذه العامل ليس مقدرًا شرعًا، بمعنى: أننا لا نقول لك من الزكاة العشر نصف العشر كذا وكذا؟ هذا هو الظاهر؛ لأن الحديث ليس فيه أنه أعطاه شيئًا يعتبر نسبة إلى الزكاة، ولكن سبق لنا أن عامل الزكاة يعطى بمقدار عمله؛ يعني: بمقدار أجرته. - هل في الحديث ما يدل على أن عمر رضي الله عنه من الفقراء؟ نعم، الدليل قوله: "أفقر مني"،

فهذا اسم تفضيل يدل على اشتراك المفضل والمفضل عليه في الوصف مع زيادة المفضل، هذا هو الأصل، وقد يختل الأصل: {ءالله خير أمَّا يشركون} [النمل: 59]. وآلهتهم ليس فيها خير: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلًا} [الفرقان: 24]. وفي الحديث: من مناقب عمر رضي الله عنه: إيثار غيره على نفسه؛ لأنه لم يقل: أعطه غيري فأنا لا أستحق، إنما قال: "أعطه أفقر مني"، فهذا من إيثاره رضي الله عنه. * * *

كتاب الصيام ويشتمل على: 1 - باب صوم التطوع وما نهي عن صومه. 2 - باب الاعتكاف وقيام رمضان.

كتاب الصيام

كتاب الصيام ذكرنا أن العلماء- رحمهم الله- يجعلون كل جنس كتابًا وكل نوع بابًا وكل بحث فصلًا هذا الغالب، ولهذا كتاب الطهارة فيها أنواع: فيها الوضوء، والمياه، والاستنجاء، والتيمم، والحيض ... إلخ. كتاب الصيام: فيه ثبوت الشهر، فيه المفطرات، فيه آداب الصيام وما أشبه ذلك. مفهوم الصيام وحكمه: الصيام في اللغة: الإمساك، قال الشاعر: [البسيط] خيلٌ صيام وخيلٌ غير صائمةٍ ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللَّجما قوله: "خيل صيام" أي: ممسكة، ومنه قوله تعالى- وكان الأجدر بنا أن نقدمه على البيت- عن مريم: {فقولي إني نذرت للرحمن صومًا} [مريم: 26]. أي: إمساكًا عن الكلام. وقول العامة: صامت عليه الأرض: إذا التأمت عليه وأمسكت. وأمَّا في الشرع: فهو التَّعبد لله- سبحانه وتعالى- بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. هل بين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي علاقة؟ نعم؛ لأن كلَّا منهما إمساك، لكن الصيام الشرعي إمساك عن شيء معين، فقولنا: "التعبد لله" هذا أمر لا بد منه، ولذلك يذكر هذا في كل تعريف للعبادة، فالصلاة مثلًا نقول: هي: "التعبد لله تعالى بأقوال وأفعال معلومة"، والزكاة "التعبد لله ببذل المال المخصوص إلى جهة مخصوصة" وهكذا. الصيام مرتبته من الإسلام: أنه أحد أركانه، وحكمه: أنه فرض بإجماع المسلمين بدلالة الكتاب والسُّنة عليه، قال الله تعالى: {يأيُّها الَّذين ءامنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183]. أي فرض، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموه فصوموا"، والأمر للوجوب، فصيامه واجب بالكتاب والسُّنة وإجماع المسلمين إجماعًا قطعيًا لم يختلف فيه اثنان لا سنيهم ولا بدعيهم، ولهذا نقول: من أنكر وجوبه كفر إذا كان عائشًا بين المسلمين؛ لأنه أنكر معلومًا بالضرورة من دين

فوائد الصيام

الإسلام، أما من تركه تهاونًا فقد اختلف العلماء في كفره، والصحيح أنه لا يكفر، وعن الإمام أحمد رواية أنه يكفر قال: لأنه ركن من أركان الإسلام، والركن هو جانب الشيء الأقوى، وإذا سقط الركن سقط البيت، لكن الصحيح- كما سبق تقريره- أنه لا يكفر بشيء من الأعمال إلا الصلاة كما قال عبد الله بن شقيق عن الصحابة- رضي الله عنهم-. فوائد الصيام: وتكليف المسلمين بالصيام تظهر فيه حكمة الله عز وجل؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- جعل العبادات متنوعة: بذل محبوب وكف عن محبوب وعمل فيه شيء من التعب لكن بدون مشقة، فالزكاة مثلًا بذل محبوب قال تعالى: {وتحبُّون المال حبًّا جمًّا} [الفجر: 20]. ولهذا تجد بعض الناس يحاول- بقدر ما يستطيع- أن يقلل من زكاته أو أن يسقطها، أو أن يصرفها في شيء واجب عليه عرفا، الصيام: "كف عن محبوب"، وانظر ما يحصل فيه من المشقة- مشقة المألوف- فيما إذا كان اليوم شديد الحر طويلًا تجد الإنسان يشتاق اشتياقًا كبيرًا إلى الماء، لكن يعتاد الإنسان على كف النفس بتذكره أنه فرضه الله، أما العمل فمثل الصلاة والوضوء والحج، مع أن الحج فيه أحيانًا بذل محبوب. الحكمة من هذا التنويع: لأن من الناس من يسهل عليه العمل دون بذل المال، ومن الناس من يسهل عليه بذل المال دون العمل، ومن الناس من يصعب عليه الكف عن المحبوب عن الأكل والشرب والأهل، فلهذا نوَّع الله العبادات ليعلم من يكون عابدًا لله ممن يكون عابدًا لهواه، هذه هي الحكمة في فرضيه الصيام، وإلا فقد يقول قائل: هذا إمساك ما الفائدة هذا ما عمل عملًا؟ فنقول له: أنه ترك محبوبًا قد يكون العمل عليه أهون من ترك هذا المحبوب، فهذه هي الحكمة في إيجاب الصيام على العباد، ثم إن للصيام حكمًا كثيرة أهمها التقوى وهي التي أشار الله إليها بقوله: {يأيها الَّذين ءامنوا كتب عليكم الصِّيام كما كتب على الَّذين من قبلكم لعلَّكم تتَّقون} [البقرة: 183]. ثانيًا: معرفة قدر نعمة الله على العباد بتناول ما يشتهيه من الأكل والشرب والنكاح؛ لأن قدر النعم لا يعرف إلا بضدها كما قيل: "وبضدها تتبين الأشياء"؛ لأن الإنسان إذا كان دائمًا شبعان وريان، ويتمتع بأهله، لا يعرف قدر هذه النعمة، لكن إذا حجب عنها شرعًا أو قدرًا عرف قدر هذه النعمة، إذن ليعرف الإنسان بذلك قدر نعمة الله عليه بتناول الأكل والشرب والنكاح؛ لأنه يفقدها في هذا اليوم فيشكر الله- سبحانه وتعالى- على التيسير.

ثالثًا من فوائده وحكمه: تعويد النفس على الصبر والتحمل حتى لا يكون الإنسان مسرفًا، فإن الإنسان قد يأتيه يوم يجوع فيه ويعطش فيكون هذا الصوم تمرينًا له على الصبر والتحمل على فقد المحبوب، وهذه تربية نفسية. رابعًا: من الحكم أن يعرف الغني حاجة الفقير فيرق له ويرحمه، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، والإنسان لا يعرف حاجة المضطر إذا كان هو شبعان، لكن إذا جاع عرف قدر الجوع وألمه فيرحم بذلك إخوانه الفقراء. خامسًا: أن فيه تضييقًا لمجاري الشيطان؛ لأنه بكثرة الغذاء تمتلئ العروق دمًا وترتفع وبقلته تضيق المجاري، ومجاري الدم هي: مسالك الشيطان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"، ولهذا أمر الإنسان الذي لا يستطيع الباءة أن يصوم لتضيق مجاري الدم وليقل الشَّبق. سادسًا: أن فيه حمية عن كثرة الفضولات والرطوبات في البدن، ولهذا بعض الناس يزداد صحة بالصوم؛ لأن الرطوبات التي تلبدت على البدن تتسرب وتزول، حيث إن البدن يضمر وييبس فتتسرب تلك الرطوبات فيكون في ذلك فائدة عظيمة للبدن، وهذا أمر مشاهد. سابعًا: ما يحصل بين يديه وخلفه من عبادة الله عز وجل، فبين يديه السَّحور، فإن السُّحور عبادة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة"، وما يحصل من الإفطار؛ لأن أحب عباد الله إليه أعجلهم فطرًا، فالإنسان يتناول ما يشتهي عبادة عند الإفطار. ومنها أيضًا: الفائدة الثامنة: أن الغالب على الصائمين التفرغ للعبادة، ولهذا تجد الإنسان في حال الصيام تزداد عبادته وليس يوم فطره ويوم صومه سواء إلا الغافل فله شأن، آخر، لكن الإنسان اليقظ الحازم الفطن الكيِّس يجعل يوم صومه غير يوم فطره. فلهذه الفوائد ولغيرها مما لم نذكره أوجب الله الصيام على العباد، وليس إيجابه خاصًّا بهذه الأمة، بل هو عام للأمم كلها: {كما كتب على الَّذين من قبلكم}. وقت الصيام. ثم اعلم أن الصيام خص بشهر معين من السِّنة أشار الله- تبارك وتعالى- إلى الحكمة في تخصيصه بقوله: {شهر رمضان الَّذي أنزل فيه القرءان} [البقرة: 185]. وقد احتج بهذه المناسبة أصحاب أعياد الميلاد وقالوا: هذا دليل على أن المناسبات الدينية يجعل لها خصائص؛ لأن الله

النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين

جعل مناسبة إنزال القرآن أن نصوم هذه المناسبة كل عام، فهذا دليل على أنه لا بأس باتخاذ الأعياد في المناسبات، ولكن هذا في الحقيقة دليل عليهم وليس لهم، لأن كون الشارع يخص هذه المناسبة بهذا الحكم دليل على أن ما لم يخصه لا يشرع فيه شيء؛ إذ لو كان الله يحب أن يخص بشيء لبيَّنه كما بيَّن هذا، وهذا مما يذكرنا بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كل مبطل يحتج على باطله بدليل صحيح فإن دليله يكون عليه لا له، الصيام خص بشهر هلالي وهو شهر رمضان، وسمي رمضان قيل: لأن وقت التسمية كان في شدة الحر والرمضاء، فالعرب سموه في ذلك الوقت رمضان واستمر، وقيل: لأنه يحرق الذنوب كالرمضاء تحرق الأقدام، وقيل: إنه مجرد علم ليس له اشتقاق كما نقول: "ذئب" للحيوان المعروف بهذا الاسم، لماذا سمي ذئبًا؟ لأنه ذئب، وكذلك نقول في الحيوان المعروف بالأسد: إنه سمي بهذا الاسم؛ لأنه أسد، وعليه فرمضان سمي رمضان؛ لأنه رمضان، والذي يهمنا أن شهر رمضان من أفضل الشهور، ولكن هل هو من الأشهر الحرم؟ لا؛ لأن الأشهر الحرم أربعة ثلاثة متوالية وواحد منفرد. المتوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب منفرد. النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين: 619 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدَّموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين، إلا رجلٌ كان يصوم صومًا فليصمه". متَّفقٌ عليه. "لا" ناهية، والدليل على أنها ناهية جزم الفعل بها حيث حذفت منه النون. وقوله: "تقدموا" هي فعل مضارع حذفت منه إحدى التاءين، وأصلها: تتقدَّموا، وحذف إحدى التاءين كثير في اللغة العربية، ومنه قوله تعالى: {فأنذرتكم نارًا تلظَّى} [الليل: 14]. أي: تتلظى، ولولا أننا قلنا أنه محذوف فيه إحدى التاءين لكان {تلظَّى} فعلًا ماضيًا، وكذلك هنا "تقدَّموا" لولا أننا قلنا بحذف إحدى التاءين لكان فعلًا ماضيًا، نقول: جاء القوم فتقدموا. "لا تقدموا رمضان": اسم للشهر، يعني: لا تقدموا هذا الشهر المسمَّى بهذا الاسم بصوم يوم ولا يومين، لكنه استثنى وقال: "إلا رجل كان يصوم صومًا" بعض الشُّراح يقول: إن رواية مسلم "إلا رجلًا" لو صحت النسخة فلا إشكال فيها؛ لأنها منصوبة على الاستثناء، لكن "إلا رجل" بالرفع قالوا: إنه مستثنى من الواو في "لا تقدموا"، والنهي كالنفي، فيكون الاستثناء من تام غير موجب فجاز أن يبدل من المستثنى منه، والمستثنى منه مرفوع. قال: "إلا رجلٌ كان يصوم صومًا" يعني: اعتاد أن يصوم صومًا، "فليصمه"، الفاء رابطة،

واللام للأمر، المراد به: الإباحة، وليس المراد به: الاستحباب ولا الوجوب؛ لأنه في مقابلة النهي فكان للإباحة كما لو قلت: "زيد لا تكرمه وعمرًا أكرمه" أي: يباح لك أن تكرمه. في هذا الحديث ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة أن يقدِّموا رمضان، والخطاب للصحابة خطاب للأمة جميعًا، والخطاب للواحد من الصحابة خطاب للصحابة جميعًا، وعليه فإذا وجِّه الخطاب إلى واحد من الصحابة فهو لجميع الأمة، فينهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين؛ لماذا؟ قيل: لأجل أن ينشطوا لاستقبال رمضان؛ لأن الإنسان إذا صام قبل رمضان بيوم أو يومين يأتي رمضان وهو كسلان وتعبان من الصوم السابق، وهذه العلة- كما ترون- عليلة؛ لأنه لو كان كذلك لكان الذي يصوم قبل رمضان بأربعة أيام أشد نهيًا مع أن الحديث يدل على الجواز، وقيل: إن العلة لأجل الفرق بين الفرض والنفل، وهذا قد يكون فيه نظر؛ لأنه لو كانت العلة هكذا لم يكن فرق بين من كان يصوم صومًا ومن لم يكن، ولكان النهي عامًا، وقيل: إن العلة لئلا يفعله الإنسان من باب الاحتياط، فيكون ذلك تنطعًا من باب الاحتياط، كيف؟ لرمضان فيكون هذا من باب التنطع. وقيل: لئلا يظن الظان أن هذا الصوم من رمضان فيكون قدحًا في الحكم الشرعي الذي علق صوم رمضان برؤية الهلال، وهذا الأخير والذي قبله هو أقرب العلل، أما ما سبق فهي علة عليلة، وهنا علة لكل مؤمن وهي امتثال أمر الله ورسوله، العلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ولهذا لما سئلت عائشة رضي الله عنها: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: "كان يصيبنا فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة". ففي هذا الحديث من الفوائد أولًا: النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ لقوله: "لا تقدموا" وهل هذا النهي للتحريم أو للكراهة؟ فيه قولان لأهل العلم، منهم من قال: إنه للتحريم، ومنهم من قال: بل للكراهة. الذين قالوا: إنه للتحريم احتجوا بأن الأصل في النهي التحريم إلا بدليل، والذين قالوا إنه للكراهة قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى حيث قال: "إلا رجلًا كان يصوم صومًا فليصمه"، ولو كان للتحريم ما جاز أن يصام حتى في العادة بدليل أن أيام التشريق لما كانت حرامًا هل صار صيامها جائزًا إذا كان لعادة أو أنه يبقى حرامًا؟ لا شك في أنه يبقى حرامًا، أيام العيدين لما كان صومها حرامًا كان صوم العيد حرامًا ولو وافق العادة.

ومن فوائد الحديث أيضًا: جواز تقدم الصوم قبل رمضان بأكثر من يومين، لقوله: "يوم أو يومين"، ولكن هل إذا صام قبل رمضان بثلاثة أيام يستمر، أو نقول: إذا بقي يوم أو يومان فأمسك؟ الحديث يقول: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين" هل يصدق على هذه الصورة- صورة رجل صام في اليوم السابع والعشرين والثامن والعشرين والتاسع والعشرين- الظاهر أنه يصدق عليه، ونقول: إذا بقي يومان فأمسك إلا إذا كنت تصوم صومًا فصمه، مثل: لو كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر وصام (27، 28، 29) فهذا لا بأس به، أو كان يصوم يوم الإثنين عادة فصادف يوم الإثنين التاسع والعشرين لا بأس، أو كان يصوم الخميس عادة فصام يوم الخميس التاسع والعشرين فلا بأس، أو كان بقي عليه من رمضان الماضي أيام فأكملها قبل رمضان بيوم أو يومين فلا بأس؛ لأن صومه حينئذ يكون واجبًا. وقوله: "إلا رجل"، هل المرأة كالرجل؟ نعم؛ لأن الأصل في الأحكام تساوي الرجل والمرأة إلا بدليل يدل على التخصيص. رجل يصوم يومًا ويفطر يومًا فصادف يوم صومه التاسع والعشرين فإنه يصومه لقوله: "إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه". ومن فوائد الحديث أيضًا: الإشارة إلى النهي عن التنطع وتجاوز الحدود بناء على أن العلة هي خوف أن يلحق هذا برمضان. ومنها: أن للعادات تأثيرًا في الأحكام الشرعية لقوله: "إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه"، ولكن ليس معنى ذلك أن العادات تؤثر على كل حال لكن لها تأثير، وقد رد الله عز وجل أشياء كثيرة إلى العرف، والعلماء أيضًا ذكروا أن بعض الأشياء تفعل أحيانًا لا اعتيادًا كما قالوا: يجوز أن يصلي الإنسان النفل جماعة، لكن أحيانًا لو أردت مثلًا أن تقوم صلاة الليل أنت وصاحبك جماعة فلا بأس به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك مع ابن عباس وحذيفة، أمَّا أن تتخذ ذلك سنة راتبة فلا. فهذا دليل على أن للعادة تأثيرًا في الأحكام الشرعية سلبًا أو إيجابًا. ومن فوائد الحديث: أن الأمر قد يأتي للإباحة لقوله: "فليصمه"، حيث قلنا: إنها للإباحة، وهل يأتي الأمر للإباحة في غير هذا الموضع؟ نعم، كثيرًا، وقد قالوا في الضابط لإتيان الأمر للإباحة أن يكون في مقابلة المنع شرعًا أو عرفًا: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2]. هذا في مقابلة المنع شرعًا، فإذا كنت محرمًا حرم عليك الصيد، إذا حللت حل لك الصيد، أو نقول: إذا حللت فخذ البندقية واذهب صد الطيور؟ ليس كذلك، لكنه مباح؛ لأنه في مقابلة المنع: {لا تحلُّوا شعائر الله ولا الشَّهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا ءامين البيت الحرام يبتغون فضلًا من رَّبهم

ورضوانًا وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2]. {فإذا قضيت الصَّلوة فانتشروا في الأرض} [الجمعة: 10]. للإباحة لأنها في مقابلة المنع. هذا الشرعي، العرف: استأذن عليك رجل فقلت: ادخل. هذا أمر للإباحة، ولهذا لو شئت ما دخلت ما أنَّبتك ولا يؤنِّب أحد شخصًا لم يدخله إلا رجلًا يعتبر أحمق، على كل حال: الأمر في مقابلة المنع يكون للإباحة سواء كان أمرًا شرعيًا أو عرفيًا؛ لأنه يقول: "فليصمه"، الضمير في قوله: "فليصمه" أي: فليصم الصوم الذي كان يصمه من قبل. ومن فوائد الحديث أيضًا: الإشارة إلى ضعف ما يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه- رواه أهل السنن-: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"، فإن هذا الحديث ضعيف أنكره الإمام أحمد، وإن كان بعض العلماء صححه أو حسنه وأخذ به، وقال: إنه يكره الصوم من السادس عشر من شعبان إلى أن يبقى يومان، فإذا بقي يومان صار الصوم حرامًا لهذا الحديث، والصواب: أن ما قبل اليومين ليس بمكروه، وأما اليومان فهو مكوره. فائدة في التدرج في فرض الصيام: فرض الصيام على ثلاثة أوجه وهي: أول ما فرض صوم عاشوراء، ثم فرض صوم رمضان على التخيير، ثم فرض صوم رمضان على التعيين، يعني: لا بد من الصوم، فهذه ثلاث مراحل. أما المرحلة الأولى: فقد دلّ عليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يصوموا عاشوراء. وأما المرحلة الثانية: فقوله- تبارك وتعالى-: {وعلى الَّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ فمن تطوَّع خيرًا فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لَّكم إن كنتم تعلمون} [البقرة: 184]. وأما الثالثة: فهي قوله بعدها: {شهر رمضان الَّذي أنزل فيه القرءان هدًى للناس وبينتٍ من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشَّهر فليصمه} [البقرة: 185]. والحكمة من ذلك: أن الصوم فيه نوع من المشقة على النفوس فدرج التشريع شيئًا فشيئًا، لأن كل شيء يشق على النفوس، فالله عز وجل بحكمته ورحمته يلزم العباد به شيئًا فشيئًا، ونظير ذلك تحريم الخمر فإنه جاء على أربع مراحل: المرحلة الأولى: الإباحة وإن كانت هذه لا تعد مرحلة؛ لأنها على الأصل، لكن الله نص على ذلك: {ومن ثمرات النَّخيل والأعناب تتَّخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا} [النحل: 67]. ثم الثانية: {* يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نَّفعهما} [البقرة: 219]. ثم الثالثة: {يأيُّها الَّذين ءامنوا لا تقربوا الصَّلوة وأنتم سكارى} [النساء: 43].

ثم الرابعة: {يأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة: 90]. ما منزلة الصيام من الدِّين؟ صام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات إجماعًا هذان إجماعان فرض في السَّنة الثانية وصام النبي تسع رمضانات بالإجماع. 620 - وعن عمَّار بن ياسر رضي الله عنه قال: "من صام اليوم الَّذي يشكُّ فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم". ذكره البخاريُّ تعليقًا، ووصله الخمسة، وصحَّحه ابن خزيمةً وابن حبَّان. أولًا: هذا الحديث ذكر المؤلف رحمه الله أن البخاري رواه معلقًا وأن الخمسة- وهم: أحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه- رووه موصولا، والبخاري إذا علَّق الخبر بصيغة الجزم كان عنده صحيحًا. ثانيًا: هذا الحديث هل هو من المرفوع أو من الموقوف؟ هو من المرفوع حكمًا وليس من المرفوع صريحًا؛ لأن المرفوع صريحًا هو الذي ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال فيه: قال رسول الله، أو فعل رسول الله، أو فعل كذا بحضرته، وأما إذا قال الصحابي: رخص لنا، أو أمرنا، أو نهينا، أو ما أشبه ذلك فهو مرفوع حكمًا، يعني: له حكم الرفع، ولكن ليس بصريح، يعني: أنه لا يجوز أن نقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وننسب النهي إليه على سبيل أنه هو الذي نهى صراحة، ولكن نقول: إن هذا في حكم النهي؛ ذلك لأن الصحابي إذا قال: "عصى" فمعناه: أنه فهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك سواء بصيغة النهي أو بصيغة ذكر العقوبة أو ما أشبه ذلك، ولهذا نحن نتحرز لا نقول: "نهي"؛ إذ يجوز أن الرسول- مثلًا- ذم من صام اليوم الذي يشك فيه ذمًّا، والذم لا يصلح أن نقول أنه نهي ويجوز أنه صلى الله عليه وسلم رغَّب في تركه مثلًا ترغيبًا بالغًا بحيث يفهم من هذا الترغيب النهي عن فعله. قوله: ومن صام اليوم الذي يشك فيه"، ما هو اليوم الذي يشك فيه؟ اليوم الذي يشك فيه هو الذي لا يدرى أمن رمضان هو أم من شعبان؟ ما ندري، فما هو اليوم الذي يمكن أن يقع فيه الشك؟ هو يوم الثلاثين، لكن متى يكون شكًّا اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: يكون شكًّا إذا كانت السماء صحوا ولم ير الهلال، فهو شك لاحتمال أنه قد هلَّ ولم نره. ومنهم من قال: إن يوم الشك هو يوم الثلاثين- وهذا بالاتفاق- إذا حال دون رؤية الهلال

حائل بأن كان بيننا وبين مطلعه سحب أو قتر أو جبال شاهقة لا نستطيع تسلقها أو ما أشبه ذلك، وهذا الأخير هو المتعين؛ لأن الأول ليس فيه شك إذا تراءينا الهلال ولم نره فاحتمال أن يكون قد هلَّ ولم نره هذا خلاف الأصل، الأصل أننا ما دمنا ننظر ولم نره فالأحكام الشرعية تجري على الظواهر، فهو ليس يوم شك شرعًا، وإن كان من حيث العقل قد يفرض العقل أن الهلال هلَّ ولكن لم نره لكن من الناحية الشرعية ليس هو يوم الشك؛ لأن أحكام الشرع تجري على الظواهر، اطلعنا في مطلع الهلال ولم نره وفينا أناس أقوياء في النظر ولم نره نقول: إذن لم يهل، فليس عندنا شك في هذا، وهذا القول هو الصحيح. أما قول الذين قالوا: إن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء صحوا فقالوا: إذا كانت السماء غيما فإن الصوم واجب، كيف ذلك؟ قالوا: نعم، واجب احتياطًا حكمًا ظنيًّا لا حكمًا يقينيًّا. إذن ننظر هذا التعليل "حكم ظني"، هل يجوز أن نلزم الناس بالأحكام الشرعية بمقتضى الظن؟ لا، الظن لا يجوز أن تثبت به الأحكام؛ لأنه ظن في وجود السبب، هل نقول: إن هذا احتياط، أو أن الاحتياط عدم الصوم؟ الواقع أن الاحتياط عدم الصوم؛ لأن الاحتياط كما يكون في الفعل يكون في الترك، فنحن نحتاط لأنفسنا، فلا نلزم عباد الله بما لا يلزمهم هذا هو الاحتياط، ولهذا لا تظن أن الاحتياط اتباع الأشد، بل الاحتياط اتباع ما يكون أقرب إلى الشرع، إذن فقد انتقض تعليلهم وسيأتي- إن شاء الله تعالى- من السُّنة ما ينقضه. فالحاصل: أن اليوم الذي يُشك فيه هو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال حائل، غيم أو قتر أو جبال شاهقة. وقوله: "فقد عصى أبا القاسم"، المعصية: مخالفة الأمر، فتارك الواجب عاصٍ، وفاعل المحرم عاصٍ، أما إذا قيل: طاعة ومعصية، فالطاعة: فعل الأمر، والمعصية: فعل النهي، ولكن إذا أطلقت المعصية شملت ترك الواجب وفعل المحرم، وقوله: "أبا القاسم" هذه كنية الرسول صلى الله عليه وسلم، يسمى أبا القاسم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قاسم كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا قاسم والله معطٍ"، والموصوف بالشيء قد يكنى به كما كنَّى الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بـ"أبي تراب" وكنَّى أبا هريرة بـ"أبي هريرة"؛ لأنه كان يحمل هرة في كمه رضي الله عنه. كنِّي بذلك لكونه صلى الله عليه وسلم قاسمًا يقسم بين الناس على ما أمر الله به، ولهذا قال: "أنا قاسم والله

كيف يثبت دخول رمضان؟

معطٍ"، ويحتمل أنه كني بذلك؛ لأن له ولدًا اسمه القاسم؛ لأن أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة وبناته أربع وكلهم ماتوا في حياته إلا واحدة من بناته وهي فاطمة رضي الله عنه. يستفاد من هذا الحديث أولًا: تحريم صوم يوم الشك؛ لأن عمارًا جزم بأنه معصية، والأصل أن ما أطلق عليه المعصية فهو حرام، وهذا هو القول الراجح، لا سيما وأنه مؤيَّد بحديث أبي هريرة السابق وهو: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين"، فعليه نقول: تقدم رمضان بصوم يومين مكروه، وبصوم يوم حرام، لكن بشرط أن يكون هذا اليوم يوم شك، أما إذا كانت السماء صحوا فصوم ذلك اليوم مكروه بحديث أبي هريرة. ومن فوائد الحديث: جواز ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: بغير وصف الرسالة لقوله: "فقد عصى أبا القاسم"؛ لأن باب الخبر أوسع من باب الطلب، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما ينادى باسمه سواء كان اسمًا أو كنية، لكن عندما يخبر عنه يجوز أن يخبر عنه باسمه، فيقال: "قال محمد"، و"قال أبو القاسم" وما أشبه ذلك، لكن أيما أولى: أن نقول هكذا، أو أن نصفه بالرسالة؟ الثاني أولى، لا سيما وأننا إذا ذكرناه فإنما نذكره على سبيل أنه مشرِّع، ومعلوم أن وصف الرسالة ألصق بالتشريع من ذكر الاسم العلم سواء كان اسما أو كنية، لكن هذا على سبيل الجواز. ومن فوائد الحديث: جواز التعبير عن اللفظ بمعناه، أو بعبارة أخرى: جواز رواية الحديث بالمعنى، كيف ذلك لأن عمار عبر عن قول الرسول بالمعنى لم يسقه بلفظه. فإن قلت: لماذا لم يسقه بلفظه أليس سوقه بلفظه أولى. فالجواب: بلى، لكن قد يكون الصحابي نسي اللفظ الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد تيقن أنه قد نهى عن ذلك، فعبر بقوله: "عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم". كيف يثبت دخول رمضان؟ 62 (1) - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له". متَّفقٌ عليه. - ولمسلم: "فإن أغمى عليكم فاقدروا له ثلاثين". - وللبخاريِّ: "فأكملوا العدَّة ثلاثين". 622 - وله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فأكملوا عدَّة شعبان ثلاثين". قوله: "إذا رأيتموه" الهاء تعود على الهلال، ولم يسبق له ذكر، لكن السياق يدل عليه،

فعلى هذا نقول: "إذا رأيتموه"، أي: الهلال بالتحديد بدليل قوله: "فصوموا"، وإذا رأيتموه فأفطرواه، أي: هلال شوال "فافطروا". وقوله: "غمَّ عليكم"، الغم بمعنى: التطبيق على الشيء وإخفاء الشيء، ومنه الغم الذي يصيب الإنسان؛ لأنه يحول بينه وبين صفاء الذهن والتفكير، فمعنى "غم عليكم" أي: ستر عليكم بغيم أو قترا أو جبال شاهقة لا تستطيعون صعودها أو ما أشبه ذلك. وقوله: "فاقدروا له" اختلف العلماء في قوله: "اقدروا له" فقال بعضهم: إنه من التقدير، يعنى: قدروا وانظروا منازله فيما سبق من الليالي الماضية حتى تقيسوا هذه الليلة على ما سبق، وبناء على هذا القول يدخل علينا علم حساب الفلك، وأنه إذا غمَّ علينا الشهر رجعنا إلى الحساب الفلكي وعملنا به، هذا على القول بأنه من التقدير، وقيل: إنه من القدر بمعنى: التضيق، ومنه قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما ءاتاه الله} [الطلاق: 7]. وحينئذٍ أي شيء نجعله ضيقًا أهو رمضان أو شعبان؟ فيه خلاف: فقال بعضهم: نجعل الضيق شعبان فيكون تسعة وعشرين ونصوم هذا اليوم الذي هو يوم الشك، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وقد نصره الأصحاب نصرًا عظيمًا. القول الثاني: التضييق لا يكون على شعبان بل يكون على الشهر القادم وهو رمضان، وإذا ضيقنا على رمضان معناه ما دخلناه ننتظر حتى نكمل شعبان ونجعل النقص على رمضان، وهذا القول هو الصحيح من وجهين: الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم فسره هو بنفسه، ففي رواية مسلم: "اقدروا له ثلاثين"، وفي رواية البخاري: "فأكملوا العدة ثلاثين"، وفي حديث أبي هريرة: "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين، ولا يشك أحد أن أعلم الناس بما يقول هو القائل، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فسره لنا بأن قال: "أكملوا العدة ثلاثين" فهل يبقى بعد ذلك قول لأحد؟ أبدًا، ولهذا كان القول الصحيح أن المراد بالقدر: التضييق، لكن على الشهر الداخل بحيث نكمل الشهر الأول السابق ثلاثين، وأما ابن عمر رضي الله عنه راوي الحديث فكان يبعث من يرى الهلال في ليلة الثلاثين من شعبان إذا كان هناك غيم أو قتر، فإن لم ير أصبح صائما رضي الله عنه، ولكن هذا من فعله، وروايته مقدمة على رأيه، فيقال: هذا اجتهاد منه، وهو رضي الله عنه معروف بأنه يميل إلى التشديد أكثر مما يميل إلى التخفيف، ولهذا يقال: إن هارون الرشيد لما طلب من مالك أن يؤلف الموطأ قال له: تجنب رخص ابن عباس وتشديد ابن عمر، وابن عمر معروف بالتشدد حتى إنه كان يغسل في الوضوء داخل عينيه، ويقال: إنه إنما كفِّ بصره في آخر عمره من أجل هذا، فالله أعلم.

على كل حال: ابن عمر رضي الله عنه من أشد الناس حرصا على العبادة، وكان يلزم نفسه بأشد الأمرين عنده، فلهذا كان يصوم إذا كان هناك غيم أو قتر". الوجه الثاني: من الترجيح أن حديث عمار بن ياسر صريح في أنه إذا كان غيم أو قتر فإن صومه حرام، وهذه المسألة فيها في مذهب الإمام أحمد سبعة أقوال وهي: الأحكام الخمسة، هذه خمسة أقوال، والقول السادس: أن الناس تبع للإمام إن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا، والقول السابع: أن يعمل بعادة غالبة بأن الغالب أنه إذا مضى شهران كاملان فالثالث ناقص فينظر هل رجب وجمادى الثانية كاملان فيكون شعبان ناقصًا، ولكن السُّنة- والحمد لله- واضحة في ذلك. في هذا الحديث يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا رأوا الهلال أن يصوموا إذا كان هلال رمضان، وأن يفطروا إذا كان هلال شوال، ويأمرهم أيضًا إذا لم يتمكنوا من رؤيته أن يكملوا العدة ثلاثين- عدة الشهر السابق- سواء كان رمضان أو شعبان؛ لأجل أن يكونوا على بينة من الأمر حتى لا يقعوا في شك وحيرة، فالأمر-والحمد لله- واضح. وعليه نقول: إذا رأيت فصم، وإذا غم عليك فلا تصم بل أكمل عدة الشهر ثلاثين، في شوال إذا رأيت فأفطر، إذا غم عليك فأكمل العدة ثلاثين فالأمر- والحمد لله- واضح حتى لا يقع الناس في قلق وشك وحيرة. ثم نرجع إلى معنى قوله: "اقدروا له"، نقول: إذا غم هلال شوال يجب التكميل، وسيأتي- إن شاء الله تعالى- بيان تناقض هذا القول والصحيح المتعين. وهذا الحديث فيه فوائد كثيرة أولًا: قوله: "إذا رأيتموه"، يستفاد منه: أنه لا يجب الصوم قبل رؤيته لقوله: "إذا رأيتموه"، ثم ما المراد بالرؤية؟ هل الرؤية قبل الغروب أو بعد الغروب؟ من المعلوم أن القمر آية ليلية، فيكون المعنى: إذا رأيناه في الليل الذي هو سلطانه كما قال تعالى: {وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية اليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة} [الإسراء: 12]. فإذا رؤي بعد الغروب ثبت الحكم، أما إذا رؤي قبل الغروب فقال بعض العلماء: إنه يكون لليلة الماضية، وبعضهم يقول: يكون لليلة المقبلة، ولا شك أن هذا فيه نظر؛ لأنه إذا رؤي قبل الغروب متقدمًا على الشمس فإنه لا يمكن أن يكون لليلة الماضية، وإذا رؤي متأخرًا عن الشمس فإن كان التأخر بعيدًا فإنه يكون لليلة المقبلة، ومع ذلك لا نحكم به، قد يكون عند الغروب هناك غيم أو قتر فلا نراه فنكمل العدة ثلاثين، لكنه في الغالب لا يخفى، المهم: أن الرؤية إذن تكون بعد الغروب؛ لأنه- أي: الليل- هو سلطان القمر.

وقوله: "إذا رأيتموه" يستفاد منه: أنه لا بد من تحقق الرؤية، أما لو شككنا في ذلك فإنه لا يجب الصوم، بل من صام فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، ويدل على أن المراد بالرؤية اليقين هنا الرؤية العينية المتيقنة قوله تعالى في البقرة: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185]. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا رآه ولم يره غيره ثبت الحكم في حقه، فإن كان في رمضان، يعني: رأى هلال رمضان وغيره لم يره والحاكم رد شهادته لجهله بحاله مثلًا فانه يصوم، وإن كان في شوال فقيل: إنه لا يفطر؛ لأن الشهر شرعا- أي: شهر شوال شرعًا- لا يدخل إلا بشهادة رجلين، وقيل: بل يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتموه فأفطروا"، وهذا قد رآه، لكن يفطر سرًّا لئلا يجاهر بمخالفة الجماعة، فصار لدينا قولان إذا رأى وحده هلال شوال: القول الأول: أنه لا يفطر؛ لأن شوال لا يثبت دخوله إلا بشهادة رجلين، واستذلوا أيضًا بحديث: "الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس". والقول الثاني: أنه يفطر؛ لأنه رآه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا"، ولكنه يفطر سرًّا لثلا يجاهر بمخالفة الجماعة، وهذا القول أقرب من حيث اللفظ: "إذا رأيتموه"، فإن هذا رآه، أما إذا كان الإنسان منفردًا في مكان وليس حوله أحد يخالفه فإنه يفطر؛ لأنه حينئذٍ لا يتيقن مخالفة الجماعة مثل لو كان بدويًّا في محل في البرّ ليس حوله مدن ولا قرى ورأى هلال شوال فإنه لا يمكن أن نقول له: صم: لأنه ثبت دخول الشهر في حقه، وهو إذا أفطر لا يكون مخالفًا، هكذا قال أهل العلم، ومعلوم أن هذا في وقتهم أمر واقع وكثير، لكن في وقتنا الآن- حيث انتشرت وسائل الإعلام- قد يقال: إنه لا يفطر حتى ينظر من إفطار الناس على القول بأنه لا يفطر إذا أنفرد برؤيته، أما إذا قلنا: إنه يفطر فالأمر واضح. ظاهر الحديث: "إذا رأيتموه"، يشمل ما إذا رأيناه بالعين المجردة أو بواسطة الآلات، فهو عام، فمثلًا رأيناه سواء بالعين المجردة أو بالمنظار المكبر فإنه تثبت رؤيته، وقد كان الناس قديمًا نعهدهم أنهم يصعدون على المنابر ومعهم الدرابيل، أو على الأصح مكبر النظر أو مقرب النظر، المهم: أنهم كانوا يستعملونه، وإذا رأوه بواسطة هذه المكبرات فإنه يحكم برؤيته، والحديث عام ليس فيه وإذا "رأيتموه بالعين"، ومعلوم أنه حتى ولو كان فيه ذلك لا يمنع أن يكون رآه بواسطة أو مباشرة. الحديث: "إذا رأيتموه"، فهل المراد: إذا رآه كل واحد؟ لو كان كذلك لكان الذي نظره قاصر لا يجب عليه الصوم ولو رآه الناس؛ لأنه يقول: ما رأيته أنا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد هذا، ولكن إذا رأيتموه الرؤيا التي يثبت بها دخوله شرعًا وهي أن يكون الرائي رجلين فأكثر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإن شهد شاهدان فصوموا وأفطرواه، ويأتي- إن شاء الله- الخلاف فيما إذا رآه واحد.

ويستفاد من قوله: "إذا رأيتموه": أنه إذا رؤي في بلد واحد لزم الناس كلهم الصوم؛ لأننا ما دمنا نقول: إنه لا يشترط أن يراه كل واحد فإنه يستفاد منه، وهذه متفرعة على ما ذكرنا قبل من أنه إذا رآه وأحد أو إذا ثبتت رؤيته في مكان لزم الصوم جميع الناس، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وهو قول كثير من أهل العلم، ولكن عارضهم شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة، وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتموه"، والجماعة البعيدون عن مطلع الهلال في هذا المكان لم يروه لا حقيقة ولا حكمًا، وقول الرسول: "إذا رأيتموه" كقوله: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم"، فهل أنتم تقولون: إذا غربت- الشمس عند قوم جاز للآخرين أن يفطروا ولو كانت الشمس لم تغب؟ الجواب: لا، ولم يقل بذلك أحد، إذن إذا رأيناه في مكان ولم ير في مكان آخر- بعد التحري والبحث- فإنه لا يلزم من لم يره؛ لأن هذا- "إذا أقبل الليل من هاهنا"- توقيت يومي، و"إذا رأيتموه" توقيت شهري، ولا فرق بينهما، فالشهر عند من لم يروه لم يدخل، والله عز وجل يقول: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. [البقرة: 185]. وهؤلاء الذين يخالفون من رأوه في المطالع ما شهدوه، وعلى هذا فلا يلزمهم الصوم، ودلالة هذا الحديث على قولهم، ودلالة الآية أيضًا واضحة، واستدلوا أيضًا بحديث رواه مسلم عن كريب أن أم الفضل أرسلته في حاجة إلى معاوية، ومعاوية في الشام، فرأوا الهلال في الشام فصاموا، وكان ممن رآه كريب رآه ليلة الجمعة، ثم إن كريبًا قضى حاجته من الشام ورجع إلى المدينة والتقى بابن عباس رضي الله عنه، فسأله ابن عباس متى صام معاوية؟ قال: صام يوم الجمعة، قال: هل رأى الهلال؟ قال: نعم، وأنا رأيته أيضًا، فقال: إنا لم نصم إلا يوم السبت، فقال له: أتكتفي برؤية معاوية؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا نص صريح من ابن عباس رضي الله عنهما تفقها واستنباطًا من قوله: "إذا رأيتموه"، وهذا دليل واضح في الموضوع، والقياس على التوقيت اليومي أيضًا دليل واضح، والخطاب في {فمن شهد منكم الشَّهر}، و"إذا رأيتموه"، واضح، ولهذا كان الصواب ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أنه إن اتفقت المطالع لزم الصوم أو الفطر وإلا فلا. * وهذا أحد الأقوال في المسألة، وفيها خمسة أقوال على النحو التالي: القول الأول: إذا ثبتت رؤيته في مكان ثبت ذلك في حق جميع الناس في أي مكان كانوا.

القول الثاني: إذا ثبتت رؤيته في مكان لزمهم حكم تلك الرؤية من فطر أو صوم، ولزم من يشاركهم في مطالع الهلال دون من لم يشاركهم، وهذا أقرب إلى الصواب إن لم يكن هو المتعين. القول الثالث: أنه إذا كانت المسافة بين البلدين مسافة قصر فإنه لا يلزم للبلد الآخر، قالوا: لأن ما دون المسافة في حكم الحاضر وما وراءها في حكم المسافر، فإذا كان بين البلدين أقل من المسافة لزم البلد الثاني الصوم إذا رآه البلد الآخر، وإن كان بينهما مسافة قصر فلا. والقول الرابع: أن الصوم والفطر تبع للعمل، أي: عمل ولي الأمر، فإذا كانت هذه المنطقة تبعًا لأمير معين فلها حكم واحد، وعللوا ذلك بألا يحصل الاختلاف بين من كانوا تحت إمرة واحدة؛ لأنه إذا حصل اختلاف بين من كانوا تحت إمرة واحدة حصل النزاع والتفرق. والقول الخامس: أنه إذا كان بينهما قطر أو أقطار- يعني: إذا كانت منطقة كبيرة وليست بلد أي: تبع الأقطار والمناطق الكبيرة- فإنهم إذا كانوا في قطر واحد لزمهم الصوم، وإن لم يكونوا في قطر واحد فلكل قطر حكمه. على كل حال: كل ما سوى القولين الأولين فهي أقوال ليست بتلك القوة، إلا أن يقال: إنه إذا كانوا تحت إمرة واحدة فإنه يلزم الصوم أو الفطر الحديث: "الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس، والفطر يوم يفطر الناس". * فتكون الأقوال الرئيسية التي يمكن أن نعتبرها ثلاثة أقوال: الأول: لزوم الصوم على جميع الناس. والثاني: لزوم الصوم على من وافقهم في المطالع. والثالث: لزوم الصوم إذا كانوا تحت إمرة واحدة الحديث: "الصوم يوم يصوم الناس". ما هو عمل الناس اليوم؟ الغالب عمل الناس اليوم على الأخير، ولهذا تجد قريتين على الحدود بينهما أمتار قليلة قرية صامت وقرية لم تصم، وقرية أفطرت في العيد وقرية لم تفطر؛ لأن هذه تحت ولاية وهذه تحت ولاية بل نجد أنه أحيانا إذا حسنت العلاقات بين الدولتين اتفقتا، وإذا ساءت لم تتفقا، فيجعلون الحكم تبعًا للسياسة، وهذا شيء مشاهد علمنا به مباشرة بدون نقل. على كل حال: القول الصحيح عندي هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه مؤيد بظاهر القرآن والسُّنة وبما روي عن الصحابة-رضي الله عنهم-. من فوائد الحديث: أن هذه الشريعة- والحمد لله- لم تدع مجالًا للقلق والاضطراب، لقوله: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"، فإن هذا مما يريح الإنسان، يعني: لا تكن قلقًا، تقول: ربما هلَّ ولكنه تحت السحاب، وربما هلَّ ولكنه وراء الجبل، وربما هلَّ ولكنه حجبه

يقبل خبر الواحد في إثبات الهلال

القتر، أبدًا لا تقلق، إذا لم تر الهلال لكونه غٌم عليك أكمل العدة ثلاثين بدون قلق، وهكذا لا ينبغي للإنسان أن يجعل في نفسه قلقًا من الأحكام الشرعية حتى في مسائل الفتاوى فلا ينبغي لك أن تضع المستفتي في قلق وحيرة، فتقول: يمكن كذا، يمكن كذا، يحتمل كذا، يحتمل كذا، إما أن يكون عندك علم يقيني أو ظني؛ لأنه على القول الصحيح يجوز الحكم بغلية الظن عند تعارض الأدلة: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: ? ? ? ]. وتجزم بالفتوى وإلا فدعها، أما أن تبقى في حيرة وتوقع غيرك في حيرة فهذا لا ينبغي. ومن فوائد الحديث: اعتبار البناء على الأصل؛ لقوله: "فاقدروا له"، أو "فأكملوا العدة ثلاثين"؛ لأن الأصل بقاء الشهر، فإن اليوم الثلاثين يعدُّ من الشهر في الأصل، فتعمل على هذا الأصل حتى نتيقن أنه دخل الشهر الثاني، وهذا فرد من أفراد عظيمة دلت عليها أحاديث كثيرة وهي أن الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يتبين زواله. يقبل خبر الواحد في إثبات الهلال: (623) - وعن ابن عمر أيضًا رضي الله عنه قال: "تراءى النَّاس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنِّي رأيته، فصام وأمر النَّاس بصيامه". رواه أبو داود، وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم. (62) 4 - وعن ابن عباس رضي الله عنه: "أنَّ أعرابيًّا جاء إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأذِّن في النَّاس يا بلال أن يصوموا غدًا". رواه الخمسة، وصحَّحه ابن خزيمةً، وابن حبَّان، ورجَّح النَّسائي إرساله. ففي هذين الحديثين دليل على أنه يعمل بشهادة واحد في دخول رمضان، وعلى هذا فيكون الجمع في قوله: "إذا رأيتموه فصوموا" باعتبار الجنس؛ لأنه قال: "إذا رآه أحد منكم". الحديث الأول يقول: "تراءى الناس الهلال"، أي: طلبوا رؤيته، هذا هو معنى تراءى، كأن

كل واحد يقول للثاني: انظر الهلال وما أشبه ذلك، فيدل هذا على أن ترائي الهلال في الليلة التي يتحرى فيها من عمل الصحابة الذي أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فيكون من السُّنة التقريرية. ويستفاد من هذا الحديث: أنه لا يعمل إلا برؤية من يوثق بنظره، بل من يوثق بقوله لكونه أمينا بصيرًا، فلو جاء الأعمى إلى القاضي وقال: إني رأيت الهلال وهو ثقة مأمون عند الناس ماذا نقول؟ نقول: هذا لا يمكن وهذا مما يخل بأمانته، وما القول فيما إذا جاءنا رجل ليس بأعمى لكن ضعيف البصر وقال: إنى رأيت الهلال يقينًا وقال: اتجاهه إلى الجنوب الشرقي- اتجاه القوس- المنزلة صحيحة لكنه ضعيف البصر هل نأخذ بقوله؟ لا، وإن كان ثقة؛ لأنه ضعيف البصر، ولهذا ذكر العلماء أن رجلًا كبير السن كان مع الناس الذين يتراءون الهلال وأبصارهم قوية هم قالوا: لم نره، وهو أصر على أنه رآه وجاءوا عند القاضي والقاضي ردده قال: لا، أنا أشهد أني رأيته فقال: أذهب معك تريني إياه، قال: نعم، ذهب وقال: أنظر إليه. القاضي نظر وما رأى شيئًا وكان القاضي ذكيًّا فمسح على حاجبه- حاجب عينه- ثم قال: انظر، قال: الآن ما أرى شيئا، لماذا؟ شعرة بيضاء يحسب أنها الهلال وهى متقوسة كالهلال فشهد أنه رأى الهلال! لكن متى يأتينا قاضٍ مثل هذا القاضي الذكي، لكن على كل حال أقول: لا بد أن يكون الرائي ممن يوثق بقوله لأمانته في النقل ولكون بصره حديدًا يمكن أن يرى الهلال. ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: أنه لا تشترط الشهادة في الإعلام بدخول الشهر؛ لقوله: وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام"، وأمر الناس بالصيام، فلو قال للقاضي: لقد رأيت الهلال ولم يقل: أشهد، وجب الحكم بخبره، وهل هذا خاص برؤية هلال رمضان أو عام في كل الشهادات؟ يعني: هل يشترط في الشهادة سواء في المال أو في غير المال أن يقول الشاهد: أشهد أو لا يشترط، بل يكفي أن يقول: إني أقول كذا أو أخبر بكذا؟ الصحيح: أنه لا تشترط الشهادة إلا ما دل الدليل على اشتراطها لقوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات} [النور: 6]. وإلا فإن الخبر يكفي عن الشهادة ولهذا قيل للإمام أحمد رحمه الله: إن فلانا يقول: "العشرة في الجنة ولا أشهد"، فقال الإمام أحمد: إذا قال: إنهم في الجنة فقد شهد، وهذا هو الحق، أي: أن الشهادة لا يعتبر فيها لفظ (أشهد)، بل إذا أخبر خبرًا جازمًا به فإنه يعتبر شاهدًا ويدل عليه هذا الحديث. أما الحديث الثاني: ففيه دليل على أنه يشترط في الشاهد أن يكون مسلمًا، لقوله: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدًا"، وهذا واضح على أن الحكم بني على ما سبق من كون الرجل يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. هل يدل الحديث على أنه يكفي أن يكون مسلمًا وإن لم يكن عدلًا؟ قد يقال: لا يدل، وقد يقال: يدل، أمّا قد يقال: إنه يدل؛ فلأن هذا الرجل لم يبد لنا منه إلا أن شهد أن لا إله إلا

الله، وأن محمدًا رسول الله فقط، وهذا لا يحصل به إلا الإسلام فقط، وأما كونه لا يمنع اشتراط العدالة؛ فلأن الصحابة كلهم عدول، فإذا ثبت إسلام الصحابي ثبتت عدالته. ومن فوائد حديث ابن عمر: أن من السُّنة ترائي الناس الهلال. والدليل: قول ابن عمر "تراءى الناس ... إلخ" ومن أي أنواع السُّنة هذه؟ الإقرارية. هل من السُّنة أن يؤمر الناس بترائي الهلال ويقال لهم: تراءوا الهلال الليلة الفلانية فمن رآه منكم فليشهد عند القاضي؟ الجواب: أننا نأمرهم لنذكرهم بالسُّنة، ولهذا الأفضل ألا يقال: تراءوا الهلال، وإنما يقال: كان الصحابة يتراءون الهلال فمن أراد منكم أن يتراءه فليتراءه في الليلة الفلانية، هذا أقرب إلى إصابة السُّنة. ومن فوائد الحديث أيضًا: وجوب العمل برؤية الشاهد الواحد مع الجماعة، يؤخذ من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالصيام؛ لأنه صام وأمر الناس بالصيام، وهذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم، والمسألة فيها ثلاثة أقوال: هذا القول. والقول الثاني: أنه لا بد من شاهدين اثنين أو شاهد مبرِّزٌ في العدالة بحيث تقوم شهادته مقام شهادة اثنين عند القاضي. والقول الثالث: أنه إن كانت السماء غيمًا قبلت شهادة الواحد، وإن كانت صحوًا لم تقبل، هذا مذهب أبى حنيفة، لماذا؟ يقولون: لأنه إذا كانت السماء صحوًا ولم يره الناس دل على كذبه، فتكون شهادة هذا الواحد مخالفة لشهادة الآخرين فلا تقبل، أما إذا كانت السماء غيمًا فيمكن أن يراه بدون الناس لقوة بصره مثلًا أو لكونه دقيق الملاحظة بحيث انفتح الغيم لمدة وجيزة ورآه أو ما أشبه ذلك، فلهذا يفرق هؤلاء بين أن تكون السماء صحوا أو أن تكون غيمًا، ولا شك أن مقتضى العقل أن يكون الأمر بالعكس، فيقال: إذا كانت السماء صحوا فإنه يمكن أن يراه ولا يراه الآخرون، حتى وإن كانت السماء صحًوا فالناس يختلفون في قوة النظر بخلاف ما إذا كانت غيمًا فإنه يبعد أن يراه. على كل حال: هذا قول ذكرناه لأجل إتمام سياق الأقوال، والصحيح: أنه يعمل بشهادة الواحد ولو كان معه جماعة لهذا الحديث. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يتقدم بالحق ولو كان من أصغر الناس؛ لأن ابن عمر كان صغير السن ومع ذلك تقدم، وقال: "إني رأيت الهلال"، فصام النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، ولهذا لما وقع في قلبه حل اللغز الذي ألغز به النبي صلى الله عليه وسلم هاب أن يتكلم به؛ لأنه كان أصغر القوم، ولكن أباه عمر تمنى أن يكون تكلَّم به، واللغز الذي أورده الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحابة أن

من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن فذهب الناس يتكلمون في شجر البوادي هي كذا هي كذا ولم يعرفوها، فوقع في نفس ابن عمر أنها النخلة، لكنه لم يتكلم لصغر سنَّه، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة". وفية من الفوائد أيضًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أن الحاكم هو الذي يوجه الأمر إلى الناس بالصيام؛ لقوله: "صام وأمر الناس بصيامه"، وهو كذلك، فإن هذه الأمور ترجع إلى الحكام وليست راجعة إلى عامة الناس من شاء صام ومن شاء أفطر بشهادة غيره، ولكتها راجعة إلى الحاكم الشرعي. وفيه أيضًا: أن من كان معلوم العدالة فإنه لا يناقش ولا يحقق معه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره ابن عمر أنه رآه صام وأمر الناس بالصيام بخلاف الحديث الثاني. ويستفاد منه أيضًا: أنه لا تشترط الشهادة في رؤية الهلال، يعني: لا يشترط أن يقول: أشهد؛ لأنه قال: "فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته"، وقد يقال: بل فيه دليل على أن الخبر شهادة؛ لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر بإخباره شاهدًا، وقد مر علينا أن الإمام أحمد لما قيل له: أن يحيى بن معين أو علي بن المديني- نسيت أيهما هو- يقول: العشرة في الجنة، ولكن لا أشهد، قال: إذا قال فقد شهد. أما حديث ابن عباس ففيه: أولًا: قبول شهادة الأعرابي، والأعرابي- كما مر علينا- هو ساكن البادية، وهو كذللك إذا ثبتت عدالته. وفيه أيضًا: وجوب التحري في مجهول الحال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل هذا الأعرابي: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ " قال: نعم، فأما من ظاهره العدالة فلا يبحث عنه، لكن لما كان الأعراب غالبهم لا يعرف الأحكام الشرعية سال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأعرابي: هل هو مسلم أم لا. وفيه: أن الناس مؤتمنون على ديانتهم؛ لأنه لما قال: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، لم يقل: من يشهد له، وبناء عليه فإذا قيل للرجل: "صلِّ"، فقال: قد صليت ندعه ودينه، الا أن يقول: صليت في المسجد الفلاني، وشهد أهل المسجد أنه لم يصلِّ فيه، فحينئذ لا نقبل قوله، كذلك إذا قلنا: "زكِّ مالك"، فقال: قد زكيت، فإنه يقبل وهو فيما بينه وبين الله، اللهم إلا إذا كان شاهد الحال يكذبه، كما لو كان غنيًا عنده أموال كثيرة وقال: "إني زكيت" ونحن ما رأينا أحدًا انتفع بزكاته، وزكاته لو أخرجت لكان لها أثر في المجتمع لقلته مثلًا، فهذا قد نقول بعدم قبول قوله، لماذا؟ لأن شاهد الحال يكذبه، وشاهد

حكم تبييت النية في الصيام

الحال معتبر في الأحكام الشرعية، ألم يبلغكم قصة سليمان مع المرأتين حيث عمل بالقرينة، وكذلك أيضًا الحاكم الذي حكم في قصة يوسف عليه السلام حكم بالقرآن قال: {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصَّادقين} [يوسف: 26 - 27]. فالمهم: أن صاحب المال الذي ادعى أنه أدى زكاته نقول: إذا دلت القرينة على كذبه لم نقبل قوله، وإلاَّ فإن الناس مؤتمنون على دينهم. وفيه: دليل على أن "نعم"حرف جواب تغني عن إعادة السؤال؛ لأن الرجل لم يقل: نعم أشهد أن لا إله إلا الله، ولهذا لو قيل للرجل أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم، تطلق، ولو قيل له: أراجعت امرأتك؟ فقال: نعم، رجعت إليه، ولو قيل للرجل: أزوجت فلانًا؟ فقال: نعم، فقال الثاني: قبلت قبل، أو قيل للزوج أقبلت؟ فقال: نعم، فإنه يقوم مقامه لحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه حين قال: نعم. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي إعلان دخول الشهر بين الناس، لقوله: "فأذَّن في الناس أن يصوموا غدًا". ومن فوائده: أنه ينبغي أن تتخذ الوسيلة التي تكون أقرب إلى تعميم الخبرة لقوله: "أذِّن في الناس"، يعني: أعلمهم، وعلى هذا يكون إعلام الناس خبر دخول الشهر بالأصوات أو بظهور الأنوار أو ما أشبه ذلك من الأمور المشروعة. ومن فوائده أيضًا: أنه ينبغي في الإعلانات اختيار الوسيلة التي تكون أبلغ في إيصال الخبر؛ لأن بلالًا رضي الله عنه معروف أنه قوي الصوت؛ ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم يؤذن في الناس فيصوموا غدًا. حكم تبييت النية في الصيام: 625 - وعن حفصة أمِّ المؤمنين رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يبيِّت الصِّيام قبل الفجر فلا صيام له". رواه الخمسة، ومال التِّرمذيُّ والنَّسائيُّ إلى ترجيح وقفه، وصحَّحه مرفوعًا ابن خزيمة وابن حبَّان. - وللدَّارقطنيِّ: "لا صيام لمن لم يفرضه من اللَّيل". قوله: "من لم يبيت الصيام" يعني: نية الصيام، وقوله: "قبل الفجر" يعني: ولو في آخر الليل؛

لأن البيتوتة في الأصل هي النوم في الليل، وقوله: "فلا صيام له"، "لا" نافية للجنس، و"صيام" اسمها، و"له" خبرها هذا النفي، هل هو نفي للكمال أو للوجود أو للصحة؟ الأصل في النفي نفي الوجود، هذا الأصل، فإذا وجد انتقلنا من نفي الوجود الحسي إلى نفي الوجود الشرعي، ونفي الوجود الشرعي معناه: عدم الصحة، فيكون نفيًا للصحة، فإن لم يمكن ذلك بأن ثبت وجوده شرعًا وصحته شرعًا انتقلنا إلى نفي الكمال، فأي إنسان يدَّعي في مثل هذه الصيغة أنه نفي للكمال فإننا لا نقبل قوله إلا بدليل، فإذا قلنا: "لا رب إلا الله" فهو نفي للوجود، أي: نفي لوجود أي رب إلا الله، ونفي الصحة لا يكون إلا في الأحكام والأخبار، ويكون فيها الصدق أو الكذب، "الرب" عند الإطلاق إنما يكون لله عز وجل إذا قلنا: "لا إيمان لمن لا يأمن جاره بوائقه" هذا نفي كمال، "لا صلاة بغير وضوء" نفي للصحة، وانتبهوا إذا كان الكلام في الخبر يرفع صدقه أو كذبه، إذا كانت الأحكام فالصحة والبطلان، سبق لنا أن البيات هو النوم، وهنا بيَّن أنه من الغروب إلى الفجر؛ لأنه قال: ومن لم يبيِّت الصيام قبل الفجر"، والمراد بالفجر هنا: الفجر الصادق؛ لأن الفجر فجران: فجر كاذب وفجر صادق، والذي تترتب عليه أحكام الصيام وأحكام الصلاة هو الفجر الصادق، وبينه وبين الفجر الكاذب حوالي ساعة أو ساعة وربع أو أقل من ساعة حسب اختلاف الفصول، أما الفروق بينه وبين الفجر الصادق فذكر العلماء أن بينهما ثلاثة فروق: الفرق الأول: أن الفجر الصادق يكون ممتدًّا من الجنوب إلى الشمال عرضًا، والفجر الكاذب يكون طولًا من الشرق إلى الغرب. والفرق الثاني: أن الفجر الصادق يكون فيه الضياء متصلًا بالأفق، وأما الفجر الكاذب فالضياء منقطع، أي: بينه وبين الأفق ظلمة. والفرق الثالث: أن الفجر الكاذب يظلم بعد ذلك وينمحي، والفجر الصادق لا يظلم بل يزداد نورًا، والفجر الصادق هو الذي تترتب عليه الأحكام. وقوله: "من لم يبيت الصيام" ظاهره العموم صيام الفرض، أي: وصيام النفل، وقوله: "فلا صيام له"، أي: لا صيام صحيح له، ووجه ذلك: أن الصوم لا بد أن يشتمل على جميع النهار، ومن لم ينو إلا بعد طلوع الفجر ولو بجزء يسير فقد مضى جزءٌ من يومه لم ينوه ولم يصمه وحينئذ لا يصح، وعليه فيكون هذا الحديث وإن كان فيه خلاف في رفعه ووقفه فإن النظر. يقتضيه؛ لأن الله يقول: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام} من أين؟ من الفجر {إلى الليل} [البقرة: 187]. وعلى هذا من لم ينو قبل الفجر ولو بلحظة. فإنه لم يتم صومه؛ لأنه مضى عليه جزء من النهار لم يصمه.

مسألة: ما الحكم إذا تعارض الرفع والوقف؟

مسألة: ما الحكم إذا تعارض الرفع والوقف؟ وقول المؤلف: "مال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه، وصححه مرفوعًا ابن خزيمة وابن حبان" معناه: أنه تعارض هنا الحكم عليه بالوقف وبالرفع، وقد مضى عدة مرات أنه إذا تعارض الرفع والوقف وكان الرافع ثقة حكم بالرفع لوجهين: الوجه الأول: أن الرفع زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة. الوجه الثاني: أنه لا منافاة بين الرفع والوقف، فإن الراوي أحيانا يسوق الحديث إلى منتهاه وأحيانا يحدث به هو كأنه من عنده، فالصحابي قد يقول مثلًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ويتكلم بالحديث، وقد قول الحديث من نفسه مبينًا للحكم فقط لا راويًا، وعلى الاحتمال الأخير يكون حاكيًا لا راويًا، هذا إذا كان الراوي ثقة، أما إذا كان الراوي غير ثقة- الرافع- فإننا لا نقبل الرفع حينئذٍ لا لأنه عورض بالوقف ولكن لضعف الراوي. والخلاصة: أنه لا منافاة بين كون الراوي يحدث بالحديث مرة مرفوعًا، أو يقوله ناسبًا إياه إلى نفسه على سبيل الوقف؛ لأنه على الوجه الأول يكون راويًا، وعلى الوجه الثاني يكون حاكيًا. وقوله: "وللدارقطني: لا صيام لمن لم يفرضه من الليل" إشارة إلى أن المراد بذلك: الصيام الواجب هو الذي يفرض، أما التطوع فإنه وإن ابتدأه الإنسان فله أن يفطر كما سيأتي. من فوائد الحديث: أولًا: وجوب النية في الصيام لقوله: "من لم يبيت النية فلا صيام له"، ويشهد لهذا ذلك الحديث العظيم الذي يعتبر ركنًا عظيمًا من أركان الشريعة وهو حديث عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ... " الحديث. ثانيًا: أنه لا بد أن تكون النية قبل طلوع الفجر لقوله: "من لم يبيت الصيام قبل الفجر"، ووجه ذلك: لأجل أن تستوعب النية جميع النهار. ومن فوائده أيضًا: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ لأنه لا يمكن استيعاب جميع النهار إلا بنية قبل الفجر، وإلا فالأصل ابتداء الإمساك من طلوع الفجر لا قبله؛ لأن الله يقول: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} [البقرة: 1 (87)]. لكن لما كان لا يتم استيعاب جميع النهار إلا بنية قبل الفجر صارت النية قبل الفجر واجبة، وهذا من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ونظير ذلك قولهم في الوضوء: إنه لا يمكن استيعاب غسل الوجه إلا بجزء من الرأس، فلا بد أن يتناول الماء شيئًا ولو كالشعرة من الرأس، وكذلك قالوا في مسح الراس، المهم: أنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإن قلت: هل يجوز أن أبتدئ النفل من أثناء النهار؟ فالجواب: إن كان النفل معينًا فإنه لا يصح إلا من قبل طلوع الفجر، مثلًا: أيام البيض لا بد

حكم قطع الصوم

أن يصومها الإنسان من أولها وإلا صار صائمًا نصف يوم أو ربع يوم حسب ما ينوي، وكذلك الأيام المعينة، كل معين لا بد أن ينويه قبل الفجر، أما النفل المطلق فلا بأس كما سيأتي على خلاف في ذلك أيضًا. حكم قطع الصوم 626 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل عليَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيءٌ؟ قلنا: لا. قال: فإنِّي إذن صائمٌ، ثمَّ أتانا يومًا آخر، فقلنا: أهدي لنا حيسٌ، فقال: أرينيه، فلقد أصبحت صائمًا فأكل". رواه مسلمٌ. كلمة "هل" أداة استفهام، والجملة بعدها مكوَّنة من مبتدأ وخبر، والمبتدأ هنا كلمة "شيء"، و"شيء" نكرة من أنكر النكرات، فكيف صح أن يبتدأ بالنكرة؟ أولًا: لتقدم الخبر، والثاني: لتقدم الاستفهام. وقوله: "شيء" هذا عام أريد به الخاص، والمراد به: شيء يؤكل، بدليل قوله: "قلنا: لا. قال: فإني إذن صائم"، وقوله: "فإني إذن" "إذن" ظرف للزمن الحاضر، وهناك "إذن"، و"إذا"، و"إذ" هذه الأدوات الثلاثة تقاسمت الزمان. فـ"إذ" لما مضى، و"إذا" للمستقبل، و"إذن" للحاضر، إذن فقوله: "إني إذن" أي: من الآن صائم، والصيام في اللغة- كما سبق-: الإمساك، وفي الشرع: التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإذا جاء اللفظ في لسان الشارع وله معنى لغوي ومعنى شرعي وجب حمله على الحقيقة الشرعية على المعنى الشرعي، وإذا جاء اللفظ في كلام أهل اللغة وله معنيان شرعي ولغوي حمل على المعنى اللغوي، وإذا جاء الكلام وله معنيان لغوي فصيح وعرفي وشرعي وتكلم به إنسان باللسان العرفي فإنه يحمل على العرفي. إذن كل كلام يحمل على ما تعارفه المتكلم به، إذن لا يصح أن نحمل قوله: "صائم" على الصيام اللغوي، قال: فإني إذن ممسك عن الأكل، بل نقول: إنه صيام شرعي؛ لأن هذا معناه في اللسان الشرعي، "ثم أتانا يومًا آخر فقلنا: أهدي لنا حيس، فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائمًا فأكل"، قوله: "أتانا يومًا آخر" يعني: غير اليوم الأول، فقلنا: "أهدي لنا حيسٌ"، الحيس: هو تمر يخلط بشيع من الأقط والسمن ويؤكل، موجود إلى الآن في عرفنا، لكنه في عرفنا يخلط بشيء من الدقيق بدلًا عن الأقط، ولعل البادية يخلطونه بالأقط، إنما الحاضرة عندنا يخلطونه بالدقيق، ويسمى عندنا (قشد)، والظاهرة أن أصلها (قشدة).

فقال: "أرينيه"، هنا إشكال من الناحية النحوية "أرينيه"؛ لماذا جاءت الياء وهذا فعل أمر، وفعل الأمر يحذف منه حرف العلة؟ هنا يوجد مفعولان وفاعل، فالياء الأولى فاعل، والياء الثانية مفعول أول، والهاء مفعول ثان، فعندنا "أرينيه"، الياء الأولى تعود إلى المخاطبة فهي فاعل، والنون للوقاية، والهاء الثانية مفعول أول، والهاء مفعول ثانٍ، وهنا الرؤية بصرية وهي تنصب مفعولًا واحدًا، وإذا كانت الرؤية البصرية متعدية بالهمزة فإنها تنصب مفعولين. "أرينيه" فعل أمر مبني على حذف النون، والياء فاعل والنون للوقاية، والياء مفعول أول والهاء مفعول ثان، نقول: أرينيه يعني: رؤية عين. "فلقد أصبحت صائمًا" هل المعني: صائمًا لغة أو صائمًا شرعًا؟ شرعا؛ لأنها جاءت في لسان الشارع فوجب أن تحمل على المفهوم الشرعي، "فأكل" أي: من هذا الحيس. في هذا الحديث تذكر عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أهله وسألهم هل عندهم شيء يريد أن يأكل، فلما لم يجد عندهم شيئًا قال: إذن أصوم حتى يكون صيامي قرية إلى الله صلى الله عليه وسلم، ففعل صلى الله عليه وسلم وأنشأ صيامًا من حيث قالت له: إنه ليس عندهم شيء من ذلك الوقت، أما المرة الثانية فإنه جاء إلى البيت صلى الله عليه وسلم وأخبروه بأنه أهدي إليهم حيس فطلبه النبي صلى الله عليه وسلم واكل منه، مع أنه أخبر بأنه كان صائمًا، هذا معنى الحديث. فيستفاد من هذا الحديث فوائد عديدة أولًا: بساطة النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة أهله، وأنه ليس ممن يتفقدون البيت، ماذا أخذوا من السكر؟ ماذا أخذوا من الشاهي؟ ماذا أخذوا من الرز؟ وما أشبه ذلك يقول: "هل عندكم من شيء؟ " لا يعرف عن بيته شيئًا؛ لأن البيت لربة البيت. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز أن يخاطب الرجل الشريف الكريم بكلمة "لا" لقولها: "لا"، وهي زوجته وهو زوجها وأشرف الخلق عند الله ومع ذلك تخاطبه بكلمة "لا"، وهذا له أمثال كثيرة ومنها: حديث جابر لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بعنيه" قال: لا، فلا بأس أن تقول لمن خاطبك وإن كان عظيمًا: "لا"، أما قول بعض الناس: سلامتك وما أشبه ذلك من الكلمات فهذه من باب المجاملة، ولو ان الإنسان عجز عن كلمة "لا" لم يكن في ذلك بأس. إذن في هذا الحديث الذي معنا دليل على أنه يجوز أن يقول الإنسان: "لا" للرجل العظيم، وأن ذلك ليس من سوء الأدب. وفيه أيضًا: دليل على جواز إنشاء نية صيام النفل من النهار، يؤخذ من قوله: "فإني إذن"، لولا كلمة "إذن" لاحتمل أن يكون قد صام من قبل لكن لما قال: "إذن" معناه أنه أنشأ الصوم من الآن فيجوز أن ينوي النفل في أثناء النهار، وهذا في النفل المطلق، أما المعين فإنه يصام كما يصام الفرض من أول النهار، ولكن إذا نوى في أثناء النهار فهل يكتب له أجر الصوم يومًا

كاملًا أو يكتب له من نيته؟ في هلا قولان لأهل العلم؛ فمنهم من قال: يكتب له أجر كامل؛ لأن الصوم شرعًا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإذا صححنا أن ذلك صوم فإن من لازمه أن يثبت له أجره من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه ليس له أجر إلا من نيته، واستدل لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، وهذا أول النهار لم ينو الصوم، فكيف يكتب له أجره مع أنه لم ينوه؟ وهذا أقرب إلى الصواب، لكن يكون الفرق بينه وبين الفرض حينئذٍ: أن الفرض لا يصح صوم بعض يوم، وأما النفل فيصح، هل يشترط ألا يفعل مفطرًا في أول النهار؟ أما على قول من يقول: إنه يكتب له الصوم من طلوع الفجر فاشتراط ألا يفعل مفطرًا قبل النية واضح، لكن على قول من يقول: إن النية في أثناء النهار والأجر يكون من النية، هذا محل إشكال، لكن مع ذلك حسب ما علمت من كلام أهل العلم أنه يشترط ألا يكون فعل مفطر قبل النية، فلو فرضنا أن هذا الرجل، أفطر بعد طلوع الشمس فطورا كاملًا قبل الظهر قال: نويت أن أصوم إلى الليل لا يجزئ؛ لأن هذا ليس بصوم، لكن إن نواه صومًا لغويًا لا بأس به، ولكن إن نوى به التقرب إلى الله فهذا غير مشروع، إذن يشترط ألا يفعل منافيًا للصوم من طلوع الفجر إلى نيته، فإن فعل منافيًا للصوم لم يصح الصوم ولو في أثناء النهار، وكان الشارح رحمه الله يميل إلى أن التطوع لا تصح نيته في أثناء اليوم وتوهم رحمه الله حيث قال: إن في بعض سياق الحديث: "فلقد كنت صائمًا" بدل قوله: "إني إذن صائمٌ"، وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد صام، لكن يسأل وينظر إن كان فيه شيء أكل وأفطر، وإن لم يكن استمر على صيامه، هكذا أول الحديث، لكن هذا وهم: لأن في صحيح مسلم: "فلقد كنت صائمًا" بدل قوله: "فلقد أصبحت صائمًا"، فهي في المسألة الثانية لا في المسألة الأولى، وعلى هذا فيكون تأويل الحديث تأويلًا غير صحيح، فالذي عنده الشرح يخشي عليه هذا. ويستفاد من هذا الحديث: مشروعية قبول الهدية ولو كانت طعامًا لقولها: "أهدي لنا حيس"، خلافًا لبعض الناس الذين يترفعون عن قبول الهدية إذا كانت طعامًا، ولا سيما في وقتنا الحاضر، لما أنعم الله على الناس صار الإنسان يستنكف إذا أهدي له هدية طعام، ولكن- والله- ليس بيت هذا المستنكف خيرًا من بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان عليه السلام وأهله يقبلون الهدية حتى ولو كانت طعامًا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أهدي إليَّ ذراع أو كراع لقبلته".

ومن فوائده أيضًا: جواز أكل النبي صلى الله عليه وسلم الهدية؛ لأنه أكل منها، أما الصدقة فلا تحل له، ويدل على أن الصدقة لا تحل له أنه لما دخل ذات يوم وجد البرمة على النار وفيها لحم، فطلب صلى الله عليه وسلم أن يأكل، فقالوا: ليس عندنا شيء، فقال: "ألم أر البرمة على النار؟ " والبرمة: قدر من فخار، قالوا: ذاك لحم تصدِّق به على بريرة، قال: "هو عليها صدقة ولنا هدية"، فأكل منه صلى الله عليه وسلم. إذن ففي هذا الحديث الأخير دليل على أن الصدقة حرام على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك أمر معلوم عندهم، وأما الهدية فهي له حلال. ومن فوائد الحديث: جواز إصدار الأوامر على من لا يستنكف من الأمر؛ لقوله: "أرينيه"، وعليه فيكون النهي عن سؤال الناس لا يشمل مثل هذه الصورة، يعني: النهي عن سؤال الناس لا يشمل من إذا سألته فرح بسؤالك إياه، بل قد يكون هذا من باب الأمر المطلوب والإحسان إليه، أما من إذا سألته استثقل ولم يعطك الشيء إلا حياء وخجلًا، فهلا لا ينبغي لك أن تسأله واقض أنت حاجتك بنفسك. ومن فوائد الحديث: جواز قطع صوم النفل؛ لقولها: "فأكل"، لكن أهل العلم يقولون: لا ينبغي قطعه إلا لحاجة أو مصلحة، فالحاجة مثل: أن يشق عليه تكميل الصوم لعطش أو جوع أو نحو ذلك، والمصلحة مثل: قطع الصوم تطييبًا لقلب صاحبه، هذا الحديث على أي شيء يحمل: على المصلحة أو على الحاجة؟ يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم محتاجًا للأكل فأكل، ويمكن أن يكون غرضه بذلك تطييب قلب أهله؛ لأن قولهم: "أهدي لنا حيس" كأنهم فرحوا به ويحبون أن يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم فطلبه فأكل منه. وفيه أيضًا: جواز إخبار الإنسان عن عمله الصالح، وإن كان يمكنه أن يخفيه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فلقد أصبحت صائمًاه، ومن الممكن أن يقول: هاتوا الحيس ويأكل بدون أن يعلموا، لكنه أخبرهم، فهل نقول: إن مثل هذا مشروع؟ فلو دعاك رجل وأنت صائم فقلت: إني اليوم صائم فهل نقول: هذا مشروع، أو نقول: هذا من باب الجائز، أو ينظر في ذلك إلى المصلحة؟ هذا الأخير هو الصواب، قد يكون من المصلحة أن تخبره لأجل أن يقتدي بك؛ لأن كثيرا من الناس يأخذ بفعل غيره ويقتدي به، قد يكون من المصلحة إخباره؛ لأنك لو تعذرت بدون ذكر السبب لكان في قلبه شيء، فإذا ذكرت السبب طابت نفسه، قد يكون من المصلحة أن تخبره أنك صائم لأجل ألا يعيد عليك السؤال أو العرض مرة ثانية. على كل حال: الأفضل أن يبقى الإنسان على صومه إلا لمصلحة أو حاجة، وهل يقاس على ذلك جميع النوافل، يعني: أنه يجوز للإنسان أن يقطع النفل؟ الجواب: نعم كل النوافل يجوز أن تقطعها لكن لا ينبغي إلا لسبب حاجة أو مصلحة إلا الحج والعمرة، قال بعض العلماء:

فضل تعجيل الفطر

وإلا الجهاد فإنك إذا شرعت فيه لا يجوز لك قطعه، لكن الصحيح أنه كغيره من النوافل ما لم يلق العدو زحفًا، فحينئذٍ لا يجوز الفرار والحج والعمرة لا يجوز قطعهما إلا لضرورة إمَّا حصر أو شرط يشترطه الإنسان عتد إحرامه. فضل تعجيل الفطر: 627 - وعن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال النَّاس بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر". متَّفقٌ عليه. قوله: "لا يزال" هذه من أخوات كان، فهي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، واسمها "الناس"، و"بخير" خبرها، والباء هنا للمصاحبة؛ أي: مصحوبين بالخير أو مصاحبين للخير، و"ما" في قوله: "ما عجلوا الفطر" ما مصدرية ظرفية؛ مصدرية لأن ما بعدها يؤوَّل مصدّرا، وظرفية لأنه يقدر فيها مدة تحوِّل ما بعدها إلى مصدر: "عجلوا تعجيلًا"، هنا الظرف: مدة، فيكون التقدير: لا يزال الناس بخير مدة تعجيلهم الفطر. قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس" المراد بالناس هنا: الصائمون، فهو عام أريد به الخاص، خاص من وجهين الصائمون المسلمون؛ لأن الكفار وإن صاموا ليس لهم صيام ولا يقبل منهم؛ لاشتراط الإسلام في كل عبادة؛ لأن الكافرين ليسوا في خير حتى وإن صاموا وجاعوا وعطشوا. في هذا الحديث: يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس إذا عجلوا الفطر فإنهم في خير مصاحبين له، والخير ملازم لهم، والفطر المراد به: القطر من الصيام، وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم "الفطر"، أي: ما يفطر به، فإذا عجلوا الفطر بأي شيء يفطر الصائم فهم لا يزالون بخير. يستفاد من الحديث أولًا: مشروعية الفطر؛ لأن ما رتب الفضل على صفة من صفاته فهو كذلك مشروع، لتعذر الوصف دون الأصل أو دون الموصوف، فهنا رتب الخير على تعجيل الفطر، إذن الفطر مشروع. ثانيًا: مشروعية تعجيل الفطر، ولكن متى يكون؟ يكون إذا تحقق غروب الشمس بالاتفاق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس"، فلا بد من تحققها، أو غلب على ظنه غروب الشمس، إذا غلب على ظنه عدم الغروب فلا يعجل، إذا شك وتردد لا يجوز، إذا علم عدم الغروب يحرم، فيحرم في ثلاث مسائل ويشرع في مسألتين: يحرم إذا علم عدم الغروب، إذا شك في الغروب، إذا ترجح عنده عدم الغروب، إذا علم عدم الغروب فالأمر واضح، إذا ظن عدم الغروب فكذلك أيضًا.

إذا شك فلماذا لا يجوز الفطر كما يجوز الأكل فيما إذا شك في طلوع الفجر؟ لأن هناك الأصل بقاء الليل، وهنا الأصل بقاء النهار، فلا يجوز مع الشك، يجوز إذا تيقن غروب الشمس، يعني: شاهدها غابت، وهذا واضح بدليل الكتاب والسُّنة: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187]. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم"، إذا غلب على ظنه جاز أن يفطر بل يشرع أن يفطر، ودليل ذلك حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: "أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس"، ووجه الدلالة من الحديث: أنهم لو تيقنوا غروبها ما طلعت، فدل هذا على أنهم عملوا بغلبة الظن، إذا كان الإنسان في حجرة ليس لها نوافذ وغلب على ظنه أن الشمس غابت، نقول: إن كان هناك قرينة فإنه يعمل بها، فإذا غلب على ظنه أفطر، وإن لم يكن قرينة ولكن إن تباطأ النهار فقط فإنه لا يفطر، والسبب في ذلك أنه قد يشتد جوعه فيتباطأ النهار، لكن إذا كان عنده عادة مثلًا أن من عادته أنه إذا صلى العصر وقرأ إلى غروب الشمس خمسة أجزاء وقرأها اليوم فله أن يفطر بغلبة الظن، العمل بالساعات يدخل في غلبة الظن أو في اليقين؟ غلبة الظن، لكن لا شك أنها مرجحة، وهل يحتاط الإنسان بالنسبة للساعة، يعني: قال: أخشى أن تكون مقدمة مثلًا؟ نعم، إذا كان يخشى فيحتاط. ومن فوائد الحديث: جواز تعجيل الفطر، وهو أن يكون الإنسان مصاحبًا للخير مقترنًا به، لقوله: "لا يزال الناس بخير". ومن فوائد الحديث: تفاضل الأعمال، ووجه ذلك: أنه رتب هذا الجزاء على تعجيل الفطر، ولولا أنه أفضل من تأخيره ما رتب الأفضل عليه، فيؤخذ منه: تفاضل الأعمال، وقد سبق لنا وجه التفاضل، وأنه من سبعة أوجه. من فوائد الحديث: أن تأخير الفطور سبب لحصول الشر، يؤخذ من المفهوم المنطوق أن المعجل في خير، فالمفهوم أن غير المعجل بشر. ونأخذ منه: أن من يؤخر الفطور من أهل البدع فهم في شر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطرة"، والمراد بالخير هنا: الخير الديني، ليس الخير الدنيوي، والخير الديني هو: ما يعود على القلب بالانشراح والنور. ومن فوائد الحديث: محبة الله عز وجل لمبادرة عباده بإتيان رخصه، كيف ذلك؟ لأن الله جعلهم في خير ما عجلوا الفطر، فأثابهم على ذلك، وهذا يدل على محبته لهم- سبحانه وتعالى- لأن الدلالة على الصفة تكون بالمطابقة أو بالتضمن وبالالتزام، فإذا كان الله يثيب على هذا فهو يحبه، وهذا في الحقيقة فرد من آلاف الأفراد المأخوذة من قوله سبحانه في الحديث

القدسي: "إن رحمتي سبقت غضبي"، فكل ما فيه خير للعباد ورحمة لهم فهو داخل في هذا الحديث القدسي، بل هو أيضًا دخل فيما جاء به القرآن: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. هل يؤخذ منه فائدة وهو: كراهة التنطع في الدين؟ نعم؛ لأن تعجيل الفطر ينافي التنطع، والمتنطع يقول: لا أفطر حتى يؤذن مؤذن الحي الذي أنا فيه، هذا متنطع، بعض الجهلاء يرى الشمس غابت بعينه ولكنه لا يفطر، لماذا؟ يقول: ما أذن، والعبرة بغروب الشمس وليست بالأذان. 628 - وللتِّرمذيِّ: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: أحبُّ عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا". هذا يسمى حديثًا قدسيًا، وهو ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، يرويه صلى الله عليه وسلم فيما يظهر- وهو أرجح القولين- بالمعنى، فاللفظ "ليس لفظ الله بل هو لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وصح أن ينسب إلى الله كما صح أن ينسب القول- أي: اللفظ - إلى فرعون وإلى صالح وإلى شعيب وإلى موسى وإلى غيرهم، فالله تعالى يقول: {قال موسى لقومه}، {وقال فرعون}، فهل هذا اللفظ الذي قال الله إن فرعون قاله هو لفظ فرعون؟ ليس إياه، وعلى هذا فنقول: إن القول بأن الحديث القدسي منقول بالمعنى أقرب إلى الصحة من القول بأنه منقول باللفظ، لو قلنا: إنه مقول باللفظ لكان هذا اللفظ الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم معجزًا؛ لأنه كلام الله، ولو قيل كذلك لقلنا: إذا اجتمعت أحاديث قدسية جمعت جميعًا وجب ألا تمسَّ إلا بطهارة، ولو قلنا بذلك أيضًا لكان الحديث القدسي أعلى سندًا من القرآن؛ لأن الحديث القدسي ينسبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله مباشرة، والقرآن إنما جاء بواسطة جبريل، ولهذا صارت رتبة الحديث القدسي بين الحديث النبوي والقرآن. قال الله عز وجل: "أحبُّ عبادي إلي أعجلهم فطرًا"، "أحب" هذه اسم تفضيل، وهي مبتدأ، و"أعجلهم أيضًا اسم تفضيل، وهي خبر المبتدأ. قوله: "أحب عبادي" المراد هنا بالعباد: الذين تعبدوا لله العبودية الخاصة، وهي أيضًا عبودية أخص؛ لأن المراد بهم: الصائمون بدليل قوله: "أعجلهم فطرًا". فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد منها: إثبات المحبة لله لقوله: "أحب عبادي إليّ"، وأن محبة الله تتفاوت لقوله: "أحب"، فالله تعالى يحب هذا العمل أكثر من محبة العمل الآخر، وهذا العامل أكثر من محبة العامل الآخر.

وفي هذا الحديث: رد على أهل التعطيل الذين نفوا إثبات المحبة لله، والناس فيها طرفان ووسط؛ طرف يقول: إن الله تعالى لا يجب ولا يحب، وطرف يقول: إن الله يحب ولا يحب، وطرف يقول: إن الله يجب ويحب، وهذا الأخير هو قول السلف وهو الصحيح. وهنا لم يكن خير الأقوال الوسط؛ لأن الوسط مذهب الأشاعرة ومن ذهب مذهبهم يقولون: إن الله يحب ولا يجب، لماذا؟ يقولون: لأن المحبة ميل الإنسان إلى ما ينفعه أو يدفع الضرر عنه، وهذا لا يليق بالله عز وجل، ولكن قولهم هذا قياس فاسد في مقابلة النص، فهو فاسد في ذاته، وفاسد لمصادمته النص، أما قولهم: إن الإنسان لا يحب إلا ما يلائمه مما يدفع عنه الضرر أو يجلب له الفع فهذا ليس بصحيح، فإن الإنسان قد يحب بعض المواشي، وبعض السيارات، يحب قلمه أكثر من الثاني ... إلخ، بدون أن يكون هناك ملاءمة، لا ملاءمة بين الإنسان والجماد. ثانيًا: نقول: هذه المحبة التي قلتم هي محبة المخلوق، أما الله صلى الله عليه وسلم فإن محبته ثابتة بدون أن يكون محتاجًا إلى من ينفعه أو يدفع الضرر عنه أو يلائمه؛ لأنه من شكله أولا يلائمه. ومن فوائد هذا الحديث القدسي أيضًا: أن الناس يتفاضلون في محبة الله لهم لقوله: "أحب عبادي إليَّ"، وما هي القاعدة العامة في فضل الناس عن غيرهم في محبة الله؟ أتبعهم لرسوله صلى الله عليه وسلم الدليل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]. والحكم إذا علِّق بوصف ازداد قوة بقوة ذلك الوصف. ومن فوائد الحديث استحباب المبادرة بالفطر لقوله: "أعجلهم فطرًا"، إذا قدِّر أنها غابت الشمس وأنت ليس عندك ما تفطر به، فماذا تصنع تنوي بقلبك، وقال بعض العامة: تمصُّ أصبعيك، وقال بعضهم: أدخل طرف الغترة في فمك ثم بله بالريق ثم أخرجه ثم رده ومصه- عملية-؛ لأنه إذا انفصل الريق ثم عاد صار مفطرًا، قالوا: ودليل ذلك أن الفقهاء يقولون: لو أنك تسوكت بمسواك ثم أخرجته وفيه ريق ثم أعدته إلى فمك ومصصته وبلعته فإنك تفطرة؛ لأن الريق لما انفصل صار له حكم الأجنبي، بناء على ذلك يقول: أدخل غترك في فمك ثم أخرجها ثم أعدها وامصصها، هؤلاء أفقه من الأولين، أما الأولون فلا حظَّ لهم في ذلك؛ لأن الأصبع ليس فيه شيء. القول الثاني: يكفي النية إذا لم تجد شيئًا. لو أنه أذَّن وأنت تتوضأ ماذا تفعل: هل تشرب أو تطلب التمر؟ الظاهر أنه إذا كان قريبًا فالتمر أفضل؛ لأن عين التمر-كما سيأتينا- أفضل من الماء. * * *

فضل السحور

فضل السُّحور: 629 - وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسحَّروا فإنَّ في السَّحور بركةً". متَّفقٌ عليه. قوله: "في السحور" هل هي السَّحور أو السُّحور؟ يحتمل أنه السَّحور، أي: ما يتسحر به، أو السحور الذي هو الأكل في آخر الليل، قوله صلى الله عليه وسلم: "تسحروا"، أي: كلوا السحور وهو الأكل في السَّحر، أي: في آخر الليل، والخطاب هنا موجَّه للصائمين، لأنهم هم الذين يتسحرون، أما غيرهم فإنهم لا يتسحرون بل يتغدون ويتعشون. وقوله: "فإن في السحور بركة"، هذا تعليل للأمر، وهو بيان أن في السُّحور بركة، والبركة كثرة الخير ودوامه، ومنه البركة: مجتمع الماء؛ لأن الماء فيها ثابت قار، ولأنه يكون كثيرًا، وقوله: "فإن في السحور بركة"، "بركة" بالنصب على أنها اسم "إن" مؤخرًا. من بركات السحور أولًا: امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "تسحروا"، وكل شيء تمتثل به أمر النبي بل أمر الله ورسوله فإنه بركة وخير، ولهذا جرب نفسك عندما تفعل العبادة وأنت تستحضر أنك تفعلها امتثالًا لأمر الله تجد فيها من اللذة والانشراح والطمأنينة والعاقبة الحسنة ما لا يوجد فيما إذا فعلتها على أنها مجرد شيء واجب. ومن بركته: أن فيه حفظًا لقوة النفس وقوة البدن؛ لأن النفس كلما نالت حظها من الأكل والشرب استراحت، وكذلك البدن كلما نال حظه من الأكل والشرب نما وبقيت قوته، ولهذا يكره أو يحرم للإنسان أن يصلي بحضرة طعام يشتهيه؛ لأن ذلك يوجب تشويش قلبه واشتغال ذهنه. ومن بركته: أن فيه عونًا على طاعة الله؛ لأنك تأكله لتستعين به على الصيام، وهذا لا شك أنه بركة. ومنها: أن البركة حسية ظاهرة، فإن الإنسان إذا كان مفطرًا يأكل في اليوم مرتين أو ثلاثة ويشرب مرارًا، وإذا تسحر وصام لا يأكل ولا مرة واحدة ولا يشرب ولا مرة واحدة، ولهذا يتعجب كيف أمس أشرب سبع مرات في اليوم والآن أصبر على الأكل، وهذا من بركته. ومن بركته: أن فيه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتسحر، ولا شك أن الفعل الذي تقتدي فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم خير وبركة. ومن بركته أيضًا: أن فيه الفصل بيننا وبين صيام أهل الكتاب، فإن فصل ما بيننا وبين أهل الكتاب-كما في صحيح مسلم-: أكلة السحور"، وهذا لا شك أنه من بركاته، فكل شيء يميز

المسلم من الكافر سواء في اللباس أو في الحلي أو في أي شيء فإنه خير وبركة؛ لأنه لا خير في موافقة المشركين أبدًا أو اليهود والنصارى في أي شيء، أما في العبادات فهذا قد يؤدي إلى الشرك والكفر، وأما في العادات؛ فلأن التشبه بهم في الأمور الظاهرة قد يوصل إلى التشبه في الأمور الباطنة، والغالب أنه ما من شخص يتشبه بإنسان إلا وهو يجد في نفسه إعجابًا به، وأنه أهل لأن يشتبه به ويقتدي به، أو ربما يكون في قلبه محبة له، وهذا شر مما قبله بالنسبة للكافرين، إذن هذه ستة أوجه كلها يشملها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإن في السحور بركة"، وربما يكون هناك بركات أخرى معنوية غير ظاهرة لنا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمر به وعلَّله بهذه العلة إلا لما فيه من منافع كثيرة للعباد. هذا الحديث كما نراه فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسحور، هذا الأمر هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ يرى بعض العلماء أنه للوجوب، وهذا على رأي من يرى أن الوصال حرام؛ لأنه إذا كان الوصال بين اليومين حرامًا فالأكل بينهما واجب، فإذا لم يأكل في الليل وجب أن يتسحر لئلا يواصل، ولكن جمهور أهل العلم على أن الأمر هنا للاستحباب. لو قلت: هل هذا الرأي يؤيده قوله: "فإن في السحور بركة"؟ فالجواب: أن كونه فيه بركة لا ينافي الوجوب، بل هذا ربما نقول: إنه يؤيد القول بالوجوب. ومن فوائد الحديث أيضًا: إثبات البركة في بعض الأطعمة؛ لقوله: "فإن في السحور بركة"، وإذا كان السحور بركة وهو طعام فقد يكون في الإنسان أيضًا بركة وذلك بأن يكون الإنسان مباركًا على من له اتصال به، كما في حديث أسيد بن حضير رضي الله عنه في قصة ضياع عقد عائشة رضي الله عنه حتى انحبس الناس على غير ماء، فانزل الله آية التيمم، قال أسيد: "ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكره"، وأمَّا من أنكر أن يكون في الإنسان بركة فهذا إن أراد بإنكاره إنكار أن يكون به بركة جسدية بمعنى: أن جسده مبارك فهذا حق؛ لأنه لا أحد يتبرَّك بجسده أو عرقه أو فضلاته إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يتبرك بفضل وضوئه وكذلك بريقه وعرقه وما أشبه ذلك، أما بوله وغائط، فالصحيح: أن نجس كغيره من البشر، وإن أراد في البركة نفي ما يحصل منه من خير وعلم ونفع مالي أو بدني فهذا غير صحيح، فإن من الناس من يكون فيه بركة على جليسه إما بعلمه أو بخلقه أو بماله أو بنفعه. بعلمه: كأن ينشر علمًا في الحاضرين فيستفيد الناس منه. هذه بركة، ولهذا وصف الله القرآن بأنه مبارك لما فيه من العلم والخير. وإما أن يكون فيه بركة بماله مثل: صادقات، هدايا، هابات، وما أشبه ذلك.

وإما أن يكون فيه بركة بنفعه مثل: أن يخدمك ويساعدك وما أشبه هذا. وإما أن يكون فيه بركة بخلقه: يكون الرجل على خلق حسن ويتعلم مصاحبه منه الأخلاق، وكم من أناس تعلَّموا حسن الأخلاق بمصاحبة من هم على خلق وهذا كثير، حتى إن الإنسان الذي عنده علم قد يصحب عاميًّا فيرى من حسن أخلاقه وبشاشته وطلاقة وجهه وكلامه اللين للناس ما يأخذ منه أسوة، كل هذه من البركات بلا شك. والحاصل: أن البركة تكون في المخلوقات، ولكن من الذي جعلها فيها؟ الله عز وجل. ومن فوائد الحديث أيضًا: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم، لكونه يقرن الحكم بالعلة في قوله: "فإن في السحور بركة"، والعلة تختلف قد تكون العلة مما يحث الإنسان على الفعل أو ينفره من الفعل، ففي هذا الحديث الغرض من العلة: الحث على الفعل، وفي قوله تعالى: {إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مفسوخا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145]. للتنفير منه، ومثل إلقاء النبي صلى الله عليه وسلم الروثة حين جاء بها ابن مسعود ليستنجي بها فألقاها الرسول وقال: "إنها ركس أو رجسه" للتنفير من ذلك. * وقد ذكرنا- فيما سبق- أن لتعليل الحكم ثلاث فوائد: الأولى: سمو الشريعة، ووجهه: أن الشريعة لا تأمر ولا تنهي إلا لحكمة. الثانية: القياس إذا وجدت العلة في الفرع المقيس؛ يعني: إمكان إلحاق غيره به. والثالثة: زيادة اطمئنان المكلف. استحباب الفطر على تهر أو ماء: 630 - وعن سلمان بن عامرٍ الضَّبِّيِّ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمرٍ، فإن لم يجد فليفطر على ماءٍ فإنَّه طهورٌ". رواه الخمسة، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان والحاكم. "سلمان" من أقل ما يكون ورودًا في أسماء الصحابة، ولكن يمكن حصرهم إذا رجعنا إلى مثل: كتاب "الإصابة"، قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أفطر" أي: أراد أن يفطر، "فليفطر على تمر"، والخطاب هنا "أحدكم" يعود إلى الصائمين، "فليفطر على تمر" ويحتمل أن يعود على الجميع ويكون "إذا أفطر أحدكم" إن صمتم، وقوله: "فليفطر على تمر"، الفاء هنا رابطة للجواب، واللام لام الأمر، قد يشكل كونها هنا ساكنة والمعروف أنها مكسورة، أما في قوله تعالى: {لينفق ذو سعةٍ من سعته} [الطلاق: 7]. فلماذا كانت ساكنة؟ تسكن لام الأمر إذا دخلت عليها الفاء أو الواو أو ثم، بخلاف

لام التعليل فإنها تكسر مطلقًا، ولهذا نقول: إن من قال: {ليكفروا بما ءاتيناهم وليتمتعوا ... } [العنكبوت: 66]. من سكن فهو خاطئ؛ لأن اللام للتعليل، فيجب أن تُكسر، أما في قوله تعالى: {فليمدد بسببٍ إلى السماء} [الحج: 15]. صح أن تسكن. وهنا يقول: "فليفطر" لأنها بعد الفاء. وقوله: "على تمر" التمر الظاهر لي أنه إن فرن مع الرطب صار المراد بالتمر الجاف الذي قد كمل استواؤه وبالرُّطب الرَّطب، أما إذا أطلق فالظاهر أنه يشمل الرطب والتمر الجاف، لكن قد دل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على أن الرطب مقدم على التمر إذا وجد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر على رطب، فإن لم يجد فعلى تمر، فإن لم يجد حسى حسوات من ماء. وقوله: "فإن لم يجد" هل التمر أو ثمن التمر؟ قد يجد التمر لكن ليس عنده الثمن، وقد يكون عنده الثمن لكن ليس في السوق شيء. "فإن لم يجد فليفطر على ماء"، ثم علل قال: "فإنه" أي: الماء "طهور"، وطهور بالفتح مطهر طاهر في ذاته، مطهر لغيرها كيف يصح أن يقال: طهور، فهل الإنسان نجس حتى يحتاج إلى أن يطهر معدته؟ لا، ولكنه طهور مطهر للمعدة والأمعاء مما قد يكون فيها من الأذى؛ لأن الماء-كما نعلم- جوهر سيال نافذ فإذا أتى على المعدة وهي خالية بعد الصيام فإنه بلا شك ينظفها، وهو وإن لم يكن فيه غذاء التمر لكن فيه التطهير للمعدة مما يكون من آثار الصوم، ولهذا المعدة في آخر النهار يفوح منها رائحة كريهة، وهذا الماء يطهرها ويزيل عنها هذه الرائحة وما لا نعلمه مما يكون داخلًا في قوله: "فإنه طهور". ففي هذا الحديث: الإشارة، بل الأمر بالإفطار على التمر، وهل هو واجب؟ لا، ليس بواجب، ولكن الأكمل والأفضل أن يكون على التمر، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد من فوائد الإفطار على التمر: أنه يقوي البصر وهو كذلك مجرَّب، ولهذا كان كثير من الناس يفطرون قبل كل شيء إذا قاموا من النوم بسبع تمرات، وكان شيخنا رحمه الله يقول: إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من تصبَّح بسبع تمرات من العجوة لم يصبه ذلك اليوم سم ولا سحر". كان يقول شيخنا: الظاهر أن هذا على سبيل التمثيل وأن التمر كله يحصل به الفائدة، وسواء كان هذا القول صوابًا أم غير صواب فإنه يرجى في الإفطار على سبع تمرات أن يكون فيه الخير، ويكون داخلًا في قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} [الأنعام]. فإذا لم تجد العجوة فهذا بدل منها، وعلى كل حال: فإن

الإفطار به يزيد البصر، ونحن تعلم جميعًا أن للحلوى تأثيرا على الدم وقوته ولا سيما إذا كان من التمر، وأظنكم قد علمتم أن الله تعالى هيأ لمريم عند نفاسها الرُّطب الجني؛ لأن النفساء قد يخرج منها دم كثير فتحتاج إلى تعويض، وهذا يدل على أن التمر من أحسن ما يعوض عن هذا الدم الذي سال منها عند الولادة، وأيضًا التمر أسهل من غيره مؤنة؛ لأنه لا يحتاج إلى تعب مثل الرز وغيره لكن التمر لا، ولهذا: "بيت فيه تمر لا يجوع أهله وبيت لا تمر فيه أهله جياع"، وأيضًا فيقول ابن القيم رحمه الله: إن التمر فيه حلوى وفيه غذاء، وهو فاكهة إذا كان رطبًا فقد جمع بين الفاكهة والحلوى والغذاء، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى. ومن فوائد الحديث: أنه إذا لم يجل التمر أفطر على ماء، إذا كان عنده ماء وخبز فعلى أيهما يفطر؟ على الماء أتباعا للسُّنة، إذا كان عنده ماء وحلوى يفطر على أي منهما؟ اختلف العلماء؛ منهم من قال: يقدم الحلوى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر التمر والحلوى تشاركه في الحلاوة، ويكون ذكر التمر هنا؛ لأنه أيسر ما يكون عند القوم، ومنهم من قال: نحن في هذه الأمور ينبغي أن نكون ظاهرية لا سيما وأن الرسول صلى الله عليه وسلم علل قال: "فإنه طهور"، ولم يعلل في التمر؛ لأن فائدته ظاهرة، لكن علل في الماء ترغيبًا فيه لئلا يقول قائل: ما فائدة الماء؟ فقال: إنه طهور، والذي يترجح عندي أن نقدم الماء، لكن يشرب من الماء بمقدار ما يحصل به الفطر ثم يأكل مما عنده. ومن فوائد الحديث: بيان فائدة الماء وتطهيره لبدن الصائم إذا أفطر عليه؛ لقوله: "فإنه طهور". ومن فوائده أيضًا: تعليل الأحكام الشرعية لقوله: "فإنه طهور"، وحسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قرن الحكم بالعلة. ومنها أيضًا: اتخاذ ما يعين على امتثال الأمر، يعني: التشجيع على فعل الأمر والإغراء به، من أين يؤخذ؟ من قوله: "فإنه طهور"؛ لأن هذه العلة تبعث النفس على أن تفطر على ماء وإلا فقد يقول قائل-كما أسلفت قريبًا-: ما فائدة الماء؟ فتأخذ منه التشجيع على فعل الأمر، وأن هذا لا يدخل في باب الرياء، وبناء على ذلك يكون تشجيع حفظة القرآن بالمال أو بالكتب أو بغيرها مما يفرحون به ويشجعهم أمر له أصل في الشرع كما أن له أصلًا في الشرع من جهة سلب القاتل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل لمن قتل قتيلًا من الكفار له سلبه، يعني: ثيابه وما عليه خاصة به، وهذا بلا شك تشجيع، وكذلك جعل لكل من دل على حصن من حصون الكفار أو

النهي عن الوصال

على ثغر من ثغورهم أو من الأشياء المهمة في قواسم قتالهم جعل النبي صلى الله عليه وسلم مكافأة، وهذا يدل على أن المكافأة على الأعمال الصالحة لا يعد من الرياء، ولا يعد من باب إفساد نيات الناس؛ لأن بعض الناس قال: لا تعطي حافظ القرآن جائزة، ولا تعطه مكافأة؛ لأن هذا يؤدي إلى إفساد النيات فيقال: لا، أنا ما قلت: اعملوا لهذا السبب، وربما يكون هذا الرجل ما طرأ على باله أن يحصل على الجائزة، إنما همه أن يفعل الخير فقط. النهي عن الوصال: 631 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقال رجلٌ من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله قال: وأيكم مثلي؟ إنِّي أبيت يطعمني ربِّي ويسقيني، فلمَّا أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يومًا، ثمَّ يومًا، ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم، كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا". متفقٌ عليه. "النهي" هو طلب الكف على وجه الاستعلاء، والمراد بقولنا: "على وجه الاستعلاء" ليس معناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتصور نفسه عاليًا على غيره، لا، فهو من أشد الناس تواضعًا، لكن يتصور الآمر أن المأمور مطيع له هذا معنى الاستعلاء، وأنه يوجه الأمر إليه. "الوصال" مصدر واصل يواصل كقاتل يقاتل قتالًا، واصل يواصل وصالا ويصلح مواصلة كمقاتلة، فما هو الوصال؟ الوصال لغة: وصل الشيء بالشيء، وفي الشرع: وصل يوم بآخر في الصيام، فقال رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله؟ يعني: تصل يومًا بيوم وكيف تنهى عن ذلك؟ وهل يليق أن يفعل الرجل ما ينهى عنه؟ لا، ويحتمل أن يكون السائل أراد معرفة الحكمة في كون الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن الوصال وهو يواصل، وأيا كأن فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أجابه بجواب يتبين به الفرق، فقال: "وأيكم مثلي؟ " الاستفهام هنا للنفي، يعني: لستم مثلي في الصبر والتحمل وما يحصل لي من الاستغناء عن الأكل والشرب. قال: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني"، أبيت البيات هو النوم ليلًا، وقوله: "يطعمني ربي ويسقيني" هذه ليست كقول إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-: {والذى هو يطعمني ويسقين} [الشعراء: 79]؛ لأن المراد بذلك في قول إبراهيم: الطعام الحسي والسقي الحسي، هنا يطعمني ويسقيني ليس المراد بهما: الطعام الحسي والسقي الحسي، إذ لو كان كذلك لم يكن مواصلا، ولم يكن بينه وبين الناس فرق، لكن المراد: طعام وسقي غير الطعام والسقي المعهود، فما هو؟ قيل: إنه طعام من الجنة، وإن الطعام والسقي من الجنة ليس كطعام الدنيا، فهو لا يفطر

الصائم ولو كان طعامًا وسقيًا، وحينئذٍ يلغز بها فيقال: لنا طعام وشراب لا يفطر، ولكن هذا فيه نظرا لأن الطعام والشراب في الآخرة لا يكون إلا بعد دخول الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يأخذ عنقودًا من الجنة في صلاة الكسوف ولكنه بدا له ألا يفعل فتركه. والقول الثاني في المسألة: أن المراد بالطعام والسقي هنا: ما يحصل للقلب من الغذاء بذكر الله عز وجل والاشتغال بذكره عما سواه، واشتغال الروح وتعلقها بالشيء لا شك أنه يشغلها عن حاجات البدن المادية الحسية، نحن الآن لو فرض أن نشتغل بشغل شاغل حقيقي لكنا نذهل عن الأكل والشرب، فهو في غفلة عن الطعام والشراب الحسي، فيكون المراد بالطعام والسقي هنا: ما يفرغه الله عز وجل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنس بذكره والاشتغال به عما عداه، وهذه خاصية لا توجد لأحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين أمته، فإن أمته لا تطيق أن تشتغل بذكر الله عز وجل عن الأكل والشرب، قالوا: منه قول الشاعر: [البسيط] لها أحاديث من ذكراك تشعلها ... عن الشَّراب وتلهيها عن الزَّاد هذا اشتغال ذهنها بذكر محبوبها مع أنه ليس تعلق هذه المرأة بمحبوبها كتعلق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل، بل محبة الرسول لله صلى الله عليه وسلم واشتغال قلبه به لا يدانيها أي محبة، وهذا هو الذي يميل إليه ابن القيم رحمه الله وهو الحق. قال: "فلما أبوا أن ينتهوا"، "أبوا" يعني: امتنعوا، لا عصيانًا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم أشد الناس امتثالا لأمره، لكنهم-رضي الله عنهم- ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم إشفاقا عليهم وخوفا عليهم من التعب، وأنه ليس هذا من باب الأمور التعبدية، ولكن من باب الخوف عليهم، فقالوا: نحن نطيق ذلك وسنفعل، ونظير هذا لو أنني طلبت منك مثلًا أن تدخل الباب قبلي وأبيت، هل تكون عاصيًا لي؟ لا، لأنك ما قصدت المعصية، لكن قصدت الأدب معي، هكذا الصحابة أيضًا ما قصدوا المعصية بلا شك، لكن ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك إشفاقا عليهم ورحمة بهم لا لأجل أن هذا من باب العبادة فقالوا: نواصل فواصل بهم يومًا ثم يوما ثم رأوا الهلال، وإذا رأوا الهلال لا يمكن الوصال، أي هلال رأوه؟ شوال، فقال: "لو تأخر الهلال لزدتكم يومًا ثالثًا ورابعًا"، لماذا؟ قال الراوي: "كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا". "كالمنكل" يعني: كالذي يدعوهم إلى الترك، فالتنكيل هنا بمعنى: الترك، يعني: أنه أراد أن يواصل لو تأخر الهلال لأجل أن ينفروا عن هذا الفعل فيعرفوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما نهاهم إلا من

أجل الرحمة والإشفاق، ولا شك أن التيسير في هذا الباب هو الذي يحبه الله، ولهذا قال الله تعالى في آيات الصيام: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. فإذا كان اليسر يحبه الله لنا في هذه العبادة فلا ريب أن اليسر فيه في الإفطار وإعطاء النفس حظها من الطعام والشراب والنكاح. في هذا الحديث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الوصال، فالصحابة أوردوا على النبي صلى الله عليه وسلم إشكالا في أنه يواصل وهو ينهى عن الوصال، فبيَّن صلى الله عليه وسلم الفرق وأنه يواصل؛ لأن قلبه مشغول بذكر الله تعالى ومحبته عن الحاجة إلى الأكل والشرب، وأن هذا أمر لا يتسنى لغيره فظهر الفرق، ثم إنهم-رضي الله عنهم- لم يتركوا الوصال ظنا منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذلك الإشفاق عليهم لا أن ذلك من التعبد، فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومًا ويومًا ليتبين لهم الحكمة من النهي عن الوصال، وقال: "لو تأخر الهلال لزدتكم". فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: النهي عن الوصال، وهل النهي للتحريم أو للكراهة أو للإرشاد؟ على خلاف بين العلماء: منهم من قال: إن النهي للتحريم، واستدل بأمرين: الأمر الأول: أنه الأصل في النهي لقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليمٌ} [النور: 63]. والنهي أمر بالاجتناب، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه"، فيكون النهي للتحريم. والأمر الثاني الذي استدلوا به: أنه واصل بهم يومًا فيومًا للتنكيل، والتنكيل نوع من العقوبة، ولا عقوبة إلا على فعل محرَّم وإلا لما عوقب. وقال آخرون: إن النهي للكراهة؛ لأنه لو كان للتحريم لم يواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لهم في الاستمرار، بمعنى: أنه لو كان للتحريم لنهاهم عنه نهيا باتًّا، إذ إن تمكين المنهي من فعل المحرم لا يجوز، فقالوا: إذن هذا النهي للكراهة، أما القائلون بأنه للإرشاد، وأن الإنسان حسب قوته فاستدلوا لذلك بفعل كثير من الصحابة-رضي الله عنهم- للوصال حتى كان ابن الزبير رضي الله عنه يواصل خمسة عشر يومًا لا يفطر فيها، فقالوا: إن فعل الصحابة- رضي الله عنهم- وهم عدد من الصحابة يدل على أنهم فهموا منه أن النهى للإرشاد، وأن الإنسان إذا كان يرى من نفسه التعب والمشقة فإن لا يواصل، أما إذا كان يرى الراحة والانشراح فإنه يواصل. فإن قلت: ما هو أقرب الأقوال إلى الصواب؟ فالأقرب أنه للكراهة على الأقل، والقول بالتحريم قوي للسببين المذكورين في صدر الكلام.

أما الرد على من قالوا: إنه أذن لهم في الاستمرار، فنقول: إن هذا الإذن لا يدل على جوازه؛ لأنه أراد التنكيل بهم لا إقرارهم عليه لأجل أن يعرفوا هم بأنفسهم الحكمة من النهي. وأما الرد على من قال: إنه للإرشاد، فنقول: إن هذا فهمهم، وفهمهم ليس حجة على غيرهم؛ لأن لدينا كلامًا للرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الصحابة-رضي الله عنهم- لا يدعون شيئًا يحتاج إلى سؤال إلا سألوا عنه، وهذا أحد الطرق الذي كمل به الدين والحمد لله. الدين كمّل بالقرآن وبالسُّنة القولية والفعلية والإقرارية حتى إذا جاء شيء لم يأت به الكتاب والسُّنة مثلًا قيض الله له من يسأل عنه إما من الصحابة الذين في المدينة، وإما من الأعراب، ولهذا كان الصحابة يفرحون إذا جاء الأعرابي يسأل؛ لأن الأعرابي على فطرته يسأل عن كل شيء، فالحاصل: أن هذا فيه دليل على أن الصحابة-رضي الله عنهم-. لم يدّعوا شيئا يحتاج الناس إليه إلا سألوا عنه، ولهذا لما نهى عن الوصال أوردوا عليه كونه يواصل. غرضي بهذه الفائدة ما يترتب عليها من الأمر العظيم وهو إبطال ما كان عليه أهل الكلام من الإيرادات الباطلة التي يريدون أن يتوصلوا بها إلى تعطيل أسماء الله وصفاته في قولهم: لو كان كذا لزم كذا وما أشبه ذلك من الأشياء التي يقولونها يتوصلون بها إلى إبطال ما وصف الله به نفسه أو سمى به نفسه، فيقال لهم: أين الصحابة عن هذه الإيرادات التي أوردتموها هل لم يفهموها أم ماذا؟ ! ومن فوائد الحديث: إثبات الخصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى قد يخصه بأحكام دون الأمة وهو كذلك، وقد ذكر أهل العلم خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب النكاح- أعني: الفقهاء-؛ لأن له في النكاح خصائص كثيرة فذكروها هناك، وقالوا: إن الرسول خص بأحكام واجبة وهي ليست واجبة على غيره، محظورة عليه وهي ليست محظورة على غيره، مباحة له وهي ليست مباحة لغيره، منها الوصال فهو في حقه ليس بمكروم، وفي حق غيره مكروه. ومن فوائد الحديث: إن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت في حق الأمة إلا بدليل، وجهه: أنه لما نهى عن الوصال قالوا: إنك تواصل، وإذا كنت تواصل فلتكن نحن نواصل لأنك أسوتنا، وهذه قاعدة دل عليها آيات كثيرة من القرآن مثل قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]. فهو أسوتنا وقدوتنا وإمامنا، وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر}. [الأحزاب: 21]. فإذن الأصل فيما فعل أنه له وللأمة إلا بدليل، والأصل فيما قال: إنه له وللأمة إلا بدليل، وبهذا نرد على قاعدة ذكرها الشوكاني رحمه الله وهي غريبة منه مع إمامته وجلالته- وهي: أن الرسول إذا ذكر قولا عامًا وفعل فعلًا يخالف عمومه حمل الفعل على الخصوصية! وهذا لا شك أنه خطأ؛ لأن قول الرسول

حكمة مشروعية الصيام

سنة وفعله سنة، وإذا كان كذلك وأمكن الجمع بينهما كان ذلك هو الواجب حتى لا نجعل فعله مخالفًا لقوله، فلا يمكن أن نرجع أو أن يصار إلى الخصوصية إلا بدليل، وإذا أمكن الجمع فهو الواجب. ومن فوائد الحديث أيضًا: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم. حكمة مشروعية الصيام: 632 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزُّور والعمل به والجهل، فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه". رواه البخاريُّ، وأبو داود واللَّفظ له. هذا الحديث-كما تشاهدون- بدأ بجملة شرطية: "من لم يدع قول الزور"، وهنا توارد على الفعل جازمان "من"، و"لم" كما في قوله تعالى: {فإن لم تفعلوا} [البقرة: 24]. فورد عليه جازمان، فأيهما يعمل؟ العامل في اللفظ هو الثاني المباشر، والأول عامل في المحل، وعليه ف"يدع" هنا مجزوم بـ"لم". وقوله: "فليس لله حاجة" الجملة جواب الشرط، واقترنت بالفاء لأنها فعل جامد، ما هو الفعل الجامد؟ ما ليس مشتق، وقوله: "فليس لله حاجة" بالرفع؛ لأنها اسم ليس مؤخر. وقوله: "في أن يدع" هذه فعل مضارع ماضيها ودعه ومصدرها ودع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات". و"يدع" بمعنى: يترك طعامه وشرابه ... إلخ، قوله: "من لم يدع قول الزور" أي: من لم يترك قول الزور، وقول الزُّور: كل قول مائل عن الحق؛ لأن الزور مأخوذة من الازورار وهو: الانحراف، فالشتم قول زور، والغيبة قول زور، والقذف قول زور، والكذب قول زور، كل شيء مائل عن الحق من الأقوال فهو داخل في قول الزور، وهل يدخل في ذلك شهادة الزور؟ نعم من باب أولى. ثانيًا: "العمل به" يعني: ومن لم يلع العمل بالزور، والعمل بالزور هو: العمل بكل قول محرّم كما قلنا في قول الزور، مثل: الغش في البيع والشراء، وكالنظر المحرم، كالاستماع إلى الأغاني المحرمة، وما أشبه ذلك، وكمشاهدة المشاهدات المحرمة، كل هذه من العمل بالزور. وقوله: "الجهل" المراد به: السفه، وليس المراد به: عدم العلم؛ لأن عدم العلم لا يقال: تركه، أو لم يتركه، لكن المراد: السفه، والسفه: هو القول الذي ينسب قائله إلى خلاف الرشد، وإن لم يكن محرمًا كالكلمات النابية عرفا تعتبر من السفه أو من الجهل

هل تبطل الغيبة الصيام؟

الذي لا يدع هذه الأمور الثلاثة- وهنا يقول: والجهل، بالنصب معطوفة على "قول الزور" "فليس لله حاجة"، الحاجة هنا بمعنى: الإرادة، أي: فليس لله إرادة في كذا وكذا، يعني: أن الله ما أراد من الصائم أن يمتنع عن الأكل والشرب فقط والنكاح، وإنما أراد أن يدع، هذه الأمور هذه هي الحكمة الشرعية من وجوب الصوم، ويدل لذلك قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183]. هذه هي الحكمة من الصوم، ولهذا لو أننا أخذنا بهذه الحكمة في نهار رمضان ما خرج رمضان إلا وقد تغير الإنسان في عبادته لله وفي سلوكه مع عباد الله، فهو يدع قول الزور والعمل بالزور والسفه. إذن لا يخرج رمضان-ثلاثون يومًا- إلا وقد تكيف بهذه العادات الفاضلة، وهي: ترك الزور قولًا وفعلًا، وترك السفه، لكن نحن نشاهد كثيرًا من المسلمين أو أكثرهم يدخل رمضان ويخرج لا يتأثرون به؛ لماذا؟ لأنهم لم يحافظوا على ما أرشد الله إليه ورسوله في ملازمة التقوى وترك الزور قولًا وفعلًا وترك السفه. وقوله: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" نص عليه: لأن الطعام والشراب لازم لكل صائم، أما النكاح الذي أشار الله إليه في قوله: {بشروهن} [البقرة: 187]. فهو يختص به من كان ذا زوج، وأما من ليس بذي زوج فإنه يدع الطعام والشراب. من فوائد الحديث: بيان الحكمة من الصوم وهي اجتناب هذه الأشياء الثلاثة قول الزور والعمل به والسفه. فيستفاد منه فوائد منها: الحكمة من الصوم وأن من أعظم حكمه مع كونه عبادة أن يتجنب الإنسان حال صومه هذه الأمور الثلاثة. هل يدخل فيها ترك الواجب؟ يدخل فيها ترك الواجب؛ لأن ترك الواجب من الزور، فيدخل في أنه يجب أن نتجنب هذا. هل تبطل الغيبة الصيام؟ ويستفاد من الحديث: أن لهذه الأشياء الثلاثة أثرا بالغًا في الصوم لقوله: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، لكن هل تبطل الصوم؟ جمهور أهل العلم على أنها لا تبطل على أنها تحرم، ويزداد تحريمها حال الصوم، لكنها لا تبطل الصوم، إنما ربما تكون آثامها مكافئة لأجور الصوم، وحينئذٍ يبطل الصوم من حيث الأجر لا من حيث الإجزاء. قال الإمام أحمد وقد ذكر له عن بعض السلف أن الغيبة تفطر-: لو كانت الغيبة تفطر لم يبق لنا صوم، وهذا صحيح، لو قلنا: إن الإنسان إذا اغتاب رجلًا فهو كما لو أكل تمرة لكان لا يبقى أحد صحيح الصوم إلا نادرًا؛ لأن كثيرًا من الناس اليوم- نسأل الله لنا ولهم الهداية- لا

يبالون بغيبة الناس، ولأن القاعدة عند عامة الفقهاء: أن التحريم إذا كان عامًّا فإنه لا يبطل العبادة بخلاف الخاص المحرم لخصوص العبادة يبطلها، وهذه قاعدة مرت علينا في قواعد ابن رجب، على أن التحريم إذا كان عامًا-لا يختص بالعبادة- فإنه لا يبطلها، فمثلًا الغيبة والنميمة والكذب والغش وما أشبه ذلك تحريمه عام ما حرم من أجل الصوم، فلما كان تحريمه عامًا صار لا يبطل الصوم، أما ما حرم من أجل الصوم فإنه يفسد الصوم، ولذلك لو أكل أو شرب فسد صومه؛ لأنه محرم لخصوص الصوم وهذه قاعدة نافعة، لو أن أحدًا لبس عمامة من حرير هل تبطل صلاته؟ لا؛ لماذا؟ لأن النهي عام وهو آثم. على كل حال: ولو لبس ثوبًا من حرير تجزئ صلاته على خلاف فيها، الذين قالوا: تجزئ قالوا: لأن التحريم هنا عام في الصلاة وغيرها فلا يبطلها، والذين قالوا: إنها لا تجزئة ولا تصح، قالوا: لأن التحريم متعلق بما هو شرط للعبادة وهو الستر، والثوب هو الساتر، فصار وجوده كالعدم فأبطل الصلاة. المهم: أن هذه الأشياء التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم تنافي الحكمة الشرعية، لكن لا تبطل الصوم؛ لأن تحريمها ليس خاصًّا به. ومن فوائد الحديث: إثبات الحاجة لله، ولكن الحاجة إن أريد بها الاحتياج فهذا منفي عن الله لأن الله-سبحانه وتعالى- يقول: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} آل عمران: 97]. فهو سبحانه غني عن كل أحد، وكل أحد لا يستغني عن الله، أما إذا أريد بالحاجة الإرادة فهذه جائزة؛ فإن الله تعالى بريد من عباده في شرع الصوم أن يتجنبوا هذه الأشياء المحرمة، وأما القسم الأول فممنوع، نظير ذلك الأسف هل هو ثابت لله أو منفي عنه؟ إن أريد بالأسف الغضب فهو ثابت لله، وإن أريد بالأسف الحزن على ما مضى فليس بثابت لله، قال الله تعالى: {فلما ءاسفونا انتقمنا منه}. قال المفسرون: معناها أغضبونا، وليس المعنى: {ءاسفونا} ألحقوا بنا الأسف الذي هو الندم والحزن على ما مضى؛ لأن هذا أمر ممتنع في حق الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: إثبات الحكمة من الشرائع، لقوله: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، ولكن يريد الله منا أن ندع قول الزور والعمل به والجهل. لو قال قائل: هل في الصيام فوائد غير تلك؟ قلنا: نعم، فيه فوائد ولنذكر منها ما تيسر: منها: معرفة الإنسان قدر نعمة الله عليه في تيسير الأكل والشرب والنكاح إذا كان متزوجا، وجه ذلك: أن الإنسان لا يعرف قدر النعمة إلا بضدها كما قيل: "وبضدها تتبين الأشياء". ومنها: أن الإنسان يذكر أخاه الفقير الذي لا يقدر على الأكل والشرب فيرحمه ويتصدق عليه.

حكم القبلة للصائم

ومنها أيضًا: كسر النفس عن الأشر والبطر؛ لأن الإنسان إذا فقد الأكل والشرب وذاق ألم الجوع والعطش فإن نفسه التي تعلو في غلوائها تحبط وتعرف أنها في ضرورة إلى ربها عز وجل فتنكسر حدة النفس. ومنها أيضًا: أنه يضيق مجاري الشيطان، وهي مجاري الدم، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإذا ضاقت المجاري عليه قل سلوكه لها. ومنها أيضًا: أنه يذيب الفضلات التي في الجسم، فإن الجسم مع كثرة الأكل والشرب قد يكون فيه فضلات كثيرة متحجرة ورواسب، فإذا صام فإن الجسم يضمر حتى تخرج هذه الفضلات والرواسب. ومنها أيضًا: أنه يحمل المرء على التقوى والعبادة، ولهذا نرى الناس في رمضان يكثرون من العبادة أكثر منها في غير رمضان. ومنها: أنه يساعد الشاب على تحمل الصبر عن النكاح؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم". ومنها: إتمام أنواع العبادة؛ لأن التكليف الذي كلف الله به عباده إما بذل محبوب أو كف عن محبوب أو تعب البدن، بذل المحبوب كالمال في الزكاة، والكف عن المحبوب كالصيام، وإجهاد النفس بالعمل كالصلاة والحج والجهاد وما أشبه ذلك. حكم القبلة للصائم: 633 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل وهو صائمٌ، ويباشر وهو صائمٌ، ولكنه أملككم لإربه". متَّفقٌ عليه، واللَّفظ لمسلمٍ. - وزاد في روايةٍ: "في رمضان". قولها: "يقبِّل" يعني: يقبل أهله وزوجته وهو صائم، والتقبيل معروف، وجملة "وهو صائم" في موضع نصب على الحال، وهو عام لصيام الفرض والنفل. "ويباشر وهو صائم" المباشرة أخص من التقبيل، وعرفها بعضهم: بأنها الجماع بما دون الفرج، وقولها: "وهو صائم" أيضًا الجملة في موضع نصب على الحال. قالت: "ولكنه أملككم لإربه" يقال: إربه وأربه، الأرب: الحاجة، والإرب: العضو، يعني عضو النكاح، والمعنى واحد، يعني: أربه وإربه كلاهما يؤدي إلى شيء واحد، وهو أنه يملك حاجته وهي الجماع في هذا الموضع، فهو- عليه الصلاة والسلام- يملك حاجته.

قال: وزاد في رواية: "في رمضان"، وعلى هذا يكون قولها: "وهو صائم" الذي ذكرنا قبل قليل أنه يعم الفرض والنفل، يكون هذا الحديث في الفرض لكن إذا جاز في الفرض ففي غيره من باب أولى. ففي هذا الحديث تخبر عائشة رضي الله عنها عن أمر خفي لا يطلع عليه إلا أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من جملة الفوائد التي أشرنا إليها فيما سبق في تعدد أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينقلن للناس ما لا يطلع عليه إلا هن، فهي هنا أخبرت أنه يقبِّل وهو صائم، والتقبيل كما نعرف لا بد أنه يحرك الشهوة، اللهم إلا من رجل ميت الشهوة ضعيف فيها جدًّا فهذا لا تتحرك شهوته، أما رجل فيه شيء للنساء فإنه لا بد أن تحرك القبلة شهوته إذا قبَّل زوجته، وكذلك أيضًا إذا أخذ يباشر وهو أعظم من التقبيل، لأن المباشرة هنا الجماع فيما دون الفرج وهو أشد من التقبيل إثارة للشهوة. قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض". فهذا الحديث يفسر الحديث الذي نحن بصدده، ولكن هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينزل؟ قولها: "ولكنه كان أملككم لإربه" يدل على أنه لا ينزل، وأنه يملك نفسه بحيث لا يخرج منه شيء بهذا التقبيل وهذه المباشرة، وهذه الجملة أرادت رضي الله عنها ألا يتصرف الناس كتصرف النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانوا لا يملكون أنفسهم؛ لأن الجملة التعليلية لا بد أن يكون لها أثرها، فإذا كان الإنسان لا يملك إربه ويخشى على نفسه أن يجامع أو أن ينزل فإنه يجب عليه أن يتوقف ولا يجوز له أن يفعل ذلك؛ لأنه يعرض صيامه للخطر إلا إذا كان الصيام نفلًا، فإن صيام النفل يجوز للإنسان أن يقطعه تعمدًا، أو إذا كان الصيام فرضًا في حال لا يلزمه الصيام فيها، فإذا كان فرضًا في حال لا يلزمه الصيام فيها فله أن يفعل، كما لو كان في سفر، فإن المسافر له أن يفطر في نهار رمضان، فله أن يباشر وأن يقبِّل وأن يجامع وأن يأكل ويشرب ولا حرج عليه؛ لأنه أبيح له أن يفعل. استفدنا من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: جواز الحديث عما يستحيا منه في إظهار الحق لفعل عائشة رضي الله عنها حيث تكلمت بأمر يستحيا منه، فإن المرأة تستحيي من هذا، لا سيما إذا كانت تريد نفسها كما تدل عليه الرواية الأخرى أنه يقبِّلها هي رضي الله عنها، لكن في بيان الحق لا ينبغي أن يستحيي الإنسان من أي شيء، ولهذا قالت أم سليم لما سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن المرأة تحتلم قالت مقدمة لسؤالها: إن الله لا يستحيي من الحق .. إلخ، والاستحياء من الحق لا

يمدح بل يذم؛ لأنه خور وجبن من الإنسان المستحيي، وأنت أيضًا إذا استحييت من الحق فمعناه: أنك فوَّت القول بالحق أو فوَّت فعل الحق. ومن فوائد الحديث: جواز التقبيل للصائم، كيف ذلك؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم. فإن قلت: الرسول صلى الله عليه وسلم عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فالجواب: أن هذا أورد على النبي صلى الله عليه وسلم أورده عليه عمر بن أبي سلمة حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم، فقال: "سل هذه"، فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، فقال: يا رسول الله إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أعلم الناس بالله وأتقاهم لله وأخشاهم له. إذن هذا الإيراد أجاب عنه الرسول صلى الله عليه وسلم نقول: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر} [الأحزاب: 21]. وهل يستحب أن يقبل وهو صائم أو يباشر وهو صائم؟ لا، لكن بعض العلماء كابن حزم رحمه الله قال: إنه يستحب للإنسان أن يقبل وهو صائم؛ لأنه يؤجر على ذلك، وأن يباشر وهو صائم ويؤجر على ذلك، ولكن هذا قول ضعيف جدًا؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا على سبيل التقرب والتعبد، لكنه بمقتضى الجبلة والطبيعة، وما كان كذلك فإنه لا يقال: إنه مستحب، لكن فعله في الصيام يدل على الجواز، نعم لو فرض أن الإنسان فعله ليبين جوازه فهذا قد يقال: إنه يؤجر لا من أجل التقبيل أو المباشرة، ولكن من أجل بيان السنة وتثبيتها؛ لأن الناس قد يقبلون السُّنة بالفعل أكثر مما يقبلونها بالقول، فإذا كان مثلًا رجل عنده ابنه وهو شاب، والأب شيخ كبير قبل زوجته وأبوه يشهده فأخذ الخشبة ليضر به بها، وقال: هذا حرام كيف تقبل امرأتك؟ فعاد مرة أخرى ليبين له الجواز يؤجر بهذا؛ لأنه يريد إظهار السُّنة، ولاشك أن إظهار السُّنة لا سيما في مثل الأمر الذي يستعظمه العامة- وهو ليس بعظيم- لا شك، ولا نقول: يطلب للصائم أن يقبل زوجته كما يطلب له أن يدعو الله ويذكر الله ويقرأ القرآن وما أشبه ذلك. وفيه دليل أيضًا على أنه لا فرق بين الشاب والشيخ، والدليل: أننا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مما حبَّب إليه النساء، وكان أعطي قوة ثلاثين رجلًا، ولاشك أنه يشتهي النساء، ومع

ذلك يقبل وهو صائم، فلا فرق بين الشاب والشيخ، وأما ما رواه أبو داود في التفريق بينهما فضعيف لا تقوم به حجة. ويستفاد من الحديث: أن من لا يملك نفسه فلا يفعل هذا الفعل لقولها: "وكان أملككم لإربه"، فمن لا يملك نفسه بمعنى: أنه يخشى إن باشر ألاَّ يملك نفسه فيجامع، فإنا نقول: لا تفعل من باب سد الذرائع، والناس يختلفون في قوة الإيمان، وفي قوة ملك النفس، فإن بعض الناس قد يمنعه إيمانه من تجاوز الحلال إلى الحرام، وبعض الناس يمنعه أيضًا ملكه نفسه- وإن كان ليس قوي الإيمان- لكن الممنوع أن يأتي ذلك رجل لا يستطيع أن يملك نفسه عن فعل الشيء المحرم، على كل حال الناس يختلفون. ويستفاد من هذا الحديث كما أستفاده بعضهم: أنه لو أنزل لم يفسد صومه، وجه الدلالة: قال: لأن المباشر عند أكثر الناس سبب للإنزال، واحتج وقال: إنكم تقولون: إذا قبَّل فقط أو باشر فقط بدون إنزال لم يفسد صومه، وإذا أنزل بدون التقبيل ولا مباشرة لم يفسد صومه، يعني: كما لو فكر وأنزل فإنه لا يفسد صومه، فما الذي جعلهما مجتمعين يفسدان الصوم؟ يعني: إذا حصل تقبيل وإنزال أو مباشرة وإنزال فسد هذا تقرير مذهبه، فماذا تقولون؟ نقول: يرتفع الحكم بالإنزال بلا مباشرة بأنه حديث نفس، وقد عفا الله عن حديث النفس، ويرتفع الحكم بالنسبة للمباشرة المجردة بهذا الحديث، ونحن نقول: إذا أنزل بفعله فإن صومه يفسد؛ لأن قول عائشة رضي الله عنها: "كان أملككم لإربه" يشير إلى هذا. ثانيًا: لاشك أن الإنزال شهوة، وفي الحديث الصحيح في ثواب الصيام: "يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي"، والمني شهوة بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: نعم، أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"، والذي يوضع هو المني، فهذا أيضًا يدل على أن الإنزال بالمباشرة أو التقبيل مفطر، ونحن قد نلتزم بأنه بالتفكير يفطر الإنزال، لكن عندنا حديث: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم"؛ لأنه لولا هذا الحديث لقلنا: إذا أنزل بالتفكير أفطر.

حكم الحجامة للصائم؟

ثالثًا: أن بعض العلماء حكى الإجماع على أن الإنزال بالمباشرة والتقبيل يفطر، ففي الحاوي للشافعية نقل الإجماع على أنه يفطر، والموفق في المغني قال: لا نعلم فيه خلافًا، والمذاهب الأربعة كلها متَّفقٌة على أن الإنزال بالمباشرة والتقبيل مفطر، فالصواب عندي: أن الإنزال بالمباشرة والتقبيل مفطر للصائم، والجواب عما أورد سمعتموه. مسألة: هل الإمذاء يفطر؟ لا يفطر، لا شك في هذا خلافًا للمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، والصواب: أنه لا يفطر للفرق العظيم بينه وبين الإنزال فإن بينهما فروقًا كثيرة، ولا يمكن إلحاق المذي بالمني لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الأثر على الجسم ولا من ناحية الأحكام المترتبة على ذلك. فالحاصل: أن لدينا الآن: مباشرة وتقبيل بدون إنزال ولا مذي لا يفسدان الصوم قولًا واحدًا في المذهب، المباشرة والتقبيل مع الإمذاء الصحيح لا يفسدان الصوم، مع الإنزال يفسدان الصوم على القول الصحيح، وهو إما إجماع أو على الأقل المخالف في ذلك نادر. حكم الحجامة للصائم؟ 634 - وعن ابن عبَّاسِ رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرمٌ، واحتجم وهو صائم". رواه البخاريُّ. "احتجم" افتعل، يحتمل أن المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم طلب من يحجمه وهو كذلك، والحجامة: إخراج الدم من البدن بطريق معروف، وهو أن يجرح مكان الحجامة ويؤتى بوعاء صغير فيه أنبوبة متصلة به فيأتي الحجام بعد أن يجرح المكان ثم يضع هذا الوعاء الصغير. المهم: هذه الحجامة معروفة عن عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن أدركناها نحن في هذا العصر، ومن كانت عادته الحجامة مرض وصار فيه دوخة وتعب حتى يحتجم، فالنبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، وبالضرورة سيحلق مواضع المحاجم من أجل الحاجة. وقوله: "واحتجم وهو صائم" أيضًا جملة حالية، وهنا أطبق الصيام، فيحتمل أنه في رمضان ويحتمل أنه في غيره، وهل الرسول صلى الله عليه وسلم كان محرمًا في غير رمضان؟ نعم أحرم في غزوة الحديبية في ذي القعدة، وفي عمرة القضاء كذلك في ذي القعدة، وفي عمرة الجعرانة في ذي القعدة وفي حجته في ذي القعدة أيضًا. لكن الصيام الذي ورد "احتجم وهو صائم" هل هو مقيد في إحرامه، أو هما جملتان منفصلتان؟

الواقع أن اللفظ الذي في أيدينا أنهما جملتان منفصلتان، وأما ما جاء في بعض الروايات أنه احتجم وهو صائم محرم فهذا لا يصح؛ لأنه لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم صائمًا محرمًا أبدًا؛ إذ إن ذهابه إلى مكة في وقت الصيام كان في غزوة الفتح ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم محرمًا، فالجمع بينهما وهم من بعض الرواة أنه احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم، يعني: فصل هذه عن هذه، فهذا- كما يقول المؤلف-: رواه البخاري. فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: الأولى: جواز الحجامة للمحرم لقوله: "احتجم وهو محرم". الثانية: أنه يجوز أن يحلق من الشعر ما يحتاج إليه في الحجامة، لماذا؟ لأنه من اللازم لذلك وجواز الملزوم يدل على جواز اللازم. الثالثة: أنه إذا حلق من رأسه مثل هذا القدر فليس فيه فدية، وبه نعرف ضعف قول من يقول: إن الإنسان إذا أخذ شعرة واحدة من رأسه فعليه طعام مسكين، فإن أخذ اثنتين فطعام مسكينين، فإن أخذ ثلاث شعرات ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فهذا القول ضعيف، ولا يعد من أخذ ثلاث شعرات من رأسه حالقًا، والله عز وجل يقول: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى تبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية} [البقرة: 196]. والكلام على حلق الرأس، إمَّا شعرة أو شعرتين فليس فيه شيء. فإن قلت: إن الذي أسقط الفدية هنا الحاجة إلى أخذ الشعر. فالجواب أن نقول: إن الحاجة لا تسقط الفدية؛ لأن الله قال: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية} [البقرة: 196]. وهذه الصورة تعدُّ حاجة؛ ولهذا حلق كعب بن عجرة رضي الله عنه رأسه؛ لأنه جئ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه من رأسه؛ لأنه كان مريضًا، والمريض تكثر معه الأوساخ، ويضعف بدنه ويكثر فيه القمل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى. ثم رخَّص له أن يحلق وأن يفدي بصيام أو صدقة أو نسك. إذن نقول: إن الحاجة إلى حلق هذا الجزء اليسير من الرأس من أجل الحجامة لا تسقط الفدية؛ لأنها لو وجبت ما أسقطتها الحاجة، بدليل حديث كعب بن عجرة. وعلى هذا فنقول: إن أقرب الأقوال في حلق الشعر مذهب مالك رحمه الله أنه إذا حلق ما يزول

به الأذى وجبت الفدية، وإن حلق دون ذلك فلا فدية عليه، لكن يحرم عليه أن يحلق إلا لحاجة. وفي هذا الحديث أيضًا: دليل على جواز الحجامة للصائم لقوله: "احتجم وهو صائم"، وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء أن الحجامة للصائم لا تفطر؛ لأنها ليست أكلًا ولا شربًا ولا جماعًا، ولا بمعنى: الأكل والشرب، وعلى هذا فلا تفطر، والله عز وجل يقول: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187]. فإن قلت: ألا يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم ثم قضى؛ يعني: أفطر ثم قضى؟ الجواب: نعم يحتمل لا شك هذا وارد، لكن لو كان الأمر كذلك لنقل، ثم إن مثل هذا السياق يقتضى أنه سيق للاستدلال به على أن الصائم لا تؤثر فيه الحجامة فيكون هذا الإيراد غير وارد، كما نقول في قوله: "احتجم وهو محرم" أفلا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد فدى؟ يجوز، لكن الظاهر خلاف ذلك؛ إذ لو فدى لنقل. إذن يؤخذ من هذا الحديث: جواز الحجامة للصائم، وأنها لا تفطره. فإن قلت: أفلا يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم احتاج إلى الحجامة، ومعلوم أن الصائم إذا احتاج إلى الأكل والشرب بحيث يتضرر بفقدهما في أثناء النهار يجوز له أن يأكل ويشرب، فيمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لكونه يحتجم كثيرًا يمكن أن يحتاج إلى الحجامة في ذلك اليوم فاحتجم. فالجواب أن نقول: ليس الكلام في جواز الحجامة من عدمها، نحن نقول: ما احتجم إلا والحجامة جائزة له إما لكونها جائزة للصائم مطلقًا، وإما لكونها جائزة عند الحاجة، وليس كلامنا في هذا الكلام هل تفطر أو لا؛ فظاهر الحديث أنها لا تفطر؛ لأنها لو كانت تفطر لنقل عنه قضاء هذا الصوم وأنه أفطر ذلك اليوم. 635 - وعن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم". رواه الخمسة إلا التِّرمذيَّ، وصحَّحه أحمد، وابن خزيمة، وابن حبَّان. هذا الحديث يقول: مرَّ على رجل بالبقيع، والمراد بالبقيع: ما حوله؛ لأن البقيع هي: مدفن موتى أهل المدينة، والظاهر أن الناس لا يكونون في نفس المقبرة، "يحتجمون" لما في ذلك من تلويث المقبرة بالدم وغير ذلك، إلا أن يراد بالبقيع كل ذلك المكان، يعني: ما فيه القبور وما كان خارجًا عنه فيصح، على كل حال: ليس للمكان أهمية في المسألة، المهم: أن

الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، "الحاجم": هو فاعل الحجامة، و"المحجوم" المفعول به، فـ"الحاجم" مثل الحلاق، و"المحجوم" مثل المحلوق، قوله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم" هو كقوله: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم"، "أفطر" يعني: حل له الفطر، هنا "أفطر الحاجم والمحجوم" هل معناه حل لهما الفطر؟ لا، لكن هذا يختلف عن ذاك؛ لأن القول الراجح في ذلك- "فقد أفطر الصائم"- أي: حلَّ له الفطر، وليس المعنى: فقد أفطر حكمًا كما قيل به، أما هنا "فقد أفطر" يعني: أفسد صومه فأفطر. وقوله: "أفطر الحاجم والمحجوم" فيه إفطار الرجلين، أما المحجوم فالفطر في حقه معقول ما هو المعنى؟ هو ما يحصل له من الضعف بخروج الدم، الضعف الذي يوجب ضرر البدن، وطلب البدن الأكل والشرب حتى يعوض ما نقص بخروج ذلك الدم، والإنسان في صومه جعله الله- سبحانه وتعالى- وسطًا بين الإفراط والتفريط بين أن يأكل ويشرب ليقوي البدن بالغذاء، وبين أن يحتجم ويستقيء فيضرَّ البدن بفقد الغذاء في القيء أو بفقد الدم في الحجامة، فراعى الشرع جانب العدل بالنسبة للبدن لا إفراط ولا تفريط، فجعل ما أدخل البدن مما يقويه مفطرًا وما أخرجه مما يضعفه جعله أيضًل مفطرًا حتى يقوم البدن بالعدل لا إفراط ولا تفريط، وهذا من الحكمة العظيمة. فعلى هذا نقول: الحكمة في كون المحجوم يفطر هو: لأجل ما يحصل للبدن من الضعف الذي يحتاج معه إلى مادة غذائية يستعيد بها قوته، وعليه فإن كان الإنسان في ضرورة إلى الحجامة احتجم، وقلنا له: كل واشرب ولو في رمضان إذا كان في ضرورة؛ لأن بعض الناس ولا سيما الذين يعتادون الحجامة إذا فقدوها أحيانًا يغمى عليهم ويموتون، فإذا بلغ الإنسان إلى هذا الحد فنقول: احتجم وكل واشرب وأعد للبدن قوته، وإذا لم يصل إلى هذا الحد وكان بإمكانه أن يصبر إلى غروب الشمس، قلنا له: في الفرض يحرم عليك أن تحتجم ولا يجوز بل تبقى إلى أن تغرب الشمس وتفطر إن كان في نفلٍ، فالأمر واسع فيه؛ لأن النافلة يجوز للإنسان أن يأكل ويشرب ولو بلا عذر. إذن عرفنا الحكمة بالنسبة للمحجوم، بالنسبة للحاجم قد تكون الحكمة خفية وهي كذلك في الحقيقة خفية جدًا؛ ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن الحاجم لا يفطر والمحجوم يفطر، لكن هذا القول- كما تنظرون- ضعيف جدًّا، لماذا؟ مصادم؛ لأنه يأخذ ببعض النص ويترك البعض، وقال بعضهم: الحكمة في المحجوم ظاهرة، وفي الحاجم تعبدية نحكم بما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ندري، وبناء على قولهم فالحاجم يفطر بأي وسيلة حجم؛ لأن المسألة

تعبدية، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بل الحكمة معقولة فيهما أما في المحجوم فقد سبقت، وهي الضعف الذي ينهك البدن، وأما بالنسبة للحاجم فلأن الحاجم يمصُّ القارورة والدم قد يكون غزيرًا ويخرج بسرعة وشدة فينفذ إليه من القارورة دم وهو لا يشعر لشدة المصَّ، فجعلت هذه المظنة بمنزلة المئنة، قال: ونظيره النائم ينام والنوم نفسه ليس بحدث لكنه مظنة الحدث، فصار النوم ناقضًا للوضوء وإن كان قد لا يحدث منه ناقض، فشيخ الإسلام رحمه الله يرى أن الحكمة معقولة في الطرفين في الحاجم والمحجوم قال: وبناء على ذلك لو حجم بغير هذه الطريقة المعروفة فإن الحاجم لا يفطر، وأنتم أخبرتموني الآن أنهم يحجمون بغير هذه الطريقة فلو فرض أنه حجم بآلة تمصُّ بدل مص الآدمي فإنه لا يفطر بناء على أن العلة معقولة، وإذا كانت العلة معقولة فالحكم يدور معها وجودًا وعدمًا، لكن المشهور من مذهب الحنابلة أن الحكمة غير معقولة، والغريب أنها عندهم غير معقولة في الطرفين، ولهذا قالوا: لو فصد أو شرط الإنسان فصدًا وخرج به من الدم أكثر مما خرج بالحجامة فإنه لا يفطر؛ لأن الحكمة غير معقولة، إنما هي تعبدية. والشرط هو: شق العرق طولًا حتى يخرج الدم، أما الفصد فهو: أن يشقه عرضًا حتى يخرج الدم. قال شيخ الإسلام: والأصلح في البلاد الحارة الحجامة وفي البلاد الباردة الفصد أو الشرط؛ لأن البلاد الباردة يغور فيها الدم ينزل إلى باطن البدن من أجل البرودة الخارجية، فكان الفصد أو الشرط أبلغ من الحجامة في استخراج الدم الفاسد، وأما في البلاد الحارة فإن الدم يخرج ويبرز على ظاهر الجلد فتكون الحجامة أنفع وأفيد، على كل حال هذه مسائل طبية. في هذا الحديث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم"، ونحن إذا أخذنا بظاهره قلنا: فسد صومهما، وقد عرفتم أن للعلماء في بيان العلة في ذلك ثلاثة أقول: قول: إنها معقولة فيهما، وقول: إنها غير معقولة فيهما، وهذان القولان متقابلان، والقول الثالث: إنها معقولة في المحجوم غير معقولة في الحاجم. إذن هذا الحديث يستفاد منه: أن الحجامة تفطر على السبب الظاهر المعلوم، فقال بعض العلماء: لا ولكن كادا يفطران، فخرجوا عن ظاهر الحديث وقالوا: كادا يفطران أما الحاجم فقالوا: نعم يكاد يفطر؛ لأنه لو شفط بقوة دخل الدم إلى جوفه فأفطر، لكن لو شفط شيئًا فشيئًا لم يفطر، فالمعنى: كاد يفطر الحاجم؛ لأنه ربما شفط بقوة فأفطر، إذن على قول هؤلاء يكون:

"أفطر الحاجم والمحجوم" كادا يفطران ولم يفطرا؛ لأن المحجوم لو تصبَّر مع الضعف حتى غربت الشمس وأكل وشرب صحَّ صومه، والحاجم لو تأنى رويدًا رويدًا صح صومه. وقلت: وإحالة الحكم على السبب الظاهر، ما هو السبب الظاهر في الحديث الذي أفطر به الحاجم والمحجوم؟ الحجامة هو يقولون: لا إن الرجلين كانا يغتابان الناس، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم"، وهذا التأويل هو في الحقيقة تحريف. أولًا: لأنهم يقولون: إن الغيبة لا تفطر، وهذا من الغرائب، يقولون: إن الغيبة لا تفطر، ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم" قالوا: كانا يغتابان الناس، وأنتم تقولون: الغيبة لا تفطر، يعني: لو اغتابا الناس بدون حجامة ما أفطرا، وإن اغتابوا الناس وحجموا أفطروا، هذا لا يستقيم. الشيء الثاني: أنه من الجناية على النصَّ أن يلغى الوصف الذي علّق عليه الحكم ثم نذهب نلتمس وصفًا آخر نعلَّق به الحكم، فإن هذا جناية على النصوص، وما مثل هؤلاء إلا مثل من قالوا في المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع فتجحده- فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها- إن هذه المرأة ما أمر الرسول بقطع يدها لأنها استعارت فجحدت، ولكن لأنها كانت تسرق، وما مثل هؤلاء أيضًا إلا كمثل قول من قال: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"، أو "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة من تركها فقد كفر" قالوا: إن المراد منه: جحدها إذا كان المراد من جحدها، فالذي يجحد فلو صلَّى كل وقت في وقته ومع الجماعة فهو كافر، فكيف نلغي الوصف الذي علَّق عليه الحكم، ثم نجلب له وصفًا آخر لم يذكره الشرع؟ فالمهم أن مثل هذه الأمور من أهل العلم- عفا الله عنا وعنهم- يحمل عليها أنهم يعتقدون قبل أن يستدلوا فيكون عند الإنسان حكم معين تقليدًا لمذهب من المذاهب أو اختيارًا من عند نفسه ثم تأتي النصوص بخلاف ذلك المذهب أو ذلك الفهم، فيحاول أن يصرف النصوص إليها ولو بضرب من التعسف، والحقيقة أن هذه ليست طريقًا سليمًا إذ إن الإذعان والتسليم المطلق هو الذي يجعل النصوص متبوعة له لا تابعة، بمعنى أنه إذا دلَّت النصوص على شيء يأخذ به وهو سيحاسب على ما دلَّت عليه النصوص والحكم بين الناس إلى الله ورسوله، فإذا دلَّ كلام الله ورسوله على شيء من الأشياء فالواجب علينا أن نأخذ به مهما كان، والخطر علينا إذا خالفنا هذا الظاهر ليس إذا أخذنا به. إذن فهذا الحديث يدل على أن الحاجم والمحجوم يفطران، ويبقى النظر في الجواب عن حديث ابن عباس السابق؟ الجواب عليه: أن الإمام أحمد رحمه الله ضعَّف رواية: "احتجم وهو صائم"، وقال: إن ذلك لا يصح وأنه انفرد به أحد الرواة عن ابن عباس، وأن غيره خالفه فيها، وإذا كان الأمر كذلك فإن المخالفة- مخالفة الثقات في نقل الحديث- تجعله شاذًا وإن كان

المخالف ثقة، والحديث الذي معنا- حديث شداد بن أوس- قال البخاري: إنه أصح شيء في الباب، والغريب أن هذا الحديث جعله بعض العلماء من المتواتر؛ لأنه رواه عدد كبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إفطار الحاجم والمحجوم، حتى قالوا: إنه من المتواتر، فالإمام أحمد رحمه الله ذهب إلى أن الحديث: "احتجم وهو صائم" وهم، وبعضهم قال: إن الحديث منسوخ بحديث شداد؛ لأن حديث شداد بن أوس كان في السَّنة الثامنة، وحديث ابن عباس كان في عمرة الحديبية، أو عمرة القضاء، فهو سابق، وعلى قاعدة بعض العلماء يقولون: حديث ابن عباس من فعل الرسول، وحديث شداد من قوله وفعله، ولا يعارض قوله، والحكم للقول لا للفعل، وهذه طريقة الشوكاني رحمه الله وجماعة من أهل العلم، ولكن هي ليست بطريقة مرضية عندنا كما سبق لإمكان الجمع، يبقى عندنا حديث آخر هو الذي قد يعارض الحديث الذي نحن الآن بصدده وهو: 636 - وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: "أوَّل ما كرهت الحجامة للصائم؛ أنَّ جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائمٌ، فمرَّ به النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثمَّ رخَّص النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصَّائم، وكان أنسٌ يحتجم وهو صائمٌ". رواه الدَّارقطنيُّ وقوَّاه. ذكرنا فيما سبق أن حديث ابن عباس كان متقدمًا، هذا على القول بأن الحجامة تفطر، وذكرنا لكم أن هذا هو قول فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل، وابن المنذر، وابن خزيمة، وكذلك هو قول الظاهرية، وأنه أرجح من القول بأنه لا يفطر، وذكرنا أيضًا أن هذا هو مقتضى النظر والقياس، قلنا: القياس يقاس على حديث القيء حديث أبي هريرة: "من استقاء عمدًا فليقض"، والعلة الجامعة بينهما: أن كل واحد منهما سبب للضعف، أما مقتضى النظر فلأن الشارع جعل الصائم يكون معتدلًا بالنسبة لشهواته، فلا ينال منها ما يشتهيه، ولا يحرم منها ما يضره فقده، فيكون متوازن الأكل والشرب يغذي البدن، والحجامة بالعكس، والاستقاء كذلك بالعكس، فجعل الشارع الأمر معتدلًا، ثم نقول: بناء على ذلك إن كنت محتاجًا إلى الحجامة- ولا بد- فاحتجم وكل واشرب ولو في رمضان واقض يومًا مكانه، وإن كنت غير محتاج إلى الحجامة فأبق على نفسك قوتها وانتظر حتى تغرب الشمس.

أما حديث أنس فقال: "أول ما كرهت الحجامة" ما إعراب "أول"؟ مبتدأ، والخبر "ما"، وما دخلت عليه في تأويل مصدر من الجملة، "أول ما كرهت"، الكراهة في لسان الشارع غير الكراهة في عرف الفقهاء، الكراهة في لسان الشارع للشيء المحرم الذي قد يكون شركًا أكبر، اقرأ قول الله تعالى: {* وقضى ربك ألا تعبدوا إلآ إياه وبالوالدين إحسانًا ... } إلى قوله: {كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهًا} [الإسراء: 38]. واقرأ ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كره لكم وأد البنات"، وهو من كبائر الذنوب، فالكراهة في لسان الشارع غير الكراهة في عرف الفقهاء، عرف الفقهاء الكراهة منزلة بين التحريم والإباحة، فيعرفون المكروه بأنه: "ما نهي عنه لا على سبيل الإلزام بالترك"، ويقولون في حكمه: يثاب تاركه امتثالًا ولا يعاقب فاعله، فهنا الكراهة بلسان الشارع. وقوله: "كرهت الحجامة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه احتجم وهو صائم"، جعفر بن أبي طالب كان أخًا لعلي بن أبي طالب، ولكن عليًا رضي الله عنه يكبره في المرتبة وسبق الإسلام وأنه أحد الخلفاء الراشدين، "احتجم وهو صائم" فمرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أفطر هذان" المشار إليهما الحاجم والمحجوم، "ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم". نقول: هذا الحديث المشار إليه الحاجم والمحجوم فهل غيرهما مثلهما؟ الجواب: نعم، يعني: غير هذه الشخصين مثلهما في الحكم؛ لأنه سبق لنا قاعدة مهمة وهي أن ما ثبت في حكم الواحد من هذه الأمة فهو له ولغيره ممن ساواه في المعنى الذي علق عليه الحكم، مثال ذلك: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى رجلًا في السفر قد ظلَّل عليه، والناس زحام حوله قال: "ليس من البر الصيام في سفره"، هل نأخذ هذا على عمومه؟ لا، بل نقول: الرجل الذي يبلغ به الصيام كما بلع بهذا الرجل ليس الصوم في السفر بالنسبة إليه من البر. إذن الحجامة لا نعقل لها معنى يختص بجعفر بن أبي طالب وحاجمه، بل نجد أن معناه شامل عام، فكل من حجم أو احتجم فإنه داخل في هذا الحكم، ولكن هل يدخل عليه بالنص، أو يدخل عليه بالقياس؟ كلمة "هذان" كما مرَّ علينا اسم الإشارة يعيَّن المشار إليه، ولهذا كان اسم الإشارة أحد المعارف فهو يعيَّن المشار إليه كما لو قلت: أفطر جعفر وفلان، أعني: الحاجم له، فهي تعيَّن المشار إليه، فهل نقول: إن الحكم في غيرهما ثابت للقياس عليهما؟ الجواب: هذا هو الظاهر أنه بالقياس. وقد يقول قائل: لا، بل إن الرسول صلى الله عليه والسلام إذا نص على شخص بعينه فهذا النص المعين لهذا الشخص كالتمثيل لقاعدة عامة، فعليه نأخذ بعموم

المعنى ويكون غيرهما داخلًا في العموم المعنوي، ويكون ذكر هذا الشيء المعين كالتمثيل فقط، ومن ثم قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أيًا كان، فإن الحكم لهما ولغيرهما، لكن يقول: "ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم"، وفي بعض ألفاظ الحديث: "إنما كرهت من أجل الضعف"، ثم رخص، فإذا كان كراهة الحجامة من أجل الضعف، فإن المعروف أن الضعف لا يزول، وما علق الحكم به على أمر لا يزول فإن نسخه لا يمكن إلا أن تزول تلك العلة التي من أجلها شرع الحكم، قال: "وكان أنس يحتجم وهو صائم"، لو صح هذا لكان فيصلًا في المسألة. في هذا الحديث فوائد: منها: الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر هذان" بعد أن رآهما يحتجمان، ومن المعلوم أن هذين المحتجمين لا يعلمان الحكم؛ لأنهما لو علما الحكم ما فعلاه، ما احتجما، فكيف قال: "أفطر- هذان" والقاعدة عندنا: أن المحظور إذا فعل على سبيل الجهل فإنه لا يؤثر، فكيف نخرَّج هذا الحديث؟ لأنك إن قلت: إنهما كانا عالمين فهو بعيد، وإن قلت: غير عالمين فقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهما أفطرا؟ الجواب على هذا: أن المراد بقوله: "أفطر هذان": بمنزلة قوله: "أفطر الحاجم والمحجوم"، فيكون المراد: أفطر هذا النوع من الناس الذي حجم واحتجم، هذا قول. والقول الثاني: أن المراد بيان أن الحجامة تفطر، وأن الحجامة سبب بقطع النظر عن كون هذين الرجلين ينطبق عليهما شروط الفطر أو لا ينطبق، فيكون هنا كأن في الحديث إيماء إلى بيان سبب الفطر لا إلى الحكم بكون هذين الرجلين قد أفطرا، وهذا هو ما نقله ابن القيم في إعلام الموقعين، عن شيخه ابن تيمية رحمه الله يقول: إن المراد بيان أن هذا الفعل مفطر، أما كون هذين الرجلين يفطران فهذا يعلم من أدلة الكتاب الأخرى، وهذا الحمل واجب؛ لأن لدينا نصوصًا عامة صريحة واضحة في أن الجاهل معذور بجهله، فيجب أن تحمل هذه النصوص المتشابهة على النصوص المحكمة إذا كان الحمل ممكنًا، أما إذا لم يكن ممكنًا فإن هذا يبقى مخصصًا للعموم، ويثبت الحكم فيه بخصوصه لا يتعداه إلى غيره، فلو فرض أننا لم نجد محملًا لهذا الحديث قلنا: نخصه بالحالة الواقعة فقط، ونقول: من أفطر بالحجامة ولو جاهلًا؛ لأنها تفطر فعليه القضاء يكون مفطرًا وفي غيرها لا قضاء عليه. إذن زال الإشكال مادام حملناه على الجنس أو النوع أو على بيان السبب.

فائدة في ثبوت النسخ في الأحكام

فما الحكم إذن بالنسبة لجعفر وحاجمه حسب القواعد العامة؟ الجواب على هذا: أنه لا فطر عليهما؛ لأنهما لا يعلمان؛ إذ يبعد من حالهما أن يعلما أن ذلك محرَّم ثم يقدما عليه. فائدة في ثبوت النسخ في الأحكام: ويستفاد من هذا الحديث- إذا صحَّ-: جواز النسخ في الأحكام، يعني: أن الله عز وجل يغير الأحكام من حكم إلى آخر، وهذا ثابت بالقرآن والسُّنة والإجماع، إلا أن أبا مسلم الأصبهاني رحمه الله- وليس الخراساني- يقول: إن النسخ ليس بجائز، ويحمل ما ورد على ذلك على أنه تخصيص، قلنا: كيف قال: لأن الأصل في الحكم أن يثبت في جميع الزمان من أول ما شرع إلى يوم القيامة، إذا نسخ فمعناه رفع الحكم فيما بقي من زمنه، فيكون ذلك تخصيصًا باعتبار الزمن، فمثلًا إذا كان هذا الحكم {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]. إلى متى؟ إلى يوم القيامة، جاء حكم برفع هذا التحريم مثلًا، نقول: الآن بقية الزمن الذي بعد النسخ حصل فيه التخصيص، والحقيقة أن هذا مع مذهب الجمهور خلاف لفظي، وكان الواجب أن نقول: إنه نسخ كما قال الله عز وجل، أما اليهود فيذكر عنهم أنهم يمنعون النسخ؛ ولهذا يكذبون بعيسى ومحمد، ولكن الله ردَّ عليهم بقوله: {* كل الطعام كان حلًا لبنى إسرآئيل إلا ما حرم إسرآئيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} [آل عمران: 93]. إذن يوجد نسخ، وعلى كل حال النسخ ثابت، لكن إذا قال قائل: ما هي الحكمة من النسخ إن كان الخير في الناسخ فلماذا لم يثبت من الأول وإن [كان] الخير في المنسوخ فلماذا نسخ؟ فالجواب: أن الخير أمر نسبي قد يكون الشيء خيرًا في هذا الزمن ويكون غيره خيرًا منه في زمن آخر، وحينئذٍ يكون الخير في النسخ والمنسوخ، المنسوخ إبان أي وفت بقاء حكمه هو الخير وبعد أن نسخ فالخير في بدله، وحينئذٍ لا يقال: إن قولكم بالنسخ قدحٌ في علم الله أو في حكمته؛ لأن اليهود يدعون هذا، يقولون: إذا جوزتم النسخ جوزتم البداء على الله، وهو العلم بعد الجهل. نقول: قاتلكم الله! تنكرون ما ثبت وما دل العقل على إمكانه، وأنتم تقولون: يد الله مغلولة، والله فقير؟ ! فنقول: إن الله تعالى عليم بلا شك وعلمه سابق على وجود الأشياء، وحكيم وحكمته من صفاته الأزلية الأبدية، لكن يعلم عز وجل أن هذا الحكم خير في زمنه، وأن بدله خير في زمنه، وهذا شيء معلوم، ولا حاجة إلى الأمثلة. إذن نقول: في هذا الحديث الذي معنا دليل على النسخ وهو ثابت بالقرآن في قوله تعالى: {* ما ننسخ ... } [البقرة: 106]. وفي قوله تعالى: {فالآن باشروهن} [البقرة: 187]. وقيل: الآن ممنوع، وفي قوله: {الآن خفف الله عنكم ... } [الأنفال: 66]. الآن، وقيل: {وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا} [الأنفال: 65]. وقوله: {سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شآء الله} [الأعلى: 6، 7]. هذه أيضًا استدل بها بعض العلماء على النسخ، قال: "ما شاء الله" أن ينساه حتى يرتفع حكمه فعل.

حكم الفصد والشرط للصائم

وأما السنُّة فكثير: "كنت نهيتكم عن زيارة القبول فزوروها"، "كنت نهيتكم عن الانتباذ في الدباء فانتبذوا فيما شئتم غير ألًا تشربوا مسكرًا"، "كنت نهيتكم عن الادَّخار في لحوم الأضاحي فادخروا ما شئتم"، وأمثال هذا كثير مما يدل على جواز النسخ، والحكمة تقتضيه؛ لأن الناس في ابتداء الشريعة ليسوا كالناس عند كمال الشريعة، تقبلهم للشيء بعد كمال الشريعة ورسوخ الإيمان في قلوبهم أكثر من تقبلهم في أول الشريعة، ولهذا جاءت الشريعة متطورة حسب أحوال المشرع لهم. حكم الفصد والشرط للصائم: وهل يلحق بالحجامة غيرها كالفصد والتشريط أو لا؟ في هذه المسألة خلاف، بناء على أنه هل الحكمة معقولة أو هو حكم تعبدي؟ إن قلنا: إنه تعبدي فلا قياس؛ لأن القياس إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، "إلحاق فرع" وهو المقيس، "بأصل" وهو المقيس عليه، "في حكم لعلة جامعة"، فإذا كان الحكم تعبديًا- أي: غير معقول العلة- فإنه يمتنع القياس لفوات ركن من أركانه، وهو العلة، فمن قال: إنه تعبدي- وهو المشهور من المذهب- قال: إنه لا يلحق الفصد والتشريط بالحجامة، وإن الصائم لو شرط أو فصد فإنه لا يفطر بذلك، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله عند أصحابه، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الشرط والفصد بمعني: الحجامة فيلحق بها، فلا يجوز للصائم أن يفصد أو أن يشرط، وكذلك أخذ الدم من الإنسان ليحقن في غيره ينبني على هذا، فإذا أخذ من الإنسان دم يحقن في غيره وكان كثيرًا بحيث يؤثر على البدن كما تؤثر الحجامة، فإنه ينبني على ما سمعتم. مسألة: هل يلحق بالحجامة غيرها أم لا؟ فإن قلنا: يلحق، قلنا: إن هذا يفطر، وإلاَّ فلا، وعلى القول [الراجح] أنه يلحق بها ما يساويها، إذا طلب من شخص أن يتبرع بدم لآخر فإن كان صومه نفلًا فلا حرج عليه؛ لأنه يجوز للصائم نفلًا أن يفطر بدون عذر، وإن كان صومه فريضة نظرنا إن كان المريض مضطرًّا إلى ذلك بحيث يخشى عليه الموت إن لم يحقن به قبل المغرب، ففي هذه الحال يجب على الصائم أن يتبرع بدمه ويفطر؛ لأنه يجب إنقاذ الغريق والحريق ولو أدى إلى الفطر، ففي هذه الحال إذا أفطر- يعني: تبرع بدمه وأفطر- يجوز أن يأكل ويشرب؛ لأن القاعدة عندنا أن كل من أفطر في رمضان بسبب يبيح الفطر فله الأكل والشرب

حكم الاكتحال للصائم

بقية النهار؛ لأن الإمساك لا فائدة منه مادام أن الشارع قد أذن له بالأكل والشرب فلا حرج، ولولا ذلك لقلنا: إن المريض لا يجوز له أن يأكل أو يشرب، ولو كان قد أفطر من أجل المرض إلا إذا جاع حتى خيف عليه أو إذا عطش حتى خيف عليه مع أنه يجوز له أن يأكل ويشرب كما شاء، أما الدم اليسير كالدم الذي يؤخذ للفحص أو الدم الذي يكون بقلع السن والضَّرس، أو بضغط الجرح أو ما أشبه ذلك فإنه لا يؤثر قولًا واحدًا، وما علمنا أن أحدًا قال بتأثيره، لكن الدم الخارج من السن أو الضرَّس لا يبتلع؛ لأنه إذا بلعه أفطر من أجل أنه شرب دمًا لا من أجل أنه خرج منه دم. حكم الاكتحال للصائم: 637 - وعن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان وهو صائمٌ". رواه ابن ماجه بإسنادٍ ضعيفٍ. - قال التِّرمذيُّ: "لا يصح في هذا الباب شيءٌ". قولها: "اكتحل" أي: وضع الكحل في عينه وهو معروف، وقولها: "في رمضان وهو صائم" هذه الجملة في موضع نصب على الحال من فاعل "اكتحل"، وقولها: "في رمضان"، لم تقل: "في رمضان"؛ لأنه ممنوع من الصرف، والمانع: العملية وزيادة الألف والنون، ولهذا لو جاء "رمضان" غير علم انصرف. في هذا الحديث من الفوائد: جواز الاكتحال للصائم. ثانيًا: أن الكحل لا يفطر الصائم؛ لأنه لو كان مفطرًا لوجب اجتنابه، فلما جاز فعله دلَّ هذا على أنه لا أنه لا يفطر. ثالثًا: عمومه يقتضي أنه لا يفطر الصائم ولو وصل إلى حلقه؛ لأنه أحيانًا إذا كان الحكم نافذًا أحسَّ الإنسان بطعمه في حلقه، فظاهر الحديث أنه لا يفطر ولو وصل إلى حلقه. فإن قال قائل: أنتم ذهبتم تستنبطون الأحكام من حديث ضعيف لقول الترمذي، وإذا انهدم الأساس انهدم الفرع. فالجواب: نعم، هذا حق، وأن البناء على الضعيف ضعيف، لكننا نقول: لنفرض أنه ليس بثابت، فما الأصل؟ الأصل: الجواز، حتى يقوم دليل على المنع، ونحن إذا نظرنا إلى الممنوعات في الصيام وجدنا أنها محفوظة معروفة بالكتاب والسُّنة، الأكل، والشرب، والجماع، والحجامة

على خلاف فيها، والاستقاء على خلاف فيه، والإنزال على خلاف فيه، والإمذاء على خلاف فيه. إذن المجمع عليه الأكل والشرب والجماع، هذا متَّفقٌ عليه، فنقول لكل من ادَّعى أن هذا مفطر: عليك الدليل؛ لأن هذه عبادة ركن من أركان الإسلام، وإذا كان الشارع قد بيَّن موجباتها وشرائطها وأركانها؛ فإنه سيبين مفسداتها؛ لأن الأشياء لا تثبت إلا بوجود الشروط والأسباب وانتفاء الموانع، والمفسدات موانع، فالمسألة ليست بالهيئة، وليس من الهين أن تقول لعباد الله: إن عبادتكم فاسدة وهو يتقربون إلى الله بها؛ لأنك سوف تقابله يوم القيامة لماذا أفسدت عبادة عبادي عليهم بدون دليل؟ فهذا عدوان في حق الخالق واعتداء على المخلوق أن تفسد عبادته بدون دليل واضح، فإذا كان الشيء ثابتًا بمقتضى دليل شرعي، فإنه لا يمكن نقضه إلا بدليل شرعي، فلننظر وجدنا إن الكحل ليس أكلًا ولا شربًا، ما رأينا أحدًا إذا أراد أن يأكل التمر وضعه في عينه لا أحد يقول هكذا، هل هو بمعنى الأكل والشرب؟ أبدًا، ما سمعنا أن أحدًا إذا عطش ذهب ووضع عينه تحت البزبوز ليروى، ولا يضع فيها طحينًا ليصل إلى المعدة! إذن ليس أكلًا ولا شربًا ولا بمعنى الأكل والشرب، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه ليس هناك دليل على أن مناط الحكم هو وصول الشيء إلى الجوف أو الحلق، إنما مناط الحكم أن يصل إلى المعدة شيء يستحيل دمًا يتغذى به الإنسان فيكون أكلًا وشربًا، وعلى هذا فنقول: الكحل وإن لم يثبت به دليل فالأصل الحلُّ، فإن قلت: قد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الإثمد: "ليتقه الصائم"، "يتقيه" يعني: يجتنبه، قلنا: هذا لو كان صحيحًا لكان على العين والرأس، لكنه منكر كما قاله أبو داود، عن ابن معين، وإذا كان منكرًا فلا حجة فيه، ويبقى الأمر على الأصل على الإباحة، فإن قلت: حديث لقيط بن صبرة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أسبغ الوضوء، وخلِّل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا"؛ لماذا؟ لأن الصائم لو بالغ في الاستنشاق لدخل الماء إلى جوفه. فالجواب: أن الأنف منفذ طبيعي يصل إلى الجوف، ولهذا كثير من المرضى يوصلون لطعام والشراب إليهم عن طريق الأنف وهو ما يسمى بالسُّعوط، أما العين فليس بمنفذ معتاد، فلا يكون ما وصل عن طريقها كالواصل عن طريق الأنف، وليس كل شيء يجده الإنسان في حلقه من خارج يكون مفطرًا، فهاهم الذي يرون أن من اكتحل حتى وصل الكحل إلى حلقه

حكم من أكل أو شرب ناسيا وهو صائم

يفطر، يقولون: لو أن الإنسان وطئ على حنظلة- شيء كالتفاح لكنه شديد المرارة- إذا وطئت عليه برجلك تحسُّ طعمه في حلقك، وقال العلماء: إن هذا لا يفطر ولو وجد طعمه في حلقه؛ لماذا؟ قالوا: لأن الرَّجل ليست منفذًا معتادًا، إنما دخل مع المسام حتى وصل إلى الحلق، فالمهم: حتى ولو لم يصح هذا الحديث فإن الأصل الإباحة، إلا ما قام عليه الدليل. حكم من أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم: 638 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائمٌ، فأكل أو شرب، فليتمَّ صومه، فإنَّما أطعمه الله وسقاه". متَّفقٌ عليه. - وللحاكم: "من أفطر في رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفَّارة". وهو صحيحٌ. أولًا: قال: "من نسي وهو صائم" "من" شرطية بمنزلة إذا نسي، وقوله: "فليتم" هذا جواب الشرط، واقترن بالفاء؛ لأنه طلب، وقد قيل فيما يجب اقترانه بالفاء من جواب الشرط: اسميةٌ طلبيةٌ وبجامد ... وبما وقد وبلن وبالتَّنفيس وقوله: "فليتم" مجزوم بالفتحة نيابة عن السكون، ولالتقاء الساكنين حركت الميم، وقوله: "فليتم" اللام لام الأمر، والأمر هنا للوجوب، أو الاستحباب، أو الإباحة؟ إذا كان المقصود بالأمر رفع توهم الفطر فهو للإباحة- إباحة الإتمام-؛ يعني: ولا تفطر. ثانيًا: إذا كان الصوم تطوعًا وليس المقصود رفع التوهم فهي للاستحباب، إذا كان واجبًا وليست لدفع التوهم فهي للوجوب، والقرائن معروفة. قوله صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم" الجملة حالية كما هو معلوم، "نسي"، ما معنى النسيان؟ قال العلماء: إن النسيان ذهول القلب عن شيء معلوم عنده، أما عدم العلم فهو جهل. إذن النسيان وارد على العلم، لا نسيان إلا بعد علم، ولهذا قيل: آفة العلم النسيان، "نسي" يعني: ذهل قلبه عن الصوم- هذا واحد-، "نسي" ذهل قلبه عن كون هذا الشيء مفطرًا؛ لأنه قد ينسى أنه صائم، وقد ينسى أن هذا الشيء مفطر، هذا كله واقع، فهو إما أن ينسى حاله أو ينسى حكم ما تناوله من أكل أو شرب، وهذا نسيان للحكم، وكلا الأمرين داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم"، وقوله: "فأكل أو شرب" هذا ليس على سبيل الحصر، ولكن على سبيل المثال، ومثَّل بالأكل والشرب؛ لأنهما أكثر تناولًا من غيرهما؛ إذ إن الجماع في غير المتزوج غير وارد، وفي المتزوج وارد، لكنه قليل بالنسبة للأكل والشرب اللهم إلا في أحوال نادرة، هذا شيء يمكن.

على كل حال: الأكل والشرب كمثال، وخوفًا من أن يقول قائل: إن الجماع له حكم آخر أتى المؤلف برواية الحاكم، وهي قوله: "من أفطر من رمضان"، فإن "من أفطر" يعمُّ الأكل والشرب والجماع وغيرها من المفطرات، والحديث بهذا صحيح كما قال المؤلف، فلو قدَّر عدم صحته فهل يمكن أن نأخذ الحكم في الجماع وغيره من المفطرات من قوله صلى الله عليه وسلم: "من نسي فأكل أو شرب"؟ نعم، بالقياس يكون هذا على سبيل التمثيل. قوله: "فأكل أو شرب" الفرق بينهما أن الأكل في الطعام والشرب في الشراب، يعني: في المائعات وشبهها هذا يسمى شرابًا، وما كان جامدًا فهو أكل، وعلى هذا فالشكر إذا وضعه الإنسان في فمه هل هو أكل أو شرب؟ يوجد سكر شراب واضح يمص مثل: قصب السكر، فهذا الشراب، لكن السكر الدقيق يلحق بالأكل عبارة المنتهى وهو من الحنابلة يقول: "وبلع ذوب سكر بفم كأكل". الفائدة من هذا: أن العلماء قالوا: إنه يجوز للذي يصلي نفلًا إذا عطش وهو يصلي أن يشرب ماء قليلًا وهو يصلي، فسامحوا في الشرب القليل في النفل دون الفرض، فقيل لهم في الذي يضع حلاوة ويمصها أو سكر ويمصه، قالوا: إنه كالأكل، قالوا: لأنه [جسم] جامد فصار طعامًا لا شرابًا، وشرب الماء فعله ابن الزبير وهو أحد الصحابة، قال: "فأكل أو شرب فليتم صومه"، كلمة "فليتم" تفيد بأن الصوم لم ينقص، أي: فليستمر في صومه حتى الغروب. ثم قال في تعليل ذلك: "فإنما أطعمه الله وسقاه"، هذا تعليل للحكم، يعني: أن هذا الحكم الصادر منه نسيانًا لا ينسب إليه، وإنما ينسب إلى الله عز وجل، فإن الله أطعمه وسقاه، يعني: هو ما تعمد أن يفسد صومه بالأكل والشرب، فإذن يكون الله عز وجل قد أطعمه وسقاه وكما في حديث عائشة رضي الله عنها: "إنما هو رزق ساقه الله إليك"، وللحاكم: "من أفطر في رمضان ناسيًا". قلنا: فائدة هذه الرواية أن فيها العموم دون التخصيص بالأكل والشرب، "من أفطر" بأي شيء يفطر به ناسيًا، "فلا قضاء عليه ولا كفارة"، كلمة "ولا كفارة" تدل دلالة ظاهرة على أن الجماع داخل؛ لأنه لا كفارة إلا في الجماع، وعليه فإذا كان جامع ناسيًا فلا يفسد صومه ولا كفارة عليه. يؤخذ من هذا الحديث فوائد كثيرة، أولًا: جريان النسيان على بني آدم؛ لقوله: "من نسي". وثانيًا: أن النسيان لا يقدح في الإنسان، لماذا؟ لأنه من طبيعة الإنسان، ولو كان سببًا للقدح لما عذر به الإنسان.

ثالثًا: أن ما ترتب على النسيان فلا إثم فيه؛ لقوله: "فليتم صومه"، ويتفرع على هذه القاعدة: أن من نسي آية من القرآن فلا إثم عليه، وما ورد في التشديد فعلى من نسي آية من القرآن إن صحَّ فهو محمول على من نسيه بسبب إعراضه وعدم مبالاته، وأما من نسيه أو شيئًا منه لأمر لا بد له منه في معاشه ومعاده فإنه لا إثم عليه، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نسي بعض آيات القرآن وذكر فصلى ذات ليلة وأسقط آية من القرآن فلما انصرف ذكَّره بها أبي بن كعب فقال: "هلا كنت ذكرتنيها"، ومر ذات يوم ورجل في بيته يصلي يتهجد فسمعه يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "رحم الله فلانًا لقد ذكرني آية كنت أنسيتها"، وعلى هذا فلا لوم على الإنسان فيما نسي من كتاب الله بشرط ألا يكون ذلك على سبيل الإعراض وعدم المبالاة، إذن من أفطر ناسيًا لوقت أو بالحكم فلا قضاء عليه ولا كفارة. ما تقولون في رجل اشترى عنبًا لأهله في رمضان، وخرج بالعنب في المنديل ونسي أنه صائم، فجعل يأكل هذا العنب حبة حبة، فلما وصل إلى البيت وإذا لم يبق إلا حبة واحدة في العنقود، فقال له أهله: كيف تأكل واليوم صيام؟ قال: ما دريت، لكن يأكل هذه الحبة وتعمد، وقال: إن كنت مفطرًا فهذه من باب أولى وإن كنت لم أفطر فهذه لا تفطر، فما الحكم؟ هو عالم وعليه فلا صوم له. ومن فوائد الحديث: بيان رحمة الله عز وجل بترك المؤاخذة على النسيان فإن هذا من رحمة الله. ومن الفوائد أيضًا: أن فعل المحظور مع النسيان لا يترتب عليه شيء؛ وذلك لأن مفسدة المحظور بفعله، فإذا انتفت المفسدة بالنسيان لم يبق هناك أثر لهذا المحظور، بخلاف المأمور فإن ترك المأمور ناسيًا لا يسقطه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن نسي في الصلاة: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك"؛ لأن فعل المأمور لا تزول مفسدة تركه بالنسيان؛ إذ يمكن تداركه وإزالة هذه المفسدة بقضائه، ولهذا القاعدة المقررة عند عامة الفقهاء: أن ترك المأمور لا يعذر فيه بالنسيان والجهل، بل لا بد من قضائه، وإن كان الإثم يسقط، وأما فعل المحظور فيعذر فيه بالجهل والنسيان إلا أنه يرد علينا أن هناك أشياء من المأمورات أسقطها الشارع بالجهل مثاله المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أستحاض فلا أطهر، ومعنى ذلك: أنها لا تصلي، والمستحاضة لا تجب عليها الصلاة، ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضائها مع أنها تركت المأمور، لكنها تركته جهلًا.

مثال آخر: عمار بن ياسر بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنب وليس عنده ماء، فتمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا"، وذكر التيمم، ولم يأمر بإعادة ما سبق. ثالثًا: الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره يصلي معتزلًا القوم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: "لم؟ " فقال: أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك"، فهذا أيضًا يدل على أن الجاهل بالمأمور لا يؤمر بالإعادة، من أن نسيان المأمور أمر الشارع فيه بالإعادة. "من نام عن صلاة ... " الحديث، فظاهر السُّنة التفريق في باب المأمور بين الجهل والنسيان، فما هو الجواب عن هذا الظاهر؟ الجواب أن يقال: أما في مسألة المستحاضة التي كانت تترك الصلاة وهي مستحاضة فلأنها معذورة، لأنها تأوَّلت، كيف التأول؟ بنت على أصل، وهو أن كل دم فهو حيض، فتكون كما لو أخطأ المجتهد في تأويله فلا نقول: إن اجتهادك الثاني ينقض الاجتهاد، أو علمك بالدليل بعد اجتهادك بنقض اجتهادك، وكذلك نقول في قضية عمار بن ياسر؛ لأنه استعمل القياس لأن الذي يغتسل من الجنابة يغسل جميع بدنه فهو اجتهد وتمرغ، وقال: الآن وصل التراب إلى جميع البدن، وهذا قياس، إذن هو متأول. قصة الرجل الذي قال: "أصابتني جنابة، ولا ماء". نقول: من الذي قال: إن هذا الرجل كان عليه صلوات سابقة؟ قد يكون لم يفته إلا هذه الصلاة، ولما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "عليك بالصعيد" فإنه سوف يتيمم ويصلي. ثم نقول: أيضًا هذا الرجل بعد أن جاء الماء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واستقى الناس وشربوا وسقوا الإبل وبقي بقية، قال للرجل: خذ هذا فأفرغه على نفسك، يعني: اغتسل به؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث إلا رفعًا مؤقتًا ما دام الإنسان لم يجد الماء، فإذا وجده عاد عليه الحدث، فهذا هو الجواب على ما ذكره، وإلا فإن الأصل أن فعل المأمور لا بد منه، لكن بعض أهل العلم قال: إنه إذا كان ذلك المأمور أشياء كثيرة شاقة على الإنسان، وأنه بان على أصل، يعني: حديث عهد بالإسلام، ولم يعلم أن الصلاة واجبة، وترك الصلاة مدة طويلة، فإن هذا لا يؤمر بقضاء الصلاة وكذلك المسيء في صلاته؛ لأنه كان ليس في المدينة ولا يعلم والصلوات كثيرة. * * *

حكم من استقاء وهو صائم

حكم من استقاء وهو صائم: 639 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء". رواه الخمسة، وأعلَّه أحمد، وقوَّاه الدَّارقطنيُّ. قوله: "ذرعه" يعني: غلبه، و"القيء" معناه: لفظ ما في المعدة من الطعام والشراب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فلا قضاء عليه"؛ لأنه ليس باختياره، ولكن لو أن هذا الرجل الذي غلبه القيء وفرغت معدته من الطعام والشراب لو أنه أنهكه الجوع والعطش وخاف على نفسه من الضرر والهلاك يجوز أن يأكل ويشرب لدفع الضرر، ويكون إفطاره هنا بالأكل والشرب لا بالقيء الذي غلبه. قال: "ومن استقاء" هذه على وزن استفعل، وأصله استقييء من القيء، لكن نقلت حركة الياء إلى الساكن قبلها، ثم صارت ساكنة بعد فتح فقلبت ألفًا فصارت "استقاء". يقول: "فعليه القضاء"، "على" من أحرف الوجوب؛ لأن كلمات الوجوب كثيرة: يلزم؛ ويجب، وحتم، وفرض، ومكتوب، وما أشبه ذلك، "على" أيضًا قال العلماء: إنها من أدوات الوجوب، وهي ظاهرة فيه، وليست بصريحة، إذن "فعليه القضاء" فظاهره وجوب القضاء؛ أي: قضاء ذلك اليوم الذي استقاء فيه، وبماذا يستقيء؟ يستقيء بالقول والفعل، والشم والنظر، بالقول؛ يعني: وهو يتحدث عن أشياء مكروهة حتى تروج معدته ثم تخرج، الشم يذوب أشياء ممكنة، ويشمها حتى يقيء، النظر ينظر إلى أشياء كريهة فيقيء، الفعل يدخل أصبعه في حلقه أو يعصر بطنه عصرًا شديدًا حتى يخرج، السمع أيضًا، ممكن يسمع أشياء توجب هيجان المعدة وخروج ما فيها. المهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أداة الاستقاء بل قال: "من استقاء" بأي سبب يكون فعليه القضاء، يعني: يجب عليه أن يقضي، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أوجب القضاء فيما يظهر على من كان صومه ذلك اليوم واجبًا؛ لأن من كان صومه غير واجب فله أن يفطر، ولا قضاء عليه، وقد سبق لنا من حديث عائشة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أرينيه فلقد أصبحت صائمًا" فأرته إياه فأكل، وعلى هذا فيكون عليه القضاء إذا كان واجبًا. فيستفاد من هذا الحديث: أولًا: أن الاستقاء مفسد للصوم لقوله: "فعليه القضاء".

حكم الصيام في السفر

ثانيًا: حكمة الشارع في أنه ينبغي للإنسان أن يكون مع نفسه عدلًا في معاملتها؛ لأنه إذا صام ثم استقاء بقي بطنه خاليًا من الطعام والشراب، والشارع أمرنا أن نتسحر ليكون في بطوننا ما يعيننا على الصوم، فإذا أخرجنا ما في البطن هذا يكون غير عدل، فمن ثمَّ صار هذا سببًا مفطرًا فيفطر به الإنسان، وهو نظير الحجامة من بعض الوجوه، ونظير الجماع أيضًا من بعض الوجوه؛ لأن الجماع يخرج من الإنسان الماء وهو موجب للفطور وضعف البدن، فكان من الحكمة أنه يفطر، انظر إلى حكمة الشرع، إن تناول الإنسان ما يغذي به بدنه وهو صائم أفطر؛ لأن ذلك يفقده حكمة الصوم، وإن أخرج ما به ما عليه اعتماد بدنه أفطر، وهذا من الحكمة، فلا تدخل على بدنك شيئًا ولا تخرج منه شيئًا، كن معتدلًا اجعل كل شيء على طبيعته. ومن فوائد الحديث: أن ما غلب على الإنسان من المحظورات فلا أثر له، مثاله في الصلاة: رجل غلبه الكلام حتى تكلَّم، مثل سقط عليه شيء، وقال: "أح"، هذا غصب عليه، مثل: إغماض العين إذا أقبل عليها شيء، كذلك أيضًا: الظاهر أن الموسوس من هذا النوع، ويدل لهذا قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286]. لو قال قائل: هل من الغلبة الضحك؟ فطن لشيء فقهقه، الغريب أن الضحك يقول العلماء: أنه مبطل للصلاة مطلقًا، قالوا: لأنه منافٍ للصلاة فهو كالحدث؛ لأن الإنسان لو كان بين يدي شخص مهيب من بني آدم لا يمكن أن يضحك أمامه إلا بسبب، فيرون أن هذا لا يجوز، لو فطن لشيء وتبسم بدون صوت هذا لا يبطل الصلاة؛ لأنه ليس من القول، غاية ما هنالك أنه فعل قد يغلب عليه وقد لا يغلب، إنما نصَّ العلماء على أنه إن كان للتبسم فلا يبطل الصلاة، وأن الضحك يبطلها مطلقًا، وعللوا ذلك بأنه نوع استخفاف بالله عز وجل الذي وقف بين يديه، ولكن قد يقول قائل: إن الضحك إذا كان غصب على الإنسان- يعني: رجل حاضر بين يدي الله- لكن سمع شيئًا لا بد أن يضحكه وضحك، فظاهر كلام الفقهاء- رحمة الله عليهم- أنه يبطل الصلاة، وهذا عندي أنه وإن كان من حيث النظر فيه شيء، لكن من حيث التربية يكون أحسن للناس، فيقال له: أعد صلاتك، حتى لا يعوَّد في المستقبل ألَّا يقهقه أبدًا. حكم الصيام في السفر: 640 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكَّة في رمضان، فصام حتَّى بلغ كراع الغميم، فصام النَّاس، ثمَّ دعا بقدح من ماءٍ فرفعه، حتَّى نظر النَّاس إليه، فشرب، ثمَّ قيل له بعد ذلك: إنَّ بعض النَّاس قد صام. فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة".

- وفي لفظ: "فقيل له: إنَّ النَّاس قد شقَّ عليهم الصِّيام، وإنَّما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدحٍ من ماءٍ بعد العصر، فشرب". رواه مسلمٌ. قوله: "عام الفتح" منصوب على الظرفية لأنه مفعول فيه؛ أي: أن الفعل واقع فيه، فكل اسم زمان أو مكان بدل على أن الفعل واقع فيه فإنه يسمَّى مفعولا فيه وينصب على الظرفية. وقوله: "في رمضان" ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، و"كراع الغميم": واد أمام عسفان، سمِّي بذلك لأنه يشبه الكراع. وقوله: "قدح" أي: إناء يشرب به، و"أولاء" اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، و"العصاة" خبره، وكرر ذلك تأكيدًا لفظيًا، وقوله: "إنما" هذه أداة حصر، يعني: لا ينظرون إلا في فعلك فيما فعلت، "ما" هذه يجوز أن تكون موصولة وعائدها محذوف تقديره: فيما فعلته، ويجوز أن تكون مصدرية، فيؤول ما بعدها بمصدر، فتكون: "في فعلك". وقوله: "فدعا بقدح من ماء بعد العصر" أي: في آخر النهار، وقول جابر: "خرج عام الفتح"؛ أي: عام فتح مكة، وذلك في رمضان بعد مضي أيام منه خرج لقتال قريش؛ لأنهم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه في صلح الحديبية، حيث أعانوا حلفاءهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن إعانة حلفائهم على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم نقض للعهد. يقول: "خرج إلى مكة" ذلك في السَّنة الثامنة من الهجرة، "فصام" أي: في سفره؛ وذلك لأن الأفضل الصوم في السفر إلا أن يشق على الإنسان، فإن الأفضل الفطر، وقوله: "حتى بلغ" "حتى": هذه غائبة، أي: إلى أن بلغ هذا المحل، فلما بلغه وكان الناس قد صاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل المراد أكثرهم؛ لأنهم كانوا يسافرون مع الرسول صلى الله عليه وسلم منهم المفطر ومنهم الصائم، ولكن شق الصوم على الناس، ولم يفطروا اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، فجيء إليه فقيل: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنهم ينظرون ماذا يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم أسوتهم، يقول: "ثم دعا بقدح من ماء فرفعه"، يعني: طلب ماء فرفعه على بعيره، حتى رآه الناس فشرب والناس ينظرون تحقيقًا لفطره، وليحملهم على التأسي به صلى الله عليه وسلم، من الناس من أفطر كما أفطر النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الناس من بقي متعللًا بأن ذلك كان بعد صلاة العصر، والزمن قريب، ولكن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض الناس قد صام، بمعنى: استمر على صيامه، فماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في هؤلاء؟ قال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة"، "العصاة" هنا هل جمع مؤنث سالم، أو هي جمع تكسير؟ جمع تكسير، ما الذي يمنع أن تكون جمعًا مؤنثًا سالمًا؛ لأن الألف أصلية، وابن مالك

يقول: وما بتا وألفٍ قد جمعا وهذه ما جمعت بالألف والتاء وإنما جمعت بالصيغة؛ لأن "عصاة" على وزن "فعلة"، ومفردها عاصٍ. إذن نقول: العصاة ليست جمعًا مؤنثًا سالمًا، ومن ذلك كتبت التاء بالهاء، ولو كانت جمعًا مؤنثًا سالمًا لكانت مفتوحة، فما هي المعصية؟ المعصية مخالفة الأمر، وتارة تكون بترك الواجب، وتارة تكون بفعل المحرم، هذا إذا ذكرت وحدها، أما إذا قيل: طاعة ومعصية فالطاعة في الأمر والمعصية في فعل المنهي عنه، فإن أفردتَّ إحداهما شملت الأخرى، وفي اللفظ الثاني فيه بيان سبب فطر النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه إنما أفطر من أجل مشقة الصوم على الناس. ففي هذا الحديث فوائد كثيرة، منها: عدم جواز قتال أهل مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد خرج لقتالهم؛ إلَّا أن هذا الحكم- قتالهم- قد نسخه النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من الفتح، فإنه قام خطيبًا في الناس، وأخبر بأن مكة حرام بحرمة الله منذ خلق السموات والأرض، وأنها لم تحل لأحد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها لم تحل للرسول صلى الله عليه وسلم دائمًا، وإنما أحلت له ساعة من نهار للضرورة، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنها عادت حرمتها منذ ذاك اليوم الذي خطب فيه كحرمتها بالأمس، يعني: كانت حرامًا ثم أحلت، ثم حرمت، فيكون النسخ وقع عليها مرتين. ثم قال: إن أحدًا ترخَّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوله: "إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم"، جواب لأمر مفروض، إذن قولنا: إنه يستفاد منها عدم جواز القتال في مكة صحيح؛ لأن هذا خاصٌّ بالرسول صلى الله عليه وسلم للضرورة، وكان في هذا الإذن من المصالح العظيمة ما لا يربو على مفسدته وإلا فقتال أهل مكة في البلد الآمن ليس بالأمر الهين، لكن فيه من المصالح العظيمة ما يربو على هذه المفسدة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حرر مكة من الشرك ومن حكم أهل الشرك وصارت البلد بلدًا إسلاميًّا بعد أن كانت بلد كفر. وفي هذا دليل على جواز الخروج للقتال في رمضان. لا يقول قائل: سنبقى حتى نفطر، بل نقول: متى دعت الحاجة إلى الخروج فاخرج ولو في رمضان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان. وفيه دليل على جواز الصوم في السفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام والناس معه، وهذه المسألة

اختلف فيها أهل العلم- رحمهم الله- فقال بعض العلماء: إن الصوم الواجب في السفر لا يجزئ عن الصوم المفروض، وإن الإنسان يحرم عليه أن يصوم في رمضان في السفر، ولو فعل كان آثمًا ولا يجزئه، وهذا مذهب الظاهرية، واستدلوا بقوله تعالى: {ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدةٌ من أيَّامٍ أخر} [البقرة: 185]. أي: فعليه عدة، وعليه فيكون صومه قبل أن يرجع من سفره، كالصوم في شعبان؛ لأنه صام في غير الوقت الذي يلزمه الصوم فيه، ولكن جمهور أهل العلم على خلاف قولهم، بل قالوا: إن الصوم جائز والفطر جائز، ولا ريب أن هذا القول هو المتعين؛ لأن السُّنة دلَّت عليه، والآية الكريمة فيها تقدير: من كان مريضًا، أو على سفر فأفطر، فعدة من أيام أخر هذا يتعين؛ لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في أسفاره وصومه يفسر الآية الكريمة، ثم القائلون بالجواز اختلفوا، فمنهم من قال: الأفضل الصوم، ومنهم من قال: الأفضل الفطر، ومنهم من قال: هما سواء؛ فالذين قالوا: إن الأفضل الصوم عللوا قولهم هذا بوجوه: الوجه الأول: أن هذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه صام، ولكنه لما شق على الناس الصيام أفطر مراعاة لهم، بدليل أنه- صلوات الله وسلامه عليه- دعا بالقدح من الماء ورفعه والناس ينظرون؛ لأنه لولا أنه يريد أن يفطر الناس لكان بإمكانه أن يفطر بدون أن يرفع الإناء؛ ولأن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر في رمضان، حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة"، الحر شديد، الإنسان من شدة الحر يضع يده على رأسه، لكن كان الناس مفطرين، ولم يفطر النبي صلى الله عليه وسلم بل كان صائمًا؛ لأنه لا داعي للفطر في هذه الحال؛ لأنه أفطر هنا كما في حديث جابر من أجل الناس، لكن لما كان الناس مفطرين في حديث أبي الدرداء لم يفطر بقي على صومه- صلوات الله وسلامه عليه- مع شدة الحر، إذن هذه علة. العلة الثانية: أنه أسرع في إبراء الذمة؛ لأنك إذا صمت في الشهر برئت ذمتك من الصوم، فإذا لم تصم بقي الصوم عليك دينًا، ثم قد تتكاسل وتتهاون حتى يأتي رمضان الثاني، كما هو الواقع الآن، أتصدقون أن بعض الناس يسألون في آخر يوم من شعبان، يقول: عليَّ صوم يوم من رمضان أصوم [غدًا]. وهو يوم الثلاثين من شعبان؟ ! مضى عليه إحدى عشر شهرًا، وشتاء قصر نهار وبرودة، وأخَّره إلى يوم الشك ربما يكون من رمضان، انظر كيف يسول الشيطان للإنسان، فإذا صام الإنسان الشهر في وقته صار ذلك أسرع في إبراء ذمته. ثالثًا: أنه أيسر له، لأن هذا مشاهد، وهو أن الإنسان إذا صام مع الناس صار أيسر له. إذن تيسير العبادة على الإنسان لا شك أنه مراد للشارع، ولاسيما وأن قوله تعالى {يريد

الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. جاءت في آيات الصيام من أجل هذه الأمور الثلاثة، قالوا: إن صوم الإنسان في رمضان أفضل من الفطر في السفر، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، والذين قالوا: إن الفطر أفضل ويكره الصوم وهذا مذهب الحنابلة- رحمهم الله-، وعللوا ذلك بأن هذا رخصة من الله وكرم، والإنسان لا ينبغي له أن يرد الرُّخصة والكرم؛ لأن ردَّ كرم الكريم غير محبوب إلى النفوس، وغير لائق من حيث الأدب، ولهذا لما سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلوة إن خفتم أن يفتنكم الَّذين كفروا} [النساء: 101]. قال: يا رسول الله، كيف نقصر ونحن آمنون؟ قال: "صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". معناه: أننا مأمورون بأخذ الرُّخص وألا نشدد على أنفسنا، فقالوا: ما دامت رخصة فإن الأولى الأخذ بها وألا نرد فضل الله وكرمه وإحسانه بل نقبله، والله عز وجل إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى نعمته عليه، وأيضًا فإننا نتحاشى بذلك قول بعض علماء المسلمين، وهو: أن الإنسان إذا صام لا يقبل منه صومه ولا تبرأ به ذمته، فنحن نؤخره لنصومه قضاء، وإذا صمناه قضاء أجزأ عنا ذلك بإجماع المسلمين ظاهريَّهم وقياسيَّهم، وإذا صمنا في رمضان قال لنا بعض علماء المسلمين: إن صومكم غير صحيح، فإذن نراعي هذا الخلاف ونؤخر الصوم ونجعله قضاء. وأما الذين قالوا بالتخيير على السواء، فاستدلوا بحديث أنس رضي الله عنه: "كنا نسافر مع النبي"؛ فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم". إذن المسألة ما فيها لوم على من صام ولا على من أفطر، وهذا يدل على التخيير، ولكننا إذا رجعنا إلى النظر بين هذه الأقوال الثلاثة وجدنا أن القول الأخير ضعيف، وهو أن الصوم والفطر على حد سواء، يبقى النظر بين مذهب الشافعي في المشهور منه، ومذهب الحنابلة في المشهور عنهم، مذهب الشافعي مؤيد بنص، ومذهب الحنابلة مؤيد بالقياس، والمؤيد بالنص أقوى؛ لأننا نقول: كل هذه النظريات والأقيسة تبطل بكون أتقى الناس وأعلمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في السفر، وما دام يصوم فلا ريب أن الأفضل الصوم، نعم، نحن نوافقكم على أن الإنسان إذا وجد في الصوم أدنى مشقة فإننا نقول له: لا تصم، بل الصوم لك مكروه؛ فإن تضررت فهو حرام عليك، وهذا القول هو الراجح عندي، بمعنى: أن الأفضل الصوم إلا لمن يجد مشقة ولو يسيرة فالأفضل الفطر، ومن خاف ضررًا أو مشقة غير محتملة فإن الصوم فيه حقه حرام؛ لأن عدوله فن الفطر مع وجود المشقة الشديدة يدل على تنطع في الدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون"، وبهذا نعرف خطأ بعض العامة وأشباه العامة الذين يذهبون إلى

العمرة في رمضان ثم يعلمون أنهم سيقدمون في النهار، وأنه سيلحقهم مشقة في الطواف والسعي وطلب المنزل وما أشبه ذلك، وتراهم يصومون! تجد الواحد منهم يتعب في الطواف والسعي وغيره وهو مصرٌّ على الصوم، لماذا؟ خطأ هذا إذا قال: هل ترون أن أبقى صائمًا وأؤجل أداء مناسك العمرة، أو أن أفطر وأؤدي مناسك العمرة فور وصولي؟ الأخير لا شك أنه أفضل، لماذا؟ لأن لدينا قاعدة شرعية أن الشيء المقصود ينبغي المبادرة به، دليل هذه القاعدة فعل أحزم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، المبادرة بالشيء؛ لأن انتهاز الفرص أمر مطلوب للشرع، ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن الحزم؛ لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، هذه القاعدة أخذناها من عدة وقائع: منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بال الأعرابي في المسجد أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ولم يتأخر مع أنه من الممكن أن يتأخر، وتطهر الأرض بالشمس والهواء. ثانيًا: لما بال الصبي في حجره ما قال: إذا قمت إلى الصلاة أنضح الثوب، بل دعا بماء وأتبعه إياه، ولمَّا دعاه عتبان بن مالك إلى بيته لمكان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم يتخذه عتبان مصلَّى قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى عتبان في بيته، وكان قد جهز لهم طعامًا، فمن حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم قال: أين تريد أن أصلي؟ ما جلس يأكل الطعام ثم بعد ذلك يقول: أين المكان، فور وصوله قال: أين تريد أن أصلي؟ فدل هذا على المبادرة: إذن فأنا ما قدمت إلى مكة إلَّا للعمرة كيف أؤخرها إلى الليل مراعاة للصوم الذي يحل لي أن أفطر منه، هذا واحد. ثانيًا: دليل خاص بهذه المسألة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم مكة للنسك لا يبدأ بشيء قبله، حتى إنه لا ينيخ راحلته إلا عند المسجد للمبادرة بقضاء النسك، فنقول لإخواننا الذين يقدمون مكة للعمرة في رمضان: الأولى بكم والأوفق للسُّنة أن تفطروا، ما دمتم ستجدون مشقة فأفطروا وأدوا المناسك بسهولة، جماعة لم يفطروا ودخلوا مكة صائمين وطافوا، ولما طافوا عطشوا شق عليهم العطش، نقول: أفطروا ولا بأس، وهل يشربون والناس ينظرون؟ في مكة الآفاقيون فيها كثيرون، يمكن في بلدك التي ما يرد عليها آفاقيون يمكن أن نقول: لا تفطر علنًا، لكن في مكة في ظني أن هذا لا بأس به ولو أمام الناس، وقد فعلت ذلك أنا في العام الماضي وتعمدته، جلست إلى إحدى الترامس وجعلت أشرب فوقف واحد عليَّ، وقال: كيف تشرب في رمضان؟ فقلت: هذا يا أخي جائز نحن مسافرون، لكن على كل حال القصد إن مثل هذه المسائل إظهارها للناس من أجل ألا يشدد عليهم.

إذن نأخذ من هذا: أن الأفضل لمن يشق عليه الصوم أن يفطر، هل هناك دليل لهذه المسألة؟ نقول: الدليل هذا الحديث الذي معنا، ودليل آخر نص في الموضوع في قصة الرجل الذي كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى النبي صلى الله عليه وسلم زحامًا ورجلًا قد ظلل عليه قال: "وما هذا؟ " قالوا: صائم. فقال: "ليس من البر الصيام في السفر". فنفى أن يكون برًّا، وهذا مما استدل به أيضًا من يقول: إن الأفضل الفطر، أخذوا بالعموم، ولكن نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من البر الصيام في السفر" في حالة خاصة، وهي المشقة التي بلغ بصاحبها أن يظلل عليه، وأن يزدحم الناس عليه كأنه في مرض الموت. ويستفاد من هذا الحديث: جواز الفطر في أثناء النهار للمسافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعد العصر. زد على ذلك أنه يستفاد منه: جواز الفطر لمن رخص له فيه، ولو في آخر النهار. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإمام المتبوع والمسئول أن يراعي أحوال الناس، ويعدل عن الأفضل إلى المفضول مراعاة لأحوال الناس؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مراعاة لأحوال الناس، ويدل على أنه أكثر مراعاة لأحوالهم ما سبق بحديث أبي الدرداء، ويدل ذلك أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء كان يستحب أن يؤخر من العشاء، ولكن إذا اجتمع الناس عجَّل لئلا يشق عليهم في الانتظار، فيدع الفاضل إلى المفضول مراعاة لأحوال الناس، بل يدل على ذلك أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك بنيان الكعبة على قواعد إبراهيم خوفًا من تغير الناس ونفورهم، قال لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين: باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون منه". ولكنه تركها خوفًا من نفور الناس، والحكمة فيما قدر الله عز وجل لما تولى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الخلافة في الحجاز هدمها وبناها على قواعد إبراهيم، وجعل لها بابين، باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون منه، ولما قضي عليه رضي الله عنه أعيدت الكعبة على ما هي عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الحكمة فيما أراد الله - سبحانه وتعالى- الآن، يعني: ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم من انتفاع الناس بدخول الكعبة، وجعل بابين لها حصل، أين البابان؟ الحجر الآن من الكعبة له باب يدخل منه الناس وباب يخرجون، مع أن في هذا راحة الناس أكثر مما لو كانت قد سقفت، لو كان الناس على جهلهم اليوم لقتل بعضهم بعضًا، يمكن أن يكون الذي يدخل لا يخرج، لكن من نعمة الله عز وجل أنه تعالى أعادها على ما كانت عليه، والذي قدره النبي صلى الله عليه وسلم وأراده حصل- ولله الحمد- الآن باب يدخل منه

الناس، وباب منه يخرجون مع الانشراح والهواء وعدم المشقة. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يؤكد قوله بفعله ليطمئن الناس إليه؛ لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا بقدح فشرب والناس ينظرون. ومنها: أن نقل بعض مخالفات الناس للمصلحة لا يعد من النميمة أو الغيبة، والدليل قولهم: "إن بعض الناس قد صام"، ووجهه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الذين بلغوا وإنما أنكر على الذين خالفوا. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز وصف الإنسان بما يكره على سبيل العموم إذا كان واقعًا فيه؛ لقوله: "أولئك العصاة"، هذا على سبيل العموم، ولا شك أن المعصية وصف ذميم مكروه للنفوس، ولكن إذا كان الإنسان مستحقًّا له فلا بأس أن يوصف به، أما أن نقول لشخص معين: أنت عاصٍ فهذا محل تفصيل، إن اقتضت المصلحة ذلك بأن يكون فيه ردع له ولغيره فلنقل له هذا، وإلا فإن الأولى ألا نقول ذلك له مواجهة ومباشرة؛ لأن هذا ربما يثيره فتأخذه العزة بالإثم فيزداد تعنتًا في معصيته وربما ازداد معصية أخرى. ومنها: أن النفوس مجبولة على تقليد الكبير؛ لقوله: "وإنما ينظرون فيما فعل"، ولا شك في هذا. ومن فوائد الحديث: جواز الإخبار عما يحصل في العبادات من المشقة لقولهم: "إن الناس قد شق عليهم الصيام"، لا يقال: إن هذه شكوى من مشقة العبادة، بل يقال: إن هذا خبر، وفرق بين الخبر المجرد وبين الخبر الذي يراد به الشكوى؛ ولهذا يجوز للمريض أن يخبر بما يجد، لكن من غير شكوى، مثلًا يقول: كيف أنت؟ يقول: والله البارحة سهلت وتعبت وآلمني كذا، وآلمني كذا، لكن إخبار لا شكوى، ولهذا بعض المرضى يقول: إخبار لا شكوى، وهناك فرق بينهما؛ فإذا أخبرت بأن العبادة شقت عليك لا تشكيًا منها فهذا لا بأس به. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه مع أصحابه؛ لأنه شرب هذا بعد العصر والناس ينظرون، كل هذا من أجل التسهيل والتيسير عليهم. ومنها أيضًا: جواز سؤال الغير حيث لا يكون في ذلك منة على السائل؛ لقوله: "فدعا بقدح"، فإن الإنسان لا حرج عليه إذا كان لا يرى منّة عليه في السؤال أن يسأل، ومثل الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سأل أحدًا قال: هات قدحًا هل يعتذر المسئول؟ لا، هذه منّة من الرسول عليه، لكن لو تدعو إنسانًا مساويًا لك تقول: أعطني قدحًا، تجده يغيب ساعتين ويتمهل، هذا الأحسن ألَّا تسأله؛ لأن فيه منّة وفيه إحراجًا، لكن بعض الناس تسأله قبل أن ينتهي الكلام تجده يأتي لك بما تريد، هذا ما يقال: إن سؤاله يعتبر من الذُّل أمام الناس، بل هذا من الأمر المباح الذي سنه

الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته. ومنها: جواز الإخبار بالكل عن البعض من قولهم: "إن الناس قد شق عليهم الصيام"؛ لأن الظاهر- والله أعلم- أنه ليس كل الناس يشقُّ عليهم ذلك، فإن الناس يختلفون في التحمل، ويختلفون أيضًا في الجوع وفي العطش، بعض الناس يجوع سريعًا ويعطش سريعًا، وهذا فرد من أفراد كبيرة وهي جواز إخبار الإنسان بما يغلب على ظنه بل جواز إقسامه على ذلك، كما سيأتينا في حديث أبي هريرة. والحديث يدل على أنه ليس كل مجتهد مصيبًا من جهة، ومن جهة أخرى أن من أخطأ في اجتهاده فيجب الإنكار عليه وبيان خطئه، وحينئذٍ نقول: إن العبارة المشهورة عند العلماء: أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد مقيدة بما إذا لم يكن ذلك اجتهادًا مخالفًا للنص، فإن كان مخالفًا للنص فإنه ينكر عليه، لكن ما دامت المسألة محتملة الاجتهاد فإنه لا ينكر؛ إذ ليس اجتهادك أولى بالصواب من اجتهاد الآخر. 641 - وعن حمزة بن عمرو الأسلميِّ رضي الله عنه أنَّه قال: "يا رسول الله، إنِّي أجد فيَّ قوةً على الصِّيام في السَّفر، فهل عليَّ جناحٌ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي رخصةٌ من الله، فمن أخذ بها فحسنٌ، ومن أحبَّ أن يصوم فلا جناح عليه". رواه مسلمٌ. وأصله في المتَّفقٌ عليه من حديث عائشة أنَّ حمزة بن عمرو سأل. "حمزة بن عمرو" كان كثير الأسفار كما في رواية أخرى: "وكان له ظهر يكريه"؛ معنى "ظهر": إبل يكريها ويذهب بها فهو كثير الأسفار، فيصادفه هذا الشهر رمضان- وهو في السفر-، يقول: "فهل علي جناح" أي: في الصوم؛ لقوله: "قوة على الصيام"، وكأنه رضي الله عنه استفهم هذا الاستفهام لقوله تعالى: {ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدَّةٌ من أيَّامٍ أخر} [البقرة: 185]. فجعل الله تعالى فريضة هذا المسافر عدة من أيام أخر، فقال: "هل علي جناح" يعني: إذا صمت هذا هو الأقرب، ويحتمل إذا أفطرت لكنه بعيد؛ لأن هذا معلوم من الآية، والجناح معناه: الإثم، وهو مبتدأ مؤخر، والجار والمجرور خبره مقدم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله"، الرخصة في اللغة: السهولة والنعومة، ومنه قولهم: "بنان الرُّخص" يعني: ناعم، والبنان طرف الأصبع فهي في اللغة: السهولة، وفي الشرع قالوا: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، هذا التعريف فيه شيء من الصعوبة، ولو قلنا: إن الشرع واللغة هنا متَّفقٌان لم يكن بعيدًا، وإن الرخصة في الشرع هي: التسهيل بإسقاط الواجب أو إباحة المحرم، إسقاط الواجب مثل:

الصوم يفطر الإنسان في السفر، المسح على الخفين رخصة، فيه إسقاط واجب، وهو غسل الرجل، الأكل- أكل الحرام- للمفطر كالميتة هذا أيضًا رخصة وإن كان بعضهم يسميها عزيمة، وبعضهم يقول: هي رخصة واجبة، والخلف قريب من اللفظي، هذه رخصة لأنها استباحة محظور بسبب، فلو قيل: إن الرخصة في الشريعة هي الرخصة في اللغة فهي كلها تسهيل لكان هذا أولى، أولًا: لأن هذا أقرب من الفهم من التعريف الذي عرفه به الأصوليون، الثاني: أنه أقرب إلى موافقة اللغة، والأصل في لغة الشارع أنها لغة العرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عربي، فالأصل أن اللغة الشرعية هي اللغة العربية إلا إذا وجد دليل يخص المعنى الشرعي بمعنى لا تقتضيه اللغة، مع أني أقول: إن المعنى الشرعي وإن كان أخص غالبًا من المعنى اللغوي فإنه لا بد أن يكون بينه وبين المعنى اللغوي ارتباط، ونحن نقول: إن المعنى اللغوي قد يكون أخص، وقد يكون أعمُّ. الغالب: أن المعنى اللغوي أعمُّ من المعنى الشرعي، وقد يكون المعنى اللغوي أخصُّ، مثل: الإيمان في اللغة: التصديق، أو التصديق المتضمن للإقرار، لكن في الشرع: الإيمان يشمل الاعتقاد، وهو التصديق والقول والعمل. المهم: أن الأولى أن تفسر الرخصة بأنها السهولة لغة وشرعًا، وأنها في الشرع: التسهيل لإسقاط واجب أو إباحة محظور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة فمن أخذ بها فحسن أخذه بها" لأن قبول رخصة الله لا شك أنها من الأمور المطلوبة، فإن رخصة الله عز وجل فضل من الله ومنَّة، وينبغي أن نقبل فضل ذي الفضل ومنته. "ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" هذا جواب قوله: "فهل عليَّ جناح؟ " أي: فله أن يصوم، وهذا يدل على التخيير، لكن مع ترجيح الأخذ بالرخصة؛ لأنه قال: "فحسن" ولكن يقال: إن الرسول قال: "من أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" قد يقول قائل: إن هذا نفي لتوهم المنع، كقوله تعالى: {* إنَّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوَّف بهما} [البقرة: 158]، معناه: أن الطواف بهما واجب سواء كان ركنًا أو اصطلاحًا، فقد يقول قائل: إن نفي الجناح هنا لدفع توهم المنع، وعليه فلا يمنع أن يكون مساويًا للصوم، ثم إنه سبق لنا أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم للصيام في السفر يدل على ترجيحه، لكن لو كان على الإنسان مشقة ولو بعض المشقة فالأفضل الفطر. يستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: حرص الصحابة- رضي الله عنهم- على التفقة في الدين، وذلك لسؤال حمزة بن عمرو للنبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أن بعض الناس يظن أن الترخيص من أجل المشقة، وأنه إذا وجدت القوة فلا رخصة، لقول حمزة: "إني أجد قوة على الصيام فهل عليَّ من جناح؟ " وهذا على احتمال أن

جواز فطر الكبير والمريض

يكون قوله: "فهل عليَّ من جناح؟ " في الفطر. ومنها: إثبات الرُّخص في الشريعة الإسلامية، لقوله: "هي رخصة من الله" ولكن هذه الرخص لا يمكن أن ترد إلا لسبب، وإلا كان الشرع متناقضًا، فكل رخصة رخَّصها الله فإنها لسبب وإلا كان الشرع غير حزم. ومن فوائد الحديث: أن الأخذ بالرخصة ليس بواجب لقوله: "فحسن"، ولم يقل: فواجب، وزيادة على ذلك قال: "ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" وهو يؤكد أن الأخذ بالرخصة ليس بواجب. ومن فوائد الحديث: الردُّ على الجبرية لقوله: "أخذ بها" و"أحب أن يصوم". ومن فوائد الحديث: الردُّ على من يقول: إنه لا يجوز صوم رمضان في السفر وهم الظاهرية لقوله: "من أحب أن يصوم فلا جناح عليه" وهذا صريح. ومنها: أنه يجوز إضمار ما دلَّ السياق عليه، ولا يعد ذلك إلغازًا في الكلام، وذلك من الآية وليس من الحديث: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفرٍ فعدَّةٌ} [البقرة: 184]. والمحذوف فأفطر، أي على سفر فأفطر. جواز فطر الكبير والمريض: 642 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "رخِّص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كلِّ يومٍ مسكينًا، ولا قضاء عليه". رواه الدارقطنيُّ، والحاكم، وصحَّحاه. قوله رضي الله عنه: "رخِّص"، إذ قال الصحابي هكذا بالبناء المجهول، فإن الفاعل هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإذ قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك بالبناء المجهول فإن الفاعل هو الله عز وجل، وعلى هذا فيكون مثل هذا الحديث من باب المرفوع حكمًا، لا نجعله صريحًا؛ لأنه لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رخص ولم نجعله موقوفًا؛ لأنه لم يقله من عند نفسه بل قال: "رخص". فإن قال قائل: أفلا يجوز أن يكون ابن عباس رضي الله عنهما فهم ذلك اجتهادًا وحينئذٍ يكون موقوفًا لا مرفوعًا؟ الجواب: أن مثل هذا لا يقع بهذا الجزم، بمعنى: أن الاجتهاد لا يقع بهذا الجزم فيقول: "رخص" إلا مقرونًا بالدليل في الغالب، على أنه روي عنه رضي الله عنه أن قوله تعالى: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أيامًا معدودات فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين} [البقرة: 183 - 184]. قال: إنها ليست بمنسوخة، إنما هي في الشيخ والشيخة لا يستطيعان يفطران ويطعمان عن كل

يوم مسكينًا، لكن هذا الاجتهاد منه رضي الله عنه ليس في محله، لأنه ثبت من حديث سلمة بن الأكوع في الصحيحين أنها منسوخة، وأن أول ما فرض الصوم كان الناس بالخيار ثم تعين الصوم، لكن قد يقال: إن لكلام بن عباس وجهًا وهو أن الله تعالى جعل الإطعام بديلًا للصوم والإنسان مخير بينهما، فإذا تعذر الصوم حل محله بديله وهو الإطعام، فيكون هذا من الاجتهاد الموافق للصواب. وقوله: "رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم من كل يوم مسكينًا" تقدم أنا لرخصة: السهولة في الأمر، وأن الشرع موافق للغة في ذلك، وقوله: "يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا"، فإذا كان الشهر ثلاثين يومًا أطعم ثلاثين مسكينًا، وإذا كان الشهر تسعة وعشرين أطعن تسعة وعشرين مسكينًا. وقوله: "ولا قضاء عليه" لأن القضاء في حقه متعذر أو متعسر، وحينئذٍ يكون الإطعام بدلًا عن الصوم. وقوله: "مسكينًا" هل يعني ذلك: فقيرًا أو مسكينًا؟ يشملهما جميعًا؛ لأنه سبق لنا أن "مسكينًا" إذا قرنت بما يماثلها أو إذا قرنت بالفقير فالمراد بها: من دون الفقير، وإذا انفردت عمّت، فيكون هذا من باب الكلمتين إذا أفرقنا اتفقتا، وإذا اجتمعنا افترقتا. وقوله: "يطعم عن كل يوم مسكينًا" لم يقدِّر الإطعام، فيشمل كل ما يسمى إطعامًا، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه لما كبر يضع طعامًا ويدعو إليه ثلاثين فقيرًا يأكلون، فعليه إذا غدَّى المساكين أو عشاهم أجزأه؛ لأنه يصدق عليه أنه أطعم عن كل يوم مسكينًا. يستفاد من هذا الحديث أولًا: أن الشيخ الكبير إذا لم يستطع الصوم سقط عنه ووجب عليه بدله، وهو أن يطعم عن كل يوم مسكينًا. ثانيا: يقاس عليه من يشبهه من ذوي الأعذار التي لا يرجى زوالها؛ لأن العلة الواحدة وهي العجز عن الصوم عجزًا مستمرًا مثل أصحاب الضعف المنهك الذي لا يرجى قوته فيما بعد، وكأصحاب داء السكر الذين يحتاجون إلى الشرب دائمًا، وكذلك أصحاب أمراض الكلى الذين يحتاجون إلى الشرب دائمًا، وكذلك من به مرض يحتاج إلى تناول الدواء كل يوم كل ست ساعات مثلًا، وكذلك أصحاب أمراض السرطان وشبهها مما لا يرجى زواله فحكمهم

حكم من جامع في رمضان

كالشيخ الكبير. ومن فوائد الحديث: أنه يجب أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، لا أن يطعم طعام ثلاثين مسكينًا، الواجب أن يطعم عن كل يوم مسكينًا لا أن يطعم طعام ثلاثين مسكينًا، والفرق بينهما واضح، وعلى هذا فلا بد أن يطعم بعدد الأيام، فلو قال: أنا سأخرج طعامًا يكفي ثلاثين مسكينًا لستة فقراء أطعمهم خمسة أيام، فالجواب أن نقول: إنه لا يجزئ، لا بد أن يطعم كل يوم مسكينًا. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجمع بين البدل والمبدل منه لقوله: "ولا قضاء عليه" وقد يقول قائل: إن هذا ليس بفائدة؛ لأن هذا الرجل لا يستطيع القضاء، لكن يقال: بل له فائدة وهي ما إذا شفي هذا الرجل من مرضه، الكبير لا يزول كبره، لكن من مرض مرضًا لا يرجى برؤه ثم شفاه الله فإنه في هذه الحال لا يلزمه القضاء؛ لأن ذمته برئت ولم يبق مطالبًا بشيء. حكم من جامع في رمضان: 643 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجلٌ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، فقال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تطعم ستِّين مسكينًا؟ قال: لا، ثم جلس، فأتى النبي رضي الله عنه بعرقٍ فيه تمرٌ. فقال: تصدَّق بهذا، فقال: أعلى أفقر منَّا؟ فما بين لابتيها أهل بيتٍ أحوج إليه منَّا، فضحك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتَّى بدت أنيابه، ثمَّ قال: اذهب فأطعمه أهلك" رواه السَّبعة، واللَّفظ لمسلمٍ. قوله: "جاء رجل" نحن نقول: إنه لا يهمنا أن نعرف عين الرجل، المهم ما في القصة من الأحكام. قال: "هلكت" والمراد بالهلاك هنا: الهلاك المعنوي لا الحسي، هلاك معنوي بماذا؟ قال: "وما أهلكك؟ " في بعض الروايات. "وقعت على امرأتي وأنا صائم" وقوله: "وقعت" كناية عن الجماع؛ لأن هذا مما يستحيا منه، وقد جرت عادة العرب أن ما يستحيا عنه يكنى عنه بما يدل عليه، فمثلًا "الغائط" اسم للمطمئن من الأرض المنخفض، كانوا يقضون الحاجة فيه قبل بناء الكتف في البيوت فكنُّوا بهذا الغائط بلفظ "غائط" عما يخرج مما يستقدر كراهة للكره باسمه الخاص، هنا أيضا يكنَّى عن الجماع بما يدل عليه، وهذا موجود في القرآن بكثرة وكذلك في السُّنة. قال: "هل تجد ما تعتق فيه رقبة؟ قال: لا".

قوله: "تعتق رقبة" الإعتاق بمعنى: تحرير الرقبة وتخليصها من الرق، هذا الإعتاق، ويحصل الإعتاق إما باللفظ وإما بالفعل وإما بالملك، إما باللفظ بأن يقول: "أنت عتيق" وإما بالفعل كالتمثيل به وإما بالملك كشراء من يعتق عليه مثل أن يشتري ابنه أو أباه أو أخاه أو عمه أو خاله أو من بينه وبينه رحم محرم فإنه بمجرد شرائه يكون عتيقًا. وقوله: "رقبة" المراد بها: النفس كاملة، والرقبة نفسها لا تعتق، لكنه عبر بالبعض عن الكل للدلالة عليه، والتعبير بالبعض عن الكل لا يستساغ إلا إذا كان هذا البعض إذا فقد فقد الكل، ولهذا لا نقول: أعتق أصبعًا، لماذا؟ لأنه إذا فقد لا يفقد الكل بل نقول: أعتق رقبة، ومن هذه القاعدة ما مر علينا من أن الشارع إذا عبَّر عن العبادة ببعضها دلَّ على أن ذلك البعض ركن فيها لا تصح بدونه فمثلًا التعبير عن الصلاة بالقرآن يدل على أن القرآن ركن فيها، قال الله تعالى: {وقرآن الفجر} [الإسراء: 78]. والتعبير عنها بالتسبيح يدل على أن التسبيح واجب فيها، والتعبير عنها بالركوع يدل على أن الركوع واجب فيها، وكذلك التعبير عنها بالسجود يدل على أن السجود واجب، قوله: "رقبة" نكرة في سياق الإثبات. قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال لا. قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا. قال: لا"، كم خصلة ذكرت؟ ثلاث: الإعتاق وبدأ به أولًا، ثم الصيام، ثم الإطعام، ثم جلس الرجل عند النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، العرق: هو المكتل- الزنبيل الذي تحمل به الحوائج- فقال: "تصدَّق بهذا" قال: الفاعل النبي صلى الله عليه وسلم والمخاطب الرجل، قال: "أعلى أفقر منا؟ " الهمزة هنا للاستفهام، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: أتصدق على أفقر منا، ولهذا قال: "فما بين لابيتها أهل بيت أحوج إليه منا" قوله: "لابتيها" تثنية لابة، واللابة: الحرَّة، وللمدينة حرتان: شرقية وغربية، والحرَّة هي: أرض تركبها حجارة سوداء. "فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه" مم ضحك؟ ضحك من حال هذا الرجل، فإن هذا الرجل جاء خائفًا مشفقًا يقول: إنه هلك، وقبل أن يفارق المكان صار طماعًا يجبي لنفسه، فلما قال: "تصدَّق به" قال: " على أفقر مني؟ " طمع في النبي صلى الله عليه وسلم وقوله "أنيابه" جمع ناب، وهي: الأسنان التي تلي الرُّباعية؛ لأنه يوجد الثنايا والرباعيات والأنياب والأضراس والنواجذ. الثنايا هما السنان المتجانيان في وسط الفم متواليان بعضهما يلي بعضًا، والرُّباعيات بعدهما، لأن الثنية مع الرباعية، والثنية الأخرى مع الرباعية صارت أربعة، والأنياب هي التي وراء الرباعيات، وسميِّت أنيابًا لأنها تشبه الناب؛ فإنها مستديرة قليلًا، بينما الرُّباعيات والثنايا مفلطحة، وما وراء ذلك فهي أضراس، والنواجذ قالوا: إنها أقصى الأضراس، وبعضهم قال إن

النواجذ تطلق على الأنياب، ثم قال: "اذهب فأطعمه هلك" أي: التمر، الرجل ذهب ورجع إلى أهله بتمر وكان قد خرج منهم وهو يخشى على نفسه، ولكنه رجع غانمًا. ففي هذا الحديث فوائد كثيرة: حتى إن بعضهم جمع فيه ألف فائدة وواحدة، يعني: (1001). أولًا: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته لشرع الله، وجه ذلك: أنه لم يعنَّف هذا الرجل ولم يوبخه على ما صنع مع أن الذي صنعه من كبائر الذنوب؛ لأنه انتهاك لحرمة رمضان وفرضية الصوم، ولكن لم ينتهره النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن الرجل جاء تائبًا، وهناك فرق بين [إنسان] يجيء تائبًا يريد الخلاص، وبين إنسان غير مبال بما يصنع من الذنوب. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للرجل أن يخبر عن ذنبه عند الاستفتاء، ولا يقال: إن هذا من باب كشف ستر الله عز وجل وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه، لم يقل: اجعل هذا بيني وبينك. ومن فوائد الحديث: أن الرجل إذا أفطر بالجماع وجبت عليه الكفارة وإن لم يعلم أنها واجبة عليه؛ لأن هذا الرجل لم يدر ماذا يجب عليه لكن يدري أن الجماع حرام؛ لأنه قال: هلكت. وإن كان فيه احتمال أنه أخبر بعد أن فعل بأن ذلك حرام، لكن هذا الاحتمال وارد، وقد مرَّ علينا أن الأصل عدم الوارد، بمعنى: أن هذا الاحتمال يرد على القضية ورودًا ليس هو من لوازم القضية، بل هو وارد عليها، والأصل عدم الورود. فإذا قال قائل: يحتمل أنه أخبر بعد أن فعل، قلنا: أين الدليل؟ الأصل عدم ذلك وحينئذٍ يبقى الاستدلال بهذا الحديث واضحًا بأن الرجل كان عالمًا بأنه حرام ولكنه جاهل بماذا يجب عليه، هل يقاس على ذلك ما لو زنا رجل وهو يعلم أن الزنا حرام، لكنه يجهل الحد الواجب فيه؟ يقاس عليه لا شك؛ لأن العلم بالعقوبة ليس بشرط؛ الشرط العلم بالحكم الشرعي فإذا علم الإنسان الحكم الشرعي وأقدم على انتهاكه عوقب بما يقتضيه ذلك الانتهاك والعلم بالحد ليس بشرط، وقد مرَّ علينا في (كتاب الحدود) أن الشرط أن يكون عالمًا بالتحريم. ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الكفارة المغلَّظة في الجماع في نهار رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب عليه الكفارة، فإن قلت: هل يقاس على ذلك إذا كان صائمًا في قضاء رمضان أو لا يقاس؟ يقال: لا يقاس، والفرق بينهما حرمة الزمن، وعليه فلو أن الرجل جامع زوجته وهو يصوم رمضان قضاء فلا كفارة عليه؛ وذلك لأن وجوب الكفارة من أجل انتهاك الصوم في زمن محترم وهو نهار رمضان، ويدلكم على هذا لو أن رجلًا أفطر في قضاء رمضان عامدًا فالفطر حرام ويلزمه الإمساك، وإذا كان الجماع في نهار رمضان يمتاز عن غيره بهذه العلة فإنه لا يمكن

إلحاق غيره به، من جامع زوجته في كفارة هل عليه كفارة؟ ليس عليه كفارة لكن صومه يبطل بلا شك، لكنه ليس عليه كفارة ككفارة المجامع في نهار رمضان. وهل من فوائد الحديث: أن الرجل لو جامع غير زوجته في نهار رمضان فليس عليه شيء؟ إذا قيل من باب أولى قد يقول قائل: إن هذا سيحد ويكتفى بحده عن الكفارة فلا يجمع عليه كفارتان، فالجواب عن ذلك: أن يقال: أما قوله: "على امرأتي" فهذا وصف طردي لا أثر له، الوصف الطردي الذي يسميه بعض الأصوليين مفهوم اللقب هذا لا أثر له، والأثر الحقيقي للمعنى وهو الفعل الذي هو الجماع هذا وجه، وجه آخر لا يمكن أن نقول هذا؛ لأنه الأغلب، لأنك لو قلت: إنه الأغلب معناه: في غير الأغلب يطأ غير زوجته، لكن نقول: هذا وصف طردي ليس قيدًا فلا يؤثر في الحكم، إذن نقول: إذا جامع امرأته في نهار رمضان فإن انطبقت عليه شروط الحد وجب عليه شيئان: كفارة الجماع، والثاني: الحد، وإن وقع على غير امرأته على وجه يعذر فيه كالوطء بشبهة فعليه الكفارة فقط، وإذا وقع على أمنه ففيه الكفارة فقط. ويستفاد من هذا الحديث: أنه لو جامع زوجته في رمضان وهو صائم والصوم غير واجب عليه فلا كفارة عليه، يؤخذ ذلك من قوله: "هلكت"؛ لأن المسافر لو أفطر في نهار رمضان وهو صائم لا يهلك فمباح له ذلك، وعلى هذا فلو أن رجلًا كان مع امرأته في نهار رمضان صائمين وهما مسافران فجامعها فلا شيء عليه. ويستفاد من هذا الحديث: جواز الفتوى بدون السؤال عن الموانع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله لم يقل: هل أنت مسافر؟ ولكن أفلا يحتاج هذا إلى نقاش؟ نعم، كيف؟ لأن قوله: "هلكت" يدل على أن الصوم واجب عليه وحينئذٍ لا يستقيم هذا الاستدلال، ولكن المسألة من حيث هي صحيحة، يعني: أنه يجوز للمفتي أن يفتي ولا يسأل عن الموانع، فلو جاءه رجل وقال: إني طلقت زوجتي طلقة فهل لي أن أراجعها، هل يلزم أن يقول: طلقتها في الحيض، طلقتها في طهر لم تجامعها فيه أو طهر جامعتها فيه، طلقتها حاملًا؟ لا، لو جاءه يسأل: هلك هالك عن ابن وعم هل يلزمه أن يسأل هل الابن قاصر، هل هو رقيق، هل هو مخالف لدين أبيه؟ لا، فذكر الموانع لا تتوقف عليه الفتوى، أما التفصيل في أمر وجودي فلا بد منه، كما لو قال السائل: هلك هالك عن أخ وبنت وعم شقيق، فهنا البنت لا نحتاج أن نستفصل فيها، لها النصف، والعم الشقيق والأخ يحتاج إلى أن يستفصل، يقول: ما الأخ؟ إن كان أخًا من أمٍّ فالباقي بعد فرض البنت للعم، وإن كان أخًا لغير أم فالباقي بعد فرض البنت للأخ، وحينئذٍ نحتاج إلى استفصال بخلاف ذكر الموانع، فليست بشرط إنما لو ذكر المانع في الاستفتاء يجب أن يفتي على حسب المانع.

ومن فوائد الحديث: السؤال عن المجمل سؤال المفتي عن المجمل لقوله: "ما أهلكك؟ ". ومن فوائده أيضًا: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "يا رسول الله"، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائده: أنه تنبغي الكناية عما يستحيا منه لقوله: "وقعت على امرأتي"، ولم يقل: جامعت. ومن فوائده: الاستفهام عن الشيء مرتبة مرتبة إذا كان له مراتب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: هل تجد كذا؟ هل تجد كذا؟ ومن فوائده: أنه لا يجزئ الجمع بين خصلتين من خصال الكفارة، كما لو أعتق نصف عبد وأطعم ثلاثين مسكينًا أو صام شهرًا؛ لقوله: "رقبة"، وقوله: "شهرين"، وقوله: "ستين مسكينًا". ومن فوائده: أن كفارة الجماع في نهار رمضان على الترتيب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينتقل عن خصلة إلَّا حين قال الرجل: إنه لا يجد. ومنها: فضيلة العتق؛ لأنه بدأ به أولًا؛ ولأنه كفارة عن هذا الذنب العظيم. ومنها إثبات الرِّق شرعًا لقوله: "هل تجد ما تعتق؟ "، فإذن الرق ثابت. ومنها: جواز قول الإنسان لذي الشرف والمنزلة العظيمة: لا، دون أن يلجأ إلى قوله: سلامتك. ومنها أيضًا: صحة الاكتفاء بالجواب بما يدل عليه لقوله: لا، فإن كلمة "لا" تتضمن جملة السؤال، ولهذا يقال: إن السؤال معاد في الجواب. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان مؤتمن على عباداته، يؤخذ من اكتفاء الرسول صلى الله عليه وسلم بجواب الرجل بقوله: "لا"، لم يقل: هات بينة أنك لم تجد، ولم يقل له حين قال: لا أستطيع الصوم: إنك امرؤ شاب تستطيع، فالإنسان مؤتمن على عباداته، ولهذا قال العلماء: إن الرجل يُصدَّق إذا قال: إني صليت، أو قال: إني أديت الزكاة، أو قال: إني صمت، أو قال: إني كفَّرت، أو ما أشبه ذلك، ويصدَّق بلا يمين؛ لأنه مؤتمن على عباداته، اللهم إلا فيما كان فيه حق لآدمي كالزكاة فإنه قد يتوجه إلزامه باليمين أحيانًا إذا اتهمه القاضي أو شكَّ في أمره، أما الحق الخاص المحض لله تعالى فهذا لا يحلف عليه الإنسان؛ لأنه مؤتمن على دينه فيما بينه وبين ربه. ومن فوائد الحديث: اشتراط التتابع في صيام الشهرين؛ لقوله: "متتابعين" فلو أفطر بينهما يومًا واحدًا أعاد من جديد، حتى وإن لم يبق إلا آخر يوم فإنه يعيد من جديد، ولكن لو أفطر لعذرٍ كمرض وسفر وما أشبه ذلك فهل يقطع التتابع؟ لا، ولماذا؟ لعموم قوله تعالى: {فاتَّقوا الله ما

استطعتم} [التغابن: 16]. وهذا ملتزم بتقوى الله وأن يصوم شهرين متتابعين لكن حصل له مانع، ماذا تقولون لو سافر ليفطر هل ينقطع التتابع؟ نعم؛ لأن هذا حيلة على إسقاط ما أوجب الله عليه. ومن فوائد الحديث: أن المعتبر الشهور لا الأيام؛ لقوله: "شهرين"، والشهر- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم-: يكون هكذا وهكذا، وهكذا وهكذا، وقبض الإبهام يعني: يكون تسعة وعشرين، وعلى هذا فإذا ابتدأ الصوم في اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول ينتهي في اليوم السادس عشر من شهر جمادي الأولى حتى وإن كان شهر ربيع الأول ناقصًا وشهر ربيع الثاني أيضًا ناقصًا، فإذا كانا ناقصين سيصوم ثمانية وخمسين يومًا. ومن فوائد الحديث: أنه لا بد من إطعام ستين مسكينًا، لا إطعام طعام ستين مسكينًا وبينهما فرق، إذا قلنا: إطعام طعام ستين مسكينًا صار معناه: أن يجمع ما يكفي ستين مسكينًا ويعطيه ولو مسكينًا واحًدا وهذا لا يجوز، بل لا بد من إطعام ستين مسكينًا؛ لقوله: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا". ومنها: أننا إذا رجعنا إلى البدل أخذنا بكمال المبدل منه من قوله: "ستين مسكينًا"، ولم يقل: إطعام ما يقابل صيام شهرين متتابعين؛ لأنا نقول الصيام: أن تواصل وما يكون شهران، لكن في الإطعام تطعم ستين مسكينًا عن ستين يومًا؛ لأن الله جعل على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين. ومن فوائد الحديث: عظم الجماع في نهار رمضان؛ لقوله: "هلكت"، ولإيجاب الكفارة المغلظة؛ لأن أغلظ الكفارات هذه، وكفارة الظهار، وكفارة القتل، فهذا يدل على أن الجماع في نهار رمضان من أعظم الذنوب. فإن قلت: هل تجب الكفارة بغير الجماع، كما لو أكل أو شرب أو أنزل بتقبيل أو ما أشبه ذلك؟ فالجواب: لا؛ لأن الإنسان لا ينال من الشهوة بهذه الأمور كما ينال بشهوة الجماع، ولأن شهوة الجماع شهوة تمتع وتلذذ، وشهوة الأكل في الغالب شهوة حاجة، فلهذا خففت، يعني: لو أن الإنسان أكل أو شرب عامدًا فلا كفارة عليه بخلاف الجماع. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان قد يرزق من حيث لا يحتسب؛ لأن الله ساق صاحب هذا التمر إلى أن جاء به إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان فيه الفقير لقوله: "ثم جلس فأتي النبي .. " الخ. ومن فوائد الحديث: سقوط كفارة الوطء في نهار رمضان عند العجز عنها؛ لأنه كما قال: لا أستطيع إطعام ستين مسكينًا، لم يقل: تبقى في ذمتك، لكن يعكر على هذه الفائدة أنه لما

جيء بالتمر قال: "خذ هذا وتصدَّق به" فإن هذا يدل على أنها لم تسقط، وسيأتي- إن شاء الله- البحث فيه قريبًا. ومن فوائد الحديث: أ، الإنسان ينبغي له إذا استفتي مفتيًا في حلقة علم أن يجلس لينال فضل العلم؛ لقوله: "ثم جلس". ومن فوائد الحديث: أنه يجوز دفع الصدقات للإمام ليقوم بدفعها لأهلها لقوله: "فأتي النبي .. " إلخ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإمام والناس يأتون إليه أحيانًا بمثل هذا ليصرفه في أهله. ومن فوائد لحديث: أن الإمام مخيَّر في صرف ما يأتيه من الأموال، بمعنى: أن له أن يخص به من شاء، فلا يقال: يجب أن يوزعه على الناس بالسوية. يؤخذ ذلك: من إعطائه للرجل وقال: "تصدق به" مع أن الرجل في الواقع لم يأخذه إلا لدفعه الكفارة وليس لحاجته الخاصة، إذن لو أن أحدًا من الناس أرسل إليك دراهم من الزكاة لتنفقها ورأيت رجلًا طال علة صاحب دين محتاجًا للزواج يحتاج إلى عشرين ألفًا للزواج والدراهم التي أتتك عشرون ألفًا هل يجوز أن تعطيها لهذا الرجل وحده؟ نعم؛ لأنه من أهل الزكاة. ومن فوائد الحديث: جواز مساعدة الإنسان في الكفارة لقوله: "خذ هذا فتصدَّق به". ومن فوائده: أن الكفارة تسمَّى صدقة لقوله: "تصدَّق به"، والجامع بينهما: أن الصدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"، والكفارة أيضًا تذهب خطيئة هذه المعصية التي كفر عنها. ومن فوائده: جواز ذكر الإنسان حاله من غنى أو فقر أو مرض أو حاجة لا على وجه الشَّكاية إلى الخلق لقول الرجل: "أعلى أفقر منَّا؟ "، وهل يجوز على سبيل السؤال أن تطلب من شخص أمين لعله يعطيك؟ نعم؛ لأنه حين قال: "أعلى أفقر منَّا" فإن لسان الحال يقول: أعطني إيَّاه، وعلى هذا فيجوز للإنسان أن يذكر حاله للشخص تعريضًا لإعطائه، وإن كان هذا الرجل جاء يستفتي، لكن نقول: إذا جاز لهذا- وهو إنما جاء ليستفتي- فالذي جاء للغرض نفسه من باب أولى ما دام الشرع أباح له وإلا لكنا نقول: أنت ما جئت لهذا، أنت جئت لتنقد نفسك مما وقعت فيه، ولا ينبغي لك إذا جئت لهذا الغرض أن تدخل أمور الدنيا في هذا. ومن فوائد الحديث: جواز إخبار الإنسان عما لا يحيط به علما بحسب ظنه؛ لقوله: "فما بين لابتيها ... " إلخ؛ لأن هذا لو أردنا أن نصل إلى العلم اليقين فيه لكان لا بد أن نبحث كل بيت وحده، وهذا الرجل ما بحث إلا بيته وحده قطعًا. إذن يجوز أن تخبر عما يغلب على ظنك ولا يعد هذا رجمًا بالغيب، ولهذا قال الله تعالى: {إن بعض الظن إثمٌ} [الحجرات: 12]. ولم يقل: إن الظن

إثم؛ لأن الظن المبني على القرائن ليس بإثم، كذلك الظن الذي لا يحقق بمعنى: أن الإنسان اتهم أحدًا بشخص ثم ذهب يبحث ويتجسس هذا لا يجوز. ومن فوائد الحديث: جواز ضحك الإمام بحضور رعيته، والنبي صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وهو أشد الناس حياء، لو كان هذا مما يستحيا منه ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه تدل على طيب النفس وسعة الخلق. بعض الناس إذا كان له منزلة أو جاه يأنف أن يضحك حتى لو ضحك الناس فنقول: ضحك من هو خير منك الرسول صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما أنه يتبسم كثيرًا فإنه يضحك أحيانًا. هل يستفاد منه أيضًا: جواز الضحك على ما يتعجب منه؟ نعم، مطلقًا حتى غير الإمام لأنه إذا جاز للإمام الذي هو محل الوقار فجوازه لغيره من باب أولى لكن لا بد أن يكون لها سبب، ولكن من غير سبب من قلة الأدب، لكن بسبب فهذا يعتبر أن الإنسان على فطرته وليس عنده تزمت ولا انزواء ولا كبرياء؛ لأن ما تدعو الفطرة إلى الضحك فيه هذا لا بأس به. ومن فوائد الحديث: أن الأمر قد يراد به الإباحة، الشاهد: "أطعمه أهلك"، هذا أمر لكنه يراد به الإباحة، وهكذا نأخذ قاعدة أن الأمر بعد الاستئذان للإباحة؛ لأن الاستئذان يفيد المنع، فإذا جاء الأمر بعد المنع فهو للإباحة كما قال العلماء- رحمهم الله-: إن الأمر بعد النهي للإباحة، واستدلوا بقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 3]. وهل من فوائد الحديث: جواز كون الإنسان مصرفًا لكفارته؟ قال: "أطعمه أهلك" هل هو على سبيل الكفارة أو على سبيل أنك في حاجة والكفارة ما تجب إلا لغني قادر عليها، أيهما؟ ستقولون: يحتمل الرجل الآن هو غني حين أعطى لكن بيته في حاجة، الآن هو يقول: نحن محتاجون كل من في المدينة أغنى منا، الذي ليس في البلد أحوج منه، معناه: أنه هو المسكين وحينئذٍ لا تجب عليه الكفارة، بعض العلماء استنبط هذه الفائدة: أنه يجوز أن يكون الإنسان مصرفًا لكفارته بشرط أن يقوم بها غيره، أما أن يقوم بها هو فغير صحيح، واحد عليه إطعام ستين ويذهب يشتري ما يكفي طعام مسكين ويعطيه عياله ليأكلوها، هذا لا يصلح، لكن إذا أعطاها إياه غيره فهذا يدل على جواز ذلك، لكن علماء آخرين قالوا: هذا ليس بصحيح، ولا يستفاد هذا من الحديث لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أعطه أهلك" إنما أعطاه إياه لا على أنه كفارة ولكن على أنه لدفع حاجته، بدليل أنه لا بد من إطعام كم؟ ستون مسكينًا، ومن يقل: إن هؤلاء- أهل الرجل- ستون نفرًا، فإن قلت: يمكن ذلك، لكن نقول: حتى وإن كان ممكنًا كان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: هل أهلك يبلغون ستين مسكينًا؟ حتى يتبين أن ذلك من أجل الكفارة، ولهذا الصواب في هذه المسألة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أطعمه أهلك" من باب دفع الحاجة لا من

باب الكفارة. يبقى النظر في الفائدة التي أشرنا إليها وهي: هل تسقط الكفارة عن الفقير أو تبقى دينًا في ذمته؟ فيه خلاف؛ بعضهم قال: إنها لا تسقط؛ لأن هذا دين، والدَّين لا يسقط بالإعسار بل يبقى في ذمة المدين إلى أن يغنيه الله، ويدل لذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن قال الرجل: إنه لا يستطيع، قال: "خذ هذا فتصدَّق به"، ولو كانت ساقطة بعدم الاستطاعة لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: سقطت عنك، ويعطيه هذا إما لدفع حاجته، وإما يعطيه غيره من الناس، وهذا في الحقيقة إيراد جيد، هذا القول بأنها لا تسقط بالعجز، ولكن الصحيح: أنها تسقط بالعجز، ويدل لذلك: أولًا: عموم قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. وقوله: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286]. هذا واحد. ثانيًا: تدبرنا جميع موارد ومصادر الشريعة ووجدنا أنها لا توجب على الإنسان ما لا يستطيع، فالزكاة لا تجب على الفقير، والحج لا يجب على الفقير، والصوم لا يجب على العاجز عنه، وهكذا أيضًا هذه الكفارة لا تجب على العاجز عنها. ثالثًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: "أطعمه أهلك" لم يقل: وإذا اغتنيت فكفر، وهذا يدل على سقوطها، وأما قول الرسول: "خذ هذا فتصدَّق به"، فيمكن أن يجاب عنه بأن الرجل إذا اغتنى في الحال فإنه تلزمه الكفارة مثل لو كان حين الجماع في نهار رمضان فقيرًا وفي هذا اليوم أو بعده بيوم مات له مورث غني فاغتنى، حينئذ نقول: تجب عليك الكفارة؛ لأن الوقت قريب فيمكن أن يفرق بين شخص اغتنى قريبًا وشخص آخر لم يغتن، فإن هذا لا تلحقه، وهذا أقرب شيء، أي: أنها تسقط بالعجز لشهود الأدلة بذلك. في هذا الحديث اختلاف في الألفاظ فهل هذا الاختلاف يقتضي أن يكون الحديث مضطربًا، وإذا اقتضى أن يكون مضطربًا صار الحديث ضعيفًا؛ لأن المضطرب من قسم الضعيف؟ فالجواب: لا؛ لأن الاختلاف في الألفاظ إذا كان لا يعود إلى أصل الحديث فإنه لا يضر؛ لأن الأصل المقصود من الحديث هو وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، والروايات كلها متَّفقٌة في ذلك، أما اختلاف الألفاظ في كونه أقسم أن ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منه، وأطعمه أهلك، وما أشبه ذلك فهذا لا يضر، وهذه القاعدة ذكرها المحدثون، وممن ذكرها ابن حجر عند اختلاف الرواة في حديث فضالة بن عبيد حين اشترى قلادة من ذهب باثني عشر دينارًا ففصلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فالرواة اختلفوا في الثمن فقال ابن حجر: إن هذا لا يضرٌّ؛ لأن هذا في أصل الحديث، واختلاف الرواة في مقدار الثمن هذا أمر قد يقع، إذ إن الإنسان قد ينسى الثمن، هذه أيضًا اختلاف الألفاظ ولكنها لا تعود إلى أصل

مسألة: هل المرأة زوجة الرجل عليها كفارة؟

الحديث، وعلى هذا فالحديث سالم من الاضطراب وهو صحيح. مسألة: هل المرأة زوجة الرجل عليها كفارة؟ الحديث ليس فيه شيء، فمن ثمَّ اختلف العلماء هل على المرأة المجامعة كفارة أو لا؟ منهم من قال: إنه لا شيء عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له: مر أهلك بالكفارة والسكوت عن الشيء مع داء الحاجة إلى ذكره دليل على عدم وجوبه، فسكوت الرسول صلى الله عليه وسلم- مع أن الحاجة داعية للذكر- يدل على أنه ليس بواجب. ومنهم من قال: بل المرأة المختارة كالرجل؛ لأن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا بدليل، وأجاب عن هذا الحديث بعدة أوجه: الأول: قال: إن هذا الرجل جاء يستفتي عن نفسه، والاستفتاء عن النفس في أمر يتعلق بالغير يجاب للإنسان فيه على قدر استفتائه ولا يبحث عن الغير، واستدلوا لذلك بأن هند بنت عتبة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح .. الخ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "خذي من ماله ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف"، ولم يطلب أبا سفيان يسأله هل كلام المرأة صحيح أم لا. ثانيًا: أن الرجل يقول: "هلكت وأهلكت"، وهذا يشعر بأنه قد أكره الزوجة ولم يقل: هلك معي أهلي، ومعلوم أن الزوجة إذا كانت مكرهة فليس عليها شيء، فيكون هنا لم تذكر الكفارة على المرأة لوجود ما يشعر أنها مكرهة، والمكرهة ليس عليها شيء. ثالثًا: ربما كانت هذه المرأة غير صائمة، لماذا؟ قد تكون مريضة لا تستطيع الصوم أو طهرت من الحيض بعد طلوع الفجر، والصحيح: أن من طهرت من الحيض بعد طلوع الفجر لا يلزمها الإمساك فتأكل وتشرب، ولو أن زوجها قدم من سفر وهي طهرت بعد الفجر وهو قد بعد الفجر جاز له أن يجامعها؛ لأن كلا منهما لا يلزمه الصوم ربما تكون حائضًا، لكن هذه بعيدة بالنسبة لحال الصحابة، لكن فيه احتمال عقلًا وليس بممتنع، قد تكون حاملًا جاز لها الفطر كل هذا ممكن، قد تكون مرضعًا جاز لها الفطر، إذن المرأة فيها احتمالات كثيرة، وعندنا قاعدة أصلية مؤصلة في الشريعة وهي: تساوي الرجال والنساء في العبادات إلا ما قام عليه الدليل، وحينئذٍ فنقول: المرأة المطاوعة كالرجل، فإذا أطاعت المرأة زوجها في الجماع في نهار رمضان فإن عليها من الكفارة ما على زوجها إعتاق رقبة، فإن لم تجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم تستطع فإطعام ستين مسكينًا. إذا كانت هي تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين وزوجها لا يستطيع، فماذا يكون؟ تصوم وزوجها يطعم، فإذا قال زوجها: تبطئ عليَّ شهرين متتابعين صائمة. نقول له: لك الليل يكفيك أجعلها تصوم.

هل على من تعمد الفطر كفارة؟

هل على من تعمد الفطر كفارة؟ فيه بحث آخر لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل قضاء ذلك اليوم، فهل نقول: إنه لا قضاء عليه؛ لأنه قد تعمد الفطر؟ نقول: ذهب إلى هذا بعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية قال: من تعمد الفطر في نهار رمضان فلا قضاء عليه، ومعنى: لا قضاء عليه، أنه لا يقبل منه القضاء، فعليه أن يتوب عن الفطر وعن الصوم، وقال رحمه الله: إن أمر المجامع بالقضاء ضعيف؛ لأنه ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "صم يومًا مكانه"، لكن هذا الحديث يقول سيخ الإسلام: إنه ضعيف، نحن نقول: عدم ذكر الصوم هنا إما أن يخرَّج على ما خرجه عليه شيخ الإسلام وهو أن المتعمد لا يقضي؛ لأنه غير معذور، هذا واحد، وهذا فيه نظر؛ لأن القول الراجح أن الإنسان إذا شرع في الصوم لزمه وصار في حقه كالنذر؛ لأنه يبتدئ به معتقدًا لزومه ووجوبه عليه فهو كالناذر، والنذر يجب الوفاء به ولو أفسده صاحبه، وعلى هذا فنقول: إذا شرع في الصوم ثم أفطر متعمدًا فهو آثم وعليه القضاء، أما إذا لم يشرع في الصوم أصلًا تعمد أن يفطر هذا اليوم من قبل الفجر، فالصحيح: أنه لا قضاء، بمعنى: لا ينفعه القضاء؛ لأنه تعمد تأجيل العبادة عن وقتها بدون عذر، وكل عبادة مؤقتة إذا تعمد الإنسان تأجيلها أو تأخيرها عن وقتها فإنها لا تقبل منه. إذن هل هناك وجه آخر؟ نعم، ما هو؟ قال بعض العلماء: لم يوجب عليه قضاء الصوم؛ لأنه أوجب الكفارة فكانت الكفارة كفارة عن هذا اليوم وعن الجماع، فهما ذنبان دخل أحدهما في الآخر وصارت الكفارة لهما جميعًا؛ لأن الكفارة للأمرين للوطء والفطر، وعلى هذا فيكتفي بها عن الصوم، هذا جواب ثانٍ. وجواب ثالث: قالوا لم يذكر وجوب الصوم عليه؛ لأن هذا أمر معلوم أن من أفطر يومًا فعليه قضاؤه، وما كان أمرًا معلومًا فإنه لا حاجة إلى التنصيص عليه؛ لأن الرجل هو نفسه قد أقر بأنه هلك، فكان مقتضى الحال أن يكون ملتزمًا بقضاء هذا اليوم. ويوجد مناقشة ثانية: هل في الحديث دليل على أن الجماع مفسد للصوم موجب للكفارة، سواء كان الإنسان عالمًا أو جاهلًا أو ذاكرًا أو ناسيًا؟ قال بعض العلماء: فيه دليل؛ لأن الرسول لم يستفصل هل عليه قضاء أم لا؟ حكم الجماع ناسيًا أو جاهلًا: وهل لو جامع الإنسان وهو جاهل يفسد صومه أو لا؟ نقول: إن ظاهر الحديث وهو قوله: "هلكت" يدل على أن الرجل كان عالمًا بذلك؛ لأنه لا هلاك إلا مع علم، ولكن قد يقول قائل:

حكم الصائم إذا أصبح جنبا

ربما أن هذا الرجل أخبر بعد أن فعل بأن هذا حرام فقال: "هلكت". نقول: نعم، هذا الاحتمال وارد، ولكن الأصل أخذ الكلام على ظاهره، وأن الرجل علم أنه هالك قبل أن يخبر؛ لأن الإخبار وارد على حاله والأصل عدمه، وعلى هذا فنقول: ليس فيه دليل على أن من جامع وهو جاهل فعليه الكفارة، بل الجماع مع الجهل كالأكل مع الجهل وكسائر المحظورات مع الجهل فإنه يعذر فيها. حكم الصائم إذا أصبح جنبًا: 644 - وعن عائشة وأمِّ سلمة رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبًا من جماعٍ، ثمَّ يغتسل ويصوم". متَّفقٌ عليه. - وزاد مسلمٌ في حديث أمِّ سلمة: "ولا يقضي". قولها: "كان يصبح" ذكر أهل العلم أن "كان" تفيد الاستمرار لا دائمًا، بل غالبًا إذا كان خبرها فعلًا مضارعًا، ويدل على أنها لا تفيد الاستمرار دائمًا أن الواصفين لصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم تجدهم يقولون: كان يقرأ في صلاته كذا، والآخر يقول: كان يقرأ كذا وكذا، مثل: القراءة في صلاة الجمعة. وقولها: "يصبح جنبًا من جماع" هل نقول: إن قولها: "من جماع" من باب التوكيد أو من باب الاحتراز؟ الاحتراز؛ لأنه قد يباشر ويكون جنبًا بالمباشرة. الاحتلام ممتنع في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا من خصائصه، وقولها: "من جماع"، "من" هذه سببية، أي: بسبب الجماع، "ثم يغتسل ويصوم"، ومعنى قولها: "ويصوم" أي: يستمر في صومه؛ لأن الصوم يكون من قبيل طلوع الفجر، لكن معناها: ثم يصوم؛ أي: ثم يتم صومه ولا يعد بذلك مفسدًا، ثم قالت: "ولا يقضي"، وهذا النفي في حديث أم سلمة لا يحتاج إليه لكن ذكر على سبيل التوكيد؛ وذلك لأن السكوت عن القضاء دليل على عدمه. في هذا الحديث دليل على أنه: يجوز للإنسان أن يصبح جنبًا وهو صائم ولا حرج عليه في ذلك، مثل: أن يجامع زوجته قبيل الفجر أو قبل الفجر ثم لا يغتسل إلا بعد طلوع الفجر فلا بأس بذلك، وهذا الحكم دلّ عليه قوله تعالى: {فالئن بشروهنَّ وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتَّى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثمَّ أتمُّوا الصِّيام إلى الَّيل} [البقرة: 187]. ووجه الدلالة من الآية: أن الله أباح لنا مباشرة النساء، والأكل، والشُّرب إلى طلوع الفجر، وهذا يستلزم أن يكون الإنسان مجامعًا إلى آخر لحظة من الليل، وإذا كان كذلك فلا بد أن يطلع عليه الفجر وهو لم يغتسل، وهذا يسميه العلماء من باب دلالة الإشارة.

حكم من مات وعليه صوم

ويستفاد من الحديث: جواز التصريح بما يستحيا منه للحاجة والمصلحة لقول أمهات المؤمنين: "كان يصبح جنبًا من جماع"، لكن إذا دعت الحاجة إلى ذكر ما يستحيا منه فلا بأس؛ لأن الله لا يستحيي من الحق. وفيه دليل أيضًا: على جواز صوم الحائض إذا طهرت قبل أن تغتسل من باب القياس؛ لأن كلًّا من الحائض الطاهر قبل أن تغتسل والجنب كلٌّ منهما يجب عليه الغسل، فإذا صح صوم الجنب صح صوم الحائض. وفيه أيضًا دليل: على أن هذا شامل للفرض والنفل، وجهه: عدم التفصيل هذا من وجه، ووجه آخر قولها: "ولا يقضي"؛ لأن القضاء من خصائص الواجب. وفيه أيضًا دليل: على جواز مجامعة الرجل زوجته قبيل الفجر بل كل الليل؛ لقوله سبحانه: {حتَّى يتبيَّن لكم}، إن طلع الفجر عليه وهو يجامع المذهب أنه إن بقي وجبت عليه الكفارة، وإن نزع وجبت عليه الكفارة، إن بقي واضح للمعصية في قوله: {فالئن بشروهنَّ} إلى قوله: {حتَّى يتبيَّن لكم}، وإن نزع فالنزع عندهم جماع؛ لأن الإنسان يتلذذ به، فيكون هذا واقعًا في الإثم وتلزمه الكفارة، والصحيح: أنه لا يلزمه شيء إذا نزع فورًا، وأن هذا النزع ليس بحرام بل هو واجب، وما كان واجبًا فإنه لا يؤثَّم به الإثم، وإذا لم يؤثَّر فلا كفارة، ولكن يجب عليه من حين يعلم أن الفجر طلع يجب عليه أن ينزع، فإن قلت: هل علم الفجر يكون بالأذان؟ ينظر بعض المؤذنين يؤذن قبل الفجر، لكن إذا علمت أن هذا المؤذن لا يؤذن حتى يرى الفجر أو يخبره عنه ثقة، وجب عليك أن تعمل به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وإن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك فإن الإنسان إذا سمع المؤذن وكان يعرف أن هذا المؤذن ثقة راتب لا يؤذن إلا إذا رأى الفجر، أو أخبر به ثقة، فإنه يجب عليه العمل بالسماع، فإن شك فالأصل بقاء الليل، لكن ينبغي للإنسان ألَّا يعرض صومه للخطر. حكم من مات وعليه صوم: 645 - وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيامٌ صام عنه وليُّه". متَّفقٌ عليه. "من" اسم شرط، فعل الشرط "مات"، و"صام عنه وليه" جواب الشرط، وجملة "وعليه صيام" جملة في موضع نصب، يعني: من مات والحال أن عليه صيامًا فإنه يصوم عنه

وليه. قوله: "وعليه صيام" هذا ظاهر في أن المراد به: الصوم الواجب؛ لأن صوم التطوع لا يقال "عليه"؛ لأن "على" إنما تفيد الوجوب، وقوله: "صام عنه وليه" هذا خبر بمعنى الأمر، والمعنى: فليصم، وهذا الأمر هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ نقول: إنه للاستحباب، إذ لو قلنا: إنه للوجوب لزم من تركه أن يأثم الولي، وقد قال الله عز وجل: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} [الأنعام: 164]. و"الوالي" هو الوارث لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر"، فدل ذلك على أن الأولياء هم الورثة وأن فيهم الأولى وغير الأولى، وقيل: إن الولي هو القريب مطلقًا فيشمل الوارث وغيره، فلو هلك هالك عن عم وابن عم صار ابن العم وليًّا كما أن العم ولي، وعلى القول الأول يكون الولي هو العم فقط. وقوله: "من مات وعليه صيام"، كلمة "صيام" نكرة تشمل أي صيام واجب من كفارة أو نذر أو قضاء أو غير ذلك؛ لأنه عام مطلق، ولكن متى يكون عليه الصيام؟ يكون عليه الصيام إذا تمكن منه فلم يفعل، أما إذا لم يتمكن فليس عليه صيام، مثال ذلك: رجل نذر أن يصوم ثلاثة أيام ثم مات من يومه فهذا ليس عليه شيء، لماذا؟ لأنه لم يتمكن. رجل كان عليه قضاء من رمضان ولكن مرض في يوم العيد واستمر به المرض حتى مات فليس عليه صيام فلا يصام عنه، لماذا؟ لأنه لم يتمكن من الفعل، وكان عليه عدة من أيام أخر ولم يدرك هذه الأيام الأخر، رجل كان مريضًا في رمضان مرضًا لا يرجى برؤه ثم مات هذا يطعم عنه؛ لأن الواجب عليه ليس هو الصيام بل الإطعام. من فوائد هذا الحديث: أولًا: مشروعية الصيام للولي إذا مات مورِّثه قبل أن يصوم الواجب عليه، يؤخذ ذلك من قوله: "صام عنه وليه"، ولولا هذا لكان الصيام عنه بدعة، وكل بدعة ضلالة. ويستفاد منه: أن من مات وعليه صيام من رمضان، فإنه يصام عنه لعموم قوله: "وعليه صيام"، وهذا هو القول الراجح في هذا الحديث، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يصوم أحد عن أحد، وذهب آخرون إلى أنه يصام النذر ولا يصام قضاء رمضان، فالأقوال إذن ثلاثة، حجة القائلين بأنه لا يصام عن أحد حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد"، قالوا هذا عام فيكون هذا الحديث على رأيهم منسوخًا؛ لأنهم لا يقولون به،

ويقولون: لو قلنا: إنه يصوم عنه فإن أثَّمناه بعدم الصوم خالفنا قوله تعالى: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى}، وإن لم نؤثمه فقد يكون مخالفًا لظاهر الحديث؛ لأن ظاهر الحديث: "صام عنه وليه" هذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب، أما الذين قالوا: إن هذا في النذر دون الواجب بأصل الشرع فقالوا: لأن الواجب بأصل الشرع أوكد من حيث الفرض من الواجب بالنذر؛ لأن الواجب بأصل الشرع أوجبه الله على عباده عينًا، والواجب بأصل النذر أوجبه الإنسان على نفسه، فدخلته النيابة دون الواجب بأصل الشرع فهو كما لو التزم الإنسان بدينٍ عليه ثم مات، فإنه يقضي عنه، ولكن نقول: هذا تعليل عليل كالأول، الأول رددناه بأن الحديث ضعيف، والثاني لو فرض صحته لكان عامًّا يخصص بهذا الحديث، ويكون معنى: "لا يصوم أحد عن أحد"، يعني: لو كنا أحياء، وجاء شخص وقال: أنا أعرف أن الصوم يكلفك، ولكن أصوم عنك هذا لا يجوز، أما إذا مات فهي مسألة خاصة فتكون مخصصة للعموم على تقدير صحة الحديث، أما على رأي من قال: إنه خاصٌ بالنذر، فنقول لهم: هذا ضعيف أيضًا؛ لأننا لو نظرنا إلى الواجب بأصل الشرع والواجب بأصل النذر من الصيام لوجدنا أن الواجب بالنذر قليل بالنسبة إلى الواجب بأصل الشرع، متى يأتي رجل ينذر أن يصوم، لكن متى يكون على الرجل قضاء من رمضان؟ كثير، فكيف نحمل الحديث على الشيء النادر القليل وندع الشيء الكثير؟ هذا بعيد، إذا حملنا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم على شيء نادر وألغينا الشيء الكثير فهذا صرف للكلام عن ظاهره، وعلى هذا فنقول: الصواب بلا شك أنه يجوز أن يصام عن الميت ما كان واجبًا بأصل الشرع وما كان واجبًا بالنذر. رجل مر به رمضان وهو مريض مرضًا معتادًا يرجى برؤه كالزكام مثلًا، استمر به المرض حتى مات في آخر شوال هل يقضى عنه؟ لا يقضى عنه، لماذا؟ لأنه لم يتمكن، والمريض عليه عدة من أيام أخر. رجل آخر عليه قضاء من رمضان كان مسافرًا لمدة خمسة أيام وقدم من سفره، وبعد مدة مرض ومات هل يصام عنه؟ نعم، يصام عنه؛ لأن هذا قد وجب عليه الصوم وتمكن منه وفرط فيه. هل يصام عنه متتابعًا أو متفرقًا؟ نقول: ظاهر الحديث "صام عنه وليه" أنه يجوز متتابعًا ويجوز متفرقًا، كما أن الأصل أن الميت الذي عليه الصوم لو صام متتابعًا أو متفرقًا جاز، فكذلك من يصوم عنه يجوز متتابعًا ومتفرقًا. في الحديث دليل على أنه: لو اجتمع عدد من الأولياء وصام كل واحد منهم جزءًا مما عليه فهو جائز، يؤخذ من عموم قوله: "صام عنه وليه"، إلا إذا كان الصوم مما يشترط فيه التتابع فلا يجزئ مثل الكفارة فإنه لا يجزئ؛ لأن من ضرورة التتابع ألاَّ يصوم جماعة عن واحد، فمثلًا إذا

1 - باب صوم التطوع وما نهي عن صومه

قدَّرنا أنهم عشرون نفرًا، ووجب عليه صيام شهرين متتابعين فكل واحد يصوم ثلاثة أيام، لو صام واحد ثلاثة أيام والآخر ثلاثة أيام والثالث ثلاثة أيام ما صام كل واحد شهرين متتابعين حتى لو فرض أنه كلما فرغ واحد من ثلاثة شرع الثاني ثم الثالث ... إلخ، فإنه لا يصح؛ لأنه لم يصم كل واحد شهرين متتابعين، أما في رمضان فيمكن؛ لأن الله قال: {فعدَّةٌ من أيَّامٍ أخر} مطلقًا، ولهذا لو كان عليه عشرة أيام من رمضان وكان أولياؤه عشرة وصاموا في يوم واحد يجزئ. * * * * 1 - باب صوم التَّطوُّع وما نهي عن صومه "صوم التطوع" من باب إضافة الشيء إلى نوعه؛ لأن الصوم قد يكون واجبًا كرمضان والكفارة والفدية، وقد يكون تطوعًا، ثم قال: "وما نهي عن صومه" من الأيام والنهي عن الصوم قد يكون لأمر يتعلق بالشرع، وقد يكون لأمر يتعلق بالزمن كما سيأتي- إن شاء الله تعالى-، صوم التطوع من محاسن الدِّين الإسلامي، ومن رحمة الله تعالى بعباده؛ لأن صوم التطوع يكمل به الخلل الحاصل في صوم الفرض. ثانيًا: يزداد به إيمان الإنسان وثوابه عند الله عز وجل، ولولا أن شرع صوم التطوع لكان صوم التطوع بدعة يأثم به الإنسان، على هذا نقول: صوم التطوع فيه فائدتان: الأولى: تكميل الخلل الحاصل بالفرائض. الثانية: زيادة الأجر والثواب للفاعل، وقوله: "وما نهي عن صومه"، النهي معناه: طلب الكفّ على وجه الاستعلاء، ويشمل هنا المنهي عنه تحريمًا والمنهي عنه تنزيهًا. فضل صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء: 646 - عن أبي قتادة الأنصاريِّ رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة. فقال: يكفِّر السَّنة الماضية والباقية، وسئل عن صوم يوم عاشوراء. فقال: يكفِّر السَّنة الماضية، وسئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: ذلك يومٌ ولدت فيه، وبعثت فيه، أو أنزل عليَّ فيه". رواه مسلمٌ. هذه ثلاثة أيام سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صومها أولًا: "يوم عرفة" ويوم عرفة: هو اليوم التاسع من ذي الحجة، وسمِّي بذلك؛ لأن الناس يقفون فيه بعرفة، و"عرفة" اسم موضع معروف يقف الناس فيه في مناسك الحج، وهو ركن الحج الذي لا نظير له في العمرة؛ لأن أركان الحج غير الوقوف لها نظير في العمرة كالطواف، والسعي، والإحرام، أما الوقوف فلا نظير له، ومن ثمَّ قال

النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، ولم يقل: الحج الطواف مع أنه ركن، وسمَّيت عرفة لعدة أقوال أصحها: أنها سمِّيت بذلك؛ لأنها مرتفعة، وهذه المادة "ع ر ف" تدل على الارتفاع، ومنه سمي عرف الديك لأنه مرتفع. يقول: "فقال: يكفر السَّنة الماضية"، "يكفر" التكفير بمعنى: السَّتر ومعنى يكفر السَّنة الماضية، يعني: يستر الذنوب التي وقعت من الإنسان في السَّنة الماضية، وكذلك في السَّنة الباقية، أين السَّنة الباقية؟ يعني: من تسع ذي الحجة إلى محرم؟ لا، لأنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم تحدد السَّنوات، وعلى هذا فتكون السَّنة الباقية من تاسع ذي الحجة إلى تاسع ذي الحجة. وسئل عن صوم يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من محرم وصومه مشروع، فأول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون العاشر من شهر محرم وقالوا: إننا نصومه؛ لأن الله تعالى نجَّى فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه، فنحن نصومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن أولى بموسى منكم"، فصامه وأمر الناس بصيامه، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن صومه كان واجبًا ثم نسخ بصوم رمضان، فصوم عاشوراء معروف، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم في منزلة صوم هذا اليوم فقال: "يكفر السَّنة الماضية" فقط السَّنة الماضية، ما هي؟ يعني: عشرة أيام فقط؟ لا، إذن من محرم السابق إلى تاسع يكفر السَّنة الماضية. وسئل عن صوم يوم الإثنين وهو معروف فقال: "ذاك يوم ولدت فيه وبعثت فيه أو أنزل عليَّ فيه"، وهذا شك من الراوي هل قال: بعثت أو قال: أنزل، وتحتاج للتحرير من أصل مسلم؛ لأنها محتملة بالواو أو بـ"أو"، هذا الحديث فيه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم هذه الأيام الثلاثة: عرفة، وعاشوراء، ويوم الإثنين فبيَّن حكمها صلى الله عليه وسلم. فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد أولًا: حرص الصحابة- رضي الله عنهم- على العلم، وهل سؤال الصحابة عن هذا العلم أو للعلم والعمل؟ الثاني، أما أسئلتنا نحن في هذا العصر فأكثرها للعلم، العلم كثير ولكن العمل قليل. ومن فوائد الحديث: أن صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية وباقية، وظاهر الحديث أنه يكفر الصغائر والكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق ولم يفصَّل، وما أطلقه النبي فإنه يكون مطلقًا، وقد أخذ بهذا بعض العلماء وقال: إنه يكفر السنَّة الماضية والباقية سواء كانت هذه الذنوب صغائر أم كبائر، ولكن الجمهور على أنه لا يكفر إلا الصغائر، أما الكبائر فلا بد لها من توبة، وأيدوا رأيهم قالوا: لأن صوم يوم عرفة ليس أوكد ولا أفضل من الصلوات الخمس أو الجمعة أو

رمضان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنب الكبائر"، فقالوا: إذا كانت هذه العبادات العظيمة التي هي من أركان الإسلام لا تقوى على تكفير الكبائر فصوم هذا اليوم النفل من باب أولى، والراجح: أنه يقيد كما قيدت الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان. مسألة: ظاهر الحديث أنه يسن أو يشرع صوم يوم عرفة لمن كان واقفًا بها ولغيرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصِّل، وهذه المسألة مختلف فيها، فقال بعض العلماء: إن هذا الحكم شامل لمن كان واقفًا بعرفة ومن لم يكن واقفًا بها، ولكن الصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لمن لم يقف بعرفة، فأما من كان واقفًا بها فالمشروع له أن يفطر، واستدل هؤلاء بأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أتي يوم عرفة بقدح من لبن فشرب والناس ينظرون إليه، وهذا يدل على أن المشروع هو الفطر، ولهذا أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضًا فإن الذين في عرفة مسافرون إن كانوا من غير أهل مكة فالأمر ظاهر وإن كانوا من أهل مكة، فالصحيح: أنهم مسافرون؛ لأن أهل مكة كانوا يقصرون مع الرسول صلى الله عليه وسلم ويجمعون في عرفة ومزدلفة وفي منى، وهذا يدل على أنهم مسافرون، وإذا قدر أن الرجل من أهل عرفة وحجَّ فهو في عرفة غير مسافر، فإن الأفضل له أن يفطر ليتقوى بذلك على الدعاء الذي هو مخصوص بهذا اليوم، وهو من أهم ما يكون: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة"، والإنسان الصائم كما نعلم يكون في آخر النهار الذي هو أرجى الأوقات إجابة فيكون عنده كسل فيتعب ولا يكون قويًّا على الدعاء. ومن فوائد الحديث: أن التفكير يكون في الماضي والمستقبل؛ لقوله: "الماضية والباقية"، ولكن المستقبل على سبيل الدوام مدى الحياة لم يرد إلا للرسول صلى الله عليه وسلم ولأهل بدر، أما في حق الرسول فقد قال الله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 2]. أما لأهل بدر: "فإن الله- سبحانه وتعالى- اطلع إلى أهل بدر وقال لهم: اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وسبب ذلك أن هؤلاء القوم أتوا حسنى كبيرة عظيمة أعزَّ الله بها الإسلام وأهله وأذل الشرك وأهله، ولهذا سماه الله تعالى يوم الفرقان، فكان من شكر الله عز وجل لهؤلاء السادة أن قال لهم:

فائدة: حكم الاحتفال بالمولد النبوي

"اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم"، ولهذا قال بعض العلماء: كلما رأيت حديثًا فيه: "غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" فإن كلمة "ما تأخر" تكون ضعيفة؛ لأن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما مؤقتًا فكما رأيت في صوم يوم عرفة. ومن فوائد الحديث: فضيلة صوم يوم عاشوراء؛ لقوله: "يكفر السنة الماضية" ومن فوائده: أن فضل صوم يوم عاشوراء أدنى من فضل صوم يوم عرفة. ومن فوائده: أن نعمة الله على المسلمين في الأمم السابقة هي نعمة على جنسهم إلى يوم القيامة، فانتصار في الأمم السابقة هو من نعمة الله علينا، ولهذا صام النبي صلى الله عليه وسلم هذا اليوم شكرًا على ما أنعم به على موسى وقومه؛ حيث أنجاهم من الغرق وأغرق فرعون وقومه. ومن فوائد الحديث: فضيلة صوم يوم الاثنين؛ لأنه لما سُئل عن صومه قال: "ذاك يوم ... " إلخ، فهذا يدل على أن صومه مستحب وفيه فضل؛ لأن ذكر هذه الأشياء التي فيها منفعة لعباد الله يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب في أن يصام ذلك اليوم، ولهذا قال الله تعالى: {يأيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلم تتقوم * أيامًا معدودات فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرًا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون * شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان} [البقرة: 183 - 185]. فخصَّ الله بهذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن، فدل ذلك على أن مزية هذا الشهر بسبب نزول القرآن فيه. فائدة: حكم الاحتفال بالمولد النبوي: واستدل بهذا الحديث من قالوا: إنه يُسَنُّ الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل هذه المناسبة لها مزية وهي صوم ذلك اليوم الذي وُلِدَ فيه، ولكن هل هذا الاستدلال صحيح؟ غير صحيح، وهم لا يعلمون به أيضًا، أما كونه غير صحيح، فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم قيد الذي يشرع في هذا اليوم وهو الصوم- هذا واحد- فدل ذلك على أن ما عداه ليس بمشروع، فحينئذٍ يكون دليلًا عليهم وليس دليلًا لهم. ثانيًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عيَّن اليوم ولم يعين الشهر، وعلى هذا فلو صادف أن يوم ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم- إن صحَّ تعيين يوم ولادته في غير يوم الإثنين- فإنه لا يصام؛ لأن العلة هو صوم يوم الإثنين فقط. ثالثًا: أن نقول قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأنزل على فيه"، وهم لا يعتبرون الإنزال فيه، وإنما يعتبرون الولادة دون إنزال القرآن فيه مع أن فضل الله علينا بالإنزال على الرسول صلى الله عليه وسلم أكملي من فضله بالولادة؛ لأن الذي حصل فيه الشرف وتمت به النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم هو إنزال أما قبل ذلك فإنه بشر مِن البشر الذين ليسوا بأنبياء ولا رسل ولم

فضل صيام ستة أيام من شوال

يكن نبيًا إلا بعد أن أنزل إليه، ولم يكن هناك دين جاء به إلا بعد أن أنزل إليه. ثم نقول: مَن قال لكم: إن ميلاده في شهر ربيع، وإن ميلاده في اليوم الثاني عشر منه، كل هذا غير متيقن، من المعلوم أن هذه البدعة لم تحدث في عهد الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين، وأن القرون المُفَضَّلة انقرضت ولم يتكلم واحد منهم بكلمة ولم يفعل أحد منهم فعلًا من هذا النوع، وعليه فيكون مُح دَثًا، وكل مُحدث يتقرب به الإنسان إلى الله فهو بدعة وضلالة. ثم نقول أيضًا: هذه الذكرى التي تقيمونها كان عليكم أن تصبحوا يومها صائمين، أما أن تبقوا في تلك الذكرى منكم يقدمون الحلوى والفرح، وكذلك الأغاني التي كلها غُلُوٌ لا يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلم فليس هذا من إقامة ذكراه، بل هذه من معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم. إذن نأخذ من هذا الحديث: مشروعية صيام ثلاثة أيام يومان سنويًا، ويومًا أسبوعيًّا. فضل صيام ستة أيام من شوال: 647 - وَعَن أَبِي أَيُّوبَ الأَن صَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالّ: "مَن صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَت بَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهرِ". رَوَاهُ مُسلِمٌ. "من صام" شرطية، وجوابها: "كان كصيام الدهر"، وقوله: "من صام رمضان" يعني: أتم صيامه؛ لأنه لا يُقال للرجل صام رمضان إلا إذا أتمه، وقوله: "ثم أتبعه"، أي: جعل هذه الأيام تابعه له، لكن "ثم" تفيد الترتيب بتراخ، وقوله: "ستًّا من شوال" ولم يقل: ستة؛ لأنه حُذف المعدود وإذا حُذف المعدود فإنه يجوز التذكير باعتبار أن المحذوف مذكر والتأنيث باعتبار أنه مؤنث، وتطلق الليالي على الأيام ونعلم أن هذه الأيام؛ لأن اليوم هو محل الصوم. وقوله: "من شوال" هو بالكسر مجرورًا؛ لأنه اسم ينصرف، والذي ينصرف من أسماء الشهور هذا شوال؛ ذُو الحجة، مُحرم، ربيع الأول والثاني، ورجب. وقوله: "كان كصيام الدهر"، أي كان صوم رمضان وإتباعه ستًّا من شوال كصيام الدهر ووجهه: أن صوم رمضان بعشرة أشهر، وستة من شوال بشهرين والحسنة بعشر أمثالها، فكذلك كان كصيام الدهر، ولكن هل ينوب عن صيام الدهر؟ لا؛ لأن ما يعادل الشيء بالأجر لا ينوب منابه في الإجزاء، يعني: قد يكون الشيء معادلًا لأجره في الأجر ولكن لا ينوب عنه في الإجزاء؛ أرأيتم رجلًا جامع زوجته في الإحرام بالحج قبل التحلل الأول يلزمه بدنة، فقال: بدلًا من هذه البدنة أذهب إلى الجمعة في الساعة الأولى، ومن راح في الساعة الأولى كأنه قرب بدنة هل يجزئه ذلك؟ لا، {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن لو قرأها المصلي في صلاته

ثلاث مرات، هل تجزئ عن الفاتحة؟ لا، من قال عشر مرات: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" كان كمن أعتق أربع أنفس من ولد إسماعيل، قلو قال وهو عليه أربعة أيمان ونواها كفارة فلا تجزئ، وبهذا نعرف أن معادل الشيء لا يلزم أن يجزئ عنه، وكذلك الصلاة في الحرم، لو قال: أصلي في الحرم جمعة واحدة عن مائة ألف جمعة، وقال: لا أصلي بقية الجمع فلا يجزئه هذا. في هذا الحديث: الحثُّ على صيام ستة أيام من شوال لقوله: "كان كصيام الدهر"، ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا إلا ترغيبًا فيه وليس تحذيرًا منه. فإن قلت: أفلا يمكن أن يقول قائل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك تحذيرًا؛ لأنه نهى عن صيام الدهر كله وقال: "لا صام من صام الأبد"؟ فالجواب: أن مثل هذا التعبير يقطع به قطعًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين أن هذا يجزئه عن صوم الدهر: يعادله في الأجر، وحينئذ يبقى صوم الدهر ليس فيه إلا المشقة وإتعاب النفس. ومن فوائد الحديث: أن فوائد هذه الأيام لا يجزئ عنها إلا إذا صام رمضان كاملًا، وبناء على ذلك فمن كان عليه قضاء من رمضان وقال: إني سأبادر فأصوم السنة قبل أن يخرج شوال والقضاء أجعله فيما بعد فلا يجزئ، وهذا ليس مبنيًّا على خلاف العلماء هل يجوز صوم النفل لمن عليه قضاء؟ لأن هذا صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان ثم أتبعه"، وعليه فلا ينبني هذا على خلاف العلماء في التطوع في الصوم ممن عليه قضاء؛ لأن العلماء مختلفون فيما إذا كان عليك قضاء من رمضان. هل لك أن تتطوع في الصوم كصوم ذي الحجة وعرفة والمحرم والإثنين؟ فيه خلاف بين العلماء والراجح: أنك لا تتطوع حتى تقضي الواجب. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز أن تصوم هذه الأيام على وجه التتابع أو التفريق، يؤخذ إطلاق قوله: "ستًّا من شوال". وهل يؤخذ منه: أن الأفضل أن يفصل بينهما وبين رمضان بيوم لقوله: "ثم أتبعه"؟ ذكر بعض العلماء: أنه يستحب ان يفصل بينها وبين رمضان بيوم؛ لقوله: "ثم أتبعه" هذا واحد؛ لأن الفرض والسُّنة ينبغي أن يفصل بينهما حتى لا يختلط هذا بهذا، ولكن نقول: هذا القول فيه شيء من النظر بصومها بعد يوم العيد أفضل لما فيه من المسارعة في الخير وعدم تعرض الإنسان

لأمر يمنعه من صومها. ويستفاد من الحديث أيضًا: أن صيامها بعد شوال لا يجزئ، وهذا لمن تعمد تأخيرها واضح؛ لأن هذه عبادة مؤقتة، بماذا؟ بشوال فإذا أخَّرتها بلا عذر من شوال لم تجزئ، ولكن إذا أخرها الإنسان لعذر مثل أن يسافر من يوم العيد إلى آخر شوال فهل يقضيها أم لا؟ قد يقول قائل: إنه يقضيها قياسًا على قضاء رمضان؛ لأنها عبادة مؤقتة بوقت أخرها عن وقتها لعذر فلا بأس أن يقضيها، وقد يقال: لا يقضيها؛ لأنها سنة فات محلُّها بخلاف الفريضة. 648 - وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبدٍ يصوم يومًا في سبيل الله؛ إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النَّار سبعين خريفًا". متّفقٌ عليه، واللَّفظ لمسلمٍ. قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يومًا"، كلمة "عبد" يراد بها: العبودية العامة الشاملة للمؤمن والكافر، ويراد بها: العبودية الخاصة بالمؤمنين، ويراد بها: عبودية أخصُّ للرسل، فمن الأول العبودية العامة قوله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا ءاتى الرحمن عبدًا} [مريم: 93]. فهذه العبودية عامة ولا يمكن أحد أن يستكبر عنه، كل الناس خاضعون لها؛ لأنها عبودية كونية لا أحد أن يستطيع أن يرد المرض نفسه، ولا أحد يستطيع أن يرد الجوع عن نفسه، ولا أحد يستطيع أن يردَّ الموت عن نفسه، ولا أحد يستطيع أن يردَّ الحوادث عن نفسه، هذه عبودية عامة وهي العبودية الكونية المتعلقة بقدر الله عز وجل، عبودية خاصة وهي: عبودية التذلل لله تعالى بالطاعة وهذه عبودية شرعية يعني: التذلل للشرع، وهذه تكون لمن؟ للمؤمنين، ومنها عبودية أخص وهي: عبودية الرُّسل، مثال عبودية المؤمنين قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا}. [الفرقان: 63]. هذه خاصة للمؤمنين، عبودية للرسل: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1]. {واذكر عبدنا إبراهيم} [ص: 45]. {واذكر عبدنا أيوب} [ص: 41]. وهذه أخص من التي قبلها، قوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46]. من العامة أو الخاصة؟ من العامة، يعني لا يظلم هؤلاء ولا هؤلاء. "ما من عبد يصوم" من العبودية الخاصة، لماذا؟ لأن غير المؤمن لا يصح منه الصوم، فإنه لا تجتمع العبادة مع الكفر، بل الكفر إذا ورد على العبادة واستمر إلى الموت أبطلها، كما قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} [البقرة: 217]. وقوله: "يومًا في سبيل الله"، "يومًا" هذه مفعول به لوقوع الفعل عليه، والمفعول فيه هو الذي يقع فيه الفعل، نقول مثلًا: "زارني يومًا واحدًا" هذه مفعول فيه يعني: زارني في يوم، أما

"صمت يومًا واحدًا" فإن اليوم يصام كما تقول: صمت شهرًا، قال الله تعالى: {فصيام شهرين} صارت مضاف إليه، فهناك فرق بين المفعول به والمفعول فيه؛ المفعول فيه هو الذي يقع فيه الفعل، والمفعول به هو الذي يقع عليه الفعل. وقوله صلى الله عليه وسلم: "في سبيل الله" هل المراد في شريعة الله، أو المراد في سبيل الله، أي: في الجهاد في سبيل؟ يحتمل المعنيين، يحتمل: "في سبيل الله"، أي: في شريعة الله، ويكون في هذا تنبيه على الإخلاص والمتابعة؛ لأن العمل لا يكون في سبيل الله إلا إذا جمع بين الإخلاص والمتابعة، ويحتمل أن يكون المراد: "في سبيل الله"، أي: في الجهاد في سبيل الله؛ لأن الصوم في هذه الحال دليل على قوة رغبة الإنسان فيه فيمتاز بزيادة الأجر، كما كونه يقع خالصًا لله متبعًا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي مكان وفي أي زمان، فهذا شرط للعبادة. على كل حال: حتى لو لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: في سبيل الله، فإن من صام لا في سبيل الله، لا أجر له، فالذي يظهر أن المراد: في سبيل الله، يعني: الجهاد في سبيل الله؛ لأنه إذا أطلق الصوم الشرعي فهو الذي يكون في سبيل الله وحينئذ يكون التقييد ضعيفًا، أما إذا قيدناه فإنه لابد أن يفيد معنى قويًا مفيدًا أكثر من الإطلاق، وهو الظاهر أنه في سبيل الله، أي: في الجهاد في سبيل الله، ولكن يشترط لذلك ألا يكون مخالفًا للشرع، فإن كان مخالفًا للشرع فلا شك أن الإنسان لا ينال به أجرًا كما لو كان الصوم يضعفه عن القتال فحينئذ لا يصوم، ولهذا لما كان المسلمون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح رغبهم في الفطر؛ فمنهم من أفطر ومنهم من صام، ولما نزلوا المنزل الذي يلاقون فيه العدو من عنده قال لهم: "إنكم لاقوا العدو غدًا والفطر أقوى لكم فأفطروا"، فأمرهم بالفطر وعلَّل ذلك بأنه أقوى، وعلى هذا فإذا كان الإنسان في القتال فالمشروع له أن يفطر، وحينئذ لا يمكن أن يرغب الشرع في أمر يطلب من المسلمين أن يدعوه إذن كيف يكون مجاهدًا في سبيل الله ويصوم هذا اليوم الذي فيه الأجر العظيم مع أنكم تقولون: لا يصوم وقت ملاقاة العدو؟ يمكن أن يكون مرادفًا، يمكن أن يكون إلى الآن لم يلتحم القتال يصلح ويستعد والصوم لا يشقُّ عليه فهذا أمر ممكن. وقوله: "إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار" "باعد" من البعد؛ لأن الذنوب هي سبب دخول النار؛ فإذا بوعد بينه وبين النار هذه المدة دلَّ ذلك على أنه قد كفِّر عنه سيئاته. وقوله: "سبعين خريفًا"، "سبعين" هذه نائبة مناب الظرف، و"خريفًا" تمييز؛ لأنها مبينة لنوع

فضل الصوم في شعبان

المعدود، وكل ما بيِّن نوع المعدود فهو تمييز، و"الخريف" السَّنة وهو أحد فصول السَّنة؛ لأن فصول السَّنة؛ لأن فصول السَّنة أربعة: ربيع، وصيف، وخريف، وشتاء. كم للربيع من برج؟ الحمل والثور والجوزاء هذا للربيع، السرطان والأسد والسنبلة هذه للصيف الذي نسميه القيظ، الميزان والعقرب والقوس هذه للخريف، الجدي والدلو والحوت للشتاء، هذه البروج، يعني: مصطلح عليها من قديم، يعني من قبل زمن الرسالة، كل برج له نصيب من مطالع النجوم وهي ثمانية وعشرون مطلعًا، ثمانية وعشرين كل يوم ينزل القمر منها منزلة ويبقى ليلتين، ليالي الاستفسار يكون دائرًا حتى يرتحل إلى المنزلة الثانية في أول الشهر، على كل حال الخريف هو أحد فصول السَّنة بين الصيف والشتاء. قوله: "سبعين خريفًا" هل المراد بالسبعين حقيقتها أو المراد المبالغة؟ الظاهر: أن المراد حقيقتها؛ لأنه لا وجه للمبالغة هنا. يستفاد من هذا الحديث: فضيلة الصوم في سبيل الله، وعلى الاحتمال الثاني فضيلة الإخلاص، وأن اليوم المخلص فيه يكون ثوابه أكبر. وفي الحديث: إثبات النار لقوله: "باعد الله ... " إلخ، وهل هي موجودة الآن؟ نعم، بدلالة الكتاب والسُّنة وإجماع السلف، أما الكتاب ففي قوله تعالى: {واتقوا النار التي أعدَّت للكافرين} [آل عمران: 131]. والإعداد بمعنى: التهيئة، ومن السُّنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه النار وهو يصلي صلاة الكسوف حتى تأخر مخافة أن يصيبه من لفحها، ورأى فيها الناس يعذبون رأى عمرو بن لحي الخزاعي، ورأى صاحب المحجن الذي يسرق الحجاج بمحجنه، ورأى صاحبة الهرة التي حبستها، وهل هي مؤبدة؟ نعم، هي مؤبدة أبد الآبدين لا تنقطع ولا ينقطع عذابها ولا يخرج منها أهلها، قال الله تعالى في آيات ثلاث من القرآن: {خالدين فيها أبدًا}. فضل الصوم في شعبان: 649 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتَّى نقول: لا يفطر، ويفطر حتَّى نقول: لا يصوم وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهرٍ قطُّ إلا رمضان، وما رأيته في شهرٍ في شهرٍ أكثر منه صيامًا في شعبان". متفق عليه، واللَّفظ لمسلمٍ. عائشة رضي الله عنه وغيرها من أمهات المؤمنين، عندهن من العلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ما ليس عند غيرهم، ولهذا كان النفر الثلاثة الذين سألوا عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم في السر، إنما سألوا

زوجاته لأنهن أعلم، وهذا من فوائد تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يحفظن من أعماله في السر ما لا يحفظه غيرهن. تقول: "كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر" يعني: يصوم ويسرد الصوم، ويكثر الصوم، وعلى العكس من ذلك: "ويفطر حتى نقول: لا يصوم"، وهذا غير الصيام المعتاد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتاده كالإثنين والخميس مثلًا، أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر هو أحيانًا يصوم ويسرد الصوم، وأحيانًا يفطر حتى يقال: لا يصوم، وأقول: إن هذا في غير الصيام الذي كان يعتاده، لماذا ينوِّع؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق به مصالح كثرة؛ لأنه إمام الأمة وقائدها وتعتريه أشغال وأحوال يكون فيها بعض العبادات أفضل من بعض، فيراعي النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أفضل، ولهذا نحن نجزم أنه ما خرج مع كل جنازة، ولا صام كل يوم، ولا يومًا وأفطر يومًا، بل لما عرض على عبد الله بن عمرو أن يصوم يومين ويفطر يومًا قال: "نود لو أن قدرنا على ذلك"، فالرسول صلى الله عليه وسلم له أحوال وأعمال تقتضي أن يفطر، وله أحوال وأعمال تقتضي له أن يصوم، وهكذا ينبغي للإنسان أن يكون سائسًا لنفسه إذا رأى فيها إقبالًا على عمل ما -وهو عمل صالح-يفعل ما لم يشغلها عن فريضة، إذا رأى منها فتورًا على هذا العمل وإقبالًا على آخر فعل، حتى يكون دائمًا مع نفسه في عبادةٍ بدون أن يلحقها الملل والتعب. قاعدة مهمَّةٌ: ومن هنا أخذ العلماء تلك القاعدة المشهورة وهي: "قد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل"، كل ذلك باعتبار المصالح، ويجب أن نستثنى الفرائض فهي ليس عنها بديل، لكن التفاضل إنما هو في أعمال التطوع، قد يكون هذا الشخص يصوم ونقول: الصوم لك أفضل، وهذا الشخص يفطر ونقول: الفطر لك أفضل، وقد يكون نفس الواحد منا نقول في هذه الأيام: الصوم لك أفضل، وفي هذه الأيام الفطر لك أفضل حسب الحال، حتى قال العلماء: لو أن طالب العلم إذا صام حصل له الكسل والتعب ولم يجد نشاطه في طلب العلم، قالوا: فالأفضل له أن يفطر؛ لأن العلم أفضل من الصوم، وكذلك أيضًا لو أن الإنسان رأى أنه تعب أو ملَّ من الصلاة ويجب أن ينام؛ فنقول له: نم فالنوم أفضل، كذلك رجل تعب من الصلاة وأحبَّ أن يقرأ نقول: القراءة أفضل لك، رجل تعب من القراءة وأحب أن يصلي نقول: الصلاة أفضل لك، ولهذا لو سألنا سائل ينتظر صلاة الجمعة وقد أتى مبكرًا، ما تقولون؟ هل

الأفضل لي أن أصلي أو أقرأ القرآن؟ فنقول: أما بالنظر للعمل من حيث هو عمل فالصلاة أفضل، ولكن بالنسبة لحالك انظر ما هو أصلح لك، قد تكون إذا قمت تصلي يفوتك التدبر والتأمل والخشوع، ويشغلك الشيطان بالوساوس، وإذا جلست تقرأ حصل لك من التأمل والتدبر والتأمل والخشوع ما لم يحصل لك وأنت تصلي، فنقول هنا: القراءة أفضل. وتقول رضي الله عنها: "وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا رمضان"، إذا الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصوم شهر المحرم، مع أنه قال لما سئل: أيُّ الصوم أفضل؟ قال: "شهر الله المحرم"، وهو صلى الله عليه وسلم وإن صام في المحرم لا يستكمله قطعًا؛ لأنها تقول: "ما استكمل صيام شهر قط إلا رمضان". قالت: "وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان"، وظاهر كلامها حتى في المحرم أنه يصوم في شعبان أكثر من صيامه في المحرم، لماذا؟ قيل: لأن هذا الشهر شهر يغفل فيه الناس بين رجب ورمضان، فأحب صلى الله عليه وسلم أن يكون فيه متعبدًا قائمًا، وقيل: بل لأن شعبان في مقدمة يدي رمضان فالصيام فيه بمنزلة الراتبة للصلوات، وقيل: من أجل أن يمرن نفسه على الصوم ليستقبل رمضان، وقد تمرن على الصوم، ولو قال قائل: لأنه يصوم من أجل هذه العلل ولغيرها مما لا نعلمه، لكان له وجه؛ لأن تعدد العلل غير ممتنع، بل تعدد العلل مما يزيد الحكم قوة. من فوائد الحديث: أن عمل النبي صلى الله عليه وسلم بحسب المصالح، يؤخذ من قولها: "كان يصوم حتى .... " إلخ. ومن فوائده: أنه ينبغي للإنسان أن يسوس نفسه في العمل الصالح ويرودها على العمل ويتبع ما هو أنفع. فإن قلت: كيف نجمع بين هذا الحديث وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"؟ فالجواب أن يقال: لا تعارض؛ لأننا لا نقول: اترك العمل هكذا، بل نقول: اتركه لعمل آخر لمصلحة لغيره، وأنت إذا تركت العمل الذي تداوم عليه لمصلحة أو لعذر، فكأنك لم تتركه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا" كأنما فعله، وحينئذٍ لا منافاة بين الحديث. ومن فوائد الحديث: فضيلة الصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر منه حتى يقال: لا يفطر، ومن فضيلته: أن للصوم تطوعًا مقيدًا وتطوعًا مطلقًا، ما معنى مقيد؟ يعني: مخصوص بيوم معين وصوم غير مخصوص بيوم معين، لكن سيأتينا -إن شاء الله- أن بعض الأيام يحرم صومه مفردًا

ومجموعًا، وبعض الأيام ينهى عن صومه مفردًا ولا مجموعًا. ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم شهرًا كاملًا قط إلا رمضان. هل يؤخذ من الحديث: أن تحريم الزوجة ليس بظهار؟ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى من نسائه شهرًا وأتمَّ الشهر وحرَّم العسل، وأمر بأن يكفر كفارة يمين، وقلنا: إن الصواب: أن التحريم يشمل الزوجة وغير الزوجة، وكفارة تحريم المرأة -الزوجة- كفارة يمين، المهم: أن الواقع أنه لا يمكن أن يؤخذ من هذا الحديث: أن تحريم المرأة ليس بظهار، وجه ذلك: أن يقال: إن من خصال كفارة الظهار صوم شهرين متتابعين، وهذا أيضًا لا يصح، لماذا؟ قد يقال: لو فرض أن تحريم الزوجة ظهار فإن الرسول قد يعتق، ولا يلزم أن يصوم شهرين متتابعين. يؤخذ من هذا الحديث: ألَّا يصوم في التطوع شهرًا كاملًا، لكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم سنة وتركه سنة، لو أنه صام يومًا أو أفطر يومًا مدى الدهر فهذا أفضل الصيام، ولا يقال: إنك صمت شهرًا كاملًا. ومن فوائد الحديث: مشروعية إكثار الصوم في شعبان لقولها: "وما رأيته في شهر ... "إلخ، هل يؤخذ منه: بيان ضعف الحديث الذي رواه أبو هريرة: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"؟ نعم، كيف ذلك؟ لأنه كان يكثر الصيام في شعبان، وفيه مناقشة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل" مع أن عائشة كانت تقول: "إنه كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم"، كيف الجمع؟ حتى لو ثبت عندنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم في شهر المحرم أكثر من شعبان؛ لقلنا: إن عائشة رضي الله عنها حكت ما رأت، ونفي هذه الرؤية لا يمنع رؤية غيرها، لكن لم يثبت عندنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم المحرم كاملًا، بل قال في آخر حياته: "لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع"، وهذا مما يرد قول النووي رحمه الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم بفضل المحرم قبل وفاته فلم يصمه. على كل حال: نقول كما قال ابن القيم وجماعة من أهل العلم: إن شهر المحرم أفضل الشهور في الصيام المطلق، وشهر شعبان صوم مقيد؛ لأنه لرمضان بمنزلة الراتبة؛ والرواتب للفرائض أفضل من النوافل المطلقة، وعلى هذا فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان؛ لأنه كالمقدمة بين يدي رمضان فهو كالراتبة له، فيكون رمضان محفوفًا بصيامين: صيام شعبان، وستة أيام من شوال، وأيضًا للحديث هذا ألفاظ أخرى منها: "كان يصومه كله"، وفي لفظ: "كان يصومه إلا قليلًا"، هذا أيضًا يدل على ضعف حديث أبي هريرة المذكور، وأيضًا الإمام أحمد رحمه الله أعله بحديث: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين".

650 - وَعَن أَبِي ذَرًّ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَن نَصُومَ مِنَ الشَّهر ثَلاثَةَ أَيَّامٍ: ثَلاثَ عَشرَةَ، وَأَربَعَ عَشرَةَ، وَخَمسَ عَشرَةً". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتَّرمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ. "أمرنا"، الأمر: هو طلب الفعل على وجه الاستعلاء؛ لأن الأمر إن كان من الأعلى إلى الأدنى فهو أمر، ومن الأدنى إلى الأعلى سؤال، ومن المماثل للمماثل التماس، الأمر هنا للإرشاد وليس للوجوب، والأيام الثلاثة نصف الشهر، يعني: في منتصف الشهر، وتُسمَّى أيام البيض، أي: أيام الليالي البيض؛ وسُميَّت الليالي فيها بيضًا لابيضاضها بنور القمر، واختير هذا- وسط الشهر- لأن فيه مصلحة طبية للبدن؛ لأن الدم في هذه المُدة يفور ويزداد، والصيام في هذه الأيام يقلل من مضرته، فإن الدم كما يُقال: يتبع القمر؛ يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، والقمر أكثر ما يكون امتلاء بالنور في هذه الأيام الثلاثة فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيامها. ولكن صيام الأيام الثلاثة من كل شهر له جهتان. الأولى: استحباب صيام الأيام الثلاثة مطلقًا. الجهة الثانية: أن تكون في هذه الأيام، فاستحباب الأيام الثلاثة ثبتت من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، فقد كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وقال: "صيام ثلاثة من كل شهر صيام الدهر كله"، ولكنها غير مُعيَّنة تصوم أول يوم، والحادي عشر، والتاسع والعشرين، فهذا يصح، تصوم الرابع، والخامس، والسادس، أو الخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر، أو الخامس والعشرين، والسادس والعشرين، والسابع والعشرين، كل هذا يصح، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا يُبالي أفي أول الشهر صامها أو وسطه أو آخره". إذن الوجه الثاني: أن تكون الثلاثة في هذه المدة المُعينة وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، ونظير ذلك الوتر سُنة من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، ولكن كونه في آخر الليل أفضل لمن يقوم آخر الليل، فهنا نقول في الأيام الثلاثة من كل شهر: هي سُنة مطلقًا وكونها في هذه الأيام الثلاثة أفضل، كما أن الصلاة في أول وقتها أفضل، والوتر في آخر الليل أفضل، فهذا اختيار وقت فقط، وإلا فهي مشروعة في أي وقت من الشهر. يستفاد من هذا الحديث: أن الأمر قد يُراد به الإرشاد، وجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان

حكم صوم المرأة بغير إذن زوجها

يصومها في أول الشهر ووسطه وآخره. ويُستفاد منه أيضًا: استحباب تعيين الصوم "ثلاثة أيام من كل شهر"، فما في هذه الأيام الثلاثة؟ ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر. ويُستفاد منه أيضًا: حكمة الشرع باختياره العبادة في الوقت الذي يكون أنسب وأنفع، حيث أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تكون الأيام الثلاثة في هذه الأيام أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؛ لأن هذه الأيام خُصمت بزمن وهي في ذاتها في الأصل مستحبة. * * * حكم صوم المرأة بغير إذن زوجها: 651 - وَعَن أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يَحِلُّ لِلمَرأَةِ أَن تَصُومَ وَزَوجُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذنِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَاللَّفظُ لِلبُخَاِريَّ. - زَادَ أَبُو َاوُدَ: "غَيرَ رَمَضَانَ". الحديث فيه إشكال من حيث صناعة التخريج، لأن المؤلف قال: "متفق عليه" واللفظ للبخاري، ثم قال: "زاد أبو داود"، وأبو داود لا يدخل في المتفق عليه؛ لأن المتفق عليه هو الذي رواه البخاري ومسلم، لكن المؤلف رحمه الله طوى ذكر رواية أبي داود بذكر الزيادة كأنه قال: أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وزاد كذا وكذا، وهذا من باب طي الذكر المعلوم، وله أمثلة كثيرة ذكرها أهل البلاغة في كلامهم عن الإيجاز الذي قالوا: إنه نوعان: إيجاز قصر، وإيجاز حذف. أما لفظ الحديث فقال: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد" "أن تصوم" هذه مؤولة بمصدر فاعل "يحل" يعني: الصوم، وقوله: "وزوجها شاهد" جملة حالية، و"الشاهد" بمعنى: الحاضر. وهذا الحديث كما يدل عليه رواية أبي داود يُراد به غير رمضان؛ أي: يُراد به النفي، بل ظاهر النفل والواجب بالنذر؛ لأنه لم يستثن إلا رمضان، ففيه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد"؛ وذلك لأن المرأة عند الوج كالأسير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم" والعوان: جمع عانية بمعنى: أسيرة، ووصف الله تعالى

الزوج في القرآن بأنه سيد، فقال: {وألفيا سيدها لدا الباب} [يوسف: 25]. أي: زوجها، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الزوج راعٍ على أهله فقال: "والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته"، والزوج له حقوق على زوجته، فإذا صامت نفلًا وهو حاضر بلا إذنه فإنه سيقع في حرج؛ لأنه بين أمرين: إما أن يمتنع من الاستمتاع بها مع كونه مشتهيًا لذلك، وإما أن يُفسد صومها، وكلا الأمرين فيهما حرج، أما الأول: ففيه إشفاق على نفسه، وأما الثاني: ففيه إشفاق على غيره مع الأثر النفسي الذي يتركه هذا الأمر إذا أفسد صومها، لهذا قطع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي يكون فيه إحراج الزوج، فقال: "لا يحل .. " إلخ، وقوله: "لا يحل" نفي الحل إثبات للتحريم، هذا هو الظاهر، وإن كان نفي الحلّ لا يمنع الكراهة بمعنى: أن يُقال: إن المكروه أيضًا غير حلال، ولكن الغالب أنه إذا في الحل أو الجواز فالمراد: التحريم؛ لأن التحريم هو المقابل للجواز كما قال الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلل وهذا حرام} [النحل: 116]. فجعل الله تعالى الحلال قسيمًا للحرام ومقابل له، فإذا قلنا: لا يحل، فالمعنى: يحرم، فإذا قال قائل: لماذا لا تقولون: المعنى يُكره، لأن الأصل عدم التأثيم بمعنى: أنه يُكره للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، لأنك إذا قلت: يحرم لزم من قولك تأثيمها بالفعل، والأصل عدم التأثيم، وما دام نفي الحل صالحًا للكراهة وصالحًا للتحريم، فلماذا لا تحمله على أدنى الاحتمالين الذي تسلم فيه المرأة من التأثيم؛ لأن الأصل براءة الذمة. زيادة توضيح: كلمة "لا يحل" قلنا: معناه: يّحرمُ، لكن لو قلنا: معناها: يُكره، هل يستقيم الكلام؟ نعم، لماذا؟ لأن المكروه لا يحل ليس بحلال، إذ إن الحلال ما تساوى طرفاه، والمكروه لا يتساوى طرفاه، فنفي الحل لا يستلزم التحريم؛ لأنه يجوز أن يكون المراد: الكراهة، لكن قلت لكم: الأصل أن نفي الحلَّ للتحريم؛ لأنه- أي: التحريم- هو المقابل للحلَّ والقسيم له، بدليل قوله تعالى: {ولا تقولوا لما تصفُ .. } وما زال العلماء- رحمهم الله- يعبرون بقولهم: "ولا يجوز كذا" يعني: يحرم، وأما تعبيرهم "لا يحرم كذا" فلا يقتضي الحلُّ قد يجب، إذن نقول هنا: "لا يحل" أي: يحرم، فإن قال قائل: ما دُمت تقول: إن نفي الحل يحتمل الكراهة، ويحتمل التحريم، فلماذا لا تحمله على الكراهة؟ لأن الكراهة لا يحصل فيها إثم المرأة، فيحمل الحديث على أدنى الاحتمالين حتى تسلم المرأة من الإثم، لماذا؟ لأن التأثيم إشغال لذمتها وإلزام لها بأكثر مما يحتمله اللفظ، فالجواب: أن العادة المضطردة: أن نفي الحل، يعني: التحريم، وحينئذٍ

فائدة: حكم سفر المرأة بغير إذن زوجها

يكون هذا الظاهر مُقَدَّم على الأصل الذي هو عدم التأثيم. إذن يحرم على المرأة أن تصوم وزوجها شاهد. و"الزوج" معروف هو الذي تم العقد بينه وبين المرأة على الوجه الشرعي، وقوله: "إلا بإذنه"، الإذن بمعنى: الرخصة والإرادة يعني: إلا بإرادته، العلة في ذلك؟ لأن للزوج عليها حقًا وهو الاستمتاع، وإذا كانت صائمة فإن صيامها يمنعه من استمتاعه بها إلا على وجه فيه إحراج له، والإحراج هو أنه سيكون مترددًا بين أمرين: إن استمتع بها أفسد صومها، وإن تركها ونفسه تطلب ذلك وقع أيضًا في حرج، فلهذا لا يجوز أن تصومك نفلًا إلا بإذنه. وأما رواية أبي داود يقول: "غير رمضان"، فأما رمضان فيجوز أن تصومه ولو كان زوجها شاهدًا ولو لم يأذن، وهذا مع ضيق الوقت- وقت القضاء- واضح، يعني: مثلًا لو لم يبق من شعبان إلا مقدار ما لعيها من رمضان فلها أن تصوم وإن كان زوجها شاهدًا وإن منعها، ولكن إذا كان في الوقت سعة بأن يكون قد بقي من شعبان أكثر مما عليها مثل أن تريد صوم القضاء في جُمادي، فهل لها أن تفعل ذلك بلا إذنه؟ إن نظرنا إلى الحديث "غير رمضان" قلنا: الظاهر أن لها ذلك ما لم ينهها، وحينئذٍ تكون المراتب ثلاثًا: أولًا: النفل فلا تصوم حتى يأذن. ثانيًا: القضاء إذا بقي من شعبان بمقدار ما عليها فهذه تصوم وإن منع؟ ثالثًا: القضاء مع سعة الوقت فهذه تصوم ما لم يمنع؛ لأن هذه فريضة، وظاهر الحديث: العموم، لكن الفرق بينه وبين الفرض الضيق: أن الضَّيِّق وإن منع فإنها تصوم، والفرق بينه وبين النفل، أن النفل لا تصوم إلا بإذنه، أما هذا فإنها تصوم بدون استئذان ما لم يمنعها ويقول لها: إن الوقت أمامك واسع، ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها لا تصوم القضاء عليها إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منها. في هذا الحديث عدة فوائد الأولى: أن حق الزوج على الزوجة أعظم من حقها عليه، وجهه: أنها مُنعت من الصوم إلا بإذنه، وأما الزوج فله أن يصوم بدون إذنها، ويدل لهذه الفائدة قوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} [البقرة: 228]. ولو تساوى الرجل والمرأة في هذا لم يكن له عليها درجة. ومن فوائد الحديث: وجوب مُراعاة الزوجة لحقوق الزوج لقوله: "إلا بإذنه". فائدة: حكم سفر المرأة بغير إذن زوجها: ومن فوائد الحديث: أنه لا يحل لها أن تسافر إلا بإذنه، وهذا من باب أولى أن يمنعها؛ لأنه

إذا كان لا يجوز أن تصوم وهو شاهد مع أنها في الصوم أمامه يتمتع منها بالنظر واللمس والتقبيل وما أشبه ذلك وقضاء حاجاته، فمن باب أولى في السفر، فإن سافرت فهل يسقط حقها من النفقة أو لا؟ إن كان بغير إذنه فلا شك أن حقها من النفقة يسقط مع الإثم وعلى المذهب أيضًا لا تترخص برُخص السفر كالقصر والفطر في رمضان؛ لأن السفر سفر معصية إذا سافرت بإذنه فهل تسقط النفقة عنه؟ فعلى المذهب إن كانت الحاجة له لم تسقط، وإن كانت لها سقطت، والصحيح أنها لا تسقط ولو كانت الحاجة لها ما دامت سافرت بإذنه؛ لأنه هو الذي أذن لها والحق له وقد أسقطه وحقها لم يسقط. ومن فوائد الحديث: هل نقول: فيه دليل على أن المرأة لا تصلي تطوعًا وزوجها حاضر إلا بإذنه؟ الظاهر: أنها ليس كالصوم؛ لأن الصوم مدته طويلة والصلاة غير طويلة، لكن مع ذلك نقول مثلًا: له أن يحللها من الصلاة، يعني: لو أرادها فله أن يقول: "اقطعي الصلاة" إلا إذا كان قد أذن. ومن فوائد الحديث: جواز صوم المرأة بلا إذن زوجها إذا كان غائبًا لقوله: "وزوجها شاهد"، فإنما يدل على أنه إذا كان غائبًا فلا بأس، وظاهر الحديث لا بأس، وظاهر الحديث لا بأس وإن منعها، فإذا كان الغرض يتعلق به فله أن يمنعها مثل لو قال: أنا أمنعها شفقة عليها، لا من أجل مصلحتي أنا، ولا من أجل أنها تنقص بالصوم وما أشبه ذلك، فالظاهر: أنه لا يمنعها، وأن لها أن تصوم ما دام غائبًا؛ لأنه هنا ليس له مصلحة. ومن فوائد الحديث: أنه لو كان الزوج غير عاقل فلها أن تصوم ولو كان شاهدًا، من أين يؤخذ؟ ألا نقول: إنه إذا كان مجنونًا فلا تصوم مطلقًا؛ لأننا لا نعلم أنه أذن أم لم يأذن وهو ممن لا إذن له. وعلى هذا فنقول: صوم التطوع لا مرأة المجنون لا يمكن من رمضان إلى رمضان، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إلا بإذنه"، فإذا كان هذا مجنونًا ليس له إذن فإن إذنه متعذر وإذا تعذر الإذن الذي وقف الصيام عليه يتعذر الصوم، لأن "تعذر الشرط يستلزم تعذر المشروط" هذا هو ظاهر الأمر، ولكن قد يقول قائل: إن في هذا إضرارًا عليها، وقول الرسول: "إلا بإذنه" يدل على أن المراد بذلك: الزوج العاقل الذي له إرادة وتصرف، أما المجنون فلا يدخل في هذا، ولكن المجنون لو أرادها وهي صائمة وجب عليها التمكين من نفسها، وإلا فلها أن تصوم؛ لأنه لا يشعر أنها صائمة أو غير صائمة، كأن قائلًا يقول: لِمَ تبقى تحت المجنون؟ نقول: إذا أرادت أن تبقى قد يكون المجنون مجنونًا بدون حاجة، وقد يكون مهذريًّا، يكون كبير السن وقد يعتريه

حادث يُخل بفكره، المهم: أنه ليس له إذن، وقد يزوج وهو صغير، على كل حال الذي يظهر لي أن غير العاقل- الذي ليس له إذن معتبر- تصوم المرأة، فإن دعاها لحاجته المفسدة للصوم وجب عليها أن تمكنه لأنه زوج. ويُستفاد من الحديث: مُراعاة الشارع البُعد عن الإحراج، وأنه لا ينبغي أن نفعل ما فيه إحراج على الغير؛ لأنه منع من صومها إلا بإذنه، ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى وهي: ألا نحرج غيرنا لا سيما في الأمور التي لا يجب أن يطلع عليها أحد، فإن بعض الناس يحرجك في أمور يقول: حصل كذا ويحرجك ويؤذيك فتقع في حرج حتى لو أردت أن تتأول بما تظهر المسألة وتكون عند هذا الرجل كاذبًا. فالمهم: أن الحديث يشير إلى أنه ينبغي أن يتجنب الإنسان إحراج غيره، وهذا صحيح؛ لأني أرى أن الإحراج من الأذية يتأذى المُحرج، كما قال الله عز وجل: {خُذ العفو} [الأعراف: 199]. ما عفي من أخلاق الناس وأقوالهم وأفعالهم فخذ وما لا يأتي إلا بمشقة أتركه. يُستفاد من هذا الحديث: أن المرأة لو صامت وزوجها شاهد بدون إذنه فصومها فاسد، لماذا؟ لأنه منهي عنه لذاته، فكما أن الإنسان لو صام يوم العيد فصومه غير صحيح، كذلك هذه المرأة، ولكن ننظر في الموضوع إذا قيل: إن التحريم هنا لحق الزوج وهو كذلك بدليل أنه رُتب على إذنه فهل نجزم بأن الصوم حرام، أو نقول: هو موقوف على إجازته إن أجازه صح، وإن لم يجزه فليس بصحيح؟ ربما نقول هذا ما دمنا نعرف أن العلة حق الزوج والزوج أسقط حقه، فإنه يكون صحيحًا، لكنه يُشكل على هذا أن العبادات ليس فيها تصرف فضولي عند أكثر العلماء، ما هو التصرف الفضولي؟ التصرف في حق الغير الذي يقف على إجازته مثل: الحقيبة هذه لي، فجاء واحد منكم وباعها بدون إذني، هل يصح البيع؟ لا؛ لكن لو أذنت يصح على الصحيح، والمذهب لا يصح، والتصرف الفضولي أيضًا يصح حتى في العبادات كما في حديث معن بن يزيد حين أعطى رجلًا دراهم يتصدق بها فوقعت في يد ابنه، فقال له الأب: أنا ما أمرتك أن تعطيها ابني، فرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجازه، وقال للمُصدق عليه: "لك ما أخذت"، وللمتصدق: "لك ما أردت"، فهذا يدل أيضًا على أن تصرف الفضولي في العبادات جائز تنفيذه. ومن ذلك أيضًا: حديث أبي هريرة حين جاءه الشيطان وأخذ من التمر الذي كان أبو هريرة أمينًا عليه أعطاه ثلاث ليال فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضمن أبا هريرة. الحاصل: أن الذي يظهر لي في هذا الحديث: أن المرأة لو صامت بدون إذن الزوج ثم

النهي عن صيام يوم الفطر ويوم النحر

رضي بذلك فالصوم صحيح. وزيادة أبي داود: "غير رمضان"، هل يمكن أن يقول قائل: المراد: غير رمضان أداءً لا قضاء؟ ممكن، مثل أن يكون مسافرًا أو قادمًا من سفر، أو يكون مريضًا أو مضطرًا لإنقاذ غريق من غرق، وفيه أيضًا لو صامت عن نَذر هل يحلُّ لها أن تصوم وزوجها شاهد؟ نقول: إذا كان قد أذن لها في النذر وصامت فلا بأس، يعني مثلًا: قالت: عليَّ ثلاثة أيام صوم نذر، قال: موافق فصامت من الغد من غير أن تقول: أني سأصوم غدًا، هل يصح؟ يصح؛ لأنه أذن لها فيه. في الكفارة هل لها أن تصوم وزوجها شاهد بدون إذنه؟ إذا كان هو السبب فلا بأس، وإن كان ليس السبب كما لو كان كفارة يمين- وهي على الفور- فالظاهر: أنه في هذه الحالة لها أن تفعل، لأن هذا الحق واجب لله فلها أن تفعل. النهي عن صيام يوم الفطر ويوم النحر: 652 - وَعَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيَّ رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن صِيَامِ يَومَينِ: يَومِ الفِطرِ، وَيَومِ النَّحرِ". مُتَّفَقٌ عَلِيهِ. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى"، "النهي" أنه طلب الكفَّ على وجه الاستعلاء: يعني: على وجه يعتقد الناهي أنه أعلى رتبة من المنهى، وكل النواهي التي ترد في الكتاب والسُّنة فهي على هذا الوصف، فإن الناهي إما الله عز وجل وإما النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: "عن صيام يومين: يوم الفطر" بالكسر على أنه بدل بعض من كل، و"يوم الفطر" وهو أول يوم من شوال؛ لأن الناس يفطرون فيه من رمضان، "ويوم النحر" هو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة؛ لأن الناس ينحرون فيه الضحايا، وسُمَّي يوم النحر تغليبًا لما هو أكبر وأفضل وهي: الإبل، وإلا فإن نحرًا وفيه ذبحًا. في هذا الحديث يقول: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كذا"، وإذا قال الصحابي ذلك فالصواب بلا شك: أنه بمنزلة قوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصوموا، يعني: كالنهي الصريح، لأن هناك فرقًا بين نهي و"لا تصوموا"؛ لأن الثاني صريح، والصواب أيضًا: أن الأول صريح، وأما قول من قال: إنه ليس بصريح لاحتمال أن يكون الصحابي فهم أنه نهى وليس بنهي؛ فهذا بعي ولا يرد، وذلك لأن الصحابي عالم باللغة العربية ومدلولاتها، ولا سيما كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يزل يسمعه منه كثيرًا، فالصواب: أن قوله: "أمر"، وأن قوله: "نهى" أن الأول بمنزلة افعل، والثاني بمنزلة لا تفعل ولا فرق. وقوله: "نهى عن صيام يومين: يوم الفطر، ويوم النحر"، إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامهما؛

لأنهما اليومان اللذان يحصل بهما الأكل والشرب إظهارًا لنعمة الله- سبحانه وتعالى- في أيام النحر، وإظهارًا للفطر في يوم الفطر؛ لأن الناس لو صاموا لم يكن هناك فرق بين أول يوم من شوال وآخر يوم من رمضان، واختلطت الأيام التي يجب صيامها بالأيام التي لا يجب، والشارع له نظر في التفريق، ولهذا سبق لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يتقدم الإنسان رمضان بصوم يوم أو يومين خوفًا من أن يختلط الواجب بغيره، ولأن العبادة المحدودة إذا لم يكن هناك تمييز بين طرفيها فإنها تبدو وكأنها غير مؤقتة فمن أجل هذه الحكم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصام يوم عيد الفطر. وأما قول بعض أهل العلم: إنه نهى عن صيامهما؛ لأن الخَلق في ضيافة الله ففيه نظر ظاهر؛ لأن الخَلق دائمًا في ضيافة الله، لكن الحكمة هو هذا، أما يوم النحر فالحكمة فيه؛ لأن الناس لو صاموا لكان هذا عُزوفًا عن تمتعهم بالأكل عن هداياهم وضحاياهم، وقد أمر الله تعالى بالأكل منها، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحكمة بقوله: "أيام التشريق أيام أكل وشُرب وذكر لله عز وجل"، فلما كان الصوم يحول بين الإنسان وبين أكله من هذه الشعيرة العظيمة وهي النُّسك نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: نهى عن صيامهما عامٌّ يشمل صيامهما على أنه فريضة أو أنه نافلة، ويشمل صيامهما مضمومين إلى ما بعدهما أو منفردين، بمعنى: أنه لا يجوز أن تصوم يوم الفطر ولو صمت اليوم الثاني، ولا اليوم العاشر ولو صمت اليوم التاسع، أو الحادي عشر فالنهي عن صيامهما مطلقًا. فمن فوائد الحديث أولًا: تحريم صوم هذين اليومين. ثانيًا: بيان حكمة الله عز وجل من الشريعة، وأنه- سبحانه وتعالى- أراد منا أن نجعل الشريعة متميزة ظاهرة يتميز فيها كل شيء عن شيء. ثالثًا: مشروعية الحفاظ على الأكل من الأضاحي وكذلك الهدايا؛ لأن الله أمر بها، والصوم يحول بيننا وبين الأكل إلا في الليل. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان لو نذر أن يصوم هذين اليومين فإن نذره لا يصح ولا يجوز الوفاء به، لماذا؟ لأنه معصية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، ولكن هل يلزمه أن يكفر كفارة يمين؟ هذا محل خلاف، والصحيح: أنه يلزمه أن يكفر كفارة يمين؛ لأنه ورد حديث في هذا، وثانيًا: لأن حقيقة الأمر أن النذر متضمن معنى اليمين، والمقصود باليمين: الإيجاب التأكيد على الفعل إن حلفت على فعل، أو على الترك إن حلفت على ترك. ظاهر الحديث أيضًا: أنه لا يُصام يوم النحر ولا عن دم المُتعة والقِرآن مع أنه واجب؛

النهي عن صيام أيام التشريق

لقوله تعالى في دم المتعة والقرآن: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196]. ويوم النحر هو يوم الحج الأكبر، فهل يصوم الإنسان ذلك اليوم ويقول: لأن الله يقول: {ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم}؟ نقول: لا تصم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم هذين اليومين فهما ليسا وقتًا للصوم، ما نظيرهما في الصلاة؟ أوقات النهي التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها. النهي عن صيام أيام التشريق: 653 - وَعَن نُبَيشَةَ الهُذَلِيَّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَيَّامُ التَّشرِيِقِ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ، وَذِكرٍ لله عز وجل". رَوَاهُ مُسلِمٌ. قوله: "أيام التشريق" هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وسميت أيام تشريق؛ لأن الناس يشَرَّقُون اللحم، أي: يضعونه في الشمس بعد أن يُشرَّحوه لم يكن عندهم ثلاجات يحفظون بها اللحم، فطريقتهم هذه يشرحون اللحم ثم يُشَرَّقه في الشمس حتى يَيبَس، وهذه الأيام الثلاثة أيام تشريق، لأن الناس يذبحون فيها الأضاحي والهدايا. وقوله: "أيام أكل وشرب" أما كونها أيام أكل واضح لحوم الهدايا والأضاحي، لكن "شرب" ما المراد به: أنها أيام وضعت لهذا الأمر للأكل والشرب، يعني: ليس فيها صيام، والله عز وجل يقول: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود م الفجر} [البقرة: 187]. فالمعنى: أن هذه الأيام وضعت شرعًا لأن تكون أيام أكل وشرب لا صوم. وقوله: "وذكر لله" نعم هي أيام ذكر؛ لأنها الأيام المعدودات التي قال الله تعالى فيها: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة: 203]. فهي أيام ذكر، ما هي نوع هذا الذكر؟ نوعه التكبير "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد"، أو على ثنتين "الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد"، وربما يقال: إن هذا هو الذكر الخاص المشروع، وأما الذكر على سبيل العموم فينبغي فيها الإكثار من ذكر الله عز وجل فهنا يقول: إن هذه الأيام كانت لهذا الغرض أو وضعت لهذا الغرض، فلا ينبغي للإنسان أن يغفل فيها عن ذكر الله؛ لأنها أيام ذكر، وقوله: عَزَّ وَجَلَّ" "عزَّ" بمعنى: قهر وغلب، "وجل" بمعنى: عظم، أما "عزَّ" فإنه- أعني: هذا الفعل- له نظير في الأسماء، ما هو؟ العزيز، وأما "جلَّ" فلا يحضرني أن له نظيرًا في الأسماء- الجليل- لكنه يوصف بأنه الجليل، ولا يسمى به إلا إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أسماء الله الجليل. نعود إلى فوائد الحديث فمنها: أنه ينبغي للإنسان أن يتمتع بنعم الله من الأكل والشرب

حتى في أيام الأعياد من باب أولى، ولهذا رُخص للناس في أيام الأعياد في شيء من الفرح لا يرخص لهم في غيره، الجاريتان اللتان تغنيان في يوم بعاث بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم في أيام منى لما انتهرهما أبو بكر قال له النبي صلى لله عليه وسلم: "دعهما فإنها أيام عيد". فيستفاد من هذا: أنه ينبغي للإنسان في أيام الأعياد أن ينبسط وأن يفرح بنعمة الله تعالى بإكمال الصوم لا للتخلص منه، ولكن للتخلص به من الذنوب، لأن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، في يوم النحر عرفه الواقف بها يقال لهم: ارجعوا مغفورًا لكم فلهذا صار عيدًا يفرح به الإنسان بالتخلص من الذنوب بسبب هذا العيد. ومن فوائد الحديث أيضًا: تحريم صيام أيام التشريق؛ لأنه خروج بها عما أراد الشارع بها من أن تكون أيام أكل وشرب. ومنها: أنه ينبغي للإنسان ألا يلهيه الأكل والشرب الذي هو غذاء البدن عن ذكر الله الذي هو غذاء الروح، فإن الإنسان إذا أكل وشرب حصل له من الأشر والبطر ما لا يحصل للجائع، فأعرض عن ذكر الله فقال الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر حتى لا يغفل الإنسان بالأكل والشرب عن ذكر الله. ومن فوائد الحديث: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الخلق؛ لأنه لما ذكر هذا الأكل والشرب الذي يكون مظنة للغفلة نبههم على ذكر الله قال: "وذكر لله عز وجل". ومنها: أنه ربما يستدل بعموم كلمة "ذكر" على مشروعية التسمية على الذبائح؛ لأنه لا شك أن من ذِكر الله في هذه الأيام التسمية على الذبائح، والتسمية على الذبائح شرط لحل الذبيحة، فمن ذبح ذبيحة لم يُسم الله عليها حَرُم أكلها حتى وإن كان الذابح ناسيًا، لكن لو أكلها ناسيًا فلا إثم عليه لقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. ولا يصح أن يستدل بهذه الآية على حل ذبح من نسي التسمية، لماذا؟ لاختلاف الفعلين الذابح له فعله فلا يؤاخذ إذا نسي إلا يُسمي، وأما الأكل فله حكم فِعلي، والله تعالى يقول: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121]. ولهذا لما جاء قوم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، إن قومًا من أهل الكتاب يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال لهم: "سموا أنتم وكلوا"، ففرق الرسول بين الفعلين: فعل أولئك عليهم مسئوليته، أما فعلكم أنتم وهو الأكل فعليكم مسئوليته. ومن فوائد الحديث: وصف الله عز وجل بالعزة والجلال لقوله: "عزّ وَجَلّ". هل يؤخذ من هذا الحديث: إباحة الأكل والشرب؟ لا يؤخذ، لكن يؤخذ من الأدلة الأخرى.

فائدة في حقيقة الذكر

فائدة في حقيقة الذكر: ذكر الله هل هو باللسان أو بالقلب أو بهما جميعًا؟ بهما جميعًا، ويكون بالقلب وحده ويكون باللسان وحده، لكن اللسان وحده الذكر فيه ضعيف جدًّا، غاية ما فيه أنه يجزئ الإنسان فيما إذا كان واجبًا، وأما الثواب المرتب على الأذكار، فإن حصوله لمن يذكر الله بلسانه فقط فيه نظر، الذكر بالقلب لا يترتب عليه الثواب المعلَّق بالقول مثل من قال: "لا إله إلا الله" مائة مرة، لو واحد قالها في قلبه ما يترتب عليه هذا الفضل؛ لأنه لا يصدق عليه أنه قال، بل هو حدَّث نفسه وفكر فهو يُؤجَر على هذا التفكير، وربما يكون تأثر قلبه بالذكر القلبي أكثر من تأثره بالذكر اللساني، ولا ريب أنه لو اجتمع الأمران فهو أكمل بلا شك. هل يكون ذكر الله عز وجل بذكر أحكامه ونشرها وتعلمها؟ نعم، يعني: واحد مثلًا يقرأ في علم فقه، توحيد، هذا من ذكر الله وأيضًا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ذكر الله. لو قال قائل: الصلاة إذن من ذكر الله؟ هذا من باب الذكر الخاص بعد العام، وهذا لا يقتضي ألاَّ يشمله العام، إذن نقول: ذكر الله إذا أُطلق يشمل كل شيء يتذكر به الإنسان ربه من أقوال وأفعال في القلوب وفي الجوارح، وأحيانًا يُراد به الذكر الخاص. {فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا الله} [النساء: 103]. هنا ما دخلت الصلاة، وليس المعنى: إذا قضيتم الصلاة فصلوا، بل المراد: الذكر الخاص المعروف. 654 - وَعَن عَائِشَةَ وَابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالا: "لَم يُرَخَّص فِي أَيَّامِ التَّشرِيقِ أَن يُصَمنَ إِلا لِمَن لَم يَجِدِ الهَديَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. سبق أن معنى الرخصة هو: السهولة، ورَخَّصَ بمعنى: سَهَّل، وكلمة "لم يرخَّص" مبنيٌّ للمجهول، أي: لم يبيَّن مَن الفاعل، فهل المراد بالفاعل: الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إن كان الرسول صلى الله عليه وسلم فالحديث في حكم المرفوع فعلى هذا يكون حجة، وإن كان الله فالحديث من باب التفقه والاستنباط، وحينئذٍ قد يُقبل وقد لا يقبل؛ لأنه اجتهاديُّ، كيف يكون الاحتمال الثاني؟ لأنه يجوز أن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما فهما ذلك من قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196]. ومعلوم أن أيام التشريق داخلة في قوله: {في الحج}؛ لأن الحج لا ينتهي إلا في آخر أيام التشريق، ففي أيام التشريق: مبيت، ورمي، وطواف، حتى إن بعض العلماء يقول: لا يجوز تأخير طواف الإفاضة عن أيام التشريق. على كل حال: فيه احتمال أن يكون هذا القول من عائشة وابن عمر على سبيل الاستنباط

والتفقه، أو على سبيل الرفع، يعني: في حكم الرفع، ولهذا أريد منكم أن تتبعوا طق الحديث. في هذا الحديث- على تقدير أنه مرفوع- فوائد منها: أن الصوم في هذه الأيام الثلاثة أيام التشريق مُحرَّم؛ لأنه قوبل بالرخصة لمن يباح له، ولو كان مباحًا لكان مُرَخَّصًا فيه لكل أحد، ولهذا استدل أكثر أهل العلم على وجوب طواف الوداع لحديث ابن عباس: "أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلاَّ أنه خُفَّفَ عن الحائض"، والتخفيف بمعنى: الرخصة، قالوا: لأنه لما خُفَّف عن الحائض معناه: أنه على غيرها واجب، ولو لم يكن واجبًا لكان خفيفًا على كل أحد. من فوائد الحديث: جواز: صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي، ومَن الذي يجب عليه الهدي؟ القارن والمتمتع، الدليل: استمع إلى قوله تعالى: {فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196]. قال: صيام ثلاثة أيام في الحج، وهذه الثلاثة من أيام الحج بلا شك، لكن لو قال قائل: أنت ذكرت التمتع والقرآن، والآية التمتع فقط، فالجواب: أن التمتع في لسان الشارع يشمل القرآن والتمتع؛ لأن كلًا مِن المتمتع الذي أحلَّ من عمرته ثم أحرم بالحج في عامه والقارن الذي أحرم بهما جميعًا كلٌّ منهما قد تَرَفَّه بترك أحد السفرين؛ لأن المتوقع أن يكون للعمرة سفر وللحج سفر، وهذا أتى بهما جميعًا في سفر واحد فحصل له بذلك الترفه، ولأن الصحابة- رضي الله عنهم- عبر بعضهم بقولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتمتع وإنما حج قارنًا، كما قال الإمام أحمد: لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا والمتعة أحب إليَّ. إذن نقول: إن الآية يدخل فيها القرآن بناء على أن هذا هو المعهود في لغة الشارع، ولكن بعض العلماء- وهم قليل- قال: لا نسلم، ولو سلمنا بأن التمتع يدخل فيه القرآن فإنه ليس بظاهر بالنسبة للفظ الآية؛ لأن الله يقول: {فمن تمتع بالعمرة إلى} فذكر غاية ومَغَيَّ غاية، والغاية لها طرفان: ابتداء وانتهاء، وهذا يقتضي أن تكون العمرة منفصلة عن الحج فتمتعت بها، يعني: لما أحللت منها تمتعت إلى الحج، فمن أجل هذا التمتع بزوجتك ولباسك وطيبك من العمرة إلى الحج اشكر نعمة الله عليك وأهد الهدي بخلاف الإنسان الذي سيبقى على إحرامه من يوم يُحرم بالعمرة إلى يوم العيد، فهذا ليس عنده تمتع، صحيح تمتع بالترفه بترك أحد السفرين لكن ما تمتع فيما بين العرمة والحج، ولهذا قال الإمام أحمد: القارن ليس كالمتمتع، يعني: حتى ولو قلنا بوجوب الهَدي عليه فليس كالمتمتع؛ لأن المتمتع واضح فيه؛ ولأن الأئمة الأربعة كلهم متفقون على أن القارن كالمتمتع في وجوب الهدي عليه، وذهب بعض العلماء- وهم قلة- إلى

حكم صيام يوم الجمعة

أن القارن لا هدي عليه؛ لأنه لا يسعفه اللفظ الذي في الآية. حكم صيام يوم الجمعة: 655 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخضُّوا ليلة الجمعة بقيام من بين اللَّيالي، ولا تخضُّوا يوم الجمعة بصيامٍ من بين الأيَّام، إلاَّ أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم". رواه مسلمٌ. سبق لنا أن خمسة أيام يحرم صومها، وليس شيء من أيام السَّنة يحرم صومه إلا ما سبق، وهما: أيام التشريق والعيدان، لكن بدأ المؤلف بما يكره صومه ولا يحرم، قوله: "لا تخصوا"، أي: لا تفردوه بقيام من بين الليالي، فأما بدون إفراد فلا نهي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: لا تقوموا ليلة الجمعة، بل قال: "لا تخصوا"، والفرق بين العبارتين واضح، لو كان يريد النهي عن قيام ليلة الجمعة لقال: لا تقوموا، لكنه نهى عن تخصيصه، يعني: لا يخص الإنسان ليلة الجمعة بالقيام؛ لأنها ليلة الجمعة، وكذلك يوم الجمعة لا تخصوه بالصيام من بين سائر الأيام، لا يقل أحدكم: إنني سأصوم يوم الجمعة؛ لأنه يوم الجمعة فأصومه وأدع بقية الأيام، وجه ذلك: أنه لما كان هذا اليوم هو أشرف أيام الأسبوع فإن النفوس قد تذهب إلى تعظيمه واحترامه بصوم يومه وقيام ليلته، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يخص بصيام أو بقيام. ويستفاد من الحديث: جواز قيام ليلة الجمعة بدون تخصيص، كرجل رأى من نفسه نشاطًا تلك الليلة فقام، لا لأنها ليلة الجمعة، ولكن لأنه كان نشيطًا، ولهذا لو نشط ليلة الخميس أو الأربعاء أو السبت لقام فهذا لا يشمله النهي؛ لأن المقصود بذلك أن نخصها. ويستفاد من هذا الحديث: أنه لو كان الإنسان يقوم ليلة بعد ليلة وصادف أن يكون قيامه ليلة الجمعة، فإن ذلك لا يضر ولا يشمله النهي؛ لأن هذا الرجل إنَّما قام لما كان يعتاده من القيام ليلة بعد ليلة. ويستفاد من هذا الحديث: أن ما شرف من الزمان والمكان فإنه لا ينبغي أن يخصص بزيادة عبادات ليست في غيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخصوا يوم الجمعة"، فمثلًا لو قال قائل: إني سأخص مثلًا شهر ربيع الأول بزيادة عمل صالح؛ لأنه الشهر الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والشهر الذي قدم فيه إلى المدينة والشهر الذي ولد فيه، نقول له: لا تخص؛ لأنه ليس فيه دليل. فإن قلت: أليس رمضان خصَّ بالصيام لأنه أنزل فيه القرآن؟

فالجواب: بلى، لكنه خص بأمر من الشرع، وما أمر به الشرع فموقفنا نحوه أن نقول: سمعنا وأطعنا، أما أن نقيس ونجتهد نحن ونخص بعض الأيام الفاضلة أو الأماكن الفاضلة بعبادة لم يرد بها الشرع، فإن هذا من البدع. ويستفاد من هذا الحديث: النهي عن إقامة أعياد مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأننا خصصناه بعبادة لم يخص بها شرعًا، فيؤخذ من هذ النهي عن إقامة الأعياد بدون دليل شرعي. ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصوم وهو ظاهر فيه. ويستفاد منه: أنه لو صامه الإنسان لا للتخصيص، ولكنه رجل له عمل في أيام الأسبوع لا يستطيع الصوم في هذه الأيام لمشقته عليه وهو يجب أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام فكان يصوم يوم الجمعة؛ فهل يدخل في النهي؟ لا؛ لأنه لم يخص يوم الجمعة لأنه يوم الجمعة، ولكن لأنه يوم فراغه، فلو كان له فراغ في يوم الإثنين أو الثلاثاء لصام، وهذا يقع كثيرًا في القضاء، بعض الناس يكون عليه قضاء من رمضان فلا يحصل له فراغ إلا في يوم الجمعة، فنقول: لا بأس أن تصوم في يوم الجمعة. يستفاد من هذا الحديث: أنه لو صادف يوم الجمعة يومًا كان يعتاد صومه، مثل أن يكون ممن يصوم يومًا ويفطر يومًا فصادف ذلك اليوم يوم الجمعة فلا بأس؛ لأنه إذا كان يصوم يومًا ويفطر يومًا سيفطر يوم الخميس ويوم السبت، فيكون يوم الجمعة يصادف أحيانًا هو اليوم الذي يصوم فيه، صام الجمعة وأفطر السبت، وصام الأحد وأفطر الإثنين، وصام الثلاثاء وأفطر الأربعاء، وصام الخميس وأفطر الجمعة، هذا في الأسبوع الثاني، في الأسبوع الذي بعده يكون بالعكس استثنى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "إلا في صوم كان يصومه أحد". ويستفاد من هذا الحديث: أن للعادة تأثيرًا، وأنه يفرق بين الشيء المعتاد والشيء الذي يأتي صدفة؛ لأن الرسول قال: "إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"، فانظر الآن العادة كيف رفعت النهي عن صوم ذلك اليوم، كما أن العادة قد تكون بدعة في أمر يجوز فيه الشيء أحيانًا كالجماعة في النوافل إذا فعلت أحيانًا فلا بأس به؛ لحديث ابن عباس، وحذيفة، وابن مسعود في صلاة الليل حيث صلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم كل على انفراده في بعض الليالي، لكن لو أن أناسًا قالوا: سنقوم الليل جماعة كل ليلة قلنا لهم: هذا بدعة، أما أحيانًا فلا بأس، وبهذا يعرف أن الشرع يفرق بين الشيء الذي يتخذ عادة والشيء الذي لا يتخذ عادة، فهذا الرجل لما كان يعتاد صوم يوم الجمعة لسبب من الأسباب، لا لأنه يوم الجمعة رفع الشارع النهي عنه، ولهذا قال: "إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم". وهل يستفاد منه: أن النهي عن التخصيص على سبيل الكراهة؟ نعم، كيف ذلك؟ لأنه لو

كان محرمًا لم تؤثر فيه العادة، ولهذا لو صادف يوم عيد الأضحى اليوم الذي يصومه عادة فلا يصومه، فلما كان هذا تخصيص تبيحه العادة فإن النهي يكون فيه للكراهة، وعلم من هذا الحديث: أنه لو صام مع يوم الجمعة يومًا آخر فلا كراهة؛ لأنه لم يخصصه، ولكن هل يشترط أن يليه أو لا بأس، وإن كان في أي يوم من أيام الأسبوع؟ ننظر أولًا يقول: 656 - وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصومنَّ أحدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم يومًا قبله، أو يومًا بعده". متَّفقٌ عليه. وفي حديث جويرية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها ذات يوم وهي صائمة يوم الجمعة فقال: "أصمت يوم الخميس؟ " قالت: لا، قال: "تصومين غدًا؟ " قالت: لا، قال: "فأفطري"، وظاهر حديث أبي هريرة الذي معنا وحديث جويرية، أنه لابد أن يليه، وقد اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إنه لا يشترط أن يليه، فلو صام يومًا واحدًا في الأسبوع لم يكن قد خصص يوم الجمعة؛ لأن التخصيص معناه: أن يفرد الشيء بالشيء كما نقول: خصصت فلانًا بالعطاء، يعني: ما أعطيت غيره، فمن صام يومًا من أيام الأسبوع معه فقد زالت الخصوصية، وعلى هذا فلو صام يوم الإثنين ويوم الجمعة فلا نهي، وقال بعض لعلماء: إنه لابد أن يليه إما قبله وإما بعده حتى يكونا يومين متواليين، ولا شك أنه إذا صام يومًا قبله يليه أو يومًا بعده فإن النهي مرتفع بلا شك، وأما إذا كان بينه وبينه يوم ففي النفس منه شيء، ولهذا تقول للإنسان: إذا صمت يوم الجمعة فصم يوم السبت، فإذا قال: أنا قد صمت يوم الإثنين، نقول: الأحوط أن تصوم يوم السبت اليوم الذي يلي يوم الجمعة. يستفاد من هذا الحديث والذي قبله: أن يوم الجمعة لا يفرد بالصوم إلا في مسألتين: إذا كان عادة، وإذا صام يومًا قبله أو يومًا بعده. ويستفاد من الحديث الثاني- حديث أبي هريرة-: أن الإفراد يزول بصوم يوم قبله أو يوم بعده. ويستفاد من حديث جويرية: أن الإنسان إذا رفع الخلل الحاصل بالعمل زال المحظور؛ لأن جويرية كانت تريد أن تصوم يوم الجمعة فقط، لكن يمكن أن ترفع هذا الاختصاص بصوم يوم السبت فيزول المحظور. بقي علينا يوم الأحد ويوم الأربعاء ويوم الخميس، ما حكم صيامها؟ نقول: الأصل

حكم صيام يوم السبت والأحد تطوعا

الجواز، لكن نقرأ الأحاديث الآتية، ونؤجل حديث: "إذا انتصف شعبان" ليتصل الكلام على صيام الأيام التي ذكرناها. حكم صيام يوم السبت والأحد تطوعًا: 657 - وعن الصَّمَّاء بنت بسرٍ رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السَّبت، إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب، أو عود شجرةٍ فليمضغها". رواه الخمسة، ورجاله ثقاتٌ، إلا أنَّه مضطربٌ. - وقد أنكره مالكٌ. - وقال أبو داود: "هو منسوخٌ". قوله: "لا تصوموا ... " إلخ، "لا" ناهية، والدليل على أنها ناهية جزم الفعل؛ حذف النون في "لا تصوموا"، وقوله: "إلا فيما افترض عليكم" يعني: إلا فيما كان فرضًا كرمضان وقضاء رمضان والكفارة والنذر إذا لم يقل: أصوم يوم السبت؛ لأنه إذا نذر صوم يوم السبت فقد نذر مكروهًا، لكن إذا نذر أن يصوم يومًا فصام يوم السبت فهذا يدخل فيه. وقوله: "إلا فيما افترض عليكم" استثناء يدل على أن ما قلبه عام؛ لأن لدى أهل العلم قاعدة يقولون: "إن الاستثناء معيار العموم"، "معيار" يعني: ميزانًا، يعني: أنه إذا جاء اللفظ فيه استثناء فما قبل المستثنى عام، وإلا لم يكن للاستثناء فائدة، فإذا جاء شيء عام واستثنى منه شيء فاعلم أنه عام فيما عدا المستثنى. وقوله: "فإن لم يجد أحدكم"، يعني: إذا صامه وأراد أن يفطر. "فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب" "اللحاء": القشر؛ لأنه يلحى بالمظلاف، "أو عود شجرة فليمضغها"، يعني: إن لم يجد ما يفطر إلا هذا فليفطر به، وهذا تأكيد لفطر يوم السبت إذا صامه الإنسان. إذا تأملنا في هذا الحديث يقول المؤلف: إنه مضطرب في إسناده كما يعلم ذلك من كلام الحديث عليه، وممن تكلم عليه وأطال الشوكاني في نيل الأوطار، وقد أنكره مالك، وهو إمام حافظ من أئمة الحديث، وقال أبو داود: إنه منسوخ، والنسخ يحتاج إلى دليل، فيه أيضًا

علة رابعة هي الشذوذ في متنه، وفيه علة خامسة وهي: نكارة متنه من حيث القواعد الشرعية، أما الاضطراب في السند فهذا يرجع فيه إلى ما قاله المحدثون، وأما إنكار مالك له فلعلَّ مالكًا أنكره من جهة شذوذه ونكارة متنه، وأما شذوذه فإنه مخالف للأحاديث الصحيحة كحديث أبي هريرة السابق: "إلا أن تصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده"، واليوم الذي بعده هو يوم السبت وكحديث جويرية: "قال لها: أتصومين غدًا؟ " قالت: لا، وغدًا بالنسبة للجمعة هو يوم السبت، من جهة نكارة المتن فهو من وجهين: الوجه الأول: أن ظاهره تحريم صوم هذا اليوم مطلقًا سواء ضم إليه ما قبله أو ما بعده، أو لم يضم، من أين يؤخذ أن ظاهره التحريم؟ أولًا: من النهي. ثانيًا: من التأكيد على فطره مع أن الرسول ما قال: إلا أن تصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده. والأحاديث الصحيحة تدل على أنه لو صام يوم الجمعة تدل على أنه إذا صام يومًا قبله فصومه جائز، فيكون على هذا منكر المتن. وجه آخر من النكارة: أنه قيل في هذا الحديث: "فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب" وهل يشترط للفطر الأكل؟ لا تكفي النية، وهذا يدل على أن الحديث منكر لمخالفته القواعد الشرعية المعلومة من الدين، وعلى هذا فيكون الحديث غير معمول به، نأتي إلى دعوى النسخ، يعني: أن النهي عنه منسوخ ولكن لم يبيِّن الناسخ، والنسخ- كما تعلمون-: رفع الحكم الشرعي حكم النص بدليل شرعي متأخر، وسواء كان الحكم تلاوة أو حكمًا، يعني: إيجابًا أو تحريمًا، ولكن يشترط للنسخ ألا يمكن الجمع، والثاني: أن يعلم التاريخ، فعدم إمكان الجمع ظاهر؛ حيث إنه لا يمكن الجمع بينه وبين حديث أبي هريرة وحديث جويرية؛ لأن ظاهره التحريم مطلقًا، وظاهرهما الجواز إذا ضم إليه يوم الجمعة، لكن التاريخ ولعل أبا داود رحمه الله أخذه مما كان الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة كان يحب موافقة أهل الكتاب وهم اليهود يرون أن هذا اليوم يوم عيد، فكان ينهى عن صيامه؛ لأن صيامه فيه نوع من تعظيمه أو نقول: لأن صيامه فيه مخالفة لليهود وإفطاره فيه موافقة لهم، ثم بعد ذلك كان صلى الله عليه وسلم يكره موافقة أهل الكتاب فأباح صيامه؛ لأن صيامه مخالفة لليهود؛ إذ إن يوم العيد يوم فرح وسرور وليس يوم صوم، ربما أن أبا داود أخذه من هذا الحكم العام بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان في أول قدومه المدينة يحب موافقة أهل الكتاب، ثم بعد ذلك صار يحب مخالفتهم، على كل حال: الأحاديث تدل على أن صوم يوم السبت لا بأس به ولا حرج فيه سواء أفرده أو ضمه إلى ما سواه، وهذا الحديث- كما سمعتم- فيه هذه العلل.

658 - وعن أمِّ سلمة رضي الله عنها: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم من الأيَّام يوم السَّبت، ويوم الأحد، وكان يقول: إنَّهما يوما عيدٍ للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم". أخرجه النَّسائيُّ، وصحَّحه ابن خزيمة، وهذا لفظه. هذا أيضًا مما يظن أن أبا داود أحال النسخ عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر من صوم يوم السبت ويوم الأحد، لماذا؟ لأنهما يوما عيد للمشركين، من هم؟ اليهود والنصارى، فيوم السبت عند اليهود ويوم الأحد عن النصارى، وأنا أريد أن أخالفهم؛ لأننا منهيون عن موافقة الكفار فيما يختصون به، أما من الأديان فظاهر، وأما من العادات، فلأن التشبه بهم في العادات يؤدي إلى محبتهم والتشبه بهم في العبادات. هذا الحديث يفيد: بأنه لا يكره صوم السبت ولا صوم يوم الأحد. ويفيد أيضًا: أنه ينبغي للمسلم مخالفة أهل الكتاب في أعيادهم، وبه نعرف سفه هؤلاء الذين يقدمون التهاني والهدايا للمشركين في أعيادهم، وأن هؤلاء- والعياذ بالله- ضعيفو دين وسفهاء، قال ابن القيم: إن العلماء اتفقوا على تحريم تقديم الهدايا لهم والرضا بأعيادهم الدينية، وتهنئتهم بها أيضًا محرَّم؛ لأن تهنئتهم بعيدهم الذي يتعبدون لله به يدل على الإعجاب والرضا بدينهم، وهذا خطير قد يؤدي إلى الكفر، أما تهنئة الإنسان منهم بولد يولد له أو بمال يحصل له، فهذا لا بأس إذا كانوا يفعلون ذلك بنا. يستفاد من هذا الحديث: أن اليهود والنصارى مشركون وليسوا من أهل الدين لقوله: "إنهما يومًا عيد للمشركين". ويستفاد منه: أنه ينبغي لنا أن نتقصد مخالفة المشركين؛ لقوله: "أريد أن أخالفهم"، والإرادة بمعنى: القصد، فأنت أيها المسلم مطلوب منك أن تخالف المشركين في كل ما هو من خصائصهم الدينية والعادية كلها؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"، وهل يشمل ذلك التشبه بهم فيما يختص من تاريخهم وما أشبه ذلك؟ الجواب: نعم، وقد نص الإمام أحمد على ذلك فقال: أكره التأريخ بأذرماه وهو أحد الشهور الأفرنجية، وبه نعرف سفه أولئك القوم الذين استعبدهم النصارى أو استعمروهم مدة طويلة وغيَّروا تاريخهم كالدول الإسلامية عمومًا، اللهم إلا بلاد السعودية، ونسأل الله أن يثبتها وإلا كلهم- والعياذ بالله- استولى

حكم الصيام إذا انتصف شعبان

عليهم الاستعمار وغيَّروا حتى تاريخهم الهجري، هجروه وصاروا لا يعرفون إلا التاريخ الأفرنجي، وكان عليهم- بمقتضى الإسلام وبمقتضى العروبة- أن يحمدوا الله أن نجاهم من هؤلاء، وأن يزيلوا كل أثر للاستعمار، هذا الواجب عليهم، أما أن يبقوا على آثار الاستعمار في هذه الأمور هذا خطأ عظيم وهم محاسبون أمام الله عز وجل يوم القيامة، كل من له قدرة على تغيير هذه الأشياء ولم يفعل فإنه محاسب على ذلك أمام الله يوم القيامة؛ لأننا نعجب لو سئل أي أحد من المسلمين هل تحب أن تتبع طريقة الصحابة والتابعين والأمة الإسلامية إلى وقت الاستعمار في التاريخ والتوقيت، أو تحب أن تتابع هؤلاء الكفار؟ إذا كان مسلمًا حقيقيًا لقال الأول حتى لو هو عربي، إذا كان عربيًا حقيقيًا تاريخ العرب هو الهجري؛ لأن العرب قبل الإسلام ليس عندهم تاريخ، فما جاء الإسلام وكان في عهد عمر رضي الله عنه أرخ التاريخ فصار إسلاميًا عربيًا ومع ذلك ما زال هؤلاء يوقتون به، حتى إن بعض المدرسين عندنا يقول: والله ما عرفت الأشهر العربية- ربيع وربيع وجمادى- إلا بعدما جئت ها؛ لأن المعروف عندهم الأفرنجية كما أننا الآن لا نعرف الأفرنجية لا أسماءها ولا ترتيبها، والحمد لله الذي هدانا إلى الطريق السليم. حكم الصيام إذا انتصف شعبان: 659 - وعنه أيضًا رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا". رواه الخمسة، واستنكره أحمد. يعني: قال: إنه منكر، وذلك لأنه مخالف لحديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين"، فإن ظاهره جواز تقدمه بأكثر من ذلك، وهذا الحديث اختلف العلماء فيه، والصحيح: أنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة، وأما مخالفته لحديث أبي هريرة الذي في الصحيحين فإنه يمكن الجمع بينهما كما سنذكره- إن شاء الله-. يقول: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"، ليس المراد: فلا تستمروا في الصوم؛ لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يكون صومًا في شعبان، فكان يصومه إلَّا قليلًا، بل كان يصومه كلَّه، وهذا يدل على أن المراد هنا: النهي عن ابتداء الصوم بعد النصف، وأما إذا كان الإنسان

النهي عن صوم يوم عرفة للحاج

مستمرًا في صومه فإن ذلك لا نهي فيه. وأما حديث أبي هريرة: "لا تقدموا رمضان" فيكون الجمع بينه وبين هذا الحديث بأن يحمل حديث أبي هريرة هناك على أن النهي للتحريم، وهنا على أن الني للكراهة، وإلى هذا ذهب الشافعية- رحمهم الله- وقالوا: إن ابتداء الصوم بعد نصف شعبان مكروه، أما الاستمرار فيه فليس بمكروه، وأما حديث أبي هريرة فالنهي فيه للتحريم، ولهذا جمع بين الحديثين، ولا شك أن هذا الجمع متعين عند من يرى أن هذا الحديث يصل إلى درجة الحسن، فإن الحسن كما هو معروف من أقسام المقبول وليس من أقسام الصحيح، بل هو قسيم له، والراجح- والله أعلم- أن يقال: إن الأولى عدم الصوم، ولكن لا نقطع بالكراهة لكون هذا الحديث ضعيفًا. فإن قلت: قد مر علينا قاعدة عند بعض العلماء: أن النهي إذا كان الحديث ضعيفًا يحمل على الكراهة، فلماذا حملته هنا على أن الأولى ألا يصوم؟ فالجواب: أن حديث أبي هريرة: "لا تقدموا" يمنع أن نقول بالنهي؛ لأن مفهومه يدل على جواز تقدم الصوم بأكثر من يومين أو يوم. * * * النهي عن صوم يوم عرفة للحاج: 660 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة". رواه الخمسة غير التِّرمذيِّ، وصحَّحه ابن خزيمة، والحاكم، واستنكره العقيليُّ. يقول: "نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة"، وأما في غير عرفة فقد سبق أنه يكفر السَّنة التي قبله والتي بعده، لكن في عرفة لا تصوم، والحديث هذا ضعيف كما قال العقيلي، لكن له شاهد ثابت في الصحيح من حديث أم الفضل رضي الله عنها أنها أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قدحًا فيه لبن وهو واقف بعرفة فأخذه وشربه والناس ينظرون إليه، ليحقق النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن هذا اليوم ليس يوم صوم، والحكمة في ذلك: أن هذا اليوم يوم دعاء وتضرع إلى الله- سبحانه وتعالى- والإنسان إذا صام فسوف يضعف بدنه ونفسه، لا سيما في أيام الصيف، ولا سيما في آخر النهار الذي هو أفضل ما يكون من أجزاء يوم عرفة، فإن يوم عرفة آخره أفضل من أوله، فإذا صام الإنسان في هذا الموقف- الذي لم يأت من بلده إلا لهذا الموقف وأشباهه من شعائر الحج- فإنه يفوت

النهي عن صوم الدهر

على نفسه الفرصة العظيمة وهي: الدعاء والإلحاح في الدعاء على ربه- جلَّ وعلا-. وعلى هذا فنقول: إن صوم يوم عرفة بعرفة للحاج [لا يجوز]، أما العمال الذين لم يحجوا فلا حرج أن يصوموا، لكن إذا كان حاجًّا فإنه لا يصوم ولا يتعبد بالصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم، وأعلن عدم صومه من أجل أن تقتدي الأمة به، فإن صح هذا النهي الذي في حديث أبي هريرة كان مؤكدًا لترك الصوم وإن لم يصح، فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وإعلانه الإفطار في هذا اليوم مع أنه رغب في صوم يوم عرفة يدل على أن صومه غير مرغوب لديه صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: قد يكون هذا خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ونحمل الحديث الآن "صوم يوم عرفة يكفر السَّنة التي قبله والتي بعده" نحمله على العموم، ويكون هذا خاصًا بالرسول صلى الله عليه وسلم. قلنا: لو كان خاصًا بالرسول صلى الله عليه وسلم ما أعلنه وأظهره؛ لأن إعلانه وإظهاره يقتضي الاقتداء به والتأسي به، وهذا يدل على أنه ليس خاصًا به، ثم نقول: الأصل عدم الخصوصية حتى يقوم دليل على ذلك، ثم نقول: إن صبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل والشرب مع ابتهاله إلى الله والتضرع إليه أقوى منا بلا شك، ولهذا كان يواصل وينهى عن الوصال، فكيف يكون المشروع في حقه أن يفطر وهو أقوى منا وأصبر وأشد رغبة ورهبة إلى الله عز وجل ويكو المستحب أو الاستحباب عامًّا لأمته؟ فالمهم: أن القول بأنه خاص قول ضعيف. النهي عن صوم الدهر: 661 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد". متَّفقٌ عليه. 662 - ولمسلم عن أبي قتادة بلفظ: "لا صام ولا أفطر". "لا صام من صام الأبد"، "لا" نافية، وهل هي باقية على النفي أو هي بمعنى: الدعاء، يعني: هل الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن من صام الأبد فإنه لم يصم الأبد بمعنى: أنه لم يحصل له ثواب صوم الأبد فيكون لا صام شرعًا من صام الأبد حسَّا فيكون الحديث نفيا، أو هو دعاء عليه؟ بمعنى: لا صام، أي: لا أعانه الله على الصوم، بل عجز عنه حتى لا يصوم يحتمل، ولكن المعنى الأول أقرب؛ لأن الأصل في النفي أنه على حقيقته للنفي، ثم إنه يبعد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو على شخص، فعل هذا الفعل يريد التعبد لله عز وجل، فالظاهر: أن الصواب في هذا المعنى: أنه نفي للصوم شرعًا لمن صام الدهر حسَّا؛ لأن صائم الدهر ماذا يريد؟ يريد الثواب، أي: يثاب على

2 - باب الاعتكاف وقيام رمضان

عدد أيام الدهر، فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يحصل له ذلك. يستفاد من هذا الحديث: كراهة صوم الدهر، وقال بعض العلماء: بل يستفاد منه: تحريم صوم الدهر؛ لأنه إذا انتفت شرعيته فيكون بدعة غير مشروع، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم منع القوم الذين قال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال: "من رغب عن سنتي فليس مني"، ولأنه منع عبد الله بن عمرو بن العاص أن يصوم الدهر، وآخر مرتبة له أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولأنه إذا صام الدهر كله فإنه لا يخلو- غالبًا- من التقصير في الواجبات الأخر، والدين الإسلامي متكامل يجعل للنفس حظها، وللأهل حظهم، وللزائرين حظهم، وللناس عامة حظهم، وللبدن أيضًا أعمال أخرى بدنية، يجعل لها حظها، ومعلوم أن الصيام يعوق الإنسان عن مسائل كثيرة بدنية يحتاج الإنسان إلى أن يقوم بها لا سيما في أيام الصيف الطويلة الحارة، فالأقرب عندي أن صوم الدهر منهي عنه على سبيل التحريم لهذه الأدلة السمعية والنظرية التي تمنع من أن يصوم الإنسان على سبيل التأييد. * * * 2 - باب الاعتكاف وقيام رمضان قوله: "باب الاعتكاف" هو مناسب لأن يأتي بعد الصيام، وأما القيام فالمناسبة فيه واضحة، فإن الصيام أوجب ما فيه صيام رمضان والقيام قيام رمضان، لكن الصيام فريضة والقيام مندوب، ولقيام رمضان مناسبة أخرى وهي صلاة التطوع، فإن الفقهاء- رحمهم الله- ذكروا التراويح وقيام رمضان هنا، وذكروا هنا قيام ليلة القدر، على كل حال: هذه المسألة فنية كما يقولون ولا تهم. مفهوم الاعتكاف وحكمه: أما الاعتكاف في اللغة فهو: لزوم الشيء، ومن قوله تعالى: {يعكفون على أصنام لَّهم} [الأعراف: 138]. يعني: يديمون ملازمتها ويبقون عندها، {ما هذه التَّماثيل الَّتي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء: 52].} وانظر إلى إلهك الَّذي ظلت عليه عاكفًا {[طه: 97]. أي: ملازمًا ثابتًا. أما في الشرع فهو: لزوم التعبد لله بلزوم المسجد للتخلي لطاعة الله عز وجل، إذن الغرض منه أن ينقطع الإنسان عن الدنيا ولذاتها وزهرتها، ويتخلى في هذا المسجد لطاعة الله عز وجل، فهو عبارة عن رياضة نفسية بمعنى: أن يروض الإنسان نفسه فيه عليها.

وحكمه: أنه مسنون وقد غالى الإمام أحمد رحمه الله فقال: لا أعلم خلافًا بين العلماء أنه مسنون ولكنه يجب بالنذر لحديث عمر رضي الله عن أنه نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"، ولأنه طاعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" أما "قيام رمضان" فهو الصلاة في رمضان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة كما قالت ذلك عائشة لمن سألها كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان، ولكنه أحيانًا يصلي ثلاثة عشرة ركعة. فضل قيام رمضان إيمانًا واحتسابًا: 663 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدَّم من ذنبه". متَّفقٌ عليه. "من" شرطية، وفعل الشرط "قام"، وجوابه "غفر له"، وحذف الفاعل في "غفر له" للعلم به، وهو الله عز وجل كما قال تعالى: {ومن يغفر الذُّنوب إلَّا الله} [آل عمران: 135]. كما حذف الفاعل للعلم به في قوله: {وخلق الإنسان ضعيفًا} [النساء: 28]. لأن الخالق هو الله- سبحانه وتعالى- قال: "من قام رمضان" يعني: شهر رمضان، وهو يشمل كل الشهر من أوله إلى آخره، وقوله: "إيمانًا" هذه مفعول من أجله، وعامله "قام" وهو وصف للقائم، هذا المفعول من أجله هو الباعث أو هو الغاية؟ هو الباعث، يعني: يبعثه على ذلك الإيمان، يعني: لإيمانه، وقوله: "احتسابًا" هذا أيضًا مفعول من أجله، يحتمل أن يكون علة باعثة أو علة غائية، يعني: الغاية من قيامه احتساب الأجر، إيمانًا بالله عز وجل؛ أي: بوعد الله وتصديقًا به واحتسابًا للأجر، يعني: يحتسب الأجر من الله الأجر الذي رتب على هذا القيام، وهو مغفرة الذنوب، وقوله: "غفر له ما تقدم" "ما" اسم موصول تفيد العموم، وقوله: "ما تقدم من ذنبه"، الذنب: المعصية، وهي مفرد مضاف فيكون عامًا لكل ذنب؛ لأنه سبق لنا قاعدة عدة مرات أن المفرد إذا كان مضافًا فإنه يفيد العموم. في هذا الحديث فوائد كثيرة منها: الحث على قيام رمضان، وجهه؟ قوله: "من قام"، "غفر له"، فإن هذا يحمل الإنسان على أن يقوم رمضان.

ومن فوائده أيضًا: الإشارة إلى إخلاص النية لقوله: "إيمانًا"، وكذلك الإشارة إلى التصديق بوعد الله عز وجل لقوله: "واحتسابًا"، فإن الإنسان لا يحتسب الشيء لا إذا آمن به. ومن فوائده أيضًا: أن من قام رمضان على هذا الوصف حصل على مغفرة الذنوب السابقة؛ لقوله: "غفر له ما تقدم من ذنبه"، وظاهر الحديث شمول الذنب للصغائر والكبائر، وأن كل ما سبق يغفر له، ولكن جمهور أهل العلم يرون أن هذا العموم مخصوص بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"، فقالوا: إن هذا الحديث وأمثاله مخصص بذلك، ويكون المراد بالذنب: الصغائر فقط، فإذا اجتنب الكبائر غفرت الصغائر، ويوجهون كلامهم بأنه: إذا كانت الصلوات الخمس- وهي أعظم أركان الإسلام- لا تقوى على تكفير الكبائر فما دونها من باب أولى؛ لأنه لا شك أن الفرض أحب إلى الله تعالى وأعظم أثرًا في قلب المؤمن وأعظم أجرًا، فإذا كانت الفرائض العظيمة لا تكفر بها الكبائر فهذا من باب أولى، وهذا أقرب. ومن فوائد الحديث: أن من قام رمضان على العادة فإنه لا يحصل له مغفرة الذنب كما هو شأن كثير من الناس اليوم يقومون رمضان لأنهم يعتادون قيامه، ولهذا تجد غالبهم لا يحصل عنده خشوع في صلاته ولا طمأنينة بل ينقرها نقر غراب، وحدثني رجل أثق به قال: إنه دخل على مسجد وهم يصلون التراويح وينقرونها هذا النقر المعروف يقول: فلما نام رأى المنام كأنه دخل على أهل هذا المسجد وهم يرقصون، يعني: كأن صلاتهم صارت لعبًا ولا شك أن بعض الأئمة- نسأل الله لنا ولهم الهداية- يصلون التراويح صلاة لعب لا يتمكن الإنسان من التسبيح في الركوع ولا من التحميد بعده، ولا من التسبيح في السجود حتى في التشهد تشك هل أكملوا التشهد الأول أم لم يكملوه، وهذا نقص في الإيمان، لأن المؤمن المحتسب لا يمكن أن يصلي هذه الصلاة. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الإنسان إذا قصد بعمله الثواب عليه، فإن ذلك لا يعد مثلبة في حقه بل هو منقبة، لقوله: "واحتسابًا"، ففيه رد على من يقول: إن أكمل عبادة لله أن تعبد الله تقصد الله، فإن قصدت الله مع الثواب فهذا نقص، ولا شك أن هذا القول خطأ؛ لأن الله وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم خير الأمة بلا شك بأنهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا فقال: {مُّحمدٌ رَّسول الله والَّذين معه أشدَّاء على الكفَّار رحماء بينهم تراهم ركَّعًا سجَّدًا يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا} [الفتح: 29]. فوصفهم بأنهم يبتغون الأمرين الفضل والرضوان، وقال تعالى: {ولا تطرد الَّذين يدعون

فضل العشر الأواخر من رمضان

ربَّهم بالغداوة والعشىِّ يريدون وجهه} [الأنعام: 53]. فهؤلاء يريدون الله والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يريدون الفضل والرضوان، فكوننا نقول للإنسان: أكمل العبادة أن تعبد الله الله فقط، لا رجاء لثوابه هذا خطأ، فإننا نقول: إن رجاء ثوابه هو من إرادة الله؛ لأن ثواب الله تعالى فعله، وفعله من صفاته، فهذا هو القول الراجح في هذه المسألة. ومن فوائد الحديث: إثبات الأسباب؛ لقوله: "من قام ... غفر"، وهو كذلك، وإثبات الأسباب هو من الإيمان بحكمة الله، يعني: من تمام الإيمان بحكمة الله أن تثبت الأسباب لكن ما هي الأسباب التي ثبتها؟ هي الأسباب التي جعلها الله تعالى أسبابًا، وهي نوعان: شرعية وكونية، مثال ذلك في المرض- فللعلاج أسباب- وذلك بالأدوية، فمن تمام الإيمان بحكمة الله الإيمان بالأسباب؛ لأن ترتب الشيء على سببه دليل على حكمة الله- سبحانه وتعالى-، ومن أنكر الأسباب وقال: إنه لا تأثير لها، فقد خالف المعقول والمحسوس، فهم يقولون: إنك لو أثبت الأسباب، وأنها- أي: الأسباب- تؤثر بنفسها كنت جعلت مع الله تعالى فاعلًا، ولهذا يقولون: إن الشيء إذا حصل بسببه فلا تقل: حصل به، بل قل: حصل عنده، فإذا حذفت زجاجة بحجر وانكسر لا تقل: إن الكسر حصل باصطدام الزجاجة بالحجر، ولكن عنده لا بها وهذا عقل يضحك منه- إن شئنا قلنا: - السفهاء، كيف نقول: حصل عنده؟ ضع الحجر على الزجاجة وضعًا رقيقًا، لا تنكسر إذن حصل به، لكننا نحن نقول: ما الذي جعل هذه الأسباب مؤثرة؟ هو الله عز وجل، بدليل أن الأسباب أحيانًا تتخلف عنها مسبباتها، لا نقول: إن مع الله خالقًا، فالنار ألقي فيها إبراهيم وقال الله لها: {كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم} [الأنبياء: 69]. فكانت بردًا وسلامًا ولم يتأثر بها، وبهذا عرفنا أن تأثير الأسباب بمسبباتها من الله عز وجل. في الحديث: رد على الجبرية لقوله: "من قام رمضان ... " إلخ، ووجه ذلك: أنه أضاف الفعل إلى العبد، والأصل فيما يضاف أن يكون المضاف إليه متصفًا به، وعلى هذا فنقول: إن في الحديث ردًّا على الجبرية، وهل فيه رد على القدرية؟ لا. فضل العشر الأواخر من رمضان: 664 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر- أي: العشر الأخير من رمضان- شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله". متَّفقٌ عليه. "العشر" فسرت بأنها العشر الأخير من رمضان، "شد مئزره" المئزر معروف يعني: ما يأتزر به الإنسان، و"شده" بمعنى: ربطه.

وثانيًا: "أيقظ أهله" أي: للصلاة. ثالثًا: "وأحيا ليله" بالقيام، هذه ثلاثة أمور يخصها النبي صلى الله عليه وسلم بدخول العشر، قوله: "شد مئزره" قيل: إن المراد به: ربطه وحزمه، يعني: فلا يجامع النساء، وقيل: إنه كناية عن التشمير للعمل؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يعمل فإنه يرفع مئزره ويشده من أجل أن يتقوَّى على العمل، ويمكن أن يقال: إنه لا مانع أن يكون المراد به الأمرين، يعني: اعتزال النساء، والثاني: التشمير للعمل، وقوله: "أحيا ليله"، أي: سهر الليل فلم ينم لاشتغاله صلى الله عليه وسلم بالقيام، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه يقوم الليل كله إلا في العشر الأواخر من رمضان، فإنه كان يحيي الليل كله. ولكن إذا قال قائل: كيف يتأتى ذلك مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يفطر ويصلي المغرب ويصلي العشاء ويتوضأ ويقضي حاجته؟ فالجواب: أن الاستعداد للعبادة من العبادة، فالمعنى: أنه يتهيأ للقيام من حين ما ينتهي من صلاة العشاء، وأما إيقاظ الأهل كان يوقظهم صلى الله عليه وسلم في هذه الليالي حتى يقوموا، في غير هذه الليالي ما كان يوقظهم، كان يقوم وعائشة رضي الله عنها نائمة فإذا أوتر أيقظها، ولا يوقظها قبل ذلك، لكن في العشر الأواخر من رمضان كان يوقظ أهله من أجل العمل من أجل هذه الليالي المباركة. من فوائد الحديث: فضل العشر الأواخر من رمضان، وذلك لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم لها بإحياء الليل. ومن فوائده: مشروعية إحياء الليل كله في العشر الأواخر من رمضان، وهل يقاس على ذلك بقية الليالي، بمعنى: أن نقول للإنسان: ينبغي أن تسهر الليل كله في القيام؟ لا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك حين بلغه عن قوم قالوا كذا وكذا، ومما قالوا قول أحدهم: إني أقوم ولا أنام فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنا أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي استقبال هذه العشر والتهيؤ له في القوة لقوله: "شد مئزره". ومنها: جواز تخلف الإنسان عن أهله في مثل هذه المدة، وبه يتبين ضعف قول من يقول: إنه يلزمه أن يبيت عند امرأته ليلة من أربع وينفرد في الباقي إن أراد؛ لأن هذا القول ليس عليه دليل، والإنسان يعاشر أهله بالمعروف، وليس من المعروف في غير مثل هذه الأوقات الفاضلة أن ينفرد إنسان عن زوجته ثلاث ليال من أربع، بل المعروف أن يبيت معها كل ليلة، إلا إذا دعت حاجة أو مصلحة كقيام رمضان كما في هذا الحديث. ومن فوائده: مشروعية إيقاظ الأهل في الليالي الفاضلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله. ومن فوائده أيضًا: أن إيقاظ الأهل لأمر ليس بواجب في الأيام الفاضلة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، لا يقال مثلًا: لماذا تحرمهم النوم فهذا ليس بواجب؟

يقال: إنه ليس بواجب، لكن هذه أوقات تعتبر مواسم للخير، فلا ينبغي للإنسان أن يضيعها. هل يؤخذ منه: جواز تصرف الإنسان في أهله؛ بمعنى: أنه يوقظهم وإن لم يأمروه بذلك؟ نقول: نعم، أما في الواجب فواجب عليه أن يوقظهم وإن لم يأمروه بذلك، بل لو قالوا: لا توقظنا وجب عليه أن يوقظهم للواجب، بل يجب أن يوقظ للواجب حتى من هو ليس بأهله، ولهذا قال العلماء: يجب إعلام النائم بدخول وقت الصلاة إذا ضاق الوقت، أما غير الواجب فهذا للإنسان أن يوقظ أهله وإن لم يأمروه بذلك، لئلا تفوت هذه المصلحة العظيمة. 665 - وعنها رضي الله عنها: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتَّى توفَّاه الله عز وجل ثمَّ اعتكف أزواجه من بعده". متَّفقٌ عليه. "كان" فعل ماض، قال العلماء: وإذا كان خبرها فعلًا مضارعًا دلت على الاستمرار غالبًا لا دائمًا، فنقول: "كان يفعل كذا"، ويجوز أن نقول: "وأحيانا لا يفعل"، وقوله: "يعتكف" تقدم لنا معنى الاعتكاف لغة وشرعًا، وقوله: "العشر الأواخر" لماذا خص الاعتكاف بالعشر الأواخر؟ طلبًا لليلة القدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف أول ما اعتكف العشر الأول، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم أوتي فقيل له: إنها في العشر الأواخر فاستمر على اعتكاف العشر الأواخر فقط رجاء ليلة القدر، وقولها: "حتى توفاه الله" يعني: حتى قبضه، و"الوفاة" تطلق على وفاة الموت، وعلى وفاة النوم، قال الله تعالى: {الله يتوفَّى الأنفس حين موتها والَّتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]. وقال تعالى: {وهو الَّذي يتوفَّاكم بالَّيل ... } [الأنعام: 60]. لكنها عند الإطلاق يراد بها وفاة الموت كما في هذا الحديث. وفائدة قولها "حتى توفاه الله": بيان أن هذا الحكم لم ينسخ وأنه استمر إلى آخر حياته. قالت: "ثم اعتكف أزواجه من بعده"، أي: من بعد موته، و"أزواجه" جمع زوج، وهو في اللغة يشمل الذكر والأنثى، فيقال: زوج للرجل، ويقال: زوج للمرأة، لكن فيه لغة قليلة قال بعضهم: لغة رديئة بالتاء للأنثى ويحذفها للذكر، إلا أن الفرضيين التزموا أن يجعلوها للأنثى بالتاء وللذكر مجردة من أجل تمييز المسائل الفرضية؛ لأنهم إذا وحدوا ذلك لأشكل على الطالب. في هذا الحديث فوائد منها: مشروعية الاعتكاف، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلته، والأصل فيما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم تعبدًا أنه مشروع، ولكن هل يكون للوجوب؟ لا، فإن الفعل المجرد لا يفيد الوجوب.

فائدة في ذكر أقسام أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم

فائدة في ذكر أقسام أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم لها أقسام متعددة: أولًا: ما فعله بمقتضى الطبيعة، والثاني: ما فعله بمقتضى العادة، والثالث: ما فعله تعبدًا، والرابع: ما احتمل الأمرين التعبد والعادة، والخامس: ما فعله بيانًا لمجمل، هذه خمسة أنواع. الأول: ما فعله بمقتضى الجبلة لا حكم له؛ لأن هذا شيء تقتضيه الطبيعة مثل النوم، هل نقول للإنسان: يسن أن تنام؟ لا، إذا جاءه النوم نام، الأكل كذلك بمقتضى الطبيعة والجبلة، كون الإنسان يتدفأ إذا بد أو يطلب البراد إذا احترَّ هذا أيضًا بمقتضى الجبلة، لكن قد يؤجر الإنسان عليه لسبب آخر بحسب نيته، قد يقول: أنا أنام بمقتضى الطبيعة وأريد أن أريح بدني؛ لأن لبدني عليَّ حقًّا، أنا آكل بمقتضى الطبيعة لكن أيضًا أريد بذلك التقرب إلى الله عز وجل بامتثال أمره بالأكل والاستعانة به على طاعة الله وبحفظ بدني وما أشبه ذلك، فيؤجر من هذه الناحية، كذلك قد يؤجر الإنسان فيما يتعلق بفعل الجبلة بمقتضى هيئاته أو صفاته مثلًا النوم على الجنب الأيمن سنة يؤجر عليه الإنسان، الأكل باليمين واجب يؤجر عليه الإنسان، الشرب باليمين كذلك، لكن هذا ليس عائدًا إلى الأكل نفسه بل إلى صفة الأكل. الثاني: ما فعله على سبيل العادة فهو مشروع لجنسه لا لعينه أو نوعه، وبعض الأصوليين أطلق كونه مباحًا، قد نقول: إنه مباح من حيث الأصل، لكن موافقة العادة التي ليست محرمة أمر مطلوب، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الشهرة الذي يشتهر به الإنسان؛ لأنه مخالف للعادة، وبناء على ذلك نقول: أيما أفضل لنا: أن نلبس القميص والغترة، أو أن نلبس الإزار والرداء والعمامة؟ الأول أفضل؛ لأن هذا مقتضى العادة، والذي يتبين لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لبس الإزار والرداء والعمامة؛ لأن ذلك كان العرف في عهده. أما بالنسبة للجنس لا للنوع، يعني: مثلًا النوع إزار ورداء وعمامة، العين متعذر في الواقع؛ لأن الأعيان الموجودة في عهد الرسول ليست موجودة الآن، أما نوعها فموجود، وأما الجنس فنقول: جنس اللباس المعتاد، فلباس الرسول صلى الله عليه وسلم إزار ورداء وعمامة هذا نوع، كون هو المعتاد هذا جنس، فنحن نتبعه في الجنس. الثالث: ما فعله على سبيل التعبد، كيف ذلك؟ قد يقول قائل: كيف نعرف أن فعله تعبدًا لله؟ نقول: نحن لا نطلع على ما في القلوب، لكن ما ظهر لنا فيه قصد التعبد بحيث لا يكون فيه منفعة للبدن فإن الظاهر أنه فعله تعبدًا، فيفعل ويكون مشروعًا، لكن هل هو على سبيل

الوجوب أو الاستحباب؟ الصحيح أنه على سبيل الاستحباب، وجه ذلك: أن فعله تعبدًا يرجح مشروعيته أو بالأصح يقتضي مشروعيته، والأصل عدم التأثيم بالترك إلا بدليل ففعله إياه يجعله مشروعًا، وعدم تأثيم التارك له يجعله من قسم المستحب لا الواجب، ولهذا كانت القاعدة عند جمهور الأصوليين: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد يدل على الاستحباب لا على الوجوب وهذا هو الصحيح. الرابع: ما كان مترددًا محتملًا لأن يكون على سبيل الجبلة والعادة أو على سبيل التعبد فهذا تجد العلماء يختلفون فيه، فمنهم من يقول: مستحب، ومنهم من يقول: ليس بمستحب في نوعه، ومثاله: إبقاء شعر الرأس للرجل، هل اتخاذ الشعر سنة أو هو من قسم العادة؟ كذلك أيضًا لبس النعال السبتية التي لها سبتة من ظهر القدم ولها سبتة من خلف العقل هل لبسها على سبيل العادة وبيان الجواز أو على سبيل الاستحباب، لكن المثال الأول أظهر وهو الشعر، فمن العلماء من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذه تعبدًا، وبناء على ذلك فإنه يسن لنا أن نتخذ الشعر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله تعبدًا ونحن مأمورون باتباعه والتأسي به، ومنهم من قال: إنه فعله لا على سبيل التعبد بل على سبيل العادة، وأن الناس في ذلك الوقت يرون اتخاذ الشعر فلم يرغب النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم، ولهذا لما قدم المدينة وجد اليهود يسدلون شعورهم، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أمر بمخالفتهم وصار يفرقه الأيمن لليمين والأيسر لليسار، وهذا يدل على أنه كان يتبع العادة وأن هذا ليس من الأمور المشروعة، لكن المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه من الأمور المشروعة، ولهذا قال فيه: هو سنة لو نقوى عليه اتخذناه ولكن له كلفة ومؤنة، فلذلك كان الإمام أحمد يحلق رأسه؛ لأن هذا أسهل فلا يحتاج إلى ترحيل ولا دهن ولا شيء. الخامس: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا لمجمل أولًا: الذي يترجح عندي أن الأصل في المتردد فيه أنه يلحق بما كان عاديًا أو جبليًا، هذا هو القسم الخامس من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو فعله بيانًا لمجمل مثل أمر الله بأمر على سبيل الإجمال ففعله النبي صلى الله عليه وسلم فهذا له حكم المجمل، إن كان هذا المجمل واجبًا كان ذلك واجبًا، وإن كان مستحبًا كان ذلك مستحبًا، قد نمثل له بقوله تعالى: {وإن كنتم جنبًا فاطَّهَّروا} [المائدة: 6]. وبقوله تعالى: {وأقيموا الصَّلوة} [البقرة: 43]. فالرسول صلى الله عليه وسلم أقام الصلاة وتطهر اغتسل على صفة معينة فله حكم المجمل، لكننا نقول: إن قوله: {فاطَّهروا} الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله ظاهر السُّنة يقتضي أن فعله؛ يعني: كيفية الغسل ليست بواجبة، ففي حديث عمران بن الحصين الطويل الذي رواه البخاري في قصة

الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم معتزلًا لم يصلِّ في القوم فقال له: "مالك؟ " قال" أصابتني جنابة ولا ماء، قال: "عليك بالصعيد"؛ لأن الرجل ظن أن الإنسان لو كان عليه جنابة وليس عنده ماء لا يصلي، فجيء بالماء وبقي منه بقية فأعطاه الرجل وقال: خذ هذا فأفرغه على نفسك، وهذا بعد نزول الآية بلا شك، فذهب الرجل واغتسل، هذا الحديث يدل على أن كيفية الغسل التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بها ليست واجبة؛ لأنها لو كانت واجبة لبينها لهذا الرجل؛ إذ إن هذا الرجل لا يعرف. المثال الثاني: {وأقيموا الصَّلوة} قلنا: هذا مجمل، ولكن الرسول بيَّنها، لكن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامة الصلاة كان بالقول أحيانًا وبالفعل أحيانًا. نرجع إلى الاعتكاف "كان يعتكف العشر الأواخر" هذا فعل بيان لمجمل أم لا؟ لا، ليس بيانًا لأمر مجمل، وهل هو على سبيل التعبد؟ نعم، ما الدليل؟ أنه في المسجد والمسجد مكان للعبادة وليس للبدن مصلحة في ذلك، إذن فهو عبادة، فيؤخذ منه: مشروعية الاعتكاف وقد دلّ عليها أيضًا القرآن لقوله تعالى: {ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187]. إذا قال قائل: كيف نعرف من هذه الآية أن الاعتكاف مشروع؟ فنقول: لأن الشارع رتب له أحكامًا، وترتيب الأحكام عليه يدل على مشروعيته والرضا به، فقال: {ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد}، إذن الاعتكاف له حرمة، وهو أن الرجل يمنع من مباشرة أهله فيكون عبادة، وسبق لنا في أول الباب أن الاعتكاف مشروع بالإجماع، نقل ذلك الإمام أحمد، ولا يجب إلا بالنذر لحديث عمر بن الخطاب. مسألة: وهل يصح في كل مسجد أو في مساجد مخصوصة؟ من العلماء من يقول: لا يصح إلا في مسجد المدينة فقط، ومن العلماء من قال: لا يصح إلا في مسجدي مكة والمدينة، ومنهم من يقول: لا يصح إلا في المساجد الثلاثة، ومنهم من يقول: لا يصح إلا في المسجد الجامع، ومنهم من يقول: لا يصح إلا في مسجد الجماعة، ومنهم من يقول: يصح في كل مصلى حتى مصلى المرأة في بيتها لما أن تعتكف فيه، لكن الراجح من هذه الأقوال بلا شك أنه يصح في كل مسجد تقام فيه الجماعة؛ لأنه إذا كان المسجد لا تقام فيه الجماعة فإن هذا الرجل الذي اعتكف إما أن يتردد إلى الجماعة، والتردد الكثير كخمس مرات في اليوم والليلة ينافي الاعتكاف، وإما أن يدع الجماعة فيترك واجبًا لمسنون وهذا لا يجوز، فالصحيح: أنه يصح في كل مسجد تقام فيه الجماعة، أما الجمعة فهي في الأسبوع مرة يخرج إليها، ومع هذا نقول: الأفضل أن يكون في المسجد الجامع إن تخلل

آداب الاعتكاف وأحكامه

اعتكافه جمعة حتى لا يحتاج إلى الخروج من مكان اعتكافه. ومن فوائد الحديث: فضيلة العشر الأواخر لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم لها بالاعتكاف. ومن فوائده: أهمية ليلة القدر، وأن الإنسان ينبغي أن يكون مستعدًّا لها. ومن فوائده: أن أفضل مكان للخلوة بالله بيوت الله عز وجل لأنها بيوته أضافها الله إلى نفسه في قوله: } ومن أظلم ممَّن مَّنع مساجد اللَّه {[البقرة: 114]. وأضافها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله في قوله: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ... ". ومن فوائد الحديث: أن الاعتكاف لم تنسخ مشروعيته؛ لقولها: "حتى توفاه الله". ومنها: جواز اعتكاف المرأة؛ لقولها: "واعتكف أزواجه من بعده"، فإن قلت: أفلا يعارض هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنقض الأخبية، حينما فعلت زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بنين لهن أخبية في المسجد ليعتكفن؛ لأن الرسول لما أراد أن يعتكف بنت عائشة لها خباء وبنت زينب لها خباء وبنت حفصة لها خباء فيما أظن، وهو قد بنى له بيتًا، يعني: خيمة، فلما خرج ورأى هذه الأخبية قال: "البر أردن"، أو قال: "ترون بهن؟ " يعني: هل تظنون أنهن فعلن هذا للبر، ثم أمر بنقض الأبنية الأربعة، وترك الاعتكاف تلك السِّنة واعتكف بعد ذلك في شوال، وهنا نقول: "اعتكف أزواجه من بعده" واستنبطنا منا: جواز مشروعية اعتكاف المرأة، فكيف نجيب عن هذا الحديث؟ أن الرسول ظن أنهن أردن غيرة، ولو فتح الباب لهن فسيكون في المسجد تسع أخبية والعاشر للرسول، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقطع أن تكون العبادات مما يحمل عليه الغيرة والتفاخر والتباهي، ولهذا جاء في الحديث: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد"، لا يتخذونها مكان عبادة ولكن مكان مباهاة يقال: ما شاء الله فلان عمل هذا المسجد مزخرفًا محلى بالنقوش وهكذا. فالحاصل: أننا نقول فيما أجبنا عنه فيما ظاهره معارضة لهذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بنقضها خوفًا من أن يكون الحامل لذلك- أو ظنًا أن الحامل لذلك- هو الغيرة. آداب الاعتكاف وأحكامه: 666 - وعنها رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلَّى الفجر، ثمَّ دخل معتكفه". متَّفقٌ عليه.

قولها: "إذا أراد" يعني: إذا أراد الدخول في المعتكف، والإرادة محلها القلب؛ لأنها النية قال: "صلى الفجر ثم دخل معتكفة" أي فجر؟ لم تبين، لكن قولها في الحديث الذي قبله "كان يعتكف العشر الأواخر" فإنه يحتمل أنه الفجر من يوم العشرين ليستقبل العشر الأواخر كاملة، أو أنه الفجر من إحدى وعشرين، فعلى الأول يمكن أن يكون كذلك ولكنه يُخالف قولها يعتكف العشر الأواخر، لماذا؟ لأن اليوم العشرين من العشر الأواخر، وعلى الثاني: يشكل أيضًا إذا قلنا: إنه يدخل في صباح اليوم الحادي والعشرين، لماذا يشكل؟ لأن ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر، وهي تقول: إنه كان يعتكف العشر الأواخر، ويحتمل أيضًا أن تكون ليلة القدر كما رآها النبي صلى الله عليه وسلم حين اعتكف العشر الأوسط من رمضان، ثم أرى ليلة القدر وأنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين فمطرت السماء ليلة إحدى وعشرين فواكب المسجد، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم فجر يوم إحدى وعشرين، وكان مسجده صلى الله عليه وسلم طينًا مبتلًا من المطر فلما انصرف إذا على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين، فعندنا الآن هي لم تبين تقول: "إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفة"، أي فجر هو؟ قلنا: يحتمل أنه فجر اليوم العشرين، وحينئٍذ يكون اعتكف أكثر من العشر الأواخر، ويحتمل أنه فجر إحدى وعشرين، وحينئٍذ يكون قد نقص من العشر الأواخر ليلة إحدى وعشرين، لهذا قال العلماء: إن مرادها بقولها: "صلى الفجر ثم دخل معتكفة"، أي: أنه صلى الله عليه وسلم انعزل عن الناس أو اعتزل الناس، وكان في ليلة إحدى وعشرين يختلط بالناس ويهيئ مكان اعتكافه، ولكن لا يعتزل الناس إلا في صباح إحدى وعشرين إذا صلى الفجر، قالوا ذلك لأجل أن يجمعوا بين هذا الحديث وبين الحديث الأول، "كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان"، وعللوا ذلك أيضًا فقالوا: إن العشر الأواخر من رمضان تبتدئ من غروب الشمس يوم عشرين، لأن النهار تابع الليل، فليلة الثلاثاء مثلًا هي مساء يوم الإثنين، إذن ليلة إحدى وعشرين تعتبر من العشر الأواخر، هذا ما حمله عليه أهل العلم، ولم يتبين لي أن هذا الحمل جيد، وكذلك أيضًا بعد مراجعة ما تيسر من شروح الحديث ما رأيت أحدًا رجح أحد الاحتمالين السابقين، وعندي أن الاحتمال الأول- أنه يدخل معتكفة في صباح عشرين- قد يكون جيد؛ لأنه في هذا اليوم يدخل ليهيئ المكان ويحسنه حتى يكون قابلًا للاعتكاف فيه من ليلة إحدى وعشرين، ولكني ما رأيت أحدًا من أهل العلم قال بذلك، نعم رأيت بعض العلماء يقول: إنه يدخل المعتكف في فجر يوم إحدى وعشرين ويلغي ليلة إحدى وعشرين، ولكن هذا أيضًا يبعده أن ليلة إحدى وعشرين هي إحدى الليالي التي يمكن أن تكون ليلة القدر.

في الحديث فائدة واحدة وهي: أن المعتكف يدخل معتكفه في الليلة التي تسبق اليوم لكنه لا يعتزل الناس إلا في صباحه، حيث يكون ابتداء تمام الاعتكاف. 667 - وعنها رضي الله عنها قالت: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علىَّ رأسه وهو في المسجد فأرجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفًا". متّفق عليه، واللَّفظ للبخاريِّ. هنا قولها: "إن كان ليدخل" "إن" مخففة من الثقيلة، واللام في قوله: "ليدخل" واجبة الوجود، يعني: يجب أن توجد، لماذا؟ لأنها لو حذفت لأوهم أنه ما كان يدخل رأسه عليَّ، وقد قال ابن مالك في ألفيته: وخفِّفت إنَّ فقلَّ العمل ... وتلزم اللاَّم إذا ما تهمل وربَّما استغنى عنها إن بدا ... ما ناطقٌ أراده معتمدًا فذكري أنه يمكن أن يستغنى عنها بشرط أن يكون المعنى واضحًا، فإن كان غير واضح فلابد من وجودها، وتسمى اللام الفارقة. قولها: "إن كان ليدخل عليَّ رأسه وهو في المسجد"، جملة: "وهو في المسجد" حال من فاعل "يدخل"، "فأرجله"، الترجيل: تسريح الشعر بالمشط ودهنه حتى يكون نظيفًا لينًا. قالت: "وكان لا يدخل البيت"، يعني: بيت عائشة أو غيرها من النساء، "إلا لحاجة"، والمراد بالحاجة هنا: حاجة الإنسان كما جاءت مفسرة في حديث آخر، وحاجة الإنسان هي: البول أو الغائط، وقولها: "إذا كان معتكفًا" هذا شرط، يعني: أنها ذكرت هاتين الحالين فيما إذا كان صلى الله عليه وسلم معتكفًا، وقد عرفت متى كان يعتكف وهو أنه يعتكف العشر الأواخر من رمضان. ففي هذا الحديث عدة فوائد: الفائدة الأولى: أن الإنسان لا يبطل اعتكافه بخروج بعض الجسد لفعله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدخل رأسه إلى البيت، ومثل ذلك: لو حلف أنه لا يخرج من البيت فأخرج بعض جسده فإنه لا يحنث بدليل هذا الحديث. ومن فوائده: جواز ترجيل المعتكف برأسه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، لا نقول للمعتكف: طن أشعت أغبر، بل نقول: لا بأس أن ترجل رأسك، وهل يجوز أن يحلقه لو كان الحلق عند الناس من باب التجمل كما هي عادتنا اليوم؟ الجواب؟ الجواب: نعم يجوز له أن يحلق رأسه للتجمل أو لغرض آخر. ومن فوائده: جواز استخدام الرجل زوجته في غير ما يتعلق بمصالح النكاح لكونه صلى الله عليه وسلم

يدخل رأسه على عائشة لترجله. فإن قال قائل: لماذا لا يأمر عائشة أن تأتي فترجل رأسه في المسجد؟ فالجواب: قد يكون لها عذر وأيضًا قد يكون في المسجد رجال، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم ألا ترجله أمامهم. المهم: أن هذه قضية عينن ولو أن الرجل دعا زوجته ورجلت رأسه في المسجد فلا بأس لكن بشرط ألا يتلوث المسجد بذلك بحيث يؤخذ ما يتناثر من الشعر ويلقي خارج المسجد. ومن فوائد الحديث: جواز ملامسة الرجل زوجته وهو معتكف، الملامسة تعني: اللمس باليد وليس الجماع؛ لأن عائشة ترجل الشعر، والغالب أنها تمسه، أي: تمس بشرته، أما مس الشعر فقد سبق لنا عدة مرات أن الشعر في حكم المنفصل. ومن فوائد الحديث: أن ينبغي للإنسان أن يفعل مع زوجته ما يجلب المودة والمحبة، وجه ذلك: أنه كان يدخل عليها رأسه لترجله، ولا شك أن الإنسان إذا عامل زوجته هذه المعاملة فسوف تقوى الرابطة بينهما، يعني: لو قال مثلًا: احلقي رأسي هذا من جنس الترجيل، أو إذا كان على رأسه شعر قال: رجليه، أو غسل بدنه، كل ذلك مما يجلب المودة بين الزوجين، وما كان جالبًا للمودة فإنه مأمور به. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا لحاجة؛ لقولها: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة": البول والغائط، ويقاس عليهما ما لابد منه من أكل وشرب ولباس ولحاف وما أشبه ذلك، لكن بشرط ألا يجد من يأتي إليه، فإن وجد من يأتي به إليه صار غير محتاج لذلك، الوضوء هل يجوز أن يخرج من المسجد إلى البيت؟ على التفصيل إذا لم يكن في المسجد ماء يتوضأ به جاز أن يخرج وإلا فلا يخرج، ومثله اللباس إذا احتاج إلى زيادة اللباس، كما لو كان في الشتاء ولم يجد من يأتي به جاز خروجه ليلبس، ومثله أيضًا اللحاف إذا خرج من المسجد ليأتي به وليس له من يأتي به إليه. ومن فوائد الحديث: أنه لا يزيد على قدر الحاجة إذا خرج، يؤخذ من قولها: "إلا لحاجة"، وإذا كان الشيء مقيدًا بالحاجة فإنه يتقدر بقدر الحاجة، هذه قاعدة، فلو خرج من المسجد وهو معتكف لقضاء حاجته ثم وجد صاحبًا له وقال له صاحبه: عندي لك قضية خاصة وجلسًا يتكلمان لا يجوز، وإن كان أصل خروجه جائزًا للحاجة لكن بقاؤه يتحدث إلى صاحبه ليس فيه حاجة فلا يجوز. من هنا نبين أن العلماء- رحمهم الله- ذكروا أن خروج الإنسان المعتكف من المسجد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

خروج لابد منه شرعًا أو طبعًا فهذا يخرج؛ كما لو كان عليه جنابة وليس في المسجد ماء يغتسل في، كما لو كان على غير وضوء وليس في المسجد ما يتوضأ به هذا لابد أن يخرج، والخروج الذي لابد منه طبعًا مثل الأكل والشرب والبول والغائط والدفء وما أشبه ذلك. فالحاصل: أن الخروج الذي لابد منه وكذلك الأمور التي لابد منها شرعًا أو طبعًا يجوز أن يخرج من المسجد إليه سواء اشترطه عند دخوله أم لم يشترطه. الثاني: ما ينافي الاعتكاف؛ فهذا لا يجوز الخروج إليه سواء اشترطه أم لم يشترطه مثل: أن يكون صاحب دكان ودخل المسجد معتكفًا واشتراط أن يخرج إلى دكانه ليبيع ويشتري، فهذا لا يجوز؛ لأنه يكون بذلك منافيًا للاعتكاف، والأصل أن الاعتكاف: أن تلزم المسجد لطاعة الله. رجل حديث عهد بزواج ودخل الاعتكاف واشتراط أن يبيت مع امرأته هذا لا يصح ولو فعل لبطل اعتكافه. القسم الثالث: ما له منه بد ولا ينافي الاعتكاف لكونه عبادة يتقرب إلى الله فهذا يصح إن شرطه وإن لم يشترطه لم يصح، مثل: أن يشترط شهود جنازة، يعني: هو خائف أن قريبه أو صديقه يموت في هذه المدة فاشترط عند ابتداء اعتكافه أن يخرج لتشييع جنازته هذا جائز، لماذا؟ لأنه عبادة ولا ينافي الاعتكاف لكن تتقدر بقدرها، كذلك لو كان له مريض واشترط عند ابتداء اعتكافه أن يخرج لعيادته فهذا لا بأس به، ولكن هل الأفضل أن يشترط ذلك ليحصل الأجر، أم الأفضل أن يحافظ على اعتكافه؟ الثاني، إلا لمصلحة راجحة كما لو كان المريض قريبًا له وتغيبه عنه مدة عشر أيام يعد قطيعة، هنا نقول: الأفضل أن تشترط، وكذلك المريض الذي يخشى أن يموت فهنا نقول: الأولى أن تشترط لوجود المصلحة الراجحة، وهي مع التشييع أو العيادة صلة الرحم. هل من ذلك لو اشترط حضور درس: مثلًا هناك دروس في النهار أو الليل لا يجب أن تفوته، طلب العلم من أفضل العبادات فهل نقول: له أن يشترط ذلك، أو نقول- ولا سيما في وقتنا هذا-: إنه ليس في حاجة إلى الحضور؛ لأنه يمكن أن يسجل الدرس فلا يجوز الخروج؛ لأن حاجته إلى الخروج في هذه الحال حاجة قليلة، من هذا النوع ما حصل فيه إشكال في العام الماضي كان أناس معتكفين في المسجد الحرام، وكان هناك درس في سطح المسجد الحرام، ولا يمكن الوصول إلى السطح إلا بالخروج من المسجد الحرام والصعود مع الدرج الكهربائية فهل يخرجون لاستماع الدرس أو لا؟ سئل بعض العلماء عن ذلك فقال: إن هذا لا يعد خروجًا في الواقع؛ لأنهم يخرجون ليرجعوا إلى المسجد وكان يوجد باب لكن لم يفتح، نقول:

مسألة مهمة

إذا كان هناك باب يخرج إلى السطح مباشرة بالدرج فلا ينبغي للإنسان أن يعرض اعتكافه لأمر مشتبه، أما إذا لم يكن فالظاهر أن هذا لا يعد خروجًا حقيقيًّا. مسألة مهمة: هناك مسألة تشبه هذا وهي بعض الناس يصاب بمرض في الكبى ويجعل له آلة تصفيه للدم خارج الجسم فيخرج الدم من جسمه ليصفي في الآلة ثم يعود وهو صائم هل يبطل صومه؟ وعليه فيكون عندنا الآن مسألتان: خروج دم، ودخول دم، دخول الدم هل يفطر؟ فيه احتمال أنه يفطر؛ لأنه يقوم مقام الأكل والشرب، والأكل والشرب ينقلب إلى دم يتقوى به الجسم، خروج الدم هل يفطر؟ الحجامة تفطر لا شك، لكن هل هذا الحجامة؟ قد نقول: ليس مثلها؛ لأن هذا يخرج من البدن ليعود إليه، الحجامة تخرج من البدن لئلا تعود، فالذي يظهر لي: أن هذا لا يبطل صومه؛ لأنه يخرج منه ليدخل فيه، فهو لا يزيده إلا خيرًا، لا يزيده ضعفًا بخلاف الحجامة. وأما مسألة إدخال الدم للصائم فكنت أقول بأنه يفطر، ولكن رجعت عنه ورأيت أنه لا يفطر؛ لأنه لا يقوم مقام الأكل والشرب، فإنه هذا لو حقن فيه الدم يبقى جائعًا إذا كان ليس في معدته شيء ويبقى عطشان إذا لم يبق معدته شيء. * * * 668 - وعنها رضي الله عنها قالت: "السُّنَّة على المعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازًة، ولا يمسَّ امرًأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجٍة، إلا لما لابدَّ له منه، ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجدٍ جامعٍ". رواه أبو داود، ولا بأس برجاله، إلا أنَّ الرَّاجح وقف آخره. 669 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المعتكف صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه". رواه الدَّارقطنيُّ والحاكم، والرَّاجح وقفه أيضًا. كأنها قالت: "على" دون اللام- يعني: للمعتكف-؛ لأن هذه سنة واجبة، وإذا قال

الصحابي: من السُّنة، فقد قال العلماء: إن له حكم الرفع، وإذا قال: من السُّنة فقد يكون ذلك الشيء واجبًا وقد يكون مستحبًا، المهم: أنه من الشريعة، ووجوبه واستحبابه يؤخذ من دليل آخر، إذن هذا الحديث له حكم الرفع؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: "من السُّنة ألاَّ يعود مريضًا"، مع أن عيادة المريض من أفضل الأعمال، وهي فرض كفاية على القول الراجح، وإذا كانت فرض كفاية وسنة موكدة وسنة إذا قام بها من يكفي فإنه لا يخرج المعتكف لها لأنها تنافي الاعتكاف {وأنتم عاكفون في المسجد} [البقرة: 187]. فـ {عاكفون}، أي: ملازمون لها دائمون فيها، فإذا أراد المعتكف كلما ذكر له مريض ذهب وعاده وكلما جاءت جنازة خرج معها، فأين الاعتكاف؟ ! لكن ما كانت هذه من الأمور المشروعة التي لا تنافي الاعتكاف منافاة تامة أجاز العلماء فعلها بالشرط، وقالوا: إذا اشترط أن يعود المريض فلا بأس، ولكن هل نقول: إنه يعود كل مريض، أو ينبغي أن يقال له: لا تشترط إلا مريضًا له عليك حق كقريب وصديق وزوجة وما أشبه ذلك؟ أما أن تعود كل مريض فإنك ربما تستوعب كل الوقت، لكنَّ مريضًا معينًا له حق عليك لك أن تزوره؛ لأن هذا طيب، لكن أن تشترط عيادته؛ لأنه ربما يصل هذا المريض إلى حال قد يخشى أن يموت قبل أن ينتهي الاعتكاف، وربما يكون المريض من الناس الذين لا يعذرون ويريدون أن يوفي لهم حقهم كاملًا. الجنازة أيضًا مثلها: "ولا يشهد جنازة"، شهود الجنازة فرض أم سنة؟ فرض كفاية؛ لأنه لا بد من تشييع الجنازة، "ولا يمس امرأة" المراد بمس المرأة هنا لشهوة، أما مجرد المس فقد سبق أن عائشة ترجَّل شعر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بأس أن يأخذ بيد امرأته إذا دخلت عليه معتكفه لتسلم عليه ويمسها لكن لا يمس لشهوة؛ لأنه إن كان جماعًا فهو مفسد للاعتكاف، وإن كان دونه فهو ذريعة للإفساد. قالت: "ولا يباشرها"، إذن نقول: ولا تباشر المرأة فهي جمعت بين المس والمباشرة وحينئذ نحمل المس على الجماع لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237]. ونحمل المباشرة على ما دونه. قالت: "ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد له منه"؛ يعني: لا مفر منه، هذا يخرج مثل البول والغائط والأكل والشرب إذا لم يجد من يأتي بهما إليه الوضوء إذا لم يكن في المسجد ماء وكذلك الغسل، لو أنه دخل معتكفه في دفء ثم نشط البراد واحتاج إلى ثياب أو إلى لحاف وليس عنده من يأتي له بذلك فيخرج؛ لأن هذا لا بد منه. قالت: "ولا اعتكاف إلا بصوم"، "لا" نافية للجنس، و"اعتكاف" اسمها، وخبرها محذوف، و"يصوم" بدل منه، أي: من الخبر، يعني: ولا اعتكاف كائن إلا بصوم أو متعلق بالخبر، هذا

النفي هل يحمل على الوجود أو على الصحة أو على الكمال؟ ذكرنا قاعدة فيما سبق أن الأصل في النفي نفي الوجود، فإذا لم يمكن بأن وجد الشيء فهو نفي للصحة، فإذا لم يكن بأن كان الشيء صحيحًا مع انتفاء هذا الشيء فهو للكمال. هل هو هنا للوجود؟ لا؛ لأن الإنسان قد يعتكف وليس بصائم إذن نفي وجودها اعتكاف بدون صوم غير صحيح، نفي للصحة؟ إن جاء في الشرع ما يدل على صحة الاعتكاف بلا صوم فليس نفيًا للصحة، وإن لم يأت فهو نفي للصحة، ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن نذر أن يعتكف ليلة أو يومًا في المسجد الحرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"، ولم يأمره بالصوم، ورواية أمره بالصوم أنه قال له: "أوف بنذرك وصم" ضعيفة لا تصح، والذي في الصحيحين: "أوف بنذرك"، ولم يأمره بالصوم، ولو كان الصوم واجبًا لا يصح الاعتكاف إلا به لأمره به النبي صلى الله عليه وسلم، إذن وجدنا في السٌنة ما يدل على صحة الاعتكاف بلا صوم، فيكون النفي هنا للكمال، يعني: ولا اعتكاف كاملًا إلا بصوم، وهذا صحيح؛ أي: أن الأفضل لمن اعتكف أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا صائمًا إلا حين قضى الاعتكاف في شوال فإنه لم يصم. قالت: "ولا اعتكاف في مسجد جامع"، هذا أيضًا نقول فيه ما قلنا في قولها: "ولا اعتكاف إلا بصوم"، هل يمكن أن يوجد اعتكاف في مسجد غير جامع؟ نعم، إذن لا يصح أن يكون نفيًا للوجود، لأنه يمكن أن يوجد، هل يصح الاعتكاف في مسجد غير جامع؟ نعم، لما سبق من أنه يصح لعموم قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المسجد} [البقرة: 187]. بقي علينا نفي الكمال، ولا شك أن الاعتكاف في مسجد جامع أكمل من الاعتكاف في غير جامع، لا سيما إذا تخلل اعتكافه جمعة؛ لأنه إذا تخلل اعتكافه جمعة سلم من الخروج للجمعة، ولأن الغالب في المساجد الجوامع أنها أكثر جمعًا، ولأن الغالب أيضًا فيها أن فيها فوائد لكثرة دروس العلم أو غير ذلك، فلهذا كان المسجد الجامع أفضل وليس شرطًا. قال المؤلف: "ولا بأس برجاله" هذه الكلمة لا توصل الرجال إلى أن يكونوا في قمة الثقات، بل ولا في الوسط، وإنما تدل على أن الرواة موثقون، فمثل هذه العبارة تعتبر من أدنى مراتب التعديل وليس بجرح لكنه تعديل ضعيف، لكن يقول: "إلا أن الراجح وقف آخره". استفدنا من هذا الاستثناء فائدتين: الأولى: أن قولها: "من السُّنة" في حكم المرفوع.

الثانية: أنه لا احتجاج بالموقوف؛ لأن الموقوف قول صحابي، وقول الصحابي مختلف في حجته، والقائلون بحجيته يشترطون شرطين: ألا يخالف نصًا، وألا يخالف صحابيًا آخر، وقف آخره من أين؟ من قولها: "ولا اعتكاف إلا بصوم"، ما الذي يدلنا على أن هذا هو مرادها؟ لأن الكلام الأول على نسق واحد: "لا يعود مريضًا ... " إلخ، هذا نسق واحد، والثاني: "ولا اعتكاف" اختلف الأسلوب ونسق الكلام، فنقول: هذا الآخر هو الذي قال ابن حجر رحمه الله: إن الراجح وقفه، فيكون من قول عائشة رضي الله عنها، وقول عائشة لا بد أن يعرض على الكتاب والسُّنة وقد مر علينا أن حديث عمر رضي الله عنه يدل على أن الصوم ليس بشرط. بقي أن يقال: هل الاعتكاف مشروع كل وقت؟ بمعنى: أننا نقول للإنسان: اعتكف في رجب، في ربيع، في شعبان، في شوال، في ذي الحجة، في أي زمان وفي أي حال مكثت في المسجد؟ الجواب: أن في هذه المسألة خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: إنها مشروعية، وأنه يشرع للإنسان أن ينوي الاعتكاف في المسجد مدة نحن الآن جئنا لصلاة المغرب وسنبقي إلى صلاة العشاء يسن لنا على رأي هؤلاء أن ننوي الاعتكاف ما بين دخولنا إلى خروجنا؛ لأن الصوم ليس بشرط وإذا لم يكن شرطًا فأيّ وقت تدخل انو الاعتكاف، ومن العلماء من قال: ليس هذا بمشروع ولا نأمر الإنسان به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يأتون إلى المساجد ولم يرشد أحدًا منهم إلى أن ينوي الاعتكاف، بل لما ذكر تقدم الإنسان إلى المسجد إذا توضأ وأسبغ الوضوء ثم جاء إلى المسجد لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة، ثم قال في آخر الحديث: "ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة"، ولم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إلى أن ينوي الاعتكاف مدة انتظارهم الصلاة، مع أن النية- نية الاعتكاف- هل هي من الأمور الواردة التي يتفطن لها الإنسان بلا تنبيه؟ لا، ليست من الأمور التي تكون تابعة للصلاة، ولو كانت من الأمور المشروعة لكان النبي صلى الله عليه وسلم ينبه عليها، ولما لم ينبه دل ذلك على أنها ليست من المشروع. فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر على النذر الذي نذره في الجاهلية؟ الجواب: أن عمر قصد المسجد الحرام بنية الاعتكاف لا بنية عبادة أخرى، فأنت مثلًا إذا دخلت المسجد لتصلي نقول: لا تنو الاعتكاف، لكن رجل قال: أنا أحب أن أعتكف اليوم في هذا المسجد، نقول: هذا من الأمور الجائزة وليس من الأمور التي تطلب من الإنسان، ولهذا لم يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم إلا في رمضان، لم يعتكف في شوال إلا قضاء لما مضى، ولو كان الاعتكاف مشروعًا في كل وقت لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبينه للأمة.

ليلة القدر

والحاصل: أن لدينا ثلاثة أشياء: اعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؛ فهذا مشروع ومسنون، حتى إن الإمام أحمد قال: لا أعلم خلافًا بين العلماء أنه مسنون. هذا واحد. الثاني: أن يتقدم إلى المسجد بنية الاعتكاف فهذا جائز، لكننا لا نطلبه من الناس، فلا نقول للناس: افعلوا أنا أخبر عما أراه عسى أنا أتجاسر وأقول: إنه من الجائز، ولولا حديث عمر لقلت إنه من غير الجائز؛ لأن هذه عبادة ما فعلها الرسول إلا في رمضان طلبًا لليلة القدر، لكن حديث عمر يدل على جوازها حتى في غير رمضان. الحالة الثالثة: أن يأتي إلى المسجد لا للاعتكاف لكن ينوي الاعتكاف؛ لأنه جاء ليصلي أو ليطلب العلم فهذا ليس بمشروع قطعًا، ولا ينبغي لنا أن نوجه الناس إلى ذلك، لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرشد منتظر الصلاة إلى هذا، وهو من الأمور التي تعزف عن الخاطر فلا تكون للإنسان على بال إطلاقًا، لو كانت من الأمور التي ينتقل الذهن إليها بسهولة إذا جاء إلى المسجد وينويها بسهولة قلنا: الرسول سكت عن ذلك؛ لأن هذا أمر معلوم أو أمر غالب، فلما لم يكن من الأمور الغالبة ولا من الأمور التي ينتقل إليها الذهن ولا أرشد إليها الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا لا نطلب من الإنسان أن يفعلها ونحن في شك من كونها بدعة، فلهذا لا نحبذ الدعوة إليها وإن كان بعض العلماء- رحمهم الله- يرون أن هذا من الأمور المستحبة ويقول: ينبغي لمن دخل المسجد- ولو ليجلس خمس دقائق أن ينوي الاعتكاف مدة لبسه فيه. أما مسجد الجامع فإننا نقول: لا شك أن الأفضل لمن يتخلل اعتكافه جمعة أن يكون في المسجد الجامع، أما إذا لم يتخلل اعتكافه جمعة فإن تفضيل الجامع على غيره لا ينبغي على سبيل الإطلاق، بل يقال: إن كان هناك مصالح فإنه ينبغي أن يقدم ما فيه مصالح، سواء كان هو الجامع أو غير الجامع. ليلة القدر: 670 - وعن ابن عمر رضي الله عنه: "أنَّ رجالًا من أصحاب النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام، في السَّبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى رؤياكم قد تواطأت في السَّبع الأواخر، فمن كان متحرِّيها فليتحرَّها في السَّبع الأواخر". متَّفقٌ عليه. 671 - وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: "ليلة سبعٍ وعشرين". رواه أبو داود، والرَّاجح وقفه. - وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولًا أوردتها في "فتح الباري".

كيف نجمع بين هذا الحديث في السبع الأواخر وبين الأحاديث الأخرى التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحريها في العشر الأواخر؟ نقول: هي في العشر الأواخر، لكن في السبع أوكد، ثم في أوتاره أوكد، ثم في السابع والعشرين أوكد، وإبهامها فيه فائدتان: الأولى: هي بعث الهمم على طلبها والنشاط فيها؛ لأن الكسلان قد يقول: أنا لا أقوم عشر ليال من أجل ليلة واحدة فإذا كان نشيطا حريصا على العبادة فإنه سوف يقوم هذه الليالي ويقول: ما أرخصها في حصول هذا الأجر العظيم: {من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه}. الفائدة الثانية: كثرة العمل الصالح للعباد؛ لأن العمل الصالح في العشر كلها بلا شك أكثر من العمل الصالح في ليلة واحدة، وكثرة العمل توجب كثرة الثواب. وقول المؤلف في الحديث الثاني: إنه اختلف فيها على أكثر من أربعين قولا الذي في "فتح الباري" ستة وأربعون قولا، ويمكن أن يكون أصل النسخة على أكثر من أربعين قولا كما قال ذلك في ساعة الإجابة يؤم الجمعة، أو أنه هنا يريد أربعين قولا باعتبار أن هناك قولين أو ثلاثة بأنها رفعت ولم تعد عائدة إلى الناس، وأنه بحذف هذه الأقوال تصير الأقوال أربعين، لكن يبقى الإشكال في أننا حتى لو حذفنا قولين أو ثلاثة لم تكن الأقوال الباقية أربعين وحديث معاوية ليس فيه إلا فائدة واحدة وهي أن ليلة القدر أرجى ما تكون في السابع والعشرين. 672 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يا رسول الله، أرأيت أن علمت أي ليلةٍ ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعف عنِّي". رواه الخمسة، غير أبي داود، وصحَّحه التِّرمذيُّ، والحاكم. قولها: "أرأيت؟ "، معناها: أخبرني، وقولها: "ما أقول فيها؟ "، "ما" هنا استفهامية، يعني: أخبرني ماذا أقول أن علمت ليلة القدر، قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"، "اللهم" يعني: يا الله، حذفت ياء النداء وعوض عنها بالميم، وكانت الميم في الآخر تبركًا بالابتداء باسم الله وكانت العوض ميمًا، لأنها تفيد الجمع كأن السائل جمع قلبه على الله وتوجَّه إليه، وقوله: "إنك عفو تحب العفو" هذا توسل إلى الله بهذا الاسم والصفة، الاسم "إنك عفو" والصفة "تحب العفو"، والمطلوب "فاعف عني"، والفاء هنا للتفريع، يعني: فتفريعك على

كونك العفو الذي تحب العفو أسألك العفو. فما هو العفو؟ قال العلماء: العفو هو المتجاوز عن سيئات عباده سواء كان ذلك بالعفو عن ترك واجب أو العفو عن فعل محرم؛ لأن استحقاق الذنوب يكون بأمرين: إما بترك الواجب، وإما بفعل المحرم، فإذا عفا الله عن إنسان عن ترك الواجب أو فعل المحرم، فمعناه: أنه تجاوز عنه ولم يعاقبه عن ترك الواجب ولا على فعل المحرم، وقوله: "فاعف عني"، أي: تجاوز عني ما اكتسبته بترك الواجب أو فعل المحرم، والأمر هنا للدعاء. في هذا الحديث أولًا: أن ليلة القدر يمكن العلم بها لقولها: "إن علمت ليلة القدر"، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك ولم يقل: إنها لا تعلم. ومن فوائده: حرص عائشة رضي الله عنها على اغتنام هذه الليلة المباركة حيث قالت: "أرأيت ... " إلخ لتغتنم هذه الفرصة التي قد لا تعود على الإنسان بعد عامه. ومن فوائد ألحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يسأل العالم عما يخفى عليه؛ لأن عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائده: أن الدعاء يطلق عليه اسم القول، لكنه قول مع الله وخطاب مع الله، ولهذا إذا دعا الإنسان في صلاته ربه لم تبطل صلاته؛ لأنه يناجي ربه بخلاف سؤال غير الله فإن الصلاة تبطل به، فمثلًا لو قال الإنسان في صلاته: أعطني كذا بطلت صلاته. ومن فوائل الحديث: إثبات اسم العفو لله عز وجل. ومن فوائده: إثبات المحبة لله لقوله: "تحب العفو". ومن فوائده: بيان كرم الله عز وجل، وأن العفو أحبُّ إليه من الانتقام؛ لأن رحمته سبقت غضبه، فهو - جلَّ وعلا - يحب العفو ولا يحب الانتقام، ولذلك كان يعرض التوبة على عباده: "إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، يقول: هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ " (). ومن فوائد ألحديث: الردُّ على أهل التعطيل الذين يمنعون قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل لقوله: "تحب"، و"فاعف عني". ومن فوائده: جواز التوسل بأسماء الله وصفاته؛ لقوله: "اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عني"، وهذا أحد أنواع التوسل، وقد مرَّ علينا أنه ستَّة أنواع. ومن فوائده: الرد على المتصوفة الذين يقولون: لا حاجة إلى الدعاء، ويقولون إما بلسان

المقال أو بلسان الحال: علمه بحالي يكفي عن سؤالي، وهذا إبطال صريح لقوله تعالى: {وقال ربُّكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60]. إذا كان علمه بحالك يكفي عن سؤالك فهو عالم بحالك، إذن يكون معنى قوله: {ادعوني أستجب لكم} لغوًا لا فائدة منه. ومن فوائد الحديث: احتقار الإنسان نفسه؛ لأنه في هذه الليلة، يعني: الذي كان من المتوقع أن يسأل الإنسان خيرًا وفضلًا ذهب يسأل العفو سؤال المسرف الجاني على نفسه، يقول: "اللهم إنك عفو ... " إلخ، ليحتقر الإنسان ما عمله في جانب حق الله عز وجل حتى لا تمنَّ على ربك أو تدلَّ عليه بالعمل وتقول: أنا عملت، من أنت حتى تقول ذلك، والرب عز وجل هو الذي منَّ عليك بالعمل، لو شاء لأضلك كما أضل غيرك، فإذا منّ عليك بالهداية فلا تمنَّ عليه أنت بالعمل، فأحمده على هذه النعمة واشكره، وقل: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. لو قال قائل: إلا يمكن أن يكون هذا خاصًّا بعائشة؟ نقول: أن الخطاب الموجه لواحد من الأمة هو لجميع الأمة؛ لأنه ليس هناك حكم يخصّص لشخص بعينه أبدًا على القول الراجح. ولو قال قائل: ينتقض عليك هذا بخصائص النبي؟ نقول: اختص بها صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نبي ورسول. ولو قال قائل: ينتقض عليك هذا بحديث أبي بردة بن نيار حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم في عناق استأذنه أن يذبحها بعد صلاة العيد قال: "لن تجزئ عن أحد بعدك؟ ". نقول: "لن تجزئ عن أحد بعد حالك" ()، وليس المعنى: بعدك شخصيًّا، ويرى شيخ الإسلام أنه لو أن أحدًا جرى له مثل ما جرى لأبي بردة فإنها تجزئ عنه. ولو قال قائل: ينتقض عليك هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي زوَّجه المرأة بما معه من القرآن قال: "إنها لن تجزئ عن أحد بعدك مهرًا؟ " قلنا: الحديث ضعيف لا يصح. ولو قال قائل: ينتقض عليك هذا بقصة سالم مولى أبي حليفة، فإن سالمًا مولى أبي حذيفة قال النبي صلى الله عليه وسلم لزوج حذيفة: "أرضعيه تحرمي عليه"، وأنت لا تقول بأن رضاع الكبير مؤثر، هذا فيه أجوبة منهم من قال: إنه ليس بخاص، وإنه يجوز للمرأة أن ترضع الكبير وتصير أمه من الرضاع، قالوا: كيف ترضعه وهي ليست محرمًا له؟ قالوا: تحلب بكأس وترضعه، وهذا قول

فضل المساجد الثلاثة

للظاهرية، والذين قالوا بعدم تأثيره أجابوا عن الحديث بأنه منسوخ، وهذا الجواب ليس بصواب؛ لأن من شروط النسخ العلم بالتاريخ بتأخر الناسخ، قالوا: هذا خاصٌّ بسالم مولى أبي حذيفة، قلنا: أين الدليل على الخصوصية والأصل العموم؟ قالوا: هذا خاصٌّ بمثل حال مولى أبي حذيفة، قلنا: هذا صحيح إذا وجد إنسان بهذه المثابة فإن إرضاعه صحيح، لكن بعد بطلان التبني لا يمكن أن يوجد، على كل حال نقول: ليس هناك حكم للتخصيص. فضل المساجد الثلاثة: 673 - وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" (). متَّفقٌ عليه. أولًا: نسأل ما المناسبة في ذكر هذا الحديث في باب الاعتكاف؟ المناسبة: أنه لما كان الاعتكاف خاصًّا بالمساجد أتى المؤلف بما هو أخصُّ من الاعتكاف وهو شدُّ الرحال حيث لا يجوز شد الرحال إلا إلى هذه المساجد، فالاعتكاف خاص بالمساجد، وشد الرحال أخصُّ حيث لا يجوز إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، وأما استنباط بعض الشُّراح أن المؤلف يريد الإشارة إلى أن الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة لا يصح فليس بصواب؛ لأن المؤلف ممن يرون جواز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال"، "لا" نافية بدليل ضم الفعل، ولو كانت ناهية لجزم. "الرحال" معروف وهو الرحل الذي يوضع على البعير ليركب. وقوله: "إلا إلى ثلاثة مساجد"، أين المستثنى منه؟ المستثنى منه محذوف، وإنما حذف للعموم ليشمل شد الرحل إلى المساجد الأخرى، يعني: لا تشد الرحال إلى أي مسجد إلا المساجد الثلاثة، وإلى الأماكن الأخرى التي يعتقد من يشد الرحال إليها أن لها مزية كالذين يشدون الرحال إلى القبور؛ لأن القبور أماكن، وهل يعم شد الرحل إلى البلاد الأخرى لطلب العلم؟ لا، لا يشمل؛ لأن الشَّاد لطلب العلم ليس شادًّا للمكان ولكن للعلم، وقد ثبت عن الصحابة ومن بعدهم أنهم يشلون الرحال لطلب العلم. قوله: "إلا إلى ثلاثة مساجد ... " إلخ، في هذا تفصيل بعد الإجمال، الإجمال في قوله: "ثلاثة مساجد"، والتفصيل: "المسجد الحرام"، وقد ذكرنا أن هذا من أساليب اللغة العربية التي يقصد بها تثبيت الكلام في ذهن السامع، كيف ذلك؟ لأن السامع إذا جاءه الإجمال تشوق ذهنه إلى التفصيل والتبيين، فإذا قال: "إلى ثلاثة مساجد"، بدأ الذهن يقول: ما هي هذه المساجد؟ فإذا

جاء التعيين ورد على ذهن متشوف ومتشوق إلى معرفة هذا الشيء، كما لو قلت: عندي لك ثلاثة، فيتشوق ما هي: ثلاثة كتب أو ريالات أو ثلاثة أقلام، فإذا قلت: ثلاثة دراهم ورد هذا التعيين على ذهن متشوف إلى البيان. "المسجد الحرام" هو مسجد مكة وسمِّي حرامًا لحرمته وتحريمه، والثاني: "مسجدي هذا"، يعني: المسجد النبوي. الثالث: "المسجد الأقصى"، الذي في فلسطين، هذه المساجد كلها وضعت وأسست على التقوى، المسجد الحرام من الذي رفع قواعده؟ إبراهيم، والمسجد الأقصى يعقوب، ولكنه جدِّد على عهد سليمان، ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم كم بينهما - الكعبة والمسجد الأقصى - قال: "أربعون سنة" ()؛ لأن المدة بين إبراهيم ويعقوب قريبة، أما سليمان فإنه بناه تجديدًا، المسجد النبوي بناه الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو آخرها، لكنه في الفضل أفضل من المسجد الأقصى؛ لأن الصلاة في المسجد النبوي خير من ألف صلاة فيما عداه إلا المسجد الحرام، والمسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما عداه، والأقصى بخمسمائة صلاة، فأفضلها إذن المسجد الحرام. يستفاد من هذا الحديث: تحريم شد الرحال إلى أي بقعة من الأرض سوى هذه المساجد الثلاثة لقوله: "لا تشد"، وهذا نفي بمعنى النهي، والأصل في النهي التحريم، لو أن أحدًا شد الرحل لا من أجل فضل البقعة ولكن ليشاهد، مثل أن يقال له: إنه قد بني في الرياض مسجد عظيم البناء واسع مكيف فشدَّ الرحل لينظر إليه، هل هو جائز؟ نعم، لأنه ما شد الرحل لاعتقاد أن فيه فضيلة، رجل شد الرحل إلى "غار حراء" للتبرك أو التعبد فيه لا يجوز، ولا "غار ثور" لا يجوز، المساجد السبعة في المدينة، والسبعة هذه أنها من خرافات المزورين وليست بصحيحة، على كل حال: كل مكان يشد الرحل إليه من أجل التعبد لله لا يجوز إلا هذه المساجد الثلاثة، لو أن رجلًا شدَّ الرحل إلى مسجد ليتلقى العلم فيه، لأن خطيبه مؤثر، يجوز أم لا؟ يجوز؛ لأنه شده لطلب العلم حتى من القصيم إلى الرياض أو العكس فيجوز ما دام الغرض من ذلك هو نفس هذا الشخص الذي ذهب إليه لو يخطب في مسجد آخر ذهب إليه، فإذن البقعة ليست مقصودة عنده. كأني سمعت سائلا يسأل يقول: شد الرحل إلى مسجد "قباء" هل يجوز أم لا؟ لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج إليه كل سبت ماشيًا فليس مما تشد إليه الرحال، لماذا خصت هذه المساجد بجواز شد الرحل إليها؟ نقول: لفضلها من جهة: لأنها أفضل بقاع الأرض، ومن جهة أخرى: لكثرة الثواب فيها كما سمعتم.

فائدة

هذا الحديث نسأل أولًا هل هو خاصٌّ بالفرائض أو بالفرائض والنوافل؟ فيه خلاف بين العلماء، بعضهم يقول: هذا خاص بالفرائض؛ لأنها هي التي تطلب في المساجد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المدينة: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" ()، إذن لما قال: "إلا المكتوبة" علمنا بأن الفضل في هذه المساجد إنما هو في المكتوبة في الفرائض، أما النوافل فليس فيها فضل، بل البيوت أفضل منها، أنا بيتي إلى جانب المسجد الحرام أذن المؤذن لصلاة الظهر هل الأفضل أن أصلي الراتبة في بيتي أو أخرج إلى المسجد وأصلي الراتبة فيه؟ في بيتي لا شك في هذا، وكذلك نقول في المسجد النبوي، أيما أفضل أصلي القيام في المسجد الحرام خلف الإمام أو في بيتي؟ في المسجد الحرام، إذن ننتقل إلى القول الثاني يقولون: ما سنَّ في المسجد فهذه المساجد الصلاة فيها خير من ألف صلاة في المسجد النبوي وبمائة ألف صلاة في المسجد الحرام، وبخمسمائة صلاة في المسجد الأقصى، ما شرع في المسجد مثل قيام الليل في رمضان مشروع في المساجد فهو أفضل من المساجد الأخرى. تحية المسجد في المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي خير من ألف صلاة فيما عداه إلا المسجد الحرام، الكسوف إذا قلنا بأنها سنة كذلك تكون أفضل من غيرها، ركعتا الطواف هذه خاصة بالمسجد الحرام فقط، صلاة الجنازة، ولهذا صارت الجنازة أفضل من غيرها من المساجد أن قلنا بجواز الصلاة على الجنازة في المسجد؛ لأن المسألة خلافية، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم في عهده كان هناك مصلى للجنائز غير المسجد، والصلاة على الجنائز في المسجد في عهد الرسول قليلة، لكنه ثبت أنه صلى عليها في المسجد، يقال: أن رجلًا - أظنه من الخلفاء - قال: لله على نذر أن أقوم بعبادة لا يشاركني فيها أحد حين فعلها، ذهبوا إ عالم من العلماء فسألوه ماذا يفعل؟ قال: أخلوا له المطاف، يعني: يطوف وحده فيكون تعبد لله بعبادة ما شاركه فيها أحد، وكأن سائلًا يقول: هل هذا يجوز أو لا يجوز؟ نقول: هذا حل المسألة، أما كونه يجوز أو لا يجوز، فيمكن أن يأتي إلى المطاف فيكون خاليًا، يعنى: في أزمان مضت تأتى إلى المطاف بالليل فلا تجد أحدًا أبدًا نحن أدركناها قبل أن يكثر الوصول إلى المسجد الحرام تأتي فلا تجد أحدًا، أو يقال مثلًا: إذا كان هذا من الخلفاء وجاء إلى المسجد الحرام يطلب من الناس أن يسمحوا له بذلك، المهم حل هذه المسألة. فائدة: سؤال: هل التضعيف خاصٌّ بالمسجد حين حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أم أن الزيادة داخلة فيه؟ الصحيح: أن الزيادة داخلة فيه، وأنه لو زيد المسجد النبوي حتى بلغ كل المدينة فهو داخل في

هذا الحكم، المسجد الحرام هل الصلاة خاصة بالمسجل الذي هو مكان الكعبة، يعني: المسجد الذي فيه الكعبة، أو عام في جميع الحرم؟ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فقال الكعبة كلاهما صلاته بمائة ألف صلاة، قالوا: لأن هذا يسمى المسجد الحرام لقول الله تعالى: {سبحن الذي أسرى بعيده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} [الإسراء: 1]. وقد أسري به من بيت أم هانئ، ولقوله تعالى: {هم الَّذين كفروا وصدُّوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفًا أن يبلغ محلَّه} [الفتح: 25]. ولقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام} [التوبة: 28]. والمشرك لا يدخل الأميال - حدود الحرم -، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقيمًا في الحديبية، والحديبية بعضها من الحل وبعضها من الحرم، وكان مقيمًا في الحل لكنه يدخل فيصلي في الحرم، يعني: داخل الأميال، وكونه يتكلف الدخول بأصحابه وهم ألف وأربعمائة نفر ليصلي داخل الأميال يدل على أن هذا التضعيف عامٌّ يعم جميع الحرم، وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم، ولكن ظاهر كلام علماء الحنابلة وهو أن التضعيف خاصُّ بالمسجل نفسه الذي فيه الكعبة، واستدلوا لذلك بأن الحرم لا يسمى مسجدًا بل يسمى مكة ويسمَّى حرمًا كما قال الله تعالى: {وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24]. لم يقل: ببطن المسجد، وقال تعالى: {إنَّ أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركًا} [آل عمران: 96]. ولو أن مكة تسمي مسجدًا لكان المعنى: إن أول بيت وضع للناس للذي بالمسجد، ولأن الرسول يقول: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام"، ومعلوم أن الإنسان لو شد الرحل إلى مسجد الشِّعب في مكة أو مسجد آخر غير الذي فيه الكعبة لقلنا: لا يجوز؛ لأنه لو جاز شد الرحل إلى مساجد مكة غير المسجد الحرام لكان شد الرحل إلى مائة مسجد - كل مساجد مكة -. قالوا: الدليل الثالث قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. وعرفتم قبل قليل: أن هذه الآية استدل بها من قالوا بالعموم، ولكن الحقيقة أنها عند التأمل تدل على خلاف العموم، لماذا؟ لأن الله قال: {فلا يقربوا المسجد الحرام}، ولم يقل: فلا يدخلوا المسجد الحرام، والآن يجوز للمشركين أن نمكنهم من أن يقفوا على حد الحرم تمامًا، لو كان المراد بالمسجد الحرام كل الحرم ما جاز أن نمكنهم من قربان حدوده؛ لأن الله يقول: {فلا يقربوا المسجد}، فإذا منعناهم من دخول الأميال حينئذٍ منعناهم من قربان المسجد الذي في جوف مكة الذي فيه الكعبة، لو كان التعبير:

فلا يدخلوا المسجد الحرام قلنا: نعم، لكن الآية تقول: {فلا يقربوا}، ومعلوم بالاتفاق أن لهم التمكن من الوصول إلى أدنى نقطة من حدود الحرم. والدليل الرابع: قوله تعالى: {سبحن الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} [الإسراء: 1]. وهذه الآية - كما علمتم قبل قليل - استدل بها من قالوا بالعموم، ولكنا نقول: لا، الذي يثبت في صحيح البخاري () أنه أسري به من الحجر، وأين الحجر؟ هو من الكعبة، فيكون من المسجد الحرام، أي: الذي فيه الكعبة، وفي بعض الروايات: "بينما أنا نائم عند الكعبة"، فيحمل على أن المراد بالكعبة هنا: البناء القائمة؛ لأن الذي في الحجر عند الكعبة، أما قوله تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفًا أن يبلغ محله} [الفتح: 25]. فقد نستدل به على أن المراد بالمسجد الحرام: المسجد نفسه الذي داخل الكعبة؛ لأن أهم مقصود في العمرة الطواف، ومن منع الناس أن يدخلوا مكة فقد منعهم أن يدخلوا المسجد الحرام بالأولى، ولهذا قال: {والهدى معكوفًا أن يبلغ محلُّه}، ولم يقل: أن يبلغ المسجد، فدل ذلك على أن محل الهدي غير المسجد، أما حديث ابن عمر: "كان الرسول نازلًا في الحديبية ويصلي الصلوات في الحرم داخل الأميال"، فنحن نقول: نعم، نحن لا نمنع أن يكون الحرم أفضل من الحلِّ، بل لا نشك أن الحرم أفضل من الحل، ولهذا من دخله كان آمنًا، عندنا شجرتان إحداهما داخل الأميال، والثانية خارج الأميال وبينهما متر، التي خارج الأميال لنا أن نجثها بعروقها، والثانية نقول: لا تقطعوا منها شيئًا؛ لأنها داخل الحرم، ونحن لا نشك أن الصلاة في داخل الأميال أفضل من الصلاة في الحلِّ، لكن الكلام على التفضيل الخاص وهو التضعيف، ولأننا نقول: الأصل فيمن خرج عن المسجد الحرام الأصل إلا يدخل، فإذا جاءنا فرد من أفراد العموم وليس العموم ظاهرًا فيه، فإننا نقول: الأصل عدم الدخول إذا لم يكن العموم ظاهرًا في تناوله له حتى يقوم دليل على دخوله، وهذا هو الذي ذكره ابن مفلح رحمه الله في "الفروع" ()، وهو كتاب يعتبر من أجمع كتب المذهب الحنبلي في الأقوال، بل ويشير إلى خلاف الأئمة الثلاثة، بل وينقل أيضًا عن الظاهرية وغيرهم، فهو من أحسن ما ألف في الفقه، لكن فيه صعوبة؛ لأنه رحمه الله ضغطه لأجل الاختصار، فكان صعبًا على طالب العلم المبتدئ إلا أنه - كما قال بعضهم - هو مكنسة المذهب، يقول ابن مفلح: إن هذا هو ظاهر كلام أصحابنا، يعني: المسجد الحرام هو المسجد الذي فيه الكعبة، وهو كما علمتم ظاهر النصوص.

كتاب الحج ويشتمل على: 1 - باب بيان فضله وبيان من فرض عليه. 2 - باب المواقيت. 3 - باب وجوه الإحرام وصفته. 4 - باب الإحرام وما يتعلق به. 5 - باب صفة الحج ودخول مكة. 6 - باب الفوات والإحصار.

كتاب الحج

كتاب الحج تعريف الحج لغةً واصطلاحًا: "الحج"، في اللغة: القصد، يقال: حج كذا، بمعنى: قصد، وأما في الشرع: فهو التعبُّد لله تعالى بأداء المناسك على صفة مخصوصة في وقت مخصوص، والحج أحد أركان الإسلام، هذه منزلته من الدين، وهو فريضة بإجماع المسلمين، وفرضه معلوم بالضرورة من الإسلام، ولهذا من أنكر فرضيته وهو مسلم عائش بين المسلمين فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين، ولكن من نعمة الله عز وجل أنه لم يفرضه على العباد إلا مرة واحدة وذلك لمشقة التكرار إليه كل عام من جهة، ولضيق المكان لو اجتمع العالم الإسلامي كلهم من جهة أخرى؛ لأنه لا يمكن أن يتسع المكان لهم. متى فرض الحج؟ فرض سنة تسمع أو عشر من الهجرة، ومن زعم من العلماء أنه فرض في السنة السادسة واستدل بقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196]. فإن هذا ليس بصواب؛ لأن الله يقول في الآية: {وأتموا الحج}، والإتمام لا يكون إلا بعد الشروع، وهي نزلت في غزوة الحديبية حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة معتمرًا ومعه من أصحابه ألف وأربعمائة تقريبًا وصدّهم الكفار عن الدخول، فقال الله: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم} يعني: منعتم من الوصول إلى المسجد الحرام {فما استيسر من الهدي}. فهي نازلة في وجوب الإتمام لا في فرضية الابتداء، أما فرض الحج ففي قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] وهذه الآية في سورة آل عمران في عام الوفود في السنة التاسعة من الهجرة، ويؤيد ذلك من حيث المعنى: أن مكة قبل السنة الثامنة كانت تحت قبضة المشركين الذين كانوا يتحكمون فيها؛ ولهذا منعوا الرسول صلى الله عليه وسلم من الوصول إليها في السنة السادسة من الهجرة، ومن رحمة الله عز وجل وحكمته: إلا يفرض على عباده الوصول إلى شيء يشق عليهم الوصول إليه، أو لا يمكنهم الوصول إليه فكان من الحكمة والرحمة تأخير فرضه إلى السنة التاسعة أو العاشرة على خلاف بين العلماء. ثم أعلم أن الله عز وجل جعل أركان الإسلام على نوعين: فعل وترك، والفعل عمل، وبذل الطهارة

عمل، فيه بذل المال أم لا؟ لا، الزكاة بذل مال ما فيها عمل، غاية ما فيها أن تخرج الدراهم من جيبك وتعطيها للفقير، وقد يكون فيها عمل إذا كان الفقير بعيدا لكن هذا العمل غير مقصود، يعني: العمل الذي لا يمكن إيصال الزكاة إلى الفقير إلا به هذا ليس مقصودًا لذاته، ولكنه مقصودٌ لغيره من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ هناك تزك محبوب وهذا في الصيام. وإنما جعل الله أركان الإسلام تدور على هذا ليختبر العباد؛ لأن من العباد من يسهل عليه أن يقوم بالعمل البدني ولكنه يبخل بالبذل المالي، ومن الناس من يكون بالعكس، وفي الصيام كذلك من الناس من يقول: أن صيام يوم عندي أشد من عمل سنة؛ ولهذا استحسن بعض العلماء ما ليس بحسن، فقد روي أن أحد الخلفاء أو الولاة كان قد وجب عليه أن يعتق فاستفتى في ذلك فأفتاه بعض العلماء أن يصوم بدلًا من العتق، فقيل له: لماذا تأمره بالصوم وهو في المرتبة الثانية بعد العتق؟ فقال: لأن الصوم أشق عليه؛ فهو - المفتي - يرى أن هذا يسهل عليه أن يعتق مائة رقبة، فما رأيكم في هذه الفتوى؟ غير صحيحة؛ لأن الذي قال: {فمن لم يجد فصيام} هو الذي يعلم بحال عباده، وهو الذي شرع لهم، هذا استحسان في غير محله، لكنني أتيت به ليتبين أن من الناس من يهون عليه بذل المال وإتعاب البدن، ويشق عليه ترك المألوف من الأكل والشرب والنكاح، فلهذا جاءت الأركان على هذا النحو متنوعة كما يأتي: الأول: عمل بدني، والثاني: بذل مالي، والثالث: ترك. يقول بعض الناس: هناك قسمٌ رابع وهو الجمع بين بذل المال وتعب البدن وهو الحجّ، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الإنسان يمكن أن يحج ولا يتكلف نقودًا إذن ليس الحج عبادة مالية، نعم يجب فيه الهذي أحيانًا تكميلًا له، لكن أصل العمل ليس ماليًّا، لكن الذي فيه الجمع بين المال والعمل والتزك والبذل هو الجهاد في سبيل الله فجاهد بالمال وأنت على فراشك إذن هو عبادة مالية تجاهد بنفسك ولا تنفق قرشًا واحدًا تخرج إلى الجهاد بنفسك، صار الآن بدنيًا محضًا وماليًّا محضًا ويمكن أن تجمع يمكن أن تكون الجيهة فتحتاج إلى شراء راجلة فتجمع بين بذل المال وجهد البدن، وفيه ترك للمألوف وهو ترك أهله، وفيه تعريض بترك الدنيا كلها؛ لأن الإنسان يعرض رقبته لمن يريد أن يقطعها يعرضها لعدوه الذي هو حريص غاية الحرص على أن يبين رأسه من جسمه، لكن قد تقولون لي: إن الإنسان المجاهد ليس يذهب إلى الجهاد ويقف أمام العدو ويدلي برأسه إليه ويقول: تفضل لكنه مظنَّة. إذن ممكن أن نقول: الأعمال التكليفية: عمل بدن، بذل مال، ترك مألوف، جمع بين هذه الثلاثة، وهذه من حكمة الله عز وجل ليقوم الإنسان بجميع العبادات المطلوبة منه سواء هذه أو هذه أو هذه.

1 - باب فضله وبيان من فرض عليه

1 - باب فضله وبيان من فرض عليه الحج له فضل عظيم، وله فوائد عظيمة، منها - كما ذكر في - قوله تعالى: {ليشهدوا منفع لهم ويذكروا اسم الله في أيامٍ معلومتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعم} [الحج: 28]. ففيه - بالإضافة إلى كونه عبادة وذكرًا لله عز وجل - منافع للناس منها معرفة الناس بعضهم بعضا، وينبني على التعارف غالبًا التآلف - تأليف القلوب - ومحبة الناس بعضهم بعضًا، كذلك أيضًا التجارة، والتجارة لها شأن كبير، هل الحجَّاج يصدرون الأموال أم يوردونها؟ الاثنان يأتون بأشياء. ويذهبون بأشياء. فيه أيضًا: فائدة للفقراء فيما ينالهم من الصدقات وعطف الأغنياء عليهم وذبح الهذي، وغير ذلك، ولهذا جاءت الآية الكريمة: {ليشهدوا منفع لهم}. ومنافع من حيث التصريف اللغوي صيغة منتهى الجموع هي أجمع ما يكون من الجموع، ولهذا لو أنكم تدبرون هذه المنافع وتكتبونها لنا يكون هذا طيبا (). وفيه من المنافع أشياء مثل التذكير بيوم القيامة؛ حيث إنَّ الناس بلباس واحد، وهيئة واحدة، والتذكير بيوم القيامة في مرور الناس أفواجًا يذهبون كلٌّ إلى مقصده، وإذا وقفت على الطرق في يوم عرفة تتذكر المخشر المهم أن فيه فوائد كثيرة. وقول المؤلف: "وبيان من فرض عليه الحج"، فرضه لا يتم إلا بشروط خمسة: البلوغ، والعقل، والإسلام، والحرية، والاستطاعة، وقد نظمت هذه في بيتين، وهما قول الشاعر: [الرجز] الحج والعمرة واجبان ... في العمر مرّة بلا توان بشرط إسلام كذا حرية ... عقل بلوغ قدرة جلية هذه الشروط سيأتي تقسيمها بعضها للوجوب وبعضها للاستحباب وبعضها للصحة. 674 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة" () متَّفقٌ عليه. قوله: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما"، يعني: أن الإنسان إذا اعتمر ثم اعتمر ثانية فإن ما بين العمرتين يقع مكفِّرًا، "كفارة لما بينهما"، "ما" اسم موصول يفيد العموم، فظاهره يشمل الصغائر والكبائر، ولكن قد سبق لنا قريبا أن جمهور أهل العلم يرون أن مثل هذه الأحاديث المطلقة

شروط الحج المبرور

مقيدة باجتناب الكبائر قياسًا على الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، قالوا: فإذا كانت هذه الفرائض التي هي أصول الإسلام لا يكفر بها إلا الصغائر فما دونها من باب أولى. وقوله: "الحج المبرور ليس له جزاء ... إلخ"، الفرق بين العمرة والحج هنا ظاهر جدًّا؛ لأن أقصى ما تفيده العمرة أن تكفِّر السيئة التي بين العمرة والعمرة الأخرى، أما هذا فيحصل به المطلوب، يعني: العمرة نجاة من المرغوب عنه وهو السيئات وآثارها، أما هذا ففيه حصول المطلوب وهو الجنة. شروط الحج المبرور: والنبي صلى الله عليه وسلم اشترط في الحجِّ أن يكون مبرورًا؛ أي: حج برّ، وهو الذي جمع أوصافًا نذكرها الآن: أولًا: أن يكون خالصًا لله عز وجل بألّا يحمل الإنسان على الحج طلب مال أو جاء أو فرجة أو لقب أو ما أشبه ذلك، بل تكون نيته التقرب إلى الله عز وجل والوصول إلى دار كرامته، وهذا شرط في كل عبادة كما هو معروف. الشرط الثاني: أن يكون بمال حلال، فإن كان بمال حرام فإنه ليس بمرور، حتى إن بعض العلماء يقول: إذا حج بمال حرام فإنه لا حج له، لأنه كالذي يصلي في أرض مغصوبة، وأنشدوا على ذلك: [البسيط] إذا حججت بمالٍ أصله سحت ... فما حججت ولكن حجَّت العير () الشرط الثالث: أن يقوم الإنسان فيه بفعل ما يجب ليكون عبادة، فأما إذا لم يقم فيه بفعل ما يجب فليس بمبرور، كما يفعل بعض الناس اليوم يذهب ليحج فيوكل من يرمي عنه ويبيت في مكة ويذبح هديًا عن المبيت في مكة ويخرج من مزدلفة من منتصف الليل أو من صلاة المغرب والعشاء، يتتبع الرخص، ثم يقول: إنني حججت، والذي يظهر - والعلم عند الله - أن حال مثل هؤلاء أن يقول: لعبت لا حججت، أين الحج من رجل لا يبيت إلا في مكة، ويوكل من يرمي عنه الجمار، ويقول: أذبح هذيا لترك المبيت، ويتقدم من مزدلفة مبكرًا؟ ! ! إذا كان لا يمكنك أن تحج إلا على هذا الوجه فخيرٌ لك ألا تحج. المهم: من شرط كون الحج مبرورًا: أن يأتي فيه بما يجب، وليعلم أن الإنسان ليس بالخيار بين أن يقوم بالواجب أو يفدي عنه ليس بالخيار، ولكنه إذا ترك الواجب نقول له: اذبح فدية،

أما أن نقول: أنت بالخيار فمعناه أن الواحد يحج يقف بعرفة، ويطوف يسعى وانتهى، والباقي يقول: أذبح عن المبيت بالمزدلفة عن المبيت بمنى عن رمي الجمار وأمشي. الشرط الرابع لكون الحج مبرورًا: أن يتجنب فيه المحظور لقوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197]. ومن ذلك: إلا تحج المرأة إلا بمحرم، فإن حجت بغير محرم لم يكن حجها مبرورًا، بل قال بعض العلماء: لم يكن حجها مقبولًا؛ لأن هذا السفر سفر محرم، والمحرم لا يكون ظرفا لعبادة صحيحة، فهي كالزمن المغصوب بالنسبة لها. هل يشترط أن يكون الإنسان فيه أشعث أغبر؟ لا يشترط، ولكن هل يشترط ألا يزيل الإنسان عنه الشعث والغبر لأن بين هذين فرقًا؟ ليس بشرط؛ ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل وهو محرم ()، ومعلوم أنه لم يغتسل من جنابة، وهذا يدل على أنه ليس من شرط المبرور أن يكون الإنسان أشعث أغبر، وأن الإنسان لو تنظف فلا حرج عليه. هل يشترط للحج المبرور ألا يستعمل ما فيه الرَّفّه من مبردات وماء بارد وسيارة مريحة أو لا؟ الظاهر أنه لا يشترط، وأنه لا حرج على الإنسان أن يستعمل ما يريحه، وإن كان بعض الناس يقول: الأفضل إلا يتعرض لمثل هذه الرفاهية؛ لأنه قد يكون للشارع غرض بأن يكون الإنسان خشنًا، ولهذا يباهي الله بالواقفين بعرفة الملائكة يقول: "أتوني شعثًا غبرًا ضاجِّين"، إذن الشروط التي تتوفر لكون الحج مبرورًا أربعة. فوائد الحديث: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" في هذا الحديث: الترغيب في العمرة والحج. ومن فوائده: أن الحج أفضل من العمرة، وقد ثبت في حديث مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العمرة حجًا أصغر، كما جاء ذلك في حديث عمرو بن حزم المشهور (). ومن فوائد الحديث: الحثّ على إكثار العمرة، يؤخذ من قوله: "العمرة إلى العمرة ... إلخ"، ولكن هل معنى ذلك أن الإنسان يتردد إلى الحل وهو في مكة ليأتي بعمرة؟ لا؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم التَّركيَّة كسنته الفعلية، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك هو بنفسه مع تمكنه من هذا وتوفره له علم أنه ليس بمشروع، في غزوة الفتح متى دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا؟ في اليوم العشرين من رمضان وأنهى ما يتعلق بالفتح في خلال أربعة أيام، وبقي عليه ستة أيام وهو في مكة قبل

أن ينتهي شهر رمضان وبإمكانه بكل سهولة أن يخرج إلى التنعيم ويأتي بعمرة، فهل فعل؟ لا، ما فعل؛ إذن ليس من المشروع وأنا في مكة أن أخرج إلى التنعيم وآتي بعمرة حتى لو بقيت بعد قدومي إلى مكة شهرا أو شهرين فليس من المشروع أن أخرج إلى التنعيم، أو إلى غيره من الحلّ لآتي بعمرة، اعتمر الرسول صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة الطائف ونزل بالجعرانة ليقسم الغنائم، دخل مكة ليلا واعتمر وخرج من فوره ما بقي، ولهذا خفيت هذه العمرة على كثير من الناس فلم يعدوها في غمر النبي صلى الله عليه وسلم. على كل حال أقول: "إن العمرة للعمرة"، لا تدل على أنه ينبغي للإنسان وهو في مكة أن يكثر من التردد إلى الحلّ ليأتي بعمرة، لماذا؟ لأن السنة التركية كالسنة الفعلية، فما دام النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك دل على أنه ليس بمشروع. فإن قلت: أليس قد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة أن تخرج إلى التنعيم وتأتي بعمرة؟ نقول: من كان على مثل حالها استحببنا له أن يفعل، أو على الأقل أبحنا له أن يفعل، وإلا فلا، عائشة رضي الله عنها قصتها معلومة، قدمت مع النبي صلى الله عليه وسلم كسائر أمهات المؤمنين في حجة الوداع وأحرمت بعمرة، فلما وصلت "سرف" () حاضت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج لتكون قارنة، ففعلت وحجت مع الناس لم تطف ولم تسع أول ما قدمت؛ لأنها ما طهرت إلا يوم عرفة أو يوم العيد، إذن بقيت في يوم العيد فعلت ما فعل الناس، طافت وسعت، ولما انتهوا من الحج - وكان ذلك في ليلة الرابع عشر - طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن تأتي بعمرة وألحّت عليه وقالت: كيف يرجع الناس بعمرة وحج، وأرجع أنا بحج؟ ومرادها: أرجع بحج، تعني: بأفعال حج، وأما الأجر فقد كتب لها أجر عمرة وحجة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك" (). وهذا ثابت، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بها إلى التنعيم، قال: "أخرج بأختك من الحرم فلتهلَّ بعمرة"، خرج بها وأهلّت بالعمرة ودخلت وطافت وسعت ومشت. عبد الرحمن بن أبي بكر هل اعتمر؟ لا، فدل هذا على أنهم لا يرون أن هذا خير والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره أن يعتمر مع سهولة العمرة عليه، لأنه ذهب إلى الحلّ، فدل ذلك على أن الإتيان بالعمرة من مكة لمن اعتمر أو لمن حج أيضًا ليس بمشروع، أما ما يفعله العامة الآن من كونهم يترددون إلى الحل بحيث يصل الأمر إلى أن يأتي بعمرة في أول النهار وعمرة في آخر النهار فهذا ليس بصحيح، ولهذا يروى عن عطاء رحمه الله أنه قال: "أيؤجر هؤلاء أم يؤزرون"؟ يعني: أم

جهاد النساء: الحج والعمرة

يأثموا، وفيها من المفاسد - ولاسيما في أيام المواسم - ما هو ظاهر، فإنهم يضيقون على الحجاج ويتعبون أنفسهم ويأتون بالعجائب. وقد حدثتكم عن رجل رأيته يسعى وقد حلق نصف رأسه الأيمن فصار أبيض مثل هذه الورقة، والأيسر كله شعر! ! فقلت له: كيف هذا؟ قال: هذا عن عمرة أمس والباقي عن عمرة اليوم، فالمساكين يلعب بهم الشيطان! فهذا كله من الجهل، والواجب على الناس أن يعلم بعضهم بعضًا. إلى متى تكون العمرة إلى العمرة؟ الإمام أحمد رحمه الله ذكر ضابطًا جيدًا في ذلك فقال: إذا حمم رأسه فليعتمر ()، "خمم" يعني: صار أسود مثل الفحمة، يعني: إذا نبت الشعر وظهر سواده يعتمر، ولعله رحمه الله أخذه من أن المعتمر مأمور إما بالحلق أو التقصير، وهذا لا يأتي إلا بعد أن يسود الرأس من الشعر، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى أنه يكره الإكثار منها والموالاة بينها باتفاق السلف، هكذا قال ()، ولكن لعل شيخ الإسلام أراد الموالاة القريبة بحيث لا ينبت الشعر ولا يكون مهيئًا للحلق أو التقصير. جهاد النساء: الحج والعمرة: 675 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يا رسول الله، على النِّساء جهادٌ؟ قال: نعم، عليهنَّ جهادٌ لا قتال فيه: الحجُّ، والعمرة" (). رواه أحمد، وابن ماجه واللَّفظ له، وإسناده صحيحٌ، وأضله في الصَّحيح. قالت رضي الله عنها: "على النساء جهاد؟ " هذه الجملة لفظها لفظ الخبر، ولكن المراد بها الإنشاء، أي: أنها على تقدير الهمزة؛ فيكون التقدير: أعلى النساء جهاد، وحذف حرف الهمزة من الجملة المستفهم بها كثير في اللغة العربية، ومنه قوله تعالى: {أم اتخذوا ءالهة من الأرض هم ينشرون} [الأنبياء: 21]. يعني: أهذه الآلهة تقدر على نشر الأموات وإحيائهم، والجواب: لا. وقولها: "جهاد" مصدر جاهد يجاهد، والجهاد هو بذل الجهل، وهو الطاقة في قتال الأعداء، وإن شئنا عرفناه بمعنى أعم فقلنا: بذل الجهد لإعلاء كلمة الله ليشمل الجهاد بالقتال والجهاد بالعلم، فإن بيان الحق بالعلم جهاد بلا شك، وعلى هذا نقول: الجهاد في الشرع هو بذل الجهد لإعلاء كلمة الله، فيشمل القتال بالسلاح، ويشمل بيان العلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، سبق لنا أن قلنا: أن كلمة "نعم" حرف جواب، والجواب يكون بإعادة السؤال؛ ولهذا يقولون: السؤال معاد في الجواب، فإذا قال: نعم، فالتقدير: عليهن جهاد. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن هذا الجهاد ليس هو الجهاد الذي فيه القتال قال: "جهاد لا قتال فيه"؛ لأنه ليس هناك عدو تقاتله وتقابله، لكن الحج نوع من الجهاد؛ ولأن فيه المشقة والتعب على الرجال وعلى النساء، وفيه أيضًا شيء من بذل المال، لكن سبق لنا أن بذل المال ليس بركن في الحج. قال: "الحج والعمرة"، ومحلها من الإعراب أنها خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو الحج والعمرة. ففي هذا الحديث فوائد منها: حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على السؤال عن العلم؛ لأن عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل على النساء جهاد؟ ومنها: أن الجهاد من أفضل الأعمال، ولهذا سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم هل عليهن جهاد أم لا؟ ولا شك أن الجهاد من أفضل الأعمال، بل أن الله تعالى قال فيه: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حقًّا في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة: 111]. ومن فوائد الحديث: أن الحج والعمرة واجبان، لأن كلمة "على" ظاهرة في الوجوب، إذا قلت: "عليك كذا" المعنى: أنه لازم عليك وواجب عليك؛ هي ليست صريحة في الوجوب لكنها ظاهرة فيه، ولهذا ذكر أهل أصول الفقه أن كلمة "عليك" كذا ظاهرة في الوجوب؛ أي: أنها من صيغ الوجوب لكنها ليست صريحة. ومن فوائد الحديث: أن الجواب إذا كان يحتاج إلى زيادة قيد واجب على المجيب أن يذكر هذا القيد، لأنه قال: "عليهن جهاد لا قتال فيه"، لو قال: عليهن جهاد وسكت، لكان هناك إشكال. ومن فوائد الحديث أيضًا: فضيلة الحج والعمرة؛ حيث جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد. ومنها: الإشارة إلى ما سيلاقيه الحاج والمعتمر من التعب والعناء، وكان الناس فيما سبق يجدون من التعب والعناء في الوصول إلى البيت؛ لأنهم يذهبون على الإبل والمدة طويلة، وربما يمشون كثيرًا في المسير، وربما يكون خوف، ولكنهم لا يجدون صعوبة في أداء المناسك؛ لأن المشاعر في ذلك الوقت كانت خفيفة ليس فيها أحد إلا قليلًا، أما الآن فكان الأمر بالعكس الوصول إلى مكة سهل وآمن والحمد لله لكن أداء المناسك هو الصعب؛ لأن

حكم العمرة

الناس كثروا وكان فيهم العربي والعجمي، والعالم والجاهل، والأحمق والسفيه؛ لهذا نجد الحج مع الأسف الآن أن الإنسان لا يقوم عليه إلا وهو قد تقلد كفته كما يقول الناس من صعو بته وشلاته، ولا يخفي عليكم ما يحصل من الزحام الذي يؤدي إلى القتل والموت؛ ولهذا نقول: إنه نوع من الجهاد في سبيل الله. لو قال قائل: هل يدل الحديث على الاكتفاء بـ "نعم" في الجواب؟ لا، لماذا؟ لأنه أعاد السؤال قال: "عليهن جهاد لا قتال فيه"، ولكن لعل النبي صلى الله عليه وسلم أعاد الجواب من أجل القيد، وإلا لاكتفين بقوله: "نعم". حكم العمرة: 676 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ. فقال: يا رسول الله، أخبرني عن العمرة، أواجبةٌ هي؟ فقال: لا. وأن تعتمر خيرٌ لك" (). رواه أحمد، والترمذيُّ، والرَّاجح وقفه. - وأخرجه ابن عديٍّ من وجهٍ آخر ضعيفٍ (). "وقفه"، يعني: أنه من قول جابر، قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم لماذا تصبت وهي بعد الفعل؟ لأنها مفعول مقدم، "أعرابي" هو الفاعل، والأعرابي هو ساكن البادية، والغالب على الأعراب الجهل، كما قال الله تعالى: {الأعراب أشدُّ كفرًا ونفاقًا وأجدر ألَّا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} [التوبة: 99]. لكن الغالب عليهم - لبعدهم - الجهل وعدم العلم بحدود ما أنزل الله على رسوله. وقوله: "أخبرني عن العمرة أواجبة؟ "، هذا يعني: أن في هذا الأعرابي شيئًا من الغلظة في الكلام، كان الأرفق من هذا أن يقول: يا رسول الله، هل العمرة واجبة؟ كما قالت عائشة في الحديث الماضي: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ وقوله: "أواجبة هي؟ " الهمزة هنا للاستفهام، و"واجبة"، مبتدأ، وهي فاعل سد مسد الخبر،

ويجوز أن تكون "واجبة"، خبرًا مقدمًا، و"هي"، مبتدأ مؤخرا، يقول ابن مالك في هذه المسألة: والثَّان مبتدًا وذا الوصف خبر ... إن في سوى الإفراد طبقًا استقر () المهم: أن مثل هذا التركيب يجوز فيه الوجهان. قال: "لا" هذا حرف جواب، واستغنى بها عن إعادة السؤال؛ إذ لو أعاد السؤال لقال: ليست واجبة، ولكنه قال: "وأن تعتمر خير لك"، يعني: من عدم العمرة، وقوله: "أن تعتمر" هذه مبتدأ. بعد سبكها بالمصدر، وخيره خبر المبتدأ، يعني: اعتمارك خير لك، فهي نظير قوله تعالى: {وأن تصوموا خيرٌ لكم} [البقرة: 184]. * فنستفيد من هذا الحديث - أن صح مرفوعًا - عدة فوائد: أولًا: أن العمرة ليست واجبة وحينئذ يكون بينه وبين الحديث الأول تعارض؛ لأن الأول قال: "عليهن جهاد لا قتال فيه"، وهنا يقول: "ليست بواجبة"، فما الجمع بينهما؟ الجمع بينهما أن نقول: لا معارضة؛ لأن الحديث الأول أصح من الحديث الثاني؛ إذ إن الأول صحيح الإسناد مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني موقوف على جابر بن عبد الله، والموقوف لا يعارض المرفوع. ثانيًا: قد يقال: أن هذا الأعرابي - يعني: لو صح الحديث - علم النبي صلى الله عليه وسلم من حاله أنها لا تجب عليه لكن العمرة خير له إلا أن هذا يعكر عليه قوله: "أواجبة هي؟ " ولم يقل: عليِّ، ومن ثمَّ اختلف العلماء بناء على اختلاف الحديثين، فقال بعض العلماء: أن العمرة واجبة كالحجِّ، وقال آخرون: إنها لا تجب؛ لأن الله إنما أوجب الحج فقال: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا} [آل عمران: 97]. وأما قوله: {وأتموا الحج والعمرة} [البقرة: 196]. فقد سبق أنه ليس فيها دليل على الفرضية، وقال بعض العلماء: إنها تجب على غير المكي، وهذا منصوص الإمام أحمد، واختيار شيخ الإسلام () ابن تيمية رحمه الله، أي: أنها لا تجب على المكي، إنما تجب على من كان من غير أهل مكة، ولا يرد على هذا حديث ابن عباس: "هنّ لهنّ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة"، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة؛ لأننا نقول: أن أهل مكة لهم أن يعتمروا، لكن لا تجب عليهم العمرة. والراجح عندي: أن العمرة واجبة كالحج؛ لحديث عائشة، وحديث جابر لا يعارضه؛ لأنه قد روي موقوفًا وهو الراجح كما قال المؤلف؛ ولأن العمرة تسمَّى حجًّا أصغر؛ لحديث عمرو بن حزم المشهور، وفيه: "وأن العمرة الحج الأصغر"، فتكون داخلة في لفظ العموم: {حج البيت}،

وتكون هذه الكلمة - حج - مشتركة بين العمرة والحج بينتها السُّنة، قال: "وأخرجه ابن عدي من وجه آخر ضعيف". 677 - غن جابرٍ رضي الله عنه مرفوعًا: "الحجُّ والعمرة فريضتان" (). في هذا الحديث فوائد منها: جفاء الأعراب حتى في الطق واللفظ؛ لقوله: "أخبرني عن العمرة أواجبة؟ ". ومن فوائده: أن الحج قد استقر وجوبه عند الناس وعلموه ولهذا سأل عن العمرة دون غيرها، ومن فوائده أن العمرة ليست بواجبة لقوله "لا"، ومن فوائده أنها سنة لقوله: "أن تعتمر خير لك"، ولكن هل قيل: في الشيء إنه خير مقتضاه أنه لا يجب؟ لا، قد يقال: إنه خير فيما هو واجب وفيما هو ركن من أركان الدين، كما قال تعالى: {تؤمنون بالله ورسوله وتجهدون في سبيل الله بأمولكم وأنفسكم ذلكم خيرٌ لكم} [الصف: 11]. 678 - وعن أنس رضي الله عنه قال: "قيل: يا رسول الله، ما السَّبيل؟ قال: الزَّاد والرَّاحلة" (). رواه الدَّارقطنيُّ، وصحَّحه الحاكم، والراجح إرساله. 679 - وأخرجه الترمذيُّ من حديث ابن عمر رضي الله عنه أيضًا، وفي إسناده ضعفٌ (). قوله: "ما السبيل؟ "، يشير إلى قوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97]. وكان المتوقع أن يقول: السبيل الطريق، لكنه قال: "الزاد والرّاحلة"، ففسره بالمراد؛ لأن الزّاد والرّاحلة لا تطابق في المعنى كلمة السبيل، والذي يطابق في المعنى كلمة السبيل ما هو؟ الطريق، وعلى هذا ينبغي أن نعرف قاعدة في التفسير أن التفسير نوعان: تفسير بالمراد، وتفسير بالمعنى الذي يراد باللفظ لا بما يراد من المعنى، فهاهنا شيئان عندما نقول: السبيل في اللغة الطريق، والمراد: الزَّاد والرَّاحلة، ولكن فسرنا السبيل بالزّاد والرّاحلة من الأول، نقول: هلا تفسير بالمراد، وليس تفسيرًا بالمعنى المطابق للفظ الذي يشرح به اللفظ. على كل حال قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم السبيل في قوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلًا} بالزَّاد والرَّاحلة.

حكم حج الصبي

وهذا الحديث - يقول المؤلف -: الراجح إرساله، فهو ضعيف، وهو كذلك، فمن حيات المعنى ضعيف، كما هو من حيث السند ضعيف؛ وذلك لأن الحاج قد يستطيع الحج بلا زاد ولا راجلة، فإذا كان قريبا يكون مستأجرًا فيركب البعير، أي: البعير الذي أجره كما يفعل الناس في السابق يستأجرون معهم أناسا للطبخ والشد والتنزيل وما أشبه ذلك. على كل حال: المراد بالسبيل في قوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلا}: الطريق الذي يوصلك إلى مكة، سواء كان زادا أو راحلة أو مشيا على الأقدام، فهذا هو الصحيح، وقد مر علينا أن الله. تعالى اشترط الاستطاعة مع أنه مشروط في كل عبادة كما قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم" [التغابن: 16]. وأشرنا إلى السبب في ذلك، وهو أنه غالبًا تكون فيه مشقة؛ فلهذا اشترطت الاستطاعة بعينه، يعني: أكد فيه شرط الاستطاعة؛ لأن الغالب فيه المشقة، وسبق لنا أن من شروط الحج: البلوغ، والثاني: العقل، والثالث: الإسلام، والرابع: الحرية، والخامس: القدرة، وجمعت في بيتين سبق ذكرهما. من فوائد الحديث - إن صح -: تفسير الكلمات بالمثال، فإن قوله: {من استطاع إليه سبيلا} لا يعني: الزّاد والرّاحلة، بل الزاد والراحلة مثال من أمثلة الاستطاعة، وليست هي الاستطاعة في كل وقت، قد يجد الإنسان زادًا وراحلة، ولا يستطيع ذلك في بدنه، كالكبير والمريض مرضًا ميئوسًا منه ونحوه. حكم حج الصبي: 680 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لقي ركبًا بالرَّوحاء فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا من أنت؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعت إليه امرأةٌ صبيًّا. فقالت: ألهذا حجٌّ؟ قال: نعم ولك أجرٌ" (). رواه مسلم. "الرَّوحاء": اسم محل بين مكة والمدينة، والرّكب: اسم جمع راكب وأقله ثلاثة، قوله: "من القوم؟ " ليتبين أمرهم خوفًا أن يكونوا من العدو، فقالوا: "المسلمون"، يعني: نحن مسلمون، ولم يقولوا: نحن بنو فلان ... إلخ؛ لأن المقصود الاستفهام عن دينهم حتى لا يكونوا أعداء، فقالوا: من أنت؟ أي: الذي سألتنا عن أصلنا أو عن أنفسنا، فقال: "رسول الله" اللهم صلِّ وسلم عليه، فلما قال: "رسول الله"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المعلم لأمته رفعت إليه امرأة صبيًّا، "فقالت: ألهذا حج؟ " قال: "نعم ولك أجر"، قال: "نعم"، وما التقدير؟ له حج، "لك أجر"، لم يأت السؤال عنها، لكن كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب بأكثر مما سئل إذا دعت الحاجة إلى ذلك، فقوله

صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء البحر قال: "الطهور ماءه الحل ميتته" ()، مع أنه ما سئل عن الميتة، لكن لما كان راكب البحر قد يحتاج للحيتان ويجدها ميتة أخبره النبي أو زاده أمرًا لم يسأل عنه وهو حلّ ميتة البحر. * هذا الحديث يستفاد منه فوائد: أولًا: أنه ينبغي للإنسان أن يسأل عمن لقيه إذا كان يخاف أن يكونوا أعداء لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم من القوم؟ ثانيًا: أنه ينبغي للإنسان أن يكون يقظا يأخذ حذره لا يحسن الظن بكل أحد؛ لأنه ليس كل أحد على ما يظهر من حاله، فأنت احذر؛ ولهذا يقال: "احترسوا من الناس بسوء الظن" ()، وليس هذا على إطلاقه، بل إذا دلت القرينة على أنه محل سوء الظن فاحترس منه، أما إذا علمت سريرته وظاهره فلا ينبغي أن تسيء الظن بأحد. الثالث: فيه دليل على أن الإنسان يجيب بحسب ما يظنه من مراد السائل لا بحسب ما يتبادر من لفظه؛ لأن هؤلاء الذين سئلوا قالوا: "المسلمون"، وكان من المتوقع أن يقولوا مثلًا: نحن من تميم، نحن من خزاعة .... إلخ، هذا هو المتبادر؛ لأن القوم هم حاشية الناس وأقاربهم، ولكنهم قالوا: نحن المسلمون؛ لأنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يعرف أنسابهم وإنما أديانهم، ليطمئن إليهم. وفيه أيضًا دليل: على أنه لو سالك سائل عن نفسك فاسأله أنت لكن هل الأولى أن تجيبه أو أن تسأله قبل إجابته؟ ينظر في الموضوع، أن خفت أن هذا الرجل يسألك ثم يعلم من أنت ثم لا يعطيك الخبر عن نفسه فالأولى أن تسأله أولا أو تحاول أن تأتي بتورية، إذا قال: من أنت؟ أقول: من بني آدم، إذا قال: من أنت؟ أقول: أنا عبد الله، إذا قال: من أبوك؟ عبد الرحمن، إذا قال: ما قبيلتك؟ أقول: عبيد الله، لأنه أحيانًا بعض الناس يسألك ولا يمكنك أن يعلمك بنفسه، فيأخذ ما عندك ولا يعطى ما عنده. ومن فوائد الحديث: حرص الصحابة على السؤال، لأنهم لما علموا أنه النبي صلى الله عليه وسلم بادروا بالسؤال عما يجهلون من أحكام دينهم. وفيه دليل: على أن صوت المرأة ليس بعورة؛ لأنها رفعت صوتها والناس يسمعون من جملتهم ابن عباس، ومعلوم أن صوت المرأة ليس بعورة، ولكن إن خيف الفتنة في التخاطب

وجب الكف، أما خضوع المرأة بالقول ولينها بالقول فهذا محرم، لا لأنه قول ولكن لأنه خضوع؛ ولهذا قال الله تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرضً وقلن فولاً معروفًا} [الأحزاب: 32]، لم يقل: لا تتكلمن. وفيه أيضًا: أن الصغير لا يجب عليه الحج، لأنها قالت: "ألهذا حج؟ " ولم تقل: أعلى هذا؟ وبينهما فرق؛ لأن "ألهذا حج؟ " يعني: أنه يقبل منه ويصح أعليه؟ أفرض عليه حج؟ وفيه أيضًا دليل: على الاكتفاء بـ "نعم" في الجواب؛ لقوله: "نعم"، وهل يشابهها ما كان. بمعناها كما لو قال: إي؟ أو قال: أيوه - هذه حجازية -، على كل حال: ما كان بمعناها فهو مثلها؛ لأننا لا نتعبد بهذه الألفاظ هذه ألفاظ وضعت أدوات دالة على المعنى، فبأي وصف حصل المعنى حصل المقصود، لو أنه قيل لرجل: أطلقت امرأتك؟ قال: "نعم"، هل تطلق؟ نعم، أعتقت عبدك؟ قال: "نعم"، يعتق وقفت مالك أو يتك؟ قال: "نعم"، يكون وقفًا. ومن فوائد هذا الحديث: أن الصبي إذا أحرم بالحج لزمه ما يلزم البالغ من أحكام الحج، وجه الدلالة: أنه إذا أثبت له الحج ثبت للحج محظوراته وأحكامه، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أثبت الحج معناه: أن أحكام الحج تترتب على هذا الحج، ولكن هل يلزمه المضي فيه؟ في هذا للعلماء قولان: قول أبي حنيفة أنه لا يلزمه المعنى فيه؛ لماذا؟ قال: لأنه غير مكلف وليس من أهل الوجوب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة" (). وبناء على هذا فإذا أحرم الصبي الذي لم يبلغ ثم تعب من الإحرام وخلع إحرامه وانفسخ من حجه يجوز على هذا الرأي؛ لأنه ليس من أهل الوجوب. وقال أكثر أهل العلم: يلزمه إتمام الحج؛ لأن نفل الحج يجب إتمامه على البالغ، فهذا الصبي الحج في حقه نفل فيجب عليه إتمامه، لا شك أن هذا قياس له وجه من النظر، لكن قول أبي حنيفة أقوى من هذا القياس، لماذا؟ لأننا نقول: هذا الصبي ليس من أهل الوجوب حتى نلزمه، لكن الرجل الذي تلبس بالتطوع من الحج أو العمرة من أهل الوجوب وتلبسه بذلك كنذره إياهما، ولهذا قال الله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29]. وشبيه بهذه المسألة من بعض الوجوه: الصبى إذا قتل خطا هل تلزمه الكفارة أو لا تلزمه؟ المشهور من المذهب: أنها تلزمه، قالوا: لأن القتل - أو لأن وجوب الكفارة في القتل - لا يشترط فيه القصد؛ ولذلك لو وقع القتل من نائم بأن تنقلب المرأة على ابنها مثلًا لزمتها الكفارة، ولو

أراد الإنسان أن يرمي صيدًا فأصاب إنسانا لزمته الكفارة فالكفارة في القتل لا يشترط فيها القصد، وهذا الصبي أو المجنون إذا قتلا فإن عمدهما خطا تجب فيه الكفارة. وقال بعض أهل العلم: إنه لا كفارة على الصغير الذي لم يبلغ - في القتل -؛ لأنه ليس من أهل الوجوب أصلًا، وفرق بين من أصل الوجوب أصلًا وبين من كان من أهل الوجوب، لكن وقع فعله خطا، فنحن نقول: هذا الصبي لو دهس إنسانًا فإنه ليس عليه كفارة؛ لأنه ليس من أهل الوجوب أصلًا بخلاف الذي كان من أهل الوجوب فأخطأ فإنه ملزم بذلك، وخطؤه يسقط عنه القصاص والدم، وأما الصبي والمجنون فليسا من أهل الوجوب أصلًا. في هذا الحديث من الفوائد: جواز الزيادة في الجواب عن السؤال إذا اقتضته المصلحة؛ لقوله: "ولك أجر". وفيه أيضًا: دليل على فساد قول من يقول من العامة: أن ثواب حج الصبي لوالده، وقال بعض العامة: بل ثوابه لجدته من أمه، وقال بعض العامة: بل ثوابه لمن حج به هذه ثلاثة أقوال كلها لا تصح، والصحيح: أن أجر الحج له لكن لأمه التي تولت الحج به أجر؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لك أجر"، ولم يقل: لك أجره، وهناك فرق بين اللفظتين، إذن هذا الصبي ينال ثواب الحج والأم تنال أجر العمل والتوجيه. فإن قلت: هذا الصبي هل ينوي هو أو ينوى عنه ()؟ فالجواب: أن كان يعقل النية ينوي هو بنفسه، وإن كان لا يعقل ينوى عنه. هل يصح أن ينوي عنه من ليس بمحرم، أو لابد أن ينوي عنه من شاركه في الإحرام؟ نقول: يصح أن ينوي عنه من لم يحرم لإطلاق الحديث: "نعم ولك أجر"، هل يصح أن ينوي عنه من هو محرم؟ نعم يصح. وهل عند الطواف يحمل أو يمشي، وهل ينوي هو بنفسه أو ينوى عنه؟ نقول: يمشي ما لم يعجز، فإن عجز حمل، الدليل على أنه أن عجز حمل: قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة وقد استأذنته في الطواف وهي شاكية، قال: "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" ()، لكن لماذا تطوف من وراء الناس؟ لئلا توذي الناس ببعيرها، وبه نعرف أن هؤلاء السُّود الذين يحملون الطائفين بالسرير، ثم يأتون - والعياذ بالله - يركضون ركضا وسط الطائفين ويكسرون رءوسهم أنهم مخطئون في ذلك خطأ عظيمًا، فيقال: أنتم إذا حملتم أحلا فطوفوا به من وراء الناس كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم.

وهل هو الذي ينوي عنه وليها؟ نقول فيه ما سبق في الإحرام أن كان يعرف النية قيل له: أنو هذا، طواف هذا سعي أن كان لا يعقل نوى عنه وليه، وفي هذه الحال هل يشترط إلا يكون وليه حاملًا له، أو يصح أن ينوي عنه وهو حامل له؟ عرفنا قبل قليل أن كان يستطيع المشي وإلا حمل، فهل ينوي عنه وليه وهو حامل له أو لا؟ نقول: ينوي عنه وليه وهو حامل له، أن كان وليه لا يطوف فيطوف بنفسه، فإن كان يطوف لنفسه ونوى عن نفسه وعن وليه، فقال: بعض العلماء: إنه لا يصح الطواف، ويكون الطواف للمحمول دون الحامل، وقيل: بالعكس للحامل دون المحمول، وقيل لهما جميعًا، والصحيح: أنه إذا كان الصبي لا يعرف النية لا يصح أصلًا أن ينوي عنه وعن طفله؛ لأنه لا يمكن أن يقع فعل واحد بنيتين عن شخصين، لأن الطفل الآن هل منه عمل؟ لا، هو محمول وأنا الذي أدور به، فلا يمكن أن يصح أن يكون دوري هلا وهو عمل واحد عن اثنين بنيتين، أما إذا كان يحسن النية فلا بأس أن أقول: انو الطواف وأنا أحمله أنوي عن نفسي ويكون هذا الطواف صحيحًا؛ لأنه الآن نوى أن يطوف، فإذا نوى أن يطوف فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، غاية ما في أنه كان محمولًا من أجل العجز، وهذا الفصيل هو أقرب ما قال في هذه المسألة، أي: أنه ينظر أن كان الصبي يعقل النية قيل له: انو الطواف وحمله وليه وطاف به، ولو كان الولي ينوي الطواف عن نفسه، أما إذا كان لا يحسن النية فإنه لا ينوي وليه بنيتين في عمل واحد. قوله: "نعم ولك أجر" يدل على أنه يجوز للمرأة أن تحرم بصبيها، وهذا هو الصحيح، وقيل: إنه لا يصح أن يحرم إلا الأب أو وصيه، ولكن الصحيح: أن الأم يصح أن تنوي عن طفلها، فهل يقاس على ولاية العبادات ولاية المعاملات، وأن المرأة يصح أن تكون ولية على مال القصار من أطفالها؟ نقول: قيل بذلك، وقيل: لا، وأن الولي في المال هو الأب فقط، وعلى هذا فلو مات رجل عن أطفال صغار ولهم أم وخلَّف مالًا فمن يتولى مالهم؟ المشهور من المذهب أن الولاية هنا للحاكم يذهب إلى القاضي، وكل من ترى، والقول الثاني يقول: الولاية هنا للأم؛ لأن لدى الأم من الشفقة مثل ما لدى الأب أو أكثر، لكن للقائلين بأن ولاية المال لا تكون للأم يقولون: لأن الأم بالنسبة للمال تصرفها قاصر، فقد اختل فيها شرط القوة على العمل {إن خير من استئجرت القوي الأمين} [القصص: 26]. * * *

حكم الحج عن الغير

حكم الحج عن الغير: 681 - وعنه رضي الله عنه قال: "كان الفضل بن عباس رضي الله عنه رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجاءت امرأةٌ من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه وجعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشِّقِّ الآخر. فقالت: يا رسول الله، إنَّ فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الرَّاحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجَّة الوداع" (). متَّفقٌ عليه، واللفظ للبخاريِّ. "الفضل"، أكبر من عبد الله قوله رديف أي: فعيل بمعنى فاعل؛ أي: رادفه، أي: راكب معه على الناقة، قوله: "جاءت امرأة" هذه مبهمة، ولا يهمنا أن تكون مبهمة أو معينة؛ لأن المقصود هو القضية "فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه"، "جعل" هذه من أفعال الشروع ذكرها ابن مالك في باب أفعال المقاربة، وقوله: "ينظر إليها وتنظر إليه" هل إليها إلى جسمها أو إلى وجهها؟ يحتمل أن المراد: إلى وجهها، وأن المراد: إلى ذاتها يعني: جسمها وهيئتها؛ لأن المرأة ينظر إليها من الناحيتين، والأجسام تختلف في النساء: فيهن الطويلة والقصيرة والعريضة والمتوسطة والدقيقة .... وهكذا. وقوله: "وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشّق الآخر"، أي: إلى الجانب الآخر، كلما نظر صرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجانب الآخر، وقولها: "إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا" يعني: الآية أو النص الذي فيه الفريضة حصل بعد أن بلغ والدها الشيخوخة، وقولها: - "أفأحج عنه؟ "، يعني: حجة الفريضة، قال: "نعم" يعني: حجي عنه. هذا الحديث كما رأيتم في حجة الوداع، وحجة الوداع هي الحجة التي حجها النبي صلى الله عليه وسلم آخر عمره ولم يحج قبلها بعد هجرته، وهل حج قبل الهجرة؟ هناك حديث رواه الترمذي بسند فيه نظر أنه حج مرتين () "، والظاهر أنه حج عدة مرات؛ لأن المعروف في السير أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الموسم - موسم الحج - فيعرض نفسه على القبائل ويدعوهم إلى الله عز وجل، وسميت حجة الوداع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"، وهذا كالمودع للناس؛ ولهذا لم يبق بعدها النبي صلى الله عليه وسلم إلا مدة وجيزة حتى توفاه الله عز وجل. هذا الحديث يقول: أن الفضل كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حين دفع من مزدلفة إلى منى يوم العيد، والنبي صلى الله عليه وسلم أردف في دفعه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد، وأردف في دفعه من مزدلفة إلى منى الفضل بن العباس، وهؤلاء ليسوا من كبار القوم أسامة ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم

زيد بن حارثة، فلم يختر النبي صلى الله عليه وسلم أشراف القوم ووجهاءهم أن يكونوا هم الذين يردفونه على ناقته، بل اختار من صغار القوم في السن، واختار المولى يردفه من عرفة إلى مزدلفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعتد بالمظاهر ولا تهمه، بل كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه يكون في أخريات القوم يتفقدهم، يعني: ليس هو الأول، بل يكتفي أن يكون الأخير حتى يتفقد أصحابه وينظر من يحتاج إلى أمر. وقصة جابر في جمله () واضحة، فإن جابر بن عبد الله كان معه جمل ضعيف لا يمشي، يقول: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فضربه ودعا فسار الجمل سيرًا لم يسر مثله قط، حتى صار الجمل يكون في مقدمة القوم وجابر يرده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتبيعني إياه؟ "، كان في الأول يريد أن يتركه قال: نعم، قال: "بعنيه بأوقية"، كم الأوقية؟ أربعون درهمًا، قال: لا، فقال: "بعنيه" فباعه، فاشترط أن يحمله إلى أهله في المدينة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شرطه، فلما وصل إلى المدينة دفع النبي صلى الله عليه وسلم الثمن، وقال له: خذ جملك ودراهمك فهو لك. المهم: أن هذا الحديث يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم من عادته أن يكون في آخر القوم. وقوله: "فجاءت امرأة من خثعم"، أي: القبيلة المعروفة بهذا الاسم خثعم، تريد أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من عادة النساء - بل من المشروع في حقهن - في حال الإحرام أن يكشفن وجوههن وهي جاءت كاشفة وجهها؛ لأن هذا هو المشروع في إحرام المرأة إذا لم يكن عندها رجال أجانب، والنبي صلى الله عليه وسلم - ذكر ابن حجر أن من خصائصه أنه - يجوز له من النظر إلى المرأة والخلوة بها ما لا يجوز لغيره، وهي تقابل النبي صلى الله عليه وسلم الآن، ولكن الفضل رضي الله عنه - وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم - كان شابًا وسيمًا، يعنى: جميلًا، فجعل ينظر إليها وتنظر إليه، ونظر رجل شاب لامرأة وهي تبادله النظر يخشى من الفتة مهما كان الإنسان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سدّ هذا الباب، فجعل يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، ولم يأمر المرأة أن تغطي وجهها؛ لأن المشروع في - حق النساء - كما قلت - الكشف عن وجوههن في حال الإحرام. فقالت: "يا رسول الله"، تناديه بهذا الوصف الذي هو أفضل أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن أفضل أوصافه أن يكون عبدا رسولًا، قالت: "يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده ... إلخ"، قولها رضي الله عنها: "إن فريضة الله على عباده في الحج"، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، هذا يدل على أن الفريضة كانت متأخرة أدركت أباها وهو شيخ كبير لا يثبت على الرّاحلة، يعني: لا يستطيع أن يبقى على الراحلة؛ لأنه كبير والكبير عادة تلحقه المشقة بسرعة، هذا إذا تمكن من الركوب، وإلا فقد لا يتمكن أصلًا.

تقول: "أفأحج عنه؟ " يعني: حج الفريضة، قال: "نعم" يعني: حجي عنه، وذلك في حجة الوداع، ذكر هذا ليفيد أن هذا الحكم متأخر؛ لئلا يقول قائل: لعله في أول الإسلام فنسخ، أو ما أشبه ذلك. من فوائد الحديث - وهي مهمة -: جواز الإرداف على الدابة، ولو كان الإرداف حرامًا ما أردفه، ولكن يشترط لذلك أن تكون الدابة قوية وقادرة على تحمل الرديف، فإن كانت هزيلة ضعيفة ويشق عليها الإرداف فلا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" (). ومن فوائد الحديث: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أردف الفضل بن العباس دون أشراف القوم، وأردف - كما ذكرت قبل قليل - في دفعه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد. ومن فوائد الحديث: أن الصحابة - رضي الله عنهم - من أحرص الناس على طلب العلم، ذكورهم وإناثهم؛ لقوله: "فجاءت امرأة من خثعم فسألت النبي صلى الله عليه وسلم". ومنها: أن طلب العلم لا يختص بالرجال، فكما أن الرجل يشرع له طلب العلم بل يتعين عليه إذا كانت عبادته لا تقوم إلا به فإنه يتعين عليه وكذلك المرأة ولا فرق. ومن فوائد الحديث: عدم جواز نظر الرجل إلى المرأة كما استدل به النووي وغيره من أهل العلم، والدليل صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل إلى الشق الآخر، وهل هذا عام، يعني: لا يجوز له أن ينظر إلى المرأة لا لشهوة ولا لغير شهوة، هذا الحديث هل يدل على العموم؟ قد يقول قائل: أن هنا شيئين تعارضا: ظاهر، وأصل، الظاهر هو أن الفضل كان ينظر إليها وتنظر إليه، وهذا يدل على شيء في النفس ورغبة، وإلا لما جعل ينظر إليها والرسول يصرف وجهه هذا ظاهر، وهنا أصل يضعف هذا الظاهر وهو زكاء الصحابة - رضي الله عنهم - ولاسيما في مثل هذه الحال وهو محرم، فإنه يبعد جدًّا أن ينظر إليها نظر شهوة، فأيهما نقدم: أنقدم الظاهر أم نقدم الأصل؟ الأصل، إذا قلنا بذلك لزم منه أن الرجل إذا رأى امرأة كاشفة الوجه وجب عليه أن يعرض وهو كذلك، ولكن هل ينكر عليها أو لا ينكر؟ إذا كانت في السوق يجب عليه الإنكار، وكذلك أيضًا إذا كانت في مكان يطلع عليها هذا الرجل، كما لو كانت في البيت عند زوجها، وأخي زوجها فإنه يجب الإنكار عليها إذا كانت كاشفة الوجه في هله الأحوال. هل يستفاد من هذا الحديث: جواز كشف المرأة وجهها عند الرجال الأجانب؟ ممكن أن نقول: لا دليل على ذلك في الحديث، لأن فيه احتمالًا كبيرًا أنه لم يحضرها إلا النبي صلى الله عليه وسلم والفضل

بن عباس، قد يكون مثلًا هي تمشي وليس حولها أحد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم والفضل بن العباس، لكن العباس لا يلزم أن يرى وجهها، لأنه قد يكون خلفها الكلام على الفضل، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال. لكن قد يقول قائل: هذا الاحتمال قائم على أنه ليس حولها إلا النبي صلى الله عليه وسلم والفضل لكنه بعيد؛ لأن الغالب أن الصحابة يلتفون حول النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: يكاد الإنسان يجزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يمشي وحده في هذا المكان، فما الجواب على هذا؟ فيه احتمال أنه لم ير وجهها، وأنه ينظر إلى جسمها كما قلنا في الشرح، المهم أن الحديث فيه احتمالات، فيه احتمال أنها كاشفة الوجه وأن الرسول أقرها، وكونها محرمة لا يبرر لها أن تكشف وجهها أمام الأجانب؛ لأن حديث عائشة يدل على أن المحرمة يجب عليها أن تستر وجهها إذا مر عليها الأجانب، فالحديث فيه احتمال، ولكن القاعدة المعروفة عند أهل العلم أنه إذا كان النص مشتبهًا محتملًا للوجهين وكان تمَّت نصوص أخرى واضحة فإن الواجب حمل المشتبه على الواضح، وقد صرح الله عز وجل بأن في القرآن آيات متشابهات، وبين أن المحكمات التي لا يشتبه فيهن هن أم الكتاب والأم مرجع الشيء كما نقول "أم القرآن"؛ لأنها مرجع القرآن، وكما قيل: على رأسه أمٌّ لنا نقتدي بها () يعني: نرجع إليها، فتكون النصوص المحكمة التي لا اشتباه فيها هي الأم، ويجب رد المشتبه الي المحكم حتي يكون الشيء محكمًا. فإن قلت: ما هي الحكمة من أن تأتي النصوص بمثل هذا الاشتباه؟ وهل هذا إلا من باب الإشقاق على العباد والإعنات عليهم؟ فالجواب على هذا أن نقول: بل هذا من حكمة الله عز وجل وامتحانه العباد، لأن الذين في قلوبهم زيغ ويريدون أن يضربوا شرع الله بعضه ببعض يتبعون المتشابه، والمؤمنون الراسخون في العلم لا يفعلون هذا، يقولون: آمنا به، فهذا من باب الاختبار والامتحان، وكما يكون هذا في الآيات الشرعية يكون أيضًا في الآيات الكونية بأن تأتي أمور من الآيات الكونية يخفي على المرء الحكمة فيها فيقول لماذا كان كذا؟ ليبتلي الله العباد هل يسلِّمون لقضائه وقدره أو يعترضون قد يوجد رجل طيب ذو أصل وشرف ومروعة يبتلى بآفات بدنية أو بفقر، ويوجد رجل على عكس من ذلك قد أعطاه الله الصحة في جسمه والغنى في ماله، ربما يقول قائل

- قاصر النظر -: لماذا هذا يعطى هذا المال وهذه القوة وهو رجل ليس له شرف وجاه ومروءة، والثاني بالعكس، المهم أن موقفه من هذا الرضا والتسليم، ويقول: لا يسئل عما يفعل وهم يسألون، ربما يحصل للإنسان شلل ويبقى متعبًا لأهله وهو متعب، فيقول قائل: لماذا يصيبه الله بهذا البلاء أفلا يميته الله عز وجل ويريحه ويريح الناس منه؟ هذا أيضًا من الاختبار، قد تخفي الحكمة علينا حتى في الأمور الكونية اختبارًا من الله عز وجل وابتلاء، وموقف المؤمن من هذا أن يرضى ويسلم ويعلم أن الله له الحكمة فيما فعل، ويقرأ قول الله تعالى: {لا يسئل عمَّا يفعل وهم يسئلون} [الأنبياء: 23]. إذن فهمنا أن هذا الحديث - وإن كان فيه احتمال أنه يجوز للمرأة أن تكشف وجهها أمام الرجال الأجانب - فيه احتمال أنَّ ذلك لم يكن، وإذا لم يكن لم يثبت المدلول، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال، ثم على فرض أن الحديث هذا نص في الجواز، فإن غاية ما فيه أن يقال: إنه بالنسبة للمحرمة مشروع ومأمورة به، لكن في غير المحرمة من يقول: إنه جائز، ثم على فرض أن نقول: إنه لو كان حرامًا كشف الوجه لوجب على المحرمة تغطيته لئلا تنتهك المحرَّم وهي في حال الإحرام، والله يقول: {فمن فرض فيهنَّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197]. فنقول: غاية ما فيه أن يدل على الجواز، والقاعدة الشرعية أن الجائز إذا أفضى إلى الشر والفتنة يجب منعه، ولا يخفي على أحد الآن أن كشف النساء وجوههن فتنة ومدعاة للشر والفساد، وأن النساء إذا رخِّص لهن في كشف الوجه لم يقتصرن على ذلك، اذهب إلى البلاد التي يرخص للنساء فيها كشف الوجه انظر ماذا كشفن: الوجه والرأس والعنق والسيقان، المهم ما اقتصرن على ما رخص لهن فيه؛ ولهذا قال بعض العلماء: يجب عليهن الآن تغطية وجوههنَّ بالاتفاق، وذلك لكثرة الفتن. من فوائد الحديث: مشروعية تغيير المنكر باليد؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الفضل فجعل يصرف وجهه. ومنها: جواز التغيير قبل الأمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل يصرف وجهه دون أن يقول له: التفت أو اصرف وجهك، وعلى هذا فينظر الإنسان هل الأصلح أن يأمر أولا، ثم يغيِّر أو أن يغيِّر. أولًا قبل أن يأمر، فيرجع ذلك إلى ما فيه مصلحة. ومن فوائد الحديث: جواز سؤال المرأة الرجل، وأن صوت المرأة ليس بعورة، وقد ذكرنا هذا. ومن فوائد الحديث: أنه لا يشترط في وجوب الحج القدرة البدنية، وأنه يجب على من عنده مال وإن كان غير قادر في بدنه؛ لقول المرأة: "إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت

أبي شيخا"، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على قولها: "إن فريضة الله على عباده في الحج"، ولو لم يجب الحج لقال: لا حج على أبيك، والقدرة بالنسبة للحج ثلاثة أقسام: قدرة بالمال دون البدن، وقدرة بالبدن دون المال، وقدرة بهما جميعًا، القدرة بهما جميعًا توجب على الإنسان أن يحج بنفسه، والقدرة على الحج بالبدن دون المال تسقط، ولكن قد يقول قائل: كيف تقول القدرة بالبدن تسقط؟ كيف إذا كان قادرًا بالبدن يمشي على رجليها؟ نقول: نعم إذا أمكنه ذلك وجب عليه أن يحج، لكن إذا كان لا يستطيع - هو قادر ببدنه لكن ما عنده راحلة، أما بدنه فيستطيع أن يركب وأن يؤدي الشعائر - نقول: فهذا لا يجب عليه الحج. والثالث: القادر بالمال دون البدن فهذا يقسمه العلماء - رحمهم الله - إلى قسمين: قسم برجي زوال عجزه، وقسم آخر لا يرجي زوال عجزه، قالوا: فلان كان يرجى زوال عجزه، مثل أن يمر زمن الحج وهو مريض مرضًا عاديًّا ويرجى أن يشفي منه ويحج في العام القادم فهذا لا يجب أن يقيم من يحج عنه، بل ولا يصح؛ لأن عجزه مؤقت. والقسم الثاني: عجز لا يرجى زواله كالعاجز عن الحج لكبر أو مرض لا يرجى برؤه وعنده مال، فهذا يجب عليه أن يقيم من يحج عنه. فإن قال قائل: من أين أخذتم وجوب الاستنابة؟ فالجواب: من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم المرأة على قولها: "إن فريضة الله على عباده أدركت أبي"، فإذا كان فرضًا عليه ووجد من يقوم مقامه فإنه يلزمه أن يقيم من يقوم مقامه. فإن قلت: إن هذا الحديث يدل على الجواز؛ لأن المرأة لم تسأل عن الوجوب، وإنما سألت عن الجواز؟ فالجواب: إذا كان جائزًا كان واجبًا؛ لأنه إذا كان جائزًا فمقتضى ذلك أن يصحَّ حج غيره عنه، فإذا قلنا: إنه واجب عليه فإنه يجب أن يقيم من يحج عنه. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجب أن يربط الإنسان على الرّاحلة؛ لقولها: "يسقط" إذ لو وجب لقال: اربطوه عليها، هل مثل ذلك من لا يستطيع الركوب على السيارة لكونه يتقيا ويدوخ؟ نعم مثله، لأن بعض الناس - وقد شاهدته أنا بعيني - إذا ركب على السيارة بدأ يتقيا ويدوخ ولا يشعر بالراحة إلا إذا نزل. لا شك أن هذا مشقة شديدة، بل أشد من تربيط الشيخ الكبير. ومن فوائد الحديث: جواز حج المرأة عن الرجل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهذه المرأة أن تحج عن أبيها. ومن فوائده: جواز حج الرجل عن المرأة من باب أولى، وجواز حج المرأة عن المرأة والرجل عن الرجل

ومن فوائده: أن "نعم" التي هي حرف جواب تقوم مقام الجواب، لقو له: "نعم" يعني: حجي عنه. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي تأريخ ذكر الخطبة أو القضية؛ لقوله: "وذلك في حجة الوداع"؛ لأن فائدتها - لاسيما في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم - هو بيان النسخ أو عدم النسخ. ومن فوائد الحديث: جواز تسمية الشيء بسببه لقوله: "ذلك في حجة الوداع"، يعني: سبب ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للسائل أن يذكر جميع الأوصاف التي يختلف بها الحكم حتى لا يحتاج المسئول إلى استفصال. وهل من فوائده جواز الحج عن الغير بدون إذنه؟ نعم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: هل استأذنته؟ أو هل أذن لك؟ وهل يؤخذ منه جواز حج الإنسان عن غيره وإن لم يحج عن نفسه؟ لا؛ لأن المرأة سيظهر أنها حاجة وهي لا تسأل عن حجها الآن وإنما عن حج مقبل؛ إذن لا حاجة أن يقول لها: أحججت عن نفسك؟ لأنه يغلب على ظنه أن هذا الحج لها، وحينئذٍ لا يكون فيه دليل على أنه لا يجوز حج الإنسان عن غيره حتى يحج عن نفسه، أما الأول فالظاهر أنه واضح أن الإنسان يحج عن غيره وإن لم يستأذنه. 682 - وعنه رضي الله عنه: "أن امرأة من جهينة جاءت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنَّ أمِّي نذرت أن تحجَّ، ولم تحجَّ حتَّى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: نعم، حجِّي عنها، أرأيت لو كان على أمِّك دينٌ، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحقُّ بالوفاء" (). رواه البخاريُّ. هذا الحديث أيضًا عن عبد الله بن عباس، قوله: "من جهينة"، هي قبيلة مشهورة، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أين جاءته: هل في الحج أو في المدينة. قولها: "إن أمي نذرت"، وسبق تعريف النّذر لغة أنه الإلزام، وفي الشرع إلزام المكلف نفسه طاعة لله عز وجل. وقولها: "فلم تحج حتى ماتت"، يحتمل أن المعنى: فماتت قبل أن يدركها الحج، ويحتمل: أنها لم تحج؛ يعني: أدركها الحج ولكنها لم تحج حتى ماتت، وسيأتي بيان الفرق بين الأمرين. وقوله: "حجي عنها"، هذا أمر، لكنه أمر بعد السؤال عن الإباحة، والأمر بعد السؤال عن الإباحة للجواز؛ لأن الأمر بعد السؤال عن الإباحة، أما إذا جاء بعد الاستئذان فهو يكون للجواز، لو استأذن عليك رجل في البيت فقلت: ادخل؛ فليس هذا أمرًا بل هو إذن وإباحة، ولو سألك سائل يقول: هل أفعل كذا وهو جائز، فقلت: أنت افعل فهو للإباحة.

قال "أرأيت؟ " يعني: أخبريني، "لو كان على أمك دين أكنت قاضيته"، فستقول: نعم، فهذا استفهام للتقرير يعني: يقرر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المرأة بأمر تقرّ به ولا تنكره، وهو أنه لو كان على أمها دين لقضته، وقوله: "أرأيت" يمر علينا كثيرًا مثل هذا التعبير، ونقول: إنه بمعنى أخبريني، لكن كيف يتفق مع تصريفه؟ يقول: إذا قال: أرأيت؟ يستفهم هل رأى ثم يطلب منه أن يخبره بما رأى في قوله: "أكنت قاضيته؟ "، مثلًا في هذا الحديث: {أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصركم وختم على قلوبكم من إله ... } [الأنعام: 46]. يعني: أخبروني بعد أن تروا هذا الشيء من إله غير الله يأتيكم به؛ فلهذا يقول العلماء: إن "أرأيت؟ " بمعنى: أخبرني، الواقع أنه ليس معناها بالتحديد؛ لأن الرؤية لا تأتي بمعنى الإخبار؛ لأنه إذا جاء الاستفهام بعد أرأيت؟ فهو طلب الإخبار، يعني: هل رأيت هذا أن كنت قد رأيت فأخبرني عنه، فيفسرونها - رحمهم الله - بما يلزم أو بما يطلب من هذه الرؤية. وقوله: "اقضوا الله"، هذا أمر، "فالله أحق بالوفاء"، يعني: إذا كان الأدمي يوفَّى حقه فالله أحق بالوفاء. من فوائد الحديث: قوله: "امرأة من جهينة"، هذه مجهولة ولكن جهالتها لا تضر؛ لأن ذلك لا يؤثر في الحكم شيئًا؛ لأن المرأة إذا جاءت تستفتي سواء كانت صغيرة أو كبيرة أو قصيرة أو طويلة كل هذه الأوصاف لا تهم. ومن فوائد الحديث: أن صوت المرأة ليس بعورة، لأنها جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يسمعون. ومن فوائد الحديث: جواز النّذر، لكن قد يقول قائل: الرسول صلى الله عليه وسلم ما أقر الناذرة، فلو أنها قالت: إني نذرت لكنَّا نقول: أن في الحديث دليل على جواز النّذر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها لكن هي تخبر عن فعل غيرها وأيضًا هذا الغير قد مات فكيف ينهى؟ فالجواب عن ذلك: أن ترتيب الحكم على هذا قد يشعر بالجواز؛ لأن هذه السائلة سوف تفهم إذا لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم، لماذا نذرت، أي: سوف تفهم أن النذر جائز، ولكنا نقول: هذا الحديث وإن دل على جواز النذر والدلالة كما ترون ليست واضحة فإن هناك أدلة صريحة للنهي عن النَّذر، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر، وقال: "إنه لا يأتي بخير" ()، ومعلوم من القواعد التي تمر بنا كثيرًا أن ما كان محكمًا لاشتباه فيه فهو قاضٍ على المشتبه، فنقول: هنا أن النذر مكروه، ونأخذه من دليل آخر غير هذا الحديث.

ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا نذر الحج لزمه، وجه الدلالة: تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له بالذين والذين يجب على المرء قضاؤه. ومن فوائد الحديث - وهو محل تأمل بيننا -: أن من نذر الحج ومات قبل زمنه لزم قضاؤه عنه، فهل نقول: أن الإنسان إذا نذر الحج ومات قبل إدراك زمنه يسقط عنه لأنه ما فرط، أو نقول: لما ألزم نفسه بذلك لزمه؟ الحديث في الواقع يحتمل هذا وهذا، ولكن الذي تقتضيه الأدلة الأخرى أنه إذا نذر ومات قبل إدراك زمنه فلا شيء عليه؛ وذلك لأنه وإن لم يشترطه بلفظه فقد اشترطه بحاله، فإن الرجل مثلًا إذا قال في رجب: لله على نذر أن أحج، معلوم أنه يكون هذا الحج في ذي الحجة، ولا يمكن أن يكون المراد: أنه يحج في رجب، وكأنه قال: إذا جاء شهر ذي الحجة فلله عليَّ نذر أن أحج، فيكون هذا المعلوم كالمشروع. وعليه فنقول: أن الإنسان إذا نذر زمنًا معينًا ومات قبل إدراكه فإنه لا شيء عليه سواء كان معينًا بالزمن مثل أن يقول: "لله على نذر أن أصوم الشهر الفلاني" فيموت قبل إدراكه، أو يقول: "أن أحج" فيموت قبل زمن الحج، فهلا لا يجب عليه. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجب قضاء النذر على الفور؛ لأن هذا السؤال "نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت" فيه احتمال أنه قد مر عليها زمن الحج فلم تحج، وفيه احتمال أنه لم يمر، فعلى الاحتمال الأول قد يكون فيه دليل على أن النذر لا يجب على الفور، وعلى الاحتمال الثاني فليس فيه دليل، ولكن تقول: أن حكم هذه المسألة أن النذر يجب قضاؤه على الفور لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" ()، الفاء رابطة للجواب، والجواب مرتبط بالشرط، والأصل في الواجبات كلها أن تفعل على الفور، فالصحيح: أن النذر يجب قضاؤه على الفور ما لم يقيد، فإن قيد فعلى ما قيد به. ومن فوائد الحديث: حرص الصحابة على السؤال؛ لأن هذه المرأة جاءت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز أن يعاد السؤال مع الحرف المفيد للجواب؛ لقوله: "نعم حجي عنها". ومن فوائد الحديث: إثبات القياس؛ حيث قاس النبي صلى الله عليه وسلم نذرها على الدَّين الذي يقصي. ومنها: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لضرب المثل بحيث يبين المعقول بالمحسوس. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يسلك هذا المسلك في تعليم الناس؛ لأن من الناس من لا يستطيع أن يفهم المعنى إلا بضرب المثل.

ومنها: أن لله تعالى على خلقه واجبا لقوله: "اقضوا الله"، ولا شك أن لله على خلقه واجبًا، حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. ومن فوائد الحديث: أنه إذا تزاحم حق الله وحق الآدمي قدم حق الله لقوله: "فالله أحق بالوفاء"، و"أحق" اسم تفضيل، ولكن قد ينازع في هذا الحكم والاستدلال له، أما في الحكم فينازع بأن يقال: كيف نقدم حق الله على حق الآدمي، والمعروف أن حق الآدمي مبني على المشاحة () وعدم السماح والعفو، وحق الله - سبحانه وتعالى - مبني على العفو والمسامحة، فكيف نقول: أن حق الله أولى أن يقضى، وأما المنازعة في الاستدلال فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك من باب قياس الأولى؛ بمعنى: أنه إذا جاز هذا فهذا أولى، يعنى: إذا جاز وفاء ذين المخلوق فوفاء دين الله من باب أولى، وهذا لا يقتضي أنهما إذا اجتمعا قدم حق الله، فإن قلت: كيف يمكن اجتماعهما؟ فالجواب: يمكن، هذا رجل توفي وخلف ألف درهم وكان عليه لزيد ألف دينًا وعليه لله ألفٌ زكاة فكم عليه؟ ألفان والرجل خلف ألفًا، إن قضينا دين الآدمي أهملنا الزكاة، وإن قضينا الزكاة أهملنا دين الآدمي، فماذا نصنع؟ نقول: يتحاصان بالسوية، وكيفية المحاصة أن نقول: انسب الموجود إلى المطلوب، كم الموجود؟ ألف، والمطلوب ألفان، نسبة الألف للألفين النصف، فنعطي الزكاة خمسمائة، ودين الآدمي خمسمائة، فإن أسقط الآدمي حقه. يكون للزكاة، أما إذا أخذه ثم أعطاه الورثة فهو للورثة، أو إذا قال: تنازلت عنه للورثة فإنه يكون للورثة، أما إذا قال: تنازلت عنه، فمعناه: أنه أبرأ الميت منه ويكون للزكاة هذا هو الظاهر؛ لأن الاشتراك هنا اشتراك تزاحم، يعني: اشتراك الزكاة وصاحب الحق في الألف اشتراك تزاحم؛ فإذا زال الزحام بقي الثاني منفردًا، وإلا قد يقول قائل: أن المال إذا انتقل للورثة صار لهم الألف ثم توفَّى الزكاة خمسمائة؛ لأنه نصيبها، وإذا أسقط الطالب حقه رجع للورثة، لكن نقول: ليس هذا من باب اشتراك التزاحم فإذا زال الزحام ثبت للواحد 683 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما صبي حج، ثمَّ بلغ الحنث، فعليه أن يحجُّ حجَّةً أخرى، وأيُّما عبدٍ حجَّ ثمَّ أعتق، فعليه أن يحجَّ حجَّةً أخرى" (). هذا الحديث إن جعل مرفوعًا صار حجة؛ لأنه منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن جعل موقوفًا

فليس بحجة، لأن هذا مما للرأي فيه مجال ولا يثبت له حكم الرفع فيبقى رأيًا لابن عباس رضي الله عنهما، ورأي الصحابي اختلف العلماء فيه هل هو حجة أم لا، والصحيح أنه حجة لا سيما الصحابة المعروفون بالعلم والفقه، لكنه يكون حجة بشرطين: إلا يخالف النص، وألا يعارضه قول صحابي آخر، فإن خالف النص فالمتبع النص، وإن عارضه قول صحابي آخر ينظر في الراجح؛ وذلك لأن الصحابة - رضى الله عنهم - أقرب إلى الفهم والفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهم عاصروا نزول النصوص وعرفوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومراده، ونحن نشاهد الآن أن أعلم الناس بقول العالم هم تلامذته، إذن فأعلم الناس بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة - رضي الله عنهم -. لننظر الآن فوائد هذا الحديث منها: صحة حج الصبي لقوله: "فعليه حجة أخرى"، فبين بقوله: "حجة أخرى" أن الأولى صحيحة؛ لأن "أخرى"، مؤنث آخر، وعليه فيفيد صحة حجة الصبى، وقد أفاده حديث ابن عباس السابق الذي فيه: أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيًّا قالت: "ألهذا حج؟ " قال: "نعم" ... إلخ. ومن فوائد الحديث: أن هذا الصبي لو بلغ في أثناء الحج فإن الحكم يختلف كيف إذا بلغ في أثناء الحج، فإن بلغ قبل فوات الوقوف ووقف بعرفة أجزأه الحج عن فريضة الإسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، والنية تنقلب، إذا بلغ قبل فوات الوقوف بأن بلغ يوم عرفة وهو في عرفة أو بلغ ليلة العيد ثم رجع فوقف بعرفة، فإن حجه يجزئه عن فريضة الإسلام، إلا أن الفقهاء - رحمهم الله - استثنوا من ذلك مسألة وهى ما إذا كان مفردًا أو قارنًا وسعى بعد طواف القدوم، فإنه حينئذ لا تجزئه عن حجة الإسلام؛ لأن السعي ركن وقد تم قبل أن يكون هذا من أهل الوجوب فوقع نفلًا، وقيل: بل يجزئه وإن كان قد سعى بعد طواف القدوم لكنه يعيد السعي، وأظن أن هناك قولًا ثالثًا يقول: إنه يجزئه ولو سعى بعد طواف القدوم ويكون السعي تابعًا للوقوف لكن المذهب هو الأول، أي: أنه إذا سعى بعد طواف القدوم فإنه لا ينقلب فرضًا. والذي قبل البلوغ هل نقول: إنه نفل انقلب فرضًا، أو إنه بقى نفلًا وما بعد البلوغ صار فرضًا؟ فيها قولان للعلماء: الأول أن ما قبله ينقلب فرضًا وليس هذا بغريب، فإن الحج له عدّة مخالفات في النية فنجد الرجل مثلًا يأتي إلى مكة قارنًا فيطوف طواف القدوم على أنه نفل عمرة ليصير متمتعا فنجد الآن أن الطواف الذي كان نفلًا انقلب ركنًا؛ لأنه أصبح طواف عمرة، ونجد أن هذا السعي الذي كان للحج والعمرة صار الآن للعمرة، بل لو قدرنا أن هذا الرجل قدم مكة مفردًا وطاف فالطواف نفل؛ لأنه طواف قدوم وسعي للحج، فالسعي ركن ويكون للحج فقط، ثم نقول له: اجعل ذلك عمرة لتكون متمتعًا، فيجعله عمرة فينقلب طواف القدوم

ركنًا، وبعد أن كان طواف قدوم الحج صار الآن ركن عمرة، وينقلب سعي الحج سعي عمرة بل يصح أن يقع الإحرام بالحج مجهولًا فنقول: لبيك اللهم بما أحرم به فلان، وأنت لا تدري بما أحرم ثم قابلته فقلت له: بماذا أحرمت؟ قال: بالعمرة، فيكون إحرامك بالعمرة، لو قال: بالحج والعمرة قرانًا فيكون بالحج والعمرة قرانًا؛ ولهذا لما قدم عليّ من اليمن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بما أهللت؟ " ()، قال: بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن معي الهدي فلا تحلّ، وصح. إحرامه؛ لأنه مجهول، وجاء أبو موسى قال: "بما أهللت؟ " () قال: بما أهلّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يجعله عمرة، وألغى أن يكون قارنًا؛ لأن أبا موسى ليس معه هدي، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذين ليس معهم هدي أن يجعلوها عمرة، فتجد الآن أن الحج يختلف عن غيره فهذا الصبي الذي بلغ في عرفة ينقلب إحرامه من النفل إلى الفرض، ولكن هل السابق يكون فرضًا أو هو نفل؟ فيه خلاف بين العلماء، وهذا الخلاف ينبني عليه الثواب هل يثاب على السابق ثواب الفريضة أو يثاب ثواب النافلة؟ أن قلنا: إنه ينقلب فرضًا أثيب ثواب الفريضة، وإذا قلنا: يبقى على ما هو عليه ويكون ابتداء الفرض من البلوغ أثيب على الأول ثواب نافلة. ويستفاد منه: أن العبد إذا حج وهو رقيق فحجه صحيح. ويستفاد منه: أنه إذا حج في حال رقِّه ثم عتق وجب عليه أن يحج حجة أخرى، لماذا؟ لأن الأولى وقعت نفلًا حيث لا يلزمه الحج لأنه لا مال له فلا يستطيع إليه سبيلًا فلذلك قلنا: يجب عليه أن يعيد الحج مع أن العبد هذا كان بالغًا عاقلًا فاهمًا واعيًا ليس كالصغير الذي لم يبلغ، وهذه المسألة الثانية اختلف فيها العلماء؛ منهم من يرى - بل والأولى أيضًا اختلفوا فيها، لكن الخلاف في الثانية أظهر وأبين أن العبد إذا حج في حال رقِّه بنية الفريضة فإنه لا يلزمه أن يحج حجة أخرى؛ وذلك لأن سقوط الحج عنه ليس لخلل في ذاته، يعني: ليس لأن الرجل من أهل الوجوب، ولكن لأنه لا يستطيع، لأنه مملوك فليس عنده مال وليس مالكًا لنفعه، لا يستطيع أن يحج إلا بإذن سيده، فلهذا نقول: إنه ليس عدم وجوب الحج عليه لخلل في نفسه وأنه ليس من أهل الوجوب، ولكن لأنه غير مستطيع، وهذا لا يمنع من إجزاء الحج عن الفريضة بدليل أن الفقير لا يلزمه الحج، ولكن لو تكلف الحج وحج على قدميه أجزأه حتى عن الفريضة؛ لأن ذلك ليس لمعنى يعود إلى الشخص، ولكنه يعود إلى شيء خارج وهو عدم القدرة المالية، فلهذا كان القول الراجح في هذه المسألة: أن العبد إذا حج قبل عتقه ونوى به الفرض فهو فرض ويجزى عن الفريضة، ولا يلزمه أن يحج حجة أخرى؛ لأن هذا العبد من

حكم سفر المرأة بغير محرم للحج والخلوة

أهل التكليف، وسقوط الحج عنه ليس لمعنى في نفسه، ولكن لمعنى خارج وهو عدم القدرة عليه، فإذا تكلف وأذن له سيده وحج فنعم، لكن لو حج بغير إذن سيده فهل يجزئه؟ لا؛ لأن زمنه مغصوب، فإن زمنه كان مملوكًا لسيده، فإذا غصب نفسه فإنه لا يجزئه. فإن قلت: ألم يقل: الفقهاء أن العبد الآبق من سيده تصح منه صلاة الفريضة ولا تصح منه صلاة الناقلة؟ فالجواب: أن بينهما فرقًا؛ لأن الحج في هذه الحال - قبل أن يعتق - نفل وليس بفريضة، بخلاف الصلاة الفريضة فإنها فريضة عليه حتى في حال رقِّه؛ فحصل الفرق. حكم سفر المرأة بغير محرم للحج والخلوة: 684 - وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: "لا يخلونَّ رجلٌ بامرأةٍ إلا ومعها ذو محرمٍ، ولا تسافر المرآة إلا مع ذي محرمٍ، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، إنَّ امرأتي خرجت حاجَّةً، وإنِّي اكتتبت في عروة كذا وكذا، قال: انطلق، فحجَّ مع امرأتك" (). متَّفقٌ عليه، واللَّفظ لمسلمٍ. كلمة "يخطب" يحتمل أن تكون هذه الخطبة على المنبر، ويحتمل أن تكون من سائر خطبه العوارض؛ لأن خطب النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين: قسم عارض يخطبه النبي صلى الله عليه وسلم عند وجود حادثة تقتضيه، وقسم راتب كخطب الجمعة وخطب العيدين، وهذا محتمل، ولكنه لا يهمنا أن يكون هذا أو هذا؛ لأن المقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلن هذا الحكم على المنبر، وهذا يدل على أهمية هذا الحكم ووجوب العناية به. وجملة: "يقول" حال من فاعل "يخطب"، وجملة "يخطب" حال من "رسول الله"؛ لأن كلمة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بقول"، "سمع"، لا تنصب مفعولين؛ لأنها ليست من أفعال الظن ولا من أفعال اليقين. وقوله: "يخلون"، هذا فعل مؤكد بنون التوكيد، فتكون الجملة التي هي نهي مؤكَّدة بالنون، "لا يخلون رجل"، "الرجل" هو: البالغ بخلاف الذكر، فإنه يطلق على البالغ والصغير، "بامرأة"، أي: لأنها - أي: بالغة؛ لأنها - أي: كلمة امرأة - تطلق على الأنثى إذا بلغت "إلا ومعها ذو محرم"، جملة "معها ذو محرم" مبتدأ وخبر وهي في محل نصب على الحال بدليل تقدم ذو محرم، "المحرم": زوجها وكل من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح، وإن شئت فقال: بنسب أو رضاع أو مصاهرة هذا المحرم، والمحرمات من النسب سبع، ومن الرضاع مثلهن، ومن الصهر أربع،

المحرمات من النسب ذكرهن الله في قوله: {حرمت عليكم أمهتكم وبناتكم وأخوتكم وعمتكم وخالتكم وبنات الأخ وبنات الأخت} [النساء: 23]. هذه سبع، من الرِّضاع مثلهن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" ()، فتحرم الأم من الرضاع والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت هذه سبع، ومن الصهر أم الزوجة وإن علت، وبنتها وإن نزلت، وزوجة الابن وإن نزلت، وزوجة الأب وإن علا، أما أخت الزوجة فإن الزوج ليس محرما لها، لماذا؟ لأنها لا تحرم على التأبيد، وإنما يحرم الجمع بينها وبين أختها، الملاعنة على الملاعن على التأبيد ليس بسبب مباح فليس محرمًا. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل" كلمة "رجل" نكرة في سياق النهي، و"امرأة" نكرة في سياق النهي مع أنه يجوز أن تعول نفيًا؛ لأن الفعل هنا مبني لا يتغير سواء كانت "لا" ناهية أو نافية مبني الاتصال نون التوكيد به، على كلّ "رجل" عام يشمل الشاب والكهل والشيخ وذا الشهوة ومن لا شهوة له، وامرأة تشمل الشابة والكهلة والعجوز والقبيحة والحسناء. إذا قال قائل: ما هي الحكمة من ذلك؟ الحكمة: لأن الشيطان يدخل بينهما في هذه الحال فيسوس لهما وتحصل الفاحشة، ولا تحقرن شيئا، لا تقل: هذه امرأة عجوز وهذا رجل شيخ كبير، لأن الشيطان قد يؤزهم، ولهذا يوجد بعض الناس مع أهله شهوته ضعيفة، لكن مع غير أهله شهوته قوية، يمكن لو تكلم مع امرأة أجنبية مجرد كلام تحركت شهوته لكن مع أهله كل شيء تفعل لا يتحرك، لأن الشيطان يحرك الإنسان، فالمرأة وإن كانت عجوزًا فإنه يقال: لكل ساقطة لاقطة، ثم أن هذه المسائل ينبغي فيها سد الباب؛ لأن الرابط فيها صعب وشاق، فمن التي لا تشتهي، وإلى أي حد يكون الكبر وإلى أي حد يكون انتفاء الفتنة أو الشهوة؟ قال شيخ الإسلام: العلة إذا كانت منتشرة فإنه يحكم بمظنتها؛ يعني: لا يمكن انضباطها؛ لأن كل واحد يقول: أنا حسب ما عندي لا أفعل هذا الشيء، وكذلك المرأة، ولكن عند الاختبار يكون البلاء والفتنة، فسد الباب أولى؛ ولهذا لم يستثن من هذا شيء حتى لو كانت ابنة العم وزوجة الأخ، لو كانت ابنة عمه زوجة أخيه فإنه لا يحل له أن يخلو بها. قوله: "لا يخلون رجل بامرأة" النهي عن الخلوة فإذا كان معهما ثالث فالخلوة تزول، لكن هل الحكم يرتفع؟ إذا زالت العلة زال الحكم، لكن قد يحرم من ناحية ثانية وهو الفتنة، وإذا كان جاء في الحديث: "إلا كان الشيطان ثالثهما" (). ونقول: "إذا كان شيطان الإنس ثالثًا ثبت

الحكم، فإذا قدر أن المرأة لم تخل برجل لكن خلا بها رجلان فاجران فهذا أشد؛ لأن الفتنة هنا متحققة أكثر؛ ولهذا قال: من يأمن الذئبين على الشاة الواحدة، إذا كان الذئب الواحد لا يؤمن فالذئبان من باب أولى، أما إذا انتقت الفتنة وزال المحظور فهذا لا بأس به وإذا كان رجل مع امرأتين فالخلوة لا شك منتفية هل الحكم يزول؟ نعم يزول الحكم، لكنه أن خيفت الفتنة جاء الحكم من طريق آخر ولكن خلوة الرجل بامرأتين أهون من خلوة الرجلين بامرأة. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إلا ومعها ذو محرم"، كلمة "محرم" عامة تشمل الصغير والكبير، لكن أهل العلم قالوا: لابد أن يكون بالغا، ولابد أن يكون عاقلًا، وأخذوا هذا الشرط التماسًا من الحكمة في وجوب المحرم، الحكمة من وجوب المحرم: الحفاظ على المرأة وصيانتها وحمايتها، إذا كان كذلك فلابد أن تتوافر فيه الشروط، فيكون بالغًا عاقلًا، هل يشترط أن يكون بصيرًا؟ الفقهاء لم يشترطوا ذلك، ولعلهم يعللون هذا بأن الرجل الذي معها ومع محرمها قد يهاب المحرم وإن كان حماية هذا الأعمى لمحرمه ضعيفة بلا شك؛ إذ قد يشير أو يضحك أو يغمز وهذا المحرم لا يدري، لهذا نقول: ينبغي أن نشترط أن يكون بصيرًا حيث دعت الضرورة إلى كونه، هل يشترط أن يكون سميعًا؟ الظاهر أنه لا يشترط. قال: "ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم"، وهذه "لا"، ناهية، ولما كانت هنا جازمة للفعل صار قولنا - فيما سبق -: "لا يخلون" جملة نهي أصح أو أقرب؛ لأن هذه الجملة معطوفة على ما سبق، وقوله: "لا تسافر المرأة"، السفر مفارقة الإقامة سواء كنت في بلد أو كنت في مكان، ولنفرض أنه بدوي في البر ساكن بخيمته فسفره مفارقة محل الإقامة، فالسفر إذن هو مفارقة محل الإقامة، وسمي سفرًا؛ لأنه يسفر عن الإنسان حيث يبرز بعد الخفاء، وقال بعض الأدباء: إنما سمي السفر سفرًا؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، كم من إنسان لا تدري عن خلقه وعن صدقه وعن شهامته وعن رجولته إلا إذا سافرت معه، ولكن المراد: السفر المعروف سابقًا، أما سفر اليوم فإنك لا تعرف به أخلاق الرجال؛ لأن السفر اليوم يتم عبر الطائرات فأنت تسافر ويكون بجانبك رجل مسافر، ولا تدري عن هذا الرجل هل هو شهم كريم يخدم قومه يريحهم أو لا، صحيح أنك إذا جلست إليه وتحدثت إليه ربما تفهم شيئا من خلقه، لكن هذا يحصل حتى في القهوة، لكن في الزمن السابق لما كان الناس يسافرون على الإبل مسافات طويلة فيها تعب صار الناس يعرفون، قال أحدهم - أظنه نافعًا -: "صحبت ابن عمر لأخدمه فكان يخدمني" ().

وشاهدنا نحن لما كنا نسافر بالسيارات المسافات التي ليست في الطرق المزفلتة نجد بعض الناس إذا نزل من السيارة ذهب يحتطب ويسخن الماء في أيام الشتاء ويقرب الماء ويروى، وبعضهم إذا نزل أنزل الفراش ونام، أيهما الشهم؟ الأول، فإياكم أن تكونوا من القسم الثاني الذي إذا نزل ينزل بفراشه واصطحبه، فكل واحد منكم يخدم الثاني، وأيضًا لخدموا الناس بالتوجيه والإرشاد وحسن المعاملة والأخلاق؛ لأن الناس سيذكرونكم بالخير إذا أحسنتم، ويذكرونكم بعكسه إذا أسأتم، مع أن هذه الأماكن مقدسة، يعني: أماكن آمنة لا يوجد بقعة. على الأرض آمن من المسجد الحرام؛ لكن ليست أمنًا على النفوس فقط، بل "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"، على كل شيء على الأموال والنفوس والأعراض، فإياكم أن - تؤذوا الناس في أموالهم أو أعراضهم أو أبدانهم، بل كونوا خير الناس للناس. يقول: "لا تسافر المرأة"، إذن لا تفارق محل إقامتها بما يسمى سفرًا إلا مع ذي محرم، وهذا هو الموضع الذي قال فيه الفقهاء: إنه يشمل السفر الطويل والقصير، بينما الرخص الأخرى كالقصر والفطر والمسح ثلاثًا تكون خاصة بالسفر الطويل، أما هذا فهو عام للسفر الطويل والقصير، المهم أن يسمى سفرًا، "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم"، وسبق معنى المحرم. "فقام رجل"، هل يلزمنا أن نعرف اسمه؟ لا، المهم: القصة: "فقال: يا رسول الله، أن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: انطلق فحج مع امرأتك"، الرجل لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم"، وقد علم أن زوجته ليس معها ذو محرم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه اكتتب في غزوة كذا، يعني: كتب مع الغزاة وأن أمرأته خرجت حاجة فماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال عليه السلام: "انطلق فحجَّ مع امرأتك". "وانطلق"، هذه فعل أمر، و"حج" فعل أمر، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع أمرًا مرغوبًا فيه هو ذروة سنام الإسلام وهو الجهاد ليحج مع أمرأته، وهذا يدل على وجوب اصطحاب المحرم، هل سأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل امرأتك كبيرة أو صغيرة؟ لا، اجعل هذا عمومًا أنه يشمل المرأة الكبيرة والصغيرة، هل سأله أهي آمنة أم غير آمنة؟ لا، خذ هذا عمومًا آخر، هل سأله هل هي حسناء أو قبيحة؟ لا، خذ هذا أيضًا عمومًا ثالثًا، فإذن نهي المرأة عن السفر بلا محرم شامل للمرأة، سواء كانت صغيرة أو بيرة، وسواء آمنة أو غير آمنة، وسواء كانت قبيحة أو لا، وهناك عموم: رابع سواء معها نساء، أو ليس معها نساء وهذا عام ولذلك كان هذا النص القولي واضحًا في أنه شامل لكل امرأة، وعلى كل حال يقول: "انطلق فحج مع امرأتك"، ففعل الرجل. * يستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: الأولى: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إبلاغ الشريعة، وأنه صلى الله عليه وسلم يستعمل كل أسلوب يمكن أن يبلغ به الخلق لقوله: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ... " إلخ.

الفائدة الثانية: تحريم خلوة الرجل بالمرأة إلا مع ذي محرم، لقوله: "لا يخلون ... " إلخ، والأصل في النهي التحريم، لاسيما أنه أكد بالنون: "لا يخلونَّ". ثالثًا: عموم هذا النهي لكل رجل ولكل امرأة؛ لأنه نكرة في سياق النهي فيعم. ومن فوائده: جواز خلوة الصغير بالمرأة لقوله: "لا يخلون رجل"، فالصغير الذي لا شهوة له لا تضر خلوته، لو خلت امرأة بامرأة يفهم من الحديث جواز خلوة المرأة بالمرأة لقوله: "لا يخلونَّ رجل"، لكن هنا لو خيفت الفتنة وجب منعها من طريق آخر؛ لأن بعض النساء - نسأل الله الحماية - يبتلى بمساحقة النساء، كما يبتلى بعض الرجال بالتعلق بالمرد، أيضًا هذه بعض النساء تتعلق بالنساء الجميلات وتفتتن أشد من افتتانها بالرجل. ويؤخذ من الحديث: جواز خلوة القرد بالمرأة لقوله: "لا يخلون رجل"، لكن يقول شيخ الإسلام: إذا خيفت الفتنة - يعني: إذا كانت هذه المرأة تستعمل القرد كما يستعملها الرجل - فإنها تمنع؛ لأن بعض القرود يتعلق بالنساء، أنا حدثت أن النساء إذا ذهبن يتفرجن على القرود وصارت إحداهن جميلة صار القرد لا ينظر إلا إليها ولا يتبع إلا إياها، إذن إذا خيفت الفتنة تمنع. ومن فوائد الحديث: جواز خلوة الرجلين بالمرأة وذلك لقوله: "لا يخلون رجل"، وإذا كان معه آخر فلا خلوة، ولكن كما قلنا إنه إذا خيفت الفتنة وجب المنع من باب ثانٍ. من فوائد الحديث: عناية الشرع بالمرأة حيث حرص على حمايتها وحفظها باصطحاب المحرم، فيحفظها كالحارس كالجندي مع الأمير يحرسه ضامن له، إذن محرم المرأة لا شك أن اصطحابها إياه من مكرمتها وحمايتها وعناية الشرع بها. ومن فوائد الحديث: أنه لابد أن يكون المحرم ممن يمكنه صيانتها بكونه بالغًا عاقلًا بصيرًا أن احتجنا إلى ذلك، فإن كان صغيرًا فليس بمحرم هو محرم، لكنه ليس كافيًا، العلة من ذلك: حماية المرأة وصيانتها وكرامتها، وعند العامة يقولون: أن العلة من أجل إذا ماتت يفك حزائم كفنها إذا نزلت في القبر، انظر العوام أولًا يقول: ماتت وهذا تشاؤم، وثانيًا: يفك الحزائم وهذا ليس بشرط؛ لأنه يمكن أن يفك الحزائم أي إنسان، ولعله مر عليكم حديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفنت إحدى بناته وفيهم زوجها عثمان والنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أيكم لم يقارف الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا. فقال: "انزل"، فنزل في قبرها ()، أبو طلحة ليس من محارمها، والنبي صلى الله عليه وسلم من محارمها وزوجها أيضًا من محارمها.

حكم من حج عن غيره قبل الحج عن نفسه

حكم من حج عن غيره قبل الحج عن نفسه: 685 - وعنه رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبَّيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخٌ لي - أو قريبٌ لي - فقال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حجَّ عن نفسك، ثمَّ حجَّ عن شبرمة" (). رواه أبو داود، وابن ماجه، وصحَّحه ابن حبَّان، والرَّاجح عند أحمد وقفه. قوله: "أخ لي أو قريب لي" الشك من الراوي، فقال: "أحججت عن نفسك؟ " جملة خبرية متضمنة للاستفهام، أي: أحججت عن نفسك؟ والشاهد لمثل هذا التعبير كثير في القرآن وكلام العرب، أي: أنهم يحذفون أداة الاستفهام لعلمها من المقال. قال: "لا"، قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، قال أحمد: إن رفعه خطأ، وهذا إحدى الروايتين عنه، لكنه صح في رواية أخرى أنه مرفوع، ولعله اطلع أخيرًا على رفعه، فصحح رفعه وقد مر علينا أنه إذا اختلف الحفاظ في رفع الحديث أو وقفه فإن الحكم للرافع لسببين: الأول: أن مع الرافع زيادة علم لأن الرفع وقف وزيادة، السبب الثاني: أنه قد يتكلم الراوي الرافع بالحديث كدرس مثلًا، أو كبيان حكم، فيسمع منه على أنه من قوله، كما لو قلت أنا مثلًا: "وإنما لكل امرى ما نوى" هذا الحديث مرفوع لا شك، لكن أنا إذا سقته على هذا النحو، فالذي يسمعني يظن أنه من قولي؛ فلهذا نقول: إذا تعارض الحفَّاظ في وقف الحديث ورفعه قدِّم الرّافع لهذين الوجهين: أحدهما: أن مع الرافع زيادة علم والثاني: أن الرّافع له قد يحدِّث به غير منسوب حكمًا بما دل عليه فيسمعه من يسمعه فيظنه موقوفًا. المهم: نرجع إلى الحديث قال: "سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة"، "لبيك" بمعنى: إجابة لك، لكنه مثنى ومعناه: الكثرة؛ ولهذا قال العلماء في تفسيره: إجابة بعد إجابة، وإنما يقول الحاج: "لبيك" أي: إجابة؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: {وأذن في الناس بالحج} [الأنبياء: 27]. يعنى: أعلمهم به وادعهم إليه يأتوك رجالًا، فإنك تلبى هذه الدعوة بأنك أجبتها، وهنا قال: "لبيك عن شبرمة"، فقيَّد هذه التلبية بأنها عن شبرمة كأنه نائب عنه فالنبي صلى الله عليه وسلم استفهم هل حجّ عن نفسه؟ وهذا الاستفهام هل يمكن وروده أو لا يمكن؟ أن قلنا: أن الحج إنما فرض في

السنة العاشرة ففي وروده شيء من الإشكال؛ لماذا؟ لأن هذا القائل إنما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وإنا قلنا: أن الحج إنما فرض في العاشرة فإنه لا يمكن أن يحج هذا الرجل عن نفسه؛ لماذا؟ لأنه لم يوجد من قبل، ولكن سبق لنا أن القول الراجح أنه مفروض في السنة التاسعة، وبناء على ذلك فإنه يمكن أن يكون هذا الرجل قد حجّ عن نفسه، وهذا مما يرجح القول بأنه فرض في السنة التاسعة، وإلا لم يكن لاستفهام النبي صلى الله عليه وسلم محل (). وقوله: "من شبرمة؟ " يعني: من شبرمة الذي لبيت عنه؟ هذا الاستفهام يريد به النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف هل هذا الرجل قريب من الملبي أو بعيد، أو يريد أن يعرف هل هو مسلم أو كافر؟ الجواب: قال: "أخ لي أو قريب لي"، فالظاهر الأول؛ لأن هذا الصحابي فهم ذلك، والصحابي أقرب إلى فهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم من غيره، وقوله: "أو قريب لي" هذا شك، لكنه لا يؤثر؛ لأن الأخ من القرابة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحججت عن نفسك؟ " يعني: أديت الفريضة عن نفسك؛ لأن كلمة "عن" تدل على أن الشيء مفروض على الإنسان فيريد أن يؤدي عن نفسه، قال: "لا" يعني: لم أحج، ولكنه بدأ بأخيه لعله كان ميتًا فقدَّمه على نفسه، وقال - كما يقول بعض العامة -: أنا حي والدهر أمامي طويل، ولكن هذا ميت ومفتقر إلى الحج فأحج عنه؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة". وفي رواية: "هذه عنك ثم حج عن شبرمة". ورواية: "هذه عنك" أصرح بأن النسك الذي كان هذا الرجل يقول فيه: لبيك عن شبرمة، انقلب عن نفس الملبي قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة". * ففي هذا الحديث فوائد: الأولى: الجهر بالتلبية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع هذا الرجل يلبي ولا يسمع إلا ما كان جهرًا، وهو كذلك فإن الجهر بالتلبية سنة () - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - لما فيه من إظهار الشعائر. ومن فوائد الحديث: أن الرجل إذا حج عن غيره فإنه يصرح بذكره فيقول: "لبيك عن فلان"؛ لأن التلبية عند الإطلاق تنصرف إلى نفس الملبى حتى تقيَّد، فيقال: "لبيك عن فلان"، فإذا استنابك رجل أن تؤدي عنه الحج فإنك تقول: لبيك حجًّا عن فلان، وإذا استنابك في العمرة تقول لبيك عمرة عن فلان، وهل تسميه وإن كان امرأة؟ لو كانت امرأة: لبيك عن رقية، عن عائشة؟ نعم، ربما يكون هذا ظاهر الحديث، ولا مانع من أن المرأة يعرف اسمها، ولكن لو

قلت: لبيك عمن أنابتني هل يجوز؟ نعم، والله سبحانه يعلمها، فإذا كنت تستحيي أو تحجل من أن تقول: لبيك عن رقية أو ما أشبه ذلك فلا حرج أن تقول: لبيك عمن أنابتني في الحج، فإن نسيت من وكلك أو نسيت من استنابك فماذا تقول؟ تقول: عمن أنابني، والله تعالى يعلم ذلك. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لطالب العلم أن يسأل في المواضع التي يكون فيها السؤال متجها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل هذا الرجل "من شبرمة؟ "، فإذا رأيت شخصًا يفعل أمرًا تدعو الحاجة إلى السؤال عنه، فإن الأفضل أن تسأل، لا يقال: أن هذا من باب سؤال الإنسان عما لا يعنيه، لأن العالم يعنيه أحوال العباد حتى يعلمهم مما علمه الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن يحج الإنسان عن غيره مع قدرته عن الحج عن نفسه إذا لم يحج عن نفسه، الدليل "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، فإن كان لا يلزمه الحج كرجل فقير أعطاه شخص مالًا يحج به عنه فهل يجوز أن يحج؟ الجواب: نعم، لأن هذا الرجل لا يجب عليه الحج، والله عز وجل يقول: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97]. وهذا الرجل الآن لا يستطيع إليه سبيلًا؛ لأنه ليس عنده مال فيجوز أن يحج عن غيره. ومن فوائد الحديث: أن الحج يمتاز عن غيره بجواز تغيير النية وجواز الإبهام فيه، فهذا الرجل كان أول ما حج عن شبرمة، ثم نواه عن نفسه في أثناء العبادة، ومثل هذا لا يمكن أن يكون في العبادات الأخرى لكن هذا خاص بالحج، كذلك نجد الرجل يحرم بالحج ثم يقلبه إلى العمرة ليصير متمتعًا، يحرم بالعمرة أولًا ثم يضيق عليه الوقت فيدخل الحج عليها فيصير قارنا لا بأس، كما أن الحج يخالف غيره في النية بأنه لو نوى الخروج منه لم يخرج منه واحد، الآن محرم بالحج لما رأى التعب قال: أشهدكم يا جماعة أني فسخت الحج، فهل ينفسخ حجه؟ لا، بينما العبادات الأخرى تتفسخ، إذا فعل محرمًا في العبادات الأخرى يبطلها كما لو أكل أو شرب أو تكلم في الصلاة، لكن في الحج المحظورات فيه لا تبطله، الجماع قبل التحلل يفسده ولا يبطله؛ ولهذا يجب المضي فيه وقضاؤه من السنة الأخرى بخلاف غيره من العبادات، فالمهم: أن الحج له أحوال يخالف غيره يقتصر فيها على ما ورد. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث سأله قبل أن ينكر عليه، ثم دله على الهدى حين عرف أنه أخطأ. هل يستفاد من الحديث: أن من أحرم بنسك عن شخص ثم تبين أنه يجب أن يقدم نفسه فإنه يلزمه أن يحج عن هذا الشخص الذي أحرم بنسكه، لأنه التزمه له بإحرامه، أو تقول: أن قوله: ثم حج عن شبرمة، من باب الإباحة؛ لأنه إنما ذكر له الممنوع ثم ذكر له الجائز؟ فيه احتمال، يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب عليه أن يحج عن شبرمة؛ لأنه تلبس بالنسك عنه فوجب

عليه أن يقضيه عنه، إذ إنه لما تلبس بالنسك كان كأنه نذره فلزمه أن يوفي به، ويحتمل أن قوله: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" من باب الإباحة والإذن، فهو لما منعه أولًا أن يحج عن شبرمة أذن له أن يحج عنه بعد أن يحج عن نفسه، وعندي أن هذا هو الأقرب ونجيب عن الأول بأن الإنسان إذا تلبس به ظنًّا منه أنه جائزة فإذا تبين أنه ليس بجائز فهو تلبس غير مشروع فلا يلزم الوفاء به. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز الحج عن الغير بلا إذنه - إذن الغير -، وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقال: هل استأذنته، فإذا حج إنسان عن غيره بنية أنه للغير فلا بأس، لو رفض الغير بعد أن رجع هذا الرجل قال: أنا حججت عنك ادع الله لي، قال: أنا أرفض، عندنا أمران هل يشترط إذن الغير بالحج عنه نقول ظاهر الحديث لا هل يشترط قبول؟ على كلامكم يشترط وأنه لو رفض لم يكن له أجره وكان الأجر للفاعل إلا تكل هذا الأمر إلى الله عز وجل ونقول إذا رفض، فالله أعلم ما يترتب على هذا حكم في الدنيا، اللهم إلا إذا كان المحجوج عنه مريضا لا يرجى برؤه فانه يحج عنه غيره بلا شك. ولكن لو رفض المحجوج عنه فهل نقول: أن رفضه غير معتبر وأن الفريضة سقطت عنه هذا هو محل الإشكال؟ اختلف في هذا العلماء أي: في مسألة الفريضة؛ فمنهم من يقول: إنه لا يصح أن يحج الإنسان عن غيره فريضة إلا بإذنه؛ لأن المطالب بها الغير، ومنهم من قال: بل يصح بلا إذنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل للمرأة التي سألته أن أباها لا يثبت على الرَّاحلة: هل استأذنت منه؟ وأنه إذا حج عن غيره ثم بلغه بذلك ورفض فإننا نقول له: رفضت أم لم ترفض الحج لك والفريضة سقطت عنك، وهذا هو الأقرب من الأحاديث. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان ينبغي له أن يبدأ بنفسه؛ لقوله: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة". مسألة الإيثار في القرب وإهداء القرب للأموات: وتأتي هنا مسألة الإيثار بالقرب هل هو جائز أو مكروه أو محرم ()؟ سبق لنا الكلام عليه وبينا أنه ينقسم - الإيثار - إلى أقسام: القسم الأول: ما يحرم فيه الإيثار، وهو الإيثار بالواجب، والثاني: ما يكره فيه الإيثار إلا لمصلحة تربو على الكراهة، والثالث: ما يباح فيه الإيثار، وهو ما سوى العبادات من الأمور العادية.

فرض الحج في العمر مرة واحدة

ما الذي يحرم فيه الإيثار؟ مثل لو كان معي ماء يكفيني للوضوء فلو آثرت به غيري وتوضأ به بقيت بلا ماء، فهنا يحرم الإيثار؛ لأنني قادر على استعمال الماء وهو في ملكي فلا يجوز لي أن أوثر به غيري، إذا كانت القرية مستحبة مثل الصف الأول فيه مكان رجل وسبقت إليه أنا وواحد معي فهل أوثره؟ قال العلماء: إنه يكره أن يؤثر غيره بمكانه الفاضل، وهو كذلك، لكن القول بالكراهة يتوقف فيه الإنسان، إنما يقال: لا ينبغي أن تؤثر؛ لأن هذا يدل على زهد في الخير والسبق إليه، لكن إذا اقتضت المصلحة أن تؤثره مثل أن يكون أباك أو أخاك الكبير أو صاحب فضل عليك وعلى الناس فهنا يكون الإيثار لا بأس به، بل قد تربو المصلحة ونقول: أن الإيثار هنا مستحب، أما الإيثار في الأمور العادية فهذا لا بأس به، والأصل فيه الحل والجواز، قلنا: تبدأ بنفسك، ينبني على هذا مسألة إهداء القرب للأموات، فنقول: الأفضل إلا تهدي القرب للأموات، الأفضل أن تجعل القرب لك وللأموات الدعاء؛ لأن هذا هو الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (). ولم يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة إلى عمل يعملونه للميت مع أن الحديث في سياق العمل، فاجعل الأعمال الصالحة لنفسك ومن سواك ادع الله له. فرض الحج في العمر مرة واحدة: 686 - وعنه رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنَّ الله كتب عليكم الحجَّ، فقام الأقرع بن حابسٍ فقال: أفي كلِّ عامٍ يا رسول الله؟ قال: لو قلتها لوجبت، الحجُّ مرَّة، فما راد فهو تطوُّعٌ" (). رواه الخمسة، غير التَّرمذيِّ. - وأصله في مسلمٍ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. "وعنه" أي: عن ابن عباس يقول: "خطبنا"، وهذه الخطبة يحتمل أن تكون من الخطب الراتبة ويحتمل أن تكون من الخطب العارضة، وسبق لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب أصحابه خطبا راتبه كخطبة يوم الجمعة والعيدين والاستسقاء، وأحيانًا خطبة عارضة يكون لها سبب فيقوم ويخطب. فقال: "إن الله كتب عليكم الحج" "كتب" بمعنى: أوجب، كقوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصِّيام} [البقرة: 183]. وقوله: {إن الصلوة كانت على المؤمنين كتبًا موقوتًا} [النساء: 103]. وسمي الفرض كتابة؛ لأنه كلما أريد أن يوثق الشيء فإنه يكتب كما قال الله تعالى: {يأيها

الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282]. فالمفروض مكتوب كأنه وثق بهذه الكتابة، وقوله: "الحج" قال العلماء: أن الحج لغة: القصد، وشرعًا: قصد مكة للتعبد لله سبحانه بأداء المناسك. "فقام الأقرع بن حابس" وهو من زعماء بني تميم ومن المؤلفة قلوبهم، فقال: "أفي كل عام يا رسول الله؟ " وهذا السؤال من الأسئلة التي لا تنبغي؛ ولهذا كان الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه لما قال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" (). فقوله صلى الله عليه وسلم: "ذروني ما تركتكم" تفيد أنه كان لا ينبغي أن يسأل هذا السؤال، ولكن على كل حال قد يكون في هذا السؤال خير لئلا يشتبه على من يأتي من بعده من الأمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلتها لوجبت"، يعني: لو قلت في كل عام لوجبت، يعني: لثبتت وصار الحج فريضة كل عام، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين فيما رواه مسلم: "ولما استطعتم"، فإنه لو وجب على الناس كل عام ما استطاعوا. أولًا: ما استطاعوا أن يأتوا كل عام إلا بمشقة شديدة. ثانيًا: لو استطاعوا ما استطاعوا أن يؤدوا المناسك؛ لأننا لو فرضنا أن المسلمين في مثل هذا العصر يمثلون ألف مليون، ولنقل: أن القادر منهم على الحج نصف هذا العدد لو جاءوا إلى مكة مثلًا هل يستطيعون أن يقوموا بشيء؟ لا يستطيعون، لهذا هم لا يستطيعون لا باعتبار أفرادهم أنهم يشق على كل فرد منهم أن يأتي كل عام إلى مكة لاسيما من البلاد البعيدة، ولا باعتبار اجتماعهم حول الكعبة فإن هذه مشقة شديدة أيضًا، وهذا من نعمة الله عز وجل أنه لم يجب إلا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الحج مرة فما زاد فهو تطوع"؛ يعني: الحج واجب مرة واحدة فما زاد على المرة الواحدة فهو تطوع، أن شاء الإنسان أتى به وإن شاء لم يأت به. في هذا الحديث فوائد: منها: إعلان الأحكام الشرعية عن طريق الخطابة، والخطابة أحد المجالات التي بها تنشر الدعوة، فإن الدعوة تنشر بطرق متعددة منها: الخطابة، والكتابة والمشافهة، وغير ذلك من الأشياء التي تكون مجالًا للدعوة، ومنها: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أمته، فإنه كان لا يخفي تبليغ الأحكام، بل جعلها إعلانًا بواسطة الخطابة. ومنها: فرضية الحج لقو له: "كتب عليكم الحج"، وفرضه بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين إجماعًا قطعيًا، ففي القرآن: {ولله على الناس حج البيت .... } [آل عمران: 97]. وفي السُّنة كما

في هذا الحديث، وكما في قوله: "بني الإسلام على خمس"، وذكر منها حج البيت، أما الإجماع فالعلماء مجمعون () على ذلك؛ ولهذا قالوا: من أنكر فرضية الحج فهو كافر مرتد، إلا إذا كان حديث عهد بكفر ولم يعرف فرائض الإسلام فإنه لا يكفَّر إلا بعد أن يعرَّف، فإذا عرِّف وذكرت له الدلائل وأصر على إنكار الفرضية صار كافرًا، أما من تركه - أي: الحج - بدون إنكار فرضيته، ولكن تهاونًا وكسلًا فأكثر أهل العلم على أنه لا يكفر؛ لأنه لا كفر بترك شيء من الأعمال إلا واحدة فقط وهو الصلاة، وقال بعض أهل العلم - وهو رواية عن الإمام أحمد -: إن من تركه تهاونًا فهو كافر لقوله تعالى: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97). وهذا يدل على أن ترك الحج مع القدرة عليه كفر، وكذلك ما أثر عن عمر رضي الله عنه أنه همّ أن يبعث عمالًا إلى البلاد، فمن وجدوه ذا غنًى فلم يحج قال: فليأخذوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، لكن الجمهور على أن ترك الحج تهاونا يكفِّر ()، ولكن هل يقضى عنه؟ الجمهور على أنه يقضى عنه؛ لأنه كالديون التي يتهاون بوفائها، فإذا مات قضيت عنه، وكلام ابن القيم رحمه الله في تهذيب سنن أبي داود يدل على أنه لا يقضى عنه، قال: لأن هذا الرجل تركه تركًا وهو معرض عن فعله، أما لو أنه يقول: سأحج العام القادم ويمني نفسه، ولكن بغته الأجل فلم يحج فهذا يحج عنه بلا شك، والراجح: أنه إذا تركه على أنه ليس معرضا عنه فهذا يحج عنه، وكلام ابن القيم جيد لكن أتوقف في ترجيحه. ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه يجوز أن يقاطع الخاطب فيسأل؛ لأن الأقرع بن حابس قاطع النبي صلى الله عليه وسلم فسأله في أثناء الخطبة ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أن في المسائل ما لا ينبغي أن يسأل عنه كما في هذا الحديث، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه أبو هريرة: "ذروني ما تركتكم" (). وفي قصة عويمر العجلاني مع امرأته أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله على الذي وصاه عويمر كره المسائل وعابها فيما لو وجد الإنسان مع امرأته رجلًا (). ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بغير وحي لقوله: "لو قلتها لوجبت"، وهذا محل خلاف بين أهل العلم؛ فمنهم من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحكم من عند نفسه، وإنما يحكم

2 - باب المواقيت

من عند نفسه في مسائل الاجتهاد، وأما مسائل التشريع قلا، والصحيح: أنه يحكم من عند نفسه في المسائل الاجتهادية كتدبير الحروب وغيرها وفي المسائل الشرعية، لكن إقرار الله له تشريع، ولهذا يعتبر وحيًا. ومن فوائد الحديث: أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة لقوله: "الحج مرة". ومن فوائده: استحباب الزيادة على المرة لقوله: "وما زاد فهو تطوع". * * * 2 - باب المواقيت المواقيت: تعريفها وبيان أقسامها: "المواقيت" جمع ميقات، وأصله من الوقت، ولكن قلبت الواو ياء؛ لأنه كبير ما قبلها فأصل الميقات مؤقات، لكن لأنها وقعت ساكنة بعد كسر وجب أن تقلب ياء، فيقال: ميقات، والميقات يطلق على الزمن ويطلق على الحل، فيقال: "قت كذا؛ أي: حدد. المواقيت تنقسم إلى قسمين: مواقيت مكانية، ومواقيت زمنية، أما المواقيت المكانية فإنها تكون للحج والعمرة، وأما الزمنية فهي للحج فقط، أما العمرة فلا زمن لها في أي وقت شئت من العام تعتمر، لكن الحج له مواقيت زمنية لقوله تعالى: {الحج أشهر معلومت} [البقرة: 197]. وهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة هذا القول الراجح وإن كان المشهور من المذهب أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، لكن الصواب أن شهر ذي الحجة كله من زمن الحج؛ لأن الأصل في الجمع أن يكون عامًا وشاملًا لكل ما يدل عليه. المواقيت المكانية خمسة تستمع إليها في حديث ابن عباس الآتي: 687 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة: ذا الخليفة، الشام: الجحفة، ولأهل نجدٍ: قرن المنازل، ولأهل اليمن: يلملم، هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غيرهنَّ ممَّن أراد الحجَّ والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيت أنشأ، حتَّى أهل مكة من مكة" (). متَّفقٌ عليه. قوله: "وقَّت" أي: حدد وجعله مكانًا لوقت إحرامهم، "ذا الحليفة"، أي: صاحب الحليفة، والحليفة تصغير حلفة، والحلفة هي شجرة معروفة ف ميت به لكثرته فيها، وهي مكان يبعد عن

مكة نحو عشرة أميال، وعن المدينة نحو ستة أو تسعة أميال، "ولأهل الشام الجحفة"، أهل الشام: كل من كانوا بين المشرق والمغرب من البلاد الشامية المعروفة، الجحفة () قرية اجتحفها السيل ودمرها وهلك أهلها أيضًا بالوباء الذي نزل فيهم حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم الله أن ينقل حمى المدينة إلى الجحفة () لما خربت صار الناس يحرمون بدلها من "رابغ" ()، و"رابغ" أبعد منها عن مكة، وبينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل. قال: "ولأهل نجد قرن المنازل" يعني: وقَّت لهم "قرن المنازل" وهو ما يسمى الآن بالسيل الكبير، وهو معروف لا يزال الناس يحرمون منه إلى الآن، "ووقت لأهل اليمن يلملم" وهو اسم جبل، وقيل: اسم مكان، وهو يسمى الآن السعدية معروف عند أهل اليمن، قرن المنازل ويلملم بين كل واحد منهما وبين مكة نحو مرحلتين. ال: "هنّ لهنّ ولمن أتى عليهن من غيرهن"، "هنّ" الضمير يعود على المواقيت، "لهن" للبلدان، و"لمن أتى عليهن" أي: على المواقيت، "من غيرهن" أي: من غير هذه الأماكن، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت مواقيت لأهل هذه البلدان ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، فمن أتى من أهل نجد من طريق المدينة يحرم من "ذي الحليفة"، ولا نلزمه أن يذهب إلى قرن المنازل، ومن أتى من أهل المدينة من طريق أهل نجد أحرم من قرن المنازل، ولا نلزمه أن يذهب إلى ذي الحليفة، وهذا من تيسير الله عز وجل. قال: "ممن أراد الحج أو العمرة" يعني: هن لهؤلاء، "ممن" يعني: من الذين يريدون الحج أو العمرة، و"أو" هنا مانعة فلا يمتنع أن يقصد الحج والعمرة جميعًا؛ لأن الناس الذين يمرون بالمواقيت منهم من يريد الحج فقط، ومنهم من يريد العمرة فقط، ومنهم من يريد الحج والعمرة. قال: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ"، "من كان دون ذلك" أي: دون هذه المواقيت، "فمن حيث أنشأ" أي: من حيث أنشأ القصد والإرادة، "حتى أهل مكة من مكة" يعني: يحرمون من مكة. 688 - وعن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل العراق ذات عرقٍ" (). رواه أبو داود، والنِّسائي.

689 - وأصله عند مسلم من حديث جابر إلا أن راوية شك في رفعه. "ذات عرق" هي مكان يحاذي قرن المنازل أو يزيد عنه قليلًا، ويسمى عند الناس: الضريبة. 690 - وفي صحيح البخاري: "أن عمر رضي الله عنه هو الذي وقت ذات عرق" وعلى هذا فتكون السنة ثابتة إما عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما عن عمر، وسنة عمر سنة متبعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". 691 - وعند أحمد، وأبي داود، والترمذي: عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق: العقيق" "العقيق" هذا مكان يتصل بذات عرق، فإن هذا الوادي الكبير الذي يسمى وادي العقيق يمر بهذا وبهذا، فالصحيح أنه لا ينافي الحديث الذي ثبت في البخاري وفي مسلم وفي أبو داود من أن ميقات أهل العراق ذات عرق؛ لأن العقيق يمتد ويسمى العقيق ولو كان ممتدًا من ذات عرق إلى مصبه، هذه المواقيت الخمس إنما وقتها النبي صلى الله عليه وسلم رحمة بالخلق؛ لأنه لو وحد الناس على ميقات واحد لكان في ذلك مشقة كبيرة، فمن نعمة الله أن وقتت هذه الأماكن لكل هذه البلدان. فنستفيد من هذا الحديث فوائد: أولًا: ثبوت المواقيت المكانية. ثانيًا: أنها خمس. ثالثًا: اختلافها في البعد والقرب من مكة، قد يقال: إن هذا من الأمور التعبدية التي لا تعلم حكمتها، وقد يقال: إن هناك حكمة في ذلك وهي أما ذي الحليفة فلأنها قريبة من المدينة فكان من المناسب أن يحرم الإنسان من حين أن يخرج من المدينة لتكون أحكام الحرمين أو أحكام المسجدين متقاربة من حن أن يخرج من المدينة وحرمها يدخل فيما يختص بحرم مكة وهو الإحرام هذه المناسبة، الجحفة أبعد من اليمن ويلملم؛ لأنها مهل أهل الشام، والشام فيه أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها فإن كانت هذه الحكمة فالأمر واضح وإن كانت الحكمة وراء ذلك فالله أعلم.

ومن فوائد الحديث: ثبوت آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه وقت هذه المواقيت قبل أن تفتح هذه البلدان، وهذا إشارة إلى أنها سوف تفتح وسوف يحج أهلها وهذه مواقيتها. ومن فوائد الحديث: أن من مر بهذه المواقيت من غير أهلها وجب عليه الإحرام منها ولا يجوز أن يتعداها إلى ميقاته الأصلي، فلو أن الشامي مر بالمدينة وقال: أنا سوف أوجل الإحرام إلى ميقاتي الأصلي وهو الجحفة. قلنا له: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "ولمن أتى عليهن من غير أهلهن"، فأنت الآن مررت بميقات سابق فيجب عليك أن تحرم منه وهذا هو رأي الجمهور، وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أنه يجوز للشامي أن يؤخر الميقات إذا مر بذي الحليفة ويحرم من الجحفة وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن الصواب مع الجمهور في هذه المسألة، وأن الإنسان إذا مر بالميقات يريد الحج والعمرة وجب عليه أن يحرم ولا يتجاوزه. أما عن تجاوز هذه المواقيت لا يريد حجًا ولا عمرة ثم بدا له بعد تجاوزها أن يحج أو يعتمر فإنه لا يلزمه الرجوع، وإنما يحرم من حيث أنشأ النية، أما ميقات أهل مكة بل من كان في مكة فميقاته من مكة لقوله: "حتى أهل مكة من مكة"، وهذا في الحج ظاهر وواضح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم أهل مكة حين أراد الإحرام بالحج أن يخرجوا إلى الحل ولم يلزم الصحابة الذين حلوا أن يخرجوا إلى الحل، بل أحرموا من مكانهم. فإن قلت: هل يشمل هذا العمرة؟ قلنا: قد قيل به، وإن من أراد العمرة من أهل مكة، يحرم من مكة ولكن هذا قول ضعيف؛ لأن هذا العموم خصص بحديث عائشة وبالمعنى أيضًا، أما تخصيصه بحديث عائشة فلأن عائشة لما أرادت أن تحرم وهي في مكة أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تخرج من الحرم فتهل بعمرة، وهذا يدل على أن مكة ليست ميقاتًا للإهلال بالعمرة؛ إذ لو كان كذلك لم يكلفها النبي صلى الله عليه وسلم أن تخرج في الليل من مكة إلى التنعيم لتحرم منه؛ لأننا نعلم أن دين الله تعالى يسر، وأن اليسر في هذه الحال أن تحرم من مكة، فلما لم يكن ذلك علم أن مكة ليست ميقاتًا للعمرة. فإن قال قائل: عائشة ليست من أهل مكة فالجواب: أن من لم يكن من أهل مكة إذا أراد النسك فحكمه حكم أهل مكة، بدليل أن الصحابة الذين أحرموا بالحج بعد أن حلوا من العمرة أحرموا من مكة كأهل مكة ولم يحرموا من الحل، وحينئذ لا فق فيمن كان بمكة بين أن يكون من أهلها الأصليين أو من الآفاقيين، أما من حديث المعنى: فإن العمرة معناها الزيارة، والزيارة لا تكون من المكان إلى المكان بل تكون من مكان إلى مكان آخر، وهذا لا يتحقق إلا إذا جاء الإنسان بالعمرة من خارج الحرم،

3 - باب وجوه الإحرام وصفته

ويشير إلى هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن أبي بكر: "أخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة" بهذا اللفظ في الصحيح، وهذا يدل على أن الحرم ليس مكانًا للإحرام للعمرة؛ ولأنه ما من نسك يطوف فيه الإنسان الكعبة إلا وقد جمع بين الحل والحرم؛ لأن الحج أهل مكة يحرمون من مكة، ولكن لا يطوفون بالبيت حتى يأتوا من الحل، أين الحل؟ عرفة، فلا يمكن لأحد أن يطوف بالبيت طواف نسك إلا وقد قدم إليه من الحل هذه قاعدة، ففي العمرة معروف، وفي الحج لا يطوف طواف الإفاضة إلا بعد الوقوف بعرفة، ولو طاف الإفاضة قبل الوقوف بعرفة ما صح، الآن عرفنا أن الدليل السمعي والنظري يدلان على أن أهل مكة يحرمون للعمرة من الحل من خارج الحرم وهو كذلك. ومن فوائد الحديث: منقبة عمر رضي الله عنه، وذلك بتوفيقه للصواب، حيث وقت لأهل العراق ذات عرق فوقع توقيته موافقًا لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وقتها لأهل العراق وهو لم يعلم، توقيت ذات عرق من عمر جاءت باعتبارها حذو قرن المنازل، فيستفاد منه فائدة: أن من لم يمر بالميقات فإنه يحرم إذا حاذى الميقات سواء كان من البر أو الجو أو البحر. هل تكلم العلماء على الطائرات؟ شيخ الإسلام رحمه الله كان يتكلم على أهل الشعوذة الذين يلعبون على الناس بأن الله تعالى يعطيهم كرامات أنهم يكونوا في بلادهم في اليوم الثامن من ذي الحجة ثم يقفون بعرفة ويشاهدون بعرفة، يقول رحمه الله: إن الشياطين تحملهم، ولكن ذكر من جملة ما يفرطون فيه أنهم يحاذون الميقات ولا يحرمون منه لأن الشياطين تطير بهم؛ إذن صار للطائرات أصل في كلام أهل العلم، على كل حال: نحن عندنا -والحمد لله- من سنة عمر اعتبار المحاذاة شرعيًا تثبت به الأحكام الشرعية. *** 3 - باب وجوه الإحرام وصفته "وجوه" يعني: أنواع الإحرام، "وصفته": كل نوع، الإحرام له ثلاثة أنواع كما سيأتي في الحديث القادم وهو قوله: 692 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى لله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بعمرة فحل عند قدومه، وأما من أهل بحج، أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر". متفق عليه.

إذن الأقسام ثلاثة: "منا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بعمرة وحج، ومنا من أهل بحج، فهذه ثلاثة أنواع الذين أهلوا بعمرة تقول رضي الله عنها: "فحل عند قدومه"، وأما من أحل بحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر، هذه بيان الإحرام وصفته: الذين يهلون بعمرة يحلون إذا قدموا، يعني: بعد الطواف والسعي والتقصير، يحلون إحلالًا كاملًا، فإن الصحابة لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتحلل قالوا: الحل كله؟ قال: "الحل كله"، يحل فيه جميع محظورات الإحرام حتى النساء، هؤلاء الذين يحرمون بعمرة يطوفون ويسعون ويقصرون ويحلون إحلالًا كاملًا، ويسمى هذا النوع تمتعًا؛ لأن الرجل تمتع بالعمرة إلى الحج، يعني: تمتع بالعمرة لما أحل منها حصل له التمتع بما أحل الله له بإحلاله، يتمتع بماذا؟ بكل المحظورات باللبس، والطيب، والتنظيف بأخذ الشعر، وكذلك بالنساء وغير ذلك، "بعمرة": أي بسببها إلى الحج، هذا هو التمتع، وهذا أفضل الأنساك إلا من ساق الهدي، فإن القرآن في حقه أفضل، من أهل بعمرة وحج فإنه إذا وصل مكة طاف وسعى ولم يحل، يبقى على إحرامه لا يحل إذا كان يوم العيد حل مع الذين يحلون من المتمتعين، يعني: لا يحل إلا بعد جمرة العقبة والحلق أو التقصير، من أهل بحج فكمن أهل بعمرة وحج كالقارن، يعني: إذا قدم مكة طاف وسعى وبقى على إحرامه حتى جمرة العقبة يوم العيد ويحلق أو يقصر، فصارت الأنواع ثلاثة: التمتع، والقرآن، والإفراد، التمتع صفته: أن يحرم الإنسان من الميقات بالعمرة، فإذا وصل مكة طاف وسعى وقصر وحل، فإذا كان اليوم الثامن أحرم بالحج، القرآن والإفراد يحرم من الميقات، وإذا وصل إلى مكة طاف وسعى ولم يقصر، بل بقى على إحرامه إلى يوم العيد إلى أن يرمي جمرة العقبة ويحلق أو يقصر. بيان الأفضل من أقسام الحج الثلاثة: الآن نقول: أيهما أفضل؟ نقول: التمتع أفضل إلا لمن ساق الهدي، فالقرآن أفضل لتعذر التمتع في حقه، لأنه لا يمكن أن يحل، التمتع عرفتموه، فهو أفضل، الدليل أولًا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أصحابه وحتم عليهم حتى غضب لما توانوا في تنفيذ ذلك. ثانيًا: أنه أيسر للمكلف، وما كان أيسر للمكلف فهو أحب إلى الله: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة"، كما روى في الحديث و"إن الدين يسر" كما صح به الحديث.

ثالثًا: أنه أكثر عملًا، فإن الإنسان يأتي فيه بعمرة تامة وبحج تام، فيطوف طواف العمرة ويسعى ويطوف طواف الحج ويسعى، خلافًا لمن قال: إن المتمتع يكفيه السعي الأول سعي العمرة، فإن هذا قول ضعيف جدًا، ولا يصح من حيث الدليل، ولا من حيث التعليل، أما من حديث الدليل فإنه قد صح في البخاري وغيره من حديث ابن عباس وعائشة -رضي الله عنهم- أن الذين حلوا من إحرامهم طافوا بين الصفا والمروة طوافين، يعني: أنهم طافوا مرتين وسعوا سعيين، وأما من حيث المعنى: فلأن العمرة انفصلت عن الحج انفصالًا تامًا حتى إنه يفعل بينهما كل ما يفعل في حال الحل وهذا انفصال تام، فكيف يقال: إن جزءًا من العمرة يكون مجزئًا عن جزء من الحج. رابعًا: أن الله تعالى أوجب على الإنسان أن يطوف بالصفا والمروة في الحج والعمرة فقال: {فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. إذن الحج لابد فيه من سعي والعمرة لابد فيها من سعي، وأما حديث جابر الذي اعتمد عليه من قال: إنه يكفيه سعي واحد وهو ما رواه مسلم أنه قال رضي الله عنه: "لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بالصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا طوافه الأول"، فهذا الجواب عنه سهل جدًا يقال: المراد بأصحابه الذين كانوا مثله وهم القارنون، ومعلوم أن القارن يكفيه سعي واحد، ولا يمكن أن يراد به كل أصحابه وذلك لحديث ابن عباس وعائشة -رضي الله عنهم- وللمعنى الذي أشرنا إليه، وكذلك من استدل بقوله: "دخلت العمرة في الحج وشبك بين أصابعه"، فهم أنفسهم لا يقولون بمقتضى ظاهر الحديث، لو أخذنا بمقتضى ظاهر الحديث لقلنا أيضًا: يكفيه طواف العمرة عن طواف الحج ولا قائل به وإنما دخلت العمرة في الحج، أي: أن الحج كما يكون في هذه الأشهر كذلك العمرة، وكذلك ما ثبت للحج من أحكام ثبت للعمرة إلا ما دل عليه الدليل، فإن العمرة دخلت في الحج فهي حج كما جاء في الحديث المرسل الذي تلقته الأمة بالقبول قل الرسول صلى الله عليه وسلم: "والعمرة حج أصغر". أما القرآن فله صفة متفق عليها، وهي أن يحرم بالعمرة والحج جميعًا فيقول: لبيك عمرة وحجًا، فإذا قال من الميقات: لبيك عمرة وحجًا؛ فإذا قال من الميقات: لبيك عمرة وحجًا فهو قارن، وسبق أن صفة القرآن أنه إذا وصل مكة طاف وسعى وبقي على إحرامه إلى يوم العيد فيرمي جمرة العقبة ويحلق أو يقصر ويحل التحلل الأول. الصفة الثانية للقرآن: أن يحرم بالعمرة ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في الطواف،

وهذا وقع لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين أحرمت بالعمرة فحاضت فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج، وقال: "طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجتك وعمرتك"، فهنا أحرمت أولًا بالعمرة ثم أدخلت الحج عليها -على العمرة- قبل الشروع في الطواف، وهل هذه الصفة مشروطة بالضرورة، أو جائزة في حال الاختيار؟ المشهور من مذهب أحمد أنها جائزة حتى في حال الاختيار. الصفة الثالثة: أن يحرم بالحج أولًا ثم يدخل العمرة عليه، يعني يقول: "لبيك حجة" من الميقات ثم يبدو له فيدخل العمرة عليه فيقول: "لبيك حجة وعمرة"، فهذا فيه خلاف؛ فمن العلماء من أجازه، وقال: لا بأس به، واستدل بظاهر فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قالت عائشة: إنه أحرم بالحج مع أنه أتاه آت وقال له: "قل عمرة في حجة"، فيقولون: إن الجمع بين حديث عائشة والحديث الآخر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج أولًا ثم أدخل العمرة عليه، وقالوا: إن العمرة أحد النسكين، فإذا جاز إدخال الحج عليها جاز إدخالها عليه، وحينئذ تكون الأفعال واحدة. المهم: أن القرآن له ثلاث صور، والمشهور في الصورة الأخيرة من مذهب الحنابلة أنها لا تصح وقالوا إذا أدخل العمرة على الحج فإدخاله لا عبرة به ويبقى على نية الحج. الإفراد له صورة واحدة وهي: أن يحرم بالحج وحده فيقول: "لبيك حجًا"، وإذا وصل مكة طاف وسعى وبقى على إحرامه إلى يوم العيد، ذكرنا أن التمتع كم وجهًا له؟ له أربعة أوجه، قلنا: إلا من ساق الهدي فالقرآن في حقه أفضل لتعذر التمتع في حقه، ولكن هل الأفضل أن يسوق الإنسان الهدي ويقرن، أو الأفضل ألا يسوق ويتمتع؟ في هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: الأفضل ألا يسوق ويتمتع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولأحللت معكم"، ومنهم من قال: بل سوق الهدي والقرآن أفضل؛ لأن هذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأنه أظهر في إظهار الشعائر؛ لأن الإنسان يسوق معه الهدي وهذا لاشك أن فيه من إظهار الشعائر ما ليس فيمن لم يسق الهدي، وأجابوا عن قوله: "لو استقبلت ... " إلخ. أنه قال ذلك من أجل أن يطيب قلوب أصحابه، وأنه يقول: لو علمت أن الأمر سيبلغ منكم ما بلغ حتى يشق عليكم هذه المشقة ما سقت الهدي ولأحللت معكم، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يترك الاختيار مراعاة لأصحابه كما ترك الجهاد صلى الله عليه وسلم في كل سرية مراعاة لأصحابه الذين لا يستطيعون أن يصاحبوه في كل سرية وليس عنده ما يحملهم عليه، فهو لا يحب أن يشق عليهم ولا عنده ما يعلمهم فيخرج به، وكما ترك الصيام مراعاة لأصحابه،

فقالوا: إن قوله: "لو استقبلت من أمري" لهذا المعني، وعندي أن الأقرب إن التمتع أفضل إلا لمن ساق الهدي، فالقرآن أفضل ليجمع بذلك بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله. هذه الأنساك الثلاثة أيها التي يجب فيها الهدي؟ التمتع بالنص والإجماع، قال الله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]. وهذا لا إشكال فيه، القارن كالمتمتع يلزمه الهدي، وهذا قول جمهور أهل العلم، ووجه مشابهته للمتمتع: أنه حصل له نسكان في سفر واحد، فقد تمتع بالعمرة بالترفه بترك أحد السفرين، يقول العلماء: إن القارن تمتع ليس في الحل بين العمرة والحج؛ لأنه ليس عنده حل، ولكن في ترك أحد السفرين؛ لأنه لو أحرم مفردًا لكانت العمرة تتطلب سفرًا آخر، فلما أحرم بهما جميعًا ترفه بترك السفر الثاني للعمرة، فهو مترفه بترك أحد السفرين، وهذا نوع من التمتع، وبهذا أدخله كثير من أهل العلم بنص الآية: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ}، ولهذا قال الإمام أحمد: إن القارن ليس كالمتمتع، يعني: أن وجوب الهدي عليه أمر لا إشكال فيه، إذن القارن عليه الهدي عند جمهور أهل العلم؛ لأنه متمتع بالترفة بترك أحد السفرين، أما المفرد فلا هدي عليه؛ لأنه لا يدخل في التمتع لا لفظًا ولا معنى فلا يجب عليه الهدي. حديث عائشة رضي الله عنها فيه إشكال وهو قولها: "وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج"، قولها: "بالحج"، نقول: ذهب بعض العلماء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردًا بالحج وأخذوا بذلك، وقالوا: الإفراد أفضل من القرآن والتمتع، ولكن الصحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حج قارنًا، قال الإمام أحمد -وهو إمام أهل السنة والحديث-: لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، والمتعة أحب إلي، وثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه ملك وقال له: قل عمرة وحجة أو عمرة في حجة، وهذا لا يمكن أن يقع فيه مخالفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحرم بالحج، فإذا كان الأمر كذلك فما الجواب عن الحديث؟ قال بعض العلماء: إنه لما كان فعل القارن كفعل المفرد ظنت عائشة رضي الله عنها أنه كان مفردًا وهذا ليس بصحيح؛ لأنه يقال: إذا كانت علمت أن بعض الصحابة أحرم بحج وعمرة فكيف تجهل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بحج وعمرة! ! هذا شيء بعيد، ومنهم من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أحرم أولًا بالحج، ثم أدخل العمرة عليه فقالت عائشة: أحرم بالحج باعتبار

ابتداء الإحرام ثم أدخل العمرة عليه، وهذا ينطبق تمامًا على قول من يقول بجواز إدخال العمرة على الحج، أما من لم يقل بذلك فإنهم لا يقرون هذا الجواب. ذكرنا أن الأنساك الثلاثة كلها جائزة إلى يومنا هذا. فإن قلت: كيف تجيب عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة وغضبه حين لم يبادروا بذلك؟ قلنا الجواب على ذلك: ما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سئل عن المتعة أهي عامة أم خاصة؟ قال: "بل هي لنا خاصة" قال شيخ الإسلام: أي أن وجوبها خاص في الصحابة؛ لأنهم لو امتنعوا وصمموا على الامتناع لكان في ذلك مجابهة مع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم حد لمنع هذا التمتع؛ لأنهم لو لم يفعلوا ما فعل الناس فهم أسوة لهم، فلما كان هم الأسوة وكان في امتناعهم مجابهة ومنع للتمتع أو لفسخ الحج لا للتمتع كان غضب الرسول صلى الله عليه وسلم شديدًا كيف يحابيهم ليسن هذه الطريقة لأمته ثم يمتنعون، فالغضب هنا ليس لأن هذا واجب من حيث هو واجب، فغضبه لأنهم تهاونوا في تنفيذ أمره، والفرق بينهم وبين غيرهم ظاهر؛ ولهذا صح عن أبي بكر وعمر وعثمان وأعلام الصحابة -رضي الله عنهم- أن الأنساك الثلاثة كلها جائزة، وتكاد الأمة تجمع على ذلك إلا نفرًا قليلًا من الصحابة ومن بعدهم لا يساوون ولا يسامون من قالوا بالجواز. من فوائد الحديث أولًا: أن الناس مخيرون في الإحرام بين هذه الوجوه الثلاثة، ووجه الدلالة من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك، ثانيًا: أنه ليس هناك أوجه للإحرام سوى ما جاءت به السنة، فلو أراد الإنسان أن يأتي بأوجه سوى ما جاءت به السنة لكان ذلك باطلًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". ومن فوائد الحديث: السعة في الأمور الجائزة، وأنه إذا كانت الأمور كلها جائزة فلا ينبغي أن يعيب أحد على أحد، ومثله حديث أنس حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنا الملبي، ومنا المكبر، ومنا المهلل، ومنها أيضًا أحاديث الصيام أنهم كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا صائم وهذا مفطر، ولا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. ومن فوائد الحديث: أن المتمتع يحل من عمرته إذا قدم، وأنه ينبغي المبادرة بأداء العمرة

4 - باب الإحرام وما يتعلق به

لقولها: "فأما من أهل بعمرة فحل عند قدومه"، وهو كذلك؛ أي: أن الإنسان ينبغي له إذا قدم مكة بنسك عمرة أن يبادر. ومن فوائده أيضًا: أن القارن والمفرد يبقيان على إحرامهما إلى يوم النحر. فيه أيضًا: حجة الوداع متى كانت؟ في السنة العاشرة من الهجرة، وسميت حجة الوداع؛ لأن الرسول أتى بما يشعر بتوديع الناس في تكل الحجة. *** 4 - باب الإحرام وما يتعلق به الإحرام هو نية الدخول في النسك حتى وإن كان على الإنسان ثيابه العادية، فإذا نوى الدخول في النسك فقد أحرم، سواء لبس الثياب الخاصة بالإحرام أم لم يلبس وما يتعلق به -أي: بالإحرام- مما يسن أو يجب. 639 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد". متفق عليه. يعني: مسجد ذي الحليفة، وهو يشير إلى أنه لا ينبغي الإهلال إلا إذا ركب الإنسان، وقد صرح في حديث جابر رضي الله عنه أنه أهل حين استوت به ناقته على البيداء فقال رضي الله عنه: "حتى إذا استوت به على البيداء أهلَّ بالتوحيد لبيك الله لبيك"، وقوله: "أهلَّ} أي: رفع صوته من الإهلال وهو الإظهار، ومنه سمي الهلال؛ لأنه يظهر في السماء. استحباب رفع الصوت بالتلبية: 694 - وعن خلاد بن السائب عن أبيه رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل، فأمرني أن أمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال". رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وابن حبان. هذا كالأول فيه دليل على أنه يستحب رفع الصوت في التلبية؛ لأن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال؛ يعني: بالتلبية، وجبريل هو أحد الملائكة الكرام، والموكل بالوحي.

يستفاد من هذين الحديثين: أنه يسن رفع الصوت بالإهلال، يعني: التلبية. 695 - وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل". رواه الترمذي وحسنه. "تجرد" يعني: من لباسه، و"اغتسل" وهذا الاغتسال مشروع، يغتسل الإنسان عند الإحرام كما يغتسل للجنابة، وهو سنة مؤكدة للرجال والنساء، حتى الحيض وذوات النفاس يسن لهن أن يغتسلن فإن لم يجد الماء أو تعذر عليه استعماله لمرض فهل يتيمم؟ المشهور عند أهل العلم أنه يتيمم قالوا: لأن هذه طهارة مشروعة، فإذا تعذرت عدلنا إلى التيمم كالاغتسال الواجب، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يسن التيمم؛ لأن هذا اغتسال ليس عن جنابة حتى يحتاج الإنسان فيه إلى رفع الحدث إنما هو اغتسال للتنظف والتنشط لهذا العمل، فإذا لم يجد الماء فإنه لا يتيمم، وعلى كل حال: إن يتمم الإنسان احتياطًا فلا بأس، لأنه قال به بعض العلماء. من محظورات الإحرام: 696 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئًا من الثياب مسه الزعفران ولا الورس". متفق عليه، واللفظ لمسلم. "سئل" أي: سأله سائل، وكان هذا السؤال وقع وهو في المدينة قبل أن يخرج إلى الحج، لأنه خرج إلى الحج يوم السبت وقد خطب صلى الله عليه وسلم الناس يوم الجمعة وبين لهم ما يصنعون عند الإحرام. فسأله سئل: "ما يلبس المحرم"، و"ما" هنا استفهامية، يعني: أي شيء يلبسه؟ فقال: "لا يلبس القميص"، والجواب في ظاهره مخالف لصيغة السؤال، لأن السؤال عما يلبس، والجواب عما لا يلبس، لو كان السؤال ما الذي لا يلبسه المحرم فقال: لا يلبس القميص صار الجواب مطابقًا للسؤال في صيغته، لكن السؤال عما يلبس فأجيب بما لا يلبس، فنقول إن الجواب وإن خالف السؤال في صيغته لكنه موافق له في المعنى؛ لأن حصر ما لا يلبس يفيد ما يلبس، كأنه قال: يلبس ما سوى ذلك، لكنه ذكر ما لا يلبس، لأنه أقل من الذي يلبس، فالذي يلبس واسع، كل شيء يلبسه إلا هذه الخمسة، وعلى هذا فيكون الجواب مطابقًا للسؤال مع الاختصار، ووجه المطابقة: أن من علم ما لا يلبس فقد علم ما يلبس وهو ما عداه.

"لا يلبس القميص" ما هو القميص؟ الثوب ثيابنا هذه هي القميص، "ولا العمائم" القميص على البدن والعمائم على الرأس، "ولا السراويلات" على جزء من البدن، "ولا البرانس" على كل البدن لأن البرانس ثياب لها قبع متصل بها ليغطى به الرأس، ولعلكم تشاهدونه في المغاربة الذين يأتون إلى الحج، "ولا الخفاف" لباس الرجل، ثم استثنى -عليه الصلاة والسلام-. تأمل المحظورات الآن خمسة التي لا تلبس ما عداها يلبس إلا ما كان بمعناها فإن الشرع لا يفرق بين متماثلين فما كان بمعناها فله حكمها، "القميص" ما الذي بمعناه؟ الفانيلة قريبة من القميص، الزبون قريب من القميص، وما أشبه ذلك، "العمائم" نظيرها الغترة، "السراويلات" معروفة، لكن السراويل ظاهر الحديث العموم وأنه لا فرق بين السراويلات ذوات الأكمام الطويلة أو القصيرة، "البرانس" يمكن أن نقول: أقرب شيء لها المشلح، "الخفاف" مثلها الجوارب، لأنه لا فرق، والجوارب هي الشراب، ما عدا ذلك فهو حلال، فلننظر الآن هل يلبس الساعة؟ نعم؛ لأنها لا تدخل في هذا ولا في معناه، هل يلبس النظارة؟ نعم، يلبس سماعة الأذن، يلبس الخاتم، يلبس الكمار، يلبس العلاقية التي يكون فيها الحوائج، إذن كل شيء يلبسه إلا ما كان بمعنى هذه الأشياء. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين"، "إلا أحد" يعني: من الرجال لا يجد النعلين فليلبس الخفين، وإذا قيل: "لا يجد كذا" فالمراد: لا يجده بعينه ولا يجد ما يحصل به؛ يعني: فإذا كان ليس عنده نعال، لكن عنده دراهم يشتري نعالًا نقول: اشتر نعالًا، فإذا كان معه دراهم ولا يجد نعالًا يشتريها فليلبس الخفين، لكن هنا قال: "وليقطعهما أسفل من الكعبين" يعني: يقطع الخفين حتى تكون أسفل من الكعبين لئلا تكون خفًا كاملًا. ولكن هذا الحديث قلت: إنه قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة قبل أن يخرج إلى الحج، وفي حديث ابن عباس وليت المؤلف ذكره رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عرفة فقال: "من لم يجد نعلين فللبس الخفين، ومن لم يجد أزارًا فليلبس السراويل"، وأطلق، وهذا يدل على أن الحكم الأول نسخ؛ لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مجمع أكبر من مجمع المدينة وفي زمن متأخر، والذين سمعوه يوم عرفة ليس كلهم سمعوه في المدينة وسيأخذون الحديث على إطلاقه بدون أمر بقطع، ولو كان القطع واجبًا لكان بيانه في عرفة واجبًا، لأن الناس سيأخذونه على الإطلاق، وهذا القول هو الصحيح على ما في القطع من إضاعة المال؛ لأنه لما جاء ما يدل على النسخ صار قطعه إضاعة للمال، ولهذا حرم بعض العلماء قطع الخف وقال إنه لما نسخ كان في قطعه إفساد وهو إضاعة للمال.

يقول: "ولا تلبسوا شيئًا من الثياب مسه الزعفران ولا الورس" للونه أو لريحه؟ لهما جميعًا؛ لأن الرسول نهى الرجال عن لبس المعصفر، والذي مسه الزعفران يكون أصفر لكن إذا كان لبخة ما تشم الثوب كله فإنه يكون النهي عنه من أجل أنه طيب؛ لأن المعصفر إنما يكره إذا كان الثوب كله أصفر، قال: "ولا الورس" ما هو" قال العلماء: إن الورس نبت في اليمن طيب الرائحة، فتكون العلة في النهي عن الثوب الذي مسه الزعفران أو الورس هي الرائحة، كأنه قال: لا تلبسوا ثوبًا مسه طيب، وظاهر الحديث أننا لا نلبس الثوب الذي مسه الطيب سواء لبسناه قبل أن نحرم وأحرمنا أو بعد أن نحرم، وهذا هو الظاهر؛ ولهذا اختلف العلماء في ارتداء المطيب هل يلبسه المحرم أو لا، أما بعد إحرامه فلاشك أنه لا يلبسه، وأما قبل إحرامه فالمشهور من المذهب أنه مكروه أن يحرم الإنسان في ثوب مطيب، وقال بعض العلماء: إنه حرام ولا يجوز أن يحرم بثوب مطيب، وهذا هو ظاهر الحديث، وعلى هذا فلا تطيب ثياب الإحرام لا بالبخور ولا بالدهن ولا يغيرها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تلبسوا ثوبًا مسه الزعفران أو الورس". خطأ شائع والرد عليه: هذا الحديث عبر عنه بعض العلماء فقالوا: "لا يلبس المحرم المخيط"، وقد قيل: إن أول من نطق بهذا إبراهيم النخعي على ما أظن، وإبراهيم النخعي من التابعين، فهذه الكلمة ليست معروفة عند الصحابة، لكن ذكرت أخيرًا فقيل: لا يلبس المخيط، وهذا التعبير في الواقع أولًا أنه لا يؤخذ على عمومه، فإن من المخيط ما يلبس كما لو لبس رداء مرقعًا؛ أي: رداء مكون من أربع قطع فهذا مخيط، وكذلك إزار مرقع فهو مخيط، ومع ذلك فإنه يجوز أن يلبس رداء مرقعًا وإزارًا مرقعًا مع أن فيه خياطة، ثانيًا نقول: كلمة مخيط توهم أن كل ما فيه الخياطة فهو حرام، ولهذا يسأل العوام كثيرًا عن النعال المخروزة ويقول: كيف نلبس نعلًا مخروزة وهي فيها خياطة؟ فنقول: هذا الذي يريده العلماء غير الذي تفهمونه أنتم، هم يريدون الثياب المفصل على البدن سواء مخيط أو منسوج ولا يريدون ما فيه الخياطة؛ ولذلك أباحوا -رحمهم الله- النعال وأباحوا الشيء الذي يحمل فيه النفقة والمنطقة وما أشبهها مع أنها مخيطة يعني: فيها خياطة؛ ولهذا لو أن الإنسان إذا أتى على ذكر هذا المحظور من محظورات الإحرام ذكر ما جاءه به السنة لكان أولى وأبين وأسلم به؛ لأن كونه يعبر ما جاءت به السنة لاشك أنه لديه حجة أما الله عز وجل، لكن كونه يعبر بلبس المخيط الموهم للناس خلاف ما يراد هذا قد يكون

على خطر أنه يفهم عباد الله أو يأتي بلفظ يوهم ما لا يراد، نعم لو أنه قال: إن المحرم لبس المخيط وشرحه شرحًا وافيًا لسلم. نعود مرة ثانية إلى الحديث يقول: "لا يلبس القميص"، لو استعمل القميص على غير وجه اللبس مثل أن ارتدى به أو ائتزر به فيجوز ذلك؛ ولهذا بعض الناس إذا ركب في الطائرة وكانت إحراماته في العفش قال: ما عندي ثوب إحرام كيف أحرم؟ فأصبر إلى أن أصل إلى جدة وأخرج ثياب الإحرام وأحرم. نقول: هذا خطأ لا يجوز، ويمكنك أن تحرم بثيابك هذه، إن كنت من الذين يلبسون الغتر اجعل الغترة إزارًا واخلع القميص وإن كنت من الناس الذين ليس معهم غترة اجعل الثوب إزارًا اخلع القميص وتلفع به ثم اخلع السروال ويكون القميص إزارًا، لكن المشكل إذا كنت ممن يلبسون البنطلون ولا غترة عليك، نقول: أحرم ويبقى عليك الثوب، انزع البنطلون ويبقى عليك السروال، ولا شيء عليك؛ لأن الرسول يقول: "من لم يجد إزارًا فليلبس السراويل" ولا مانع من أن يبقى عليه البنطلون للحديث أيضًا. بقي عندنا إذا لم يمكن هذا بأي حال من الأحوال مثل ألا يكون معه إلا قميص، وليس على رأسه شيء، وليس معه سروال ماذا يصنع؟ نقول: إذا أمكن أن يحرم به بدون كشف عورة بحيث يدخل مثلًا في حمام الطائرة ويخلعه ويجعله إزارًا فعل وإن لم يمكن نوى الإحرام ولو كان عليه هذا الثوب، والمسألة بسيطة يصوم ثلاثة أيام على رأي أهل العلم أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو يذبح شاة، وسيأتي -إن شاء الله- ذكر الكلام على اللباس المخيط أو لبس هذه الأشياء هل يلزمه فدية إذا لبسها أو لا يلزمه. يستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على العلم والبحث لقوله: "سئل ما يلبس المحرم". ومن فوائده أيضًا: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وأن تعليمه قد بلغ الغاية في الفصاحة؛ لأنه سئل عما يلبس المحرم فأجاب بما لا يلبس، ذلك الجواب المتضمن لبيان ما لا يلبس مع الاختصار. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى جوامع الكلم كما قال صلى الله عليه وسلم: "أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارًا". كيف ذلك؟ لأنه أجاب بجواب بين مفصل مع الاختصار -لو أراد أن يعدد ما يلبسه المحرم يتعب؛ لأن الأشياء أنواع كثيرة التي تلبس سوى هذه الخمسة.

ومنها: تحريم لبس القميص وما عطف عليه على الرجل ومنها: جواز لبس السراويل لمن لم يكن عه إزار. ومنها: جواز لبس الإزار على أي صفة كان لعموم قوله: "ومن لم يجد إزارًا"، وعليه فلو أن الإنسان خاط الإزار بحيث لا يكون مفتوحًا فإن ذلك لا بأس به؛ لأنه لم يزل يسمى إزارًا، والسراويل لها أكمام ليدخل فيها كل رجل وحدها. ومنها: تحريم لبس السراويل القصيرة والطويلة لعموم قوله: "ولا السراويلات". ومنها: يسر الشريعة الإسلامية وسهولتها لقوله: "من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن ثم يجد إزارًا فليلبس السراويل". وهل تقول: ومنها استحباب لبس النعلين للمحرم أو جوازه؟ لماذا لم تقل ذلك؟ لأن الأمر من لم يلبس نعلين فليلبس الخفين؛ لأن هذا من باب ذكر المنع فتكون اللام هنا للإباحة، وإلا فلو أن الإنسان أحرم وهو حافي فلا حرج عليه. ومنها: تحريم لبس المطيب. هل على فعل هذه المحظورات فدية؟ سبق لنا أن من محظورات الإحرام: اللباس سواء كان على الرأس أو البدن أو القدم أو اليد على الرأس كالعمامة، القدم كالخفين، البدن كالقميص والسراويل والبرانس، اليدين كالقفازين، وأن هذا حرام على الرجل وحده إلا القفازين فحرام عليهما جميعًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تلبس المرأة القفازين، وسبق لنا أنه إذا لم يجد نعلين فليلبس الخفين بدون فدية، وإذا لم يجد إزارًا فليلبس السراويل بدون فدية أيضًا، وذهب بعض العلماء إلى أن عليه فدية أيضًا، وذهب بعض العلماء إلى أن عليه فدية إذا لبس السراويل أو الخفين، ولكن لا دليل عليه بل الدليل على خلافه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أباح هذا إباحة مطلقة بدون أن يذكر فدية على أن وجوب الفدية في لباس هذه الأشياء في النفس منه شيء؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حرمها ولم يذكر لها فدية، وسبق لنا أيضًا أنه لا يلبس ثوبًا مسه الزعفران ولا الورس، وهل هو من أجل اللون أو من أجل الرائحة؟ قلنا: يشملهما، ولكن لو فرض أنه لبس ثوبًا مسه طيب بدون لون فهو داخل في النهي؛ لأن العلة هي الطيب. ونكمل فوائد الحديث، فنقول: ومنها: أنه لو خاط فلبس فليس عليه فدية، الدليل: أنه لو كان عليه فدية لبينها الرسول ونحن تتبعنا السنة فلم نجد أن علية فدية في هذه الأشياء، فإن كان هناك إجماع فالدليل هو الإجماع، وإن لم يكن إجماع فالأصل براءة الذمة، ولا تلزم عباد الله ما لم يلزمه الله عز وجل هذا هو الأصل، وهذا هو القاعدة، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن لبس المخيط

جواز استعمال الطيب عند الإحرام

أو هذه المحظورات المذكورة فيها الفدية، وما هي الفدية؟ قالوا: الفدية هي فدية حلق الرأس صيام أو صدقة أو نسك، الصيام كم؟ ثلاثة أيام، والصدقة إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك ذبح شاة توزع على الفقراء، فقالوا: إن هذه الفدية؛ لماذا؟ قالوا: قياسًا على وجوبها في حلق الرأس، والقياس كما تعلمون أنه لابد فيه من أصل وفرع وعلة جامعة وحكم، الحكم متفق على رأي جمهور العلماء بين هذا وبين فدية حلق الرأس، والأصل فدية حلق الرأس، والفرع فدية لبس هذه الأشياء، والعلة الجامعة قالوا هي: "الترفه"؛ لأن حلق شعر الرأس إنما وجبت به الفدية؛ لأنه ترفه بحلقه حيث أزال عنه الأذى؛ وإزالة الأذى ترفه فنحن ننظر هل العلة الترفه وهل الترفه الحاصل يدفع الأذى كالترفه الحاصل بكمال الزينة؛ لأننا قد نمانع في أن العلة في وجوب الفدية في حلق الرأس هي الترفه فإن من الممكن أن يقول قائل: العلة في تحريم حلق الرأس في الإحرام هو أن الرأس يتعلق به نسك، فإن حلق الرأس والتقصير من واجبات الحج والعمرة، ولو أن المحرم حلقه لفات هذا النسك، فكان لزامًا عليه أن يبقيه من أجل أن يتنسك لله تعالى بإزالته حلقًا أو تقصيرًا. ثم نقول: الترفه الحاصل بالحلق ليس كالترفه الحاصل بلبس هذه الثياب، الترفه الحاصل بالحلق من أجل إزالة أذى فهو رفع ضرر أما هذه فالترفه فيها من باب الزينة والسهولة في الملبس ونحو ذلك فافترقتا. ثم نقول: إنه ليس مطلق الترفه موجب للفدية، فها هو المحرم يغتسل ويتبرد ويأكل المأكولات الطيبة ويتفكه في المشارب وفي الملبوسات المباحة وكذلك في المفروشات وغير ذلك ويستظل، وهو نوع من الترفه، فالتعليل بالترفه فيه نظر أيضًا؛ لهذا نقول: إن دل الإجماع على وجوب الفدية في وجوب هذه الأشياء فهو المتبع، وليس لنا أن نخرج عن إجماع المسلمين، وإن لم يدل الإجماع على ذلك فالأصل براءة الذمة وإلحاق هذه بحلق الرأس مع إمكان وجود الفارق فيه نظر. جواز استعمال الطيب عند الإحرام: 697 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت". متفق عليه. ذكر المؤلف رحمه الله هذا الحديث عقب حديث ابن عمر؛ لأن في حديث ابن عمر الإشارة إلى

النهي عن النكاح والخطبة للمحرم

تحريم الطيب على المحرم، وهذا الحديث يدل على جواز استعمال الطيب عند الإحرام، ولازم ذلك أن يبقى الطيب في الإشارة بعد إحرامه، بل صريح ذلك كما جاء في حديث آخر قال: "كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم"، "ويص" بمعنى: البريف واللمعان وهو محرم. فيستفاد من حديث عائشة: أن استدامة الطيب للمحرم ليست حرامًا وهذا صحيح، والعلماء أخذوا من هذا قاعدة وقالوا: إن الاستدامة أقوى من الابتداء، فالطيب للمحرم استدامته جائزة وابتداؤه لا تجوز، الرجعة للمحرم -يعني: إذا راجع زوجته وقد طلقها- جائزة وابتداء عقد النكاح لا يجوز، وهذه القاعدة صحيحة وسليمة. وقول عائشة: "كنت أطيب" يستفاد منه: أنه يجوز للرجل أن يستخدم زوجته في حوائجه الخاصة كالتطيب. وقولها: "ولحله قبل أن يطوف بالبيت" يستفاد منه: أن المحرم يحل في الحج قبل أن يطوف البيت، ولكن هذا الحل هو التحلل الأول أو الأصغر كما يعبر عنه بعض الناس، أما الثاني فلا يكون إلا بعد الطواف والسعي. ويستفاد من الحديث: أنه لا حل قبل الطواف، وأنه لا يحل التحلل الأول برمي جمرة العقبة كما قال به كثير من أهل العلم، فالصواب أنه لا يحل إلا بالرمي والحلق أولًا؛ لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ذكر الحلق ضعيفًا، ولكن يؤيده حديث عائشة هذا فإنها قالت: "ولحله قبل أن يطوف"، ولو كان يحل قبل الحلق لقالت: ولحله قبل أن يحلق. ثانيًا: أننا إذا قلنا: لا تحل إلا بعد الحلق كان ذلك أحوط، فإنه لو أخر الحل إلى ما بعد الحلق لم يقل أحد: إنك آثم، ولو حل قبل أن يحلق لقال له كثير من العلماء: إنك آثم، فيكون هذا أحوط وأبرأ للذمة. ويستفاد من هذا الحديث أيضًا: أنه ينبغي للإنسان أن يتطيب عند حله وهذه سنة، كثير من الناس إما أنه يجهلها أو يفرط فيها. النهي عن النكاح والخطبة للمحرم: 698 - وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب". رواه مسلم. "لا" نافية، لكن النفي هنا بمعنى النهي، ويقع النفي موقع النهي إثباتًا له كأنه قبل: إن هذا

أمر منتف لا جدال فيه، بخلاف ما لو جاء بصيغة فقد يمتثل وقد لا يمتثل، فإتيان الأمر بصيغة الخبر المنفي يكون أثبت وأبلغ. قوله: "لا ينكح المحرم" هل هو الرجل أو المرأة؟ يشمل الرجل والمرأة، فالرجل لا يعقد على امرأة، والمرأة لا يعقد لها على رجل، "ولا ينكح" يعني: ولا ينكح غيره، وهذا يدل على أنه لا يكون وليًا في عقد النكاح، فلو أن الولي كان محرمًا والزوج والزوجة محلين فعقد الولي فهذا حرام لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ولا ينكح". قال: "ولا يخطب"، الخطبة أن يخطب امرأة إلى نفسه فيتزوجها فلا يحل له أن يخطب، أما العقد فلأنه وسيلة قريبة إلى الجماع، وأما الخطبة فلأنها وسيلة إلى العقد فالخطبة وسيلة إلى العقد، والعقد وسيلة إلى الجماع، والجماع معروف أنه محرم، فحرمت هذه الأشياء الثلاثة سدًا للذريعة، وهما ذريعتان أولى وثانية: الخطبة ذريعة أولى، والعقد ذريعة ثانية. ولهذا نقول: هذا الحديث يدل على تحريم هذه الأشياء الثلاثة: النكاح، والإنكاح، والخطبة في حال الإحرام؛ لأنها وسيلة إلى الجماع الذي هو أشد محظورات الإحرام إثمًا وأثرًا، هل نقول: إنه تحرم المباشرة من باب قياس الأولى، أو نقول: إنها حرام بالنص من باب قوله تعال: {فَلا رَفَثَ}؟ الثاني: فالرفث الجماع ومقدمات الجماع، إذ الجماع من المحظورات، والجماع قبل التحلل الأول يترتب عليه خمسة أمور: الإثم، وفساد النسك، ووجوب الاستمرار فيه، والفدية وهي بدنة، والخامس: قضاؤه من العام القادم. هذه خمسة أمور تترتب على الجماع إذا كان قبل التحلل الأولى، وهذه كلها تثبت بآثار عن الصحابة -رضي الله عنهم- وبآثار مرفوعة فيها مقال، لكن يترتب عليه هذه الأمور الخمسة، المباشرة لاشك أنها دون الجماع، ولذلك لا يجب بها حد الزنا، ولا يحرم إنكاح من باشر امرأة بدون زنا فما الواجب فيها؟ قال بعض العلماء: إن أنزل فالواجب فدية ولكن لا تفسد النسك، فدية يعني: بدنة، والصحيح أنه لها يجب بها بدنة، وإنما هي كفدية الأذى بناء على ما قاله جمهور أهل العلم، الإنكاح والنكاح والخطبة هذه الثلاثة حرام؟ نقول: الأصل في النهي التحريم، وعليه فلو تزوج المحرم رجلًا كان أو امرأة فالعقد فاسد، لأن النهي عاد إلى ذات الشيء، والنهي إذا عاد إلى الشيء أو إلى شرطه يقتضي الفساد إذ إننا لو قلنا بصحة المنهي عنه لكان في ذلك مضادة لله ورسوله؛ لأن لازم التصريح النفوذ والنهي يقتضي التحريم، فالذين قالوا: إن الثلاثة حرام، قالوا: لأن مساق الحديث واحد، فلا يمكن أن نفرق بين ثلاثة أشياء جمع الشارع بينها، والذين قالوا: إن الخطبة مكروهة قالوا

إن كونها وسيلة أدنى من كون العقد وسيلة؛ لأن الخطبة وسيلة للعقد؛ فهي وسيلة بالدرجة الأولى فلا تساوي الوسيلة بالدرجة الثانية، فكانت الخطبة مكروهة، وهذا الثاني هو المشهور من المذهب، ولكن القول بأنها حرام هو الأقرب؛ لأن الحديث سياقه واحد والتفريق بين شيئين سياقهما واحد والنهي فيهما واحد، لمجرد علة قد تكون هي العلة الملحوظة للشارع، وقد لا تكون هذا أمر لا ينبغي، فنقول: لا تخطب وأنت محرم، بل أصبر حتى، تحل؛ لأنك لو خطبت الآن لست تعقد. هل على النكاح والإنكاح والخطبة للمحرم فدية؟ الآن نقول: هذه الأشياء حرام هل فيها فدية؟ يقول أهل العلم: إنه لا فدية فيها حتى المشهور من المذهب أن لا فدية فيها، يقولون: لأنه إنما ورد النهي عنها ولم يرد فيها إيجاب الفدية براءة للذمة، وهذا التعليل واضح، لكن يجب أن ينسحب هذا التعليل على جميع المخطورات التي لم ترد فيها فدية حتى لا تتناقض، أما أن نتناقض نقول: هذا فيه فدية وهذا ليس فيه فدية فهذا غير صحيح. قد يقول قائل: عقد النكاح ليس فيه ترفه. نقول: كيف ليس فيه ترفه، هذا الإنسان إذا عقد له النكاح يتضاحك ويسر وهذا من أكبر الترفه، على كل حال يعني: هذا يدلنا على أن الأصل في كل المحظورات إذا لم تقرن بوجوب الفدية من جهة الشارع فما الأصل؟ براءة الذمة. لكن لو قال لك قائل: ألا يمكن أن نعامل الناس بالتربية، ونقول: لنفرض أن المشرع لم يدل على وجوب الفدية، إلا يليق بنا أن نعامل الناس بالتربية، ونقول: ما دام هذا قول جمهور العلماء فلنفت به الناس لئلا يتساهلوا؛ لأنك لو قلت لواحد مثلًا: عليك أن تستغفر الله لما فعلت من المكروه ولا عليك شيء لرأيت كثيرًا من الناس يتساهلون ويقولون: ما دام الأمر "استغفر الله وأتوب إليه" فليس بضار، فلو أن أحدًا سلك هذا المسلك كما سلكه بعض أهل العلم حيث أراد أن يفتي ابنه بشيء فقال: إما أن تفعل وإلا أفتيتك بقول فلان وهو أشد مما أفتاه به. أقول: لو أننا سلكنا هذا المسلك وهو الذي أن أسلكه لكان هذا جيدًا لكن نحن نتكلم فيه باعتبار أن الذين أمامنا طلبة علم، ويجب أن نبين للإنسان ما يراه أنه الحق والفتوى شيء والعلم شيء آخر. إذن من محظورات الإحرام: عقد النكاح وخطبة النكاح، خطبة النكاح تكره أيضًا لكن الأصل

من محظورات الإحرام قتل الصيد

الحل، فلو جاءوا لمأذون شرعي محرم جاء بعمرة وقبل أن يصل إلى البيت قال له أحدهم: اعقد لابنتي فهل يجوز؟ الزوج غير محرم والزوجة غير محرمة وأبوها غير محرم والمأذون محرم المذهب يكره وليس بصحيح، الصحيح: الجواز؛ لأنه ليس فيه دليل على الكراهة، الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل. من محظورات الإحرام قتل الصيد: من محظورات الإحرام: قتل الصيد لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]. فما هو الصيد؟ قال العلماء: الصيد المحرم في الإحرام "هو كل حيوان حلال يري متوحش أصلًا" فقولنا: "كل حيوان حلال خرج به الحرام، فالحرام ليس من الصيد ولا يدخل في محظورات الإحرام، "بري" خرج به البحري، فصيد البحر خلال حتى للمحرم، فلو كنا في سفينة في البحر وحاذينا يلملم وأحرمنا واتجهنا إلى الميناء في جدة وفي طريقنا هذا كنا نصيد الأسماك ونأكل فهذا يجوز؟ نعم، لماذا؟ لأن الصيد ليس بريًا، والله يقول: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ ولِلسَّيَّارَةِ وحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]. إذن يجوز، "متوحش" احترازًا من غير المتوحش، عندنا حيوان يرى غير متوحش مثل الدجاج والغنم والإبل والبقر كثير من هذه برية، إذن هي حلال؛ لأنها غير موحشة، قولنا: "أصلًا" احترازًا من المتوحش توحشًا عارضًا، مثل لو هربت ناقة فلا تمسك فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه الإبل أو النعم أوابد كأوابد الوحش"، ويوجد البربري -الأسترالي- وهو يتوحش إذا أطلقته لا تقدر تمسكه، هذا متوحش أصلًا أو عابرًا؟ عابرًا، أمسكنا هذا الأسترالي ونحن محرمون نذبحه؟ نعم، إذن هو ليس من الصيد المحرم على المحرم؛ لأن المحرم صيده على المحرم هو المتوحش، لو كان غير متوحش عارضًا كالغزال والأرنب والحمام، الأرانب فيها أنواع ليست متوحشة، الغزال كذلك، الحمام كذلك، لكن نقول: هذا حرام على المحرم، كيف يكون حرامًا على المحرم وهو يمسكه مثل ما يمسك الدجاج ويمسك الأشياء الأخرى؟ نقول: أصله متوحش، فلهو أن إنسانًا ربى حمامه وأحرم بحج أو عمرة لا يجوز له أن يذبحها لتفرض أن أحدًا في الشرائع -منطقة قبل حدود الحرم- قدم من الطائف وأحرم من السيل ومر بيته في الشرائع وقال لأهله: أريد اليوم أن آكل حمامًا في الغداء هل يجوز أن يذبحوا له حمامًا يأكله؟ لا يجوز، لماذا؟ لأنها متوحشة أصلًا، أو عنده غزال -ظبي- قال: نريد اليوم أن نذبحه -الظبي- وهو محرم هل يجوز؟ لا، عرفنا الآن ما هو الصيد الذي يحرم على المحرم وهو كل حيوان حلال بري متوحش أصلًا هذا حرام.

699 - وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في قصة صيده الحمار الوحشي، وهو غير محرم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وكانوا محرمين: "هل منكم أحد أمره أو أشار إليه لشيء؟ قالوا: لا. قال: فكلوا ما بقى من لحمه". متفق عليه. قوله: "الوحشي" احترازًا من الحمار الأهلي، الحمار الأهلي كان حلالًا في أول الإسلام ثم حرم عام خيبر في السنة السادسة من الهجرة، يركب الإنسان على حماره وإذا جاع ذبحه وأكله، لكن -الحمد لله- حرمه الله؛ لأنه رجس، الحمار الوحشي صيد ما يمكن يمسك. أبو قتادة رضي الله عنه خرج عام الحديبية من المدينة ولم يرد الإحرام، ما أراد العمرة وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جماعة معه إلى سيف البحر، فصاد حمارًا وحشيًا يقول فيه: قال رسول الله لأصحابه وكانوا محرمين: هل منكم أحد أشار إليه؟ فقالوا: لا، فلم يشر أحد إليه، بل رمحه سقط، وقال: ناولوني الرمح ولم يناولوه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فكلوا ما بقي من لحمه" وكأنهم أكلوا في الأول ثم صار في نفوسهم شك ثم استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم. إذا قال قائل: كيف يأكلون منه وهم محرمون؟ نقول: لأن الذي صاده غير محرم فتذكيته حلال وهم ما صادوا، وإنما أكلوا لحم صيد، والحرام على المحرم الصيد، أما نفس الصيد إذا لم يصده ولم يكن منه معونة على صيده ولم يصد لأجله فهو حلال له، ثم انظر للحديث الثاني. 700 - وعن الصعب بن جثامة الليثي رضي لله عنه: "أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا، وهو بالأبواء -أو بوذان- فرده عليه، وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم". متفق عليه. الصعب بن جثامة رضي الله عليه كان رجلًا ضيافًا كريمًا، وكان عداء سبوقًا بصيد الحمر، لما نزل به الرسول صلى الله عليه وسلم -وأكرم به من ضيف- ما وجد أحدًا أكرم منه ضيفًا فذهب يصيد له فأصاب حمارًا وحشيًا وصاده وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رده، فلما رده على الصعب وقد جاء به إكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أن هذا أمر كبير، ويا له من أمر رسول الله يرد هديته وضيافته فتغير وجهه رضي الله عنه، فلما رأى ما في وجهه اعتذر إليه -صلوات الله وسلامه عليه- وقال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم"، بين له السبب فزال ما في نفسه، وكان هذا القول الذي قيل له كأنه ماء بارد على جسم حار فاطمأن واستراح؛ لأنه لما أخبره أن السبب سبب شرعي لا احتقارًا لما ما قام به الصعب ولا شبهة فيه، لكن لأنهم كانوا محرمين، فهنا الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأكل، وقال لأصحاب أبي قتادة: "كلوا" فكيف نجمع بين الحديثين؟ قال بعض العلماء: إن

حديث الصعب ناسخ لحديث أبي قتادة؛ لأن حديث الصعب كان في حجة الوداع، وحديث أبي قتادة في عمرة الحديبية وبينهما أربع سنوات، ومعلوم أنه إذا تعارض حديثان ولم يمكن الجمع بينهما فإننا نعدل إلى النسخ، والنسخ هنا محقق؛ لأنه متأخر، والجمع على هذا القول متعذر، فيقولون: إذن إذا أهدى للمحرم لحم صيد حرم عليه مطلقًا قالوا: ويؤيد قولنا أن الله قال: {وحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]. والصيد هنا بلا شك بمعنى المصيد وليس اسم مصدر أو مصدر صاد بصيد صيدًا، لا يصح أن يكون مصدرًا لماذا؟ لأن البر لا يصاد، لو قلنا: حرم عليكم صيد البر ما استقام إذا جعلنا البر مصدرًا إذ إن البر لا يصاد، فالصيد هنا بمعنى المصيد اسم مفعول بمعنى مصيد البر حرم عليكم، وظاهره أنه حرام على المحرم سواء صاده أم لم يصده، فقالوا: إذن نأخذ بحديث الصعب بن جثامة؛ لأنه متأخر فيكون ناسخًا؛ ولأنه متأخر فيكون ناسخًا؛ ولأنه يقويه ظاهر القرآن، وعلى هذا فإذا جاءنا رجل ونحن محرمون بلحم أرنب أو غزالة أو حمامة وإن كان لم يصده من أجلنا فإننا نرده ونبين له السبب كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يمكن أن نقول بالنسخ مع إمكان الجمع، وإمكان الجمع هنا حاصل مؤيد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم"، فكيف إمكانه؟ بأن يحمل حديث الصعب بن جثامة بأنه صاده للرسول صلى الله عليه وسلم، وأما حديث أبي قتادة فقد صاده أبو قتادة لنفسه، وهذا جمع حسن، ويؤيده حديث جابر: "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم"، وإذا أمكن المع وجب الرجوع إليه؛ لأن به العمل بكلا الدليلين. إذن يستفاد من هذين الحديثين عدة فوائد: الأولى: جواز أكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولم يكن له أثر في صيده لحديث أبي قتادة. ثانيًا: ورع الصحابة -رضي الله عنهم- ثالثًا: جواز تجاوز الميقات بلا إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة لحديث أبي قتادة رضي الله عنه. رابعًا: وجوب الاستفصال عند الفتوى إذا كان المقام يحتمله لقوله: "هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ "، إن الوسائل لها أحكام المقاصد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الإشارة كالفعل في تحريم الأكل.

وأما الحديث الثاني فيستفاد منه: محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإكرامهم له لحديث الصعب بن جثامة. ويستفاد منه: حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم حيث اعتذر عنه رده. ويستفاد منه: أنه لا يمكن أن يستهان بأمر الله ورسوله مجاملة لأحد؛ لأن الرسول لم يجامل الصعب، بل رده مع ثقله عليه واعتذر له، فلو أن أحدًا أراد أن يجامل شخصًا في أمر محرم فالمجاملة هنا حرام، لكن هل يجامله لأمر يتضرر هو بنفسه لا تضررًا شرعيًا مثل رجل شبعان ومر على شخص هذا الشخص عنده حيس-الجشط: وهو تمر فيه سمن ودقيق -وهو شبعان ومر عليه وأتى له بقدر جشط وقال: تفضل، إن أكل مجاملة يمكن أن يتضرر؛ لأنه شبعان، وإن تركه قد يغضب الثاني، فهل الأولى أن يأكل مجاملة لصاحبه، أو الأولى ألا يأكل ويخبره؟ الثاني أولى، وقد مر علينا أن شيخ الإسلام يقول: إنه إذا كان يخشى أن يتضرر أو يتأذى بالطعام فإنه يحرم عليه. ومن مجموع الحديثين يستفاد: أن الصيد لا يحرم على المحرم إلا إذا صيد من أجله أو كان له أثر في صيده، هل في الصيد جزاء؟ نعم فيه جزاء بينه الله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأَنتُمْ حُرُمٌ ومَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]. قال أهل العلم: فإذا كان الصيد له مثل كالنعامة مثلًا مثليتها البعير يشبهها له عنق طويل وأرجل طويلة، فإذا قتل المحرم نعامة وجب عليه بعير، إذ قال: لا يوجد إبل الآن أو ما أريد أن أذبح وأتعب: قلنا: قدر البعير على قول بعض العلماء أو قدر النعامة على القول الآخر، كم تساوى؟ قال: مائة ريال اشتر بمائة ريال طعامًا ووزعه على الفقراء على كل مسكين نصف صاع. قال: لا أريد أن أتعب، قلنا: إذن قدر مقدار الطعام لكل مسكين، قال: عندنا مثلا إذا اشترينا مائة صاع والصاع أربعة أمداد إذن أربعمائة يوم فصم أربعمائة يوم: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}، عن كل مسكين يوم، إن قال: ما أٌدر تعذر كل شيء. قلنا: تسقط عنك؛ لأن الواجبات تسقط بالعجز عنها إذا لم يكن لها بدال، المهم: أنه يخير بين ذبح المثل أو طعام يقابل إما الصيد وإما المثل على خلاف، فإن لم يفعل صام عن إطعام كل مسكين يومًا وليس بالخيار.

ما يجوز للمحرم قتله

ما يجوز للمحرم قتله: 701 - وعن عائشة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الواب كلهن فواسق، يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحداة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور". متفق عليه. "فواسق" جمع فاسقة؛ أي: كلهن مجبولات على العدوان والإجرام، قال: "يقتلن في الحل والحرم"، وهذا خبر بمعنى الأمر؛ يعني: أنه يشرع قتلهن في الحل والحرم. "العقرب" وهي معروفة وأذيتها واضحة؛ لأنها تلسع وتفرز سمًا ضارًا، ومثلها ما كان مثلها أو أولى كالعقربان، وهو يمكن أن يكون أشد منها أيضًا والحية وغير ذلك من ذوات السموم، يعني: يلحق بها كل ذوات السموم. "الحداة" قال العلماء: إن الغراب غرابان: غراب يسمى غراب الزرع وهو أسود مثل الحمامة لا يؤذي فهو كغيره من الطيور؛ فهذا لا يقتل إلا من قتله على أنه صيد يأكله، وغراب آخر غراب خبيث يقطع أغصان الأشجار وينقب دبر الإبل ويؤذي، حتى إنه أحيانًا يأتي النخل ويقص شماريخها قصًا؛ هذا يقتل في الحل والحرم. "الفأرة" معروفة يأكل الكتب ويلوثها ببغره، ويسرق الذهب أيضًا، وهو مغرم به أيضًا، وينقب الجدار، المهم له أذيات متعددة فيقتل. وقال -عليه الصلاة والسلام-: "الكلب العقور" سواء كان أسود أو غير أسود؛ لن الكلب الأسود يقتل مطلقًا، وغير الأسود يقتل إن كان عقورًا، يعني: إن طبيعته العقر سواء كان يعقر الآدميين أو البهائم؛ لأنه مؤذ، قال أهل العلم: والتنبيه بهذه الأمثلة يدل على أن ما كان مثلها فهو مثلها في الكم، وما كان أشد منها فهو أولى منها بالحكم ولهذا أخذوا قاعدة من ذلك فقالوا: يسن قتل كل مؤذ. وجاء المؤلف رحمه الله بهذا الحديث بعد حديث الصعب بن جثامة وأبي قتادة ليبين أن محرم الأكل لا يتعلق به حكم الصيد. فائدة: أقسام الدواب من حيث القتل وعدمه: إذن نقول: هذه الخمسة وما كان بمعناها يؤمر بقتلها، فلننظر تتميمًا للفائدة: كم أقسام

حكم الحجامة للمحرم

الدواب من حيث القتل وعدم القتل؟ قال العلماء: إنها من حيث القتل وعدمه تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم أمر بقتله، وقسم نهي عن قتله، وقسم سكت عنه، فالذي أمر بقتله نقتله، وذلك مثل هذه الخمسة، ومثل الوزغ، ومثل العنكبوت على حديث ورد فيها وإن كان ضعيفًا، لكن العنكبوت فيها أذية؛ لأنها تعشش على الكتب والجدار والملبس وما أشبه ذلك، وعلى كل حال: ما أمر بقتله نصًا أو قياسًا قتل والمنهي عن قتله أربع: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد؛ النملة معروفة، والنحلة معروفة، والهدهد معروف أيضًا، والصرد طائر معروف يعرفه أصحاب الصيد وهو طائر يقولون: إنه أكبر من العصفور ولونه أشهب، وعلى كل حال: أهل الطيور يعرفونه، وهذه الأربع نهى الشارع عن قتلها إذن لا نقتلها، وهناك أشياء سكت الشارع عنها فإن كانت حلالًا فالإذن في قتلها مستفاد من حلها؛ لأنه لا يمكن أن تحل إلا بالذبح أو الصيد، وإن كانت غير حلال -وهذا القسم الثالث فيه تفصيل -فقد اختلف العلماء فيها، فمنهم من قال: إنه يكره قتلها؛ لأنها خلق من المخلوقات، خلقها الله تعالى ليستدل الناس بها على قدرة الله وحكمته وتتبين آياته بها، وما لك ولها؟ فما دام ليس منها أذية دعها، ومنهم من قال: لا يكره قتلها، بل هي مما سكت عنه، وما سكت عنه فهو عفو؛ أي: ليس له حكم إن قتلتها فلا إثم عليك وإن تركتها فلا إثم عليك، فلا نأمرك ولا ننهاك، وهذا الأخير هو الأصل، اللهم إلا أن يخشى الإنسان على نفسه من أن يسيطر عليه محبة العدوان لكونه يقتلها بدون ذنب، يمكن أن يكون بعض الناس تتربي نفسه على هذا الأمر، ولا يهمه أن يقتل النفس، فهذا إذا كان يخشى على نفسه من ذلك لا يقتلها. ثم قال: حكم الحجامة للمحرم: 702 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم". متفق عليه. احتجم في رأسه، وليت المؤلف بينه، وقد ثبت ذلك في الصحيح أنه احتجم في رأسه صلى الله عليه وسلم لأن فائدة ذكر هذه الزيادة واضحة، إذ يستفاد منها: جواز الحجامة للمحرم وليس كالصائم الذي لا يجوز له أن يحتجم، وثانيًا: أنه يجوز أن يحلق من شعر رأسه ما لا تمكن الحجامة إلا به، والحجامة معلومة للجميع أنها إذا كانت في الرأس فلابد أن يحلق لها لا يمكن أن يحتجم به.

فيستفاد من حديث ابن عباس: جواز حلق الرأس لموضع الحجامة، وهل فيه فديه؟ نقول: لا؛ لأن ظاهر حديث ابن عباس ليس فيه فديه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفد وليس هذا كقوله تعالى: {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. فإن ذلك في حلق جميع الرأس، وعلى هذا فنقول: المحرم يجوز أن يحتجم في غير رأسه ولو لحاجة دون ضرورة، وأما في رأسه فلا يحتجم إلا إذا دعت الضرورة؛ لأنه لا يحتجم إلا بحلق موضع الحجامة، وهذا يقتضي أن يفعل محرمًا بحلق الرأس، لكنه إذا حلق في الحجامة فلا فدية عليه، ولننظر إلى حديث كعب بن عجرة لأجل أن نتمم التقسيم. 703 - وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: "حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، أتجد شاة؟ قلت: لا. قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع". متفق عليه. "أرى" بمعنى: أظن، وإذا جاءت أرى بضم الهمزة فهي بمعنى: أظن، أما أرى فهي إما بمعنى: أبصر إن كانت بصرية، أو بمعنى أعلم إن كانت علمية، و"أرى" تأتي عملية وبصرية، فقوله تعالى: {إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا {6} ونَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6، 7]. الأأولى بمعنى: الظن، والثانية بمعنى: العلم، فالله يعلم علمًا بلا ظن. إذن ما كنت أظن أن الوجع بلغ بك ما أرى بعيني الآن، ثم قال: "أتجد شاة؟ .... إلخ"، سؤال الرسول صلى الله عليه سولم له: "هل تجد الشاة؟ " ليس على سبيل الإلزام والوجوب، بل على سبيل الأفضلية، وهنا قال له: افعل كذا، يعني: واحلق رأسك، وسبب ذلك أن كعبًا رضي الله عنه كان مريضًا، والمريض عادة لا يتنظف، وإذا لم يتنظف الإنسان مع المرض يكثر فيه الأوساخ، والأوساخ في الرأس إذا كان له شعر يولد القمل فجئ به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والقمل ينزل من رأسه، فعرف صلى الله عليه وسلم أنه مريض، وقد قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ -يعني وحلق- مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق، وأمره بماذا؟ أمره بالفدية؛ إذن نقول: من احتاج إلى فعل محظور فليفعله، ولكن عليه الفدية. ومن هنا يمكن أن نقسم فعل المحظور إلى ثلاثة أقسام: الأول: أن يفعله عالمًا ذاكرًا مختارًا غير معذور هذه أربعة شروط فهذا يترتب على فعله الإثم، وما في هذا المحظور من الفدية فيترتب عليه شيئان: الإثم، وما في هذا المحظور من الفدية. القسم الثاني: أن يفعله معذورًا بجهل أو نسيان أو إكراه، يعني: يفعله جاهلًا أو ناسيًا أو مكرهًا؛ فهذا لا إثم عليه ولا فدية عكس الأول، فلا يتعلق بفعله هذا إثم ولا فدية، وإن كان جماعًا

لا يترتب عليه فساد النسك ولا وجوب القضاء، يعني: لا يترتب عليه شيء من فعل المحظور أبدًا، وما الدليل؟ الدليل نوعان: عام وخاص، فالعام قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. {ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ ولَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]. {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ولَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. وجه الدلالة من آية البقرة واضح، " رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" فقال الله: "قد فعلت"، ومن آية الأحزاب: {ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ ولَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}. وإذا انتفى الجناح والإثم انتفى ما يترتب عليه من الفدية، وفي آية النحل: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ}، وجه الدلالة: أنه إذا سقط حكم الكفر بالإكراه مع أن الكفر أعظم الذنوب فما دونه من باب أولى وهذه الأدلة من القرآن، ومن السنة: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". هذا هو القسم الأول من الأدلة وهي الأدلة العامة، فأي إنسان أخرج شيئًا من هذا العموم فعليه الدليل. هناك دليل خاص في موضوع المحظورات في جزاء الصيد قال الله تعالى: {ومَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. فإذا اشترط الله العمد لوجوب الجزاء في الصيد مع أنه إتلاف فغيره من باب أولى. وعلى هذا فنقول: إذا فعل هذه المحظورات جاهلًا أو ناسيًا أو مكرهًا فلا شيء عليه حتى في الجماع، فإذا سأل سائل وقال: إنه حج وزوجته وفي مزدلفة جامع زوجته سألناه لماذا جامعت زوجتك؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الحج عرفة"، وانتهى الحج فجامعتها، فماذا تقول له؟ نقول له: ليس عليك شيء؛ لأنه جاهل متأول، أو لا يدري، أو كان حديث عهد بإسلام فظن أن ذلك لا بأس به، أو ظن أن الجماع المحرم ما كان فيه إنزال، ولم يحصل منه إنزال كما يوجد في كثير من الناس الآن، ولاسيما المتزوجون عن قرب رمضان يجامعون زوجاتهم في النهار بدون إنزال ويحسبون أنه ليس به بأس، هكذا يقولون، والله أعلم بكلامهم، وعلى كل حال: إذا كان جاهلًا نقول له: لا شيء عليك.

تحريم مكة

بقى لنا في المثال الأول الذي قال: أنا جامعتها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "الحج عرفة"، هل يقبل تأويله وهو ليس من أهل الاجتهاد؟ هو سيقول: أنا أصلًا ما علمت أن هذا يحرم، وعلى كل حال: إذا كان جاهلًا فلا شيء عليه. القسم الثالث: أن يفعل هذه المحظورات عالمًا ذاكرًا مختارًا لكن لعذر كأن يكن مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، والحمد لله أن الله رفع عنه الإثم وعليه الفدية؛ أي: فدية ذلك المحظور، لكن هل يدخل في هذا مسألة الجماع؟ يمكن أن يكون الإنسان مريضًا بسبق ولا يزول إلا بالجماع لا يزول بالاستمناء مثلًا ولا بالمباشرة، الشبق: هو أن بعض الناس إذا تحركت شهوته نزل الماء في الأنثيين وألمتاه تأليمًا عظيمًا، بل ربما يتورمان حتى ينزل، وبعض الناس -نسأل الله العافية- لا يذهب هذا إلا إذا جامع، والعلماء -رحمهم الله- كانوا يذكرون هذا ونستبعد أن يكون هذا الأمر، حتى ورد علي سؤال فيه من هذا العام في رمضان رجل مصاب بهذا الشيء ويقول عن نفسه: إنه لا ينفع فيه إلا الجماع، فلو فض أن الإنسان أصيب في الحج بهذا ولم يفده إلا الجماع فهذا ضرورة فهو من جنس كعب بن عجرة؛ لأنه لو لم يفعل لكان خطرًا على حياته، والحمد لله هذه القاعدة مستمرة فيما إذا فعل شيئًا من المحظورات عالمًا ذاكرًا مختارًا لكن لعذر اقتضى ذلك فإنه لا إثم عليه، ولكن عليه فدية ذلك المحظور، والله أعلم. تحريم مكة: 704 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلي شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، فقال العباس: إلا الاذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا، فقال: إلا الإذخر". متفق عليه. فتح الله عليه مكة وذلك في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة، وأسباب الفتح معلومة وهو أن قريشًا لما عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية نقضوا الصلح والعهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يبق لهم عهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم وقاتلهم، ففتحها الله عليه عنوة بالسيف ولكنها لم تقسم؛ لأنها محل شعائر الإسلام ومشاعر الحج، فلا يمكن قسمتها.

قال: "إن الله حبس عن مكة الفيل"، "حبس" أي: منع، والفيل هو الفيل الذي أتى به أبرهة من أجل أن يهدم الكعبة، والقصة مشهورة معلومة في التاريخ ومعلومة في التفسير، وذلك أن الله تعالى أرسل عليهم طيرًا أبابيل؛ أي: جماعات متفرقة، ترميهم بحجارة من سجيل: حجارة صلبة، فجعلهم كعصف مأكول، وأبادهم عن آخرهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سلطة الله عليها والمؤمنين؛ أي: جعل لهم السلطة عليها في دخولها. فإن قلت: ما الرابطة بين حبس الفيل وتسليط الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ فالجواب: أن الفيل لو دخل مكة لحصل بنيهم وبين أهل مكة قتال، وانتهكت فيه حرمة الحرم، أما النبي صلى الله عليه وسلم فحصل بينه وبين أهل مكة قتال، وسيأتي بيان أن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: لماذا منع الله الفيل وسلط رسوله والمؤمنين عليها؟ فالجواب: أن أصحاب الفيل جاءوا لإهانة الكعبة؛ وأما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضي الله عنهم- فجاءوا لتعظيم الكعبة؛ ولهذا لما قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذبت، بل هذا يوم تعظم فيه الكعبة"، إذن فالفرق بينهما ظاهر، والحكمة في تسليط الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه دون أصحاب الفيل ظاهرة جدًا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنها لم تحل لأحد كان قبلي"، يعني: ما أحد من الأنبياء وأممهم أحل الله له أن يدخل مكة بقتال أبدًا؛ لأن مكة معظمة الأشجار وهي جمادات نامية محترمة فيها كما سيأتي. قال: "وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من النهار"، وهي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة العصر، الوقت الذي لابد فيه من القتال حتى يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، أحلت للرسول صلى الله عليه وسلم فهي لم تحل لأحد قلبه ولم تحل له حلًا مطلقًا وإنما أحلت له ساعة من نهار بقدر الضرورة. ثم قال: "وإنها لن تحل لأحد بعدي"، فصارت مكة حرامًا قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وحرامًا بعده في أول البعثة وآخرها ولم تحل للرسول صلى الله عليه وسلم إلا ساعة من نهار في كل عهد رسالته صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على عظمة هذا البيت عند الله -سبحانه وتعالى- قال: "فلا ينفر صيدها"، وفي حديث آخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم". قال: "فلا ينفر صيدها" معنى: "ينفر" أي: يطرد ولا يزجر ولا يشوش عليه فلو أتيت إلى الصيد وهو

مستظل في شجرة فإنه لا يجوز لك أن تنفره ولا يجوز لك قتله من باب أولى، أما لو نفر بدون تنفير مثل: أن يطير عندما أحس بالماشي حوله، فإنه لا إثم عليك في ذلك؛ لأنك لم تنفره. قال: "ولا يختلي شوكها"، وفيها لفظ "ولا يعضد" أي: يقطع شوكها، "ول يختلي خلاها"، الخلي: الحشيش؛ أي: لا يحش، والعضد: القطع، "والشوك" يعني: الشجر ذات الشوك؛ أي: أن حشيشها لا يحش، وشجرها لا يقطع ولو كان ذا شوك احترامًا للمكان، ولو فرض أن أحدًا أراد أن يفتح خطًا ووجد فيه شجرة، فإنه لا يقطعها اللهم إلا إن دعت الضرورة القصوى إلى ذلك فنعم. قال: "ولا يعضد شوكها". "ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد" "ساقطتها" يعني: اللقطة، "لا تحل إلا لمنشد" يعني: إلا لمن أراد أن ينشدها مدى الدهر، فمن أخذها لا للإنشاد فهو حرام، ومن أخذها للتملك بعد الإنشاد فهو حرام، ومن أخذها للإنشاد دائمًا فهو حلال فالأحوال ثلاثة، يحل منها الأخير، أما لقطة غيرها فيحل منه الثاني، وأما الأول فلا يحل في أي لقطة كانت، ومن أخذ اللقطة للتملك من الآن فهذا لا يجوز لا في مكة ولا في غيرها، ومن أخذها للتملك بعد الإنشاد الشرعي فهو جائز في غير مكة، ومن أخذها للإنشاد دائمًا فهو جائز في مكة وغيرها، لكن في غير مكة ليس بواجب، وفي مكة يجب الإنشاد دائمًا. قال: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين"، لما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن القتال محرم في مكة كان إيرادًا ورد فقال: والقتل؟ قال: القتل إذا كان قصاصًا فلا بأس به، "من قتل له قتيل في مكة فهو بخير النظرين" ما هما؟ إما أن يقتل القاتل، وإما أن يأخذ الدية، فإذا قتل لإنسان شخص في مكة عمدًا يثبت فيه القصاص فإننا نقول لأولياته: أنتم الآن بالخيار إن شئتم اقتلوا القاتل وإن شئتم خذوا الدية، وقوله: "بخير النظرين" باعتبار المصلحة، أو باعتبار ما يريده الأولياء؟ الظاهر الثاني، لأن هذا الخيار خيار تشه لا خيار مصلحة. وقد مر علينا منذ زمن بأن التخيير إن كان للمصلحة فيجب فيه إتباع المصلحة وإن كان تخيير تشه وإرادة، فالإنسان فيه مخير، ففي كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة هذا اختيار تشه، فأي شيء كفرت به فهو جائز، وفي تخيير الإمام في الأسرى من الكفار بين القتل والفداء بمال أو أسير والمن، هذا تخيير مصلحة فإذا كان التصرف للغير فتخيير مصلحة، للنفس فتخيير تشه وهنا التصرف للنفس فيكون التخيير تشهيًا إن اشتهيت فاقتل وإن اشتهيت فخذ دية. فقال العباس: "إلا الإذخر يا رسول الله، فقال: إلا الإذخر" الإذخر: نبت معروف في مكة وبين العباس رضي الله عنه السبب في ذلك قال: "يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا". فقال: "إلا

الإذخر". الإذخر: نبت معروف في الحجاز له سيقان مثل أعواد الكبريت يجعل في القبور وفي البيوت، في القبور يجعل فيما بين اللبنات حتى لا ينهال التراب، وفي البيوت يجعل فيما بين الجريدة في السقف ويوضع الطين فوق السقف، فأول ما نجعل خشب ثم الجريد ثم الإذخر ثم الطين، والآذخر هذا يمنع تساقط الطين من بين الجريدة فالناس في حاجة إليه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر". في هذا الحديث فوائد: أولًا: انتهاز النبي صلى الله عليه وسلم الفرصة في الخطب حين دعت الحاجة إليها؛ لأنه خطب في وقت يحتاج فيه الناس إلى بيان الأحكام فخطب الرسول فبين الأحكام. ثانيًا: أن الخطب تبتدأ بالحمد لله والثناء عليه. ثالثًا: أنه ليس بلازم أن تثني بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. رابعًا: بيان أن الله -سبحانه وتعالى- خالق أفعال العباد بهيمها وناطقها لقوله: "إن الله حبس عن مكة الفيل"؛ لأن الفيل كانوا إذا وجوه إلى مكة حرن وأبى أن يتقدم، وإذا وجهوه إلى اليمن مشي، والذي حبسه هو الله، إذن فعل الفيل في مشيئة الله، ففيه دليل على عموم مشيئته الله في أفعال المخلوقين بهيمها وناطقها. ومن فوائده أيضًا: أن الله سبحانه له الحكم فيما أراد من خلقه الكوني والشرعي، ولهذا منع كونًا الفيل وأذن شرعًا للرسول صلى الله عليه وسلم فسلطه على مكة ومن معه من المؤمنين. ومن فوائد الحديث: بيان عظمة الكعبة؛ لأنها لم تحل لأحد من الناس قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تحل للرسول صلى الله عليه وسلم إلا بقدر الضرورة لقوله: "وإنما أحلت لي ساعة من نهار". ومن فوائده: أن الضرورات تقدر بقدرها لا يزيد الإنسان فيها على قدر الضرورة؛ أي: أن ما أبيح للضرورة لا يجوز أن يتعدى به موضع الضرورة، وهذه قاعدة نافعة في كل الأحكام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أبيحت له ساعة من نهار؛ إذ لا يتمكن أن يزيل هذا الكفر والشرك حتى تكون مكة بلاد إسلام إلا بهذا القتال ولولا ذلك ما تمكن ولبقيت محترمة بمن فيها من الكفار ولم يستطع أحد الوصول إليها. ومن فوائد الحديث: تحريم القتال بمكة لقوله: "وإنها لن تحل لأحد بعدي"، ولكن إذا قوتل الإنسان فيها فله أن يقاتل لقوله تعالى: {ولا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191]. ولهذا أجاز النبي صلى الله عليه وسلم القتل في القصاص؛ لأنه قتل بحق، وهذا القتل أخص من القتال؛ لأنه قد يجوز القتال ولا يجوز القتل، مثال ذلك: لو ترك أهل بلد الأذان والإقامة وجب قتالهم، ولكن لا يجوز قتلهم فإذا استسلموا لا نقتلهم ولا نجهر على جريحهم.

ومن فوائد الحديث: جواز النسخ في الأحكام الشرعية؛ لأن تحريم مكة نسخ. ومنها: جواز توقيت النسخ؛ حيث نسخ التحريم إلى الحل: "ساعة من نهار". ومنها: إثبات الحكمة لله عز وجل بأن هذا النسخ المؤقت لحكمة. ومنها: تعليل الأحكام الشرعية وأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. ومن فوائده: تحريم الصيد في مكة لقوله: "لا ينفر صيدها"، وتحريم القتل من باب أولى. ومن فوائد الحديث: تحريم قطع الشجر صغيره وكبيره مؤذية لقوله: "ولا يتخلى شوكها" وهذا إذا كان الشجر نبت بفعل الله عز وجل، أما ما نبت بزرع الآدمي فإنه ملكه له أن يتصرف فيه بما شاء، فلو غرس الإنسان نخلة في مكة فله أن يجتثها، ولو غرس شجرة فله أن يجتثها، ولو زرع زرعا فله أن يحصده، أما ما نبت بدون فعل الآدمي، فإنه محترم لا يجوز قطعه. ومنها: أن لقطة الحرم لا تملك بالتعريف لقوله: "ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد"، وهذا هو القول الصحيح في هذه المسألة، ومنهم من قال: إن لقطة الحرم كغيرها تملك بالتعريف، وإنما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تحل ساقطتها إلا لمنشد" من باب التأكيد على الإنشاد، ولكن الصحيح الأول. فإذا قال قائل: إذا علم الإنسان أنه لابد أن ينشدها مدى الدهر إلى أن يجد صاحبها فإنه لن يأخذ فماذا نقول؟ نقول: لا يأخذها، والشارع ما أراد إلا هذا ألا تأخذها، وإذا جاء ثان لا يأخذها، وثالث لا يأخذها حتى تبقى في مكانها، وصاحبها إذا فقدها رجع من حيث جاء ووجدها حتى يبقى كل شيء آمنًا، لكن في عصرنا الآن نرى أنه لو تركها لجاء من بعده وأخذها وجاء من لا يسأل، يعني: يأخذها للتملك، فنقول حينئذ: إذا كان يخاف أن تؤخذ على وجه التملك ولا يبحث عن صاحبها فالأولى أن يأخذها ويسلمها إلى الجهات المسئولة إلى ولي الأمر مثلًا، وبذلك تبرأ ذمته وهذا إن لم يكن يعلم صاحبها، فإن علم صاحبها بكتابة أو رسم فإنه يأخذها ويسلمها له. ومن فوائد اللحديث: أن أولياء المقتول لهم الخيار بين القتل والدية لقوله: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين"، وأنه لا فرق بين أن يكون ذلك في مكة أو في غيرها. ومن فوائد الحديث: جواز القتل في مكة بحق لقوله: "فهو بخير النظرين"، فإذا زنى الإنسان في مكة وهو محصن فإننا نرجمه ولا نقول: هذا في مكان آمن نقول: لأنه من حيث المعنى والعلة، لأنه لما انتهك حرمته صار هو لا حرمة له، وكذلك لو وجب على شخص قتل للفساد في الأرض فإننا نقلته، لو

أن أحدًا ارتد في مكة وصار لا يصلي وأبي إن يتوب فإننا نقتله؛ لأن هذا إذا قدر أننا لن نقتله أو صار الحاكم ضعيفًا لا يجرؤ على قتله فإنه يجب إخراجه، لأنه كافر، والكافر لا يجوز بقاؤه في مكة. ومن فوائد الحديث: أن من الناس من يكون فيه بركة في تشريع الأحكام الشرعية كما أن من الناس من يكون فيه شؤم، فالأقرع بن حابس لما قال فيما سبق: أفي كل عام؟ هذا سؤال لا ينبغي فلو قال الرسول: نعم، لو جبت ولما استطعنا، أما إذا كان الإنسان الذي يسأل يسأل في تخفيف على المسلمين فهذا يحمد عليه ويكون من بركاته، كما ذكر أسيد بن حضير في قصة عقد عائشة حين فقد ولم يكن عند الناس ماء ونزلت آية التيمم قال: "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر"، إذن من بركات العباس: استثناء الإذخر الذي يحتاجه الناس في مكة للبيوت والقبور. ومن فوائد الحديث: أنه لا يشترط في الاستثناء نيته قبل تمام المستثنى منه ولا اتصاله به أيضًا، وجهه: أن الرسول قال: "إلا الإذخر" ولم يكن نواه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو نواه لقال: ولا يختلى شوكها إلا الإذخر، وأيضًا حصل فصل بين المستثنى والمستثنى منه وهو: "لا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين"، وكلام العباس ثم قال: "إلا الإذخر" فهنا استثناء مع الفضل ومع عدم النية لكن الكلام واحد، فإذا اتصل المستثنى بالمستثنى منه في كلام واحد ولم يل المستثنى منه أو لم ينوه المستثنى فهو صحيح، ومن العلماء من يقول: إنه تشترط نية الاستثناء قبل تمام المستثنى منه، ويشترط أيضًا الاتصال، فكيف يجيبون عن هذا الحديث؟ يقولون: إن قوله: "إلا الإذخر" هذا نسخ وليس بتخصيص، فيقال لهم: سبحان الله! هل يمكن أن نجعل إلا الإذخر حديثًا مستقلاُ؟ الجواب: لا يمكن؛ لأن فيه أداة الاستثاء، لكن هذا أمر يسلكه بعض الناس إذا اعتقد شيئًا حاول إن يحوّل النصوص إلى اعتقاده، وهذه طريقة ليست بسليمة، فالواجب على الإنسان أن ينظر ما تدل عليه النصوص ويتبعها لا أن يرى رأيا فيتبع النصوص ذلك الرأي. الشاهد من هذا الحديث: ما يتعلق بالصيد، ولكنه في الواقع لا مناسبة فيه للباب؛ لأن الباب: "الإحرام وما يتعلق به" والذي ذكر في هذا الحديث ما يتعلق بالحرم لا بالإحرام، الشجر تحريمه يتعلق بالحرم فقط، ولهذا يحرك قطع الشجر في الحرم على المحلّ والمحرم، ويحل قطع الشجر في الحل للمحرم وغير المحرم فلا علاقة له بالإحرام، الصيد له علاقة بالحرم والإحرام، ولهذا يحرم الصيد في الحرم على المحلّ والمحرم، ويحرم الصيد على المحرم في الحل والحرم، وإذا كان المحرم في الحرم حرم عليه الصيد من وجهين: كونه في الحرم وكونه محرمًا، وهل يلزمه جزاءان لوجود السببين، أو جزاء واحد؟ قال بعض العلماء:

تحريم المدينة

يلزمه جزاءان؛ لأنه انتهك حرمتين: حرمة الحرم وحرمة الإحرام، وقال بعض العلماء: والمذهب لا يلزمه إلا جزاء واحد؛ لأنه انتهك حرمتين في محرم واحد وهو الصيد، وأيضًا لو ألزمنا المحرم جزاءين لم نكن ألزمنا بالمثل؛ لأنه قتل واحدًا وألزمناه باثنين، والله تعالى يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. وكما أن المثلية تكون في الصفة كذلك في العدد كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]. ثم قال: تحريم المدينة: 705 - وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودها لأهلها، وإنِّي حرَّمت المدينة كما حرَّم إبراهيم مكَّة، وإنِّي دعوت في صاعها ومدِّها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكَّة" متفق عليه. 706 - وعن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرام ما بين عبر إلى ثور" رواه مسلم. هذان الحديثان يتعلقان أيضًا بالحرم ولا علاقة لهما بالإحرام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرّم مكة"، وثبت في حديث الصحيحين أيضًا أن الله هو الذي حرّم مكة، ولا تعارض بين الحديثين؛ لأن المحرم هو الله وإبراهيم مبلغ، فنسب التحريم إلى إبراهيم باعتبار التبليغ، ونسب إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه منشئ الأحكام، فيكون الله هو الذي حرمها وإبراهيم بلغ التحريم وأظهره، ويقول: "إنه دعا لأهلها بالبركة"، وذلك في قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة: 126]. {وَمَنْ كَفَرَ} هذه معطوفة على {مَنْ آَمَنَ}، {وَمَنْ كَفَرَ} فيكون الله عز وجل أعطى إبراهيم أكثر مما سأل، لأن إبراهيم قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}، فقال الله تعالى {وَمَنْ كَفَرَ}، أتدرون لماذا قال إبراهيم {مَنْ آَمَنَ}؟ تأدبًا مع الله؛ لأنه قال قبل ذلك: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. يعني: أن الله أعطاه عهده لكن استثنى الظالمين من ذريته فتأدّب في الدعوة الثانية مع الله وقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ}، ولكن الله عز وجل عمم؛ ففي الأولى الله خصص دعاءه، وفي الثانية عمم وأعطاه أكثر مما سأل، قال الله: {وَمَنْ كَفَرَ} لكن من كفر قال: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، نسأل الله العافية، المهم: أن إبراهيم دعا لأهل مكة، ونبينا صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بمثل ما دعا به إبراهيم.

5 - باب صفة الحج ودخول مكة

والشاهد من هذا قوله: "إني حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة"، وهذا تشبيه لأصل التحريم بأصل التحريم؛ وذلك لأن تحريم حرم مكة أشد وأشمل، لأن حرم المدينة يستثنى منه أشياء هي حلال وهي في حرم مكة حرام، فيكون التشبيه هنا في أصل التحريم لا في وصفه، فإن حرم المدينة فيه أشياء تحل ولا تحل في حرم مكة، وحرم المدينة من عير إلى ثور، وعير وثور جبلان معروفان في المدينة، قال العلماء: والمسافة -أي مسافة حرم المدينة- بريد في بريد، والبريد: أربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، فيكون البريد اثنى عشر ميلاً؛ يعني: اثنى عشر ميلاً في اثنى عشر ميل في واحد وستة من عشرة يساوي ثماني عشرة كيلو وزيادة. من فوائد الحديث: أولاً: نسبة الشيء إلى من بلغه لقوله: "إن إبراهيم حرّم مكة"، ومثله أن الله نسب القرآن إلى جبريل ونسبه أيضًا إلى محمد -عليهما الصلاة والسلام- فقال تعالى: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} بالتكوير: 19 - 20]. فنسبة هنا إلى جبريل، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41]. فنسبة إلى محمد، فنسبة الشيء إلى المبلغ سائغة شرعًا ولغة. ومن فوائد الحديث: رحمة هذين الرسولين بأهل هاتين البلدتين وشفقتهما على أهلهما، فإبراهيم دعا لأهل مكة، ومحمد صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة. ومن فوائدة: ثبوت الحرم للمدينة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إني حرمتها كما حرم إبراهيم مكة". ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خصّ الدعوة للمدينة بالمدّ والصاع وهو الطعام الذي يقدر بالأصواع والأمداد، وهذا لا يستلزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم دعا في كل شيء وإنما دعا بالطعام، ولذلك نجد أن الطعام في المدينة يكون دائمًا متوفرًا ويكون أيضًا مباركًا في زرعه وجنيه. ومن فوائد حديث عليّ بيان حد حرم المدينة، وأنه ما بيبن عير إلى ثور، ثم قال المؤلف: ****** 5 - باب صفة الحج ودخول مكة نقول: إنه من شروط العبادة: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما الركنان الأساسيان في كل عبادة، فلا تقبل عبادة بشرك، ولا تقبل عبادة ببدعة، فالبدعة تنافي الاتباع، والشرك ينافي الإخلاص، ومن ثم احتاج العلماء -رحمهم الله- إلى بيان صفات العبادات، فبينوا صفة الوضوء، وصفة الصلاة، وصفة الصيام، وصفة الحج، وصفة الزكاة ... وغير ذلك حتى يعبد الناس الله عز وجل على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقول المؤلف: "ودخول مكة" يعني: كيف يدخل مكة؟ ومن أين يدخل مكة؟ ومتى يدخل مكة؟ ثلاثة أشياء: ثم بدأ المؤلف بحديث جابر الطويل المشهور في صفة الحج الذي جعله بعض العلماء عمدة صفة الحج وجعله منسكًا كاملًأ؛ لأن جابرًا رضي الله عنه ضبط حج الرسول صلى الله عليه وسلم من أوله إلى آخره، فذكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي في المدينة عشر سنين لم يحج، وأذن في الناس في العاشرة، إذن بهم أنه حاج، قال: فقدم المدينة بشر كثير يشهدون حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذون أحكامه من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة حتى قدروا بمائة ألف من مائة وأربع وعشرين ألفًا كل الصحابة، يعني: يمثل خمس أسداس المسلمين تقريبًا حتى كانوا -كما قال جابر- بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفه وعن يمينه وعن شماله مد البصر، عالم عظيم يريدون أن يأخذوا من إمامهم -صلوات الله وسلامه عليه- كيف يعبدون الله عز وجل بهذا النسك العظيم، خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وقد بقى خمسة أيام من ذي القعدة خرج في الخامس والعشرين في يوم السبت بعد أن أذن الناس في خطبة الجمعة كيف يحرمون، وسئل: ماذا يلبس المحرم؟ وأوضح للناس مبادئ النسك وبقي في ذي الحليفة صلى الله عليه وسلم وبات بها، وفي اليوم التالي اغتسل ولبس إحرامه ثم أحرم، والمؤلف رحمه الله اختصر الحديث اختصارًا تامًا ولم يأت منه إلا ما يتعلق بالحج. 707 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج، فخرجتا معه، حتى إذا أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس، فقال: اغتسلي واستثفري بثوب، وأحرمي، وصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء حتَّى إذا استوت به على البيداء أهل بالتَّوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك. حتَّى إذا أتينا البيت استلم الرُّكن، فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا، ثم أتى مقام إبراهيم فصلَّى، ورجع إلى الرُّكن فاستلمه، ثمَّ خرج من الباب إلى الصَّفا، فلمَّا دنا من الصَّفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. أبدءوا بما بدأ الله به فريقي الصَّفا، حتَّى رأى الببيت، فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبَّره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كلِّ شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثمَّ دعا بين ذلك ثلاث مرَّات، ثمَّ نزل من الصَّفا إلى المروة، ففعل على المروة حتَّى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي سعى حتَّى إذا صعد سعى إلى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصَّفا ... ". وذكر الحديث، وفيه: "فلما كان يوم التَّروية توجَّهوا إلى منى، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى بها الظُّفر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر،

ثم مكث قليلاً حتَّى طلعت الشَّمس، فأجاز حتَّى أتى عرفة، فوجد القبَّة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتَّى إذا زالت الشَّمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب النَّاس، ثمَّ أذَّن ثمَّ أقام، فصلَّى الظُّهر، ثم أقام فصلَّى العصر، ولم يصلِّ بينهما شيءًا، ثمَّ ركب حتَّى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتَّى غربت الشَّمس، وذهبت الصُّفرة قليلاً، حتَّى إذا غاب القرص، دفع، وقد شنق للقصواء الزِّمام حتَّى إنَّ رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيُّها النَّاس، السَّكينة، السَّكينة، وكلَّما أتى جبلاً أرخى لها قليلاً حتَّى تصعد، حتَّى أتى المزدلفة، فصلَّى بها المغرب والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، ولم يسبِّح بينهما شيئًا، ثمَّ اضطجع حتَّى طلع الفجر، فصلَّى الفجر حين تبيَّن له الصبح بأذانٍ وإقامةٍ ثمَّ ركب حتَّى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا، وكبَّر، وهلَّل، فلم يزل واقفًا حتَّى أسفر جدُّا، فدفع قبل أن تطلع الشَّمس، حتَّى أتى بطن محسِّر فحرَّك قليلاً، ثمَّ سلك الطَّريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتَّى الجمرة الَّتي عند الشَّجرة، فرماها بسبع حصبات، يكبِّر مع كلِّ حصاةٍ منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثمَّ انصرف إلى المنحر فنحر، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلَّى بمكَّة الظُّهر". رواه مسلم مطولاً. قوله: "حتى إذا أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء"، أتى بكلمة فاء؛ لأنها معطوفة على جملة هي جواب الشرط، يعني: حتى إذا أتينا ذا الحليفة نزل وصار كذا وكذا فولدت، و"ذو الحليفة" هي مهل أهل المدينة، وتعرف الآن بأبيار على، "وأسماء بنت عميس" هي زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولدت محمد بن أبي بكر، فأرست إلى النبي ماذا تصنع، ومن شرط صحة الطهارة عن موجب للطهارة أن ينقطع ذلك الموجب، ولهذا لا يصح التوضؤ عن البول والإنسان يبول ولا يصح التوضؤ عن لحم الإبل والإنسان يأكل اللحم، فالطهارة عن موجب لها لا تصح إلا بعد انقطاع الموجب؛ إذن فالغسل الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أسماء للإحرام. قال: "واستثفري بثوب وأحرمي"، كيف تصنع من الآن إلى انقطاع النسك أو كيف؟ ولهذا لم يبين لها النبي صلى الله عليه وسلم كيف تصنع في المستقبل، لم يقل لها كما قال لعائشة: "افعلي كما يفعل الحاج غير ألاَّ تطوفي بالبيت"؛ لأنها تريد حل المشكلة الحاضرة، وبه نعرف خطأ ابن حزم رحمه الله

في هذه المسألة حيث قال: إن النفساء يجوز لها أن تطوف بالبيت بخلاف الحائض، قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل لأسماء: لا تطوفي بالبيت وقاله لعائشة، والجواب على هذا سهل أن نقول: إن أسماء إنما أرادات أن تسأل عما تصنع الآن، وبينهما وبين مكة والوصول للبيت مفاوز بخلاف عائشة فإن ذلك كان بسرف قريبة من مكة، قال: "اغتسلي واستثفري بثوب" يعني: تلجمي به، ويسمى باللغة الحاضرة: التحفض؛ يعني: تضع على فرجها شيء لأجل أن تمنع الخارج عند الاغتسال. قال: "وأحرمي"، وأطلق الإحرام؛ لأنه في ذي الحليفة أحرم الناس على الوجوه الثلاثة التي سبق في حديث عائشة بحج وعمرة وبهما. يقول: "وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به"؛ يعني: لما اقترب من الحديبية أهلّ بالتوحيد أي رفع صوته بالتوحيد قائلاً: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، رفع صوته بهذه الكلمات العظيمة التي سمّاها جابر توحيدًا؛ لأنه تضمنت التوحيد والإخلاص. قال: "لبيك اللهم لبيك" هذا حرف جواب للداعي؛ ولهذا حتى الآن إذا دعاك شخص فقلت: "لبيك" يعني: أجبت دعوته، ولكن التثنية هنا يراد بها مطلق التكرار لا حصره، فهي بمعنى إجابة بعد إجابة؛ وهي منصوبة على الفعل المطلق المحذوف عامله، يعني: ألبي لك تلبية بعد تلبية، وقوله: "اللهم" يعني: يا الله، فهي منادى حذفت منها ياء النداء وعوض عنها الميم، وقوله: "لبيك" من باب التوكيد؛ لأن المقام مقام عظيم ينبغي فيه توكيد القول، "لبيك لا شريك لك لبيك" هذا توكيد آخر "لا شريك لك" في أي شيء؟ في كل شيء، فلا شريك لله تعالى في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته، ولا يستثنى من ذلك شيء؛ لأن الله لا يشركه أحد في هذا أبدًا، ثم ثال: "إن الحمد والنعمة لك والملك"، "إنّ" أفصح وأعم من "أنّ" وإلا فإن بعض النحويين أجاز الفتح، والصواب الكسر لأنه أعم؛ لأن "إنّ" هنا اسئنافية، لكن "أنّ" تعليلية، كأنه لو قال: "أنّ الحمد والنعمة لك" كأنه يقول بناء على ذلك: أن الحمد والنعمة لك، مع أن الله تعالى يحمد على كل شيء فهي أعم، "إنّ الحمد والنعمة لك"، "الحمد" وصف المحمود بالكمال على كماله وعلى إنعامه، والنعمة: العطاء، وكل ذلك لله وحده، فالمنعم هو الله، والمحمود هو الله، هو المستحق لذلك وحده، ولذلك قال: "والملك"، لله أيضًا ملك الذوات والأعيان وملك التصرف والأفعال، فالله مالك للسموات والأرض في أعيانها والتصرف فيهما، قال: "لا شريك لك" أي: في ملكك ولا في نعمتك ولا في الحمد الذي تستحقه، كانوا في الجاهلية يلبون بنحو هذه التلبية، لكن يقولون: "لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك"، ما دام أنه له ومملوك فكيف

يكون شريكًا؛ ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى-: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28]. ما الجواب؟ الجواب واضح؛ يعني: هل عبيدكم يشاركونكم في الأموال التي بين أيديكم التي أعطيناكم إياها، ما هو الجواب؟ الجواب: لا هذا تعرفه أنت بنفسك، كيف تجعل لله عز وجل شريكًا يكون مملوكًا له في عبادته، أظن الإلزام واضح، إذا كنتم أنتم لا تجيزون ولا تسوغن أن يكون لكم شريك فيما رزقكم الله، فكيف تسوغون أن يكون لله شريك في ملكه الذي خلقه، هذه الجملة لبي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يسمع الناس يقولون: "لا إله إلا الله"، وآخرون يكبِّرون ولا ينكر عليهم؛ لأن المقصود هو الذكر وتعظيم الله، ولكن لا شك أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أولى. يستفاد من هذه الجملة من الحديث: أنه إذا أحرم من ذي الحليفة فلا يلبِّي إلا إذا استوت به على البيداء، ولكن ابن عمر أنطر ذلك وقال: "بيداؤكم هذه التي تقولون -يعني: ينكر هذا -ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد"؛ إذن أهل قبل أن تستوي به ناقته على البيداء، ولكن الجمع بين قول جابر وقول ابن عمر قريب وظاهر؛ وهو أن ابن عمر سمعه حين استوت به ناقته عند المسجد، وجابر سمعه حين استوت به على البيداء، وكل إنسان حكى ما سمع، وهذا هو الواجب على كل إنسان أن يحكي ما سمع أو ما ثبت عنده بطريق صحيح فلا منافاة؛ ولهذا وردت أحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أهلّ دبر الصلاة قبل أن يركب، ومع هذا فالجمع بينه وبين حديث جابر وابن عمر قريب أيضًا، كما جمع ذلك ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه الحاكم وغيره، وهو أن الناس يدركون النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، فأدركه قوم عند صلاته وقالوا: أهلّ بعد الصلاة، وأدركه قوم بعد أن ركب عند المسجد وقالوا: أهلّ حين استوت به ناقته عند المسجد وصدقوا، وأدركه آخرون حين استوت به على البيداء وقالوا: أهل حين استوت به على البيداء وصدقوا، والجمع هذا قريب وليس فيه إشكال. ومن فوائد الحديث: إنه ينبغي للإنسان أن يستحضر في مجيئه إلى مكة وإحرامه، إنما يفعل ذلك تلبية لدعاء الله، فأين الدعاء؟ قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] فالأذان بأمر الله يعتبر أذانًا من الله، فإذا كان الله هو الذي أذن فأنا أجيبه وأقول: "لبيك اللهم ... الخ".

ثم قال جابر رضي الله عنه: "حتى إذا أتينا البيت استلم الركن" يعني: الكعبة، "استلم الركن" أي: مسحه بيده، أي اليدين؟ اليمنى؛ لأن اليد اليمنى تقدم للإكرام والتعظيم، واليد اليسر، في الإهانة، فمسحه بيده اليمنى، قال: "فرمل ثلاثًا ومشى أربعً"، قال العلماء: الرّمل هو سرعة المشي مع مقاربة الخطا، "ثلاثا" أي: ثلاثة أشواط، "ومشى أربعًا" يعني: أربعة أشواط، وفيه دليل على أن الطواف سبعة أشواط، وأن طواف القدوم يرمل فيه الإنسان الأشواط الثلاثة الأولى، ويمشي في الأشواط الأربعة الباقية، وفيه دليل أيضًا على أن الرّمل من الحجر إلى الحجر وليس من الحجر إلى الركن اليماني كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء. فإن قلت: ما الحكمة من الرّمل في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى دون الأربعة الباقية؟ فالجواب: أن الحكمة تذكير المؤمنين بأصل هذا الرّمل؛ لأن أصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قاضي أهل مكة في غزوة الحديبية على أن يرجع من العام القادم معتمرًا، أهل مكة أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والعدو يحب الشماتة بعدوه، فقال بعضهم لبعض: دعونا نجلس هنا ننظر إلى هؤلاء القوم الذين وهنتهم حمى يثرب كيف يطوفون؛ لأن عندهم أن هؤلاء قوم أصابهم المرض وأنهك قواهم، يريدون بذلك الشماتة، وجلسوا في شمال الكعبة وقالوا: ننظر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ليظهروا الجلد والقوة والنشاط ليغيظوا الكفار، وإغاظة الكفار أمر مقصود لله عز وجل كما قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. وقال تعالى: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]. أراد النبي صلى الله عليه وسلم من قومه أن يغيظوا الكفار، لكنه أمرهم أن يرملوا من الحجر إلى الركن اليماني دون ما بين الركنين؛ لأنهم بين الركنين يختفون عن المشركين، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفق بأصحابه، ولهذا جعل الرَّمل في الأشواط الأولى؛ لأن الثلاثة أقل من الأربعة، فاعتبر الأقل في جانب الصعوبة، الرّمل أصعب من المشي العادي، فجعل له الأقل وهي ثلاثة من سبعة، ثم إن اختيار الثلاثة دون الأربعة فيه القطع على وتر، والله -سبحانه وتعالى- إذا تأملنا مشروعاته وجدنا غالبها مقطوعًا على وتر، ففيه فائدتان؛ يعني: في كون الرّمل خاصًّا بالثلاثة الأولى فقط، أولاً: أن اعتبار الأخذ بالأقل في باب المشقة، وثانيًا: القطع على وتر، لكن في حجة الوداع رمل النبي صلى الله عليه وسلم في الأشواط الثلاثة كلها من الحجر إلى الحجر؛ لأن العلة التي من أجلها شرع الحكم -وهو إغاظة الكفار الذي يشاهدوه- انقطعت، فصار الرّمل من الحجر إلى الحجر؛ لأنه صار الآن عبادة ولم يكن القصد منه الإغاظة؛ لأن الإغاظة

انتهت، لكن الآن عبادة فأكملت الأشواط الثلاثة فصار الرّمل من الحجر إلى الحجر، هل أنا أذكر في هذه الحال حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قدموا في عمرة القضاء، أو أنني أذكر المعنى الأصلي المقصود وهو إغاظة الكفار، أو الأمرين؟ إذا تذكرت الأمرين فهو خير؛ يعني: أتذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأقتدي بهم، وأيضًا أتذكر أن من شأن المسلم أن يفعل ما يغيظ الكفار. ثم قال: "فرمل ثلاثًا ومشى أربعًت"، وجعل المشي في الأربعة إبقاء على أصحابه حتى لا يتعبوا من الطواف في جميع البيت على وجه الرمل. "ثم أتى مقام إبراهيم" وهو الذي قام عليه حين بناء الكعبة، فإن الكعبة لما ارتفع بناؤها احتاجت إلى شيء يقوم عليه حتى يدرك أعلى البناء وهو حجر، وهذا الحجر جعل الله فيه آية وهي أثر قدمي إبراهيم، وقد شهده أوائل هذه الأمة، ولكنه انمحى بكثرة مسه من الناس انمحى وزال، وقد أشار إلى هذا أبو طالب في قوله: [الطويل] ومواطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافسًا غير ناعل تقدم إلى مقام إبراهيم يقول: "فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} " لم يذكرها المؤلف، حذف المؤلف لهذه الآية حذف مخل رحمه الله، وكان عليه أن يقولها؛ لأنها من صفة الحج، فإنه يسن للإنسان إذا فرغ من الطواف أن يتقدم إلى مقام إبراهيم وأن يقرأ الآية، وفائدة قراءتها: شعور الإنسان بأنه يتقدم إلى هذا المقام فيصلي به امتثالاً لأمر الله عز وجل، ولا شك أن شعور الإنسان حين يفعل العبادة بأنه يفعلها امتثالاً لأمر الله أن هذا يزيد في إيمانه بخلاف الذي يفعل العبادة وهو غافل عن هذا المعنى، فإن العبادة تكون كالعادة؛ ولهذا قال المتكلمون عن النيات: إن النية نوعان: نية العمل، ونية المعمول له، والأخيرة أعظم مقامًا من الأولى، لأن نية العمل تأتي ضرورة، فما من إنسان عاقل يقوم بعمل إلا وقد نواه وقصده، حتى قال بعض العلماء: لو كلَّفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف ما يطاق، فالمقام الأسمى والأعلى نية المعمول له التي تغيب عنا كثيرًا، لو أننا عندما نتوضأ نشعر بالإخلاص والمتابعة فكيف نتذكر؟ نتذكر أن الله أمرنا بالوضوء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. هذا الإخلاص، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ أمامنا هذا هو المتابعة؛ إذن إذا فرغت من الطواف تقدم إلى مقام إبراهيم واقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]. فيستفاد من هذا: أنه ينبغي إذا فرغ من الطواف أن يتقدم فورًا إلى مقام إبراهيم بدون تأخر ويقرأ هذه الآية، كلمة "تقدم إلى مقام إبراهيم" هل تشعر بأن المقام في مكانه الحالي أو يحتمل أنه في مكانه كما قيل الذي عند باب الكعبة؟ الحقيقة أنها لا يستفاد منها ولا هذا؛ لأن التقدم

في كلا الأمرين إن كان في مكانه الآن فهو يتقدم، إن كان كما قيل: إنه لاصق بالكعبة فهو أيضًا يتقدم، المقام اختلف المؤرخون فيه هل هو في مكانه الحالي منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو أنه كان لاصقًا بالكعبة وأخّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين كثر الناس وكثر الطائفون الذين يطوفون بين يدي المصلين؟ وأكثر المؤرخون على أنه في مكانه الحالي وأنه لم يجر فيه تغيير. قال: "ثم رجع إلى الركن فاستلمه" أي: بعد أن صلى ركعتين، واعلم أن المشروع في هاتين الركعتين التخفيف، وأن يقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وأنه ليس قبلهما دعاء، ولا بعدهما دعاء والحكمة من تخفيفهما: أن تفسح المجال لمن هو أحق منك، فالناس ينتهون من اطواف أرسالاً، فإذا انتهى الطائفون وأنت حاجز المكان تطيل الصلاة، فمعناه: أنك حجزت مكانًا لمن هو أحق منك فلا تطل الصلاة، ثم إنه قد يكون المطاف مزدحمًا فيحتاج الطائفون إلى المكان الذي أنت فيه أيضًا، فمن ثم خفف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة واختار أن يقرأ بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ لأن إمام الحنفاء هو صاحب هذا المقام وهو إبراهيم الذي قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]. بعد الركعتين لا يدعو وهل للمقام دعاء؟ إني وجدت كتابًا مكتوب فيه "دعاء المقام"، مكتوب مطبوع بحرف جيد، فهذا ليس له أصل، لا يوجد دعاء للمقام ولا دعاء قبل الركعتين ولا بعدهما، ولكن المشكل أن مثل هذه البدع صارت كأنها قضايا مسلمة مشروعة، حتى إن الحاج يرى أن حجه ناقص إن لم يفعل هذا، وكل هذا بسبب تقصير العلماء أو قصورهم، وإلا فمن الممكن أن يعطى هؤلاء الحجاج مناسك من بلادهم، يقول: "ثم رجع إلى الركن فاستلمه" الركن؛ يعني: الحجر الأسود. وفيه: استحباب الرجوع إلى الركن بعد الركعتين لاستلامه، فإن لم يتمكن فلا إشارة؛ لأن العبادات مبنية على النقل فقط، فإذا لم يتمكن فلا إشارة؛ لأن ذلك لم يرد، ولهذا قلنا: إن الركن اليماني إذا لم يستطع استلامه فإنه لا يشير إليه فيكون هنا استلام بلا تقبيل ولا إشارة عند التعذر. قال: "ثم خرج إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ابدءوا بما بدأ الله به"؛ قوله: "قرأ: {إِنَّ الصَّفَا} فائدة القراءة بهذه الآية إشعار نفسه بأنه إنما اتجه إلى السعي امتثالاً لما أرشد الله إليه في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. وليعلم الناس أنهم يسعون بين الصفا والمروة من أجل أنهما من شعائر الله، وليعلم الناس أيضًا أنه ينبغي للإنسان إذا فعل عبادة أن يشعر نفسه بأنه يفعلها طاعة لله عز وجل كما لو توضأ الإنسان

فينبغي أن يستشعر عند وضوئه أنه يتوضأ امتثالًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. ويشعر أنه يتوضأ وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه يتّبعه في وضوئه، وهكذا جميع العبادات، فإذا استشعر الإنسان عند فعل العبادة أنه يفعلها امتثالًا لأمر الله فإنه يجد لها لذة وأثرًا طيبًا وقوله: "ابدءوا بما بدأ الله به"؛ لأن الله بدأ بالصفا فقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} وفيه إشارة إلى أن الله إذا بدأ بشيء كان دليلًا على أنه مقدم إلا بدليل. يقول: "فبدأ بالصفا فرقي الصفا" يعني: رقي عليه، "حتى رأى البيت"؛ أي: الكعبة، "فاستقبل القبلة فوحد الله وكبّره"؛ أي قال: "الله أكبر"، ووحد الله يعني: بالذكر مثل: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". وقال -يعني: بعد التكبير والتوحيد-: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، وقد سبق لنا مرارًا شرح هذه الجملة. وقوله: "لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، نصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" في هذا دليل على جواز السجع بشرط أني كون غير متكلف، "لا إله إلا الله وحده" يعني: لا معبود حق إلا الله وحده، "أنجز وعده" بماذا؟ بنصر المؤمنين، فإن الله أنجز لرسوله ما وعده، "ونصر عبده" يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يراد به الجنس، أي: نصر كل عبد له، "وهزم الأحزاب وحده"، الأحزاب في غزوة الأحزاب، فإنه عز وجل هزمهم بالريح التي أرسلها عليهم والرعب الذي ألقاه في قلوبهم، ويحتمل أن يراد بالأحزاب هنا ما هو أعم؛ يعني: كل حزب يحارب الله فالله -سبحانه وتعالى- يهزمه كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20]. ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات؛ إذن يقول هذا الذكر ثم يدعو، ثم يقوله مرة أخرى ثم يدعو، ثم يقوله مرة ثالثة ثم ينزل؛ لأنه قال: "ثم دعا بين ذلك"، والبينية تقتضي أن يكون محاطًا بالذكر من الجانبين، فيكون الدعاء مرتين والذكر ثلاث مرات. "ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة" يقول: "نزل إلى المروة ماشيًا" بدليل قوله: "حتى إذا نصبت قدماه في بطن الوادي سعى"، وبطن الوادي هو مجرى السيل ومكانه ما بين العلمين الأخضرين الآن، وكان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مسيل المياه النازلة من الجبال، وإنما سعى؛ لأن أصل السعي من أجل سعي أم إسماعيل رضي الله عنها فإن أم إسماعيل لما وضعها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- هي وولدها في هذا المكان وجعل عندهما ماء وتمرًا، فجعلت الأم تأكل من التمر وتشرب من الماء وترضع الطفل، فنفذ التمر والماء وجاعت الأم وعطشت ونقص لبنها فجاع الطفل، فجعل الطفل يصبح

ويتلوَّى من الجوع، فأمه -من أجل الأمومة- رحمته وخرجت إلى أدنى جبل إليها لعلها تسمع أحدًا أو ترى أحدًا، فصعدت الصفا وجعلت تستمع وتنظر فلم تجد أحدًا، فرأت أقرب جبل إليها بعد الصفا المروة فاتجهت إليه تمشي وهي تنظر الولد فلما نزلت بطن الوادي احتجب الولد عنها فجعلت تركض ركضًا شديدًا من أجل أن تلاحظ الولد، فلما صعدت من المسيل مشت حتى أتت المروة ففعلت ذلك سبع مرات وهي في أشد ما يكون من الشدة بالنسبة إليها جائعة عطشى وبالنسبة إلى الولد، وعند الشدة يأتي الفرج؛ فبعث الله عز وجل جبريل فضرب بجناجه الأرض في مكان زمزم فنبع الماء بشدة فجعلت أم إسماعيل تحجز الماء تخشى أن يضيع من شدة شفقتها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عينًا معينا لكنها حجزتها ثم شربت من هذا الماء، فكان هذا الماء طعامًا وشرابًا، وجعلت تسقي الولد، والحديث ذكره البخاري- مطولًا، المهم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما انتحبت قدماه في بطن الوادي سعى من أجل أن الناس إنما سعوا من أجل سعي أم إسماعيل، يقول: "حتى أتى المروة", "ففعل على المروة كما فعل على الصفا" فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سبع مرات، فلما كان آخر طواف على المروة نادى وهو على المروة وأمر الناس أن من لم يسق الهدي منهم أن يجعلوا نسكهم عمرة، فجعلوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم حتى قالوا: الحلّ كله يا رسول الله؟ قال: "الحلِّ كله"، قالوا: نخرج إلى منى وذكر أحدنا يقطر منيًّا؛ يعني: من جماع أهله؟ قال: "افعلوا ما آمركم به، فلولا أني معي الهدي لأحللت معكم"، فأحلّوا -رضي الله عنهم-، أما النبي صلى الله عليه وسلم ومن ساق الهدي فلم يحلّ، ثم نزلوا بالأبطح في ظاهر مكة، فلما كان يوم التروية خرجوا إلى منى، فمن كان منهم باقيًا على إحرامه، فهو مستمر في إحرامه ومن كان قد أحل أحرم بالحج من جديد. يقول: "فلما كان يوم التَّروية توجهوا إلى منًى" ويوم التّروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة، وسمي بذلك؛ لأن الناس يتروون فيه الماء لموسم الحج، ومن هذا اليوم إلى اليوم الثالث عشر، ولكل يوم من هذه الأيام الخمسة اسم خاص، فالثامن يوم التروية، والتاسع يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، والحادي عشر يوم القر، والثاني عشر يوم النّفر الأول، والثالث عشر يوم النفر الثاني. يقول: "توجهوا إلى منًى وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر"، قصرًا بلا جمع، "ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس"، فأجاز حتى أتي عرفة فوجد قبة قد ضربت له بنمرة، "أجاز" بمعنى: تعدّى، وإنما قال: أجاز يعني تعدَّى؛ لأن قريشًا كانوا يقفون يوم عرفة في مزدلفة ويقولون: إنا أهل مكة وأهل الحرم لا نقف في الحلّ، وهذا من

الحّمية الجاهلية والعياذ بالله، أما النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز حتى أتى عرفة، وكان قد أمر أن تضرب له قبة بنمرة وهي قرية قرب عرفة، فضربت له القبة بنمرة فنزلها حتى زالت الشمس، وهذا النزول فيه استراحة بعد التعب من المشي من منّى إلى عرفة؛ لأن هذا أطول مسافة في الحج من منّى إلى عرفة، من منّى إلى مكة قريب، ومن منّى إلى مزدلفة قريب، ومن عرفة إلى مزدلفة قريب، وأطول ما يكون من منّى إلى عرفة، فبقى النبي صلى الله عليه وسلم هنالك واستراح. يقول: "حتى إذا زالت الشمس أمّر بالقصواء فرحلت له" "القصواء" اسم ناقته، "فرحلت له" أي: جعل رحلها عليها، ثم ركب -عليه الصلاة والسلام- "فأتى بطن الوادي"، أي: وادي عرنة، "فخطب الناس، ثم أذّن ثم أقام"؛ أذن؛ يعني: أمر من يؤذن، وكذلك في الإقامة، "فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر"، ففي هذه الجملة أنه ينبغي الإحرام بالحج في اليوم الثامن، وأن يبقى الإنسان الحاج في منى يوم الثامن وليلة التاسع، وأن ينزل بنمرة إلى زوال الشمس، وهذا على سبيل الاستحباب، ثم فيه أيضًا: أنه ينبغي أن يخطب خطبة، هذه الخطبة قال بها حتى من لم يقولوا بخطبة صلاة الكسوف، والصحيح: أن الخطبة في صلاة الكسوف سنة، وكذلك الخطبة هنا سنّة، هذه الخطبة بين فيها الرسول صلى الله عليه وسلم قواعد الإسلام وشيئًا من الفروع المهمة كتحريم الربا الذي قال فيه: "ربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع من ربانا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله". "وصلى الظهر والعصر جمع تقديم"، وفيه: أنه يسن جمع التقديم في يوم عرفة، وإنما صلى جمع تقديم من أجل اجتماع الناس؛ لأن الناس إذا تفرقوا بعد الصلاة تفرقوا في موافقهم، فلو أخرت صلاة العصر لكان كل طائفة يصلون وحدهم في مكانهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يجتمع الناس حتى وإن أدى ذلك إلى جمع الصلوات التي يجمع بعضها إلى بعض، أرأيتم جمعة في المدينة من أجل المطر ما المقصود منه؟ حرصًا على الجماعة، وإلا ففي إمكانهم أن يذهبوا إلى بيوتهم ويصلُّوا فيها، وهم معذورون في هذه الحال لكن من أجل الجماعة، هذا مثله كذلك أيضًا أبدى بعض العلماء حكمة أخرى قال من أجل أني طول زمن الوقوف والدعاء حتى لا يشتعل الناس بالطهارة للصلاة والنداء لها والاجتماع إليها ويبقون في الدعاء والتفرغ لله من حين يصلون الظهر والعصر جمع تقديم. يقول: "ولم يصل بينهما شيئًا"؛ وذلك لأن سنة الظهر تسقط عن المسافر.

"ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بن ناقته القصواء إلى الصَّخرات وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة"، ذهب -عليه الصلاة والسلام- إلى موقفه إلى أقصى عرفة من الشرق من خلف الجبل جعل بطن الناقة إلى الصَّخرات، يعني: يلي الصَّخرات وجبل المشاة، وهو طريق يمشي به الناس جعله بين يديه -عليه الصلاة والسلام-، واستقبل القبلة ولم يزل على بعيره حتى غربت الشمس وهو مشتغل بالابتهال إلى الله عز وجل والتضرع إليه، رافعًا يديه إلى الله -تبارك وتعالى- حتى غربت الشمس، ولم يمل ولم يتعب مع طول القيام، ولكن الله عز وجل أعانه على طاعته عونًا، وثبت أنه -عليه الصلاة والسلام- سقط خطام ناقته فأخذه بإحدى يديه وهو رافع الأخرى، وهذا يدل على تأكد رفع اليدين هنا، المهم: أنه بقي يدعو. يقول: "لم يزل واقفًا حتى غربت الشمس وذهبت الصُّفرة قليلًا حتى غاب القرص ودفع". في هذا من الفوائد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى ذلك الموقف؛ لأنه -والله أعلم- كان من عادته أن يكون في أخريات القوم، وهذا هو آخر حدود عرفة من الناحية الشرقية أو هو آخر ما يصل إليه الحجاج في ذلك الوقت، ووقف هذا الموقف وقال للناس: "وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف"، حتى لا يجتمع الناس إلى هذا المكان فيحصل الضيق والعنت عليه، كأنه يقول: الزموا أماكنكم فإن عرفة كلها موقف. ويستفاد من ذلك: استقبال القبلة حال الدعاء يوم عرفة ورفع اليدين، وأن الإنسان إذا تشاغل بما ينفع المسلمين من إجابة سؤال أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فإن ذلك لا يقطع دعاءه؛ لأن نفع هذا متعدًّ، والدعاء نفعه خاص غير متعدًّ، فلا ينبغي للإنسان مثلًأ إذا اشتغل بالدعاء في عرفة وجاء شخص يسأله أن يكشر في وجهه أو يقول: لا تشغلني أو ما اشبه ذلك، اللهم إلا في مسائل لا تفوت، وهذا السائل الذي معك سيدركك ويسألك في وقت آخر، فهنا ربما نقول: إنه يسوّغ لك أن تقول: لا تشغلني واشتغل بالدعاء وقد يكون السائل من رفقتك ويكون السؤال لا حاجة لبيانه في هذا الوقت؛ لأن المسألة علمية تناقشوا فيها واختلفوا وجاءوا إليك يسألونك فلكل مقام مقال، لكن لو تكون مسألة واقعة حادثة تحتاج إلى حل فإن التشاغل إلى إجابة السائل هنا أفضل من التشاغل بالدعاء. ومن فوائد هذه الجملة: أنه لا دفع من عرفة إلا بعد الغروب لقوله رضي الله عنه: "حتى غاب القرص ودفع" ولا يجوز الدّفع قبل الغروب، لكن لو دفع فهو آثم والحج صحيح لحديث عروة بن مطرف رضي الله عنه سيأتي إن شاء الله، الدفع قبل الغروب فيه عدة مفاسد:

الأولى: أنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنه موافق لهدي المشركين؛ لأن المشركين كانوا يدفعون من عرفة إذا كانت الشمس على الجبال كالعمائم على الرءوس فدعوا. الثالث: أن فيه نقصًا في الوقوف الذي هو الركن، ومعلوم أن الأركان أفضل من الواجبات، والواجبات أفضل من السنن؛ لأنه كلما تأكدت العبادة كانت أفضل لقوله تعالى في الحديث القدسي: "ما تقرّب إلىّ عبدي بشيء أحبُّ إلىّ مما افترضته عليه". قال رضي الله عنه: "ودفع وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله"، "شنقه" يعني: جذبه "حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله" يعني: رقبتها؛ لماذا؟ لئلا تندفع؛ لأن دفع الناس جميعًا والإبل ومشيها، يعني: يأخذ بعضها بعضًا حتى تسرع كما يقول العامة: "إن بعضها يشيل بعض"، لكن الرسول شنق لها الزمام لئلا تسرع، وهو يقول بيده اليمنى: "أيها الناس السكينة السكينة". "وهو يقول بيده اليمنى: يا أيها الناس، السكينة السكينة" يعني: اسكنوا، اطمئنوا. يقول: "وكلما أتى جبلًا من الجبال أرخى لها قليلًا حتى تصعد" في هذه الجملة كيف يدفع الإنسان من عرفة؟ يدفع بسكينة بقدر ما يستطيع ويأمر الناس بالسكينة ليسكنوا، يأمرهم بصوته إن تمكن أو بمكبر الصوت. وفيه أيضًا: حسن رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم لما هو مولِّى عليه هذه البهيمة، "إذا أتى جبلًا من الجبال" يعني: شيئًا مرتفعًا أرخى لها قليلًا حتى تصعد رفقًا بها، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه إذا وجد فجوة نص؛ أي أسرع السير، فيؤخذ من هذا وذاك أنه ينبغي للإنسان مراعاة ما هو راكب عليه وأنه إذا وجد فجوة ومتسعًا فليسرع. يقول: "حتى إذا أتى مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذنان وإقامة، ثم ركب حتى إذا أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعا وكبَّر وهلل، فلم يزل واقفًأ حتى أسفر جدُّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس". هذا موقف مزدلفة، دفع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة بسكينة وهو يسكن الناس -عليه الصلاة والسلام-، وفي أثناء الطريق نزل فبال وتوضأ وضوءًا خفيفًا، فقال

له أسامة -وكان رديفة-: يا رسول الله، قال: الصلاة أمامك؛ لأنه لا يمكن الصلاة في الطريق؛ لأن إيقاف الناس -وهم مندفعون- فيه شيء من الصعوبة ثم المبادرة ما دام ضوء النهار باقيًا أرفق بالناس؛ ولهذا قال: الصلاة أمامك، فلما وصل إلى مزدلفة أمر بلالًا فأذن، ثم أقام فصلى المغرب ثم أناخ كل واحد بعيره ثم صلى العشاء. وفيه أيضًا: دليل على أنه لا ينبغي في ليلة المزدلفة أن يشتغل الناس بالذكر أو بالقرآن أو بالصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اضطجع حتى طلع الفجر، وهذا من حسن رعايته لنفسه -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه بعد التعب في المسير من عرفة إلى مزدلفة وفي النهار كان مشتغلًا بالدعاء وبتعليم الناس وتوجيههم تحتاج النفس إلى راحة فنام كل الليل، ولم يذكر جابر ولا غيره فيما أعلم هل أوتر النبي صلى الله عليه وسلم أو لا، والظاهر أنه أوتر؛ لأنه لم يكن يدع الوتر لا حضرًا ولا سفرًا. وفيه: أنه ينبغي تقديم صلاة الفجر في يوم العيد في مزدلفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر من حين تبين له الفجر، ولكن يجب الحذر من الاغترار بفعل بعض الناس، فإنه في ليلة المزدلفة تسمع بعض الناس يؤذن قبل الوقت بساعة أحيانًا يستطيلون ثم يقوم يؤذن ويصلي الفجر ويمشي وليته لم يضر إلا نفسه، لكن إذا سمعه يؤذن أذن وتتابع الناس؛ ولهذا يجب الحذر في صلاة الفجر ليلة مزدلفة. وفيه: أنه ينبغي للإنسان أن يتقدم إلى المشعر الحرام إما براحلته إن كان على راحلة أو بقدمه إن كان ماشيًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم إليه ومع ذلك قال: "وقفت ها هنا وجمع كلها موقف" ويدعو إلى أن يسفر جدَّا ويتبين النهار تمامًا ثم يدفع إلى منى. قال رضي الله عنه: "حتى أتى بطن محسر .... الخ" "أتى بطن محسر" هذا بطن الوادي، وسمي محسرا؛ لأ، هـ سالكه؛ لأن فيه رملًا ودعثًا فيحسر سالكه، "فحَّرك قليلًا" لماذا؟ قيل: لأن هذا هو المكان الذي نزلت فيه عقوبة أصحاب الفيل فأسرع فيه، ولهذا أمر أن يسرع الناس إذا مروا بديار ثمود، وقيل: إنه أسرع فيه من أجل أنه دعث وعادة يكون المشي في الدعث بطيئًا فحَّرك، وقيل: إنه حرك؛ لأن قريشًا كانوا ينزلون في هذا الوادي ويذكرون أمجاد آبائهم يفتخرون بهم، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعاكسهم وأن يسرع بدلاً من وقوف قريش، على كل حال: كل هذا ممكن إلا أن القول بأنه أسرع؛ لأن الله أنزل فيه عقوبة أصحاب الفيل كانت في المغمَّس وليست هنا. قال: "ثم سلك الطريق الوسطى"؛ لأن منى فيها ثلاثة طرق شمالية وجنوبية ووسطى، فسلك

- عليه الصلاة والسلام- الوسطى "التي تخرج على الجمرة الكبرى" الجمرة؛ يعني: مكان اجتماع الناس؛ لأن الناس كلهم ينصبون في هذه الجمرة، ورماها صلى الله عليه وسلم وهو راكب وكان معه أسامة وبلال أحدهما يقود به راحلته، والثاني يظلله بثوب يستره من الحر حتى رمى الجمرة -صلوات الله وسلامه عليه-. قال: "حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصى"؛ يعني: يقول: "الله أكبر" "كل حصاة منها مثل حصى الخذف". قال: "ثم رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر" رمس صلى الله عليه وسلم من بطن الوادي؛ لأنه أيسر، وكانت جمرة العقبة في ذلك الوقت في سفح جبل -وأنا أدركت ذلك- فرمى من بطن الوادي؛ لأنه أيسر من أن يرمي من فوق، ولكن كيف رمى؟ جعل الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه والجمرة أمامه، هذا هو الذي ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود، رمى بسبع حصيات. فيستفاد من هذا: أنه ينبغي للإنسان في أسفاره أن يسلك أقرب الطرق إلى حصول المقصود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الوسطى التي تخرج رأسًا على الجمرة الكبرى. وفيه أيضًا: المبادرة برمي جمرة العقبة، يرميها قبل أن ينزل من رحله. وفيه أيضًا: أنها ترمى بسبع حصيات ويكبّر مع كل حصاة. وفيه: أن هذا الحصى ليس بالكبير ولا بالصغير، بل هو مثل حصى الخذف، قال العلماء: وهو بين الحمص والبندق. وفيه أيضًا: أنه يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، فلو رماها من فوق الجبل فالرمي صحيح، لكن ينبغي للإنسان أن يسلك الأشق مع إمكان الأسهل، إلا أنه يقال: ربما يكون رميها من فوق الجبل أسهل إذا كثر الزحام كما كان الناس يفعلونه من قبل، لكن هنا بنوا هذا الجدار من خلفها لما أزالوا الجبل، لئلا ترمى من الخلف، ومع الأسف أنها صارت الآن من الخلف، لاسيما في يوم العيد يأتي الناس بكثرة وزحام ويرمونها. قال: "ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الخ"، انصرف إلى منحر، يعني: مكان نحر الإبل، وكان صلى الله عليه وسلم قد أهدى مائة بعير والواحد منا الآن يتعثر على شاة واحدة واجبة أيضًا، ويقول: أي الأنساك الثلاثة أسهل، وأيها الذي لا يوجد فيه ذبح؟ فيختاره خوفًا من هذه

الشاة، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أهدى مائة بعير وأشرك علي بن أبي طالب في هدية، ونحر منها ثلاثًا وستين بيده، وأعطى عليُّا فنحر الباقي، ثم أمر لكل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت فأكل من لحمها، وشرب من مرقها تحقيقا لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]. قال العلماء: ومن الأمور العجيبة أنه نحر ثلاثًا وستين بيده الكريمة، وكان هذا العدد مطابقًا لسنين عمره صلى الله عليه وسلم، ثم إنه - عليه الصلاة والسلام- حلّ من إحرامه بعد أن رمى ونحر وحلق وتطيَّب ونزل إلى البيت فطاف وصلى بمكة الظهر. والحقيقة: أنه عند التأمل يجد الإنسان بركة عظيمة في هذا الوقت الموجز، وكانت حجة الرسول صلى الله عليه وسلم في الاعتدال الربيعي، يعني: وقت النهار والليل فيه متساويات تقريبًا في هذه المدة الوجيزة عمل هذه الأعمال الكثيرة: دفع من مزدلفة ورمى ونحر ثلاثًا وستين بل مائة وأمر أن تطبخ وأكل من لحمها، وشرب من مرقها، وحلق وحل، ووقف الناس يسألونه، ونزل إلى مكة وطاف وسعى وصلى الظهر في مكة، هذه كلها -في الحقيقة- أعمال عظيمة لكن ببركة الله تمت من زمن قليل، ويؤخذ منه: أن الله عز وجل إذا بارك للإنسان صار يفعل في الوقت القصير أفعالًا كثيرة، وهذا شيء مشاهد، نسأل الله أن يبارك لنا ولكم في الأعمار والأعمال. يقول هنا: "فصلى بمكة الظهر"، وفي حديث أنس في الصحيحين: أنه صلى الظهر في منى، فاختلف العلماء في ذلك؛ فقال بعضهم: نقدم حديث أنس؛ لأنه في الصحيحين، وقال آخرون: نقدم حديث جابر؛ لأن جابرًا ضبط الحج ضبطًا وافيًا فكان أعلم بذلك من غيره، وقال بعضهم: بل نجمع بينهما فنقول: صلى الظهر في مكة في وقتها، ولما خرج إلى منى وجد جماعة من أصحابه لم يصلوا فصلى بهم فيكون صلى بهم مرتين. هنا يقول: "فطاف بالبيت" ولم يذكر السعي؛ لماذا؟ لأنه سعى بعد طواف القدوم، والقارن إذا سعى لعد طواف القدوم كفاه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك"، فقد أدى الواجب، وكذلك أصحابه الذين لم يحلِّوا طافوا معه ولم يسعوا؛ لأنهم كانوا قد سعوا، وعلى هذا يحمل حديث جابر: "لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا طوافه الأول" فيعني بأصحابه هنا: الذين لم يحلُّوا معه

ويتعين هذا؛ لأن الذين حلوا ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه لما كان عشية يوم التروية امرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأحرموا، فلما قضوا المناسك طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، هكذا جاء في صحيح البخاري في حديث ابن عباس قال: "طافوا بالبيت وبالصفا والمروة"، وهو صريح في أنهم طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، وكذلك ثبت في الصحيح من حديث عائشة أن الذين أحرموا بالعمرة طافوا بالصفا والمروة مرتين، وما دام عندنا حديثان صحيحان صريحان في أن المتمتع يطوف ويسعى مرتين فإن حديث جابر يتعين أن يحمل على الذين لم يحلوا، وبهذا نعرف أن ما ذهب إليه جماعة من أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في أن المتمتع يكفيه سعي واحد أنه قول ضعيف، ويتبين لنا أيضًا أن الإنسان مهما بلغ من العلم والفهم فإنه لا يسلم من الخطأ؛ لأنه لا معصوم إلا من عصم الله عز وجل، والإنسان يخطئ ويصيب، وحديث ابن عباس وعائشة كلاهما في البخاري، ومثل هذا لا يخفى على شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه رحمه الله من حفاظ الحديث، حتى قال بعضهم: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، لكن الإنسان بشر فالصواب بلا شك أن المتمتع يلزمه طوافان وسعيان، والقياس يقتضي ذلك؛ لأن العمرة انفردت وفصل بينهما وبين الحج حلُّ كامل وأحرم الإنسان بالحج إحرامًا جديدًا. 708 - وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حجٍّ أو عمرة سأل الله رضوانه والجنَّة واستعاذ برحمته من النَّار". رواه الشافعي بإسناد ضعيف. إذا كان بإسناد ضعيف فلا يكون ذلك سنة، بل يلبي بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا سأل الله الجنة واستعاذ به من النار لا معتقدًا أنه سنّة فلا بأس. 709 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحرت ها هنا، ومنى كلُّها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا وعرقة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف". رواه مسلم. هذا من تيسير الله عز وجل أن الرسول نحر في مكان معين، ولكن قال للناس: "منى كلها منحر"، انحروا في أي مكان منها، وكذلك الوقوف في عرفة وفي مزدلفة، وهذا من يسر الشريعة

صفة دخول مكة

الإسلامية ولله الحمد، وقوله: "منى كلها منحر" يفيد أنهلا نحر إلا في منى، ولكن قال الإمام أحمد: مكة ومنى واحد، فلو نحر الإنسان في مكة فلا بأس، وقد جاء في الحديث: "فجاج مكة طريق ومنحر"، أما في الحل فلا، فلو ذبح الإنسان هديه في عرفة ولو في يوم العيد، فإنه لا يجزئ على ما قاله أهل العلم، فلابد أن يكون النحر في الحرم. صفة دخول مكة: 710 - وعن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ××× إلى مكة دخلها من أعلاها، وخرج من أسفلها" متفق عليه. "من أعلاها" أي: من شرق، يعني: من الحجون، وخرج من أسفلها من المكان الذي يسمى المسفلة، وهل هذا على سبيل الاستحباب أو على سبيل المصادفة؟ المعروف عند أكثر أهل العلم أنه على سبيل الاستحباب، قالوا: وهذا كمخالفة الطريق في العيد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيدين خالف الطريق يخرج من طريق ويرجع من آخر. 711 - وعن ابن عمر رضي الله عنه: "أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ويذكر ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم" متفق عليه. ففيه: استحباب البيات بذي طوى، وهي المعروفة في الوقت الحاضر بآبار الذهب معروفة في مكة. فيه: استحباب الاغتسال لدخول مكة. وفيه: جواز اغتسال المحرم ولو من غير جنابة. صفة الطواف: 712 - وعن ابن عباس رضي الله عنه: "أنه كان يقبل الحجر الأسود ويسجد عليه". رواه الحاكم مرفوعا، والبيهفي موقوفًا. ومعنى السجود عليه: أن يضع جبهته عليه.

713 - وعنه رضي الله عنه قال: "أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا أربعًا، ما بين الركنين" متفق عليه. المراد بالركنين الحجر الأسود واليماني، هكذا عندي، لكن الذي نعرف أنه يمشي في عمرة القضاء، لكن في حجة الوداع فإن الرسول رمل من الحجر إلى الحجر. 714 - وعن ابن عمر رضي الله الله عنه: "أنه كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثًا ومشى أربعًا". - وفي رواية "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت ويمشي أربعة". متفق عليه. 715 - وعنه رضي الله عنه قال: "لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت غير الركنين اليمانين". رواه مسلم. المعروف أن ابن عباس هو الذي رواه عند مناظرته معاوية ولكن لا يمنع أن يكون ابن عمر وابن عباس روياه جميعًا ومع ذلك يراجع هذا الحديث. 716 - وعن عمر رضي الله عنه: "أنه قبل الحجر الأسود؛ فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" متفق عليه. ففيه رد على ما يفعله بعض الناس في الحجر الأسود والركن اليماني؛ يظنون أن الرسول فعل ذلك للتبرك به، حتى إنك تساهده يمسح الركن اليمني بيده ثم يمسح بها وجه طفله وبدنه، يظن أن هذا من باب التبرك! ! وليس هذا في الأصل من باب التبرك في شيء، بل هو من باب التعبد؛ ولهذا قال عمر: "لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". 717 - وعن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن". رواه مسلم. ففيه دليل على أن الإنسان إذا طاف بالبيت ولم يتمكن من استلام الركن بيده ومعه شيء فإنه يستلمه بهذا الشيء ويقبل يده، ولكن يشترط في ذلك ألا يؤذي أحدًا، فإن كان يؤذي أحدًا فإنه لا يفعل؛ لأن الأذية محرمة واستلامه بهذا الشيء سنة.

فإن قال قائل: ألا يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حين استلامه الحجر يؤذي أحدًا؟ فالجواب: لا؛ لأن الناس إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يستلمه بالمحجن سوف يبتعدون ولا يتأذون بذلك، وإنما فعل -عليه الصلاة والسلام- هذا لأنه كان راكبًا ومعه المحجن -وهو العصا المحنية الرأس-. 718 - وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: "طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعًا ببرد أخضر". رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي. هذا فيه الاضطباع وهو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، لكن هذا في الطواف أول ما يقدم وليس في جميع الأحوال كما يفعله العامة. 719 - وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه" متفق عليه. يعني: ويلبي الملبي فلا ينكر عليه، أما الملبي فظاهر، لكن المكبر والمهلل ربما يقول قائل: قد تنكر عليه؛ لأن المقام مقام تلبية، ولكن يقال: كله ذكر لله عز وجل، فلا ينكر على هذا ولا على هذا. تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة: 720 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثقل، أو قال: في الضعفة من جمع بليل" متفق عليه. 721 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة: أن تدفع قبله، وكانت ثبطة -يعني: ثقيلة- فأذن لها" متفق عليه. في هذا دليل على أن الثقيل والضعيف ومن لا يتمكن من مزاحمة الناس في جمرة العقبة له أن يدفع بليل، وكلمة "بليل" مبهمة، فمن العلماء من يقديها بنصف الليل وهو غالب المذاهب، ومنهم من يقول إنها مقيدة بغياب القمر، وهذا ظاهر حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها كانت ترقب

وقت رمي جمرة العقبة والوقوف بعرفة والمزدلفة

غياب القمر فإذا غاب دفعت، وهذا هو الأولى، وظاهر الحديث أنهم يرمون الجمرة من حين يصلون إليها؛ لأنه إذا جاز الدفع من مزدلفة فإنما يدفع من أجل الرمي، لأن الرمي تحية منى، ولا يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأذن لهم في ترك المبيت في مزدلفة وهو واجب من واجبات الحج إلى أن يذهبوا إلى منى ويبقوا من غير رمي لجمرة العقبة. وقت رمي جمرة العقبة والوقوف بعرفة والمزدلفة: 722 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشَّمس". رواه الخمسة إلا النَّسائي، وفيه انقطاع. والانقطاع يوجب ضعف الحديث، فنقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يتقدموا قبل الفجر ليرموا؛ لأن المعروف أن الناس إذا قدموا منى أول ما يفعلون الرمي، ولا نرى حكمة من أن يقال للناس: ادفعوا من مزدلقة وانتظروا في منى فإنهم إن فعلوا ذلك لم يكن فيه حكمة إطلاقًا بل فيه ترك أمر واجب لأمر لا فائدة منه، فالصواب بلا شك: أن من جاز له الدفع في آخر الليل من مزدلفة جاز له الرمي ولو قبل الفجر. 723 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة ليلة النَّحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثمَّ مضت فأفاضت". رواه أبو داود، وإسناده على شرط مسلم. وهو يقوي ما أشرنا إليه من أن من دفع من مزدلفة فيرمي ولو قبل الفجر، وثبت في صحيح البخاري أن ابن عمر كان يبعث بأهله فيوافون منى مع الفجر أو قبل الفجر ويرمون، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للطعن؛ يعني: للنساء. 724 - وعن عروة بن مضرس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد صلاتنا هذه -يعني: بالمزدلفة- فوقف معنا حتَّى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا، فقد تم حجُّة وقضى تفثه". رواه الخمسة، وصححه الترمذيُّ، وابن خزيمة.

والحديث هذا سببه: أن عروة رضي الله عنه كان من أهل الشمال من حائل من جبل طيئ فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسأله عن صلاة الفجر في مزدلفة، وقال: يا رسول الله، أتعبت نفسي وراحلتي وما تركت جبلًا إلا وقفت عنده، فهل لي من حج؟ فقال له هذا الكلام. وفيه: دليل على أن من لم يصل إلى مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر لكنه في وقت صلاة الفجر التي صلاها الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا شيء عليه؛ لأن الرسول قال: "فقد تم حجة وقضى تفثه". وفي قوله: "وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا"، استدل الحنابلة -رحمهم الله- على أن من وقف بعرفة قبل الزوال تم حجه وإن لم يبق حتى الزوال؛ أخذا بعموم قوله: "ليلا أو نهارًا"؛ يعني: حتى لو انصرف قبل الزوال فقد صحّ حجه، لكن عليه دم، لكن جمهور أهل العلم على خلاف ذلك، وقالوا: إن قوله: "أو نهارًا" يعني به: وقت الوقوف، ووقت الوقوف لم يكن إلا بعد الزوال، وينبني على ذلك رجل جاء في الضحى إلى عرفة ووقف بها ثم صار له عذر فذهب من عرفة قبل أن تزول الشمس إما لمرض أو ضياع شيء، المهم: لو خرج من عرفة قبل زوال الشمس ثم عاد إلى مزدلفة بعد الغروب وبات بها فعلى مذهب الحنابلة حجّه صحيح، لكن عليه دم لترك الواجب، وعلى رأس الجمهور حجه ليس بصحيح وقد فاته الحج؛ لأنهم يرون أن وقت الوقوف يكون من بعد الزوال، وقول الجمهور له وجه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف إلا بعد الزوال، وقال: "خذوا عني مناسككم"، والجواب عن حديث عروة: أن النهار قد يراد به بعضه، فيحمل على النهار الذي وقف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ما بعد الزوال. 725 - وعن عمر رضي الله عنه قال: "إن المشركين كانوا لا يفيضون حتَّى تطلع الشَّمس، ويقولون: أشرق ثبير، وأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم خالفهم، فأفاض قبل أن تطلع الشَّمس". رواه البخاريُّ. لا يفيضون من مزدلفة حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير، وثبير جبل مرتفع يبين فيه طلوع الشمس قبل غيره، ويقولون: "أشرق ثبير" كيف يوجهون الأمر إلى الجبل؟ هذا من باب التمني إذا وجه الأمر إلى الجماد فهو من باب التمني وليس أمرًا، ولكنه يتمنى ذلك، ومنه قول الشاعر: [الطويل]

متى تقطع التلبية؟

ألا أيُّها اللَّيل الطَّويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل لا يمكن أن ينجلي اللي بنفسه، ولكنه على سبيل التمني، وخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم كما خالفهم في الدفع من عرفة، فدفع بعد الغروب وهم يدفعون قبل الغروب. متى تقطع التلبية؟ 726 - وعن ابن عبَّاس وأسامة بن زيد رضي الله عنهما قالا: "لم يزل النَّبي (صلى الله عليه وسلم) يلبي حتى رمى جمرة العقبة". رواه البخاريُّ. "حتى رمى جمة العقبة" حتى شرع في ذلك، أو حتى أتم؟ الصواب: أن المعنى: حتى شرع؛ لأن حديث جابر فيه أنه رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ولم يذكر التلبية وعلى هذا فيقطع الإنسان التلبية إذا شرع في رمي جمرة العقبة. صفة رمي الجمرات ووقته: 727 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أنه جعل البيت عن يساره، ومنًى عن يمينه، ورمى الجمرة بسبع حصيات، وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة". متَّفق عليه. الجمرة تكون أمامه، ومنًى عن يمينه، والكعبة عن يساره، وإنما خصّ سورة البقرة؛ لأن فيها آيات كثيرة في الحج، فهذا وجه المناسبة في قوله: "الذي أنزلت عليه سورة البقرة". 728 - وعن جابر رضي الله عنه قال: "رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأمَّا بعد ذلك فإذا زالت الشَّمس". رواه مسلم. فيه دليل على أن رمي الجمرات في الأيام التي بعد العيد بعد الزوال وهذا واجب، ولا يصح الرمي قبل الزوال، وفي قوله: "إذا زالت الشمس"، ولم يبين منتهى الوقت دليل على أنه له أن يرمي ولو بعد غروب الشمس، ويؤيده عموم حديث: "رميت بعدما أمسيت فقال: لا حرج". 729 - وعن ابن عمر رضي الله عنه: "أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة، ثمَّ يتقدَّم، ثم يسهل، فيقوم يستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلًا، ثمَّ

وقت الحلق أو التقصير

يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشَّمال فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو فيرفع يديه ويقوم طويلًا، ثمَّ يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله". رواه البخاريُّ قوله: "على إثر كل حصاة"، وفي حديث جابر: "مع كل حصاة"، وظاهر حديث ابن عمر يخالف حديث جابر، وقد يقال: إن الأمر في ذلك هيَّن، يعني: سواء حذف، أي: رمى، وقال: "الله اكبر" أو يحذف بدون تكبير، ثم يقول بعد الحذف: "الله أكبر" الأمر في هذا واسع، فإن فعل وكبّر مع الرمي فجائز، وإن كبّر على إثره فجائز أيضًا، وقوله: "يسهل" يعني: ينزل مع سهل الطريق. وقت الحلق أو التقصير: 730 - وعنه رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ارحم المحلِّقين. قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله. قال في الثَّالثة: والمقصِّرين". متَّفق عليه. ففيه دليل على أن الحلق أفضل؛ لأنه دعا للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين واحدة. 731 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجَّة الوداع، فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح. قال: اذبح ولا حرج، وجاء آخر، فقال: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج فما سئل يومئذ عن شيء قدَّم ولا أخَّر إلا قال: افعل ولا حرج". متَّفق عليه. ففي هذا الترتيب بين الأفعال التي تفعل يوم العيد وهي خمسة: الرمي، ثم النَّحر، ثم الحلق، ثم الطواف، ثم السعي، هكذا مرتبة فإن قدم بعضها على بعض فلا حرج، لكن هل يشترط أن يكون ذلك عن جهل أو نسيان لقوله: "لم أشعر" أو لا؟ في هذا خلاف بين العلماء؛ منهم من قال: إنه يشترط أن يكون ذلك عن جهل أو نسيان؛ لأنه قال: "لم أشعر"، والصواب: خلافه. صفة التحلل عند الحصر وبعض أحكامه: 731 - وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك". رواه البخاريُّ.

هذا الحديث فيه سنَّة فعلية وسنة قولية: الفعلية قال: "نحر قبل أن يحلق"، والقولية: "وأمر أصحابه بذلك" بأن ينحروا قبل أن يحلقوا. وهذا الحديث الذي ذكره المؤلف هنا إنما كان في صلح الحديبية، ووضعه هنا فيه إيهام، لأن من قرأه يظن أن ذلك كان في حجة الوداع والأمر ليس كذلك، وإنما هذا الحديث في صلح الحديبية، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشًا على أن يرجع ذلك العام ويأتي من العام المقبل أمر أصحابه أن ينحروا ثم يحلقوا، نحر هو ثم حلق، وأمر أصحابه بذلك فنحروا ثم حلقوا، وفي هذا يقول الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محلَّه} [البقرة: 196]. والآية أيضًا ظاهرة في أنها في سياق الحديبية، لأنه قال: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محلَّه} [البقرة: 196]. وعلى هذا فنقول: إن الإنسان إذا أحصر في العمرة ومنع من الوصول إلى البيت فإنه يجب عليه أن ينحر الهدي الذي معه ويجب عليه أن يحلق رأسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وأمر به، فإن لم يكن معه هدي وجب عليه شراؤه حتى يذبحه لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى}. فإن لم يكن معه شيء، -يعني: أنه فقير -فالصحيح أنه لا شيء عليه؛ خلافًا لمن قال من أهل العلم: إنه يجب عليه أن يصوم عشرة أيام قياسًا على هدي التمتع، وذلك لأن الفرق بينهما ظاهر، فإن هدي الإحصار كالفدية عن عدم إتمام النسك، وأما هدي التمتع فهو كالشكر على إتمام النُّسك؛ لأن الإنسان يتم له فيه تمتع بعمرة وحج فبينهما فرق، فلا يمكن أن يقاس أحدهما على الآخر، ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا من الصحابة أن يصوم مع أن كثيرًا من الصحابة فقراء ليس معهم هدي ولم يأمرهم بالصوم، إذن نقول: هذا الحديث فيمن أحصر عن إتمام العمرة، فإنه ينحر الهدي إن كان معه ويشتريه إن لم يكن معه، ثم ينحره ثم يحلق امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واقتداء بفعله. ومن فوائد هذا الحديث: أولًا: جواز التحلل عند الحصر؛ لأن الحلق علامة التحلل، ولكن ما هو الحصر الذي يبيح التحلل هل هو كل حصر، أو الحصر بالعدو خاصة؟ في هذا خلاف بين أهل العلم؛ فمنهم من قال إن المراد به حصر العدو فقط، يعني: إذا حصره عدو ومنعه من الوصول للبيت فإنه يتحلل، واستدل بأن الآية نزلت بسبب حصرهم في الحديبية، واستدل أيضًا بقوله: {فإذا أمنتم فمن تمتَّع بالعمرة إلى الحج} [البقرة: 196]. والأمن ضد الخوف، وعلى هذا فقوله: {فإن أحصرتم} وإن كان مطلقًا غير مقيد يقيده السياق ويقيده السبب الذي نزلت به الآية، فإذا أحصر بعدو منعه عن الوصول للبيت فإنه يفعل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وكما فعل صلى الله عليه وسلم، أمَّا إذا

التحلل الأصغر

أحصر بمرض فإنه لا يتحلل، بل يبقى على إحرامه حتى يشفى ثم ينهي نسكه، فلو أن أحدًا مرض وقد أحرم بالعمرة فإننا نقول: لا تتحلل، بل عليك أن تبقى محرمًا حتى يشفيك الله عز وجل، ثم تكمل العمرة، وكذلك لو كسر الإنسان، فمثلًا إنسان أحرم بالعمرة ثم صار عليه حادث وانكسر ويعرف أنه لن يتمكن من قضاء أو من إتمام العمرة إلا بعد شهرين أو ثلاثة، فإنه يبقى على هذا القول - قول من يخصون الحصر بالعدو -بمعنى أنه يبقى محرمًا إلى أن يبرأ. والقول في الثاني في المسألة: أن الحصر عام، وأن كل إنسان حصر عن إتمام نسكه فإنه يحل منه إن شاء لإطلاق الآية: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى}، وأما تفريع حكم يختص ببعض أفراد هذا المطلق فإنه لا يدل على التخصيص وكذلك السبب لا يدل على التخصيص؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم على فرض أن الحصر بغير العدو لا تتناوله الآية بلفظها، فإنها تتناوله بمعناها، بجامع أن في حصر العدو منعًا من إتمام النسك، وكذلك في حصر المرض والكسر وما أشبه ذلك، فيلحق به من باب القياس على فرض أن اللفظ لا يشمله، وهذا القول هو الراجح؛ أي: أن الحصر عام، فإذا حصر الإنسان قلنا له: انحر هديًا واحلق رأسك. وفي هذا: دليل على وجوب حلق الرأس ووجوب الهدي، أما الهدي فإنه بنص القرآن {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وأما الحلق فإنه بالسنة: "أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلقوا"، وقد يقول قائل: إن في القرآن إشارة إليه وهو قوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محلَّه} [البقرة: 196]. فإن هذا يدل على أن الحلق مشروع لكن الوجوب يثبت بالسنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك، وعلى هذا فيكون الهدي واجبًا وكذلك الحلق، فإن قصر أجزأه، فإن خالف الترتيب فالظاهر أن هذا ليس بجائز لقوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محلَّه}، ولم يرد ترخيص في التنكيس إلا في أنساك يوم العيد. التحلل الأصغر: 733 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رميتم وحلقتم؛ فقد حلَّ لكم الطيب وكل شيءٍ إلا النساء". رواه أحمد، وأبو داود، وفي إسناده ضعف. هذا الحديث وإن كان في إسناده ضعف يؤيده الحديث الثابت في الصحيحين كما سنذكر إن شاء الله. يقول: "إذا رميتم" يعني: رمي جمرة العقبة يوم العيد، "وحلقتم"، وكذلك لو قصر الإنسان فهو بدل عن الحلق.

"فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء"، الطيَّب يعني: ما يتطيب به الإنسان من دهن أو بخور أو غيره، "وكل شيء"؛ يعني: من محظورات الإحرام ليس كل شيء من الموجود؛ لأن الحل لا يحل كل المحرمات وإنما يحل المحظورات، فقوله: "وكل شيء" يعني: من محظورات الإحرام، ومحظورات الإحرام معروفة، مثل: الطيب، والنساء، والصيد، وحلق شعر الرأس، ولبس السراويل والبرانس والعمائم والخفاف، وللمرأة لبس القفازين، تغطية الرأس، النقاب للمرأة، عقد النكاح، الخطبة، هذه كلها تحل "إلا النساء" يعني بذلك: كل ما يتعلق بالنساء من الجماع والمباشرة والنكاح والخطبة، لكن متى يحل؟ إذا طاف ويسعى فيحل الحل كله وإن لم يرم. ففي هذا الحديث دليل على أن الإنسان إذا رمى وحلق حلّ من كل شيء إلا النساء، هذا منطوق الحديث، ومفهومه إذا حلق فقط أو رمى فقط فإنه لا يحلّ، أما إذا حلق فقط فإنه لا يحلّ قولًا واحدًا؛ وأما إذا رمى فقط فظاهر الحديث أنه لا يحل وهو الصحيح، وقال بعض العلماء: إنه يحلّ، واستدل بأن الحديث روي على وجه آخر بسند أصح، وهو قوله: "إذا رميتم جمرة العقبة فقد حللتم من كل شيء إلا النساء". واستدلوا أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية عند رمي جمرة العقبة وهذا يدل على أنه شرع في التحلل وانتهى نسكه لأن التلبية تقال حتى ينتهي النُّسك ولكن القول الراجح ما دلّ عليه هذا الحديث وإن كان ضعيفًا لكنه يعضد بحديث عائشة الثابت في الصحيحين: "كنت أطيَّب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرمه ولحله قبل أن يطوف بالبيت"، فجعلت الطواف مباشرًا للحلّ، وهذا يدل على أن الحلق كان سابقًا للحلّ؛ لأنها جعلت الذي يلي الحلّ هو الطواف، إذن فالحلق سابق على الحلّ، وهذا يدل على أنه لا حلّ إلا بعد الحلق، وهذا أصح لهذا الحديث وللحديث الذي أشرنا إليه في الصحيحين والذهاب إليه أولى؛ لأنه أحوط، وكلما كان أحوط مع اشتباه الأدلة كان سلوكه أولى إن لم نقل أوجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

عدم جواز الحلق النساء

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الحلال ببَّن وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام". ويستفاد من هذا الحديث: أن الطيب يحلّ بالتحلل الأول لقولها: "فقد حل لكم الطيب" وللحديث الذي ثبت في الصحيحين: "كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت" خلافًا لمن قال من أهل العلم: إنه لا يحل له الطيب حتى يحل التحلل الثاني. وفيه أيضًا: دليل على أنه لا يحل له النساء حتى يتحلل التحلل الكامل بخلاف غيره من المحظورات. فإن قلت: هل يشمل هذا الصيد؟ فالجواب: نعم، يشمله فيحل له الصيد. فإن قلت: كيف يصيد وهو في منى ومنى من الحرام، والحرم صيده حرام؟ فالجواب: يمكن أن يخرج إلى عرفة، وعرفة من الحل ويصيد. وهل يجوز أن يخرج من الحرم وهو لم يؤد النسك؟ الجواب: نعم، لا مانع أن يخرج من الحرم وهو لم يؤد النسك؛ لأنه لا دليل على المنع. عدم جواز الحلق النساء: 734 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على النِّساء حلق، وإنما يقصِّرن". رواه أبو داود بإسنادٍ حسنٍ. هذا الحديث فيه دليل على أن النساء ليس عليهن حلق لقوله: "ليس على النساء حلق"، ومفهومه: أن على الرجال الحلق، وهذه هي الفائدة الثانية. ويستفاد منه: وجوب التقصير على النساء، لقوله: "وإنما يقصرن"، ولكن كيف تقصِّر؟ قال العلماء: تأخذ من كل ضفر من الضفائر التي عليها - يعني: الجدائل قدر أنملة - وهي مفصل الأصبع - وإنما وجب عليها ذلك لئلا يجتاح التقصير رأسها، والمرأة تحب أن يبقى شعر رأسها؛ لأنه جمال لها، فلو أمرت بالحلق أو بالتقصير الكبير لفات المقصود من تجملها وجمالها. فإن قلت: هل لها أن تقصر أكثر من ذلك؟

مسألة حكم قص المرأة لشعر رأسها؟

الجواب: لا مانع لكن المعروف عند أهل العلم أنها لا تقصر إلا بهذا المقدار وهو قدر أنملة. مسألة حكم قص المرأة لشعر رأسها؟ وهنا نستطرد لنبحث هل يجوز للمرأة أن تقص شعر رأسها أو لا يجوز؟ نقول: هذا على نوعين: نوع لا يجوز، ونوع اختلف في حكمه، النوع الذي لا يجوز: أن تقص رأسها حتى يكون كرأس الرجل، هذا حرام؛ لأنه من باب التشبه بالرجال، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبِّهات من النساء بالرجال، وكذلك أيضًا لو قصته على وجه يشبه قصّ الكافرات بحيث لا يميز بين هذا القص وقص الكافرات فإن هذا لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم". أما إذا قصته على وجه يشبه قص العاهرات، فهذا لا شك أنه منهي عنه، والعلماء حذروا منه؛ لأن بعض الفاسقات العاهرات يكون لهن زيٌّ معين في الشعر، فإذا قصته على هذا الوجه وإن لم تكن هي عاهرة فإن العلماء نهوا عن ذلك نهيًا شديدًا يقرب من التحريم هذا نوع. النوع الثاني: أن تقصه على وجه لا يشبه ذلك، أي: لا يشبه رءوس الرجال ولا رءوس الكافرات ولا رءوس العاهرات، فاختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقوال: قول بالتحريم، وهو قول صاحب المستوعب من أصحاب الإمام أحمد، وقالوا: إن هذا شهرة؛ لأن المعروف من عادة النساء ألا يقصصن رءوسهن، فإذا قصت صار شهرة، والشهرة منهيّ عنها. وقال بعض العلماء: إنه مكروه، ووجه ذلك: أنه يفوت جمال المرأة الداعي إلى رغبة الزوج فيها، فلا ينبغي أن تفعل. والقول الثالث: أنه لا بأس به؛ لأن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته كن يفعلن ذلك يقصصن رءوسهن، ولو كان حرامًا أو مكروهًا لم يفعلنه. وعلى كل حال: لا تجد في الواقع دليلًا واضحًا لا على التحريم ولا على الكراهة، ولكن الذي يخشى منه أنه إذا رخص للنساء في ذلك صرن يتلفقن كل جديد يأتي من الخارج من غير تمييز بين الصالح والفاسد، والمرأة إذا فتح لها الباب لقلة عقلها ونقص دينها لم يبق لها حاجز يمنعها من أن تتلقى كل ما يرد من خير وشر، وهذا هو الواقع الآن، ولهذا تجد النساء يعتدن أشياء لا تمتُّ إلى اللباس الشرعي بصلة، منها ألبسة النعال وكذلك بعض القمصان وما أشبهها، كل ذلك من أجل أنها تتلقى وتتلقف ما يرد إليها من غير حاجز، ولاسيما وأن كثيرًا من

الناس أصبحوا الآن في بيوتهم كالنساء، بل أدنى من النساء، تسيطر عليه المرأة وهي قوامته، عكس ما عليه الفطرة والشرع من أن الرجل هو القوّام على المرأة. إذن نقول: قص شعر المرأة نوعان: نوع حرام ونوع ليس بحرام، لكن فيه خلاف، قال لي بعض الإخوة: إنما ثبت في الصحيح من حديث معاوية رضي الله عنه أنه أخذ قصة من شعره وهو على المنبر يخطب الناس وقال: إنما هلك بنو إسرائيل من أجل اتخاذ نسائهم هذه، ورفع هذه وقال: إن هذا الدليل على تحريم ما يسمى عند النساء بالقصة، وهي أن تقص مقدم الرأس لكن يحتاج هذا إلى بحث. الرخصة في ترك المبيت بمنى للمصلحة العامة أو للعذر: 735 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن العبَّاس بن عبد المطَّلب رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منًى، من أجل سقايته، فأذن له". متفق عليه. العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كان يتولى سقاية الحاج ماء زمزم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السقاية فيهم، حتى إنه لما نزل في يوم العيد وشرب قال: "انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم". يعني: لولا أن يتبادر الناس إلى السقاية لأنني نزعت الدلو معكم فيتخذها الناس عبادة، والعبادة لا تختص بأحد دون أحد، لولا ذلك لنزعت معكم، كان رضي الله عنه يتولى سقاية الحاج فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة من أجل سقايتهم؛ لأنه يريد أن يسقي الناس ليلًا ونهارًا فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم. فيستفاد من هذا الحديث: أولًا: مشروعية المبيت بمنًى ليالي أيام منى وهي الحادي عشرة والثاني عشر والثالث عشر لمن تأخر، وهذا متفق عليه بين العلماء، ولكن هل المبيت واجب يأثم الإنسان بتركه ويلزمه دم بذلك، أو ليس بواجب؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إنه واجب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بمنى وقال للناس: "خذوا عنِّي مناسككم"، ثانيًا: لأن العباس استأذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له ولو لم يكن واجبًا ما احتاج إلى الاستئذان. ثالثًا أنه داخل في عموم قوله تعالى: {واذكروا الله في أيامٍ معدودات} [البقرة: 202]. فإن ذكر الله يكون بالقول ويكون بالفعل وهو المبيت، ومن العلماء من قال: إنه سنة،

واستدل لذلك بأنه مراد لغيره، فإن المقصود الأعظم هو رمي الجمرات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الطّواف بالبيت وبالصفا والمرة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله"، ولم يقل: والمبيت بمنى؛ لأن الأصل براءة الذمة وعدم التأثيم بالترك. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"، فمن المعلوم أن هذا الحديث ليس على عمومه بالاتفاق وإلا لوجبت الإشارة إلى الحجر الأسود ووجب الرمل ووجب الاضطباع وغير ذلك من الأشياء التي ليست بواجبة، وأما استئذان العباس فلا يمتنع أن يستأذنه في ترك مستحب، فيقول: ائذن لي وإن كان ليس بواجب"، ولكن الذي يظهر وجوب المبيت في منًى، وأنه لا يجوز للإنسان أن يدع المبيت، ولكن ما مقدار الواجب منه؟ قال العلماء: مقدار الواجب منه أن يبيت معظم الليل من أوله أو من آخره فإذا وصل إلى منى مثلًا من مكة وهو في مكة طول النهار ووصل إلى منى قبل منتصف الليل بساعة وبقي إلى الفجر يكون أتى بالواجب؛ لأنه بقي معظم الليل، ولو بقي في منى إلى ما بعد منتصف الليل بساعة مثلًا أجزأه؛ لأنه بقي في منى معظم الليل. وإذا قلنا: بالواجب فهل يلزمه دم بترك ليلة أو بترك الليلتين جميعًا أو بترك الثلاث إن تأخر؟ نقول: لا يلزمه دم بترك ليلة، إنما يلزمه الدم بترك الليلتين إن تعجل أو الثلاث إن تأخّر، فأما إذا ترك ليلة واحدة فلا يلزمه دم، لكن قيل: لا يلزمه شيء، لأنه لم يترك الواجب كاملًا، إذ الواجب المبيت هذه الليالي، فإذا ترك ليلة لم يلزمه الدم؛ لأنه لم يترك الواجب كله وهو لا يتجزأ، وقيل: يلزمه أن يتصدق بشيء، أي شيء يكون مدًّا من طعام أو قبضة من طعام أو أي شيء، وهذا رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وأما أن يلزم بدم مع أنه لم يدع الواجب كله فلا وجه له. إذا قلنا: بالوجوب فهل يسقط هذا الواجب عن أحد؟ نقول: إن الإنسان إذا تركه للتشاغل بمصالح الناس [في الحج] فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعباس أن يدع المبيت من أجل السقاية، وأذن للرّعاة الذين يرعون إبل الحجاج أن يدعو المبيت أيضًا، لأنهم يشتغلون بحاجة عامة، ومثل ذلك في وقتنا الحاضر -جنود الأمن أو جنود تيسير الحجاج، ومن ذلك أيضًا الأطباء الذين يتلقون المرضى في المستشفيات فإنه يسمح لهم في ترك المبيت وكل من يشتغل بمصلحة عامة يعذر في ترك المبيت قياسًا على السقاية

وعلى الرعاة أيضًا، فإن كان لمصلحة خاصة مثل أن تضيع بعيره فيخرج من منى يطلبها، أو يضيع ولده مثلًا فيخرج من منى يطلبه، أو يكون مريضًا يحتاج إلى أن ينتقل إلى المستشفى خارج منى فهل يلحق بهذا أو لا؟ قال بعض العلماء: إنه يلحق؛ لأن هذا عذره عام وهذا عذره خاص، وقد تكون الضرورة في العذر الخاص أشد، وقال بعض العلماء: لا يلحق، وذلك لأن من يشتغل بالمصلحة العامة لا يشتغل في الواقع لنفسه إنما يشتغل لغيره، ولهذا يرخًّص للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يدع صلاة الجماعة ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يرخص للإنسان على وجه الانفراد إلا بعذر يبيح ترك الجماعة، ولكن الذي يظهر أن الشارع يخفف في هذا الواجب؛ لأنه ما دام أذن للرعاة والغالب أن الراعي يشتغل بأجرة، فيكون لمصلحته فالظاهر أن الشارع يرخص في هذا الشيء ويسهل فيه، فإذا كان لإنسان عذر خاص من مرض أو غيره فإنه يعذر في ترك المبيت ولا شيء عليه، ولو فرض أن رجلًا نزل للطواف ولم يتمكن من الوصول إلى منى إلى بعد منتصف الليل إن كان لعذر فلا بأس يسقط عنه، وإن كان لغير عذر فلا يسقط عنه يعني: مثلًا رجل انتهى من الطواف والسعي وركب السيارة لكن نظرًا لزحام السيارات ما وصل إلى عند طلوع الفجر هذا لا شيء عليه؛ لأنه معذور ثم كما قلنا قبل قليل الليلة الواحدة ليس فيها شيء؛ يعني: ليس فيها فدية. فائدة: لو وكل رجلًا ليرمي عنه لا يخرج حتى يرمي وكيله إلا إذا كان سيقع عليه ضرر مثل أن تكون الطائرة سيلحقها ولو تأخر الطائرة التي تليها ستقلع بعد شهر وسيقع عليه ضرر كثير، فهذا كالمحصر بمعنى: أنه يذبح هدي عن ترك الرمي والوداع، وأما المبيت فهو ليلة واحدة يطعم عنها، مع أن الوداع لو وداع في هذه الحال قد يقال: إنه يسقط عنه دم الوداع. كنا قد تكلمنا عن الرمي والحلق والطواف، أم الرّمي والحلق فدليله عرفتموه، وأما الطوف فليس فيه دليل من السُّنة، لكن قالوا: إنه لما كان له تأثير في الحلّ الثاني فإنه له تأثير في الحل الأول، الحل الثاني كيف؟ لأنه إذا رمى وحلق حلّ التحلل الأول؛ فإذا طاف وسعى حلّ التحلل الثاني؛ إذن فللطواف تأثير في الحلّ، فلما كان له تأثير في الحل قلنا: إنه إذا فعله مع الرمي أو مع الحلق فإنه يحل التحلل الأول هذا وجهه، ومع هذا فإنه ينبغي ألا يحل حتى يرمي ويحلق إتباعًا للنص، لكن لو أفتى مفت بذلك بناء على هذا القياس لم يكن بعيدًا، ولكن

الأولى المحافظة على ما جاءت به السنة فيما مر علينا، أيضًا أنه يجوز للإنسان المشتغل بما ينفع عامة الناس أن يدع المبيت بمنًى؛ لأنه قيل: إنه سنة، والراجع أنه واجب، ما دليله؟ 736 - وعن عاصم بن عديٍّ رضي الله عنه: "أنًّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص لرعاة الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النَّحر، ثمَّ يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثمَّ يرمون يوم النَّفر.". رواه الخمسة، وصحَّحه التِّرمذيُّ، وابن حبَّان. قال: "رخص لرعاة الإبل" الرخصة في اللغة بمعنى: السهولة، وعند الأصوليين: "ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح"، ولو قالوا: ما ثبت على خلاف الأصل لمعارض راجح لكان أولى وأوضح وهو كذلك فهذا مرادهم، ومنه رخَّص في المسح على الخفين؛ لأنه على خلاف الأصل، والأصل هو الغسل، ومنه رخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا، رخص بمعنى: سهل وأجاز من الأصل، والأصل التحريم في العرايا، وما هي العرايا؟ أن تبيع الرطب بالتمر؛ لأنه يشترط التماثل، والتماثل بين الرُّطب والتمر مستحيل. المهم: أن الرخصة هي ما ثبت على خلاف الأصل لمعارض راجح، وهو السهولة، فهنا رخّص لهم أن يدعوا المبيت وترك المبيت بمنًى على خلاف الأصل؛ لأن الأصل هو المبيت. وقوله: "لرعاة الإبل" جمع راع، وهم الذين يرعونها في أماكن النبات، والمراد بالإبل هنا: إبل الحجاج؛ لأن الحجاج في منى نازلون لا يحتاجون إلى إبلهم، والإبل تحتاج إلى الأكل فيذهب بها الرُّعاة إلى مواضع القطر والنبات لترعى. "في البيتوتة عن منًى"، كان مقتضى التركيب أن يقول: في البيتوتة في منًى، لكن "عن منى" يحتاج إلى تأويل إما بـ "عن" وإما بالبيتوتة كما مر علينا - في هذا وأمثاله - أن علماء النحو اختلفوا هل التجوُّز في الحرف أو في الفعل الذي قبله يعني: في العامل الذي قبله، وقلنا: إن مذهب البصريين أن التجوز في العامل الذي قبله والكوفيين في الحرف، فمثلًا يقولون: "عن" هنا بمعنى: الباء؛ يعني: البيتوتة بمنى، أما البصريون فيقولون: إن البيتوتة بمعنى: النزوح؛ يعني: النزوح عن منى والبعد عنها، ومعلوم أنهم إذا نزحوا عن منى فلن يبيتوا فيها. على كل حال: رخص لهم في أن يدعوا منى لا يبيتون بها ويبيتون مع إبلهم، لكن الرمي قال: "يرمون يوم النحر"، وهذا لابد منه؛ لأن الحجاج على رواحلهم يوم النّحر فلم يسلموها للرعاة، وليست الرعاة في حاجة إلى أن يؤجلوا رمي يوم النحر. قال: "يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين"؛ يعني: يجمعون يوم الغد

وهو اليوم الثاني من أيام العيد واليوم الأول من أيام التشريق، "ليومين" يعني: لليوم الثاني عشر، إذن سيتركون المبيت ليلة إحدى عشر وليلة اثنى عشر والرمي يوم عشرة ما يرمون يؤجلونه إلى يوم الثاني عشر ثم يرمون يوم الغد؛ لأنهم إذا جاءوا يوم الثاني عشر ما يذهبوا للرعي؛ إذ إن من الناس من يتعجل فيحتاج إلى إبله، ومن الناس من يتأخر فلا يحتاج إلى إبله، وهؤلاء لا يذهبون خارج منى يرعون إبلهم، ولو كانوا يبقون في المرعى إلى يوم الثالث عشر لأخروا رمي الجمرات إلى اليوم الثالث عشر لكنهم يأتون اليوم الثاني عشر من أجل من يتعجل. وفي هذا الحديث فوائد: منها: العناية بالرّواحل - الإبل - وألا تترك بدون رعي في هذه المدّة؛ لأن في ذلك تعذيبًا لها، وإيلامًا لها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيعّ من يقوت". فلا يجوز للإنسان أن يحبس البهائم في مثل هذه المدة وإن كانت الإبل قد تصبر لكنها تصبر مع التحمل والمشقة، والله عز وجل أوجب علينا أن نرعى ما تحت أيدينا رعاية تامة. ومن فوائد الحديث: شمول الشريعة الإسلامية، وأنها تلاحظ حتى البهائم العجم، وذلك بترخيص ترك هذه الشعيرة من أجل مراعاة هذه الإبل. ومن فوائد الحديث: إن المشتغل بالمصالح العامة يسقط عنه وجوب المبيت في منًى؛ لأنه هؤلاء الرعاة سقط عنهم المبيت في منى لقوله: "أرخص"، والترخيص بمعنى: التسهيل، ولو لم يكن المبيت واجبًا لكان رخصة لهؤلاء ولغيرهم، لأن غير الواجب لا يلزم به الإنسان فهو في سهولة منه، إذن ضم هذا الدليل إلى ما سبقه من الأدلة الثلاثة، وربما يكون هذا الدليل أقواها في إفادة الوجوب. ومن فوائد الحديث: وجوب رمي الجمرات، لأنه لم يسقط عن هؤلاء لإمكان قضائه، لكن المبيت لا يمكن قضاؤه، لكن الرمي فعل عمل يمكن قضاؤه، إذن فيستفاد منه: وجوب الرمي؛ لأنه لو لم يجب لقلنا: إنه سنة فات محلها بيومها فلا تقضى، ولكنه يجب قضاؤه. ومن فوائد الحديث: منع الاستنابة في الرمي، ووجهه: أن الرسول صلى الله عليه ولسم لم يرخِّص لهم أن يستنيبوا غيرهم في الرمي عنهم مع أن الحاجة قد تكون داعية لذلك، ولو كانت الاستنابة جائزة في الرمي لأجازه النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فيتفرع على هذا فائدة أخرى وهي: خطأ أولئك القوم الذين يتساهلون في رمي الجمرات اليوم، فتجد الواحد منهم يقول: - وبكل سهولة - خذ يا فلان حصاي ارم بهن وإن كان قادرًا لكن جالس من أجل تناول الشاي، فنقول: هذا حرام. وفيه أيضًا: بيان خطأ من يبيحون للنساء الاستنابة في الرمي مطلقًا؛ لأن الواجب لا يسقط

بهذه السهولة لا يسقط عن المرأة لأنها امرأة، وإلا لقلنا بسقوط طواف الوداع مع الزحام، ولكن نقول: إنه يجب على المرأة أن ترمي بنفسها، والزحام الذي يكون يمكن أن يلافاه الإنسان بتأخر الوقت بدلًا من أن يرمي عند الزوال يرمي بعد العصر، إن لم يمكن بعد المغرب، إن لم يمكن بعد العشاء؛ ولهذا لم يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لسودة والضعفاء أن يوكِّلوا من يرمي عنهم، بل أذن لهم أن يدفعوا قبل الفجر من أجل أن يرموا بأنفسهم. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز جمع رمي أيام التشريق، لكن تأخيرًا لا تقديمًا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهؤلاء أن يجمعوا تأخيرًا ولو كان تقديمًا لرموها يوم العيد لكن تأخيرًا. ومن فوائده: أنه لا يجوز للقادر أن يؤخر يوم رمي إلى اليوم الذي بعده، وجه الدلالة: أنه قال: "رخص"، والترخيص يدل على أنه في غير هذه الحال ممنوع؛ لأن الترخيص خصّ بحالة معينة تقتضي التسهيل، وعلى هذا فلا يجوز أن نجمع أيام التشريق، أي: رمي أيام التشريق إلى آخر يوم بل نرمي لكل يوم في يومه، ومن ذهب إلى ذلك من أهل العلم فمذهبه ضعيف، لهذا الحديث؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي لكل يوم في يومه، ويقول: "خذوا عني مناسككم"؛ ولأنه أظهر في العبادة وأطيب للقلب، كيف ذلك؛ لأن الإنسان يتعبد لله تعالى بهذه العبادة كل يوم، وإذا جمعها فاتت عليه أن يتعبد لله تعالى بها كل يوم، وهذا أمر له شأن؛ لأن الشارع له نظر في أن يتعبد الناس لله عز وجل في الأوقات التي شرع لهم أن يتعبدوا لله فيها؛ وإلا لكنا نقول: تجمع الصلوات الخمس عند النوم وآخر اليوم ويكون عبادته لله تعالى في هذه الصلوات في آخر اليوم، لأجل أن يختم بها يومه، لكن نقول: للشارع نظر في أن تتوزع العبادات على الزمن حتى يبقى القلب عامرًا بهذه العبادة في اليومين أو الثلاثة مثلًا، إذا فجمعها مع مخالفته لهدي النبي صلى الله عليه وسلم يفوت به هذا المعنى العظيم وهو إشغال القلب بهذه العبادة في كل الأيام الثلاثة. ومن فوائد هذا الحديث: أن هذا الدين يسر، وإنه كلما وجد سبب التيسير حل التيسير، ولهذا قال صاحب النظم: وكلُّ ما كلَّفه قد يسِّرا ... من أصله وعند عارض طرا على كل حال: إن كل شيء شرعه هذا الدين فهو ميسر من أصله، "وعند عارض طرأ" يعني: إذا وجد عارض يقتضي التيسير أكثر فإنه ييسره: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب"، هذا من التيسير بدلًا من أن يكلف الرعاة أن يأتوا فردا كل يوم يرموا رخَّص لهم أن يؤخروا.

وهل يقاس على الرعاة من يشبههم ممن يشتغلوا بمصالح المسلمين العامة كجنود المرود وجنود الأمن وجنود الإطفاء والمشتغلين بالبريد؟ نعم لا شك في هذا أنهم يلحقون بهم، فلهم أن يدعوا المبيت ولهم أن يجمعوا الرمي جمع تأخير في آخر يوم. وهل يلحق بهم في تأخير الرمي من كان معذورًا بمرض أو نحوه مثل أن يصيب الإنسان زكام في اليوم الثاني ويؤخر لليوم الثالث؟ الجواب: نعم للمشقة، وما دمنا نعلم - والعلم عند الله - أن العلة في جواز التأخير لهؤلاء الرعاة هو المشقة، نقول: من شق عليه أن يرمي كل يوم في يومه فله أن يؤخر. مسألة الاستنابة في الرمي وضوابطه: ماذا يصنع من لا يستطيع أن يرمي أبدًا؟ قال بعض العلماء: إنه يسقط عنه الرمي؛ لماذا؟ قال: لأن الرمي واجب، والواجبات تسقط بالعجز عنها بنص القرآن: {لا يكلِّف الله نفسًا إلَّا وسعها} [البقرة: 286]. {فاتَّقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. فإذا عجز فإنه لا يلزمه، وقال آخرون: بل إذا عجز فإنه يستنيب، واستدلوا بأن الحج تجوز الاستنابة في جميعه عند العجز ففي بعضه أولى، المرأة التي جاءت للرسول وقالت: "إن أبي أدركته فريضة الله على عباده شيخًا كبيرًا أو يثبت على الراحلة فأحج عنه؟ قال: "نعم"؛ فإذا جاز في جميعه جاز في جزئه، ثانيًا: ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم رموا عن الصبيان، وهذا يدل على أن الاستنابة في الرمي عن العاجز عنه جائز، وهذا هو الأقرب أنه يجوز أن يستنيب؛ أي: أن يقيم نائبًا عنه في الرمي، وإذا قلنا بالجواز فهل نقول للنائب: ارم أولًا عن نفسك ثم اذهب إلى الخيمة وارجع لترمي عن صاحبك؟ لا، لا يجب؛ لأن السعي إلى الجمرات واجب لغيره لا واجب لذاته، وإذا كان واجبًا لغيره فهو وسيلة، فإذا حصل المقصود بدونه سقط. ننتقل من هذه النقطة إلى نقطة أهم منها، وهي إذا وجب الحج على إنسان في القصيم فهل له أن يوكل أو أن يستنيب ممن يحج عنه من مكة أو لا؟ فيه خلاف، ولكن الأقرب للقواعد أنه يجوز؛ لأن سعي الإنسان من القصيم إلى مكة مقصود لغيره ليس مقصودًا أن تمشي؛ ولهذا لو سافرت إلى مكة لا للحج ثم بدا لك - وأنت هناك - أن تحج لا نقول: اذهب إلى القصيم وارجع حاجًا، نقول: حج من مكانك، إذن فالقول الراجح في المسألة الأخيرة: أن الإنسان يجوز أن ينيب عنه من يحج ولو كان ممن يسكن مكة؛ لأن السعي من مكان الوجود إلى مكة وسيلة مقصود لغيره، وعلى هذا نقول للرجل الذي استناب غيره ليرمي عنه: إن الذي استنبته إذا رمى عن نفسه فله أن يرمي عنك دون أن يرجع إلى مكان رحله. وهل يلزمه أن يرمي الجمرات الثلاث عن نفسه أولًا ثم يرجع من الأولى لمن استنابه؟ فيه

خلاف؛ من العلماء من يقول: لابد أن يرمي الثلاث عن نفسه أولًا ثم يعود من الأولى لمستنيبه، وحجتهم في ذلك يقولون: إن رمي الجمرات الثلاث عبادة واحدة ليس كل واحدة عبادة مستقلة، والدليل لذلك: أنه يشرع الدعاء بين الأولى والوسطى والوسطى والثالثة وإذا رمى الثالثة لا يشرع الدعاء وهذا دليل على أنها عبادة واحدة يشرع الدعاء في جوفها لا بعد الانفصال عنها، إذن فلابد أن ترمي أولًا عن نفسك واحدًا اثنين ثلاثة ثم تعود وترمي عن موكلك، وعللوا أيضًا قالوا لأنه إذا رمى عن نفسه أولًا في الجمرة الأولى، ثم عن وكيله فاتت الموالاة؛ لأنه فصل بين رميه الأولى والثانية بالرمي عن صاحبه فأدخل عبادة في جوف عبادة فلا تصح، وقال بعض العلماء: بل يجزئ أن يرمي عنه وعن وكيله في مكان واحد، واستدلوا لذلك بظاهر فعل الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يرمون عن الصبيان، وظاهر النقل أنهم لا يرمون أولًا عن أنفسهم ثم يعودون؛ لأنهم لو كانوا يفعلون ذلك لبينوه ونقلوه، وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله يرى الرأي الأول ويفتي به، فأخبرته برأي شيخنا الثاني عبد العزيز بن باز واستدلاله بهذا الحديث فاستحسنه، على أنه يجوز أن يرمي الرجل عنه وعن موكله في مكان واحد في موقف واحد، لاسيما في مثل حال الناس اليوم في هذا الزحام الشديد المرير، فإن إلزام الناس بأن يكملوا عن أنفسهم ثم يرجعوا لموكلهم، وإذا كان قد وكلهم اثنان فإنهم يرجعون مرتين، إذا وكلهم ثلاثة يرجعون ثلاث مرات وهلم جرًّا فهذا فيه مشقة في هذه العصور، وكل شيء فيه مشقة لا ينبغي أن تلزم الناس به إلا بدليل، لابد من العمل به، فما دامت الأدلة متكافئة أو متقاربة والمسألة ليس فيها رجحان بيِّن فإلزام الناس بهذا العمل الشاق قد يتوقف فيه الإنسان؛ لأن الإنسان ليس له أن يمنع عباد الله بما أحله لهم ولا أن يلزمهم بما لم يلزمهم الله به إلا بدليل لأنك مسئول، العالم مسئول عن توجيه الناس كما أن الأمير الذي ينفذ ويؤدب، لو أن مسئولًا ضرب أحدًا ضربًا زائدًا عن المشروع فإنه سيسأل عنه عند الله، القاضي يجلد ثمانين لو قال: ضعوا واحدًا وثمانين سئل عنه أمام الله وكذلك أنت أيها العالم، لو قلت عن شيء أنه مستحب والأصل أنه واجب كم زدت من سوط؟ فالمسألة ليست سهلة؛ ولهذا نحن في الحقيقة نوجه أنفسنا أولًا وإخواننا طلبة العلم ثانيًا إلى أن يتثبتوا في مسألة الإلزام، ومسألة الاحتياط أو الاستحباب، هذا أمره أهون، لكن مسألة الإلزام تحليلًا أو تحريمًا أو إيجابًا، هذه مسألة تحتاج إلى شيء تثبت به قدمك عند الله إذا سألك يوم القيامة، بعض الناس تجده من شدة غيرته على دين الله يغلب جانب التحريم وبعض الناس لمحبته لتأليف الناس وعرض الدين عليهم ميسرًا تجده يتساهل ويقول: كل شيء زين دعوه يمشي هذا خطأ، الواجب أن تمشي على دين الله، وثق بأنك لو مشيت على دين الله تصلح فلن يصلح عباد الله إلا دين الله أبدًا مهما فكرت.

استحباب الخطبة يوم النحر

أسئلة: - يقول: إذا دفعت الفلوس للشركات التي تذبح الهدي ورميت هل تتحلل؟ الجواب: نقول: تسليم الفلوس ليس ذبح الهدي، إذن نحتاج إلى أن نعلم أنه ذبح الهدي. - هل ذبح الهدي يترتب عليه الحلّ أو لا؟ الجواب: لا يعني أنه يحلّ سواء ذبح الهدي أم لم يذبح، فلو كانت الشاة عندك لها ثغاء أو البعير لها رغاء ورميت وحلقت فالبس ثوبك؛ إذن سقط هذا السؤال من أصله، لكن يرد علينا حديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم سألته إحدى أمهات المؤمنين قالت: ما بال الناس حلُّوا من عمرتهم ولم تحلّ أنت؟ فقال: "إني لبدت رأسي وقلدت الهدي فلا أحلّ حتى أنحره"، فظاهر هذا أن الحل متوقف على النحر، نقول: هذا إن دل على شيء فإنما يكون على من ساق الهدي جمعًا بينه وبين حديث عائشة: "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء". استحباب الخطبة يوم النحر: 737 - وعن أبي بكرة رضي الله عن قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النَّحر ... ". الحديث متَّفق عليه. خطبهم صلى الله عليه وسلم وذكرهم بحرمة هذا اليوم وحرمة الدماء والأموال والأعراض إلى أن تلقوا ربكم، وقرر هذا التحريم حين صار يسأل الصحابة أي يوم هذا؟ أيُّ بلد هذا؟ أيُّ شهر هذا، والحديث معروف، الشاهد من هذا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، فأخذ العلماء من هذا الحديث فائدة وهي استحباب خطبة الناس يوم النحر، ولكن لأي شيء؟ أولًا: ليقرروا ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التحريم؛ أي: تحريم الدماء والأموال والأعراض؛ لأن أحسن ما نتكلم به ما تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثانيًا: أن نذكرهم بما يفعل هذا اليوم من الأنساك وأحكامها؛ لأن الناس محتاجون إلى بيان ذلك هذه خطبة، وهناك خطبة قبلها وهي خطبة عرفة. 738 - وعن سرَّاء بنت نبهان رضي الله عنها قالت: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرُّءوس فقال: أليس هذا أوسط أيَّام التشريق؟ ". الحديث. رواه أبو داود بإسناد حسن. متى يوم الرءوس؟ هو اليوم الحادي عشر، وسمي يوم الرءوس - والله أعلم - لأن الناس يأكلون رءوس الأضاحي والهدايا في ذلك اليوم، فيسمى هذا اليوم يوم الرءوس، فخطبهم النبي

صلى الله عليه وسلم، وهذه الخطبة لتعليمهم الرمي في ذلك اليوم، لأن الرمي في ذلك اليوم يختلف عن الرمي في اليوم الذي قبله، الرمي في اليوم الذي قبله فيه رمي جمرة واحدة فقط وهي جمرة العقبة، وهذا فيه رمي الجمرات الثلاث فيحتاج الناس إلى تفهيمهم الشرع في هذا، وربما تكون مسائل أخرى تدعو الحاجة إلى ذكرها فيشير إليها الخطيب، ففيه أيضًا هذه الخطبة الثانية في منى يوم العيد واليوم الثاني، واليوم الذي بعده يسمى يوم النّفر الأول، والثالث يسمى يوم النفر الثاني. وقوله: "أليس هذا أوسط أيام التشريق؟ " قال بعض العلماء: يؤخذ من هذا الحديث: أن يوم العيد يدخل في أيام التشريق، ولكن هذا من باب التغلبيب، وإلا فإن أيام التشريق يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر. 739 - وعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "طوافك بالبيت وبين الصَّفا والمروة يكفيك لحجِّك وعمرتك". رواه مسلم. عائشة رضي الله عنها كانت أحرمت بالعمرة من ذي الحليفة، فلما وصلت سرف حاضت، فدخل عليها النبي صلى عليه وسلم وهي تبكي فقال: "ما شأنك لعلك نفست؟ " قالت: نعم، فقال لها مسليًا لها: "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم"، ثم قال: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن تطوفي بالبيت"، وفي موطأ مالك: "ولا بين الصفا والمروة"، وهذا وإن لم يذكر فقد صحّ في البخاري وغيره أنها حين طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، وهذا دليل على أنها لم تسع بين الصفا والمروة، وعلى كل حال قال لها هذا وبقيت تفعل ما يفعل الحاج ولم تطف بالبيت، ولما كان يوم عرفة طهرت من الحيض، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وأن تدع العمرة؛ يعني: لا تعتمر؛ لأنه فات وقتها، وأن تجعلها حجة، فأحرمت بالحج، وهل أمره أن تدع العمرة أن تدعها بالنية والفعل أو بالحكم والفعل؟ الجواب: لا؛ لأن هذا الحديث الذي معناه يدل على أنها أدخلت الحج على العمرة، فكانت قارنة فلما طافت بالبيت وسعت بين الصفا والمروة طلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن تعتمر فقال لها: "طوافك بالبيت وبالصفا والمرة يسعك - يعني: يكفيك - لحجك وعمرتك"، ولكنها ألحت على النبي صلى الله عليه وسلم حتى قالت: "لا يمكن أن يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج"، فلما رآها قد ألحت، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يجبر الخاطر فيما لا يخالف الشرع، فأذن لها أن تعتمر، وأمر أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن يخرج بها إلى التنعيم لتحريم بالعمرة ففعل، وكان ذلك في الليلة الرابعة عشرة بعد انتهاء أيام التشريق.

يستفاد من هذا الحديث: أولًا: أن الطواف بالبيت وبالصفا والمروة لا يسقط عن الحائض؛ لأن عائشة كانت حائضًا فلم يسقط عنها بل أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تطوف وتسعى. ويستفاد من هذا الحديث: أن السعي ركن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرنه بالطواف وقال: "يسعك لحجك وعمرتك"، وهذا يدل على أنه لابد أن يكون موجودًا في الحج والعمرة. ومن فوائد الحديث: أن القارن لا يلزمه طوافان وسعيان خلافًا لمن قال بذلك من أهل العلم، وأنه يكفيه طواف وسعي. ومن فوائده: أن العبادتين إذا كانتا من جنس واحد دخلت الصغرى منهما في الكبرى، كيف ذلك؟ لأن العمرة هنا دخلت في الحج، وهما من جنس واحد كلاهما نسك، بل قد سمى النبي صلى الله عليه وسلم العمرة الحج الأصغر، ومثال آخر: لو نوى المحدث حدثًا أصغر لو نوى يغسله الحدثين أجزأ ولا حاجة للوضوء، بل القول الراجح في مسألة الجنب أنه إذا نوى الحدث الأكبر ارتفع الحدثان؛ لأن الله تعالى لم يوجب على ذي الجنابة إلا الغسل فقط، قال: {وإن كنتم جنبًا فاطهَّروا} [المائدة: 6]. ولم يذكر وضوءًا. ومن فوائد الحديث: حسن خلق النبي بالنسبة لأهله، وهذا مأخوذ من مجموع القصة، وليس من هذا الحديث نفسه، وذلك بتسليته إياها حين قال: "إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم"، وكذلك بتطييب خاطرها حين ألحت عليه بأن تأتي بعمرة مستقلة بعد الحج. وهل يستفاد من الحديث: جواز تأخير الطواف عن السعي للقارن؟ نقول: هذا لا شك فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قارنًا وسعى بعد طواف القدوم ولم يطف بعد طواف الإفاضة، لكن لو فرض أن الرجل لم يسع مع طواف القدوم وجعل السعي مع الطواف يوم العيد وقدّمه على الطواف فيجوز. 740 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السَّبع الَّذي أفاض فيه". رواه الخمسة إلا التِّرمذيِّ، وصحَّحه الحاكم. "السُّبع الذي أفاض فيه" هو طواف الإفاضة، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع طاف ثلاثة أطوفة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع فقط، ولو شاء أن يطوف غير ذلك لطاف؛ لأنه قدم في اليوم الرابع من ذي الحجة بوقي نازلًا في الأبطح إلى يوم الثامن ولو شاء لنزل وطاف بالبيت، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يرد ذلك تشريعًا للأمة. فيستفاد منه: أن الحاج لا ينبغي له أن يزيد على هذه الأطوفة الثلاثة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم

يزد؛ ولأن في زيادته على هذه الأطوفة الثلاثة تضييقًا على الناسكين بعمرة أو حج من دون أن يكون مضطرًا إلى ذلك، أما لو كان مضطرًا كما لو كان معتمرًا أو حاجًا فالأمر واضح، إذن متى رمل؟ في طواف القدوم، قال: 741 - وعن أنس رضي الله عنه: "أنَّ النبيَّ صلَّى الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء، ثمَّ رقد رقدةً بالمحصَّب، ثمَّ ركب إلى البيت فطاف به". رواه البخاريُّ. رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرات في اليوم الثالث عشر - لأنه تأخر لما رماها -كان يرميها بعد الزوال وقبل صلاة الظهر نزل من منًى؛ لأن منى أول ما يفعل فيها الرمي وآخر ما يفعل الرمي؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم وهو على بعيره رمى الجمرة وفي آخر يوم كذلك رمى الجمرة، ثم ركب وارتحل، ولم يبق بعد رمي الجمرات، فارتحل وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمحصَّب، المحصَّب، يعني: المكان الذي كثرت فيه الحصباء هو الشِّعب الذي يفيض على الأبطح الآن أظن فيه مقر إمارة، وصار الآن عمارات وفلل لا يمكن المبيت فيه إطلاقًا، ولهذا القول بأن التحصيب سنة أصبح الآن غير وارد؛ لأنه لا يمكن، على كل حال: النبي صلى الله عليه وسلم رقد ثم ركب في آخر الليل ونزل إلى البيت وطاف طواف الوداع وصلى الصبح، ثم ركب إلى المدينة صبح اليوم الرابع عشر، وكانت أم سلمة رضي الله عنها استأذنته أو استفتته في طواف الوداع وقالت: إنها مريضة، فقال: "طوفي من رواء الناس وأنت راكبة"، قالت: فسمعتها يقرأ في صلاة الفجر في ذلك اليوم: {والطور (1) وكتاب مسطور} [الطور: 1، 2]. الشاهد من هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نزل في هذا المكان وصلى فيه أربعة أوقات والخامس في المسجد الحرام. 742 - وعن عائشة رضي الله عنها: "أنها لم تكن تفعل ذلك؛ أي: النُّزول بالأبطح وتقول: إنَّما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَّنه كان منزلًا أسمح لخروجه". رواه مسلم. أعقب المؤلف حديث ابن عباس بهذا الحديث ليبين أن نزول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ليس على سبيل التعبد بل هو أسمح للخروج وأيسر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما انتهى من منى وكان يجب أن يمشي في أول النهار فأين يذهب؟ إذا كان انتهى من منى قبل الظهر وهو يريد أن يسافر إلى المدينة في أول النهار لم يبق إلا أن ينزل في هذا المكان ليستريح وينام ما شاء الله تعالى أن ينام، ثم بعد ذلك يرتحل، فعائشة تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك تعبدًا وإنما فعله لأنه أسمح لخروجه، ولهذا كانت لا تفعله رضي الله عنها، وبعض العلماء يقول: بل فعله تعبدًا، فيكون النزول في هذا المكان سنة، فالعلماء اختلفوا في هذا، ولكن إذا جاء مثل هذا الخلاف

حكم طواف الوداع في الحج والعمرة

والأدلة فيه محتملة أن يكون ذلك على سبيل التعبد أو على سبيل الراحة والتيسير فأيهما نأخذ به؟ قد يقول قائل: إن الأصل المشروعية، وأن النزول في هذا سنَّة، وقد يقول قائل: لا، الأصل عدم المشروعية؛ لأن العبادة لابد أن نعلم أن الشارع شرعه، وهنا ليس عندنا علم؛ لأن الحج بالاتفاق انتهى بعد رمي جمرة العقبة، وهذا المنزل لا نعلم أنه مكان نسك حتى نقول: إن النزول به سنة، وما نزوله في هذا المنزل إلا كنزوله قبل أن يخرج إلى الحج بالأبطح، فهل أنتم تقولون مثلًا: إن نزوله في الأبطح قبل الخروج إلى منى سنة، أو لأنه منزل اختاره لا على سبيل التعبد؟ ليس بسنة، لكن فعل على سبيل أنه نزح عن مكة للتوسعة على من أتى حاجّاً أو معتمرًا في ذلك الوقت، على كل حال: المسألة محتملة أن يكون سنة وألا يكون سنة، والمسألة الآن إنما الخلاف فيها خلاف نظري، لماذا؟ لأنه الآن لا يمكن النزول في الأبطح انتهى الموضوع، لكن لو فرض أن مكة عادت إلى حالتها الأولى يكون النزاع حينئذ له فائدة عملية أما الآن فإن النزاع ما هو إلا مسألة نظرية. حكم طواف الوداع في الحج والعمرة: 743 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: "أمر النَّاس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلَّا أنَّه خفَّف عن الحائض". متَّفق عليه. قال: "أمر الناس"، هذه الصيغة قال علما المصطلح: إن لها حكم الرفع؛ لأن الصحابي إذا قال: "أمر" فإن الآمر هو الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه ليس فوق مرتبة الصحابة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون هو الآمر، بل إن هذا أحد الألفاظ في الحديث، وإلا ففيه لفظ آخر صريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر، وقال ابن عباس: "كان الناس ينفرون من كل وجه"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت"، وهذا مرفوع صريح إلى رسول الله صلى الله علي وسلم، على كل حال قوله: "أمر الناس"، كلمة "الناس" هذه لفظ عام لكن يراد به الخاص، من هذا الخاص؟ هم الذين ينفرون من الحج لقول ابن عباس: كان الناس ينفرون من كل وجه، وقيل: هم الحجاج سواء نفروا أم لم ينفروا، وعلى هذا يكون الطواف للوداع لا للسفر، ولكن لانتهاء أعمال الحج وأن الإنسان عليه أن يودِّع سواء سافر أم لم يسافر، كما أنه إذا ودّع فإنه لو بقي شهرين أو ثلاثة في مكة لا يعيد الطواف، ولكن جمهور أهل العلم على أن المراد بالناس هنا: النافرون من الحج لقول ابن عباس: "كان الناس ينفرون من كل وجه"، ولا ينفر أحد في وقت الحج إلا من كان حاجًّا هذا هو الغالب.

وقوله: "حتى يكون آخر عهدهم بالبيت"، وفي رواية لأبي داود: "آخر عهدهم بالبيت الطواف". فتفسر هذه الرواية معنى الآخرية هنا، وهي أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، وقد يقال: إنه وإن لم ترد هذه الرواية فإن المراد الطواف؛ لأن الذي يختص بالبيت من الأعمال هو الطواف، لو قال قائل: آخر عهدهم بالبيت الصلاة مثلًا، قلنا: الصلاة لا تختص بالبيت، وإلا لقال: بالمسجد مثلًا لما قال: بالبيت وقد علم أنه لا يختص به إلا الطواف؛ فهذه قرينة على أن المراد به هنا الطواف، ولهذا قيل: إن بعض الملوك نذر أن يتعبد لله عبادة لا يشركه فيها أحد من الناس أبدًا قال له: عليّ نذر أن أفعل عبادة لا يشاركني فيها أحد من الناس حين أفعلها، فلا نقول: هي الصلاة، ولا الصيام، ولا الصدقة، فسأل العلماء فقال بعض أهل العلم: أفرغوا له المطاف واجعلوه يطوف وحده حينئذ لا يشاركه أحد ويكون قد وفّى بنذره. أقول: إن قوله: "آخر عهدهم بالبيت" يمكن أن نقول: حتى وإن لم ترد رواية أبي داود المصرحة فإنه يتعين بالقرينة أن يكون المراد الطواف هنا. يقول: "إلا أنه خفف عن الحائض" يعني: خفف الأمر عن الحائض، والحائض معروفة، وهل مثلها النفساء؟ فيها خلاف بين العلماء؛ فابن حزم يرى أن النفساء لا يمتنع عليها الطواف وقد مرّ علينا في أول كتاب الحج وجه استدلاله ولكن الجمهور يرون أن النفساء كالحائض لا تطوف بالبيت، ويجيبون عن هذا الحديث بأنه من باب التغليب، والقيد إذا كان أغلبيًا لا يكون له مفهوم. فيستفاد من الحديث عدة فوائد: أولًا: وجوب طواف الوداع على الحاج لقوله: "أمر الناس ... الخ"، وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. لو قال قائل: قد يكون الأمر هنا للاستحباب؟ قلنا: لا يصح لوجهين: الأول: أن الأصل في الأمر الوجوب إلا بدليل، الوجه الثاني: أنه قال: "خفف عن الحائض"، والتخفيف لا يقال إلا في مقابل الإلزام، إذ لو كان الأمر هنا استحبابًا لم يكن هناك فرق بين الحائض وغير الحائض؛ لأنه خفف عن الجميع؛ إذ إن المستحب لا يلزم به الإنسان. فإن قلت: وهل يجب ذلك في العمرة؟ فالجواب: أن هذا محل خلاف بين العلماء؛ منهم من قال: إنه يجب الطواف للعمرة كما يجب للحج، واستدل لذلك بأن العمرة حج أصغر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال

ليعلى بن أمية: "اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك"، وهذا عام يخرج منه ما لا يفعل في العمرة بالإجماع مثل الطواف، والمبيت، والرمي، والوقوف، وطواف الإفاضة، بل نقول: الطواف لا يخرج؛ لأن العمرة فيها طواف، ونقول: إن المعتمر دخل إلى البيت بتحية - وهذه من باب القياس - فلا يخرج منه إلا بتحية، رابعًا: إن هذا أحوط - أي: الطواف - لأنك إذا طفت لم يقل أحد: لم طفت؟ وإن لم تطف قال الموجبون: لماذا لا تطوف، وما كان أحوط فهو أولى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"، وقوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، لكن مع هذا ليس وجوبه في العمرة كوجوبه في الحج، من أجل الخلاف فقط، وإلا فالأدلة تدل على الوجوب. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب أن يكون الوداع آخر عهد الإنسان؛ لقوله: "آخر عهدهم"، ولكن إذا بقي الإنسان بعد الطواف للصلاة أو اشترى حاجة في طريقه أو تغدى أو تعشى أو ما أشبه ذلك من الأشياء الخفيفة، فإن هذا لا يضر؛ لأنه سبق لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الفجر بعد طواف الوداع، فهذه المسائل اليسيرة لا تضر إلا إذا كان المقصود به الاتجار، يعني: أنه اشترى شيئًا للتجارة، فإن العلماء يقولون: إذا اشترى شيئًا للتجارة فعليه إعادة الطواف. ومن فوائد الحديث: سقوط طواف الوداع عن الحائض لقوله: "خفف عن الحائض"، الحائض لا يجب عليها الطواف لعذر شرعي أو حسي، فقد تكون قادرة، فهل يلحق بالعذر الشرعي العذر الحسي كما لو كان الإنسان مريضًا؟ الجواب: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة لما قالت: إنها مريضة: "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة"، فلم يسقطه عنها للمرض، فما دام هذا الإنسان عاجزًا نقول: يحمل، لكن لو فرض أنه لا يمكن حمله؛ يعني: مرض مرضًا مدنفًا لا يقدر فهنا قد نقول بالسقوط؛ لأن هذا عذر لا يمكن معه الفعل كالحيض بخلاف العذر الذي يمكن معه الفعل كالمرض الخفيف الذي يمكن أن يحمل الإنسان فيه فهذا لا يسقط. ومن فوائد الحديث: تحريم جلوس الحائض في المسجد؛ لأن العلة من منع الحائض من الطواف المكث في المسجد، والطواف مكث، فلا يحل لها أن تمكث في المسجد حتى لو كان للدرس أو للموعظة أو ما أشبه ذلك، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه ولسم النساء أن يخرجن لصلاة العيد وأمر الحيض أن يعتزلن المصلَّى. ومن فوائد الحديث: رحمة الله - سبحانه وتعالى - بعباده؛ حيث خفف عن الحائض فلم يلزمها أن تبقى كما تبقى المرأة التي لم تطف طواف الإفاضة، بل تستمر في سفرها وليس عليها شيء.

فضل الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي

فضل الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي: 744 - وعن ابن الزُّبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، صلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجد هذا بمائة صلاة". رواه أحمد، وصحَّحه ابن حبَّان. قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل" هذا قد يشكل من الناحية العربية؛ حيث ابتدأ بالنكرة، فما الجواب؟ الجواب: أنها أفادت بالوصف "في مسجدي هذا" وقد قال ابن مالك: ولا يجوز الابتدا بالنَّكرة ... ما لم تفد - ثم جعل مثلا لهذا فقال: -كعند زيد نمره وهل فتًى فيكم فما خلٌّ لنا ... ورجل من الكرام عندنا الحديث يطابق المثل الذي ذكره ابن مالك في قوله: "ورجل من الكرام عندنا". وقوله: "أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"، المسجد الحرام أفضل بمائة صلاة في المسجد النبوي، فيكون أفضل من مائة ألف صلاة فيما عداه إلى المسجد النبوي فهو أفضل منه بمائة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم حاثًّا مرغبًا على الصلاة في هذين المسجدين؛ لأن ذكر الفضل في العمل يتضمن الحث عليه والترغيب فيه، ولولا أنه يتضمن ذلك لكان من باب اللغو والعبث؛ يعني: فإذا أثنى الشارع على فاعل أو فعل، فهذا يدل على الحث عليه؛ إذ لو لم يكن كذلك لكان عبثًا لا فائدة منه. وقوله: "صلاة في مسجدي هذا" أشار إليه؛ لأنه مشاهد محسوس، قال: "مسجدي هذا"، والإشارة -كما عرف -تعيين الشيء بواسطة الإشارة بالإصبع فهي إشارة حسية في الأصل لكن قد تكون إشارة معنوية كقول المؤلف: "هذا كتاب فيه كذا وكذا". وقوله: "في مسجدي هذا" يعني" مسجد المدينة، وأضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى نفسه؛ لأنه هو الذي بناه وابتدأه، فإنه صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة فأول شيء بدأ به اختيار مكان المسجد وبنائه. وقوله: "أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" أي: من المساجد، بدليل قوله: "إلا المسجد

الحرام"، والأصل في المستثنى أن يكون من جنس المستثنى منه، فهو أفضل من ألف صلاة فيما عداه من المساجد إلا المسجد الحرام. وقوله: "إلا المسجد الحرام"، "المسجد الحرام" يعني: الذي له الحرمة والتعظيم وهو مسجد مكة خاصة لقوله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للنَّاس} [المائدة: 97]. ولقوله: {وصدُّوكم عن المسجد الحرام} [الفتح: 25]. والنصوص في هذا كثيرة. وقوله: "صلاة في المسجد الحرام أفض من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة" يدل على أن المسجد الحرام أفضل من المسجد النبوي بمائة صلاة فيكون أفضل من غيره بمائة ألف يعني: لو صليت جمعة واحدة في المسجد الحرام صارت أفضل من مائة ألف جمعة فيما عداه، كما مائة ألف جمعة من السَّنة؟ السنة فيها حوالي خمس وخمسين جمعة فيكون حوالي ألفين سنة، على كل حال: فضل عظيم في الصلاة في هذا المسجد. نعود إلى الحديث: "صلاة في مسجدي هذا" الإشارة تدل على تعيُّن المشار إليه، فهل المراد المسجد الذي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وما زيد فيه فلا يدخل فيه، أم نقول: إن المراد المسجد وما زيد فيه؟ في هذا خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: المراد به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو مسجده، وأما ما زيد فيه فلا يدخل في هذا التفضيل، وحجتهم في ذلك الإشارة؛ لأن الإشارة تعين المشار إليه: "مسجدي هذا ... "، وإلا لأطلق، وقال: "في مسجدي" وسكت، فلما قال: "هذا" علم أنه لا يتناول ما زيد فيه، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم وقالوا: إن الزيادة لا شك أن لها فضل لكنها لا يحصل فيها هذا الفضل، وقال بعض أهل العلم: بل إن ما زيد فيه فله حكمه، واستدلوا بحديثين ضعيفين جاء فيهما أن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لو بلغ صنعاء فهو مسجده، وهذا الحديث ضعيف، لكن يعضد فعل الصحابة وإجماعهم - رضي الله عنهم -، فإن الصحابة أجمعوا على الزيادة التي زادها عمر، وأجمعوا أيضًا على الصلاة في الزيادة التي زادها عثمان رضي الله عنه، ومعلوم أن الزيادة العثمانية قبلي المسجد، وأن الصحابة كانوا يصلون في قبلي المسجد في الصف الأول ولم يذكر أنهم كانوا يتأخرون حتى يكونوا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا شبه إجماع من الصحابة على أن ما زيد فيه فله حكمه، وهذا هو الصواب بلا شك، وقد صرّح به شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن ما زيد في المسجد فهو منه.

مسألة مهمة: هل المراد بالمسجد الحرام جميع الحرم، أو المراد به مسجد الكعبة خاصة؟ في هذا أيضًا نزاع بين أهل العلم؛ فمنهم من قال: المراد به كل الحرم، فإذا صليت في أي مكان من الحرم ولو كان في خارج حدود مكة فصلاتك أفضل من مائة ألف صلاة إلا المسجد النبوي، واحتج هؤلاء بقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1]. وقرروا هذه الحجة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسرى به من بيت أم هانئ رضي الله عنها، ومعلوم أن بيت أم هانئ خارج مسجد الكعبة، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرّام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} [البقرة: 217]. فقالوا: {وإخراج أهله منه}، ومعلوم أن هؤلاء إنما أخرجوا من بيوتهم وديارهم وليسوا من المسجد نفسه؛ لأنهم ليسوا ساكنو المسجد بل هم في بيوتهم، وهنا قال: {وإخراج أهله منه أكبر عن الله}، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {هم الذين كفروا وصدُّوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفًا أن يبلغ محلَّه} {الفتح: 25]. وهم إنما صدوهم عن مكة وعن المسجد الحرام ولا شك، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا إنَّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. قال: لا يقربوا المسجد الحرام، وهم ممنوعون من دخول مكة، فدل هذا على أن المراد بالمسجد الحرام كل الحرم، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {إن الذَّين كفروا ويصدُّون عن سبيل الله والمسجد الحرام الَّذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد} [الحج: 25]. هو: المديم المكث؛ لأن الاعتكاف طول المكث، والناس إنما يمكثون في بيوتهم، فقالوا: إن هذه الآيات تدل على أن المراد بالمسجد الحرام: جميع مكة، أما من السنة فقد قالوا: إنه قد روى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية كان مقيمًا في الحلّ، وكان إذا حانت الصلاة دخل فصلى في الحرم، وهذا يدل على أن الصلاة في الحرم كله يشملها التضعيف في الأجر، وربما يستدلون بالمعنى والنظر فيقولون: لو خصصناه بالمسجد الحرام الذي هو مسجد الكعبة لضيقنا على الناس؛ لأن كل واحد في مكة لا يرغب أبدًا في أن يدع مائة ألف صلاة وبينه وبينها هذه المسافة القريبة، بل لابد أن يذهب ويصلي، وحينئذ يحصل الضيق والمشقة على الناس، قالوا: ويدل لهذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام في الأبطح أربعة أيام قبل الخروج إلى منى ولم يكن ينزل إلى المسجد الحرام ليصلي فيه مع قرب المسافة وسهولتها، كل هذه الأدلة استدلوا بها على أن المراد بالمسجد الحرام جميع الحرم.

وقال آخرون -وهو ظاهر كلام الحنابلة -رحمهم الله -: إن المراد بالمسجد الحرام مسجد الكعبة فقط، وقالوا: عندنا دليل لا يمكنكم معه الكلام إطلاقًا وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال - فيما رواه مسلم - من حديث ميمونة رضي الله عنها: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة"، هذا لفظ الحديث في مسلم، فقال: "إلا مسجد الكعبة"، وهذا صريح في أن المراد بالمسجد الحرام في مثل هذا الحديث مسجد الكعبة الذي فيه الكعبة، وبأن حديث أبي هريرة: "لا تشدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ... "، وهناك رواية في مسلم أيضًا: "لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، فصرّح بأن المراد بالمسجد الحرام مسجد الكعبة، وهذا لو قال قائل: الحديث واحد، نقول: إن كان هذا اللفظ -"المسجد الحرام هو مسجد الكعبة" - من النبي صلى الله عليه وسلم فقد فسّر بقوله: وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل اللفظين فقد فسّره الصحابي وهو أعلم بمدلول كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن من تفسير الصحابي فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحد اللفظين، وما دام لا مرجح بينهما فيكون كل واحد منهما مقابلًا للآخر، ويكونان سواء. على كل حال: هذا الحديث - ولاسيما حديث ميمونة؛ لأن نص في الموضوع - يعتبر فيصلًا في النزاع وهو: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة"، وعندي أن هذا يكفي عن كل شيء، لكن مع ذلك لابد من الإجابة من أدلة القائلين بأن يعم جميع الحرم، يقولون أيضًا: عندنا دليل آخر: "لا تشد الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ... "، فهل تقولون: إنه يجوز للإنسان أن يشد الرحل إلى مسجد الشَّعب والجدرية وأدنى مسجد في مكة؟ الجواب: ما أظنهم يقولون بذلك، اللهم إلا إن كان التزامنا عند المضايقة؛ لأنه عند المناظرة قد يلتزم الإنسان بما لا يعتقده، لكن كما يقال: فك المشكلة. فنحن نقول: إذا كنتم لا تجيزون أن تشدّ الرِّحال إلى مسجد من مساجد مكة سوى مسجد الكعبة فما الفرق بين قوله: "لا تشدّ الرِّحال إلا ثلاثة مساجد: المسجد الحرام"، وبين قوله: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"؟ لا فرق، ثم إن المعنى يقتضيه وهو أنه إنما جاز شدّ الرِّحال إلى هذه المساجد، لماذا؟ لتميزها في الفضل، فإذا قلتم: إن الذي تشدّ إليه الرَّحل هو مسجد الكعبة؛ فقولوا: إن الذي فيه الفضل هو مسجد الكعبة وإلا لصار ذلك تناقضًا.

أما الجواب عن الأدلة التي استدل بها هؤلاء: فأما قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .... } [الإسراء: 1]. فالثابت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم أسري به من حطيم الكعبة: "بينما أنا نائم في الحطيم"، أو قال "مضطجع أتاني آت"، وحينئذ يكون الإسراء به من المسجد الحرام الذي هو مسجد الكعبة لا غير، ورواية بيت أم هانئ إن صحت فقد جمع بينها وبين هذا الحديث واضطجع فيه أو نام ثم أسري به من هناك. وأما قوله: {يا أيها الذين آمنوا إنَّما المشركون نجس .... } فهذا أحرى أن يكون دليلًا عليهم لا دليلًا لهم؛ لأن الله عز وجل لم يقل: فلا يدخلوا المسجد الحرام، بل قال: {فلا يقربوا}، ولا يمكن أن يقرب الناس حول حدود الحرام أو أن يقرب المشركون حول حدود الحرم، ومن المعلوم أنكم لا تقولون بذلك، تقولون: إن المشرك ممكن أن يدنو من حدود الحرم إلى مسافة شبر أو أصبع، بينما لو أخذنا بالآية وقلنا: إن المسجد الحرام هو كل الحرم لكان يجب أن يبتعدوا عن حدود الحرم بعدًا ينتفي فيه القرب، وأنتم لا تقولون به؛ إذن {فلا يقربوا المسجد الحرام}: لا يدخلوا حدود الحرم؛ لأنهم إذا دخلوا حدود الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام فامنعوهم. وأما قوله تعالى: {هم الذين كفروا وصدُّكم ... } النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء في الحديبية هل جاء يزور مكة وأقاربه فيها وبيوته ثم يرجع، أو جاء ليصل إلى البيت الحرام؟ هذا هو المقصود، ولو قدر أن الإنسان صدّ عن كل مكة ولكن نزل في المسجد الحرام ما همُّه المقصود الذي عنه الصّد هو المسجد الحرام مسجد الكعبة، وحينئذ لا دليل في الآية. وأما قوله تعالى: {وكفر به والمسجد الحرام ... } فهذه هي أقوى دليل، لو كانت دليلًا لكانت هي أقوى دليلًا لمن قال: إن المسجد الحرام كل الحرم؛ لأن أهل الحرم أهل لكل حرم، ولكن نقول: أهل الحرم إنما يفتخرون بانتسابهم إلى المسجد الحرام هم أهل المسجد كما قال الله تعالى - تبارك وتعالى - في سورة الأنفال: {وما لهم ألَّا يعذّبهم الله وهم يصدُّون عن المسجد الحرام وما كانوا أوليآءه} [الأنفال: 34]. فهنا نقول: هم أهم المسجد الحرام؛ لأنهم إنما يشرفون به، وكل ما قرب من المسجد إنما هو شرف بالمسجد؛ فهذا هو المقصود، فلهذا سمي هؤلاء أهل له، ثم نقول: أهل المسجد الحرام الذي يعمرونه بطاعة الله وهم إنما يعمرونه بطاعة الله، مسجد الكعبة هو محل الصلاة والطواف وغير ذلك. كذلك قوله: {إن الذَّين كفروا ويصدُّون عن سبيل الله ... } [الحج: 25]. نقول: إنهم يصدون الناس عن العمرة والحج وهذا لا يصح إلا بالوصول إلى المسجد الحرام، فتبين بهذا أن المراد

بالمسجد الحرام هو مسجد الكعبة؛ لأن هذا هو الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يقطع كل نزاع، لكن الإجابة عما احتجوا به لإزالة الشبهة. بقى أن يقال: لو فرض أن المسجد الحرام زاد هل يدخل في الفضيلة أو لا؟ نقول: نعم يدخل أولًا؛ لأنه ليس كالمسجد النبوي فيه التعيين بالإشارة، بل قال: "المسجد الحرام"، فكل ما كان مسجدًا حول الكعبة فهو داخل في الحديث. لو قال قائل: لو صلى حول المسجد في السوق هل ينال هذا الأجر؟ نقول: فيه تفصيل إن كان المسجد ممتلئًا والصفوف متصلة فهو القوم لا يشقى بهم جليس فينال أجر هؤلاء، أما إذا كان المكان واسعًا في المسجد وصلى هذا في سوقه فلا ينال هذا الأجر. ثم نرجع الآن إلى هذا التفضيل: هل يشمل الفرائض والنوافل، أو هو خاص بالفرائض؟ قال بعض أهل العلم: إنه خاص بالفرائض، وأن صلاة الفريضة في المساجد الثلاثة مفضلة على غيرها بل في المسجدين؛ لأن الثالث ما ذكر في الحديث، وأما النافلة فلا، والصحيح: أنه شامل الفريضة والنافلة، وأن صلاة الفريضة في المساجد المفضلة وصلاة النافلة سواء المفاضلة، ولو صلى الإنسان تراويح في المسجد الحرام لكان خيرًا من مائة ألف صلاة تراويح فيما عداه من المساجد، وتحية المسجد في المسجد الحرام خير من مائة ألف تحية في غيره وعلى هذا فقس. مسألة مهمة: هل نقول: إن هذا يقتضي أن فعل النافلة في مكة في المسجد أفضل من فعلها في بيتك، أو فعل النافلة وأنت في المدينة في المسجد خير من فعلها في بيتك؟ الجواب: لا النافلة في البيت في مكة أو في المدينة أفضل منها في المسجد؛ لأن الذي فضل مسجده على غيره من المساجد هو الذي قال: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، وعلى هذا فإذا أردت أن تصلي الوتر وأنت في مكة فهل الأفضل أن تذهب إلى المسجد الحرام وتصلي فيه، أو الأفضل أن تصلي الوتر في بيتك؟ الثاني هو الأفضل، وكذلك لو كنت في المدينة هل تصلي الوتر في بيتك أو في المسجد النبوي؟ الجواب: في بيتك للحديث المذكور ولفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفل في بيته مع أنه قال للناس: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما عداه إلا المسجد الحرام"؛ إذن ما هو الجواب الذي يكون منضبطًا؟

نقول: ما فعل في المسجد النبوي أو في المسجد الحرام فهو أفضل من غيره من المساجد بالتفصيل الذي ورد. ولكن إذا سئلنا: هل الأفضل أن نفعل النوافل في المسجد أو في البيت؟ نقول: ما شرع في المسجد فالأفضل في المسجد كصلاة الكسوف على قول من يرى أنها سُّنة وكصلاة تحية المسجد والصلاة في قيام رمضان والاستسقاء إن فعل في المسجد، أما إذا كان تطوعًا مطلقًا لا يسن فعله في المسجد ففي البيت أفضل ولو كان في المساجد الثلاثة. من فوائد الحديث، وهي عديدة منها: الترغيب في الصلاة في هذا المسجد بل المسجدين؛ لأنه لم يذكر المسجد الثالث وهو الأقصى، مسجد مكة ومسجد المدينة، ولكن هل يقال: إن هذا أفضل من الصلاة في البيت، أو يقال: ما يشرع أن يكون في البيت فكونه في البيت أفضل؟ الجواب: الثاني، وأظننا ذكرناه، وقلنا: إن الذي قال: "إن الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه"، هو الذي قال: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، وكان هو يصلي النوافل في بيته، ومن ثم حمل بعض العلماء هذا الحديث على أن المراد بالصلاة هنا صلاة الفريضة؛ أي: الصلوات الخمس، ولكن ينبغي أن يقال: لا، كل ما فعل في هذه المساجد من صلاة فهو أفضل مما سواه في المساجد الأخرى، ويبقى النظر هل أفضل في البيت أو في المسجد؟ هذا له أدلة أخرى مثل تحية المسجد في المسجد الحرام خير من مائة ألف تحية فيما سواه، كذلك أيضًا لو أن أحدًا تقدم إلى المسجد وصلى وصار يتنفل حتى أقيمت الصلاة فهذا النفل الذي كان يفعله بانتظار الصلاة خير من مائة ألف صلاة فيما عداه وفي المسجد النبوي خير من ألف صلاة. ومن فوائد الحديث: أن الأعمال تتفاضل باعتبار المكان، والدلالة فيه واضحة: "خير من ألف صلاة"، وهل يتناول هذا جميع الأعمال، أو هو خاص بالصلاة فقط؟ يرى بعض العلماء أنه خاص في الصلاة فقط وأن ما عاداها من الأعمال كالصدقة والصيام وطلب العلم وما أشبه ذلك فلا يفضل هذا الفضل وإن كان في الحرم، لكن لا يصل إلى هذا الفضل وهذا هو الصحيح إن لم يوجد أدلة صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المفاضلة في بقية الأعمال، ووجه ذلك: أن التفاضل أو إثبات الفضل في العمل أمر توقيفي لا يتعدى فيه الشرع فنقول: الثواب ورد في هذا الفضل وما عداه يتوقف على ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج ابن ماجه بسند فيه نظر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان في مكة كان بمائة ألف شهر"، فإن صحّ هذا الحديث ألحقنا به الصيام، وإلا فلا نلحق به شيئًا، والدليل على عدم الإلحاق أولًا: إن إثبات الفضائل للأعمال

توقيفي، ثانيًا: أن الصلاة شأنًا ليس لغيرها من بقية الأعمال فهو آكد وأفرض أعمال البدن، حتى إن القول الراجح أن تاركها يكون كافرًا، وإذا كانت بهذه الميزة فلا يمكن أن يلحق بها ما دونها إلا بنص. ومن فوائد الحديث: إثبات التفاضل في الأعمال، وقد سبق لنا أن الأعمال تتفاضل بحسب المكان والزمان والعامل وجنس العمل ونوع العمل وكيفيته، كل هذه وجوه للفضائل، في الأعمال، المكان هو كما رأيتم، الزمان، {ليلة القدر خير من ألف شهر}، "ما من أيام العمل الصالح أحبُّ إلى الله فيهن من هذه الأيام العشر"؛ يعني: عشر ذي الحجة، في العامل: "لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه"، في العمل في كيفيته: {ليبلوكم أيُّكم أحسن عملًا} [لملك: 2]. في جنسه: "ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبُّ إليَّ مما افترضته عليه"، في نوعه: الصلاة أفضل من الزكاة، والزكاة أفضل من الصيام، والصيام أفضل من الحج. ومن فوائد الحديث: أنه إذا ثبت وقد ثبت تفاضل الأعمال لزم من ذلك تفاضل العامل، ثم يلزم منه أيضًا شيء آخر، تفاضل الناس في الإيمان، فيكون في الحديث دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا هو مذهب أهل السُّنة والجماعة، لكن بماذا تكون الزيادة؟ نقول: بكل ما ذكرنا من أنواع المفاضلة يزيد، فيزيد بالفرائض أكثر مما يزيد في النوافل، ومن العجب أن الشيطان يضحك علينا يجعلنا نعتقد أن النافلة أفضل من الفريضة؛ ولهذا تجد كثيرًا من الناس يحسنون النوافل تمامًا والفرائض يتساهلون فيها، وهذا من الغرائب، وهذا من البلاء الذي يصاب به الإنسان، فالواجب أن يعلم الإنسان ويعتقد أن صلاته الفريضة أفضل من النافلة، وأنه يجب أن يعتني بالفريضة أكثر مما يعتني بالنافلة، ولولا محبة الله لها ولولا أهميتها عنده عز وجل ما أوجبها على عباده، فإيجابها على العباد يدل على أنها أحب إلى الله، وأنها أولى بالعناية من النافلة. إذ قال قائل: أيهما أفضل: المجاورة في مكة، أو المجاورة في المدينة؟ اختلف في هذا أهل العلم؛ فمنهم من قال: إن المجاورة في مكة أفضل؛ لأن مكة أفضل من المدينة بلا شك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو بالحذورة في مكة -: "إنك أحبُّ البقاع إلى الله،

6 - باب الفوات والإحصار

ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت"، وهذا صريح، وأما ما يرويه بعض الناس من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في مكة: "إنها أحبُّ البقاع إلى الله"، وفي المدينة: "إنها أحبَّا البقاع إليَّ"، فهذا ليس بصحيح، وقال بعض أهل العلم: إن المجاورة في المدينة أفضل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حثّ على السُّكنى فيها، وقال: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون". وقال بعض أهل العلم: المجاورة في مكان يقوى فيه إيمانه وتكثر فيه تقواه أفضل من أي مكان، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إذا فرضنا أن الإنسان في مكة يضعف إيمانه وتقواه ويقل نفعه فليخرج كما فعل الصحابة، ذهبوا إلى الشام والكوفة والبصرة وإلى مصر يلتمسون ما هو أنفع وأفضل، وسكنوا وصاروا يعلَّمون الناس ويدرسونهم العلم، وتركوا المدينة ومكة، وهذا القول أصحّ، لكن لو فرضنا أن الإنسان يتساوى عنده البقاء في مكان ما، وفي مكة والمدينة، قلنا: في مكة والمدينة أفضل من غيرهما بلا شك، أما المفاضلة بين مكة والمدينة فهي عندي محل توقف بالنسبة للمجاورة، أما بالنسبة لفضل مكة فلا شك أن مكة أفضل. يتفرع على تفاضل العمل في مكة والمدينة: هل تتضاعف السيئات في مكة والمدينة؟ الجواب: أما بالكمية فلا، وأما بالكيفية فنعم، العقوبات على السيئات في مكة أعظم من العقوبات على السيئات في غيرها، وفي المدينة أعظم أيضًا، ودليل ذلك قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} [الأنعام: 160]. وهذه الآية في الأنعام مكية، وبهذا نعرف بطلان ما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لا أسكن في بلد حسناته وسيئاته سواء"، لما قيل له: ألا تسكن في مكة؟ فقال هذا القول، فإن هذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن عباس أفقه وأعلم من أن يقول مثل هذا الكلام. * * * * 6 - باب الفوات والإحصار "الفوات: مصدر أو اسم مصدر لفات يفوت، والمصدر: فوزتًا، واسم المصدر فوات، والفوت: هو السَّبق الذي لا يدرك، فإذا سبقك إنسان ولم تدركه تقول: فاتني، هذا هو الفوات أما في الاصطلاح فالوات: طلوع فجر يوم النحّر قبل أن يقف الحاج بعرفة، هذا الفوات في الاصطلاح، ومعناه: لو أن أحدًا أحرم بالحج واتجه إلى المشاعر وطلع الفجر عليه قبل أن يصل

إلى عرفة فهذا هو "الفوات"، نقول: هذا الرجل فاته الحج، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، فإنه يدل على أن من فاته الوقوف فاته الحج هذا الفوات. "الإحصار" في اللغة: المنع، يقال: حصر، ويقال: أحصره، وفي القرآن" {فإن أحصرتم ... } [البقرة: 196]. وفيه أيضًا: {الفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} [البقرة: 273]. أي: منعوا فالإحصار في اللغة: المنع، وفي الاصطلاح: منع الناسك من إتمام نسكه، وهل يشترط أن يكون بعدو أو بأي مانع يكون؟ فيه خلاف بين أهل العلم؛ منهم من قال: إنه يشترط أن يكون الإحصار بعدو وأنه لا إحصار بغير عدو، ومنهم من قال: إنه عام في العدو؛ لأن الإنسان قد يحصر بعدو وقد يحصر بمرض أو كسر أو ضياع أو ما أشبه ذلك، فصار عندنا الآن تعريف الفوات وتعريف الإحصار. 745 - عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: "قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق وجامع نساءه، ونحر هديه، حتَّى اعتمر عامًا قابلًا". رواه البخاريُّ. "قد أحصر" أي: منع من الوصول إلى البيت، وذلك في عام الحديبية حين منعه المشركون من أن يتمم عمرته صلى الله عليه وسلم؛ لماذا منعوه؟ قالوا: لا يتحدث العرب أننا أخذنا ضغطة، يعني: أنك دخلت قهرًا علينا، فصار هذا المنع حمية الجاهلية كما قال تعالى: {إذ جعلنا الذين كفروا في قلوبهم الحميَّة حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التَّقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليمًا} [الفتح: 26]. منعوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤدي العمرة وهم -والله -أحق أن يمنعوا من البيت من رسول الله؛ لأن الله يقول: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتَّقون} [الأنفال: 34]. لكن الله تعالى في قضائه وقدره حكم عظيمة، فهم منعوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فحلق رأسه وجامع نساءه ونحر هديه حتى اعتمر عامًا قابلًا"، ابن عباس رضي الله عنهما أتى بهذه الأفعال مرتبة بالواو، والمراد بها مطلق الجمع، فمثلًا حلق رأسه وجامع نساءه ونحر هناك، اختلاف في الترتيب بحسب الواقع؛ لأن الواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نحر أولًا، ثم حلق ثانيًا، ثم تحلل تحللًا كاملًا، وجامع أهله، ولو نظرنا إلى الحديث لكان مقلوبًا تمامًا أوفيه اختلاف: "حلق رأسه"، ثم بعد ذلك "جامع نساءه ونحر"، والواقع أنه نحر، ثم حلق، ثم جامع، لكن الواو لا تقتضي الترتيب، ومراد ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم تحلل بعد هذا الإحصار تحللًا كاملًا، والدليل على أنه تحلُّل كامل قال: "وجامع أهله". قال: وحتى اعتمر عامًا قابلًا" من العام الثاني اعتمر عمرة تسمى عمرة القضاء؛ بمعنى: القضية،

يعني: عمرة المقاضاة، وليس قضاء للعمرة التي أحصر منها؛ لأن العمرة التي أحصر منها كتبت تامة؛ ولهذا يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر؛ منها العمرة التي صدَّ عنها فهو اعتمر كاملًا، لكن الثانية عمرة جاءت بحسب المقاضاة التي صارت بينه وبين قريش. وفي هذا الحديث: دليل على أن الحصر يكون في العمرة وهو كذلك، ويدل عليه أيضًا القرآن: {وأتموا الحجَّ والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]. وفيه أيضًا: أنه يشرع الحلق لقوله: "وحلق رأسه"، ولكنه هل يجب؟ الصحيح: أنه يجب فقد مرَّ علينا في حديث المسور بن مخرمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حلق رأسه وأمر أصحابه، ولما تأخروا قليلًا غضب صلى الله عليه وسلم، فيجب الحلق عند الإحصار، و"نحر" هل يجب النحر؟ نعم يجب النحر، لكن إن كان قد ساق الهدي نحر هديه كله الذي ساقه، وإن لم يسقه فالواجب عليه أدنى ما يسمى هديًا لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}. ومن فوائده: أن المحصر يعتمر من السنة القابلة أو من الشهر القادم، المهم: إذا زال الإحصار اعتمر، وهل هذه العمرة قضاء للعمرة السابقة أو لا؟ فيه خلاف بين أهل العلم؛ فمن العلماء من قال: إن المحصر يجب عليه القضاء إذا زال إحصاره، وهل يقضي من مكان الإحصار أو يستأنف نسكًا جديدًا؟ نقول: يستأنف نسكًا جديدًا؛ لأن النُّسك لا يتجدد، فإن هذا الرجل حل وجامع وفعل جميع المحظورات، فكيف يبني على ما سبق، فهو يجب عليه أن يقضي سواء كان الذي أحصر عنه هو الفريضة أو كان تطوعًا، حجتهم في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى العمرة التي أحصر عنها، وهذا استدلال بالأثر، قالوا: والأصل أنه صلى الله عليه وسلم أسوة أمته: {لَّقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]. وقد قضى ما أحصر عنه فلنقض، وقالوا أيضًا: لنا دليل نظري، وهو أن النُّسك من حج أو عمرة إذا شرع الإنسان فيه وجب عليه إتمامه ولو كان نفلًا، فإذا كان يجب عليه إتمامه وجب عليه قضاؤه إذا أحصر عنه وصار فائت الحصر أنه يتحلل ويترخَّص ويذهب، هذا فائدة الحصر، أما براءة ذمته به فلا لابد أن يقضي، واستدلوا أيضًا بأن العمرة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم تسمى عمرة القضاء، والأصل أن القضاء لما فات كما نقول: إذا خرجت الصلاة وصليت بعد الوقت قضاء، وكما نقول: إذا أفطر الإنسان في رمضان فإنه يقضي كما قالت عائشة: "فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان"، وقال بعض أهل العلم: إنه إذا أحصر عن النسك لا يلزمه القضاء إلا إذا كان هذا النُّسك واجبًا مثل أن يكون في فريضة الإسلام أو يكون واجبًا بنذر فإنه يلزمه قضاؤه إذا أحصر عنه؛ لأن ذمته لم تزل مشغولة بهذا الواجب حتى يتمه، أما إذا كان تطوعًا فإنه لا يلزمه القضاء، واستدلوا بأثر ونظر، أما الأثر

الاشتراط عن الإحرام وأحكامه

فقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه أن يحلُّوا لم يأت عنه حرف واحد يقول: واقضوا من العام القادم، ولو كان واجبًا لبيّنه لهم؛ لأنه يجوز أن يذهب بعضهم إلى أهله ولا يلتقي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأما أهل المدينة، فقد يقال: إنه سيعلمهم بعد ذلك، لكن ليس كلهم من أهل المدينة، فلما لم يرشدهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه واجب علم أنه ليس بواجب؛ لأنه لو كان واجبًا لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلِّغهم. ثانيًا: أن الذين قضوا العمرة من العام القابل كما قال الشافعي وغيره لم يكونوا جميع الذين حضروا صلح الحديبية بل كانوا أقل؛ لأن الذين حضروا صلح الحديبية كانوا ألفًا وأربعمائة، والذين قضوا العمرة دون ذلك، وهذا يدل على أن القضاء ليس بواجب؛ إذ لو كان واجبًا لحضر كل من كان معه في الحديبية، واستدلوا بالنظر قالوا لأن هذا واجب تعذر عليه إتمامه؛ يعني: أن الحج والعمرة يجب إتمامه، لكن هذا واجب عجز عنه، والقاعدة الشرعية: أن الواجبات تسقط بالعجز، فيكون هذا الذي أحصر سقط عنه وجوب الإتمام بالعجز عنه، فنرجع الآن لما سقط وجوب الإتمام بالعجز نرجع إلى الأصل، ما هو الأصل؟ أنه تطوع الذي شرع فيه أم واجب؟ تطوع، فنقول: لا شك أن الأفضل أن تأتي به، ولكنه ليس بواجب، ولهذا أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم، أما أن نوجبه وهذا الرجل إنما ترك الإتمام لعجزه عنه، فإننا لا نوجبه عليه وهذا هو الحق وهو الصحيح أنه لا قضاء عليه، ولكن إذا كان هذا الشيء واجبًا كما قلنا فإنه يجب عليه القضاء؛ لأنه مطالب به بالدليل الأول بماذا نجيب عن الذين أوجبوا القضاء؟ نقول: قولكم إن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله والأصل أنه أسوة لنا نقول: إن القاعدة المعروفة عند العلماء: أن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ونحن نوافقكم على أن الأفضل أن نأتي به، لكن الوجوب شيء والأفضل شيء آخر. هذا واحد، ثانيًا: نقول: إن قولهم: قضاء هذا من المقاضاة أو القضية، وليس من باب القضاء المعروف عند الفقهاء. الاشتراط عن الإحرام وأحكامه: 746 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل النَّبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزُّبير بن عبد المطَّلب ك، فقالت: يا رسول الله، إنِّي أريد الحجَّ، وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجِّي واشترطي: أنَّ محلِّي حيث حبستني". متَّفق عليه.

"ضباعة" بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقولها: "شاكية" أي: مريضة، والمؤلف رحمه الله أتى بهذا الحديث في هذا الباب وإن كان له مناسبة أن يذكر في أول باب الإحرام عند الإحرام، لكن هذا الباب له فيه مناسبة وهي أن الإنسان إذا اشترط عند عقد الإحرام أن محلَّه حيث حبس ثم حبسه حابس فإنه يتحلل بدون شيء: بدون دم، بدون حلق، بدون قضاء إن لم يكن فرضًا، حتى على قول من يقول: إن المحصر يجب أن يقضي وإن كان نفلا، في هذه الحال إذا اشترط؛ يعني: يحل هذا وجه المناسبة لسياق هذا الحديث في باب الفوات والإحصار. وهذا الحديث -كما ترون -في حجة الوداع، ففيه عدة فوائد كثيرة منها: أن صوت المرأة ليس بعورة، المرأة الأجنبية التي ليست من المحارم صوتها ليس بعورة، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم ابنة عمه. فإن قال قائل: ألا يحتمل أن تكون من محارمه بالرضاع؟ قلنا: بلى، ولكن الأصل عدم ذلك. فإن قال قائل: ألا يحتمل أن هذا من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم كما كان من خصائصه جواز كشف الوجه له؟ قلنا: بلى، يمكن أن يكون من خصائصه، لكن نقول من خصائصه لو كان هناك نص يدل على أن صوت المرأة عورة، وأنه يحرم مخاطبة المرأة لكن لا يوجد نص، بل المعروف أن النساء يتكلمن مع النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة ولا يمنعهن النبي صلى الله عليه وسلم، إذن فصوت المرأة ليس بعورة، ولكن لا يجوز للإنسان أن يتلذذ بصوت المرأة لا تلذذ شهوة ولا تلذذ تمتع، فتلذذ الشهوة أن يحس بثوران الشهوة عند مخاطبتها والتمتع أن يعجبه صوتها وكلامها ويستمر كما يتمتع بمنظر الأشجار والبناء الجميل والسيارة الفخمة وما أشبه ذلك، المهم: أن صوت المرأة ليس بعورة، فتجوز محادثتها إلا إذا كان هناك فتنة وذلك بالتلذذ بمحادثتها إما تلذذ شهوة أو تلذذ تمتع. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز الاشتراط عند الإحرام للمريض، الدليل أنها قالت: "إني أريد الحج .... إلخ"، ولكن هل يسن الاشتراط أو لا يسن، أو في ذلك تفصيل؟ فيه خلاف بين العلماء؛ منهم من أنكر الاشتراط مطلقًا، وقال: لا اشتراط في الإحرام؛ لأن الإحرام واجب، يعني: إذا دخل الإنسان في النُّسك وجب عليه الإتمام، واشتراط التحلل ينافي ذلك ويناقضه، هذا تعليل، وأما الدليل ففعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه حج واعتمر ولم يشترط لا في عمرة الحديبية ولا في عمرة القضاء ولا في عمرة الجعرانة ولا في حجة الوداع، مع أنه لا يخلو من خوف، فلا

يسن الاشتراط مطلقًا ولا يفيد، أيضًا قالوا: ولو كان يفيد ما كان للإحصار والفوات فائدة وخيمة، ومنهم من فصل وقال: إن الاشتراط سنة لمن كان يخشى مانعًا من مرض أو غيره، وليس بسنَّة لمن لا يخشى مانعًا، وهذا القول هو الذي تجتمع به الأدلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعلى هذا فلا نقول لكل من أراد أن يحج أو يعتمر: اشترط إلا إذا كان هناك خوف يخاف من مانع يمنعه من إتمام نسكه، فنقول: اشترط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ضباعة بنت الزبير ولم يشترط هو، وهذا جمع بين الأدلة واضح. فإن قال قائل: أفلا تستحبون الاشتراط في هذا الوقت مطلقًا لكثرة الحوادث؟ فالجواب: لا، لا نستحب ذلك له؛ لأن الحوادث الواقعة في عصرنا إذا نسبتها إلى المجموع وجدت أنها قليلة جدًا، ومطلق الحوادث موجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الصحابي الذي وقصته ناقته في عرفة مات بحادث؛ إذن نقول: إن وجود الحوادث في زمننا هذا لا يوجب أن نستحب له الاشتراط، نعم لو كان الإنسان مريضًا وخاف ألا يستطيع الإتمام فليشترط. ومن فوائد الحديث: أن المرض اليسير لا يمنع وجوب الحجَّ؛ لأنه قال: "حجي واشترطي"، ولم يأذن لها بالترك. ومن فوائد الحديث: جواز الاشتراط في العبادات، وهل نقول: إن الاشتراط في العبادات في كل عبادة، أو نقول: هو خاص في الحج لطول مدته ولصعوبته ومشقته؟ قد يقول قائل: إنه يجوز في كل عبادة، مثل: أن يشترط الإنسان عند دخوله في الصلاة أن يقول: إن استأذن عليّ فلان فلي أن أقطع الصلاة وهي فريضة، وقد نقول بعد الجواز، للفرق بين الحج وغيره وهو طول الزمن والمشقة، لكن الصلاة زمنها قليل والصيام كذلك زمنه قليل، وإلا قد يقول: إذا جاء رمضان وهو مريض يدخل في الصوم ويقول: إن شقّ عليّ فلي أن أفطر، نقول: الواقع أنه ليس في حاجة للاشتراط؛ لأن الإنسان إذا كان مريضًا وشقَّ عليه يفطر؛ سواء اشترط أو لم يشترط، بخلاف الحج. ومن فوائد هذا الحديث: أن المشترط يحل مجانًا؛ أي: بدون حلق وبدون دم وبدون قضاء لقوله -في اللفظ الآخر -: "فإنَّ لك على ربِّك ما استثنيت". ومن فوائده: أنه إذا قال: "محلِّي حيث حبستني"، فإنه بمجرد ما يحصل المانع يتحلل، ولكن لو قال: "فلي أن أحلّ حيث حبستني" صار بالخيار، وأيهما أحسن أن يقول: "فلي أن أحل" أو "فمحلِّي حيث حبستني"؟ قد يقول قائل: الأول أحسن ليكون الإنسان بالخيار إن شاء استمر وإن شاء أحلّ، وقد يقول آخر: إن اللفظ الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدل به شيء؛ يعني: أنه أفضل من غيره على أن قوله: "فمحلِّي حيث حبستني" يظهر لي أن المراد به الإباحة؛ يعني:

مثل "فأحلني"، والأمر عند توهم المنع يفيد الإباحة فقط وأنه لا يعني أنه بمجرد ما يحصل المانع يحل الإنسان بل هو بالخيار إن شاء مضى وإن شاء حلّ. إذن ما الفائدة من الاشتراط؟ الفائدة: أنه يحل مجانًا ليس عليه هدي ولا قضاء ولا حلق ولا تقصير إن كان امرأة، لكن لو لم يفعل ذلك لكان حكمه ما سبق. هل يؤخذ من هذا الحديث: ترجيح قول من يقول: إن الإحصار عام؟ نعم قد يؤخذ منه ترجيح قول من يقول: إن الإحصار عام في كل مانع لقوله: "إن حبسني حابس"، وهي إنما شكت المرض لم تشكو غيره. 747 - وعن عكرمة، عن الحجَّاج بن عمرو الأنصاريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كسر أو عرج؛ فقد حلَّ وعليه الحجُّ من قابل، قال عكرمة. فسألت ابن عبَّاس وأبا هريرة عن ذلك؟ فقالا: صدق". رواه الخمسة، وحسَّنه التِّرمذيُّ. قال: "من كسر أو عرج"، كسر في يده أو رجله أو أي عضو من أعضائه الذي يمنعه من إتمام النُّسك، أو عرج هذا في الرَّجل أصابه مرض في رجله وصار أعرج لا يستطيع المشي فماذا يصنع؟ قال: "فقد حلّ وعليه الحج من قابل" "فقد حل" تحتمل هذه الجملة معنيين: المعنى الأول: فقد جاز له الحلّ، والمعنى الثاني: فقد حلّ فعلًا، ونظير هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم". هل المراد: فقد حلّ له الفطر أو قد أفطر فعلًا؟ فقد حلّ له الفطر هذا أحد القولين، القول الثاني: فقد أفطر حكمًا يعني: انتهى صومه، هنا "فقد حلّ" تحتمل معنيين المعنى الأول: "فقد حلّ" أي: فقد جاز له الإحلال من نسكه، والثاني: "فقد حلّ" أي: تحلل، سواء كان مختارًا للحل أم لا. قال: "وعليه الحج من قابل"، لماذا؟ لأنه محرم بالحج فلزمه الحج، قال عكرمة: فسألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق. هذا الحديث - كما نشاهد - من باب الإحصار وليس من باب الفوات. فيستفاد منه: أن الإحصار يحصل بغير العدو؛ لأن الكسر والعرج ليس عدوًّا. ويستفاد منه أيضًا: أنه إذا حصل ذلك جاز للإنسان أن يتحلل، فماذا يصنع؟ يذبح هديًا ويحلق رأسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحلق الرأس، والله في القرآن أمر بالهدي: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]. ويذهب إلى أهله كما رجع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية إلى المدينة بدون اعتمار.

ويستفاد من هذا الحديث: وجوب القضاء؛ لقوله: "فعليه الحج من قابل"، أضفه إلى حديث ابن عباس السابق: "حتى اعتمر عامًا قابلًا"، فيدل على أن المحصر يلزمه القضاء، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد في المشهور عنه وكثير من أهل العلم، والقول الثاني: أنه لا يلزمه القضاء إذا أحصر إلا إذا كان الحج الذي أحصر فيه فريضة الإسلام أو كان واجبًا بنذر، فيلزمه القضاء لا من أجل الإحصار، ولكن من أجل الأمر السابق الفريضة أو النذر. الذين قالوا بوجوب القضاء الحديث ظاهر في تأييدهم، لأنه قال: "وعليه الحج من قابل"، والذين قالوا: لا يجب عليه القضاء؛ قالوا: لأن الله لم يذكره في القرآن، وإنما وجب ما استيسر من الهدي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره في سنته، وإنما أوجب الحلق، وليس في المسألة إجماع حتى يكون دليل علينا، فانتفاء الدليل الموجب يدل على عدم الوجوب؛ لأن الأصل براءة الذمة، ثم قالوا: عندنا دليل إيجابي في عدم الوجوب، وهو أن الواجبات تسقط بالعجز، وهذا الذي شرع في النُّسك وهو ليس بواجب شرع في نفل، ولما شرع فيه وجب عليه إتمامه، وإتمامه عجز عنه بالحصر من عدو أو غيره والواجبات تسقط بالعجز، فهذا دليل على عدم الوجوب، فصار دليل القائلين بعدم الوجوب مركب من دليلين: البراءة الأصلية، ودليل آخر موجب؛ أي: مثبت لعدم وجوب القضاء، البراءة بأي شيء استدللنا بها؟ بأن الله ذكر الحصر، وذكر ما يجب فيه، وهو ما استيسر من الهدي، ولم يذكر القضاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحصر وأوجب فيه الحلق، ولم يوجب القضاء، هذا دليل براءة الذمة، الدليل الإيجابي أن نقول: إن هذا النُّسك ليس بواجب ابتداء؛ لأنه سنة نفل، وإنما الواجب إتمامه تعذر بالعجز عنه والواجبات تسقط بالعجز، ولم يوجب الله عز وجل على عباده الحج والعمرة إلا مرة واحدة فقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحجُّ مرّة فما زاد فهو تطوُّع". نحتاج الجواب على هذا الدليل، أما حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر عامًا قابلًا؛ فنحن إذا قلنا لا يجب القضاء لسنا نقول: لا يجوز القضاء بل ننفي الوجوب دون الجواز، ونقول: يجوز أن يقضي، بل قد نقول: إننا نستحب له أن يقضي اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الحديث الذي معنا فنقول: "عليه الحج من قابل" يحتمل أن يكون هذا قضاء، ويحتمل أن يكون هذا أداء؛ أي: أنه يحتمل أن الحديث فيمن كسر أو عرج في الفريضة، فصار عليه حج من قابل، ويحتمل أن يكون في نافلة، فيلزم القضاء، والمعروف أنه إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال، وحينئذ يجب حمل الحديث على ما تدل عليه الأدلة السابقة، وهو أن يكون الإحصار في فريضة، ومعلوم أنه إذا كان الإحصار في فريضة فإنه يجب عليه القضاء.

أسئلة مهمة على الحج

أسئلة مهمة على الحج: - هل الذي يرافق المشترط له أن يشترط؟ نعم، الظاهر أن يشترط. - متى كان فرض الحج؟ في السنة التاسعة. - بماذا فرض؟ - ما هي الحكمة في تأخر فرضه إلى السنة التاسعة؟ - ما نقول فيمن قال: إن الرجل إذا دخل مكة وجب عليه أن يحج أو يعتمر وإن كان أدّى الفريضة؟ - رجل وجب عليه أن يحج ثم مرض أيحجُّ عنه أم لا؟ - قال أهل العلم إن المواقيت تنقسم إلى أقسام زمانية ومكانية، ما هي المواقيت الزمانية؟ - وما هي المواقيت المكانية؟ - أي الأنساك أفضل؟ - هل يجوز لمن أحرم بالحج أن يحوله إلى عمرة؟ - ما هي محظورات الإحرام؟ - متى كانت حجة الرسول؟ - ما المراد بالرُّكن؟ وما المراد بالاستلام؟ - ما معنى الرمل، وما الحكمة من أصل مشروعيته؟ - ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا؟ - ما يوم التروية، ولماذا سمي به؟ - من اليوم (8) إلى (13) لكل يوم اسم اذكرها؟ - متى خرج النبي إلى الحج من مكة؟ - متى توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفة؟ - أين تقع نمرة من عرفة؟ - أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء يوم عرفة؟ - هل عرض عليه أن يصلي في الطريق؟ - لو صلى أحد المغرب في الطريق فما حكم صلاته؟ - ما هي المناسك التي يفعلها الحاج يوم العيد؟ - الرسول صلى الله عليه وسلم من أين دخل مكة، ومن أين خرج؟ - هل يجوز للإنسان ترك المبيت بمنى للحاجة العامة؟ - ما تقول في رجل وكَّل من يرمى عنه؟

كتاب البيوع ويشتمل على: 1 - باب شروطه وما نهي عنه. 2 - باب الخيار. 3 - باب الربا. 4 - باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار. 5 - أبواب السّلم والقرض والرهن. 6 - باب التفليس، والحجر. 7 - باب الصلح. 8 - باب الحوالة والضمان. 9 - باب الشركة والوكالة. 10 - باب الإقرار. 11 - باب الغضب. 12 - باب الشُّفعة. 13 - باب القراض. 14 - باب المساقاة والإجارة. 15 - باب إحياء الموات. 16 - باب الوقف. 17 - باب ××× و××× و××××. 18 - باب اللقطة. 19 - باب الفرائض. 20 - باب الوصايا. 21 - باب الوديعة.

كتاب البيوع

كتاب البيوع قال المؤلف: "كتاب"؛ لأن هذا مستقل عما سبق وهو من جنس آخر؛ لأن الأول كله في العبادات وفي معاملة الخالق عز وجل، وهذا في البيوع، وهي معاملة الخلق، وبدأ العلماء بالبيوع بعد العبادات؛ لأنها أكثر تعلقًا بالنسبة للبشر، وإلا فإن النكاح مثلًا له علاقة بالمعاملة وعلاقة بالعبادة، لكن البيوع أكثر تعلقًا بالنسبة للبشر؛ لأن الإنسان يحتاج إليها في أكله وشربه ولباسه ومسكنه ومركوبه ومنكحه وغير ذلك، فهي أعم تعلقًا، ولهذا أعقبها أهل العلم أي: جعلوها عقب العبادات. وقال المؤلف: "كتاب البيوع" جمعها باعتبار أنواعها وإلا فإنها جمع بيع والبيع مصدر، والمصدر لا يجمع إلا إذا قصد به النوع، فإذا قصد به النوع جاز جمعه باعتبار أنواعه. والأصل في البيوع الحلّ لقول الله تعالى: {وأحلَّ الله البيع} [البقرة: 275]. فكل صورة من صور البيع يدَّعى أنها حرام فعلى المدعي البينة؛ يعني: الدليل؛ لأن الأصل هو الحل، وشرع الله البيع وأحلَّه لعباده لدعاء الضرورة إليه أحيانًا والحاجة إليه أحيانًا أخرى والتَّنعم إليه أحيانًا، فأحيانًا تدعو الضرورة إليه كما لو كان مع إنسان دراهم وهو عطشان ومع إنسان آخر ماء فهنا الضرورة تدعو إلى عقد البيع؛ لأن هذا العطشان لا يتوصل إلى الماء إلا بطريق البيع إذا لم يبذله صاحبه له، وليس كل أحد يتمكن من البذل، فأحيانًا تكون الضرورة للمشتري وأحيانًا تكون الضرورة للبائع، مثل: أن يكن شخص معه طعام ولكنه عطشان يحتاج إلى بيع الطعام ليشتري الماء، فهنا الضرورة من البائع، وأما الحاجة التي تدعو إليه فما يحتاج الإنسان إليه في أمور دينه ودنياه مما ليس بضرورة كحاجته إلى ثوب آخر مع ثوبه الأول في أيام الشتاء ونحو ذلك، وأما التَّنعم فكما لو كان عند الإنسان كل ما يضطر إليه وكل ما يحتاج إليه، لكن يجب أن يتنعم وينبسط بما أحل الله له وليس له طريق إلى ذلك إلا البيع فهنا نقول: لم تدع الضرورة ولا الحاجة لكنه من باب التنعم بنعم الله عز وجل وجه مباح؛ لهذا كان من الحكمة إباحة البيع للعباد لتندفع بها ضروراتهم وتقوم بها حاجاتهم ويتم بها تنعمهم؛ لأنه ليس كل إنسان يضطر إلى طعام أو شراب يجد من يبذله له ولا كل إنسان يحتاج إلى مكمّلات بيته مثلًا يجد من يبذلها له، ولا كل إنسان يريد أن

1 - باب شروطه وما نهي عنه

يتنعم بما أعطاه الله تعالى من الخير يجد من يبذل له ما يتنعم به، لهذا كان من الحكمة أن الله عز وجل أحل لعباده. * * * * 1 - باب شروطه وما نهي عنه وكان المتوقع أن يقول: شروطها؛ لأنها "بيوع" جمع، والجمع يحتاج أن يكون الضمير الراجع إليه ضمير جمع، لكن المؤلف رحمه الله لما رأى أن البيوع هنا جمع من أجل الأنواع والجنس واحد أعاد الضمير باعتبار الجنس لا باعتبار الأنواع، وقد سبق لنا أن الشروط جمع شرط، وهو في اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: {فهل ينظرون إلَّا السَّاعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها} [محمد: 18]. أي: علامتها، وفي الشرع: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود. وأما قوله: "وما نهي عنه" أي: ما نهي عنه من البيوع، والمنهي عنه من البيوع أقل بكثير مما أبيح؛ لأن المنهي عنه معدود، والمباح محدود، والمعدود أقل من المحدود؛ لأنه محصور بعدده، وقوله: "ما نهي عنه" يشمل ما نهى الله عنه أو نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. أطيب الكسب: 748 - عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه: "أنَّ النَّبي سئل: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرَّجل بيده، وكلُّ بيع مبرور". رواه البزَّار، وصحَّحه الحاكم. "سئل" من السائل؟ السائل لا يهم سواء أكان رجلًا أم امرأة، لكن السائل صحابي، وقد مر علينا أنه لا شك أن من تمام العلم أن نعلم المبهمات، ولكن ليس من ضروريات العلم؛ إذ إن المقصود هو الحادثة أو القضية التي وقعت حتى نعرف الحكم. وقوله: "سئل أي الكسب أطيب؟ "، الكسب: ما يكتسبه الإنسان ويربح فيه من تجارة أو إجارة أو شركة أو غير ذلك، فهو شامل، والإنسان قد يكتسب الشيء بالبيع أو بالإجارة أو بالمشاركة أو بتملك المباحات كالصيد والحشيش ونحو ذلك فأيُّهما أطيب؟ قال: "عمل الرجل بيده" هذا أطيب المكاسب، لماذا؟ لأن عمل الرجل بيده يكون في الغالب خاليًا من الشبهات؛ إذ إنه حصَّله بيده مثل الاحتشاش، إنسان خرج إلى البرَّ واحتش وأتى بالحشيش أو خرج إلى البرّ واحتطب وأتى بالحطب، أو خرج إلى البرِّ وافتجع، يعني: أتى

بالكمأة وخرج إلى البحر فاصطاد سمكًا هذا كله عمله بيده فهو أفضل ما يكون؛ لأنه عمل ليس فيه شبهة إطلاقًا؛ لأنه أخذه مما أخرجه الله عز وجل من الأرض، وهل يدخل في ذلك الصنائع؟ نعم، قد نقول: إنه يدخل فيها الصنائع وإن كان في النفس منها شيء في دخولها في الحديث؛ لأن الصنائع كالبيع والشراء يكون فيها غش ويكون فيها نسيان ويكون فيها غلط، فيكون دخولها حينئذ فيه شيء من الشبهة لكن ممكن أن ندخلها بالدفع على شرط أن يكون هذا الصانع العامل ناصحًا في صنعته تمامًا، وإلا فما أكثر الذين يصنعون ثم تكون صنعتهم من أردأ الصناعات، ويدخل عندهم الغش أكثر مما يدخل في البيع والشراء، يوجد جماعة بنوا جدارًا لشخص فقالوا: من يذهب إلى صاحب الجدار يأتي بالأجرة؟ فقال بعضهم: من يمسك الجدار حتى لا يسقط وحتى نأخذ الأجرة؟ الجدار الآن غير جيد في بنائه يستمسك فقط، يأخذون الأجرة ويذهبون. على كل حال: الصنائع في الحقيقة قد تدخل في الحديث وقد لا تدخل، فتدخل الحراثة والزراعة في الحديث؛ لأن الغالب أن الحارث يخلص لنفسه مثل ما يختار الحطب الجيد لبيعه بأكثر، هذا يخلص حرث الأرض والزرع الطيب والسقي فهو عمله بيده، ولهذا قال بعض الفقهاء: الزارعة أفضل مكتسب، وفي الزراعة أيضًا صلة أخرى وهي: ما ينتفع بهذا الزرع من مخلوقات الله، الحشرات تنتفع، والنمل، والذر، والكلاب، والطيور، وكل شيء ينتفع مما يمكن أن يفع بهذا الزرع ففيه أيضًا مصلحة. الثاني قال: "وكل بيع مبرور"، ما هو البيع المبرور؟ البيع المبرور بينته السُّنة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما"، فالبيع المبرور هو: ما كان مبنيّاً على الصدق والبيان، الصدق: في الوصف، والبيان: في العيب؛ يعني مثلًا: لا يقول لك: هذا طيب وهو رديء، ولا يكون هذا الشيء معيبًا ثم يكتمه بل يبين: "إن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما"، فهذا هو البيع المبرور المبني على الصدق والبيان، نزيد شيئًا ثالثًا: ووافق الشرع، فإن خالف الشرع فهو وإن كان مبنيّاً على الصدق والبيان فليس بمرور، لو باع لشخص ما يحرم بيعه وصدقه في وصفه وفي عيبه لا نقول: هذا بيع مبرور. إذن ما وافق الشرع واشتمل على الصدق والبيان فهو البيع المبرور، وعكس ذلك ما خالف الشرع كبيع المحرمات كالملاهي وغيرها أو ما كان مبنيّاً على الكذب كأن يقول: هذه

السلعة من أحسن ما يكون وهي ما أردأ ما يكون، أو على كتم العيب بأن تكون معيبة ويخفى عيبها فهذا ليس بيعًا مبرورًا، وسمي الأول مبرورًا لاشتماله على البر، والله - سبحانه وتعالى - يحب البّر، بل قد قال: {وتعاونوا على البرّ والتَّقوى} [المائدة: 2]. في هذا الحديث عدة فوائد: الفائدة الأولى: حرص الصحابة -رضي الله عنهم -على السؤال عن أفضل الأعمال لقوله: "سئل أي الكسب أطيب؟ "، والصحابة -رضي الله عنهم -إذا سألوا عن الكمال لا يريدون مجرد العلم بالكمال لكنهم يطبقون ويعملون، ليسوا كحال أكثر الناس اليوم حيث إن أحدهم يسأل عن الكمال وعن الأفضل ثم لا يعمل به! لم يكن حال الصحابة هكذا إنما هم لا يسألون إلا من أجل أن يعلموا، وهذه صفة المؤمن، وهؤلاء هم المؤمنون الذين إذا علموا الحق عملوا به، أما أن يعلموه ويجعلوه في صدورهم كنسخ من الكتب لا تتجاوز الصدور فهذا ليس من خصال المؤمنين وليس من صفاتهم، صفة المؤمن أنه متحرك عامل لا يتأخر، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بالصدقة ماذا فعلن؟ صارت المرأة تأخذ قرطها من أذنها وخاتمها من أصبعها وتلقيه في ثوب بلال بدون تأخر وبدون تردد وبدون مشاورة أحد، فهكذا ينبغي للمسلم بل يجب على المؤمن أن يكون هكذا كلما علم شيئًا أفل عمل به ما استطاع، إذن الصحابة - رضي الله عنهم - يسألون عن الأفضل لا من أجل أن يعلموا الأفضل، ولكن من أجل أن يعلموا ويعلموا به. ومن فوائد الحديث: أن المكاسب تختلف فمنها الطيب والخبيث والأطيب دليله: "أي الكسب أطيب؟ " فأقرهم على التفاضل. ومن فوائده أيضًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم، وهذا مما اختصه الله به، فإنه أعطي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارًا، من أين يؤخذ؟ من هاتين الكلمتين: "عمل الرجل بيده"، تشمل أشياء كثيرة ليس لها حصر، وقد ذكرنا منها شيئًا قليلًا: احتشاش، احتطاب، اصطياد، حراثة وأشياء كثيرة. "كل بيع مبرور"، كذلك هذا يعتبر ضابطًا يدخل فيه أنواع كثيرة من البيع إذا اشتملت على الأوصاف الثلاثة وهي: موافقة الشرع، والصدق، والبيان، فإن انضاف إلى هذا مصالح أخرى

تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام

زاد فيها الطيب، مثل: لو كانت تجارة الإنسان في سلاح للمجاهدين في سبيل الله يحصل على فائدة وأجر، لو كانت في كتب ينتفع بها طلاب العلم ازداد أجرًا وصار تجارة دنيوية وأخروية، لو كان في أشياء تعين على البر ازداد أيضًا طيبًا، المهم أن وجوه الفضل كثيرة جدًا لا حصر لها. ومن فوائد الحديث: عمل الرجل بيده، والمرأة داخلة في ذلك؛ لأن الأصل ما ثبت في حق الرجل يثبت في حق المرأة، وما ثبت في حق المرأة ثبت في حق الرجل إلا ما خص بدليل. ومن فوائد الحديث: أن البيوع منها: بيع مبرور، ومنها: بيع غير مبرور لقوله: "وكل بيع مبرور". تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام: 749 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح، وهو بمكَّة: "إنَّ الله ورسوله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنَّها تطلى بها السُّفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها النَّاس؟ فقال: لا، هو حرام، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله تعالى لمَّا حرَّم عليهم شحومها جملوه، ثمَّ باعوه، فأكلوا ثمنه". متَّفق عليه. هذا الحديث داخل في قول المؤلف: "وما نهي عنه"، فيكون في كلام المؤلف أو في سياق المؤلف للحديث وبين الترجمة لفٍّ ونشر غير مرتب؛ لأنه بدأ بالشروط وثنى بما نهي عنه ولكنه بدأ بما نهي عنه إلا أن يدعي مدَّع أن قوله: "كل بيع مبرور" يتضمن الشروط إجمالًا، لا لأننا قلنا: ما وافق الشرع واشتمل على الصدق والبيان إن كان كذلك فالتركيب مرتب. يقول: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح ... إلخ"، ذكر جابر رضي الله عنه الزمان والمكان فقال: "عام الفتح" هذا الزمان، "وهو بمكة" هذا المكان، وكان عما الفتح في السَّنة الثامنة من الهجرة في رمضان، وإنما قال: "وهو بمكة"؛ لأنه قد يقول هذا القول عام الفتح وهو في المدينة يقول: "إن الله حرم بيع الخمر ... إلخ"، "حرَّم" التحريم في اللغة: المنع، ومنه حريم البئر؛ لأنه يحميها ويمنع من العدوان عليها، "حرم بيع الخمر والخمر"، كل ما خامر العقل قاله عمر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم ذكره بلفظ أوضح، فقال: "كل مسكر خمر". فالخمر إذن كل مسكر من أي شيء كان سواء من العنب أو التمر أو البر أو من أي نوع كان، فما أسكر فهو خمر، ولكن ما هو السُّكر؟ السُّكر: تغطية العقل على وجه اللذة والطرب،

وليس تغطية العقل على وجه الخمور والغيبوبة، بل على وجه اللذة والطرب هذا السَّكر، فالإسكار لا يجعل الإنسان في غيبة لكن يجعله في نشوة وفرح كأنما يريد أن يطير لكنه لا ينضبط من شدة الفرح، وتعلمون أن الإنسان من شدة الفرح ربما يتكلم بكلام لا يمكن أن يتكلم به في حال ركود الذهن، فها هو الرجل قال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح، الخمر - والعياذ بالله - يغطي العقل حتى يجعل الإنسان يشعر بأنه ملك وشجاع وربما شعر بأنه ملك فوق البشر ولهذا تجده يتكلم بكلام يتخبط فيه، مرّ بحمزة بن عبد المطلب ناضحان لعلي بن أبي طالب، أي: بعيران ينضح بهما الماء، وكان عنده جارية تغنيه فغنته وأغرته بالإبل، فقام وأخذ السيف فجب أسنمتهما وبقر بطونهما وأكل من كبدهما، كل هذا فعله وهو سكران لا يدري ماذا يفعل، لكن هيجته حتى قام وفعل هذا الفعل، فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول صلى الله عليه وسلم يشكو عمه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليه فلما أقبل عليه وجده ثمل - سكران - إلى الآن فكلمه فقال له حمزة: وهل أنتم إلا عبيد أبي يعني: جعل المسألة تحدث نفسه حتى أبوه صار الآن سيدًا للرسول صلى الله عليه وسلم، فتأخر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رأى الرجل لم يصح بعد، وهذا كان قبل أن تحرم الخمر؛ لأن حمزة استشهد في أحد في السَّنة الثالثة، والخمر حرمت في السَّنة السادسة. المهم: أن الخمر يصل بصاحبه إلى هذا الحد وله أحكام كثيرة مذكورة في الفقه لا نطيل بذكرها، لكن لأجل مضرته العقلية والاجتماعية حرّمه الشارع، فبيعه حرام لا يستثنى منه شيء حتى في حال إباحة الخمر لا يستثنى منه شيء، لكن يباح شرب الخمر لدفع لقمة غص بها ولا حضره غيره، نقول: يجب عليك أن تشرب هذه لدفع الغصة، مثال آخر: بدأت النار تحرق بيتك وليس حوله إلا صفيحة من الخمر وذهب لصاحبه فقال: أعطني إياها فقال: لا إلا بمائة ريال، فهو لا يجوز، لكن هنا يدفع المحتاج الدراهم لطلبها لا على أن بيع لكن لأجل أن ينقذ نفسه من الحريق. وعلى كل حال: الخمر لا تجوز حتى في حال إباحتها استعمالًا أو شربًا لا يجوز، لماذا؟ لأن إباحتها على وجه نادر، والعبرة بالأكثر. "الميتة" يقول: حرم الرسول بيع الميتة، ما هي الميتة أولًا؟ نقول: كل ما لم يمت بذكاة شرعية هذا الضابط لا يتحرم، فشمل ما مات بغير ذكاة، وشمل ما مات بذكاة غير شرعية، إما لعدم أهلية المذكي أو لخلل في الذكاة، وشمل ما لا تبيحه الذكاة كميتة الحمار، فشمل كم

صورة؟ ثلاث صور: ما مات حتف أنفه بدون ذكاة، وما مات بذكاة غير شرعية، وما لا تحله الذكاة وإن ذكي، فلو أن شخصًا عنده حمار وأضجعه وقال: باسم الله، والله أكبر، وقطع الحلقوم والمريء هذا ليس بذكاة ولا تنفع؛ لأن الذكاة لا تبيحه، هذه كلها حرام بيعها حتى في حال الحل، ولو كان هذا الرجل مما يحل له أكل الميتة للضرورة فلا يجوز أن يشتريها، لكن إن لم يتوصل إليها إلا بدفع شيء فليدفع ويكون الإثم على البائع، وهذه صورة بيع وليست بيعًا شرعًا، وهل الميتة هنا على العموم؟ لا، المراد بالميتة: الميتة المحرَّمة احترازًا من الميتة الحلال كميتة السمك والجراد هذه يجوز بيعها؛ لأنها حلال تؤكل بكل حال وبدون ضرورة، وهل يستثنى من الميتة شيء؟ سيأتي - إن شاء الله - في الفوائد أنه يستثنى شيء منها. قال: "والخنزير" وهو حيوان معروف خبيث يأكل الأنتان والعذرة، معروف بعدم الغيرة، ربما يمسك أنثاه لذكر آخر، ثم هو نفسه خبيث لقوله تعالى: {فإنه رجس} [الأنعام: 145]. فلا يحل بيعه حتى في الحال التي يباح أكله وحتى في حال الضرورة، إذا أبيح للإنسان أن يأكله لا يجوز له بيعه، فإن اضطر إليه ولم يحصل عليه إلا بدفع عوض دفعه، ولكنه ليس بيعًا شرعيًّا. قال: "والأصنام" وهي جمع صنم، وهو ما عبد من دون الله كالشجرة والحجر وغير ذلك وهي ليست لذاتها، ولكن لما يراد بها من الشرك، والشرك أعظم الذنوب، فلو كان الإنسان في مكان تعبد فيه شجرة معينة عنده وجاء واحد يمشي في السوق ويقول: من يشتري هذا الصنم فلا يجوز أن يشتريه أبدًا، اللهم إلا إذا لم تتوصل إلى إتلافه إلا بذلك فهذا جائز، لكنه بيع صوري؛ لأنه لا ثمن له شرعًا، ومثل الصنم أيضًا التمثال الذي يعبد من دون الله، والتمثال صنم لكنه أخرس؛ لأن الصنم: كل ما عبد من دون الله من أشجار وأحجار وتماثيل وغير ذلك، والتمثال: ما صنع على هيئة معينة كأن يصنع على شكل عالم أو عابد أو سلطان أو ما أشبه ذلك، فإن كان الشيء يعبد من دون الله وأكثر الناس لا يعبدونه كالبقرة فهي عند قوم تعبد من دون الله هل نقول: إذا كنا في أرض يعبد أهلها البقر لا يجوز أن نبيع البقرة؟ لا، بل نقول: يجوز بيعها إلا من اشتراها لهذا الغرض. هذه أربعة أشياء: الخمر والميتة والخنزير والأصنام، والحكمة من ذلك: أما الخمر فلأنها مفسدة للعقل مفسدة للمجتمع، وأما الميتة والخنزير فلأنهما طعام خبيث لا ينال المرء منهما إلا المضرة والمرض، وأما الأصنام فلأنها مفسدة للأديان، فصارت الحكمة من تحريم بيع هذه الأشياء حماية العقول والأبدان والأديان، وإن شئت فقل: والفطرة، وهذا يتحقق في الخنزير؛ لأن الخنزير إذا كان كما يقولون: ليس له غيرة فهو ديوث، وعليه فالذي يتغذى به يكون مثله، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير لئلا يتغذى بها

الإنسان فيتكسب من سبعيتها وعدوانها، الخنزير هذا إذا صح انه لا غيرة له ففيه إفساد الفطرة والأخلاق فيكون الحكمة من تحريم هذه الأشياء: حماية العقول والأبدان والأديان والفطرة، والدين الإسلامي جاء بحماية هذه الأشياء، ولو شئنا لقلنا: من مجموع هذه الأشياء يكون في ذلك حماية الأموال، كيف ذلك؟ لأن بذل الأموال في مثل هذه الأشياء بذلك ما لا فائدة فيه، بل بما فيه مضرة فيكن إضاعة للمال، إذن للعقول والأديان والأبدان والفطرة والأموال خمسة، حماية لهذه الخمسة حرم الله عز وجل بيع هذه الأشياء وإن كان فيها مكسب، كما قال الله تعالى في الخمر: {يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيما إثم كبير ومنافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]. والله عز وجل لا يمنع عباده الشيء إلا لأن ضرره أكثر، وذلك لأن العطاء أحب إليه من المنع ورحمته سبقت غضبه. قوله: "فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن؟ " أولًا: قولهم: "قيل: يا رسول الله"، القائل مبهم ولا يعنينا أن نعرف عين القائل، لأن المهم هو الحكم، أما عين الشخص فالغالب ألَّا نحتاج إليه، فلهذا دائمًا تأتي مثل هذه الصيغة فقيل: يا رسول الله؛ لأنه لا يهتم بالقائل أهم شيء معرفة القضية والحكم، وقولهم: "يا رسول الله" هذا النداء الذي أرشدهم الله إليه في قوله: {لّا تجعلوا دعاء الرسول ... } [النور: 63]. يعني: لا تقولوا: يا محمد، بل صفوه بما كلَّفه الله به وبما يختص به من الوصف وهو "رسول الله"، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكنى أحد بكنيته لئلا يشاركه أحد عند المناداة فيقال مثلًا: يا أبا القاسم، فيظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا خص كثير من أهل العلم النهي بالتكني بكنيته بما كان في حياته فقط لئلا يشاركه أحد، فإذا نودي بين الناس: يا أبا القاسم يظن من لا يعرفه أن هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، إذن هذا من أدب الصحابة ولا أحد يناديه باسمه إلّا من كان جاهلًا كأعرابي يأتي إلى المدينة يقول: يا محمد. يقول: "أرأيت شحوم الميت؟ " هذا التركيب يوجد كثيرًا في القرآن، ومعناه على سبيل الإجمال: أخبرني؛ لأن التقدير: أرأيت كذا وكذا، فأرني ما رأيت، أي: أخبرني، أما من حيث الإعراب فنقول: إن "رأى" هنا علمية، و"شحوم" مفعولها الأول، ومفعولها الثاني محذوف ويكون غالبًا جملة استفهامية، هنا نقول: "شحومها" مفعولها الأول، ومفعولها الثاني محذوف: "قال: أيحل"، ثم ماذا نقدر الفاعل؟ قال بعض العلماء: التقدير أن نقول: أيحل هذا فيها؟ يعني: أن تطلى بها السفن ويستصبح بها الناس وتدهن بها الجلود، أو يكون التقدير أحيل بيعها؟ فقد اختلف العلماء - رحمهم الله - ماذا يقدر الفاعل؟ أو البيع أو هذه المنافع؟ الصحيح: أنه البيع؛ لأن السياق في البيع وهي أن هذه الأشياء التي تعلوها ما تحدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقال:

أرأيت هذا هل يحل؟ وهو لم يتحدث عن تحريم المنافع إطلاقًا، إنما كان يتحدث عن البيع، لكن لما رأوا هذه المنافع ظنوا أن هذه المنافع تقتضي حل بيعها كما أن المنافع في الإذخر اقتضت حل حشَّه في الحرم لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يحش حشيشها" قال العباس: "إلا الإذخر ... إلخ"، فظنوا - رضي الله عنهم - أن هذه المنافع تقتضي حل البيع كما اقتضت المنافع في الإذخر حل حشه، وكما نعلم الآن كل هذه الأحاديث ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في تحريم مكة، وهذا الحديث ذكره في أيام الفتح، فالصحابة كأنهم استذكروا ما رخص فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من جواز حش الإذخر من أجل منافعه فظنوا أن هذه المنافع تقتضي حل البيع، وأن هذا يكون مخصّصًا لعموم تحريم الميتة، هذا هو الصواب المتعين في الحديث أن المسئول عنه ليست هذه المنافع وإنما هو بيعها الذي تقتضي هذه المنافع حلَّه. وقول: "شحوم" جمع شحم، قال بعضهم: الشحم هو اللحم الأبيض، وقال بعضهم: الشحم معروف أيهما أصرح؟ الثاني أصرح؛ لأنك إذا قلت: الشحم هو اللحم الأبيض؛ ذهب السامع يبحث ما هو اللحم الأبيض؟ وعلى كل حال: يقال الشحم معروف، أما الميتة فهي الميتة التي عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن الله حرم بيع الميتة". ثم علل فقال: "فإنها - أي: الشحوم - تطلى بها السفن"، أي: المراكب البحرية تدهن بالشحم، لماذا؟ من أجل ألا يتشرب الخشب الماء؛ لأن الخشب إذا تشرب الماء ثقل وغرقت السفينة، وإذا كان على جدران السفينة هذا الطلاء من الشحم منع تشرُّب الخشب للماء فتبقى السفينة محمية بهذا الطلاء من أن تتشرب الماء. قال: "وتدهن بها الجلود"، أي جلود؟ الجلود التي تدبغ؛ لأن الدهن يلينها. قال: "ويستصبح بها الناس" "يستصبح" يعني: يجعلونها مصابيح، أي: سرجًا، يضعون في الشحم إذا ذوبوه خرقة ثم يشبونه في رأسهم ثم تأخذ بالإضاءة ما دام هذا الشحم أو الدهن باقيًا، وهذا نسمع الناس يتحدثون عنه وإن كنا ما أدركناه لكن على عهد قريب والناس يستعملونه، حتى إنه في بعض الوصايا عندنا أوصى بأن يوقد سراج المسجد ولو وصل الصاع - صاع الودك - ريالًا وكان في ذلك الوقت الريال عندهم أكثر من ألف ريال، على كل حال: هذا الاستصباح يوضع الشحم المذوب في إناء ويوضع فيه فتيلة وتوقد النار في رأسها وتكون مصباحًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا" يعني: لا يحل؛ لأن السؤال عن الحل، وما الذي لا يحل؟ قلنا:

قولان لأهل العلم: قول لا يحل هذا العمل طلي السفن والاستصباح ودهن الجلود، وقيل: بل البيع وه والصواب، بل إن السياق يعينه. ثم قال: "هو حرام"، أي: البيع، لماذا يكون حرامًا؟ لأن الميتة حرام، وجواز بيعها لهذه الأغراض يستلزم تداولها بين الناس والاستهانة بها؛ لأنه - كما يقال - إذا كثر الإمساس قلَّ الإحساس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "قاتل الله اليهود"، "قاتل" بمعنى: أهلك، وقيل بمعنى: لعن، واللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وكون المقاتلة بمعنى: اللعن بعيد من الاشتقاق؛ لأن قاتل مشتقة من قتل وليس فيها شيء من حروف اللعن إلا اللام وليس بينهما اشتقاق لا أكبر ولا أصغر ولا أوسط، ولكن نقول: إن معنى "قاتل": أهلك؛ لأن من قتله الله فهو هالك قطعًا فيكون الدعاء بالمقاتلة، أي: قتال الله لهؤلاء معناه الدعاء بالهلاك وهذا هو المناسب لمادة هذه الكلمة، وإن كان كثير من المفسرين يفسرون القتل باللعن كقوله تعالى: {قتل الخراصون} [الذاريات: 10] أي: لعنوا، لكن الأظهر أن المراد بالمقاتلة: الإهلاك؛ لأن تفسير الشيء بما يطابق مادته أولى من تفسيره بأمر بعيد. ثم قال: "قاتل الله اليهود" وهم الذين يدَّعون أنهم يتبعون موسى - عليه الصلاة والسلام -وهم من بني إسرائيل، ولكن لماذا وصفوا أو لقِّبوا بهذا اللقب؟ قيل" إنه نسبة إلى أبيهم جدهم يهوذا أحد أبناء يعقوب عليه السلام وأنه مع التعريب تحول إلى يهود بالدال، وقيل: إنه من "هاد يهود" لقولهم: {إنا هدنا إليك} [الأعراف: 156]. أي: رجعنا، وعلى كل حال: سواء هذا أو هذا فإن اليهود معروفون بالمكر والخداع، كما فعلوا في الحيتان حين حرم عليهم صيد السمك في يوم السبت فابتلاهم الله عز وجل وصارت الحيتان تأتي يوم السبت على ظاهر الماء شرَّعًا وفي غير السبت لا تأتيهم فتحيَّلوا ووضعوا شبكًا في يوم الجمعة فيأتي الحيتان يوم السبت ويدخل في الشبك ثم إذا كان يوم الأحد جاءوا وأخذوها وقالوا: نحن ما صدنا يوم السبت، فعاقبهم الله تعالى عقوبة تناسب ذنبهم قلبهم الله قردة؛ لأن القردة أقرب ما يكون إلى الإنسان كما أن عملهم هذا قريب من الصحة، يعني: ظاهره أنه ليس فيه صيد، وهذا القرد قريب من الإنسان فهو في صورة إنسان لكن معناه حيوان. إذن المهم: اليهود لما حرم الله عليهم شحومها، وفي لفظ الشحوم، والشحوم أعم؛ لأنه يشمل شحوم الميتة وغير شحوم الميتة، ومن المعلوم أن الله عز وجل حرم عليهم الشحوم: {وعلى الذين هادوا حرَّمنا كلَّ ذي ظفر ومن البقر والغنم حرَّمنا عليهم شحومها} [الأنعام: 146].

حرم الله عليهم شحوم البقر والغنم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، لكن ماذا فعلوا؟ يقول: "جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه"، جملوه، أي: أذابوه، وقالوا: لا نأكله لكن ذوَّبه وبعه واشتر بثمنه ما تأكله، فهذه حيلة على محارم الله عز وجل، ودعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بان الله يقاتلهم تحذيرًا من فعلهم وتنفيرًا عنه؛ لأن من فعل كفعلهم استحق ما يستحقون؛ إذ إن البشر عند الله على حد سواء: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]. فالعاصي من هذه الأمة بما عصت به بنو إسرائيل يوشك أن يلحقه من العقوبة ما لحق بني إسرائيل. وهذا الحديث -كما نشاهد -فيه فوائد كثيرة منها: أولًا: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إبلاغ الأمة في المناسبات، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة أرشد الأمة إلى أحكام كثير تتعلق بمكة وإلى أحكام كثيرة كان المشركون قد تعلقوا بها، ففيه: مراعاة المناسبات في الخطب والتوجيهات والمواعظ، ويتفرع على هذا: أنه ينبغي للداعية والخطيب أن يتحرى المناسبات اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد هذا -أي: مراعاة المناسبات -: أن الشيء إذا جاء والناس يتشوفون إليه كان أوقع في نفوسهم وأشد تأثيرًا، ولهذا لو أن أحدًا في هذا اليوم قام يخطب الناس أو يعظ الناس فيما يتعلق بالصيام أو بالحج هل يكون له تأثير كما لو فعل ذلك في أيام الصيام أو الحج؟ الجواب: لا، وإنما كل شيء في مناسبته له تأثير أكثر وأبلغ. ومن فوائد هذا الحديث: عظم هذا البيع الذي بين الرسول تحريمه؛ لأن نسبة التحريم إلى الله يدل على العناية به، ولأن نسبة التحريم إلى الله أشد وقعًا على المؤمن مما لو قيل لا تبع كذا لو قال لا تبع الخمر والخنزير والأصنام لا شك أن المؤمن يتأثر بهذا ولكن لو قال: "إن الله حرم" هذا يكون أشد وأبلغ في النفس. ومنها أيضًا: هذه الصيغة كما أنها أبلغ من حيث إنها نسبت إلى الله عز وجل فهي أبلغ من حيث إنه صرح فيها بالتحريم: "إن الله حرم"، لو كان نهيًا هكذا "لا تبيعوا" لادعى مدي أن النهي للكراهة لكن بعد أن قال: "إن الله حرم" لا يمكن دعوى الكراهة بل هي نص في التحريم. ومن فوائد الحديث: تحريم الخمر والميتة والخنزير والأصنام؛ لأن ما حرم بيعه فهو محرم ثمنه، أي: ثمنه المقابل لهذا الشيء المحرّم، فانتبهوا لهذا القيد لأجل ألَّا يرد علينا أن الحمار حرام وبيعه حلال بالإجماع، لكن لو اشترى الحمار ليأكله صار حرامًا، ولهذا نقول: إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه إذا كان الثمن مقابل هذا الشيء المحرم.

ومن فوائد الحديث: حرص الشرع على حماية العقول والأبدان والأخلاق والأديان والأموال، وكما قال بعض الإخوان: الفرد والمجتمع لأن هذه الأشياء حرام حتى وإن لم يكن في المكان إلا رجل واحد فهي حرام. وظاهر الحديث: أن الخمر بيعه حرام مطلقًا، فهل يستثنى من ذلك شيء؟ لا يستثنى من ذلك شيء حتى وإن كان بيع خمر من مسلم لكافر فإنه لا يجوز من كافر لمسلم من باب أولى، أمَّا من كافر لكافر فيصح بناء على ما يعتقدونه، ولهذا لما ذكر لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يأخذون الخراج من الخمر ثم يبيعونه عليهم نهاهم عن ذلك وقال: "ولُّوهم بيعها وخذوا أثمانها"، يعني: اجعلوهم هم يبيعونها وهذا يدل على أن بيعها صحيح، ولولا ذلك ما صحَّ أن نأخذ ثمنه؛ لأن ثمن ما كان بيعه محرمًا محرم وفيه - أي: في قول عمر - فائدة عظيمة وهي أن من عامل بمعاملة يعتقد حلها وأنت تعتقد تحريمها فإن ما تأخذه منه حلال وجائز، لو اشترى شيئًا تعتقد أن هذا الشراء حرام وأن الملك لم ينتقل به يجوز أن تشتري منه أنت، لماذا؟ لأنه يعتقد حلَّه، وهكذا كل الأشياء الخلافية إذا وقعت ممن يعتقد حلها وليس هناك نص في التحريم بحيث لا يسوغ له أن يجتهد، فإن كل إنسان يعامل بما يقتضيه رأيه مثلًا لو وجدنا واحدًا يشرب الدخان وهو يعتقد حل شرب الدخان فلا يسوغ لي أن أنكر عليه ما دام يعتقد أنه حلال، لو رأيت رجلًا أكل لحم إبل وملأ بطنه ثم قام يصلي بلا وضوء وهو يعتقد أنه لا يجب الوضوء من لحم الإبل فلا أنكر عليه، والصلاة بغير وضوء أعظم من شرب الدخان، حتى إن أبا حنيفة رحمه الله في مذهبه أنَّ من صلى محدثًا فهو كافر؛ لأنه مستهزئ بآيات الله، ومع ذلك إذا كان هو يرى أنه لا ينقض الوضوء فلا ننكر عليه، وأثر عمر هذا رضي الله عنه هو الأصل في هذا، فلو أكلت لحمًا أنا ورجل من الشافعية وهم يرون أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء وقمنا للصلاة فتوضأت وهو لم يتوضأ هل أقول له: يا أخي، اتق الله هذا حرام، وأنكر عليه؟ لا، ما رأيكم فيمن يصلي بغير وضوء فهذا ينكر عليه، لماذا لا أنكر على هذا؟ لأنه يعتقد أنه على وضوء وأنه ليس حرامًا عليه أن يصلي، نفس الأشياء الأخرى الشيء الذي فيه الخلاف وليس فيه نص يمنع الإنسان من الاجتهاد فيما يذهب إليه لا ينكر عليه، لأنه يقول: أنت تعتقد أنه حرام، وأنا لا أعتقد أنه حرام، فقولك ليس حجة علي وقولي ليس حجة عليك.

تحريم بيع الميتة مثل الدخان والدم

إذن أنا ربما أقول: إذا أنكرت عليّ فعله وقلت: إنه حرام - أنا أيضًا أنكر عليك أقول: لماذا تحرمه والأصل الحل؟ لماذا تمنع عباد الله مما خلق الله؟ فمشكلة هذه أننا نحن الآن هنا في السعودية لا أحد من علمائنا فيما أعلم يقول: إن الدخان حلال، وعلى هذا فلو جاء عاميّ يقول: أنا والله أقلد ناسًا آخرين خارج المملكة لا يحرمونه لا نقره على ذلك؛ لأن العامي ليس أهلًا للاجتهاد، لكن لو يأتي واحد طالب علم من بلاد أخرى يقول: أنا ما تبين لي التحريم فلا ننكر عليه؛ لأنه ليس عندنا نص يقول: إن الدُّخان حرام، تحريمه داخل في عمومات، والرسول صلى الله عليه وسلم لما نهى عن أكل البصل قال الصحابة: إنها حرَّمت أنها حرمت، فقال: "إنه ليس لي تحريم ما أحل الله"، عمر رضي الله عنه لما قالوا: إنهم يأخذون من أهل الذمة الخراج أو الجزية يأخذون خمرًا ويبيعونه ويدخلون ثمنه في بيت المال نهاهم قال: ولُّوهم بيعها وخذوا أثمانها، بيع الخمر بالنسبة للمسلمين حرام، أمَّا بالنسبة للذمي حلال، اجعلوهم يبيعون الخمر؛ لأنهم يعتقدون حلها وخذوا أثمانها منهم مع أني الآن أعلم أن هذا الرجل باع الخمر وأخذت الثمن -ثمن الخمر -وجعلته في بيت المال يقاس على الخمر ما يشبهه أو أشد ضررًا منه مثل الأفيون والحشيش والمخدرات، وهل يقاس عليه الدُّخان أو لا؟ هو لا يسكر وأظنه أيضًا لا يخدر لكنه يدخل فيما يأتي في بيع الميتة أو الخنزير لكنه في بيع الميتة ألصق. تحريم بيع الميتة مثل الدخان والدم: قال: "والميتة"، يعني: حرم بيع الميتة، وهذا كما نعلم لفظ عام؛ لأنه مفرد محلى بـ "أل"، والأصل في المفرد المحلى بـ "أل" أنه للاستغراق، عام لأنه لا يخرج عن الاستغراق إلا بدليل مثل أن يكون للعهد، أو لبيان الحقيقة. إذن فكل ميتة فبيعها حرام، إذن لدينا عمومات عموم لجميع الميتات حيث قلنا "كل ميتة بيعها حرام" وعموم الميتة نفسها حيث قلنا: "كل الميتة بيعها حرام"، أما الأول وهو العموم في أعيان الميتات فهذا يستثنى منه شيء يستثنى منه ما كان ميتته حلالًا، مثل: السمك والجراد فإن بيعها حلال. فإن قال قائل: أين الدليل على إخراج هذا من العموم؟ قلنا: الدليل: أولًا: السُّنة، وثانيًا: المعنى، أما السُّنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سياق هذا الحديث: "إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه"، فعلم من هذا التعليل أن الميتة التي يحرم بيعها هي

الميتة المحرمة؛ لقوله: "إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه"، أما المعنى: فنقول: إنما حرم بيع الميتة لأنه لا ينتفع بها، والميتة الحلال ينتفع بها، وما كان منتفعًا به على وجه حلال فإن الشرع لا يمكن أن يمنع بيعه لما في ذلك من الحجر على الناس في تعميم الانتفاع به؛ لأنَّا لو قلنا: هذا الشيء الحلال لا يجوز بيعه معناه: أننا حجرنا على الناس في تعميم الانتفاع به فصار لا ينتفع به إلا من كان بيده أو إذا ما أعطاه على سبيل الهدية والصدقة وما أشبه ذلك. صار يستثنى من هذا أي شيء؟ الميتة الحلال كالسمك والجراد، وقد عرفتم الدليل والتعليل في ذلك. العموم الثاني: قولنا: "كل الميتة"، أي: كل أجزاء الميتة حرام بيعها هذا أيضًا ليس على عمومه؛ لأنه يستثنى منه ما لا تحله الحياة، فبيعه حلال بالاتفاق كالشعر والوبر والصوف والريش هذا بيعه حلال بالاتفاق؛ لأنه لا يدخل في مسمى الميتة، ولهذا يجزَّ وينتفع: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين} [النحل: 80]. ولو كان من الميتة لكان إذا جزّ لا ينتفع به؛ لأن ما أبين من حي فهو كميتته. إذن يستثنى من الميتة ما لا تحله الحياة؛ كالشعر والوبر والصوف والريش، هذه الأربعة ما الفرق بينها؟ الصوف للضأن، والوبر للإبل، والشعر للمعز، والبقر والريش للطير، هذه يجوز بيعها فإذا ماتت البهيمة مثلًا وجز الإنسان صوفها أو شعرها أو وبرها فله بيعه، وكذلك لو قص ريشها فله بيعه بالاتفاق؛ لأن الحياة لا تحله، وهل تباع الأظلاف؟ الأظلاف للبهيمة التي بمنزلة الأظفار للإنسان هل تباع؟ الظاهر أنها من جنس الظفر بعضها تحله الحياة وتتألم به وبعضها لا، فما لا تحله الحياة كالظفر فإنه يجوز بيعه إن انتفع به، وإن لم ينتفع به منع من بيعه لا لأنه جزء ميتة، ولكن لأن في بذل المال فيه إضاعة للمال. عظام الميتة تحل بيعها؛ لأنها تدخل في عموم قوله: "الميتة" واختار شيخ الإسلام رحمه الله جواز بيع العظام معللًا ذلك بأن الحياة لا تحل العظم، لأنه ليس فيه دم؛ ومدار تحريم الميتة على الدم، ولهذا إذا كان الحيوان مما لا دم فيه فعظم ميتته طاهرة وما ليس فيه دم فإن ميتته طاهرة. قال: إذن فالعظام طاهرة، وإذا كانت طاهرة جاز بيعها، لكن جمهور أهل العلم على خلاف قوله وهو الأقرب من لفظ الحديث؛ لأن الميتة في الواقع إذا قيل "ميتة" فلا يتبادر إلى الذهن إلا أن لفظ شامل لكل الميتة، وقول شيخ الإسلام: إن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما حرم من الميتة أكلها والعظام لا تؤكل. جوابه أن يقال: بل قد تؤكل. هل يشمل هذا الحكم الجلد - جلد الميتة - أو لا؟ نقول: الحديث يشمله؛ لأن الجلد جزء من الميتة تحله الحياة، إذن فلا يجوز بيع جلد الميتة وإن سلخ وانفصل منها؛ لأنه جزء منها،

فكما لا يجوز أن أبيع يدها أو رجلها إذا قطعتها فلا يجوز أن أبيع جلدها إذا سلختها، وهل يشمل هذا ما إذا دبغ الجلد؟ يقول بعض العلماء: إنه يشمل ما إذا دبغ، وهذا مبني على أنه لا يطهر بالدباغ وعلى أنه لا ينتفع به إلا في الشيء اليابس، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، والصحيح أنه يطهر بالدبغ، وأنه ينتفع به في اليابسات والمائعات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة يجرونها ميتة فقال: "هلَّا أخذتم إهابها فانتفعتم به". قالوا: إنها ميتة. قال: "يطهرها الماء والقرظ" وقال: "دباغ جلود الميتة ذكاتها"، وهذا يدل على أن الدبغ يطهرها ويجعلها حلًّا حيث شبهها بالذكاة، شبه الدباغ بالذكاة، وعلى هذا القول يجوز بيعه بعد الدبغ؛ لأنه عين مباحة النفع على وجه عام شامل فيباح بيعه بعد الدبغ. هل يباح بيع جلود السباع بعد دبغها؟ هذا ينبني على أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" هل يشمل ما لا تبيحه الذكاة كالسباع أو يختص بما تبيحه الذكاة لقوله: "دباغ جلود الميتة ذكاتها" وفيه خلاف بين العلماء أيضًا، لكن إذا قلنا بان جلود السباع تطهر بالدبغ فإنه يجوز بيعه كجلود الميتة. لو قال قائل: إذا قلتم إنه يطهر بالدبغ، فقولوا: يجوز بيعه قبل الدبغ كما تقولون بجواز بيعه؛ لأنه يمكن أن يطهر وينتفع به، فاجعلوا جلد الميتة قبل الدبغ كالثوب المتنجس، وقولوا: يجوز بيعه لمن يريد أن يدبغه ويطهره؛ لأنه قد يكون هذا صاحب الشاة التي ماتت وسلخ جلدها قد لا يكون عنده ما يدبغ به الجلد، ويأتي إنسان آخر يقول: أنا أشتريه وأدبغه فهل تجيزون ذلك؟ الجواب: لا، والقياس نقول: لا يصح القياس؛ لأن هذا الجلد جزء من الميتة فنجاسته عينية أصلية، فلا يمكن أن نجيز بيعه حتى يخرج عن حكم الميتة، أما الثوب المتنجس فالنجاسة طارئة عليه وأصله طاهر ليس جزءًا من ميتة أو جزءًا من نجس بل أصله طاهر، فلهذا أجزنا بيعه قبل غسله، إذن الميتة فيها عمومان من حيث الميتات وأنواعها، ومن حيث أجزاء الميتة، تقدير العموم الأول: أن نقول: بيع كل ميتة، وتقدير العموم الثاني: بيع كل الميتة، وعرفنا الآن ما الذي يستثنى من ذلك. ولو قال قائل: لو اضطر إنسان إلى بيع ميتة هل يجوز بيعها عليه؟ الجواب: لا للعموم، ولأنه عند الضرورة يجب أن يبذل له ما يدفع ضرورته حتى وإن كانت مذكاة، فإن أبى صاحب الميتة أن يعطي المضطر إلا ببيع فليدفع له والإثم على البائع.

تحريم بيع الأصنام وما يلحق بها من الكتب المضلة والمجلات الخليعة

والقرون يجوز بيعها؟ مثل الظفر الذي انفصلت عن الحياة لا يجوز وما لا فلا، يقاس على الميتة ما كان ضارًّا بالبدن، فكل ما يضر بالبدن فإنه يدخل في حكم الميتة مثل الدخان؛ لأنه مضر، ولا شك في ضرره فيحرم بيعه، وإذا حرم بيعه حرم تأجير المحلات لمن يبيعه؛ لأن هذا إعانة على الإثم والعدوان، وقد قال الله تعالى: {وتعاونوا على البِّر والتَّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدان} [المائدة: 2]. وحرم أيضًا إعانة شاربه على حصوله لأي سبب، وبناء عليه لو قال الأب لابنه: خذ يا بني هذه العشرة ريالات واشتر لي علبة دخان يلزمه طاعته؟ لا يلزمه، ويحرم عليه؛ لأن الله تعالى قال: {وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما} [لقمان: 15]. إذا قال له: اشتر لي وإلا طلقت أمك هل هذا ضرورة؟ الظاهر أنه ضرورة؛ لأنه ربما يتجرأ هذا الغشيم -الأب- ويطلق الأم وقد تكون هذه آخر التطليقات فتنفصم عرى الأسرة. المهم: إذا دعت الضرورة إلى ذلك فهو كغيره من المحرمات التي تبيحها الضرورة، أما إذا لم يكن ضرورة فإنه يجب عليه أن يعصي والده في ذلك، فإن قال: أفلا أعد عاقًّا إذا كان والدي لا يستطيع أن يخرج إلى السوق ويشتري لمرض أو كبر؟ فالجواب: أنه لا يعد عاقًّا لوالديه. وهل يقاس على الميتة السُّم؟ إن اشترى للمضرة فهو حرام، كذا وإن اشترى للمنفعة فهو حلال، ومن ذلك المبيدات التي تشتري لأمراض الأعشاب والزهور وما أشبهها، فنقول: هذه الأشياء إذا كان لا يمكن الانتفاع بها إلا على سبيل المضرة فبيعها حرام وإلا فبيعها حلال؛ لأن فيها منفعة. والدم هل يجوز بيعه أو لا؟ بيع الدم حرام سواء بيع للأكل أو الشرب أو الحقن لا يجوز بيعه، في الأكل كيف ذلك يمكن أن يكون جامدًا ويأكله الإنسان أكلًا أو يشربه شربًا إذا كان ساخنًا حقنًا إذا كان مريضًا يحتاج إلى حقن دم، نقول: بيعه حرام. فإن قال قائل: أليس الدم يجوز عند الضرورة؟ قلنا: أوليس الميتة تجوز عند الضرورة؟ فسيقول: بلى في المسألتين، نقول: إذا كانت الميتة تباح للضرورة ومنع الشارع بيعها فكذلك الدم لا يجوز، فإن اضطر إنسان إليه ولم يجد من يبذله له إلا بعوض فالإثم على البائع، أما هو فيجوز أن يدفع ضرورته بذلك وهذا على أي دم: دم الإنسان دم البهيمة. تحريم بيع الأصنام وما يلحق بها من الكتب المضلة والمجلات الخليعة: الأصنام قلنا: إن كل ما اتُّخذ ليعبد من دون الله فهو صنم، سواء على صورة إنسان أو شجر أو حجر أو غير ذلك، وذكرنا في أثناء الشرح أن العلة في ذلك حماية الأديان وعلى هذا نقول: الأصنام يحرم بيعها، لكن لو أراد شخص أن يصنع صنمًا لمن يعبد الأصنام مثل أن يصنع صورة بوذا لمن يعبده نقول: هذا حرام لا يجوز بيعه حتى على من يعبده؛ لأن عادة

الأصنام ما أحلت بأي شريعة كانت، كل الشرائع تحارب الشرك، ليس هناك شريعة أنزلها الله عزَّ وجل تبيح الأصنام، فإن اشتريت الأصنام لتكسر وينتفع بموادها فظاهر الحديث أن ذلك حرام، ويحتمل أنه ليس بحرام؛ لأنه ليس المقصود من الشراء هنا شيئًا محرمًا؛ إنما المقصود شيئًا مباحًا، ومثل ذلك لو اشتراها ليتلفها فإن هذا لا بأس به بشرط أن يعلن ذلك حتى لا يظن أحدٌ أنه اشتراها من أجل الانتفاع بها على وجه محرم، إذن يستثنى من الأصنام شيئان: الشيء الأول: إذا كانت مادتها ينتفع فاشتراها ليكسرها وينتفع بمادتها كما لو كانت من حديد أو خشب يصلح أن يكون ألواحًا أو أبوابًا أو ما أشبه ذلك. ثانيًا: إذا اشتراها ليتلفها يعني: هو لا ينتفع بمادتها لكن اشتراها ليتلفها فهذا لا بأس به، بشرط أن يبين ذلك ويظهره لئلا يتخذ ذريعة إلى جواز بيعها، ويقاس على ذلك. من فوائد الحديث أيضًا: أنه يحرم بيع الكتب المضلة الداعية للبدع أيًّا كانت إلا إذا اشتراها ليعرف ما فيها من بدع ثم يرد عليها، فهذا لا بأس به إذا كان لا يتوصل إلى ذلك إلا بالشراء، كما لو اشترى الأصنام من أجل إتلافها ولا يتوصل إلى إتلافها إلا بذلك، ويقاس على ما سبق من بيع الخمر والأصنام، أيضا لا يجوز شراء الكتب المدمرة للأخلاق مثل المجلات والصحف التي تشتمل على صور خليعة مغرية مفسدة للأخلاق، فإن شراءها لا يجوز وبيعها حرام، فإن اشتراها لإتلافها ولا يتمكن من إتلافها إلا عن طريق الشراء فلا بأس؛ لأن هذا لا يقصد به اقتناؤها، وإنما يقصد به إتلافها وإزالتها، وكل شيء ذكرناه من الأصنام وغيرها مما قلنا يجوز شراؤه لإتلافه وهذا إذا لم يتمكن من إتلافه بغير الشراء، فإن تمكن فإن شراءها إضاعة مال ولا يجوز له أن يشتريها في هذه الحال. ومن فوائد الحديث: حماية الإسلام للعقول والأبدان والأخلاق والأديان والأموال والفرد والمجتمع والفطر؛ لأن كل هذا تفسد ما ذكر، فإذا حرم الشارع بيعها فإنما ذلك لحماية هذه الأمور التي لا بد للمجتمع من حمايتها. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز تأجير المحلات لمن يبيعون هذه الأشياء، من أين يؤخذ؟ من أن الإعانة على المحرم حرام؛ لقوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدان} [المائدة: 2]. فلا يجوز أن يؤجر الإنسان بيته لبائع الخمر أو لبائع الخنزير أو لبائع الأصنام أو لبائع المجلات الخليعة أو لبائع الكتب المنحرفة، وما أشبه ذلك؛ لأن هذا من باب التعاون على الإثم والعدوان. ومن فوائد الحديث: فقه الصحابة -رضي الله عنهم- وذلك من قولهم: "أرأيت شحوم الميتة؟ ... إلخ"، وجه ذلك: أنهم أرادوا أن يجعلوا من الانتفاع بهذه الأشياء -هذا الانتفاع المباح- سببًا لحل بيعها؛ لأنه يتوصل بيعها إلى شيء مباح وهو طلي السفن ودهن الجلود والاستصباح.

ومنه أيضًا -من فوائد الحديث-: أن الشرع يأتي بما فوق العقل، بمعنى: أن العقل قد يدرك الشيء على وجه ناقص فيأتي الشرع ويكمله، وجه هذا: أن الصحابة قالوا: إذا كانت هذه الشحوم تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فهذا يقتضي جواز بيعها لتحصيل هذه المنافع، ولكن الشرع أقوى من ذلك وأعمق؛ حيث منع منها الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقًا لما في ذلك من الحماية التامة؛ لأنه لو أجيز بيع الشحوم لهذه الأغراض لتوصل الناس إلى شيء آخر ولقالوا: إذن يجوز بيع لحوم الخنزير لهذا الغرض، لكن الرسول بيّن أن هذا ممنوع. ومن فوائد الحديث: جواز طلي السفن بشحوم الميتة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك. ومن فوائد الحديث أيضًا: جواز الاستصباح بشحوم الميتة، لكن قال أهل العلم: إنه لا يجوز أن يستصبح بها في المساجد، وهذا القول مبني على أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة؛ لأن دخان النجاسة نجس، أما على القول بأنها تطهر بالاستحالة فإن دخانها طاهر، وحينئذٍ لا مانع من أن يستصبح بها في المساجد. ومن فوائد الحديث: جواز الانتفاع بالنجس على وجه لا يتعدى لقوله هنا: "فإنها تطلى بها السفن"، فإن كان على وجه يتعدى مثل أن يستعمل النجس على ثوبه أو بدنه ويذهب إلى الصلاة، فإن هذا لا يجوز، أو يستعمل النجس في أكله وشربه فإن هذا لا يجوز؛ لأن التغذي بالنجاسة لا يجوز. هل يستفاد منه: جواز استعمال الكحول على وجه لا يتعدى كما لو ادهن بها أو ما أشبه ذلك؟ نعم، قد يقال بذلك، وقد يقال: إن عموم قوله: {فاجتنبوه} [المائدة: 90]. يدل على أنه لا يستعمل لا شربًا ولا دهانًا. ومن فوائد الحديث: جواز الدعاء على الأمة إذا عملت ما يكون معصية على سبيل العموم؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود"، فيجوز لك أن تقول: قاتل الله أهل هذا البلد إذا كانوا يتعاملون معاملة سيئة أو يفعلون معصية تدعو عليهم بأن يقاتلهم الله، وسبق معنى المقاتلة. ومن فوائد الحديث: أن اليهود أصحاب مكر وخديعة؛ لأن الله لما حرم عليهم الشحوم صاروا يذيبونها ثم يبيعونها ويأكلوا ثمنها. ومن فوائده: أن من تحيل على محارم الله من هذه الأمة ففيه شبه من اليهود، فيكن التحيل حرامًا؛ لأنه تحيل على المعصية، ولأن فيه مشابهة لمن؟ لليهود. ومن فوائد الحديث: أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه، وبناء على ذلك فإن ما ذكرناه قبل قليل من شراء الأصنام لإتلافها أو الكتب المنحرفة لإتلافها يكون الثمن حرامًا على البائع لماذا؟ لأن هذا حرام عليه فيحرم عليه ثمنه.

ومن فوائد الحديث: جواز تصرفات الكفار المالية لقوله: "ثم باعوه فأكلوا ثمنه"، فإن هذا البيع إذا قال: "أكلوا ثمنه" يدل على أن هذا البيع صح؛ إذ لا يحل الثمن إلا بعد صحة البيع. وهذه الفائدة فيها شيء من القلق لكن قد يوحي قوله: "ثم باعوه" على جواز تصرف الكفار، وهذا أمر لا شك فيه، يعني: من حيث الجملة، لكن هل هذا الحديث يدل عليه هذا هو محل قلق في النفس، وأما جواز تصرف الكفار ومعاملاتهم فهذا شيء معروف. ومنها: جواز استعمال "أرأيت" في مخاطبة الرؤساء وذي الشرف والجاه لقول الصحابة: "أرأيت شحوم الميتة؟ "، ولا يقال: إن هذا سوء أدب في الخطاب؛ لأن الصحابة -وهم أكمل الناس أدبًا- خاطبوا به من هو أعظم الناس في وجوب التأدب معه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها: جواز توكيد الحكم لقوله: "لا، هو حرام"، فإن قوله: "هو حرام" تأكيد لقوله: "لا"؛ إذ لو اقتصر على قوله: "لا" لكفى، وقد يقال: إنه لا يكفي؛ لأن النفي قد يكون للكراهة لا للتحريم، وبناء على ذلك تكون الجملة -"هو حرام"- تأسيسية لا توكيدية. 750 - وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بيِّنةٌ، فالقول ما يقول ربُّ السِّلعة أو يتتاركان". رواه الخمسة، وصحَّحه الحاكم. قوله: "إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة"، المتبايعان هما: البائع والمشتري، وأطلق عليهما اسم المتبايعين من باب التغليب على أننا نقول: البائع بائع، والمشتري مبتاع. وقوله: "وليس بينهما بينة"، البيِّنة: ما يبين الحق ويوضحه وهي في الأموال: رجل وامرأتان أو رجلان أو رجل ويمين المدعي. وقوله: "فالقول ما يقول رب السلعة"، من هو رب السلعة؟ فسرت ذلك في لفظ آخر وهو البائع وتفسيره يرد قول من يقول: إن المراد برب السلعة: المشتري؛ لأن مالك السلعة عند الاختلاف هو المشتري وليس البائع؛ لأن البائع قد باعه وانتقل ملكه عنه، ولكن تفسير اللفظ الثاني يأبى هذا المعنى، ويكون المراد برب السلعة: البائع على كل حال، وظاهر الحديث: أن هذا عام في جميع الاختلافات سواء كان البائع هو المدعي أو كان المشتري هو المدعي، وحينئذٍ يكون بينه وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه" يكون بينهما

عموم وخصوص من وجه، وجه ذلك: أن الحديث "البينة على المدعي" يعم كل السلع ويخص اليمين بالمدعى عليه، وأن هذا الذي معنا يختص بالمتبايعين ويعم كل اختلاف بينهما، إذن هنا عموم وخصوص، فإذا اتفقا في صورة ما فلا إشكال؛ يعني: بأن كان البائع هو المدعى عليه، فإذا كان البائع هو المدعى عليه فالقول قوله بيمينه على الحديثين، هذا والذي أشرنا إليه من قبل، وصورة ذلك: أن يقول المشتري للبائع: إنك قد اشترطت عليّ أن الشاة ذات لبن! فقال البائع: ما اشترطت عليك، فهنا القول قول البائع أنه لم يشترط على الحديثين جميعًا، يعني: على مقتضى هذا الحديث وعلى مقتضى البينة على المدعي، واليمين على المدعي عليه؛ لأن المدعي عليه الآن، هو البائع، وهنا يكون القول ما قال رب السلعة وهو البائع، فإذا اتفق مدلول الحديثين في صورة ما فالأمر واضح أن القول قول البائع، لكن المشكل إذا اختلفا مثل أن يقول البائع: قد بعتها عليك بعشرة، فيقول المشتري: بل بثمانية، فهنا البائع هو المدعي؛ لأنهما اتفقا على الثمانية واختلفا في الزائد في العشرة وما فوق بثمانية زائد، فالقول به دعوى، فهل نقول: القول قول البائع، أو نقول: القول قول المشتري؛ لأنه مدعى عليه؟ فيه خلاف؛ منهم من رجح اليمين على المدعى عليه، وقال: هنا المشتري مدعىٍ عليه؛ لأنه قد ادعى عليه أن الثمن عشرة فيكون القول قوله، ويحلف أنها ليست بعشرة وتكون له، ومنهم من يقول: بل القول قول البائع؛ لأن المشتري مدعٍ. ما وجه كونه مدعيًا. قالوا: لأنه ادعى أن البائع أخرجها من ملكه بثمانية، والأصل بقاء ملك البائع، فالبائع يقول: ما بعت إلا بعشرة، وهذا يقول: بعت بثمانية، إذن هو مدعٍ، وحينئذٍ يصدق الحديثان في هذه الصورة؛ لأن قولنا: القول قول البائع على حسب هذا الحديث، وعلى حسب حديث: "البينة على المدعي"، ولكن العلماء اختلفوا في هذه المسألة؛ فمنهم من قال: القول قول البائع بمقتضى هذا الحديث وقال: إن معنى حديث: "البينة على المدعي ... إلخ" يطابق هذا الحكم؛ لأن المشتري يدعي أن البائع أخرجه من ملكه بثمانية، والبائع ينكر، والأصل بقاء الملك -ملك البائع- فيكون القول قول البائع كما سيأتي. ومن العلماء من قال: إن القول قول المشتري؛ لأنهما اتفقا على البيع واتفقا على ثمانية واختلفا فيما زاد على الثمانية، فالمشتري يدعيها والبائع ينفيها، فالبينة على المدعي، فيقال للبائع هات البينة وإلا فليس لك إلا ثمانية. ومنهم من قال: بل يتحالفان، وهذا هو المذهب، قالوا: لأن كل واحد منهما مدعٍ ومدعى عليه؛ فجمعوا بين القولين. وقالوا: إن البائع مدعٍ والمشتري مدعٍ أيضًا، والبائع مدعى عليه

والمشتري مدعى عليه، إذن كيف نعمل؟ قالوا: يتحالفان، فيحلف البائع أولًا ما بعته بثمانية وإنما بعته بعشرة، فإن رضي المشتري ثبت ما قال البائع، وإن لم يرض حلف المشتري ويقول: والله ما اشتريته بعشرة وإنما اشتريته بثمانية، وبعد التحالف يفسخ البيع وترد السلعة إلى ربها والثمن إلى ربه. هذا الحديث لو نظرنا إلى عمومه لقلنا: كل اختلاف يقع بين المتبايعين فالقول قول البائع، فإن لم يحلف ترادَّا البيع، يعني: فسخاه، ولكن هذا الحديث ليس على هذا الإطلاق باتفاق العلماء، فإن العلماء لم يتفقوا على أن القول قول البائع في كل صورة، بل اتفقوا على أنه ليس القول قول البائع في كل صورة، وأن من الصور ما لا يمكن فيه قبول قول البائع بالاتفاق، ومن الصور ما القول فيه قول المشتري بالاتفاق، إذن صار هذا الحديث ليس على إطلاقه، وإنما يرجع فيه إلى الحديث الأصل وهو: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"، ثم إذا كان كل منهما مدعيًا ومدعى عليه فإننا نجري ما قاله الفقهاء -رحمهم الله- بأن نحلِّف كل واحد منهما على نفي دعوى صاحبه، وإثبات دعواه، وإذا وقع التحالف فلكل واحد منهما الفسخ، وإذا اختلف في عين، فقال المشتري: إني اشتريته وهو معيب، وقال البائع: بل اشتريته سليمًا من العيب، فمن القول قوله؟ هذا الحديث يدل على أن القول قول البائع، وهو كذلك مطابق للأصول؛ لأن الأصل عدم العيب، والأصل سلامة المبيع. وقال بعض الفقهاء: إن القول قول المشتري وهو المذهب، وإذا اختلفا في حدوث العيب فالقول للمشتري، لماذا؟ قالوا: لأن الأصل عدم قبض الجزء الفائت بالعيب، لأن العيب نقص في المبيع، والأصل عدم قبض هذا الجزء الفائت بالعيب، فإذا ادعاه المشتري وقال: ما قضيت هذا الجزء الفائت بالعيب فالقول قوله، لكن هذه العلة عليلة جدًّا؛ لأن كون الأصل سلامة البيع أقوى مما قالوه -رحمهم الله- هذا ما لم يكن هناك بينة على قول أحدهما كما لو كان العيب أصبعًا زائدًا، فهنا القول قول المشتري؛ لأن الزائد لا ينبت يكون من أصل الخلقة، أو كان العيب جرحًا طريًّا يثعب دمًا، والبيع له أربعة أيام، فهنا القول قول البائع؛ لأنه لا يمكن أن يبقى الجرح يثعب دمًا لمدة أربعة أيام، ولكن القول الصحيح: أن القول قول البائع؛ لما ذكرناه من أن الأصل سلامة المبيع، فإن اتفقا على أن العيب عند البائع وقال البائع: قد اشترطته عليك، وقال المشتري: لم تشترطه، فما هو الأصل؟ ننظر أولًا هل اتفقا على العيب؟ قال البائع: نعم، صحيح به عيب، لكنني اشترطت عليك. وقال المشتري: لم تشترطه علي ولا بينته، فالقول قول المشتري؛ لأن الأصل عدم الشرط إلا إذا وجدت قرينة قوية تشهد للبائع بأن يكون البائع معروفًا بالصدق وحسن المعاملة، وأنه لا يمكن أن يكتمه عليه، وأن المشتري معروف بسوء المعاملة أو قرينة أخرى

مثل: أن يكون قد باع عليه هذا الشيء والقيمة مرتفعة ورضي بالعيب، ولما نزلت القيمة ادعى أنه لم يشترطه عليه من أجل أن يرد البيع فهذه أيضًا قرينة، لكن إذا خلت المسألة من القرينة فإن القول قول المشتري؛ لأن الأصل عدم الشرط. ومن فوائد الحديث: العمل بالبينة، وهل البينة معينة بالنوع أو عامة لكل ما يبين الحق؟ الصحيح: أنها عامة لكل ما يبين الحق، والمذهب: أنها في الأموال رجلان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعي، ولكن الصواب أن البينة: اسمٌ لما يبين الحق ويوضحه بأي وسيلة كانت. ومن فوائد الحديث: جواز وصف الإنسان بالرب؛ لقوله: "رب السلعة"، وهذا جائز، وقد جاءت أحاديث كثيرة في هذا المعنى، منها قوله صلى الله عليه وسلم في علامات الساعة في رواية للبخاري: "أن تلد الأمة ربها"، وكذلك في اللقطة: "حتى يجدها ربُّها"، فوصف الإنسان بالرب لما يملكه جائز ولا بأس به، لكن من المعلوم أنه لا يجوز أن يقول: فلان رب كل شيء؛ لأن هذا وصف خاص بالله فلا يجوز أن يطلق على بشر، كما لا يجوز أن يقول: قاضي القضاة، وملك الملوك وما أشبه ذلك. ومن فوائد الحديث: الرجوع إلى الأصل والعمل به لقوله: "القول ما قال ربُّ السلعة"؛ لأن الأصل أنه لم يخرج السلعة إلا على قوله هو، فالأصل مثلًا: أني ما بعتها عليك بثمانية، الأصل أني لا أخرج من ملكي إلا ما أرضاه وأنا ما رضيت إلا عشرة، فهذا عمل بالأصل، والعمل بالأصل موجود وله أدلة كثيرة في القرآن وفي السُّنة: أننا نعمل بالأصل وهو أيضًا مقتضى النظر؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان"، ومن أمثلة ذلك: رجل توضأ ثم شك هل أحدث أم لا؟ فالأصل بقاء طهارته، ورجل أحدث ثم شك هل توضأ أم لا؟ فالأصل بقاء حدثه، فلو تيقنت أنك أكلت لحم إبل بعد المغرب ثم شككت هل توضأت أو لا؟ فلا تصلي العشاء إلا بوضوء جديد، ولو توضأت لصلاة المغرب ثم شككت هل انتقض وضوءك أو لا؟ لم يلزمك الوضوء؛ لأن الأصل بقاء الوضوء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يشكل عليه أخرج منه شيء أو لا قال: "لا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يشم ريحًا". أسئلة: - ما المراد: بـ"المتابيعان"؟

النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن

- وهل له نظير في اللغة العربية؟ - يقال: شرى واشترى، أيهما البائع؟ - ما هي البينة؟ - ما هو ربُّ السلعة في الحديث، وهل هناك قول آخر؟ وقبل أن نبدأ شرح حديث جديد أحب أن أنبه على وهم وقع لنا في المثال السابق في حديث ابن مسعود لعلكم انتبهتم له، المشتري والبائع اختلفا في قدر الثمن، فقال البائع: إنه مائة، وقال المشتري: إنه ثمانون، من الذي يدعي الزيادة؟ البائع، وعلى هذا فهو المدعي، وأظن أننا ذكرنا أن الذي يدعي الزيادة هو المشتري. ونكمل أيضًا فوائده -أي: الحديث الماضي نقول-: إنه إذا اختلف المتبايعان وكان لأحدهما بينة، فالقول قول من معه البينة لقوله: "وليس بينهما بينة". ومن فوائد الحديث: أن جميع الاختلافات يرجع فيها إلى قول البائع، فإن رضي بذلك المشتري وإلا فسخ البيع، هذا هو ظاهر الحديث، ولكن هذا الحديث ليس على ظاهره بالإجماع. ففيه مسائل لا يكون فيها القول قول البائع بالاتفاق، وعلى هذا فيكون عموم الحديث مخصوصًا بالأدلة الأخرى، والضابط: أن كل من ادعى خلاف الأصل فهو مدعٍ يحتاج إلى بينة، وكل من تمسك بالأصل فهو منكر وعليه اليمين، هذا هو الضابط، وينزل هذا الحديث مع حديث: "البينة على المدعي ... إلخ" ينزل على هذا الأصل، وهذا الأصل أصل عظيم دلت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسُّنة. النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن: 751 - وعن أبي مسعودٍ رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغيِّ، وحلوان الكاهن". متَّفقٌ عليه. النهي: هو طلب الكف على وجه الاستعلاء بلفظ المضارع المقرون بـ"لا"، فلا بد أن نقيد؛ لأننا لو لم نقيد لكان قول القائل: اجتنب كذا نهيًا مع أنه ليس بنهي، بل هو أمر بالاجتناب، لكن لو قلت: لا تفعل كذا هذا هو النهي، وعلى هذا فنقول في التعريف: طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة هي المضارع المقرون بلا الناهية، وإنما قيدناه بذلك لئلا يدخل فيه الأمر بالترك أو بالاجتناب، فإن هذا لا يسمى نهيًا في الاصطلاح، وإن كان يقتضي معناه. قال: "نهى عن ثمن الكلب"، يقال: ثمن، ويقال قيمة فهل بينهما فرق؟ الجواب: نعم،

الثمن ما وقع عليه العقد، والقيمة ما يقوم به الشيء في عامة أوصاف الناس مثال ذلك: اشتريت منك هذا الكتاب بعشرة، يسمى هذا ثمنًا، لو رجعنا إلى الكتاب في السوق وجدناه يساوي ثمن القيمة تمامًا، لو رجعنا إليه فوجدناه باثني عشر فتكون القيمة اثني عشر، فما كانت قيمته في عامة الناس يسمى قيمة، وما يقع عليه العقد يسمى ثمنًا. إذن "نهى عن ثمن الكلب"، أي: عن عقد البيع عليه المتضمن للثمن، ونحن قلنا هذا لفائدة نذكرها -إن شاء الله تعالى- في الفوائد، وهي ما إذا أتلف الكلب هل يضمن بقيمة أو لا. وقوله: "الكلب" هو حيوان معروف سبع يفترس، وهو أخبث الحيوانات وأنجسها؛ لأن نجاسته لا بد فيها من سبع غسلات إحداها بالتراب، والخنزير كغيرة من الحيوانات الأخرى يغسل حتى تزول النجاسة بدون تسبيع وبدون تراب، وقوله: "الكلب"، "أل" هنا للعموم فيشمل كلَّ كلب سواء كان أسود أم غير أسود معلَّمًا أم غير معلم، يجوز اقتناؤه أو لا يجوز اقتناؤه؛ لأن الحديث عام: "ثمن الكلب" عام لكل كلب. قال: "ومهر البغي" البغي: فعيل بمعنى فاعل، والمراد بها: الزانية، وحذفت منها التاء؛ لأن الوصف خاص بها كما حذفت التاء من المرضع والحامل التي في بطنها الولد بخلاف الحاملة التي تحمل على رأسها شيئًا، ولهذا يفرق بين قول القائل: امرأتي حاملة وامرأتي حامل، إذا قال: امرأتي حامل، أي: في بطنها ولد معروف، أمَّا إذا قال: امرأتي حاملة فيقول القائل: ماذا تحمل؟ إذن البغي نقول: هي المرأة الزانية، وحذفت التاء لاختصاص الوصف بها، والبغاء: الزنا، قال الله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} [النور: 33]. بمعنى: البغي، المراد بذلك: أجرة الزنا، وسمي مهرًا؛ لأنه يعطي الزانية عوضًا عن الاستمتاع بها، فأشبه المهر الذي يبذله الإنسان في النكاح الصحيح. قال: "وحلوان الكاهن" يعني: عطيته، وهو: ما يعطاه الكاهن على كهانته، وسمي حلوانًا، مأخوذ من الحلو؛ لأنه يكسبه بدون تعب وبدون مشقة فهو حلوٌ في اكتسابه، والكاهن: من يتعاطى الكهانة، وهو الذي يخبر عن المغيبات هذا هو الكاهن، مثل أن يقول للشخص: سيأتيك ولد، ستربح اليوم كذا وكذا، سيحدث بعد أيام كذا وكذا، وما أشبه ذلك من علوم الغيب، وكان الكهان معروفين في الجاهلية يتحاكم الناس إليهم؛ لأنهم يأتون بعلوم غيبية يطابقها الواقع، فإن كل واحد منهم له رئيٌ من الجن يصعد إلى السماء ويستمع أخبار السماء ثم ينزل بها إلى صاحبه في الأرض فيأخذ منها ما يأخذ ويضيف إليها ما يضيف ويحدث الناس، فإذا صدق في كلمة من عشر كلمات عظموه وجعلوه حكمًا بينهم. والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالصدق مائة في المائة ومع ذلك نبذوه وكذبوه، وهؤلاء الكهان الذين تنزل إليهم الشياطين

معظمون عندهم يتحاكمون إليهم، فيعطونهم عند التحاكم ما يعطونهم من الأجرة، وتسمى حلوان الكاهن، فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن حلوان الكاهن، النهي هنا هل هو نهي للباذل أو للآخذ؟ يعني: نهى أن نعطي ثمنًا على الكلب أو أن نأخذه؟ من الذي سينتفع؟ كل منهما سينتفع لكن الذي سينتفع بالثمن هو الآخذ، فيكون النهي منصبًّا عليه بالذات، لكنه يشمل البائع؛ لأنه معين على الباطل، والمعين على الباطل مشارك لفعله، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله فمثلًا: النهي في الأصل منصبٌّ على الآخذ وهو الذي يأخذ الثمن، لكن المعطي وهو البائع يدخل من باب أنه ساعد هذا وأعانه على الشيء المحرم. وعلى كل حال: نحن الآن نقول: البائع هو الذي يأخذ الثمن، فيكون النهي هنا منصبًّا على البائع في الأصل، لكن المشتري يمنع من ذلك ويحرم عليه أو ينهى عن ذلك؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، كذلك أيضًا مهر البغي من المنهي؟ كالأول، المهر من الذى ينتفع به؟ الجواب: الزانية فهي الآخذة، إذن ننهى عنه في الأصل ويكون ذلك بالتعاون والتبعية، "حلوان الكاهن"، الكاهن هو الذي سينتفع به، ويكون لذلك من باب التبعية والمعاونة. وفي هذا الحديث عدة فوائد: الأولى: تحريم ثمن الكلب، ويؤخذ من قوله: "نهى عن ثمن الكلب"، والأصل في النهي التحريم. ومن فوائده أيضًا: أن ظاهر الحديث شمول النهي عن ثمن الكلب ولو كان معلَّمًا يصاد به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستثن، بل لو قال قائل: إن دخول كلب الصيد والحرث والماشية يدخل في الحديث دخولًا أوليًّا، لو قال قائل هكذا لقلنا: هذا هو الصواب، لماذا؟ لأن غير هذه الكلاب لا تباع ولا تشترى، وبهذا نعرف أن استثناء كلب الصيد والحرث والماشية لا وجه له؛ لأنه كيف نأخذه من العموم والظاهر أنه هو المراد، فإن وجدنا شخصًا عنده كلب ماشية وأبى أن يعطيه أحدًا يحتاج إليه إلا بثمن، قلنا: هنا يجوز أخذه منه استنقاذًا، والإثم على الآخذ البائع الذي باع الكلب، مع أن البائع الذي باع الكلب إذا كان مستغنيًا عنه لا يحتاج إليه حرم عليه اقتناؤه فضلًا عن بيعه. ومن فوائد الحديث: أن الكلب غير متقوَّم؛ يعني: لو أتلف كلب الصيد أو الحرث أو الماشية فلا قيمة له شرعًا؛ لأنه لو كان له قيمة لجاز له الثمن، إذ إن القيمة عوض عن العين المتلفة، والثمن عوض عن العين الفائتة عن صاحبها، وفي كلٍّ منهما حرمان لصاحب الكلب من منفعته، وهذا القول هو الراجح أنه لا قيمة له وأن إتلافه هدر، فإن قال صاحب الكلب الذي أتلف كلبه: كلبي غالٍ عندي، أحيانًا يقول البدوي: كلبي يساوي ولدي غالٍ عندي جدًّا

ما أتركك إلا برقبة هذا الرجل -نعوذ بالله- فماذا نقول؟ مثل هذه الحال يعطى إن وجد كلب مثل كلبه، وإلا فيعطى ما يهوّن غضبه دفعًا للشر والفتنة. ومن فوائد الحديث: خبث الكلب، ولهذا حرم ثمنه حتى مع جواز الانتفاع به، أما الحمار يشترى ويباع؛ لأنه حرام هو بعينه، لكن منفعته ليست بحرام، وحينئذٍ يرد علينا إشكال فيقال: ما الفرق بين الحمار والكلب؟ لماذا جاز شراء الحمار مع تحريم عينه ونجاسته من أجل الانتفاع به في الركوب وغيره ولم يجز شراء الكلب للمنفعة المباحة من الصيد والحرث والماشية؟ الجواب أن يقال: شدة خبث الكلب هذه واحدة. ثانيًا: أن المنفعة المباحة في الكلب ليست منفعة مباحة على سبيل الإطلاق، بل هي منفعة مباحة مقيدة بالحاجة، وأما الحمار فالمنفعة فيه مباحة على سبيل الإطلاق، يجوز أن تقتنيه وإن لم تنتفع به، لكن الكلب لا يجوز اقتناؤه ولا الانتفاع به إلا عند الحاجة، فظهر الفرق بينهما من وجهين. ومن فوائد الحديث: تحريم مهر البغي للنهي عنه، وهو حرام على الزانية، وحرام على الزاني أن يعطيها، والحكمة من ذلك: أن هذا عوض عن فعل محرم، والقاعدة التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه"، وهذا الزنا محرم بالنص والإجماع، فما كان عوضًا عنه فهو محرم، هذا وجه. الوجه الثاني: لو أجزنا ذلك لكان فتح باب للبغاء؛ لأن كل امرأة تحتاج إلى مال تبذل فرجها -والعياذ بالله- للبغاء للحصول على المال. ومن فوائد الحديث: أن حفظ العرض أولى من حفظ المال، وأنه يجب المحافظة عليه أكثر، ولهذا لو رأيت إنسانًا على زوجتك يزني بها جاز لك قتله فورًا بدون إنذار، ولو رأيت شخصًا يأكل على قدرك طعامك فإنه لا يجوز لك أن تقتله مع أن هذا عشاءك ليس عندك غيره، ولكن لا يجوز قتله فتدفعه بالأسهل فالأسهل، بخلاف العرض فإنه أعظم حرمة. ومن فوائد الحديث: تحريم البغاء، وجه الدلالة: لأنه لما حرم عوضه صار ذلك دليلًا على تحريمه، وتحريمه معلوم بنصوص أخرى، لكن نريد أن نأخذه من هذا الحديث. ومن فوائد الحديث أيضًا: تحريم الكهانة للنهي عن أخذ العوض عليها، وتحريم أخذ العوض عليها دليل على أنها حرام؛ إذ لو كانت حلالًا لجاز أخذ العوض عليها. ومن فوائده أيضًا: تحريم إعطاء الكاهن أجرته على الكهانة؛ لأنه نهى عن حلوان الكاهن، وهل يجوز أن آتي الكاهن بدون أجرة؟ نقول: لا، لا يجوز؛ لأن إتيان الكاهن لا فائدة منه إلا أن تستفيد مما يخبرك به، وهذا حرام كما دلّ عليه الحديث، وعلى هذا فالحديث يدل

على تحريم إتيان الكاهن؛ لأنه لا فائدة من إتيان الكاهن إلا للسؤال الذي يخبرك به عن أخبار الغيب، وهذا حرام، وسبق لنا في كتاب التوحيد أن من أتى الكاهن فهو على ثلاثة أقسام: أولًا: أن يأتيه ليمتحنه ويبين كذبه ولعبه بالناس وهذا جائز، بل قد يكون واجبًا. ثانيًا: أن يأتيه فيسأله ولا يصدقه فهذا حرام، ومن فعل ذلك لم تقبل له صلاة أربعين ليلة؛ لأن في هذا إغراء للكاهن وإغراء لغيره أيضًا إذا رآك الناس تأتي إليه، لا سيما إذا كان لك قيمة في المجتمع، فإن هذا يغري الناس بالإتيان إلى الكاهن. الثالث: أن يأتيه فيسأله ويصدقه؛ فهذا كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد". هذه الأشياء المحرمة: ثمن الكلب، وحلوان الكاهن، ومهر البغي، محرمة على الآخذ ومحرمة على المعطي؛ يعني: لا يجوز أن يعطيه. هذا رجل جاء إلى شخص عنده كلب صيد لا يخلص في الصيد فقال: بعه عليَّ، فقال: الكلب غالٍ عندي. قال: أنا أعطيك ما تريد. قال: أبيعه بعشرة آلاف. قال: قبلت، فأخذ الكلب، ثم قال: لا أعطيك عشرة آلاف؛ لماذا يا رجل؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، فماذا نصنع؟ نقول لهذا الرجل: إما وأن ترجع الكلب إن كان باقيًا، وإن كان تالفًا لا يمكن ترجيعه، إما أن ترجع الكلب أو أعطني الدراهم لا بد فنأخذ الدراهم منه ونجعلها في بيت المسلمين ولا نعطيها لصاحب الكلب؛ لأن صاحب الكلب لا يستحق ذلك، فإن قال صاحب الكلب: ردوا عليّ كلبي، نظرنا إن كان يحتاج إلى ذلك رددناه عليه؛ لأن هذا خدعه، وإن كان لا يحتاج إليه قلنا: أنت لست في حاجة إليه ولا يحل لك أن تقتنيه ويبقى الكلب عند من له فيه حاجة ولا نجمع له بين العوض والمعوض. هذا رجل أيضًا وقف على باب زانية وحاورها قالت له: أبدًا لا أقبل إلا كل ليلة بمائة ريال -نعوذ بالله- فوافق الرجل، وصار يأتي كل ليلة حتى عشر ليالٍ وجمع عليها ألف ريال، ولما خلص من عشر ليالٍ قالت: أعطني الألف قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي، فهل نوافقه على ذلك؟ نقول: -الحمد لله- أولًا: سلم ألف ريال نجعلها في بيت المال، وثانيًا: إن كنت محصنًا فالرجم، وإن كنت غير محصن جلد مائة وتغريب عام، على كل حال: هذا إذا أقر بذلك؛ لأنه قد ينكر. على كل حال: أنا قصدي أنه لا يمكن أن يجمع له بين العوض والمعوض، وأما من قال من أهل العلم -رحمهم الله-: إنه لا يعطيها شيئًا فهذا نظر إلى هذه المسألة من وجه واحد. ذكرنا أن الكلب لا يجوز ثمنه، وإذا أتلف قلنا: إنه لا قيمة له شرعًا، ولكنه يعزر بسبب تعديه على ما

جواز اشتراط منفعة المبيع للبائع

يختص به هذا الرجل، وأن الواجب على من عنده كلب معلم أو حرث أو ماشية إذا استغنى عنه أن يبذله مجانًا لمن أراده أو يسيبه؛ لأنه لا يجوز اقتناء الكلب إلا لحاجة من الحوائج الثلاثة. جواز اشتراط منفعة المبيع للبائع: 752 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أنه كان يسير على جملٍ له قد أعيا، فأراد أن يسيِّبه، قال: فلحقني النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فدعا لي، وضربه، فسار سيرًا لم يسر مثله، قال: بعنيه بأوقِّيَّةٍ، قلت: لا. ثمَّ قال: بعنيه فبعته بأوقيَّةٍ، واشترطت حملانه إلى أهلي، فلمَّا بلغت أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثمَّ رجعت فأرسل في أثري. فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك. فهو لك". متَّفقٌ عليه، وهذا السِّياق لمسلمٍ. الجمل: هو ذكر الإبل، والغالب أن الجمل أقوى من الناقة من وجه، وهي أقوى منه من وجه آخر، فمن جهة التحمل يكون هو أشد قوة، ومن جهة المتعة يعني: أنها تبقى تكد أكثر فالناقة، هذا الجمل كان يسير عليه في سفر، فما هو هذا السفر؟ قيل: إنه في غزوة تبوك وقيل: إنه في غزوة ذات الرِّقاع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لحقه وهو راجع إلى المدينة، والأصح -كما حققه ابن حجر-: أنه في غزوة ذات الرِّقاع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جابرًا في هذه القصة: "هل تزوجت؟ " قال: نعم، قال: "أبكرًا أم ثيبًا؟ "، قال: بل ثيبًا، قال: "فهلا بكرًا تلاعبك وتلاعبها"، فبيّن له رضي الله عنه أنه تزوج الثيب؛ لأن أباه ترك بناتًا صغارًا، فأراد أن تقوم بمصالحهن، وهذا يدل على أنها في غزوة ذات الرقاع؛ لأن غزوة ذات الرقاع كانت بعد أحد بسنة، فإن أبا جابر رضي الله عنه استشهد في أحد والمعروف أنه إذا كان زواجه من أجل حاجة أخواته أنه سوف يبادر بهذا الزواج، فهذا يؤيد أنها كانت في غزوة الرقاع، أما غزوة تبوك فكانت في السنة التاسعة من الهجرة فهي بعيدة، وعلى كل حال: فتعيين الغزوة في تبوك أو ذات الرقاع ليس بذي أهمية كبيرة، ولكن العلم بالشيء ولا الجهل به، المهم القصة. وقوله: "قد أعيا" أي: تعب؛ لأنه ضعيف، "فأراد أن يسيِّبه" يعني: يتركه ويمشي على قدميه أو يردفه مع أحد الصحابة، المهم: أن يدع هذا الجمل؛ لأنه لا نفع فيه. يقول: "فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه"، "لحقني" يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان متأخرًا، وهذه عادته صلى الله عليه وسلم أن يكون في أخريات القوم ليتفقد الضعيف والمحتاج صلى الله عليه وسلم، يقول: "فدعا لي وضربه"، وهذا الوصف مختصر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأله ما هذا الجمل؟ وبيَّن له

حاله، وأنه قد أتعبه، فأمره أن يعطيه المحجن -يعني: العصا- فأعطاه، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم لجابر أن يبارك الله له في جمله، وضرب الجمل. يقول: "فسار سيرًا لم يسر مثله"، وكان بالأول لا يمشي، يقول: "سار سيرًا لم يسر مثله"، حتى إنه كان يجر الزمام له ليستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه سبق القوم. يقول: "فقال: بعنيه بأوقية. قلت: لا، ثم قال: بعنيه، فبعته بأوقية". قال: بعنيه، فقال: بل أهبه لك يا رسول الله، فقال: بل بعنيه ثم طلب أن يبيعه بأوقية، والأوقية: أربعون درهمًا، وهي بالنسبة لدراهمنا كم تساوي؟ عندنا مائتا درهم يعادل ستًّا وخمسين ريالًا يعني: هذه الأوقية تكون إحدى عشر ريالًا وأربع قروش، وكانت الإبل رخيصة في ذلك الوقت، يعني: ليس كالإبل في وقتنا هذا. يقول: "قلت: لا، ثم قال: بعنيه فبعته بأوقية"، أعاد عليه الطلب فباعه، وكلمة "بعنيه" من الرسول صلى الله عليه وسلم ليست أمرًا، ولكنها أمر بمعنى العرض، يعني: أتبيعه علي؟ إذ لو كانت أمرًا لوجب على جابر طاعته، ولكنها عرض، فهو أمر بمعنى العرض كما تقول مثلًا لأي واحد من الناس: بع علي كذا وكذا، ليس هذا أمر ولكنه عرض، وهذه فائدة يقلُّ من يذكرها من علماء البلاغة: أن الأمر يأتي بمعنى العرض. يقول: "فبعته بأوقيه واشترطت حملانه إلى أهلي"، "حملان" مصدر كالغفران والشكران والكفران والنكران وما أشبه ذلك وهي مصدر حمل يحمل حملًا وحملانًا، وقوله: "حملانه" من باب إضافة المصدر إلى فاعله، يعني: اشترطت حمله إياي، فهو من باب إضافة المصدر إلى فاعله، "حملانه إلى أهلي" يعني: في المدينة. "فلما بلغت -يعني: وصلت إلى المدينة- أتيته بالجمل فنقدني ثمنه"، يعني: أعطاني نقدًا، وهذه الرواية -كما قلت- فيها شيء من الاختصار؛ فإن المطوَّل فيها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بلالًا أن يزن له؛ لأنه يقول: أوقية، وأمره أن يرجح في الميزان ولكنه أضافه للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن بلالًا كان وكيلًا له، وفعل الوكيل فعل للموكل، يقول: "فنقدني ثمنه ثم رجعت"؛ يعني: انصرف من عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سلمه المبيع، واستلم الثمن، ولم يبق لأحد على أحد شيء. يقول: "فأرسل في أثري" يعني: أرسل إنسانًا في أثري يتبع أثري ليدعوني إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء جابر، وهذا فيه حذف ويسمى في البلاغة إيجاز بالحذف لأن قوله: "فأرسل في أثري" تقديره: فأتيت، أو بعدما قلت: هناك شيء آخر فأرسل في أثري فأبلغني الرسول بذلك فأتيت، أو يوجد أيضًا زيادة: فأرسل في أثري فلانًا يطلبني، فلما وصل إليّ وأخبرني رجعت. فقال:

"أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ "، الاستفهام هنا للنفي أو للتقرير؟ هل الرسول صلى الله عليه وسلم ينفي أنه يظن أو يثبت أنه يظن؟ يثبت أنه يظن، وإن كان المتبادر للإنسان أن الرسول ينفي، لكن الرسول ينفي المماكسة، وليس ينفي ظن هذا أن الرسول ماكسه ليأخذ الجمل، فهنا شيئان ظن الرجل وهذا ظن جابر، وهذا ثابت أو غير ثابت؟ أما المماكسة لأخذ الجمل هذا غير ثابت، إذن الاستفهام ليس منصبًّا على المماكسة لأخذ الجمل، إنما الاستفهام بالنسبة لظن جابر، يعني: هل تظن أنني ماكستك لأخذ جملك؟ لا، وإن كنت أنت تظن هذا الشيء. وقوله: "تراني" يعني: تظنني، ومفعولها الأول: الياء، ومفعولها الثاني: جملة "ماكستك"، والمماكسة: المناقصة في الثمن أو الأجرة أو ما أشبه ذلك، كأن يقول لك: أبيعه عليك بمائة فتقول بل بثمانين أو بسبعين، وهكذا حتى يبيع عليك. وقوله: "لآخذ جملك" كيف قال: لآخذ جملك وقد باعه للرسول صلى الله عليه وسلم؟ نقول: باعتبار ما كان؛ ولأن المماكسة كانت قبل عقد البيع، فهو إذ ذاك هو المالك له. "خذ جملك ودراهمك"، خذ جملك باعتبار ما كان، ودراهمك باعتبار الحاضر أو باعتبار ما كان أيضًا؟ الآن الدراهم موجودة لكن العقد سابق، فهل الإنسان يملك الثمن إذا كان غير معين بالتعيين، أو يملكه بالعقد، هذا محل خلاف بين الفقهاء سنذكره -إن شاء الله- في الفوائد. قال: "فهو لك"، الضمير يعود على الجمل. قوله: "هذا السياق لمسلم" أفادنا المؤلف؛ لأن سياقات البخاري لهذا الحديث تختلف عن سياق مسلم رحمه الله، هذا الحديث -كما ترون- أدخله المؤلف في كتاب البيع؛ لأن فيه عقد بيع وهو شراء النبي صلى الله عليه وسلم الجمل من جابر، وفيه أيضًا شرط في البيع، وهو اشتراط جابر حمل الجمل إياه حتى يصل إلى المدينة، فلهذا وضع المؤلف هذا الحديث في كتاب البيع. والحديث فيه فوائد كثيرة جدًّا تتعلق بالبيوع وغيرها فمنها: جواز الركوب على الجمل الضعيف التعبان لقوله: "كان على جمل له قد أعيا"، لكن قواعد الشريعة تقتضي شرطًا في ذلك وهو ألا يشق عليه، فإن كان يشق عليه فإنه لا يجوز أن يكلفه ما لا يطيق، أما إذا كان يشق عليه مشقة محتملة فإن هذا لا بأس به، وهل يجوز لمن كان على مثل هذا الجمل أن يضربه حتى يلحق بالركب؟ الجواب: لا؛ لأن هذا إيلام بلا فائدة، ولهذا جابر ما كان يضربه حتى يلحق بالقوم، بل أراد أن يسيبه.

ومن فوائد الحديث: جواز تسييب المال إذا لم يكن فيه منفعة، وإن شئت فقل: الحيوان إذا لم يكن فيه منفعة؛ لقوله: "فأراد أن يسيبه". فإن قال قائل: هذا يعارض قول الله تعالى: {ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ... } [المائدة: 102]. أي: ما جعل الله ذلك شرعًا، فكيف الجمع؟ نقول: السائبة التي في القرآن والتي نفى الله تعالى مشروعيتها هي أن العرب إذا ولدت الناقة عندهم ما ولدت أو أضرب الجمل ما أضرب سيبوه وحرموا ركوبه وحرموا أكله، وقالوا: هذا أتى بالواجب عليه سواء كان فحلًا أو كان أنثى، وولدت ما ولدت فيقول: هذا قضى الذي عليه فيجب أن يسيب أو يترك، وهذا يستلزم تحريم ما أحل الله من أكله ومنافعه؛ فلهذا نفى الله مشروعيتها، أما هذا فليس سيبه تحريمًا له، ولكنه سيبه لانعدام فائدته، ومع ذلك فيه مشقة على جابر أن يبقى متأخرًا عن القوم على هذا الجمل، لو قال قائل: تسييبه كيف تجوزونه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت" وتسييبه تضييع له؟ قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة التي حبستها المرأة وعذبت عليها بالنار: "لا هي أطعمتها -إذ هي حبستها ولا أطعمتها-، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"، وهذا يدل على أن الإنسان إذا ترك البهيمة لم يسجنها ولم يحبسها فليس عليه منها شيء، وأيضًا إذا كان هذا لا مصلحة وفيه مضرة على الإنسان فماذا يصنع؟ وإذا كان الله خلق هذه لمنافعنا فلدفع مضراتنا من باب أولى؟ إذ قال قائل: لو انكسر البعير هل يجوز لصاحبه أن يدعه؟ الجواب: لا، لا يجوز؛ لأن بإمكانه أن ينحره وينتفع بلحمه، لكن الذي تعب وأعيا الغالب أن لحمه ليس بجيد فلا ينفع، لو انكسر الحمار ماذا نصنع؟ الحمار لا يمكن أن يجبر هذا من طبيعته، فهل يتركه أو يقتله؟ يقتله هذا لا بأس تفاديًا من نفقاته وشره ووجوده يحتاج إلى نفقات فليس له إلا قتله؛ لأنه لو خرج به إلى البر وسيبه لا يستطيع أن يعيش؛ لأنه مكسور فأحسن شيء في هذا أن يقتل. قوله: "فأراد أن يسيبه" فيه أيضًا دليل على أن إضاعة المال إذا كان تفاديًا لما هو أعظم فلا بأس به، يعني: إذا أتلف بعض ماله تلافيًا فيما هو أعظم فلا بأس به، كيف ذلك؟ بتسييب الجمل. هل يؤخذ منه: جواز بيع الوقف إذا تعطلت منافعه؟ يجوز أن يباع ويجوز أن يترك، وخير الأمرين أن يباع ويشترى بقيمته ما يقوم مقامه. بقي علينا بحث مسألة ثانية وهي: هل إذا وجدها أحد تكون له؟ غير الإبل؛ لأن الإبل الرسول

صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الإبل الضائعة، فنهى عن أحدها وقال: "ما لك ولها؟ "، لكن المتروكة رغبة عنها قال أهل العلم: إنه يملكها واجدها أيًّا كانت سواء كانت شاة أو بعيرًا أو خشبًا أو حديدًا كل شيء تركه صاحبه وأنت تعرفه أنه راغب عنه فهو لك، يتفرع على هذا: السيارات التي تصدم في الخطوط هل هي لمن وجدها؟ الظاهر لي: أن هذه إذا كانت الصدمة قوية ليس فيها شيء ينتفع به إلا صندوقها والهيكل فصاحبها لا يريدها، وإن كانت بسيطة فمعروف أن صاحبها يريدها، على كل حال: القاعدة في هذا إذا غلب على الظن أن هذا متروك رغبة عنه فهو لمن وجدها. قال: "فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم ... إلخ"، يستفاد من هذه الجملة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في أخريات القوم؛ لقوله: "فلحقني"، وإذا كان جمله قد أعيا، فإن من لازم ذلك أن يكون في أخريات القوم قطعًا. ويتفرع على هذه الفائدة: حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وصحبه الذين معه، وأنه كان يكون خلفهم. ويتفرع عليها أيضًا: أنه ينبغي لأمير الجيش أن يكون هكذا خلف جيشه أو خلف صحبه ورفقته ليتفقد أحوالهم بنفسه. ويتفرع من هذا أيضًا: تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن بإمكانه أن يكون في مقدمة القوم ويكون شخصًا يكون في أخريات القوم، لكن من تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب أن يكون في أخريات القوم. ومن فوائد الحديث: شفقه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ولا سيما المستضعف منهم؛ لقوله: "فدعا لي". ومنها: الإحسان إلى الغير بالدعوة له غائبًا أو حاضرًا، لكنه في الغيب أفضل؛ لأن الغيب أقل منَّة من الحضور؛ إذ إن الحاضر إذا دعا للإنسان الحاضر قد يستشعر أنه له منَّة عليه بهذا الدعاء، وكذلك المدعو له قد يشعر بهذه المنَّة فتنكسر نفسه أمامه، لكن إذا كان في الغيب زال هذا المحظور. في الدعاء بالغيب فائدة أخرى: أن الملك يؤمِّن ويقول: "ولك مثله"، ولكن إذا كانت الدعوة للحاضر فيها مصلحة أو كان هناك مناسبة كان ذلك أفضل، ولهذا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لجابر بهذه المناسبة. ومن فوائده: جواز ضرب الحيوان ليسير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضربه، لكن يشترط لذلك شرطان: الأول: ألا يكون ضربًا مبرحًا كما يفعل الناس يأخذ خشبة له ويضرب الجمل

أو الحمار أو ما أشبه ذلك، والثاني: ألا يكون فوق طاقة ذلك الحيوان، فإن كان فوق طاقته بأن يكون الحيوان قد بذل الطاقة ولكن ليست عنده قدرة فحينئذٍ يكون ضربه مجرد تعذيب ليس فيه فائدة، والمقصود من الضرب الفائدة. ومن فوائد الحديث: ظهور آية من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أنه حين دعا لجابر وضرب جمله صار الجمل سيرًا لم يسر مثله قط، وهذا من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، والآية: كل علامة يتبين بها صدق المدعي هذه الآية، والتعبير بآية فيما يظهر من خوارق العادات على أيدي الأنبياء أولى من التعبير بالمعجزة لوجهين: الوجه الأول: أن ذلك هو التعبير القرآني، والتعبير النبوي، حتى إن الله عزَّ وجل جعل الآية فيما دون ذلك: {وءايةٌ لَّهم أنَّا حملنا ذريَّتهم فى الفلك المشحون} [يس: 41]. وقال: {أولم يكن لَّهم ءايةً أن يعلمه علماؤا بنى إسراءيل} [الشعراء: 197]. والوجه الثاني: أن المعجزة قد تقع من غير نبي، قد تقع من ساحر ومستخدم للشياطين، فلهذا كان التعبير بالآية أولى لهذين الوجهين. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يعين أخاه المسلم في مركوبه لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لجابر وضربه للجمل، ومعونة الإنسان في هذه الأمور من الصدقة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة". ومن فوائد الحديث: جواز اختبار الإنسان بما لا يراد حقيقته؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بعنيه"، فإن الرسول طلب أن يبيعه منه لا لأخذ الجمل، ولكن يختبره، فإن جابرًا كان يريد أن يسيبه رغبة عنه وزهدًا فيه، ولا يريده بل يريد التخلص منه، ثم لما بلغ إلى هذه الحال فسار سيرًا لم يسر مثله أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختبره فقال: "بعنيه بأوقية" قال: "لا"، هذا هو أحسن ما يحمل عليه الحديث، وأما قول بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبر جابرًا ولكنه خشي أن ينكسر قلبه إذا أعطاه فتحيل على عطيته بأن يظهر ذلك في صورة شراء الجمل فهذا بعيد، ويبعده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مناسبة ما حصل للجمل، وقال بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطيه زيادة نفل من الغنيمة، ولكن خاف أن يعطيه أمام الناس، فيقال: فضله علينا، فأراد أن يجعلها في صورة شراء لجمله، وهذا أيضًا بعيد فأظهر ما يحمل عليه الحديث ما ذكرته. ومن فوائد الحديث أيضًا: جواز شراء الأكابر من الأصاغر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى من جابر، ويدخل فيه السنّ والمقدار، فعليه يجوز أن يشتري الأب من ابنه، والأخ الكبير من أخيه الصغير، والأمير من المأمور، ولا يدخل في ذلك السيد من عبده، لماذا؟ لأن العبد ملك لسيده.

ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه لا يعد من المعصية إذا امتنع البائع من البيع؛ لقول جابر: "لا" ولم يكن هذا معصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا ما وبخه الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فلو قال لك أبوك: يعني كذا، فقلت: "لا" لم يعد هذا عقوقًا ولا قطيعة رحم؛ لأن هذه شئون خاصة، وما يفعله بعض الناس من الغضب على قريبه إذا طلب منه أن يبيع عليه شيء فقال: لا، فهو خلاف الشرع، بعض الناس يغضب يقول: هذا لا خير فيه ولا يصل رحمه، فنقول: بل أنت الذي أخطأت، فليس لك الحق في أن تغضب وتستنكر هذا الشيء، وقد وقع ذلك من الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: تقدير الثمن في المساومة لقوله: "بأوقية"، ولكن قد يقول قائل: هذه الفائدة بديهية كما يقال: السماء فوقنا والأرض تحتنا، فما الجواب؟ الجواب: أن في تعيين الثمن فائدة من أجل أن يقدم أو يحجم، يعني: ليس كما لو قلت: بع على بيتك، بع علي ساعتك، بع على قلمك، إذا بعت ففيه فائدة وهو أن البائع يقدم إن رأى الثمن مناسبًا أو يحجم إذا رآه غير مناسبٍ، وهل يمكن أن نقول: إن فيه دليلًا على اشتراط العلم بالثمن؟ الظاهر: أنه لا يؤخذ من هذا الحديث، لكن لا شك أنك إذا عينت الثمن أولى وأحسن. ومن فوائد الحديث جواز تكرار طلب البيع أو الشراء؛ لقوله: "بعنيه، فقلت: لا، قال: بعنيه"، ولا يعد هذا من الإلحاح المكروه، فلو جئت إلى شخص وقلت: بع علي بيتك فقال: "لا"، ثم مضى زمن وقلت: بعه عليّ، وقلت مرة ثالثة ورابعة فلا حرج، ولا يعد هذا من الإلحاح المكروه؛ لأنني لا أريد أن يعطينيه بلا ثمن، بل أريد أن يعطينيه بثمن، ولهذا كرر الرسول صلى الله عليه وسلم طلب البيع قال: "بعنيه". ومن فوائد الحديث: جواز اشتراط منفعة المبيع على وجه معلوم؛ لأن جابرًا اشترط حملان الجمل إلى المدينة، والعلم قد يكون بالزمن، وقد يكون بالعمل، وقد يكون بالمسافة، قد يكون بالزمن كما لو اشترطت علي أن أسكن هذا البيت لمدة شهر، هذا بالزمن، وقد يكون بالعمل كما لو بعت عبدًا واشترطت أن يخيط لي ثوبًا، هذا بالعمل، الثالث بالمسافة كما لو بعت سيارة واشترطت عليك أن تسافر بها إلى مكة. الفرق بين هذه الثلاثة ظاهر، الزمن متى انتهى، انتهى الشرط سواء حصلت شيئًا كثيرًا أو لم تحصل، العمل كذلك متى انتهى، انتهى الشرط سواء طالت مدة العمل أم قصرت المسافة كذلك، يعني: لي هذه المسافة سواء طالت المدة أم قصرت. ومن فوائد الحديث: أن اشتراط النفع لا بد أن يكون معلومًا لقوله: "إلى أهلي" فإن كان

مجهولًا فقال بعض العلماء بصحته، وقال آخرون بعدم صحته مثل: أبيعك بيتي وأستثني سكناه حتى أجد بيتًا، هذا فيه خلاف؛ منهم من قال: يجوز ويضرب له مدة يمكن أن يحصل على بيت في مثلها، ومنهم من يقول: لا يجوز، ولا شك أن تعيين المدة أقطع للنزاع وأبعد عن الاختلاف، وأنت إذا ظننت أنك لا تحصل بيتًا إلا في خلال شهر فاجعل المدة شهرين حتى إذا وجدته في خلال الشهر تكون لك المنة على صاحب البيت إذا أعطيته بيته وتنازلت عن بقية المدة، فلو شرط النفع في غير المبيت وقال: بعتك بيتي على أن تسكنني بيتك شهرًا؟ لا يصح ذلك، والفرق بينهما أنه في الأول استبقاء منفعة، أما هذا فهو تجديد منفعة، كيف استبقاء منفعة؛ لأنه عندما أبيعك البيت تملك عينه ومنافعه من حين العقد، فإذا استثنيت منفعة لمدة سنة مثلًا فاستثناني هذا استبقاء لمنفعة كنت أملكها أنا فاستبقيت النفع لهذه المدة فصار هذا جائز، أما إذا قلت: على أن تسكنني بيتك شهرًا، فهذه منفعة مستجدة ليس لها علاقة بالمبيت فليست استبقاء منفعة وإنما هي كعقد الإجارة، واشتراط عقد في عقد لا يصح، هذا هو الذي مشى عليه أصحابنا، وجعلوا هذا من باب بيعتين في بيعة، فقالوا: لا يصح اشتراط عقد في عقد. والقول الثاني في المسألة: أن هذا صحيح أن أبيع عليك هذا البيت بشرط أن تسكنني بيتك لمدة شهر أو مدة سنة حسب ما نتفق عليه، وقالوا: إن أقصى ما في ذلك أن عقد جمع بين بيع وإجارة، ولا دليل على المنع من الجمع بين عقدين، ولهذا يجوز أن أقول: بعتك بيتي على أن تبيعني بيتك بثمن معلوم، وليس هناك دليل على المنع. فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن نكاح الشغار؟ فالجواب: بلى، ولكن نكاح الشغار يتعلق به حق ثالث يخاف أن يمتهن حقه بهذا الشرط، من الثالث؟ المرأة، ربما يقول: أنا أزوجك ابنتي على أن تزوجني ابنتك ويذكر المهر وكل شيء، لكن يكون في هذا إجحاف على المرأتين أو على إحدهما بخلاف هذه المسألة، فالصحيح: أنه ينشأ اشتراط عقد آخر مع هذا العقد، إلا إذا تضمن ذلك محظورًا شرعيًّا، كما لو قلت: أقرضتك ألف ريال بشرط أن تسكنني بيتك سنة، هذا لا يجوز؛ لماذا؟ لأنه قرض جر منفعة وأخرج القرض عن موضوعه؛ إذ إن الأصل في القرض الإرفاق والإحسان، والآن جعلته من باب المعاوضة والطمع، ولهذا نقول: كل قرض جر منفعة فهو ربا سواء صح، الحديث أم لم يصح، لكن معناه صحيح على كل حال نقول: إذا اشترط منفعة في البيع فهو جائز، دليله حديث جابر. أما إن اشترط منفعة في غيره ففيه خلاف، والراجح جواز ذلك، بعض العلماء يقول: إن جواز هذا الشرط على خلاف القياس، ويأتون بأشياء من العقود يقولون: إنها على خلاف

القياس، يعني: أن القياس يقتضي بطلانها، لكن تبعنا النص فيها مثلًا المزارعة تكون على خلاف القياس، المساقاة على خلاف القياس، المضاربة على خلاف القياس، حتى إن بعضهم قال: الإجارة على خلاف القياس؛ لأنها إجارة على منافع معدومة قد تحصل، وقد تتلف العين المؤجرة ولا يحصل شيء، ويقولون أيضًا: هذا الشرط على خلاف القياس، نقول لهم، ما القياس الذي تريدون؟ قالوا: القياس أن العين إذا انتقلت بالبيع انتقلت بمنافعها، وهنا لم تنتقل بمنافعها، بل بقيت مصلحة مستحقة للبائع، فهذا خلاف القياس، فيقال لهم أولًا: ليس في السُّنة الصحيحة شيء على خلاف القياس، ومن ظن أن فيها شيئًا على خلاف القياس فإما أن يكون أخطأ في الظن، وإما أن يكون قياسه فاسد لماذا؟ لأن الشرع جاء على وفق العقول السليمة في أخباره وفي أحكامه، ولا يوجد شيء على خلاف القياس أبدًا، لكن فكر تجد أن القياس هو ما دل عليه الشرع، فهنا نقول: ليس هذا على خلاف القياس، لماذا؟ لأن انتقال ما يكون بالعقد على حسب ما جرى به العرف أو اقتضاه الشرع أو الشرط اللفظي؛ يعني: أن الشرع يحدد، والعرف يحدد، والشرط اللفظي يحدد، فهذا الذي باع ملكه واستثنى منفعته لمدة هو في الحقيقة ما عقد عليه عقدًا مطلقًا ولكن عقد عقدًا مقيدًا، ومقتضيات العقود ترجع إما إلى العرف أو الشرع أو الشرط، مثلًا: لو باع عليّ عبدًا واستثنى ولاءه، تقول: هذا لا يجوز؛ لأن هذا لا يقتضيه الشرع، لو باع عليه أمة واستثنى بضعها لا يصح؛ لأن هذا خلاف الشرع، إذ إنك إذا بعتها لم تكن ملكًا لك، والبضع لا يجوز إلا لزوج أو مالك، وعلى هذا فقس، هذا نقول: انتقل الملك من مالكه بمقتضى هذا الشرط، وإن شئت فقل: انتقل انتقالًا مقيدًا، كيف ذلك؟ يعني: مقيد بهذا الشرط أنا لم أبعه عليك على أن تستغل منفعته من الآن بل بعته عليك على أن منفعته لي إلى وقت محدود، وهذا موافق تمامًا للقياس. وعلى هذا فتقول -في كل ما ذكر من أنه على خلاف القياس-: ليس في الشرع شيء على خلاف القياس، ومن ظن ذلك فإما أن يكون ظنه فاسدًا، وإما أن يكون قياسه فاسدًا، أما قياس صحيح فهو مع ظن صحيح، فلا يمكن في الشرع ما يخالف القياس. من فوائد الحديث: فضيلة جابر رضي الله عنه؛ حيث وفَّى بالشرط فور انتهائه لقوله: "فلما بلغت أتيته بالجمل" بدون تأخير، حتى إنه في بعض سياق الحديث أنه أتى به قبل أن يذهب إلى أهله وأتى به والرسول صلى الله عليه وسلم عند المسجد فقال له: "صليت؟ "، قال: "لا". قال: "ادخل فصلّ ركعتين"؛ لأن الأفضل للإنسان إذا قدم البلد أن يبدأ قبل كل شيء بالصلاة في المسجد. ومن فوائد الحديث: أن المعهود ذهنًا كالمذكور لفظًا؛ لأن اشتراط حملانه إلى أهله وهم في المدينة، فإذا كان بين الناس عرف معلوم فإنه يغني عن الذكر باللفظ لهذا الحديث: "إلى أهلي".

فيه أيضًا: جواز الشراء بالدين، يعني أن الإنسان يشتري الشيء ولو لم يكن عنده ثمنه؛ لأن الرسول ما نقده الثمن إلا في المدينة بعد أن رجع، فالظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معه حينذاك نقود؛ بدليل أنه في بعض السياقات أمر بلالًا أن يزن له ثمنه ويرجح ولو كان معه بيده شيء لكان أعطاه مما في يده، إذن يجوز الشراء بالدَّين، ولكنه ليس هذا على إطلاقه وإنما يجوز ذلك لمن له وفاء، أما من يأخذ أموال الناس وليس عنده وفاء يرفِّه نفسه ويفعل فعل التجار الأغنياء وهو فقير، ففي جواز ذلك نظر، وإن كان الأصل في المعاملات الحل لكن هذا فيه نظر. رجل فقير رأى عند إنسان سيارة "كديلاك" وهو فقير، السيارة "الكديلاك" بمائة ألف وهو ما عنده، فذهب إلى المعرض واشترى منهم بمائة وعشرين ألفًا؛ لأن المعرض لا يعطيها للمؤجل مثل المنقود، وقال: أمشي مع الناس وكأني من الأغنياء، هذا لا يجوز؛ لأنه إسراف وأخذ لأموال الناس على وجه يخشى منه التلف، ولهذا لم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أراد أن يتزوج المرأة إلى الاستدانة لما قال: ما عندي شيء، مع أن النكاح من أهم المهمات، وقد يكون من الضروريات، ومع هذا ما أرشده، بخلاف الإنسان الذي عنده مال ولنفرض أنه موظف وعنده راتب لكن الآن ليس عنده شيء؛ يعني: ينتظر آخر الشهر ليوفي وهو شبه متيقن بأنه سيعطيه فلا بأس أن يأخذ شيئًا بدين. الصورة التي وقعت هل هي بيع عين بعين، أو بيع دين بدين؟ عين بدين؛ إذن فيؤخذ من هذا أيضًا: جواز بيع العين بالدين، بيع الدَّين بالدَّين إن كان هناك تأجيل فإنه لا يجوز وإلا جاز، وعمل الناس على هذا الآن، الإنسان يقول مثلًا: اشتريت منك كذا وكذا بكذا وكذا، ويذهب للدكان ويحضره لهم، فالعقد وقع على دين بدين. ومن فوائد الحديث: جواز توكيل الغير لقوله: "فأرسل في أثري"، ما قام الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه وقال: يا جابر، وإنما أرسل في أثره، ومثل هذا مما جرت به العادة لا بأس به، لا سيما إذا كان المكلَّف الذي كلفته بالشيء يفرح بهذا ولا يثقله فإن هذا لا بأس به ولا يعد هذا من السؤال المذموم الذي بايع الصحابة -رضي الله عنهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم ألَّا يسألوا الناس شيئًا؛ لأن الصحابة بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على ألا يسألوا الناس شيئًا، حتى كان الرجل يسقط منه العصا فينزل من على بعيره ليأخذه ولا يقول: يا فلان أعطنيه، لكن الشيء الذي تعلم أن صاحبك الذي كلفته بالعمل يسرُّ بذلك ولا يثقله فإنه لا حرج عليك أن تسأله وأن تكلفه، فإن كنت تخشى أن يستثقل ذلك فلا تفعل، ويظهر ذلك بأمارات قولية أو نفسية، النفسية أنك إذا أمرته اصفر وجهه واكفهر، هذا بدل ما يقول: لا بلسانه هذا النفسي، أو لما أمرته قال: "أف" تأفف هذا

بلسانه هذا ابتعد عنه لا تكلفه، أما الرجل الذي يسارع في خدمتك ويفرح إذا كلفته فهذا لا بأس، وهذا من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وليس مثل سؤال الناس شيئًا. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز أن نقول للكبير: "لا" خلافًا لما عند العامة، العامة ما يقولون: لا، بل يقولون: سلامتك. ومن فوائد الحديث: جواز التوكيل بالوفاء. ويؤخذ منه أيضًا: جواز التوكيل في الاستيفاء: بأن يوكل شخصًا يستوفى حقه ممن هو عليه، وهل يملك من عليه الحق أن يمنع ويقول للوكيل: أنا لا أسلمه إلا لمن له الحق؟ الجواب: لا، ليس له أن يمنع؛ لأن الإنسان له أن يستوفي حقه بنفسه وبوكيله، نعم لو فرض أن الوكيل ليس معه إثبات شرعي بأنه وكيل فحينئذٍ له أن يمنع ويقول: لا أسلمك إياه إلا بإثبات شرعي على أنك وكيل له باستيفاء حقه، من أين أخذنا هذه الفائدة؟ أخذناها من أن التوكيل في الاستيفاء نظير التوكيل في الوفاء، والتوكيل في الإيفاء أجازه النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد بالبيع حقيقتة لقوله: "أتراني ماسكتك لآخذ جملك؟ "، وهل أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق عليه فتوصل بهذا العقد الصوري إلى الصدقة؟ قيل بهذا، وقيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اشتراه حقيقة، لكن لما رأى عزته في نفسه -نفس جابر- وأن الجمل غالٍ عنده رده عليه، وهذا أحسن من الذي قبله، لكن يشكل عليه أن ظاهر الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينو البيع أصلًا؛ لقوله: "أتراني ... " إلخ، فهذا يدل على أنه لم يرد إطلاقًا البيع. إذن فالذي يظهر لي: أن المراد بذلك الاختبار لحال الإنسان من حيث هو إنسان، أن الإنسان قد يكون زاهدًا في الشيء ثم لا يلبث أن يكون راغبًا فيه حسب ما يتعلق به من الأوصاف التي ترغب فيه أو ترغب عنه؛ كما قال هنا: "بعينه" بعد أن كان يريد أن يسيبه فأبى أن يبيعه على الرسول صلى الله عليه وسلم بأوقية مع أنه كان أراد أن يسيّبه، وهذا لا تأباه القواعد الشرعية أن يقصد بهذا الامتحان، ولهذا قال: "أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ " مما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أراد التملك إطلاقًا. ولو أراد ذلك لكان الجمل جمل النبي صلى الله عليه وسلم، واحتيج إلى تأويل في قوله: "لآخذ جملك" وهو التعبير عن الشيء باعتبار ما كان عليه؛ لأن الجمل كان أولًا لجابر. ومن فوائد الحديث: كرم النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث جمع لجابر رضي الله عنه بين العوض والمعوض؛ يعني: بين الجمل وبين الدراهم، أي: قيمة الجمل؛ لقوله: "خذ جملك ودراهمك"، إذن "جملك" باعتبار نية الرسول صلى الله عليه وسلم، و"دراهمك" باعتبار نية جابر. وفيه دليل: على جواز تأخير الثمن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوف إلا بعد رجوعه المدينة، لكن التأخير على نوعين تارة يكون مؤجلًا فيبق إلا أجله، وتارة يكون مسكوتًا عنه، فلمن له

جواز بيع المدبر إذا كان على صاحبه دين

الحق أن يطالب به فورًا؟ فإن سكت وترك فلا بأس، فلو اشتريت مني شيئًا بعشرة وسكتّ ولم أطالبك إلا بعد شهر أو شهرين أو سنة فهذا لا بأس؛ لأن الحق للبائع فإن طلبه فور انعقاد البيع فله الحق، أما إذا كان مؤجلًا فإلى أجله. وفي الحديث من الفوائد: انعقاد العقود بما دلّ عليها؛ لأننا لم نجد في هذا الحديث لما قال: "خذ جملك ودراهمك فهو لك" لم نجد أن فيه تصريحًا بلفظ الهبة ولا تصريحًا بلفظ القبول، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما قال: وهبتك، وجابر لم يقل: قبلت، وهذا القول هو الراجح على أن العقود تنعقد بما دلّ عليها حتى النكاح؛ لأن اللفظ تعبير عما في النفس، فإذا دل اللفظ على ما في النفس بأي لغة كان، وبأي لفظ كان، وبأي أسلوب كان فإنه يكون صالحًا أن ينعقد به عقد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفية أنه أعتقها وجعل عتقها صداقها، فلو قال الرجل لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك، صح العتق، وصح النكاح، مع أنه ليس فيه إيجاب ولا قبول، يعني: ليس فيه لفظ أنكحتك أو أنكحت نفسي أمتي، فدل هذا على أن العقود تنعقد بما دلّ عليها عرفًا؛ لأن هذا الخطاب يتعارف الناس مدلوله بينهم، فإن اختلف العرف فإنه يرجع في تعيين المراد إلى المتكلم، وهذا يقع كثيرًا خصوصًا في اللهجات، وأما إذا كان مطردًا فعلى ما تعارف الناس عليه، وفيه أن الملك ينقل إلى المشتري بمجرد العقد وهذا هو الأصل، ويتفرع على ذلك: أنه لو تلف فعلى المشتري ولو زاد فللمشتري. جواز بيع المدبَّر إذا كان على صاحبه دين: 753 - وعنه رضي الله عنه قال: "أعتق رجلٌ منَّا عبدًا له عن دبرٍ لم يكن له مالٌ غيره، فدعا به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فباعه". متَّفقٌ عليه. قوله: "أعتق"، ما هو العتق؟ العتق في الأصل: يطلق على عدة معانٍ، يطلق على القدم، ومنه قوله تعالى: {ثم محلُّها إلى البيت العتيق (33)} [الحج: 33]. أي: القديم؛ لأنه أول بيت وضع للناس، ويطلق على الجيد: كعتاق الإبل؛ أي: أجاويدها، ويطلق على تحرير الرقبة، وهو المراد هنا: تحرير الرقبة، يعني: تخليصها من الرق يكون الإنسان رقيقًا، فإذا حرره سيده قيل: أعتقه، العتق من أفضل الأعمال؛ فإن من أعتق عبدًا له أعتق الله به بكل عضو عضوًا من النار حتى الفرج

بالفرج، ولهذا جعله الله -سبحانه وتعالى- كفارة للذنوب العظيمة، -كالقتل والظهار والجماع في رمضان والحدث في اليمين، وله أسباب كثيرة منها أن يقول له: أنت حر بالصيغة القولية. ومنها: أن يعتق شريكه نصيبه فيدخل العتق على نصيب الآخر، ومنها أيضًا: إذا مثل بعبده، يعني مثلًا: قطع أصبعًا منه أو أنملة فإنه يعتق عليه جبرًا. ومنها إذا فعل به الفاحشة -والعياذ بالله- فإنه يعتق عليه، فجعل الشارع العتق له أسباب متعددة كل هذا حرصًا على إعتاق الرقاب وتخليصها من الرق. هذا يقول: "أعتق رجل منا"، أي: من الأنصار، "عبدًا له عن دبر"، الدبر: يطلق على آخر الشيء، ويطلق على ما بعد الشيء، وهنا يقول: "عن دبر" يعني: على ما بعده؛ أي: ما بعد الحياة؛ يعني: علق عتق عبده بموته، فقال له: إذا مت فأنت حر فهذا هو التدبير بأن يعلق عتق العبد بموته؛ أي: موت السيد، يقول: إذا مت فأنت حر، هذا العبد ما دام سيده حيًّا لا يعتق إلا إن نجز عتقه لو نجز عتقه وقال: أنت حر قبل أن يموت، أما إذا لم ينجزه فإنه يبقى رقيقًا حتى يموت السيد ويجوز بيعه، وإذا باعه فإن عاد إلى ملكه مرة ثانية ومات وهو على ملكه عتق وإلا لم يعتق، وهذا العبد أعتقه سيده عن دبر ولم يكن له مال غيره، "فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فباعه". الحديث هذا مختصر اللفظ، ولكن ذكر في رواية أخرى أنه كان عليه، دين هذا السيد الذي أعتق عبده عند دبر فباعه النبي صلى الله عليه وسلم في دينه وقضاه. يستفاد من هذا الحديث: ثبوت الرق في الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره، ولا يقر على شيء باطل، ولأن نصوص الكتاب والسُّنة ضافية بذكر الرق وأحكامه وفضيلة العتق، ومن العجب أن أعداء المسلمين الذي أضلهم الله ينتقدون على الإسلام ثبوت الرق ويقولون: كيف تسترقون إنسانًا مثلكم، ولم يتفطنوا لما يعملون في عباد الله أكثر من استرقاق عباد الله، الرقيق عند المسلم مكرم معزز، حتى إن الرسول أمر أن نطعمهم مما نطعم ونكسوهم مما نكتسي، هم يسترقون العباد لكن من طريق أخرى أشد وأنكى، ولهذا لو نظرنا إلى مسألة السود والبيض في أمريكا لرأينا العجب العجاب من امتهانهم وعدم القيام بحقوقهم؛ أشد بكثير من الرق الثابت في الإسلام، ثم نقول أيضًا: ثبوت الرق في الإسلام جعل الشارع له أسبابًا كثيرة للفك منه، ولو لم يكن إلا فضيلة العتق لكان ذلك كافيًا، أما أنتم فلم ترحموا ما استرققتموه ولم تبالوا به، تمصوا خيراتهم وثرواتهم وتدخلون عليهم الشر وتحبسون حرياتهم.

ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: جواز التدبير وهو الإعتاق بعد الموت؛ لأن الرجل فعله في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه. ومنها أيضًا: أنه إذا كان عليه دين -أي: على السيد- فإنه لا ينفذ التدبير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم باع العبد وقضى دينه. ومنها: أهمية الدَّين، وأنه يقدم على العتق، فلو أن رجلًا كان عنده عبد وعليه دين بمقدار ثمنه وقال: أيهما أفضل لي أن أعتق العبد أو أقضي الدين؟ قلنا: قضاء الدين أفضل، وبهذا فضّل النبي صلى الله عليه وسلم العتق من أجل قضاء الدين. ومنها: أنه قد يكون فيه دليل لما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أن تصرف المفلس ليس بنافذ وإن لم يفلّس؛ يعني: أن الذي عليه دين يستغرق ماله لا يصح أن يتصرف في ماله أو يتبرع كصدقة وعتق وغيره سواء حجر عليه أم لم يحجر، وهذا لا شك أنه قول قوي؛ لأن ماله قد تعلق به حق الغير، ولأنه ليس من الحكمة أن تذهب لتفعل الشيء المستحب وتدع الشيء الواجب، ولهذا تجد بعض الناس الآن مساكين عليهم ديون ويتصدقون ويعزمون الناس، ويدعون وتجده كما يقول العامة: "تجد السُّفرة ما تطوى" هذا خطأ ليس من الحكمة ولا من الشرع، الحكمة: أنك تبدأ بالواجب، أحيانًا يقول: أنا أتصدق بعشرة ريالات والذي عليّ مليون، ماذا نقول؟ نقول: أنت إذا أوفيت من دينك عشرة ريالات صار عليك مليون إلا عشرة، فمليون إلا عشرة أحسن من مليون، ولهذا لم يوجب حتى الحج وهو ركن من أركان الإسلام لم يوجبه الله -سبحانه وتعالى- مع الدّين، وهذه المسألة أنا أود منكم أن تبثوها في العامة؛ لأنه يوجد الآن من العامة من هو مدين، وإذا رأى التبرعات لأعمال خيرية ذهب يتبرع يتعرض للناس في مسألة الدعوات يسموه هذا عشاء وهذا غذاء وهذا طهي وما أشبه ذلك فإذا نبه الناس على هذا الأمر وبيِّن لهم خطر الدين لعلهم يهتدون. ومن فوائد الحديث: أن للإمام أن يبيع مال صاحب الدين ليقضي دينه، وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم باعه -أي: المدبر- ولم يرجع إلى الورثة، باعه وقضى الدَّين. وعلى هذا فيجوز للحاكم الشرعي أن يبيع مال المدين ويوفي دينه، فإن كان الدين من جنس المال فإنه لا يحتاج إلى بيع المال؛ لأنه ربما يبيعه فينكر، وإن كان الدين من جنسه فيقضيه منه، لماذا جعل المؤلف رحمه الله هذا الحديث في هذا البيت؟ لنستفيد منه جواز بيع المدبر إذا كان على صاحبه دين. * * *

حكم أكل وبيع السمن الذي تقع فيه فأرة

حكم أكل وبيع السمن الذي تقع فيه فأرة: 754 - وعن ميمونة زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنَّ فأرةً وقعت في سمنٍ، فماتت فيه، فسئل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عنها. فقال: ألقوها وما حولها، وكلوه". رواه البخاريُّ. - وزاد أحمد، والنَّسائيُّ: "في سمنٍ جامدٍ". ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أو زوجة النبي؟ زوج هذا هو الأفصح، ولا يقال: زوجة إلا على لغة رديئة إلا في الفرائض فإن أهل العلم بالفرائض اصطلحوا على أن يعيِّنوا زوجة للأنثى وزوج للذكر. قوله: "أن فأرة وقعت في سمن"، الفأرة معروفة وهي من الحيوانات الفاسقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فواسق، وأمر بإطفاء المصباح لئلا تعبث به الفويسقة"، فهي الفويسقة من جملة الفواسق، ولهذا سن قتلها مطلقًا سواء آذت أم لم تؤذ، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة"، فتقتل بما يكون أسرع إلى موتها بأي وسيلة كانت إلا بالنار، إلا إذا تعذر أن تقتل إلا في النار استعملت النار، مثل: لو دخلت في جحر ولم تخرج إلا بأن توقد النار حول الجحر فلا بأس، ويوجد الآن شيء تقتل به الفأرة صمغ تلزق فيه هذا لا بأس به لكن بشرط أن تلاحظها لئلا تحبسها فتموت فيخشى عليك أن تكون كصاحبة الهرة التي حبستها لا أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، فإذا استعملت هذا لإمساك الفأرة فعليك أن تتعاهده حتى لا تموت جوعًا أو عطشًا. وقوله: "في سمن فماتت"، ظاهر الحال أن السمن مائع؛ لأنه لو كان جامدًا ما ماتت بل تبقى على سطحه وتخرج، ولهذا رواية أحمد والنسائي فيها نظر: "في سمن جامد" إلا أن يراد به جمودًا نسبيًّا فيمكن. وقوله: "فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها"، أي: حال كونها واقعة في السمن ولا بد من هذا التقدير، وإلا لو كان صواب العبارة أن يقال: "فسئل عنه"، أي: عن السمن، لكن هو سئل عن الفأرة حال وقوعها في السمن ماذا يكون للسمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألقوها وما حولها وكلوا"، فأمر أن تلقى وما حولها وأن يؤكل السمن. ثم قال: زاد أحمد والنسائي: "في سمن جامد"، وقوله: "في سمن جامد" فيه نظر؛ لأنه لا يوافق القصة؛ إذ إن الجامد لا تغيب فيه الفأرة ولا تكون، إلا أن يراد بالجامد: الجامد النسبي؛

بمعنى: أنه ليس كالماء لا هو مائع ولا هو جامد فإن أريد هذا فالأمر واضح، أما جامد كالحصى والحجر فهذا لا يستقيم. نسأل لماذا جاء به المؤلف في كتاب البيوع مع أن المناسب أن يذكر في كتاب الأطعمة؟ يعني: أن هذا لا يمنع البيع؛ لأنه متى جاز بيعه جاز أكله، لأن الله إذا أباح شيئًا أباح ثمنه، وإذا حرم شيئًا حرم ثمنه. أما فوائد الحديث: ففيه دليل على أن الفأر نجسة إذا ماتت لقوله: "ألقوها وما حولها"، ولو كانت ظاهرة لكانت تلقى بدون أن يلقى ما حولها، ودليل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الذُّباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه"، ولم يذكر أن الإناء أو الشراب يتنجس؛ لأن ميتة الذباب طاهرة، لماذا ميتته طاهرة وميتة الفأرة نجسة وكلها مما يطوف علينا؟ علل العلماء ذلك قالوا: لأن أصل نجاسة الميتة احتقان الدم النجس فيها، والذباب ليس له دم يحتقن فيه حتى يكون نجسًا، وأما ما له دم فينجس، ولا شك أن هذه علة مناسبة جدًّا للحكم؛ لأن الله قال: {قل لَّا أجد فى ما أوحى إلىَّ محرَّمًا على طاعمٍ يطعمه إلَّا أن يكون ميتةً أو دمًا مَّسفوحًا أو لحم خنزيرٍ فإنَّه رجسٌ} [الأنعام: 145]. ومن فوائد هذا الحديث: حرص الصحابة -رضي الله عنهم- واحتياطهم في أمور دينهم؛ لأنهم لم يتعجلوا فيرقوه ولم يتعجلوا فيأكلوه حتى يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي الاستحياء من أمور العلم، فتقول: هذه الفأرة لا أسأل عنها، أنا أكرم هذا الرجل عن السؤال عن الفأرة؛ لأن أكرم من يستحق الإكرام من البشر الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك سألوه عن الفأرة، هل نأخذ منها أنه لا يقال للإنسان إذا سئل عما يستقبح "تكرم؟ " قد يكون قالوا، وقد يكون لم يقولوا ذلك، لكن الظاهر أن الصحابة لا يستعملون هذه الكلمة، فهل نقول: إن استعمالها بدعة وأنه لا ينبغي أن يستعملها الإنسان، أو نقول: إن هذه مما يرجع إلى العرف؟ الظاهر الثاني؛ لأن هذه ليست عبادة، فإذا جرى العرف بين الناس في استعمال هذه الكلمات فلا بأس. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الفأرة إذا وقعت في السمن، فإنها تلقى وما حولها ويكون الباقي طاهرًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألقوها وما حولها وكلوه"، وجه الدلالة: إما أن نقول تقول: إن هذا هو ظاهر القصة؛ لأنه لو كان جامدًا ما ماتت بسقوطها فيه، أو يقال: وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستفصل ولم يقل: أجامد هو أم مائع؟ فلما لم يستفصل في مقام الاحتمال نزّل جوابه منزلة العموم في المقال، وجه ثالث: أن نقول: إن المدينة من البلاد الحارة غالبًا، وأن السمن لا

يجمد فيها إلى حد يكون كالحجر فلهذا لا يمكن أن نحمله على الجمود الكامل الذي يصل فيه إلى حد يكون كالحجر، وهذا الوجه أيضًا استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إن المدينة من الحجاز، والحجاز من البلاد الحارة. ويستفاد من الحديث: أنه متى زال الأذى زال حكمه لقوله: "ألقوها وما حولها وكلوه"، فلما زال الأذى -أذى هذه الفأرة- بإلقائها وما حولها صار الباقي طاهرًا، ويتفرع على ذلك تأثير الأوصاف بموصوفاتها؛ لأنه إذا ألقيت وما حولها زال الوصف الذي من أجله يحرم هذا السمن. وهل يؤخذ منه تنجس الشيء بالمجاورة؟ نعم يؤخذ منه الاحتياط في البعد عن النجاسة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال: ألقوها واكتفى بالذي علق بها يلقى معها، ولكن قال: "ألقوها وما حولها"؛ لأنه يحتمل أن تكون النجاسة قد تمددت إلى ما حولها، إذا كان الإناء صغيرًا وصار الذي حولها يستوعب كل الإناء فيلقى كله، وفيه ردٌّ لقول من يقول: إن المائعات تنجس بمجرد الملاقاة ولو كثرت ولم تتغير؛ لقوله: "ألقوها وما حولها وكلوه"، ولو كان ينجس بالملاقاة كله ما حل منه شيء، والقول الذي أشرنا إليه وهو القول المرجوح هذا يؤدي إلى آثار كثيرة في الخلق ما تأتي بمثله الشريعة، لا أدري هل تعرفون ما يسمى بالخزانات أواني كبيرة وهي من النحاس -وأنا أدركتها-، يدخل فيها الرجل واثنين وثلاثة كانوا يستعملونها أواني للسمن يشتري الإنسان مثل القربة من السمن ثم يصبونه في هذا البرميل الكبير هذا البرميل الكبير الممتلاء لو يسقط فيه شعرة واحدة من كلب صار كله نجس على هذا القول وتجب إراقته ولا ينتفع به، ولهذا القول الراجح المطرد: أن ما لم يتغير بالنجاسة فليس بنجس سواء كان ماء أو مائعًا. 755 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقعت الفأرة في السَّمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه". رواه أحمد، وأبو داود، وقد حكم عليه البخاريُّ وأبو حاتمٍ بالوهم. هذا الحديث يقول: "إذا وقعت .... إلخ"، وفصَّل فقال: "إن كان جامدًا تلقى وما حولها، وإن كان مائعًا فإنه لا يقرب"، لكن هذا الحديث كما قال البخاري وهم، والصواب الحديث الأول: "تلقى وما حولها" فقط سواء كان جامدًا أم مائعًا، ثم إنه سبق لنا أن الجامد جمودًا تامًّا

لا تموت فيه الفأرة، والجامد جمودًا وسطًا بين المائع والجامد قد تموت فيه، لكن الصحيح أنها تلقى وما حولها ثم يؤكل السمن. ويدل على ذلك أن هذا الحديث وهم؛ أنه قال: "إذا وقعت الفأرة في السمن"، ولم يقل: فماتت، ومعلوم أنها إذا خرجت حية فهي طاهرة؛ لأنها من الطوافين علينا ومما يشق التنزه منه، فهي لو سقطت مثلًا في ماء وهي حية وخرجت فالماء طهور وليس بنجس، وكذلك لو سقطت في سمن وخرجت حية فهو طاهر ولا يكون نجسًا. ويدل على وهمه أيضًا أنه قال: إن كان مائعًا فلا تقربوه؛ يعني: فهو حرام، ولو أخذنا بظاهره لكان شاملًا للقليل والكثير وللمتغير وغير المتغير وإتلاف الكثير الذي لم يتغير بسقوط هذه الفأرة فيه إضاعة مال لا تأتي بمثله الشريعة، فهو في الحقيقة كلما تأملته وجدته وهمًا، وأن الصواب ما رواه البخاري في الحديث السابق، أنها إذا وقعت فماتت تلقى وما حولها، والباقي يؤكل ويستعمل. 756 - وعن أبي الزُّبير قال: "سألت جابرًا عن ثمن السِّنَّور والكلب؟ فقال: زجر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك". رواه مسلمٌ. - والنسائيُّ وزاد: "إلا كلب صيدٍ". سؤاله لجابر بنفي ما يحتمل من التدليس؛ لأن أبا الزبير فيه تدليس يسير، لكن الظاهر أن كل ما رواه عن جابر في صحيح مسلم أو غيره من الكتب الصحيحة والمعتمدة فهو محمول على السماع. يقول: "سألت عن ثمن السِّنَّور". ما هو السِّنَّور؟ السِّنَّور: القط، وهو معروف وبعضه أليف وبعضه وحشي، بعضه أليف يأتي إليك تمسكه وينام عندك وكذلك ينظف البيت من الحشرات، والفأرة والصارور والوزغ وغير ذلك، وبعضه غير أليف كما هو معروف بعضه يكفأ القدر ويأكل الحمام، وكان قديمًا يأكل عندنا ولا أدري في البلاد الأخرى، كان بالأول يأكل الدجاج، أما الآن فيأكل مع الدجاج، على كل حال: هذا السِّنَّور سئل جابر عن ثمنه فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن ذلك، والزجر: النهي بشدة، والكلب سبق لنا أيضًا الكلام فيه ولا حاجة إلى إعادة الكلام. يقول: "زجر عن ذلك"، أي: عن ثمن السِّنَّور والكلب. وعلى هذا فيستفاد من هذا الحديث: تحريم بيع السِّنَّور، وظاهره أنه لا فرق بين الأليف والوحشي، ولا بين الأليف النافع والأليف غير النافع للعموم، وهذه المسألة اختلف فيها أهل

العلم على قولين؛ فمنهم من يقول: إن الهر إذا انتفع به وصار نافعًا فلا بأس ببيعه؛ لأنه ذو نفع مباح، وكل ذي نفع مباح فإن القاعدة الشرعية إباحة غيره بمفهوم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه"، فمفهومه إذا أباح شيئًا أباح ثمنه، ولا يلزم من تحريم الأكل تحريم البيع، فهاهو الحمار محرم الأكل ومع ذلك مباح البيع إذا بيع لينتفع به، فإذا كان في هذا الهر نفع واضح مثل الذي أشرنا إليه من قبل، بأنه يأكل الحشرات ويطرد الهوام، فهذا لا بأس ببيعه من أجل منفعته، وليس مما نهي عن اقتنائه حتى نقول: إنه كالكلب، بل هو مما أبيح اقتناؤه، وأما إذا كان غير أليف ولا نافع فإن بيعه لا يجوز؛ لأن ذلك إضاعة مال وهذا هو رأي الجمهور أنه يجوز بيعه إذا كان ينتفع به، وحملوا الحديث على النوع الثاني: وهو الذي لا ينتفع به كأن يكون وحشًا؛ لأن الوحش لا يجوز بيعه لعدم الانتفاع به ولعدم القدرة على تسليمه؛ لأنه كالجمل الشارد وكالعبد الآبق، لا يتمكن من تسليمه إلى المشتري، وهذا القول الذي هو قول الجمهور قول قوي جدًّا. ويحمل الحديث على ما حملوه عليه من أن المراد بالسِّنَّور الذي لا فائدة فيه، ولكن مع هذا نقول: الاحتياط للإنسان ألا يبيعه، بل إذا كان عنده هرة وانتهت حاجته منها وطلبها منه أحد فإنه يسلمها له بدون ثمن، والذين منعوا من بيعه استدلوا بعموم الحديث، واستدلوا أيضًا بأن هذا من الأشياء التي لا يؤبه لها والتي توجد كثيرًا في الناس، فهي تشبه الماء الذي نهى النبي عن بيعه، فإن الهرة جرت العادة بأنه يقتنى اقتناءً كاقتناء الغنم بحيث يبقى عند الإنسان يتوالد عنده ويحرص عليه، بل إذا وجد سنور صار يؤلفه حتى يتألف، فرأي الجمهور قوي لكن مع ذلك الأحوط أن يدع بيعه، أما الكلب فقد سبق. وفي الحديث: دليل على جواز الإجابة بالدليل، من أين يؤخذ؟ من قوله: "زجر"، ولم يقل: هو حرام. وهل هذا أولى، أو الأولى أن يذكر الحكم ثم دليله، أو يختلف باختلاف المخاطب؟ الأخير، يعني: باختلاف المخاطب، إذا كان المخاطب يعرف الحكم من الدليل فلا حاجة إلى ذكر الحكم ثم سياق الدليل، لا حاجة إلى ذلك؛ لأنه ليس فيه إلا التطويل، وأما إذا كان لا يفهم، أو أردت أن تعلمه بأنه إذا ذكر الحكم فليقرن به الدليل، فهنا الأفضل أن تذكير الحكم ثم تذكر الدليل، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل يذكر الحكم ثم يذكر الدليل مما قال صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار"، قال: يا رسول الله، أفندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فأما أهل السعادة فييسَّرون لعمل

بطلان مخالفة الشرع

أهل السعادة، وأهل الشقاوة فييسَّرون لعمل أهل الشقاوة، قرأ: {فأمَّا من أعطى واتَّقى (5) وصدَّق بالحسنى (6) فسنيسِّره لليسرى (7)} [الليل: 5 - 7] ". فالمهم: أن ذكر الحكم بالدليل يعني: أن يكون الجواب بالدليل أو بذكر الحكم، ثم يقرن به الدليل هذا يرجع إلى اختلاف السائل أو المخاطب. قال: والنسائي وزاد "إلا كلب صيدٍ"، لكنه زادها واستنكرها رحمه الله وقال: إنها منكرة، فالاستثناء ليس بصحيح كما هو القول الراجح في هذه المسألة، وقد سبق لنا أيضًا الكلام عليه، وبيَّنا أنه لو قيل: إن النهي عن ثمن الكلب إنما هو عن ثمن الكلب الذي يباح اقتناؤه؛ لأن ما لا يباح اقتناؤه لا يرد عليه البيع، إذ إن الإنسان لا يمكن أن يخسر مرتين الأجر والثمن. بطلان مخالفة الشرع: 757 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءتني بريرة، فقالت: إنِّي كاتبت أهلي على تسع أواقٍ، في كلِّ عامٍ أوقيَّةٌ، فأعينيني. فقلت: إن أحبَّ أهلك أن أعدَّها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها. فقالت لهم؛ فأبوا عليها، فجاءت من عندهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ. فقالت إنِّي قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلَّا أن يكون الولاء لهم، فسمع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرت عائشة النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم. فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنَّما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة، ثمَّ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في النَّاس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه. ثمَّ قال: أمَّا بعد، فما بال رجالٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله عزَّ وجل، ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطلٌ وإن كان مائة شرطٍ، قضاء الله أحقُّ، وشرط الله أوثق، وإنَّما الولاء لمن أعتق". متَّفقٌ عليه، واللَّفظ للبخاريِّ. - وعند مسلمٍ فقال: "اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء". بريرة هذه كانت أمة لقوم من الأنصار وصار فيها ثلاث سنن كما قالت عائشة في حديث آخر، منها هذه المسألة الآتية في الحديث. ومنها: أنها خيرت على زوجها حين عتقت. ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم إلى البيت فطلب طعامًا فأتي إليه بطعام فقال: ألم أر البرمة على النَّار؟ قالوا: ذاك لحم تصدق به على بريرة، قال: "هو عليها صدقة ولنا هدية"، فهذه ثلاث سنن جاءت في هذه الأمة.

تقول: "كاتبت أهلي"، المراد بأهلها هنا: أسيادها، يعني: الذي يملكونها، وسمي الأسياد أهلًا وإن لم يكونوا من القرابة؛ لأن الإنسان يأهلهم ويأوي إليهم، وكل أحد تأوي إليه وتأهله فهم أهلك؛ لأنهم مأوى إليك، ولهذا سمي أتباع الإنسان أهلًا، أو لأنه يئول إليهم وينتصر بهم، وقولها: "كاتبت"، المكاتبة: شراء العبد نفسه من سيده، كيف ذلك؟ يقول العبد للسيد: أنا أحب أن أعتق، وأنت لن تعتقني بدون عوض، ولكن بعني على نفسي، فيقول: بعنك على نفسك، بكم؟ فيقول مثلًا: بعشرة آلاف ريال كل سنة يحل ألفا ريال تكون المدة خمس سنوات، فوافق على ذلك تسمى هذه مكاتبة، وهل هو عقد لازم أو جائز، بمعنى: هل يملك السيد فسخه، أو العبد فسخه، أو هو عقد لازم لا يملك كل واحد منهما فسخه؟ أما من جهة السيد فهو لازم لا يمكن فسخه، وأما من جهة العبد فهو جائز؛ لأن بإمكانه أن يعجز نفسه ويقول: ما حصلت شيئًا فإذا عجز نفسه فحينئذ يعود إلى الرق، وهل إذا طلب العبد من السيد المكاتبة هل يلزم السيد إجابته؟ نقول: أولًا: فيه تفصيل، وثانيًا: فيه خلاف، فيه تفصيل إن علم فيه خيرًا أجابه وكاتبه، وإن لم يعلم فيه خيرًا فلا يكاتبه، ما هو الخير الذي يعلمه فيه؟ قال العلماء: الخير الذي يعلمه الصلاة في الدين والكسب في المال، يعني: إذا علم أن هذا العبد صالحًا وأنه يستطيع أن يكتسب فليكاتبه، وإن لم يعلم فلا يكاتبه وذلك إن خاف أنه إنما طلب المكاتبة من أجل أن يتحرر، فيفسق أو يرجع إلى بلاد الكفر، فهنا لا يكاتبه؛ لأن هذا ضرر، أو علم أنه إذا كاتبه صار عالة على نفسه وعلى غيره ليس لديه مال فهذا لا يكاتبه؛ لأن هذا ضرر على العبد، وضرر على غيره من الناس، فإن علم فيه خيرًا أمر بالمكاتبة، قال الله تعالى: {والَّذين يبتغون الكتاب ممَّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} [النور: 33]. ولكن هل الأمر هنا للوجوب أو للاستحباب؟ ذهب جمهور العلماء على أنه للاستحباب، والصارف له عن الوجوب: أن هذا مال له، ولم يوجب الله عزَّ وجل إخراج المال على المالك إلا بالزكاة أو النفقة الواجبة، وعلى هذا فيكون الأمر هنا للاستحباب وليس للوجوب، وقال أهل الظاهر وجماعة من العلماء: بل الأمر للوجوب؛ لأن في هذا مصلحة وهي إنقاذ هذا العبد من الرق، فهو كإنقاذ من خاف التلف، ثم إن الشارع يتشوف إلى العتق تشوفًا بالغًا، فعندنا أمران مع الأصل وهو أن الأصل في الأمر الوجوب، فلدينا أمران يفيدان أن الأمر للوجوب، وعلى هذا فيكون الأمر للوجوب بناء على الأصل ولأجل هذين الوجهين، وهذا القول هو الصحيح أنه إذا طلب المكاتبة وعلم فيه الخير وجب عليه أن يوافق؛ لأن ذلك خير له وخير للعبد.

المكاتبة لماذا سميت مكاتبة ولم تسمى عقدًا؟ أقول: لأنه جرت العادة أنه إذا وقع مثل هذا العقد حصلت المكاتبة بين السيد وبين العبد، فلذلك سميت مكاتبة، إذا قال قائل: إذا عللتم بذلك لزمكم أن تقولوا كل شيء يكتب نسميه مكاتبة. نقول: هذا لا يصح في تعيين العقود أو المعاني أو الأماكن أو ما أشبه ذلك، لا يصح، ولهذا سميت المزدلفة جمعًا ولم تسمى عرفة جمعًا مع أن الجمع في عرفة كالجمع في مزدلفة أو أكثر، فمثل هذه الأشياء التي يعلل بها الأسماء لا تتعدى العلة محلها، فلو أنني عقدت معك مداينة نسمى هذا مكاتبة؟ لا، بل نسميه دينًا مكتوبًا. تقول: "كاتبت أهلي على تسع أواقٍ"، وهي جمع أوقية، والأوقية أربعون درهمًا، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، فالأربعون درهمًا تكون ثمانية وعشرين مثقالًا، إذن الأوقية ثمانية وعشرون مثقالًا، وهي تقول: "تسع أواقٍ"، نضربها في ثمانية وعشرين تساوي مائتي واثنين وخمسين مثقالًا من الفضة هذا ثمن بريرة التي كاتبها أهلها. تقول: "في كل عام أوقية"، تكون الأعوام على هذا تسعة أعوام فتعتق، فجاءت تطلب العون من عائشة ... إلخ، "فقلت: إن أحب أهلك أن أعدَّها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت"، "إن أحب" هذه شرطية، وجواب الشرط "فعلت"، وقولها رضي الله عنها: "أن أعدها" يعني: أعطيهم إياها معدودة، وقد مر علينا كم هذه؟ تسعة أواقٍ، كل أوقية أربعون درهمًا، أربعون في تسعة يكون ثلاثمائة وستين درهمًا. "إن أحب أهلك أن أعدها لهم" أي: أن أعد لهم التسع أواقٍ وهي بالدراهم الإسلامية ثلاثمائة وستون درهمًا؛ لأن الأوقية أربعون درهمًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة"، وفي حديث أبي بكر: في الرقة في مائتي درهمًا ربع العشر، ففهمنا من هذا أن الأوقية أربعون درهمًا، وقولها: "ويكون ولاؤك لي"، ما هو الولاء؟ الولاء في اللغة: من الولاية، وفي الشرع: يطلق على عدة معانٍ منها: ولاء العتق وهو أن الإنسان إذا أعتق عبدًا صار له عاصبًا كعصوبة النسب تمامًا، إلا أنها دونها في المرتبة، ولهذا لا يستحق أحد عاصب بالولاء شيئًا من حقوق التعصيب ما دام يوجد عاصب بالنسب، فلو هلك هالك عن بنت ومولى لكان للبنت النصف والباقي للمولى، ولو هلك عن بنت وعم كان للبنت النصف وللعم الباقي، إذن فولاء العتق له لحمة في الإنسان كلحمة النسب، إلا أنه كما قلنا: لا يمكن أن يستحق شيئًا من حقوق التعصيب، ما دام أحد من العصبة في النسب موجودا.

تقول: "فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم ذلك"، وأظن مر علينا ماالمراد بالأهل وهم الأسياد، "فأبوا عليها"، يعني: امتنعوا أن يكون الولاء لعائشة، بل يريدون أن يكون الولاء لهم هم، قالت: "فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرة عائشة"؛ لأن عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون في مهنة أهله في البيت أو في المسجد أو في شئون المسلمين تقول: "فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء"، فيكون لهم حق العصوبة بعد عصوبة النسب في هذه المرأة. فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خذيها واشترطي لهم الولاء"، "خذيها" يعني: اشتريها واشترطي لهم الولاء كما طلبوا، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تأخذها، وأن تشترط لهم الولاء، وهذا الأمر ليس أمر إيجاب ولا استحباب، ولكنه أمر إباحة؛ لأنه صار في جواب السؤال، وقد مر علينا أن الأمر إذا كان في جواب السؤال، فهو للإباحة، وكذلك إذا وقع بعد الخطر فهو للإباحة أو لرفع الخطر على خلاف في ذلك، وقد سبق في أصول الفقه. قال: "خذيها واشترطي لهما الولاء"، يعني: كما أرادوا، وإنما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لأمر سيتبين فيما بعد. اختلف العلماء في اللام هنا، هل هي للتمليك والاستحقاق، أو أنها بمعنى "على"؟ فقال بعض العلماء: إنها بمعنى "على"، أي: اشترطي عليهم الولاء، قالوا ذلك واستشهدوا بقوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]. أي: فعليها، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {مَّن عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها} [فصّلت: 46]. فتكون اللام هنا بمعنى "على"، واضطروا إلى ذلك لئلا يلزم من جعل اللام على بابها أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لها بشرط فاسد؛ لأن اشتراط الولاء لهم مخالف للشرع، قالوا: والرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأذن بشيء مخالف للشرع، فاضطررنا أن نجعل اللام بمعنى "على"، وأتينا بشاهد من القرآن هذا هو القول ظاهره الصحة لكن عند التأمل يتبين أنه ليس بصواب؛ لأنها قد اشترطت عليهم الولاء ولكن أبوا، فما الفائدة من أن تعيد الشرط مرة أخرى؟ وكيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اشترطي عليهم الولاء" وهو يعلم أنهم قد أبوا ذلك؛ لأن هذا ليس فيه إلا مجرد التكرار بلا فائدة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأمر بشيء بغير فائدة، ولا يمكن أن يأمر بشيء يعلم أنه مردود من قبل؟ إذن يتعين أن نجعل اللام على أصلها وهي التمليك والاستحقاق، يعني: خذيها واشترطي لهم الولاء كما أرادوا. ونجيب عن قولهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأذن بشيء مخالف للشرع فنجيب عن ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأذن بذلك لينفذ. ولو أذن ونفذ لكان محل إشكال، لكنه أذن بذلك ليبطله

بعد شرطه، وإبطال الشيء بعد شرطه أشد وقعًا وأبين في الإرشاد؛ لأنه لو قيل: هذا باطل ليس وقعه في النفس كما إذا اشترط ثم أبطل؛ لأنه قد يقول قائل: هذا محرّم ولكن إذا اشترط نفذ، نقول: لا، هو محرم اشتراط الولاء لغير المعتق وإذا اشترط فهو باطل لا ينفذ، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم أراد من ذلك أن يشترط الولاء لهم كما أرادوا ثم بعد اشتراطهم إياه يبطله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونظير هذا من بعض الوجوه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المسيء في صلاته عدة مرات صلاة محرمة؛ لأنه كان لا يطمئن فيها يقول: "اذهب فصلِّ فإنك لم تصلِّ" فيذهب كالأول، لماذا؟ من أجل أن يكون توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم له بعد أن أخذه العناء من صلاة ليست بمجزئة يكون توجيه الرسول إياه وإرشاده له وقع في النفس فتستقر، وليعلم أن العبادة الفاسدة مهما فعلت فإنه لا تبرأ بها الذمة، وهذا من الحكمة في التعليل. إذن فنقول: يتعين أن نجعل اللام على أصلها؛ لأن صرفها عن الأصل يحتاج إلى دليل، ولأن جعلها بمعنى "على" لا يليق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يعلم ويدري أن هذا أمر غير ممكن؛ لأن الجماعة قد ردُّوا هذا من الأصل، ويبقى مشكلة وهي لماذا يغروا هؤلاء فيشترط لهم الولاء ثم يلغى، وسيأتي الجواب عليه. إذن نقول: اللام يجب أن تكون على بابها، يكون لهم الولاء كما طلبوا وكما أرادوا، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم مقررًا الحكم الشرعي: "فإنما الولاء لمن أعتق"، الفاء هنا عاطفة، و"إنما" أداة حصر، و"الولاء" مبتدأ، و"لمن أعتق" خبره، ويكون معنى الجملة: الولاء لمن أعتق لا لغيره وإن شرط، ففعلت عائشة رضي الله عنها. "ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ" ماذا فعلت عائشة؟ أخذتها واشترطت لهم الولاء وتم الأمر على أن عائشة اشترت بريرة المكاتبة على أن يكون ولاؤها لأهلها، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، أي: قام في الناس خطيبًا، وهذه الخطبة من الخطب العوارض، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب أصحابه خطبًا عارضة وخطبًا راتبة دائمة، فخطبة الجمعة مثلا من الخطب الراتبة والعيد والاستسقاء كل هذه من الرواتب. العارضة دائمًا يخطب بها -عليه الصلاة والسلام- في المناسبات، خطبة الكسوف عارضة وقيل: راتبة. واختلف العلماء هل خطبة الكسوف مسنونة مطلقًا أو أنها عارضة للتذكير، يقال: الكسوف ما وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة ولا ندري لو عاد الكسوف هل يخطب الرسول أو لا، والأصل أن ما فعله فهو سنة، وعلى هذا فنقول: صلاة الكسوف يستحب فيها الخطبة، لا سيما في مثل زمننا هذا الذي غفل الناس عن المراد بالكسوف غفلوا عما يراد به

شرعًا وهو تخويف الناس، فالخطبة في هذا الزمن حتى وإن قلنا إنها ليست من السنن الراتبة بل هي من السنن الطارئة ينبغي ألَّا تفوّت في صلاة الكسوف. ثم قالت: "فحمد الله وأثنى عليه"، حمد الله: الحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم وصف المحمود بالكمال ولو مرة واحدة مع المحبة والتعظيم، فقولنا: مع المحبة والتعظيم ليخرج المدح، فإن المدح وصف للممدوح بالكمال، لكن قد يخلو من المحبة والتعظيم، قد يمدح الإنسان أحدًا وهو من أكره الناس إليه ويبغضه لكن يمدحه خوفًا من شره أو رجاء لعطائه. أما الحمد فإنه وصف المحمود بالكمال مع المحبة، يجد الإنسان قلبه ممتلئًا محبة لهذا الموصوف بالكمال وبالتعظيم أيضا وحمد الله -سبحانه وتعالى- إذا قلت: أحمد الله، فحمد الله سبحانه يكون على الكمال الذاتي وعلى الإحسان إلى الخلق، ولهذا إذا أكل الإنسان وشرب يقول: الحمد لله على هذا الإحسان وهذه النعمة، فالله يحمد على كماله الذاتي وعلى إحسانه الواصل إلى خلقه، وقوله: "أثنى عليه"، يعني: كرر أوصاف الكمال لله عزَّ وجل، ويدل على أن الثناء غير الحمد، حديث أبي هريرة الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: الحمد لله رب العالمين. قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم. قال: أثنى علي عبدي". ثم قال -يعني: بعد الحمد والثناء-: "أما بعد"، فما بال هذا التركيب؟ قالوا: إنه نائب عن أداة شرط وفعل شرط تقديره: مهما يكن من شيء بعد؛ أي: بعدما قلت فهو ما سأقوله: "ما بال قوم ... " إلخ، وقيل: إنه لا حاجة إلى هذا التركيب، بل "أما" هذه شرطية هي بنفسها يدل على الشرط والتفصيل، و"بعد" طرف متعلق بمحذوف مناسب للمقام، والفاء رابطة لجواب التفصيل مثل: {فأمَّا من أعطى واتَّقى (5) وصدَّق بالحسنى (6) فسنيسّره} [الليل: 5 - 6]. على كل حال: كلمة "أما بعد" قال بعضهم: إنها كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، ولكن هذا غير صحيح، والذي يتتبع كلام العرب يجد أنها كلمة تقال بين يدي الموضوع، أي: موضوع الكلام، فيؤتى أولًا بالمقدمة، ثم يقال عند الدخول في الموضوع: "أما بعد" وزعم بعض العلماء أنها هي فصل الخطاب الذي أوتيه داود: {وءاتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20)} [ص: 20]. والصواب: أنها ليست إيَّاها، وأن فصل الخطاب هو الفصل بين الناس في الخصومات التي تكون بينهم.

ثم قال: "فما بال رجال"، "بال" بمعنى: شأن، يعني: ما شأنهم، والاستفهام هنا للاستنكار، و"رجال" ليست مذكورة للقيد؛ لأن النساء كالرجال، لكن إذا عبر بالرجال دخل النساء، وإذا عبر بالنساء دخل الرجال إلا بدليل، "فما بال رجال"، وهنا نكرهم لئلا تعرف أعيانهم؛ لأنه ليس الشأن بمعرفة الأعيان وإنما الشأن بمعرفة الأحوال والقضايا التي تقع. "يشترطون شروطًا"، الشرط مر علينا كثيرًا بأنه في اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: {فهل ينظرون إلَّا السَّاعة أن تأتيهم بغتةً فقد جاء أشراطها} [محمد: 18]. وفي الاصطلاح: ما يتوقف عليه الصحة أو اللزوم، فإن كان شرطًا لله توقِّفت عليه الصحة، وإن كان شرطًا للإنسان توقِّف عليه اللزوم، ولهذا نقول: هناك شروط للشيء وشروط في الشيء؛ الشروط للشيء من وضع الله عزَّ وجل، وهي ثابتة سواء شرطت أم لم تشترط، ولا يمكن لأي إنسان أن يتنازل عنها أو يسقطها، هذه الشروط للشيء الذي تتوقف عليه الصحة أو التي تتوقف عليها الصحة كشروط البيع وشروط الصلاة وشروط الحج. أما الشروط في الشيء فهي من وضع البشر الإنسان هو الذي يضعها. ثانيًا: لا تثبت إلا باشتراط وإذا سكت عنها لم تثبت. ثالثًا: لمن هي له أن يتناول عنها ويسقطها. رابعًا: أن العقد يصح بدونها حتى وإن لم يوف بها فالعقد صحيح. خامسًا: أنها تنقسم إلى صحيح وفاسد؛ لأنه من صنع البشر، فهذه الخمسة فروق بينها وبين شروط الشيء هذا الأخير متفرع عن قولنا: إن شروط الشيء شرط للصحة، والشروط في الشيء شرط للزوم، يعني: يجوز ترك الشروط في الشيء لكن ما يلزم الشيء إلا بها. هذه الشروط التي ذكرنا أنها الشروط في الشيء الذي وقع من عائشة هل هو شرط في الشيء أو شرط للشيء؟ الأول، ولهذا أبطلها الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: "شروطًا ليست في كتاب الله"، هذه الجملة فيها شيء من الإشكال إلا على وجه التأويل؛ لأن قوله: "ليست في كتاب الله" ظاهرها: أنه لا بد أن يكون الشرط قد ذكر في كتاب الله. ومن المعلوم أن الشروط في الشيء تكون مذكورة وغير مذكورة، مثلًا لو اشترط المشتري أن الولاء له إذا أعتق كان هذا الشرط موجودًا في كتاب الله، لو اشترط المشتري أنه ينتفع بالشيء فيكون موجودًا في كتاب الله، اشترط البائع الذي باع النخلة بعد أن أبرت أن الثمرة له شرط، مذكور في كتاب الله، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع نخلًا" "نخلًا" بعد أن تؤبد ثمرته للذي باعه هذه واضحة، لكن إذا وجد شرط سكت عنه الكتاب وهو من الشروط

الصحيحة كما في حديث جابر اشترط حملانه إلى المدينة مع أننا نقول في حديث جابر: أن المشترط هو الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء عن رسول الله فهو كالذي جاء عن الله، فيكون هذا داخلًا في الشروط التي في كتاب الله، لكن ثمت أشياء غير الشرط الذي حصل في حديث جابر لكنه لم يذكر في الكتاب ولا في السُّنة، فظاهر هذا الحديث الذي معنا أنه ممنوع؛ لأنه قال: "ليست في كتاب الله"، ولكن قال أهل العلم: المراد بذلك ليس في كتاب الله حلُّها؛ أي: ليست مما أحله الله في كتابه، واستدلوا لذلك بأن هذا هو المعنى، وهو -كما تعرفون- تأويل خلاف ظاهر اللفظ، استدلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا"، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج"، وهذا يدل على أن ما اشترطه الإنسان فهو ثابت إلا إذا خالف شرط الله عزَّ وجل بأن أحل حرامًا أو حرم حلالًا، وقوله صلى الله عليه وسلم: "في كتاب الله"، أي: في مكتوبه، والمراد به: القرآن، وسمي كتابًا؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ: {بل هو قرءانٌ مَّجيدٌ (21) فى لوحٍ مَّحفوظ} [البروج: 21 - 22]. {إنَّه لقرءانٌ كريمٌ (77) فى كتابٍ مَّكنونٍ} [الواقعة: 77 - 78]. ولأنه مكتوب في الصحف بأيدي الملائكة: {فى صحفٍ مُّكرَّمةٍ (13) مَّرفوعةٍ مُّطهَّرة (14) بأيدي سفرةٍ (15) كرام بررةٍ (16)} [عبس: 13 - 16]. ولأنه مكتوب في الصُّحف التي بأيدي البشر فلهذا سمي كتابًا. فإن قال قائل: السُّنة هل هي من كتاب الله؟ الجواب: هي في الحكم في كتاب الله، وأما من حيث المتكلم بها فهو الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن حكم ما جاء في السُّنة كحكم ما جاء في القرآن، كما قال الله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113]. قال: {وأنزلنا إليك الذِّكر لتبيِّن للنَّاس ما نزِّل إليهم} [النحل: 44]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه". فإذن ما جاء في السُّنة فهو كتاب الله؛ لأن الله أخبرنا بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم يبين لنا ما نزل إليه قال: {مَّن يطع الرَّسول فقد أطاع الله} [النِّساء: 80]. قال: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط"، "ما" شرطية، يعني: مهما كان من شرط، فـ"ما" هنا شرطية، وفعل الشرط "كان"، وجوابه "فهو باطل"، وجملة "ليس في كتاب الله" صفة لشرط، و"من شرط" اسم كان، لكن مجرور بـ"من" الزائدة، ممكن أن أقول: إن "ليس في كتاب الله" صفة لشرط، والصواب أنه خبر كان جعلناها ناقصة، فإن جعلناها تامة، يعني: ما وجد من شرط صح أن نعرب "ما ليس في كتاب الله" صفة، "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"، الباطل: هو الضائع سدى الذي لا يترتب عليه أثره ولا يعتبر،

فكل شرط ليس في كتاب الله فإنه باطل، ومعنى باطل، أي: لاغٍ غير معتبر لا يستفيد مشترطه إلا التعب باللسان أو بالأركان إن كتب الشرط، قال: "وإن كان مائة شرط" يعني: وإن كان هذا الشرط مائة شرط، هذه الجملة تحتمل أن المعنى ولو جمع مائة شرط، فكل الشروط ولو كثرت فإنها باطلة؛ يعني: شرط كذا وكذا، وكذا وكذا، إلى المائة، فإن هذه الشروط وإن اجتمعت فهي باطلة إذا خالفت كتاب الله، ويحتمل أن يكون المراد: "وإن كان مائة شرط"؛ يعني: وإن شرط مائة مرة، يعني: وإن أكد شرطه، وهذا المعنى هو الأقرب، وأن المراد: وإن شرط مائة مرة، فيكون الشرط هنا مصدرًا وليس اسمًا، على هذا يصير المعنى: وإن كان مائة اشتراط فإن توكيده لا يزيده توكيدًا ولا توثيقًا. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق"، "قضاء الله" أي: الذي يقضيه عزَّ وجل أحق؛ لأنه حق، قال الله تعالى: {والله يقضى بالحقِّ} [غافر: 20]. والمراد بالقضاء هنا: القضاء الشرعي؛ لأن القضاء الشرعي هو الذي يمكن أن يعارض بمثله فيأتي ملحد ويقول: هذا القضاء أنا آتي بقانون ودستور أحق منه! أما القضاء الكوني لا يمكن معارضته أبدًا ولا يستطيع أحد أن يقول: إنه يدفع الموت عن نفسه أو المرض أو الآفات لكن الذي يمكن أن يعارض هو القضاء الشرعي، فإذا عورض فأيهما أحق؟ الجواب: قضاء الله، أما القضاء الكوني فلا يمكن أن يعارض، ولا يعارضه إلا مجنون أو مكابر. ومن ثمَّ نقول: إن قضاء الله عزَّ وجل ينقسم إلى قسمين: قسم قضاء كوني، وقسم قضاء شرعي، فمن القضاء الكوني قوله تعالى: {وقضينا إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدنَّ فى الأرض مرَّتين} [الإسراء: 4]. هذا قضاء كوني، ولا يمكن أن يكون قضاء شرعيًّا؛ لأن الله تعالى لا يقضي شرعًا بالإفساد، إنما يقضي بالصلاح والإصلاح، والقضاء الشرعي كقوله تعالى: {وقضى ربُّك ألَّا تعبدوا إلَّا إيَّاه} [الإسراء: 23]. فهذا قضاء شرعي؛ لأنه لو كان قضاء كونيًّا ما بقي أحد مشركًا، لو قضى الله قضاء كونيًّا على ألا نعبد إلا إياه ما بقي أحد على الشرك، فصار الناس كلهم يعبدون الله لكن هذا قضاء شرعي: {والله يقضى بالحقِّ} [غافر: 20]. يشمل الأمرين، فقضاء الله حق شرعي وكوني، ما الفرق بين القضاءين؟ الفرق من وجهين: الوجه الأول: أن المقضي كونًا لا بد أن يقع بخلاف المقضي شرعًا. ثانيًا: المقضي كونًا يتعلق بما يحبه الله وما لا يحبه، والمقضي شرعًا لا يكون إلا بما يحبه، إما أن يحب فعله ويأمر به، وإما أن يحب تركه وينهى عنه، قول الرسول: "إن قضاء الله أحق" نقول: هنا القضاء الشرعي؛ لأنه هو الذي يمكن فيه المفاضلة، أما القضاء الكوني فإنه لا يمكن أن يكون فيه مفاضلة؛ لأنه لا أحد يعارض قضاء الله الكوني، ولعل قائلًا يقول: لماذا لا

تجعله عامًّا؟ فنقول: إنه باعتبار القضاء الكوني مما ليس في الطرف الآخر منه شيء، وأحيانًا يكون التفضيل والجانب المفضل عليه ليس فيه شيء، قال الله تعالى: {أصحاب الجنَّة يومئذٍ خيرٌ مُّستقرًّا وأحسن مقيلًا} [الفرقان: 24]. ومن المعلوم أن مستقر أهل النار لا خير فيه، وأن مقيلهم ليس فيه شيء من حسن المقيل أبدًا، لكن جاء التفاضل من باب بيان أنه لا سواء بين هذا وهذا، "قضاء الله أحق" أي: قضاء الله أعدل وأسبق أو أحق بأن يتبع، فهو يشمل الأمرين، فهو أحق بمعنى: أوفق للحق وأثبت وأصح، وهو أحق أيضًا بأن يتبع من غيره. ثم قال: "وشرط الله أوثق"، الفرق بين القضاء والشرط: أن الشرط هو الأوصاف التي يجعلها الله تعالى مناطًا للحكم، والقضاء هو الحكم، فالحكم مثلًا وجوب الصلاة له شروط منها مثلًا: البلوغ، والعقل، والإسلام، والطهارة وما أشبه ذلك، فالفرق بين القضاء والشرط: أن القضاء هو الحكم، والشرط هو الوصف الذي يثبت به الحكم، الشروط التي شرطها الله وجعلها أوصافًا في أحكامه أوثق من غيرها يعني: أوقى وأثبت وأضمن كما قال الله تعالى: {فمن يكفر بالطَّاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة: 256]. "وإنما الولاء لمن أعتق" هذه الجملة في الحقيقة ثمرة ما سبق، وهي إبطاله الشرط المنافي لكتاب الله، الثاني: وصفه بأن قضاء الله أحق وشرطه أوثق، فمن ثمرات ذلك: أن الولاء لمن أعتق، هذا من قضاء الله وشرطه، فيكون الولاء لمن أعتق، ولو أن أحدًا اشترط خلاف ذلك لكان شرطًا باطلًا؛ لأنه ليس في كتاب الله، وقوله: "لمن أعتق" يشمل ما إذا كان المعتق امرأة أو رجلًا، والعتيق امرأة أو رجلًا، وفي رواية مسلم قال: "اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء"، أتى المؤلف بهذا لقوله: "وأعتقيها"؛ حيث تفيد أن المكاتب إذا اشترى فإن من اشتراه يجوز أن يعتقه؛ لقوله: "وأعتقيها"، لا يقال: إن سبب العتق كونه قد انعقد عند البائع وهو المكاتب، لكن حقيقة العتق ما كانت إلا عند المشتري، ولهذا قال: "أعتقيها"، فهو قبل أن يؤدي كتابته -أعني: المكاتب- رقيق. هذا الحديث -كما تشاهدون- فيه فوائد كثيرة، ومن حسن التأليف لو أن المؤلف رحمه الله أتى به عقيب حديث جابر حتى يضم الحديث الذي تضمن شرطًا فاسدًا إلى الحديث الذي تضمن شرطًا صحيحًا، فإن هذا من ناحية التأليف أحسن. من فوائد هذا الحديث: جواز المكاتبة لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها، وهل الكتابة جائزة بمعنى: أنها مستوية الطرفين، أو سنة، أو واجبة؟ نقول: أما بالنسبة للعبد وطلبه إياها من سيده فهي جائزة، وأما بالنسبة للسيد فإنه مأمور أن يكاتب عبده إذا طلب بشرط أن يعلم فيه الخير لقوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} [النور: 33]. ولكن هل الأمر هنا للوجوب أو للاستحباب؟ خلاف على قولين

لأهل العلم والأصل الوجوب حتى يقوم دليل على أنه للاستحباب، وذهب أهل الظاهر إلى أنه للوجوب وكثير من المعاصرين ذهبوا أيضًا إلى أنه للوجوب، ومعروف أن الشارع له تشوف عظيم إلى العتق، فإذا اقترن الأمر مع تشوف الشارع للعتق فإن ترجيح القول بالوجوب له وجه. ومن فوائد الحديث: أن المكاتبة تجوز بالكثير والقليل؛ لأنه لم يرد تحديد لها شرعًا. اهـ ومن فوائد الحديث: جواز استعانة المكاتبة بغيره لفعل بريرة مع عائشة وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم، وهل الرسول علم بذلك؟ الظاهر أنه علم، وكل ما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حجة سواء علم به أو لم يعلم؛ لأنه إذا لم يعلم به الرسول فالله يعلم به. ومن فوائد الحديث: جواز تعجيل الدَّين المؤجل لقول عائشة: "إن أحبوا أن أعدها لهم فعلت"، وإذا عجل الدَّين المؤجل بقدره فالظاهر أن المسألة محل إجماع أنه يجوز أن يعجل المدين الدَّين لكن بقدره عليه، عليه مائة ريال مؤجلة إلى سنة يعجلها الآن هذا لا بأس به، لكن إذا قال: أعجلها على أن تسقط من دينك فأعجل لك المائة على أن تكون تسعين فيه خلاف، فالمشهور من مذهب الحنابلة أنه لا يجوز، والصحيح أنه يجوز تعليلهم يقولون: لأن هذا ربا فإن التنقيص من أجل التعجيل كالزيادة من أجل التأجيل، فكما أنك لو زدت في الأجل وزدت في القدر كان ربًا، فإذا أنقصت في الأجل ونقصت في القدر كان ربًا، ولكن الصحيح خلاف ذلك فإنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ضعوا وتعجلوا"، وأيضًا الفرق بينهما ظاهر؛ لأن الزيادة في مقابل التأجيل ربا زادت على المدين، لكن الوضع في مقابل التعجيل هل زاد على المدين أم نقص؟ نقص فهو عكسه ففيه نقص على المدين، وهذه فائدة، وفيه تعجيل للدائن، وهذه أيضًا فيه فائدة، فالصواب: جواز تعجيل الدَّين بشرط إسقاط بعضه وليس فيه شيء بل هو فائدة للجميع. ومن فوائد الحديث: أن التعامل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بالوزن والعدّ، لقولها: "تسعة أواقٍ" وعائشة قالت: "أن أعدها لهم"، وهو كذلك، ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان الناس يتعاملون بالنقود بالعد وبالوزن، ألم تروا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة" هنا اعتبر الوزن، وقال: "في الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم يكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربُّها" هنا في العدد وهو كذلك، فإذا علم أن عدد المائتين تساوي خمس أواقٍ فسواء قلت: اشتريتها بخمس أواقٍ أو اشتريتها بمائة درهم لا فرق.

ومن فوائد الحديث أيضًا: إطلاق الأهل على السيد لقولها: "إن أحب أهلك"، وأهل الرجل هم خاصته الذين يأهلهم ويجتمع إليهم، ولهذا أباح الشرع للمرأة المالكة ألا تحتجب عن عبدها إذا أمنت الفتنة، فيجوز للمالكة أن تكشف وجهها وكفيها وقدميها للمملوك مع أنه ليس بمحرم من أجل أنها أهله وأن في ذلك حاجة، وأن في التحرز من ذلك مشقة. ومن فوائد الحديث: أن الولاء يثبت بالعتق، وسبق لنا معنى الولاء وأنه عصوبة تثبت للمعتق وعصبة المتعصبين بأنفسهم. ومن فوائد الحديث: جواز تعليق العقود على المشاورة لقولها: "إن أحب أهلك أن أعدها لهم فعلت"، وعلى هذا فيجوز تعليق العقد، فأقول: بعتك إن رضي زيد أو إن رضي شريكي أو إن رضي أبوك أو إن رضي أبي، وهذا القول هو الصحيح، خلافًا للمشهور من المذهب حيث قالوا: إنه لا يجوز تعليق البيع، فالصواب أنه جائز ولا مانع منه، وهذا الذي ذكرته هو تعلق: "إن أ؛ ب أهلك أن أعدها لهم فعلت". ومن فوائد الحديث: أنه ينعقد العقد بما دلّ عليه؛ لأنها قالت: "إن أحب أهلك أن أعدها لهم"، ولم تقل: أن أشتريك، بل قالت: أن أعدُّها، وهذا هو الصواب أن العقود تنعقد بما دلّ عليها البيع، الإجارة، العرية، الوقف، الرهن، كل شيء، وهل يشمل النكاح؟ الصحيح: أنه يشمله، ولو أن الرجل قال للشخص: زوجتك بنتي أو ملكتك بنتي، قال: قبلت انعقد النكاح، وليس بشرط أن يقول: أنكحتك أو زوجتك؛ لأن الشيء إذا جاء في الشرع مطلقًا يرجع فيه إلى العرف. وكلُّ ما جاء ولم يحدَّد ... بالشَّرع كالحرز فبالعرف احدد ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ لأنه لم يعلم ما جرى، ففي بعض الروايات أنه سأل فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهو كذلك لا يعلم الغيب، ولهذا أدلة كثيرة، أولها ما جاء في القرآن الكريم صريحًا حيث أمره الله أن يقول: {قل لَّا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب} [الأنعام: 50]. وقال تعالى: {قل لَّا أملك لنفسى نفعًا ولا ضرًّا إلَّا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب} [الأعراف: 188]. فمن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد كذَّب الرسول صلى الله عليه وسلم وكذَّب الله، وبدأت بتكذيبهم للرسول؛ لأنهم يدَّعون أنهم إذا ادعوا أنه يعلم الغيب كان هذا من تعظيمه وتوقيره، فنقول لهم: ليس هذا من تعظيمه ولا توقيره أن تكذبوه فيما أعلنه على الملأ: {قل لَّا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب} [الأنعام: 50]. فإن قال قائل: أليس قد أخبرنا بأمور فوقعت كما أخبر؟

فالجواب بلى: بلى، ولكن هل هو من عنده؟ لا، بل هو من عند الله، لولا أن الله أخبره بذلك ما علم به، فيكون إخباره عن المغيبات في المستقبل ليس عن علم غيب من صفته هو، ولكن بما أعلمه الله عزَّ وجل. ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مع أهله وكان في مهنتهم لقولها: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس"، فإن المعروف من هديه أنه كان في مهنة أهله يحلب الشاة صلى الله عليه وسلم، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويعاشر أهله، وحياته معهم حياة بسيطة غير معقدة، وتجد الإنسان من أحسن ما يكون وأصلح ما يكون، وهكذا كلما كنت أحسن لأهلك فثق بأنك تدخل مسرورًا وتخرج مسرورًا، أما الإنسان إن أساء إلى أهله فسيدخل محزونًا ويخرج محزونًا، ويمشي في السوق محزونًا؛ لأنه إذا صادفه أحد وسلَّم عليه وهو مغموم من أهله يكاد لا يرى طريقه فلا يعطيه وجهًا طلقًا أبدًا، ولا يزال منكتمًا مما جرى منه مع أهله، فكلما كنت أحسن في أهلك فثق أنك أحسن في مجتمعك كله. ومن فوئد الحديث: أنه يجوز للمرأة أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها؛ لأن عائشة تصرفت بدون أن تستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كذلك، هل لها أن تتصرف في مالها الذي اشتراه لها لتتزين له به؛ يعني: لو أعطاها حليًّا تتزين به له فهل لها أن تبيعه؟ الذي يظهر: أنه ليس لها أن تبيع إذا علمنا أنه اشتراه لهذا الغرض؛ لأن هذا يفوت مقصوده أو يثقل كاهله بإعادة الشراء لها مرة ثانية، أعطاها مثلًا حليًّا للأذن والرأس والرقبة واليد والرجل، ثم باعت هذا كله في لحظة واحدة، ولما جاء الليل وجدها ليس عندها شيء أين هذا؟ قالت: بعته لأنه ملكي، هو يحب أن تتجمل له، ويعد هذا من دواعي السرور ودواعي الأنس، ماذا يصنع في هذه الحال؟ يضطر أن يدخل عليها كئيبًا ويخرج حزينًا، أو يحسن لها مرة ثانية؟ الظاهر أنه إذا اشترى لها شيئًا يتعلق به غرضه فليس لها الحق في أن تبيعه، لكن هل لها الحق في أن تبدله؟ نقول: إذا أبدلته بما لا تشمئز منه نفسه فهذا جائز، أما إن أبدلته بشيء تشمئز منه نفسه فليس بجائز، لو فرضنا أنه رجل لا يريد التحلي القديم واشترى لها من الحلي الجديد المعاصر ولكنها أبدلتها من الحلي القديم مما يستعمل قديمًا فهل لها ذلك؟ لا، ليس لها ذلك، فتبين الآن أن تصرف المرأة بغير إذن زوجها جائز، هذا هو الأصل إلا في حلي اشتراه لتتجمل به له فليس لها الحق بإبداله بشيء لا يرغبه. ومن فوائد الحديث: جواز اشتراط الشرط المحرَّم لتحقيق بطلانه لقوله: "خذيها واشترطي لهم الولاء"، فإن أصح الأوجه عندي في هذا أن إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لها أن تفعل من باب إبطال الشرط الفاسد، وإن حقق باشتراطه، ومعلوم أن تحقيق الشيء بالوقوع أبلغ من تحقيقه بالقول، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما سبق لنا: "خذوا واضربوا لي معكم بسهم" ليحقق الجواز صلى الله عليه وسلم، فهنا

قال: "خذيها واشترطي لهم الولاء" من أجل أن يعود مرة أخرى فيقول إن هذا الشرط باطل لا يجوز الوفاء به، وهذا أحسن من الوجهين اللذين أشرنا إليهما حين شرح الحديث. ومن فوائد الحديث: أن الأمر قد يخرج عن الأصل الذي هو الوجوب أو الاستحباب إلى معنى آخر يستفاد من القرينة الحالية أو اللفظية لقوله: "خذيها"، فإن هذا أمر لكنه ليس أمر إيجاب ولا استحباب بل هو أمر إباحة، يعني: لك أن تأخذيها وتشترطي لهم الولاء، والذي يخرج الأمر عن أصله هي القرائن الحالية أو القرائن اللفظية. ومن فوائد الحديث: أن الولاء لمن أعتق لقوله: "فإنما الولاء لمن أعتق"، وهذه جملة تفيد الحصر كما سبق في الشرح. ومن فوائد الحديث: أن الشَّرط اللفظي لا يغير الشرط الشرعي؛ لأنه قال: "اشترطي لهم الولاء ... إلخ"، فإنهم وإن اشترطوا لفظًا فإن ذلك لا يغير الشرط الشرعي بانتقال الولاء من المعتق إلى غيره، وهل الشرط العرفي يغير الشرط الشرعي؟ الجواب: لا، فلو تعارف الناس على عقد محرم شرعًا فإن هذا التعارف لا يبيح ذلك الأمر الشرعي، ولا يقال: كل الناس على هذا؛ لأن بعض الناس الآن إذا نهيته عن محرم قال لك: كل الناس على هذا، حتى في العبادات أحيانًا يقول: كل الناس على هذا نقول: الشرط اللفظي أو العرفي لا يغير الشرط الشرعي. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للعالم أن يخطب الناس في الأمور العارضة ليبين الحق لقولها رضي الله عنها: "ثم قام في الناس ... إلخ". وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، وخطبه نوعان: خطب رواتب، وخطب عوارض، الرواتب كخطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء، والعوارض كهذه الخطبة، كلما دعت الحاجة إلى الخطبة خطب، واختلف العلماء هل خطبة صلاة الكسوف من الخطب العوارض أو من الخطب الرواتب، وسبب اختلافهم في ذلك هو: أن الكسوف لم يقع إلا مرة واحدة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا ندري هل الخطبة هذه عارضة من أجل إزالة العقيدة الفاسدة التي كان يعتقدها أهل الجاهلية أو هي خطبة راتبة ليجمع للناس بين الموعظة الكونية والموعظة الشرعية. من فوائد الحديث: أن الشريعة تهتم بالمعاملات كما تهتم بالعبادات، أو بعبارة أخرى اهتمام الشارع بما يتعلق بالمعاملات كما يهتم بما يتعلق بالعبادات، وجهه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا ما جعل المسألة بينه وبين أهل بريرة، بل قام خطيبًا ليعلن للناس صلى الله عليه وسلم هذا الحكم الشرعي، فيتبين أن الشريعة -ولله الحمد- فيها العناية بالمعاملات كما فيها العناية بالعبادات. ومنها: دحر قول من يقول: إن الشرع عبادة، وأما المعاملة فعادة؛ لأنه يوجد من الناس من يقول: المعاملات لا تدخل فيها الشرع، وكل الأوامر الواردة في المعاملات فهي أوامر إرشاد

تختلف باختلاف الزمان والمكان، قد أرشد في ذلك الوقت إلى نوع معين من المعاملات ويكون الإرشاد في وقت آخر إلى نوع آخر لكن مثل هذا الحديث يدحر هذا القول، وهذا القول مندحر من أكثر من عشرين وجهًا، دلّ عليها الكتاب والسُّنة وهو أن الشرع لم ينظم المعاملة بين الإنسان وبين ربه، وهي العبادة، بل نظم المعاملة بين الإنسان وبين ربه، وبين الإنسان والإنسان، بل بين الإنسان والحيوان، بل حتى بين الحيوانات أنفسهم، وحتى الحيوان الشارع جعل له ضوابط، لو رأيت كبشًا أقرن كبير الجسم ينطح شاة ضعيفة يتدبر على الوراء ثم يأتي بقوة وينطحها وهي تصرخ، هل الشرع يجعلك تتفرج على هذا؟ لا، بل يأمرك أن تفصل بينهما كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء"، فالشارع رتب المعاملة بين البشر والمعاملة بين البشر والحيوان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعًا، وأخبر أن امرأة بغيًّا سقت كلبًا فغفر الله لها، إلى هذا الحد كيف نقول: إن الشرع لم ينظم إلا المعاملة بين الخالق والمخلوق فقط وهي العبادة، ولكن من أعمى الله قلبه لم ينفعه انفتاح العين. ومن فوائد الحديث: أن المشروع أن تبدأ الخطبة بحمد الله والثناء عليه لقولها رضي الله عنها: "فحمد الله وأثنى عليه"، وهكذا ينبغي للخطيب أن يحمد الله ويثني عليه. فإن قال قائل: ما المناسبة؟ قلنا: المناسبة أن هذا المنصب -أعني: منصب الخطبة والوعظ- منصب عظيم لا يناله إلا من آتاه الله علمًا وحكمة وحزمًا وغيره؛ لأن غير العالم لا يتكلم، الجاهل وغير الحكيم أيضًا يفوت الفرص ولا يتكلم، وكذلك غير الحازم يفوت الفرص، ثم إن المقام مقام عظيم يقوم فيه الإنسان مقام الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، فلهذا كان من المناسبة أن يحمد الله ويثني عليه على أن جعله من أهل هذه المناصب الرفيعة، ثم إن في حمد الله والثناء عليه وذكر أوصافه الكاملة تنشيطًا على النفس وإنارة للقلب، وبهذا يفتح الله -سبحانه وتعالى- ما لا يفتحه مع الإعراض، فلهذا كان الرسول يحمد الله ويثني عليه. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للخطيب أن يكون قائمًا حتى في غير خطبة الجمعة لقولها: "ثم قام وخطب". ومن فوائد الحديث: استعمال "أما بعد" في الخطبة، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أما بعد" وهل هي فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام كما قيل به؟ لا، فصل الخطاب الذي أوتيه داود هو أن يفصل بين الناس ويحكم بينهم، هذه "أما بعد" هل يؤتى بها بعد كل جملة أو بعد كل سطر أو

بانتهاء كل صفحة أم ماذا؟ قيل: إنه يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، وهذا القول قيل: ليس موافقًا للواقع، إنما يؤتى بـ"أما بعد" للانتقال إلى موضوع الخطبة بعد أن يقدِّم الخطيب الحمد والثناء ثم ينتقل إلى الموضوع يأتي بكلمة "أما بعد". ومن فوائد الحديث: حسن إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيه للتصريح بأسماء القوم لقوله: "فما بال رجال" لأنه ليس المقصود عين هذا الشخص، المقصود ذكر حكم هذه القضية وسواء علمنا الشخص أم لم نعلم لا يهم الشخص، الغالب أنه لا يتعلق بمعرفة عينه شيء كثير، نقول: ربما نحتاج لكنه لا يهم فالمقصود هنا الحكم، ولهذا قال: "فما بال رجال".اهـ ومن فوائد الحديث: أن الشروط الخارجة عن كتاب الله غير مقبولة بل هي مردودة ومرفوضة لقوله: "يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله"، والاستفهام هنا للإنكار كما سبق، يعني: لماذا يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، أوليس الإنسان عبدًا لله؟ لأن العبد لا يتجاوز ما وجَّهه إليه سيده، فيجب ألا يشترط شروطًا ليست في كتاب الله، وقد سبق معنى قوله: "ليست في كتاب الله" وأنه ليس من اللازم أن يكون كل شرط منصوصًا عليه، بل المراد: أن كل ما خالف كتاب الله فليس بكتاب الله، وكل ما وافقه فهو منه لقوله تعالى: {ياأيُّها الَّذين ءامنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1]. ومن فوائد الحديث: وجوب الرجوع إلى كتاب الله لقوله: "ليست في كتاب الله". فإن قال قائل: والسُّنة؟ فالجواب: أن السُّنة من كتاب الله لا شك؛ لأن السُّنة -كما مر علينا- بالنسبة للقرآن أربعة أقسام: إما مفسِّرة ومبينة للمعنى، وإما موافقة، وإما مخصصة، وإما مقيدة، وإما زائدة مستقلة، أما أن تأتي مخالفة للقرآن فهذا أمر مستحيل. ومن فوائد الحديث: أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن شرط مائة مرة لتوكيده فإنه يكون باطلًا كما أن العبادة التي ليست على أمر الله ورسوله مردودة: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا اشترط شرطًا لا ينافي كتاب الله وجب الوفاء به؛ لأن قوله: "فهو باطل" يضاده: فهو صحيح، ومتى يكون صحيحًا؟ الجواب: إذا لم يخالف كتاب الله وإذا كان صحيحًا وجب الوفاء به. وجوب الوفاء بالشرط الصحيح هل هو حق لله أو حق للآدمي؟ الجواب: هو حق للآدمي وجب بإيجاب الله، ولهذا لو أسقطه الإنسان سقط: {ياأيُّها الَّذين ءامنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى} [البقرة: 178]. {كتب} فرض، ثم قال: {فمن عفى له من أخيه شاءٌ فاتباع بالمعروف} [البقرة: 178]. إذن

الواجب للإنسان إذا أسقطه من له الحق سقط فهو واجب للإنسان بإيجاب الله عزَّ وجل، إذن نقول: الشروط التي يشترطها الإنسان على غيره في كل عقد هي حق للشارع يجب الوفاء به على المشروط عليه، ولكن إذا عفا الشارع سقطت بعفوه. ومن فوائد الحديث: أن قضاء الله أحق من قضاء غيره مهما كان الغير لقوله: "قضاء الله أحق"، وسبق معنى قوله: "أحق"، أي: أنه أحق بالاتباع، وأنه أحق بمعنى: أشد موافقة للحق من غيره، فهو جامع بين أمرين. لو قال قائل: قضى البرلمان ومجلس الأمة ومجلس الشعب ومجلس الشورى ومجلس الكونجرس ومجلس الشيوخ ومجلس الأعيان ومجلس الشرفاء بكذا وكذا مما هو مخالف لقضاء الله، كلها نلغيها؛ لأنها مجالس مخلوقين، والمخلوق معرَّض للخطأ، وهو أيضًا ضعيف في عمله وقدرته وتبصره وفي كل شيء، لهذا نقول: قضاء الله أحق، فإذا جاءنا إنسان وقال: انظروا هذا الدستور الذي صدق عليه كل هذه المجالس قلنا له: هذا كتاب الله الذي نزل يحكم بيننا وبينك: {فإن تنازعتم فى شاءٍ فردُّوه إلى الله والرَّسول} [النِّساء: 59]. أتى بهذه الكلمة بعد قوله: {ياأيُّها الَّذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول وأولى الأمر منكم} [النِّساء: 59]. يعني: ليست طاعة أولي الأمر طاعة مطلقة، فعند التنازع المرجع بينكم وبين ولاة الأمور إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أن قضاء الله أحق، يعني: أثبت وأعدل من غيره؛ لأن الحق يطلق على العدل والأحكام والصدق في الأخبار والثبات، فقوله: "أحق"، يعني: ثابت لا يتزحزح، وكذلك قضاء الله. ومن فوائد الحديث: بطلان جميع الأنظمة التي تخالف أنظمة الشرع وأنها باطلة حتى وإن قدِّر أن فيها حقًّا فإن قضاء الله أحق منها، ولهذا أطلق قال: "قضاء الله أحق"، ولم يذكر المفضل عليه من أجل العموم. ومن فوائد الحديث: إثبات حكمة الله عزَّ وجل؛ لأن القضاء لا يكون أحق إلا إذا كان متضمنًا للحكمة ومصالح العباد، فإن لم يتضمن ذلك لم يكن أحق. ومن فوائد الحديث: أنه قد يكون في قضاء غيره حق لكن قضاء الله أحق، هذا إذا قلنا: إن اسم التفضيل هنا على أصله، ووجود أصل المعنى في المفضل والمفضل عليه، وإذا قلنا: إنه ليس على أصله بحيث يكون معنى في المفضل فقط كما في قوله تعالى: {أصحاب الجنَّة يومئذٍ خيرٌ مستقرًّا} [الفرقان: 24]. فإنه يقتضي أن لا حق في قضاء غير الله، لكن المعنى الأول أسدّ وأوثق بالنسبة للصيغة وبالنسبة للواقع؛ لأنه ليس كل حكم يكون باطلًا من كل وجه، بل إن وافق الحق فهو حق وإن خالف الحق فهو باطل، وإن خالفه من وجه ووافقه من وجه فهو باطل من وجه وحق من وجه آخر.

ومن فوائد الحديث: ما أفاده قوله: "شرط الله أوثق" وهو أن ما اشترطه الله تعالى في العقود من الأوصاف والمعاني فهو أوثق مما يشترطه غيره، يعني: أشد ثباتًا ومسكًا؛ لأنه مأخوذ من الوثاق الذي يوثق به البعير، فهو أوثق، يعني: أشد ثباتًا من الشروط التي يضعها غير الشرع، إذن فيؤخذ من هذا: أن كل شرط خالف الشرع فهو لا ثقة فيه، ولا أوثقية فيه بل الأوثقية كلها بما جاء به الشرع. ومن فوائد الحديث: إثبات الولاء للمعتق لقوله: "وإنما الولاء لمن أعتق"، والولاء عصوبة تثبت للمعتق وعصبته المتعصبين بأنفسهم فقط دون المتعصبين بغيرهم أو مع غيرهم. ومن فوائد الحديث: أن الولاء لا يتعدى المعتق وما تفرع منه، يستفاد هذا من الحصر من قوله: "إنما الولاء لمن أعتق"، كأنه قال: لا ولاء إلا لمن أعتق. ومن فوائد الحديث: أن شرط الولاء لغير المعتق باطل، يؤخذ من قول الرسول: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"، حتى وإن أكد بتكرار الشرط فهو باطل. ومن فوائد الحديث: جواز السجع، لكن بشرط ألا يكون متكلَّفا، فإن كان فيه تكلف فإنه لا يعد من البلاغة ولا من الفصاحة؛ لأن الخطيب أو المؤلف إذا تكلف السجع فلا بد أن يكون في الكلام خلل إما زيادات أو استعارات مستكرهة أو غير ذلك، لكن إذا جاء عبر الخاطر بدون تكلف أعطى الكلام رونقًا وجمالًا وقبولًا كما في الحديث، فإن قال قائل: هل السجع محمود أو مذموم؟ قلنا: ينظر إلى موضوعه إذا كان المقصود به رد الحق فهو مذموم، ولهذا لما قام حمل بن النابغة الهذلي يريد أن يجادل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في حكمه في المرأتين اللتين اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بالدّية على عاقلتها، وقضى بغرة عبد أو وليدة دية للجنين، قام حمل بن النابغة فقال: يا رسول الله، كيف يغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل، سجع فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك من إخوان الكهان"، من أجل سجعه الذي سجع؛ لأن الكهان يزينون كلماتهم بهذه الأسجاع لأجل أن يكون لها رنين وقبول، فقال من أجل سجعه هل من أجل سجعه، يعني: من أجل أن سجع في كلامه أو من أجل مضمون كلامه؟ الثاني. هذه الفوائد التي تيسرت من هذا الحديث الذي ساقه المؤلف رحمه الله من أجل أن يبين أن كل شرط خالف الشرع فهو باطل، إذا كان باطلًا فهل نقول للذي اشترطه لنفسه: لك الخيار لفوات ذلك عليك، يعني: لنفرض أن بائعًا شرط شرطًا فاسدًا لا يمكن الوفاء به، هل نقول: إن له

حكم أمهات الأولاد

الخيار أو لا؟ الجواب: في ذلك تفصيل إن كان عالمًا بالحكم فلا خيار له على أنه مستهتر أو متهاون، وإن كان غير عالم فله الخيار. ففي هذا الحديث: لو أن رجلًا باع عبدًا واشترط على المشتري أنه إن أعتقه فالولاء له فوافق المشتري، من المعلوم أن القيمة سوف تنقص، البائع إذا كان بيعه بلا شرط بمائة، يبيعه بشرط تسعين فينقص من أجل الشرط، هذا رجل باعه فقلنا: إن هذا الشرط باطل ولا يمكن الوفاء به، فهل نقول للبائع: الخيار إن شاء أمضى البيع بتسعين وإن شاء ردّه، فيه التفصيل الذي ذكرنا، إن كان يعلم أن هذا الشرط فاسد فإنه لا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة، وإن كان لا يعلم لظنه أنه شرط صحيح فله الخيار هذا هو القول الراجح، وقال بعض العلماء: لا خيار له مطلقًا؛ لأنه فرَّط، ولأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجعل لهؤلاء خيارًا -لأهل بريرة-؛ لأن من المعلوم أن بريرة عتقت تحت ملك عائشة، ولكن الصحيح أن له الخيار إذا كان جاهلًا، وظاهر الحديث أن أهل بريرة كانوا قد علموا ذلك لكنهم تجرءوا بدليل قوله: "خذيها ... إلخ"، وبدليل أن الرسول خطب واستنكر هذا الشيء، ومثل هذا الأمر لا يكون إلا يعد أن يعلم أن الأمر متقرر عندهم. ثم قال وعند مسلم قال: "اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء"، هذه الأوامر الثلاثة ليست للوجوب ولا للاستحباب ولكن للإباحة، يعني: لا بأس أن تشتريها ولو كانت مكاتبة، ويستفاد من هذا اللفظ: أن المكاتب يجوز بيعه وأنه يجوز عتقه وهو كذلك، فيجوز بيع المكاتب ويقوم مشتريه مقام مكاتبه، وإذا أعتق فالولاء للمشتري، وإذا شاء المشتري أن يعجل عتقه فله ذلك. حكم أمهات الأولاد: 758 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "نهى عمر عن بيع أمَّهات الأولاد فقال: لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، يستمتع بها ما بدا له، فإذا مات فهي حرَّةٌ". رواه مالكٌ والبيهقيُّ، وقال: رفعه بعض الرُّواة، فوهم. النَّهي سبق لنا أنه طلب الكف على وجه الاستعلاء. فإن قال قائل: وهل لعمر أن ينهى ويأمر في شرع الله؟ قلنا: له ذلك بمقتضى خلافته، لا على أنه تشريع كما سيأتي -إن شاء الله- في بحث المسألة، فالنهي هنا؛ لأنه ذو سلطان، والسلطان له حق الأمر والنهي فيما تقتضيه السياسة والمصلحة لقوله

تعالى: {ياأيُّها الَّذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول وأولى الأمر منكم} [النِّساء: 59]. ومن المعلوم أن ما أمرنا به من طاعة ولاة الأمور ليس هو ما أمر به في الأصل؛ لأن ما أمر به في الأصل نحن مطيعون له سواء أمروا أم لم يأمروا، ولو قيل -كما قال بعض الناس-: إذا أمرونا بشيء لا نطيعهم؛ لأن هذا خلاف الشرع، إذن لماذا تطيعهم؟ قال: أطيعهم فيما أمر الله به إذا قالوا: صلِّ، قلت: سمعًا وطاعة، وإذا قالوا: زكَّ، قلت: سمعًا وطاعةً، وإذا قالوا: حجَّ سواء أمروك أم لم يأمروك، لكن لو قال: المسير من اليسار دائمًا أو من اليمين دائمًا، قال: لا {هو الَّذى جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا فى مناكبها} [الملك: 15]. أنا أمشي [في أي جهة] ماذا نقول؟ نقول: عصيت الله؛ لأن الله يقول: {أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول وأولى الأمر منكم} [النِّساء: 59]. إذا خالفوا الشرع مثل أن قالوا: اليوم لا تصلّ مع الجماعة؛ لأنه يوجد شغل هو شغل لا يحتاج لترك الجماعة ماذا نقول؟ لا سمع ولا طاعة. على كل حال: نحن نقول: إن عمر نهى باعتباره حاكمًا لا مشرِّعًا؛ لأنه خليفة رضي الله عنه، ثم هو أيضًا أحد الخلفاء الذين أمرنا باتباعهم، قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"، وقال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"، وقال -فيما ثبت في صحيح مسلم-: "إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا"، هذه مزية ليست لغيرهم. "أمهات الأولاد" من هن؟ قال العلماء: أمُّ الولد من أتت من سيدها بما تبيّن فيه خلق الإنسان، يعني: السرية التي جامعها سيدها وحملت منه ووضعت ما تبين فيه خلق الإنسان، فإن وضعت كاملا حيًّا هذه أيضًا أمُّ ولد، فإذن هي التي أتت من سيدها تبين فيه خلق الإنسان، وأقل ما يتبين فيه خلق الإنسان أربعون يومًا لا تبين قبل هذا لقوله: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك -كم هذه؟ ثمانون يومًا- ثم يكون مضغة"، يتكامل مضغة عند تمام الأربعين وهو قبل أن يكون مضغة لا يمكن أن يتبين فيه خلق الإنسان، يعني: أن تتباين أعضاؤه، وإن كان يوجد في المضغة خطوط تدل على مكان

العظام، يعني: يتكون شيئًا فشيئًا حتى يكون متميزًا، لكن المراد بخلق الإنسان الذي يتميز بحيث يرى الرأس واليد والرجل الأعضاء ترى كاملة هذا نقول: هي أمُّ ولد، فإن وضعت قبل ذلك فليست أم ولد. يقول: "نهى عن بيع أمهات الأولاد"، والذي يبيعها هو سيدها لا يجوز أن يبيعها، قال: "لا تباع"، فسر النهي فقال: "لا تباع ولا توهب"، لو أننا رجعنا إلى قواعد اللغة العربية لوجدنا أن "لا تباع" ليس فيها نهي، لماذا؟ لأنها لو كانت "لا" ناهية لجزم الفعل ولو جزم الفعل لقيل: "لا تبع" لكنه نفي بمعنى النهي، "لا تباع ولا توهب"، "ولا تورث" هنا فسّر الشيء بما هو أعّم منه يقول: "نهى عن بيع أمهات الأولاد فقال: لا تباع"، فإن اقتصر على هذا لكان المفسّر مطابقًا للمفسّر، لكنه زاد قال: "ولا توهب"، والهبة: هي التبرع بالمال بلا عوض، يعني: ولا يعطيها أحدًا بلا عوض، "ولا تورث"، يعني: لا تنتقل بالموت إلى الورثة، ماذا تكون بعد الموت؟ قال: "إذا مات فهي حرة"، فيكون هذا السيد يستمتع بها في حياته كما يستمتع بالزوجة تمامًا؛ لأنها ملك يمين، فإذا مات فهي حرة حتى وإن لم يخلف غيرها، يعني: ليست كالمدبَّر تكون من الثلث هذه تكون من رأس المال، بمعنى: أنه لو لم يخلِّف غيرها لعتقت، مثال ذلك: رجل تسرّى بأمته ثم أتت منه بالولد ثم مات فتكون هي حرة، قال الورثة: لا يمكن أن تكون حرة؛ لأنه ليس له سواها، قلنا: بلى؛ لأن سبب العتق سابق على سبب الإرث وهو الإيلاد، سبب الإرث متأخر وهو الموت، فانعقاد سبب الحرية بها سابق على الموت، وحينئذٍ تعتق كلها، فإن لم يخلف سواها. يقول: "رفعه بعض الرواة فوهم"، "رفعه"، يعني: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه واهم، والوهم هو أن يتخيل الإنسان الشيء على خلاف ما هو عليه فينطق به بلسانه أو يفعل بأركانه ما يقتضيه في ذلك الوصف هذا الوهم. إذن حكم أمهات الأولاد على ما قاله عمر أنه لا ينقل فيها الملك لا ببيع ولا هبة ولا ميراث، مع أن الميراث ملك قهري، والحقيقة أننا ينبغي أن نقف على هذه الأمثلة: البيع عقد معاوضة اختياري، الهبة عقد تبرع اختياري، الميراث انتقال ملك قهري، فذكر الأشياء كلها، يعني: لا ينقل ملكها لا بمعاوضة ولا بتبرع ولا بملك صحيح. من فوائد الحديث: جواز ذكر الإنسان والده باسمه العلم لقول ابن عمر: "نهى عمر"، وابن عمر رضي الله عنه من أشد الناس ورعًا قاله رضي الله عنه من تسمية أبيه باسمه فإنه صحيح، أي: أنه جائز ولا مانع منه، لكن كره بعض العلماء أن ينادى الإنسان أباه باسمه، يعني: لا تقول لأبيك إذا كان اسمه عبد العزيز، لا تقول: يا عبد العزيز، بل تقول: يا أبت، ولا على لغتنا القصيمية (يبت).

على كل حال: ما تقول باسمه، هل هناك مستند؟ قالوا: نعم، إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- قال لأبيه: {ياأبت} مع أن أباه كان كافرًا، قال: يا أبت أضافه إلى نفسه، والله عزَّ وجل يقول للأمة: {لَّا تجعلوا دعاء الرَّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} [النُّور: 63]. يعني: لا تنادوا محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، قولوا: يا رسول الله بالوصف، إذن فالمناداة باللقب أبلغ في الإكرام من المناداة بالاسم العلم، فلهذا تخبر عن أبيك بأنه قال كذا، لكن لا تناديه باسمه العلم؛ لأن هذه طريقة الأنبياء، إبراهيم يقول: {ياأبت}، ولأن هذا أبلغ في الإكرام. ومن فوائد الحديث: أن سنة عمر رضي الله عنه المنع من بيع أمهات الأولاد أو نقل ملكهن بهبة أو بميراث، وهو كذلك، ولكنه رضي الله عنه نهى عن هذا بمقتضى السلطة والخلافة لا بمقتضى الشرع؛ لأنه لا يشرع خلاف ما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيع أمهات الأولاد كان جائزًا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وأول خلافة عمر، لكن لما رأى الناس قد انتهكوا حرمة هؤلاء الأمهات فصاروا يبيعونهن وصبيانهن يجرون خلفهن يبكون عليهن؛ لأن أولاد أمهات الأولاد أحرار لا يمكن أن يباعوا، فإذا باع الأم بقي الأولاد مساكين ليس عندهم أم تروح بهم، فلما رأى عمر ذلك رضي الله عنه رأى من السياسة أن يمنع من بيعهن، إذن النهي عن بيع أمهات الأولاد ليس لمعنى في الأم، لكن لما يترتب عليه من التفريق بين الوالدة وولدها ويحصل بذلك من كسر قلب الأم وضياع الأولاد ما تقتضي السياسة الشرعية أن يمنع منه، ومن المعلوم أن الإنسان قد يمنع من التصرف في ماله لحق الغير، أليس قد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حجر على معاذ في ماله؟ نعم، قد مرّ علينا أن الرسول حجر عليه منعه من التصرف فيه، فما فعله عمر رضي الله عنه نوع من الحجر ليس تشريعًا عامًّا، وبناء على ذلك فلو مات ولدها يجوز بيعها؟ يجوز بيعها، وبناء على ذلك نقول: إذا مات ولدها جاز بيعها؛ لأن المنع من البيع ليس لمعنى يتعلق بالأم، ولكن لمعنى يتعلق بالأولاد مع الأم، وهذا المعنى إذا مات الأولاد زال فجاز بيعهن. ومن فوائد الحديث أيضًا: بيان فقه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه؛ لأن منع الإنسان من التصرف في ماله أمر جاءت به الشريعة، وهذا من تمام فقهه ودقة فهمه، ونظير ذلك من بعض الوجوه منعه المطلق ثلاثًا من مراجعة زوجته من أجل أن يحجر على الناس هذا النوع من الطلاق؛ لأن الإنسان إذا علم أنه إذا طلق ثلاثًا بانت منه الزوجة سوف يمسك، لكن إذا علم أنه إذا طلق قيل له: هي واحدة راجع، ما يهمه أن يطلق ثلاثًا ولا يبالي، لكن إذا منع امتنع من الطلاق الثلاث.

ومن فوائد الحديث: حسن سياسة أمير المؤمنين عمر؛ لأنه نهى عن بيع أمهات الأولاد. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن أم الولد يجوز لسيدها أن يستمتع بها ما بدا له؛ لأنها ملكه. ومن فوائده أيضًا: أن أم الولد لا تعتق بمجرد الولادة؛ لقوله: "فإذا مات فهي حرة". ومن فوائد الحديث: أن أم الولد تعتق بموت السيد، وإن لم يخلّف سواها فيكون عتقها من رأس المال لا من الإيلاد لعموم قوله: "فإذا مات فهي حرة". ومن فوائد الحديث: جواز هبة الرقيق وبيعه؛ لأنه نهى عن بيع أم الولد وهبتها، فدلّ ذلك على أن الأصل في الرقيق أن يباع ويوهب وهو كذلك. فإن قال قائل: أليس في هذا ظلم للإنسان وهضم لحقوقه؛ لأن الإنسان بشر كيف تضع القلادة في عنقه وتقول: من يسوم، فما الجواب؟ نقول: هذا الإنسان هو الذي أذل نفسه وأذل عائلته، لماذا؟ بالكفر؛ لأن سبب الرّق هو الكفر، فلما كفر صار ذليلًا، يعني: هو ذهب يتحرر من رق عبادة الله فوقع في رق عباد الله، كما أن أصل تحرره أنه تحرر من عبادة الرحمن إلى الرق في عبادة الشيطان: {ألم أعهد إليكم يابنى ءادم أن لَّا تعبدوا الشَّيطان إنَّه لكم عدوٌّ مُّبينٌ (60) وأن اعبدوني} [يس: 61]. الكفار الذين لم يعبدوا الله عبدوا الشياطين فهم مساكين ذهبوا من عبادة الخالق إلى عبادة المخلوق، ذهبوا من عبادة ولي الذين آمنوا إلى عبادة عدو الذين آمنو وهو الشيطان. ومن الفوائد: فيما ساقه المؤلف أن بعض الرواة يقع منهم الوهم، ولهذا مرّ علينا في مصطلح الحديث من أسباب ردّ الحديث الطعن في الراوي، الراوي قد يهم؛ لأن الإنسان بشر قد ينقلب عليه الحديث قد يقدم فيه ويؤخر، قد يزيد فيه قد ينقص، قد يجعله مرفوعًا وهو موقوف أو موقوفًا وهو مرفوع. ولكن ما الميزان الذي نزن به أوهام الرواة وعدم أوهام الرواة هذا مشكل؟ نقول: الشريعة -ولله الحمد- فيها قواعد ثابتة ونصوص قوية واضحة، فما جاء مخالفًا لهذه النصوص القوية الواضحة فنحن نحكم عليه بالوهم والشذوذ مثل ما قال أهل العلم يشترط لصحة الحديث ألا يكون معللًا ولا شاذًّا، فإذا جاءنا راوٍ ثقة لكن مخالف لمن هو أرجح منه إما بالعدد، وإما للحفظ وإما في العدالة نقول في حديث هذا الرجل: إنه شاذ إذا جاء الحديث من رجل أوله وآخره متناقضان عرفنا أن الراوي لم يضبط ومنه -على ما اختاره ابن القيم وأنا اختاره أيضًا وإن كان لا نسبة بيني وبينه- حديث: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه"، فإن هذا الحديث متناقض أوله وآخره على هذه

الصورة؛ لأن أوله: "إذا سجد فلا يبرك كما يبرك البعير"، والبعير إذا برك يقدم يديه لا شك، فإذا قال: "وليضع يديه قبل ركبتيه" صار متناقضًا للأول نعرف أنه وهم، لماذا لا نجعل الوهم في الأول ونقول: "وليضع يديه قبل ركبتيه" هذا هو المحفوظ؟ نقول: لأن الشارع جرت عادته بالنهي عن التشبه بالحيوان، قال: "لا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب"، "لا يلتفت كالتفات الثعلب"، "لا ينقر كنقر الغراب"، فإذن عرفنا أن الأول هو الثابت والثاني منقلب وأن صوابه: "وليضع ركبتيه قبل يديه"، لكن يأتينا رجل من أجهلكم بلغتك فيقول: ركبة البعير في يديه، فإذا قال: "لا يبرك كما يبرك البعير" معناه: لا يبرك على ركبتيه فيكون أنتم جاهلون بلغتكم، ثم إذا حملنا الحديث على هذا المعنى ما صار فيه تناقض اتفق أوله وآخره فليكن هذا هو الحق، قلنا: هذا صحيح نحن معك في أن ركبتي البعير في يديه ولا أحد ينكر هذا، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم وفصاحة اللسان ونصاعة البيان قال: "فلا يبرك كما يبرك"، ولم يقل: فلا يبرك على ما يبرك، لو قال: لا يبرك على ما يبرك عليه البعير، لقلنا: هذا صحيح لا يبرك على الركبتين، لكن قال: "كما يبرك" والكاف للتشبيه، فالمراد: أن تكون هيئته عند السجود كهيئة البعير عند البروك، أما نفس العضو المبروك عليه فهذا ما تعرض إليه الحديث، أنا أقول هذا من أجل أن الإنسان عندما تأتيه مثل هذه الأحاديث عليه أن يقيسها بالأحاديث الأخرى الثابتة التي تعتبر في السُّنة إبانًا، لو جاءنا حديث رواه أبو داود يخالف ما رواه البخاري ومسلم مخالفة لا يمكن الجمع فيه فنقدم ما رواه البخاري ومسلم، فلهذا المؤلف رحمه الله يقول: "رفعه فوهم"، إذن الوهم يجري على الرواة ولا شك ونحن ننظره في أنفسنا دائمًا، نتوهم بما ندركه بالسمع وبما ندركه بالبصر وبما ندركه بالقلب، الوهم جارٍ على ابن آدم في كل الحواس. 759 - وعن جابرٍ رضي الله عنه قال: "كنَّا نبيع سرارينا، أمَّهات الأولاد، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حيٌّ لا يرى بذلك بأسًا". رواه النَّسائيُّ، وابن ماجه والدَّارقطنيُّ، وصحَّحه ابن حبَّان. "السراري" جمع سريَّة، وهي الأمة التي يطأها سيدها، قد تلد منه وقد لا تلد، قد تلد كما حصل لمارية القبطية رضي الله عنها حيث تسرَّاها النبي صلى الله عليه وسلم فأتت منه بولد وهو إبراهيم، وقد لا تلد، ولكنَّ جابرًا رضي الله عنه يقول: "أمهات الأولاد"، فصرّح بأنها أم ولد، وأنهم كانوا يبيعونها والنبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ لا يرى بذلك بأسًا، وهذا إقرار من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان قد علم بذلك، أو من الله إن كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم؛ لأن الله إذا لم ينزل الإنكار على عمل عمل في عهد نزول الوحي دلّ هذا على الجواز فيه.

النهي عن بيع فضل الماء وعسب الفحل

إذا قال قائل: كيف نجمع بين هذا الحديث الذي فيه جواز بيع أمهات الأولاد بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم مع إقرار الله إياه وبين نهي عمر؟ نقول: الجمع بينهما ظاهر؛ لأنه لا معارضة في الواقع، فبيعهن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن هناك تفريق، والنهي في عهد عمر إذا كان هناك تفريق، وعليه فما دام الجمع ممكنًا فإنه يجب المصير إليه ولا يعارض هذا بهذا ما دام قد حصل إمكان الجمع، فنقول: ما جاء فيه سنة من جواز بيع أم الولد فإنه محمول على ما إذا لم يكن هناك تفريق، وأما إذا كان تفريق كما ذهب إليه عمر رضي الله عنه فلا بيع إذا أتت بولد ومات تباع؛ لأنه ليس هناك تفريق، كذلك إذا أتت بولد وبيع الولد معها لا تباع؛ لأن أم الولد من جاءت بولد من سيدها، أما لو كان من غير سيدها فيجوز أن تباع معه لكن من السيد لا يمكن أن يباع الولد مع أمه لأنه حر. خلاصة هذه المسألة أن نقول: إذا كان بيع الأم يستلزم التفريق بينها وبين أولادها فالبيع حرام وفاسد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التفريق بين الوالدة وولدها، وإذا كان لا يستلزم ذلك فلا بأس به، فعلى الثاني يحمل ما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الأول يحمل ما كان في عهد عمر، إذن أمُّ الولد حكمها حكم الإيماء في الاستمتاع والحلّ للسيد، وحكمها حكم الحرة باعتبار نقل الملك فيها؛ لأنه لا يجوز فيها نقل الملك. أما حديث جابر فأظن أن فوائده قليلة؛ لأنه يستفاد منه: أن بيع أمهات الأولاد جائز على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ويستفاد منه أيضًا: أن الحكم يتغير بتغير الأحوال، إذا وجد مقتضى يقتضي تغيير الحكم الأول فلا بأس به، وأما تغيير الحكم إلى شرع جيد على وجه مستقل فهذا لا يمكن بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا وجد سبب يقتضي تغيير الحكم فإن هذا يجوز، إذ لا بأس أن تتبع هذه المصلحة، ولكنه كما قلت: ليس هذا تغييرًا للحكم على سبيل الاستمرار ورفع الحكم الأول؛ لأنه لا نسخ إلا بالكتاب والسنة إنما تغيير الحكم لمقتضى اقتضاه على وجه مؤقت لا على وجه دائم. النهي عن بيع فضل الماء وعسب الفحل: 760 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء". رواه مسلمٌ. - وزاد في روايةٍ: "وعن بيع ضراب الجمل". النهي -كما سبق- طلب الكف على وجه الاستعلاء، وقوله: "عن بيع فضل الماء" "فضل" يعني: زيادة، أي: ما زاد على قدر الحاجة فإنه لا يجوز بيعه إنما نصّ على ذلك؛ لأن الغالب أن الإنسان لا يبيع إلا ما زاد على حاجته، أما ما تعلقت به حاجته فإنه لا يبيعه.

وقوله: "عن بيع فضل الماء" ما المراد بهذا الماء؟ المراد به شيئان: الشيء الأول: ما اجتمع بفعل الله عزَّ وجل في أرض من الأراضي كالغدران التي تجتمع من السيول، فهذا لا يجوز لأحد أن يستولي عليه بأن يبيعه على الناس، يعني: لو أن رجلًا جاء إلى غدير ثم تحجّره وصار يبيعه على الناس هذا حرام؛ لأن هذا الماء ليس من فعله، والناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار، فلا يجوز أن يبيعه، الوجه الثاني: أن يحفر الإنسان بئرًا فيصل إلى الماء، فهنا لا يجوز أيضًا أن يبيع نقع البئر؛ لأن نقع البئر من فعل الله هو الذي جمع هذا الماء في البئر فليس من صنعه، غاية ما فعلت أنك حفرت حتى وصلت إليه، أما الذي سلك الينابيع في الأرض وهو الله فلا يحلّ لك أن تبيعه؛ لأنك أنت والناس فيه على حدٍّ سواء، صحيح أنك أنت أحق به، ولهذا قال: نهى عن بيع فضله، أنت أحق به لا أحد يزاحمك إذا كنت محتاجًا إليه، لكن إذا لم يكن هناك حاجة فإنه لا يجوز لك أن تبيعه، هناك شيء ثالث للماء وهو أن تحوزه، يعني: تخرجه من الأرض وتحوزه في بركة أو تحوزه في إناء -مجمع يسمونه حوضًا أو خزانًا أو ما أشبه ذلك- فهذا ملكك، لك أن تبيعه؛ لأنك حزته في أمر يختص بك وجمعته في هذا الوعاء، ويدل لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار"، وقال: "لأن يمد أحدكم حبله فيحتطب فيأتي به ويبيعه خير من أن يسأل الناس"، والناس في الحطب شركاء، لكن هذا احتطبه وملكه عادة ثم جاء يبيعه فأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم فهذا مثله، فصار الآن ثلاثة أوجه: وجهان ممنوعان ووجه جائز، الوجهان الممنوعان: ألا يحوز الإنسان في إناء وشبهه، ويكون حصول الماء بغير فعله مثل الغدير والشّعاب، وكذلك أيضًا نقع البئر؛ لأن الذي جمع الماء حتى صار في هذا المستقر هو الله عزَّ وجل، هذان الوجهان لا يجوز فيهما البيع، أما الوجه الثالث -وهو بعد أن تحوز الماء في رحلك في إناء- فلك أن تبيعه. إذا قال قائل: في الوجهين الأولين: هل يجوز أن أمنع الماء؛ أي: أقول لأي إنسان: لا تدخل إلى هذا الغدير لتشرب منه؟ نقول: لا يجوز أن تمنع الناس؛ لأنهم شركاء لك في هذا الماء إلا بشرط أن يلحقك بهذا ضرر، بماذا؟ إما أن يدوسوا زرعك أو يطلعوا على عوراتك أو يأخذوا الماء كله على وجه يضرك وينقصك فحينئذٍ لك أن تمنع، فإذا خشيت الأذى أو الضرر فلك أن تمنع، لكن في الحال التي لا يجوز لك أن تمنع هل يجب استئذانه، وإذا استأذنه فهل يجب عليه الإذن؟ قال بعض أهل العلم: إنه لا يلزم استئذانه، وعليه فلك أن تدخل أذن أو لم يأذن، فإذا رأيت هذا

الغدير في أرض هذا الرجل فأدخل إبلك ولتشرب منه، سواء استأذنت أم لم تستأذن، فإن استأذنت ولم يأذن فهل لك أن تدخل قهرًا؟ فيه قولان: القول الأول: أنك لا تدخل؛ لأنه ملكه، والقول الثاني: تدخل؛ لأن لك الحق في أن تشرب هذا الماء، ولو قلنا: إن الأمر يتوقف على إذنه لم يكن لقولنا: إنه يحرم عليه المنع فائدة بالنسبة للداخل. إذن السؤال الآن هل يجوز -في الحال التي لا يجوز فيها بيع الماء- أن يمنع الداخل إلى ملكه لشرب الماء؟ أقول إذا كان فيه ضرر أو أذى، فالضرر مثل أن يداس زرعه ويؤكل ثمره فله أن يمنع، والأذى مثل أن يطلع الناس على عوراته -نسائه وأولاده وحوائجه مكشوفة- ولا يحب أن يطلع أحد عليها فله أن يمنع، أما إذا لم يكن هناك مسوغ للمنع فالصحيح أنه لا يجوز له أن يمنع، وأما استئذان الداخل فنقول: إنه لا يلزمك أن تستأذن إلا إذا كنت تخشى الفتنة مثل لو دخل وجاء صاحب الأرض حصل فتنة من قتال أو نحوه، فحينئذٍ نقول: لا تدخل حتى تستأذن خوفًا من الفتنة. والثاني: قال: "وعن بيع ضراب الجمل"، وهو عسب الجمل؛ يعني: إنسان عنده جمل يضرب الناقة، يعني: يعلو عليها من أجل تلقيحها، نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الفحل، فإذا كان عندك جمل وجاءك صاحب ناقة يطلب منك أن تضرب الجمل هذه الناقة، تقول: لا مانع، لكن كل تلقيحة بمائة، فلا يجوز هذا؛ لأنه حرام عليه. فإن قال صاحب الجمل: إن الضراب يضرُّ جملي، فما الجواب؟ نقول: ليس يضر، هل إضرابك امرأتك يضرُّك؟ لا يكون ضرر في ذلك أبدًا، بل إنه أمر يسرُّك، اترك هذا الجمل أيضًا كذلك، فهو لا يضره في الواقع، لكن إن قال: إنه يضره من جهة أخرى تتعلق نفسه بالإبل بالنوق ويتعبه وهذا مشاهد في الحمر، فالحمار إذا عوّد لا يعود، يعني: إذا عوّده صاحبه إذا رأى أنثى يمكن أن يسقط ما على ظهره ويذهب إليها، فإذا قال: أنا أخشى من التضرر بهذا، فإننا نقول: هذا أمر بينك وبين ربك إن كان هذا حقيقة فلك الحق وإن لم يكن حقيقة وإنما تريد أن تعلل عن منع ما يجب عليك فهذا لا يحل لك على أن موضوع الحمير يختلف عن موضوع الجمال لأن مني الحمار نجس خبيث لا يجوز بيعه بخلاف ضراب الجمل. لو قال صاحب الجمل: إن جملي هزيل ويضرّه الضّراب، ماذا نقول؟ في هذه الحال لا يلزمك، لكن هذا لا يبرر لك أخذ العوض عنه، نحن نقول: إما أن يكون على الجمل ضرر أو عليك أنت ضرر باستخدام الجمل بعد أن يضرب فلك أن تمنع إذا لم يكن ضرر لا على الجمل ولا عليك فلا يجوز أن تأخذ عوضًا، والكلام الآن في أخذ العوض. فإن قال قائل: لماذا نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: لأن هذا فيه نوع من المضارة والحسد؛ لأنه إذا كان الجمل لا يتضرر وصاحب الجمل لا

يتضرر ولكنه أبى علم بأنه مضار وحاسد ومانع للفضل ومضرٌّ باقتصاد الأمة؛ لأن الأمة كلما كثر النماء في مالها ازدادت قوة، فلهذا منع منه الشارع، أي: منع من عوضه، ونظير ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"؛ لأن غرز الخشبة في الجدار منفعة للجار ولا ضرر عليك أنت، قال أبو هريرة: "ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم"، قاله وكان أميرًا على المدينة، يقول: إذا لم تسمح للخشب أن يوضع على الجدار وضعته على كتفك، وهذا نظير قول عمر في محمد ابن مسلمة لما منع جاره أن يجري الماء على أرضه إلى الجهة الأخرى كانت أرض بين أرضين جاره فطلب هذا صاحب الأرضين أن يجري الماء من أرض إلى أرض مارة بأرض محمد بن مسلمة وقال: أنا أجري الماء على الأرض وأنت انتفع بالماء، قال: لا، فترافعا إلى عمر، قال عمر: والله لأجرينه ولو على بطنك؛ لأنه مضار، ومثل هذا أيضًا نفسه ضراب الجمل فإنه لا يجوز. من فوائد الحديث: أولًا: النهي عن بيع فضل الماء، وهو ما زاد عن حاجة الإنسان من الماء الذي لم يدخل في ملكه؛ لأن ما دخل في ملكه فهو يتصرف فيه كما يشاء. وفيه أيضًا: دليل على أنه لو باعه فالبيع غير صحيح والثمن يرد على المشتري؛ لأن ما يقع النهي عنه بعينه فإن النهي فيه للفساد؛ لأن تصحيحه مضادة لحكم الله ورسوله، فالنهي عنه يراد شرعًا إنقاذه وعدم الاعتداد به، فإذا صححناه فقد خالفنا مقصود الشارع. وفيه دليل على تحريم بيع ما يحتاج إليه الإنسان من الماء، لماذا؟ لأن التقييد بالفضل بناء على الغالب، وقد قال علماء الأصول: إنما جيء بع مقيدًا باعتبار أمر الغالب، فإنه ليس له مفهوم، ومثلوا لذلك بأمثلة، منها قوله تعالى: {وربائبكم الَّتى فى حجوركم ... } [النِّساء: 23]. فإن قوله: {الَّتى فى حجوركم} بناء على الغالب، وإلا فقد لا تكون في حجره، وكذلك: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصُّنا} [النُّور: 33]. لأن هذا هو الغالب، والإكراه لا يجوز سواء أردن التحصن أم لم يردن التحصن. فإذا قال قائل: إذا حازه الإنسان وملكه فهل يجوز بيعه؟ إن نظرنا إلى ظاهر الحديث قلنا: لا يجوز؛ لأنه عام، وإن قسنا على الحطب الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لأن يمد أحدكم حبله فيحتطب فيبيع خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"، فإنه يدل على أن الماء إذا حازه الإنسان فهو له، كما أن الإنسان إذا حاز الحطب ملكه مع أن الناس شركاء فيه أيضًا.

وهل يستفاد من الحديث: تحريم منع المنتفع بفضل الماء من الانتفاع به؟ الجواب: نعم، لو أراد الإنسان أن ينتفع بفضل الماء الذي في أرضك سواء كان نقع بئر أم ما جمعت السيول فإنه ليس لك الحق في منعه؛ لأن الشارع ما نهى عن البيع إلا لأجل أن ينتفع الناس كلهم بهذا الماء، فإن قال قائل: أرأيتم لو كان في دخوله لأخذ الماء ضرر على صاحب الأرض؟ قلنا له في هذه الحال أن يمنعه؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، لو فرضنا أن المتضرر يحتاج إلى ماء فإنه لا يزال ضرره بضرر الآخر، فإن قال قائل: إذا كان قد حازه واضطر الإنسان اضطرارًا إليه فهل يجوز أن يبيعه، إنسان معه ماء في قربة وهناك رجل مضطر إلى الشرب فهل يجوز لصاحب القربة أن يبيع عليه الماء؟ الجواب: لا؛ لأنه يجب عليه إنقاذه من الهلاك وإذا وجب إنقاذه فالواجب لا يؤخذ عليه عوض، أما لو جاء إليك يساومك وهو في حاجة لا في ضرورة فلك أن تبيع عليه بما تريد. ومن فوائد الحديث: النهي عن بيع ضراب الجمل، ويتفرع عليها: أنه لو باع ذلك فإن البيع لا يصح؛ لأنه مما وقع النهي عنه بعينه، والمنهي عنه بعينه لا يصح بيعه. ومن فوائد الحديث: حكمة الشرع في أن الأمور التافهة التي يجري بذلها دائمًا وغالبًا لا يرى لها ثمنًا ولا أجرة، لقوله: "نهى عن بيع ضراب الجمل"، فإن أبى صاحب الجمل أن يبذله إلا بأجرة أو بيع، قلنا في الجواب: إن له أن يأخذه بأجرة ويكون الآثم صاحب الجمل؛ لأن هذا يريد أن يتوصل إلى شيء محتاج إليه، فيكون الإثم على صاحب الجمل. 761 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل". رواه البخاريُّ. "نهى عن عسب الفحل"، "العسب" قيل: إنه الماء الذي يلقَّح به، وقيل: إنه الضِّراب، يعني: نزو الذكر على الأنثى، ولا شك أن نزو الذكر على الأنثى كالجمل والتَّيس والثور يراد به: الماء، فهو وسيلة وليس بمقصود، فسواء فسرناه بأنه النَّزو أو فسرناه بأنه الماء نفسه فهو يدل على النهي عن عسب الفحل. هل المراد بيعه أو إجارته؟ الحديث مطلق، ما فيه البيع ولا فيه الأجرة، وحديث جابر الذي رواه مسلم يدل على أن المراد به: البيع، ولكن الحقيقة حتى لو قلنا: إن المراد به البيع فإنه شبيه بالأجرة؛ لأن هذا الماء ليس يجعل في الأواني ويباع، لكنه يتكون من نزو الذكر على الأنثى فيتكون هذا الماء ويخرج من هذا النّازي إلى رحم الأنثى بدون واسطة فهو شبيه بالأجرة، ولهذا نقول: إن النهي عن "عسب الفحل" يشمل البيع ويشمل الأجرة.

الإجارة تأتي على وجهين: الوجه الأول: أن يستأجره لضرابه لمرة واحدة فهذا حرام؛ وذلك للجهالة والغرر، ولأنه لا يدري ماذا تكون النتيجة من هذه النّزوة. والوجه الثاني: أن يستأجره لأيام فيقول: أجِّر لي فحلك لمدة أسبوع فيؤجِّره سواء أضرب أم لم يضرب، فقيل: إن ذلك لا يصح؛ لأن هذا المستأجر إنما استأجره للضَّراب وهذا الفحل ربما يضرب وربما لا يضرب، لا ندري متى يضرب، ولا ندري أيضًا متى تكون الإناث تريده، فالمقصود بالعقد أمر مجهول فلا يصح ولا شك أن الوجه الأول -وهو أن يستأجره لإضرابه مرّة- لا يجوز؛ لأن الأجرة لا تصح فيه وذلك لجهالة العوض المعقود عليه، وأما الثاني فهو محل نظر، فقد أجازه بعض أهل العلم وقال: إن هذا الذي استأجره أهم شيء عنده أن يضرب ولو مرة أو مرتين وليس بلازم عنده أن يضرب دائمًا، ولكن لا شك أن فيه جهالة، وأن ظاهر الحديث النهي عنه، وعلى هذا فلا يجوز استئجار الفحل للضراب لأيام معدودة ولا نزوات معدودة معلومة، وذلك من أجل الجهالة. ومن فوائد هذا الحديث والذي قبله: حرص الشارع على حماية الأموال وألا تبذل إلا في أمر تتحقق فيه فائدة، أما الأمور التي ليس فيها فائدة أو الأمور التي فيها مضرة فإن الشارع ينهى عن بذل المال فيها ولهذا عدَّه أصول في الشرع، منها قوله تعالى: {ولا تؤتوا السُّفهاء أمالكم الَّتى جعل الله لكم قيامًا} [النِّساء: 5]. فبيَّن الله سبحانه الحكمة من هذه الأموال أنها قيامًا للناس تقوم بها مصالح دينهم ودنياهم، وثبت في الحديث الصحيح عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن إضاعة المال، وهذه الأحاديث وأشباهها كلها تدل على حماية الشرع للأموال وعنايته بها. ومن فوائد الحديث: استبعاد الشرع عن كل ما يحدث الندم أو النزاع أو العداوة، كيف ذلك؟ لأن النهي عن هذه البيوع إنما كان لحكمٍ منها: ألا يحصل للإنسان ندم، افرض أنك استأجرت فحلًا لينزو على أنثى عندك فنزع فلم تلقح يحصل تنازع، كل ما يحدث الندم للإنسان فإن الشرع يأمرنا بالابتعاد عنه، ولهذا أيضًا أصول منها: أن الله سبحانه قال: {إنَّما النَّجوى من الشَّيطان ليحزن الَّذين ءامنوا وليس بضارِّهم شيئًا إلَّا بإذن الله} [المجادلة: 10]. والله تعالى إنما أخبرنا بذلك من أجل أن نتجنب هذا الشيء ليس مجرد إخبار أن الشيطان يريد- إحزاننا لا، المراد: أن نبعد عن كل ما يحزن، ولهذا قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه"، فكل ما يجلب الحزن للإنسان فهو منهي عنه، ثانيًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من

رأى رؤيا يكرهها أن يتفل عن يساره ثلاث مرات، ويستعيذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، وينقلب إلى الجنب الثاني، ولا يخبر بها أحدًا، ويتوضأ ويصلي، كل هذا من أجل أن يطرد الإنسان عن هذه الأمور التي تأتي بها هذه المراتب، ولهذا قال الصحابة: لقد كنا نرى الرؤيا فنمرض منها فلما حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث؛ يعني: استراحوا ولم يبق لهم همُّ، فكل شيء يجلب الهم والحزن والغم فإن الشارع يريد منا أن نتجنبه، ولهذا قال الله تعالى: {فمن فرض فيهنَّ الحجَّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجِّ} [البقرة: 197]. لأن الجدال يجعل الفرد يحتمي ويتغير فكره من أجل المجادلة سيحصل له همٌّ ويلهيه عن العبادة، المهم اجعل هذه نصب عينيك دائمًا؛ أي: أن الله عزَّ وجل يريد منك أن تكون دائمًا مسرورًا بعيدًا عن الحزن، والإنسان في الحقيقة له ثلاث حالات: حالة ماضية، وحالة حاضرة، وحالة مستقبلة، الماضية يتناساها الإنسان وما فيها من الهموم؛ لأنها انتهت بما هي عليه إن كانت مصيبة فقل: "اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها" وتناسى، ولهذا نهى عن النياحة، لماذا؟ لأنها تجدد الأحزان وتذكر بها، الحالة المستقبلة علمها عند الله عزَّ وجل، اعتمد على الله، وإذا جاءتك الأمور فاضرب لها الحل، لكن الشيء الذي أمرك الشارع بالاستعداد له فاستعد له، والحال الحاضرة هي التي بإمكانك معالجتها، حاول أن تبتعد عن كل شيء يجلب الهم والحزن والغم لتكون دائمًا مستريحًا منشرح الصدر مقبلًا على الله وعلى عبادته وعلى شئونك الدنيوية والأخروية، فإذا جربت هذا استرحت، أما إن أتعبت نفسك مما مضى أو بالاهتمام بالمستقبل على وجه لم يأذن به الشرع فاعلم أنك ستتعب ويفوتك خير كثير. 762 - وعنه رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعًا يبتاعه أهل الجاهليَّة: كان الرَّجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج النَّاقة، ثمَّ تنتج الَّتي في بطنها". متَّفقٌ عليه، واللَّفظ للبخاريِّ. "حبل" بمعنى: حمل، والحبلة بمعنى: الحوامل؛ لأن حبلة جمع حابل ككامل وكملة، وساحر وسحرة، وكاهن وكهنة، إذن حبلة جمع حابل، والحبل هي الأنثى الحامل، ولا تلحقها التاء؛ لأن الوصف الذي من خصائص الأنثى لا يحتاج إلى تاء، إذ إن التاء يؤتى بها للفرق بين المذكر والمؤنث، وما كان خاصًّا بالمؤنث فليس بحاجة إلى أن يؤتى بالتاء الفارقة، ولهذا يقال: حائض، ولا يقال: حائضة، ويقال: مرضع، ولا يقال: مرضعة، وحينئذٍ نحتاج إلى الجواب عن قوله

تعالى: {يوم ترونها تذهل كلُّ مرضعةٍ عمَّا أرضعت} [الحج: 2]. قال العلماء: لأن المرضعة ليس المراد بها: الوصف، بل المراد بها: الفعل؛ يعني: تذهل التي ترضع وولدها في ثديها تذهل عنه، بخلاف المرضع التي من وصفها الإرضاع لكن ما معها ما ترضعه هذه ما معها أحد حتى نقول: إنها ذهلت عنه. على كل حال: الحبلة جمع حابل، وهل ورد في اللغة العربية أن يجمع حابل على فعلة مثل ساحر وسحرة، وكاهن وكهنة، وكامل وكملة، "حبل الحبلة"، إذا أخذنا بطاهر اللفظ فإن ظاهر اللفظ يحتمل وجهين: الوجه الأول: أن يكون المراد به: بيع حمل الحوامل، يعني: حمل الأنثى الحامل، فيكون النهي عن بيع الحمل في البطن، ويحتمل وجه آخر: وهو النهي عن بيع حبل الحبلة؛ أي: حمل الأحمال، فيكون النهي عن بيع حمل الحملة، إذا وضع وكان أنثى وحملت فينتهي عن بيع ولدها، أي: عن بيع حمل الحملة، هذا الحمل الذي في البطن، ويلزم على هذا التقدير أن يكون الحمل الذي في البطن أنثى ثم تحمل ثم نبيع حملها. [إعادة شرح]: الأول هذا للحبلة، يعني: حمل الحوامل، يعني: بيع الحمل في بطن الأم، وهل يقال: حمل الحوامل الثاني عن حمل المحمول؛ لأن حمل الحمل، يعني: المحمول، وعلى هذا الوجه يكون أن تبيع حمل الحمل الذي في البطن، فنقدر أن هذا الحمل الذي في البطن أنثى ثم تحمل ثم يبيع حملها، ولنفرض أن عند الإنسان شاة اسمها هيلة وفيها حمل فأبيع الحمل الذي في بطن هيلة هذا لا يجوز، وهذا هو الوجه الأول، الوجه الثاني: أن أبيع حمل الذي في بطن هيلة، والذي في بطنها ولدت وسميناها "ربية" فأبيع حمل ربية هذا لا يجوز، ما وجه المنع على الوجه الأول؟ الجهالة فهي ظاهرة، هذا الحمل الذي في البطن لا ندري أذكر هو أم أنثى، لا ندري أواحد أم متعدد، لا ندري أيخرج حيًّا أم ميتًا؟ هذه ثلاثة احتمالات كلها غرر، لهذا ينهى عن بيع الحمل، إذا كان حمل "ربية" صار أشد؛ لأنا لا ندري هل الذي في بطن هيلة ظبية أم ظبيان، لا ندري أذكر أم أنثى، ثم على تقدير أنه أنثى لا ندري أنها أيضًا إذا حملت هل تكبر أو لا تكبر، وتأتي بولد أو تحمل، وإذا حملت جاءت الاحتمالات الواردة في بطن الأم حي أو ميت، ذكر أم أنثى، واحد أم متعدد، إذن العلة هي الجهالة -جهالة المبيع-، فيه وجه آخر: وهو الذي فسره -إما ابن عمر أو نافع-: "وكان بيعًا يبتاعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها"، أولًا ننظر في الجملة: "وكان بيعًا يبتاعه أهل الجاهلية" نسبوا إلى الجاهلية؛ لأن سلوكهم كله مبني على الجهل، وعلى هذا فيقال: أهل النهجة الجاهلية أو الملة الجاهلية. وقوله: "كان الرجل يبتاع الجزور"، الجزور هي البعير سواء كان ذكرًا أم أنثى، صغيرًا أم كبيرًا.

وقوله: "إلى أن تنتج الناقة"، كيف نعرب الناقة؟ "الناقة" فاعل، "تنتج" فعل مضارع مبني للمجهول صورة وهو للفاعل حقيقة، يقولون: هذا الفعل لم يبن للفاعل؛ أي: أن العرب ما بنته للفاعل أبدًا، إنما تبنيه للمفعول، لكن المعمول بعده يكون فاعلًا، وهذا يلغز به، يقال لنا: فعل مضارع مضموم الأول مفتوح ما قبل الآخر -على صيغة المبني للمجهول- وما بعده فاعل، يقال: نتجت الناقة، فـ"الناقة" فاعل، ويوجد كتيِّب صغير مؤلف اسمه: "إتحاف الفاضل للفعل المبني لغير الفاعل" ذكر فيه ما بلغه علمه من الأفعال التي وردت عن العرب مبنية لغير الفاعل والمعمول فيها فاعل. يقول: "وكان بيعًا يبتاعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها"، البيع واقع على شيء معلوم ولكن إلى أجل مجهول، يقول: "إلى أن تنتج الناقة"، يعني: تلد ثم تنتج التي في بطنها، يعني: تلد، وإنتاج الناقة مجهول، إنتاج التي في بطنها أجهل، ولكن ما المؤجل في هذا البيع؟ هل المؤجر البيع، بمعنى: أني أبيعه عليك هذه المدّة فيكون حقيقة الأمر أنه إجارة إلى زمن مجهول، والإجارة تسمى بيعًا، أو أن المعنى: يباع بثمن ويجعل أجل الثمن إلى هذه المدة المجهولة؟ كلاهما صحيح، يعني: أحيانًا يؤجلون البيع نفسه، يعقدون البيع بأن يقول أحدهم: بعتها عليك إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها قد تكون مدة البيع عشرة أشهر أو عشرين شهرًا وقد تكون عشر سنين، لا يدرى متى تنتج الناقة، ومتى تنتج التي في بطنها، هذا إذا قلنا: إن البيع مؤجل نفس البيع، وقد يكون المراد: أنه يؤجل الثمن، بمعنى: أنه باع عليه شيئًا، كأن يكون قد باع عليه الجزور تامًّا مؤبدًا، لكن الذي يؤجل هو الثمن، يقول: لا تسلمني الثمن إلا بعد أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها وكلاهما مجهول، فالبيع إذن غير صحيح، فصارت المسألة لها أربع صور: الصورة الأولى: أن يبيع حمل الناقة. والصورة الثانية: أن يبيع حمل حمل الناقة، وهذا يعود إلى جهالة معقود عليها. الصورة الثالثة: أن يؤجل المبيع، يعني: يؤجل المدّة التي يكون فيها الشيء ملكًا للمشتري، إلى متى؟ إلى أن تنتج الناقة أو تنتج التي في بطنها هذه فيها تداخل، أحيانًا يبيعونه على أن تنتج الناقة، وأحيانًا إلى أن تنتج التي في بطنها أبعد. الصورة الرابعة: أن يكون البيع معددًا ولكن الثمن مؤجل بأجل مجهول، إلى أن تضع الناقة أو إلى أن تضع التي في بطنها، وهذا كله مجهول ويؤدي إلى التنازع وإلى الغرر وإلى الندم.

يستفاد من حديث عبد الله بن عمر: النهي عن بيع الحمل، والحكمة في ذلك لأنه مجهول فلا يدري أيكون ذكرًا أو أنثى، واحدًا أو متعددًا، حيًّا أو ميتًا، وعن حمل حمل الحمل وهو أيضًا معدوم ومجهول، وهو أشد من بيع الحمل نفسه، هل يقاس على ذلك بيع الحامل بحملها؟ الجواب: لا؛ لأن الحمل حينئذٍ تبع، فإذا كان تبعًا فإنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا، ونظيره لو باع اللبن في الضرع لم يصح، ولو باع شاة فيها لبن صح. ومن فوائد الحديث: النهي عن كل ذي جهالة سواء كان في عين المبيع أم في ثمن المبيع أم في الأجل بالقياس على حبل الحبلة. ومن فوائد الحديث: بيان ما كان عليه أهل الجاهلية من المعاملات الفاسدة لقوله: "وكان بيعًا يبتاعه أهل الجاهلية". ومن فوائد الحديث: أنه إذا وجدت معاملة في الجاهلية ولم ينكرها الشرع فهي جائزة؛ لأن سكون الشرع عنها بدون إنكار يدل على إقرارها، ومن ذلك على رأي كثير من أهل العلم "المضاربة"، فإن الضاربة لم يأت فيها نص صريح في الإسلام لكنها كانت معروفة في الجاهلية فأقرها الإسلام ولم ينه عنها، والمضاربة: هي أن تعطي شخصًا مالًا يتَّجر به وما حصل من الربح فهو بينكما على حسب ما تشترطانه وهي جائزة. ومن فوائد الحديث: أنه يشترط أن يكون الثمن معلومًا والمبيع معلومًا وأجَّل الثمن إذا كان مؤجلًا أن يكون معلومًا، أما الأول والثاني -وهو اشتراط علم المبيع وعلم الثمن- فهذا ظاهر، وأما اشتراط علم الأجل فقد ذكر أهل العلم أنه ليس شرطًا للصحة، فيصح البيع ولكن لا يصح الشرط، فيكون الثمن حالًا؛ يعني: أنه إذا أجَّل الثمن إلى أجل مجهول مثل أن يقول: بعتك هذا الشيء بمائة ريال، فيقول: اشتريت إلى أن يقدم زيد، الأجل هنا مجهول لا ندري متى يقدم، يقول العلماء: الشرط فاسد والبيع صحيح؛ وذلك لأن البيع لم يتضمن نهيًا يعود إلى ذاته ولا إلى شرطه إنما الغرر في جهل التأجيل، وحينئذٍ نقول: إذا فسد الشرط -أعني: شرط التأجيل- يبقى البيع حالًا؛ لأن التأجيل فسد إذا صار حالًا وقال البائع للمشتري أعطني الثمن قال: ألسنا قد أجّلناه إلى أن يحضر زيد؟ قال: نعم ولكن هذا الأجل مجهول فهو باطل، نقول:

النهى عن بيع الولاء وهبته

للمشتري حينئذٍ الخيار؛ لأنه إنما اشترى على أن الثمن مؤجل، فإذا تبين أن الأجل فاسد قيل له: لك الخيار إن شئت الآن انقد الثمن، وإن شئت فافسخ البيع، فإن قال: أنا أريد أن أمضي البيع وأجعل الأجل معلومًا، فأقول: اشتريته بكذا إلى مدّة سنة، قلنا: هذا عقد جديد إن رضي البائع وإلا فلا. النهى عن بيع الولاء وهبته: 763 - وعنه رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء، وعن هبته". متَّفقٌ عليه. "الولاء"، يعني بذلك: ولاء العتق، وسبق أن الولاء عصوبة تثبت للمعتق وعصبة المتعصبين بأنفسهم، يعني: إذا أعتقت عبدًا صار لك ولاؤه، ترثه إذا لم يوجد عاصب من النسب، ولا صاحب فرض يستغرق، وكذلك تتولى ما يتولاه العاصب بالنسب إذا عدم العاصب بالنّسب، وسبق لنا أن الولاء يكون لمن أعتق، فلا يجوز لمن له الولاء أن يبيعه، فلو أن رجلًا أعتق عبدًا أو جاء إنسان آخر وقال بع عليّ ولاءك الذي ثبت لك إعتاق هذا الرجل فإن البيع لا يجوز، إذا قال قائل: لماذا لا يجوز؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الولاء لحمة كلحمة النَّسب"، يعني: التحام بين الناس كلحمة النّسب، فكما أن الإنسان لا يجوز أن يبيع نسبه فكذلك لا يجوز أن يبيع ولاءه، لو جاء شخص لآخر وقال: يا فلان، أنت أبو هذا الطفل، : قال نعم، قال: بع عليّ أبوّتك فلا يصح، كذلك لا يصح أن نبيع عليّ الولاء، هذا دليل من السنة، وهناك أيضًا دليل نظري أن الذي يشتري الولاء إنما يشتريه غالبًا من أجل ما يثبت له من العصوبة، والعصوبة مجهولة، لماذا؟ لأنه ربما يكون لهذا العتق عصوبة نسب يولد له أولاد بنون فتكون عصبته لهؤلاء الأولاد، أو يكون له أعمام من النَّسب أو إخوة من النسب، أو ما أشبه ذلك، ثانيًا: على فرض أنه لم يحصل هذا فالميراث الذي كنت تؤمّله من هذا العتيق قد يحصل وقد لا يحصل، قد يصرف المال الذي عنده وقد يزيد زيادة كبيرة، وقد ينقص، المهم أن الغرض الذي من أجله اشتريت ولاءه ربما تفقده، فلهذا صار بيع الولاء حرامًا، هبة الولاء كذلك لا تجوز، لو قال إنسان لصديق له: أنا أعتقت عبدي غانمًا وولاؤه لك هبة منِّي ماذا نقول؟ نقول: لا يجوز، فإن قال الثاني: وأنا أعتقت عبدي سالمًا فولاؤه لك لا يجوز أيضًا حتى لو تبادلا لا يجوز؛ لأن الولاء لحمة كلحمة النسب. * * *

النهي عن بيع الحصاة وبيع الغرر

النهي عن بيع الحصاة وبيع الغرر: 764 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر". رواه مسلمٌ. سبق لنا مرارًا وتكرارًا معنى النهي وأنه طلب الكف على وجه الاستعلاء، وأن الأصل فيه التحريم إلا بدليل، فهنا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن نوعين من البيع، أحدهما داخل في الآخر: عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر، ما معنى بيع الحصاة؟ هل يعني هذا أنه إذا كان عندي حصاة لا يجوز لي أن أبيعها؟ لا، بل يجوز أن أبيع الحصاة، لكن النهي هنا عن البيع المنسوب للحصاة، فهنا الإضافة ليست إضافة على تقدير اللام، بل هو على تقدير "من"؛ يعني: بيع من الحصاة، يعني: من أنواع البيوع التي للحصاة، فالإضافة هنا لأدنى ملابسة، وبيع الحصاة له صور: الصورة الأولى: أن يقول: ارم هذه الحصاة فعلى أي شاة من هذا القطيع وقعت فهي لك بكذا، فرمى الحصاة وسقطت على شاة هزيلة جدًّا اشتراها بمائة وهي لا تساوي عشرين، فيكون قد خسر، جاء عبد آخر فقال: بعت عليك الشاة التي تصيبها هذه الحصاة إذا رميتها، فرمى الحصاة وقد اشترى الشاة بخمسين فوقعت على شاة تساوي مائة فقد غنم المشتري وخسر البائع عكس الأولى، إذن هذا ضرر؛ لأن كل عقد دار بين الغنم والغرم فهو ضرر ميسر لا يجوز. الصورة ثانية: عندي أرض فجاء إنسان فقال: أريد أن أشتري منك قطعة من الأرض فقلت: خذ هذه الحصاة وارمها وإلى أي مدى تصل من الأرض فهو عليك بكذا، فرماها وكان نشيطًا وكانت الريح مستديرة له، يعني: تأتيه من ورائه، فرماها فوصلت إلى مائة متر، وهو اشترى بمائة درهم -مائة المتر تساوي ألف درهم- إذن كان غانمًا، العكس لو أنه قال: بعت عليك ما تصل إليه هذه الحصاة بألف درهم فرمى الحصاة وكانت الريح مستقبلة له، وعندما رمى أحسّ بأن كتفه انزلق، والحصاة وصلت قريبة جدًّا فيكون هنا خاسرًا، إذن هو ميسر لا يجوز. الصورة الثالثة: أن يأتي إلى صاحب دكان عنده بز فيقول: ارم هذه الحصاة فعلى أي خرقة أو ثوب تقع فهو عليك بعشرة، فرمى الحصاة فأصابت ثوبًا يساوي عشرين، من الغانم؟ المشتري، ورجل آخر رمى الحصاة فأصابت ثوبًا يساوي خمسًا: الغانم البائع، إذن هذا ميسر لا يجوز، هذه ثلاث صور.

الصور الرابعة: أن يضم يديه على حصى، يعني: أن يأخذ كومة من الأرض حصى، ولنفرض أن أرضًا فيها حصباء فأخذ بيده وقال: بعتك من هذا القطيع عدد ما في يدي من الحصاة بألف درهم فقال: قبلت، عدّ فعدّ يمكن الحصى أن يطلع كثيرًا ويمكن أن يطلع قليلًا حسب اليد وحسب صغر الحصى وحسب جودة الكمش، هذا أيضًا غرر، والعكس لو قال: بعتك هذا القطيع بعدد ما في يدك من الحصى من الدراهم، الأول قدَّرنا المبيع، وهنا قدَّرنا الثمن، نقول: هذا أيضًا لا يجوز من أجل الجهالة، هذه خمس صور. وهناك أيضًا صورة سادسة: بأن يقول: بعت عليك ما يزن مائه من الحصى ومن هذه الأرض بكذا وكذا، وهو لم يعين الحصاة، نقول: هذا أيضًا لا يجوز؛ لأنه مجهول، وبهذا تبين أن بيع الحصاة داخل في قوله: "وعن بيع الغرر"، وهذا في الحقيقة يعتبر قاعدة؛ أي: أن كل بيع فيه غرر فهو منهيٌّ عنه، والغرر كل ما فيه جهالة واحتمال فهو غرر، وعلى هذا فعطفه على بيع الحصاة من باب عطف العام على الخاص، وهذا سائغ في اللغة العربية، فيكون الخاص الذي ذكر كأنه مثال مقدم لهذه القاعدة العامة. كلمة "غرر" قلنا: كل ما فيه جهالة واحتمال للغنم أو الغرم؛ لأن ذلك من الميسر، فإن حقيقة الميسر هي أنها معاملة تقع بين متغالبين، يكون أحدهما إما غانم وإما غارم، فبيع الغرر إذن من الميسر، والحكمة في النهي عنه ظاهرة جدًّا؛ لأنه إذا كان غانمًا أدّاه ذلك إلى الجشع والطمع والانسياق وراء المادة والدنيا؛ لأنه كسب، فيريد أن يستمر هذا الكسب، فتجده يلهو بدنياه عن دينه، وإن كان الأمر بالعكس بأن كان غارمًا ألحقه من الندم والحزن وكراهة صاحبه الذي غلبه ما يوجب العداوة بينهما، ولهذا قال الله تعالى: {إنَّما يريد الشَّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر} [المائدة: 91]. فقال: {فى الخمر والميسر}، وواضح في هذا أن المغلوب -حتى وإن كانت المعاملة باختياره- لا بد أن يقع في قلبه شيء، فتبيّن أن الميسر ضرر على المغلوب والغالب جميعًا؛ لأن الغالب يكون في نفسه حب الغلبة والظهور والجشع والطمع وحب المال والانصراف به عما خلق له لأنه يكسب، والنفوس مجبولة على محبة المال: {وتحبُّون المال حبًّا جمًّا (20)} [الفجر: 20]. {وإنَّه لحبِّ الخير -يعني: المال- لشديدٌ} [العاديات: 8]. لهذا نهى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، فالحكمة إذن تقتضي النهي عن ذلك، وهذا النهي للتحريم، وقد علمنا من القاعدة المعروفة عند الفقهاء -رحمهم الله- أن كل شيء نهي عنه إذا فعل صار حرامًا من جهة الحكم التكليفي وفاسدًا من جهة الحكم الوضعي، والحكم الوضعي هو ما

يوصف به العقد أو الفعل من صحة أو فساد أو شرط أو مانع أو سبب، يعني: هذه الأشياء ليست تكليفية فلا يقال فيها حرام أو واجب، فهي أحكام وضعية بمعنى: أن الشارع وضعها علامة على النفوذ أو عدم النفوذ، المهم: أنه إذا وقع بيع الغرر فهو حرام، والمتعاقدان آثمان، والبيع فاسد باطل يجب ردّه. "بيع الحصاة"، هذه البيوع السابقة كلها فاسدة مع الإثم ويجب ردّها، "بيع الغرر" كثير جدًّا له مئات الصور نذكر منها الآن، أولًا: بيع الحمل غرر؛ لأنه إن ظهر سالمًا متعددًا غنم المشتري، والعكس بالعكس، ومن بيع الغرر: أن يبيع العبد الآبق؛ أي: الذي هرب عن سيده هذا إذا باعه فإنه لا يجوز، لماذا؟ لأنه غير مقدور على تسليمه، يمكن أن يأتي ويمكن ألَّا يأتي، إن جاء فالغانم المشتري وإن لم يأت فالغانم البائع، والمشتري غارم. فإن قال قائل: لا يمكن أن يكون المشتري غانمًا لأن المشتري قد بذل الثمن. فالجواب: أن المشتري للآبق لا يمكن أن يشتريه بقيمة الحاضر المقدور عليه، إذا كان هذا العبد يساوي مائة فيشتريه بخمسين مثلًا فحينئذ إن وجده صار غانمًا، وإن لم يجده فهو غارم خمسين بدون فائدة، الجمل الشارد كذلك فمثلًا: إنسان له جمل شارد، يعني: هارب من أهله لا يجوز بيعه، لماذا؟ لأنه غير مقدور عليه قد يأتي وقد لا يأتي، والجمل في المرعى مقدور عليه، فلو باع عليه جمله الذي في المرعى صح؛ لأنه مقدور عليه بخلاف الشارد الذي هرب. ومثله بيع طير في هواء، مثل: أن يكون له حمام ليس في الأبراج فيبيعه، هذا البيع أكثر العلماء على عدم الصحة وقالوا: لأن الطير في الهواء غير مقدور عليه، وبعضهم يقول: إن ألف الرجوع جاز بيعه، وإلا فلا يجوز، وهذا التفصيل لا شك أنه يجري على القواعد؛ لأنه إذا ألف الرجوع فهو كالبعير الذي في المرعى يأتي في آخر النهار وهذا أيضًا يأتي في آخر النهار

ويحصل، إذا باع عليه دينًا في ذمة شخص لا يجوز هذا هو المشهور من المذهب، مثل رجل يطلب شخصًا ليأخذ مائة صاع برّ له في ذمته فباعه على زيد فإنه لا يجوز؛ لأنه غير مقدور عليه، قد يحصل وقد لا يحصل، ربما يفتقر هذا المطلوب وربما يموت وينكر الورثة وربما يجحد، المهم: أنه غير مقدور عليه، فلا يجوز بيعه، أما بيعه لمن هو عليه فجائز بشرط ألا يربح البائع بأن يبيع بسعر المثل فأقلّ مثل لو كان في ذمته لي مائة صاع برّ، والصاع في السوق يساوي أربعة ريالات وقال: غدًا تبيع عليَّ الأصواع التي في ذمتي؟ قال: أبيع عليك الصاع بخمسة ريالات هذا لا يجوز، لماذا؟ لأنه ربح فيما لم يدخل في ضمانه، وقد نهى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، والشيء الذي في ذمة غيرك لك ما دخل في ضمانك حتى الآن، فإذا بعته بربح فإنك تكون قد وقعت فيما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمر لما سأله أن يبيع الإبل بالدراهم ويأخذ معها الدنانير وبالدنانير ويأخذ عنها الدراهم قال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء، رجل باع دراهم له عند شخص بسعر يومها فهذا لا يجوز؛ لأن هذا فيه محظوران: المحظور الأول: عدم القبض وهذا يجري فيه الربا ربا النّسيئة، والثاني: أنه في ذمة الغير، فإن بعت هذه الدراهم بدراهم أو بدنانير على الذي في ذمته هذا يجوز: "ما لم تتفرقا وبينكما شيء"، فإذا كانت في ذمته لي ألف درهم وبعته عليه بمائة دينار يجوز، لكن بشرط أن يسلمني مائة الدينار قبل التفرق؛ لأن بيع الذهب بالفضة يجب فيه التقابض قبل التفرق. يوجد شرط آخر: وهو أن تكون بسعر اليوم أو أقل لا بأكثر، فمثلًا الألف درهم إذا كانت تساوي مائة دينار وبعتها عليه بمائة وعشرين دينارًا فالبيع غير صحيح، لأني بعتها عليه بأكثر من سعرها، إن بعتها بمائة يصلح مع التقابض، إن بعتها بثمانين يصلح، لكن قد تقول: إنك إذا بعتها بثمانين خالفت ظاهر حديث ابن عمر: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها"، فإن ظاهره ألَّا تأخذ بأقل ولا بأكثر، والجواب على ذلك أن يقال: إن المقصود من قوله: "بسعر يومها" ألا يزيد، أما إذا كان ينقص فهذا إحسان، ويدل على ذلك أن المنهي عنه هو الربح فيما لم يضمن، أما إذا بعت بالمائة فجائز، وإذا بعت بأقل فيكون أجود؛ لأن هذا فيه رفق بالمطلوب بدل ما أبيع عليه ألف درهم بمائة دينار أبيع عليه بتسعين دينار، يكون في هذا إحسان إليه -والدراهم والدنانير ليس فيها ربا- ولهذا اشترطنا التقابض قبل التفرق. المهم: أن القاعدة في بيع الغرر صوره لا تحصى، بل القاعدة في ذلك: أن يكون مجهولًا ومحتملًا إنسان وقّف المبيع ومعه سيارة مشحونة بالحبحب أو بالجح، فقال له: أبيعك هذه كل واحدة بدرهم هل يجوز؟ لا يجوز، لماذا؟ لأنه يمكن أن يكون في الأسفل جح لوحده صغيرة

فتأخذ عليه دراهم كثيرة وهي لا تساوي ربع القيمة، لو قال: أبيعها عليك كلها هكذا كما ترى هذا جائز؛ لأنه باع عليه الكومة ما باع عليه بالعدد، رجل أراد أن يشتري من شخص البضاعة التي في الدكان وقال: آخذ منك هذه البضاعة كل حبة منها بدرهم هذا لا يجوز لأنه غرر، يمكن أن تكون حبة تساوي عشرة وحبة لا تساوي ريالًا، الآن هناك دكاكين يقولون: كل شيء بعشرة ريالات، هذا ليس فيه غرر؛ لأنه يقول: خذ الذي تبغي خذ ما تشاء، لكن لو قال قائل: يوجد غرر على البائع لأن البائع يوجد قطع اشتراها بعشرين مثلًا نقول: البائع لا بد أنه قد عرف كيف يخرج يعرف من أين تؤكل الكتف -والله أعلم- إن كل البضاعة التي عنده أعلاها بعشرة فيكون رابحًا. على كل حال: إذن ليست في المسألة جهالة؛ لأن المشتري سوف يختار، والبائع نعلم -والعلم عند الله- أنه قد عرف المخرج، إذن القاعدة فهمناها، الصور لا تحصى وربما يأتي صور لا تخطر على بال العلماء ولكنها داخلة في هذه القاعدة العامة. في هذا الحديث: نهي عن بيع الحصاة، ولقد سبق لنا شيء من صوره، والأصل في النهي التحريم، والأصل فيما كان محرمًا أن يكون فاسدًا، إذن فبيع الحصاة يترتب عليه أمران: إثم المتعاملين وفساد العقد، فإن كانا جاهلين سقط الإثم وفسد العقد. ومن فوائده: النهي عن بيع الغرر كل غرر والنهي يقتضي الفساد. ومن فوائده أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم، ويحب هو أيضًا جوامع الكلم حتى في الدعاء كان يدعو بجوامع الكلم ويدع ما سوى ذلك، وبهذا نعرف خطأ أولئك الذين يأتون بأدعية طويلة عريضة مسجوعة وهذا خلاف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: حرص الشارع على تجنب كل ما يكون سببًا للعداوة والبغضاء، ومن أجل ذلك نهى عن بيع الغرر والحصاة. ومنها أيضًا: حرصه على أن ينهى عن كل شيء يكون سببًا للطمع والجشع والتكالب على الدنيا يؤخذ أيضًا من النهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. ويستفاد من الحديث: بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يذكر بعض أفراد العام ليكون كالمثال له لقوله: بيع الحصاة وعن بيع الغرر. ويستفاد من الحديث: النهي عن الإجارة إذا تضمنت غررًا، ووجهه: أن الإجارة نوع من البيع فهي بيع منفعة إلى أجل مسمى، الإجارة إلى مدة مجهولة لا تصح؛ لأنها غرر، وهل يستثنى من بيع الغرر شيء؟ الجواب: يستثنى منه ما جرى به العرف ولم يعده الناس غبنًا مثل

مسألة: هل يجوز بيع المسك في فأرته؟

أساسات الجدران، الحصى المدفون في الأرض، أو ما يسمى عندنا بالقواعد، هذه يغتفر فيها الجهالة لأن الناس لا يعدون ذلك غررًا، ولأن إلزام الإنسان بأن يحفر ذلك فيه مفسدة أكثر، لو أن واحدًا باع عليك فلَّة نقول: البيع هذا غرر، لماذا؟ قال: لم أر القواعد، ماذا تريد؟ قال: أحفر حتى أرى القواعد، هذا معناه: تكسر البناء، إذن هذا مما لا يعده الناس غررًا ولا يلتفتون إليه، نعم لو فرض أن هذه العمارة حول أرض قد تنهار فهذا ربما يطابق، يعني: حولها مثلًا مياه جارية ويخشى أن تنهار، فقد يقال: إنه لا بد من الاطلاع على المدفون، وأما العادي فهو عادي. بيع الفجل والبصل وشبهه هل يجوز؟ قال بعض العلماء: لا يجوز؛ لأن المقصود منه مستتر في الأرض، والمستتر مجهول، وهذا هو المشهور من المذهب، وإذا كان مجهولًا فهو غرر فلا يصح بيعه، بيع أوراقه الظاهرة يجوز، لكن الكلام على بيع الثمرة، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جواز بيعه وقال: إن هذا مما يعرفه أهل الخبرة يعرفون المندفن بما ظهر؛ أي: بأوراقه وقوتها، وما زال الناس يتبايعون هذا من غير نكير، وعليه فإذا كان في حياض من البصل وجاء صاحبها ليبيعها المذهب لا تباع حتى تنبش وترى، والقول الثاني: تباع وإن لم تنبش لأن هذا معلوم عند أهل الخبرة وليس فيه غرر. مسألة: هل يجوز بيع المسك في فأرته؟ الفأرة: وعاء المسك، نقول: إن هذا ليس فيه غرر عند الناس؛ لأن الناس يعرفون ذلك لكنه لا يباع إلا على صاحب خبرة يعرف ذلك، فالمهم أن هذه المسائل منها ما هو متفق على جوازه كأساسات الحيطان، ومنها ما هو مختلف فيه كالبصل والفجل وشبهه، ومنها ما هو متفق على منعه كالأمثلة التي سبقت لنا. بيع الجهالة: 765 - وعنه رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى طعامًا فلا يبعه حتَّى يكتاله". رواه مسلمٌ. الجملة هنا شرطية، أداة الشرط فيها "من"، وجواب الشرط "فلا يبعه"، واقترن الجواب بالفاء؛ لأن الجملة طلبية، وإذا كانت الجملة طلبية وجب اقترانها بالفاء كما قال الناظم: اسميَّةٌ طلبيَّةٌ وبجامد ... وبما وقد وبلن وبالتَّنفيس

وقوله: "حتى يكتاله" هذا إذا بيع كيلًا، أما إذا بيع جزاقًا فيباع وإن لم يكتل لأنه لا حاجة لاكتياله. الطعام ما هو؟ الطعام: كل ما يؤكل، ولكن قوله: "حتى يكتاله" يدل على أن المراد به: الطعام الذي يجري فيه الكيل البرّ والشعير والتمر والزبيب والأقط والرز والذُّرة وما أشبه ذلك، المهم الذي يؤكل ويكال إذا اشتريته فلا تبعه حتى تكتاله، مثال ذلك اشتريت من صاحب المزرعة هذه الكومة من الحبّ كل صاع بدرهم فجاءني شخص وقال: بع عليّ هذا البرّ الذي اشتريته من فلان، هل يجوز؟ لا، حتى أكتاله أولًا ثم أبيعه بعته عليه، فإذا قال: بعه عليّ وأكتاله أنا بالوكالة عنك؛ نقول: لا يصح، ولا يمكن أن أبيعه، أوكِّلك في قبضه لا بأس، اذهب واكتله نيابة عني، ثم إذا اكتلته وتمّ اكتياله [سلمه لي] وأبيع عليك، ما الحكمة من عدم البيع؟ للجهالة، لأنه لا يتحقق الغابن إلا بالاكتيال قد ينقص وقد يزيد، والعادة أن هذه الحبوب كلما مضى عليها وقت تنقص إلا إذا كان الجوّ فيه ندى هذه ربما تزيد وإلا فالأصل أنها كلما مضى عليها وقت يبست، وحينئذٍ إن زادت صار الغبن على المشتري وإن نقصت صار الغبن على البائع، فأنا أكيلها أولًا ثم بعد ذلك أبيعها إن نقصت بعد الكيل كان عليّ وليس على البائع، فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وهنا نسأل هل يقاس عليه غيره، مثل: أن يبيع شيئًا يوزن فنقول: لا تبعه حتى تزنه؟ الجواب: نعم، نقول: إذا باع الإنسان شيئًا يوزن فلا يبعه حتى يزنه؛ لأن العلة واحدة وهي احتمال الزيادة والنقص، ولأن متعلقات البيع الأول لم تتم بعد فيبيعه وقد تعلق به شيء من تمام العقد الأول وهو الكيل أو الوزن، هل يقاس على ذلك ما يباع بالعدد؟ مثل أن أقول: بعتك هذا التفاح كل واحدة بكذا وكذا، أو هذا البيض كل واحدة بكذا وكذا وأنا قد اشتريتها من فلان عددًا؟ الجواب: نعم؛ لأن العلة واحدة. وهل يقاس على ذلك ما بيع بالذرع مثل أن أبيعك هذه الطَّيَّة من الحبال كل متر بكذا وكذا؟ الجواب: نعم؛ لأنه يحتاج إلى ذرع، فإذا قال قائل: ما هي العلة؟ نقول: اختلف في هذا أهل العلم، فابن عباس رضي الله عنهما ذكر أن العلة أنه قد يتخذ حيلة، أو أنه يشبه بيع دراهم بدراهم إذا اشتريته منك أيها البائع وهو عندك لم أكله أو لم أزنه أو لم أعده اشتريته بمائة ثم بعته قبل أن أقبضه على زيد بمائة وعشرين، السلعة ليست بيدي الآن ولا تحت قبضتي وإنما السلعة تحت قبضة البائع، يقول: فكأنه باع دراهم بدراهم، الدراهم التي أعطاها البائع أو التي هي ثابتة في ذمته لم يسلمها بعد وأخذ من المشتري الثاني الجديد دراهم كأنه باع الدراهم التي سلمها للبائع أو التي في ذمته الآن بالدراهم التي أخذها من المشتري الجديد، ولهذا قال: تلك دراهم بدراهم فهي تشبه بيع الدراهم بالدراهم؛ لأن المشتري الأول لم يقبض السلعة ولم يكتلها هذا

واحد، وبعضهم علل بأن البيع الأول لم يتم بعد؛ لأن فيه شيئًا من متعلقاته وهو الكيل أو الوزن أو العدد أو الذّرع، فهو إلى الآن لم يتخلص من متعلقات البيع الأول، فإذا باعها أدخل بيعًا على بيع، ومن العلماء من علل بأن المشتري ربما يبيعها بأكثر مما اشتراها، فما هو الغالب خصوصًا الذي يشتري السلع الغالب أنه لا يبيع إلا بربح، فإذا علم البائع الأول ربح المشتري فإنه يماطل في التسليم، وربما يتحيل على إبطال البيع بأي سبب لأجل أن يحرم المشتري هذا الربح الذي هو إلى الآن في قبضة البائع، وهذا الأخير علل به شيخ الإسلام ابن تيمية، ولهذا قال: إنه لو باعه بدون ربح فلا بأس، أو باعه على البائع الذي باع عليه فلا بأس، لكن لا شك أن هذه العلة التي ذكرها شيخ الإسلام تستلزم تخصيص العموم؛ لأن الحديث عام: "من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه أو حتى يكتاله". فنقول: الحديث عام، وتخصيص العموم بعلة مستنبطة لم ينص عليه الشرع فيه نظر، لماذا يكون فيه نظر؟ لأنه من الجائز ألا تكون هذه هي العلة، وهذا واقع، ولهذا لم يعلل ابن عباس بهذا الشيء، إنما علل بأن دراهم بدراهم. وعلى هذا فنقول: إن ظاهر الحديث يدل على أنه لا يجوز بيعه لا على البائع ولا على غيره بدون ربح، بل الحديث يدل على منع البيع على البائع وعلى غيره بربح وبغير ربح، نحن قسنا على الطعام المكيل كل شيء بيع بالوزن أو بيع بالعدّ أو بيع بالذّرع، قلنا: العلة هي عدم الاستيفاء في كل منها، ولكن روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه"، أو قال: "حتى يقبضه"؛ قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله، فكأنه يرى رضي الله عنه أن الحديث عام في القياس. فعلى هذا نقول: كل شيء يباع قبل قبضه فبيعه منهي عنه، سواء بيع بالكيل أو الوزن أو العدّ أو الذرع أو بيع بغير ذلك، ويؤيد هذا العموم ما رواه ابن عمر وزيد بن ثابت من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، والمراد: حتى يحوزوها على مكان لا يختص بالبائع، فهذا الحديث عام، حتى قال ابن عمر: كانوا يضربون على بيعها قبل أن يحوزوها إلى رحالهم، وهذا يدل على أن كل شيء لا يباع حتى يقبض، وهذا القول هو أرجح الأقوال، وأن جميع الأشياء المبيعة لا تباع حتى تقبض؛ لأن ذلك أبعد عن التنازع فيما إذا حصل ربح وعن التنازع فيما إذا أراد البائع أن ينكد على المشتري ويفسد سمعته بين الناس، فكونه لا يبيع إلا إذا قبض لا شك أنه أولى وأحوط لأنه عام.

النهى عن بيعتين في بيعة

وقد يقول قائل: هل النهي للكراهة أو للتحريم؟ نقول: إن كون الناس يضربون على ذلك يدل على التحريم وأنه لا يجوز. بقى علينا أن نقول: القبض كيف يكون؟ نقول: من الأشياء ما لا يمكن نقله فهذا قبضه بتخلي البائع عنه، لو باع عليه أرضًا هل نقول: لا تبع الأرض حتى تحوزها إلى رحلك؟ هذا لا يمكن، إذن كيف يقبضها بالتخلي عنها؟ نقول: هذه أرضك خذها، إذا باعه دارًا يقبضها المشتري بالتخلية وتسليم المفتاح، إذا باع شيئًا منقولًا فقبضه بنقله، فإن احتيج إلى عدٍّ أو ذرع أو كيل أو وزن فليضف إلى القبض، فلو باع عليك مثلًا هذا الكيس من البرّ كل صاع بدرهم وحملت الكيس إلى بيتك لا يكفي هذا بل لا بد من كيله، لقوله في هذا الحديث: "حتى يكتاله"، إذن ما يحتاج إلى توفية بعد أو ذرع أو كيل أو وزن فإنه يضاف إلى قبضه، اشتراط التوفية يعني: الاستيفاء، ولهذا في بعض الألفاظ في حديث ابن عباس: "حتى يستوفيه"؛ لأنه إذا استوفاه انقطعت علق البائع الأول عنه نهائيًّا ولم يبق له فيه أي تعلق. من فوائد الحديث: تحريم بيع الطعام إذا بيع بكيل حتى يكتال. ومن الفوائد: أن غير الطعام مثله بالقياس. ومن فوائد الحديث: أن الشارع له نظر في إبعاد الناس عن كل معاملة يمكن أن يحصل فيها نزاع؛ ولهذا نهى عن بيع هذا الشيء حتى تنقطع علق البائع الأول عنه نهائيًّا لئلا يحصل النزاع. ومن فوائده: أن الإنسان لا يتصرف في الشيء حتى تكون قبضته عليه على وجه تام؛ يعني: حتى يكون في قبضته لئلا تخلف المسألة فيقع في حرج، ولهذه الفائدة مسألة في الحديث الذي بعده حديث عمرو بن شعيب رضي الله عنه. النهى عن بيعتين في بيعة: 766 - وعنه رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعةٍ". رواه أحمد، والنَّسائيُّ، وصحَّحه التِّرمذيُّ، وابن حبَّان. - ولأبي داود: "من باع بيعتين في بيعةٍ فله أوكسهما أو الرِّبا". الحديث الأول معناه: أنه لا يجوز لإنسان أن يبيع بيعتين في بيعة؛ أي: في صفقة واحدة، ولننظر هل هذا ظاهر المراد، لو قلت: بعتك هذا الشيء على أن تشتري مني الشيء الآخر، هذا

يكون بيعتين في بيعة هذه صورة، أريد أن أشتري منك سكرًا مثلًا فقال: بعتك هذا السكر بشرط أن تشتري مني الرز فأقول: قبلت، هذا بيعتان في بيعة، ثانيًا: قال: بع عليّ بيتك، فقال: لا أبيعه حتى تبيع عليّ بيتك، هذا أيضًا بيعتان في بيعة، لكن الفرق بينها وبين الأولى أن البيع في الأولى من رجل واحد والبيع في الثانية: بعتك هذا على أن تبيع هذا، هذا بيعتان في بيعة، فهل هذا هو المراد؟ نقول: رواية أبي داود تدل على أنه غير مراد؛ لأنه قال: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الرِّبا"، والصورتان اللتان ذكرناهما ليس فيهما ربا ولا فيهما أوكس ولا أكثر، فيهما أني أبيعك بيتي على أن تبيعني بيتك، أو أبيع عليك هذا الشيء على أن تشتري مني الشيء الآخر، وليس فيه وكس ولا زيادة. وعلى هذا فنقول: إن مقتضى رواية أبي داود ألا تدخل الصورتان المذكورتان في نهيه عن بيعتين في بيعة ويؤيد ذلك أن الصورتين المذكورتين ليس فيهما محظور شرعي؛ إذ لا مانع لو أنني قلت: بعت عليك هذا السكر وهذا الشاي بألف ريال، هذا جائز بالاتفاق، فلا فرق بين أن أقول: لا أبيعك هذا السكر حتى تشتري هذا الشاي، فإذا جمعت بينهما بشرط فإن الأمر لا يتغير عما إذا جمعت بينهما بغير شرط، وحينئذٍ يكون لا محظور في المسألة. كذلك أيضًا إذا قلت: لا أبيعك بيتي حتى تبيعني بيتك، ما المحظور؟ إن رضيت بهذا الشرط فاقبل البيع إذا لم ترض فاترك، وأنا قد يكون لي نظر في هذا، قد لا أريد عليك بيتي فأبقى بلا بيت حتى تبيع علي بيتك، والبيتان لا يجري فيهما الربا حتى نقول: ربما يتخذ وسيلة إلى الربا، فما دامت المسألة ليست فيها محظور شرعي وأن جمعهما لا بأس به بدون شرط وجمعهما بالشرط لا بأس به: "المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحلّ حرامًا أو حرّم حلالًا"، وهذا الشرط لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، أرأيت لو قلت: بعتك بيتي بيتك واتفقنا على هذا فيجوز بالاتفاق، فالمسألة هذه بعتك بيتي على أن تبيعني بيتك ليس بينهما فرق ولا بين تلك، إلا أننا قدرنا الثمن في الأخير دون الأول، فيجب على هذا أن يحمل على رواية أبي داود: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"، وحينئذٍ نقول ما معنى "أوكسهما"؟ أي: أنقصهما أو الربا إن لم يكن له أنقصهما؛ يعني: إن كان له الأكثر وقع في الربا وإن كان له الأقل لم يقع في الربا، ما صورة ذلك؟ لهذا صورتان: الصورة الأولى: أن يقول: بعتك هذا الشيء بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة، فهنا إن أخذ بالعشرة نقدًا لم يقع في الربا، وإن أخذ بعشرين نسيئة وقع في الربا، هذه صورة. فإذا قال قائل: أين البيعتان؟ قلنا: واحدة بعشرة وواحدة بعشرين، المبيع واحد، والبيعتان هما الثمنان إما عشرة نقدًا وإما عشرون نسيئة.

الصورة الثانية: أن المراد بذلك: مسألة العينة وهي أن يبيع الإنسان شيئًا بثمن مؤجل ثم يشتريه بأقل منه نقدًا، قالوا: فهاتان صفقتان في صفقة؛ أي: في مبيع واحد، وتحمل البيعة هنا على المبيع، يعني: باع بيعتين في بيعة، فهذا هو الذي له أوكسهما، والصورة أن يبيع شيئًا بثمن مؤجل ثم يشتريه بأقل منه نقدًا، فهنا بيعتان البيعة الأولى بثمن مؤجل، والبيعة الثانية بثمن حاضر نقول للذي باع البعير: أنت الآن لك أوكسهما أو الربا، كيف ذلك؟ يعني: إما أن تقتصر على الثمن الأقل وإلا وقعت في الربا، الثمن الأقل ثمانون والأكثر مائة، إذا أخذها بثمانين فلا ربا؛ لأنه باع بمائة واشتراها بثمانين، المشتري لم يأخذ إلا الثمانين فلم يأخذ ربًا، فإن أخذ بالأكثر أخذ بالربا، من الذي يأخذ بالأكثر؟ البائع الأول باعها بمائة فقد أخذ بالربا، وإن اقتصر على الثمانين لم يأخذ بالربا، إذا اقتصر على الثمانين هل يلحق المشتري شيء؟ لا؛ لأنه اشتراها بثمانين وقد باعها بثمانين وانتهى كل شيء. الصورة مرة ثانية: بعت عليك هذه الناقة بمائة إلى سنة، الثمن الآن مؤجل ومقداره مائة إلى سنة، ثم رجعت إليك واشتريتها منك بثمانين نقدًا، البعير ردت لي الآن وثبت لك في ذمتي مائة، إذن كأنني أعطيته ثمانين بمائة، وهذا ربا، فإن قلت له: أنا الآن أشتريها بثمانين ولا أريد منك الزائد فقد أخذت بأوكسهما، البيعة الأولى بمائة وهذه البيعة بثمانين أخذت بأوكسهما وسلمت من الربا، فإذن يكون المراد بالبيعتين في بيعة: مسألة العينة. إذن للحديث معنيان: المعنى الأول: أن يبيع عليه الشيء بثمانين نقدًا أو بمائة نسيئة مؤجل هذا بيعتان في بيعة وهذا لا يجوز، الصورة الثانية: مسألة العينة أن يبيعه شيئًا بمائة مؤجل ثم يشتريه بثمانين نقدًا، ثمانين يسلمها للمشتري الذي اشترى منه أولًا، البائع الأول يسلم للمشتري الأول ثمانين وباقي في ذمته مائة، زيد باع على عمرو هذه الناقة بمائة إلى سنة، كم يثبت في ذمة عمرو لزيد؟ مائة، ثم رجع زيد فاشتراها بثمانين نقدًا وسلّمه الثمانين، كم في ذمة عمرو لزيد؟ مائة كأن هذا -أعني: زيدًا- أعطى عمرًا ثمانين بمائة إلى سنة. الحديث يقول: "له أوكسهما أو الربا"، ما أوكسهما؟ ثمانون أو الربا، نقول: أنت الآن يا زيد إن أخذت من عمرو مائة وقعت في الربا؛ لأنك أخذت أكثر مما أعطيت؛ لأنك أعطيت ثمانين، وإن أخذت ثمانين فقط عند تمام السنة خرجت من الربا، فإذا تمت السنة قلنا: يا زيد تعال، إن أخذت المائة وقعت في الربا وإن أخذت بالثمانين خرجت من الربا، فلك أوكسهما بدون ربا، أو الربا إن أخذت الأكثر، عندنا الآن تفصيل للفظ الأول نهى عن بيعتين في بيعة، وبيّنا أن التفسير الذي فسر به ظاهر اللفظ غير مراد، وهو أن أقول: لا أبيع عليك هذا الشيء حتى تشتري هذا الشيء أو لا أبيع عليك هذا الشيء حتى تبيعني هذا الشيء، ها صورتان، وقلنا: إن هذين غير مرادين،

فالمسألة الثانية قلنا: فسر الحديث بتفسيرين: إما أن المعنى أبيعك إياه بثمانين نقدًا أو بمائة نسيئة إلى سنة تفسير آخر يقولون: مسألة العينة وهي: أن يبيع شيئًا بثمن مؤجل ثم يشتريه بأقل منه نقدًا بعت على زيد بعيرًا بمائة إلى سنة ثم اشتريتها بثمانين نقدًا؛ أيُّ التفسيرين أولى بالمطابقة بالحديث؟ الثاني؛ لأن بيعتين في بيعة بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم: "فله أوكسهما أو الربا" وعلى هذا فيكون المراد بالبيعتين: مسألة العينة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فنقول للبائع: الآن إذا تمت السنة إما ألا تأخذ إلا ثمانين الذي أعطيته فتكون قد سلمت من الربا أما إذا أخذت المائة ثمن البيع الأول فإنك تقع في الربا؛ لأن حقيقة الأمر أنك أعطيته ثمانين بمائة وأدخلت بينهما بعيرًا، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة؛ يعني: ثوب، نقول: هنا في مثالنا دراهم بدراهم دخل بينهما بعير، الصورة الأولى في التفسير الثاني، وهي: بعتك هذا بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة ما وجه إدخالها في الحديث؟ قالوا: لأن هذا ربا لأنك زدت الثمن في مقابل الأجل هذا واحد، ولأن هذا جهالة لأن الثمن لم يستقر، أنت تقول: بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة، إذن المشتري هل يلتزم بعشرة أو يلتزم بعشرين، والبائع لا يدري هل الذي حصل له عشرة أو عشرون، إذن فالمسألة فيها جهالة وفيها ربا، إذن فتكون داخلة في الحديث، ولكن عند التأمل يتبين أن الحديث لا يراد به ذلك أولًا: استنادًا إلى لفظ أبي داود، وثانيًا: أن قول البائع: بعتك هذا بثمانين نقدًا أو بمائة نسيئة ليس فيه ربا وليس فيه غرر، ليس فيه ربا لأنني لم أبدل دراهم ثمانين بمائة وإنما الزيادة في ثمن السلعة، فكما أني لو قلت: السلعة هذه تساوي ثمانين لكن لا أبيع عليك إلا بمائة زدت كم؟ عشرين وهذا ليس بربا، فأنا إذا أجلت هذه المائة عليك أفدتك خيرًا، إذا كان يجوز أن أبيع ما يساوي ثمانين بمائة نقدًا فلماذا لا يجوز أن أبيع ما يساوي ثمانين بمائة نسيئة من باب أولى؟ ثانيًا: قولهم: إن هذه جهالة، نقول: ليس بجهالة؛ لأن المشتري لا يمكن أن يفارق المكان حتى يقطع الثمن: وما هو الثمن؟ ثمانين أو مائة، صحيح الذي يذهب وهو غير قاطع للثمن فهو جهالة، ولكن لا نأخذها من هذا الحديث بل من أحاديث أخرى وهي جهالة الثمن، أما إذا قال: خذ هذه أنا أبيع عليك بثمانين نقدًا أو بمائة إلى سنة صار معلومًا ما تفرقنا حتى قطعنا الثمن وعرف المشتري أن عليه مائة سنة والبائع أن له مائة ولا إشكال. فتبين الآن أن أصح ما يفسر به الحديث مسألة العينة؛ لأنا فسرنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أحسن من تفسير الحديث بالحديث، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا أمكن أن يفسر كلام المتكلم بكلامه فهو أولى من أن يفسر بكلام غيره؛ لأنه أعلم بمراده، والمسألة لا

السلف والبيع

تنطبق أبدًا إلَّا على مسألة العينة، أما بثمانين نقدًا أو بمائة نسيئة لكن بشرط ألا يتفرقا حتى يقطع الثمن، أو يقول: لك الخيار يومًا أو يومين، فإذا أخذه على هذا الشرط فلا بأس. من فوائد الحديث: أولًا: أن الربا محرم؛ لقوله: "أوكسهما أو الربا"؛ لأنه من المعلوم أن الإنسان لن يخسر الأوكس إلا إذا كان الأكثر ممنوعًا وإلا فلا. ثانيًا: فيه دليل على تحريم الحيل وأنها لا ترفع الأحكام، فمن تحيل على إسقاط واجب لم يسقط الواجب، ومن تحيل على فعل محرم لن يبح المحرم، مثال الأول: لو سافر الإنسان في رمضان من أجل أن يفطر فالسفر مبيح للفطر، ولكن إذا سافر من أجل أن يفطر فقد تحيل على إسقاط واجب يفعل شيء مباح فيكون هذا المباح محرمًا، ومثال الثاني: التحيل على المحرم وهو ينطبق على هذا الحديث الذي معنا. وفيه: دليل على أن الإنسان إذا عامل معاملة ربويّة فالواجب عليه حذف الربا لقوله: "فله أوكسهما"؛ لأنه إن وقع في الربا وقع في حرام فلم يبق إلا الأوكس، وهو لا يتحقق إلا بحذف الزيادة، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وإن تبتم فلكم رءوس أمالكم لا تظلمون ولا تظلمون} [البقرة: 279]. ومن فوائد الحديث: إحكام الشريعة وإتقان سياجها وأنها شريعة جدٍّ لا لهوٍ ولعب، وذلك بتحريم الحيل؛ لأن الحيل نوع من اتخاذ آيات الله هزوًا، كيف يحرِّم الله عليك هذا الشيء ثم تذهب وتلوذ من جهة أخرى لتصل إليه بأدنى وسيلة، فالشريعة شريعة جدٍّ وصراحة وليست شريعة لهو وتحيل وهزوٍ. السلف والبيع: 767 - وعن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلُّ سلفٌ وبيعٌ ولا شرطان في بيعٍ، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك". رواه الخمسة وصحَّحه التِّرمذيُّ، وابن خزيمة والحاكم. - وأخرجه في علوم الحديث من رواية أبي حنيفة، عن عمرٍو المذكور بلفظ: "نهى عن بيعٍ وشرطٍ" ومن هذا الوجه أخرجه الطَّبرانيُّ في الأوسط وهو غريبٌ. أولًا: نفي الحل يقتضي التحريم، وإن كان بعض العلماء قال: قد يقتضي الكراهة؛ لأن ضد الحل شيئان هما الكراهة أو التحريم، لكن هذا خلاف الظاهر، فإن الله تعالى يجعل الحل

كتاب البيوع مقابل الحرام لا مقابل المكروه، قال الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} [النحل: 116]، فإذا نفى الضد ثبت ضده، فنقول: ظاهر الحديث أن نفي الحل هنا يعني التحريم. وقوله: "سلف وبيع"، السلف: التقديم ومنه الحديث في زيارة القبور: "أنتم سلفنا ونحن في الأثر"، ومنه حديث ابن عباس: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يسلفون في الثمار" أي: يقدمون القيمة على الثمن الذي يأتي في السنة المقبلة، فالسلف: الشيء المقدم، ويحتمل أن يكون السلف اسم مصدر بمعنى: تسليف، لكن المراد به التقديم، "بيع" البيع المعروف هو تبادل الشيئين على وجه التأبيد، والواو هنا في قوله: "وبيع" للجمع لا للتفريد، لأن السلف وحده حلال، والبيع وحده حلال لقوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275] لكن المراد: الجمع بين السلف والبيع. فما هذه الصورة التي فيها السلف والبيع؟ قال بعض العلماء: السلف والبيع أن يقول: أسلفتك مائة درهم بمائة صاع من البُرّ إلى سنة على أن تبيعني بيتك، فهنا جمع بين السلف الذي هو السلم وبين البيع، وهذا عائد إلى تفسير البيعتين في بيعة، وهو أن يشترط عقد في عقد، فعلى هذا يفسر السلف والبيع بما فسر به بيعتان في بيعة، وقيل: معنى السلف هنا: القرض، يعني: لا يحل لإنسان أن يجمع بين قرض وبيع، مثل أن يقول: أبيعك داري بألف على أن تقرضني ألفًا قالوا: هذا لا يحل، لماذا؟ لأن الغالب أن هذا الشرط يكون فيه مصلحة للمقرض وكل قرض جر نفعًا فهو ربًا، فأنت إذا قلت: أبيعك هذا البيت على أن تقرضني كذا، فإن هذا المشتري سوف ينتفع في الغالب، أو يقول مثلًا: لا أشتري هذا، أو يقول: أشتري منك هذا على أن تسلفني، يأتي إنسان يعرض عليك سلعة فتقول: أشتريها منك بشرط أن تقرضني كذا وكذا، فهنا انتفع المقرض، لأن هذه السلعة التي عرضها علي ربما لا تساوي مائة وأشتريها بمائة وعشرين من أجل القرض، وحينئذ يكون قد أقرضني بفائدة، ومعلوم أن القرض إذا جر منفعة فهو ربًا، لأن الأصل في القرض أنه من باب الإرفاق والإحسان، فإذا انضم إليه شيء من العوض صار ربًا، وصار ليس قصده الإرفاق والإحسان، هذه ثلاث صور: الصورة الأولى: أن المراد بالسلف هنا السلم، يعني: أن يسلم إليه دراهم بسلعة مؤجلة ويشترط عليه بيعًا مع هذا العقد، وعلى هذا التفسير يكون كقوله: "نهى عن بيعتين في بيعة" على أحد التفاسير السابقة، لكن هذا في الحقيقة ليس بصحيح، لأن الجمع بين عقدين على وجه ليس فيه محظور شرعي لا بأس به.

الصورة الثانية: أن يقول: بعتك كذا على أن تقرضني كذا، يأتي يطلب منه أن يبيع عليك سلعته يقول: أنا أبغيك تبيع عليّ بيتك، فيقول: أبيعك بيتي بشرط أن تقرضني كذا وكذا، هذه لا تجوز، لماذا؟ لأنه جر نفعًا للمشتري حيث حصل مقصودًا من البيت بسبب إقراضه البائع، ولولا أن البائع باع عليه ما أقرضه. الصورة الثالثة: العكس ما هو؟ أن يقول: أشتري منك كذا بشرط أن تقرضني كذا وكذا، فهذا أيضًا لا يصح، فالإقراض تارة يكون من البائع وترة من المشتري وكلاهما فيه: إخراج للقرض عن المقصود به إذا إن المقصود بالقرض الإرفاق، وفي هاتين الصورتين خرج به عن المقصود. قال: "ولا شرطان في بيع" هذا ليس على إطلاقه، والشرط سبق لنا أنه ينقسم إلى قسمين: شرط للعقد وشرط في العقد، والفرق بينهما: أن الشرط للعقد تتوقف عليه صحته، والشرط في العقد يتوقف عليه لزومه، بمعنى: أنه إذا فات الشرط فمن له شرط الخيار بين إمضاء العقد وفسخ العقد لكن الشرط للعقد لا يصح إلا به، من شروط البيع: أن يكون الثمن معلومًا، فإذا باعه بثمن مجهول لا يصح العقد، لماذا؟ لفقد شرط من شروط، أما الشرط في العقد فإن يشترط أحد المتعاقدين شرطًا فيه مصلحة له، فهذا شرط في العقد يتوقف عليه لزوم العقد، مثال ذلك: قال: بعتك بيتي على أن أسكن فيه سنة، هذا شرط في العقد لو لم يوفِّ المشتري ويُمكنني من السكك لي الخيار، فرق ثان بينهما: شرط العقد من وضع الشرع فليس لأحد أن يخل به، والشرط في العقد من وضع المتعاقدين فلكل منهما إبطاله. هنا يقول: " ولا شرطان في بيع" ليس المقصود بلا شك النوع الأول الذي هو شرط العقد، لأن العقد يتضمن شروطًا كثيرة. كم شروط البيع؟ سبعة على المشهور من المذهب، فيتضمن عدة شروط، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم هذا، إنما أراد الشرطين في العقد، وهنا في البيع. ما معنى "شرطان في بيع" هل كل شرطين في البيع يحرمان أيضًا؟ هذا ليس على إطلاقه، فهناك شرطان في البيع يصحان بالإجماع، كما لو قال: بعتك هذه السيارة على أن تقبضني الثمن، وقال الآخر: وعلى أن تسلمني السيارة، هذان شرطان، شرط من البائع، وشرط من المشتري وهما يصحان بالإجماع، بل لو قال: بعتك هذه السيارة بشرط أن يكون الثمن حالًا وأن تقبضني إياه، هذان شرطان من طرف واحد أنه حال وأنه يقبضه هذان حلال بالإجماع، الصورة الأولى: الشرطان من المتعاقدين جميعًا، وهذه الصورة الشرطان من واحد منهما وهذا أيضًا: جائز بالإجماع، لماذا؟ لأن هذا مقتضى العقد فهو ثابت سواء شرطه المشترط أو لم يشرطه، لأن

كتاب البيوع مقتضى العقد المطلق أن يكون الثمن حالًا، ومقتضاه أيضًا أن يقضيه إياه سواء اشترط البائع ذلك أو لم يشترط، فما دام ثابتًا فإن شرطه لا يفيد إلا التوكيد فقط، هذا لا إشكال في جوازه وأظنه لا خلاف فيه أيضًا. بقى لنا الكلام في الشرط الذي لا يلزم إلا باتفاقهما الذي الأصل عدمه، فهذا هو محل الخلاف، مثاله: اشتريت من صاحب السيارة الحمولة التي على ظهرها ولنقل: إنه حطب واشترطت عليه أن يحمله إلى البيت، أن يدخله في البيت وأن يكسره، هذه الشروط هل هي ثابتة بمقتضى العقد أم لا؟ أبدًا غير ثابتة، مقتضى العقد إذا اشتريت منه حمولة السيارة ينزل في الحال ويقول: أنت تحمله هذان الشرطان، اشترطت عليه أن يحمله ويُدخله البيت، قال بعض أهل العلم: إن هذين هما الشرطان اللذان نهى عنهما الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: "لا يحل شرطان في بيع" قال: هذان شرطان في بيع فلا يحل، لماذا؟ قالوا: هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتوالى شرطان في عقد واحد، ولكن هذا فيه نظر، لأن هذين الشرطين ليس فيهما محظور شرعي، فإذا قال قائل: بل فيهما محظور شرعي؛ لأن حمل الحطب وإدخاله لو لم يكن عقد بيع لاحتاج إلى أجرة ونسبة الأجرة إلى الثمن مجهولة، أنا اشتريته بمائة وقلت: بشرط أن تحمله إلى البيت وتدخل، البيت الثمن الآن مائة بالشرطين المذكورين، قلنا عن هذين الشرطين: لو أنهما كانا بأجرة لكان نسبة الأجر إلى الثمن مجهولة، ما ندري المائة هذه كيف نوزعها على الأجرة وعلى قيمة الحطب، فيعود ذلك إلى جهالة الثمن، وهذا هو وجه النهي مع أن الرسول نهى عنه وسكت، ولكن هذا التعليل عليل منقوض؛ لأنا نقول: هل لو اشترط عليه أن يحمله إلى البيت بدون أن يدخله البيت هل يصح الشرط؟ يصح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل شرطان في بيع" حمله من مكان البيع إلى البيت يستحق الأجرة لو انفرد، ونسبة الأجرة هذه إلى الثمن مجهولة فينتقض، وحينئذ نقول: لابد أن ننزل الحديث على القواعد الشرعية، فلنبحث ما هما الشرطان اللذان إذا اجتمعا وقعنا في محظور، وإذا انفرد سلمنا من المحظور، يجب أن ننزل الحديث على أنه إذا كان هناك شرطان يوقعان الشارط في محظور شرعي فهما محرمان، وإن كانا لا يوقعانه في محظور شرعي فإن الحديث لا يشملهما، لكن هذا أيضًا لو قال قائل هذا فيه نظر؛ لأن الشرطين المشتملين على محظور شرعي محرمان سواء أضيفا إلى البيع أم لم يضافا إليه، فالجواب على هذا أن يقال: إن هذين الشرطين لا يستقلان عادة وإنما يكونان تابعين للعقد، فلهذا قال: "ولا شرطان في بيع" الشرطان في بيع إذا قلنا: إنهما ينزلان على ما إذا اجتمعا صار فيهما محظور شرعي، وإذا لم يجتمعا لو لم يكن فيهما محظور شرعي، ممكن أن ننزلهما على مسألة العينة، فأقول: بعتك هذا الشيء بمائة درهم مؤجلًا على أن تبيعينه بثمانين نقدًا، لو قلت:

بعتك إياه بمائة مؤجلة هذا شرط واحد فيجوز على أن تبيعني بثمانين نقدًا دخل الشرط الثاني أفسده، وعلى هذا حمل الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية قال: إن المراد بذلك مسألة العينة، لأنها هي التي إذا اجتمع فيها شرطان أفسد العقد وشرط واحد لم يفسد العقد؛ لأنه - كما قلنا- لا ينطبق على الشروط التي هي شروط للعقد ولا على الشروط في العقد التي تثبت بدون شرط، ويكون الشرط فيها توكيدًا، ولا على شروط فيها منفعة لكن لا تؤدي إلى شرط محرم، هذه ثلاثة أشياء. قلنا: المعنى الأول لا يدخل بالاتفاق، لأننا نجد عقد البيع يشتمل على شروط كثيرة، والمعنى الثاني كذلك لا يدخل بالاتفاق وإن قُدر فيه خلاف فهو ضعيف جدًا وهو الذي يقتضيه العقد سواء شرط أو لم يشترط، ويكون الشرط هنا مقيدًا للتوكيد فقط، الثالث الذي فيه مصلحة ولا يُوقع في محظور فيه خلاف، فمن العلماء من منعه وهو المشهور من مذهب أحمد، ومنهم من أجازه، والصحيح الجواز، وإن شيءت فقل- بما هو أعم -: كل شرطين لو انفرد أحدهما لم يؤثر وإن اجتمعا أثرًا فهما داخلان في الحديث، ويمكن أن تأتي صورة غير العينة. إذا كان الانتفاع من الطرفين كما لو أقرضه على أن يزرع أرضًا، فقد قال ابن القيم رحمه الله: إن هذا لا بأس به إذا كان متساويًا فكل منهما انتفع، والربا ينتفع به جانب واحد، ومن ذلك ما يفعله الناس الآن يجتمع خمسة موظفون فيقولون: سنخصم من رايتنا كل شهر ألفًا نعطيه واحدًا منا وفي الشهر الثاني وهكذا، فهذا جائز لأنه ليس فيه منفعة للمقرض، فإن قدر أنه منفعة فهو للجميع. ثم قال: "ولا ربح ما لم يضمن" هذا الثالث، يعني: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح الذي لم يُضمن، أي: لم يدخل في ضمان رابح، لماذا؟ لأنه إذا لم يدخل في ضمانه فربما الضامن الذي لم يسلمك الحق يمانع في تسليمه، وحينئذ يكون في ذلك ضرر، مثاله: باع الإنسان طعامًا اشتراه من زيد فباعه على عمرو قبل أن يستوفيه، فهنا لا يصح البيع؛ لأنه غير مضمون، إذ إن ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع لا يضمن ولا يدخل في ضمان المشتري إلا إذا حصل ذلك، نزيدها إيضاحًا: إذا اشتريت هذا البر الذي أمامنا كل صاغ بدرهم إن كلته فهو في ضماني وقبل أن أكيله في ضمان البائع، هذا البر هل هو لي أو البائع؟ هو لي، ولكن ما دمت لم آكله فهو في ضمان البائع، لو بعته بربح قبل الكيل لكان حرامًا، كما أن بيعه من الأصل حرام ويزداد حرمة إذا ربحت فيه، لماذا؟ لأنه ربما إذا علم البائع أني ربحت يمانع في تسليمه؛ لأن النفوس

كتاب البيوع مجبولة على الحسد وعلى الظلم، فإذا رأى أني قد ربحت يمنع، وحينئذ يكون بيع ما لم يقدر على تسليمه. رجل في ذمته لي مائة صاغ بُرّ فبعتها على شخص آخر، هل يجوز هذا البيع؟ لا يجوز، لماذا؟ لأن هذا الدّين الذي في ذمة المدين لا يدخل في ضماني حتى أستوفيه منه. إذا اشتريت ثمرًا على نخل فالثمر من ضمان البائع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة فلا يحلّ لك أن تأخذ منه شيئًا بما تأخذ مال أخيك بغير حق"، فهل يجوز أن أبيعه بفائدة؟ نقول: ظاهر الحديث لا، وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد أنه لا يجوز بيع الثمرة على رءوس النخل بربح، أما بغير ربح فيجوز؛ لأن قبض الثمرة تخلية، فإذا خلى البائع بيني وبينها فهذا قبض، لكن الشارع جعلها من ضمان البائع، فإذا بعتها بربح فقد ربحت فيما لم أضمن فيكون ذلك حرامًا، وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد رحمه الله. مثال آخر: استأجرت من شخص بيتًا لمدة سنة بألف ريال فهل يجوز أن أؤجره بربح: بألف ومائة؟ ظاهر الحديث أنه لا يجوز، لأن هذا غير مضمون؛ لأنه لو سلف في العين لانفسخت الإجازة، ولهذا كان القول الثاني في مذهب الإمام أحمد أنه لا يجوز للمستأجر أن يؤجر بأكثر مما أستأجر، لأنه إذا فعل ذلك فقد ربح فيما لم يضمن هكذا ذكر شيخ الإسلام صلى الله عليه وسلم في رسالته "وضع الجوانح" على أنه لا يجوز الربح فيما استأجرته، ولا يجوز الربح في بيع الثمرة على رءوس النخل؛ لأنها في غير ضمانه، أما المذهب في المسألتين فيجوز الربح، لأنه كان من ضمان البائع، أعني: الثمرة كانت من ضمان البائع ولم تدخل في ضمان المشتري لسبب وهو أن المشتري لا يكمل الانتفاع بها إلا بأخذها، ففي القبض شيء من النقص، وأما في مسألة الإجارة فيقولون: إن الأصل بقاء العين، والأصل أن المنفعة باقية للمستأجر، وإذا قدر أنها تلفت فإنه سوف يضمن للمستأجر بقية الأجرة، فهي داخلة في ضمانه إما باستيفاء منفعة وإما برد الأجرة، ولنفرض أنها تهدمت في نصف السنة، فهنا لا يمكنك أن تطالب المؤجر وتقول له: أبحث لي عن بيت أسكن فيه، لأنه سيقول لك المؤجر: أنا لم أؤجرك إلا هذا البيت وهذا البيت تلف جاءه المطر وهدمه، لكن له ما بقي من الأجرة، له قسط، فإذا انهدم في نصف السنة يستحق نصف الأجرة، إذن الواقع أنه وإن لم يكن في ضمانه.

من حيث استيفاء المنفعة فهو في ضمانه من حيث ردّ باقي الأجرة، ولهذا نقول: إن القول الراجح في المسألتين جواز الربح، لأنه لا ينطبق عليه الحديث فهو مضمون بكل حال، الثمرة إذا ضمنها البائع فسوف يرد لي قيمة الثمرة، فهي وإن لم تكن في ضماني بل في ضمان البائع، لكن إذا فاتتني الثمرة سيأتي ثمنها، فهي في الحقيقة داخلة في ضمانه. على كل حال: المشهور من المذهب أنه يجوز بيع الثمرة على رءوس النخل بأكثر مما استأجرها به وإن لم تكن داخلة في ضمانه، لأن ضمانها على المؤجر. قال: "ولا بيع ما ليس عندك" بيع ما ليس عندك أيضًا لا يجوز، والمراد إذا كان معينًا، أما إذا كان موصوفًا فلا بأس كما سنذكره، بيع ما ليس عندي يشمل أمرين: الأول: أن أبيع ملك زيد لأذهب فأشتريه فهذا لا يجوز. مثال ذلك: جاءني رجل فقال: وجدت لفلان سيارة من أحسن ما يكون من السيارات فقلت له: أنا أبيع عليك هذه السيارة- سيارة فلان-قال: نعم، كم الثمن؟ قلت: أبيعها عليك بأربعين ألفًا، قال: قيلت، هذا لا يجوز، لماذا؟ لأن صاحب السيارة قد يبيع وقد لا يبيع، فتقع في مشكلة مع الذي اشتراها منك، فلا يجوز أن تبيع ما ليس عندك هذه صورة. الصورة الثانية: أن يكون الشيء ملكًا لك، لكن لا تقدر عليه مثل أن يكون قد استولى عليه ظالم لا تقدر على تخليصه منه، أو يكون جملًا شاردًا أو عبدًا آبقًا فهذا لا يجوز بيعه ولا بيع ما ليس عندك. الصورة الثالثة: أن يبيع الديون في ذمم الناس، يقول: أطلب فلانًا مائة صاغ بُرّ أبيعها عليك هذا لا يجوز، أولًا: لأنها لم تدخل في ضمانه، والثاني: أن هذا المشتري لم يشترها بمائة درهم فيشتريها مثلًا بتسعين درهمًا، وحينئذ فإن قدر على أخذها من المدين فهو غانم، لأنه أخذ ما يساوي مائة بتسعين وإن عجز فهو غارم، لأنه بذل تسعين درهمًا وقد تذهب عليه، إذن الصور الآن ثلاث: أن يبيع ملك غيره المعين، أن يبيع ما ليس عنده وهو ملكه لكن لا يقدر عليه، الثالث: أن يبيع الديون في ذمم الناس، لأن هذه ليست عنده. فإن قال قائل: أتجيزون أن يبيع الإنسان الدَّين على من هو عليه؟ فالجواب: نعم، لكن بشرط إلا بربح، فإن ربح دخل في الجملة الأولى من الحديث، وهي: "ربح ما لم يضمن"، دليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نبيع الإبل بالدراهم فنأخذ عنها الدنانير والدنانير فنأخذ عنها الدراهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم.

تتفرقا وبينكما شيء" فإذا جاء المدين وقال: أنا عندي لك مائة صاغ بُرّ والآن ما عندي شيء من البر لكن سأعوضك عنه قال: نعم عوضني عنه، قال: أعطيك مائة درهم، لأن الصاع بدرهم، فقال الدائن: لا، أعطني مائة وعشرة هذا لا يجوز، لماذا؟ لأنه ربح بما لم يضمن لم يدخل في ضمانك حتى الآن، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها" إذا قال: أعطيك عنها مائة فيجوز؛ لأنه ما ربح، إذا قال: أعطيك عنها تسعين يجوز؛ لأنه إذا جاز بنفس القيمة فمن باب أولى أن يجوز بأقل كما لو قال: أعطني بدل المائة صاع تسعين صاعًا أليس يجوز؟ نعم، إذن يكون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها"، المراد: نفي الزيادة لا نفي النقص، فلو أخذها بأنقص جزاء الله خيرًا أو أخذها بالمثل فهو عدل، أو أخذها بالزيادة فهو حرام، وهل يُشترط في هذه الحال ألا يتفرقا وبينهما شيء؟ هو في ذمته مائة صاع بُرّ ولم يكن عنده شيء فاشتراها بمائة درهم، هل يُشترط ألا نتصرف حتى أستلم مائة الدرهم أو لا يُشترط؟ الذين يقولون: يشترط. سيستدلون بحديث ابن عمر: "ما لم يتفرقا وبينهما شيء"، فنقول: كأنكم تقولون: لا يصح الاستدلال بحديث ابن عمر على اشتراط القبض، لأن حديث ابن عمر إنما هو في بيع دراهم بدنانير، وبيع الدراهم بالدنانير يشترط فيه التقابض، لكن بيع دراهم ببُرّ لا يشترط فيه التقابض، وعلى هذا فلو قال بعتك مائة الصاع بمائة درهم لم يشترط القبض الذي يشترط أن يكون بسعر يومه حتى لا يربح فيما لم يضمن، وأما القبض فليس بشرط، وحينئذ نحول البُرّ إلى دراهم، لو قال: أنا ليس عندي بُرّ لكن عندي شعير، أنا رجل مزارع أعطيك بدل البُرّ شعيرًا، هنا يُشترط الشرطان اللذان في حديث ابن عمر وهما أن يكون بسعر اليوم والتقابض، فيقال مثلًا: إذا كان السعر أن صاعًا من البُرّ بصاعين من الشعير فأعطه بدل مائة صاع مائتين ولا تأخذ أكثر من مائتين ولم تتفرقا وبينكما شيء، لا يبيع البًرّ بالشعير يُشترط فيه التقابض، هذه أربعة أنواع من البيوع. فإذا قال قائل: ما هي الحكمة في النهي عنها، لأننا نعلم أن الأصل في المعاملات الحل، فكل من ادعى تحريم معاملة طولب بالدليل، فهنا نقول: ما هي الحكمة لنعرف سمو هذه الشريعة وأنها لا تضيق على معتنقيها؟ قلنا: لأنها تشتمل على مفاسد، أما الأول: السلف والبيع، فإنها تشتمل على ربًا إما تحقيقًا وإما ظنًا، ومعلوم أن الربا محرم، وثانيًا: لأنها تخرج العقود عن مقصودها الشرعي، فالمقصود بالسلف الإرفاق والإحسان، وإذا انتقل إلى مُعارضة خرج عن موضوع الشرع، ولذلك لو بعت عليك درهمًا بدرهم إلى أجل لا تعطينيه إلى بعد يومين أو ثلاثة هل يجوز؟ لا يجوز، أما لو أقرضتك درهمًا ولم توفني إلا بعد يومين فهذا يجوز، لماذا؟ لأن المقصود الإرفاق ليس المعاوضة:

"شرطان في بيع" العلة في ذلك انه يؤدي إلى التنازع والفوضى، أو الربا إن تضمن الوقوع في الربا بواسطة الشرطين: "بيع ما لم يضمن" كذلك يؤدي إلى النزاع وعدم التمكين من التسليم، وربما يؤدي إلى الحسد والبغضاء إذا رآك البائع قد ربحت ولم يدخل في ضمانك بل هو في ضمانه، وربما يكون في قلبه حسد والحسد كالتار إذا ولعت أحرقت ما ولعت به إذا صار في قلبك حسد ولو على مسألة صغيرة فإن هذا - والعياذ بالله- ينمو، قد تحسد إنسان في بيع من البيوع يتطور هذا إلى أن تحسده في كل شيء، تحسده على عافيته، على صحته، على أولاده، على أهله، على بيته، على علمه، على ماله، فالمهم أن هذا لما كان يؤدي إلى العداوة والبغضاء وعدم التمكين من التسليم والحسد منعه الشرع. "بيع ما ليس عندك" معناه ظاهر، لأنه يتضمن الغرر والجهالة، وكل شيء يتضمن الغرر والجهالة فإنه ميسر الذي يريد به الشيطان أن يوقع بيننا العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون} [المائدة: 91]. ونأخذ من عموم العلة هذا أن الشرع يريد منا الاتزان في البيع والشراء حتى نبيع بيعًا هادئًا ليس فيه جشع ولا طمع ولا عداوة ولا بغضاء، وهذا لا شك أنه من محاسن الشريعة، الموصوف، مثل أن أبيع عليك مائة صاع بُرّ صفته كذا وكذا بمائة ريال هذا لا بأس به، وهذا لا يكون من بيع ما ليس عندي إنما هو من بيع شيء موصوف في الذمة لم تعينه، المعين أن نقول مثلًا: الجمل الفلاني، الطير الفلاني، ملكي الذي غصبه فلان هذا معين، أما الموصوف فلا، لأن الموصوف يثبت في الذمة، ودليل ذلك السلم كان الصحابة-رضي الله عنهم-يسلفون في الثمار السنة والسنتين يأتي إلى الفلاح ويقول: أريد أن تبيع علي تمرًا مائة صاع كل صاع بدرهمين، صفة الثمر كذا وكذا، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فليُسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"، لم يقل: فلا يسلف، فهذا هو الفرق بين العمين وبين الموصوف في الذمة، أيضًا في شيء موصوف معين، كما لو بعت عليك سيارتي التي عندي في الجراج صفتها كذا وكذا هذا معين موصوف ومعين يقول: ماذا ترى لو بعت عليك هذه السيارة تشاهدها، فالمعين موصوف ومعين مشاهد مرئي، والثالث: موصوف لا مرئي ولا معين، موصوف في الذمة فيتعلق بالذمة. أيضًا نقول في: "نهى عن بيع وشرط" المراد به: الشرط الذي يتضمن محظورًا شرعيًا كقضية بربرة، اشترط أهلها أن يكون الولاء لهم مع أن الولاء للمعتق وليس المراد: النهي عن كل بيع يتضمن شرطًا، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من جابر جمله واشترط جابر أن يحمله إلى المدينة

فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك الشرط وجعله شرطًا صحيحًا، فهذه المطلقات كالذي سبق في النهي عن شرطين في بيع وعن بيع وشرط، هذه المطلقات يجب أن تُحمل عل الصور التي فيها مانع شرعي لا على إطلاقها. من فوائد الحديث: جواز السلف لقوله: "لا يحل سلف وبيع"؛ لأن المنهي عنه الجمع، وما نهي عن جمعه دل على جواز إفراده، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان النهي يرد عنه مطلقًا. ثانيًا: جواز البيع مثل السلف. ثالثًا: تحريم الجمع بين البيع والسلف لقوله: "لا يحل سلف وبيع"، وهذا إن كان مشروطًا فلا شك في أنه حرام، لأن الغالب أنه يتضمن ربًا، فإن الغالب أن المسلف إذا اشترط البيع أو الشراء منه لابد أن يكون هناك فائدة له، وكل شرط جر نفعًا للمقرض فهو حرام ربًا، فإن وقع عن غير شرط بأن باع عليه شيئًا ثم قال المشتري: أريد أن تسلفني-تُقرضني-هذا الثمن الذي ثبت لك علي يعني: يسلمه الثمن وانتهى البيع، ثم قال: سلفني إياه، هذا جائز، أو رجل باع على شخص آخر بيته بعشرة آلاف ريال، ثم قال: أريد أن تقرضني عشرة أخرى، لأنني محتاج إلى عشرين ألفًا، فهذا جائز إذا وقع بدون شرط لا شرط ولا اتفاق مسبق فإنه جائز لا بأس به. ومن فوائد الحديث: تحريم كل شرطين إذا اجتمعا لزم منهما محظور، لقوله: "ولا شرطان في بيع، أما إذا لم يلزم منهما محظور فلا بأس بذلك، مثل أن يشتري الحطب على بائعه أن يحمله إلى بيته ويدخله في البيت ويكسره، هذه ثلاثة شروط لكنها كلها جائزة، لأنها لا تضمن محظورًا شرعيًا. ومن فوائد الحديث: تحريم الربح فيما لم يدخل في ضمان رابح، والعلة في ذلك الغرر أحيانًا وإثارة الأحقاد أحيانًا، فإنني إذا بعت شيئُا لم يدخل في ضماني بقبضه وربحت فيه فإن البائع الذي باع علي سوف يكون في نفسه شيء، يقول: هذا غرني غلبني، وإذا لم يسيء الظن بالمشتري فإنه ربما يحقد عليه. ومن فوائد الحديث أيضًا: تحريم بيع ما ليس عند الإنسان بالصور الأربعة التي ذكرناها كل شيء ليس عندك لا تبعه، لماذا؟ لأنه يؤدي إلى الخصومات والنزاعات، فإنك إذا بعت ثم عجزت أن تسلمه صار بينك وبين المشتري نزاع طويل وحصل بذلك عداوة وبغضاء وشحناء، ثم إن الغالب أن الإنسان لا يتعجل فيبيع ما ليس عنده إلا بأرباح، فيكون التقى فيه المعنيان: الربح فيما لم يضمن، والثاني: بيع ما ليس عندك. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى تحريم كل غرر، لأن بيع ما ليس عندك غرر قد يحصل وقد لا يحصل وهو كذلك، فإن الشريعة جاءت بتحريم كل ما فيه غرر؛ لأن هذا يؤدي إلى

بيع العربان

النزاع والبغضاء وإلى الطمع وأن ترتقي النفوس لطلب الربح إلى الميسر الذي حرمه الله تعالى في كتابه وقرنه بالخمر والأنصاب والأزلام. ومن فوائد الحديث: حكمة الشارع في درء كل ما يوجب العداوة والبغضاء بين الناس، لأن المطلوب من المسلمين أن يكونوا إخوانًا متآلفين متحابين، فكل ما يفضي إلى النزاع من أي معاملة كانت فإن الشرع يمنع منه. بيع العُربان: 768 - وعنه رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العُربان".رواه مالك، قال: بلغني عن عمر بن شعيب، به. النهي هو طلب الكف على وجه الاستعلاء، وهو من الشارع يقتضي التحريم كما مر علينا وقوله: "العُربان"، ويُقال: العربون، والعربون: هو أن يشتري إنسان شيئُا من شخص ويقدم له بعض الثمن ويقول: إن تم البيع فهذا من الثمن، وإن لم يتم البيع فهو لك، مثال ذلك: جئت إلى زيد وقلت: يعني بيتك، قال: طيب اتفقنا على أنه يبيعه علي بمائة ألف ريال، فقال: أعطني العُربون، فقال: أعطيك عشرة آلاف ريال عربونًا، إن تم البيع أتممت الثمن، كم يتمم؟ تسعين ألفًا وإن لم يتم فهو لك، هذا فيه خلاف بين العلماء، فمن أهل العلم من قال: إنه محرم، لأنه غرر وجهالة قد يتم البيع وقد لا يتم، فيكون هناك جهالة وغرر فيكون ممنوعًا، واستدلوا بهذا الأثر، لكن هذا الأثر كما تشاهدون لا يصح، لماذا؟ لأنه يقول: بلغني عن عمرو بن شعيب، فمن الذي بلغ، ما هو الطريق؟ مجهول، وحينئذ لا يصح، ولهذا كان القول الثاني في المسألة صحة بيع العربون، وهذا مذهب عمر رضي الله عنه صح عنه ذلك، وصح عن ابنه أيضًا ابن عمر وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل أن بيع العربون جائز ولا بأس به، قالوا: والجهالة التي فيه ليس جهالة ميسر؛ لأن الجهالة- جهالة الميسر-يكون فيها المتعاملان بين الغنم والغرم، أما هذه فإن البائع ليس بغارم بل البائع غانم، وغاية ما هناك أن ترد إليه سلعة، ومن المعلوم أن المشتري لو شرط الخيار لنفسه لمدة يوم أو يومين كان ذلك جائزًا، وبيع العُربون يشبه شرط الخيار إلا أن المشتري يقول: بدل من أني رددت عليه السلعة وربما تنقص قيمتها إذا علم الناس اشتريت ثم رُدت بدلًا من ذلك أنا أعطيه عُشر الثمن أو أكثر أو أقل حسب ما يتفقان عليه، ففيه جبر لما قد

حكم بيع السلع حيث تبتاع

يحصل من نقص قيمة السلعة، ولو على سبيل التقدير، ففيه مصلحة، وفيه أيضًا مصلحة للبائع من وجه آخر، لأن المشتري إذا سلم العربون وعلم أنه إن لم تتم البيعة أخذ منه العربون فسوف يتمم البيعة، ولهذا البائع يشترط العربون في الغالب لأجل أن يتمسك ويمسك المشتري ولا يتهاون، ففيه مصلحة للبائع وفيه أيضًا مصلحة للمشتري، لأن المشتري ربما إذا أخذ السلعة وذهب ونظر وفكر وقدر علم أنها لا تناسبه، فإذا كان لم يشترط الخيار فهي لازمة له، وإذا اشترط الخيار بالعربون صار غير لازم، وهذا يقع كثيرًا، تجد الإنسان يشتري الشيء راغبًا فيه جدًا ثم يتغير نظره فيه أو يأتيه من جهة أخرى نفس الشيء الذي اشتراه يهب له إنسان فتطيب نفسه عن الشراء ويرغب في ردّه، فإذا كان اشتراه عن طريق العربون انتفع. فالقول الراجح في هذه المسألة - وعليه عمل الناس اليوم-: أن بيع العربون لا بأس به، لأنه مصلحة للطرفين، وليس من باب الميسر؛ لأن الميسر يكون فيه أحد الطرفين إما غانمًا وإما غارمًا، أما هذا فليس فيه غُرم، البائع رابح، لأنه يقول: إن تم البيع فلك، وإن لم يتم فأنا قد ربحت العربون. فإذا قال قائل: هل العربون مقدر، أي: أنه يكون بنسبة شيء معين إلى الثمن أو على حسب ما يتفقان عليه؟ الجواب: هو الثاني، قد يعطيه من العربون عشرة ريالات والثمن منه مائة ألف، وقد يعطيه خمسين ألفًا والثمن مائة ألف، المهم: أن هذا شيء يرجع إليهم، لكن من المعلوم أنه إذا أعطاه عربون خمسين ألف من مائة ألف الغالب أنه لا يترك المبيع؛ لأن الخسارة كبيرة والبائع إذا كان يخشى سوف يطلب عربونًا كبيرًا حتى يستمسك من المشتري. حكم بيع السلع حيث تُبتاع: 769 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "ابتعت زيتًا في السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يد الرجل، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت، فإذا هو زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تُباع السلع حيث تُبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم". رواه أحمد، وأبو داود واللفظ له، وصححه ابن حبان والحاكم. "استوجبته" يعني: تم العقد وحصلت المفارقة ولزم، وفي لفظ: "فلما قبضته".

وقوله: "أضرب على يد الرجل" يعني: أن أبيع عليه، وإنما كنى عن البيع بالضرب على اليد؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك أحيانًا، يقول مثلًا: اشتريت منك كذا وكذا، فيقول: نعم، ويضرب يده على يده فالمؤكد للبيع، ولهذا يُسمى عقد البيع ويُسمى صفقة، وليس المعنى تصكه على وجهه، لكن المعنى: أنك تصفق يدك على يده، ومن التصفيق: ضرب اليد على اليد، فكانوا أحيانًا عند البيع - ولاسيما البيعات الكبيرة-يفعلون هذا كالمعاهد، الإنسان إذا أراد أن يُعاهد شخصًا مد يده وعاهد، كما قال الله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله} [الفيتح: 10]. ولهذا سموا البيع بيعًا، لأنه مأخوذ من الباع، لأن كل واحد من المتعاقدين يمد باعه للآخر، المهم أن قول ابن عمر: " أردت أن أضرب على يده" أي: أتمم البيع معه وأتمم العقد. يقول: "فأخذ رجل مني خلفي بذراعي" كأنه رفع يد ابن عمر فأخذ من خلفه ذراعه فالتفت فإذا هو زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: "لا تبيعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تُباع السلع حيث تُباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم"، (حيث) هذه ظرف مكان، و"ابتعته" بمعنى: اشتريته، يُقال: باع وابتاع كما يُقال: شرى واشترى، شرى: بمعنى باع، خلافًا للغة العُرفية عندنا أن شرى بمعنى اشترى، بل شرى بمعنى: باع، ومنه قوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} [البقرة: 207] أي: من يبيعها، واشترى مقابلها باع وابتاع كشرى واشترى. وقوله: "حيث تُبتاع" أي: حيث تُشترى، "حتى يحوزها التجار إلى أماكنهم، إن كانت دكانًا ففي الدكان، وإن كانت بيتًا ففي البيت المهم إلى بيته الذي يسكنه أو إلى محل تجارته، وقوله: "حتى يحوزها التجار" وهم الذين يتعاملون بالتجارة والتكسب، والظاهر أنه ليس لها مفهوم، وأنها جاءت على الأغلب، وأن الإنسان إذا اشترى ولو لحاجته الخاصة ثم أراد أن يبيعه فلا يبيعه حتى يحوزه إلى رحله. هذا الحديث فيه دليل على فوائد كثيرة منها: جواز البيع والشراء من العالم والفقيه وذي اتجاه بدليل فعل ابن عمر رضي الله عنهما ولا يُخفى على أحد مكانة ابن عمر رضي الله عنهما من العلم والفقه والدين والورع وهو كذلك، أي: أنه يجوز للعالم والفقيه والعابد أن يبيع ويشتري كغيره، لكن كره بعض أهل العلم أن يبيع القاضي ويشتري بنفسه، وإنما كرهوا ذلك لئلا يُحابي القاضي ويكون عند المحابي له خصومة، لأن القاضي كل الناس إما أن يحتاجوه وإما أن يترقبوا حاجتهم إليه، فربما يحابونه تحسبًا لما سيكون عندهم من المخاصمة، ولكن الصحيح أنه لا يُكره للقاضي أن يبيع ويشتري لحاجاته، أما في مسألة التجارة وطلب التكسب فالأولى أن يتنزه

الإنسان عن ذلك؛ لأن الإنسان إذا داخل الناس في تجاراتهم سقط من أعينهم وعرفوا أنه مثلهم يُنازعهم جيفة الدنيا، وأظن للشافعي رحمه الله أبيات حول هذا الموضوع يقول: [الطويل] ومن يبغ الدنيا فإن طعنتها***وسيق إلينا عذبها وعذابها فلم أرها إلا غرورًا وغافلًا ***كما لاح في ظهر الفلاة سرابها وما هي إلا جيفة مستحيلة***عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها***وإن تجتذبها نازعتك كلابها فالإنسان ذو الشرف والجاه والعلم لا ينبغي أن يتدخل في التجارة وطلب زيادة المال، أما التجارة التي لا بد منها فلابد منها. ومن فوائد الحديث: حرص الصحابة-رضي الله عنهم-على التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر لفعل زيد بن ثابت. ومن فوائد الحديث: المبادرة في منع المنكر؛ لأنه أمسك بيده، وهذا يدل على أنه فعل ذلك فورًا لئلا يتم البيع. ومن فوائده: أن مثل هذا لا يُقال أن فيه حسدًا للمشتري أو بيعًا على بيع كما يتوهمه بعض العامة إذا عُقد عقد محرم وجاء شخص ينصح العاقد ويحذره قال: لا تقطع رزقه، هذا ليس بصحيح، بل الشيء المحرم يجب منعه، ولا يُعد هذا من باب الحسد والحيلولة بين الإنسان ورزقه. [إعادة شرح]: وقوله: "ابتعت" بمعنى: اشتريت، وأما بعت بمعنى: اعطيت الشيء، فعندنا المادة شرى إن زيدت فيها التاء فهي بمعنى: الأخذ، إن حذفت فهي بمعنى: الإعطاء، فالبائع معط والمشتري آخذ يُقال: شرى بمعنى: باع، واشترى بمعنى: أخذ ويُقال: باع بمعنى: أعطى، وابتاع بمعنى: أخذ. [عودة للفوائد]: أنه لا يجوز بيع الشيء في مكانه الذي اشترى منه حتى يحوزه مشتريه إلى رحله لقوله: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُباع السلع حيث تُبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم ولا فرق في هذا بين ما يحتاج إلى توفية وما لا يحتاج، أي: لا فرق بين ما يبيع جزافًا أو يبيع بكيل

أو وزن أو عد أو ذرع، فمثلًا لو اشتريت سيارة من معرض وبعتها في هذا المعرض كان هذا حرامًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلع حيث تُبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. ولو اشتريت كيسًا من البر كل صاع بدرهم هذا يحتاج إلى توفية فلا يجوز أيضًا بيعه حتى تكيله وتحوزه إلى رحلك، وظاهر هذا أنه لا فرق بين أن تكون السلعة فيما يختص بالبائع كدكانه وبيته أو فيما هو عام كالسوق، لأن هذه القصة كانت في السوق، ولكن في النفس من هذا شيء، وذلك لأن السوق رحل للبائع والمشتري، فمثلًا إذا اشتريت كومتين خضرة في سوق الخضار من قثاء أو غيره، فهل نقول: لا يجوز لك أن تبيعه ما دامت في هذا المكان حتى تحوزها إلى رحلك؟ نقول: في هذا نظر، لماذا؟ لأن هذا الذي باعها لم يبعها في مكان يختص به وقد باعها وخلى بينك وبينها، وأنت الآن لو حزتها إلى أي مكان تحوزها، ليس من العُرف والعادة أن الإنسان إذا اشترى شحنة من هذه الأشياء يذهب بها إلى بيته ليبيعها في بيته، أو في دكانه، بل جرت العادة أن يبيعها في هذا المكان وهذا هو الظاهر، وعلى هذا فيكون هذا الحديث خاصًا فيما يُنقل إلى الرحل، أما ما لم تجر العادة بنقله ويكون البائع قد خلى بينه وبين المشتري في مكانه العام فلا يدخل في هذا الحديث. ومن فوائد الحديث: أن للشرع نظرًا في قطع ما يُوجب الحقد والبغضاء، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بيع السلع في مكان ابتياعها لئلا يربح المشتري، وحينئذ يكون في قلب البائع شيء من الحقد والبغضاء، حتى وإن كان البائع قد باع باختياره لكن من المعلوم أنه إذا كسب عليه المشتري فقد يظن أنه غلبه وأخذه منه بأقل فيكون في نفسه شيء عليه، ولاسيما أن الشيطان يحرص على هذه الأمور، وبناء على هذه العلة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لو باعه على من اشتراه منه فإن ذلك لا بأس به أو باعه تولية فإن ذلك لا بأس به، ما معنى تولية؟ يعني: برأس المال بدون ربح، ولكن ظاهر الحديث يُخالف هذا، وأنه لا يجوز بيعه لا تولية ولا مُرابحة ولا على البائع ولا على غيره، وهذا هو الأقرب. ومن فوائد الحديث: جواز البيع والشراء في الأصل؛ لأنه إنما منع بيعها حيث تُبتاع، فيدل على أن الأصل جواز البيع، وهذا هو الأصل لقول الله تعالى: (واحل الله البيع وحرم الربا) البقرة 275. ونستفيد من الأصل أنه لو ادعى مدعٍ أن عقد بيع معين عقد محرم ماذا نقول؟ نقول: هات الدليل، وإلا فالأصل أن عقد البيع حلال حتى تأتي بدليل.

770 - وعنه رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه وأعطي هذه من هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء"، رواه الخمسة، وصححه الحاكم. "البقيع" معروف هو بقع الغرقد الذي فيه مقبرة أهل المدينة، والبقيع معناه: مقتنع الماء وهو موضع قريب من المدينة تُباع فيه الإبل. وقوله: "فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم"، الدنانير جمع دينار وهو النقد من الذهب، والدراهم جمع درهم وهو النقد من الفضة، والنقدان هما الذهب والفضة، فكان بيع بالدنانير ويأخذ بالدراهم وبالعكس. وقوله: "آخذ هذا من هذا وأعطي هذا من هذا"، "من" هنا بدلية أي: بمعنى بدل؛ لأن من معاني "من" البدلية، ومنه قوله تعالى: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} [الزخرف: 60]. فآخذ هذا يدل هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس .... إلخ) مثال ذلك: يبيع البعير بخمسة دنانير ويأخذ عنها ستين درهمًا أو يبيعها بستين درهمًا ويأخذ عنها خمسة دنانير، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء" "لا بأس" أي: لا حرج ولا إثم: "أن تأخذها" الضمير يعود على العوض المأخوذ بدلًا من العوض الثابت في الذمة سواء كان يأخذ الدنانير بدل دراهم أو الدراهم بدل دنانير، لكن اشترط النبي صلى الله عليه وسلم شرطين قال: "بسعر يومها" لا تزيد ولا تنقص، فمثلًا إذا باع بخمسة دنانير وكان قيمة الدينار عشرة دراهم كم يأخذ العِوض؟ خمسون درهمًا، لو أخذ عنها ستين درهمًا لا يجوز، أخذ عنها أربعين درهمًا لا يجوز لظاهر الحديث؛ لأنه قال: "بسعر يومها"، أما إذا أخذ عِوض هذه الخمسة ستين درهمًا فإنه لا يجوز، ووجهه: أنه ربح فيما لم يدخل في ضمانه ربح في دين له في ذمة المشتري فربح في شيء لم يدخل في ضمانه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن كما تقدم في حديث عمرو بن شعيب، إذن نقول: وجه ذلك: أنه لا يجوز أن يربح في شيء لم يدخل في ضمانه، أما إذا أخذ عنها خمسين يجوز، لأن هذا سعر يومها، إذا أخذ عن الخمسة أربعين وكان قيمة

الدينار عشرة فظاهر الحديث أنه لا يصح، ولكن ليس هذا مرادًا يعني: أنه يجوز أن يأخذ عن هذه الدنانير الخمسة التي قيمة الدينار عشرة أن يأخذ عنها أربعين؛ لأن هذا في مصلحة المشتري الذي تلفت عليه خمسة دنانير وأنا لم آخذ منه إلا أربعين درهمًا لو ذهب ليشتري الدنانير لدفع خمسين درهمًا. فإذا قال قائل: كيف تخالفون مفهوم الحديث؟ قلنا: إن المفهوم يُصدق ولو بصورة واحدة، وهنا صُدق بصورة واحدة وهي ما إذا كان بزيادة، أما إذا كان ينقص فلا بأس به، لأن قواعد الشرع لا تاباه، كما أنه لو ثبت في ذمتك لي خمسين درهمًا وقلت: أعطني أربعين درهمًا وأنت في حِل أليس هذا بجائز. الشرط الثاني قال: "وما لم تفترقا وبينكما شيء" يعني: أنه يُشترط قبض العوض قبل التفرق، وهذا ظاهر، لأن هذا بيع ذهب بفضة، وبيع الذهب بالفضة يُشترط فيه التقابض قبل التفرق، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شيء تم إذا كان يدًا بيد"، إذن لابد أن يستلم البائع عِوض الثمن في مجلس العقد، مثاله: بعت عليك هذا البعير بخمسة دنانير، ثم أردت أن أخذ عن هذه الدنانير دراهم وقيمة الدينار عشرة كم درهمًا آخذ؟ خمسة، قلت: إذن نحول الذهب إلى فضة، وأبقيت في ذمتك خمسين درهمًا، هل يجوز؟ لا يجوز، لابد أن يعطيني ويسلمني الدراهم، ووجهه: ما ذكرت أن بيع الذهب بالفضة يُشترط فيه التقابض في مجلس العقد، فإن أخذت عٍوضًا عنه ما لا يجوز فيه النساء بأن قلت: الدراهم التي في ذمتك آخذ عنها هذه السيارة فوافق، فهل يجوز هذا أو لا يجوز، ولم آخذ السيارة؟ إن قلتم يجوز: أخطأتم، وإن قلتم: لا يجوز أخطأتم، نقول: إذا كانت السيارة تساوي ما في ذمة الذي أعطاها فقد حصلنا على شرط وهو قوله: "بسعر يومها"، فمثلًا إذا كان في ذمته لي عشرة آلاف ريال وقال: أعطيك عنها هذه السيارة، والسيارة تساوي عشرة آلاف ريال وُجد الشرط الآن لكن صرف ولم أشتر منه السيارة، فهل يجوز؟ نحن قلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترط: "وما لم تفترقا وليس بينكما شيء"، اشترط هذا الشرط، لأنه سيأخذ عن الدنانير دراهم أو عن الدراهم دنانير وبيع الذهب بالفضة يشترط فيه التقابض في مجلس العقد، أما بيع السيارة بالدراهم لا يُشترط فيه، وبناء على ذلك فيجوز أن أخذ هذه السيارة عما في ذمته بدون أن أستلمها تبقى عنده متى شيءت استلمتها، والعلة الثانية: "ما لم تفترقا وبينكما شيء"، لأن بيع الذهب بالفضة لابد فيه من التقابض في مجلس العقد، وبناء على هذه العلة لو أُخذت عوضًا عن الدراهم ما يُباح به النسيئة فإنه لا يُشترط القبض في مجلس العقد.

يُستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: حرص الصحابة- رضي الله عنهم-على العلم، لسؤال ابن عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن تصرفه. ثانيًا: أنه يتأكد على كل إنسان أراد أن يفعل عبادة أو أن يعقد عقدًا أن يعرف أحكامه لئلا يقع في خطأ، وهل يُطلب من الإنسان أن يعرف الأحكام قبل أن يفعل أو بعد أن يفعل؟ قبل أن يفعل، لأنه إذا فعل ووقع في الخطأ مشكل قد لا يمكن استدراك هذا الخطأ، ولهذا نجد بعض الناس الآن لما انتشر الوعي وصار الناس يتساءلون عن الدين تجده يسأل عن مسألة لها عشرين سنة، يقول: حججت منذ عشرين سنة وفعلت كذا وكذا، وربما يكون هذا لم يطف طواف الإفاضة، إذا كان لم يطف طواف الإفاضة وتزوج وجاءه أولاد يقع في مشكلة ما هي؟ المشكلة أن من يرى أن عقد النكاح قبل التحلل الثاني فاسد يجعل نكاحه هذا فاسدًا، لكن يوجد قول ثان يقول أن عقد النكاح يعد التحلل الأول جائز، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم وجماعة من أهل العلم، قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال: "حلّ لكم كل شيء إلا النساء" يعني: نساءكم، ولا يتوجه النهي عن النساء إلا بعد العقد، ولكن من أخذ بالعموم وقال: إلا النساء سواء كان جماعًا أو مباشرة أو وسيلة فإنه داخل في الحديث كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، فإن عقد النكاح لهذا الرجل ليس بصحيح ويجب أن يُعاد انظر كيف التساهل يعني: بعد عشرين سنة وبعدما تزوج ورزق أولادًا قال: تركت طواف الإفاضة، المهم: أنه يتأكد أن يسأل الإنسان قبل أن يفعل. ومن فوائد الحديث: أنه لا يُشترط في التقابض في بيع الحيوان بالنقود، لقول ابن عمر في الدراهم: نبيعها بالدنانير ثم نأخذ عنها كذا، وهذا يدل على أن الدراهم والدنانير تبقى في ذمة المشتري. ومن فوائد الحديث: جواز بيع الدين لمن هو عليه، كيف ذلك؟ لأن ابن عمر يبيع البعير بالدنانير، فيثبت في ذمة المشتري دنانير، ثم يبيع على المشتري هذه الدنانير، وهذا بيع الدَّين لمن هو عليه، وله أمثلة منها هذا المثال الذي في حديث ابن عمر، ومنها لو كان في ذمتك لي سلم يعني: قد أعطيك دراهم على أن تعطيني مائة صاع بًرّ إلى أجل لما حلّ الأجل بعت عليك هذه الأصواع، فهل يجوز أو لا؟ نعم يجوز، وإنما مثلت بالسّلَم خاصة؛ لأن بعض أهل العلم قال: إن بيع السّلَم لا يجوز حتى ولو كان على ما هو عليه، واستدلوا بحديث ضعيف:

مسألة بيع الدين

"من أسلف في شيء فلا يُسلفه إلى غيره"، والحديث ضعيف، ولو صحّ فليس معناه الذي ذهب إليه هذا الدال، لو أنني اشتريت منك سيارة وبقيت السيارة عندك ثم بعتها عليك قبل أن أحوزها إلى رّحلي هل يجوز؟ لا يجوز إلا على رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن ذكرنا أن ظاهر الحديث العموم. مسألة بيع الدَّين: -هل يجوز بيع الدَّين على غير من هو عليه؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، أما المذهب فإنه لا يجوز أن يُباع على غير من هو عليه، مثال ذلك: في ذمتك لشخص مائة صاع بُرّ فباعها الذي هي له على زيد وأحاله عليه، هل يجوز أو لا؟ المذهب لا يجوز، وذلك لأن هذا المشتري قد يقدر على استلام هذا الدّين وقد لا يقدر، فيكون في البيع نوع غرّر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وقال بعض أهل العلم إنه يجوز بيع الدّين على غير من هو عليه بشرط أن يكون معلومًا جنسه وقدره وأجله، إذا كان مؤجلًا وأن يكون مقدورًا على أخذه، وقال: إنه ما دام صاحب الدّين مقرًا به وثقة يمكن أخذ الدّين منه والأجل معلوم والجنس معلوم، والنوع معلوم والقدر معلوم، فإن هذا لا يدخل في بيع الغرر الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو الصحيح، ويدل على ذلك أن العلماء - رحمهم الله-الذين منعوا بيع الدّين على من هو عليه قالوا: لو باع مغصوبًا بيد الغاصب والمشتري قادر على أخذه فإن ذلك جائز وصحيح، فنقول: المغصوب عين باعها من هو له، والدّين دّين باعه من هو له، ولا فرق بين الدّين والعين، لأن العلة هي القدرة على التسليم، وما دام المشتري قادرًا على تسلم المبيع ممن هو عنده أو في ذمته فلا محظور في ذلك، وهذا القول هو الصحيح، لكن يُشترط ألا يبيعه بما يزيد فيه الربا بأن يكون في ذمة المدِين دراهم ويبيعها الطالب لي شخص ثالث بدنانير، لماذا يشترط؟ لأنه ينتفي التقابض، ولابد من التقابض قبل التفرق، والشرط الثاني: ألا يربح البائع فيها، فإن ربح فهو حرام، لأنه ربح فيما لم يدخل في ضمانه، مثل أن يكون الدّين الذي في ذمة المطلوب مائة صاع بُرّ، الصاع يساوي عشرة فبعته بأحد عشر فلا يجوز؛ لأنني ربحت في شيء لم يدخل في ضماني.

*إذن بيع الدّين على غير من هو عليه جائز بشروط: الشرط الأول: أن يكون مقدروًا على أخذه. والشرط الثاني: أن يكون معلومًا جنسه وقدره ووصفه وأجله. والشرط الثالث: ألا يجري فيه ربا النسيئة مع ما باعه به. والشرط الرابع: ألا يربح فيه، فإن ربح فيه فإنه لا يجوز؛ لأنه ربح فيما لم يضمن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وإذا تمت هذه الشروط فما المانع ألا نشترط شرطًا خامسًا: بأن يكون المدين مستعدًا للتسليم، هنا قد يكون المشتري في نفسه ظانًا أنه قادر وأن صاحبه سهل الانقياد فيخلف الظن ويكون داخلًا على خطر، بخلاف ما إذا قال المدّين: أنا مستعد للتسليم، يعني: لو قيل بهذا الشرط لأجل قطع الاختلاف لكان هذا القول جيدًا، فتكون الشروط على هذا خمسة، فإن كان هذا الدّين على الغير غير ثابت ما يثبت، جاءنا واحد وقال: أنا أطلب فلانًا مائة صاع، فقال أحد الحاضرين: بعها علي، هذا لا يصح. إذن ممكن أن تضيف هذا الشرط السادس: وهو أن يكون الدّين ثابتًا ببينة أو بإقرار؛ لأنه إذا لم يثبت كيف يبيع عليه شيء لم يثبت. من فوائد هذا الحديث: أنه لا يحل أن يأخذ عِوضًا بأكثر من سعر اليوم لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها". ومن فوائده: اشتراط التقابض فيما يُشترط فيه القبض، أي: فيما يجري فيه ربا النسيئة، وأما ما لا يجري فيه ربا النسيئة فلا يُشترط فيه القبض. هل نأخذ من الحديث: أنه لا يلزم المستفتي أن يسأل عن الموانع؟ نعم، وهو كذلك، يعني: لا يُشترط لجواز الفتوى أن نسأل المستفتي عن الموانع، فإذا استفتاك في رجل مات عن أبيه وأمه وابنه، فقلت: للأب السدس، وللأم السدس، والباقي للابن، هل يُشترط أن تقول قبل أن تُفتي هل أحدهما مخالف للميت في الدّين؟ لا، ولا يُشترط أن تقول: هل أحدهما قاتل الميت، هل أحدهما رقيق، كل هذا لا يجب، فالسؤال عن الموانع عند الفتوى لا يجب، اللهم إلا إذا كان قد بلغ المفتي خبر فأراد أن يتحقق منه، يعني: خبر يمنع من نفوذ الحكم فأراد أن يستفهم، فهذا لا بأس.

بيع النجش

بيع النَّجش: 771 - وعنه رضي الله عنه قال: "نهى صلى الله عليه وسلم عن النَّجش". متفق عليه. النجش مصدر نجش ينجش نجشًا، وأصله: حرث الأرض وإثارتها، والمراد بالنجش: أن يزيد في السلعة ولا يريد شراءها، فنهى عنه صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من العدوان على الغير وإحداث العداوة والبغضاء بين المسلمين، والناجش لا يريد أن ينفع البائع أو يضر المشتري أو يريد الأمرين معًا، أو يريد بذلك إظهار نفسه مظهر الغنى مثل أن يزيد في سلعة كبيرة لا يشتريها مثله لكن ليظهر للناس أنه غني، فالمهم أن النجش هو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد الشراء إما لإضرار المشتري أو نفع البائع أو لهما جميعًا أو لإظهار نفسه مظهر الغني، ونحو ذلك، وإنما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لما فيه من العدوان على المشتري، بل وربما على البائع، أما على المشتري فظاهر لأنه يدل من أن يحصلها بعشرة فإنه مع النجش لا يحصلها إلا بخمسة عشر مثلًا، وأما على البائع فلأنه أدخل عليه مالًا بالباطل، ولا يحل لأحد أن يُدخل على أخيه مالًا بالباطل، ومن أدخل على أخيه مالًا بالباطل فإنه في الحقيقة لم ينفعه بل ضره. ومن فوائد الحديث: حماية النبي صلى الله عليه وسلم أمته عما يثير العداوة والبغضاء؛ لأنه نهى عن النجش وهو مما يثير العدواة والبغضاء. ومن فوائد الحديث: حماية الإسلام لحقوق الإنسان؛ لأن في النَّجش خِداعًا على الغير، فإذا نهى عنه هذا يتضمن حماية الإنسان من العدوان عليه. ومن فوائده: تحريم النجش، لأن الأصل في النهي التحريم. وهل نقول: من فوائد عدم صحة البيع في حال النَّجش؟ الجواب: لا، البيع صحيح، لأن النهي فيه هو الفعل لا العقد، والنجش لا ينقسم إلى صحيح وباطل، والذي ينقسم إلى صحيح وباطل هو الذي إذا ورد النهي عنه يُقال: إن النهي يقتضي فيه الفساد، وأما ما لا ينقسم إلى صحيح وفاسد فلا يصح أن نقول: إنه صحيح أو أنه فاسد. فلو قال لنا قائل: الظهّار حرام هل فيه ما هو صحيح وفاسد؟ لا؛ لأنه لا ينقسم إلى صحيح وفاسد، لكن البيع إذا وقع في وقت منهي عنه مثل بعد نداء الجمعة الثاني فهو حرام وغير صحيح، لماذا؟ لأن البيع نفسه ينقسم إلى صحيح وباطل، فإذا وقع على الوجه المنهي عنه كان باطلًا، النَّجش ليس فيه تقسيم إلى صحيح وباطل بل كله حرام، فلا نقول: إن من اشترى بالنجش فشراؤه باطل، لا نقول بذلك لماذا؟ لأن النجش لا ينقسم إلى صحيح وباطل، فلا يكون العقد باطلًا.

النهي عن المحاقلة والمزابنة وما أشبهها

ولكن بالنسبة لمن وقع عليه النَّجش فهل شراؤه صحيح؟ نعم صحيح، ولكن هل له الخيار؟ الجواب: نعم، إذا زاد الثمن عن العادة فله الخيار، مثاله: نجش زيد على عمرو، كانت السلعة لولا النَّجش تساوي عشرة، وبالنجش لم يأخذها عمرو إلا بخمسة عشر، نقول: البيع صحيح، ولكن إذا تبين أن فيه نجشًا فإن للمشتري - وهو عمرو - الخيار بين أن يرد السلعة ويأخذ الثمن أو يبقيها بثمنها الذي استقر عليه العقد، لان البائع يقول: ما ذنبي ليس لي ذنب، إما أن تعطوني سلعتي أو الدراهم كلها، لو أن إنسانًا زاد في السلعة رغبة فيها بناء على أن ثمنها قليل وأنه يُؤمل الربح، لكن لما ارتفع تركها، فهل هذا من النَّجش؟ ليس هذا بنجش؛ لأنه ما قصد إضرار غيره ولا نفع البائع على حساب المشتري، وإنما رأى أن هذه السلعة رخيصة، فلما ارتفع ثمنها تركها فهذا ليس من النَّجش، وهذا يقع كثيرًا تجد إنسانًا يسُوم السلعة ويزيد فيها بناء على أنها رخيصة، فإذا ارتفعت قيمتها تركها فهذا لا بأس به. هل من النَّجش أن يزيد الشريك فيما هو شريك فيه وهو يريد نصيب صاحبه؟ ليس من النَّجش، فإذا قال قائل: هو يزيد لنفسه، فالجواب: ليس يزيد لنفسه، بل هو يزيد على نفسه بالنسبة لنصيب شريكه، أما بالنسبة لنصيبه فهو ملكه لا يحتاج أن يقع عليه العقد، فحينئذ لا يصح أن نقول: إنه زاد لنفسه، وعلى هذا فيجوز لأحد الشركاء أن يزيد في السلعة المشتركة، ولا يُعد هذا من النًّجش. النهي عن المحاقلة والمزابنة وما أشبهها: 772 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، وعن الثُنيا إلا أن تُعلم ".رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي. قال: "نهى عن المحاقلة" النهي قال العلماء: هو طلب الكف على وجه الاستعلاء، يعني: أن يطلب منك الناهي شيئًا لتكف عنه على وجه الاستعلاء، فإن كان على وجه الاستجداء فهو سؤال ودعاء، وإن كان على وجه الالتماس، فهو التماس، ولهذا قالوا: إن كان من أعلى إلى أدنى فهو نهي، ومن أدنى إلى أعلى فهو سؤال، ومن مماثل لمماثل فهو التماس، "نهى"، النهي هنا طلب الكف على وجه الاستعلاء، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منا أن نكف عن هذه الأشياء. أولًا: "المحاقلة" مفاعلة من الحقل وهو الزرع أو مكان الزرع، كما قال رافع بن خديج: كنا أكثر الأنصار حقلًا، فهو الزرع أو مكان الزرع، وكما تعلمون أن المحاقلة مفاعلة تدل على اشتراك

في الفعل، لأن كلمة مفاعل تدل على المشاركة، فما هي المحاقلة؟ قلنا: إنها من الحقل وهو الزرع أو مكان الزرع، نقول: "أل" في قوله: "المحاقلة" وفيما بعدها للعهد الذهني، يعني: أن المحاقلة أمر معهود عندهم، يأتي الإنسان فيبيع حقله على الآخر بحقله، مثاله: عندي مزرعة وعندك مزرعة فبعتها عليك بمزرعتك وكلتاهما بُرّ، فهذا لا يجوز، لماذا؟ لأن بيع البُرّ بالبر يُشترط فيه التماثل كيلًا، والتماثل هنا - والسنبل على رءوس سُوقه - لا يمكن فهو متعذر، إذن هذا فيه ملاحظة الربا، أما الجهالة فليس فيه جهالة؛ لأنه معلوم، ولهذا لو باع الزرع بدراهم جاز، فهو من باب الربا؛ لأن بيع البُرّ بالبُرّ لا يجوز إلا مع التساوي كيلًا والتقابض، مع أن هنا قد حصل التقابض، لأنه أعطاني المزرعة وأعطيته المزرعة، ولكن فات شيء آخر وهو التساوي أو التماثل. صورة أخرى للمحاقلة: يبيع الزرع على شهر في بُرّ محصود يابس هذا أيضًا لا يجوز، لماذا؟ لتعذر العلم، فإذا فرضنا أن البُرّ المحصود معلوم فإن الزرع غير معلوم فيكون قد باع بُرًا غير معلوم ببُر معلوم فلا يجوز. الثاني: "المزابنة" من الزبن، وهو الدفع بشدة، كأن كل واحد من المتبايعين يدفع العِوض للآخر دفعًا بشدة، أي: بسرعة. وما هي المزابنة نقول: "أل" فيها للعهد، أي عهد؟ الذهني، وهي بيع معلوم عندهم، وفُسر بأن يبيع العنب بالزبيب، مثاله رجل عنده شجر أعناب، وآخر عنده أكياس من الزبيب، فقال أحدهما لآخر: نتبايع هذه الأشجار من الأعناب بهذه الأكياس من الزبيب، نقول: هذا نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ملاحظًا فيه الربا؛ لأن بيع العنب بالزبيب لا يجوز، إذ إنه يُشترط التماثل، والتماثل هذا معدوم، لأنه لو فرضنا ان اكياس الزبيب معلومة المقدار، لكن اشجار العنب غير معلومة المقدار، فلو قال: نخرص هذه العنب بمثل ما يئول إليه، قلنا: الخرص في هذا الباب لا يجوز إلا العرايا، ومثل ذلك أيضًا في المزابنة مثلها: إذا باع رطبًا على رءوس النخل بتمر من الزنابيل والأواني فإنه لا يجوز، لأن بيع التمر بالتمر يُشترط فيه التماثل، والتماثل بين الرُطب والتمر متعذر غير معلوم، فيكون هذا حرامًا ملاحظًا فيه جانب الربا. الثالث: "المخابرة" وهي مأخوذة من الخبر، يعني: الزرع، والخبير الزارع مأخوذ من الخيارة، وهي في الأصل: الأرض الرخوة يزرع فيها الحب، والمخابرة "أل" فيها أيضًا للعهد، والمراد بها: المزارعة الفاسدة، ولها صور: الأولى: أن يقول: زراعتك على أن يكون لك البر ولي الشعير، هذا لا يجوز لماذا؟ لأن فيه غررًا قد يكون بالعكس.

الصورة الثانية: أن يقول: زراعتك على أن يكون لي شرقي الأرض ولك غريبها، هذا أيضًا لا يجوز لماذا؟ للجهالة والغرر؛ لأنه قد يكون المحصول كثيرًا من الشرق دون الغرب أو بالعكس، والمشاركات مبناها على المساواة، وهنا لا تسوية. الصورة الثالثة: أن يقول: زراعتك على أن يكون لي مائة صاع من المحصول والباقي لك هذا أيضًا لا يجوز لماذا؟ للجهالة أيضًا؛ لأن هذا الزرع ربما لا يأتي منه إلا مائة صاع، وحينئذ يكون صاحب المائة صاغ غانمًا، والثاني غارمًا، وربما يكون في تقديرنا أنه يأتي ألفًا من الأصواع، فتكون نسبة المائة إلى الألف العُشر، ثم يأتي عشرة آلاف صاع فتكون نسبة المائة عُشر العُشر، وحينئذ يكون الذي اشترط المائة صاع غارمًا، وهذا لا يجوز في باب المشاركات. الصورة الرابعة: أن يقول: زراعتك على هذه الأرض خمس سنين، على أن تكون السنة الأولى لي والثانية لك، والثالثة لي، والرابعة لك، والخامسة بيننا، فهذا لا يجوز لماذا؟ للجهالة والغرر؛ لأنها قد تكون خمس سنوات؟ لا، لو قال: لك سنة ولي سنة لا يجوز، لكن ذكرناه على سبيل المثال. الخامس من صور المخابرة الممنوعة: أن يقول: لك ثمرة النخل الذي على البِركة، والباقي لي، أو لك ثمر النخل الذي على السواقي، والباقي لي، فهذا أيضًا لا يجوز لماذا؟ للجهالة. إذن ما هي المخابرة الجائزة؟ المخابرة الجائزة: أن تكون بجزء معلوم مُشاع يعني: شائعًا في كل أجزاء المحصول مثل العُشر، الربع، النصف، ثلاثة أرباع، واحد من مائة، عُشر العُشر، يعني: هذا لا بأس به، لأننا إذا اشترطنا ذلك اشترك الجميع في المغنم والمغرم، فصارت المخابرة المنهي عنها خمسة أقسام تدور كلها على الغرر والجهالة، وأن أحد الشريكين يكون غانمًا والآخر يكون غارمًا، فإن أجّره الأرض بدارهم وقال: خُذ هذه الأرض كل سنة تعطيني عشرة آلاف ريال، فهل يجوز او لا؟ يجوز؛ لأن هذا من باب الإجارة، والزارع يزرع ويحصل قليلًا أو كثيرًا ما علينا، حتى لو لم يزرع فأجرتي ثابتة؛ لأن هذا من باب الإجارة ولهذا قال رافع بن خديج: "فأما الورق فلم ينهنا"، يعني: تأجير الأرض بالفضة، "فلم ينهنا" يعني: رسول صلى الله عليه وسلم. قال: "وعن الثُنيا" على وزن صُغرى أو كبرى وليست على وزن ثريا كما في شرح سبل السلام (1)، قال: إنه عن الثُنيا على وزن ثريا، وهذا ليس بصحيح، ولا ادري من أين جاء هذا الضبط المعروف في القاموس وغيره أنها بالضم ثم السكون على وزن صُغرى يعني: عن الثُنيا، المراد بالثُنيا: الاستثناء، "إلا أن تعلم" يعني: نهى الرسول صلى الله عليه وسلم في البيع عن الثُنيا إلا أن يكون.

الاستثناء معلومًا؛ وذلك لأنه إذا لم يكن الاستثناء معلومًا دخل الغرر المنهي عنه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر. كيف الثنيا المعلومة والثنيا غير المعلومة؟ الثنيا المعلومة أن يقول: بعتك هذا الشيء إلا نصفه فهذا معلوم، إلا ربعه معلوم، فإذا قال: بعتك هذا البيت إلا ربعه، هذا البستان إلا ربعه معلوم، بعتك هذه العشر نخلات إلا عشرها معلوم، كل جزء مشاع يعين فهو معلوم، بعتك هذه النخلات العشر إلا واحدة مجهول لا يصح؛ لأن هذه الواحدة لا ندري ما هي أهي الطويلة وعينتها يصح؛ لأن هذا معلوم، بعتك هذا البيت إلا جزءًا منه لا يجوز هذا لأنه مجهول، فكان لابد من علم المستثنى، بعتك الشاة إلا رأسها معلوم، لو فرض أن هناك شاة لها رأسان وقال: إلا أحد رأسيها، إذا كان رأساها متساويين فهذا معلوم، لكن إذا كان واحد صغيرًا وواحد كبيرًا فهذا مجهول، إذا قال: بعتك هذه الشاة إلا حملها، هذا مجهول، ولهذا قال الفقهاء: إنه لا يصح؛ لأن الحمل مجهول، ولكن الصحيح في هذه المسألة أنه يصح؛ لأنه وإن كان استثناء لكنه في الحقيقة استبقاء، فإن الحمل جزء منفصل عن الأم، وكما أنه يصح أن أبيع عليك الحائل يصح أن أبيع عليك هذه الحامل إلا جنينها لأني إذا بعتها عليك إلا الجنين كأني بعت عليك حائلاً، إذ أن الجنين جزء منفصل مستقل قائم بنفسه، بعتك هذه الشاة إلا قلبها، مجهول، ولهذا قال العلماء: إنه مجهول، وكذلك بعتك هذه الشاة إلا كبدها يقولون: إنه مجهول فلا يصح، ولو قيل بالصحة لم يكن بعيدًا؛ لأن هذين العضوين يكادان يكونان معلومين، والاختلاف قريب يسير. القاعدة الآن في باب الاستثناء أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم، بعتك هذه الكومة من البر إلا ثلاثة أصواع؟ في خلاف المذهب يقول: لا يصح، وعللوا ذلك بأن الثنيا معلومة، لكن الباقي بعدها مجهول غير معلوم، واستثناء المعلوم من المجهول يصيره مجهولاً، بعتك هذه الكومة إلا نصفها هذا يجوز؛ لأنه مشاع، لكن إلا ثلاثة أصواع فهذا لا يجوز؛ لأن ذلك يؤدي إلى جهالة المبيع، وهو الباقي بعد ثلاثة الأصواع، قد أتصور أنه سيبقى بعد ثلاثة أصواع ثلاثون صاعًا، ولا يبقى إلا سبعة وعشرون صاعًا فيقولون: هذا يختلف، ولكن الصحيح أن هذا من الثنيا المعلومة؛ لأن الرسول نهى عن الثنيا إلا أن تعلم، الذي يعلم ما هو؟ المستثنى، فإذا كان المستثنى معلومًا فلا بأس، وهنا نعلم أن هذه الكومة من الطعام تزيد عن

كتاب البيوع المستثنى بكثير، نحن استثنيا ثلاثة أصواع وهي تأتي ثلاثمائة صاع، فالصحيح أن استثناء المعلوم من المجهول لا بأس به، كالمثال الذي ذكرنا، بعتك هذه الأرض إلا أربعين مترًا يصح، مثل هذه المسألة الحكم فيها كالحكم في السابقة، المهم إذا كانت تختلف سواء ذات الأرض أو جهات الأرض باعتبار الشوارع فإنه في هذه الحال يحتاج إلى أن يعين. إذن يستفاد من هذا الحديث: النهي عن هذه الأشياء: المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والثنيا إلا أن تعلم، وقد علمنا في أصول الفقه أن النهي يقتضي الفساد، وعليه فإذا جرت العقود على هذه العقود المنهي عنها فهي فاسدة؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها، والنهي يقتضي الفساد وإذا كان النهي يقتضي الفساد فإن التعامل بهذه الأشياء يكون فاسدًا. إذن من فوائد الحديث: تحريم هذه المعاملات التي تفضي إلى النزاع والخصومة وحمل الأحقاد. ومن فوائده: جواز الاستثناء في كل عقد من البيوع وغيرها بشرط أن يكون معلومًا، فإن كان مجهولًا فإنه لا يصح، وهذا في عقود المعاوضات واضح، وفي عقود التبرعات قد نقول بالجواز؛ لأن عقود التبرعات ليس فيها ما يثير العداوة والبغضاء، فلو قال الإنسان لشخص: وهبتك هذا الشيء إلا بعضه فيتوجه الجواز ويعين الواهب البعض الذي استثناه؛ لأن الموهوب لم يخسر شيئًا، إن سلم له الكل فذاك، وإن لم يسلم له إلا أقل القليل فهو رابح على كل حال. 773 - وعن أنس رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمخاضرة، والملامسة، والمنابذة، والمزابنة"، رواه البخاري. كل هذه أيضًا أنواع من البيع فيها غرر وجهالة أو احتمال ربا. "المحاقلة" وهي مأخوذة من الحقل، وتفسر في هذا الحديث بما فسرت به في الحديث السابق. "المخاضرة" مأخوذة من الخضار، وهي: أن يبيع الحب قبل أن يشتد، يعني وهو أخضر، فهذا لا يجوز، وذلك أنه يؤدي إلى الغرر، فقد يصاب هذا الحب بآفات، ويحصل في ذلك نزاع بين المشتري والبائع، مثاله: رجل عنده مزرعة قد خرجت السنابل وباعها قبل أن يشتد حبها، فهذا لا يجوز إلا إذ باعها على أنها علف بشرط القطع، فهذا يجوز لأنها معلومة وقد بيعت لغرض حاضر فصح البيع، أما إذا بيعت على أنها تكون حبًا قبل أن يشتد فالغرض منها مؤجل، ولهذا إذا باع الزرع وقصده أن يكون علفًا وشرط القطع فلا بأس بذلك، أما إذا باعه على أن يكون حبًا فهذا لا يجوز حتى يشتد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.

"والملامسة": أن يقول: أي ثوب لمست فهو لك بكذا، أي شاة تلمس فهي لك بكذا، أي نخلة تلمس فهي لك بكذا، هذا مجهول، مثلًا يغطي عينيه ويقول: اذهب إلى قطيع الغنم أي شاة تلمسها فهي عليك بمائة، فذهب فأمسك شاة فإذا تساوى خمسمائة، يكون الغابن من؟ المشتري، لأنه يبعث عليه بمائة ريال وهي تساوي خمسمائة، ومرة أخرى غطى عينيه وقال: أي شاة تلمسها فهي عليك بمائتين، فوقعت يده على شاة تساوي خمسين، فمن الغابن؟ البائع، إذن لا يجوز للغرر والجهالة، وهذا يؤدي إلى النزاع والعداوة والبغضاء. كذلك أيضًا لو قال: أي ثوب تلمسه ولو لم يغط عيناه فهو بكذا فإنه لا يجوز؛ لأن هذا وإن علم لدى المشتري فهو مجهول لدى البائع؛ لأن البائع لا يدري أي ثوب يلمس، هذا الإنسان عنده ثياب متنوعة بعضها بمائة وبعضها بألف وبعضها بعشرة ريالات، فقال: أي شيء تلمسه من هذه الثياب فهو لك بخمسين، أخبروني أي ثوب يختاره هذا المشتري؟ أغلى شيء، فيأخذ الثوب الذي يساوي ألفًا على كل حال فهذا مجهول. "المنابذة": أن يقول أي ثوب أنبذه؛ لأن النبذ بمعنى: الطرح، أي ثوب أنبذه فهو عليك بكذا، ما الذي يختاره البائع؟ أدنى ثوب، والمشتري يكون مغبونًا، فلا يصح، أو يقول مثلًا: انبذ حصاة أو عودًا أو ما أشبه ذلك، فعلى أي ثوب يقع فهو لك بكذا، فهذا لا يجوز. إذن للمنابذة صورتان: الأولى: نبذ المبيع. والثانية: أن ينبذ شيئًا على المبيع، وكلتاهما باطلة، المزابنة سبق تفسيرها. هذه المعاملات هل إذا وقعت من إنسان تكون حرامًا ويصح العقد أو هي حرام ولا يصح العقد؟ الثاني: هي حرام ولا يصح العقد، حرام للنهي عنها، ولا يصح العقد؛ لأن النهي منصب على نفس الفعل، وإذا كان النهي موجه إلى نفس الفعل فإن ذلك يقتضي بطلانه؛ لئلا يحصل التفاضل والتناقض، إذ كيف يمكن أن يكون هذا الفعل منهيًا عنه مأذونًا فيه في وقت واحد، لو قلنا بذلك لقلنا بإمكان الجمع بين النقيضين، وهذا أمر مستحيل، فنقول الآن: لو أن إنسانًا باع ببيع محاقلة أو مزابنة أو مخابرة أو استثنى ما لم يعلم أو بيع ملامسة أو منابذة أو مخابرة لكان البيع فاسدًا لوقوع النهي عنه، كم هذه من أنواع؟ سبعة أنواع من البيع نهى عنها الشرع بعضها يومئ إلى الربا وبعضها يومئ إلى الجهالة والميسر. من فوائد الحديث: النهي عن المحاقلة والمزابنة وقد سبق والنهي عن المخابرة وذلك أن الحب قبل أن يشتد يكون عرضة للتلف، ولأن الحب قبل الاشتداد لو أتى برد شديد هلك فهو عرضة للآفات، فيكون في ثمراته مخاطرة، والمخاطرة منهي عنها شرعًا.

النهى عن تلقي الركبان

ومن فوائد الحديث: النهي عن الملامسة والمنابذة، وذلك لأنهما من بيع الغرر الذي يؤدي إلى الجهالة والعداوة والبغضاء والندم من المغبون، وكل هذا مما يُنهى عنه في الشرع. النهى عن تلقِّي الرُّكبان: 774 - وعن طاوس، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقَّوا الرُّكبان، ولا يبع حاضر لباد. قلت لابن عباس: ما قوله: ولا يبع حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارًا". متَّفق عليه، واللَّفظ للبخاريِّ. قال: "لا تلقوا الركبان" الجملة هنا جملة إنشائية متضمنة للنهي عن تلقي الرُّكبان، و "تلقي" بمعنى: استقبال، و "الركبان" جمع راكب، والمراد بهم: كل من يقدم للبلد لبيع سلعته من راكب وماش وواحد وجماعة، لكنه علق الحكم بالركبان، لأن الغالب أن الذين يقدمون البلد لبيع السلع يكونون هكذا راكبين، ويكونون أيضًا جماعة، وإلا فلو قدم واحد لبيع سلعته فله هذا الحكم. وقوله: "لا بيع حاضر لباد"، "الحاضر": صاحب القرية، و"البادي": من ليس من أهل القرية؛ لأنه أتى من البادئة، وهنا "لا يبع" فتكون "لا" ناهية. ثم سأل ابن عباس: ما معنى قوله: "لا يبع حاضر لباد"؟ قال: "لا يكون له سمسارًا" والسمسار هو الذي يبيع لغيره بأجرة، وضده من يبيع لغيره مجانًا، ولكن للنصح، فالسمسار يبيع لغيره لمصلحة نفسه، والمتبرع يبيع لغيره لمصلحة الغير، لكنه يريد الأجر من الله، وبينهما فرق؛ أي: السمسار والمتبرِّع؛ لأن المتبرع ناصح محضًا، والسمسار إنما هو للمصلحة، رجل أناني. وقوله: "تلقوا الركبان" المراد: تلقيهم للشراء منهم، أما إذا تلقاهم ليضيفهم فإن ذلك لا بأس به، فالمراد: تلقيهم للشراء منهم؛ وذلك لأن الشراء منهم فيه مفسدتان: المفسدة الأولى: ما يخشى من غبنهم؛ لأن هؤلاء قدموا إلى البلد لا يعرفون الأسعار، فيأتي هذا المتلقي الذي تلقاهم خارج البلد ويشتري منهم برخص فيعينهم، المسألة الثانية: أن فيه تفويتًا للربح على أهل البلد؛ لأنه جرت العادة أن هؤلاء الرُّكبان يبيعون برخص ويشتري الناس منهم، ويكسبون من ورائهم، فمن أجل هذين الأمرين نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان، أما الحاضر لباد فنهى عنه؛ لأن الحاضر عالم بالسلعة، والبادي غير عالم، والبادي في الغالب يبيع برخص، لأنه يريد أن يقضي حاجته ويمشي، فإذا تولى الحاضر البيع له فإنه لن يبيع برخص سيبيع بالثمن الذي يبيع به الناس، وحينئذ يفوت الناس الفائدة التي تحصل من بيع البادي بنفسه.

ففي هذا الحديث فوائد: أولًا: النهي عن تلقي الركبان للشراء منهم لقوله: "لا تلقوا"، وهذا النهي للتحريم أو للكراهة؟ للتحريم؛ لأن الأصل في النهي التحريم، ولأجل العلة التي تفوت بهذا التلقي. ومن فوائد الحديث: حماية الشرع لمصالح العباد الفردية والجماعية، الفردية؛ لأن في النهي عن تلقي الركبان حماية للبائع، وهذه فردية، وتفويت مصلحة لأهل البلد وهذه جماعية، فالشرع يحمي المصالح الفردية والجماعية. وظاهر الحديث النهي عن تلقي الرُّكبان، سواء كانوا يعلمون بالقيمة أو لا يعلمون، أما إذا كانوا لا يعلمون فالأمر ظاهر، وأما إذا كانوا يعلمون فإن العلة ألا يتخذ هذا ذريعة لتلقي من لا يعلم، صحيح أنه ربما يكون الذين قدموا لبلد لبيع سلعهم يعرفون الأسعار تمامًا وربما لم يأتوا لهذا البلد إلا لعلمهم بالسعر لاسيما في وقتنا هذا سهولة المواصلات، والإنسان يستطيع أن يعلم بالهاتف القيمة قبل أن يتوجه من بلده فضلًا عن وصوله للبلد، لكن نقول: الحديث عام ويجب سد الباب. هل إذا اشترى منهم يصح البيع أو لا يصح البيع؟ نقول: في هذا قولان لأهل العلم - وهذه هي الفائدة الرابعة- فمن العلماء من يقول: إن البيع لا يصح؛ وذلك لأن النهي عن التلقي يراد به النهي عن الشراء فيكون النهي حقيقة عائدًا إلى الشراء ويكون هذا الشراء منهيًا عنه ولا يمكن أن يصح، ولكن الصحيح أن الشراء يصح، ودليل ذلك ما يأتي في الحديث الذي بعده أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقي فاشتري منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار"، قالوا: وثبوت الخيار له فرع عن صحة البيع إذ لا خيار إلا بعد بيع، ولا شك أن هذا هو ظاهر الحديث أن البيع صحيح، بدليل أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أثبت للرُّكبان الخيار، وثبوت الخيار فرع عن صحة البيع، على أنه يمكن أن يقول قائل: أن المراد بالخيار: الإمضاء، ويكون ذلك من باب تصرف الفضولي، وبناء على هذا يقع العقد موقوفًا حتى يأتي صاحبه السوق ويكون بالخيار، إن أجاز نفذ البيع، وإن لم يجز فالبيع غير نافذ من أصله، ويتفرع على ذلك: ما لو تلف هذا المبيع بين شرائه من خارج البلد وبين وصوله إلى البلد فإن قلنا: إن البيع صحيح فضمانه على من؟ على المشتري؛ لأنه ملكه، وإن قلنا: إن البيع لا يصح، وإنه من باب تصرف الفضولي فالضمان على البائع، ولكن لنا فسحة، وأن نأخذ بظاهر الحديث، ونقول: الأصل أن

ثبوت الخيار فرع عن صحة البيع، وحينئذ يكون البيع صحيحًا وللبائع المتلقى الخيار إذا وصل السوق، ويمكن أيضًا أن تنزل على القواعد، فيقال: إن النهي هنا لا يعود إلى معنى يتعلق بالمبيع، وإنما يعود إلى معنى يتعلق بالبائع، حيث إنه يخدع فيشترى منه برخص، والشارع جعل الأمر الذي يتعلق بالعاقد يملك فيه العاقد المغبون الخيار مع صحة البيع، بدليل أنه قال: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعده فهو بالخيار إن شاء أمسك وإن شاء ردّها وصاعًا من تمر"، إذن الجلب نقول: إنه إذا تلقى واشترى فالشراء صحيح، لكن للجالب الخيار إذا وصل السوق فإن كان مغبونًا رد البيع وإن كان غير مغبون فالخيار له. من فوائد الحديث: تحريم بيع الحاضر للبادي لقوله: "لا يبع حاضر لباد". ومن فوائده: أن ظاهر الحديث أنه لا يبيع له مطلقًا، سواء قصد الحاضر البادي أو قصد البادي الحاضر، أي: سواء ذهب صاحب البلد إلى القادم وقال: أبيع لك سلعتك، أو جاء القادم إلى البلد وجاء إلى الرجل وقال: خذ هذه السلعة بعها. فإن ظاهر الحديث: أن كلتا الصورتين حرام لعموم قوله: "لا يبيع حاضر لباد"، وقال بعض أهل العلم: إنه إذا قصده البادي فلا بأس أن يبيع له ولو على وجه السمسرة؛ وذلك لأن البادي لا يريد أن يبيعها بيع باد بدليل أنه هو الذي جاء إلى الحاضر، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله على أنه إذا قصده البادي فلا بأس أن يبيع له؛ لأن البادي لا يريد أن يبيع بيع البدوي ولكن أراد أن تباع بيع الحاضر. ثانيا: ظاهر الحديث: أنه لا فرق بين أن يكون البادي عالمًا بالسعر أو جاهلًا به، مع أنه إن كان عالمًا فإن المقصود يفوت؛ لأنه إذا كان عالمًا بالسعر فلن يبيعها إلا كما يبيع الناس، فظاهر الحديث أنه لا يبيع له سواء كان عالمًا بالسعر أو لم يعلم، والمشهور من مذهب الحنابلة أيضًا: أنه إذا كان يعلم بالسعر فلا حرج أن تبيع له؛ لأن المعنى الذي نهى الشارع من أجله عن بيع الحاضر للبادي مفقود في هذه الصورة، أي: فيما إذا كان البادي عالمًا بالسعر؛ لأنك سواء جئت إلى الحاضر أو لم تأت فلن يبيع إلا بالسعر، ويفوت على أهل البلد الربح والفائدة. ثالثًا: ظاهر الحديث: أنه لا فرق بين أن تكون السلعة مما يحتاجه الناس كالأطعمة والألبسة، أو مما لا يحتاجه الناس كالأشياء الكمالية، فلو أن الجالب جلب طعامًا أو جلب أشياء ترفيهية لا يحتاج الناس إليها فالحكم سواء لكن فقهاء الحنابلة اشترطوا أن يكون بالناس حاجة إليها، فإن لم يكن بالناس حاجة إليها فلا حرج أن يبيع الحاضر للبادي، ولكن ينبغي أن نأخذ بظاهر الحديث إلا بدليل واضح يدل على التخصيص.

بقي مسألة وهي: لو أن الحاضر باع للبادي تبرعًا ونصحًا؛ لأنه علم أن البادي سوف يغبن إما لكونه يعلم أنه رجل ليس بذلك القوي في لبيع والشراء، أو يعلم بأن أهل البلد الذين يشترون من الجلب أناس يخدعون، فأراد أن ينصح لهذا القادم ويبيع له تبرعًا فهل هذا جائز؟ الجواب: على تفسير ابن عباس جائز، وعلى ظاهر الحديث ليس بجائز؛ لأن الحديث مطلق، والذي يبرئ ذمة الإنسان أن يأخذ بظاهر النص؛ لأن الله سيسأله يوم القيامة، ليس عن فهم فلان وفلان سيسأله عما أجاب به المرسلين، سيسأله عن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فالواجب على الإنسان أن يأخذ بظاهر النصوص ما لم يعلم من النصوص الأخرى، أن هذا غير مراد، فإذا علم بأنه غير مراد، فهذا علم بأنه غير مراد فهذا حجته عند الله عز وجل. في هذا الحديث أيضًا في الجملة الثانية منه هل يصح بيع الحاضر للبادي؟ المشهور من المذهب: أنه لا يصح إذا تمت الشروط بأن قصده الحاضر وكان البادي لا يعلم السعر وبالناس حاجة إليها، فإذا تمت الشروط فإن البيع لا يصح، وهذا هو ظاهر الحديث أن البيع لا يصح، ولكن لو أجاز المشتري ذلك وقال: أنا راضِ فينفي أن يصح؛ لأنه إنما نهى عن بيع الحاضر للبادي من أجل مصلحة المشتري، فإذا رضي بذلك فلا بأس. 775 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقَّوا الجلب، فمن تلقِّي فاشتري منه، فإذا أتى سيِّده السُّوق فهو بالخيار". رواه مسلم. قوله: "لا تلقوا الجلب" نقول فيها كما قلنا في "لا تلقوا الركبان"، لكن هنا الجلب فعل بمعنى مفعول أي: لا تلقوا المجلوب، "فمن تلقي فاشتري منه"، أي: من هذا المجلوب، "فإذا أتى سيده" أي: سيد المجلوب وهو مالكه الأول "فهو بالخيار" النهي هنا يراد به: النهي عن التلقي والشراء، أما مجرد تلقي الجلب من أجل أن يضيفهم أو يوجب بهم فإن النهي لا يرد على هذا. وقوله: "فمن تلقي فاشتري منه فإذا أتى سيده" أي: سيد الجلب وهو المالك الأول؛ لأن السيد يطلق على المالك، وله إطلاقات كثيرة متعددة معروفة في اللغة، وقوله: "السُّوق"، يعني: سوق التجارة الذي يباع فيه ويشترى ف"أل" في قوله: "السوق" للعهد الذهني؛ لأن العهود ثلاثة: عهد ذكري، وعهد ذهني، وعهد حضوري، فالعهد الذكري: أن يكون مدخول "أل" سبق ذكره مثل قوله تعالى: } كما أرسلنا إلى فرعون رسولا {[المزمل: 15]. من الرسول المذكور؟ وأما العهد الحضوري فهو أن تكون "أل" بمنزلة اسم الإشارة مثل قوله تعالى: } اليوم أكملت لكم دينكم {[المائدة: 3]. فإن تقديره: هذا اليوم أكملت لكم دينكم، فتسير "أل" إلى شيء حاضر، أما العهد

الذهني فهو أن يكون مدخول "أل" معلومًا بالذهن، يعني: مفهومًا عند الناس، كما لو قلت: ذهب فان وفلان إلى القاضي، من القاضي؟ معروف، ينصرف إلى القاضي في المحكمة، نقول: "أل" هنا للعهد الذهني، هنا "إذا أتى سيده السوق" "أل" للعهد الذهني؛ لأنه لم يسبق له ذكر، ولم تكن "أل" بمعنى اسم الإشارة، فكانت للعهد الذهني، يعني: سوق التجارة الذي يباع فيه ويشترى، وقوله: "بالخيار" هذه اسم مصدر ل"اختار"؛ لأن مصدر اختار اختيار، واسم المصدر خيار، واسم المصدر هو: ما وافق المصدر في معناه وحروفه الأصلية دون الزوائد مثل: كلام من كلم، والمصدر تكليم، سلام من سلم والمصدر تسليم، هنا خيار من اختار والمصدر اختيار، إذن فهو بالاختيار أي: ينظر ما هو خير له من إمضاء البيع أو الفسخ. والحكمة من النهي عن تلقي الجلب هو ما أشرنا إليه فيما سبق أن فيه إضرارًا بالبائع وإضرارًا بأهل السوق، أما البائع فلأن المتلقِّي غلبًا يغبن المتلقِّي ولو لم يغبنه ما ذهب يتكلف ويخرج، والثاني: الإضرار بأهل البلد حيث يحرمهم الربح المتوقع من هذا الجالب. في الحديث فوائد منها: أولًا: عموم الشريعة الإسلامية، وأنها كما جاءت في إصلاح الخلق في العبادات، وهي معاملتهم فيما بينهم وبين الله جاءت أيضًا بإصلاح الخلق في العقود وهي المعاملة فيما بين الناس، الرد على من زعم أن الدين الإسلامي ينظم العبادة فقط، وهي المعاملة مع الله، فإن الدين الإسلامي ينظم العبادة والمعاملة، ولا غرابة فإن أطول آية في كتاب الله آية الدَّين، وكلها في معاملة الخلق، ويكون هذا حجرًا يقذف في فم من قال: إن الدين الإسلامي لا ينظم إلا العبادة، نقول: الدين الإسلامي ينظم العبادات والمعاملات جميعًا. ومن فوائد الحديث: حماية حقوق الناس؛ لأننا ذكرنا أن العلة في النهي عن تلقي الجلب هو دفع الضرر الحاصل على البائع وعلى أهل البلد. ومن فوائد الحديث: أن من تلقى فاشتراه فشراؤه صحيح، لكن للمشتري الخيار. إذا قال قائل: بم استدللتم على الصحة؟ نقول: بإثبات الخيار للبائع؛ لأن إثبات الخيار فرد عن الصحة. ومن فوائد الحديث: إثبات خيار الغبن؛ لأن الشرع إنما جعل الخيار للمشتري منه المتلقي لأنه غالبًا يغبن، ووجه ذلك: أن هذا الذي اشترى منه إذا أتى السوق ووجد أن القيمة مناسبة فلا يختار الفسخ، إنما يختار الفسخ إذا وجد نفسه قد غبن، إذن فعلة ثبوت الخيار له هي الغبن، وعلى هذا فيكون في الحديث دليل على ثبوت خيار الغبن، ولكن هل الغبن ثابت في كل عقد يحصل به الغبن أم في صور معينة؟ في هذا خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: إنه خاص في صور معينة، وهي ما يحصل بالنَّجش أو بالاسترسال أو بتلقي الجلب، ومن العلماء

من يقول: إنه ثابت في كل غبن حتى لو غبن من يحسن المماكسة ويعرف كيف يبيع ويشري، لكن غبن لغفلة منه أو لجهله بالسعر لكون الأسعار هبطت بسرعة، فإن له الخيار سواء كان بائعًا أو مشتريًا، وعلى هذا فلو أرسلت صبيك ليشتري لك خبزًا ماذا نقول؟ الخبز الأربعة بريال، فقالوا للصبي: الأربعة بريالين وأخذ الأربعة وأنت أعطيته الريالين وتنتظر أن يأتي بثمان، فلك الخيار؛ لأن الصبي لا يحسن أن يماكس وهو جاهل بالقيمة. مثال آخر: قدم مسافر إلى بلد ووقف على صاحب بقالة وقال: أطلب منك خبزّا بريال فأعطاه خبزتين، وأطلب منك مربى طماطم لأجل أن يكون إدامًا للخبز، فأعطاه القوت هذا بريالين، إذن أعطاه خبزتين بريال وكوب طماطم بريالين هو مسافر وجيد في البيع والشراء لكن لا يعرف السعر في هذا البلد، فالصحيح: أن له الخيار، ويرى بعض العلماء أنه لا خيار له؛ لأنه يعرف يماكس، ويرون أن المسترسل هو الذي يجهل القيمة ولا يحسن المماكسة، والصحيح: أن كل من جهل القيمة فإن له الخيار، فهؤلاء الجلب الذين تلقوا قد يكونوا من أشد الناس معرفة بالقيم ولكن يجهلون القيمة فلهذا غبنوا. ومن فوائد الحديث: إطلاق لفظ السيد على المالك وهو كذلك؛ لأن أصل السيادة من الشرف، ومعلوم أن للمالك شرفًا على المملوك، ولهذا سمينا مالك العبد سيدًا، ونسمي مالك البهائم ومالك الطعام أيضًا سيدًا، ولذلك قال: "إذا أتى سيده السوق ... إلخ". ومن فوائد الحديث: أن التلقي هو ما كان قبل وصول الجلب إلى السوق ولو من داخل المدينة، وقال بعض أهل العلم: إن التلقي لا يكون إلا من خارج المدينة؛ لأن التلقي عادة يكون خارج المدن، ولهذا يقال: تلقّى المسافر أي: خرج لاستقباله. وهذه المسألة فيها خلاف، فمن العلماء من يقول: إن التلقي يصدق باستقبال الجلب قبل دخولهم السوق ولو في المدينة، واستدلوا لذلك بقوله: "فإذا أتى سيده السوق"، ولم يقل: فإذا دخل البلد، فعليه لو كانت البلدة واحدة والسوق في وسطها في قصبة البلد، واستقبلهم أناس في أطراف البلد واشترى منهم، فإنه يكون داخلًا في الحديث؛ أي: فاعلًا للنهى وللجالب الخيار وهذا أقرب إلى المعنى؛ لأنه لا فرق بين أن يتلقاهم في المدينة وأن يتلقاهم في داخلها قبل أن يصلوا إلى السوق. فإن قال قائل: فما تقولون في جلب مرُّوا بالمدينة ولا يريدون دخولها فاشترى منهم شخص وهم سائرون إلى مدينة أخرى، هل يجوز؟ يعني: مثلًا جاءوا من جدّة ومروا ببلدنا ويريدون الرياض ومعهم سلع؟ الظاهر: أنه يجوز، لأنهم لم يقصدوا هذا البلد هم في سفر كما

بيع الرجل على بيع أخيه المسلم

يجوز أن تشتري من المسافر، ولذلك يبعد أن يبيعوا على هذا المتلقي؛ لأنهم سيقولون: إن سفرنا إلى الرياض اللهم إلا إذا احتاجوا إلى دراهم في طريقهم، فإنه في هذه الحال قد يبيعون. ما تقولون في رجل خرج يتمشى خارج البلد وإذا هو بقوم معهم جلب هل يجوز أن يشتري منهم؟ لا يجوز، لأن أصل النهي عن الشراء والتلقي وسيلة. بيع الرجل على بيع أخيه المسلم: 776 - وعنه رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرَّجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة أختها لتكفأ ما في إنائها". متَّفق عليه. -ولمسلم: "لا يسوم المسلم على سوم المسلم". قوله: "حاضر لباد" سبق الكلام عليه، وقوله: "ولا تناجشوا" أيضًا سبق الكلام عليه، قوله: "ولا يبيع الرجل على بيع أخيه"، كلمة "الرجل" لم تذكر للتقييد ولكن ذكرت للغالب، وإذا كان الشيء ذكر للغالب فإنه لا مفهوم له، كل قيد ذكر بناء على الغالب فإنه ليس له مفهوم. وقوله: "لا يبيع الرجل" روي بوجهين: "لا يبع الرجل"، والثاني: "لا يبيع الرجل"، أما "لا يبع الرجل" فلا إشكال فيه؛ لأن "لا" ناهية، و"يبع" فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، ولكنه حرِّك بالكسر لالتقاء الساكنين، وأما "لا يبيع الرجل" بالرفع ففيه إشكال وهو أن "لا" نافية فهل النفي يفيد النهي؟ الجواب: نعم، قد يكون نفيًا ويراد به النهي فتكون الجملة خبية إنشائية، خبرية باعتبار اللفظ إنشائية باعتبار المعنى؛ لأنها خبر يراد به النهي؛ قال أهل العلم: وكما يجئ الخبر في موضع النهي يجئ الطلب في موضع الخبر، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: } وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطبكم {[العنكبوت: 12]. فإن اللام للأمر، ولكن المراد: الخبر؛ لأن المعنى: ونحن نحمل خطاياكم، الكلام على أن "يبيع" فيها وجهان: "لا يبع" و"لا يبيع"، "الرجل" قيد بالرجولة بناء على الأغلب. "على بيع أخيه"، أخيه في النسب؟ لا أخيه في الإنسانية؟ لا أخيه في الدين؟ نعم؛ لأن الأخوة الإنسانية غير مفصودة شرعًا، وليس بين الناس أخوة إنسانية، ولكن بينهم جنسية إنسانية؛ يعني: أن الكافر من جنس المسلم في الإنسانية، لكن ليس أخاه، ألم تروا إلى نوح قال: } فقال رب إنَّ ابني منَّ أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحكمين {، فقال تعالى: } قال ينوح إنه ليس من أهلك {[هود: 45، 46]. مع أنه ابنه، ومن زعم أن هناك أخوة إنسانية بين البشر فقد أبعد النَّعجة؛ لأن الأخوة إما دينية كما في قوله: } فإخوانكم في الدين {[التوبة: 11].

ومثلها الأخوة الإيمانية كما في قوله: } إنما المؤمنون إخوة {[الحجرات: 10]. وإما أخوة في النسب كقوله تعالى: } وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذَّكر مثل حظ الأنثيين {[النساء: 176]. وقوله: } وإلى مدين أخاهم شعيبًا {[الأعراف: 85]. وأما قوله: } كذب أصحب لئيكة المرسلين (176) إذ قال لهم شعيب {[الشعراء: 176، 177]. ولم يقل: أخوهم؛ لأن أصحاب الأيكة غير مدين، بل هم قوم آخرين، إما تابعون لهم أو مستقلون، المهم أن شعيبا ليس منهم؛ ولهذا لم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب، بل قال: } إذا قال لهم شعيب {. إذن "على بيع أخيه" يعني: في الدين والإيمان، صورة ذلك: أن يشتري شخص من إنسان سلعة بعشرة ثم يأتيه آخر، ويقول: أعطيك مثلها بتسعة هذه بيع على بيع، أو يقول: أعطيك أحسن منها بعشرة هذا بيع على بيع، ما نقص الثمن، لكن أفضل منها، اختلفت صفة المبيع، هذا بيع على بيع فهذا حرام، وإذا فعل فالبيع باطل لورود النهي عنه بعينه، وكل عقد أو عبادة ورد النهي عنها بعينها فهي باطلة ولا يمكن تصحيحها؛ لأن تصحيحها جمع بين الضدين. هل البيع حرام سواء كان ذلك في مدة الخيار أو بعد انتهاء مدة الخيار؟ في ذلك خلاف؛ فبعض العلماء يقول: إن النهي خاص فيما إذا كان ذلك في زمن الخيارين: خيار المجلس أو خيار الشرط، ومن العلماء من قال: إنه عام فمن قال بالأول قال: إن علة النهي: لئلا يفسخ البيع ويعقد مع الثاني، فيكون في ذلك حسد على البائع الأول، مثاله: باع زيد على عمرو بيتًا بمائة ألف ريال واشترط الخيار لمدة أسبوع فعلم بكر بالعقد فذهب إلى عمرو وقال: اشتريت بيت فلان بمائة ألف، وقال بكر: لك عندي بيت أحسن منه بثمانين ألف، فذهب فرأى بيته أحسن والثمن أقل، فذهب عمرو إلى زيد وقال: إني رجعت، هل له ذلك؟ له ذلك؛ لأنه في زمن الخيار، زمن خيار المجلس، مثاله: باع زيد على عمرو بيته بمائة ألف ريال وهما جالسان فسمع شخص بذلك فجاء إليهم وهم جلوس وقال: يا فلان، أنا أعطيك بيتي بثمانين ألف ريال، وهي أحسن من فلَّة فلان، قال: إذن رجعت، هذا في زمن خيار المجلس، والأول في زمن خيار الشرط، سيكون بين زيد وبين هذا الداخل عداوة، وسب وشتم، لماذا تفعل أنت مثل الشيطان أنت حسود، ويمكن تصل إلى الضرب، أو تصل إلى السلاح؛ ولهذا نهى الشارع عنه، إذا كان بغرر من الخيارين يعني: بعد أن اشترى الرجل من عمرو البيت وتفرقا ولزم البيع جاء شخص آخر وقال: أنا أبيع عليك بيتًا أحسن منه بثمانين ألفًا فلان غالطك هل يمكن أن يرجع ويفسخ البيع؟ لا، لماذا؟ لأنه انتهى زمن الخيار، ولكن سيكون في قلب المشتري ندم وحسرة ويقول: يا ليتني ما تعجلت، وسيكون في قلبه أيضًا حقد وغل على البائع خدعني غلبني. والقول الثاني في المسألة يقول: حتى بعد زمن الخيارين، ويرون أن العلة في ذلك هو إيقاع الندم في قلب المشتري، والثاني إلقاء العداوة بينه وبين البائع، ثالثًا: ربما يتحيل فيبحث عن سبب

يبيح له الرد والفسخ، أيهما إذن أرجح القول بالعموم أو تقيد ذلك بزمن الخيارين؟ القول بالعموم كما هو ظاهر الحديث: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه". هل يقاس على البيع الشراء؟ لا يشتر على شراء أخيه؟ نعم، نقول: وكذلك الشراء لا يجوز أن يشتري على شراء أخيه، وصورة الشراء: أن يقول لمن باع انتبهوا للمثال لأجل أن يقرب لكم الموضوع- في صورة البيع أن نقول لمن اشترى، وفي صورة الشراء نقول لمن باع هذا يسهل عليك التصوير، علمت أن زيدًا باع على عمرو بيته بمائة ألف فذهبت إلى من؟ إلى زيد، وقلت: يا فلان، أنت بعت بيتك على عمرو بمائة ألف، أنا أعطيك مائة وعشرين ألفًا، إن كانا في زمن الخيارين المجلس أو الشرط فهو حرام على كلا القولين، وإن كانا بعد انتهاء زمن الخيار فهو حرام على أحد القولين، والصحيح: أن الشراء على شرائه في زمن الخيارين وبعد انتهاء زمن الخيارين سواء. فإذا قال قائل: لم أدخلتم صورة الشراء والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا بيع"؟ فالجواب من عدة أوجه: أولًا: أن الشراء قد يطلق عليه البيع، ثانيًا: أن الشراء في معنى البيع والشارع لا يفرق بين متماثلين، فإذا حرّم البيع على بيعه حرّم الشراء على شرائه من باب أولى. ثالثًا: أن في رواية مسلم: "ولا يسم على سومه"، والشراء على شرائه أبلغ من السوم على سومه كما سيأتي في شرح السوم. فإذا قال قائل: هل تلحقون في البيع ما سواه كالإجارة؟ فالجواب: نعم، وذلك من وجهين: إما أن نقول: إن الإجارة بيع المنافع فتدخل في البيع، وإما أن يقال: لا تدخل في البيع، لكن المعنى الذي في البيع موجود في الإجارة، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يؤجِّر على إجارة أخيه، ولا أن يستأجر على استئجار أخيه، أن يؤجر على إجارة أخيه مثل: أن يسمع أن زيدًا آجر عمرًا بألف ريال في السنة فذهب إلى عمرو وقال: أنا أعطيك منزلًا أحسن من هذا بثمانمائة ريال في السنة، هذا إجارة على إجارة، أو يذهب إلى زيد فيقول: أنا أعطيك أجرة ألف ومائتين، هذا استئجار على استئجاره، فصار الآن البيع على البيع والشراء على الشراء والإجارة على الإجارة، والاستئجار على الاستئجار، والسوم على السَّوم كل ذلك محرم، وهل يصح العقد؟ الجواب: لا يصح لا في البيع على بيعه ولا في الشراء على شرائه ولا في الإجارة على إجارته ولا في الاستئجار على استئجاره، ووجه ذلك: أن النهي عائد إلى العقد بنفسه، ولا يمكن أن يرد نهي على مأذون، فيه فإذا ورد نهي عن شيء بعينه صار ذلك الشيء باطلًا لا يصح. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ولا يخطب على خطبة أخيه"، "ولا يخطب" يعني: الرجل "على خطبة أخيه" يعني: إذا خطب شخص امرأة فإنه لا يحلّ لرجل آخر أن يذهب ويخطبها من أهلها؛ لأن ذلك عدوان على حق أخيه، والله -سبحانه وتعالى- يقول: } ولا تعاونوا على الإثم والعدوان {[المائدة: 2].

ويقول: } ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين {[البقرة: 190]. وقوله: "لا يخطب على خطبة أخيه" فنقول: فيها مثل ما قلنا في قوله: "على بيع أخيه"، فلو خطب رجل امرأة فلا يجوز للمسلم أن يخطبها، ولو خطب نصراني نصرانية فلا يجوز للمسلم أن يخطبها على خطبته من باب أولى، وقوله: "على خطبة أخيه" بناء على الغالب، وقوله: "لا يخطب على خطبة أخيه" أي: الرجل على خطبة أخيه. لو كانت المرأة هي الخاطبة على خطبة أختها فهل يجوز؟ لا يجوز، فلو علمت امرأة أن فلانًا خطب فلانة وكانت تريد أن تتزوج، وقالت: أريد أن أفسخ عليه، فهذا لا يجوز، لأن عدوان على حق الغير. وقد يقول قائل: هناك فرق بين خطبة الرجل وخطبة المرأة؛ لأنه لا يلزم من خطبة الثانية فسخ الأولى؛ لأن بإمكانه أن يجمع بينهما بخلاف الرجل؟ قلنا: نعم، هذا ممكن، لكن من الذي قال: إن هذا الرجل يمكنه أن يأخذ اثنتين فيكون في هذا عدوان. وقوله: "على خطبة أخيه" يدل على أنه ما دامت الخطبة غير قائمة فله أن يخطب، وكيف تكون غير قائمة؟ إذا ردَّ الخاطب، خطب فلان من جماعة وردوه فهل يجوز أن يخطب الثاني؟ نعم. لو قال قائل: لا يجوز لاحتمال أن يرجع مرة أخرى؛ لأن بعض الناس إذا خطب وردوه يصبر شهرًا أو شهرين، ثم يعود ما دام له رغبة في المرأة فما تقولون؟ نقول: هذا وارد، لكن ما دام ردَّ في الأصل، فالأصل عدم القبول ما دام ردوه أول مرة لا يقبلوه مرة ثانية، فيجوز أن يخطب الثاني هذه المرأة. ويستفاد من قوله: "على خطبة أخيه" لو جاءنا فلان الخاطب الأول بأن سمع زيد بأن عمرًا خطب فلانة فذهب إليه وقال: يا فلان، الخطبة هذه أنا راغب فيها، فقال: إذن أنا متنازل، هل يجوز؟ نعم يجوز؛ لماذا؟ لأن الخطبة الآن صارت غير قائمة. لو أن الرجل خطب المرأة وهي مخطوبة لكنه لم يعلم فهل يجوز؟ يجوز؛ لأن لا يعلم ولأن الحديث: "لا يخطب على خطبة أخيه"، وهذا ما خطب على خطبة أخيه؛ لأنه لا يعلم أن أخاه قد خطب، فإن علم أنه خطب، لكن لا يعلم هل ردوه أم قبلوه فهل له أن يخطب؟ ليس له أن يخطب، وهذا هو الصحيح، خلافًا لمن قال: إن هذا خاص فيما إذا قبلوه، وأما إذا لم يعلم فله أن يخطب، والحاصل أن خطبة الرجل الأول إما أن يقبل أو يرد أو لا يدرى حاله، فإن قبل فلا إشكال فيه وإن رد فالخطبة جائزة، ولا إشكال فيه وإن لم يعلم هل ردوه أو قبلوه فقد اختلف على قولين، والصحيح أنه لا يخطب؛ لأن الخطبة قائمة، وقد يكون في إرادتهم أنهم سيوافقون لولا خطبة الثاني، فالصحيح إذا كان لا يدرى حاله فلا يجوز أن يخطب عليه، فإن أذن فإنه جائز؛ لأن الحق له وقد أذن فيه، وإن

جهل الثاني خطبة الأول جائز أيضًا، وعلى هذا يحمل خطبة أسامة وأبو جهم ومعاوية، ثلاثة خطبوا امرأة واحدة [على عدم العلم] المهم أن نقول مع العلم لا يصح، ولكن إذا أذن هل يجب عليه أن يسحب الخطبة أو له أن يبقى، أو تقول: إن هذا الرجل خطب على وجه مباح فا يلزمه؟ [نقول: اسحب الخطبة وابحث لك على بيت آخر]. ثم قال: "ولا تسأل المرأة" لما ذكر حق الرجل على الرجل، ذكر حق المرأة على المرأة، فقال: "ولا تسأل المرأة طلاق أختها" يعني: أختها؛ أي: في الدَّين. يؤخذ من هذا الحديث من قوله: "ولا يبع": أن الرسول نهى عن هذا، والمراد بالأخت: الأخت في الدّين. فهل نقول: إن هذه لو سألت طلاق امرأة نصرانية تزوجها مسلم هل هو جائز؟ نقول: لا؛ لأن هذا بناء على الغالب. قال وفي رواية لمسلم: "ولا يسم"، "لا" هذه ناهية، لأنها جزمت الفعل، "ولا يسم المسلم على سوم أخيه"، السَّوم: تقدير الثمن من المشتري وهو معروف، ولكن السوم على نوعين: سوم يزاد فيه، وسوم يطمئن إليه البائع، أما الأول الذي فيه زيادة كل من البائع والمشتري يتساومان، هذا يقول: بعشرة، والثاني يقول: بإحدى عشر، وهكذا، لكن إذا استقر البائع والمشتري، ولم يبق إلا موجب العقد، فإنه لا يجوز لأحد أن يتقدم إلى البائع، لأن البائع قد رضي، أما لو قال البائع: من يزيد، أو بعد أن ركن إليه سمع أن فلانًا يزيد السلعة فذهب فطلب زيادة فهذا لا بأس به. في هذا الحديث فوائد: أولًا: تحريم بيع الحاضر على البادي لقوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لبادٍ"، والأصل في النهي التحريم، لكن الفقهاء -رحمهم الله- كما عرفتم جعلوا لذلك شروطًا، ومنها ما ذكره ابن عباس رضي الله عن: "ألَّا يكون له سمسارًا". ثانيًا: أنه لو باع حاضر لباد فلا يصح، لماذا؟ لأن النهي عائد إليه، وما عاد النهي إليه فلن يكون صحيحًا، لكن بعض أهل العلم صحح البيع وقال: إن النهي هنا لا يعود إلى معنى يختص بالبيع، وإنما يعود إلى حق البائع أو البيع، ولكن الصحيح أن البيع لا يجوز؛ لأنه قد ورد النهي عنه، وما ورد النهي عنه فلن يكون مقبولًا لقول صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". ومن فوائد الحديث: تحريم النَّجش لقوله: "ولا تناجشوا"، فإذا وقع النَّجش ثم بيع على من نجش عليه فهل البيع صحيح؟ الجواب: نعم، إذ أن النهي ليس عن البيع بل عن النَّجش، لكن للمنجوش إذا غرَّر به أن يرجع يعني: له الخيار، يعني لما رأى هذا الرجل يزيد في السلعة،

وهو رجل له خبرة ظن أن السلعة لا تقل عن هذا الثمن، فلما تبين له بعد ذلك أنه نجش يثبت له الخيار لأنه قد غرر به. ومن فوائد الحديث: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه لقوله: "ولا يبع الرجل على بيع أخيه"، وعرفتم في الشرح هل يدخل فيه لقوله: "أخيه" الذمي، أو لا يدخل، فيه خلاف، والصحيح أنه لا يدخل. هل يلحق بالبيع الشراء؟ نعم، لأننا إن قلنا بأن البيع يكون مشتركًا بين البيع والشراء فالأمر واضح، وإن قلنا بأن البيع خاص بالبيع، والشراء له معنى مستقل فإنه يكون خاص بالبيع، وهل يقاس على البيع الإجارة؟ نعم، وجميع العقود، لأن العلة واحدة وهي العدوان على حق الغير. ومن فوائد الحديث: تحريم الخطبة على خطبة المسلم لقوله: "ولا يخطب على خطبة أخيه"، ونقول: في الذّميّ ما قلنا في البيع. ومن فوائد الحديث: أنه إذا ردّ الخاطب أو أذن أو كان الخاطب الثاني جاهلًا، فلا تحريم؛ لأن الخطبة تكون غير قائمة، ونقول في الخطبة على خطبة الذّميّ ما قلنا في البيع على بيعه، والصحيح أنه لا يجوز؛ لأنه عدوان، والذمي له حق، وهل يقاس على ذلك خطبة المرأة على خطبة المرأة؟ نعم؛ لأنه عدوان. ومن فوائد الحديث: تحريم سؤال المرأة طلاق أختها لقوله: "ولا تسأل المرأة طلاق أختها"، ولكن هل هذا التحريم خاص بما إذا أرادت قطع رزقها لقوله: "لتكفأ ما في إنائها"؟ الجواب: نعم، إن قلنا: اللام للتعليل فهو مختص بها، وإن قلنا: اللام للعاقبة لم يكن مختصًا بها، ومن تأمل عموم النصوص تبين له أن اللام للعاقبة، وأنه حتى وإن لم تطلب قطع رزقها فإنما قصدت الإضرار بها، فإن سؤال الطلاق حرام. ومن فوائد الحديث: بيان ضعف قول من قال من أهل العلم: إن المرأة إذا تزوجت بشرط أن يطلق الزوج زوجته الأولى، فالشرط باطل خلافًا للمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله لأنهم يقولون بجواز ذلك مع أنه قول مخالف للنص، وإذا فرض أن هذا الشرط باطل وتزوجت على هذا الشرط، ولكنه بعد أن تزوج قال: هذا الشرط باطل ولم أطلق الأولى، فهل للزوجة الثانية الجديدة فسخ النكاح؟ فيه تفصيل: إن كانت لا تعلم حكم الشرع فلها الفسخ ولا يمكن أن نعاقبها بأمر لم تعلم به، وإذا أخبرت أن هذا حرام فإنه ليس لها الفراق، ولكن هل لنا أن نعزِّره؟ فيه تفصيل: إذا كان يعلم بالحديث فإنه يؤدِّب؛ لأنه غرر. سألت المرأة طلاق أختها لمصلحتها بأن تكون المرأة قد سئمت من زوجها، وجاءت المرأة الأخرى وقالت: أنا أطلب لها الطلاق فهل يجوز؟ جائز بل قد يكون محمودًا؛ لأن فيه إنقاذًا لها مما هي عليه من سوء العشرة. لو سألت طلاق أختها لمصلحة الزوج وليس لمصلحة الزوجة؟ ينظر هذه امرأة تزوجت رجلًا

فأخذت تطلب منه كل يوم نوع من الأرز نوع من الخبز نوع من اللباس، والزوج هذا كالشاة مع الراعي، فأرادت الأخرى أن تنقذ الزوج من هذه المرأة، فذهبت تطلب الطلاق هل يجوز؟ هو جائز، بل قد يكون محمودًا؛ لأن فيه إنقاذًا لهذا الرجل المغلوب على أمره. إذن نقول: إذا سألت المرأة طلاق أختها فلا يكون إلا في ثلاث حالات: الأولى: أن يكون لمصلحة الزوج أو لمصلحة المرأة وهذا جائز، أن يكون بقطع رزق المرأة هذا لا يجوز، بل حرام؛ لأنه إضرار بالمرأة إذا سأل الرجل طلاق المرأة من زوجها كرجل سأل زوجًا أن يطلق زوجته؟ إذا كان لمصلحة الزوج فجائز، أما إذا كان لمصلحة الزوجة فلا يجوز، أو لقطع رزق المرأة فلا يجوز، إذا كان لغرض السائل هو نفسه يريدها فهذا حرام، وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله من سأل من رجل خلعه امرأته ليتزوج منها، إذا كان الشارع نهى عن خطبة المرأة فكيف يكون ذلك؟ وقوله: "لا يسم المسلم"، "يسم" هذا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين؛ لأنه لا يمكن أن يحذف حرف من وسط الكلمة من أجل الجزم؛ أي: لا يمكن أن يكون عامل الجزم هو الذي حذفها إنما يحذف الحرف للجزم من آخر الكلمة، فالعلة هنا لالتقاء الساكنين؛ لأنه إذا جزم الفعل صار آخره ساكنًا فلا يستقيم آخر ساكن مع الواو -حرف علة- فتحذف، المهم "لا يسم على سومه" يعني: أنه إذا سام المسلم شيئًا وركن البائع إليه فإنه لا يجوز لشخص آخر أن يأتي ويزيد عليه؛ لأن البائع قد ركن إليه، أما إذا كانت المسألة من باب المزايدة فإن هذا جائز بإجماع المسلمين، وليس فيه حرج، يعني: رجل يعرض سلعة ويقول: من يسوم، من يسوم، فقام آخر وقال: أنا أسومها بعشرة، فهل يجوز أن أزيد عليه وأقول: بإحدى عشر؟ نعم يجوز ذلك، وكذلك لو أن البائع هو الذي عرضها، فإنه لا بأس أن أزيد على من سامها أولًا، أما إذا رأيت أن البائع قد اطمأن ولم يبق عليه إلا أن يوجب البيع، فإنه لا يجوز لي أن أسوم على سومه، لما في ذلك من العدوان على حقه؛ ولأن هذا يوجب العداوة والبغضاء بين المسلمين. وهل مثل ذلك السوم على السوم في البيع؟ يعني بأن يجد شخصًا يريد أن يشتري شيئًا، وقد ركن إلى قول البائع، ولم يب عليه إلا أن يوجب البيع، فيأتي إنسان آخر فيقول: أنا أعطيك مثله أو أكثر منه؟ فالجواب: نعم؛ لأن العلة واحدة، وهي العدوان على حق الغير، ولكن في مسألة السوم لو أنه عقد البيع مع الذي سام على سوم أخيه فهل يصح؟ الجواب: نعم؛ لأن النهي عن السوم، وأما في البيع على بيعه أو الشراء على شرائه فإنه لا يصلح البيع؛ لأن النهي وارد على نفس العقد، وقد سبق لنا قاعدة مهمة في هذا الباب وهو أن النهي إذا عاد إلى ذات الشيء فإنه لا يمكن أن يقع صحيحًا من أجل التضاد، وأما إذا عاد النهي إلى أمر خارج فإنه يأثم ولكن يصح العقد.

حكم التفريق بين ذوي الرحم في البيع

حكم التفريق بين ذوي الرحم في البيع: 777 - وعن أبي أيُّوب الأنصاريِّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرَّق بين والدة وولدها، فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة". رواه أحمد، وصحَّحه التِّرمذيُّ والحاكم، ولكن في إسناده مقال وله شاهد. 778 - وعن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما، ففرَّقت بينهما، فذكرت ذلك للنَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: أدركهما، فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعًا". رواه أحمد، ورجاله ثقات، وقد صحَّحه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبَّان، والحاكم، والطَّبرانيُّ، وابن القطَّان. هذان الحديثان موضوعهما واحد وهو: التفريق بين ذوي الرحم في البيع أيجوز أم لا، وهذا الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من فرَّق بين والدة وولدها ... إلخ" وهذا ضعيف، والوعيد يدل على التحريم، وأن هذا من كبائر الذنوب، مثاله: رجل عنده أنة مملوكة ولها ولد مملوك، وكيف يمكن أن يكون ولده مملوكًا؟ بأن يزوجها من عبد أو من حر يعلم أنها مملوكة، فإذا زوجها من عبد فأولادها مماليك لسيد الأمة، وإذا زوجها من حر وأخبره بأنها أمة فكذلك يكونون أولادها مماليك لسيدها، المهم أن عنده والدة وولدها كلاهما رقيق له فباع الوالدة دون الولد، فإن ذلك لا يجوز، والبيع حرام بل من كبائر الذنوب، ولكن هل يقع البيع صحيحًا؟ الجواب: لا، بل يقع البيع فاسدًا أو يجب عليه أن يرده كما يدل على ذلك حديث عليّ وهو مقتضى القاعدة التي ذكرناها آنفًا، وهو إذا عاد النهي إلى نفس العقد أو نفس العبادة فإنه لا يمكن أن يكون صحيحًا للتضاد؛ لأن النهي يقتضي الفساد فكيف يصح المنهي عنه مع نهي الشارع عنه؟

من فوائد الحديثين: تحريم التفريق بين ذوي الرحم في البيع وهو من كبائر الذنوب لوجود الوعيد على ذلك، وكبائر الذنوب كل ما فيه وعيد خاص سواء كان هذا الوعيد بالنار أو الغضب أو اللعنة أو البراءة منه أو نقي الإيمان أو نفي الإسلام أو غير ذلك، وكذلك كل ما فيه عقوبة خاصة من قبل الشرع في الدنيا فإنه من كبائر الذنوب، مثل الزنا واللواط وغيرها، وما ليس كذلك وإنما فيه النهي أو التحريم أو نفي الحل فإن ذلك ليس من كبائر الذنوب. هل يقاس على الوالدة العمة والخالة؟ إذا نظرنا إلى حديث عليّ قلنا: إنها تقاس العمة والخالة؛ لأن في حديث على تحريم التفريق بين الأخوين، وأخذ العلماء من هذا والذي قبله قاعدة، وقالوا: لا يجوز التفريق بين ذوي الرحم في البيع، وإذا قلنا: ما هو الضابط؟ فالضابط أنه لو قدر أن أحدهما ذكر لم يحل أن يتزوج الآخر لقرابته منه فإنه لا يجوز التفريق بينهما، فالعمة وابن أخيها لا يجوز التفريق بينهما؛ لأنه لا يحل التناكح بينهما وابن العم وابن عمه يجوز التفريق بينهما، لماذا؟ لأنه لو كان أحدهما أنثى لجاز أن يتزوجه الآخر، أمُّ وابنتها من رضاع يجوز؛ لأن العلة ليست الرحم ولكن الرضاع. نعود إلى القاعدة فنقول: كل مملوكين لو قدر أن أحدهما ذكر لم يحلّ للآخر أن يتزوجه للقرابة فإنه لا يجوز التفريق بينهما، فإن وقع التفريق فالواجب ردّ البيع، كما يدل عليه حديث عليّ بن أبي طالب. يستفاد من الحديثين: رحمة الله عز وجل بعباده؛ حيث حرّم التفريق بين ذوي الرحم؛ لأنه لا شك أنه يلحق ذوي الرحم بهذا التفريق من التعب والمشقة، ولاسيما بين الأم وولدها ما لا يحتمل أحيانًا، فمن رحمة الله أن حرّم التفريق بينهما. ويستفاد من حديث عليّ: وجوب رد البيع إذا كان باطلًا لقوله: "أدركهما فارتجعهما"، وهكذا كل عقد باطل، فإنه يجب أن يردّ، وكل فسخ باطل فيجب أن يرد، العقود كثيرة والفسوخ مثل: الطلاق في الحيض، فإن الطلاق أحلّ قيد النكاح، فإذا وقع في الحيض وجب رده وإبطاله وعدم احتسابه، وإذا بقيت المرأة ولم ترد فإنها باقية في عصمة الزوج الذي طلقها؛ لأن الطلاق في الحيض على القول الراجح غير واقع؛ لأنه على خلاف أمر الله ورسوله. إذا قال قائل: إلى متى يكون هذا الحكم، هل نقول: إن هذا الحكم يمتد إلى أن يملك أحدهما نفسه، يعني: إلى أن يكبر الصبي أو الصبية أو إلى ما لا نهاية له؟ فيه خلاف؛ فمنهم من أخذ بظاهر الحديثين، وهو أنه لا فرق بين الصغير والكبير، ومنهم من قال: إنه يفرق بين الصغير والكبير، وأن حد ذلك أن ينفصل الصغير عن الكبير، بحيث لا يحتاج إليه، فإن الغلامين اللذين في حديث علي صغيران بلا شك، لأن الكبير لا يقال له "غلام" إلا من باب التجوز كأن يكون مملوكًا،

حكم التسعيرة

فيقال: غلام وأمة أو عبد وأمة، والأقرب التقييد، لأنهما إذا انفصلا بعضهما عن بعض، واستغنى بعضهما عن بعض، فإن الرِّقة والرحمة التي تكون بينهما -في الغالب- تزول، ولهذا لا تجد الرقة والحنان والرأفة الذي في قلب الأم لولدها في حال صغره مساوية لذلك فيما إذا كبر، فنقول: متى كان هذا الغلام محتاجًا إلى الأم لولدها في حال صغره مساوية لذلك فيما إذا كبر؟ فمتى كان هذا الغلام محتاجًا إلى أمه أو إلى أخيه أو إلى عمه والرأفة والحنان باق، فإنه لا يجوز التفريق وأما بعد البلوغ واستقلال كل واحد منهما بنفسه، فإنه لا يحرم التفريق. وهذا التفريق في البيع خاصة أو حتى في العتق؟ الجواب: في البيع خاصة، أما في العتق فيجوز أن يعتق الأم ويدع الولد، أو يعتق الولد ويدع الأم، لأنه لا ضرر في هذا؛ إذا إن الحر يملك نفسه، فإذا أعتقه فبإمكانه أن يرجع إلى أمه ويبقى معها؛ لأنه ليس ملكًا لأحد. وهل يشمل الحديث التفريق بين الوالدة وولدها من البهائم؟ قال بعض العلماء بالعموم، وأنه لا يجوز أن يبيع السخلة دون أمها ولا أم السلخة دون السخلة، ولكن هذا فيه نظر؛ إذ هل نقول: لا تذبح الأم دون السخلة ولا السخلة دون الأم وهذا لا شك أنه خلاف ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، والصواب: أن هذا خاص في بني آدم فقط، وأما البهائم فا بأس، لكن يمنع من أن يذبحها أمام أمها. حكم التسعيرة: 779 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "غلا السِّعر بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النَّاس: يا رسول الله، غلا السِّعر، فسعِّر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ الله هو المسعِّر، القابض، الباسط، الرَّازق، وإنِّي لأرجو أن القى الله تعالى، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال". رواه الخمسة إلا النَّسائيَّ، وصحَّحه ابن حبَّان. قوله: "غلا السعر" أي: ارتفع وزاد، يقال: غلا يغلو وكل هذه المادة الام والغين والألف أو الواو كلها فيها نوع من الزيادة: } كالمهل يغلى في البطون (45) كغلى الحميم {[الدخان: 46]. والغليان فيه ارتفاع وزيادة، "غلا السّعر" يعني: ارتفع وزاد فيه أيضًا زيادة، و"السعر": قيمة الأشياء، يعني مثلًا صاع البر بكذا، وصاع التمر بكذا، وصاع الأقط بكذا؛ لأنه إذا سعر فلن يزيد أحد على تسعيره، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال أن ذلك ليس إليه؛ لأن من بيده ملكوت السموات

والأرض هو الله عز وجل فقال: "إن الله هو المسعّر" يعني: هو الذي بيده الأمر إن شاء عز وجل أغلى السِّعر وإن شاء أرخص السعر، كيف ذلك؛ لأن سبب الغلاء إما زيادة في نمو الناس، وإما نقص في المحصول، وإما جشع وطمع، وكل ذلك بيد الله عز وجل الزيادة في النمو بيد الله، وكذلك أيضًا النقص في المحصول والزيادة فيه بيد الله، ومعلوم أنه إذا نقص المحصول زاد السعر، أو يكون من باب الطمع والجشع، وهذا أيضًا بيد الله؛ لأن الطمع والجشع من فعل الإنسان، والله تعالى خالق للإنسان وخالق لفعله، ولهذا قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو المسعر"؛ لأنه هو الذي يفعل أسباب الزيادة وأسباب النقص، القابض الباسط، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: } يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر {[الروم: 37]. فهو "القابض": الذي يقبض الشيء ويقلله، وهو "الباسط" الذي يبسطه ويوسعه ويكثره، وهذا من جملة أفعاله عز وجل: } والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون {[البقرة: 245]. قال: "الرازق" يعني: المعطي، والرازق في الأصل العطاء، كما قال الله تعالى: } فارزقوهم منه {[النساء: 8].} وارزقوهم فيها {[النساء: 5]. أي: أعطوهم، ورزق الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: رزق مادة الحياة الجسدية، ورزق مادة الحياة الروحية، فالأول يكون بالطعام والشراب والكسوة والسكن، والثاني يكون بالعلم والإيمان. وعلى هذا فنقول: من ليس له كسب إلا المحرم كالمرابي هل الله رازقه؟ الجواب: نعم، رازقه بالمعنى الأول، أما بالمعنى الثاني فلا شك أنه ناقص الإيمان؛ لأنه لو كان إيمانه كاملًا ما انتهك محارم الله عز وجل في الربا. الكافر مرزوق بأي المعنيين؟ بالمعنى الأول؛ لأن الله رزقه ما يقوم به جسده، أما ما يقوم به قلبه من العلم والإيمان فإنه مفقود؛ لأن علمه إن كان عنده علم ينتفع به وإيمانه معدوم. يقول: "وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال"، الرجاء: هو الطلب النفسي مع وجود أسباب حصول المطلوب، إذن فهو في الأمور الميسورة، والتمني في الأمور المتعذرة، أو المتعسرة، لكنه طلب كالرجاء، لكن الرجاء يكون في الأمور القريبة، والتمني في الأمور البعيدة، وقوله: "إني لأرجو أن ألقى الله تعالى"، ومعنى "تعالى" أي: ترفّع، وتعاليه عز وجل معنوي وحسِّي، أما تعاليه المعنوي فهو أنه -سبحانه وتعالى- متعال عن كل نقص، وأما الحسي فهو متعالٍ على جميع الخلق كما قال تعالى: } الكبير المتعال {[الرعد: 9]. يقول: "وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة"، يعني: يكون له عندي مظلمة ويجوز مظلمة، "في دم ولا مال"، "في دم" كالاعتداء على الناس، "ولا مال" كالاعتداء على المال، هذا الحديث القصة فيه واضحة وهي أن الصحابة لما غلا السعر ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -باعتباره ذا السلطة والإمامة- أن يسعَّر لهم، فامتنع النِّبي صلى الله عليه وسلم وبيَّن أن الأمر بيد الله عز وجل، وأن التسعير على الناس نوع من الظلم، ورجا الله عز وجل أن يلقاه وما أحد منهم يطلبه بمظلمة في دم ولا مال.

فيستفاد منه فوائد: أولًا: أن غلاء السعر سبب للقلق؛ أي: قلق الناس واضطرابهم، وهو كذلك لما فيه من ضيق القوت. ويتفرع على هذه الفائدة: أن رخص الأسعار فيه توسعة للناس وانبساط، ولكن اعلم أن رخص الأسعار قد يكون أحيانًا ضررًا على آخرين ولكن العبرة بالعموم، فرخص الأسعار مثلًا في المنتوجات قد يتضرر به المنتجون، لكن عامة الناس ينتفعون به، والمصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة، ألا ترى إلى المطر يعتبر من رحمة الله ويفرح الناس به وقد يكون ضررًا على بعض الناس كالمزارع لا يحب المطر؛ لأنه قد أسقى زرعه آخر تسقية، وإذا أسقاه آخر، فربما يتضرر الزرع بما يأتي بعد ذلك من الماء، أو يكون شخص قد بنى بنيانًا ولم ييبس، فإذا جاء المطر ضره وهدم بنيانه .... إلى غير ذلك من المسائل التي يكون فيها المطر ضررًا، لكنه ضرر مغتفر؛ لأن قليل في جانب النفع العام. ومن فوائد الحديث: أن الصحابة -رضي الله عنهم- يشكون الأمور التي تقلقهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رجاء أن يعالجها بنفسه أو بدعاء الله -سبحانه وتعالى- الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادعوا الله أن يغيثنا، هذا طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم علاج هذا الموقف بدعاء الله، وهنا الصحابة طلبوا علاج الموقف بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول تبرأ من ذلك. ومن فوائد الحديث: إثبات أن الله عز وجل هو الذي بيده الأمور دون غيره؛ لقوله: "القابض، الباسط، الرازق"، وهذا يقوله النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو أحق الناس بأن يكون له شيء من التكبر لو كان لأحد من المخلوقين شيء من التكبر، فإذا انتفى هذا الأمر بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانتفاؤه بالنسبة لغيره من باب أولى، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يعلَّق قلبه بأحد إلا بالله. ومن فوائد الحديث: وصف الله بأنه مسعّر؛ لأن التسعير نوع من أنواع فعله سبحانه، فهو الذي يسعر الأشياء، ويقدر قيمتها بما يقدره من الأسباب، وقد ذكرنا أسباب الغلاء قبل قليل بأنها ثلاثة: زيادة النمو، قلة المحصول، الجشع والطمع. ومن فوائد الحديث: وصف الله عز وجل بالقابض والباسط لقوله: "القابض، الباسط". ومن فوائد الحديث: وصفه بالرازق، فهل هذه أوصاف وصف الله بها؛ لأنها من أنواع أفعاله أو هي أسماء؟ يحتمل أن تكون أسماء من أسماء الله؛ لأنها دخل عليها "أل"، ويحتمل أن تكون أوصافًا؛ لأنا أنواع من الفعل، فهي كالضحك والغضب والسخط والرضا، فهي أنواع من الفعل فلا تكون من أسماء الله؛ ولهذا لم يأت شيء منها في القرآن إلا بلفظ الفعل:

الاحتكار

} يقبض {، } ويبصط {، أما الرازق فجاءت في قوله تعالى: } والله خير الرزقين {[الجمعة: 11]. لكن الرزاق هنا غير الرزاق لأنه قال: } خير الرزقين {، والمفضل غير المفضل عليه، لكن جاءت في القرآن اسمًا بلفظ: "الرزاق"، وفرق بين الرازق والرزاق؛ لأن الرزاق نسبة وصيغة مبالغة بخلاف الرازق. ومن فوائد الحديث: تحريم التسعير لقوله: "وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة"، وهذا يدل على أن التسعير ظلم؛ لأن فيه احتكار للسلعة، فإذا سعَّر ولي الأمر، وقال: لا يباع إلا بكذا، هذا لا شك أن فيه احتكار؛ لأن الأشياء قد ترتفع مؤنتها، ويحتاج البائعون إلى زيادة الثمن، وهذا كله بيد الله، ولكن في هذا تفصيل، فإن كان سبب الغلاء احتكار الناس وطمعهم فإن الواجب على ولي الأمر أن يسعر، وإن كان سبب الغلاء زيادة النمو أو قلة المحصول فهذا ليس بفعل الإنسان فلا يجوز لولي الأمر أن يسعر، وإنما عليه أن يوفر ما يحتاجه الناس إذا أمكنه ذلك. إذ قال قائل: ما دليلكم على أنه إذا كان سبب الغلاء احتكار الناس فإنه يجوز التسعير؟ قلنا: دليلنا الحديث الذي بعده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحتكر إلا خاطئ"، وإذا كان لا يحتكر إلا خاطئ دلّ هذا على أن الاحتكار حرام، لأن الخاطئ مرتكب الإثم عن عمد، والمخطئ مرتكب الإثم عن غير عمد؛ ولهذا يعفى عن المخطئ ويعاقب الخاطئ، قال الله تعالى في سورة العلق: } ناصية كذبة خاطئة {[العلق: 16]. وقال تعالى: } ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا {[البقرة: 286]. واسم الفاعل من} أخطأنا {: مخطئ؛ لأنه رباعي، واسم الفاعل من خطئ: خاطئ، فالخاطئ آثم، والمخطئ غير آثم، إذن المحتكر خاطئ آثم، وإذا كان آثمًا وجب أن ترفع هذا الربح، فإذا كان سبب الغلاء احتكار الأغنياء وجب أن يسعّر عليهم ولا يجوز أن تطلق لهم الحرية في الاحتكار، إذن التسعير فيه تفصيل إذا كان سببه احتكار الأغنياء وجب التسعير، وإذا كان سببه كثرة النماء أو قلة المحصول فإنه يحرم التسعير؛ لأن هذا ليس بفعل أحد بل هو بفعل الله عز وجل. الاحتكار: 780 - وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحتكر إلا خاطئ". رواه مسلم. "الاحتكار" بمعنى: حبس الشيء وإمساكه، والمراد "لا يحتكر" يعني: لا يحوز الشيء ويمنعه عن البيع "إلا خاطئ" والاحتكار نوعان: احتكار بمعنى الحبس حبسًا مطلقًا بحيث لا يبيع كل من

جاءه يطلب منه السلعة أبى أن يبيع، والثاني: احتكار مقيد؛ أي: أنه يحتكر السلع إلا بثمن يرضاه هو وإن كان فوق ثمن العادة، وكلاهما خطأ. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يحتكر إلا خاطئ" و "الخاطئ" هو مرتكب الخطأ عمدًا وقصدًا، وعكسه المخطئ فإنه مرتكب الخطأ من غير عمدٍ؛ إذن المحتكر خاطئ؛ أي: مرتكب للخطأ عن عمد، وإذا كان خاطئا، فإن الواجب ردّه إلى الصواب، وذلك بأن يسَّر عليه، فإن كان منع بالكلية أجبر على البيع، وإن كان قد منع من أجل السِّعر الذي يرضاه هو أجبر على البيع بسعر المثل، ثم إنَّ ظاهر الحديث عموم الاحتكار في كل شيء، وقيّده بعض أهل العلم بالأشياء التي تكون ضرورية يضر الناس احتكارها، أما الأشياء التي ليست ضرورية فإن للإنسان أن يحتكرها كالأمور الكمالية، والصواب: العموم، لأن الكماليات والضروريات أمرها نسبي، فقد يكون هذا الشيء كماليًا عند قوم، ضروريًا عن آخرين، ولا يمكن انضباط هذا الشيء. فنقول: كل شيء يحتكره الإنسان مما يباع في الأسواق، فإنه يعتبر خاطئًا: "لا يحتكر إلا خاطئ" ثم إن ظاهر الحديث: أنه لا فرق بين أن يكون المحتكر واحدًا يشتري كل ما في السوق، ثم يحتكره أو جماعة تحتكر هذا الشيء وتتفق على أنها لا تبيعه إلا بسعر معين وهو لا يوجد عند غيرهم. كالخبازين والجزارين، قال الخبازون: سنتفق على أن نبيع الخبز ثلاثًا بالريال، ولكنهم يربحون إذا باعوا أربعًا بالريال، قال الجزارون: سنتفق على أن نبيع الكيلو بعشرين ريالًا، وهم يربحون إذا باعوا بخمسة عشر ريالًا، هؤلاء محتكرين يجب على ولي الأمر أن يجبرهم على البيع كما يبيع الناس. فإذا قال قائل: لا يوجد أحد يبيع هذه السلع إلا هؤلاء الناس؟ قلنا: حينئذ يقدِّر ولي الأمر رأس المال ويقدر الربح ويقدر المؤنة والنفقة التي تترتب على إصلاح هذا الشيء، ثم يضيف إليها نسبة معينة تكفي في الربح غالبًا، مثلًا يقول: نقدِّر قيمة الدقيق، قيمة العمال، قيمة الوقود، قيمة أجرة المكان، ثم نقدر نسبة أخرى تضاعف إلى هذه القيمة تكون مقاربة، ويجبر الناس على البيع، على هذه الصفة من ذلك الآن ما يوجد بالصيدليات حيث قدِّرت قيمة الأدوية صار الناس لا يتلاعبون، ولهذا نجد الشيء الذي لم تقدر قيمته نجد فيه تلاعبًا كثيرًا، تدخل على صاحب المحل وتقول: بكم هذه السلعة؟ فيقول: بمائة، وتدخل على جاره تقول: بكم السلع هذه؟ يقول: بخمسين إلى هذا الحد، يعني: الفرق النصف والسلع واحدة، والسوق واحد ..... كل هذا بسبب الاحتكار، وغالب المشترين لا يعرفون الأسعار، فيشترون كيفما استقر، بل إنه من العّجب العجاب أن بعض الناس يشتري السلعة بثمن زهيد، ثم يعرضها للبيع ويقول: إن ذكرت ثمنها وربحها معتادًا، قال الناس: هذه سلعة بائرة، وإن رفعته وقلت: سعر الثمن كذا وكذا، قالوا: هذه سلعة جيدة، يقولون: إنهم يشترون هذه السلعة من البلد الآخر بعشرة ويبيعونها في هذا السوق

بيع الإبل والغنم المصراة

بخمسين، بل بثمانين لماذا؟ قالوا: لأني لو أقول: هذه السلعة بخمسة عشر قالوا: هذه السلعة بائرة، فهل يجوز لهذا الرجل أن يفعل هذا الفعل؟ نقول: إن في هذا ضررًا على الناس، والواجب على أهل الحسبة في الأسواق أن ينظروا، فإذا كانت القيمة خمسة عشر مشوا إلى البائعين الآخرين، وإذا كانوا قد رفعوا القيمة عن هذا المعتاد أجبروهم على أن ينزلوا القيمة، حتى يعرف الناس أن كل الذي في السوق على حدّ سواء، وغالب الناس بما يصنعون أو يشاهدون -كما يقول العامة: هذا عقله في عيونه- إذا سمع أن الثمن كثير، قال: هذه السلعة جيدة وإذا كان الثمن قليلًا -حتى لو كانت السلعة جيدة- قال: هذه بائرة ليست بشيء. هذا الحديث أتى به المؤلف رحمه الله بعد حديث أنس ليستدل به على أنه إذا كان سبب الغلاء احتكار الناس، أي: الناس الذين احتكروا ويجب أن يسعر عليهم، وأن يبيعوا بربح مناسب. من فوائد الحديث: تحريم الاحتكار لقوله: "لا يحتكر إلا خاطئ". ومن فوائده أيضًا: عموم تحريم الاحتكار في أي شيء؛ لأن الحديث مطلق لم يقيّد. ومن فوائده أيضًا: وجوب النُّصح للمسلمين؛ لأن الاحتكار على خلاف النصيحة، والواجب على المؤمن أن ينصح لإخوانه المؤمنين، وألا يحتكر عليهم السلع التي يريدونها. ومن فوائد الحديث: أن الذي يبيع كما يبيع الناس ويسهِّل للناس فإنه مصيب، وأخذ هذا من إثبات الخطأ للمحتكر، فيكون من وسّع على الناس وبذل الشيء مصيبًا ليس بخاطئ. بيع الإبل والغنم المصرَّاة: 781 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النَّظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردَّها وصاعًا من تمرٍ". متَّفق عليه. -ولمسلم: "فهو بالخيار ثلاثة أيَّام". -وفي روايةٍ له علَّقها البخاريُّ: "وردَّ معها صاعًا من طعام لا سمراء"، قال البخاريُّ: والتَّمر أكثر. "لا تصرُّوا" "لا" ناهية، و"تصرُّوا" فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، وهي مروية بوجهين: "تَصرُّوا"، و"تُصرُّوا" والأرجح الأخير، مأخوذة من التَّصرية وهي الجمع. وقوله: "الإبل والغنم" أي: لبن الإبل والغنم، وكانوا يجمعون لبنها في ضروعها ليظن من رآها

أنها كثيرة اللبن، فيشتريها بزيادة، فنهاهم النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن ذلك غش وخديعة وخيانة، وهو عند الفقهاء من باب التدليس، وهو إظهار الردئ بصفة أجود مما هو عليه في الواقع، وقوله: "الإبل، والغنم"، "الإبل" اسم جامع لا واحد له من لفظه، لكن له واحد من معناه، واحده بعير، والغنم واحده الغنمة، وتشمل الضّأن والمعز. قال: "فمن ابتاعها بعد" أي: فمن اشتراها، "بعد" أي: بعد التّصرية وبنيت "بعد" على الضم؛ لأنه حذف المضاف إليه ونوى معناه، وقد مرّ بنا أن "بعد"، و"قبل" وأخواتها لها أحوال، فتارة تبنى على الضم، وتارة تعرب بالتنوين، وتارة تعرب بلا تنوين، متى تعرب بلا تنوين؟ إذا أضيفت لفظًا أو تقديرًا، وتعرب بتنوين إذا قطعت عن الإضافة لفظًا وتقديرًا، وتبنى على الضم إذا قطعت عن الإضافة لفظًا لا تقديرًا؛ يعني: من أنه يحذف المضاف إليه وينوى معناه. وقوله: "فهو بخبر النظرين" يعني: فهو بما يرى أنه خير له من أي شيء، قال: "إن شاء أمسكها وإن شاء ردَّها"، "وصاعًا من تمر"، وقوله: "بعد أن يحملها"، لم يذكر أمر الخيار في هذه الرواية، لكن قال: ولمسلم: "فهو بالخيار ثلاثة أيام"، وفي رواية علّقها البخاري ورد معها: "صاعًا من طعام لا سمراء"، قال البخاري: "والتمر أكثر". في الحديث: "نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم، النهي يقتضي التحريم، فيستفاد من ذلك: تحريم تصرية الإبل والغنم؛ أي: جمع اللبن في ضروعها. وهل يلحق بالإبل والغنم ما سواهما؟ الجواب: نعم، مثل البقر والجاموس وغيره. وهل يلحق بمباح الأكل محرم الأكل كالأتان يعني الحمارة؟ قال بعض أهل العلم: يلحق لأن كثرة اللبن في الحمارة مقصود، وإن كان الإنسان لا يشربه لكن يشربه ولدها وولد غيرها، فهو مقصود، وقال بعض العلماء: بل إن الأتان لا حكم لتصريته؛ لأن لبنها لا عوض له، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل لهذا اللبن المصرَّى عوضًا، وهو صاع من تمر، والراجح الأول أنه خاص بمباح اللبن، اللهم إلا إذا كان ذلك عيب في الأتان، فإن للمشتري الفسخ من أجل العيب. من فوائد الحديث: تحريم التدليس بالقياس، نقول: لما حرم الشارع تصرية الإبل والغنم من أجل التدليس على المشتري نقيس عليه كل ما فيه تدليس، ومن ذلك ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله- جمع ماء الرّحى وإرساله عند عرضها، الرَّحى معروفة وهي التي يطحن بها الحبوب وكيفية جمع ماء هذه الرحى هي: أنهم كانوا يجعلون الرّحى على الجروة ويجعلون لها ريشًا كالمروحة إذا مر بها الماء حرك هذه الريشة واستدارت وهنا كسير متصل بالرّحى، إذا استدارت هذه المروحة استدارت الرّحى، فإذا كانت الجروة قوية صار دوران المروحة قويُّا فيكثر دوران الرّحى وقوي الطحن، هذا تدليس بأن يجمعوا ماء الرحى يحبسونه، فإذا أرادوا أن يعرضوها للبيع فتحوا عليها الماء، فيأتي الماء مندفعًا بشدة، فيظن المشتري أن هذا دأب هذه الرّحى فيزيد في ثمنها.

كذلك تسويد شعر الجارية التي ابيض شعرها من الكبر، فيسوده ليظن الرائي أنها شابة وهي من القواعد اللاتي لا يرجون النكاح. كذلك أيضًا إذا كانت السيارة مصدومة عدة صدمات فسمكرها وطلاها باللون الموافق للونها الأصلي، فيظن الرائي أنها جديدة فيزيد في قيمتها وهي قديمة مصدومة. من ذلك أيضًا أن يلبس البيت عند بيعه ليظن الظان أنه جديد، المهم الضابط في هذا إظهار السلعة بصفة مرغوب فيها وهي خالية منها. من ذلك أيضًا إذا أراد أن يبيع رقيقًا نثر على ثوبه حبرًا لماذا؟ ليظن أنه كاتب، ثم إن التدليس بعضه قريب وبعضه بعيد، يعني: كون هذا الرقيق على ثوبه حبرًا ليس من لازمه أن يكون كاتبًا، لكن قد يظن الظان أنه كاتب، وكذلك أيضًا تسويد اللحية إذا أراد أن يبيع رقيقًا فيظن أنه شاب، قصَّ لحيته من اليمين والشمال والأسفل ثم سوَّدها حتى يراه الرائي وكأنه شاب، على كل حال: الضابط عندنا هو أن يظهر السلعة بصفة مرغوب فيها، وهي خالية منها في الحقيقة. وقوله: "فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين" أي: بما يرى أنه خير له إما الإمساك وإما الردّ. وقوله: "بعد أن يحلبها" لم يذكر في هذه الرواية المدة التي تضرب له، لكنه في الرواية الأخرى التي في مسلم قال: "فهو بالخيار ثلاثة أيام" منذ حلبها، وتنظر هل هذا اللبن الموجود في ضرعها حين الشراء هو اللبن الحقيقي أو لا؟ وثلاثة الأيام تبين بها طبيعة هذه البهيمة هل لبن طبيعي أو لبنها محفل يعني مجموع، ولهذا قال: ضرب له ثلاثة أيام، قال: إن شاء أمسكها، وظاهره أنه يمسكها بلا أرش؛ لأن هذا ليس عيبًا، ولكنه فوات الصفة، وهناك فرق بين فوات الصفة وبين العيب؛ لأن العيب نقص، وفوات الصفة فوات كمال، والعيب قد علمنا أن المشتري يخير بين أن يردّ السلعة وأن يقوِّم له العيب، الذي يسمى الأرش؛ لأنه عيب ونقص، أما فوات الصفة الكمالية فإن المشتري يخير بين أن يفسخ أو يمسك مجانًا، ولهذا قال: إن شاء أمسكها، يعني: بدون أن يعطى أرش، وإن شاء ردّها وصاعًا من تمر ردها على البائع وصاعًا من تمر، وفي رواية البخاري المعلقة ووصلها مسلم: "صاعًا من طعام لا سمراء"، قال البخاري: "والتمر أكثر"، يعني: أكثر الروايات: "صاعًا من تمر"، والصاع هو مكيال معروف، وه يسع من البرّ الرزين ما زنته كيلوان وأربعون غرامًا، وقوله: "من تمر" أيضًا التمر معروف، وهذا الصاع عوض عن اللبن الذي كان في ضرعها حين العقد، وليس عوضًا عن اللبن الذي تدر بعد الشراء؛ لأن اللبن الذي تدرّ بعد الشراء يكون على ملك المشتري فلا يضمن، وأما اللبن الذي كان موجودًا في ضرعها حين البيع فهو ملك البائع، وقد استهلكه المشتري وحلبه، فقدر له النَّبيّ صلى الله عليه وسلم "صاعًا من تمر".

وهنا أسئلة: أولًا: لماذا قدر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر دون غيره؟ قالوا: لأن التمر أشبه ما يكون بالحليب؛ لأنه طعام لا يحتاج إلى طبخ، وفي أنه حلو كالحليب فكان أشبه ما يكون بالحليب التمر. والسؤال الثاني: لماذا قدره بصاع مع أن اللبن قد يكون كثيرًا يساوي أكثر من الصاع، وقد يكون قليلًا لا يساوي الصاع، وقد تكون قيمة اللبن مرتفعة أكثر من قيمة الصاع، وقد تكون نازلة دون قيمة الصاع؟ فنقول: إنما قدّره النَّبي صلى الله عليه وسلم بالصاع قطعًا للنزاع، لأنه لو قال: صاعًا من تمر مقابل للحليب لو قال ذلك لحصل نزاع بين البائع والمشتري، البائع يقول: إن اللبن أكثر من ذلك، والمشتري يقول: إن اللبن أقل، فإذا كان مقدرًا من قبل الشرع رضي الجميع ولم يحصل نزاع. السؤال الثالث: لماذا لم يوجب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ردّ اللبن الذي حلب لأول مرة؟ والجواب على ذلك نقول: أولًا: اللبن قد لا يبقى إلى ما بعد ثلاثة أيام، ثانيًا: أن اللبن من حين عقد البيع فإنه سيزداد؛ لأن المشتري ليس من اللازم أن يحلبها من حين أن يشتريها، قال: ربما تبقى ساعة أو ساعتين وفي هذه المدة تدرّ البهيمة لبنًا، فيختلط لبن المشتري مع لبن البائع، وإذا قلنا: يجب عليك أن ترد اللبن صار نزاع؛ لأن ردّه متعذر أو متعسر، فهذا أوجب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر. 782 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من اشترى شاةً محفَّلةً، فردَّها، فليردَّ معها صاعًا". رواه البخاريُّ. -وزاد الإسماعيليُّ: "من تمر". فيستفاد من هذا الحديث فوائد: الأولى: تحريم تصرية الإبل والغنم للنهي في قوله: "لا تصروا". فإذا قال قائل: ما الحكمة من ذلك؟ الجواب: أن الحكمة لذلك أمران: الأول: إيذاء الحيوان؛ لأن حبس اللبن يتأذى به الحيوان، الثاني: أنه غش للمشتري ظاهر، وقد ثبت عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من غشّ فليس منا". ومن فوائد الحديث: أن المشتري للمصرَّاة يخيَّر بين ردها أو إمساكها لقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن ابتاعها فهو بخير النظرين".

ومن فوائد الحديث: أن له الخيار مدة ثلاثة أيام، والتعليق بالثلاثة ورد في نصوص كثيرة متعددة، حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلَّم تكلّم ثلاثًا، إذا سَلّم سلّم ثلاثًا، إذا استأذن يستأذن ثلاثًا، والثلاث معتبرة شرعًا في مسائل كثيرة ومنها الحديث. ومن فوائد الحديث: أنه إذا اختار الرد فإنه يجب أن يرد معها صاعًا من تمر، فإن قال قائل: إذا لم يكن عنده تمر؟ فإنه يرد معها أقرب ما يكون سبهًا بالتمر من القوت؛ لأنه قد يكون في بلاد ليس عندهم نخيل ولا تمر فيرد أقرب ما يكون سبهًا بالتمر، وقيل: بل يرد نفس اللبن إن كان موجودًا أو مثله، إن كان قد شربه أو قيمته إن تعذر المثل، ولكن الصحيح أن يرده طعامًا أقرب ما يكون إلى التمر؛ لأن هذا هو الذي جعله الشارع بدلًا عن اللبن المفقود، ولو كان رد اللبن مقصودًا لقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: فليرد اللبن فإن لم يمكن فصاعًا من تمر، ثم نقول أيضًا: إن ردّ اللبن مثله متعذر، لأن اللبن الذي وقع عليه العقد لبن في ضرع، واللبن في الضرع مستحيل ردّه وتقديره. ومن فوائد الحديث: تحريم الظلم، ويؤخذ ذلك من تحريم التصرية، وهو كذلك، فإن الظلم محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، قال الله تعالى: } إنه لا يحب الظالمين {[الشورى: 40]. وقال الله عز وجل: } إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم {[الشورى: 42]. وقال تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا"، وقال الَّنبيّ صلى الله عليه وسلم: "الظلم ظلمات يوم القيامة"، والنصوص في هذه كثيرة، والعلماء مجمعون على تحريم الظلم. ومن فوائد الحديث: حماية الشريعة لحقوق الإنسان، وجه ذلك: النهي عن التصرية وجعل من غبن بها مخيَّرًا بين الإمساك والرّد. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا أمسك بفوات صفة مطلوبة، فإنه يمسك بلا أرش سواء كانت هذه الصفة مشروطة لفظًا أو حالًا، المشروطة لفظًا أن يقول: إنها لبون في مسألتنا هذه، والمشروطة حالًا بالتصرية مصرَّاة فإن هذه التصرية تعطي المشتري شرطًا على أنها كثيرة اللبن، فإذا زال هذا المشروط، فإننا نقول للمشتري الآن، إما أن تمسكها على ما هي عليه وإما أن تردها بخلاف العيب، والفرق بينهما ما أشرنا إليه آنفًا من أن العيب نقص؛ لأن مقتضى العقد أن تكون السلعة خالية من العيب، وأما هذا فهو فوات كمال فهو زائد على أصل ما وقع عليه العقد وهو السلامة. ومن فوائد الحديث: إثبات الخيار للإنسان؛ أي: أنه يفعل باختياره فيكون فيه رد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله لا يختار شيئًا من الأشياء، بل هو كالريشة في الهواء.

ومن فوائد الحديث: حرص الشرع على قطع المنازعات والبعد عنها، من أين يؤخذ؟ من تقديره العوض بصاع من تمر، ونحن إذا تأملنا نصوص الكتاب والسنة وجدنا أن الشرع ينهى عن كل ما يحدث العداوة والبغضاء بين الناس؛ لأنه يريد من الأمة الإسلامية أن تكون أمة متآلفة متآخية كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، والبعد عما يوجب التنافر والبغضاء كما هو واجب على سائر المسلمين، فهو واجب على طلبة العلم بالذات أكثر من غيرهم؛ لأن طلبة العلم هم الذين يقتدى بهم وهم الذين يشار إليهم بالسوء أو بالحسنى، إن أساءوا صاروا مشمتة للناس وصارت سيئاتهم في عيون الناس أكبر من سيئات غيرهم، وإن أحسنوا صاروا قدوة للناس في الخير والعمل الصالح، وأحبهم الناس، ويؤسفنا كثيرًا أن نجد العداوة والبغضاء والخصومات والجدال والتعصب بالباطل بين كثير من طلبة العلم عند مسائل شرعية ينبغي أن تكون محل اجتماع اتفاق ووفاق، لا أن تكون محل عداوة وبغضاء وسب وشتم وتنفير، فإن هذا خلاف الشرع وخلاف ما أمر الله به وما أخبر اله به عن هذه الأمة: } وإن هذه أمتكم أمة وحدة {[المؤمنون: 52]. فإذا كان الشارع ينهى عن بعض المعاملات المؤداة إلى النزاع والعداوة والبغضاء فكيف بالمسائل الشرعية التي تكون هي السبب في العداوة والبغضاء هذا شيء يؤسف له، والواجب على كل مسلم وعلى طلبة العلم بالأخص أن يسعوا إلى كل ما فيه إصلاح القلوب وحصول المصلحة، أنا لست أقول: دعوا الناس يقولون فيخطئون أو يصيبون، لا، لكن يبين للناس بمناقشة هادئة هادفة، فإذا تبني الحق وجب على كل إنسان اتباعه، وإذا لم يتبين فكل إنسان معذور، والذي يحاسب الخلق هو اله عز وجل؛ لأنه قد يتبين لي ما لم يتبين لك والعكس، فلماذا نجعل مثل هذه المسائل سببًا للعداوة والبغضاء بين طلبة العلم حتى إن كل طائفة منهم حزب مستقل كأنهم ليسوا مسلمين والواجب خلاف ذلك، وعلى طلبة العلم أن يكون طالب العلم عند هذا العالم كالطالب عند العالم الآخر، كل منهم يبذل الخير، وكل منهم يريد أن يصل إلى الغاية المنشودة وهي إقامة شريعة الله بين عباد الله. ومن فوائد الحديث: أن العدد الثلاثي معتبر في كثير من الأشياء، وبه تتبين الأشياء في الغالب في الثلاث، كما إذا استأذنت على رجل ثلاث مرات تبين أنه غير موجود، أو كاره للفتح وإما أنه نائم مستريح، أما الاستئذان الأول فقد لا يسمع، والاستئذان قد يسمع، ولكن لا يدري عن حقيقة الأول، وفي الثالثة الغالب أنه يتبين فإذا كان يريد أن يفتح لك الباب فتح وإلا تركك، وهكذا في مسائل كثيرة تعتبر فيها الثالث.

تحريم الغش في البيع

تحريم الغش في البيع: 783 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّ رسول اله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صبرة من طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطَّعام؟ قال: أصابته السَّماء يا رسول الله. فقال: أفلا جعلته فوق الطَّعام؛ كي يراه النَّاس؟ من غشَّ فليس منِّي". رواه مسلم. "صبرة" أصل هذه المادة "الصاد والباء والراء" تدل على الحبس، ومنه الصبر، ومنه قُتل صبرًا، وأمثلتها كثيرة، فهذه المادة (ص ب ر) تدل على الحبس، والطعام المحبوس يعني: المجموع، فمعنى "صبرة" أي: مجموع من طعام، مرّ على هذه الكومة من الطعام فأدخل يده فيها، الفاعل هو النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، أدخل يده في هذه الصُّبرة فنالت أصابعه بللًا، يعني: أصابت بللًا، وإدخال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يده في هذه الصبرة يحتمل أنه للاستخبار والاستعلام، ويحتمل أنه شم فيها رائحة الرطوبة أو غير ذلك، المهم أننا نعلم أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يدخل يده إلا لسبب. يقول: "فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ "، "ما" هنا استفهامية والمراد بالاستفهام الإنكار، ينكر عليه كأنه يقول: لماذا تصنع هذا الشيء، فقال: "أصابته السماء"، "السماء" يعني: المطر، والمطر يطلق عليه السماء في اللغة العربية، قال الشاعر: [الوافر] إذا نزل السماء بغير قوم***رعيناه وإن كانوا غضابا أي: المطر، فالمراد بالسماء: المطر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ "، الاستفهام للإرشاد يعني: أرشده إلى أن يجعله فوق الطعام، وعلل ذلك بقوله: "ليراه الناس" فيعرفوا أن فيه عيبًا، ثم قال: "من غش فليس مني". الحديث واضح معناه لكن فيه فوائد كثيرة منها: جواز بيع الطعام صبرة -يعني: كومة- من غير معرفة لقدره كيلًا أو وزنًا؛ لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أقرّ ذلك، ولو كان حرامًا لم يقره، فهل يدخل في ذلك غيره من المرئيات؛ يعني: بحيث أن أبيع عليك قطيع هذا الغنم بدون معرفة لعّده وأن أشتري منك السلعة بهذه الرُّزمة من الدراهم بدون عدّ؟ ذهب بعض العلماء إلى الجواز وقال: إن هذا، وإن كان لا يعلم بالعدّ أو بالوزن يعني: لا يعلم بالتقدير فإنه: يعلم بالمشاهدة، ولكن هذا فيه نظر؛ لأن الذي يعلم بالمشاهدة إما أن يكون الغرر فيه يسيرًا كالكومة من الطعام. والقطيع من الغنم والكيس من البرّ فالأمر في هذا قريب، وإنما الذي يكون فيه الغرر كثيرًا والخطر جسيمًا مثل الرزمة من الدراهم، وإذا قدرنا أنها من فئة خمسمائة كم يكون الفرق فيما نقص عن تقديرك ورقة أو ورقتان؟ الفرق كبير، فالصحيح في هذه المسألة أن الجزاف يجوز

إلا فيما فيه خطر مثل النقود، لو جئتك بصرة من ذهب وقلت: اشتريت منك هذا البيت بهذه الصُّرة، يرى بعض العلماء: أن هذا جائز مع أنك لا تدري ما في هذه الصرة من الذهب، ولا شك أن هذا ليس بجائز للخطر والجهالة العظيمة بخلاف قطيع الغنم وكيس البرّ فالخطر فيه قليل والتقدير فيه ممكن حقيقة أو تقريبًا، أما مثل الدراهم فلا يجوز، لو قلت: اشتريت منك هذا البيت بوزن هذه السِّنجة ذهبًا فلا يجوز؛ لأنه مجهول، أما لو كانت معلومة فلا بأس -السنجة هي الحديدة التي يوزن بها. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الاستعلام عن المبيع، ولاسيما مع القرينة لإدخال النَّبي صلى الله عليه وسلم يده في الطعام، ولا يقال: إن هذا سوء ظن بالبائع؛ لأننا نقول: وهذا احتياطًا للمشتري، ولاسيما إن وجدت قرينة لظاهر هذا الحديث. ومن فوائد الحديث: وجوب إنكار المنكر؛ لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنكر على هذا الرجل، لكن هل ينكر علنًا أو سرًا؟ إن كان فاعل المنكر مظهرًا له فإنه ينكر عليه علنًا، وإن كان مخفيًا له فإنه ينكر عليه سرًا هذا هو الأصل، مع أن المصلحة قد تقتضي الإنكار حتى فيما يعلم إنما الأصل أن من أظهر المنكر أنكر عليه ظاهرًا ومن أخفاه أنكر عليه سرًا. ومن فوائد الحديث: أن من كان مجهول الاسم فإنه يدعى بمهنته لقوله: "يا صاحب الطعام"، فإذا كنت لا تعرف هذا الرجل فادعه بمهنته، مثلًا وقفت على بناء لا تعرف اسمه ماذا تقول؟ يا بناء، سقط من شخص طوق من الدراهم، تقول: يا صاحب الطوق ... وهكذا، كما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا في عدة مواضع يدعو بالمهنة. ومن فوائد الحديث: إطلاق لفظ السماء على المطر لقوله: "أصابته السماء" ولم ينكر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، ولو كان ذلك غير جائز لأنكر عليه؛ لأنه كذب، فإن السماء لم تصبه وإنما الذي أصابه المطر النازل من السماء. ومن فوائد الحديث: وجوب إظهار العيب، والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أرشد إلى إظهاره بالفعل، قال: "أفلا جعلته فوق الطعام"، ويجوز بالقول، بأن أقول مثلًا في هذه الصرة من الطعام إن أسفلها قد أصابه الماء ولكن أيهما أبين؟ الإظهار بالفعل أبين؛ لأن المشتري قد لا يحيط بوصفك. هل نقول في هذا الحديث: وجوب جعل الأردأ هو الأعلى وأنه تتعين هذه الصورة، أو نقول: إن المراد البيان بأي صورة كانت؟ الثاني، وأن للإنسان الذي عنده طعام معين طريقتين، الطريقة الأولى: أن يجعل العيب أعلى وهذا قد يكون فيه ضرر عليه؛ لأنه إذا جعل العيب أعلى

فقد يظن الرائي أن العيب كثير ويخفى عليه السلم، الطريقة الثانية: أن يجعل المعيب وحده والسليم وحده بحيث يكون للمعيب ثمنه وللسليم ثمنه، ولا شك أن الثاني هذا عدل للبائع وللمشتري. فإذا قال قائل: لماذا لم يرشد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إليه؟ فالجواب: لوضوحه، ولعل النَّبي صلى الله عليه وسلم علم أن هذا الرجل ليس عنده إناءان يبحث يجعل الردئ وحده والجيد وحده. ومن فوائد الحديث: تحريم الغش لقوله: "من غشّ فليس منا". بل من فوائده: أن الغشّ من كبائر الذنوب، وجهه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من فاعله، والبراءة من فاعله تقتضي أن يكون كبيرة؛ لأن علامات الكبيرة أن يتبرأ النَّبي صلى الله عليه وسلم من فاعل هذا العمل. ومن فوائد الحديث: أن الغش في كل شيء من كبائر الذنوب لعموم قوله: "من غش فليس مني". ومن فوائده أيضًا: أن الغش كبيرة سواء كانت المعاملة مع مسلم أو مع كافر لقوله: "من غش" أطلق. وهناك رواية أخرى: "من غشنا فليس مني" فبأيهما نأخذ؟ نأخذ بالأعم: "من غش" فيشمل الغش في معاملة أي إنسان، فإن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قد تبرأ منه. إذا قال قائل: لم يبين النَّبي صلى الله عليه وسلم حكم المغشوش فيما لو اشترى هذا الطعام. والجواب: أنه لم يحصل بيع لهذا الطعام؛ لأن صاحبه لم يزل عارضًا له، ولا يمكن أن يتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحال عن أمر لم يقع، ثم إنه إذا علم هذا الرجل أن هذا الشيء حرام، فسوف يغيره وسوف يجعل الردئ فوق، كما أرشد النَّبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الشيء إذا لم يكن أمام الإنسان فلا يلزم الإنسان السؤال عنه، ولذلك لما جاء ماعز إلى الرسول وأخبره أنه زنى فإنه من المعلوم أنه لم يزن إلا بامرأة ولم يسأل النَّبي صلى الله عليه وسلم المرأة، ولما جاءه الرجل الذي قال: جامعت زوجتي في رمضان لم يسأله عن المرأة وحكمها، ولما جاءته هند تشكو أبا سفيان لم يسأل عنه ولم يطلبه؛ لأن مثل هذه المسائل تتعلق بالفعل الشاهد، وأما الغائب فحكمه يعلم إذا وجد أو أدلى هذا الغائب بحجته حينئذ ننظر فيها.

784 - وعن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حبس العنب أيَّام القطاف، حتَّى يبيعه ممَّن يتَّخذه خمرًا، فقد تقحَّم النَّار على بصيرة". رواه الطَّبرانيُّ في الأوسط بإسنادٍ حسنٍ. "حبس" أي: منع بيعه وأبقاه في أصوله، و"أيام القطاف" أي: أيام قطاف العنب؛ لأن العنب -كما نعلم- له أيام يقطف فيها ويباع فيؤكل طريَّا كما يقطف الرطب من النخل وأحيانًا يحبس حتى ييبس فيكون زبيبًا، هذا الزبيب يستعمله الناس غذاء كما يأكلون التمر، يأكلونه أو يضعونه على الأطعمة، ومن الناس من يجعله عصيرًا ليتخمّر، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرًا"، "ممن" أي: على من يتخذه خمره، أي: يصنعه خمرًا، "فقد تقحَّم" أي: دخلها بانزعاج، "على بصيرة" أي: على علم بالسبب الذي يوجب تقحّمها، والمراد بالجملة: أن من فعل ذلك فقد أدخل نفسه في النار بسبب يعلم أنه سبب لدخول النار؛ وذلك لأنه أعان على شرب الخمر، والمعين على الإثم آثم، إثم الفاعل كالحاضر، كما قال الله تعالى: } وقد نزل عليكم في الكتب أن إذا سمعتم ءايت الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم {[النساء: 140]. عيد علي عمر من فوائد الحديث: أنه يحرم حبس العنب ليباع على من يتَّخذه خمرًا. ومن فوائد الحديث: أن ذلك من كبائر الذنوب؛ وجهه: أنه توعد عليه بالنار. ومن فوائد الحديث: عظم شرب الخمر والإعانة على شربها؛ حيث جعل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك من أسباب دخول النار، والخمر كل ما خامر العقل، أي: غطّاه على سبيل اللذة والطرب، فإن السكران -والعياذ بالله- يزول عقله كأنما الدنيا عنده قطعة ورقة، ويجد لذة، ويجد نفسه في مقام الملوك والرؤساء فينسى همومه وغمومه، لكن إذا زال السَّكر تراكمت عليه الهموم والغموم؛ لأنه كالماء إذا حبسه وقف، لكن عندما تزول الحابس يندفع بقوة، هكذا الهموم والغموم تقف عند السَّكر، لكن إذا زال السكر اندفعت اندفاعًا مؤلمًا مؤذيًا، لا يمكن أن يقرَّ له قرار حتى يعود إلى شرب الخمر، ولهذا قلّ لمن شرب الخمر أن ينزع عنه -والعياذ بالله- إلا بإيمان قوي أو رادع قوي. ومن فوائد الحديث: أن للوسائل أحكام المقاصد، وجه ذلك: أن هذا حبس العنب

لغرض سيئ يريد هذا الشيء، وهذه القاعدة قاعدة متفق عليها، وهي أصولية فقهية من أجزائها أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المندوب إلا به فهو مندوب إليه وما كان سببًا للحرام فهو حرام، وما كان سببًا للمكروه فهو مكروه، وكل هذه الأجزاء داخلة في القاعدة العامة، وهي أن الوسائل لها أحكام المقاصد. ومن فوائد الحديث: عقوبة من أعان على فعل محرم وإن لم يفعله؛ لأن هذا الذي احتبسه ليبيعه لمن يتخذه خمرًا لم يفعله؛ لكنه أعان، فالمعين على الإثم آثم. ومن فوائده: أنه إذا كان هذا فيمن أعان على من يتخذ العنب خمرًا فما بالك بمن يشرب الخمر؟ لا شك يكون أعظم؛ ولهذا كان شارب الخمر ملعونًا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، محرومًا من شربها في الآخرة، إما لأنه لا يتنعم بها في الجنة، وإما أنها تؤدي إلى الكفر المانع من دخول الجنة، ولهذا سميت الخمر أم الخبائث ومفتاح كل شر. ومن فوائد الحديث: أن من باع شيئًا لغرض المعصية فإن بيعه حرام، وهذا هو الشاهد من الحديث، وهل يصح -أي البيع- أو لا؟ لا يصح البيع؛ لأنه منهي عنه لذاته، فالنهي متسلط على نفس البيع، فإذا باع شيئا لمن يتخذه لمحرم كان البيع حرامًا، وإن باعه لمن لم يتخذه لمحرم كان البيع حلالًا، ولهذا لو بعت العنب لمن يأكله فالبيع حلال، أما لمن يتخذه خمرًا فالبيع حرام، بعت البيض لمن يأكله فالبيع حلال، لمن يقامر به حرام، من الصور التي يستعمل فيها للقمار ما يفعله بعض الناس يقول: خذ هذه البيضة اكسرها طولًا، فإن فعلت ذلك فلك مائة ريال، وإن لم تفعل فعليك مائة ريال، هذا من جملة القمار التي تتخذ له البيض، بيع الدخان داخل في هذا الحديث، لكن الدخان لا ينقسم إلى حلال وحرام، بل كله حرام، لكن قصدنا أن الشيء قد يكون مباحًا في حال فيصح بيعه، محرمًا في حال فلا يصح بيعه، السلاح إذا بعته لمن يقتل به المسلمين كان هذا البيع حرامًا، أما لمن يقتل به الكفار كان بيعه حلالًا، بل قد يكون مندوبًا. ومن فوائد الحديث: أن المباح لذاته قد يكون محرمًا لغيره، فأصل البيع حلال لذاته

لكن إذا قصد به المحرم صار حرامًا لغيره، كما أن المباح يكون واجبًا لغيره، مثل لو يم يكن عندك ماء وحضرت الصلاة، وأردت الوضوء ووجدت الماء يباع في الأسواق كان واجبًا عليك أن تشتري الماء لتتوضأ به مع أنه لولا هذا لم يجب عليك أن تشتري الماء، وقد يكون الشيء مسنونًا وهو في الأصل مباح كما لو اشترى الإنسان مسواكًا فأصل الشراء مباح وإذا اشترى مسواكًا ليتسوك به صار سنة، أو طيبًا يتطيَّب به كان سُّنة، وعلى هذا فقس، المهم أن كل مباح ممكن أن تجري فيه الأحكام الخمسة بحسب النية والقصد، إن قصدته لأمر حرام صار حرامًا؛ لأمر واجب صار واجبًا، لأمر مستحب صار كذلك، لأمر مباح فهو مباح. 785 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضَّمان". رواه الخمسة، وضعَّفه البخاريُّ وأبو داود، وصحَّحه التِّرمذيُّ، وابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبَّان، والحاكم، وابن القطَّان. والحديث صحيح، يقول صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان"، فما هو الخراج؟ الخراج هو الغنم والكسب والربح وما أشبه ذلك، قال الله تعالى: } أم تسئلهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرزقين {[المؤمنون: 72]. فخراج الشيء يعني: غنمه ونماؤه وما أشبه ذلك، فخراج الدابة مثلًا لبنها وصوفها وولدها، وخراج النخلة ثمرتها وعسيبها وفسيلها، وهلم جرَّا، خراج العبد: كسبه ومنفعته، وعلى هذا يطَّرد هذا الباب، ف"الخراج" الغلة والنماء والكسب، "بالضمان" الباء للبدلية أو للسببية، ومعنى "بالضمان" أي: أنه بدل عنه وسبب له، والمعنى: أن كل من له خراج شيء فعليه ضمانه وليس كل من عليه ضمان شيء فله خراجه؛ لأن الغاصب عليه الضمان وليس له خراج، لكن من له الخراج فعليه الضمان ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان"؛ ولذا قلنا: الضمان بالخراج لا يصح، فكل من له خراج شيء فعليه ضمانه. إذ قال قائل: مثل لنا؟ نقول: المشتري عليه ضمان المبيع من حين العقد فيكون له خراجه من حين العقد، هذا رجل اشترى عبدًا بعشرة آلاف ريال وبقي عنده أسبوعًا كل يوم يدخَّل له مائة ريال، كم دخل في الأسبوع؟ سبعمائة ريالًا لما انتهى الأسبوع تبين أن في العبد عيبًا، وأنه يسرق، والسرقة في العبد عيب، فأراد أن يردَّه، فردَّه على البائع، هل يردّ معه سبعمائة ريال؟ لا، السبعمائة نسميها خراجًا فلا يردها، لماذا؟ لأن العبد لو تلف في هذه المدة -السبعة الأيام- لم

جواز التوكيل في البيع والشراء

يضمنه البائع، بل يكون ضمانه على المشتري، أي: يهلك على نصيب المشتري، إلا إذا ثبت أن البائع خادع له وكاتم للعيب فضمانه حينئذٍ على البائع، لأنه معتد ظالم. والمستأجر المنفعة له وعليه الأجرة، كل المنافع التي تفوت في زمن الإجارة لمن؟ للمستأجر؛ يعني: لو أنه استأجر البيت لمدة سنة، ولكنه ما سكنه بل سافر ولم يسكنه حتى تمت السنة، وقال صاحب البيت: أعطني الأجرة، فقال: لا ما أعطيك شيئًا لأني ما سكنت البيت، ماذا نقول؟ نقول: إن المنافع فاتت على المستأجر؛ أي: أن المستأجر يدفع الأجرة كاملة؛ لأن المؤجر يقول له: هل منعتك، المفتاح معك وأنت الذي فوّت المنفعة على نفسك فأنت ضامن؛ لأن الخراج لك، المنفعة لك وليست لي، وأنت الذي فوتها على نفسك، فعليك ضمانها. رجل وجد شاة وصار ينشد عنها سنة كاملة وفي هذه السنة ولدت الشاة، يعني: نشأ بها ولد حمل وولدت، وبعد السنة نشأ فيها ولد حمل فولدت، فلمن يكون الولد الأول، ولمن يكون الولد الثاني؟ الولد الأول لصاحبها، والثاني للمنشد، يعني: لواجد اللقطة؛ لأن الأول وجد في حال ليس فيها الملتقط ضامنًا؛ لأنها تفوت على ملك صاحبها بعد السنة يملكها، فيكون نماؤها للملتقط، ومثل ذلك إناء، وجد إناء وصار ينشد عنه لمدة سنة كاملة فلم يجد صاحبه لما تمت السنة صار ملكًا للواجد، أجّره بعد السنة فلمن تكون الأجرة؟ تكون له؛ لأنه لو تلف تلف على ملكه فصار خراجه بضمانه، وهذا الحديث بنى عليه العلماء فروعًا كثيرة، وجعلوه قاعدة فقهية، فقالوا: من كان له الغنم فعليه الغرم، وأحيانًا يعللون بنفس الحديث فيقولون: لأن الخراج بالضمان. ساق المؤلف هذا الحديث في باب البيع ليتبين به أن الملك مدّة الخيارين بل مدة الخيار مطلقًا للمشتري حتى لو ردّه بخياره، فإن الملك مدة الخيارين له النماء وله الكسب. مرّ علينا في الشفعة أن النماء المتصل إذا أخذ الشفيع بالشفعة يكون لمن؟ على المذهب يكون للشفيع، ورجّحنا أنه للمشتري، هذا الحديث يدل على الراجح، لأن المشتري له الخراج فعليه الضمان، المشتري لو أنه تلف في هذه الحال من يضمنه؟ يكون على ملكه، وإذا فات عليه فله غنمه، فالقول الراجح كما سبق أنه، -أي: النماء المتصل - يكون للمشتري كالنماء المنفصل. جواز التوكيل في البيع والشراء: - وعن عروة البارقيِّ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا ليشتري به أضحيةً أو شاةً، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينارٍ، فأتاه بشاةٍ ودينارٍ، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه". رواه الخمسة إلا النَّسائيَّ.

-وقد أخرجه البخاريُّ في ضمن حديثٍ، ولم يسق لفظه. يقول: "ليشتري به أضحية أو شاة"، لا منافاة بين اللفظين؛ فإنه أعطاه ليشتري به شاة لأضحية، فيكون بعض الرواة اقتصر على أحد اللفظين، فاشترى رضي الله عنه شاتين بالدينار الواحد، ثم باع إحداهما بدينار، فرجع بشاة ودينار، فربح النبي صلى الله عليه وسلم شاة ولم يخسر شيئًا فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة في بيعه مكافأة له على إحسانه؛ لأن هذا الرجل أحسن التصرف، اشترى شاتين بدينار وباع شاة واحدة بدينار، فدعا له بالبركة مكافأة له على إحسانه، فقبل الله دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، "فكان -هذا الرجل- لو اشترى ترابًا لربح فيه"، وقوله: "ترابًا"، يعني: لو اشترى شيئًا لا قيمة له، وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر المؤلف هذا الحديث في كتاب البيع؛ لأنه يتضمن بيعًا وتوكيلًا في البيع، ويتضمن أشياء عديدة من البيوع تذكر في الفوائد إن شاء الله، وأظن هذا الحديث واضح المعنى، ولكن فيه فوائد، الأولى: جواز التوكيل في البيع والشراء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكَّل عروة البارقي، ويتفرع على هذه الفائدة: أن التوكيل لا ينافي الإخلاص ولا التوحيد مع أن الموكل في قلبه نوع من الاعتماد على الوكيل، لكن هذا الاعتماد ليس اعتماد افتقار، وإنما هو اعتماد سلطة، إذا كان الوكيل يتوكل بالأجرة لأن المعروف والفضل فيما إذا كان الوكيل يتوكل بالأجرة للموكل على الوكيل، فهو يرى أنه معه ذو سلطة لا يرى أنه يعتمد عليه اعتماد افتقار، وإن كان محسنًا -أعني: الوكيل- متبرعًا فإن الموكِّل لا يعتمد عليه اعتماد افتقار ولا اعتماد سبب مستقل، وحينئذ لا ينافي التوكل على الله، ولا يمكن أن ينافي التوكل، وقد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم سيد المخلصين -عليه الصلاة والسلام-. ومن فوائد الحديث: جواز التوكيل في شراء الأضحية، من أين يؤخذ؟ من أنه وكله لشراء أضحية، وهل يجوز التوكيل في ذبح الأضحية؟ الجواب: نعم، يجوز أن يوكِّل شخصًا ليذبح الأضحية كما وكل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن يذبح له هديه. ومن فوائد الحديث: جواز تصرف الوكيل فيما فيه نفع للموكل. فإذا قال قائل: هل هاتان الشاتان في مقابلة الشاة لأنهما ضعيفتان؟ الجواب: هذا بعيد، والظاهر أن عروة رضي الله عنه يسَّر الله له شخصًا محتاجًا فباع عليه هاتين الشاتين مع أن كل واحدة

منهما تساوي دينارًا بدليل أنه باع واحدة بدينار هذا هو الأقرب، وليس في هذا غبنًا حتى يقال: إن في ذلك دليلًا على جواز غبن الإنسان بنفس القيمة أو أكثر؛ لأن الظاهر أنه اشتراها من شخص يحب أن يمشي وأن يبيع بأي ثمن. ومن فوائد الحديث: جواز تصرف الفضولي، فما هو تصرف الفضولي؟ تصرف الإنسان في ملك غيره بدون إذنه فإذا أجازه صحّ التصرف، يؤخذ: من أن عروة تصرف واشترى شاتين وباع واحدة، فخالف في الشراء وخالف في البيع، إنما كان عليه في الشراء أن يشتري شاة واحدة بنصف دينار ما دام وجد شاتين بدينار، إذ الواحدة تساوي نصف دينار، فلو تقيد بالوكالة لاشترى واحدة بنصف دينار، لكنه رضي الله عنه ترخصهما ورآهما رخيصتين فاشترى شاتين، فالظاهر أن من نيته أن يبيع إحدى الشاتين، إذن فيه تصرف الفضولي، وأنه نافذ إذا أجير، ومعنى أجيز يعني: وافق من تصرف له على هذا التصرف، فإن لم يوافق لم يصح، فلو أن شخصًا باع سيارة شخص على آخر اعتبارًا بالمصلحة وانتهازًا للفرصة، ثم أخبر صاحب السيارة بأنه باع سيارته فقال: جزاك الله خيرًا أنا موافق، فالبيع صحيح، ودليله هذا الحديث، فإن قال: لا آذن ولا أرضى، فالبيع غير صحيح وترد السيارة ويأخذ المشتري ثمنها، فإذا أدعى المشتري أن صاحب السيارة قد وكَّل البائع، فإننا نقول له: أقم بينة، وإلا فالأصل أنه لم يأذن له وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم أن تصرف الفضولي نافذ إذا أجيز، فإن لم يجز فسد، وقال بعض العلماء: إن تصرف الفضولي فاسد لا يصح حتى لو أجيز: لأن العبرة بالعقد وهو حين العقد ليس وكيلًا ولا مأذونًا له، فإذا لم يكن وكيلًا ولا مأذونًا له فقد وقع التصرف من غير أهله؛ لأنه ليس من مالك ولا من يقوم مقام المالك، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ولا يجيزون تصرف الفضولي إلا في بعض الأحوال للضرورة، كالتصرف في مال المفقود فيتبين بعد ذلك أنه حي، ولكن أيهما أولى أن نقدم الأثر أو نقدم النظر؟ الأثر؛ لأن الأثر حاكم على النظر ولا عكس، على أنه يمكن أن نقول: إن النظر يؤيد الأثر، كيف ذلك؟ لأن منع الإنسان من التصرف في مال غيره إنما هو حماية لحقوق الغير ومنعًا للفوضى، فإذا أذن فقد زالت هذه العلة، وحينئذ يكون النظر مطابقًا للأثر، وهذا هو المعلوم في جميع الأحكام الشرعية أنها موافقة، للنظر لكن للنظر الصحيح المبني على التروي والتأني دون النظر السطحي، فإن النظر السطحي قد يتوهم الإنسان به مخالفة الحكم الشرعي للمعقول ولهذا روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من

أعلاه، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح أعلى الخفين، كيف؟ لأن بادئ الرأي ذا بدء أن يكون الأسفل أولى من التطهير من الأعلى، لأن الأسفل هو الذي يلاقي النجاسة والأوساخ، ولكن نحن نقول إن الرأي الصحيح المبني على التأني موافق للحكم الشرعي ويدل على صحة الحكم الشرعي، ويشهد له بالاعتبار، كيف ذلك؟ لأن هذا المسح لا يعطي تنظيفًا، وإنما هو مجرد تعبد لله عز وجل ولو أننا مسحنا أسفل الخف لزدناه تلويثًا بهذا المسح؛ لأنه لن يتطهر به وتلوثت اليد، وبهذا نعرف أن الدين موافق للرأي، لكن الرأي الصحيح المبني على التأني، وحينئذٍ نقول: إن تنفيذ تصرف الفضولي عند الإجازة جائز موافق للنظر الصحيح والقياس، وقول هؤلاء: إن التصرف وقع من غير أهله لأنه ليس بمالك ولا قائم مقام مالك، نقول: نعم، هو كذلك، لكن المالك أجازه، والأصل في منع صحة التصرف من غير مالك أو من يقوم مقامه، أن ذلك لحماية أموال الناس، وعدم الاعتداء عليهم، فإذا وافق صاحب المال فما المانع؟ إذن هذا الحديث يدل على تصرف الفضولي وهو الصحيح. ومن فوائد الحديث: جواز بيع الأضحية بعد التعيين، هكذا الذي ذكره بعض العلماء، ولكن هل فيه دليل؟ ليس فيه دليل؛ لأن عروة رضي الله عنه إن كان عالمًا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريدها أضحية فليس له حق التعيين. ثم نقول: إن عروة لم يعيِّن تلك الشاتين؛ لماذا؟ لأنه يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يضحي بواحدة، فلا يمكن أن يعيِّن تلك الشاتين بل هو عيَّن واحدة قطعًا إن كان قد عيّن، هو لم يعيّن، وإن فرض أنه عيَّن فلن يعيِّن أكثر من واحدة، ومن المعلوم أنه إذا عين واحدة من هاتين الشاتين لتكون أضحية واختارها، فلن يبيع الذي عيِّن وسيبيع غير المعينة، وحينئذ لا يكون في هذا الحديث دليل على جواز بيع الأضحية المعينة؛ إذن نفهم أن الأضحية المعينة لا يجوز بيعها وهو كذلك، فإذا قال: هذه أضحية عني وعن أهل بيتي صارت كالمنذور ويجب ذبحها ولا يجوز أن يبيعها، وهل يجوز أن يبدلها بخير منها؟ الصحيح: أنه يجوز أن يبدلها بخير منها، ودليل ذلك: أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فقال: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي ركعتين في بيت المقدس فقال: صلِّ هاهنا، فأعاد عليه فقال: صل هاهنا، فأعاد عليه فقال: شأنك إذن، فأباح له الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدع المعيَّن بالنّذر إلى ما هو أفضل منه، فدلّ ذلك على أن نقل الإنسان الشيء الذي أخرجه لله إلى ما هو أنفع وأفضل

جائز، وينبني على هذا ما ذكرناه من إبدال الشاة المعينة أضحية بخير منها، وكذلك أيضًا ينبني عليه جواز إبدال الوقف الشيء الموقوف بخير منه، فلو أني وقفت مسجدًا وصلى الناس فيه أذن المؤذن وأقاموا وصلى الناس، ثم إننا رأينا موقعًا أحسن منه وأنفع للحي فنقلناه إليه، فهل يجوز؟ نعم يجوز المسجد الأول، ماذا يكون بعد نقله؟ يصير ملكًا لنا يجوز أن نقطعه حجرًا نسكن فيه أو دكاكين نؤجِّرها أو نهدمه ونجعله مواقف؛ لأنه الآن لما أبدل بغيره انتقل الحكم من هذا المكان الجديد. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان مكافأة من أحسن إليه، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهذا الرجل أن يبارك الله له في بيعه، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صنع إليكم معروفًا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم كافأتموه"، وهذا كما أنه من أوامر الشرع فهو من الأخلاق النبيلة الفاضلة، كثير من الناس تحسن إليه ولا تجد منهم مكافأة ولا بطلاقة الوجه، بل يمكن أن يعبس في وجهك لا تسمعه يقول: جزاك الله خيرًا ولا ينشرح صدره لإحسانك، والإنسان المحسن -وإن كان مخلصًا لله- لا يريد منهم جزاء ولا شكورًا، لكن لا شك أن من الأدب أن تكافئ من صنع إليك معروفًا، لو أن رجلًا تصدق على فقير جاءه ويقول: أنا عليّ دين كثر فأعطاه مائة ريال، قال: لا تعطني غير مائة، الله لا يكثر خيرك، ثم اكفهر في وجهه وألقى بالمائة، هل هذا موافق للشرع أم مخالف؟ مخالف، كان الذي ينبغي له أن يقول جزاك الله خيرًا ويأخذ المائة ينتفع بها إن كان عليه عشرة ملايين ريال الآن صار عليه عشرة إلا مائة إذا كان صادقًا، والعامة يقولون: القطر مع القطر يأتي غدير، والشاعر يقول: لا تحقرنَّ صغيرة***إنَّ الجبال من الحصى لكن أقول: إن بعض الناس حرم هذا الأدب، والخلق النبيل الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله، "من صنع إليكم معروفًا فكافئوه" هذا قوله، وكونه دعا لعروة هذا فعله. ومن فوائد الحديث: حدوث آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي إجابة الدعاء، حتى إن هذا الرجل لو اشترى ترابًا لربح فيه، ومواضع إجابة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، وكلها تأييد لرسالته صلى الله عليه وسلم، وإذا وقع مثل هذا لمتبع الرسول صلى الله عليه وسلم سميناه كرامة لمن وقع له، ومعجزة أو آية للرسول صلى الله عليه وسلم وهو المتبوع؛ لأن إظهار هذه الكرامة لمتبع الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة من الله أن هذا على حق، فيكون متبوعة أيضًا على حق.

ومن فوائد الحديث: أن المكافأة تكون من جنس المكافأ عليه، من أين يؤخذ؟ دعا له بالبركة في بيعه؛ لأن الذي وقع منه إسداء معروف في بيعه، فينبغي أن تكون المكافأة من جنس الإحسان، إلا إذا رأى الإنسان أنه لا يليق أن يعطيه من جنس إحسانه أو أن يخشى أو خشي أن يظن الفاعل المعروف أن هذا ردُّ لمعروفه، فهنا ينبغي أن يكافئه من جنس آخر، مثال ذلك: رجل أهدى إلي بمناسبة ظهور أول الرطب فصل من الرُّطب فأهديت أنت إليه كافأته بفصل من الرطب مثل رطبه هذا أشبه أن يكون ردَّا، لكن أهدى عليه مثلًا فصلًا من العنب، المهم: ينبغي للإنسان في مثل هذه الأحوال أن يحرص غاية الحرص على ألَّا يخدش المحسن إليه بحيث يشعر أن هذا ردٌّ لجميله. ومن فوائد الحديث: أن الربح لا يحدد، فيجوز للإنسان أن يربح الربع أو الخمس أو العشر أو الأكثر، لكن بشرط ألا يكون في ذلك غبن، فإن كان عن طريق الغبن، فإنه يحرم ما زاد على العادة، وأما إذا كان عن طريق الكسب؛ أي: أن السوق زادت قيمة السلع فيه أو أن البائع الأول قد حاباه، أو أن المشتري الثاني قد حاباه فإن هذا لا بأس به وقد يكون البائع الأول يعرف أن هذه السلعة تساوي عشرين، فباع عليك بعشرة، إذا بعت بثمن المثل فبكم تبيعها؟ بعشرين أو أكثر هذا لا يضر؛ لأن الأول حاباك، أو أن يكون المشتري الثاني يعلم أن قيمتها عشرة لكن أراد أن ينفعك فاشتراه بعشرين، هذا لا بأس به، وإن كانت السلع في الأسواق لم يحصل منها زيادة. الحاصل لنا: أن في هذا الحديث دليلًا على أنه لا تحديد للربح. فإذا قال قائل: إذن لو اتفق أهل السوق على أن يجعلوا ما يساوي مائة بثلاثمائة. قلنا: هذا لا يجوز؛ لأنه احتكار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحتكر إلا خاطئ". ومن فوائد الحديث: أن الإنسان لو أعطاك مالًا تشتري به حاجة معينة واشتريتها بأقل مما أعطاك وجب عليك أن ترد الباقي، ولو قال: خذ هذه السلعة بعها بمائة فبعتها بمائة وعشرين فهل يجب عليك أن تعطيه مائة وعشرين، أو تقول: هو قال: بعها بمائة والعشرين لي؟ الأول؛ لماذا؟ لأنه قد يكون البائع يحدد الثمن ظنًا من أنها لن تزيد عليه فيكون السوق قد أخلف، أو يأتي إنسان محتاج ولا يهمه أن يزيد عليه الثمن، ولكن لو قال: بع هذه بمائة وما زاد فلك؛ فهذا جائز، ولا يقال: إن هذا مجهول، نقول: لأن المالك قد علم الثمن الذي قدره فلا يريد أكثر من ذلك. وقوله: وأورد التِّرمذيُّ له شاهدًا من حديث حكيم بن حزام. "الشاهد" هو ما يدل على معنى الحديث، وللعلماء حول هذا الموضوع ثلاثة أشياء: اعتبار

بيع الغرر

وشاهد ومتابع، كلها تتعلق في تقوية الأحاديث بعضها ببعض، فأما الشاهد: فهو ما روي من حديث آخر يؤيده في المعنى هذا يسمى شاهدًا، وأما المتابعة: فهو أن يتابع الرجل الضعيف رجلًا آخر في الأخذ عن شيخه هذا يسمى متابع ثم إما أن تكون قاصرة إن كانت فيمن فوق الشيخ، وقد تكون تامة إذا كانت في الشيخ، وأما الاعتبار فهو تتبع طرق الحديث لينظر هل لهذا الحديث شاهد أو لهذا الراوي متابع، مثال لذلك: روى زيد عن عمرو حديثًا وزيد من الضعفاء، فروى بكر عن عمرو هذا الحديث تسمى هذه متابعة، لأن بكرًا تابع زيدًا في الأخذ عن عمرو، وهذا يقوي، أما الشاهد فهو أن يروي حديثًا يوافقه في المعنى، لكن من طريق آخر، هذا هو الشاهد وسميناه شاهدًا؛ لأنه أجنبي من هذا الحديث، وتتبع الطرق لهذا الشيء يسمى اعتبارًا؛ لأن العلماء إذا رأوا الحديث الضعيف ذهبوا يبحثون في كتب الحديث لعلهم يجدون له شاهدًا، أو يجدون لراوية متابعًا من أجل أن يتقوى؛ لأننا مأمورون بحفظ السنة، فإذا رأينا حديثًا ضعيف السند ولا يخالف الأحاديث الصحيحة، فلنبحث عنه لننظر هل نرى له شاهدًا، أو لراويه الضعيف متابع أما إذا كان حديث شاذ المتن فأمره هيّن؛ لأننا لو تعبنا ووجدنا له طرق صحيحة وهو شاذ المتن لم يكن صحيحًا، يعني: لا تتعب نفسك فيما إذا رأيت هذا الحديث مخالفًا للأحاديث الصحيحة، لأنك لو رأيت فالحديث الشاذ ليس بصحيح، لكن أحيانًا يكون الضعف من حيث السند، والحديث لا يعارض الأحاديث الصحيحة أو ربما تؤيده الأحاديث الصحيحة بمعناها العام فإنه ينبغي بل يجب أن تتبع الطرق من أجل أن تحصل على ما يقويه من شاهد أو متابع. بيع الغرر: 787 - وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتَّى تضع، وعن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد وهو آبقٌ، وعن شراء المغانم حتَّى تقسم، وعن شراء الصَّدقات حتَّى تقبض، وعن ضربة الغائص". رواه ابن ماجه، والبزَّار، والدَّارقطني بإسنادٍ ضعيفٍ. قوله: "ما في ضروعها" يعني: من اللبن، و"العبد" أي: المملوك، و"آبق" بمعنى: شارد عن سيده هارب منه، و"المغانم" جمع مغنم، وهو ما يغنمه المسلمون من الكفار من الأموال عند القتال وما ألحق به، و"الصدقات" يعني: الزكوات، يعني: يقال لشخص: ما لك عندنا صدقة

زكاة فلا يبيعها حتى يقبض، وقوله: "الغائص" أي: الذي يغوص في البحر لاستخراج الدِّرر منه فيقول: أضرب الآن، يعني: أغوص فما أخرجته فهو لك بكذا، كم هذه من نوع؟ ستة أنواع يجمعها معنى واحد وهو الغرر. وقد صحّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. الفرق بين بيع الحصاة والرحى: حدثني في المدينة هذه الأيام يقول سمع شيخًا من أئمة المساجد يقول إن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وهؤلاء الله يهديهم يبيعون الرَّحى، فهو آخذ بظاهر اللفظ، وظن أن الحصاة هي الرحى، فمثل هذا جهله يسمى جهلًا مركبًا، المهم أن هذه الأنواع الستة يجمعها الغرر في كلِّ منها، وقد ثبت النهي عن الغرر كما ذكرنا، وهذه تعتبر قاعدة من قواعد الشرع في البيوع، فأولًا نهى عن شراء ما في بطون الأنعام، وهي جمع نعم وهي: الإبل والبقر والغنم، ويقاس عليها ما سواها، وإنما نهى عن بيعها؛ لأنها غرر عظيم، فالذي في بطون الأنعام قد يكون متعددًا وقد يكون واحدًا، وقد يكون ذكرًا وقد يكون أنثى، وقد يخرج حيًا وقد يخرج ميتًا، وقد يكون مشوَّها، وقد يكون سليمًا، المهم: أن كثيرًا من احتمالات الغرر ترد على ما في بطون الأنعام، إذن متى يصح بيعها؟ قال: "حتى تضع"، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يسد الأبواب كلها من كل وجه فقال: "حتى تضع" بدل ما تبيعها اليوم بعها غدًا إذا وضعت، ويستفاد من هذه الجملة: تحريم بيع ما في بطون الأنعام وفساد البيع أيضًا؛ لأنه قد تقرر في علم الأصول أن ما نهي عنه فهو فاسد، سواء من العبادات أو من المعاملات، ووجه ذلك: أن ما نهي عنه فإنَّ النهي يستلزم البعد عنه وعدم تنفيذه فإذا نفِّذ وصحَّح فقد ضاد الإنسان أمر الله عز وجل. فيستفاد من هذا الحديث: جواز بيع الحامل وما في بطنها؛ لأن النهي إنما ورد عن بيع ما في بطونها لا عن الحوامل، وعلى هذا فإذا باع الإنسان أنثى حاملًا من بهيمة الأنعام أو من غيرها فالبيع صحيح. ويستفاد من هذا الحديث: ما أشار إليه ابن رجب في قواعده، من أنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا، ويغتفر في التابع ما لا يسوّع في المتبوع، ثاميًا: قال: "وعن بيع ما في ضروعها" يعني: حتى يحلب، فينهى عن بيع ما في ضروع بهيمة الأنعام؛ لأنه مجهول؛ ولأنه غير مقدور على تسليمه؛ أما الجهالة فظاهر حتى لو رأيت حجم الضرع فقد يكون اللحم الذي في داخل الضرع كثيرًا وقد يكون قليلًا، فإذا كثر قلّ اللبن وإذا قلّ كثر اللبن، إذن اللبن مجهول، ثانيًا: أنه

غير مقدور على تسليمه لماذا؟ لأن البهيمة قد تعاكس، فإذا كان غير مقدور على تسليمه ولا معلوم فلا يصح لأنه غرر. الثالث: وعن شراء العبد وهو آبق، نرجع إلى الجملة الأولى: "شراء ما في ضروعها حتى تجلب"، فإذا حلبت صح بيع الحليب؛ لأنه من الشيء المباح، هل يقاس على ذلك ما في وعائه من الثمار كأن يقال لا يصح بيع الرمان في قشرة؟ لا، لماذا؟ لأن هذا لا يمكن بيعه إلا على هذا الوجه؛ إذ لو أ/رنا البائع بأن يفتحه لكان ذلك عرضة لفساده، وهو مما جرى بين المسلمين بيعه في قشرة بيع السنبل في حبه أجازه الشارع فنهى عن بيع الحب حتى يشتد، فإذا اشتد جاز بيعه ولو في سنبله مع أنه في سنبله فيه شيء من الجهالة لكن لما كان لا يمكن بيعه إلا على هذا الوجه اغتفرت فيه الجهالة. هل يقاس على ذلك بيع الفجل في الأرض والثوم والبصل وشبهها؟ أيضًا قاسه بعض العلماء على هذا، وقال: لا يصح بيع البصل والثوم والفجل وما مأكوله في باطن الأرض؛ لأنه مجهول لا يعلم، ولكن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله تعالى- جواز بيع ذلك، قالا: لأنه مما جرت به العادة؛ ولأنه مغروس بأصل الخلقة فيكون كالرمان والبطيخ وليس كاللبن في الضرع من كل وجه؛ لأن اللبن في الضرع فيه بالإضافة إلى الجهالة أنه غير مقدور على تسليمه وأيضًا أنه ينمو فكلما حلبت نزل اللبن بخلاف هذا، والصحيح ما ذهب إليه شيخ الإسلام وابن القيم من جواز بيعه، وهو أيضًا معلوم عند أهل الخبرة يعرفون أن البصل كبير ولو كان في باطن الأرض مما يظهر من سوقه وأوراقه. قال: "وعن شراء العبد وهو آبق" من العبد؟ الرقيق، يعني: المملوك وقد أطلق الله على المملوك اسم العبد فقال: {والصالحين من عبادكم وإمائكم} [النور: 22]، وقوله "وهو آبق" أي: هارب من سيده، إلى متى؟ الجملة هذه حال، "وهو آبق" أي: في حال إباقه، أما إذا رجع فإنه يصح شراءه، ولكن لو اشتراه الإنسان دون أن يخبره بائعه بأنه قد أبق، فهل له الخيار في رده؟ نعم، لماذا؟ لأن الإباق عيب، ومن أبق عند سيده الأول فلا يضمن أن يأبق عند الثاني، ويستفاد من هذه الجملة من الحديث: جواز بيع وشراء العبد. فإذا قال قائل: إن في هذا ظلمًا لهم كيف تجعله كالبهيمة يباع ويشترى؟ قلنا إنهم لم يظلموا، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم؛ لأن سبب الرق هو الكفر، فإذا كانوا هم الذين ظلموا أنفسهم فإننا لم نظلمهم، وقد جاءت النصوص الكثيرة بالحث على مواساتهم وعلى الرأفة بهم والرحمة وعلى العتق حتى جعل له الشارع أسبابًا كثيرة من المعاصي التي تكفر بالعتق، وهل

هذا النهي عن شراء العبد وهو آبق على إطلاقه، أو نقول: إنه إذا قدر الإنسان المشتري على رد هذا العبد الآبق جاز الشراء، من نظر إلى ظاهر اللفظ قال: إن النهي عام، وقد تظن أنك قادر على رده ولكن لا تستطيع، ومن نظر إلى المعنى قال: إنه إذا كان الإنسان قادرًا على رده فلا بأس، لأن الحكم يدور مع علته؛ فإذا كان هذا عنده من وسائل الطلب ما يستطيع به أن يرد هذا الآبق كرجل مثلاً عنده سيارة جيب تجوب الرمال والجبال حتى يجد هذا الرجل، فلا بأس بشرائه الآبق: وأما إذا لم يكن عنده ولكنه خاطر فإن هذا لا يجوز. ومن فوائد الحديث: "وعن شراء المغانم حتى تقسم" النهي عن شراء المغانم حتى تقسم، وكما في الجملة الأولى أن النهي يقتضي الفساد، وفي هذه الجملة دليل على أن المغانم تملك لقوله: "حتى تقسم"، وهو كذلك، فإن الغنائم أحلت لهذه الأمة ولم تحل لأمة قبلها، أحلت لهم ليستعينوا بها على الجهاد في سبيل الله، وعلى حوائجهم الأخرى، أما الأمم السابقة فإن الغنائم لا تحل لهم، وقد ذكروا أنها كانت تجمع في مكان وتنزل عليها نار من السماء فتحرقها. ومن فوائد هذه الجملة: أن المغانم مشتركة لقوله: "حتى تقسم"، والقسم يكون بعد الاشتراك، ولكن بين من؟ قال العلماء: الغنيمة لمن شهد الوقعة من أهل القتال، وأما من ليس من أهل القتال فليس لهم سهم، ولكن يعطى منها شيئًا لا يبلغ حد سهم المقاتل. ومن فوائد الحديث: في قوله: "وعن شراء الصدقات حتى تقبض" أي: أن شراء الصدقات لا يجوز ممن استحقها حتى يقبضها، والعلة في ذلك أولاً: عدم الملك، وهذا فيما إذا لم يعين نصيبه في شيء من الصدقة، فإن عين نصيبه في شيء من الصدقة فإن العلة عدم تمام الملك؛ لأنه لا يتم ملكه حتى يقبضها، فلو قال الساعي الذي يجبي الزكاة لخمسة فقراء لكم كذا وكذا من الزكاة صار الآن مشتركًا معينًا مملوكًا، لكنه لا يتم ملكه حتى يقبضه أصحابه، فإذا قبضوه جاز بيعه، وعلم من هذا الحديث أنه إذا قبضت جاز بيعها وإن لم تقسم؛ ولهذا صرح في المغنم قال: "حتى تقسم" وفي الصدقات قال: "حتى تقسم" فإذا قال الساعي لجماعة من الفقراء خمسة: هذا لكم، فإذا قبضوه وحازوه جاز لأحدهم أن يبيع نصيبه منه، فإذا كانوا خمسة كم لكل واحد؟ الخمس، وجاز أن يبيعوه جميعًا وإن لم يقسم؛ لأنه كسائر الأملاك المشتركة. ويستفاد من هذا الحديث: من قوله: "وعن ضربة الغائص" جواز الغوص في البحر لطلب الدُّرر وغيره مما هو موجود في البحر، وهذا مقيَّد بما إذا كان الغالب السلامة، فإن كان الغالب الهلاك فالغوص حرام؛ لقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} [النساء: 29]. وإن تساوى الأمران فالاحتياط التحريم؛ لأن من القواعد المقررة: "أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر غلّب

جانب الحظر"، فالسلامة مبيحة والهلاك حاظر، وقد اجتمع في هذا الفعل ولم يترجح أحدهما فغلّب جانب الحظر، فنقول: لا يجوز أن تغوص. ومن فوائد هذا الحديث: جواز بيع ما يستخرجه الإنسان من البحر، يؤخذ من قوله"وعن ضربة الغائص"، لأنها مجهولة، لكن إذا علمت فإن ذلك لا بأس به، فإن الإنسان يملك ما يستخرجه من البحر كما يملك من في البرّ، ما يحشه من البر ومثل ذلك ما لو قال قائل أنا سأذهب ألقط لك الكمأة ولك ما أجنيه من الآن إلى الظهر، هذا يقوله في الصباح أو في الظهر، يقول من الظهر إلى الغروب؟ لا، لماذا؟ لأنه غرر قد يجني كثيرًا وقد يجني قليلاً، لو استأجرت شخصًا يجني الكمأة من الظهر إلى الغروب يجوز؛ لأن العقد هنا وقع على المنفعة لا على التحصيل. ويستفاد من هذا الحديث ككل: عناية الشرع بحماية البشر مما يوجب النزاع بينهم؛ لأن هذه الأنواع التي فيها الغرر سوف يكون من المغبون فيها حقد وعداوة وبغضاء على من؟ على الغابن، وتكون من الغابن تطاول، وفخر على المغبون، فالشارع حمى الناس من هذه الورطة التي يتورطون فيها. ومن فوائده أيضًا: أنه يجب البعد عن كل ما يوجب العداوة والبغضاء، دل ذلك على أن كل ما ساواها في هذا المعنى فهو مثلها منهي عنه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تباغضوا" يعني: لا تفعلوا الأشياء التي توجب البغضاء، وأخبر أن البغضاء مما يريده الشيطان في بني آدم: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء في الخمر والميسر} [المائدة: 91]. ومن فوائد الحديث: أنه إذا نهي عن الأسباب التي توجب العداوة والبغضاء فإن المعنى يقتضي الأمر بالأسباب التي توجب الولاية والمحبة؛ لأن النهي عن الشيء أمر بضده، ولاشك في هذا أن الشرع يأمر بكل ما يوجب المودة والمحبة والولاية- ولاية المؤمنين بعضهم لبعض- فإن الله تعالى يقول: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعضٍ} [التوبة: 71]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ ". فكل ما يوجب الولاية والمحبة فإنه مأمور به شرعًا، فإن كان مأمورًا به شرعًا فإن العاقل سوف يفعله مع ما في المحبة والولاية من الإلفة والطمأنينة، وصلاح الأحوال، وانشراح الصدر. أنت الآن لو فردت نفسك لا تلاقي شخصًا إلا وفي قلبك عداوة وبغضاء له، هل تكون مسرورًا؟

أبدًا تضيق بك الأسواق، لكن إذا كنت لا تضمر لإخوانك المسلمين إلا المحبة والولاء فإنك سوف تكون مسرورًا بكل من تلاقيه من المسلمين، لأنك تلاقي من تحب ومن تتولاه ويتولاك، فهذه أيضًا فيها راحة نفسية لا توجد في كل إنسان يكره الناس ويبغضهم. فإذا قال قائل: إذا كان في الإنسان ما يوجب المودة والمحبة ما يوجب البغضاء والعداوة ما العمل؟ نقول: إن الله قال: {وزنوا بالقسطاس المستقيم} [الإسراء: 35]. أحببه بما معه مما يقتضي المحبة واكرهه بما معه مما يقتضي الكراهة ولا تغلب جانبًا على جانب، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يفرك مؤمن مؤمنة- يعني: لا يبغضها على سبيل الإطلاق- إن كره منها خلقًا رصي منها خلقًا آخر". هكذا الميزان لا تكاد تجد أحدًا يسلم مما يوجب الكراهة إلا نادرًا، لكن قارن بين هذا وهذا وأعط كل شيء حكمه. ومن فوائد الحديث: منع الإنسان من كل ما يؤدي إلى الميسر والمقامرة، لماذا؟ لأن هذه الموانع كلها فيها خطر وغرر، قد يكون الإنسان فيها غانمًا وقد يكون فيها غارمًا، وإذا اعتاد الإنسان هذا النوع من المعاملات طمعت نفسه وصار يتعامل بمثل هذه المعاملات المبنية على الخطر والغرر حتى تؤدي إلى معاملات أكبر، ولهذا كثيرًا ما يفتقر أصحاب القمار في ليلة، تجد هذا الرجل مثلاً عنده ملايين فيقامر فيغلب، يغلب أول ضربة بمليون، فيقول: ألعب ثانيًا لأجل أن أرجع المليون فيضرب ضربة أخرى بمليونين يقول: ألعب ثالثًا حتى أرجع ثلاثة، ولكن يضرب بضربة قاصمة ثلاثة ملايين، ولو كان عنده مائة مليون يصرفها في ليلة، بعد ما كان غنيًا يصبح فقيرًا، وهذه البيوع لا تظن أنها هينة، إذا اعتادت النفس على هذه المكاسب المبنية على الغرر والخطر صارت تتطلع إلى ما هو أعظم وأكبر ووقعت في الميسر الذي هو قرين الخمر في كتاب الله، بل قرين عبادة الأصنام في كتاب الله: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة: 90]. 788 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر". رواه أحمد، وأشار إلى أن الصواب وقفه. وهو كذلك الظاهر أنه موقوف، "لا تشتروا السمك في الماء"، وعلل ذلك بأنه غرر، السمك

يعيش في الماء كما هو معلوم، فإذا قلت: أبيع عليك ما في هذا الجانب من النهر من السمك، فإنه لا يجوز، وعلل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنه غرر، والغرر جهالة، والعقود التي تتضمن الجهالة لابد أن يكون فيها نزاع بين المتعاقدين يؤدي إلى العداوة والبغضاء والحقد، والدين الإسلامي جاء بمحاربة ما يؤدي إلى ذلك، ولكن العلة أو التعليل الذي في هذا الأثر: "فإنه غرر" يقتضي أنه متى كان غير غرر فلا بأس به، مثل أن يكون السمك في مكان يحيط به العلم بأن يكون في مكان ضيق، والماء صاف والسمك يرى، ويمكن السيطرة عليه بحيث لا يخرج إلى النهر أو إلى البحر الواسع، فإذا بيع هذا السمك فإنه لا بأس به كما لو كان في بركة محجوزة بجوانبها وهو يرى لكون الماء صافيًا فإن ذلك لا بأس به، لماذا؟ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فإذا كانت العلة هي الغرر وانتفي الغرر فإن البيع يصح، وهذا كالذي سبق كله مداره على الجهالة والغرر، وكل عقد يكون فيه جهالة وغرر مما يؤدي إلى النزاع فإن ذلك لا يجوز، قولنا: إن الجهالة والغرر يؤدي إلى النزاع والنزاع يؤدي إلى العداوة والبغضاء، أرأيتم لو كان العقد لا يؤدي إلى النزاع والعداوة والبغضاء مثل الهبة كما لو وهب الإنسان عبدًا آبقًا فهل يصح؟ الجواب الصحيح: أنه يصح، وأن هبة المجهول جائزة؛ لأن الموهوب له إما غانم وإما سالم، بخلاف عقود المعاوضات، فإن الجهالة فيها تقتضي أن يكون فيها إما غانمًا وإما غارمًا وبينهما فرق عظيم. هبة العبد وهو آبق قلنا: إنها جائزة وصحيحة؛ لأن الموهوب له إن أدركه فهو غانم وإن لم يدركه فهو سالم، هبة الغنيمة قبل القسمة كذلك، هبة السمك في الماء ولو كان مجهولاً فهي صحيحة وذلك للقاعدة التي ذكرنا وهي أن العقد هنا دائر بين الغنم والسلامة فقط لا بين الغنم والغرم، وإذا كان دائرًا بين الغنم والسلامة، فإنه لن يحصل فيه نزاع؛ لأن الموهوب له مثلاً لو وهب له عبد وهو آبق وعجز عن تحصيله هل يأتي إلى الواهب يخاصمه ويطالبه؟ لو أتاه قيل له: ليس لك حق. 789 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع". رواه الطبراني في الأوسط والدارقطني. "تطعم" يعني: حتى تكون صالحة للطعام، ويشمل هذا ثمر النخل وثمر العنب ثمر الرمان البرتقال، فلا يجوز بيعه حتى يكون صالحًا للطعام؛ لأن بيعه قبل ذلك يؤدي إلى الغرر من

وجوه، أولاً: أن الآفات تكثر عليه قبل أن ينضج، وثانيًا: أنه يزداد نموه فيحدث في المبيع ما لم يقع عليه العقد، وثالثًا: أنه قد يؤدي إلى النزاع بين البائع والمشتري في سقيه وملاحظته، فأما إذا كان قد بلغ أن يطعم فإن أخذه وجنبه قريب لا يؤدي إلى النزاع، لكن إذا كان قبل ذلك فقد يؤدى إلى النزاع بينهما، فيقول المشتري مثلاً: أسقه، ويقول: سقيته، يقول: هذا لا يكفي، يقول الآخر: يكفي وما أشبه ذلك من النزاعات التي ترد فيما لو باعه قبل أن يطعم. وكذلك أيضًا: "لا يباع صوف على" ظهر إلى أن يجز الصوف على الظهر لا يجوز بيعه لماذا؟ لأن موضع الجز مجهول قد يريد المشتري أن يجز الصوف من أصله، ويريد البائع أن يجز من فوق من نصف الشعر مثلاً فيقع في ذلك نزاع، ثم إن الإحاطة به على وجه الكمال قد تكون متعذرة أو متعسرة، ثم إن المنع ليس منعًا يخل بمصالح العباد؛ لأنه من الممكن أن يقال للبائع جزّ الصوف ثم بعه؛ لأن الذي اشتراه إن لم يجزه في الحال فإنه ينشأ صوف جديد لم يقع عليه العقد فيختلط بما وقع عليه العقد، ويكون التمييز بينهما صعبًا أو متعذرًا، فيختلط مال البائع الجديد بمال المشتري القديم، وذهب بعض العلماء إلى جواز بيع الصوف على الظهر بشرط أن يكون معلومًا وأن يجزّ في الحال، وقال: إن المرجع في جزّه على ما جرت به العادة وأنه يغتفر الغرر اليسير في مثل هذا؛ لأن الحاجة قد تدعو إلى بيعه على الظهر، ولكن إذا قلنا بهذا القول من يكون عليه الجزّ المشتري أو البائع؟ يكون الجزّ على المشتري إلا أن يشترطه على البائع، كالثمرة إذا بيعت فإن جزّها يكون على المشتري إلا أن يشترطها على البائع، ولكن على القول بالجواز كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجاب عن هذا الحديث بأحد جوابين: إما بالضعف، وإما بأن يحمل على صوف لا يدرك أو على صوف يبقى بعد الشراء بحيث يحدث صوف لم يقع عليه العقد فتكون فيه الجهالة والصحيح أنه جائز إذا جزّ في الحال وكان معلومًا. - وأخرجه أبو داود في المراسيل لعكرمة، [وهو الراجح]. - وأخرجه أيضًا موقوفًا على ابن عباس بإسناد قوي، ورجحه البيهقي. يعني: أنه موقوف، ومعلوم أنه إذا كان موقوفًا فإنه يتنزل على خلاف العلماء: هل قول الصحابي حجة أو لا؟ فمن قال: إن قوله حجة احتج به، ومن قال: إنه ليس بحجة لم يحتج به؛ إلا أن يكون هذا القول مما لا مجال للاجتهاد فيه ولم يعرف قائله بالأخذ عن بني إسرائيل فإنه يكون له حكم الرفع، هذه المسألة المروية عن ابن عباس إذا اتبع الإنسان فيها ابن عباس

بيع المضامين

رضي الله عنهما فله ذلك؛ لأنه صحابي، وإن لم يتبعه، وقال: إن الذي جاء به النهي ما كان فيه غرر وإلا فالأصل حلُّ البيع لعموم قوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275]. فكل بيع فهو حلال إلا ما قام الدليل على منعه. بيع المضامين: 790 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين، والملاقيح". رواه البزار، وفي إسناده ضعف. لكن معناه صحيح، نهى عن بيع الملاقيح، وهي التي يلقحها الفحل في بطن الأنثى بأن يقول صاحب الفحل: أنا أبيع عليك ضراب فحلي من ناقتك يعني: يضربها هذه المرة فيبيع عليك هذا الضراب فلا يجوز؛ لأنه أجهل من بيع المحمل، فإن هذا اللقاح قد يكون صحيحًا وقد يكون فاسدًا، فإذا منع الحمل فهذا من باب أولى. والحاصل: أن هذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن معناه صحيح، والعلة في النهي عن بيع هذين النوعين من البيوع هي الجهالة والغرر، إذن نقول- في هذا وما سبق: القاعدة أن كل بيع يتضمن جهالة وغررًا بحيث يكون العاقد فيه دائرًا بين الغنم والغرم فإنه بيع محرم فاسد، والعلة فيه أنه يفضي إلى العداوة والبغضاء فهو من الميسر الذي قال الله فيه: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة: 90]. الإقالة: 791 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أقال مسلمًا بيعته؛ أقاله الله عثرته". رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم. عندي يقول في الحاشية: إن هذا الحديث موضعه أول الخيار في نسخ صحيحة فليحرر، على كل حال لا يهم. قال: "من أقال مسلمًا بيعته"، و"الإقالة": هي طلب فسخ العقد، تكون أحيانًا مطلوبة من المشتري، وتكون أحيانًا مطلوبة من البائع، أحيانًا يأتي المشتري إلى البائع ويقول: أقلني، يعني: يندم المشتري على الشراء فيطلب من البائع أن يقيله، وأحيانًا يكون بالعكس يأتي

الطلب من البائع يندم على البيع فيأتي للمشتري فيقول: أقلني، والحديث يشمل هذا وهذا، فـ"من أقال مسلمًا بيعته" يعني: البيعة التي وقعت بينه وبينه، "أقال الله عثرته"، عثرته في أمور الدنيا أو عثرته في أمور الدنيا والآخرة؟ نقول: يشمل الأمرين جميعًا، وفضل الله واسع، وإقالة العثرة لاشك أنها أمر مطلوب لكل واحد؛ إذ أنه لا يخلو واحد منا من العثرات، فإذا أقال الله عثراتنا فهذا فضل عظيم ينبغي للإنسان ألا يفرَّط فيه، والمسألة سهلة جدًا. وقوله: "من أقال مسلمًا" هل مثل ذلك لو أقال ذميًّا؟ الجواب: نعم، ويكون ذكر المسلم بناء على الغالب، ويؤيد ذلك أن في بعض الألفاظ: "من أقال نادمًا بيعته" فيشمل المسلم وغير المسلم. ففي هذا الحديث عدة فوائد: أولاً: جواز الإقالة وهو كذلك، فالإقالة جائزة، بل نقول: في الحديث دليل على أن الإقالة مطلوبة مستحبة، ووجه الدلالة: أن الشارع رتب عليها ثوابًا، وهذا ترغيب من الشارع لفعلها، والترغيب إذا علَّق على حكم دلّ ذلك على أن هذا الحكم مطلوب شرعًا إما أن يكون واجبًا، وإما أن يكون مستحبًا حسب ما تقتضيه الأدلة. ولكن هل الإقالة عقد جديد أو فسخ لعقد مضى؟ الجواب: الثاني أنها فسخ لعقد مضى؛ ولهذا تجوز قبل قبض المبيع ولو كان من الكيل أو الموزون الذي يحتاج إلى حق توفية، وتجوز بعد نداء الجمعة الثاني، وتجوز أيضًا بعد إقامة الصلاة إذا لم تمنع عن الصلاة؛ لماذا؟ لأنها ليست بيعًا. هل تجوز في المسجد؟ نعم تجوز، لأنها ليست بيعًا، ولكن هل يشترط أن تكون بمثل الثمن أو لا بأس أن يزيد الثمن أو ينقص؟ في هذا خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إنها لا تجوز إلا بمثل الثمن، فإن أسقط أو زاد لم تصح، قالوا: لأنه إذا أسقط أو زاد فقد لاحظ في إقالته المعاوضة، وإذا لاحظ المعاوضة لم تكن إقالة، ولكن الصحيح الجواز ومحظور الربا فيها بعيد، فمثلاً إذا بعت عليك سيارة بعشرين ثم جئت إليّ وقلت: أقلني أنا الآن لا أريد السيارة، فقلت: لا أقيلك إلا إذا أعطيتني ألفين من الثمن، فقال: أعطيك، فمن قال: إنها لا تجوز إلا بمثل الثمن، قال: إن هذه الإقالة لا تصح، ومن قال بالجواز- وهو الصحيح- قال: إن هذه الإقالة صحيحة، وكذلك بالعكس لو أن البائع هو الذي طلب الإقالة فقال المشتري: أنا لا أقيلك إلا إذا أعطيتني ألفين، فالصواب: أنه جائز ولا بأس به، وذلك لأن الإقالة قد يكون فيها ضرر على المقيل وربما يكون باع هذه السيارة بعشرين ألفًا، ولكنها وقت الإقالة وصلت إلى عشرين ألفًا، فإذا ردَّها عليَّ فإنها قد لا تبلغ عشرين ألفًا، أو لأن الذين يزيدون فيها قد تفرقوا، والثاني أن الناس قد يقولون: لماذا ردها لولا أن فيها عيبًا ما ردها فتنقص القيمة، لهذا نقول: الصحيح جواز الإقالة بمثل الثمن أو فوقه أو دونه.

ومن فوائد الحديث: أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن هذا الذي أقال المسلم بيعته يقيل الله عثرته؛ لأن الغالب أن الإقالة إنَّما سببها الندم، فإذا أقلته وأزلت الندم عنه أقال الله عثرتك، فأزال الندم الذي يكون لك بالعثرة. وهنا أسئلة: أولاً: هل يلحق غير البيع بالبيع؟ الجواب: نعم، يعني: لو أنه أجره بيته وبعد أن استأجره جاء إليه وقال: استأجرت البيت منك ولكن أرجو منك الإقالة، فأقاله هذا يندب له، لكن هل يحصل على هذا الثواب؟ نعم، الظاهر أنه يحصل؛ لأن الإجارة نوع من البيع، فهي وإن لم تكن كالبيع؛ لأن البيع تطول مدته ويملك به العين والمنفعة بخلاف الإجارة، لكنه يعطى من الأجر بمثل ما نفع هذا المستقبل. هل يلحق بهذا عقد النكاح؟ الزوج بعد أن عقد جاء إلى الزوجة أو إلى ولي الزوجة وقال: أقلني؟ هذا لا يلحق؛ لأنه يمكن أن يتخلص منه بالطلاق وهذا بالنسبة للزوج واضح، لكن بالنسبة للزوجة هل نقول إذا جاءت الزوجة إلى الزوج وطلبت منه الطلاق فوافقها على ذلك وطلقها هل يحصل له هذا الأجر؟ الظاهر أنه يحصل له هذا الأجر إن لم يكن أكثر؛ لأن المرأة قد لا تطيق الصبر مع الزوج هذا، ومشكل لا يمكن الانفكاك عنه، أما المشتري إذا كان لا يريد هذه السلعة وندم عليها يمكن أن يتخلص بالبيع، لكن المشكل الزوجة كيف تتخلص من زوجها؟ الزوج ذكرتم أنه يتخلص منها بالطلاق، لكن الزوجة تريد أن تتخلص منه، فالظاهر أنه إذا أقالها- أي: طلقها- بناء على رغبتها فإنه يرجى أن يكتب له هذا الأجر؛ لأنه فكها من ندم عظيم، لولا طلاقه لبقيت في أتعب ما يكون. ثانيًا: إذا أقال الإنسان هذا الرجل فهل يشترط أن يقبض المبيع في نفس المكان أو لا يشترط؟ يعنى: مثلاً اشترى منه ذهبًا بفضة ثم رجع إليه واستقاله فأقاله، هل يشترط قبض العوضين في المجلس، الجواب: لا، لماذا؟ لأن الإقالة فسخ وليست بيعًا، فلا يثبت لها أحكام البيع. ثالثًا: هل يشترط للإقالة رضا المقيل؟ نعم، لابد من هذا، وبناء على ذلك لو أن شخصًا أكره آخر على أن يقيل فلانًا وقال له: أقل فلانًا وإلا فإني أفعل وأفعل وهو قادر على تنفيذ ما هدده به فإن الإقالة لا تصح. السؤال الرابع: هل لولي اليتيم والوكيل ونحوهم أن يقيلوا؟ الجواب فيه تفصيل بالنسبة للولي إذا رأى المصلحة في الإقالة فله أن يقيل، وإن لم ير

المصلحة فليس له أن يقيل؛ فإذا قال: أنا أريد الأجر، قلنا: المحافظة على أداء الأمانة أولى من طلب الأجر بالإقالة؛ لأن المحافظة على الأمانة واجبة، والإقالة سنة، وليست بواجبة، أما بالنسبة للوكيل فليس له أن يقيل إلا أن يجعل إليه؛ لأن الوكالة مقيدة بما وكَّل فيه، وهو إنما وكل بالبيع، ولم يوكل بالإقالة؛ ولأن الموكَّل قد لا يرضى بذلك بخلاف الولي، الولي مستقل عنده نوع استقلال ليس فوقع أحد، بل هو متولَّ على مال اليتيم فله أن يقبل إذا رأى المصلحة، وأما الوكيل فلا؛ إلا أن يجعل إليه أو يراجع الموكل. ومن فوائد الحديث- وإن كان يتكرر علينا كثيرًا-: الرد على الجبريّة، حيث قال: "من أقال مسلمًا"، وهذا يدل على أن للإنسان اختيارًا في الإقالة وعدمها، والجبريّة يرون أنه لا اختيار للإنسان، وأن الإنسان مجبر على عمل. وفي الحديث أيضًا: ردُّ على غلاة القدرية الذين ينكرون علم الله بأفعال العباد، ووجه ذلك قوله: "أقال الله عثرته"، ولم يقل: "عثرته" إلا بعد العلم بإقالته. * * *

2 - باب الخيار

2 - باب الخيار الخيار اسم مصدر اختار وليس مصدراً؛ لأن المصدر اختيار، وأما خيار فهو اسم مصدر، واسم المصدر عندهم: هو ما دل على معنى المصدر واشتمل على حروفه الأصلية دون الزائد، الخيار اسم مصدر اختار واختار بمعنى: أخذ بخير الأمرين، فنقول مثلاً: اخترت كذا دون كذا؛ أي أخذت بما أراه خيراً، والخيار أقسام منها: خيار المجلس، وإليه الإشارة في قوله: خيار المجلس: 792 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايع الرجلان، فكل واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع». متفق عليه، واللفظ لمسلمٍ. قال: «إذا تبايع الرجلان» أي: عقدا صفقة بينهما، والرجلان هنا وصف أغلبي فلا يكون له مفهوم، بل يشمل الحكم حتى المرأتين، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فكل واحد منهما» أي: من البائع والمشتري، "بالخيار" بين الإمضاء وارد، "ما لم يتفرقا" أي: من مكان العقد، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم، وليس عن عقد البيع؛ فإن بعض العلماء يقول: "ما لم يتفرقا" عن عقد البيع؛ يعني: ما لم يحصل الإيجاب والقبول، فإن حصل الإيجاب والقبول فلا خيار، وهذا التفسير بعيد لفظاً وبعيد معنى؛ لأنه لا يقال فيمن عقد عقداً فأوجب أحدهما وقبل الآخر لا يقال: تفرقا، وأيضاً لا يصدق عليهما أنهما تبايعا حتى يتم الإيجاب والقبول فلا تبايع إلا بإيجاب وقبول، وعلى هذا يكون المراد: ما لم يتفرقا بأبدانهما، ويؤيد ذلك قوله: "وكانا جميعاً"، فإن هذه الجملة كالتفسير للجملة التي قبلها، والتفرق قلنا: إنه عن مكان العقد، فإذا قاما عن مكان العقد جميعاً فهل نقول: تفرقا، يعني: هما فارقا مجلس العقد، ولكنهما لم يتفرقا، إذا كانا في الطائرة مثلاً وتعاقدا في الطائرة وزمن الطيران عشر ساعات يكونان بالخيار لمدة عشر ساعات؟ نعم، كما لو كانا جالسين في هذا المكان لمدة عشر ساعات. وهل يحصل التفرق بالنوم، كما تبايعا وهما يفرشان فراشهما وقبلا وتم البيع وناما ولما استيقظا قال أحدهما: رجعت، هل يملك ذلك؟ هل تفرقا؟ لا لم يتفرقا، لكن مثل هذا ينبغي أن يقال: إذا خيف الإشكال فلتكن على الحال الأخرى.

قال: "يخير احدهما الآخر"، ومعنى يخير أحدهما الآخر: يقول الخيار لك وحدك بأن يتنازل عن حقه، فإذا تنازل احدهما عن الآخر صار الذي تنازلا لا حق له في الخيار، والثاني له الخيار، وإذا تنازل كل منهما عن الخيار فلا خيار لواحد منهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسقط الخيار عمن تنازل عنه فالخيار عمن تنازل عنه من الطرف الثاني أيضاً جائز، وعلى هذا إذا تبايعا على أن لا خيار لأحدهما، أو تبايعا ثم أسقط أحدهما خياره، فهذا جائز كما يدل عليه الحديث، قال: "أو يخير أحدهما الآخر" يعني: يقول: الخيار لك وحدك. قال: "فإن خير أحدهما الآخر فتبايع على ذلك فقد وجب البيع" أي: لزم على حسب ما اشترطاه، فإن خير كل واحد منهما الآخر فلا خيار، وإن البائع المشتري فالخيار للمشتري وحده، وإن خير المشتري البائع فالخيار للبائع وحده. "وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع" "وجب" أي: لزم وثبت فصار وجوب البيع في صورتين: الأولى: إذا خير أحدهما الآخر لزم في حق المخير، وإن خير كل واحد منهما الآخر لزم في حقهما جميعاً. الصورة الثانية التي يجب فيها البيع: إذا تفرقا، والتفرق ليس له حد شرعي فيرجع في ذلك إلى العرف. من فوائد الحديث: أولاً: ثبوت الخيار للمتبايعين ما داما لم يتفرقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا". والثاني من فوائده أيضاً: مراعاة الشرع لأحوال الناس؛ لأن هذا الخيار الذي جعل للمتبايعين إنما جعل رفقاً بهما، فإن الإنسان إذا لم تكن السلعة عنده فهي غالية في نفسه، تجده حريصاً على أن يملكها فإذا ملكها فربما ترخص في نفسه ويختار ألا يتملكها وهذا شيء معلوم، ولهذا يقال: أجب شيء إلى الإنسان ما منع، فهي لما كانت في ملك غيره يجد نفسه متعلقة بها، فإذا ملكها هانت عنده، فجعل الشارع له الخيار ولكنه لم يجعله خياراً مطلقاً؛ لأنه لو جعله خياراً مطلقاً لزم يكون العقد اللازم عقداً جائزاً، وإن جعله- أي: الخيار- إلى مدة غير معلومة بل هي منوطة بما يتشهى كل واحد صار الخيار مجهولاً، فلهذا جعله الشارع لمدة معينة تجعل للإنسان حرية بعض الشيء، ولا تذهب لزوم العقد، ولا توقع العقد في جهالة، فالمسألة إما أن يقال: لا خيار مطلقاً، أو بثبوت الخيار مطلقاً، أو بثبوته ما داما راضيين به، أو بثبوته ما داما في المجلس، فإذا قلنا: لا خيار لزم من ذلك التضييق على الناس وألا يعطوا فسحة يتروى فيها الإنسان، وإذا جعلنا الخيار مطلقاً لزم أن يكون العقد اللازم جائزاً، وإن قلنا: لهما الخيار

إلى أن يرضيا صار الأجل مجهولاً، وإن جعلنا الخيار إلى مدة التفرق أعطيناهما بعض الحرية بدون جهالة وبدون ضرر. ومن فوائد الحديث: جواز قطع هذا الخيار منهما أو من أحدهما لقوله: "أو يخير أحدهما الآخر"، أما من أحدهما فواضح لقوله "أو يخبر أحدهما الآخر"، وأما منهما، فلأنه إذا جاز في حق أحدهما جاز في حق الآخر؛ لأن الحق لهما، فإذا أسقطاه وتبايعا على أن لا خيار بينهما بأن قال: بعتك هذا البيت بمائة ألف درهم على أن لا خيار لواحد منا، هذا بيع على أن لا خيار، أو يقول: بعتك بيتي بمائة ألف درهم ثم في أثناء المجلس قالا: لنتفق على قطع الخيار، فإذا اتفقا انقطع الخيار، وإن أيي أحدهما وقطعة الآخر فالحق له القول: "أو يخير أحدهما الآخر". ومن فوائد الحديث: جواز مد الخيار إلى ما بعد التفرق، يؤخذ من الاحتمال الثاني في قوله: "أو يخير أحدهما الآخر"؛ لأنه صالح للأمرين: فإن قلت: كيف صالحاً لأمرين متضادين: الأول في قطع الخيار، والثاني في مدة؟ قلنا: لأن النصوص العامة تدل على جواز الشروط بين المتعاقدين ما لم تخالف الشرع، وهنا لا مخالفة للشرع. ومن فوائد الحديث: أن الحق الخاص لآدمي يجوز له إسقاطه لقوله: "أو يخير أحدهما الآخر"، فإن كان الحق حقاً محضاً للآدمي فله أن يسقطه؛ لأنه لا أحد يطالبه في إثباته. ومن فوائد الحديث: أن البيع من العقود اللازمة لقوله: "فقد وجب البيع"، وكونه من العقود اللازمة هو الموافق لمصالح العباد؛ لأنه لو كان البيع من العقود الجائزة ما تمكن أحد أن يتصرف فيما انتقل إليه من العوض على وجه تطمئن إليه نفسه؛ لأنه يخشى في كل لحظة أن يقول الآخر: قد فسخت البيع، فلهذا كان من المصلحة لعباد الله أن يكون عقد البيع من العقود اللازمة لكل من الطرفين. ومن فوائد الحديث: جواز إسقاط الإنسان ما هو حق له وإن لم يرض الآخر لقوله: "ولم يترك واحد منهما البيع"، فإذا قال البائع مثلاً للمشتري لما قال اخترت فسخ العقد قال: لا يمكن؛ لأن هذا يضر بالسلعة ويهدم مستقبلها، فجوابه أن يقول له: هذا حق جعله الشارع لي ولا يمكن أن تمنعني إياه، ولكن يجب أن نعلم أنه متى قصد المختار إضرار صاحبه كان ذلك حراماً عليه، وإن كنا نحكم له بظاهر الحال، لكنه حرام عليه لو أنه سامها ثم سامها حتى انتهى السوم إليه ثم باعه عليه، وكان من نيته أن يفسخ البيع من أجل أن ينزل قيمة السلعة في نفوس الناس فإن ذلك حرام عليه، لأنه إضرار بأخيه، لكن إذا كان فسخ البيع عن رغبة لا عن قصد الإضرار فإن هذا حق له، واعلم أن الناس اختلفوا في هذا الحديث اختلافاً عظيماً، والحقيقة أنه

اختلاف لا طائل تحته، وأن من تأمل الحديث وما يتضمنه من المعاني الجليلة وجد أنه لا يخالف القاعدة، ولا يخالف القياس، وأنه مقتضى القياس والنظر الصحيح وأن المراد بالتفرق هو التفرق بالبدن، وليس هو التفرق بالقول، وأن دعوي أنه تفرق بالقول وأن البيع يلزم بمجرد الإيجاب والقبول قول ضعيف جداً، وابن عمر رضي الله عنهما راوي الحديث كان إذا باع عليه أحد شيئاً قام من المجلس وفارق المجلس لئلا يستقبل أو لئلا يفسخ البائع، وهذا يدل على أن المراد بالافتراق هو افتراق الأبدان، ولا حاجة إلى التكلف الذي ذهب إليه من زعم أنه ليس في البيع خيار المجلس. 793 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله». رواه الخمسة إلا ابن ماجة، والدارقطني، وابن خزيمة، وابن الجارود. - وفي رواية: "حتى يتفرقا من مكانهما". هذا كالحديث الأول فيه أن البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، وهو مثل قول: "إذا تبايع الرجلان" إلا أن هذا قال: البائع والمبتاع، ففصل أحدهما عن الآخر، فالبائع هو جالب السلعة والمبتاع مشتريها، يقول: "بالخيار" يعني: كل واحد منهما له الخيار يختار ما يراه أنفع وأصلح لنفسه من أي شيء؟ "يتفرقا من مكانهما" وهذا نص صريح بأن المراد بذلك تفرق أبدان قال: "إلا أن تكون صفقة خيار"، الصفقة: هي عقد البيع، وسميت صفقة؛ لأن كل واحد منهما يصفق بيده على الآخر عند العقد، وهذا في زمن مضى، أما الآن فلا تحصل الصفقة. وعلى كل حال: المعنى إلا أن تكون البيعة بيعة خيار، وبيعة الخيار نقول فيها ما قلنا في قوله في الحديث السابق: "أو يخير أحدهما الآخر"، فتشمل ما إذا كانت صفقة خيار؛ أي: صفقة إسقاط خيار، فإذا كانت صفقة إسقاط خيار وسقط خيار المجلس بمجرد العقد، ويحتمل أن يكون المراد: صفقة خيار؛ أي: صفقة شرط فيها الخيار إلى مدة معينة بعد التفرق، وعلى هذا فيكون في ذلك إثبات خيار الشرط. قال: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله"، يشمل البائع والمشتري، وقوله: "أن يستقيله" أي: أن يفسخ العقد، فالاستقالة هنا بمعنى: فسخ العقد، وذلك لأنه لو كان المراد بها: الاستقالة

التي هي فسخ العقد برضا الطرفين لم تقيد بالمفارقة؛ لأن الإقالة تجوز بعد مفارقة المجلس وقبل مفارقته، لكن المراد بالاستقالة هنا: فسخ العقد، وقوله: "ولا يحل له" أي: للمبتاع والمشتري أن يفارقه؛ أي: يفارق صاحبه خشية أن يستقبله وهو صريح في أن المراد: مفارقة البدن. ففي هذا الحديث من الفوائد: ما سبق من ثبوت خيار المجلس، وأن هذا الخيار يجوز إسقاطه ويجوز مد الخيار إلى ما بعد التفرق. وفيه أيضاً: أنه يحرم على الإنسان أن يفارق المجلس خوفاً من اختيار صاحبه فسخ العقد؛ لأن هذا تحيل إلى إسقاط حق أخيه بعد ثبوته، ولا يجوز التحيل على إسقاط حق الغير. ومن فوائد هذا الحديث: اعتبار النية في العمل، فإن المفارق لمجلس عقد البيع قد يكون فارق المجلس؛ لأنه انتهت حاجته، وقد يكون فارق المجلس من أجل ألا يفسخ صاحبه لئلا يمكن صاحبه من الفسخ، فعلى الأول تكون مفارقته جائزة، إنسان جاء لشخص واشترى منه وذهب، وعلى الثاني تكون المفارقة حراماً؛ لأن المقصود بها إسقاط حق أخيه الثابت في العقد. فإن قال قائل: أليس هذا الحق له؟ فالجواب: بلى الحق له، لكن ليس له الحق في إسقاط حق أخيه بدون مصلحة له، وهذا موجود كثير في الشريعة أنه لا يحل للإنسان أن يمنع أخاه من شيء ينتفع به أخوه وهو لا يضره، كما جرى لعمر بن الخطاب مع محمد بن مسلمة حين منع جاره أن يجري الماء من أرض محمد فقال عمر: "لأجرينه ولو على بطنك"، وكما قال أبو هريرة في وضع الخشب على الجدار: "ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم"، فهذا الرجل لا يحل له أن يسقط حق أخيه الثابت له بدون مصلحته وهو ليس قصده إلا الإضرار. فإذا قال قائل: أليس ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا عقد الصفقة قام وفارق المجلس خشية أن يستقيله صاحبه، فما الجواب؟ الجواب: أن هذا فعل ابن عمر، وفعل ابن عمر لا يحتج به على الحديث، ولكن يلتمس له العذر فلعله رضي الله عنه لم يبلغه هذا الحديث، وإلا فإننا نعلم أن ابن عمر رضي الله عنهما من أشد الناس تمسكاً بالسنة، ولو علم أنه لا يحل له أن يفارقه ما فارقه قطعاً، هذا هو ما نعلمه من حال ابن عمر رضي الله عنهما، فيحمل ما ورد من فعله على أنه لم يبلغه الخبر.

خيار العين

خيار العين: 794 - وعن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوت فقال: «إذا بايعت فقل: لا خلابة». متفق عليه. هذا رجل كان يخدع في البيوع خداعاً يخفى عليه دون غيره، لأن الخداع نوعان خداع عام وخداع خاص، كما سيأتي. وقوله: "يخدع في البيوع" بماذا يخدع؟ يحتمل أنه يخدع في السلعة تظهر له جيدة وهي رديئة، أو يكون فيها عيب وهو لا يعرف العيوب، أو يخدع في القيمة فتضاعف عليه، المهم: أنه يخدع في كل ما يعد خديعة، والحديث عام. فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى التخلص من هذه الخديعة بأن قال: "إذا بايعت فقل لا خلابة" أي: لا خديعة، فكان إذا باع يقول: "لا خلابة" فإذا ثبتت الخلابة فسخ العقد، وذكر أنه كان يقول: لا خدابة، أنه ألثغ، لسانه فيه شيء، المهم المعنى. أنه كان يقول إذا بايع لا خلابة، فإذا ظهر أنه مخلوب فسخ العقد. في هذا الحديث فوائد منها: أنه يجوز تصرف الإنسان الذي يخدع في البيع، ولكن يشترط لنفسه أنه لا خلابة. فإن قال قائل: إذا كان يخدع في البيع فهو سفيه، ومعلوم أن السفيه يحجز عليه. فيقال: نعم، الحجر عليه هو الأصل، لكن أحياناً لا يصبر عن البيع والشراء، فهذا إذا تصرف يشترط لنفسه فيقول: "لا خلابة"، فإذا قال: لا خلابة فظهر أنه مخدوع فله الفسخ. ومن فوائد الحديث: أنه لا يثبت خيار الغبن إلا بشرط؛ لأنه لو كان يثبت بلا شرط ما احتيج أن يقال لا خلابة؛ إذ إنه إذا غبن فسخ سواء كان لا خلابة أم لم يقل، هذا هو مذهب كثير من أهل العلم أنه لا خيار في الغبن، ولكن هذا المذهب فيه نظر؛ لأن هناك قضايا تدل على خيار الغبن منها ما سبق في تلقي الجلب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجالب إذا أتى السوق جعل له الخيار؛ لأنه قد يغبن ومنها ما سبق في المصراة فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخيار للمشتري بعد أن يحلبها ثلاثة أيام، وهذا يدل على ثبوت الغبن، وممكن الجمع بين هذا الحديث وبين الحديثين السابقين الدالين على أنه يثبت الخيار في الغبن. يمكن أن يقال: إن الغبن نوعان: غبن عام يخفي على كل أحد، فهذا فيه الخيار سواء اشترط المشتري أو ذلك أم لم يشترط، مثل التدليس، فإن التدليس لا يعلم به أحد، وكذلك

الجلب فإنه يخفى على كل الركبان، وغبن آخر يغبن به الغرير الذي لا يعرف، فهذا الذي يحتاج إلى قوله: "لا خلابة" أو يجعله بوجه آخر، ويقال: إنه يثبت خيار الغبن مطلقاً سواء كان الغبن عاما أو خاصاً، لكن قوله: "لا خلابة" من باب التأكيد وقطع النزاع، فإن الخديعة منفية شرعاً؛ لأنها خلاف النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ولكن إذا نفاها عند العقد صار ذلك من باب التأكيد وقطع النزاع، أما كونها من باب التأكيد فواضح؛ لأن نفي الخلابة ثابت سواء شرط أو لم يشترط، لا يجوز لأحد أن يغبن أحداً لكونه غريراً أو لا يعرف الأسعار، بقطع النزاع؛ لأنه إذا ثبت الخديعة ثبت الخيار بدون نزاع، فلا يقول البائع إذا غر المشتري: أنت الذي أخطأت على نفسك، أنت الذي لم تحتط لنفسك؛ لأنه يقول: أنا أحطت لنفسي بقولي: لا خلابة، هذا الوجه أحسن من الوجه الذي قبله، يعني: أحسن من تقسيمنا الغبن إلى قسمين. فنقول: إن هذا الحديث يدل اشتراط الغبن للفائدتين المذكورتين وهي التوكيد، وقطع النزاع. ومن فوائد هذا الحديث- على هذا التقدير الذي قررنا-: ثبوت خيار الغبن لكل مغبون، فكل من غبن بتغرير في الثمن أو في المثمن فإن له الخيار. ومن فوائد الحديث: أنه يجب أن يكون التعامل بين المسلمين بالنصح بالبيان والصدق وعدم التغرير، وهذا هو الواجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ومعلوم أن من غرر أخاه وخدعه في البيع أو الشراء فإنه لم يجب لأخيه ما أحب لنفسه، لأن الذي يحب لأخيه ما يحبه لنفسه حقيقة هو الذي يعامل أخاه بما يحب أن يعامل به. هل يمكن أن يقال: إنه يقاس على البيوع ما سواها من العقود بحيث لا يجوز الخداع فيها؟ الجواب: نعم لا يجوز الخداع في جميع العقود، إما أن نأخذها بالقياس على هذا الحديث، يعني: إما أن نأخذ حكمها بالقياس على هذا الحديث، وإما أن نقول: إنها داخلة في عموم قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1]. فإن من الإيفاء بالعقود أن تعامل إخوانك بالنصح، وفي قوله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} [الإسراء: 34]. وفي قوله تعالى: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} [هون: 85]. إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أنه يجب أن تكون معاملة الإنسان لغيره قائمة على النصح بالبيان والصدق. وفي الحديث هذا دليل على أن الشريعة الإسلامية كما جاءت بإصلاح أحوال الناس في أمور الدين جاءت بإصلاح أحوالهم في أمور الدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد هذا الرجل إلى أن يقول: لا خلابة.

3 - باب الربا

وفيه: دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يرشد الغرير الجاهل إلى ما يسلم به من غائلة هذا الجهل والمغرة؛ لأن هذا من النصح، فلا يجوز للإنسان إذا رأى شخصاً غريراً وقف على دكان يسأله عن سلعة فقال له صاحب الدكان: ثمنها سبعمائة وهو يدري أن قيمتها خمسين ويسكت، بل الواجب عليه أن يقول لهذا المشتري: إن قيمتها في السوق خمسون، ولا يعد ذلك من قطع الرزق كما يظنه بعض العامة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا خيار في الغبن إلا إذا شرط؛ يعني: إذا شرط المغبون بأن له الخيار، ووجه ذلك: أنه لو كان يثبت الخيار بالغبن ما احتيج إلى اشتراطه، وسبق لنا الجواب على ذلك، وقلنا: إن هذا إنما ذكر من اجل التوكيد وقطع النزاع؛ لأن هناك أحاديث تدل على ثبوت الغبن مثل النهي عن تلقي الجلب والمصراة، فإن هذا يدل على خيار الغبن وهذا هو الصحيح. **** 3 - باب الربا الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [فصلت: 39]. أي: علت وزادت، ومنه قوله تعالى: {وءاوينهما إلى ربوةٍ ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50]. أي: إلى مكان مرتفع زائد عن مستوى الأرض، أما في الشرع: فإنه الزيادة بين شيئين حرم الشارع التفاضل بينهما بعوض أو التأخير في قبض ما يشترط قبضة، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، بل هو من كبائر الذنوب، بل من الموبقات السبع التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجتنبوا السبع الموبقات»، وذكر أكل الربا، وفيه وعيد عظيم في القرآن والسنة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: إنه لم يرد في ذنب دون الشرك مثل ما رد في الوعيد على آكل الربا؛ وذلك لأنه فساد للمجتمع في دينهم ودنياهم؛ فإنه يقتضي أن يتغذى الناس بالحرام ويقتضي أن تختلف طبقات الناس، فيكون منهم من هو في القمة، ومنهم من هو في القمامة، ويحصل به التضخم المالي المدمر للاقتصاد بين الأمة، فهذا وردت فيه نصوص كثيرة في الوعيد وإنما وردت فيه بالوعيد الشديد؛ لأن النفوس تحب المال، كما قال الله تعالى: {وتحبون المال حباً جماً} [الفجر: 20]. فتحتاج إلى رادع قوي يمنعها من أكل هذا المال المحرم؛ لأنه لو كان الوعيد خفيفاً هان على الإنسان أن يأكل هذا المال المحرم، لكن إذا كان الوعيد عظيماً ارتدع من قلبه إيماناً، ثم إن هذا الربا العظيم الذي توعد الله عليه في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وأجمع المسلمون على تحريمه، لا فرق بين أن يكون المرابي

تحريم الربا

محتاجاً أم غير محتاج، لو أخذ الحبل يحتطب ويأكل لكان خيراً له من أن يعطي الربا، ثم اعلم أن الربا سيكون في أشياء معينة تذكر في الأحاديث التي تأتي- إن شاء الله- من أدلة الكتاب على تحريمه قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافاً مضعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 130 - 131]. وهذا يدل على أن آكل الربا مهدد بالنار المعدة للكافرين، وقوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحب النار هم فيها خلدون} [البقرة: 275]. وقوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربوا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} [البقرة: 278 - 279]. وقوله تعالى: {وما أتيتم من رباً ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما أتيتم من زكوةٍ تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم: 29]. أما في السنة فاستمعوا إلى حديث جابر رضي الله عنه. تحريم الربا: 795 - عن جابر رضي الله عنه قال: "آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء". رواه مسلم. - وللبخاري نحوه من حديث أبي جحيفة. لعن خمسة- والعياذ بالله- في الربا: "آكله" بدأبه؛ لأنه المستفيد من الربا فلذلك بدأ به، وهو أشدهم- والعياذ بالله- لأنه يأكل الربا، وأكل مال محرم سحت يتغذى جسده بالسحت، فإذا دعا لم يكن حرياً بالإجابة، فلو فعل أسباب الإجابة ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، وملبسه حرام، ومطعمه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك». "وآكل الربا" لا يعني من أكله فقط، بل من أخذه سواء أكله أو لبسه أو شربه أو غير ذلك، وإنما ذكر الأكل؛ لأنه أخص وجوه الانتفاع؛ لأنه يتغذى به البدن، فاللباس يقيه الحر والبرد لكن ليس كنفع الأكل، لأن نفع الأكل أدخل مباشرة في البدن، وأما قول بعضهم: أعم وجوه الانتفاع، فلأن الغالب أن الإنسان ينتفع أكلاً أكثر مما ينتفع بماله شرباً أو لبساً لكن الظاهر أنه خص الأكل؛ لأنه أخص الانتفاع بالربا، ولكن هل المراد خصوص الأكل؟ الجواب: لا، بل المراد: أخذه للأكل أو لغيره، ولهذا قال الله تعالى في اليهود: {وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل} [النساء: 161].

ثانياً: "موكله"، الموكل هو الذي يعطي الربا، واستحق اللعنة على فعل تكون به اللعنة والمعين على المحرم كفاعل المحرم، كما أن المعين على الخير كفاعل الخير. "كاتبة" أيضاً ملعون، لأنه أعان على تثبيته بكتابته، ولأنه لم يكتبه إلا وقد رضي به، فصار مشاركاً للفاعل، ويقال كذلك في "شاهديه" اللذين يشهدان به، فإنهما داخلان في اللعنة؛ لان شهادتهما بذلك تثبته، ولأن شهادتهما به تدل على رضاهما به، والراضي بالمحرم كفاعل المحرم، وعلى هذا يكون الربا يلعن فيه خمسة: الآكل، والموكل، والكاتب، والشاهدين، يلعن فيه هؤلاء الخمسة، وعرفتم وجه اللعن فيما عدا الأكل؛ لأن لعن الأكل واضح، ولعن غيره من أجل السببية. وفي الحديث دليل على أن أكل الربا وتأكيله والشهادة في وكتابته من كبائر الذنوب، وجه ذلك: أنه رتب على هذه الأفعال اللعنة وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله. ومن فوائده: أن المعين المحرم كفاعل المحرم حتى وإن كان مظلوماً به، فالموكل مظلوم بالمحرم بالربا ومع ذلك كان له إثم الآكل لإعانته إياه على أكله ورضاه بذلك. ومن فوائد الحديث: تحريم الشهادة بما يكون حراما؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن الشاهد، وكذلك نقول في الكتابة، فإذا كان الشيء عند الشاهد حرام عند غيره فإن كان حراماً عند المتعامل به كانت شهادة الشاهد به حراماً وإن كان يرى الحل لماذا؟ لأنه أعان على المحرم فهو يعتقد أن هذا الذي شهد له بهذا المحرم يعتقد تحريمه فيكون شاهداً له بالمحرم، وإن كان هو يرى الحل كمسائل البيوع التي اختلف فيها العلماء أو مسائل الوقف المختلف فيها، أو الرهن أو غير ذلك، شهدت لشخص يعتقد أن هذا العقد محرم وأنت تعتقد أنه حلال، فنقول: هذا حرام عليك، لأنك أثبت لهذا الشخص ما يعتقد أنه حرام، وكذلك بالعكس لو كان هذا الشخص يعتقد الحل وأنت ترى التحريم حرم عليك أيضاً أن تشهد؛ لأنك ستشهد بما تعتقد أنه حرام، ولكن يدخل في هذه المسألة الشهادة على الطلاق الثلاث هل يشهد الإنسان أولا يشهد؟ رجل طلق زوجته ثلاثاً ثم ادعت على زوجها أنه طلقها ثلاثاً، وأنكر الزوج، ويوجد من يشهد من حضر طلاقه هل يشهد بهذا الطلاق أو لا يشهد لأنه محرم؟ الجواب: أنه يشهد، لماذا؟ لأنه يترتب عليه أمر كبير، وأنا الآن لا أشهد به إقراراً له، ولكن لأجل ما يترتب على هذا من البينونة الكبرى لمن يرى أن الثلاث تبين به المرأة، أو التأديب عند من يرى أن المرأة لا تبين به ولكنه حرام، المهم: أنه إذا سمع شخصاً يطلق زوجته ثلاثاً ودعت الحاجة أن يشهد بذلك عند القاضي فإنه يشهد؛ لأن هذا أمر وقع ولم يبق إلا أن تشهد

به من أجل ترتب الآثار عليه بخلاف ما لو شهد على بيع خمر، فإنه لا يشهد بذلك؛ لان بيع الخمر حرام يجب رده على البائع بل يجب إتلافه، وليس للبائع عوض عن هذا الخمر، وإن كان القول الراجح في هذه المسألة في أنه يجبر المشتري على أن يتصدق بهذا الثمن الذي جعله ثمناً للخمر لئلا يجمع له بين العوض والمعوض. من فوائد الحديث: أن المعين للحرام مساوٍ للمباشر له لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "هم سواء"، ولكن هذا مشكل، وجه الإشكال: أنه ليس الشاهد والكاتب والموكل كالمباشر الذي انتفع بالربا، ولكن يمكن أن نقول: إن الحديث تحمل فيه التسوية على أنهم سواء في أصل الإثم أو في أصل اللعنة وإن اختلفوا في كيفيتها، ولا يلزم من التساوي في الأصل التساوي في الكيفية، وإنما قلنا: إن هذا محتمل؛ لأننا نعلم أن جزاء الله- سبحانه وتعالى- مبنى على العدل التام نعم، لو كان لا يثبت الربا للآكل إلا بشهادة هؤلاء فربما نقول: إنهم يتساوون حتى في كيفية اللعنة وصفة العقوبة. وقوله: "وللبخاري نحوه ... الخ"، "نحوه" يعني: ما يقاربه، لأن في حديث أبي جحيفة: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله"، وليس فيه ذكر الكاتب والشاهدين. 796 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم». رواه ابن ماجه مختصرا، والحاكم بتمامه وصححه. قوله: "الربا" نتكلم أولاً عن هذا الحديث من جهة المتن فنقول: لا شك أن في متنه شيئاً من النكارة؛ وذلك لأن أكل المال بالربا أعظم من أكل العرض، اللهم إلا إذا كان العرض بالقدر، ثانياً: ولأن قوله: «أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه»، ومن أيسر الأبواب مثلاً أن يبيع صاعاً طيباً بصاعين رديئين مستاويين له في القيمة ومع ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه»، وهذا تشنيع عظيم في أيسر الربا، فمثل هذا المتن في القلب منه شيء وذلك لعظم العقوبة في أمر يظهر للإنسان أن ما مثل به أشد وأعظم من الممثل، فالله أعلم، ولكن سند الحديث لا بأس به. «الربا ثلاثة وسبعون باباً»، الباب بمعنى: الصنف والجنس، ومنه قول بعض العلماء: لم يصح في هذا الباب شيء أي: في هذا الصنف من مسائل العلم فهو ثلاثة وسبعون باباً، ما هذه

الأبواب؟ الأبواب- والله أعلم- كناية عن صور تتضمن مسائل، وبإمكان طالب العلم أن يتأمل هذه ويجدها؛ لأننا ما دمنا نقول: إن الربا بمعنى الزيادة، فليس من لازم ذلك أن يكون بيع ذهب يذهب مع التفاضل فقط، بل بيع ذهب مع التفاضل والقبض، بيع ذهب بذهب مع التفاضل والتأخير، بيع ذهب بذهب مع التساوي والتأخير، بيع ذهب بذهب زائد عليه ويجعل مع الناقص دراهم، هذه عدة صور في بيع الذهب، ويمكن أن تجعل أيضاً صوراً أخرى في بيع الفضة، ويمكن أن يأتي ربا القرض وهو القرض الذي يجر منفعة. فالمهم: أنه يمكن لطالب العلم أن يأمل في هذه الأبواب ويجد هذا العدد المشار إليه في الحديث، لكن يقول: «أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه»، ومعلوم أن نكاح الرجل لأمه مستقبح شرعاً وعقلاً وعادة، كل الناس يستقبحونه، لم يستحله إلا قوم من أراذل عباد الله وهم المجوس، استحلوا أن يتزوج الرجل محارمه فيتزوج أمه وأخته وبنته، وإنما مثل النبي صلى الله عليه وسلم بالأم؛ لأنه من المعلوم أن الناكح مستعل على المنكوح، فالناكح أعلى والمنكوح أسفل، فهذا يقتضي أن يعلو الرجل على أمه، وهو أقبح من أن يعلو على بنته؛ لأن للأم من الاحترام ما ليس للبنت. وقوله: «وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم»، إذن نكاح الرجل أمه أهون من عرض المسلم، هذا مقتضى الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه السلام ذكر أن عرض الرجل هو أربى الربا؛ أي: أعلاها، ونكاح الرجل أمه أيسرها، وهذا يقتضي أن عرض الرجل أعظم من نكاح الرجل أمه أيسرها، وهذا يقتضي أن عرض الرجل أعظم من نكاح الرجل أمه، وهذا الذي يجعل في القلب شيئاً من هذا الحديث وقلقاً من صحته؛ لأن مثل هذا غريب من أن يكون قد صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن يمكن أن يوجه ويقال: إن معنى "أربى الربا" أي: ليس معناه أربى الربا المحرم، أربى الربا من حيث الزيادة؛ لأن الإنسان إذا استطال في عرض المسلم بدأ يزداد فيكون هذا من باب الربا اللغوي، يعني: أن من انهمك في أعراض الناس ازداد حتى يتراكم عليه الربا ويكون هذا أربى الربا من حيث الزيادة والكمية أن يستطيل الرجل، كما في اللفظ الآخر: «استطالة الرجل في عرض أخيه»، يعني: أنه ليس كالمال، المال قد لا يحصل على الربا لو أراده، لكن الكلام يحصل يستطيع الإنسان أن يملأ الدنيا كلاماً، والإنسان إذا ابتلي بهذا الأمر أي: يأكل لحوم الناس استزاد وصار لا يستأنس ولا ينشرح إلا إذا أكل جيف بني آدم- نعوذ بالله- فيمكن أن يكون هذا وجه الحديث إن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

أنواع الربا

أنواع الربا: 797 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز». متفق عليه. 798 - وعن عباده بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيدٍ، فإذا اختلف هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد». رواه مسلم. 799 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثلٍ، والفضة وزنا بوزن مثلاً بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو رباً». رواه مسلم. هذه ثلاثة أحاديث في بيان الأصناف التي فيها الربا وفي بيان أنواع الربا أيضاً فهي تبين ما يكون فيه الربا وتبين أنواع الربا، والربا نوعان: ربا فضل، وربا نسيئة، ويقال للثاني: الربا الجلي، وللأول: الربا الخفي، وقد قيل: إن الثاني الذي هو ربا الفضل إنما حرم، لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة- والله أعلم-، لكن على كل حال الربا نوعان: ربا جلي واضح وهو ربا النسيئة، والثاني: ربا خفي وهو ربا الفضل، أي: الزيادة، أما ربا النسيئة: فإنه المؤخر بأن يبيع ذهباً بذهب مع التأخير، والغالب أنه لا يكون إلا بفضل؛ لأنه ليس من المعقول أن يأخذ الإنسان ديناراً وزنه مثقال حاضراً بدينار وزنه مثقال مؤجلاً، هذا لا يكون على سبيل المعاوضة، أما على سبيل القبض فالأمر واضح، لكن على سبيل المعاوضة فربما النسيئة لا يخلو من ربا الفضل ولهذا سمي جليا واضحا، وإما ربا الفضل فغنه يقع أيضاً كثيراً، ولكن ربما يكون التبادل بين الجنس الواحد بدون مفاضلة لسبب من الأسباب كما سيأتي، المهم: أن ربا النسيئة يجري في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل، فإن وقع التبادل بين جنس واحد، اجتمع فيه ربا الفضل وربا النسيئة، هذا هو الضابط، فربا النسيئة يكون بالتبادل بين جنسين ربويين، وربا الفضل يكون بالتفاضل بين جنس واحد فإذا اتفقا جنساً اشترط في أمران الأول: التساوي، والثاني: القبض قبل التفرق، فإن زيد أحدهما على الآخر مع القبض فهو ربا فضل، وإن تأخر قبض أحدهما بدون فضل فهو ربا نسيئة، وإن تأخر أحدهما مع الفضل فهو ربا فضل ونسيئة، إذن قد يجتمعان وقد يفترقان هذا إذا بيع جنس بجنس، إذا بغير جنسه وهو مما يشاركه في علة

الربا يجري فيه نوع واحد من الربا وهو ربا النسيئة، أما ربا الفضل فلا يجري فيه، كالبر بالشعير فهما جنسان يتفقان في علة ربا الفضل فيحرم بينهما التأخير ولا يحرم التفاضل، هذا هو مجمل ما يقال في الربا، هناك أموال ليست ربوية هذا ليس فيها رباً لا فضل ولا نسيئة تبيعها متفاضلة تبيعها متأخرة. نبدأ بالحديث الأول: يقول: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا»، شفى تكون بمعنى: زاد وتكون بمعنى: نقص، فإن عديت بـ"عن" فهي بمعنى نقص، شفه عن كذا يعني: نقص، وإن عديت بـ"على" فهي بمعنى زاد، ولكن أن الزيادة والنقصان متقابلان لا يقبل أحدهما بدون الآخر، متى ثبتت الزيادة ثبت النقصان في الجانب الآخر، يقول: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل» وهذا يعني في الوزن وليس في الصفة؛ يعني: لا يزيد وزن أحدهما عن الآخر، وأما في الصفة فلا بأس أن تبيع ذهبا جيداً بذهب رديء مع التساوي في الوزن، أو ذهبا قد صيغ معينة قديمة عدل الناس عنها، لكن وزنا بوزن، المهم: أ، المماثلة هنا بالوزن؛ أي: بالكم لا بالكيف. فإذا قال قائل: وهل يأتي المثل بمعنى الكم؟ قلنا: نعم، ومنه قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12]. بالكمية وليست بالكيفية، إذن المماثلة بالوزن وهو كم وليس بكيف. الثاني: «ولا تشفوا بعضها على بعض» أي: لا تزيدوا على بعض، وظاهر الحديث أنه لا يزاد في الذهب إذا بيع بعضه لا من جنسه ولا من غير جنسه، وعلى هذا فإذا باع ديناراً وقيمة الدينار عشرون درهما بنصف دينار وعشرة دراهم فظاهر الحديث أنه لا يجوز، لماذا؟ لأن الذهب لم يوازن الذهب، وزن الذهب نصف والباقي قيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تشفوا بعضها على بعض». كذلك لو باع الإنسان ذهباً مصوغاً بسبائك ذهب وأخذ الفرق مقدار أجرة الصنعة فهل يجوز؟ ظاهر الحديث أنه لا يجوز. فإذا قال قائل: كيف لا يجوز إذا زدنا أجرة الصنعة وهي من صنع الآدمي، والآدمي يحتاج إلى أجرة ولا يمكن أن نقيسه على زيادة الصفة من خلق الله؟ فالجواب: مسائل الربا ليست من مسائل القياس المحض؛ لأن فيها أشياء ليس فيها نقص ولا ظلم ومع ذلك حرمها، فقد جيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر طيب جيد فسأل فقيل له: كنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال: "هذا عين الربا"، وأمر برده مع أن هذه المسألة ليس فيها ظلم بوجه من الوجوه، وليس فيها إكراه، وكل أحد يعلم أن هذا لا محظور فيه من الناحية النظرية، ومع ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "هذا عين الربا"، فدل ذلك على أن مسائل الربا يجب فيها الوقوف على مقتضى النص.

فلو قال قائل: إن هذا من صنع الآدمي فالزيادة في الصنعة بخلاف طيب التمر؟ قلنا: نعم هذا صحيح، لكن قد يكون في طيب التمر أيضاً من صنع الآدمي، وسببه إذا لم يلقح النخلة صار تمرها رديئاً، والحديث عام قال: «هذا عين الربا»، ثم إنه تنتقض- مسألة الصنعة- بما إذا أبدل دنانير مسبوكة بسبائك من الذهب هل يجوز التفاضل؟ لا يجوز، حتى عند الذين يقولون بجواز التفاضل في الصنعة مع أن الدراهم المسبوكة فيها صنع آدمي ومع ذلك لا تجيزونه، قد يقولون: إن الصنعة غير مقصودة لذاتها إنما صنعها عام من أجل الرواج، وأن تكون أقيم الأشياء بخلاف الصنعة الخاصة التي صنعها الإنسان لتكون حليا على صفة معينة وسلم أجرتها، فيقال: هب أن الأمر كذلك لكن ماذا نصنع بالتمر إذا كان سوءه من صنع الآدمي وطيبة من صنع الآدمي، أي: بسبب الآدمي، ولهذا كان القول الراجح في هذه المسألة: أنه لا يجوز التفاضل بين الذهب بالذهب ولو من أجل الصنعة، وأن الباب يجب أن يغلق؛ لأن النفوس تحب المال، فإذا أجيز التفاضل من أجل الصنعة تدرجت النفوس إلى التفريط من أجل الرداءة والجودة، وحينئذ يقع الناس فيما كان حراماً بلا إشكال. قال النبي صلى الله عليه وسلم «ولا تبيعوا الورق» المراد بالورق هنا: الفضة سواء جعلت دراهم أم لم تجعل وهذا متفق عليه، مع أن بعض العلماء في باب الزكاة لما قالوا في الرقة ربع العشر قالوا: المراد بالرقة: الدراهم المضروبة، وأخرجوا منها الحلي الذي يستعمل، قالوا: ليس قيه زكاة، ولكن الصحيح أن الزكاة واجبة في الحلي سواء سمي ورقاً أو لم يسم، مع أن ابن حزم قال: إن الورق اسم للفضة مطلقاً سواء مضروبة أم غير مضروبة، وهي هنا اسم للفضة مطلقاً سواء كانت مضروبة أم غير مضروبة، حتى عند القائلين بعدم وجوب الزكاة في الحلي، ولكن الصحيح كما مر علينا أنه تجب الزكاة في الحلي مطلقاً. قال: «ولا تشفوا بعضها على بعض»، "تشفوا" هنا بمعنى: تزيدوا بدليل "على". قال: «ولا تبيعوا منها غائباً بناجز»، "غائباً": يعني لم يحضر "بناجز" مقدم منقود، وهذه الجملة الأخيرة فيها تحريم النسيئة بين الذهب بالذهب، والفضة بالفضة والذهب بالفضة، ولهذا جاءت الجملة بعد ذكر البيع في الجنسين في الذهب وفي الفضة، يعني: "لا تبيعوا غائباً بناجز" جاءت بع ذكر الأمرين، فالغائب بالناجز لا يجوز سواء باع الإنسان ذهباً بذهب أو فضة بفضة أو ذهباً بفضة، لا يجوز التأخير وهذا التأخير يسمى ربا النسيئة وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون هذا للاستثمار أو للاستغلال، فالاستثمار هو أن تكون المصلحة للطرفين، والاستغلال هو أن تكون لطرف واحد، مثال الأول: رجل أخذ ذهباً بمائة دينار من أجل أن

يكتسب بمائة الدينار التي أخذها فلا يأتي حلول الأجل إلا وقد ربح خمسين ديناراً هذا استثمار؛ لأن الطرفين كسبا، رجل مثلاً عرضت عليه سلعة بمائة دينار وهو يعرف أن هذه السلعة بع ستة أشهر تكون بمائة وخمسين، لكن ما عنده مائة دينار، فذهب إلى تاجر وقال: أعطني مائة دينار بمائة وعشرين إلى ستة أشهر فقال: خذ واشتر السلعة، وبعد مضي ستة أشهر باعها بمائة وخمسين ديناراً استفاد الطرفان، يسمى هذا في لغة العصر استثماراً؛ لأن الطرفين انتفعا، الاستغلال: يأتي إنسان فقير محتاج إلى زواج وبيت وسيارة فيذهب إلى تاجر فيقول: أنا ما عندي شيء أعطني دراهم أشتري سيارة أو أبني بيتاً أو أتزوج، مائة الدينار بمائة وعشرين، هذا يسمونه استغلالاً، والحقيقة أنه لا فرق، الكل استفاد، لكن في الصورة الأولى استفاد معطي الربا فائدة مالية، وهذا استفاد فائدة عينية أو فائدة تمتعية فالكل مستفيد. التفريق بين هذا الاستثمار والاستغلال لا وجه له، وعلى هذا فيحرم الربا سواء كان استثماراً أو استغلالاً. قال في الحديث الثاني: وعن عبادة بن الصامت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب» الباء هنا للبدل، يعني: إذا بيع الذهب أو أبدل الذهب والفضة بالفضة كذلك والشعير بالشعير والبر بالبر والتمر بالتمر والملح بالملح، هذه ستة أشياء هذه يقول إذا بيع كل صنف بمثله مثلاً بمثل كمية سواء بسواء كمية وعلى هذا فتكون الثانية توكيداً للأولى، وإنما أكدها النبي صلى الله عليه وسلم لاقتضاء الحال ذلك؛ لأن الناس قد يتهاونون في التفاضل، فأكده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «سواء بسواء يداً بيد» يعني: مقابضة تعطيه وتأخذ في الأول مثلاً بمثل سواء بسواء تحريم التفاضل يداً بيد تحريم التأخير وهو ربا النسيئة. يقول: «فإذا اختلف هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»، فإذا بعت ذهباً بفضة فبع كيف شئت، مثلاً بمثل أو زائداً بناقص، لكن بشرط أن يكون يداً بيد، وإذا بعت برا بشعير فبع كيف شئت زائداً بناقص لا مانع، لكن يداً بيد، تمراً بشعير، كذلك بع زائداً بناقص لكن يداً بيد، وكذلك الملح بعت ملحاً ببر لا بأس بالزيادة، ولكن يداً بيد، بعت ذهباً ببر كذلك لا بأس بالزيادة والنقص لكن يداً بيد، هذا مقتضى الحديث. نحن الآن بين أيدينا حديث إذا اختلف هذه الأصناف فلا بأس لكن يداً بيد، ولكن إذاً بيع الذهب بالفضة فقد دل حديث أبي سعيد أنه لا يباع منها غائب بناجز، ولكن إذا بيع ذهب بتمر أو بشعير أو ببر أو بملح أو فضة بذلك، فظاهر حديث عبادة أنه لا بد من القبض لقوله: «إذا كان يداً بيد»، لكن قد دلت السنة في موضع آخر أنه إذا كان أحد العوضين من الذهب أو الفضة فإنه لا يشترط التقابض ولا يشترط أيضاً التساوي بالطبع، وذلك فيما صح به الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلف في

مسألة: هل يلحق بالأصناف التي فيها الربا غيرها؟ خصص فيه الرسول ستة أشياء فهل يلحق بها غيرها؟

شيء فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم"، ويسلفون في الثمار يعني: يعطون دراهم إلى الثمرة الآتية، وهذا بيع تمر بدراهم مع تأخر القبض، وعلى هذا يكون هذا الحديث مخصوصاً بحديث ابن عباس رضي الله عنه في السلم، ولهذا قال الفقهاء في هذا الحكم: ليس أحدهما نقداً، يحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة، ربا الفضل ليس أحدهما نقداً، فإن كان أحدهما نقداً فإنه يجوز النساء، أما التفاضل فمعلوم. مسألة: هل يلحق بالأصناف التي فيها الربا غيرها؟ خصص فيه الرسول ستة أشياء فهل يلحق بها غيرها؟ قال بعض العلماء: لا يلحق بها غيرها؛ لأن التخصيص والتعيين يدل على اختصاص الحكم بما ذكر؛ ولأن الله تعالى قال: {وأحل الله البيع وحرم الربوا} [البقرة: 275]. فأطلق، فإذا كان لدينا آية يقول الله فيها وأحل الله البيع على سبيل العموم فإنه يجب ألا تضيق على عباد لله، وأن تجعل التحريم خاصاً بما جاءت به السنة في هذه الأصناف الستة فقط وما سواها لا نقيسه عليها، وإلى هذا ذهب الظاهرية وهم- كما تعلمون- أهل ظاهر يأخذون بالظاهر ولا يلتفتون إلى المعنى، هذه جادة مذهبهم، مع أنهم أحياناً يلتفتون إلى المعاني، وقد ذكر إلى أن أول من ذهب إلى هذا القول قتادة بن دعامة، وذهب بعض العلماء إلى اختصاص الحكم بهذه الأشياء الستة من أهل النظر، يعني: لا من أهل الظاهر، وعللوا ما ذهبوا إليه بأن العلماء اختلفوا في العلة- علة الربا-، واختلافهم في العلة يدل على أن العلة مضمونة؛ لأن العلة المتعينة لا يختلف الناس فيها غالباً، فلما اختلفوا فيها إلا على أنها مضمونة وإذا كانت مضمونة فلا يعمل بها، وعلى هذا فنقتصر على هذه الأصناف الستة لا من أجل أننا لا نعقل العلة أو أن ليس لها علة، لكن لأن العلة ليست معينة لدينا، لا بالكتاب ولا بالسنة ولا بالإجماع، فالناس مختلفون فيها مضطربون، إذن نلغي هذه الأقوال كلها ونقول: نقتصر على ما جاء به النص والباقي على الحل، وإلى هذا ذهب بعض أصحاب الإمام أحمد كابن عقيل من كبار أتباع الإمام أحمد رحمه الله وقال بعض أهل العلم: بل يلحق بهذه الأصناف الستة ما سواها في العلة، ثم اختلفوا على ذلك ما هي العلة؟ فقيل: العلة في الذهب والفضة أنهما موزونان، لأن الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يتبايعون في الذهب والفضة بالوزن وأحياناً بالعد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمس أوراقٍ صدقة» هذا وزن، وفي حديث أنس بن مالك في الكتاب الذي كتبه أبو بكر رضي الله عنه في الصدقات: "في الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم يكن إلا عشرون ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها"

هذا عد، فقالوا: الذهب والفضة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تباع بالوزن وتباع بالعد، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «وزناً بوزن سواء بسواء»، فالعلة في الذهب والفضة هو الوزن، وعلى هذا فكل موزون فهو ربوي، الحديد ربوي، والنحاس والرصاص كله ربوي، لأن العلة هي الوزن، العلة في البعضية الكيل، قالوا: فكل مكيل فإنه ربوي سواء مطعوماً أو غير مطعوم حتى الأشنان مثلاً تغسل به الثياب يجري فيه الربا، حتى الحنة الذي تمشط به المرأة يكون فيه ربا؛ لأنه مكيل، ولا عبرة بالأكل أو الاقتيات وهذا هو المشهور من مذهب الأمام أحمد بن حنبل رحمه الله، إذن إما غير معلل أو هو معلل، والعلة: الكيل والوزن. وقال بعض العلماء: العلة في الذهب والفضة الوزن، والعلة فيما عداهما الطعام، يعني: مطعوم يؤكل، وعلى هذا سيجري الربا في كل ما يؤكل سواء كان مكيلاً أم غير مكيل، ولا يجري فيما لا يؤكل ولو كان مكيلاً، بناء على هذا القول الأشنان والسدر والحنة ليس فيه ربا، البرتقال والتفاح والرمان فيه ربا؛ لأنه مأكول مطعوم، فالعلة الطعام الرز البر والشعير فيه ربا على القولين جميعاً؛ لأنه مكيل ومطعوم. القول الرابع يقول: العلة الاقتيات أنه مطعوم، ويقتات يعني: يتخذ قوتاً يأكله الناس على أنه قوت لا على أنه تفكه، وعلى هذا فنقول: إذا وجد شيء يكال أو يوزن لكنه ليس قوتاً للناس فإنه ليس فيه ربا، وهذا مذهب مالك رحمه الله وإليه يميل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أن العلة هي القوتمع الكيل فإذا لم يوجد إحدى العلتين فإنه ليس فيه ربا. وإذا دققت النظر وجدت أن الأشياء الأربعة التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم البر والشعير والتمر والملح وجدت أنها مكيلة لا شك وأنها مطعومة يقتاتها الناس. والقول الخامس: أن العلة في الذهب والفضة الثمينة أنها ثمن الأشياء وقيمة الأشياء والعلة في الأربعة أنها قوت للناس يقتاتونها وليست من الكماليات، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن على ذلك القول يجري الربا في كل ما كان أثماناً سواء كان من الذهب أو من الفضة أو من الحديد أو من الخشب أو من الورق أو من أي شيء ما دام جعل ثمناً للأشياء ففيه الربا، وما كان قوتاً ففيه الربا، وما ليس بقوت فلا ربا فيه، وما ليس بثمن فلا ربا فيه، وهذا القول لا بأس به لكنه يرد عليه أنه ثبتت السنة بجريان الربا في الذهب وليس بثمن ويعني: وهو

ليس بثمن كما في حديث فضالة بن عبيد في شراء القلادة من الذهب بأثني عشر ديناراً فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع حتى تفصل؛ لأن فيها خرزاً. والظاهر لي- والله أعلم- أن نقول: العلة في الذهب والفضة أنها ذهب وفضة فيجرى الربا في الذهب والفضة مطلقاً كما جاء به النص سواء كان ثمناً أو كان حلياً أو تبرا أو غير ذلك يجري في الربا بكل حال، أما إذا كان هناك أثمان من غير الذهب والفضة فإنها تلحق به إلحاقاً في أن العلة هي الثمينة؛ يعني: فيه شبهة قوية، ولأننا لو لم نلحق هذه الأثمان بالذهب والفضة لأرتفع الربا غالباً في الوقت الحاضر؛ لأن الناس الآن لا يتعاملون إلا بالأوراق النقدية، وإذا قلنا: ليس فيها ربا معناه: أن هذه البنوك ليست تتعامل بشيء محرم لأنه ليس في الورق ربا، والفقهاء- رحمهم الله- قالوا: إذا كان النقد من الذهب والفضة فيه الربا ربا الفضل وربا النسيئة، وأما إذا كان النقد غير ذهب ولا فضة ففيه ربا النسيئة دون ربا الفضل فقالوا: ليس في الفلوس ربا إلا أن تكون نافقة يعني: دارجة متداولة ففيها ربا النسيئة دون ربا الفضل، وبعضهم عبر بقوله: لا ربا فيها مطلقا، لكن القول الأول أنه يجري فيها ربا النسيئة دون ربا الفضل هو الصحيح، وعلى هذا فالأوراق النقدية لا يجري فيها ربا النسيئة، قول متوسط، ليس كقول من يقول: إنها عروض مطلقاً ليس فيها ربا وليس فيها زكاة، وليس كقول من يقول: إنها كالذهب والفضة فيها ربا فضل ونسيئة، بل هذا وسط بين القولين أنه يجري فيها ربا النسيئة دون ربا الفضل، يعني: لا يجوز أن أصرف نقداً بنقد غائباً بناجز، ولكن يجوز أن أصرف عشرة بثمانية ناجزاً يداً بيد أو أكثر أو أقل؛ لأن هذه الأشياء ليس لها قيمة ذاتية، إنما قيمتها تبع للعرض والطلب أو سبب لما تقرره الدولة أو الحكومة، فمثلاً عندنا قدرت الحكومة أن الورقة ذات الريال الواحد تقدر بريال واحد من المعدن ولو شاءت لقالت: تقدر بريالين كالنصف والربع/ فهذا تقويم نظامي فقط، وعلى هذا فيمكن أن يكون خاضعاً للعرض والطلب، فإذا رخصت الأوراق صار صرف هذه العملة النقدية أرخص، وإذا غلت صارت أغلى، وأنا أذكر أن الناس كانوا يفضلون الورق النقدي على الريال الفضي، والآن الريال الفضي يساوي عشرة ريالات ورقية. فأصبح الأقوال في هذه المسألة: أن العلة في الذهب والفضة كونها ذهباً وفضة، يعني: هذا الجنس يجري فيه الربا على كل حال، ثم لشبهة علة الثمنية أن أقول: ما جعل ثمناً في الأشياء وقيمة فإنه يجري فيه ربا النسيئة دون ربا الفضل؛ لان الأصل الحل: {وأحل الله البيع} حتى نتيقن أنه يدخل في الأموال الربوية، ولولا الفساد الكبير لقلنا: إنه لا يجري فيه لا ربا الفضل ولا ربا النسيئة، لكن لا شك أن هذا القول يترتب عليه فساد عظيم، يترتب عليه حل، ويترتب

سقوط الزكاة عن الأغنياء في الوقت الحاضر؛ لان أموال الناس الآن أوراق، فلو قلنا بأنها عروض مطلقا- كما قال به بعض الفقهاء- لسقط الربا فيها، ولسقطت الزكاة، ولحصل فساد كبير، فالحاصل: أن القول الوسط أننا نلحقها بالثمينة في وجوب الزكاة وفي ربا النسيئة فقط، وهذا هو اختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي، بل إنه رحمه الله يجيز تأخير القبض إذا تؤجل إذا لم يكن فيه أجل؛ يعني: أنه تصرف عشرة دراهم سعودية بدينار كويتي مثلاً مع تأخر القبض بشرط ألا يكون التأخير مؤجلاً ولكن الذي أرى أنه يجب التقاضي قبل التفرق ولا يجوز التفرق قبل القبض. ما تقول في رجل أبدل برتقالة مغربية ببرتقالتين مصريتين؟ على قول من يقول: إن العلة الطعم فإنه لا يجوز، وعلى قول من يقول: إن العلة في الاقتيات فإنه يجوز؛ لأن هذا ليست بقوت، وكذلك من يرى أن العلة الكيل فإنه يجوز؛ لأنه لا يكال. ما تقول فيمن أبدل صاعا من السدر بصاعين من السدر؟ من قال: إن العلة في الكيل فإنه لا يجوز؛ لأنه مكيل ومن قال: إن العلة الطعم فإنه يجوز. على كل حال: الآن فهم الحكم، الأحكام هذه تبني على اختلاف العلماء- رحمهم الله- في علة الربا. من فوائد الحديث الأول حديث ابن مسعود: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بتصنيف الكلام وتنويعه حيث قال: «الربا ثلاث وسبعون باباً». ومن فوائده: أن الشارع قد ينص على الشيء مجملاً ويكل العلم بتفصيله إلى الناس ليتتبعوه، وهذا فيما يمكن أن يدرك بالتتبع؛ لأنه قال: "ثلاث وسبعون باباً"، ولم يبينها، لكن العلماء يتتبعونها حتى يعرفون، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعاً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة»، ولم يبينها لكنها مبينة بالتتبع تعرف وإنما قلت لكنها مبينة لئلا يرد علينا مذهب أهل التعطيل في صفات الله كالذين يقولون: إن الله أراد بها معنى غير ظاهرها ووكل علمه إلى الناس ليدركوه بعقولهم، فإن هذا قول باطل وليس مثل مسألتنا؛ لان نصوص الصفات بينه واضحة لا تحتاج إلى تحريف. ومن فوائد الحديث: أن الربا من أكبر الكبائر؛ لأنه جعل أيسر هذه الأبواب مثل أن ينكح الرجل أمه.

ومن فوائد الحديث: أن استطالة الإنسان في عرض المسلم من أربى الربا؛ لانه لا يكلفه شيئاً فيزداد في استطالته في عرضه فيكسب آثاماً كثيرة وهو لا يدري لقوله: "أربى الربا"، وعلى هذا فيكون اسم التفضيل بالنسبة للكمية لا للكيفية. ومن فوائد الحديث: التحذير من الربا؛ لان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أيسره مثل أن ينكح الرجل أمه. ومن فوائده: التحذير من أعراض المسلمين؛ حيث قال: «إن أربى الربا عرض الرجل المسلم». وأما حديث أبي سعيد ففيه دليل على: تحريم بيع الذهب بالذهب متفاضلاً، ويؤخذ من عمومه: أنه لا فرق بين كون أحد العوضين أجود من الآخر؛ لعموم قوله": "لا تبيعوا الذهب بالذهب"، أو مصنوعاً والآخر غير مصنوع لعموم قوله: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل". ومن فوائد الحديث: تحريم بيع الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، ويقال فيها ما قيل في الذهب. ومن فوائد الحديث: أنه يحرم تأخير القبض فيما إذا بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والذهب بالفضة، ولهذا أعقب الجملة فقال: "لا تبيعوا منها غائباً بناجز". ومن فوائد الحديث: كمال بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث إنه- عليه الصلاة والسلام- فصل تفصيلاً كاملاً في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة. وحديث عبادة بن الصامت فيه دليل على: أن هذه الأصناف الستة يجري فيها الربا، وأن الربا فيها نوعان: ربا فضل وربا نسيئة، فغن بيع الشيء بجنسه اجتمع في ربا الفضل وربا النسيئة، وإن بيع بغير جنسه ففيه ربا النسيئة فقط، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «مثلاً سواء بسواء يداً بيد» هذا فيه التماثل والتقابض، فإذا اختلفت هذه الأصناف "فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" هذا فيه ربا النسيئة إذا اختلف الجنس، وظاهر الحديث شمول هذا الحكم فيما إذا باع تمراً بدراهم أو بدراهم أو شعيراً بدراهم أو ملحاً بدراهم، لكننا ذكرنا في أثناء الشرح أن السنة قد دلت على عدم وجوب التقابض فيما إذا كان أحدهما نقداً، وما هي السنة التي بينت ذلك؟ حديث ابن عباس: «كان الناس يسلفون الثمار السنة والسنتين فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك». [نكمل حديث أبي هريرة] وقوله في حديث أبي هريرة: "فمن زاد أو أستزاد فهو ربا". زاد شيئاً بدون طلب، "استزاد": طلب الزيادة، فالذي يزيد ويعطي الزيادة مربي، والذي يطلب الزيادة أيضاً مربي، ومعلوم أن الزيادة فيها باذل ومبذول له، فالمبذول له هو المستزيد، والباذل هو الزائد، وكلاهما واقعان في الربا، أما الآخذ للزيادة فوقوعه في الربا ظاهر، وأما الثاني فلأنه

معين على ذلك وراضٍ به، ولأن هذه الزيادة نشأت من عقد واحد فكانا فيها سواء، فلهذا قال: "فمن زاد أو استزاد فهو ربا". وهذا الحديث وحديث عبادة وحديث أبي سعيد الأول يغني عنهما حديث عبادة؛ لانه أشمل واوسع مدلولاً، وفيه ذكر النوعين من الربا ربا: الفضل وربا النسيئة، يعني: لو أن المستدل الذي أراد أن يتكلم على تحريم الربا اقتصر في الاستدلال على حديث عبادة لكان كافياً، لكن أتى المؤلف بهذين الحديثين من باب توكيد المسألة، وأن الأمر لم يأت من طريق واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل جاء من عدة طرق. في هذا الحديث دليل على ما سبق من وجوب التساوي في بيع الذهب بعضه ببعض، ووجوب التساوي في بيع الفضة بعضها ببعض، وأن المعيار لابد أن يكون هو الوزن، وان الآخذ للربا والمعطي كلاهما واقعان في الربا. 800 - وعن أبي سعيد ألخدري وأبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله «استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً». وقال في الميزان مثل ذلك. متفق عليه. - ولمسلم: "وكذلك الميزان". قوله: "استعمل رجلاً"، هذا الرجل اسمه سواد بن غزيه، وإبهام الرجل أو بيان اسمه الغالب أنه لا يتعلق به حكم ويكون خفاء اسمه من الشيء الذي إن جهله الإنسان لا يضر وإن علمه فهو زيادة خير لكن ليس بلازم في الغالب ولا يترتب عليه حكم يقول: "استعمل على خيبر" أي جعله وكيلاً في قبض ما يستحقه المسلمون منها "فجاء بتمر جنيب" التمر الجنيب هو الطيب الذي يكون قاسياً شديداً لأن التمور تختلف منها ما يكون ليناً ليس فيه شحم ومنها ما يكون صلباً قوياً شديداً طيباً فالثاني يسمى الجييب يعني: التمر الطيب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أكل تمر خيبر هكذا؟ » يسأل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم عن هذه الأشياء ولا يعلم عن كل تمر خيبر فسأل فقال: "لا والله يا رسول الله" يعني: ليس كل تمر خيبر هكذا بل فيه التمر الطيب وفيه التمر الرديء "وإنا لنأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة" قوله بالصاعين أي من تمر خيبر وبالثلاثة أي من تمر خيبر أيهما أرخص الصفقة الأولى أو الثانية الصاع بالصاعين يعني: المائة بالمائتين، الصاعين بالثلاثة يعني المائتين بخمسمائة، يعني ثلاثة أخماس هذا نسبة الثلاثمائة، إلى الخمسمائة ثلاثة أخماس وذلك نسبته النصف فأيهما أكثر؟

لو أخذنا بالأول الصاع بالصاعين كم يكون الصاعين؟ أربعة، وإذا كان الصاعين خمسة صار الصاعين أربعة أصواع ونصف صار الأخير أرخص، يعني: التمر الرديء أرخص يأخذ الصاع بصاع ونصف، يعني الطيب أرخص بالنسبة للذي أخذ صاع بصاعين، وبالعكس إذا أخذ الصاعين بالثلاثة، المهم أنهم كانوا يأخذون إما المائة مائة أو المائتين ثلاثمائة، يعني: معناه أرخص من الأول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل هذه " "لا" ناهية يعني: لا تفعل هذا الفعل فتشتري شيئاً أقل بشيء أكثر من التمر ثم أرشده فقال: "بع الجمع بالدراهم" لما منعه من صورة الربا أرشده إلى صورة الحلال فقال: "بع الجمع بالدراهم" الجمع هو: التمر المجمع المخلوط، والغالب أن التمر المجمع المخلوط أنه يكون رديئاً؛ لأنه يكون من الأنواع الرديئة ويخلط جميعاً ولا يعتني به ما ينقي ولا يهذب، "ثم ابتع بالدراهم جنيباً" يعني: اشتر تمراً طيباً. وفي لفظ لمسلم قال: "ردوه" يعني: ردوا هذا التمر، وهذا اللفظ فيه فائدة عظيمة وهي أن العقد وإن كان صاحبه جاهلاً إذا كان محرماً يجب رده وإبطاله؛ لأن في إنقاذه معصية لله ورسوله واعتباراً لما ألقاه الشرع. وقال: "في الميزان مثل ذلك" ما المراد بالميزان؟ قال بعض العلماء: المراد به: كل ما يوزن، وقال بعض العلماء: المراد بالميزان: الذهب والفضة لأنها توزن، يعني قال بالذهب والفضة مثل ما قال في بيع التمر بالتمر. فإذا قال قائل: ما مناسبة ذكر الميزان في هذه الصورة؟ فالجواب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من حسن تعليمه إذا ذكر الشيء ذكر ما يمكن أن يحتاج إليه السائل وغن لم يسأل عنه، وهذا من الجود بالعلم، كما لو سألك فقير قال: أعطني قميصاً، فأعطيته قميصاً وعمامة، فغن هذا من الكرم بالمال والزيادة على سؤال السائل، ونظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، مع انه لم يسأل عن الميتة، لكن من ركب البحر سيحتاج إلى الأكل، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يحتاج إليه؛ لان ميتته طاهرة، هذا الحديث كما ترون أصله بيع تمر بتمر متقابلاً هذا أصله، والرسول صلى الله عليه وسلم حكم هذه المسألة بياناً شافياً كاملاً. فيستفاد من الحديث: جواز استعمال الرجل الواحد في قبض الزكاة ومحاسبة الشركاء، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، ومن المعلوم أن خيبر ثمارها شطرها للمسلمين والشطر الثاني للهيود على سبيل المساقاة، ولكن يشترط في العامل أن يكون ذا خبرة وأن يكون أميناً، وهذان الشرطان شرط في كل معاملة أسندت إلى شخص أن يكون الشخص ذا خبرة وأن يكون أميناً، وقد أشار الله إلى ذلك في كتابه، فقال عز وجل عن العفريت من الجن الذي قال لسليمان: {أنا أتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوى} [النمل: 39]. وهذه الخبرة {أمين} وهذه

الأمانة، وقالت ابنة شعيب صاحب مدين: {يا أبت استئجره -يعني: موسى- إن خير من استئجرت القوى الأمين} [القصاص: 26]. فلابد فيمن استعمل على عمل أن يكون ذا خبرة وأن يكون أمينا. ومن فوائده: أن اختلاف الجنس في الجودة والرداءة لا يؤثر في منع الربا، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رواية أخرى: "عين الربا" يعني: هذا عين الربا مع أن القيمة مختلفة، فإن الرديء لا يساوي في القيمة الجيد ومع ذلك منع الرسول صلى الله عليه وسلم الفضل بينهما بين التمرين؛ لأنهما من جنس واحد. ومن فوائد الحديث: أن اختلاف النوع لا يؤثر أي في منع الربا، والفرق بين النوع والجنس؟ التمر كله جنس، لكنه أنواع: سكري، شقراء، أم الحمام، أنواع كثيرة، لكن ثلاثة أنواع: الأول أحسن، وعلى هذا فلا يجوز أن أبيع صاعا من السكري بصاعين من الشقر وإن كان النوع مختلفا، بدليل أن "الجمع" تمر مخلط مختلف الأنواع، ومع ذلك منع الرسول صلى الله عليه وسلم بيعه متفاضلا بالجنيب الذي لم يخلط معه شيء، فدل هذا على أن اختلاف النوع لت يؤثر في منع الربا. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز إمضاء العقد المشتمل على محرم؛ بل الواجب أن يعاد هذا العقد وأن يفسخ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: "ردوه" وهذا يدل على بطلان العقد وإن كان الإنسان جاهلا. فإن قال قائل: أليس الله تعالى قال في كتابه: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. فالجواب: بلى قال ذلك، ونحن لا نقول: إننا نؤاخذك بخطئك أو نسيناك، بل أنت معذور وليس عليك إثم، لكن إمضاء العقد الذي أبطله الشرع بعد أن تعلم أنه باطل لابد أن تبطله لو أنك تعمدت عن علم وذكر لكنت آثما مع وجوب الرد، أما الآن فلست بآثم لكن يجب الرد. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان المفتي إذا ذكر المنع أن يذكر للناب باب الحل حتى إذا أغلق الباب من جهة انفتح من جهة أخرى، وجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشده إلى هذا لما قال هذا ممنوع أرشده فقال: "بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا"، وهكذا ينبغي للمفتي وللعالم ولكل من يتكلم في أمر الشرع إذا ذكر للناس الباب الممنوع أن يذكر لهم الباب الجائز حتى تمشي أحوالهم؛ لأن الناس لابد أن يتعاقدوا ويتعاملوا، ومن هذا لو أن الإنسان ذكر للناس بدعة يتعبدون لله وقال لهم: هذه بدعة ينبغي أن يفتح لهم باب سنة، فمثلا يقول: يغني عنها كذا وكذا، مثلا إذا قال: بدعة المولد وما دمنا الآن في شهر ربيع الأول الليلة الخامسة عشرة فإننا قريب عهد بمن يختلفون بالليلة الثانية عشر من هذا الشهر بما يقولونه من صلوات على النبي صلى الله عليه وسلم إذا قلنا لهم: إن هذا بدعة وليس بسنة لا عن الرسول ولا

عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين نقول: بدل من هذا الذي تدعون أن فيه ذكرا للرسول صلى الله عليه وسلم إما أن نقول لكم: إن ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فرض كفاية على المسلمين كل يوم خمس مرات عند حلول الصلوات في الأذان أشهد أن محمدا رسول الله على رءوس الأشهاد، وإن ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في كل عبادة فإن الإنسان الفطين الكيس يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليس باسمه ولكن يذكر بالاتباع كل عبادة فيها من الإخلاص لله والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنت حين تستحضر المتابعة سيكون في قلبك ذكر للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم في الصلوات الخمس السلام عليك أيها النبي فرض إما أن تكون فرضا مرتين في الصلاة الخمس السلام عليك أيها النبي فرض إما أن تكون فرضا مرتين في الصلاة أو مرة واحدة، فإذا ذكرنا لهم هذه البدعة نقول: عندكم سنن كثيرة، فالمهم أن الإنسان الذي يتصدى الناس بالإفتاء أو غيره إذا ذكر لهم الشيء الممنوع فليذكر لهم الشيء الذي يحل محله، وهذا كما أنه مما وجه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه مما وجه إليه الخالق عز وحل فقال الله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} [البقرة: 104]. لما نهى عن هذه اللفظة {راعنا} [البقرة: 104] فتح لهم لفظ آخر فقال: {انظرنا} [البقرة: 104] حتى يستغنوا بما أباح الله عما حرم الله ومن ذلك قول لوط -عليه الصلاة والسلام- لقومه: {أتأتوان الذكران من العالمين وتذرونا ما خلق لكم من أزواجكم} [الشعراء: 166]. فالحاصل: أن هذه من الأشياء التي في كتابه ووجهت إليها المرسل، بمعنى: أنك إذا سددت بابا على الناس فافتح لهم أبواب الحل. ومن فوائد الحديث: أن بعض العلماء استدل به على جواز العينة أو على جواز الحيلة كما يقولون: بع التمر بالدراهم إذا بعته على زيد بدراهم واشتريت به -بالدراهم- تمرا طيبا فيقولون: إن هذا يدل على جواز التحيل على الربا؛ كيف؟ لأنك بدلا من أن تقول: خذ هذه التمر الرديء بعشرة ريالات وأعطني صاعا بعشرة ريالات، وهذه حيلة، يعني: تمر دخلت بينهما دراهم غير مقبوضة، ولكن هذا الاستدلال ليس بصحيح؛ لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيبا» مطلق، ما قال: اشتر ممن تبيع عليه ولا اشتر من غيره، فهو مطلق، والمطلق يقيد بما دلت عليه السنة طريق آخر، فإن السنة دلت على تحريم الحيل كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها حملوه، يعني: أذابوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه»، فدعا عليهم لكونهم تحيلوا لما حرمت عليهم الشحوم قالوا: لا نأكلها نذوبها ثم نبيعها ثم نأخذ الدراهم. وقال صاحب كتاب "الحيل" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود

فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل»، ومن المعلوم أن الذي يحرم صاعا بصاعين من التمر تأبى حكمته أن يحل لك أن تقول بعتك هذين الصاعين بعشرة دراهم فأعطني بها صاعا من التمر الطيب! ! هذا تلاعب، فليس في الحديث دليل على ما ذهبوا إليه، لأنه مطلق، والمطلق يجب أن يقيد بما دلت عليه النصوص من تحريم الحيلة. ومن فوائد الحديث: جواز اختيار الأجود من المأكولات وأنه لا ينافي الزهد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الرجل على اختيار التمر الجيد ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل: لا، فاختيار الأجود من الأنواع لا شك أنه جائز لهذا الحديث، ولم يناف الزهد؛ لأن الزهد حقيقة ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يضر في الآخرة، فالزهد يترك كل شيء لا ينفعه في الآخرة. فإن قال قائل: إذا قلنا: إن اختيار الأجود من المأكولات لا ينافي الزهد فهل يمكن أن نحوله إلى زهد؟ فالجواب: نعم، إذا صد الإنسان التعبد بهذا المأكول الطيب لمنة الله به عليم وليعرف منة الله بذلك صار عبادة فصار نافعا في الآخرة. ومن فوائد هذا الحديث: جريان الربا في الذهب والفضة إذا خصصنا لفظ "الميزان" بهما أو في كل موزون إذا قلنا بالعموم، وأنه لا يجوز التفاضل. ومن فوائد الحديث: الرد على الذين قالوا بجواز الربا إذا لم يشتمل على ظلم، حيث عللوا تحريمه بأنه ظلم وقالوا: إذا انتفت العلة انتفى الحكم وبنوا على هذا جواز الربا للاستثمار لا للاستغلال من أين يؤخذ؟ من أن هذه المعاملة أخذ منه صاع طيب ورد عليه صاعان رديئان، وكذلك باذل الزيادة لم يظلم، لأنه يرى أن أخذ الصاع الطيب بالصاعين كسب له وليس فيه ظلم له، فدل هذا على أن الربا ممنوع سواء وجدت العلة التي من أجلها ثبت الحكم أم لم توجد، وهذا الحديث لا شك أنه يدمغ هؤلاء الذين قالوا بالجواز إذا كان الربا من أجل الاستثمار وتنمبة الاقتصاد كما زعموا، فنقول: هذا الحديث ليس فيه ظلم بل فيه اختيار. ومن فوائد الحديث: أن الله سبحانه إذا حرم على عباده شيئا فتح لهم بابا للحل، بل إننا نقول: إن أبواب الحل أكثر من أبواب المنع أخذا من قوله -سبحانه وتعالى- فيما كتب عنده: "إن رحمتي سبقت غضبي"، فالغضب يترتب عليه المنع كما حرم الله على الذين هادوا بسبب ظلمهم: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [النساء: 160]. والرحمة سبب السعة والحلم، وباب المباحات في المعاملات أكثر من باب المحرمات.

بيع التمر بالتمر وشروطه

بيع التمر بالتمر وشروطه: 801 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله عن بيع الصبرة من التمر التي لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر». رواه مسلم. "النهي": طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة وهي المضارع المقرون بلا الناهية، فقولنا: "طلب الكف" خرج به الأمر وما ليس ينهي مما أبيح، وقولنا: "على سبيل الاستعلاء" خرج به الدعاء والالتماس ونحوهما، وقولنا: "بصيغة مخصوصة" خرج به الأمر المفيد للكلف أو الأمر الذي يفيد طلب الكف مثل: دع، واترك، واجتنب، لأن هذا يفيد معنى النهي، لكنه بلفظ الأمر فلا يسمى نهيا اصطلاحا. و"الصبرة" الكومة من التمر، وسميت صبرة لأنها محبوسة مجموع بعضها إلى بعض مثل: أن يكون عند الإنسان كومة من التمر، يقول: "التي لا يعلم مكيلها" يعني: لا يعلم كم كيلها، "بالكيل المسمى" أي: المعلوم من التمر، ووجه النهي أنه يشترط في بيع التمر بالتمر المساواة في الكيل، فهنا لا تعلم المساواة؛ لأن هذه صبرة غير معلومة، والعوض تمر معلوم، ولكن المعلوم من المجهول لا يجعل المجهول معلوما؛ فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع البصرة بالتمر المعلوم كيله؛ لأن التساوي فيه غير معلوم. فإن قال قائل: أرأيتم لو خرصه وقال: إنها تساوي مائة صاع ثم باعها صاع؟ فالجواب: لا يفيد ذلك شيئا ولا يفيد الحل؛ لأن الخرص ظن وتخمين لا تعلم به المساواة. فإن قال قائل: أليست السنة قد جاءت بجواز بيع العرايا؛ وهو بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر المعلوم بخرص الرطب؟ فالجواب: بلى، ولكن هناك فرق بين العرايا وهذه الصبرة؛ لأن العرايا فيها رطب، والرطب يعتبر أكله تفكها في وقته، والإنسان في حاجة إلى التفكه في وقت الرطب بالرطب، فمن أجل هذه الحاجة أباح الشارع العرايا، أما تمر بتمر صبرة مكومة فليس فيه حاجة، فلهذا يكون الفرق بينها وبين العرايا ظاهرا. ففي هذا الحديث من الفوائد: أولا: تحريم بيع الصبرة من التمر بكيل معلوم منه؛ لأن الأصل في النعي التحريم. ومن فوائده: أنه لة جرى العقد على ذلك فالعقد فاسد؛ لأنه منهي عنه لعينه، والشيء إذا نهي عنه لعينه فإنه لا يصح؛ لأن تصحيحنا إياه مع نهي الشارع عنه مضادة لحكم الله عز وجل فإن نهي الشارع عنه يقتضي البعد وإحباط هذا الشيء، فإذا صححناه فمقتضى ذلك الإذن بممارسته والعمل به.

ومن فوائد الحديث: التشديد في مسألة الربا، حيث إن ما يشترط فيه التماثل، فلابد أن يكون تماثله معلوما. ومن فوائد الحديث: أنه إذا كان الصبرة معلومة الكيل فباعها بتمر معلوم الكيل فلا بأس بذلك، وظاهر الحديث -أي: ظاهر هذا المفهوم - أنه لا يشترط إعادة كيل الصبرة بعد العقد؛ لأن الأصل بقاؤها على ما هي عليه، وإن كان احتمال النقص أو الزيادة وارداً لكن الأصل بقاؤها على ما كانت عليه، نعم لو فرض أن كيلها كان سابقا بزمن يمكن أن تتغير فيه فإنه لابد أن يعاد كيلها. من أين نأخذ جواز بيع الصبرة بالتمر المعلوم كيله إذا كانت معلومة كيله؟ من قوله: "التي لا يعلم مكيلها"، فإنه يؤخذ منه: أنه إن كان يعلم مكيليها فلا بأس، ولا حاجة إلى إعادة الكيل، خلافا لبعض أهل العلم الذين قالوا: لابد من الكيل بعد العقد؛ لأنه يحتمل أن تكون اختلفت، فإت التمر إذا ضمر مثلا نقص عن الكيل الأول، فنقول: نعم إذا تقدم الكيل بزمن يمكن فيه التغير وجب إعادة كيله وإلا فلا. ومن فوائد الحديث: جواز قبض المكيل بالكيل الحاصل قبل العقد إذا لم يمض زمن يمكن أن يتغير، يعني مثلا: لو اشتريت منك طعاما كيلا بدراهم فإنه لا يجوز أن أبيعه حتى - أكيله، هكذا جاءت السنة، لكن إذا كان البائع قد كاله أمامي قبل العقد وعرفت أنه لم يتغير فإنه يجوز الاعتماد على الكيل الأول، والدليل على هذا ظاهر هذا الحديث، فإن ظاهره أنه إن كانت الصبرة معلومة الكيل فلا حاجة إلى إعادة الكيل، كذلك الطعام الذي اشتريته مكايلة وقد كاله البائع بزمن لم يتغير فيه لا بأس أن أقبضه بناء على الكيل الأول. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز بيه صبرتين من التمر بعضهما ببعض؛ لماذا؟ لأن هذا شبه جهالة مما إذا كان أحدهما معلوما إلا إذا علمنا كيلهما بزمن لا يتغير فيه التمر فلا بأس. 802 - وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال: إني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الطعام بالطعام مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير». رواه مسلم. هذه حكاية حال ماضية بالفعل المضارع الدال على الحال، وأفاد ذكر التعبير هكذا الإشارة إلى أن يتصور الأمر وكأنه الآن تأكيد لضبطه إياه، وإلا فممن الممكن أن يقول: "إني سمعت"، ومن المعلوم لنا جميعا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن دائما يتكلم بهذا وهذا يسمعه دائما، لكن سمعه دائما، لكن سمعه مرة، وإنما قال: "كنت أسمع" تحقيقا لضبطه لهذا السماع وكأنه حاضر الآن. يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل" يعني: في القدر ليس في الصفة؛ لأنه في الصفة لا

يجوز أن أبيع صاعاً طبياً بصاعين طيبين، زلا يمكن أن أبيع صاعاً طيباً بصاع طيب من جنس واحد؛ لأن هذا عبث، لكن المراد بقوله: "مثلاً بمثل" في المقدار، وقد سبق لنا الاستشهاد بمجيء المثل بمعنى المقدار في قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12]. قال: "وكان طعامنا يومئذ الشعير"، في النسخة التي عندي هكذا بالنصب على أن طعام خبر مقدم، والتقدير: وكان الشعير طعامنا يومئذٍ، وفائدة تقديم الخبر: الحصر، يعني: كأنه يقول: ليس لنا طعام إلا الشعير، ويجوز أن يقال: "وكان طعامنا يومئذ الشعير"، يعني: الإخبار عن طعامهم بأنه الشعير لا عن الشعير بأنه طعامهم، لكن صح في البخاري من حديث أبي سعيد الخدري -في زكاة الفطر- قال: "كنا نخرجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام، وكان طعامنا الشعير والتمر والزبيب والأقط"، والجمع بينهما إما أن يقال باختلاف الأحوال، فأحياناً لا يوجد في الغالب إلا الشعير، وقد توجد الأصناف الأربعة، وإما أن يقال بأن الأصناف كلها موجودة ولكن أكثرها الشعير وهذا هو الأقرب. على كل حال: هذا الحديث يدل على أن بيع الشعير بالشعير لابد أن يكون متماثلاً ولكن قوله: "الطعام بالطعام" قد يقال: إن في ذلك إشارة إلى علة الربا وهي: الطعم، ولكن لا شك- على هذا التقدير- أنه لا يراد به كل مطعوم، إذ لو أريد به كل مطعوم لدخل حتى الماء؛ لأن الماء عند الإطلاق يدخل في الطعام كما قال تعالى: {فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة بيده {[البقرة: 249]. ولكن المراد بالطعام: ما يطعم على أنه قوت، فإن الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يأكلون الشعير على أنه قوت؛ يعني: الذي هو مدد غذائهم، وعلى هذا فيكون في هذا الحديث إشارة إلى القول الراجح في هذه المسألة، وهو أن علة الربا في الأصناف الأربعة التي في حديث عبادة بن الصامت هو الطعم، لكن يضاف إلى ذلك الكيل؛ لأن كل الأحاديث الواردة كذلك تقدر هذا بالكيل، وعلى هذا فالطعام المكيل الذي يطعم ويقتاته الناس هو الذي يجري فيه الربا، وأما الطعام الذي لا يكال أو ما ليس بكيل فإنه لا يجري فيه الربا، مثل: الفاكهة على اختلاف أنواعها والخضروات والسدر والإشنان والحناء وما أشبهها. في هذا الحديث من الفوائد: أولاً: أن بيع الطعام بالطعام لابد أن يكون متماثلا لقوله: "مثلاً بمثل". ثانياً: بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شغف العيش، وأن طعامهم الشعير الذي في عصرنا هذا لا يمكن أن يكون طعاماً للآدمي، وفي هذا دليل على أن إمداد الناس

بيع الذهب بالذهب

بالمال والبنين لا يدل على أنهم خير القرون؛ لأنه بلا شك خير القرون هم الصحابة ومع هذا فهذه حالهم في عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد هذا الحديث: جواز إخبار الإنسان عن نفسه وإن كان الإخبار يدل على البؤس؛ لقوله: "وكان طعامنا الشعير"، والإنسان إذا أخبر بما يفيد البؤس عن نفسه فلا يخلو إما أن يكون المقصود مجرد الخبر، أو يكون المقصود التسخط على القدر، أو يكون المقصود التشكي إلى المخلوق، فأما الأول فلا بأس به، وقد قال لوط عليه الصلاة والسلام للملائكة: {وقال هذا يوم عصيب} [هود: 77]. وأما الثاني الذي يقصد به التسخط ولوم القدر فإن هذا لا يجوز، قال الله تعالى في الحديث القدسي: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر مقلب الله والنهار»، وأما الثالث- وهو الذي يقصد به التشكي إلى المخلوق- فهذا أيضاً لا يجوز؛ لأن المخلوق لا يرحمك، والله يرحمك، ولهذا قيل: [الكامل] وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم وهذا صحيح، والإنسان لا يجوز له أن يشكو الخالق إلى أحد، فكيف إذا شكاه إلى مخلوق ضعيف؟ هذا المخلوق لو أصيب بمثل مصيبتك لا يستطيع أن يزيل عن نفسه ذلك. بيع الذهب بالذهب: 803 - وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: «اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل». رواه مسلمٌ. قوله: "يوم خيبر" يعني: يوم فتح خيبر، وكانت خيبر حصوناً ومزارع لليهود تقع في الشمال الغربي من المدينة على بعد نحو مائة ميل، وقد فتحها النبي صلى الله عليه وسلم في عام ستة من الهجرة، ولما فتحها طلب منه اليهود أن يبقيهم عمالاً فيها لأنهم أهل حرس وزرع، على أن يكون لهم الشطر وللنبي صلى الله عليه وسلم الشر، فوافقهم على هذا؛ لأن الذين معه من المهاجرين والأنصار مشغولون معه بمصالح المسلمين من الجهاد وغيره؛ ولأن هؤلاء أهل حرس وزرع فهم أعلم بحروثهم وزروعهم، المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم غنم منها مغانم، منها الذهب، فكانت هذه القلادة مما غنم فبيعت باثني عشر ديناراً وهذه رواية مسلم. وقد اختلفت الروايات في مقدار الثمن الذي بيعت به اختلافاً كثيراً، حتى إن بعضهم ادعى أن الحديث ضعيف لاضطرابه؛ لأن اضطراب الرواة في نقل الحديث يؤدي إلى ضعفه إذا لم

يمكن الجمع ولا الترجيح؛ لأن الاضطراب يشترط فيه شرطان: ألا يمكن الجمع وألا يمكن الترجيح، فإن أمكن الجمع جمع وزال الاضطراب، وإن أمكن الترجيح أخذ بالراجح وشذ فيما سواه، ولكن الصحيح ما حققه ابن حجر رحمه الله؛ لأن الاختلاف في مثل هذا لا يضر؛ لأن الاختلاف فيه لا يعود إلى أصل الحديث؛ إذ إن أصل الحديث متفق وهو بيع القلادة بذهب، وأما الاضطراب فلا يتعلق به حكم، ونظير ذلك اختلاف الرواة في مقدار جمل جابر، فقد اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً ومع ذلك لم يعد هذا من الاضطراب؛ لأن الاختلاف ليس في أصل الحديث، أما الاختلاف في أصل الحديث- مثل أن يكون أحدهم روى النهى، والثاني رواه بلفظ الأمر مما يعود إلى أصله- فهذا نعم يحكم بالاضطراب، إذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح، والذي يهمنا صيغة العقد والمعقود عليه جنسه، أما قبضه فلا يهم. يقول: "باثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز" كما هي العادة في القلادة أن يكون فيها خرز من ذهب وخرز من خزف ونحوه، يقول: "ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً"، يعني: من الذهب، وذلك بالوزن، فكان الذهب الذي فيها يزن أكثر من اثني عشر ديناراً، ومعلوم أن بيع الذهب بالذهب لابد فيه من التساوي. يقول: "فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل" أي: تفصل من الخرز ويجعل الذهب وحده، والدنانير وحدها ثم توزن، فإذا تساوت وزناً جاز بيعها، وقوله: "لا تباع" لم يقل: لا تفعل، فيفيد أن هذا البيع يجب إبطاله وإعادته؛ لأنه بيع فاسد باطل. هذا الحديث فيه شراء جنس من الربوي بجنسه مع التفاضل، والقاعدة الشرعية في بيع الربوي بجنسه أنه لا يجوز مع التفاضل. في هذا الحديث فوائد: منها: أن ما غنم من مال الكفار فهو ملك للغانمين؛ ولذلك صح العقد عليه، فهل ما ملكوه منا ملك لهم؟ الصحيح: نعم أنه ملك لهم؛ لأنهم يأخذونه على أنه حل لهم؛ ولأن الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكسبون من المسلمين ويبيعونه تبع أموالهم، فما ملكناه من أموالهم فهو لنا، وما ملكوه من أموالنا فهو لهم، كما أن من قتلوه منا لا يضمنونه ولو أسلموا؛ لأنهم يعتقدون أن هذا حلال. ومن فوائد الحديث: أن الصنعة لا تؤثر في اشتراط التساوي إذا بيع الربوي بجنسه، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباع حتى تفصل». فإن قال قائل: الزيادة هنا في المصنوع وكلامنا إذا كانت الزيادة في غير المصنوع. فقال: إذا منع الشرع الزيادة في المصنوع فعكسه من باب أولى. ومن فوائد الحديث: ما ذهب إليه أكثر أهل العلم من أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه معه

أو معهما من غير جنسهما، مثال ذلك: باع برا وتمراً ببر هذا لا يجوز؛ لأن مع أحدهما من غير الجنس، ولأننا نقول إن الجنس هنا مساوياً للجنس الذي جعل عوضاً عنه، فالذي معه يعتبر زيادة، يعني: باع صاع بر ومعه نصف صاع تمر بصاع البر، نقول: هذا صار براً ببر ومع أحدهما زيادة وهذا لا يجوز وإن كان البر الذي معه التمر وبيع به البر أنقص من البر الذي جعل عوضا عنه، فقد بيع البر بالبر مع التفاضل وهذا أيضاً لا يجوز، فإن كان البر المفرد أطيب من البر الذي معه غيره بحيث تكون قيمة الاثنين مساوية لقيمة البر فهذا أيضاً لا يجوز؛ لأنه سبق لنا أن الوصف لا يبيح الزيادة، فإن كان المفرد الذي ليس معه شيء أكثر من الذي معه شيء لكن زيادة المفرد تقابل الشيء الذي معه -مع العوض- فهل يجوز؟ ، مثال ذلك: باع صاعين من البر بصاع من البر وصاع من التمر والقيمة سواء، هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم؛ فمنهم من قال: إنه يجوز جعل الصاع الزائد في المفرد في مقابل المشفوع في المثنى يعني: يقول هذان الصاعان بصاع من البر وصاع من التمر نجعل صاعاً من التمر في مقابل صاع من البر وصاعاً من البر في مقابل الصاع من البر، وحينئذً لا ربا، فيقول هذا القائل: إنه إذا كان في المفرد زيادة تقابل ما مع المشفوع من غير جنسه فإن ذلك جائز، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد، فيجعلون الزيادة في الجنس في مقابل المصاحب للمشفوع ويقولون: نجعل صاعاً بصاع وصاعاً من التمر بالزيادة التي مع البر، وكذلك لو باع صاع بر وتمر بصاع بر وتمر يقولون أيضاً لا بأس به؛ لأننا نجعل البر مقابل التمر والتمر مقابل البر يقولون مثلاً: رجل أتى بصاع من البر وصاع من التمر وباعهما على شخص آخر بصاع من البر وصاع من التمر يقولون: هذا أيضاً جائز؛ لأنك إن جعلت صاعاً من البر في مقابل صاع من البر وصاعاً من التمر في مقابل صاع من التمر فهذا جائز، وإن جعلت صاعاً من البر في مقابل صاع من التمر وصاعاً من التمر في الطرف الآخر في مقابل صاع البر فهذا أيضاً جائز، وهذا الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية هو الصحيح؛ لأن العلة منتفية، فإذا كان هذا الزائد الذي مع العوض المقابل له زيادة في هذا فقد بعت طعاماً بطعام مع التساوي ولا محظور في ذلك؛ لأن الكمية الزائدة في المفرد تقابل بالمشفوع مع الطرف الآخر، وهذا الحديث لا يمنع القول بذلك؛ لأن هذا الحديث فيه أن القلادة زادت على الثمن، فإذا كانت زادت على الثمن فهي ليست موضع النزاع، فإن ما دل عليه الحديث هذا ممنوع على القولين جميعاً، أما لو فرض أنها أقل من الدنانير ومنعها الرسول صلى الله عليه وسلم لكان هذا فصل للنزاع ودليل على أنه لا يجوز أن يكون العوض المفرد مقابلاً بشيئين من جنسين ولو كانت القيمة واحدة.

بيع الحيوان بالحيوان

ومن فوائد هذا الحديث: حرص الصحابة على معرفة الأحكام الشرعية؛ لأن فضالة بعد أن اشتراها ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: أن الله عز وجل حافظ دينه ومتممه، وأن الشيء إذا وقع على خلاف ما يرضاه فلابد أن يقيض الله -سبحانه وتعالى- حالاً يبين بها ما يرضي الله -عز وجل-، وجه ذلك: أن هذا ذكر ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أتم العقد وإلا لو سكت ما كان هناك شيء بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان إقرار الله يدل على رضاه به. ومن فوائد الحديث: أن ما وقع على وجه فاسد وجب ردة لقوله: "لا يباع حتى تفضل"، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الإنسان عالماً أو جاهلاً فلو عقد عقداً فاسداً وهو جاهل فإن العقد لا يصح، ولكن لا يؤاخذ الإنسان بهذا العقد إذا كان جاهلاً لقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. ومن فوائد الحديث: سد الذرائع الموصلة إلى الربا مما يدل على أن الربا أمره عظيم، وأن الشارع سد كل ذريعة تؤدي إلى الربا، وإلا فمن الجائز أن يقال: إن القيمة تعتبر واحدة؛ لأن الذهب المصوغ دون الذهب غير المصوغ. بيع الحيوان بالحيوان: 804 - وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة». رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن الجارود. في الحاشية أن هذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة ولا يصح سماعه منه. هذه المسألة في الحديث يقول: «نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة» أي: مؤخرا بدون قبض، والحيوان عرفاً هو البهيمة، ولا يطلق على الإنسان حيوان، وما ذهب إليه المناطقة من وصف الإنسان بأنه حيوان ناطق فهو اصطلاح، وإلا فإن العرف ما ذكرنا وأظن اللغة العربية كذلك لا تجيز أن الإنسان حيواناً، وقوله: «نهى عن بيع الحيوان بالحيوان» أي: في حال حياتهما وأما بعد الذبح فإنه لا يسمى حيواناً وإنما يسمى لحماً. ففهم من هذا الحديث: تحريم بيع الحيوان بالحيوان نسيئة مثل: أن يبيع الإنسان بعيراً ببعير بدون قبض، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون البعيران من جنس أو من جنسين مثل: أن يبيع بعيراً ببقرة أو بعيراً ببعير، ولكن هذه المسألة فيها خلاف؛ فمن العلماء من قال:

بيع العينة

الحيوان بالحيوان- أي: من جنسه- كبيع البر بالبر، أما إذا كان من غير الجنس فإنه لا بأس بيعه به نسيئة، مثل: أن يبيع بقرة ببعير أو بقرة بثلاث شياه أو أربعة أو ما أشبه ذلك، قالوا: لأنه إذا كان لا يجري الربا في بيع الجنس بغير جنسه في الطعام ففي الحيوان من باب أولى؛ لأن الحيوان لا يكال ولا يوزن فليس فيه علة ربا النسيئة، وإذا قلنا بأن الحديث ليس بصحيح وأنه منقطع فإنه يجوز أن يباع الحيوان بالحيوان نسيئة، كما يجوز بيع الحيوان بالحيوان مقبوضاً غير مؤخر، وسيأتي -إن شاء الله- في حديث ابن عمرو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً فنقدت الإبل، فكان يأخذ البعير بالبعيرين والبعيرين بالثلاثة، فإن هذا الحديث فيه التفاضل مع النسيئة. من فوائد الحديث: إذا صح النهي عن بيع الحيوان بالحيوان بدون قبض، وجواز بيع الحيوان بالحيوان مع القبض، وظاهره أنه لا فرق بين أن يكونا متساويين كبعير ببعير أو أحدهما أكثر من الآخر كبعير ببعيرين. بيع العينة: 805 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم». رواه أبو داود من رواية نافع عنه، وفي إسناده مقالٌ. - ولأحمد: محوه من رواية عطاءٍ، ورجاله ثقاتٌ، وصححه ابن القطان. "تبايعتم" يعني: أوقعتم عقود البيوع، وسمي هذا العقد مبايعة؛ لأن كل واحد من المتعاقدين يمد باعه إلى الآخر ليسلمه العوض، فالمشتري يمد باعه إلى البائع ليسلمه الثمن، والبائع يمد باعه إلى المشتري ليسلمه المثمن. وقوله: "بالعينة"، العينة على وزن فعلة من العين، وهو الورق أو الذهب أو النقد عموماً، والمراد بالعينة: أن يبيع شيئاً بثمن مؤجل ثم يشتريه بأقل منه نقداً، سواء كان هذا الشيء ربوياً أو غير ربوي، مثال ذلك: باع عليه سيارة بعشرين ألفاً إلى مدة سنة ثم عاد فاشتراها منه نقداً بخمسة عشر ألفاً، فإن هذا بيع عينة، وسمي بذلك؛ لأن المشتري لم يرد السلعة وإنما أراد العين، أي: النقد لينتفع به، ودليل ذلك أنه اشتراها بثمن زائد مؤجل ثم باعها على من اشتراها منه، فكأنه لم يقصد هذه السلعة، وإنما قصد الثمن -الدراهم- فلهذا سمي بيع عينة، هذا بيع

محرم؛ لأنه رتبت عليه عقوبة، وإنما كان بيعاً محرماً؛ لأنه وسيلة إلى الربا بحيلة، والحيل لا تبيح المحرمات ولا تسقط الواجبات. الوصف الثاني: "وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع"، وهاتان الجملتان متلازمتان؛ لأن قوله: "أخذتم أذناب البقر" يعني: للحرث عليها، فإن الحارث على البقرة يكون وراءها يسوقها فيأخذ بذنبها ويسوقها، "رضيتم بالزرع" يعني: زرع الأرض التي حرثتم بها على هذه البقر، "وتركتم الجهاد" يعني: لم تجاهدوا في سبيل الله لا بأموالكم ولا بأنفسكم ولا بألسنتكم، ركنتم إلى الخلود ولم تتحركوا لنصرة دين الله، والغالب أن هذا ملازم لهذا، يعني: أن الذي ينهمك في طلب الدنيا ويتحيل في الحصول عليها حتى بما حرم الله الغالب أنه يترك الجهاد، لأن قلبه اشتغل عنه. قال إذا حصل هذه الأربع: "سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" يعني: ضربكم بذل، والذل ضد العز، صرتم أذلة أمام الناس، حتى ترجعوا إلى إقامة الدين على الذي يرضاه الله عز وجل، لأن الإنسان لا يخرج بهذه الأوصاف عن الإسلام، لكنه يخرج عن كمال الإسلام. هذا الحديث فيه الوعيد الشديد على من اتصف بهذه الصفات الأربع. ففي هذا الحديث فوائد: الأولى: تحريم بيع العينة وهي كما ذكرت لكم أن يبيع شيئاً بثمن مؤجل ثم يشتريه بأقل منه نقداً، مثل أن يبيع سيارة بعشرين ألفاً ثم يشتريها من مشتريها بخمسة عشر ألفاً نقداً، هذا عينة، فإن اشتراها من غير مشتريها، يعني: بأن باعها الذي اشتراها منه ثم اشتراها الأول من المشتري الثاني، فإن هذا ليس من العينة؛ لأنه ليس فيه حيلة، إلا أن يكون هناك موافقة بأن يقول البائع الأول للمشتري: بعها على فلان فأشتريها منه، فإن الحيلة لا تنفع فإن باعها بعد أن تغيرت صفتها ثم اشتراها البائع بأقل مما باعها به بعد تغير الصفة فهل هذا جائز؟ ينظر في النقص إن كان في مقابل ما نقص من قيمتها التي باعها به فإن هذا لا بأس به مع أن الورع تركه لئلا ينفتح الباب، مثاله: باع عليه سيارة بعشرين ألفاً إلى سنة ثم حصل عليها حادث فنقصت قيمتها خمسة آلاف فاشتراها بخمسة عشر ألفاً فهل يجوز هذا؟ يجوز، لكن مع ذلك الأروع والأحوط تركه لئلا يكون ذلك زريعة إلى بيع العينة، فإن اشتراها بأقل من نقص السعر لا لفوات صفة فالظاهر أن ذلك لا يجوز، يعني: كانت تساوي عشرين ألفاً لكن نزل السعر فاشتراها بقدر ما نزل فقط، لا بالفرق بين النقد والمؤجل، فالظاهر أن ذلك لا يجوز وإن اختلف السعر؛ لأن ذلك حيلة، فإن اشتراها بمثل ما باعها به فهذا لا بأس به؛ لأنه من الجائز أن يبيعها علي بعشرين ألفاً إلى ستة وهي تساوي خمسة عشر ألفاً، ثم

ترتفع الأسعار فتكون تساوي عشرين ألفاً نقداً، فاشتراها بعشرين ألفاً يعني: بمثل ما باعها به فإن هذا لا بأس به، فصارت مسائل العينة لها عدة صور منها الجائز ومنها الممنوعة، الممنوعة أن يبيعها بثمن مؤجل ثم يشتريها بأقل منه، لنقص السعر هذه لا تجوز أن يبيعها بثمن مؤجل ثم يشتريها بأقل منه ويكون النقص بمقدار ما نقص من صفتها لحدوث عيب فيها أو هزال في حيوان فهذه جائزة، ولكن الأولى تركها، الرابعة: أن يشتريها بمثل ما باعها به فهذا جائز؛ لأنه ليس فيه محظور، الخامسة: أن يشتريها بأكثر مما باعها به فهذا جائز من باب أولى؛ لأنه ليس في ذلك محظور. ومن فوائد الحديث: التحذير من التشاغل ببيع العينة لقوله: "إذا تبايعتم بالعينة". وهل هذا التحذير على سبيل التحريم أو على سبيل الإرشاد؟ نقول هو على سبيل التحريم، من أين أخذنا ذلك؟ أخذناه من أنه حيلة واضحة قريبة من الربا؛ لأنني إذا بعت عليك هذه السيارة بعشرين ألفاً إلى سنة ثم رجعت فأخذتها بخمسة عشر ألفاً نقداً كأنما أعطيتك خمسة عشر ألفاً نقداً بعشرين ألفاً على سنة، وهذا حيلة؛ ولهذا قال ابن عباس: "إنها دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة" يعني: خرقة، وكأنه سئل عن ثوب من الحرير مؤجل ويشتري بكذا نقداً. ومن فوائد الحديث: أنه لو اشتراها البائع الأول من غير المشتري فلا حرج، مثل أن يبيعها زيد على عمرو ثم يبيعها عمرو على بكر فيشتريها زيد من بكر فهذا لا بأس به؛ لأن الحيلة فيها بعيدة، وقد تعرضنا في الشرح فيما لو اختلفت السلعة أو اختلفت القيمة فهل هذا مؤثر؟ ذكرنا خمس صور. ومن فوائد الحديث: التحذير من التشاغل بالزرع عن الجهاد لقوله: "وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع". ومن فوائد الحديث: أن الجهاد واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من التشاغل بغيره عنه بأن الله يصيب الأمة بذل لا ينزعه حتى يرجعوا إلى دينهم. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للمسلمين ألا ينهمكوا في طلب الدنيا؛ لأنها تشغلهم عن الآخرة، وفتح باب الانهماك في الدنيا لا شك أنه ينسي الإنسان ذكر الله عز وجل، ونحن الآن في عصر انهمكت الناس فيه في طلب الدنيا، فكثر التحيل عليها بالربا وبالميسر وبالأسهم، ولهذا ما أكثر الذين يسألون اليوم عن المساهمات والمضاربات التي لا تحل؛ لأنهم اشتغلوا رأوا مكاسب كثيرة بعمل يسير وزمن قريب، فانهمكوا في الدنيا حتى صار الناس كأنهم ماديون لا شك أن هذا فيه خطر عظيم على المسلمين؛ لأن القلب وعاء إذا امتلأ بشيء لم

الشفاعة المحرمة

يبق للشيء الآخر محل، إذا امتلأ القلب بحب الدنيا اشتغل عن حب الله ورسوله وصار الإنسان ليس له هم إلا الكسب، ولكننا نحمد الله على كل حال، ونحمد الله أنه يوجد كثير من الناس لا يقدمون على مثل هذه المضاربات إلا بعد السؤال، وهذا شيء لا شك أنه من نعمة الله، إن ما فتح هذه الأبواب للناس فتح باب الميسر بالمسابقات المحرمة لا شك أنه ضرر. هذا الحديث كثير من العلماء ضعفه كما يفيده كلام الشارح رحمه الله ولا شك أن معناه إذا كان الجهاد فرضاً معناه صحيح، فإن الناس إذا تركوا ما أوجب الله عليهم من الجهاد وتشاغلوا بالدنيا عنه فإن هذا من أسباب الذل والهزيمة، وإذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- في غزوة أحد لما أرادوا الدنيا، ونزلوا من الجبهة التي رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها حصل من الهزيمة ما حصل فكيف بغيرهم، فمعنى الحديث صحيح لكن أسانيده ضعيفة. سبق لنا في الشرح أن قلنا: إن الجهاد يشمل كل ما يدافع به عن دين الله من الجهاد بالسلاح والجهاد بالعلم وأن الناس إذا كانت الأمة الإسلامية تحتاج للعلم الشرعي الصحيح كان التشاغل به كالتشاغل بالجهاد المسلح، بل قد يكون أفضل منه؛ لأن الحاجة إليه عامة للمسلمين وغير المسلمين، حتى المسلمون يحتاجون إلى إقامة دينهم المبينة على الكتاب والسنة، فهم في حاجة بأن يقوموا على شريعة الله التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم في حاجة أيضاً إلى أن يعرفوا حدود الله بالنسبة لمعاملة الكفار في السلم والحرب. الشفاعة المحرمة: 806 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شفع لأخيه شفاعةً، فأهدى له هديةً فقبلها؛ فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا». رواه أحمد، وأبو داود، وفي إسناده مقال. الشفع مأخوذة من لفظها وهي جعل الواحد اثنين، قال الله تعالى: {والشفع والوتر} [الفجر: 3]. فالشفع ضد الوتر، وهي: أن يتوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، مثال الأول: لو شفعت لشخص بأن يوضع في مرتبة عالية فهذا جلب منفعة، ومثال الثاني: أن تشفع لشخص يريد أحد أن يظلمه فتدفع عنه المظلمة، هذه دفع ضرر، إذن فالشفاعة هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، وهي -أي: الشفاعة- على حسب المشفوع فيه: إن كانت في خير فهي خير، وإن كانت في شر فهي شر، فمن شفع لأخيه ليتوصل إلى باطل فهي شر ولهذا حرمت الرشوة، ومن شفع لأخيه للتوصل إلى حق فهي خير، قال الله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنةً يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعةً سيئة يكن له كفل منها} [النساء: 84 - 85]. فالشفاعة قد تكون حسنة.

فقوله صلى الله عليه وسلم: «من شفع لأخيه شفاعة» المراد بها: الشفاعة في الخير، وهي قد تكون واجبة؛ لأن الواجب على المسلم أن يدفع الظلم عن أخيه بقدر ما يستطيع حتى لو لم تطلب منه الشفاعة، إلا إذا علم رضا المظلوم فإنه لا يلزمه أن يشفع، لكن إذا علم أنه لا يرضى كما هو الغالب وهو يستطيع أن يشفع فالواجب عليه أن يشفع، أما إذا كانت الشفاعة في أمر ليس فيه ظلم لكن فيه حصول مطلوب فالشفاعة هنا ليست بواجبة، لكنها خير يؤجر الإنسان عليها، كما لو طلب شخص منك أن تشفع له في حصول أمر يرغب فيه وهو لا يضره شرعاً، فهنا نقول: الشفاعة سنة وفيها خير، لكن ليست بواجبة، بخلاف الشفاعة في دفع الظلم فإنها واجبة ما لم تعلم رضا المظلوم، أما الشفاعة السيئة فهي حرام، وهي من باب التعاون على الإثم والعدوان، ولا يجوز لأحد أن يشفع لأحد فيها؛ لأنه يكون معيناً له على [العدوان]، مثال ذلك: رأيت أن شخصاً قد هيئ لشغل منصب من المناصب فجاءك رجل وقال: يا أخي، أريد أن تشفع لي في حصول هذا المنصب، فهنا لا يجوز لك أن تشفع له؛ لماذا؟ لأنك بهذا تعتدي على حق السابق، والسابق أحق، اللهم إلا إذا علمت أنه ربما يولى هذه المرتبة وهو ليس لها بأهل، فحينئذٍ لا بأس أن تشفع لهذا الرجل إن كان أهلاً؛ لأنك في هذه الحال مصلح تريد أن تحول بين هذا الرجل الذي ليس بأهل وبين المرتبة التي يريد أن يشغلها. الحاصل: أن الشفاعة في الحقيقة تكون بحسب المشفوع فيه إن خيراً فخير وإن شراً فشر. يقول صلى الله عليه وسلم: «من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية» يعني: أعطاه شيئاً في مقابل شفاعته، «فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا» المراد بذلك: الربا اللغوي، وهو الزيادة، دون الربا الشرعي، وهو الزيادة في أشياء مخصوصة؛ لأن الربا الشرعي لا ينطبق على هذا، لكن الربا اللغوي ينطبق عليه، كيف الربا اللغوي؟ لأن هذا حصل الأجر والسمعة الحسنة بالشفاعة لأخيه، فإذا قبل الهدية فذلك زيادة على ما حصله بالشفاعة، ثم إن الهدية في الغالب لا يعلم الناس بها فيظنون أن هذا الشافع محسن إحسانا محضاً فيكسب سمعة حسنة ليس لها بأهل، ويكسب المال الذي أهدى له، وهذا زيادة ورباً، هذا هو ما ينزل عليه الحديث إذا صح، أما إذا لم يصح -كما قال المؤلف- فقد كفينا إياه، ثم يقال: إن كانت الشفاعة واجبة حرم عليه أخذ الهدية؛ لأنه قد قام بواجب، ولا يجوز للإنسان أن يأخذ عوضاً مالياً عن قيامه بواجب؛ لأنه ملزم به من قبل الشرع، فكيف يأخذ شيئاً على أمر هو ملزم به، وهذا وجه آخر، لكون هذه الهدية رباً؛ أي: زيادة على ما كان يستحقه الشافع. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من شفع لأخيه» هل المراد: أخوة النسب، أو أخوة الدين؟ الثاني، وهو أيضاً

الرشوة

مبني على الغالب، فإن الإنسان قد يشفع لغير المسلم؛ لأن ذا الذمة له حق وحماية، فإذا رأيت أحداً يريد أن يظلمه وشفعت له لدفع الظلم عنه كنت مأجوراً بذلك؛ لأنك تفعل هذا وفاء بالعهد والذمة الذي بين المسلمين وهذا الذمي، فيكون تقييدها بالأخوة من باب التغليب وليس من باب القيد. من فوائد هذا الحديث: جواز الشفاعة، ووجهه: إثبات النبي صلى الله عليه وسلم لها وإقراره إياها، ولكن ليس ذلك على إطلاقه، بل على حسب ما تقتضيه النصوص الشرعية والأصول المرعية، فإذا شفع في أمر باطل كانت شفاعته باطلة، وحراماً إذا كان حراماً ولكن المراد الشفاعة في الخير. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز لمن شفع في أمر يجب عليه الشفاعة فيه أن يأخذ هدية؛ لان وصف النبي صلى الله عليه وسلم لها بالربا يراد به التنفير منها، وكذلك من شفع لأخيه في غير الواجب، فإنه لا يأخذ على ذلك هدية؛ لما أسلفناه من أن الإنسان يكسب ويحصل ما لا يستحقه. فإن قال قائل: ما تقولون فيما لو طلب منه الشفاعة وقال له المطلوب: أنا لا أشفع لك إلا بكذا وكذا من الأصل فهل يجوز؟ أقول: إنه إذا كان من الأصل لم تكن هذه شفاعة لم يحصل بها منة من الشافع بل هي إجارة ما لم تكن الشفاعة واجبة، إن كانت واجبة فلا يجوز له أن يقول لا أشفع إلا بكذا وكذا؛ لانه واجب ملزم به من قبل الشرع مثل أن يشفع له في دفع الظلم عنه أو حصول واجب له. الرشوة: 807 - وعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي". رواه أبو داود، والترمذي وصححه. "لعنه" أي قال: لعنة الله عليه وهو خبر بمعنى: الدعاء؛ أي: دعا عليه باللعنة، والعنة هي الطرد والإبعاد عن رحمة الله، قال تعالى لإبليس: {وإن عليك اللعنة} [الحجر: 35]. وفي آية أخرى: {وإن عليك لعنتي} [ص: 78]. أي: حقت عليه اللعنة، وهي الطرد والإبعاد عن رحمة الله أبد الآبدين؛ لان قوله: {إلى يوم الدين} لا يقتضي أنه بعد يوم الدين ترتفع اللعنة عنه، لكن من لعن إلى يوم الدين فهو ملعون أبد الآبدين، نسأل الله العافية.

"لعن" أي: دعا عليه باللعنة؛ أي: بالطرد والإبعاد عن رحمة الله، "الراشي": هو باذل الرشوة، "والمرتشي": آخذ الرشوة، والرشوة بفتح الراء وكسرها وضمها مثلثة الراء، يعني تقول: رشوة فيكون صحيحاً، رشوة صحيح، رشوة صحيح، يقال: مثلث الراء، ويقال: بالمثلثة وبينهما فرق، إذا قيل: مثلث الراء باعتبار الحركات، وإذا قيل بالمثلثة باعتبار النقط، فالثاء نقول فيها: مثلثة ورشوة نقول بتثليث الراء. ما هي الرشوة؟ الرشوة في الأصل: العطاء الذي يراد به التوصل إلى مقصود، مأخوذة من ارشاء الذي هو حبل الدلو الذي ينزل في البئر للسقيا؛ لأن الرشاء يتوصل به الإنسان إلى مقصوده إلى الماء، ولكن المراد بالرشوة هنا التي لعن فاعلها هي البذل للتوصل إلى باطل، أو إسقاط حق، وأكثر ما تكون في المحاكمات يبذل الخصم للقاضي- للحاكم- شيئا ليحكم له بما يريد من باطل، فهذه الرشوة وكذلك في غير القضاء، يبذل الإنسان شيئا إلى رئيس دائرة ما أو مديرها لينصبه في وظيفة وهو ليس لها بأهل. فالقاعدة إذن: أن الرشوة المحرمة هي بذل مال للتوصل إلى باطل أو إسقاط حق، هذه المحرمة، وأما ما يبدل للتوصل إلى حق فهي حرام بالنسبة للآخذ حلال بالنسبة للباذل، كرجل تسلط عليه ظالم فأعطاه رشوة لأجل منع الظلم عنه فهذا لا بأس به، إنسان آخر له حق ولا يستطيع التوصل إلى يبذل المال ليصل إلى حقه فهذا ليس حراماً عليه والإثم على الآخذ، ولكن لا ينبغي أن نلجأ إلى ذلك إلا عند الضرورة القصوى؛ لأننا لو بذلنا هذا بسهولة لفسد من يتولى أمور الناس وصار لا يمكن أن يعمل إلا برشوة، كما يوجد في بعض البلاد لا يمكن أن تقضى حاجته التي يجب قضاؤها على الموظف إلا برشوة، يأخذون بالقاعدة الأصلية الثابتة الراسخة عند العامة وهي: "ادهن السير يسير يعني: ما يمكن إنه يسير أمره ويسهل إلا إذا دهن السير وإذا دهنته كثيرا يمشي ويسرع وإن دهنته قليلاً يقطع". على كل حال أقول: إن الإنسان الذي يبذل الشيء ليتوصل إلى حقه أو دفع الظلم عنه ليس عليه إثم، بل الإثم على الآخذ، وقد نص على ذلك أهل العلم الشراح الذين يشرحون الحديث باعتباره شرحاً فقيها، والشراح الذين يشرحون باعتباره شرحاً لغوياً كصاحب النهاية مثلاً، إذن الرشوة التي لعن فاعلها ومن فعلت له هي التي يتوصل بها إلى باطل أو إسقاط حق، هذه يلعن فيها الراشي والمرتشي، وإنما لعنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يتضمن فعلهما من المفاسد العظيمة وتعطيل حقوق الناس والتلاعب بهم، والناس- كما تعلمون- إذا لم نقض حوائجهم على الوجه المطلوب حصل بذلك فتن عظيمة وكراهة لولاة الأمور الذين يتولون هذه الأشياء، ويأخذون عليها رشوة والواجب على الإنسان أن يتقي الله عز وجل فيمن ولاه الله عليه وأن يسير بهم بالعدل والقسط، ويعطي كل ذي حق حقه، وألا يستعمل سلطته ليتوصل بها إلى أكل أموال الناس بالباطل.

من فوائد الحديث: جواز لعن الراشي والمرتشي، لكن على سبيل العموم لا التخصيص، فتقول: لعنة الله على الراشي والمرتشي، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعنهما، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن على سبيل التعيين لا يجوز وإن رشا؛ لأنه من الممكن أن يهديه الله عز وجل ويسلم من الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وإذا كان الكافر- وهو أشد من المرتشي- لا يجوز لعنه بعينه فما بالك بالمرتشي، لا يجوز من باب أولى، ولهذا لما صار النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على قوم من العرب «اللهم العن فلاناً وفلاناً» نهاه الله، وقال له - سبحانه وتعالى-: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظلمون} [آل عمران: 128]. فكذلك هؤلاء الفسقة الذين لعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن نلعن الإنسان منهم بعينه لكن على سبيل العموم، وبهذا نعرف الفقه في هذه المسألة وهي الفرق بين التعيين بالجنس والتعيين بالشخص، التعيين بالجنس أوسع وهو أن أقول: اللهم العن الرشاة والمرتشين عموماً، لكن التعيين بالشخص، اللهم العن فلانا لأنه يرتشي لا يجوز، اللهم العن فلاناً لأنه كافر لا يجوز، لكن لو قلت: لعنة الله على الكافرين جائز للعموم، وهذا كما أنه في العقوبات فهو كذلك في الثواب، فلا تشهد لشخص معين بأنه في الجنة وإن كان مؤمناً، ولا تشهد لمن قتل في الجهاد بأنه شهيد وإن قتل فيه، ولكن نقول كما أرشد إليه عمر رضي الله عنه: "من قتل في سبيل الله أو مات فهو شهيد" على سبيل العموم؛ لأننا لو قلنا بجواز الشهادة بالتعيين لكنا نشهد لكل واحد بأنه في الجنة من المؤمنين وهذا لا يكون. ومن فوائد الحديث: وجوب القيام بالعدل بين الناس؛ لأن الرشوة في الغالب يكون فيها جور؛ حيث إنه يقدم الراشي على غيره، وربما يحكم له بالباطل مع أن الحق مع غيره. فإن قال قائل: ما وجه إدخال هذا الحديث في باب الربا؟ نقول: وجه ذلك: هو أن الجامع بينه وبين الربا أن هذا الآخذ بغير حق من أكل المال بالباطل فهو كالربا.

بيع الحيوان بالحيوان نسيئة

بيع الحيوان بالحيوان نسيئة: 808 - وعنه رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة. قال: فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة". رواه الحاكم والبيهقي، ورجاله ثقات. "وعنه": أي عبد الله بن عمرو، "أمره أن يجهز جيشاً"، يعني: يقوم بمصالح الجيش ويشتري حوائجه وينفذه، والجيش هو الطائف من الجنود تتجاوز أربعمائة، وقوله: "فنفدت الإبل" يعني: الإبل المعدة للجهاد نفدت وانتهت، "فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ على قلائص الصدقة"، "قلائص": جمع قلوص وهي الناقة، وأضافها إلى الصدقة؛ لأنها تجبي من أموال أهل الإبل ويؤتي بها إلى المدينة، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، "قال: فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة" شراء قطعا، وليس قرضاً؛ لان الباء هنا للمعاوضة، ولأنه من المعلوم أن القرض بذلك يكون من الربا، فلا يجوز للإنسان أن يعطى واحداً ويأخذ اثنين، لأنه يكون رباً لأنه قرض جر نفعاً وهو ربا، وقوله: "إلى إبل الصدقة" أي: إلى أن تأتي إبل الصدقة. فهذا الحديث فيه فوائد: جواز التوكيل في تجهيز الجيش لان النبي صلى الله عليه وسلم وكل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه. ومنها: منقبة لعبد الله بن عمرو؛ حيث ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر العظيم، وهذا يدل على حنكة الرجل وأمانته. ومنها أيضاً: التأهب والاستعداد في تنفيذ الجيوش؛ لقوله: "أن يجهز"، والتجهيز أن يقوم بجهازه وكل ما يلزمه من مؤنه، فلا يبعث الجيش هكذا بدون أن يجهز. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهذا الحديث أقوى من الحديث السابق- حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة- فهو أصح منه وأقرب إلى القواعد، فعلى هذا يكون مرجحاً على حديث سمرة. ومن فوائد الحديث أيضاً: أنه يجوز النساء بل تجوز الزيادة في بيع الحيوان بالحيوان، وجهه: قوله: "كنت آخذ البعير بالبعيرين ... الخ".

المزابنة

ومنها: جواز الزيادة في بيع التقسيط، وجهه: أن هذه الزيادة في مقابلة الأجل، وهذا أمر لا يشبه على أحد، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية نقل إجماع العلماء على جواز بيع التقسيط إذا كان قصد المشتري السلعة بخلاف ما إذا كان قصده المال فقد عرفتم أنه من باب التورط وأنه يرى تحريمه، لكن إذا كان قصده السلعة فلا بأس أن يأخذها مؤجلة بزيادة، وهذا هو الموافق للفطر، إذ لا يمكن لأي إنسان أن يبيع شيئاً بثمن مؤجل كئمنه إذا كان نقداً، هذا مستحيل، اللهم إلا محاباة للمشتري لقرابة أو صداقة أو ما أشبه ذلك، وأما البيع المعتاد فإنه لا يمكن أن يبيع شخص سلعة تساوي مائة الآن بمائة بعد سنة، لابد أن يأخذ على هذا التأجيل مقابلاً وليس هذا من باب الربا في شيء، بل هو من باب الأمر الجائز. هل يجوز بيع البعير بثلاثة أبعرة؟ يجوز؛ لأنه إذا جاز البعيرين جاز الثلاثة والأربعة، ويدل على انه لا ربا في بيع الحيوان- بيع بعضه ببعض- وعلى هذا فتجوز الزيادة. ما رأيكم لو عامل الإنسان معاملة فجاء شخص وقال له: ما دليلك على الجواز، هل طلب الدليل هنا صحيح؟ طلب الدليل هنا في غير محله، نقول له: الدليل عدم الدليل؛ لان الأصل في المعاملات الحل حتى يقوم دليل على المنع. المزابنة: 809 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة؛ أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله" متفق عليه. "المزابنة" مفاعله، وهذه الصيغة تدل على الاشتراك في الغالب، الغالب أن المفاعلة تدل على اشتراك بين اثنين وأكثر كالمقاتلة والمجاهدة والمغارسة والمساقاة وقد لا تدل على الاشتراك كالمسافرة يقال: سافر الرجل مسافرة وهو واحد ليس له طرف آخر، المزابنة من الأفعال المشتركة، وهي مأخوذة من الزبن وهو الدفع، فهي مبايعة بين شخصين، لكنها خصت بنوع خاص من البيوع وإلا فإن جميع البيوع فيها مزابنة؛ لأنها من الدفع، فالبائع يدفع السلعة والمشتري يدفع الثمن، ولكنها خصت بنوع معين من البيوع، ولا مانع من أن نخصص المعنى العام في شيء من أفراده. المزابنة فسرها بقوله: "أن يبيع ثمر حائطة"، و"أن" هنا مصدرية، إما أن يكون في محل جر

بيان للمزابنة؛ لان المزابنة مجرورة بـ"عن"، "أن يبيع" أي: البائع "ثمر حائطه ... الخ" هذه ثلاث صور الصورة: الأولى: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، فيأتي شخص إلى صاحب الحائط ويقول: بعني ثمرة هذه النخلة بتمر هذه مزابنة لا تجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، والعلة في ذلك أنها بيع تمر بتمر، وبيع التمر بالتمر يشترط فيها التساوي كيلاً، ومعلوم أن التمر على النخل لا يمكن فيه الكيل، وإذا لم يمكن في الكيل فإنه لا يتحقق التساوي. فإن قال قائل: نحن نخرصه بما يئول إليه تمره، ونقول: هذه النخلة إذا أثمرت يأتي منها خمسون صاعاً من التمر، فإذا دفع المشتري خمسين صاعاً من التمر بثمر هذه النخلة فقد قابل التمر الذي دفعه ثمر النخل بماذا؟ بالخرص. فالجواب على ذلك أن نقول: إن الخرص ظن وتخمين، والكيل علم ويقين، ولا يمكن أن يقابل الظن والتخمين بالعلم واليقين، ولدينا قاعدة في باب الربويات وهي: "أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل"، ونحن الآن نجهل التساوي كيلاً؛ لأن الخرص ليس علماً بل هو ظن وتخمين، وكذلك أيضاً بالنسبة للعنب "إن كان كرما" أي: عنباً "أن يبيعه بزبيب كيلاً" الزبيب هو العنب المجفف، والكرم هو العنب الطري، فيكون رجل عنده شجرة من العنب وفيها عنب فيأتي إليه شخص ويقول: أنا أشتري منك عنب هذه الكرم بزبيب كما يأتي هذا العنب فيقول: يأتي إذا يبس خمسين صاعاً، فأقول: هذه خمسون صاعاً من الزبيب، فهذا مزابنة ولا يحل، وعلته ما سبق أن التساوي أو التماثل بينه وبين الزبيب مجهول، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، "وغن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام"، الزرع يشمل الشعير ويشمل البر، فهذا رجل عنده مزرعة يأتي منها مائة صاع فجاء إليه وقال: بعني هذه المزرعة بمائة صاع حب، الذي عبر عنه في الحديث بالطعام؛ لأنه يطعم، فنقول: هذا لا يجوز، والعلة فيه أنه بيع بر ببر أو شعير بشعير مع الجهل بالتساوي، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، هذا الحديث إذن يدخل في باب الربا. أرأيتم لو أنه باع تمر نخله بزبيب كيلاً فهل يجوز؟ نعم يجوز؛ لأن بيع التمر بالزبيب لا تشترط فيه المماثلة، وكذلك لو باع ثمر نخله بطعام كيلاً فإنه لا بأس به؛ لأن هذا لا تشترط فيه المماثلة، وكذلك لو باع ثمر نخلة بطعام كيلاً فإنه لا بأس به؛ لأن هذا لا تشترط فيه المماثلة، لكن إذا باع تمراً بزبيب أو طعاماً ببر أو شعير فلا بد من التقابض لاشتراكهما في الكيل الذي هو علة الربا، بل في الكيل والطعام والقوت.

مسألة في بيع العرايا وشروطه

مسألة في بيع العرايا وشروطه: يستثنى من هذا الحديث ما يثبت به السنة من العرايا في تمر النخل وكذلك في العنب على القول الصحيح، فلو أن إنساناً أراد أن يشتري ثمر نخل بتمر فإنه يجوز في باب العرايا لكن بشروط: الشرط الأول: ألا يكون عند المشتري نقد. والشرط الثاني: أن يكون محتاجاً للرطب يعني: يريد أن يتفكه، ليس إنساناً لا يهمه أن يأكل تمراً أو رطباً بل نفسه تشتاق إلى الرطب فهو في حاجة له. والشرط الثالث: أن يكون في خمسة أوسق أو فيما دون خمسة أوسق، والوسق ستون صاغاً أي: ثلاثمائة صاع، فإن زاد عليها فإنه لا يجوز. الشرط الرابع: أن يكون الرطب في خرصه بمقدار ما يئول إليه مساوياً للتمر؛ بمعنى: أن نقول: هذا الرطب إذا يبس يأتي منه مائة صاع ويبدل بمائة صاع بدون زيادة، يعني: يكون خرص الرطب بما يؤول إليه تمراً مساوياً للتمر الذي دفع. الشرط الخامس: أن يأكله رطباً؛ أي يأكله المشتري رطباً، فلو تركه حتى أثمر بطل البيع، اللهم إلا أن يدعه لعذر كأن يحال بينه وبينه فهذا يعذر فيه، فهذه الشروط الخمسة يجوز بيع الرطب بالتمر، وإذا لم توجد هذه الشروط الخمسة فإنه لا يجوز، العنب كالتمر؛ لأن الناس يحتاجون إلى التفكه فيه، أما الزرع فلا؛ لأن الزرع مهما كان سوف يتحول إلى حب ولن ينتفع به قبل أن يكون حباً. في هذا الحديث من الفوائد: أولاً: أنه لا يجوز بيع الرطب بالتمر، ولا فرق بين أن يكون الرطب على رءوس النخل أو قد فرك وجني، ويستثنى من ذلك ما أشرنا إليه من العرايا، في العرايا ذكرنا خمسة شروط، ونزيد شرطاً سادساً: وهو أن يكون الرطب على رءوس النخل، فإن كان قد جني فإنه لا يصح، لابد أن يكون على رءوس النخل لأجل أن يجنيه شيئاً فشيئاً. يستفاد من هذا الحديث أيضاً: مراعاة تجنب الربا ولو على وجهه بعيد؛ لأنه حرم بيع الرطب بالتمر والزبيب بالعنب وكذلك الزرع بالحب. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز بيع الرطب باليابس فيما يشترط فيه التماثل وإن لم يكن على الوصف الذي ذكر في الحديث، فلو فرض أن لدينا تمراً طرياً -لكنه ليس رطباً- وتمر آخر يابساً فإنه لا يجوز بيع هذا بهذا، لماذا؟ لأن ذلك سوف يختلف في الكيل، فإن كيل الرطب ليس ككيل اليابس. * * *

810 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر. فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك». رواه الخمسة، وصححه ابن المديني، والترمذي، وابن حبان، والحاكم. جملة "يسأل" حال من "النبي" يعني: سمعت مسئولاً، "اشتراء الرطب بالتمر" من باب شراء الربوي بجنسه، ومعلوم الاختلاف بين الرطب والتمر، وأنه لا يمكن فيهما التساوي، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: «أينقص إذا جف؟ قالوا: نعم»، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن نقصان الرطب إذا جف ليس سؤال استخبار؛ لأنه يعلم ذلك لكنه سؤال تقرير للحكم، وإشارة إلى العلة من أنه ينقص إذا جف، وبيع التمر بالتمر يشترط فيه التساوي وهو هنا معدوم، حتى لو أن الرطب خرص بما يئول إليه تمراً مساوياً بالتمر الذي بيع به فإنه لا يجوز؛ وذلك لأن الخرص ظن وتخمين، والمشترط العلم واليقين. في هذا الحديث من الفوائد: حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على تعلم العلم؛ لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة الدقيقة. ومن فوائده: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقرن الحكم بالعلة، وقرن الحكم بالعلة له فوائد: منها: طمأنينة المكلف، فإن الإنسان إذا بين له الحكم بعلته ازداد طمأنينة، ولا شك أن المؤمن مطمئن بحكم الله ورسوله على كل حال لكنه يزداد، قال إبراهيم: {رب أرنى كيف تحى الموتى قال أو لم تؤمن} [البقرة: 260]. ومن فوائد قرن الحكم بالعة: بيان سمو الشريعة، وأن أحكامها مبنية على حكم وأسرار، ولكن هذه الأحكام المبنية على الحكم والأسرار قد تكون حكمها وأسرارها معلومة، وقد تكون مجهولة؛ لأننا نحن لم نؤت من العلم إلا قليلاً، وليس كل حُكم حَكم الله به ورسوله نعلم حكمته؛ لأننا قاصرون، فلذلك كان ذكر علة الحكم مبيناً لسمو الشريعة وأن لها في أحكامها أسراراً وحكماً عظيمة.

بيع الدين بالدين

ومن فوائد ذكر العلة المقرونة بالحكم: إمكان القياس بحيث يلحق بهذا المنصوص عليه ما يساويه في تلك العلة. فإن قال قائل: إمكان القياس حاصل وإن لم تذكر العلة. فالجواب: أن الأمر كذلك، ولكن لا شك أن العلة المنصوصة أقوى من العلة المستنبطة؛ العلة المستنبطة قد تكون هي المرادة للشارع وقد لا تكون؛ لكن العلة المنصوصة لا شك أنها هي المقصودة للشارع، فهي أقوى، ثم إن العلة المنصوصة يقوي الإنسان على إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق إذا شاركه في العلة، بخلاف العلة المستنبطة، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه»، هذه العلة استفدنا منها فوائد عظيمة، وهي: أن كل ما يحزن المسلم فإنه منهي عنه، وكل ما يسره فإنك مأمور به وإن لم تؤمر به لعينه، لكنك مأمور به لجنسه، فكل ما يسر المؤمن فإنك مأمور به كما أنك منهي عن كل ما يحزنه. ومن فوائد الحديث: أن هذا الحكم -أعني: بيع الرطب باليابس- من الربويات إذا كان من جنسه عام في التمر بالرطب وغيره، وعلى هذا فيكون بيع الحب بالحب اليابس غير جائز؛ لأنه سوف ينقص إذا جف. بيع الدين بالدين: 811 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، يعني: الدين بالدين». رواه إسحاق والبزار بإسنادٍ ضعيفٍ. والنهي: طلب الكف على وجه الاستعلاء، يعني: أنه يوجه إلى شخص طلب الكف عن شيء معين على وجه الاستعلاء، فقولهم: "طلب الكف" خرج به الأمر وما ليس بأمر ولا نهي: الإباحة؛ لأن الأمر طلب الفعل، والإباحة لا بطلب فعل ولا كف، وقولهم: "على وجه الاستعلاء" خرج به ما كان على وجه المساواة أو كان على وجه الأدنى، بمعنى: أن الأدنى يوجه النهي إلى الأعلى، فالأول يسمونه التماس كقول الزميل لزميله لا تشوش علي، وإذا كان من أدنى إلى أعلى يسمى دعاء وسؤالاً، ومعلوم أن توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم النهي لأمته من باب طلب الكف على وجه الاستعلاء؛ لأن أمره مطاع صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه أشد الناس تواضعاً للخلق.

وللحق قال: «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» يعني: المؤخر بالكالئ بالمؤخر، وهذا الحديث أولاً: إسناده ضعيف، وثانياً: ليس على إطلاقه ولا عمومه، وإنما يشمل صوراً معينة وهي التي يكون فيها شيء من المحظور الشرعي، وله صور منها: بيع الدين بالدين على الغير مثل: أن يحضر إلي شخص ويقول: أنت تطلب فلاناً مائة صاع بر يعني: إياه بمائتي ريال أسلمها لك بعد سنة، هذا لا يجوز، لماذا؟ لأنه بيع دين في ذمة الغير قد يقدر على استلامه وقد لا يقدر، وثانياً: أن فيه ربحاً فيما لم يضمن، وقد مر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، يعني: أم الدين الذي في ذمة الغير لي لم يدخل في ضماني، متى يدخل في ضماني؟ إذا تسلمته، ومن المعلوم أنني إذا بعته مؤجلاً فإنه سيزيد ثمنه؛ لأنه ليس البيع المؤجل كالبيع الحاضر وحينئذ بعت ما لم يدخل في ضماني وبعت ما يكون مشكوكاً في القدرة عليه، هذه صورة، كذلك أيضاً من بيع الدين أن يكون عند شخص لي مائة درهم فتحل المائة ويأتي إلي ويقول: ليس عندي شيء، فأقول: نجعل المائة بمائة صاع بر إلى سنة فهذا لا يجوز، لماذا؟ لأنه -كما قلنا- سوف يربح فيما لم يضمن؛ لأنه ليس ثمن الحاضر كثمن المؤجل، فمائة صاع بر بمائة درهم، التي في ذمتي مائة درهم وأنا بعته بمائة صاع بر يمكن لو بعته بحاضر لا أحصل بمائة درهم إلا تسعين صاعاً، والآن أنا بعت بمائة فربحت فيما لم أضمن؛ ولأنه يؤدي إلى قلب الدين بهذه الحيلة على المدين كيف ذلك؟ لما حل الأجل لمائة الدرهم جعلناها بمائة صاع إلى سنة فحلت السنة وليس عنده بر، فأقول: تكون بمائة صاع شعير، أو أقول: بعت مائة صاع بر تكون بمائة وعشرين درهم، وحينئذ تؤدي إلى قلب الدين ويكون ذلك شبيهاً بما نهى الله عنه في قوله: {يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربوا أضعافاً مضاعفةً} [آل عمران: 130]. وقد يكون أيضاً من صوره: أن يبيع الإنسان ما في ذمة الغير المعسر على شخص آخر بدراهم أقل، ففي ذمة هذا الفقير لشخص ألف درهم فيأتيه إنسان ويقول: بعه علي بخمسمائة درهم وأنا وحظي مع هذا الفقير، فهذا أيضاً لا يجوز؛ لأنه أولاً: بيع دراهم بدراهم بدون قبض، والثاني: لأنه بيع شيء لم يدخل في ضمانه، والثالث: أنها شبيهة بالميسر؛ لأن هذا اشتراها- الألف بخمسمائة- إن قدر عليها فهو غانم وإن عجز فهو غارم، وهذه هي قاعدة الميسر كل عقد يتضمن إما الغرم وإما الغنم. وعلى هذا نقول: هذا الحديث إن صح يجب أن يحمل على ما دلت النصوص على منعه لا على كل دين بدين، وبناء على هذا لو اشتريت منك مائة صاع بر بمائة درهم ولا أحضرنا الدراهم ولا البر فإن ذلك على القول الراجح جائز ولا بأس به؛ لأن كلا منها غير مؤجل بل هو حاضر وليس فيه محظور إطلاقاً، وعمل الناس الآن على هذا فيأتي الإنسان يشتري من شخص

طعام: سكر، بر، أي شيء بدراهم لا يسلمه له في الحال فهو بيع دين بدين لكنه جائز؛ لأنه ليس فيه محظور إطلاقا لا جهالة ولا غرر ولا ربا، والأصل في العقود الحل إلا ما قام الدليل على منعه، وهذا لم يقم دليلا على منعه؛ لأن هذا الحديث ضعيف، ولأنه يصدق ولو بصورة واحدة، يعني: إذا صدق النهي ولو بصورة واحدة كفى؛ لأن لدينا أدلة تدل على أن الأصل هو الجواز، فإذا ضح الحديث حمل على الصورة التي يعلم منعها بالأدلة الأخرى. هل يجوز بيع الدين على غير من عليه بسعر يومه إذا بيع بما لا يشترط فيه التقابض أو لا يجوز؟ مثاله: رجل عنده لي مائة صاع بر فجاءني شخص وقال: بعها علي بمائة درهم بقيمتها الحاضرة بدون أي ربح أو لا يجوز؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: لا يجوز، لأن هذا ليس عنده وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده، ومنهم من قال بالجواز، لكن إن قدر على قبضه تم البيع وإلا فله الرجوع، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا قد يحتاج إليه الإنسان فيما لو كان المطلوب في بلد آخر، لو كان المطلوب في بلد آخر وجاء شخص من أهل البلد الذي فيه المطلوب واشترى منه ما في ذمته بعوض لا يجري بينه وبينه ربا النسيئة فهنا قد يحتاج إليه، لكن بشرط أن يكون بسعر اليوم لئلا يربح فيما لم يضمن. فإن قال قائل: هذا القول يرد عليه حديث ابن عمر: "كنا نبيع الإبل بالدراهم ونأخذ عنها الدنانير، وبالدنانير فنأخذ عنها الدراهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء". فالجواب: أن هذا لا يرد، لأن بيع الدراهم بالدنانير أو بالعكس يشترط فيه التقابض قبل التفرق، وبيع الدراهم بالدنانير ولو كان حاضرا بحاضر لابد فيه من التقابض قبل التفرق، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم»، أما صورتنا هذه فهي بيع شيء بآخر لا يجري بينهما ربا النسيئة، ولكن لا شك أن الاحتياط الأخذ بالقول الثاني، وهو ألا يبيعه حتى يقبضه، لأنه إذا فتح هذا الباب فربما يتبايع الناس ديونا لا يرجى حصولها ويكون هذا من باب الميسر، وربما يبيعون ديونا يرجى حصولها لكن بربح، وكل هذه من المحظورات الشرعية، فالأولى والاحتياط الأخذ بالمنع، وألا يبيع الإنسان دينا في ذمته غيره حتى يقبضه. * * * *

4 - باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار

4 - باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار "الرخصة" في اللغة بمعنى: السهولة، وفي الشرع: التيسير والتسهيل في أمر ملزم به أن يرخص في أمر ملزم به في الأصل ويسهل فيه، فالرخصة شرعا: التسهيل في أمر ملزم به إما بتركه وإما بفعله، وقوله: "في العرايا" جمع عرية فعيلة بمعنى: مفعولة، أي: معراة من النقد كما سيأتي، "وبيع الأصول والثمار"، الأصول ضد الفروع، والأصل في كل مكان بحسبه، فعندكم في الفرائض أصول المسائل، وفي أصول الفقه الأصول، كذلك في علم العقائد يقال: الأصول، بل حتى في الفقه يقال: الأصل في كذا قوله تعالى، أي: الدليل الذي يعتمد عليه، والمراد بالأصول هنا: الأراضي والعقارات والأشجار، وهذه أصول للثمرات التي يحصل عليها منها، فالأرض تؤجر وتستغل، والأشجار فيها الثمار، والدور ونحوها فيها الإجارة والاستغلال. وأما الثمار فهو جمع ثمر وهو ما يحصد من ثمر النخل والعنب ونحوها. بيع العرايا: 812 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله رخص في العرايا: أن تباع بخرصها كيلا». متفق عليه. "رخص" يعنى: سهل من المنع؛ لأن الأصل في بيع الرطب بالتمر التحريم، ولكنه رخص في العرايا وسهل، قال: "أن تباع بخرصها كيلا"، الضمير في "تباع" يعود على الرطب، وسميت عرية؛ لأنها عرت عن النقد؛ إذ إنها بيعت بتمر، ولهذا قال: "بخرصها كيلاً" كيف قال: كيلاً؟ لأن التمر يباع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالكيل لا نأتي نقول: أعطني كيلو تمر، نقول: أعطني صاع تمر أو مد تمر يكال بالمكيال، إذن نقول: هذه سميت عرية؛ لأنها عرت من النقد ليس فيها دراهم، بل هي تمر بتمر، لكن هذه رطب وهذه تمر يابس، قوله: "بخرصها"، الخرص معناه: التقدير والتخمين، ولابد أن يكون من عالم به، لا من أي أحد من الناس؛ لأنه فن يعرفه أصحابه، ولا يصح أن يكون الخرص من أي أحد يقولون: إن شخصاً من الناس كان عاملاً على الزكاة وكان خرصه ضعيفا، وربما لا يرفع رأسه إلى الثمرة فوقف تحت جذع نخلة وإذا هو قد خرص واحدة قبله، قال: نحن خرصنا مائتين وزنا هذه نجعلها أربعمائة وزنا؛ لأنها نشيطة، فرفعوا رءوسهم وإذا النخلة فحل، ما فيها ثمرة إطلاقا؛ لأن هذا الرجل لا ينظر، فلابد أن يكون الخارص خبيراً، فإذا أراد أحد أن يتعامل بهذه المعاملة في العرايا فلابد أن يأتي

شخص كبير يقال له: كم تخرص هذه الثمرة إذا يبست؟ قال أخرصها بمائة صاع، تباع بكم؟ بمائة صاع، قال: أخرصها بخمسين تباع بخمسين وهل يعتبر الخرص وقت كونها رطباً؟ الجواب: لا، لأن وقت كونها رطباً كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم يختلف عن وقتها تمراً، فإنها إذا يبست سوف تنقص، خذ هذا قيداً، وهو أن تباع بالخرص، فلا يجوز أن تباع جزافا. لو قال: أخذت هذه الثمرة بهذه الصبرة من التمر لا يجوز، أخذت هذه الثمرة بهذه الثمرة الصبرة من البر يجوز بشرط التقابض، لماذا؟ لأن بيع التمر بالبر لا يشترط فيها المساواة - ولمسلم: «رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً، يألكونها رطباً». هذا بيان للخرص، هل تخرص رطباً أو تخرص تمراً فبين أنها تخرص تمراً، إذن تخرص بما تئول إليه تمر. قال: "يأكلونها رطباَ"؛ لأنه إذا لم يأكلونها رطبا سوف تتحول تمراً، وحينئذ لا فرق بينها وبين التمر الذي يبعت به، فتضيع الفائدة التي من أجلها رخص في العرايا، خذ هذا قيداً آخر وهو أن تؤكل رطباً، فإن أخرت حتى يبست بطل العقد، لأن الفائدة التي من أجلها رخص في بيع الرطب بالتمر تزول. 813 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها من التمر، فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق». متفق عليه. "رخص في بيع العرايا ... إلخ" كل هذه الألفاظ بكلمة رخص؛ وذلك لأن الأصل المنع والتخريم، قال: بخرصها من التمر" أي: بما يساوي خرصها من التمر وهي تخرص تمراً فيقدم المشتري مائة صاع من التمر إذا كان خرص هذا الرطب تمراً يكون مائة صاع ولابد من التساوي بالكيل المعلوم والخرص. يقول: "فيما دون خمسة أوسق" "أو" هذه للشك من الراوي، "فيما دون" أي: فيما أقل من خمسة أوسق، "الأوسق" جمع وسق وهو الحمل، وسمي وسقاً؛ لأنه يوسق أي: يشد ويربط، والوسق ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون الخمسة ثلاثمائة صاع يصاع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الحديث الآن فيه شك. هل هو في خمسة أوسق أو فيما دون خمسة أوسق؟ وهنا ثلاث صور: أن تكون بأقل، أن تكون في أكثر، أن تكون في الخمسة، أما فيما هو أقل فلا شك أن الحديث يتناوله، وأما ما هو

أكثر فلا شك أن الحديث يدل على المنع فيه، وأما ما كان خمسة أوسق فهو محل شك، وما هي القاعدة في مثل هذا؟ القاعدة: أن نحول المشكوك فيه إلى الشيء المتيقن، والمتيقن في هذا أن بيع الرطب بالتمر لا يجوز، فتبقى الخمسة مشكوكاً فيها فهل تجوز أو لا؟ والأصل المنع، وعلى هذا فنأخذ هذا الشرط الثالث أن يكون فيما دون خمسة أوسق، الشروط الآن ثلاثة، من أين تؤخذ؟ الأول قال: "أن تباع بخرصها". والثاني: "أن يأكلوها رطبا". والثالث: أن "تكون فيما دون خمسة أوسق". الرابع: "التساوي بين الرطب والتمر" لكن بما يئول إليه الرطب، يعني: لا يقول: المائة بتسعين، بل لابد من التساوي. الخامس: "أن يكون المشتري محتاجاً إلى الرطب"، فإن لم يكن محتاجاً فإنها لا تجوز، لو قال: لا يهمني أكل تمراً أو آكل رطباً، قلنا: إذن لا حاجة إلى أن تتجشم الشيء المحرم الذي لم يرخص إلا لحاجة وأنت لست محتاجا إليه. السادس: "ألا يكون عنده نقد" ليس فلوس هكذا قال العلماء، ولعل مرادهم: ألا يكون عنده عوض غير التمر، بمعنى: أنه إذا كان عنده بر مثلا أو شعير فإنه لا يحتاج إلى أن يشتريها بتمر. السابع: "التقابض بين الطرفين" ما هو الدليل على شرط التقابض؟ الدليل على ذبك: أن الأصل في بيع التمر بالتمر أنه لابد فيه من الشرطين: التساوي والتقابض، التساوي هنا عرفنا أنه رخص فيه، والتقابض لم يرخص فيه فيبقى على الأصل، وعلى هذا فلابد من التقابض، وكيف يكون التقابض؟ قال العلماء: أما في النخل فبالتخلية، وأما في التمر فبالكيل، الكيل والأخذ، التمر مبذول من المشتري، لابد أن يكال ويستلمه البائع، الرطب قبضه بالتخلية، كيف ذلك؟ أن يقول البائع للمشتري: هذه النخلة وثمرتها لك يخلي بينه وبينها، الثامن: "أن تكون على رءوس النخل"؛ لأنه هكذا جاء في الحديث: "على رءوس النخل"، فإن كانت قد جزت فهل تجوز أو لا؟ الجمهور على أنها لا تجوز؛ لأن الفائدة التي من أجلها رخص فيها تزول؛ إذ إنه رخص فيها تزول؛ إذ إنه رخص فيها من أجل أن يأخذها المشتري رطباً شيئاً فشيئاً، لكن ينزله أربعة أوسق رطب لا يستفيد، قال بعض الناس: وبما يكون عنده ثلاجة ويستفيد، نقول: بدل من أن يجعله في الثلاجة ويخسر عليه الكهرباء وربما تفسد الثلاجة أو تطفأ الكهرباء ويفسد عليه التمر نجعله على رءوس النخل أحسن وأولى، لهذا فهذا الشرط لابد منه أن يكون على رءوس النخل.

فإن قال قائل: إذا كان هذا الفقير أتى بشيء قليل كصاع مثلاً واشترى به رطباً يئول إلى صاع، إذا صار تمراً من أجل أن يقدمه إلى صيوف عنده فهل ترخصون له في ذلك؟ نقول: على رأي جمهور العلماء لا نجيزه؛ لأنهم يشترطون أن يكون على رءوس النخل، ولكن لو قال قائل: إن اشتراطه على رءوس النخل فيما إذا كان غرض المشتري أن يأخذه شيئا فشيئاً، فأما إذا كان غرض المشتري دفع حاجته الحاضرة فالظاهر أنه لا بأس به، لاسيما إذا تعذر أو تأخر بيع هذا التمر بدراهم ثم يشتري بالدراهم رطباً، أما إذا أمكن بسهولة أن يبيع التمر بالدراهم ثم يشتري الرطب فهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيبا»، فصارت الشروط ثمانية. من فوائد الحديث: أولاً: الدلالة على ما ذكره العلماء من أن المشقة تجلب التيسير، وهذه مأخوذة من عدة نصوص منها قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 268]. وقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 87]. فلما شق على هذا التفكه بالرطب يسر الله له بجواز شرائه بماذا؟ بالتمر، فالمشقة تجلب التيسير. ومن فوائد الحديث: الدلالة على القاعدة العامة أن الدين الإسلامي لم يكن فيه حرج لا في العبادات ولا في المعاملات، فإذا تعذر على الإنسان إلا أن يتعامل بهذه الصفة فإنه من قواعد الشريعة أن ييسر له الأمر، ولكن التعذر لابد أن يتحقق. ومن فوائد الحديث: ما أشار إليه ابن القيم أن ما حرم تحريم الوسائل فإن الحاجة تبيحه دون الضرورةـ يعني: أن القاعدة في المحرم ألا يباح إلا عند الضرورة بشرط أيضا أن تندفع ضرورته به، وفد مر علينا هذا أن الحرم يجوز للضرورة وأن تندفع الضرورة به، الشرط الأول للضرورة: ألا يوجد مباح سواه، والثاني: أن تندفع ضرورته، فإن لم تندفع ضرورته به فإنه لا يحل، ولهذا حرم التساوي بالشيء المحرم؛ لأنه لا ضرورة إليه لجواز أن يشفى المريض بدونه، ولأنه لا يتيقن زوال الضرورة بتناوله، فالشرطان كلاهما مفقود في التداوي بالمحرم، المهم: أن القاعدة التي دل عليها المحرم لا يبيحه إلا للضرورة إذا اندفعت الضرورة به، دليله قوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام: 119]. لكن قال

العلماء ما كان محرما تحريم الوسائل فإن الحاجة تبيحه، وذكروا لذلك أشياء منها: مسألة العرايا لا يجوز بيع الرطب بالتمر كما في الحديث السابق أن الرسول سئل عن شراء الرطب بالتمر فقال: «أينقص إذا جف؟ » قالوا: نعم، فنهى عن ذلك، لكن في العرايا أجاز الشارع اشتراء الرطب بالتمر، لماذا؟ لأن منع بيع الرطب بالتمر خوفاً من أن يكون وسيلة إلى ربا الفضل أن الناس يتدرجون فيقولون: إذا جاز البيع بالرخص في الرطب مع التمر فليجز أيضاً في التمر مع التمر، وحينئذ يقعون في الربا، فلما كان تحريم ذلك من باب تحريم الوسائل أباحه الشارع للحاجة إليه، ومن ذلك: تحريم الحرير على الرجال فإن الحاجة تبيحه، فالحكة التي تصيب الإنسان تجيز له أن يلبس الحرير لتخف عنه، ومن ذلك تضبيب الآنية بالفضة تبيحه الحاجة، لماذا؟ لأن أصل تحريم هذا خوفاً من أن يتدرج الإنسان منه إلى أن يتخذ إناء كاملاً من الفضة ويستعمله في الأكل والشرب، فتحريم التضبيب بالفضة تحريم وسائل فأباحته الحاجة، ولماذا لا تقول الضرورة؟ بإمكانه أن يشرب في إناء آخر وبإمكانه أن يضبب بحديد أو رصاص. ومن ذلك أيضا: تحريم النظر إلى وجه المرأة الأجنبية فإنه كم باب تحريم الوسائل لكونه وسيلة إلى الزنا ولهذا أجاز النظر إليه للحاجة كالخطبة، فإن الخطيب يجوز أن ينظر إلى وجه المخطوبة، ولو كان تحريمه تحريم قصد وغاية ما جاز؛ لأن نظر الخاطب إلى مخطوبته ليس ضرورة، إذ يمكنه أن يوكل من ينظر إليها من النساء الثقات؛ إذن هذه القاعدة لها عدة صور وهي: ما كان محرما تحريم وسيلة فإن الحاجة تبيحه وإن لم يضطر إليه. من فوائد الحديث: جواز العرايا في ثمر النخل لقوله في حديث أبي هريرة: "يخرصها من التمر"، وهل يلحق بالنخل ما سواها كالتين والعنب، فيكون الإنسان محتاجاً إلى التفكه بالعنب فيشتريه بالزبيب أو إلى التين الرطب فيشتريه بتين يابس، اختلف العلماء في هذا فقال بعض العلماء: إنه لا يجوز القياس؛ لأن لدينا حديثا عاماً نهى عن بيع المزاينة استثنى منه العرايا فيبقى العام على عمومه، وتخرج منه صورة التخصيص، وهي العرايا في التمر، أما غيرها فلا يجوز، قالوا: ولو جازت العرايا في غير التمر لجازت بين الحب والزرع، والحب والزرع لا يجوز للإنسان أن يشتري زرعاً بحب وهو يريد سنبله، وهذه الصورة ممنوعة بالاتفاق فيما أعلم، ولكن بعض أهل العلم ذهب إلى جواز العرايا في العنب والتين ونحوهما مما يتفكه به ويمكن

خرصه، واستدل لذلك بأن الشريعة مطردة لا تفرق بين متماثلين ولا تجمع بين مفترقين، وإنما ذكرت العرايا في التمر؛ لأن هذه المعاملة هي التي كانوا يفعلونها، العنب ليس كثيراً عندهم ولهذا يأتيهم الزبيب من الشام والتين، كذلك المدينة أكثر ما فيها التمر فلهذا جاءت العرية في التمر؛ لأنه الكثير عندهم، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وهذا القول هو الصحيح، وأما النقد بمسألة الحب بالزرع على أهلها لإخراج زكاتها، السنة جاءت بخرص ثمار النخل، أما الزروع فلم تآت به، حتى إن بعض العلماء حكى إجماع العلماء على أن الزروع لا تخرص من أجل معرفة مقدار الزكاة فيها، وعللوا ذلك بأنه لا يمكن الإحاطة بها، إذ إن الحب محفوف بقشر، والقشر عليه عود، لهذا لا يمكن أن نقيس الرطب المشاهد المعلوم الممكن خرصه لا يمكن أن نلحق به ما كان مستوراً بقشوره. من فوائد الحديث: التضييق في مسألة العرايا بأن تكون فيما دون خمسة أوسق، وهل هذا الشرط في الصفقة الواحدة أو في صفقات متعددة؟ فيه خلاف، فمن العلماء من قال: إنه شرط في الصفقة الواحدة، ومنهم من قال: إنه شرط في الصفقات كلها، وبيان ذلك: رجل عنده عائلة كبيرة احتاج إلى عشرة أوسق فاشترى من فلاح ثلاثة، ومن فلاح ثلاثة، ومن فلاح أربعة، كل صفة بمفردها لا تبلغ خمسة أوسق، لكن مجموعها عشرة فهل المعتبر كل صفقة بمفردها أو المعتبر حاجة الإنسان ويشتري ما زاد على الخمسة أو الخمسة فما زاد بصفقة أخرى؟ فيه خلاف، فقيل: متى اشترى الإنسان دون خمسة أوسق لم يشتر أكثر ولو في صفقة ثانية وثالثة ورابعة، ولكن الصحيح أن المعتبر الحاجة، وأن تكون فيما دون خمسة أوسق في الصفقة الواحدة، وعلى هذا إذا كان الإنسان عنده عائلة كبيرة أو كان رجلاً مضيافاً يغشاه الناس واحتاج أكثر من خمسة أوسق واشترى من عدة بائعين فإن ذلك لا بأس به، والدليل أن الرجل لو اشترى دون خمسة أوسق هل يشتري أخرى؟ نعم، إذا فالمدار على الحاجة لكن لا تبلغ خمسة أوسق في كل صفقة. ومن فوائد الحديث: أن العبرة بحاجة المشتري، فإذا كان المحتاج البائع فهل تراعيه؟ يعني: صاحب البستان عنده عمال لا يأكلون إلا التمر وهو ليس عنده تمر ويقول: العمال يجوعون وتقولون يثمر بعد شهرين وأنا محتاج، فهل تقول: إن الشرع إذا أجاز للمشتري هذه الصفقة لحاجته للتفكه بالطرب فإجازته للبائع المحتاج للتمر لا تفكها من باب أولى؟ العلماء فيها على قولين: منهم من قال: إن هذه المسألة خرجت من القياس وعن العموم فلا يتعدى فيها النص والحاجة في الحديث للمشتري، ومنهم من قال: إن الشارع لا يفرق بين حاجة

بيع الثمار

المشتري وحاجة البائع، فإذا كانت تجوز للمشتري من أجل التفكه بالرطب فجوازها للبائع من أجل حاجته للتمر من باب أولى، والمسألة لا شك أن تجاذبها الدليلان دليل القياس الذي قد يكون جلياً أو مساوياً؛ ودليل الاقتصار على النص فيما ورد فيه التخصيص، على كل حال هذه الحال واردة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن وهذه قاعدة معروفة في الفقه لاعتبار الخرص، وهو أمر ظني من أجل تعذر اليقين، وهذا أمر مطرد، بمعنى: أنه إذا تعذر رجعنا إلى غلبة الظن، ولكن هذا الرجوع إلى غلبة الظن أمر مطرد أم ماذا؟ أحيانا نقول: ارجع لغلبة الظن، وأحيانا نقول: ارجع إلى اليقين، فالظاهر لي بعد تتبع بعض المسائل أن ما كان من العبادات اكتفي فيه بغلبة الظن، مثلاً: إنسان استنجى وغلب على ظنه أنه طهر المحل يكفي ولا نقول باليقين، فقد يتعذر اليقين، وقد يكون هذا الرجل عنده شيء من الوسواس لو يبقى من المغرب إلى العشاء ما تيقن في الوضوء، فيكفى غلبة الظن، ولولا أنه يكفي غلبة الظن لقلنا بوجوب الدلك كما قال به مالك، فالدلك ليس بفرض يكفي أن تضع يديك تحت الماء أو تلقي الماء وترده على ذراعك إذا غلب على ظنك، الصلاة إذا شككت في عدد الركعات وغلب على ظنك الزيادة أو النقص تعمل بها، الطواف كذلك، المهم أن الظن له اعتبار في الشرع حتى فيما يشترط فيه اليقين، إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن، في المعاملات لابد من اليقين، فمثلاً: لو أن رجلاً له مريض مورث يرث هذا المريض وغلب على ظنه أن المريض مات قال: الحمد لله مات وأنا وارثه وذهب يبيع أمواله بناء على ظنه أن هذا مات، نقول: لا يجوز هذا، لماذا؟ لأن هذا تصرف في مال الغير والأصل بقاء ملكه، فلا يجوز أن تتصرف حتى تتيقن أنه ميت، ففي المعاملات لابد من اليقين مع أنها قد تخرج في بعض المسائل كتصرف الفضولي. بيع الثمار: 814 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى الباع والمبتاع». متفق عليه. - وفي رواية: "وكان إذا سئل عن صلاحها؟ قال: حتى تذهب عاهتها". "النهي": طلب الكف على وجه الاستعلاء مثل قوله تعالى: {ولا تشركوا به شيئا} [النساء: 36].

{ولا تقربوا الزنى} [الإسراء: 22]. {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} [الأعراف: 85]. وأمثلة هذا كثير، المهم: أنه طلب الكف على وجه الاستعلاء، أي: أن الناعي يشعر بأنه أعلى من المنهي، فإن كان على سبيل المساوي والند فهو التماس، وإن كان من الأدنى إلى الأعلى فقول المسلمين: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286] لا تقول: هذا منهي نقول: هذا دعاء؛ لأنك لست تلتمس ولا تستعلي ولكنك تستجدي تشعر بأن الذي تقول له: لا تؤاخذنا فوقك وأعلى منك؛ إذن "نهى" نقول: طلب الكف على وجه الاستعلاء. واختلف العلماء في قول الصحابي: "نهى"، هل يحمل على الصيغة التي هي المضارع المقرون بلا الناهية أم ماذا؟ لأن بعض العلماء قال: ليس كالصيغة الصريحة؛ لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الثمار» هذا نهي صريح ليس فيه إشكال، لكن قول الصحابي: "نهى" زعم بعض العلماء أن هذا ليس بصريح في النهي لأنه قد يفهم ما ليس بنهي على أنه نهي بخلاف ما إذا نقل الصيغة نفسها فقال: لا تبيعوا، لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تبيعوا لكان الأمر واضحاً وصريحاً، ولكن إذا قال: "نهى" فقد يفهم ما ليس بنهي على أنه نهي، لكن هذا القول مرفوض لوجهين: الأول: أن الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم الناس بمدولولات ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم عاصروه وسمعوه، ومن المعلوم أن الإنسان إذا عاصر الشخص عرف كلامه ومدلول كلامه كما يعرف وجهه، نحن الآن إذا طالعنا كلام عالم من العلماء وأكثرنا مطالعته فإننا نعرف كلامه بمجرد ما يمر بنا، وإن كان لم ينسب إليه، فالصحابة -رضي الله عنهم- لا شك أنهم أعلم الناس بمدلولات ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني: أن الصحابة أورع الناس فيما ينقلونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، فلا يمكن أن يتجرءوا يقول: نهى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لم ينه هذا مستحيل، وعلى هذا فهذا القول مردود، والذي نرى أن قول الصحابي: "نهى" كقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفعل ولا فرق. وقوله: "نهى عن بيع الثمار"، الثمار جمع ثمر، والمراد به: ثمر النخل وغيرها كل ما يسمى ثمراً كالتمر والعنب والتين والرمان والخوخ وغيرها مما يسمى ثماراً، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعه "حتى يبدو صلاحه"، وصلاح كل شيء بحسبه، منها ما يكون صلاحه باللون، ومنها ما يكون بالطعم، ومنها ما يكون باللمس، وقد يكون منها ما يكون بالرائحة، المهم: أن صلاح كل شيء بحسبه، وصلاحه أن يطيب أكله ويكون مهيأ لما ينتفع به فيه. وقوله: "نهى البائع والمبتاع" البائع: الباذرل للتمر، والمبتاع: الآخذ له، وإنما نص رضي الله عنه على البائع والمبتاع لئلا يقال: إن النهي خاص بالبائغ، لأنه هو الغابن دون المشتري لأنه مغبون، والمشتري إذا غبن لماذا ينهى وهو راض بالغبن، وجه ذلك: أن الثمار إذا يبعت قبل الصلاح

فإنها عرضة للآفات والعاهات، فإن انتظر بها الإنسان صلاحها فقد يأتيها عاهات نفسدها، وإن أخذها قبل الصلاح فهذا إضاعة مال، فالضرر في كل حال على المشتري أكثر، ولهذا قال: "نهى البائع والمبتاع"، أما البائع فلأن عقده فلأن عقده هذا قد يكون سببا لأكل مال أخيه بغير حق، وأما المشتري فلأنه يبذل ماله بما لا فائدة فيه، لو أصيب بعاهة تضرر وحصلت خصومة بينه وبين البائع، فالحاصل: أن النهي يشمل البائع والمبتاع. وقوله: وفي رواية "حتى تذهب عاهتها" العاهة: ما يصيب الثمر من فساد، ففي النخل مثلاً الغبير والحشف وتغير الطعم، وكذلك في العنب عاهته أن يتسلط عليه الطير وينقذه حتى يذهب ماؤه وما أشبه ذلك، المهم أنها حتى تذهب العاهة ويأمن من حدوث العاهات، ولكن سيأتينا ما ذكر المؤلف، على كل حال المراد: حتى يطيب أكله ويكون متهيئا للانتفاع به. من فوائد الحديث: أولاً تحريم بيع الثمار فبل بدو صلاحها، دليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعها حتى يبدو صلاحها. ومن فوائد الحديث - وهي متفرعة على ما قبلها -: أنه لو وقع العقد عليها لكان العقد باطلاً، لماذا؟ لأن النهي عائد إلى ذات المنهي عنه، والنهي إذا عاد إلى ذات المنهي عنه كان فعله فاسد؛ لأنك لو صححت مع نهي الشارع عنه كان لازم ذلك أنك جعلته معتبراً والشارع ما نهى عنه إلا من أجل إفساده والبعد عنه وعدم أثره وتأثيره، فلهذا لو بيعت الثمرة قبل بدو الصلاح لكان البيع فاسداً والثمرة للبائع والثمن للمشتري. استثنى العلماء من هذا مسألتين: الأولى: إذا باعه بشرط القبض على شرط أن تقطعه اليوم أو غداً، قالوا: هذا جائز، لماذا؟ قالوا: لأن عاهته مأمونة الآن، سيقطع قبل أن يتعرض للعاهات. فإن قال قائل: هو إذا اشتراه بهذا الشرط فهذا إضاعة للمال؛ لأنه إذا لم يبدو صلاحه فماذا يفعل به والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال؟ فالجواب على ذلك: أن يقال يمكن أن يشتريه الإنسان علفاً لبهائمه كالبلح مثلاً فينتفع به، أما إذا علمنا أنه اشتراه ليجزه ثم يرمى به في الأرض فمنعه؛ لأنه سفيه ولا نمكنه من إضاعة المال. المسألة الثانية مما استثنوا: قالوا: لو باعه على مالك الأصل فلا بأس به وإن لم يبدو

صلاحه، كيف على مالك الأصل؟ رجل أخذ هذا النخل مساقاة، المساقاه الشجر فيما لمن؟ لصاحب الأرض؛ القلاح ماله ما اشترط له من الثمر فجاء الفلاح وباعه على مالك الأرض باع نصيبه على مالك الأرض، يقول بعض العلماء: إن هذا جائز؛ لأنه باعه على مالك الأرض. ومثال آخر: رجل باع نخلاً بعد أن أبرت، فلمن الثمر؟ للبائع، والتأبير: التلقيح، الثمر هنا للبائع، لكن البائع أراد أن يبيع الثمر على مشتري النخل، بعض العلماء يقول: هذا جائز، لماذا؟ قال: لأنه باعه على مالك الأصل، ولكن هذا الاستثناء يحتاج إلى دليل، فالنبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها" استثناء الصورة الأولى وهي ما إذا شرط القطع وقطعه؛ لأنه مال ينتفع به، لكن هذه المسألة يحتاج من ادعى جوازها إلى دليل، قالوا: عندنا دليل وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع"، من المبتاع؟ المشتري، قالوا: فأجاز اشتراط المشتري النخل مع أن الثمر لمن؟ للبائع، بمقتض، لكن لو قال المشتري: الثمر معها جاز لنص الحديث، مع أن الثمر لم يبدو صلاحه، قالوا: فهذا دليل أنه إذا اشترى الثمرة مالك الأصل فذلك جائز، لننظر هل هذا الاستدلال بهذا الدليل صحيح؟ إذا نظرنا إلى هذا الدليل وجدنا أنه لا دليل لهم فيه؛ لأنه في هذه المسألة صار الثمر تبعا للشجر ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالا، أليس الرجل يجوز له أن يبيع الحيوان الحامل وحمله تبعا له ولو باع الحمل وحده ما جاز؟ فنقول: في هذا الحديث الذي ذكرتم بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الثمر إذا أبر يكون للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ووجه ذلك: أنه تابع للثمرة والعقد واحد، لكنه عقد مستقل، يعقد على الثمرة تباع على مالك الأصل، ونقول: هذا جائز؟ لا يصح هذا القياس، إذن ما الذي يستثنى من هذا الحديث على القول الصحيح؟ الصورة الأولى، وهي: إذا ما باع الثمر بشترط القطع؛ لأن العلة التي من أجلها كان النهي قد زالت. من فوائد الحديث: حكمة الشرع في المعاملات بين الناس والحفاظ على أموالهم؛ لأن هذا العقد -بيع قبل الصلاح- يؤدي إلى أحد أمرين: إما إلى ضياع المال، وإما إلى النزاع والخصومة، وهذا لا شك أنه من حفظ الأموال من وجه، ومن حفظ المودة بين المسلمين ومن الإبقاء عليها. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا ظن توهم خلاف المراد أن ينص على المراد، وذلك أنه نهى عن بيع الثمر قبل صلاحها قال: "نهى البائع والمبتاع"، مع أنه يكفي أن يقول: نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحها؛ لكن لما كان قد يتوهم واهم أن المنهي هو البائع وحده لأن الضرر إنما يخشى على المشتري قال: "نهى البائع والمبتاع".

ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى علة المنع؛ حيث قال لما سئل عن صلاحها: "حتى تذهب عاهتها". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان ألا يتعامل معاملة مخاطرة وإن كانت جائزة؛ وذلك لئلا يقع في الندم، لأن الناس إذا عامل معاملة مخاطرة ثم صار الأمر على خلاف ما توقع ندم وحصل له حزن، والشرع يحارب الندم والغم والهم والأحزان، ولهذا شرع الأوراد للإنسان لأجل أن يبقى دائما في سرور. 815 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى. قيل: وما زهوها؟ قال: تحمار وتصفار». متفق عليه، واللفظ للبخاري. هذا الحديث كالذي قبه النهي عن بيع الثمار، إلا أن هذا الحديث يشعر بأن المراد بالثمار: ثمار النخل؛ لأنها هي التي تحمار أو تصفار، وقوله: "تزهى" أو تزهو من الإزهاء وهو الطيب زها يزهو يعني: طاب ولذ، ولكنه سئل: "ما زهوها؟ " قال: "تحمار وتصفار"، فأحال على اللون؛ لأن اللون دليل على الصلاح، ولو قلنا: إن الزهو هو الطعم لاحتاج الإنسان أن يأكل قبل أن يبيع، لينظر هل حصل فيها طعم أو لا، لكن اللون كاف، وقوله: "تحمار وتصفار". لا شك أن في هذا الفعل زيادة، وكأن أصلها تحمر وتصفر فزيدت الألف، فهل الزيادة هنا تدل على المبالغة، وأن المعنى تحمار احمراراً بينا وتصفار اصفراراً بينا، أو أن هذا الألف تدل على المقاربة؟ يعني: تحمار يظهر فيها الحمرة وإن لم تكن بينة مثل ما نقول: هذا الثوب محمر أو مصفر هذا دون قولنا: هذا الثوب أحمر وأصفر؟ في هذا قولان للشارح: قول بأن المعنى: تحمار أي: تبلغ غاية الحمرة، وتصفار كذلك؛ لأن زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى في الغالب، وقول أن هذه الصيغة تفعال تدل على المقاربة دون الكمال، يعني: حتى تقرب من كمال الاحمرار والاصفرار، فعلى القول الأول ننتظر حتى يتبين اللون تماما، وعلى الثاني مجرد ما تميل إلى الحمرة، وتبين أنها من النوع الأول يكفي، فمن احتاط وقال: أؤخر حتى تتبين الحمرة تماماً كان أولى، ومن ترخص وقال: إن ابتداء الحمرة دليل على ابتداء الصلاح اكتفى بذلك. من فوائد الحديث: فيه دليل على ما سبق من النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، فإن وقع العقد عليها بدو الصلاح فالعقد باطل. ومنها: جواز -بل وجوب- السؤال عن الكلمة التي لا يتبن معناها إلا بالسؤال؛ لأنهم سألوا أنس بن مالك عن الزهر ففسرها لهم.

ومنها: أنه لا يجوز بيع النخل حتى يحمر أو يصفر، لكن هذا فيما يحمر أو يصفر، وأما بعض النخيل الذي يبقى أخضر لكنه يثمر فهذا يكتفى فيه بطيب الطعم، ولا حاجة إلى اللون. ومن فوائد الحديث: لو بدا اللون في نخلة ولم يبد في النخلة الأخرى فإنه يصح بيع النخلة التي بدا فيها اللون ولا يصح بيع النخلة الأخرى، لماذا؟ لأن الحكم يدور مع علته، فهذه وجد فيها علة بيعها، وهذه لم يوجد فلا يصح، فإن باع الإنسان بستانه جميعاً فهل يكفي فيه أن يظهر اللون في واحدة منه؛ لأن الصفقة واحدة، وما لم يظهر فيه اللون فهو تبع، أو لابد أن يكون اللون في كل شجرة أو يكتفى في اللون في كل نوع؟ هذه ثلاث احتمالات، فمن العلماء من قال بالأول وقال: إذا بيع البستان وفيه نخلة واحدة ملونة لكنه صفقه واحدة صح البيع، ومنهم من قال: لا يصح البيع إلا إذا وجد اللون في كل شجرة بمفردها، ومنهم من فصل وقال: إن كان النوع واحداً جاز وإلا فلا، وهذا القول -كما ترون- قول وسط، والغالب أن خير الأمور الوسط، وعلى هذا فإن باع البستان جميعاً وكان فيه أربعة أنواع قد ظهر فقط فالرابع لا يصح في نوعين، فالثالث والرابع لا يصح في واحد، فالثاني والثالث والرابع لا يصح، فإن قلت أرأيت لو باع نوعا من النخل ولم يبد الصلاح إلا في حبة واحدة من شجرة واحدة وقد باع النوع صفقة واحدة فلا يجوز؟ هذا نخل سكري عشر نخلات باعه شخص باعه شخص ولم يكن فيه إلا حبة واحدة من شجرة واحجة فإنه يجوز، قال: فإن صعد الشجرة وأكلها ثم باعها بعد أن أكلها هذه وقعت كانوا يبيعون ثمار النخل وشكوا هل هذه فيها شيء أو لا فصعد واحد الشجرة فوجد فيها حبة ملونة فأكلها ثم نزل فهل يصح بيعها؟ الظاهر لي أنه يصح، لماذا؟ لأنه قد بدا فيها الصلاح، وكونه يأكل أو لا يأكل هذا لا أثر له، نعم لو فرض أنه أكل قبل أن يبحث في الموضوع ونحن لم نعلم قلنا: لا نبيعها حتى يتلون. 816 - وعنه رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد». رواه الخمسة، إلا النسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم. هذا كالذي قبله تقريبا إنما هو مثال مما قبل، "نهى عن بيع العنب حتى يسوده؛ لأن قبل اسوداده لم يبد صلاحه، وهذا في العنب الذي يلون ويكون أسود، أما الذي لا يلون، كما هو معروف يوجد أصناف كثيرة من العنب لا تلون، فالعبرة بكونها صالحة للأكل تكون لينة وحلوة، فإذا لانت واحلوت حل بيعها، "وعن بيع الحب حتى يشتده، ما هو الحب؟ القمح،

الذرة الشعير، وفول، وعدس، المهم الحب لا يباع حتى يشتد، أما ما دام لينا فإنه لا يباع؛ لأنه لا يبدو صلاحه وتذهب عاهته إلا إذا اشتد، هل يستثنى من هذا شيء؟ نعم يستثنى من ذلك ما إذا شرط قطعه، فإذا اشترى الزرع قبل أن يشتد يريد أن يكون علفاً فالبيع صحيح، يعني: ينتفع به الآن؛ كذلك العنب إذا اشترى عنبا حصرما، لكن هو يرد الحصرم يخلطه في أدوية أو غير ذلك وسيقطعه الآن فهذا لا بأس به، فإن باعه على مالك الأرض في الحب وعلى مالك الشجر في العنب، ففيه قولان لأهل العلم، منهم أجازه، ومنهم من منعه والصواب مع المنع. ومن فوائد الحديث: جواز بيع الحب في سنبله؛ لقوله: "حتى يشتده" ووجه الدلالة: أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، إذا كان الكلام في سياق النفي أو نهيا وجاءت "حتى"، فإن ما بعدها يخالف ما قبلها، فقوله: "لا تبيعوه حتى يشتد" إذن وبعد الاشتداد يحل، وهنا سؤال: كيف يجوز بيع الحب في سنبله وهو مستتر غير معلوم، ثم السنبل في وسط الزرع غير معلوم؛ لأنكم -كما تشاهدون- الزروع بعضها مرتفع قد بدا سنبله وبعضها نازل لا يرى سنبله، فكيف يصح بيعه مع أنه مجهول من جهتين؟ أولاً: لأنه مغلف بالقشر، والثاني: أن السنبل لا يرى كله في الغالب؟ الحاجة داعية إلى ذلك، ولو كلف الناس ألا يبيعوا إلا بعد إخراج الحب لكان في ذلك مشقة شديدة وربما نخرج الحب ونحن نريد ادخاره يفسد الحب، لأن الحب إذا أخرج من قشره صار عرضة للفساد، وإذا بقي في قشره صار أسلم له، ولهذا قال يوسف عليه السلام للذي قص عليه الرؤيا: {فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون} [يوسف: 47]- لماذا؟ لأن بقاءه في السنبل حفظ له، ولهذا يقال: إذا بقي الحب في السنبل لا يمكن أن يدخله السوس أبداً، وإذا أخرج لحقه السوس. إذا نقول: الحكمة في استثناء ذلك: أن هذا مما دعت الحاجة إليه ويتعذر فيه الوصول إلى اليقين، فصار الظن جاريا مجرى اليقين لدعاء الحاجة إليه. 817 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق". رواه مسلم. - وفي رواية له: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح». "لو" هذه شرطية، وهي حرف امتناع لامتناع، تقول: "لو جاء زيد لأكرمه" فقد امتنع الإكرام لامتناع المجيء، ويقابلها "لما" فإنها حرف وجود لوجود، تقول لما زرتني أكرمتك، فقد وجد الويقابلها "لما" فإنها حرف وجود لوجود، تقول لما زرتني أكرمتك، فقد وجد الإكرام لوجود الزيارة، ويتوسط بينها "لولا" فإنها حرف امتناع لوجود تقول: "لولا تخلفك عن

زيارتي لأكرمتك" امتنع الإكرام لوجود التخلف فصارت هذه الحروف الثلاثة استغرقت الأحوال، "لو" حرف امتناع لامتناع، و"لما" حرف وجود لوجود، و"لولا" حرف امتناع لوجود، و"لو" هنا شرطية بمنزلة إذا. وقوله: "لو بعت من أخيك" "من" بمعنى على، يعني: على أخيك ووصفه بالأخوة من باب التغليب، وإلا فمثله لو باعه على كافر فإن الحكم لا يختلف، لكن علقه بالأخوة من باب التغليب. وقوله: "ثمرا فأصابته جائحة"، "ثمرا" يعني: ثمر النخل، ثمر العنب، ثمر التين، ثمر البر، تقال: أي ثمر، الحديث عام، صيغة العموم فيه التنكير فيه سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم. وقوله: "فأصابته جائحة" اسم فاعل، والجائحة: ما يحوج الشيء، والاجتياح الاستئصال، ومنه الحديث: "إن أبي اجتاح مالي"، فإذن جائحة يعني: أصابه ما يستأصله مثل برد أو عواصف أو حر شديد أيبسه أو غير ذلك هذه الجائحة. قال: "فلا يحل لك أن تأخذ منه" أي: من أخيك، والشرع يذكر الحل ويقابله التحريم، فإذا نفى الحل يثبت التحريم فهما متضدان شرعا، وإن شئت فقل: متناقضان شرعاً لا حساً وعقلاً فإن الشيء إذا انتفى عنه الحل الشرعي ثبت تحريمه، ألا ترى إلة قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخلاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي أرضعناكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بنه فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيما والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم) [النساء: 23، 24]. فجعل هذا مقابل هذا. وقوله: "فلا يحل لك أن تأخذ منه" الضمير يعود على الأخ المشتري، "شيئاً" أي شيء يكون؛ لأن الثم فسد كله فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، ثم علل فقال: "بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " بين السبب والاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ، يعني: أنه يوبخ من أخذ المال الذي باع به هذه الثمرة، لأنه أخذه بغير حق، وضد الحق الباطل أخذه بباطل، لماذا؟ لأن هذا الثمر الذي باعه لم يستفد منه المشتري شيئاص، جاءه ما يجتاحه، فالحديث كما ترون صورته واضحة:

رجل باع تمر نخل على آخر، وليكن بمائة ريال، ثم أصاب هذا التمر جائحة نزل عليه مطر وأفسده حتى انهمر في الأرض، فالمشتري إذا لا يستفيد منه شيئا، نقول: لا يحل للبائع أن يأخذ من المشتري مائة ريال، ويكون الثمن الذي فسد للبائع، وهنا يقول: "بم تأخذ مال أخيك؟ " فيدل هذا على أن الثمن لم ينتقل إلى البائع؛ لأنه لو انتقل إلى البائع لم يصح أن يقال: مال أخيك؛ إذن ما زال على المشتري، ولا يحل للبائع منه شيئاً. ففي هذا الحديث: دليل على مسائل الأولى: ما يعبر عنه أهل العلم بـ"وضع الجوائح" يعني: هل توضع الجوائح أو لا؟ اختلف في هذا أهل العلم، فقال بعضهم: إن الجائحة لا توضع وإنها على المشتري؛ لأن المشتري اشتراها على وجه صحيح الثمن معلوم، والمثمن معلوم، ودخلت ملك المشتري وحصل التسليم؛ لأن تسليم الثمر على النخل يكون بالنخلية، وقد خلى البائع بين الثمرة وبين المشتري، وإذا كان كذلك فإن الجائحة لا توجب انفساخ البيع، ويكون الثمن حلالا للبائع والثمر الذي أصيب بالجائحة للمشتري، وهذا حبه، هذا قول وعرفنا تعليله وهو أن المشتري تملك هذا الثمر بعقد شرعي صحيح، وأن التسليم حصل كاملاً، فالمبيع مقبوض، والبيع صحيح، والخراج بالضمان، فيكون ضمانه على المشتري وليس على البائع شيء في المسألة: أن ثبوت وضع الجوائح، يعني: أننا نثبت ذلك، وأنه إذا أصيب الثمر بجائحة فإنه لا يحل للبائع أن يأخذ شيئاً من المشتري، ويكون التلف على البائع، قال هؤلاء: وبيننا وبينكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسنة حاكمة لا محكوم عليها، وكل شيء يخالف السنة ولو بني على رأي ونظر فهو باطل، وعلى هذا فنحن أسعد بالدليل منكم، يقولونه لمن يقولون بعد وضع الحوائج؛ لأن معنا حديث للرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: يمكن أن يحمل الحديث على أنه من باب المروءة وحسن الخلٌ، فلا ينبغي أن نأخذ منه شيئا؛ لأن الرجل اشترى الثمر للأكل ولم يحصل له أكله، فلا يحسن أن نأخذ منه شيئا، قالوا لهم: هذا يبطله النص؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «فلا يحل لك؟ فالحديث صريح، ونقول: وضعه ليس من باب المروءة، بل من باب الإلزام بالشرع، فلا يحل للبائع شيء، قالوا: إذن هذا الحديث على خلاف الأصول الشرعية، فما الجواب؟ الجواب: أن هذا جاز على الأصول الشرعية، ووجه ذلك: أولا: أن النص أصل شرعي بنفسه؛ لأن بعض الناس يقول: الإجارة على خلاف الأصل؛ لأنها بيع معدوم المنافع تأتي شيئا فشيئا السلم على خلاف الأصل لأنه غرر ويأتون على مثل هذه الأشياء، ويقولون: خلاف الأصل، فنقول: بارك الله فيكم، الدليل أصل

برأسه فلا حاجة لقولكم: على خلاف الأصل، بل نقول: الدليل هو الأصل، فإذا ثبت الحديث وثبت الدلالة، فهذا هو الأصل، إذن فنقول: هذا على وفق الأصل؛ لأنه نص حديث، والحديث أصل، أنتم دائنا تقولون: الأصل في هذا الكتاب والسنة إذن فهو أصل، ثانيا: من جهة النظر هو جار على الأصل؛ لأن المشتري إنما اشترى الثمرة لينتفع بها ويأكلها فجاءتها جائحة قبل أوان الأكل [فلم ينتفع] هل قضى ما أراد؟ لا، فإذا قالوا: التخلية، قلنا: أي فائدة في التخلية؟ إنما تكون التخلية في العقار في البيت صح إذا أجرته أعطه المفتاح ويدخل، لكن بعت الثمرة ليأكلها وقد أتاها العاهة قبل أوان الأكل ما الفائدة، المشتري يقول: اجعل نخلك عندك حتى يطيب أكلها وتؤكل، إذن فالحديث موافق للأصول من وجهين؛ إذا صار هذا جار على الأصول. فيستفاد منه: أنه إذا أصيبت الثمرة بجائحة فإنه لا يكون للبائع شيء. ومن فوائد الحديث: لو أصيب بفعل آدمي غير الجائحة وغير المشتري فهل يأخذ البائع من المشتري شيئا أو لا؟ نقول: إن كان هذا الذي أخذ الثمرة مما لا يمكن تضمينه فهو كالعاهة السماوية، كالجائحة السماوية، مثال من لا يمكن تضمينه كالجنود جاء الجند وأخذوها جاء الكفار وأخذوها ولا يمكن تضمينه، نقول: هذه كالجائحة من السماء لعدم إمكان تضمين الآخذ، وإن كان الآخذ ممن يمكن تضمينه كرجل معين فماذا يكون الحكم؟ قال أهل العلم يخير المشتري بين الرجوع على الذي أخذها أو على البائع، فإن رجع على الذي أخذها سلم البائع، وإن رجع على البائع أخذ البائع من الذي أسلف الثمرة، مثاله: بعت ثمرة على شخص فجاء السارق في الليل فجزها ومشى بها وهو معروف، أو جاء إنسان غلط فيها يحسب أنها نخلة فأخذها معه، فماذا نقول؟ نقول: يخير المشتري بين أن يبقى العقد ويطالب من أخذ الثمرة، أو يفسخ العقد ويكون المطالب البائع، أيهما أحسن؟ ينظر للمصلحة، لأن الخيار هنا خيار تشه إن شاء أمضى البيع ورجع للذي أخذ الثمرة، وإن شاء فسخ البيع والبائع يرجع على الذي أخذ الثمرة، هذه خمس مسائل، بجائحة هذه واحدة، الثانية: بفعل المشتري، والثالثة: بفعل أجنبي، وذكرنا أن هذا ينقسم إلى قسمين إذا أتلفه من يمكن تضمينه أو لا يمكن، الرابعة: إذا تلفت ببهائم جاعت بالليل وأكلت الثمرة ولا يعلم لها مالك فكيف يكون الحكم؟ هذا كالجائحة السماوية، يعني: أن المشتري يرجع على البائع،

المسألة الخامسة - لو أن المشتري أخر جني الثمر عن وقته حتى أصيب بجائحة فهل على البائع ضمان؟ لا، الضمان على المشتري؛ لأنه مفرط بتأخيرها عن وقت جزها حتى تلفت. ويستفاد من هذا الحديث: أنه إذا تلفت بعض الثمرة دون بعضها فلكل حكم لقوله: "يم تأخذ مال أخيك بغير حق"، فإذا أخذ البائع عوضاً عن التمر الباقي صالحاً فقد أخذه بحق، لكن لا يأخذ عن التمر التالف وهل يأخذه بقسطه من القيمة أو بقسطه من الثمن؟ مثال ذلك: اشترى هذه الثمرة بمائتي درهم وأصاب نصفها جائحة وبقي النصف الثاني بمائة عندما أردنا تقويمها، قالوا: الآن الثمرة لو كانت صالحة لا تساوي إلا مائة فقط، فهل نقول: يأخذها باعتبار القيمة فيكون عليها خمسون أو باعتبار الثمن ويكون عليه مائة؟ نقول: باعتبار الثمن؛ لأن الرجل اشتراها بمائتي درهم فذهب نصفها يسقط عنه نصف الثمن، ولو قلنا: نصف القيمة كم يسقط عنه؟ يسقط عنه خمسون، والعكس بالعكس، وقد تكون القيمة أكثر مما وقع عليه العقد. ومن فوائد الحديث: أن دين الإسلام دين العدل، بحيث لا يحكم بجوز على أحد المتعاقدين، بل هو دين العدل، وهذه الفائدة يتفرع عليها مسائل كثيرة في باب الجنايات، وفي باب القصاص، وفي مسائل كثيرة، فمثلا لو أن رجلا قطع يد رجل في مخلب -الذي يحصد به الزرع وتجظ به الثمرة- وحكمنا عليه بالقصاص، يعني: على القاطع فهل نقطع يده بمخلب أو بآلة حادة سريعة؟ نقطعها بمخلب؛ لأن هذا هو العدل، كيف نقطع هذا الجاني المجرم بشيء سريع مريح وهو قد آذى المجني عليه، ويدل لذلك عموم قوله تعالى: {والجروح قصاص} [المائدة: 45]. وقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194]. ويدل له أيضا خصوص الحديث الوارد في قصة اليهودي الذي رض رأس الجارية الأنصارية وأخذ منها أوضاحها، وهي من ذهب أو من فضة فأدركوها وهي في آخر رمق، فقالوا: من فعل بك هذا فلان، فلان، فلان حتى وصلوا إلى اليهودي، فأومأت برأسها: أن نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين مع أنه ممكن أن يذبحه بالسيف لكن العدل يقتضي أن يفعل بع كما فعل، والمهم أن دين الإسلام مبين على العدل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90]. ومر علينا مسائل كثيرة تنبني على هذه القاعدة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «الخراج بالضمان». وأمثلتها كثيرة. من فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بذكر العلة بعد الحكم؛ لأن في ذكر العلة بعد الحكم فوائد:

منها: بيان سمو الشريعة وأنها مبنية على العلل والمعاني الصحيحة الموجبة للأحكام. والثانية: طمأنينة النفس بالحكم؛ لأن الإنسان إذا عرف مأخذ الحكم ازداد طمأنينة، لا شك في هذا، ولهذا أنتم الآن تسألون إذا قلنا: هذا حرام، تقولون ما الدليل، وإن كان ليس عندك دليل أعطنا تعليلاً حتى وإن كنتم موافقين بالمجيب لكن تريدون زيادة الطمأنينة. الثالثة: إن كان القياس فيما وجدت فيه هذه العلة. الرابعة: أنه لو تخلف العلة لتخلف الحكم، مثال ذلك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتناجي اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه»، يعلم من هذا أنه إذا كان لا يحزنه فلا نهي، لأن انتفاء العلة يقتضي انتفاء الحكم، وأنه لو وجدت العلة في غير المناجاة وهو إحزان الجليس لثبت الحكم وإن لم تكن مناجاة، ومثال ذلك: رجلان يعرفان اللغة الفارسية وأنا عندهما لا أعرف الفارسية، فبدأ كل واحد يكلم الآخر باللغة الفارسية ويجعل كلما كلمه جعله ينظر إليه، هذا أمر يحزنني مع أنهما لم يتناجيا، بل حصل ذلك هنا برفع صوت لكن لما كانت لا أدري ما يقولون بحسب اللغة صارا كالمتناجيين اللذين يتكلمان سرا إذن فوائد قرن الحكم بالتعليل أربعة. 818 - وعن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر، فثمرتها للبائع الذي باعها، إلا أن يشترط المبتاع». متفق عليه. "ابتاع" بمعنى اشترى، وباع، بمعنى: شرى ومثله قوله تعالى: {ومن الناس من يرشى نفسه ابتغاء مرضات الله} [البقرة: 207]. يشري بمعنى: يبيع. قوله: "من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر" هل المراد: أصل النخل، أو المراد: ثمر المخل؟ المراد: أصل النخل، يعني: رجل باع نخله، وقوله: "بعد أن تؤبر"، التأبير هو التلقيح، "فثمرتها للبائع" يعني: هذه الثمرة الموجودة في النخلة تكون للبائع مبقاة إلى أوان أخذها، "إلا أن يشترط المبتاع" يعني: يشترط أن هذه الثمرة المؤبرة له، فإن اشترط ذلك وتنازل عنها البائع فالحق له فلا بأس، هذا معنى الحديث. وقوله: «من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر ... إلخ» يستفاد منه فوائد: الفائدة الأولى: أن من اشترى نخلا بعد التأبير فثمرتها للبائع، والحديث في ذلك صريح، والحكمة هو أن البائع عمل في هذه الثمرة عملاً يصلحها لأن التأبير يصلح الثمرة، فلما عمل فيها عملاً يصلحها تعلقت نفسه بها، وصار له تأثير فيها فلذلك جعلها الشارع له.

ومن فوائد الحديث: أنه لو باعها قبل التأبير فثمرتها للمشتري؛ لأن البائع لم يفعل فيها شيئاً، وظاهره حتى وإن تشقق الثمر، يعني: انفرج الكافور عن الثمرة حتى بدت، خلافاً لقول بعض العلماء: إنه إذا تشقق الثمر فهو للبائع، وهذا القول ضعيف بلا شك؛ لأننا لو علقنا الحكم بالتشقق لكنا محرفين للنص من وجهين: الوجه الأول: أننا اعتبرنا مناط الحكم شيئاً لم يعتبره الشارع وهو التشقق. الثاني: أننا ألغينا وصفا اعتبره الشارع، وهذا لا شك أنه جناية، الشارع جعل الوصف للتأبير والعلة واضحة فيه، فلا يصح إلحاق التشقق به، ونظير هذا التحريف -تحريف بعض العلماء رحمهم الله- قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر». وقوله: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة». حيث حرفوا الحديث إلى أن المراد به: من تركها جاحداً لوجوبها، ولا شك أن هذا القول ضعيف، لأن من جحد وجوبها كفر سواء تركها أو لم يتركها، حتى لو جاء الإنسان مبكرا إلى الصلاة وحافظ عليها، لكن يرى أنها سنة فهو كافر، فحينئذ نقول: اعتبرنا وصف لم يعتبره الشرع، وألغينا وصفا اعتبره الشارع، وهو الترك، وهذا تحريف بلا شك أن يلغي الإنسان وصفا علق الشارع الحكم عليه، ثم يأتي بوصف آخر ثم هو منتقض بمن يصلي وهو يعتقد عدم الفرضية فإن عندهم كافر، والحديث لا يدل على كفره لو أخذنا بالدلالة التي زعموها؛ لأن الحديث يدل على من ترك، وهذا التأويل الذي يصح أن نقول: إنه تحريف بعضهم قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤهم جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} [النساء: 93]. قال المراد بذلك: من قتله مستحلاً لقتله، وقد عرض هذا القول على الإمام أحمد فتبسم، وقال: إذا استحل قتله فهو كافر وإن لم يقتله والوعيد على القاتل، فهذا اعتبار وصف لم يعتبره الشارع وإلغاء وصف اعتبره الشارع. وسبب ارتكاب مثل هذه الأمور العلة التي يجب التخلي منها وهي أن الإنسان يعتقد ثم يستدل؛ لأنه إذا اعتقد أولاً ثم استدل حاول في كل النصوص التي تخالف اعتقاده أن يحولها إلى ما يقتضيه اعتقاده، وحينئذ يجعل النصوص تابعة لا متبوعة، والواجب على كل مؤمن أن يستدل ثم يعتقد، فيجعل الاعتقاد تابعاً للاستدلال حتى تكون الأدلة متبوعة لا تابعة، على كل حال: نحن نريد استطراد هذا، لكن (زيادة شرح)، إذا باع نخلاً قبل أن تؤبر وقبل أن تشقق فثمره للمشتري، لأن هذا ظاهر الحديث قالوا جب العمل به.

فمن فوائد الحديث: مراعاة النفوس فيما تتعلق به؛ لأن الشارع راعى البائع الذي أبر النخل حيث تتعلق نفسه به، وهذه حتى في مسائل العبادة، يعني: في المعاملات قد تكون ظاهرة ألم تروا إلى الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفتح فقال: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، قال: «صل هاهنا فأعاد عليه، قال: صلى هاهنا فأعاد عليه قال: شأنك إذن، فلما رأى نفسه متعلقة أن يذهب إلى بيت المقدس قال: دعوه يذهب، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أحرمت متمتعة بالعمرة إلى الحج في حجة الوداع فأصابها الحيض في سرف ولم تتمكن من إتمام العمرة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل الحج على العمرة، ويحصل لها بذلك أجر عمرة وحجة، حتى قال لها: «طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يسعك لحجك وعمرتك»، لكن لم انتهى الناس من الحج ألحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تأتي بعمرة، فأذن لها الرسول صلى الله عليه وسلم وأرسل معها أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر، ولم يقل له: أحرم بالعمرة؛ لأنك ذاهب إلى الميقات ولم يرشده لذلك؛ مما يدل على أن العمرة بعد الحج خاصة بمن كان مثل عائشة لا لكل أحد. على كل حال: إن الشرع يعطي النفس شيئا من الحظوظ أجاز النبي صلى الله عليه وسلم من إنسان يموت أن يحد في خلال ثلاثة أيام إذ أن النفس قد تنكسر بالمهيبة ولا تستطيع أن نفعل ما كان يفعله الإنسان وهو غير مصاب، فأذن له الشرع بأن يحد ثلاثة أيام فقط، المهم أننا نقول: هذا أن الشرع -ولله الحمد- مناسب للفطرة ولما تقتضيه النفوس وهذه من نعمة الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: جواز بيع النخل وعليه الثمرة وجواز بيعه قبل التأبير وبعده، ولكن إذا باع النخل فما الذي يتناوله البيع؟ هل يتناول البيع الشجرة نفسها والأرض أو الشجرة وحدها، يعني مثلا بعت عليك نخلة فهل يشمل أرضها أو هو خاص بالنخل فقط، والفرق بين الأمرين أننا إذا قلنا: إنه يشمل الأرض فماتت تلك الشجرة أو أصابها ما يتلفها فهل تبقى الأرض للمشتري أو لا؟ إن قلنا: إن الأرض تتبع النخل فإنه تبقى للمشتري، وإن قلنا: إن الأرض لا تتبع النخل فإن الأرض باقية للبائع، هذه المسألة نقول: المرجع فيها إلى العرف، والعرف عندنا أنه إذا قال الناس: باع فلان نخلة يريدون البستان كله، أرضه وشجره، فإذا كان العرف يقتضي أن النخل هو الشجر فقط دون الأرض، فإن النخلة إذا تلفت فإن المشتري لها لا يملك غرس شيء مكانها؛ لأن البيع لا يشمل الأرض، وهذا قال العلماء فيما إذا رهن نخلا أو أو أوقف نخلا أو ما أشبه ذلك، هل الأرض تتبع النخل أو لا؟ فالأصل أن الأرض لا تتبع، لأن الأرض أصل

والشجر فرع كما أن الشجرة أصل والثمر فرع، إلا أن يكون هناك عرف يخالف هذا فالمرجع فيه إلى العرف، فالحديث الذي معنا يقول: "من باع نخلا" فالمعقود عليه هو النخل ومعلوم أن النخل في الغالب أنه إذا بيع بعد التأثير سيبقى، ولكن إذا الذي ذكرناه لا يؤخذ في الحيقية من الحديث لا نقيا ولا إثباتا لكن ذكرناه للأهمية. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للمشتري أن يشترط الثمرة بعد التأبير لنفسه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إلا أن يشترط المباع». ومن فوائد الحديث: أنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا وجهه: أنه لو اشترى إنسان الثمرة وحدها بعد التأبير وقبل بدو صلاحها فقد سبق لنا أنه لا يجوز، ولو اشترى النخل بعد التأبير والثمر في هذه الحال للبائع، واشترطه لنفسه جاز، لماذا؟ لأن الثمر الآن صار تبعا للشجر، أما ما ورد النهي عنه فهو بيع الثمر وحده، وهذه القاعدة أقرها أهل العلم مستندة إلى ما جاءت في السنة أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالا، لو أنه باعه قبل التأبير واشترط على المشتري أن تكون الثمرة له فهل يجوز، يعني: عكس ما جاء به الحديث؛ لأن الحديث باع بعد التأبير واشترط المشتري أن الثمرة له، الصورة التي ذكرت الآن باعه بعد التأبير فالثمرة للمتري لكن البائع اشترطها لنفسه هل يجوز؟ إذا قلنا: يجوز فيبقى هنا إشكال وهو أن البائع تملك الثمر قبل بدو صلاحه، فما الجواب؟ نقول: هذا استدامة ملك، وليس استحداث ملك بمعنى: أن البائع لما باعه استثنى هذه الثمرة من البيع، أي: أبقى ملكه عليه، فظهر الفرق بين شخص يشتري الثمر مستقلا، وبين أن يبقى ملكه عليه. فإن قال قائل: وإذا قلنا بصحة البيع وأصاب الثمرة جائحة فهل يضمن المشتري البائع؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لو بعت من أخي شيئا فأصابته فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا»، فهل هذا البائع الذي اشترط أن الثمرة له إذا أصيبت الثمرة يرجع على المشتري؟ الجواب: لا يرجع، فإن أشكل عليه فإن الحديث واضح يقول: «لو بعت من أخيك ثمرا»، والبائع هنا لم يشتر وإنما استبقى ملكا، فهو لم يملكه من جهد المشتري حتى يضمن إياه ولكنه أبقى ملكه عليه، وعلى هذا فلو أصيب هذا الثمر الذي اشترطه المشتري الثمر الذي يستحقه البائع فأصيب بجائحة، فهل يرجع المشتري على البائع؟

الظاهر لي أنه لا يرجع، وعلى كل حال: لو قيل: يرجع بقدر النخل خاليا من الثمرة وبقدر فيه الثمرة وما بينهما هو قيمة الثمرة، لكنه لا يقدر؛ لأن هذا تابع والحديث يقول: «لو بعت من أخيك ثمرا»، وأنا ما بعت، فهو يشبه -والله أعلم- الصفة، والقول بالرجوع له وجه قوي في الواقع؛ لأن الظاهر أن اشتراط المشتري للثمر سوف يزيد به الثمن يعني: ليس سواء عن البائع أن يبيعه والثمرة له أو أن يبيعه والثمرة للمشتري، فلا شك أن الثمن سيزيد، فلهذا يترجح القول بأنه يرجع على البائع؛ لأن المشتري اشترط أن يكون الثمر له، ويكون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو بعت من أخيك ثمراً» هذا بناء على الغالب أما من باع نخلا وعليه ثمر للبائع واشترطه، الظاهر أن القول بأنه يرجع كما لو اشتراه استقلالا قوي، والمسألة تحتاج إلى تأمل؛ لأنه -كما ذكرت- إذا اشترط المشتري أن الثمرة له فسوف يزيد في الثمن بلا شك. ومن فوائد الحديث: جواز الشرط في البيع، أو بعبارة أصح: جواز البيع مع الشرط، وهذا له أصول كثير تشهد له عموما وخصوصا، فمن الأدلة العامة على جواز الشروط في العقد قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1]. والوفاء بالعقد يتضمن الوفاء بأصله والوفاء بوصفه وكل شرط يشترط قي العقد فهو من أوصافه، والأمر في الآية عام للوفاء بالأصل والوصف ولقوله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} [الإسراء: 34]. والمشترط على نفسه شروطا معاهد لمن اشترطه، فتكون هذه الآية تدل على جواز الشروط والوفاء بها، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» كل هذه أدلة عامة من الكتاب والسنة، دليلان من القرآن، ودليلان من السنة، أما الخاصة فقد ثبت في الصحيحين وغيرها من حديث جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى منه جملا واشترط جابر عليه أن يحمله إلى المدينة، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الشرط، وهذا نص في الشرط في البيوع. وثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بربرة حيث اشترطوا أن يكون الولاء لهم فأبطله الرسول صلى الله عليه وسلم وقال كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فهو دليل على أن هذا الشرط الخاص بالعقد -عقد البيع- لو كان لا يخالف الشرع لكان صحيحاً، وهذا الحديث معناه واضح، إذن فيكون ما جاء في الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط» يجب أن يكون محمولا على شرط له أثر في إبطال العقد، وأما ما لا أثر في إبطال العقد فلا يعمه هذا الحديث، وقد سبق لنا مثل هذا كثيرا مثل نهي عن بيعتين في بيعة، وقلنا: إن مثل هذه المنهيات تنزل على بقية النصوص، وتحمل على ما دلت النصوص على بطلانه.

5 - أبواب السلم، والقرض، والرهن

إذا قال قائل: هلى يلحق بالنخل ما عداه كالعنب والتين والبرتغال؟ نعم يلحق به، فما سواه في العلة مثله؛ لأن القاعدة الشرعية أن الشرع لا يتناقض {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيرا} [النساء: 82]. أما ما كان من عند الله فليس فيه خلل فالشريعة لا تفرق بين متماثلين ولا تساوي بين متفرقين، وإذا توهمت شيئا خلاف هذه القاعدة فاتهم نفسك ولا تعتد برأيك فإن الرأي خوان؛ لأن النصوص محكمة من عند الله محفوظة بحفظ الله، ووهمك قاصر معرض الخطـ فاتهم الرأي في مقابل الشرع ولا تعتد بنفسك. وعلى هذا فتقول ما ساوى النخل في العلة فهو مثله، فإذا كان الثمر لم يتفتح زهره فإنه يتبع الشجرة ويكون للمشتري، وإذا تبع وتعلقت به النفوس وتفتحت أزهاره فإنه يكون للبائع، ويرجع في هذه الأمور التي ليست فيها تأبير إلى ما قاله أهل الصنف فيها. * * * * 5 - أبواب السلم، والقرض، والرهن كيف قال: "أبواب السلم" والسلم ليس له إلا باب واحد؟ نقول: جمع ذلك باعتبار أنه متضمن لثلاثة أبواب من أبواب العلم، وهي السلم والقرض والرهن، فلنبدأ أولا بالسلم وما هو؟ السلم في اللغة: يظهر لي أنه اسم مصدر تسليما، يقال: سلك تسليما وسلما، ويحتمل أن يكون فعل بمعنى: مفعول؛ أي: مسلم، ويقال في لغة أخرى: السلف، وهو لغة العراقيين، وهو مأخوذ من أسلف أي: قدم، وكلاهما بمعنى التقديم، فهو تقديم العوض وتأخير المعوض، هذا السلم في اللغة، أن تقدم العوض وتؤخر المعوض كيف ذلك؟ أردت أن تشتري مائة صاع بر فجئت إلى فلاح وقلت: بعني مائة صاع بر فقال: ما عندي بر الآن، انتظر حتى يأتي وقت الحصاد، فقال: أعطني دراهم أن محتاج الآن، فأعطيته دراهم وكتبت ما بيني وبينه يسمى هذا سلم وهو الذي قدم فيه الثمن أو العوض وأخر المعوض الذي هو المثمن، وقال الفقهاء: إنه عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد، هذا تعريف طويل، عقد على موصوف في الذمة" أولا: "على موصوف" أنه لا يصح على معين؛ يعني: لا يمكن الإسلاف في شيء معين مثل أن أسلم إليك دراهم في سيارة كالمعلومة هذه لا يصح، وقولهم: "على موصوف في الذمة" أي: لا يصح أيضا على موصوف معين؛ لأن الموصوف قد يكون في

الذمة وقد يكون معينا، الموصوف المعين مثل: أن أقول بعت عليك سيارتي التي في جراجي صفتها كذا وكذا موديلها (85) ... إلخ، وأذكر نوعها، هذا نسميه موصوف معين؛ لأني ما أشرت إليه لكن عينته بالوصف، وهو يعرف أنه بالجراج، على موصوف في الذمة مثل: أن أقول على سيارتي صفتها كذا وكذا غير معين، والفرق بينهما ليس هذا محل بسطه لكن الكلام على "وصوف في الذمة" ليخرج به شيئان هما: المعين المشار إليه، والمعين الموصوف، "مؤجل" لابد أن يكون هناك تأجيل كما سيأتي في الحديث، "ثمن مقبوض في مجلس العقد"؛ لأنه لا يتحقق الإسلاف إلا بالتقديم، ولأن هذا هو الحكمة من جواز كما سيأتي إن شاء الله. أما القرض فهو تمليك مال لمن ينتفع به ويرد بدله مأخوذ من القرض بمعني: القطع، لأن المقرض يقطع شيئا من ماله لينتفع به المقترض، ويرد بدله يسمى عند الناس -القرض-: السلف فهذا هو القرض، وسيأتي -إن شاء الله- أن الحامل على القرض ابتغاء وجه الله، ولهذا لا يجوز فيه الربا. وأما الرهن فهو توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها، أو استيفاء بعضه منها أو من بعضه، هذا طويل مأخوذ من الرهن بمعنى: الحبس، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38]. أي: حبيسة، نقول الرهن هو: توثقة دين بعين، والرهن عين يمكن استيفاؤه أي: الدين أو بعضه إذا كان أكثر من قيمة العين، منها إذا كان تغطي الدين، أو من بعضها إذا كانت أكثر من الدين. القرض قلنا: "إنه تمليك مال .... إلخ"، فقولنا: "تمليك مال" خرج به الإجارة والعرية ودخل فيه البيع، لأن فيه تمليك، ودخل فيه الهبة؛ لأن فيها تمليك، لكن سيخرج البيع والربا قولنا: "لمن ينتفع به ويرد بدله" البيع ليس الأمر فيه كذلك؛ لأن البيع تمليك بعوض يأخذ وينتهي، أما هذا فلابد أن أرد بدله، خرج به العرية فإنها ليست تمليكا، ولابد أن أردها بعينها. حكم هذه الأشياء الثلاثة كغيرها من المعاملات وهو الحل؛ لأن الأصل في المعاملات الحل حتى يقوم دليل على المنع، ولذلك أي شخص يقول: هذه المعاملة حرام، تقول له: هات الدليل إن جاء بدليل وصار دالاً على ما قال وجب علينا قبوله والعمل به، بأن ننتهي عن المعاملة، وإن لم يأت بذلك فالأصل الحل؛ لأن الله عز وجل، أراد أن يوسع على العباد، ولهذا أنا أسال المعاملة بطمأنينة، ولو كان الأصل التحريم في المعاملة لكان في ذلك تضييق على الخلق، كيف ذلك؟ لأن الواجب على كل إنسان قبل أن يقوم بأي معاملة أن يعلم حكم الشرع فيها من حيث الحل أو الحرمة وهذا يصعب على الناس، لاسيما العامة في أسواقهم وتجاراتهم فالأصل أن أتعامل بما شئت حتى يقوم دليل على المنع. إذن نقول: السلم والقرض والرهن الأصل فيها الحل، قال بعض الناس: إن السلم على

خلاف القياس؛ لأن السلم بيع معدوم، والقياس أن بيع المعدوم لا يجوز وغير صحيح، فهو ليس بشيء حتى يعقد عليه فإذا جاءت السنة بجواز السلم فهذا على خلاف القياس فأولا: يجب أن ننظر في هذا القول هل هو سليم أو كسير؟ هذا كسير كسراً لا ينجبر لماذا؟ لأن السنة أصل بنفسها فلا يمكن أن يأتي دليل من الكتاب والسنة ثم نقول: أنه على خلاف القياس أو على خلاف الأصل، من الذي يؤصل الأصول؟ الله ورسوله، فإذا جاءت السنة بدليل يدل على أن هذا جائز أو هذا حرام، لا يسوغ لنا أن نقول: هذا على خلاف الأصل، بل نقول: هذا على وفق الأصل؛ لأن الكتاب والسنة هما الأصل، فهذا القول باطل من أصله ولا يمكن أن يقال عن شيء ثابت بالكتاب والسنة إنه على خلاف الأصل، العجيب أن بعض الناس قال: إن النكاح على خلاف الأصل، معناه أن كل زيجاتنا على خلاف الأصل، لماذا؟ قال: لأنه عقد على منفعة مجهولة لا تدري متى تموت المرأة أو متى تموت أنت، وأنت عاقد عليها إلى الموت وأنت لا تدري متى تموت وهي كذلك، إذن هذا على خلاف الأصل وخلاف القياس، أقول: هذه الكلمة باطلة من أصلها بماذا نبطلها؟ بأن نقول: ما ثبت بالدليل الشرعي فهو أصل بنفسه، الكتاب والسنة هما أصل الأصول. نرجع هل صحيح أن هذا على خلاف الأصل الذي أصلوه؟ الجواب: لا، ليس بصحيح، لأن السلم عقد على موصوف في الذمة، والممنوع شرعا أن يعقد على معين غير موجود، لو عقد على معين غير موجود صح، وكيف يكون بعينه وهو غير موجود مثل أن يقول: أسلمت إليك فيما تحمل به هذا الشاة، هذا لا يصح؛ لأنه معين، أو على قول كثير من العلماء: أسلمت إليك فيما يحمل بستانك هذا لا يجوز؛ لأنه معين ويستقضي أن يكون بيع معدوم، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحها، فنهيه عن بيع قبل أن تخلق من باب أولى. على كل حال نقول: هذا عقد على موصوف بالذمة متعلق بذمة العاقد وليس له دخل بالمعقود عليه، المعقود عليه غير معتبر، المعتبر ذمة العاقد، ولهذا لو أن النخيل أو نخلي أنا أيها المسلم إليه لم يثمر يبقى المبيع في ذمتي فهو على وفاق الأصل؛ لأنه لم يخالف الأصول وفيه مصلحة عامة للمسلمين، فكان موافقا للأصل، وهذه النقطة ينبغي لطالب العلم أن يدركها، وهو يرى في كلام بعض أهل العلم يمر به أشياء يقول فيها: هذا على خلاف الأصول، فنقول: هذا قول باطل ليس في القرآن والسنة ما هو على خلاف الأصل، ثم نقول: إن السلم على وفاق الأصل لما فيه من المصالح العظيمة: مصلحة المسلم والمسلم إليه والمعقود عليه غير معين، فلا ينطبق عليه أن بيع معدوم.

أما الرهن فهو توثقة دين بعين الموثق بالدين هو المطلوب ويسمى راهناً، والموثق له هو الطالب ويسمى مرتهنا، وقول المؤلف: "توثقة دين" يعني: أنه لا يصح الرهن لتوثقة عين، مثل أن يأتيني رجل فيقول: أعرني كتابك، فأقول: لا أعيرك إلا برهن، فيقول: هذا لا يجوز، لماذا؟ لأنه ليس توثقة دين، والصحيح أنه يجوز توثقة الدين، والعين، والمنفعة، كما لو استأجرت أجيراً وطلبت منه الرهن؛ لأن المقصود هو التوثيق في أي حق من الحقوق سواء كان دينا أو عينا أو منفعة، وقوله: "توثقة دين بعين" ظاهرة أيضا أنه لا يصح أن أوثق دينا بدين، كيف ذلك؟ يأتي رجلا يقول أقرضني ألف ريال، فأقول: لا بأس، لكن تطلب من فلان ألف ريال يكون رهنا للدين عند فلان، وتخبره بذلك، فيقول: نعم، أنا قصدي لما قلت: الدين لذمة فلان توثة لأن فلانا عندي أوثق من هذا الرجل هذا ممكن أن يقول بعض العلماء: لا يجوز، ولكن الصحيح أنه جائز؛ لأن هذا عقد ضمان ليس عقد معارضة، حتى نقول: لابد فيه من القدرة على التسليم، يمكن استيفاؤه أو بعضه منها أو من بعضها، صحيح لأنه لو لم يمكن استيفاؤه ما صح الرهن لو جاء إلى رجل وقال: أقرضني مائة ريال فقلت: أرهني كلبك، الرهن هنا لا يصح لماذا؟ لأنه لا يمكن استيفاء الكلب منه إذ إن الكلب لا يصح بيعه فلا فائدة. 819 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم». متفق عليه. - وللبخاري: "من أسلف في شيء". قوله: "قدم المدينة" يعني: في الهجرة في السنة الثالثة عشرة من بعد البعثة، وكلكم تعرفون أسباب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف هاجر، وقدم في ربيع الأول، "وهم يسلفون" الجملة هذه جملة حالية، يعني: والحال أن أهل المدينة، "يسلفون في الثمار" أي: يقدمون فيها، المقدم: المشتري والمقدم إليه: البائع، ولهذا يقال: أسلف الثمر يعني: قدم الثمن في الثمر الذي اشتراه، فيأتي الفلاح إلى الرجل ويقول: أسلفني دراهم بثمر، فيسلفه دراهم بثمر، ينتفع الطرفان، الفلاح ينتفع بالدراهم يقضي بها حوائجه، والتاجر ينتفع بزيادة المبيع؛ لأننا إذا قدرنا أن الثمر يباع بدرهم فسوف يأخذ الصاع في السلم بثلاثة أرباع درهم، أو أربعة أخماس درهم، وليس من المعلوم عادة أن يسلم إلى شهر بالثمن الحاضر؛ لأن الناس يريدون التجارة والربح من وراء المعاملات، يعني: مثلا لا يمكن أن يسلم مائة درهم بمائة صاع، والصاع يساوي درهما وقت

الإسلاف لماذا؟ لأنه ليس له مصلحة ولا فائدة، إنما يمكن أن يسلم خمسة وتسعين درهماً بمائة صاع، والصاع يساوي درهما فيربح خمسة وعشرين في المائة المهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في ثمر»، وفي لفظ: "في ثمر"، وفي لفظ للبخاري: «في شيء» فيكون أعم، «فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»، «من أسلف»، يعني: قدم الثمن، «في شيء» هذا هو المثمن مؤخر لقوله: "إلى أجل"، "فليسلف" اللام هذه للأمر وهي جواب الشرط جواب "من" واقترنت هذه الجملة بالفاء؛ لأنها طلبية، وقد نظم في هذا البيت: [الكامل] (اسمية طلبية وبجامد ... وبما قد وبلن وبالتنفيس] وقوله: "فليسلف" اللام هذه للأمر؛ يعني: فليقدم، "في كيل معلوم ووزن معلوم" فحصر المسلف فيه إما مكيلا وإما موزونا، الثما واضحة أنها مكيلة، فهي لا تكون موزونة، فما الجواب عن هذا، هل نقول: هذا يدل على أنه يجوز الإسلاف في المكيل وزنا أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعمم فيذكر ما يحتاج الناس إليه من الكيل وما قد يصدر من الشيء الموزون؟ هذا محل خلاف، والحديث محتمل، والخلاف موجود بين العلماء، قال: "إلى أجل معلوم" الأجل: المدة المتأخرى، "معلوم" يعني: غير مجهول، وقوله: "إلى أجل معلوم" هل الشرط هنا منصب على قوله: "معلوم"، أو على الأمرين جميعا إلى أجل ومعلوم؟ فيه خلاف، فمنهم من قال: إن الشرط منصب على الموصوف والصفة، الموصوف الذي هو "الأجل" والصفة التي هي "معلوم" فعلى القول الأول يجوز السلم حالاً، وعلى القول الثاني لا يجوز. فهذا الحديث فيه توسعة على المسلمين في معاملاتهم؛ لأن هذا السلم نوع من المعاملات التي فيها سعة للبائع والمشتري، فيكون هذا فرداً من أفراد لا تحصى دالة على أن هذه الشريعة سمحة موسعة ولله الحمد. فيستفاد من هذا الحديث: أولاً: جواز السلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم عليه لكن أدخل عليه لكن أدخل عليه شروطا، إنما هذا مأخوذ من جواز السلم في الأصل، وهو أمر مجمع عليه -فيم أعلم- وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282]. قال ابن عباس رضي الله عنه: إن السلم حلال في كتاب الله ثم تلا هذه الآية، وعلى هذا فيكون السلم ثابتا بالكتاب والسنة. وهل السلم على وفق بالقياس، أو على خلاف القياس؟ ذكرنا أن هذه العبارة التي كانت

من بعض العلماء فيها نظر من وجهين، الوجه الأول: أن كل حكم ثبت بنص فهو على مقتضى القياس؛ لأن النص أصل برأسه وقياس برأسه، فلا حاجة إلى أن نقول: إن هذا على خلاف القياس أو على وفقه، الثاني: أن كل شيء قالوا: إنه على خلاف القياس فإنه عند التأمل تراه موافقا للقياس، فالعبارة فيها نظر من وجهين، فنحن نقول: السلم على وفق القياس للوجهين المذكورين، أولاً: أنه قد ثبت به النص، وثانيا: أن فيه منفعة للخلق، فالبائع ينتفع والمشتري ينتفع، وتوهم بعض العلماء، فقال: إن هذا من باب بيع المجهول، وبيع المجهول الأصل فيه المنع، فيكون هذا على خلاف القياس في منع بيع المجهول، نقول: هذا غلط ووهم، لأن السلم ليس بيع شيء معين، إنما هو بيع موصوف في الذمة، فهو كعقد الإجازة أعقد على شيء هو عمل ما فعلته لم أره ولم أستوفه، لكن العمل موصوف في ذمة العامل فهذا مثله فليس فيه شيء على خلاف القياس. ومن فوائد الحديث: بيان توسعة الشريعة الإسلامية في المعاملات، وأن الأصل في المعاملات الحل حتى يقوم دليل على المنع. ومن فوائد الحديث: اغتفار الجهل اليسير الذي ينغمر في المصلحة؛ لأن الواقع أن السلم فيه من الجهالة ما هي؟ أنه قد لا يوجد المسلم فيه عند حلول الأجل، فيبقى فيه شيء من الجهالة، ثم إنه ليس الموصوف كالشاهد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة» فلا يسلم من جهل، لكنه مغتفر بجانب المصلحة. يتفرع من هذه الفائدة: أن الجهالة اليسيرة المنغمرة في جانب المصلحة لا تضر، وينبني على ذلك جواز بيع البصل والفجل ونحوهما قبل قلعه، هذا البصل يغرس في الأرض والمقصود منه مستتر، لكن لما كانت الجهالة فيه يسيرة منغمرة في جانب المصلحة اغتفرها الشارع، ولم يلتفت إليها، ولهذا كان القول الراجح في هذه المسألة أن يجوز بيع البصل ونحوه مما المقصود منه مستتر في الأرض؛ لأن الجهالة فيه يسيرة مغتفرة في جانب المصلحة. ومن فوائد الحديث: أنه يجب علم المسلم فيه بالكيل لقوله: "في كل معلوم"، أو الوزن لقوله: "ووزن معلوم". ولكن هل يجب أن يسلم في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا، أو يجوز أن يسلم في المكيل وزنا وفي الموزون كيلا؟ فيه خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: إنه يجوز أن يسلم في المكيل وزنا وفي الموزون كيلا فنقول مثلا: هذه مائة درهم بمائة كيلو من البر هذا وزن، أو هذه مائة

درهم بمائة صاع من البر هذا كيل، وهذا القول هو الصحيح أنه يجوز الإسلاف في المكيل وزنا وفي الموزون كيلا بخلاف بيع المكيل بالمكيل فلابد أن يكون بالمعيار الشرعي، إذا بعنا برا ببر لابد أن نقدر بالكيل؛ وذلك لأنه يشترط التساوي، أما في باب السلم فليس هناك عوض مع عوض آخر يجب أن يساوية. ومن فوائد الحديث: أنه لو أجله إلى أجل مجهول بطل السلم أو لم يصح السلم لقوله: "إلى أجل معلوم"، فلو قال: أسلمت إليك مائة درهم مائة صاع من البر إلى قدوم زيد، فهذا لا يجوز؛ لأن قدوم زيد غير معلوم، فإن قال: إلى رمضان صح؛ لأنه معلوم، وإن قال: إلى الحصاد أو الجزاز ففيه خلاف، منهم من أجاز ذلك، ومنهم من منعه، والصحيح: الجواز، وقد مر علينا غير بعيد ما يدل على جواز ذلك وهو أن الرسول أجاز أخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة وهي ليست معلومة ليست معلومة ليوم معين، ولكن لزمن، إذا لصحيح أنه يجوز إلى الحصاد والجزاز. ومن فوائد الحديث: أنه لابد أن يكون السلم مؤجلا لقوله: "إلى أجل معلوم"، ولكن الأجل إلى متى، طويل أو قصير؛ يعني: هل يكتفي إلى أجل مثل أن أقول: أسلمت لك مائة درهم بمائة صاع بر لمدة ستين دقيقة؟ العلماء -رحمهم الله- قالوا: لابد من أجل له وقع في الثمن، يعني: أن الثمن ينقص به، أما ما لا يتأثر فهذا في أول زمن الشتاء، وأسلمت إليه بثياب شتاء، المدة الوجيزة لها وقع في الثمن؛ لأن الناس يقبلون على طلب هذه الثياب، وبناء على ذلك ينظر إلى المدة التي يقول أهل الخبرة: إن لها تأثيرا ووقعا في الثمن، وقيل: إنه يصح السلم في الحال، وجعلوا الشرط منصبا على الصفة دون الموصوف، ما هى الصفة؟ "معلوم" يعني: أنك إذا أسلمت إلى أجل فليكن الأجل معلوما، وإن سلمت في حاضر فلا بأس، وبناء على ذلك فيجوز أن أسلم إليك مائة درهم بمائة صاع من البر ولا نذكر الأجل وتأتي بها في آخر النهار؛ ولكن الذين يقولون بعدم الجواز يقولون: إن هذا يكون بيعا لا سلما فيحملونه على الوجه الذي يصح وهو البيع، ولكن الذي يظهر أن الغالب أن مقتضى الحال في السلم أن يكون إلى أجل من أجل أن ينتفع البائع والمبتاع. ومن فوائد الحديث: جواز استصناع الصنعة؛ يعني: تأتي إلى نجار وتقول: أسلم مائة درهم بباب تصنعه لي وتذكر صفته؛ لأنه إذا جاز في الأعيان جاز في الصنائع، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال بالجواز، ومنهم من قال بالمنع، والصحيح الجواز، وهو الذي عليه عمل الناس، يأتي الإنسان إلى النجار يقول: أصلح لي الباب، يأتي إلى الحداد

يقول: أصلح لي شبكات، يأتي إلى الحذاء يقول: أصلح لي حذاء، فالصواب أنه يجوز استصناع الصنعة سواء أتيت أنت بالمادة أم لم تأت بالمادة مثل أن تأتي بالخرقة للخياط وتقول: اصنع لي هذا الثواب على الوجه الفلاني وتعين، أو هو بنفسه تكون الخرفة منه وتستصنع منه الثوب كاملا. يستفاد من هذا الحديث: اشتراط العلم بوصف المسلم فيه يعني: أنه لا يجوز أن تقول: أسلمت إليك مائة صاع من البر حتى تصف هذا البر، يؤخذ من قوله: "في كيل معلوم"، لأن هذا يشمل علم القدر وعلم الصفة، فإن أبيت إلا أنه يختص بعلم القدر، فإننا نقول: علم الصفة مقيس على علم القدر، فإذا كان الشارع اشترط أن يكون القدر معلوما فكذلك الصفة يجب أن تكون معلومة، إذا وصفته بأنه طيب أسلمت إليك من الدرهم بمائة صاع بر طيب صحيح، إذا وصفته بأنه أطيب شيء، ففيه خلاف، بعض العلماء يقول: لا يصح؛ لأن أطيب شيء لا يمكن الإحاطة به، إذ ما من شيء إلا وفوقه أطيب منه، فإذا قلت: أطيب شيء وفشى في البلد أن هذا أطيب شيء، ولكنه ليس بأطيب شيء في الدنيا، ذهب إلى بريدة وأحضر الطيب يقال: إن الرياض أطيب فذهب إلى الرياض، فأقول له: في جدة أطيب منه، في بشارور أطيب منه وهكذا فلذلك قال العلماء: لا يجوز أن تقول: أطيب؛ لأن أطيب اسم تفضيل يقتضي أن يكون ليس فوقه شيء، وقال بعض العلماء: بل يجوز أطيب، ويحمل على ما جرى به العرف، يعني: أطبب ما يوجد في السوق أو في البلد، أما أطيب ما يوجد في الدنيا فهذه لا تخطر على بال أحد، وهذا هو الذي عليه العمل، حتى عمل الناس الآن في مكانتهم يقولون: أطيب ما يكون، ويرون كلهم أن قوله: أطيب ما يكون أي: في هذا البلد أو في السوق. ومن فوائد الحديث: حكمة الشريعة في منع المعاوضة بالمجهول؛ وذلك لأن المعاوضة بالمجهول تؤدي في النهاية إلى النزاع المقضي إلى العداوة والبغضاء، والشريعة الإسلامية تحارب كل شيء يوجب العداوة والبغضاء بين أبنائها؛ لأنه إذا كان لم يكن تواد وائتلاف تفرقت الأمة وتمزقت. ومن فوائد الحديث: في رواية البخاري: جواز الإسلاف في كل شيء، ومن ذلك أن يسلم في السيارات، في الحيوانات، من بهيمة الأنعام وغيرها لعموم قوله: "من أسلف في شيء"، فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم" فيحمل العموم في قوله: "في شيء" أي في شيء مما يكال أو يوزن، فما الجواب؟ الجواب: على هذا أن تقول: إن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء يعني: إذا جاء النص عاما ثم فرع على بعض أفراده، فهل يحمل على هذا الفرع الذي فرع عليه، ويجعل ذكر الفرد كالمثال، يعني: إذا جاء

النص عاما ثم ذكر بعد هذا العموم ذكر يختص ببعض الأفراد فهل يحمل العموم على الاختصاص، أو لأنه ذكر ما يدل عليه، أو يحمل على العموم ويكون ذكر بعض الأفراد على سبيل التمثيل يحضرني الآن ثلاثة أمثلة: هذا واحد "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"، فإذا نظرنا في "شيء" وجدنا أنها تعم المكيل والموزون والمعدود والمذروع، وإذا نظرنا إلى "فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم"، قلنا: إنها تختص، إنه عام أريد به الخاص فيختص بما يكال وما يوزن. المثال الثاني: حديث جابر "قضى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفعة في كل ما لم يقسم" هذا عام يشمل حتى الثياب والسيارات وأي شيء، "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة"، هذا الحكم يختص ببعض أفراد العموم وهي العقارات، فهل نقول إن الشفعة خاصة بالعقارات، أو نقول: إنها عامة وذكر ما يختص بالعقار على سبيل التمثيل؟ في هذا خلاف، فمن العلماء من يقول: إن الشفعة في كل شيء حتى لو كان بينك وبين صاحبك سيارة أو ثياب وباع فلك الشفعة، ومنهم من خصها بالعقار، ومنهم من ضيقها بالعقار الذي تجب قسمته. مثال ثالث: قال الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة: 228]. فإذا نظرنا إلى العموم في قوله: {والمطلقات} رأينا أنه يشمل البائن والرجعية، وإذا نظرنا إلى قوله: {وبعولتهن أحق بردهن} قلنا: إن المطلقات عام وأريد به الخاص وهن الرجعيات، ولهذا اختلف العلماء هل المطلقة التي ليست برجعية هل تعتد بثلاثة قروء تستبرئ بحيضه؟ على قولين لأهل العلم؛ فمنهم من قال: إنها تستبرئ بحيضة، ومنهم من قال: إنه لابد أن تعتد بثلاث حيضات، والذي يظهر لي أن الأخذ بالعمود هو الأولى إلا أن يكون هناك قرينة قوية تدل على أنها للخصوص، وبناء على ذلك نقول: إن المطلقات يتربصن ثلاثة قروء وإن كان بائنات، ونقول: الشفعة في كل العقار وغيره، ونقول: السلم في المكيل والموزون وغيره. في مسألة الطلاق قد يورد علينا مورد بأن الخلع لا يجب فيه عدة، وإنما يجب فيه استبراء فما الجواب؟ الجواب: أن الخلع له أحكام خاصة؛ ولهذا لا يحسب من الطلاق، فلو خالع الإنسان زوجته عشر مرات لحلت له بدون زوج، ولو طلقها ثلاث مرات لا تحل إلا بعد زوج، فالخلع له أحكام خاصة، ومنها أن المرأة المعتدة تعتد بحيضة واحدة بل تستبرئ بحيضة واحدة، إذن القول الراجح في باب السلم أنه يصح في كل شيء، لكن لابد أن يكون معلوم الصفة ومعلوم المقدار وبأجل معلوم.

فإذا قال قائل: هل يصح الإسلام في السيارات؟ يصح بشرط أن توصف دقيقا، فإذا قال هل يصح أن يسلم في 90؟ الاختلاف في الغالب يسير، وقد قال الإمام أحمد رحمه أحمد: "كل سلم يختلف؛ لأن ضبط السلم مائة في المائة صعب، حتى لو قلت: أسلمت إليك في تمر طيب أو بر طيب لابد من تفاوت، ونحن نعلم أن هذه الموديلات لا تختلف اختلافا كثيرا تجده مثلا يكون الراديو مختلف عن الأول هذا مدور وهذا مربع والمفاتيح تخلتف، أو ما أشبه ذلك، والأصل أنها سواء، في الواقع هذا لا يعتبر شيئا، لكن هم يريدون أن يمشوا صنعتهم أحيانا يختلف في التلوين والخطوط، على كل حال السلم لابد أن يتفاوت، فإن أسلم ولم يظهر تفاوت بين، فالسلم صحيحو إذا أسلم في الحيوان يجوز، ويدل لمسألة الحيوان حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يأخذ البعير بالبعيرين، ولابد أن تذكر أوصافها فيدل ذلك على جواز الإسلام في الحيوان. 820 - وعن عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قالا: "كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب - وفي رواية: والزيت - إلى أجل مسمى. قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك". رواه البخاري. "المغانم" جمع مغنم، وهو في الأصل: ما اكتسبه الإنسان بدون معاوضة يسمى: مغنما، وفي الشرع: ما أخذ من مال الكفار بقتال وما ألحق به فهو غنيمة، وأما أخذ منهم عن طريق السرقة والانتهاب فليس بغنيمة، إذن ما أخذ من مال الكفار بقتال وما ألحق القتال واضح، والملحق بالقتال، قال العلماء مثل: أن يتلصص جماعة على بلاد الكفار ويغتمون، فإن هذا ملحق بالقتال فيكون غنيمة، والمغانم كانت حراما على من كان قبلنا وأحلها الله لهذه الأمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء ... وذكر منها: أحلت لي الغنائم ولا تحل لأحد كان قبلي، وقد ذكروا أنها فيما سبق تجمع الغنائم ثم ينزل الله عليها ناراً من السماء فتأكلها، ولكن الله تعالى أحلها لهذا الأمة ليستعينوا بها على مصالح دينهم ودنياهم. قال: "وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام"، الأنباط جمع نبطي، والنبطي هو العربي المتعجم أو المعجمي المعرب، هذا هو النبطي، وسموا بذلك لأنهم كانوا يستنبطون الماء أي: يستخرجونه لعلمهم بكونهم أهل زرع فيعرفون مواقع الماء فسموا أنباطا.

قال: "كنا نسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب والزيت"، أربعة أشياء: الحنطة والشعير والزبيب، الحنطة هي البر، والشعير معروف، والزبيب: العنب، والزيت زيت الزيتون، وهو معروف في الشام بكثرة. قال: "وإلى أجل مسمى" يعني: معين محدد، "فقيل لهما: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك" يعني: أكان لهم زرع حتى تسلفون عليهم في زروعهم فقالا: ما كنا نسألهم عن ذلك. فيستفاد من هذا الحديث: حل المغانم بهذه الجملة لقوله: "كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يذكر في هذا الحديث كيف تقسم، وقسمتها معروفة تقسم أولا خمسة أسهم فتوزع أربعة أخماس على المقاتلين، والخمس الآخر يوزع على خمسة أسهم: سهم لله ورسوله، وسهم لذوي القربى، وسهم لأبناء السبيل قال تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] هذا واحد، {ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 41]. فأما سهم الله ورسوله فيجعل في بيت المال لمصالح المسلمين، وأما سهم ذوي القربى فقد اختلف العلماء في المراد به، فقيل: المراد بذوي القربى؛ قرابة ولي الأمر، وقيل المراد بذوي القربى: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الأقرب؛ لأن لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم حقا لا يشركهم فيه أحد زائدا على حق الإسلام، ولأن ذلك أبعد عن التهمة والأثرة التي يستأثر بها ولي الأمر إذا قلنا: المراد قرابته ربما يستأثر بهذا ويكون ذلك فتح باب عليه، أما اليتامى فهم الصغار الذين ماتت آباؤهم، والمساكين الفقراء وابن السبيل المسافرون هذه خمس، يجعل خمسة أسهم سهم لله ورسوله وهذا يصرف الفيء في عموم مصالح المسلمين وأربعة أخماس لمن عينت لهم. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الإسلام مع الشخص الذي ليس من أهل البلد، ولا يعد ذلك تفريطاً في المال، لقوله: "كان يأتينا أنباط من أنباط الشام". ومن فوائده: جواز الإسلاف في هذه الأشياء الأربعة: الحنطة، والشعير، والزبيب، والزيت. ومن فوائد الحديث: أنه لابد من تعيين الأجل لقوله: "كنا نفعل إلى أجل مسمى"، لكن هل يفيد الوجوب؟ الواقع أنه لا يفيد الوجوب، ولذلك تحرروا لا تستنبطوا أحكاما لا تدل عليها النصوص فتقعوا في حرج، إنما يدل على أن هذا هو المعروف في عهد الصحابة رضي الله عنهم أنهم يعينون الأجل، وحديث ابن عباس السابق يدل على الوجوب. ومن فوائد الحديث: جواز الإسلاف في الثمر قبل حصوله؛ لقوله: "أكان لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك".

وعلى هذا فنقول: يجوز الإسلاف في الثمر قبل حصوله، فمثلا تسلم الآن في ثمر عام (1411) بعد سنة لا يضر لا بأس به. هل نقول: إن هذا الحديث يدل على جواز الإسلام في الحقل المعين لقولهم: "أكان لهم زرع؟ " هذا لا يدل على الجواز، ولا على المنع، لكن قال أهل العلم: إنه لا يصح الإسلام في حقل معين، فتقول: أسلمت إليك عشرة آلاف ريال بزرعك الذي تزرعه في العام القادم، لماذا؟ لأنه قد يزرع وقد لا يزرع، وقج يزرع فيموت فيحصل نزاع، ولكن أسلم هذه الدراهم بشيء في ذمته موصوف، ولكن من المعلوم أن الإنسان لن يسلم إلى شخص دراهم في ثمر إلا إذا كان عنده شيء مما يمكن أن يوفي به، أما إذا لم يكن عنده شيء مما يوفي به، فالغالب أنه لا يسلم إليه في شيء. ومن فوائد الحديث: أن عدم السؤال عن الشيء يدل على عدم اشتراطه، وذلك لأنه لو كان شرطا لوجب السؤال عنه. ويبني على هذه الفائدة فائدة أصولية مهمة وهي: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فإذا كان احتمال الاستفصال واردا ولم يستفصل كان ذلك دليلا على العموم، وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم، انه إذا ورد النص غير مفصل مع احتمال التفصيل فإن ذلك بدل على العموم غير مراد لفصل لأن الله قال: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم} [الأنعام: 119]. انظر الآية: {فصل لكم ما حرم} [الأنعام: 119]، وما أحل لهم يفصل هل هذا قصور؟ لا، لأن الأصل الحل في المأكولات والمشروبات والمطعومات والمباح الذي أباحه الله للعباد أكثر من الحرام الذي حرمه عليهم؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه. 821 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها؛ أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله». رواه البخاري. هذا الحديث وضعه المؤلف في باب السلم؛ لأن مناسبته ظاهرة، فإن المسلم إليه يأخذ أموال الناس ولا يوفيهم مثمنها إلا بعد أجل، فربما يعرر بالناس فيأخذ منهم الدراهم وهو يريد ألا يوفيهم، فكانت مناسبة الحديث للباب ظاهرة جدا، وهو أن المسلم إليه يأخذ الدراهم فإن كانت نيته طيبة يريد الأداء فإن الله يؤدي عنه، وإن كانت النية سيئة، فإن الله تعالى يتلفه.

قوله: «من أخذ أموال الناس»، "من" هذه شرطية، وجواب الشرط: "أدى الله عنه"، و"من أخذها يريد إتلافها" أيضا شرطية وجواب الشرط: "أتلفه". قوله: "من أخذ أموال الناس" يشمل من أخذها بقرض، ومن أخذها بعربة، ومن أخذها بوديعة، ومن أخذها ببيع، ومن أخذها برهن أو بأي سبب من الأسباب، إذا أخذها فلا يحل إما أن يكون مريدا للأداء، وأن يؤديها إلى أصحابها فهذا يؤدي الله عنه، إما في الدنيا وإما في الآخرة، ومن أخذها بالعكس يريد إتلافها وتحيل على الناس وباع عليهم شيئا ليس موجودا لأجل أن يأخذ الدراهم منهم ثم يأكلها، أو ارتهن شيئا وهو يريد أن يأكله، المهم أي عقد من العقود يصل به مال الإنسان إلى شخص فأخذه بهذا العقد وهو يريد فإن إتلافه فإن الله يتلفه، وهنا لم يذكر -عليه الصلاة والسلام- مكان الإتلاف ولا زمن الإتلاف، أو كان الإتلاف في الدنيا أو كان في الآخرة، المهم أن من أخذها يريد إتلافها أتلفه الله. في هذا الحديث فوائد كثيرة منها: إثبات الإرادة للعبد لقوله: "يريد أداءها"، فيكون في هذا رد على الجبرية الذين يقولون. إن الإنسان لا إرادة له ولا اختيار له، وإنما يفعل فعله بغير اختيار فهو يمشي مكرها، ويجلس مكرها وينام مكرها، ويضطجع مكرها، لا اختيار له فيما يفعل، ولا شك أن هذا قول ضلال في الدين، وسفه في العقل؛ لأنه مخالف للواقع، فكل إنسان يعرف أنه يفعل باختياره، ويفرق بين ما يقع منه على وجه الاختيار وما يقع منه على وجه الاضطرار، ولو أنك أخذت واحدا من هؤلاء الجبرية وضربته حتى يغشى عليه، ثم أفاق وقال: لم فعلت؟ فقلت: هذا ليس باختيار مني، ماذا يقول؟ لا يرضى بل يمكن أن يضربك أكثر مما ضربت، ويقول: هذا بغير اختيار مني، ماذا يقول؟ لا يرضى بل يمكن أن يضربك أكثر مما ضربت، ويقول: هذا بغير اختيار مني، وذكروا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جيء إليه بسارق فأمر بقطع يده فقال: مهلا يا أمير المؤمنين إنما فعلت ذلك بقدر الله، فقال: ونحن لا نقطعك إلا بقدر الله، فرد عليه من جنس حجته وإلا فعند أمير المؤمنين عمر حجتان شرعية وهي قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]. وقدرية وهي أن الله تعالى لما أمر بقطع يد السارق صار تنفيذه إذا نفذه العبد بإذن قدري وأيضا هو حجة على الذي قال: أنا ما سرقت إلا بقدر الله، المهم أن هذا الحديث دليل على أن العبد له إرادة. ومن فوائد الحديث: عظم شأن النية، وأنها تكون سببا للفلاح أو الخسارة لقوله: "يريد أدائها" يريد ذاته، وأن النية لها شأن كبير وتأثير عظيم حتى في مجريات الأمور، ولهذا يقول العامة

كلمة لها روح حيث يقولون: "النية مطية"، والمطية هي الناقة تركب، يعني: إن كانت نيتك طيبة فمطيتك طيبة، وإن كانت رديئة فمطيتك رديئة. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا أخذ أموال الناس يريد أداءها فإن الله تعالى يؤدي عنه ولكن كيف يؤدي عنه، هل الله عز وجل يسلم دراهم لصاحب المال؟ لا، بل ييسر لهذا الآخذ الأداء، فيسهل عليه الأداء فإن لم يتيسر له في الدنيا أدى الله عنه في الآخرة. فإن قال قائل: يلزمكم على هذا أن تقولوا: أن من مات وعليه دين وهو معروف بحسن القصد وإرادة الأداء فإنه يبرأ من دينه؛ لأن الله يؤدي عنه؟ فالجواب: لا، لا يلزمنا؛ لأن أحكام الدنيا على الظاهر، والظاهر أن هذا الرجل مات وعليه دين فلابد أن يقضى عنه، أما في الآخرة فالأمر إلى الله عز وجل وهو العليم ببواطن الأمور سبحانه وتعالى. ومن فوائد الحديث: إثبات أفعال الله التي يسمونها الاختيارية وكل أفعال الله اختيارية؛ لأن الله لا مكره له، لكن العلماء يعبرون عنها بأفعال الله الاختيارية لقوله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصاص: 68]. من أين يؤخذ هذا القول من هذا الحديث؟ من قوله: "أدى الله عنه"، وأفعال الله هل هي قديمة أو حادثة؟ نقول: في هذا تفضيل؛ أما من حيث الجنس وأصل الصفة فهي قديمة غير حادثة؛ لأن الله لم يزل ولا يزال فعالا، وأما من حيث النوع أو الواحد فهي حادثة، مثال النوع: الاستواء على العرش حادث؛ لأنه كان بعد خلق العرش، النزول إلى السماء الدنيا حادث لأنه بعد خلق السماء الدنيا، الآحاد نزول الله كل ليلة إلى السماء الدنيا هذا آحاد، كذلك كل أفعال الله التي لا تحصى وهو دائما عز وجل يخلق ويرزق ويحيى ويميت كل أفعاله هذه حادثة، الآحاد بالنسبة لتعلقها بالمخلوق المفعول. هل يوجد من ينكر قيام الأفعال الاختيارية بالله؟ الجواب: نعم، هناك من يقولون: إن الله لا يفعل فعلا حادثا، لماذا؟ قالوا: لأن الفعل الحادث لا يقوم إلا بحادث، فلو جوزنا أن يفعل الله الأفعال الحادثة لكان لازم ذلك أن يكون الله حادثا بعد أن لم يكن، وبكن هذا قياس فاسد لمخالفته النص وقياس باطل من أصله؛ لأن هذا التلازم الذي ذكروه ليس بصحيح، أما الأمل فلأننا لو أخذنا بهذا القياس لزم أن ننكر كل فعل من أفعال الله، ومن العجائب أنهم لا ينكرون حدوث المفعول، ثم ينكرون حدوث الفعل، لا ينكرون: إن زيدا وعمرا حادث بعد أن لم يكن، ولكن تعلق الخلق به كان في الأزل معدوم وهذا في الحقيقة عندما تتأمله تراه أنه لا يصح إطلاقا، هل يمكن أن يقع فعل ولا يوجد المفعول؟ يعني: خلق زيد وعمرو متى كان؟ في الأزل الذي لا نهاية له، وكيف يخلق من الأزل البعيد، ثم لا يوجد. في المخلوق إلا في هذا الزمن؟ واضح أنه باطل جدا، فالقول أن

الفعل قديم والمفعول حادث باطل، ثم إن الفعل أيضا ليس فعلا في نفس الله بل يفسرونه بالمفعول، هذا كله باطل، فمذهب أهل السنة والجماعة الذي دل عليه السمع والعقل أن الله تعالى فاعل بإرادته يفعل ما يشاء ويختار، وأن فعله يكون حادثا لتعلقه بماذا؟ بالمفعول، لكن أصل الفعل، وأن الله لم يزل فعالا، وأنه لم يأت عليه وقت من الأوقات معطلا عن الفعل هذا قديم أزلي. ومن فوائد الحديث: بيان كرم الله عز وجل علة من كان حسن القصد، حيث يؤدي الله عنه. ومن فوائده: الحث على حسن القصد، حيث يؤدي الله عنه. ومن فوائده: الحث على إحسان النية في المعاملة لذكر الثواب في الحديث؛ لأن كل إنسان يعلم بهذا الثواب وأنه إذا أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، إما في الدنيا أو في الآخرة فسوف يرغب في إحسان النية. ومن فوائد الحديث: التحذير من سوء القصد في المعاملة، لقوله: «ومن أخذها يريد إتلافها ... إلخ» فالمراد التحذير. ومن فوائد الحديث: أن النية السيئة تحط بصاحبها، ولهذا قال: «أتلفه الله». فإن قال قائل: هل المراد بذلك إتلاف نفس الشخص، أو المراد إتلاف ماله، وعلى الثاني هل المراد إتلاف المال حقيقة أو إتلافه معنى؟ بالنسبة للأول الظاهر أنه إتلاف ماله؛ لأننا نجد أناسا كثيرين معروفين بسوء النية ويعمرون، وعلى الثاني هل المراد إتلاف المال حسا وحقيقة أو المراد إتلاف المال معنى بحيث يفقد الإنسان الانتفاع به؟ يشمل الأمرين، فكثير من الناس إذا أخذ أموال غيره بنية سيئة يسلط الله عليه ما يتلف ماله إما بتلف نفس المال الذي أخذ وإما بغير ذلك. هل يدخل في هذا الحديث ما لو استعار عرية فجحدها بنية الجحد؟ نعم، يتلفه الله، وربما يستدل بعض الناس بهذا الحديث على أن جاحد العرية لا تقطع يده فيقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم: قال: «أتلفه الله»، وهذا يقتضي أن تكون العقود قدرية لا شرعية، وأنتم إذا أوجبتم قطع يد المستعير الجاحد فقد جعلتم العقوبة شرعية، فالجواب: أن نقول: إن جاحد العرية فيه عند أهل العلم قولان: الأول: أنه يقطع، والقول الثاني: أنه لا يقطع، فأما على القول بأنه يقطع فنخرج هذا الحديث على أحد وجهين: إما أن نقول: إنه عام خص بجاحد العرية، وإما أن نقول: إن المراد بقوله: «أتلفه الله» أي: إتلافا كونيا أو إتلافا شرعيا وقطع يد السارق من باب الإتلاف الشرعي، وعلى هذا يتخرج هذا الحديث، أما على قول من يرى أن جاحد العرية كجاحد الوديعة لا يقطع فلا إشكال فيه بالنسبة لهذا الحديث، لكننا ذكرنا أن الصحيح أن جاحد العرية تقطع يد، مثال ذلك: رجل استعار منك ساعة قال: ساعتي اختلت فأعرني ساعتك،

فأعرته إياها، ثم جئت تطلبها منه بعد يومين أو ثلاثة، فقال: ليس لك عندي ساعة جحدها ثم ثبت ببينة أن عنده ساعة فلان وأنها هذه فما الحكم؟ الصحيح: أنها تقطع يد هذا الجاحد، والدليل على أن هذا أن امرأة من بني مخزوم، وبنو مخزوم قبيلة لها سيادتها في العرب كانت تستعير المتاع فجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأمر قريشا شأنها، وقالوا: من يشفع فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأوا أن أقرب الناس شفاعة أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فذهب أسامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر عليه وقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟ » أنكر عليه ثم قام فخطب الناس، وقال: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، أقسم وهو الصادق البار بدون قسم، لمن لتطمئن نفس من كان في قلبه شيء، ولا شك أن فاطمة أشرف النساء نسبا وأنها سيدة نساء أهل الجنة، ومع ذلك أقسم لو سرقت لقطع يدها، فهذا الحديث واضح في أن جاحد العرية تقطع يده، والذين قالوا: لا تقطع قالوا: إن في الكلام حذفا، والتقدير: أن امرأة كانت تستعير المتاع فتجحده فسرقت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فلنا: لماذا التقدير، الأصل عدمه وحذف مثل هذا المقدر لا يجوز، لماذا؟ لأنه يختلف به الحكم، صحيح أن ما يكون فهمه من السياق يمكن حذفخ: {ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير فجاءته إحداهما تمشي على استحياء} [القصاص: 22 - 25]. هذه القصة فيها عدة أشياء محذوفة {تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير فجاءته إحداهما تمشى على استحياء} هذا فيه جمل محذوفة، التقدير: فذهبت المرأتان إلى أبيهما فأخبرتاه ثم أمرهما فرجعا إلى موسى، فيه تقدير أن السياق يدل عليه، لكن هذا لا يوجد فيه شيء يدل عليه، بل فيه ما يدل على عدم الحذف؛ لأن الحذف يختلف به الحكم، ونحن إذا ألغينا هذا الوصف الذي رتب عليه الحكم بالفاء "كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر" وصف رتب عليه الحكم بالفاء، إذا ألغينا هذا الوصف وادعينا وصفا آخر فقد حرفنا النص من وجهين: الوجه الأول: إلغاء الوصف المذكور. الثاني: اعتبار وصف غير مذكور، وهذا لا شك أنه جناية على النصوص، لكن إخواننا كبروا علينا وقالوا: الله أكير وسبحان الله والحمد لله أليس الله يقول: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]. وهذه لم تسرق؟ قلنا: أما قوله تعالى: {والسارق والسارقة}

فبلى قد قاله الله، وأما كونها لم تسرق فكلا هي سرقت لكنها سرقت طريق خفي بدل أن تذهب وتفتح الصناديق أو الأبواب وتخاطر بنفسها فعلت حيلة، تقول: جزاك الله خيرا أعرني الدلو أنا عطشانة فرق لها ورحمها وأعطاها الدلو، ثم بعد ذلك قالت: دونك، الدلو دلوي وفي بئري، هذا محسن هي بدل أن تذهب إلى بيته وتكسر الباب وتأخذ الدلو تحيلت هذه الحيلة، فهذه جمعت بين السرقة والخيانة. إذا قال قائل: ينقض عليكم هذا في الخيانة في الوديعة إذا أودع الإنسان شخصا دراهم ثم يحدها المودع ثم ثبتت بينة فهل تقطع يد المودع؟ لا، لا تقطع ولا ينتقض ما سبق بهذا، لماذا؟ لأن المودع أخذ المال لمصلحة مالكه، ولم يطلبه، ولأن المودع محسن إليه والمعير محسن فكيف نجازي المحسن يجحد ماله ونقيس عليه من جحد مال من أحسن إليه، هذا قياس مع الفارق الواضح. على كل حال: نحن استطردنا كثيرا لكن لا بأس، المهم أن يعرف الطالب المناقشة بين آراء العلماء؛ لأنها تفيد الطالب وهذا هو حقيقة طلب العلم أن يكون عندك ملكة في مناقشة الآراء وبيان الراجح وكيف يرجح. 822 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يا رسول الله، إن فلانا قدم له بز من الشام، فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين نسيئة إلى ميسرة؟ فبعث إليه، فامتنع». أخرجه الحاكم، والبيهقي، ورجاله ثقات. تقول: "إن فلانا قدم له بز من الشام"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إلى ثياب، والبز نوع من أنواع الثياب، وقولها: "إن فلانا" يحتمل أنها عينته وأن الرواة طووا ذكر اسمه سترا عليه، ويحتمل أنها لم تذكره أيضا هي حينما حدثت بالحديث، أما ذكرها إياه للرسول صلى الله عليه وسلم فلابد أن تعين، تقول: إن فلانا، يعني: اسمه حتى يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم. وقولها: "من الشام"؛ لأن الشام في ذلك الوقت كان مركزا تجاريا عظيما؛ لأنه قريب من الجزيرة العربية، فلذلك كان العرب يذهبون إلى الشام في أيام الصيف وإلى اليمن في أيام الشتاء، وعلى هذا قوله تعالى: {لإيلاف قريش إءلافهم رحلة الشتاء والصيف} [قريش: 1 - 2]. قوله: "فلو بعثت ... ألخ"، يعني: أرسل إليه شخصا يطلب منه أن يبيع عليه ثوبين نسيئة إلى ميسرةـ يعني: إلى أن ييسر الله على المشتري، فامتنع الرجل، وهذا الرسول الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم

يحتمل أنه أخبر الرجل بأن الذي أرسله هو النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه لم يبلغه؛ لأنه لا يشترط في الوكالة أن يعين الوكيل اسم الموكل، بل يصح أن يشتري له بحسب الوكالة وإن لم يعين اسمه، وقوله: "فامتنع" يعني: امتنع من البيع إلى ميسرة؛ لأن الغالب على التجار الذي يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله أنهم يحبون أن يستلموا القيم حتى يذهبوا مرة أخرى ليشتروا سلعة أخرى، ولا يناسبهم التأجيل، خصوصا أن التأجيل هنا على أجل غير معلوم إلى ميسرة، ومتى ييسر الله عز وجل على المشتري؟ الأمر مجهول ولذلك امتنع الرجل. في هذا الحديث عدة فوائد: الفائدة الأولى: بيان حال الرسول صلى الله عليه وسلم وما هو عليه من قلة ذات اليد مع أنه صلى الله عليه وسلم لو أراد الدنيا كلها بحذافيرها لحصل عليها، ولهذا خيره الله في آخر حياته بين أن يعيش في الدنيا ما شاء الله أن يعيش وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله، وهنا كما ترى في هذا الحديث ليس عنده دراهم يشتري بها ثياب. ومنها: حسن خلقه -عليه الصلاة والسلام- حيث كان متواضعا لأهله، فإن إقدام عائشة على المشورة عليه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ليس عنده كبرياء ولا عظمة خلافاً لما يوجد من بعض الأزواج الذين لا يكاد أهليهم يخاطبونهم إلا باستئذان، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أسمح الخلق وأسهلهم وأيسرهم. ومنها: جواز الكناية عن المعين لغرض إذا كان لا يفوت مقصود الحديث لقولها: "إن فلانا". ومنها: جواز شراء ثوبين، والثوبان قد يكونان في الغالب أكثر من الحاجة، فإذا اشترى الإنسان ثوبين لنفسه فلا بأس، وقد يقال: إن المراد بالثوبين هنا الإزار والرداء، وهما بقدر الحاجة، ولكن على كل حال الأصل أنه يجوز أن يقتني الإنسان لنفسه أكثر من ثوب ما لم يصل إلى حد الإسراف. ومن فوائد الحديث: جواز الشراء مع عدم القدرة على الوفاء، وإن شئت فقل: جواز الاستدانة مع عدم القدرة على الوفاء في الحاضر، دليله؟ الدليل: أن الثوبين إلى أجل استدانة في الواقع ولكن هذا مشروط بأمرين، الأول: أن يكون على الإنسان حاجة تلجؤه إلى الاستدانة، والثاني: أن يرجو الوفاء، فإن لم يكن كذلك فلا ينبغي له أن يستدين؛ لأن الدين في الحقيقة أسر وذل للمستدين، ولهذا لم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي قال: إنه ليس عنده ما يمهر به المرأة لم يرشده إلى الاستدانة، وإنما طلب منه أن يعلم المرأة شيئا من القرآن عوضا عن المهر، وكذلك أيضا في القرآن الكريم لم يرشد الله عز وجل إلى الاستدانة، بل قال: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله} [النور: 33]. ولم يقل: وليستدن، لكن قد تكون الحاجة إلى الثياب أشد من الحاجة إلى الزواح. ومن فوائد الحديث: جواز التأجيل بالميسرة لقوله: "ثوبين نسيئة إلى ميسرة"، ولكن هذا قد يشكل، وهو أن الميسرة مجهولة، قد يوسر الإنسان بعد يومين أو ثلاثة أو عشرة، وقد لا يوسر

إلا بعد سنين، وقد لا يوسر أبدا، فكيف صح هذا الشرط وهو مجهول، وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغدر، فالجواب على ذلك: أن هذا شرط هو مقتضى العقد فهو ثابت سواء شرط أم لم يشرط، إذا علم العاقد الآخر بحال العاقد المعسر كيف ذلك؛ لأن مقتضى العقد إذا كان العاقد فقيراً ألا يطالب حتى يوسر لقول الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280]. فإذا بعت على شخص شيئا وأنت تعلم أنه معسر فمن المعلوم أنك لا تطالبه إلا بعد إيساره، فيكون هذا الشرط توكيدا لما يقتضيه العقد، بمعنى: حتى لو لم يشترط فهو مقتضى العقد، فإن العقد مع الفقير يستلزم ألا يطالبه العاقد إلا بإيساره؛ بمعنى: حتى يوسر، وعلى هذا فيكون هذا الشرط توكيدا لا تأسيا ولذلك صح، بخلاف ما لو قلت: اشتريت منك هذين الثوبين إلى أجل، إلى أن يقدم زيد، وليس لزيد وقت معلوم في قدومه، فههنا لا يصح هذا الشرط، لماذا؟ لأنه مجهول وليس مقتضى العقد، بخلاف ما إذا قلت: بعد علي مؤجلا بإيسار الله علي، فإن هذا الشرط صحيح، لأنه مقتضى العقد. ومن فوائد الحديث: جواز الامتناع من البيع من الرجل الشريف وكبير القوم والمعظم؛ لأن هذا الرجل امتنع من البيع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمن مؤجل، ولا يعد ذلك معصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن طلب النبي صلى الله عليه وسلم البيع هنا ليس من باب التشريع بل من باب المعاملة؛ ولهذا لا يعد هذا الرجل عاصيا ولا يعد جابر بن عبد الله رضي الله عنه حين سأم النبي صلى الله عليه وسلم جمله فأبى أن يبيعه عليه لا يعد أيضا عاصيا؛ لأن مسائل المعاملات ليست من باب العبادات التي يكون المخالف فيها للرسول صلى الله عليه وسلم ولم يجب طلبه يكون عاصيا. وفيه أيضا: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من إجراء الناس على مقتضى فطرهم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاتب هذا الرجل، ولم يوبخه، ولم يرسل إليه مرة أخرى ويقول: أعطني الثوبين غصبا عليك، لأن هذا مقتضى الفطرة أن الإنسان حر في بيعه وشرائه، إن طاب له الثمن باع وإن لم يطب فهو حر لا يبيع. ما وجه إدخال هذا الحديث في باب القرض والسلم والرهن، هل هو من السلم؟ لا، ليس بسلم، هل هو قرض؟ لا، هل هو رهن؟ ليس برهن، لكن فيه شائبة من السلم أو شبه من السلم وتأجيل الثمن والسلم تأجيل المثمن. * * *

الرهن

الرهن: 823 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذين يركب ويشرب النفقة». رواه البخاري. قوله: "الظهر" المراد به: ظهر الحيوان الذي يركب مثل البعير والحمار والبغل والخيل هذه تركب، "يركب الظهر بنفقته إذا كان مرهونا"، "بنفقته" الباء هنا للعوض يعني: بمقدار نفقته، وقوله: "يركب" الفعل هنا مبني للمجهول، فمن الراكب؟ الراكب: المرتهن، وقوله: "بنفقته" قلنا: إن الباء للعوض؛ يعني: يركب ركوبا بقدر النفقة وهي المؤونة من علق وسقي ورعاية، وقوله: "إذا كان مرهونا" سبق لنا معنى الرهن وهو لغة: الحبس، واصطلاحا: توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه أو بعضه منها أو من بعضها، وسبق أيضا الخلاف هل يجوز رهن دين بدين، وهل يجوز الرهن بالعين؟ يقول: "ولبن الدر يشرب بنفقته" من يشربه؟ المرتهن، "لبن الدر" يعني: لبن البهيمة المرهونة، وسمي "لبن در"؛ لأنه يدر كلما حلب در مثل لبن البعير، لبن البقرة، لبن الشاة، لبن الفرس، "يشرب بنفقته" يعني: بقدر النفقة، "إذا كان مرهونا"، "وعلى الذي يركب" وهو المرتهن، "ويشرب" وهو المرتهن أيضا عليه النفقة، "النفقة" هنا مبتدأ مؤخر. في هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرا يرد به الحكم، أن المرتهن إذا ارتهن شيئا يركب فله ركوبه، لكن بقدر النفقة، وإذا ارتهن شيئا ذا لبن فله شرب لبنه، لكن بقدر نفقته. فيستفاد منه فوائد: الفائدة الأولى" جواز رهن الحيوان، وجهه: قوله: "بنفقته"، و"لبن الدر بنفقته"، أما قوله: "يركب" فليس فيه دليل على رهن الحيوان؛ لأن من المركوب ما ليس بحيوان. ومن فوائد الحديث أيضا: أن المرتهن يقبض المرهون؛ لقوله: "يركب"، و"يشرب" والآكل والشارب هو المرتهن، إذا فالمرتهن يقبض المرهون، ولا شك أن قبضه أشد توثقة مما لو لم يقبضه، ولكن هل القبض شرط للزوم أو شرط لكمال التوثقة؟ يرى بعض العلماء: أنه شرط للزوم، وأنك إذا رهنت شيئا ولم تسلمه للمرتهن فلك الرجوع في الرهن؛ لأن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وعلى هذا فإذا رهنتك السيارة وهي بيدي فالرهن غير لازم، لي أن أبيعها وأتصرف فيها كما شئت؛ لأن قائل هذا القول يرى أن الرهن إذا لم يقبضه المرتهن فله أن يفسخه، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} [البقرة: 283]. واستدلوا أيضا بهذا الحديث.

والقول الثاني: القبض ليس بشرط للزوم وإنما هو لكمال التوثقة؛ لأن كون الرهن بيد المرتهن أقوى بالتوثقة مما إذا كان في يدي الراهن، وأما أن يكون شرطا للزوم فلا، واستدولوا بعموم قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1]. والرهن يتم عقدا بالإيجاب والقبول وتعيين المرهون فيدخل في عموم قوله: {أوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} [الإسراء: 34]. والعاقد معاهد للمعقود معه فيجب عليه الوفاء، واستدلوا أيضا بأن القول بعدم اللزوم يفضي إلى تصرف الراهن في الراهن على وجه يسقط به حق المرتهن، وهذا خيانة لمن؟ للمرتهن، والخيانة محرمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تخن من خانك»، فكيف بمن لمن يخنك؟ كيف بشخص وثق بك وأبقى الرهن بيدك وتخونه؟ وأما الجواب عن الآية والحديث التي استدل بهما من يرى أن القبض شرط للزوم، فقالوا: إن الآية لم يذكر الله تعالى فيها القبض على وجه الإطلاق وإنما ذكره في حال معينة، ما هي؟ {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا} [البقرة: 283]، فهنا لا يمكن التوثق إلا برهن مقبوض، لأنك إذا لم تقبض الرهن وليس بينكما مكاتبة صار ذلك عرضة لأن يجحدك الراهن، ويقول: ما رهنتك فيكون في هذا إضاعة لحقك، وإعادة للراهن على الخيانة وعدم الوفاء، فلهذا قال: {فرهان مقبوضة} [البقرة: 283]، وأنتم لا ترون أن القبض شرط للزوم في هذه الصورة فقط بل ترونه شرطا للزوم حتى وإن كان في حضر، وإن وجدا كاتبا فلم تستدلوا الآية، ومن المعلوم عند العلماء أنه إذا كان الدليل أخص من المدلول بطل دلالته على ما خرج عن الخصوص، بخلاف ما إذا كان الدليل أعم فإنه يدخل فيه الخصوص فلا يمكن أن تستدل بدليل خاص على مسألة عامة، وإذا تنازلنا معكم قلنا: إن القبض شرط للزوم في هذه الحال المعينة فقط، ومما يدل على ذلك من الآية قوله: {فإن أمن بعضكم بعضا فليود الذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283]. وهذا يدل على أنه إذا أمن بعضنا بعضا فلا حاجة إلى قبض الرهن اعتمادا على الأمانة، فليست في الآية دليل على اشتراط القبض للزوم الرهن، أما الحديث فليس فيه إطلاقا ذكر اشتراط القبض للزوم، بل فيه أن الرهن إذا سلم للمرتهن وهو مما يركب فله ركوبه بقدر النفقة، وله شرب لبنه إذا كان مما فيه اللبن بقدر النفقة فقط. ومن فوائد الحديث: عناية الشارع بالحيوان لقوله: "بنفقته"؛ لأن ركوب المرتهن له بحمله على الإنفاق عليه، لكن لو قيل له: لا تركب ولا يحل لك ركوبه فهل ينفق؟ لا ينفق، وإذا أنفق فإنما يتفق بشح.

ومن فوائد الحديث: جواز التصرف في مال الغير لمصلحة ماله -مال الغير- هنا الركوب جائز وإن لم يستأذن المالك؛ لأنه لمصلحة ملكه؛ إذ أنني سأركب وأدفع النفقة. ومن فوائده: جواز ركوب المرتهن للرهن، وحلبه إياه مع أنه ملك غيره، وهذا من التصرف في ملك الغير، ولكنه للمصلحة كما ذكرنا، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فمنهم من قال: إنه لا يجوز للمرتهن أن يركب الرهن إلا بإذن من المالك، فإن لم يأذن حرم عليه أن يركب، ومن العلماء من قال: إن تعذر استئذان المالك ركب، وإن لم يتعذر فلابد من استئذانه، والصحيح خلاف ذلك، وأنه يركب وإن لم يستأذن؛ لأن الذي أباح له الركوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لم يركب على وجه يضر الملك بل سيركب بالنفقة. ومن فوائد الحديث: أنه لا يزيد في الركوب على قدر النفقة، فإذا قدرنا أن الإنفاق عليه كل يوم خمسون درهما وركوبه يساوي مائة درهم، فهل يركب بالنفقة، أو نقول: اركب وادفع خمسين درهما، هذا رجل يقول: إن الحيوان لو أجر يوميا لكان يساوي مائة درهم والنفقة تساوي خمسين فهل أن يركبها بالنفقة في هذه الحال، أو نقول: اركبه وسلم خمسين درهما، لأنه يؤجر بمائة أيهما؟ أما ظاهر الحديث فالأول: أنه ينفق ويركب سواء كانت أجرة ركوبة أكثر من النفقة أو أقل، ولكننا إذا أمعنا النظر في قوله: "بنفقته"، رجعلنا للبائع العوض فإن العوض لابد أن يكون مساويا للمعوض، فإذا كانت النفقة أقل من أجرة الركوب وجب عليه ما زاد على النفقة ويسقط من دين صاحب الرهن؛ لأن المنفعة الزائدة على قدر النفقة لمالك الرهن فلا يمكن أن نضيعها عليه، فنقول: اركب بقدرها إذا كانت الأجرة مائة والإنفاق بخمسين اركب بخمسين والباقي أسقطه من دين صاحبه وبالعكس لو فرض أن الإنفاق عليه بمائة وأن ركوبه بخمسين هل يرجع على صاحبه بما زاد على أجرة ركوبه؟ إذا قلنا: أن النفقة عوض، ولابد من مساواة العوض فإنه يرجع؛ لأنه أمين وقد أنفق على ملك غيره فيرجع على غيره بمقدار ما أنفق على ملكه، فإن تساوى هذا وهذا فلا رجوع له على أحد ولا رجوع لأحد عليه، وكذلك نقول في لبن الدر. ومن فوائد هذا الحديث: عناية الشارع بحماية الأموال من الضياع؛ حيث جعل المرهون لا يترك هدرا بل ينتفع به، لا يقول: أنا أبقي هذه البعير لا أنفق عليها وأرجع بالنفقة على صاحبها ولا أستعملها؛ لأن في ذلك إضاعة للمال، وكذلك اللبن لا يقول: أتركه في الضرع لست بملزوم على أن أحلبه لأن تركه بالضرع إضاعة مال، وهو كذلك أن الشرع اعتنى بحماية الأموال ونهى عن إضاعتها؛ لأن المال قيام للإنسان في دينه ودنياه، والإنسان وإن توفر عنده المال في يوم من الأيام فقد لا يترفر في أيام أخر، قد يتلف المال وقد تأتي نفقات في غير

الحسبان تقضي على المال، ومن جهل الإنسان وسفهه أنه إذا كثر المال في يده صار يسرف في الإنفاق، يقول: الحمد لله الدرج مملوء والبوق مملوء، ما يهمه وهذا خطأ، نقول: يا أخي، الله قال: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف: 31]. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل واشرب وتصدق من غير سرف ولا مخيلة»، ليس من الحكمة إذا توفر عندك المال أن تسرف في إنفاقك، بل كن معتدلاً، وأنفق بالمعروف، ظن بعض العلماء أن النفقة هنا لا يزاد عليها ولا ينقص سواء كان الانتفاع أكثر منها أو أقل فأشكل عليه هذا الأمر، وأجاب بعض العلماء بأن هذا من جنس الصاع الذي يرد مع المصراة ولكن عندي أن هذا الإشكال من أصله مرافع، لماذا؟ لأننا جعلنا الباء للعوض، وهذا يقتضي تساوي الانتفاع بالإنفاق، فإن زاد أو نقص فبحسابه، وحينئذ لا يبقى عندنا إشكال في الحديث. لكن لو قال قائل: لماذا أذن الشرع في انتفاع المرتهن بالرهن بدون إذا صاحبه. قلنا: لأن في ذلك مصلحة للطرفين؛ لأنها لا تخلو من أن يبقى هذا المركوب معطلا فيفوت نفعه على الراهن وعلى المرتهن، أو نقول: أجره أيها المرتهن ولا تركبه، وإذا أجره فربما لا يعتني به المستأجر كما يعتني به المرتهن، لماذا؟ لأن المرتهن له فيه حظ نفسي، إذ إنه قد وثق دينه به فلابد أن يكون اعتناؤه به أكثر من اعتناء المستأجر، ثم إن في هذا أيضا مشقة، كلما استأجر وقبض أجرة جعلها عنده رهنا أو سلمه لصاحب البعير، وهذا فيه شيء من المشقة، ولهذا كان إذا الشارع في هذا من أقيس الأقيسة ومن زعم أن هذا خارج عن القياس، فقد مر علينا أن كل قياس يخالف النص هو قياس فاسد والقياس المخالف للنص هو المخالف للقياس؛ لأنه فاسد، والقياس لا يعتبر قياسا إلا إذا كان صحيحا غير مصادم للنص. [سؤال]: هل يسكن الرهن بأجرته؟ الحواب: لا، لا يسكن بأجرته ويبقى معطلا لا ينتفع به المرتهن ولا الراهن، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، ولكن الصحيح: أنه لا يبقى معطلا لا البيت المرهون ولا السيارة المرهونة، ولا كل شيء يمكن أن ينتفع به لا يبقى بدون نفع؛ لأن إبقاءه بدون نفع تفويت لمصلحة تعود للطرفين، للراهن بأن يسقط من دينه، وللمرتهن لأنه يستوفي به أو يبقيه عنده تبعا للرهن، ولأن في ذلك إضاعة للمال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، فإضاعة

المنفعة التي في هذه السيارة أو في هذا البيت إضاعة مال أعيان ومنافع، فالصحيح: أنه وإن كان الرهن لا يركب وليس له لبن يشرب فإنه إذا أمكن الانتفاع، به وجب الانتفاع ثم إما أن يؤجر على نفس المرتهن أو على رجل آخر، ولا مانع إذا لم يقبض الرهن كما هي العادة عند الناس اليوم إذا لم يقبض الرهن، الآن الإنسان يرهن ملكه وهو في يده -في يد الراهن- فقد قال بعض العلماء: إن هذا الرهن ليس بلازم، وإن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وبناء على ذلك القول يجوز للراهن أن يبيع الرهن لأنه ليس بلازم، ولكن هذا القول ضعيف، والصحيح أنه يلزم بمجرد العقد؛ لقوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا أوفوا بالعهود} [المائدة: 1]. وليس هناك دليل على اشتراط القبض للزوم الرهن، وأما قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة: 183]. فلأن الله تعالى إنما أرشدنا لقبض الرهن في هذه الحال؛ لأنه لا توثقة لنا إلا به، أي: بالقبض. {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} [البقرة: 183]. فإذا لم تقبض الرهن فسيضيع، ربما ينكر الراهن ويقول: ما رهنتك، ولهذا فنجد الذين يقولون بأن القبض شرط للزوم لا يقيدونه بهذه الحال التي قيدها الله به وهي ما إذا كان الإنسان على سفر ولم يجد كاتبا بل يقول: لابد من قبضه وإن كنت في الحضر ووجدت كاتبا وشهودا. مما يدل على ضعف المستند الذي سلكوه. والخاصل: أن الرهن إذا لم يقبضه المرتهن وكان مما يمكن الانتفاع به وجب الانتفاع به، إما أن يؤجر على المرتهن أو على رجل آخر، أو إذا أذن المرتهن للراهن أن ينتفع به هو نفسه، ويأخذ مغلة للإنفاق على نفسه؛ لأن بعض الناس يقول: أنا رهنت بيتك ولكن اجلس فيه أنت وأهلك ولا تخرج، أو يقول: رهنت سيارتك ولكن استعملها وخذ أجرتها لك ولأهلك؛ لأن الغالب الذي يرهن سيارته أو بيته الغالب أن يكون فقيرا. فالخلاصة الآن: أن الصحيح أن الرهن لا يمكن أن يبقى معطلا أينا سواء كان في يد الراهن أو في يد المرتهن، لأن تعطيله تفويت للمصلحة وإ ضاعة للمال، والصحيح أيضا أنه لا يشترط للزوم الرهن القبض، بل يلزم بمجرد العقد لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] والعمل عن الناس على هذا، تجد الإنسان يرهن بيته وهو ساكن فيه، يرهن سيارته ويستعملها فهذا هو القول الراجح. * * *

غلق الرهن

غلق الرهن: 284 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه». رواه الدارقطني والحاكم، ورجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله. قوله: "لا يغلق الرهن"، "يغلق" الغلق معناه: الحيلولة بين الإنسان والشيء، ومنه إغلاق الباب، لأنك إذا أغلقت الباب فإنك تحول بين من يدخل إلى البيت ومن كان في البيت، فمعنى "لا يغلق الرهن من صاحبه" أي: لا يمنع من صاحبه ويغلق دونه، ولكن كيف إغلاق الرهن؟ إغلاق الرهن له صورتان: الصورة الأولى: أن المرتهن يأخذ الرهن ويستغله فيأخذ أجره كمؤجر ومنافع ينتفع بها ولا يكون للراهن منها شيء، وهذا إغلاق؛ لأنك حلت بينه وبين صاحبه، فإن منافع الرهن لا شك أنها لصاحب الرهن، ويدل لهذا التفسير قوله: "له غنمه وعليه غرمه"، وكانوا في الجاهلية إذا رهنوا شيئا استغله المرتهن وصارت منافعه كلها للمرتهن، والصورة الثانية لأغلاق الرهن: أنه إذا حل الأجل ولم يوف الدين أخذه المرتهن رغما على أنف الراهن سواء كان ذلك بقدر الدين، أو أقل أو أكثر، يأخذه فإذا رهنه بيته بدين إلى سنة وتمت السنة ولم يوفه أخذ البيت، وقال: اذهب وراءه هذا إغلاق لأنك منعت صاحبه من فصار إغلاق الرهن له صورتان: الأولى: أن يستغل المرتهن منافعه دون أن تعود إلى الراهن. والصورة الثانية: أن يتملكه إذا انتهى الأجل ولم يوفه، وكلتاهما حرام -أي: الصورتين - وأكل للمال بالباطل، ولهذا نهى النبيي صلى الله عليه وسلم فقال: «لا يغلق الرهن» بكسر القاف على أنها حركت لالتقاء الساكنين، ويجوز: "لا يغلق" على أنها جملة خبرية، لكن معناها: النهي، فإن قال صاحب الرهن للمرتهن: إذا حل الأجل ولم أوفك فالرهن لك باختياره، ووافق على هذا المرتهن، فهل هذا يجوز؟ في هذا خلاف بين العلماء؛ منهم من قال: لا يجوز، واستدل بعموم قوله: "لا يغلق الرهن من صاحبه"، وعلل بأن هذا تعليق للبيع على شرط، وتعليق البيع بالشرط مناف لمقتضى العقد؛ لأن مقتضى عقد البيع التنجيز، والتعليق ينافي التنجيز، فله مأخذان عندهم، والصواب أن هذا جائز ولا بأس به، وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله وقد فعل ذلك بنفسه فاشترى حاجة من دكان، وقال له: خذ نعلي رهنا عندك إن أتيتك بحقك في الوقت

الترغيب في حسن القضاء

الفلاني، وإلا فالنعال لك فوافق صاحب الدكان، وهذا دليل على أنه يرى جواز هذه المسألة، ومن المعلوم أن من رجح قولا على قول فإنه يلزمه أمران: بيان وجه الترجيح والإجابة عن أدلة الآخرين، فما هو وجه ترجيح هذا القول؟ أنه داخل في عموم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1]. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم إلا شرطا أخل حراما أو حرم حلالا»، وهذا شرط لا يحل حراما ولا يحرم حالا، وأما الإجابة عن قولهم أن هذا من باب إغلاق الرهن، فنقول: هذا ليس من باب الإغلاق في شيء، لماذا؟ لأنه باختياره، ولم يكرهه على هذا أحد. من فوائد الحديث: أولا: تحريم أخذ المال بغير رضا صاحبه سواء قلنا: "لا" ناهية أو نافية. ومن فوائده: أن الرهن لا ينقل الملك عن المرهون بل هو باق على ملك الراهن لقوله: "من صاحبه" وهو كذلك. ومن فوائد الحديث: تحريم إغلاق الرهن بصورتيه وهو أن يستغل المرتهن هذا الرهن أو يأخذه قهرا إذا حل الأجل بغير رضا صاحبه. ومن فوائده: الإشارة إلى القاعدة المعروفة وهي أن الغنم بالغرم، وهذه القاعدة مأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم: «الخراج بالضمان» ومن هذا الحديث أيضا لقوله: «له غنمه وعليه غرمه» فمن عليه غرم شيء فله غنمه، كيف تحمل الراهن والغرم ولا نعطيه الغنم؟ الترغيب في حسن القضاء: 825 - وعن أبي رافع: «أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل نت الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فقال: لا أجد إلا خيارا رباعيا، فقال: أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء». رواه مسلم. "استلف" أي: اقترض، لأن السلف يطلق على السلم، ويطلق على القرض؛ لأن في كل منهما تقديما، ففي السلم تقدير الثمن وتأخير المثمن، وفي القرض تقديم المقترض وتأخير الوفائ. وقوله: "بكره" البكر هو الصغير من الإبل، وقوله: "من إبل الصدقة" يعني: الزكاة وقوله: "يقضيه بكره" أي: يوفيه، وقوله: "بكره" أي: عوض بكره لا البكر الذي استسلف؛ لأن البكر الذي استسلف مضى على سبيله، ويحتمل أن يقال: "بكره" أي: بكرا مماثلا لبكره، وعلى هذا فيكون فيه

استعارة وهي استعارة المقضي الذي حصل به القضاء للمقضي الأول الذي ثبت به القضاء، الفرق إذا قلنا أن المراد بالبكر هنا البكر الأول الذي استسلف، صار لابد من تقدير ما هو؟ عوض بكره، لأن بكره الأول راح، وإذا قلنا: إن المراد بالبكر هنا البكر المدفوع قضاء صار إطلاق البكر عليه من باب الاستعارة؛ لأن يكون شبيها للأول، كأنه قال: اردد عليه بكرا مثل بكره. فقال: "لا أجد إلا خيارا رباعيا"، الخيار الجيد: الذي يختاره الإنسان على غيره، والرباعي: ما بلغ سبع سنين، هذا بالنسبة للإبل، وبالنسبة للبقر ما بلغ خمس سنين، وبالنسبة للغنم ما بلغ أربع سنين، فالرباعي يختلف، فقال له: "أعطه إياه" بعني: أعطه هذا الخيار الرباعي بدلا عن البكر، "فإن خيار الناس أحسنهم قضاء" "خيارهم"، أي: في الوفاء وقضاء الدين، وليس المراد: الخيار المطلق، بل المراد: خيار الناس في قضاء ما عليه من الدين. من فوائد هذا الحديث: أولا: بيان ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من قلة ذات اليد، ولو كانت الدنيا خيرا لكان أولى الناس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه صلى الله عليه وسلم كان يمضي عليه الشهر والشهران والثلاثة ما أوقد في بيته نار، طعامه الأسودان: التمر والماء. ومن فوائده: جواز اقتراض الحيوان، فتأتي إلى الشخص وتقول له: من فضلك سلفني شاة، لا بأس بهذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا، جئت إلى شخص وقلت: سلفني حمارا فيجوز، جئت إلى شخص وقلت: أقرضني جاريتك هذا لا يجوز، قالوا: لأنه يؤدي إلى أن يقترض جارية فيطؤها عدة ليال ثم يردها، وهذا معلوم أنه حرام، ولهذا أجاز بعضهم استقراض الذكر فتقول: أقرضني فيقرضه ثم يوفيه عبده. هل يجوز استقراض السيارات؟ يجوز، القرض غير العرية، العرية لا يملكها المستعير، لكن القرض يمكله. وهل يجوز التوكيل في الاستقراض والوفاء؟ في القضاء فقط، أما الاستسلاف فلا، إذن في الحديث دليل على جواز التوكيل في القضاء. ومن فوائد الحديث: أن الوكيل لا يتعدى ما أكثر مما وكل فيه إلا بعد مراجعة الموكل، الدليل: أن أبا رافع لما لم يجد إلا خيارا رباعيا لم يوف حتى استأذن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: جواز الزيادة في الوفاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوفاه مما استقصى وقال: «إن خير الناس أحسنهم قضاء»، ولكن الزيادة لا تخلو إما أن تكون في الكمية أو في الكيفية، إن كانت في الكيفية فلا شك في جوازها؛ لأن هذا الحديث يدل عليها، يعني: مثلا استقرضت منه صاع بر جيد هذا لا بأس به ولا حرج فيه، ولكن في الكمية هل نقول: بالجواز أو نقول: بعدم الحواز؟ فيه خلاف، يعني: إذا استقرضت واحدا فأوفيت ثلاثة، فالصحيح

جوازه، وأنه لا فرق بين الكمية والكيفية، وعليه فلو استقرضت منه درهما ورددت عليه درهمين، فلا حرج فهو جائز، لكن يشترط ألا يكون هذا مشروطا في عقد القرض، فإن شرط في عقد القرض فإنه لا يجوز كما سيأتي في الحديث الذي بعده. ومن فوائد الحديث: أن المثلي يجري في الحيوان، كيف هذا؟ يعني: أن الحيوان يضمن بمثله لا بالقيمة إلا إذا تعذر المثلي والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم رد النبي رد بعيرا عن بعير، وذهب بعض العلماء إلى أن المثلي لا يجري في كل مصنوع ولا في كل ذي روح ويقولن في تعرف المثلي: كل مكيل أو موزون لا صناعة فيه مباحة يصح السلم فيه فيضيقون المثلي، وبناء على هذا القول نقول: إذا استقرص الرجل شاة فإنه لا يرد شاة بل يرد قيمة الشاة وقت القرض، زادت أو نقصت، ولكن هذا الحديث يرد عليه، وهذا هو الصحيح، أي: ما دل عليه الحديث أن المثلي يجري في الحيوان والمصنوع وفي كل شيء له مثل فالثياب مثلا مثلية، والأواني مثلية والفرش مثلية، والحيوان مثلي، والسيارات مثلية، وهكذا لأن المثلي هو ما كان مثيلا للشيء أو مقاربا له. ومن فوائد الحديث: فضيلة حسن القضاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن خيار الناس أحسنهم قضاء»، وقد جاء في حديث آخر: «رحم الله امرأ سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى وسمحا إذا اقتضى»، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لسماحته. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بقرن الأحكام وبعللها، وجهه: أنه قال: «أعطه إياه فإن خيار الناس ... إلخ»، وإلا لكان يكفي أن يقول: أعطه إياه. ومن فوائد الحديث: تفاضل الناس في الأخلاق لقوله: «فإن خيار الناس»، والناس يتفاوتون في الأخلاق، ويتفاوتون في الأعمال، ويتفاوتون في الإيمان، وفي كل شيء، ويتفرع من هذه القاعدة: أن الإيمان يزيد وينقص، وجهه قوله: «خيار الناس»؛ لأن الرسول فضل بعض الناس على بعض. ومن فوائد الحديث: أن العقود تنعقد بما دل عليها لقوله: «أعطه إياه»، ولم يقل: أوفه، ومعلوم أن العطية أوسع من الوفاء، قد تكون العطية ابتداء هبة، ولكن القرينة تدل على أن المراد أعطه إياه وفاء، فيستدل به على أن العقود تنعقد وهو القول الراجح. ومن فوائد الحديث: جواز استدانة ولي الأمر على بيت المسلمين، وجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى هذا من الصدقة، وقضاؤه إياه من الصدقة يدل على أنه لم يستند به لنفسه؛ لأنه لو كان لنفسه ما أداه من الصدقة لأنه تحرم عليه الصدقة، ولكن يشترط ألا يظهر نفسه بدين لا يرجو وفاءه، بل يستدين للحاجة بقدر للحاجة إذا كان يرجو الوفاء.

826 - وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل قرض فهو ربا». رواه الحارث بن أبي أسامة، وإسناده ساقط. - وله شاهد ضعيف عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه عند البيهقي. - وآخر موقوف عند عبد الله بن سلام رضي الله عنه عند البخاري. هذا الحديث: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» والربا -كما نعلمه- حرام، والقرض مر عليمنا تعريقه، وقوله: «جر منفعة» أي: للمقرض فهو ربا لا للمقترض، المقترض لابد أن يجر إليه القرض نفعا فييسد حاجته، لكن للمقرض، ولأن الربا يكون من جانب واحد وهو الدافع، أما الآخذ فالربا عليه وليس له، فالربا في الواقع يكون من جانب واحد، إذا فالمراد بقوله: «جر منفعة» أي: للمقرض، «فهو ربا» يعني: داخل في الربا، لكن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن إسناده ساقط، والمرفوع ضعيف والموقوف على اسمه فهو قول صحابي، وحينئذ نقول: إن الحديث لا تقوم به حجة، ولكن هل يمكن أن نعرف حكم هذه المسألة من القواعد العامة؟ نقول: يكمن، الأصل في القرض أنه عمل خيري يقصد به المقرض وجه الله، والإحسان إلى المقرض؛ ولهذا جوز الشرع أن أقرضك دينارا وتوفيني بعد شهر أو شهرين دينارا مع أن هذا لو وقع على سبيل المعاوضة والبيع لكان حراما؛ لأنه ربا نسيئة، ولكن لما كان المقصود الإحسان إلى المحتاج وسد حاجته رخص فيه الشرع، وإلا فالأصل أن إبدال دينار بدينار لا يوفي إلا بعد مدة، الأصل أنه ربا لكن من أجل يفتح باب الإحسان وسد الحوائج أجاز الشارع القرض، فإذا اشترطت المنفعة؛ أي: إذا شرط المقرض المنفعة خرج به عن مقصوده وصار الآن الهدف تجاريا والمقصود المعارضة والربح الدنيوي، فمن أجل هذا نقول: إذا جر منفعة للمقرض فهو ربا؛ لأنه خرج عن مقصوده، فمثلا إذا أقرضتك ردهما بشرط أن أركب سيارتك إلى المحل الفلاني صار هذا معاوضة، صار كأنما بعت درهما بدرهم وزيادة ركوب السيارة، وهذا ربا لا شك فيه، ولهذا نقول: هذا الحديث وإن كان لا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم لكن القواعد الشرعية تقتضي تحريم المنفعة التي يشترطها المقرض؛ لأنه حينئذ يخرج بالقرض عن مقصوده الأصلي، وقولنا: "جر منفعة" يشمل أي منفعة كل سواء كانت بدنية أو مالية أو عين؛ لأنه إذا منعت المال فالعين من باب أولى، فالبدنية أن يقول: أقرضك عشرة آلاف درهم بشرط

حكم الجمعية وهل هي ربا أو لا؟

أن تعمل عندي ثلاثة أيام، هذا لا يجوز، المنفعة بدنية، المالية أن يقول: أقرضك عشرة آلاف ريال بشرط أن تعطيني مسجلك هذا أيضا لا يجوز، الثالث: عينية يقول: أقرضتك عشرة آلاف ريال بشرط أن أسكن بيتك سنة هذا لا يجوز، إذا كل منفعة عينية أو مالية أو منفعة مجردة يشترطها المقرض، فإنها ربا. فإن قال قائل: ما ذكرتم يخالف حديث أبي رافع السابق: "خيار الناس أحسنهم قضاء". فنقول: إنه لا يعارضه، لأن حديث أبي رافع وقعت الزيادة عند الوفاء غير مشروطة، وإذا وقعت الزيادة عند الوفاء غير مشروطة أو وقعت بعد الوفاء مكافأة، فإن ذلك لا بأس به، إذن فالمحرم ما شرط في العقد أو ما حصل قبل الوفاء أيضا فهو محرم، لماذا؟ لأنه يؤدي إلى أن يدع المقرض حقه ما دام هذا الرجل يعطيه، المستقرض يعطي هذا المقرض من أجل أن يسكت عن المطالبة، وربما يستغله أكثر مما أعطاه. لهذا نقول: صورتان جائزتان، وصورتان ممنوعتان، الصورتان الجائزتان: ما كان عند الوفاء أو بعد الزفاء، والصورتان الممنوعتان: ما كان مشروطا ولو مع الوفاء أو كان قبل الوفاء، وظاهر كلام أهل العلم أنه لا فقر بين أن تكون المنفعة يسيرة جرت بمثلها أو لا، فمثلا لو أقرضت صاحبي تاكسي قيمة السيارة ثلاثين ألفا ثم صلى معك في المسجد وقلت: احملني إلى بيتي، فلما أنزلك عند البيت قلت: جزاك الله خيرا وانصرفت هل يجوز؟ الجواب: لا يجوز، أعطه حقه، أسقط حق الأجرة وليكون خمسة ريالات من الثلاثين ألفا، لمادا؛ لأن هذا قبل الوفاء، استثنى العلماء من هذا ما لا تأثير للقرض فيه وهو ما جرت به العادة من قبل العرض فهذا جائز يعني: ما حصل للإنسان المقرض مما جرت به العادة قبل القرض فلا بأس به، لماذا؟ لأنه لا تأثير للقرض فيه، مثل أن يكون صديقا لم وجرت العادة أنه إذا سافر ثم رجع يأتي بما يسمونه عندنا بالحقاق، يعني: الحق الذي يعطي للصبيان، فلما رجع هذا الرجل من سفره أعطى أولاد المقرض ما جرت به العادة هل هذا حرام؟ قالوا: ليس بحرام، لماذا؟ لأنه لا تأثير للقرض فيه، فهو قد جرت العادة بأن يعطي هؤلاء ما يفرحهم عند قدومهم، وبناء على ذلك نقول في مسألة التاكسي التي تحدثنا عنها قبل قليل: إذا جرت عادة صاحب التاكسي أن يركب مثل هذا فليس عليه شيء، ولا يلزمهم احتسابه من الدين؛ لأن هذا لا أثر للقرض فيه. حكم الجمعية وهل هي ربا أو لا؟ جرت مسألة عند كثير من الناس الموظفون يقتطعون من رواتبهم كل شهر كذا وكذا يعطونه واحدا منهم في الشهر ويعطونه الثاني والشهر الثالث للثالث حتى يدور عليهم، فهل هذا من القرض الذي جر نفعا؟ لا، لأنه ما جر نفعا لن يأخذ الإنسان أكثر مما أعطى، قالوا: أليس يشترط أن يوفى إياه،

6 - باب التفليس والحجر

وهذا شرط في قرض؟ قلنا: لكن هذا ليس شرط عقد آخر، إنما هو شرط للوفاء، يعني: أنا أعطيتك على شرط أن ترد علي فقط وما رددت على أكثر مما أعطيتك، وحينئذ يعتبر القول بأنه من القول الذي جر نفعا يعتبر وهما؛ لأنه ليس فيه نفع إطلاقا، نعم، لو أنه قال: أنا أريد أن أسلفك من راتبي ألفا على أن تسلفني من راتبك ألفين لكان هذا لا يجوز، لأنه قرض جر نفعا. * * * * 6 - باب التفليس والحجر "التفليس" تفعيل من الفلس، والفلس هو الإعدام والفقر؛ لأن الفقير المعدم ليس عنده فلوس فهو مفلس؛ أي: خال اليد من الفلوس، وأما التفليس فهو الحكم بإفلاس من حكم عليه به، يعني إذا أفلسه القاضي وحكم عليه بالفلس، فهذا يسمى تفليسا فعندنا فلس وإفلاس بمعنى واحد، تفليس: الحكم عليه بأنه مفلس، والإفلاس والفلس هو الفقر والإعدام. أما "الحجر" فهو في اللغة: المنع، والمراد به: منع المالك من التصرف في ملكه، ولكن الحجر ينقسم إلى قسمين: حجر لمصلحة الغير، وحجر لمصلحة الغير، وحجر لمصلحة المحجور عليه، فالحجر للسفه أو الجنون هذا حجر لمصلحة المحجور عليه، فالحجر للسفه أو الصغر أو الجنون هذا حجر لمصلحة المحجور عليه، والحجر لحق الغرماء حجر لمصلحة الغير، هناك أنواع من الحجور كحجر الراهن من التصرف في الرهن، هذا نوع من الحجر لمصلحة المرتهن، لكن هذا غير مراد، مراد المؤلف: بمن حجر عليه إما لمصلحة غير؛ كمدين أفلس، أو لمصلحة نفسه كالصغير والمجنون والسفيه. 827 - عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به من غيره». متفق عليه. "قد أفلس" يعني افتقر إذا أدركه بعينه فهو أحق به من غيره، هذا الحديث يقول: «من أدرك»، وكلمة "من" هذه شرطية فتفيد العموم، يعني: أي إنسان أدرك ماله عند رجل ... إلخ. وقوله: "ماله بعينه" المال هو كل ما يجمعه الإنسان من نقود وعروض ومنافع وغيرها، وأحيانا يقال: المال هو منفعة، فيراد بالمال: الأعيان، وبالمنافع: المنافع، وقوله: "بعينه" يعني: لم يتغير بل أدركه كما هو لم يتغير بعيب أو غيره. وقوله: "عند رجل قد أفلس"، "رجل" هذه كلمة للمذكر -كما هو معروف- لكنها ليست خاصة بالرجل بل حتى لو أدركته بعينه عند امرأة لكن ذكر الرجال تغليبا وتشريفا، تغليبا لأن

أكثر من يتعامل بالمال الرجال، وتشريفا؛ لأن الرجل أشرف من المرأة، لأن الله تعالى فضل الرجال على النساء. "فهو أحق به من غيره"، "أحق" اسم تفضيل من الحق، بمعنى: الاستحقاق، يعني: فيستحقه هو دون غيره، وإن لم يكن لهذا الذي أفلس مال سواه يكون صاحبه أحق به من غيره، وصورة المسألة: رجل باع على شخص سيارة، ثم إن هذا الرجل الذي اشترى السيارة انكسر بماله، يعني: أفلس، فنقول لصاحب السيارة: أنت أحق بسيارتك، صاحب السيارة قد باعها بعشرة آلاف ريال، والرجل صار عليه مائة ألف ريال لعشرة أنفس من جملتهم صاحب السيارة قد باعها بعشرة آلاف ريال، والرجل صار عليه مائة ألف ريال لعشرة أنفس من جملتهم صاحب السيارة الذي عليه مائة ألف منها عشرة لصاحب السيارة وتسعة وتسعون لغرماء آخرين تسعة رجال كل واحد عشرة آلاف، الآن المال الذي عليه مائة ألف، والغرماء عشرة كل واحد منهم له عشرة آلاف، هذا الرجل الذي أفلس ما وجدنا عنده إلا السيارة، كم لصاحب السيارة؟ عشرة آلاف ريال لو جعلنا لصاحب السيارة أسوة الغرماء لم يأته إلا ألف ريال لماذا؟ لأننا نقسمها على عشرة أنفس لا يأتيه إلا ألف، لكن مقتضى الحديث أن نقول: لك السيارة وهي لم تتغير، فيكون صاحب السيارة لم يفته شيء، والباقون فاتهم، هذه صورة المسألة التي دل عليها الحديث، وإنما كان أحق؛ لأن ماله الذي لزم المفلس الدين به موجود ومال الآخرين مفقود غير موجود، فكيف يجعل مال هذا الرجل فداء لمال الآخرين، هذا ليس بحق، ولهذا قلنا: إنك أنت يا صاحب السيارة أحق بسيارتك، ولكن هل إذا أحق يأخذها بالغة ما بلغت قيمتها أو يرجع بما نقص ويرد ما زاد؟ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فهو أحق به» يدل على أنه أحق به من غيره، لكن لا يدل على أن حقه يثبت، يعني: لو فرضنا أن السيارة لا تساوي الآن إلى تسعة آلاف وقد باعها بعشرة، هل نفول بقي له ألف في ذمة المفلس، أم نقول: ليس لك إلا مالك؟ نقول بقي له ألف أنت أحق، يعني: أنت مقدم على غيرك فيه، كذلك لو فرض أن هذه السيارة تساوي الآن عشرين هل يأخذها بعشرين أو نقول: خذها بعشرة واردد عشرة؟ الثاني، فإذا قال: أنا لا أريد أن أرد عشرة، قلنا: إذن تباع السيارة فتكون أسوة الغرماء. ففي هذا الحديث عدة فوائد: أولا: تقديم صاحب السلعة بالشرط الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن يكون بعينه أي: لم يتغير. ومن فوائد الحديث: أنه لو تغيرت السلعة بزيادة أو نقص فإنه ليس أحق بها؛ لأن قيد "بعينه" تخرج ما تغير بزيادة أو نقص، ما تغير بالزيادة مثل أن تكون بعيرا فسمنت أو حملت هذه الزيادة، النقص: مثل أن تكون هذه البعير قد هزلت، أما الأول -وهو ما إذا زادت- فظاهر أنه ليس أحق بها؛ لأن الزيادة حصلت على ملك المشتري المفلس فلا يمكن أن تكون أنت أحق

بها، وأما الثاني إذا نقصت فقد يقال إن البائع إذا رضي بها ناقصة فإنه يعطى إياها؛ لأن في هذا مصلحة للمشتري، فمثلا إذا قدر أنها هزلت حتى كانت لا تساوي إلا نصف القيمة وقال: أنا راض بالقيمة كلها، فهنا قد نقول: إنه له حق فيها؛ لأن هذا من مصلحة المشترى حيث إنه سيسقط عنه في هذه الحال نصف الدين. فإن قال قائل: هذا يضر بالغرماء لو تقاسموها لحصل لهم منها شيء؟ قلنا: إذا كان أخذه إياها وهي تساوي عشرة قد أباحه الشرع مع أن فيه إضراراً بالغرماء فإباحته إذا كانت دون ذلك وأسقط الباقي من باب أولى، والشرع كله مبني على العدل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90]. وفي هذا عدل. من فوائد الحديث: أن البائع له أن يسقط حقه؛ لأن الحق له، يعني: لو أن البائع رحم المشتري والغرماء وقال: أنا أسقط حقي وأجعل نفسي كغريم منهم، فهل له ذلك؟ نعم، لأنه قال: "فهو أحق"، نجعل الحق له، فإذا رضي بإسقاطه فلا حرج عليه، وهذا لمصلحة الغرماء ومصلحة الغريم المفلس، أما الغرماء فظاهر، وأما الغريم؛ فلأنه يسقط من ذمته شيء من ديون الغرماء، وأنتم تعلمون أن الغرماء يختلفون، بعض الغرماء يكون شديدا لا يخاف الله ولا يرحم مخلوقا، فتجد المدين يود أن يقضي دين هذا الرجل حتى يسلم منه، فإذا رضي البائع بأن العين هذه التي هو أحق بها من غيرها تضاف إلى ما لديه من المال، وتجعل للغرماء جميعا فهذا لا بأس به؛ لأن الحق حقه. - ورواه أبو دواد، ومالك: من رواية أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلا بلفظ: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقض الذي باعه من ثمنه شيئا، فوجد متاعه بعينه، فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء»؟ . - ووصله البيهقي، وضعفه تبعا لأبي داود. لماذا كان مرسلا؟ لأن أبا بكر بن عبد الرحمن تابعي، وليس صحابيا، استفدنا من هذا الحديث المرسل فائدة وهي أنه يشترط ألا يكون البائع استوفى شيئا من ثمنه، فإن كان استوفى شيئا من ثمنه ولو كان درهما واحدا من ألف درهم فليس أحق به من غيره، إذن نضيف هذا الشرط إلى ما سبق من أنه يشترط ألا يتغير ويشترط أيضا ألا يكون قد قبض من ثمنه شيئا فإن كان قد قبض من ثمنه فلا حق له فيه ويكون صاحبة أسوة الغرماء، وهذا الشرط لا يتنافي مع الحديث الصحيح المتصل؛ لأن قوله: "من أدرك ماله بعينه" قد يؤخذ من كلمة "بعينه" أنه إذا

قبض من ثمنه شيئا لم يصدق عليه أنه وجده بعينه، قد يؤخذ من كلمة "بعينه" أنه إذا قبض من ثمنه شيئا فقد بقي بعض المبيع، وهو الجزء المقابل لما أخذ من الثمن بقي طليقا ليس للبائع فيه حق، وحينئذ يكون لم يجده بعينه. إذا كان قد باعه بمائة درهم وقبض عشرة كم صار يستحق من هذا المبيع؟ تسعين، يعني: تسعة أعشار المبيع فقط، والعشر الباقي لا حق له فيه، إذا فكأنه لم يدركه بعينه، كأنه أدركه ناقصا، العشر المقابل لما قبضه من الثمن. على كل حال: سواء أمكن أن نأخذ هذا الشرط أم لم يمكن فإن هذا الحديث المرسل فيه أنه يشترط ألا يكون قد قبض من ثمنه شيئا. قال: "وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء"، أضف إلى هذين الشرطين السابقين شرطا ثالثا، وهو أن يكون المشتري حيا، فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء، يعني: ليس له حق فيه هو وغيره سواء، ونبقى مفرعين على المثال السابق الذي باع عليه سيارة بعشرة آلاف ريال، وكان الدين الذي عليه مائة ألغ لتسعة غرماء آخرين، قلنا: لصاحب السيارة أن يأخذ سيارته عن دينه، لكن لو مات الذي اشترى السيارة قبل أن يأخذ البائع سيارته صار البائع أسوة الغرماء، أي: أن هذه السيارة تكون مشتركة بين الغرماء العشرة بالتساوي، وهذا الشرط أيضا يمكن أن يؤخذ من الحديث من قوله: «من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس» وبعد موته لا يكون أدركه عند الرجل، بل يقال: أدركه عند الورثة، وحينئذ يكون القيد في قوله: "عند رجل قد أفلس" مخرجا لما إذا مات هذا المفلس وانتقل المتاع إلى ورثته، فإنه لا حق لصاحب المتاع فيه بل يكون أسوة الغرماء فإن مات صاحب المتاع فهل يسقط حق ورثته، أو نقول: إن الورثة نزلوا منزلة الموروث وهذا حق يورث؟ الثاني، من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس، هذا الذي باع متاعه على رجل وأفلس الرجل، نقول: أنت الآن أحق بمتاعك من غيرك لكنه مات البائع فهو ينزل الورثة منزلته؟ قال الله تعالى: {ما ترك} [النحل: 61]، وهذا حق متروك ثابت للمورث، فإذا كان حقا متروكا ثابتا للمورث دخل في عموم ما ترك أزواجه أو ما تركتم وما أشبه ذلك، إذن المسألة فيها قولان، والقول الراجح: هو أنه يورث فيكون الورثة أحق به من بقية الغرماء؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: {ما ترك} [النحل: 61]، والترك يكون في الأصل، ويكون في الوصف، وكما أن الوارث يرث حق الشفعة وحق الخيار كذلك يرث حق الأخذ بالمال، ولا فرق. بقي عندنا الجواب عند حجة المعارض، لأننا ذكرنا أن الترجيح لابد فيه من أمرين: إقامة الحجة، والرد على الحجة، إقامة الحجة لك، والرد على حجة المعارض، فيكف يرد على

حجة المعارض وهو واحد، وقد ذكر ابن جرير أن الواحد لا يخرق الإجماع، ومسألة توزبع المال على الغرماء يكون بالقسط، كيف ذلك؟ أن ننسب الموجود من المال إلى المطلوب الذي يطلب منه ونعطي كل واحد من دينه بمثل تلك النسبة، فإذا قدرنا أن المطلوب خمسون ألفا والموجود عشرة آلاف فقط كم مسبة العشرة للخمسين؟ الخمس نعطي كل واحد خمس دينه، الذي له خمس ريالات نعطيه ريالا، والذي له خمسون ألفا نعطيه عشرة آلاف، والذي له خمسمائة ألف فعطيه مائة ألف إذن نقلل، الذي له خمسون ألفا أعطيناه عشرة، والذي له مائة ألف تعطيه عشرين، وعلى هذا فقس، المهم أن الطريق هو أن ننسب الموجود على المطلوب، ونعطي كل واحد من دينه بمثل تلك النسبة، هذا معنى قوله: "أسوة الغرماء". وهل يفرق بين صاحب الدين السابق واللاحق؟ الجواب: لا نفرق الدين السابق الذي له عشر سنوات والدين اللاحق الذي ليس له إلا عشرة أيام كلها سواء. - ورواه أبو داود، وابن ماجه: من رواية عمر بن خلدة قال: "أتينا أبا هريرة رضي الله عنه في صاحب لنا قد أفلس، فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به" وصححه الحاكم، وضعف أبو داود هذه الزيادة في ذكر السموات. يقول: رواه أبو داود من رواية عمر بن خلدة، قال: "أتينا أبا هريرة رضي الله عنه"، أبو هريرة كان أميرا على المدينة في وقت من الأوقات، وكان في جملة ما يقول: "لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة على جداره، ثم يقول: ما لي أراكم عنها معرضين! والله لأرمين بها بين أكتافكم" أي: بهذه السنة بين أكتفاكم وإن كرهتموها، أو لأرمين بالخسب بين أكتافكم حتى تحملوها إن لم تحملها جدركم؟ الثاني أنسب، وهذا نظير قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمحمد بن مسلمة لما منع من إجراء الماء على أرضه لأرض جاره قال عمر: لتجرينه أو لأجرينه على بطنك، فهذا قسط من سياق هذه القصة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان أميرا على المدينة في وقت من الأوقات، وكان يلزم الناس بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا يجب على كل وال أن يكون إلزامه للناس بما تقتضيه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا بما تهواه نفسه، ولذلك يحرم على ولي الأمر أن يلزم الناس التمذهب بمذهبه، لو كان مثلا حنبليا لا يجوز أن يلزم الناس بالمذهب الحنبلي، أو حنفيا لا يجوز له أن يلزم الناس بالمذهب الحنفي، وهكذا، بل يدع الناس وما يرون في دين الله، أما إذا رفع الأمر إلى الإنسان فإن الواجب عليه أن يحكم ويلزم بما يرى أنه الحق، وليس عليه ملامة في ذلك.

يقول: "لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله: "بقضاء" قال بعض العلماء: أي بمثل قضاء؛ لأن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم قد انتهى حياته، ولا يمكن أن تكون القضية التي قضى بها أبو هريرة أو غيره من حكام المسلمين هي القضية التي قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المسألة على حذف مضاف، أي: بمثل قضاء، وبعضهم يقول: لا حاجة إلى التقدير، لأن الأمر معلوم، وإذا كان معلوما فلا حاجة إلى التقدير، قالوا: ونظير ذلك قوله تعالى: {وسئل القرية التي كنا فيها} [يوسف: 82]. لا حاجة أن نقول: واسأل أهل القرية؛ لأن الأمر معلوم. ثم قال: «من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به»، وهذا الحديث كما ترون يوافق ما سبقه في مسألة الإفلاس، لكنه يخالفه في مسألة الموت؛ لأن الحديث السابق يدل على أنه إذا فصاحب المتاع أسوة الغرماء، وهذا يدل على أنه إذا مات فإن صاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه، ولهذا قال: صححه الحاكم وضعفه أبو داود، وضعفه أيضا هذه الزيادة في ذكر الموت؛ لأنها تخالف الحديث السابق، والحديث السابق أصح، والقاعدة في مصطلح الحديث: أنه إذا تعارض لفظان وكان أحدهما أرجح من الآخر رواية أو متنا فإن المرجوح يسمى شاذا، حتى لو فرض أن هذا الحديث الشاذ روي بسند متصل، رواته ثقات، لكنه يخالف ما هو أرجح منه، فإنه يعتبر شاذا، على أنه لو انفرد لقبل، ومن ذلك ما رواه أهل السنن من النهي عن الصوم بعد منتصف شعبان، فإن الإمام أحمد رحمه الله ضعفه، وقال: إنه شاذ، لماذا؟ قال: لحديث أبي هريرة "لا يتقدمن من أحد رمضان بصيام يوم أو يومين"، فإن هذا الحديث يدل على أن النهي خاص بما يسبق رمضان يوما أو يومين لا من النصف، والذين قالوا: لا شذوذ قالوا: يمكن الجمع، فيحمل النهي في حديث أبي هريرة على التحريم، وفي الحديث الثاني على الكراهة، إنما قصدي أن العلماء -رحمهم الله- يستعملون الشذوذ في مخالفة الأحاديث التي هي أصح وإن اختلف المخرج، يعني: لو كان المخرج مختلفا وقد كان عند كثير من الطلبة أن الشذوذ لا يحكم به إلا إذا كان المخرج واحدا، يعني: مثل أن يختلف راويان في حديث واحد ولكن تبين من صنيع أهل العلم أنه إذ خالف ما هو أرجح منه ولو كان الحديث مباينا لهذا الحديث فإنه يعتبر شاذا. على كل حال: الذي نحن فيه الآن هذا الحديث يدل على أنه إذا مات الغريم المفلس فإن صاحب المتاع أحق به من غيره، والأول يدل على أنه أسوة الغرماء، والراجح الأول؛ لأن الثاني ضعيف، الفوائد مثل الأول لكن فيه زيادة إذا صح الحديث. فمن فوائده: أنه ينبغي للحاكم أن يطمئن الخصوم عند الحكم لقوله: "لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وكذلك أيضا المفتي ينبغي له أن يطمئن المتستفتي إذا أفتاه، لاسيما إذا

التحذير من مماطلة الغني

رأى على وجه المستفتي شيئا من الغرابة؛ لأن المستفتي أحيانا يثق بالمفتي ولا شك، لكن يستغرب الشيء، ويظهر ذلك من ملامح وجهه فيجب أن تطمئنه، وأحيانا إذا كان لا يهابه يقول: ما هذا؟ ما الدليل؟ على كل حال إذا وجدت المستفتي طالبا الدليل بلسان الحال أو المقال فينبغي أن تذكره له. ومن فوائد الحديث: فضيلة أبي هريرة رضي الله عنه، حيث اعتمد في قضائه على قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقية الفوائد مثل الحديث السابق. التحذير من مماطلة الغني: 828 - وعن عمر بن الشريد، عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لي الواجد يحل غرضه وعقوبته». رواه أبو داود، والنسائي، وعلقه البخاري، وصححه ابن حبان. قوله: "لي الواجد"، "اللي" بمعنى: المطل، و"الواجد" الغني القادر على الوفاء، وقوله: "يحل عوضه" أي: يبيحه، والعرض الكلام فيه، "وعقوبته" أي: تعزيره بما يراه الحاكم، والحديث هذا في بيان ما يجب على من عليه دين أو يبادر وألا يماطل فيه. ففي الحديث أولا: التحذير من مماطل الغني بالدين، ووجهه: أن الشارع جعل هذا مبيحا لعرضه وعقوبته، مع أن الأصل أن عرض المسلم محرم وعقوبته كذلك محرمة. ومن فوائد هذا الحديث: أن لي غير الواجد لا يحل عرضه ولا عقوبته، يؤخذ من قوله: "لي الواجد"، فإن مفهومه أن غير الواجد لا يحل عرضه ولا عقوبته. ويستفاد من هذا الحديث: تحريم مطل الغني ووجهه: أن الشارع أباح منه ما كان محترما وهو العرض والعقوبة ولاستباح المحترم إلا بشيء محرم. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز مطل غير الواحد؛ لأنه لا يستطيع، ويؤخذ من قوله: "لي الواجد"؛ لأنه لا يستطيع، والله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. ويستفاد من هذا الحديث: أنه لا يجب الوفاء إذا لم يطلب لقوله: "لي"، ولا مطل إلا بامتناع، فإذا سكت عنه فإن ذلك ليس بمطل منه، ولا يحل عرضه وعقوبته، ولكن الطلب نوعان: طلب باللفظ وطلب بالحال، الطلب باللفظ أن يقول صاحب الحق: أعطني، والطلب بالحال أن يؤجله فيقول: يحل بعد شهر، بعد سنة، فإن تأجيله يستلزم المطالبة به بلسان الحال عند حلول الأجل، ولولا ذلك ما أجله.

ومن فوائد الحديث: جواز تكلم صاحب الحق بمن ما طله لعموم قوله: «يحل عرضه» وهذا يشمل الشكاية وغيرها لكنه لا ينبغي أن يتكلم فيه بغير الشكاية إلا إذا كان في ذلك مصلحة، المصلحة قد تكون للطالب، وقد تكون لغيره، فالمصلحة للطالب أن يكون كلامه في هذا الرجل حاثا له على الوفاء، يعني: إذا رأى أنه يتكلم عند الناس به قال: أنا أوفيه وأسلم من شره، هذه المصلحة للطالب، وقد تكون لغيره بحيث يحظر الناس منه، فإن هذا مصلحة للغير؛ لأن كثيراً من الناس لا يعلم عن معاملة هذا الشخص، وقد يكون هذا الشخص على هيئة يحسن الظن به، ويكون الأمر بخلاف الواقع، فإذا تكلم به لمصلحة التحذير مننه كان هذا خيراً أما التكلم من أجل الشكاية فهو حاجة، إذن نقول: إنه يجوز أن يتكلم الطالب بالمماطل في الشكاية وفيما إذا كان هناك مصلحة له أو مصلحة لغيره وإلا فلا ينبغي أن يتكلم. ومن فوائد الحديث: جواز عقوبة المماطل إذا كان واجداً لقوله: «وعقوبته» والمراد بالجواز هنا: رفع المنع، فلا يمنع أن تكون عقوبته واجبة، فلا ينافي أن تكون عقوبته واجبة، ولهذا يجب على ولاة الأمور أن يعاقبوا المماطلين حتى لا تضيع أموال الناس. ومن فوائد الحديث: عناية الشرع بحماية الأموال؛ لأنه إنما أبيح عرض المماطل وعقوبته من أجل حماية المال. هل نقول: إنه يمكن أن تقاس جميع الحقوق على هذا الحقوق المالية؟ الجواب: نعم، يمكن أن تقاس جميع الحقوق على الحقوق المالية، فإذا ماطل الزوج بحق زوجته أو الزوجة بحق زوجها كان داخلاً في هذا الحديث من باب القياس. 829 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» رواه مسلم. «أصيب» يعني: أصابته مصيبة، وبين هذا قال: «فكثر دينه» فأفلس. قوله: «في ثمار» جمع ثمر، والظاهر- والله أعلم- أنه تمر، لأن غالب ثمار المدينة في التمر، وقوله: «ابتعاعها» يعني: اشتراها، «فكثر دينه فأفلس»، يعني: افتقر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تصدقوا عليه» قال: يعني: للناس «تصدقوا عليه» أي: أعطوه صدقة لجبر كسره، والصدقة بذل المال تقرباً إلى الله عز وجل، وسميت صدقة؛ لأنها دالة على صدق إيمان صاحبها؛ لأن المال محبوب إلى النفس،

ولا يترك المحبوب إلا لما هو أحب منه، وما هو الذي أحب من المال بالنسبة للمتصدق؟ الثواب الذي يحصل له، فكونه يبذل ما يحب في هذه الدنيا رجاء لما يحبه في الآخرة دليل على صدق إيمانه، ولهذا سمي بذل المال تقربا إلى الله صدقة، فإن قصد به التودد والمحبة فهو هدية، وإن قصد به نفع الغير فقط دون التودد والمحبة ودون التقرب إلى الله فهو هبة، فبذل المال إذن إن أريد به التقرب إلى الله فهو صدقة، إن أريد به التودد فهو هدية، إن أريد به نفع المعطي فقط بقطع النظر عن كون الإنسان يتقرب إلى الله أولا يتقرب فهذا هبة، المراد هنا: «تصدقوا عليه» أي: أعطوه مالاً متقربين بذلك إلى الله، فتصدق الناس عليه امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، يعني: لم يصل إلى وفاء الدين مثل أن يكون دينه ألف درهم فجمع له خمسمائة فهنا المجموع لم يصل إلى حد الدين ولم يف به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه: «خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك» ما الذي وجدوه؟ الذي وجدوه ما تصدق به الناس؛ لأن الرجل أفلس ما بقي عنده شيء. فإذا قال قائل: بماذا كثر دينه وكيف أفلس، هل لأن الثمار فسدت وصار ضمانها عليه، أو لغير ذلك؟ الجواب: أن العلماء اختلفوا في هذا؛ فقيل: لأن الثمار فسدت، وإذا فسدت نقصت قيمتها، أو عدمت بالكلية، قالوا: وهذا دليل على أن قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بعت من أخيط ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ » دليل على أن هذا الحديث إنما هو سبيل الاستحباب، أعني قوله: «فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً» وعلى هذا القول تكون الجوائح غير موضوعة، فجعلوا هذا الحديث معارضاً للحديث السابق، وجمعوا بينهما بأن الحديث السابق على وجه الاستحباب، وأن لبائع الثمار أن يلزم من اجتيحت الثمار عنده بالقيمة كاملة، ولكن هذا الجمع غير صحيح، لأن مبني على فهم غير صحيح مبني على أن بين الحديثين تعارض، والواقع أنه ليس بينهما تعارض، بل كل واحد منهما له وجه، كيف ذلك؟ نقول: الرجل في حديث أبي سعيد يحتمل أنه أصيب بنزول السعر، فمثلاً إذا اشترى بعشرة آلاف، إذن هو أصيب بنزول السعر هذا وجه، ويحتمل أنه أصيب بثمار، أي: أخر جزها عن وقت العادة، فجاءت الأمطار فأصابتها، وفي هذه الحال الضمان على المشتري؛ لأنه هو الذي فرط بتأخير جزها في أوانه، والبائع ليس منه تفريط، إذن فللحديث هنا وجهان: الوجه الأول: أن تكون الثمار رخصت فنقص، والثاني: أن يكون أخر جزها عن عادته فأصيب

بالأمطار أو ما أشبه ذلك، وبهذا عرفنا أن هذا الحديث له وجه والحديث الأول له وجه آخر، وأما حمل الحديث الأول على الاستحباب، فهذا لا يمكن؛ لأن لفظ الحديث يمنع من هذا حيث قال: «فلا يحل لك ... إلخ» فكيف تحمل هذا على الاستحباب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فلا يحل لك» ويعلل هذا بأنك أخذته بغير حق؟ فالحمل هذا ضعيف، ولهذا نعرف أن مدارك أهل العلم تختلف اختلافاً عظيماً، والآفة تأتي من كون الإنسان يعتقد أولاً ثم يستدل ثانياً، لأنه إذا اعتقد أولاً أن الحكم كذا وكذا صار كلما أتى نص يخالف ما يعتقد حاول أن ينزله على ما يعتقد، وهذه آفة عظيمة، هذه الطريق توجب أن يكون الإنسان قد جعل النصوص تابعة لا متبوعة، والواجب على الإنسان أن يجعل النصوص متبوعة لا تابعة حتى يسلم من هذه الآفة. يستفاد من هذا الحديث فوائد: أولاً: أنه لا حاجة إلى العناية باسم صاحب القضية لقوله: «أصيب رجل» وكثير من الناس يتعب في تعين صاحب القضية، وربما يقضي أوقاتاً كثيرة في مراجعة بطون الكتب لعله يعرف من هذا وهذا لا حاجة إليه، إذ إن المقصود بالقضية معرفة الحكم الناتج عن مجريات أمورها. ومن فوائد الحديث: جواز بيع الثمار على رءوس النخل لقوله: «في ثمر ابتاعها» هذا هو الظاهر، مع أنه يحتمل أن الرجل ابتاع الثمار بعد جزها، وهذا وجه ثالث أضيفوه إلى الوجهين السابقين حتى لا يكون هذا معارضاً للحديث الأول. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لذي الجاه المطاع أن يشفع لمن أصيب، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصدقة عليه، هذا الأمر هل هو للوجوب؟ لا، ولكن للمشورة والاستحباب، وقرينة ذلك أنه أمر بالصدقة، والصدقة ليست بواجبة. ومن فوائد الحديث: مبادرة الصحابة- رضي الله عنهم- إلى امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: «فتصدق الناس عليه» والفاء تفيد الترتيب والتعقيب. ومن فوائد الحديث: أنه لا حق للغرماء فيما زاد على ما عنده لقوله: «وليس لكم إلا ذلك» ولكن هل هذا يعني سقوط بقية الدين، أو أن المراد سقوط الطلب ببقية الدين؟ الصحيح: أن المراد به الثاني سقوط الطلب ببقية الدين، لا أن الدين يسقط. فإذا قال قائل: ما الذي حمل الحديث على ذلك مع أن ظاهره خلافه؟ الجواب: أن نقول: إن الدين لما ثبت في ذمته صار مالاً للغير، ومال الغير لا يسقط إلا بإسقاط لقول الله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراضي منكم} [النساء: 29] فما دام صاحب الدين لم يرض بسقوط ما بقي فهو له. فلو قال قائل: لو مات المفلس في هذه الحال قبل أن يقدر على وفاء دينه فهل يأثم؟

الحجر

نقول: هذا ينبني على قاعدة مرت في حديث أخرجه البخاري، «من أخذ الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» في هذا الحديث لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر عليه. فيستفاد منه: أنه إذا لم يطلب الغرماء الحجر، فإنه لا يحجر عليه، ولكن يتولى الإمام أو الحاكم بيع ماله وقسمه بين الغرماء بدون حجر. الحجر: 830 - وعن ابن كعب بن مالك، عن أبيه رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله، وباعه في دين كان عليه» رواه الدارقطني، وصححه الحاكم، وأخرجه أبو داود مرسلا ورجح إرساله. كعب بن مالك رضي الله عنه هو أحد الثلاثة الذين خلفوا يعني: تخلفوا عن غزوة تبوك، وخلفوا في الحكم عليهم، لا أن المعنى خلفوا عن الغزوة، بل أنهم خلفوا، يعني: أرجئ أمرهم حتى يقضي الله فيهم كما هو مصرح به في حديث الثلاثة، وقوله: «حجر على معاذ» هو ابن جبل رضي الله عنه، وكان عليه دين وماله لا يفي بما عليه فحجر عليه، «ماله» يعني: أنه منعه من التصرف فيه؛ لأن الحجر بمعنى: المنع، «وباعه» أي: النبي صلى الله عليه وسلم «في دين كان عليه». ففي هذا الحديث الحجر على الإنسان في ماله وبيعه بغير رضاه، ووجه الدلالة: أن ذلك وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن متى يكون الحجر؟ نقول: المدين له أربع حالات: إما أن يكون ماله أكثر من دينه، أو يكون دينه أكثر من مله، أو يتساوى دينه وماله أو لا يكون عنده مال أصلاً، إذا لم يكن عنده مال حرم التعرض له ولا يجوز طلبه ولا مطالبته، ولا حسبه بل يجب تركه، ودليل ذلك قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280] إذا كان ماله أكثر من دينه فإن لا يحجر عليه أيضاً، ولكن «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته» يعني: أننا نعاقبه حتى يوفي نأمر بالوفاء، فإن أبي حبسناه، فإن أبي ضربناه حتى يوفي، فإن أبي بالكلية أوفينا من ماله قهراً عليه بدون حجر، الحال الثالثة: أن يكون ماله ودينه سواء، فهذا أيضا لا يحجر عليه ولكن يؤمر أولاً بالوفاء فإن أبي حبس، فإن أبي ضرب، فإن أبي بيع، الحالة الرابعة: أن يكون دينه أكثر من ماله، يعني: عنده مال لكن الدين أكثر من المال، فماله عشرة ودينه عشرون، هذا لا يترك ولا يحبس ولا يضرب، ولكن يحجر عليه؛ أي: أننا نمنعه من التصرف في ماله، ويتولى الحاكم الشرعي بيع ماله ويفرقه على الغرماء كل بقدر دينه بالقسط، وفي هذه الحال بأي شيء نبدأ؟ نبدأ أولاً بالرهن، فإذا كان لأحد رهن في المال فهو أحق به، ثم بمن وجد عين ماله، وقال

بعض أهل العلم: نبدأ بمن وجد عين ماله، فإن لك يكن أحد وجد عين ماله بدأنا بالرهن وحجة من قال بالأول- البدء بالرهن- قال؛ لأن هذا المفلس تصرف بالرهن على وجه صحيح؛ لأنه رهنها- هذه العين- قبل أن يحجر عليه، ولما رهنها تعلق بها حق الغير وهو المرتهن فصار مقدماً، وحجة من قال يبدأ بمن وجد عين ماله قالوا: لعموم الحديث: «من أدرك ماله بعين عند رجل قد أفلس فهو أحق به» ثم بعد ذلك بالغرماء، هل نقدم الأول أو الأخير؟ هم على حد سواء ونعطيهم بالقسط بالنسبة، وكيف النسبة؟ نحصي دينه، ثم نحصي ماله، ثم ننسب المال إلى الدين، ونعطي كل واحد من دينه بمثل هذه النسبة، فإذا قدرنا أن دينه عشرة وماله خمسة، كم نعطي كل واحد؟ نصف حقه، نصف دينه، فمن له درهمان نعطيه درهماً، ومن له ألفان نعطيه ألفاً، المهم أننا ننسب الموجود إلى المطلوب، ونعطي كل واحد مثل تلك النسبة. هناك أيضاً بحث آخر هل يحجر عليه في ماله وذمته أو في ماله فقط؟ نقول: يحجر عليه في ماله فقط، فلا يتصرف في ماله لا في بيع ولا شراء ولا غير ذلك، أما في ذمته فلا يحجر عليه، فمثلاً هذا الرجل الذي وجدنا أن دينه عشرة وماله خمسة حجرنا عليه إذا باع شيئاً من ماله فالبيع غير صحيح، وأما إذا اشترى شيئاً في ذمته فالشراء صحيح؛ لأن ذمته قابلة للتحمل والتصرف بخلاف أعيان ماله، فإنه قد حجر عليه فيها، ولهذا حديث معاذ: «حجر عليه ماله»، أما ذمته فإنها طليقة يتصرف فيها إن شاء استأجر وإن شاء اقترض وإن شاء اشترى بثمن مؤجل. ومن فوائد حديث معاذ: إثبات الحجر على من استحقه، وسبق لنا أن الحجر لا يكون إلا في صورة واحدة وهي ما إذا كان الدين أكثر من المال ولا حجر في ثلاث صور: إذا كان المال أكثر من الدين، أو كان مساوياً، أو لم يكن له مال، الحجر إنما يكون فيمن عنده مال لكن دينه أكثر من ماله. ومن فوائد حديث معاذ: جواز بيع الإنسان وإن لم يرض بالبيع إذا كان بحق لقوله: «وباعه في دين كان علي» وعلى هذا فقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} يستثنى منها هذه المسألة، فإن المحجور عليه يباع ماله قهراً لأن ذلك بحق. ومن فوائد حديث معاذ: خطر الدين وعظم شأنه، وأنه قد يؤدي بصاحبه إلى أن يباع ماله. ومن فوائده: أنه إذا كان يباع المال الموجود في قضاء الدين فما بالك بالشخص يشتري شيئاً ديناً عليه وهو ليس له حاجة فيه؛ لأن بعض الناس الآن يذهب يستدين من أجل أن يشتري الكماليات ليس بحاجة ولا بضرورة إليها، وهذا لا شك أنه من السفه من سفه الإنسان أن يذهب ويستدين من أجل مسائل كمالية، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرشد الذي أراد أن يزوجه وليس عنده شيء وقال: «التمس ولو خاتماً من حديد» قال: لا أجد، لم يرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن

يستدين مع أنه محتاج إلى الزواج، وإنما زوجه بما معه من القرآن، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر إذا قدمت له الجنازة عليها الدين ليس له وفاء لا يصلي عليها دل هذا على خطر الدين وأهميته، ولهذا ينبغي لكم أن تلاحظوا هذه المسألة لأنا وجدنا كثيراً من الناس يستدين لأجل أن يكون كالأغنياء في مأكله ومشربه وملبسه ومركوبه ومسكنه، وهذا لا شك أنه من السفه، يعني: رجل لا يملك من هذه الأشياء إلا بدين وآخر يملك أضعافها من عنده غني يريد الأول أن يكون مثل الثاني لا شك أنه سفه، وأن الإنسان ينبغي له أن يتحرز من الدين بقدر استطاعته. 831 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني» متفق عليه. وفي رواية للبيهقي: «فلم يجزني، ولم يرني بلغت» وصححها ابن خزيمة. أتى المؤلف بهذا الحديث؛ لأن الحجر يكون لحظ الإنسان المحجور عليه ولحظ غيره، ففي حديث معاذ كان الحجر لحظ الغير، وفي حديث ابن عمر الإشارة إلى الصغر، والصغير لا يعطي ماله كما قال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء: 5]. وقال: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] فاشترط الله تعالى لجواز دفع مال اليتيم إليه، اشترط شرطين: الأول البلوغ لقوله: {حتى إذا بلغوا النكاح} والثاني: الرشد لقوله: {فإن أنستم منهم رشداً} ومع ذلك لا تدفع إليهم هذا إلا بعد أن نبتليهم أي: نختبرهم، فيختبر قبل البلوغ بما يليق به، وينظر هل هو رشيد أو لا، فإذا كان رشيداً دفع إليه المال من حين أن يبلغ. فهنا نقول: الحديث يدلنا على سن البلوغ، وأنه خمس عشرة فنبدأ أولاً بشرحه: قال: «عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد» وأحد كانت في السنة الثالثة في شوال، وكان ابن عمر له أربع عشرة سنة، يعني: لم يبلغ خمس عشرة، قال: «وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة» وهذا فيه إشكال من حيث الظاهر؛ لأن عزوة الخندق كانت في السنة الخامسة وأحد كانت في السنة الثالثة، ومن له أربع عشرة في السنة الثالثة يكون له في السنة الخامسة ست عشرة، وهنا يقول: «وأنا ابن خمس عشرة» ففيه إشكال، حيث إن ظاهره التعارض، ولكن الجواب على ذلك من أحد وجهين:

إما أن يقال: إن ابن عمر ألغى الكسر، فيقول: وأنا ابن أربع عشرة سنة أي: قريبا من تمامها وأنا ابن خمس عشرة يعني: في أولها، فإذا كان في أحد في أول الرابع عشر وفي الخندق في آخر الخامس عشر فيلتقي أول الرابع عشر وآخر الخامس عشر يلتقيان في شهر واحد فيصح، هذا وجه. الوجه الثاني: أن يكون معنى قوله: «وأنا ابن خمس عشرة» أي: قد بلغتها، فلا ينافي أني كون زائداً عنها وعلى هذا فلا إشكال، وقوله: «عرضت عليه وأنا ابن أربع عشرة» يعني: عرضت عليه لأكون مقاتلاً، فلم يجزه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يجوز أن يمكن من مل يبلغ من القتال لعدة أوجه: منها: أن من لم يبلغ لا يتمكن من تحمل القتال، لأن حتى الآن لم يكن شيئاً بل يمكن من أول ما يهجم العدو يفر وفي هذا من الضرر ما فيه. ومنها: أنه ربما يكون لقمة سائغة للعدو فيأسره ويكون أسيراً عندهم وربما ارتد عن الإسلام؛ لأن صغير، والصغير يتكيف حسب ما يوجه إليه. ومنها أيضاً: أنه ليس فيه قوة على الهجوم لضعفه، وهذا ليس هو معنى الوجه الأول؛ لأن الوجه الأول يفر، وهذا لا يهجم، لأنه صغير، وإذا لم يستطع الهجوم، وصار حائلاً بين العدو وبين البالغين صار في هذا مفسدة، ولهذا نقول: إن ذهاب الصغر إلى القتال خطأ عظيم، المسألة ليست جمع رجال فقط بل المسألة جهاد، فإذا لم يكن أهلاً للجهاد فإن يجب منعه حتى وإن كان عاقلاً فاهماً، إذن يقول: «فلم يجزني» لأنه غير أهل للقتال، «وعرضت عليه يوم الخندق» وكانت في شوال سنة خمس وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني، يعني: رخص لي في الغزو. وهذا الحديث الذي في الصحيحين ليس فيه الإشارة إلى أن البلوغ يكو بخمس عشرة سنة، بل فيه دليل على أن الإنسان إذا بلغ خمس عشرة سنة صار أهلاً للقتال، وما دونها ليس بأهل، هذا ما يدل عليه الحديث، لكن رواية البيهقي تدل على أن سبب الرد أنه لم يبلغ، وسبب القبول أنه بلغ، وعلى هذا فتكون السن الخمس عشرة من علامات البلوغ. من فوائد الحديث: أنه يجب على أمير الجيش أن يفتقد الغزاة، وألا يأخذ كل من هب ودب، ولذلك يمنع الصبيان، ويمنع من لا يصلح للقتال، ويمنع الخذل، ويمنع المرجئ المخذل الذي يخذل الناس، والمرجئ الذي يقول: عدوكم كثير ليس لكم به طاقة، فيجب على ولي الأمر في الغزو أن يمنع مثل هؤلاء ويجب عليه أن يتفقد الغزاة قبل الشروع في الغزو. ومن فوائده: أنه يجب رد من لا يصلح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد عبد الله بن عمر رضي الله عنه في أحد مع أن الصحابة يحرصون على أن يجاهدوا، حتى جاء رجل أعرج يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في

الجهاد، فقال: «إن الله لم يجعل عليك حرجاً» قال: إني أحب أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم. من فوائد الحديث: أن البلوغ يحصل بتمام خمس عشرة سنة لقوله: «فلم يجزني ولم يرني بلغت» يعني: وفي الثانية أجازني لأنني بلغت. ومن فوائد الحديث: أن الخندق كانت في السنة الخامسة، لو قال قائل: إن الخندق في السنة الرابعة لكان أقرب، نقول: لا؛ لأن قريشاً واعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أحد بدراً في السنة الرابعة ولكنهم لم يحضروا، كما قال ابن القيم في زاد المعاد، في السنة الخامسة ألبوا عليه الأحزاب والقبائل وحضروا إلى المدينة. يؤخذ من هذا الحديث- وإن كان على بعد-: زوال الحجر بالبلوغ، ولكنه لا يؤخذ من مجرد الحديث، يؤخذ بانضمامه إلى الآية: {حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء: 6]. فإن بلوغ النكاح يعني: البلوغ، فيؤخذ منه: أنه تم له خمس عشرة سنة فقد بلغ، فينظر إلى الشرط الثاني وهو الرشد. ومن فوائد الحديث: الرد على من قال: إنه لا بلوغ بالسن، يؤخذ من قوله: «فلم يجزني ولم يرني بلغت» ولهذا اختلف العلماء: هي يحصل البلوغ بتمام خمس عشرة سنة أو بتمام ثماني عشرة سنة، فمذه أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا بلوغ قبل تمام الثماني عشرة والجمهور على خلافه، وقول الجمهور أصح لحديث ابن عمر هذا. وللأثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كان يعطي من تم له خمسة عشرة سنة بغرض له في العطاء فينزله منزلة البالغين. 832 - وعن عطية القرطبي رضي الله عنه قال: «عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي» رواه الخمسة وصححه ابن حبان والحاكم، وقال: على شرط الشيخين. عطية القرظي هذا من بني قريظة وهم طائفة من اليهود، واليهود- كما نعلم- كانوا ثلاث قبائل في المدينة حين قدم إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قدموا إلى المدينة من أذرعاء من الشام؛ لأنهم قرأوا في كتبهم أنه سيبعث نبي ويكون مهاجره المدينة، فلما قرأوا هذا قدموا إلى المدينة؛ لأنهم كانوا بالأول يستفتحون على الذين كفروا يقولون: سيبعث نبي وننتصر عليكم، فتجمعوا في

المدينة ثلاث قبائل وهم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم عاهدهم جرى بينه وبينهم عهد، ولكنهم نقضوا العهد وكان آخرهم بنو قريظة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينما رجع من الأحزاب وألقى عدة الحرب جاءه جبريل وأمره أن يخرج إلى غزو بني قريظة؛ لأنهم خانوا العهد حينما تمالئوا مع الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم وحاصرهم نحو خمس وعشرين ليلة، وطال الحصار، ثم طلبوا النزول على حكم سعد بن معاذ لأن سعد بن معاذ كان حليفاً لهم، فظنوا أنه سيفعل فيهم كما فعل عبد الله بن أبي ببني النضير؛ لأن عبد الله ابن أبي كان حليفاً لبني النضير وتوسط فيهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فظنوا أن سعد بن معاذ يفعل كفعله يكون شافعاً لهم؛ لأنه حليفهم، ولكنه رضي الله عنه كان قد أصيب في أكحله يوم الخندق، والأكحل عرق في الإبهام وينزف دم وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب رضي الله عنه؛ لأنه رجل فاضل هو سيد الأوس، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «لمناديل سعد في الجنة خير من هذا» في خرقة حرير، وقال: إنه لما مات اهتز له عرش الرحمن عز وجل في هذا يقول حسان بن ثابت: [الطويل]. (وما اهتز عرش الله من أجل هالك ... سمعنا به إلا سعد أبي عمرو) نزلوا على حكمه، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي به من المسجد، فجيء به على حمار، فلما أقبل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قوموا لسيدكم» يقوله للأوس، فقاموا إليه وأنزلوه من الحمار ونزل، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم: أن بني قريظة جعلوه حكماً، فقال: يا رسول الله، حكمي نافذ على هؤلاء يشير إلى اليهود؟ قال: «نعم» و «على هؤلاء» ولكنه رضي الله عنه خجل أن يتجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: حكمي عليكم؛ يعني: لم يلتفت إجلالاً للرسول صلى الله عليه وسلم، لا يحب أن يكون حكمه هو على الرسول صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة» ثم نفذ هذا الحكم؛ وكان رضي الله عنه حينما أصيب في أكحله يوم الخندق قال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة، فأقر عينه، وأي قرار عين من أن يكون هو الحكم فيهم، حكم فيهم هذا الحكم الموافق لحكم رب العالمين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتلوا، وكانوا نحو سبعمائة نفر، فقتلوا كلهم وسبيت نساؤهم

وذريتهم، ومن بين السبي صفية بنت حييي رضي الله عنهما زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وإحدى أمهات المؤمنين، لكن كيف يعرف المقاتل من غيره؟ كانوا يعرضونهم على الرسول صلى الله عليه وسلم المشتبه فيهم وإلا الواضح فواضح، فمن أنبت قتل ومن لم ينبت لم يقتل؛ لأن من أنبت صار من المقاتلة، ومن لم ينبت لم يقتل؛ لأنه صار من الذرية سبي، وهذا عطية رضي الله عنه كان من اليهود ومن الله عليه، فأسلم، كان ممن لم ينبت فخلي سبيله وأسلم. من فوائد هذا الحديث: أولاً: أن الله عز وجل قد يمن على من يشاء من عباده فيهدي الضال كما جرى لعطية القرظي، وهل أحد من اليهود أسلم غير عطية؟ نعم، أسلموا وحسن إسلامهم، ومنهم عبد الله بن سلام رضي الله عنه فإنه حبر من أحبارهم وسيد من أسيادهم. ومن فوائد الحديث: جواز الكشف عن العورة عند الحاجة إليه لقول: «عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل»، ومعلوم أنه لا يعرف أنه أنبت أو لم ينبت إلا بالكشف عن مؤتزره، ولكن يجب أن يكون ذلك بقدر الحاجة فإذا كان يمكن أن نعرف أنه أنبت أو لم ينبت بدون أن نكشف عن السوءة لم يجز أن نكشف عن السوءة؛ وإذا كان لا يمكن إلا بالكشف عن السوءة كشفنا عن السوءة، المهم أن العورة ينظر إليها بقدر الحاجة فقط. ومن فوائد الحديث/ جواز الحكم بقت المقاتلة كما فعل سعد بن معاذ وأقره النبي صلى الله عليه وسلم بل أقره الله. ومن فوائد الحديث: فضيلة سعد بن معاذ رضي الله عنه؛ حيث وافق حكمه حكم الله سبحانه وتعالى. ومن فوائد الحديث: أن من لم ينبت فهو من الذرية فيكون سبياً وغنيمة للمسلمين لقوله: «ومن لم ينبت خلي سبيله». ومن فوائد الحديث: أن من بلغ من الناس فإنه لا يكون في منزلة أبيه في الجنة، وإنما الذرية الذين يكونون مع آبائهم هم الذين لم يبلغوا؛ لأن قول سعد: «تسبي ذريتهم» ثم يكشف عن المؤتزر فمن أنبت قتل علم أن لفظ الذرية لا يكون إلا لمن لم يبلغ، ولأن من بلغ استقل بنفسه، فله منزلة؛ ولهذا قال الله تعالى: {والذين أمنوا وأتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} [الطور: 21]. فجعل الذي يلحق بأبيه المتبع الصغير الذي يكون إيمانه تبعاً لأبيه، ويدل لذلك أيضاً من حيث العقل أننا لو قلنا بأن المراد بالذرية ما يعم البالغين، لكان أهل الجنة كلهم في منزلة واحدة، وقال: أبناء الأبناء كذلك، وصار الناس كلهم في منزلة واحدة، فيقال: من بلغ لم يشمله حكم الذرية التابعة فيكون في منزلته التي يستحقها، ومن لم يكن بالغاً، فإنه في منزلة أبيه، وهذا هو السر، والله أعلم في التعبير بقوله: {وأتبعتهم ذريتهم بإيمان}

تصرف المرأة المالي

ومن فوائد هذا الحديث: ما أراده المؤلف رحمه الله في إيراده في هذا الباب وهو أن البلوغ يحصل بإنبات شعر العانة، لكن أهل العلم قالوا: بشرط ألا يكون الإنبات عن طريق العلاج، كيف ذلك، يعني: ألا يضع دواء في موضع العانة من أجل أن تخرج وهذا يمكن أن يكون، إنسان يريد ماله عند وليه وهو يتيم لم يبلغ ووليه ماطل وهو يريد أن يأخذ ماله، فقال: إذن ما الحيلة؟ أقول: إني بلغت ست عشرة سنة، فيقول: كذبت، أنت الآن في أربع عشرة سنة، ولو قال: بلغت باحتلام يمكن أن يكذبه الولي إذ قال: إنه بلغ بالإثبات وهو أمر حسي يشاهد، فذهب يستعمل دواء من أجل أن ينبت فهل يكون بالغاً؟ قال العلماء: لا، لأن هذا أنبت بعلاج ومحاولة فيكون إثباته في غير وقته الطبيعي فلا يحكم ببلوغه. تصرف المرأة المالي: 833 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجوز لامرأة عطية إلا بأذن زوجها». وفي لفظ «لا يجوز للمرأة أمر في مالها، إذا ملك زوجها عصمتها» رواه أحمد، وأصحاب السنن إلا الترمذي، وصححه الحاكم. يقول: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والجد المذكور عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يجوز لامرأة عطيته، يحتمل أن يراد بالجواز هنا النفوذ يعني: لا ينفذ، ويحتمل أن يكون المراد بالجواز: الحل ويكون معنى «لا يجوز» أي: لا يحل، فعلى الأولى يكون المعنى: أن المرأة وإن أعطت شيئاً من مالها فإنه لا ينفذ، وعلى الثاني: لا يحل لها العطاء، ولكن لا يلزم من هذا ألا ينفذ. قال: «لا يجوز لامرأة عطية» «امرأة» نكرة في سياق النفي و «عطية» نكرة في سياق النفي، والعطية هنا هي التبرع بالمال سواء كان في حال الصحة أو حال المرض، أما عن الفقهاء فالعطية هي التبرع بالمال في مرض الموت المخوف، أما في لسان الشارع فالعطية هي التبرع بالمال سواء في مرض الموت المخوف، أو في الصحة، أو في المرض غير المخوف، كل التبرع يسمى عطية، وقوله: «عطية» يشمل القليل والكثير؛ يعني: يشمل الثلث وما زاد وما نقص، وقوله: «إلا بإذن زوجها» أي: برضاه وموافقته، ويكون هذا الحكم من حين أن يملك عصمتها، أي: من حين العقد.

يقول: وفي لفظ: «لا يجوز للمرأة» أمر في مالها وهذه أعم مما سبق؛ لأن أمر واحد الأمور وهو نكرة في سياق النفي، فيعم العطية والبيع والرهن والاستعمال وكل شيء، في مالها إذا ملك زوجها عصمتها لا يجوز أمر، أي: لا ينفذ، ولا يحل إذا ملك زوجها عصمتها، وملك العصمة يكون بالعقد، لأنه إذا عقد على المرأة صار هو المسئول عنها وصارت عصمتها بيده منها أكثر مما يملك أبوها، والحديث معناه واضح، يعني: فلا تتبرع ولا تبيع ولا تؤجر ولا تتصدق، بل ظاهره ولا تزكي إلا بإذن الزوج، لأنه ملك عصمتها، وقوله هنا في حديث «عطية» في اللفظ الأول والثاني: «أمر» قد يقول قائل: إن بينهما تعارضاً؛ لأن العطية أخص من الأمر، إذ أن الأمر يعم والعطية تخص فهل تقيد العموم بالخصوص؟ لا، لأن حكم الخاص لا يخالف العام وقد مرت علينا هذه القاعدة وهو أنه إذا ذكر الخاص بحكم يوافق العام فإن ذلك لا يقتضي التخصيص، ويسمونه مفهوم اللقب، لأنه نص على بعض أفراد العام بحكم لا يخالف العام فلا يقتضي التخصيص. هذا الحديث يستفاد منه فوائد: أولاً: عظم حق الزواج على المرأة حتى إنها لا تتصرف إلا بإذن الزوج مع أن البنت إذا كانت رشيدة تتصرف بمالها وإن لم يأذن أبوها، وهذا يدل على عظم حق الزوج، ويدل لذلك أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو كنت آمراً أحد أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها». ومن فوائد الحديث: أنه لا يصح تصرف المرأة في مالها إلا بإذن الزوج سواء كان ذلك بعطية أو بغير عطية، وإذن الزوج قد يكون بصريح القول، وقد يكون بالإقرار، فبصريح القول مثل: أن يقول لها: «تصدقي إن شئتي» وبالإقرار مثل: أن يراها تتصدق ولا يمنعها أو تتصرف ولا يمنعها. ومن فوائد الحديث: أن للزوج أن يمنع زوجته من التصرف في مالها؛ لأنه إذا كان تصرفها بإذنه فهو بالخيار له أن يأذن وله ألا يأذن، ولكن ليس له أن يمنع من أداء الواجب في مالها كالزكاة، فإن منع فلها أن تعصيه لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ومن فوائد هذا الحديث: أن الممنوع منه إذا كان لحق العبد فإنه يزول المنع بإذن العبد بخلاف الممنوع لحق الله، فلا يزيل منعه إلا الله وهكذا جميع الحقوق- حقوق العباد- تسقط إذا وافقوا على إسقاطها.

هذا الحديث يفيد: منه المرأة من التصرف في مالها إلا بإذن الزوج، وقد اختلف العلماء- رحمهم الله- في الحكم الدال على هذا الحديث؛ فمنهم من قال: إن هذا الحديث محكم وأنه لا يجوز للمرأة أن تتصرف بشيء من مالها إلا بإذن الزوج، ومنهم من قال: هذا الحديث محكم لكن عمومه بالنسبة للمال مخصوص بالثلث فأقل، يعني: أن لها أن تتصرف بالثلث فأقل وليس لها أن تتصرف فيما زاد، وهذا مذهب مالك، وقال: إنه إذا جاز للمريض مرض الموت المخوف والموصي له أن يتصرف بالثلث مع تعلق حق الورثة بالمال فهذه من باب أولى، ومنهم من قال: إن كلمة «امرأة» نكرة، لكن يراد بها الخاص عام يراد به الخاص، والمراد بها: المرأة السفيهة التي لا تحسن التصرف، ووجه قوله هذا بأن المرأة السفيهة إذا تزوجت فإن ولاية أبيها عليها تنتقل إلى ولاية الزوج، لأن الزوج مقدم على الأب؛ لأنها صارت معه في بيتها وهذا القول له وجهة نظر قوية، ومن العلماء من يقول: هذا الحديث منسوخ بالأحاديث الكثيرة الدالة على تصرف النساء في أموالهن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من غير أن يستأذن أزواجهن فها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت لبريرة- وقد كوتبت بريرة على تسعة أواق من الفضة: «إن شاء أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت» بدون أن تستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث متفق عليه أقوى من هذا سنداً وهاهن النساء حين وعظهن الرسول صلى الله عليه وسلم في عيد الفطر، خطبهن ووعظهن وقال: «يما معشر النساء تصدقن» فجعلن يلقين في ثوب بلال من الخواتم- الحلي- بدون إذن الأزواج، والحديث أيضاً في الصحيحين وهو أقوى سنداً من هذا، وعلى هذا فيكون هذا الحديث منسوخاً بالأحاديث الكثيرة الدالة على تصرف المرأة في مالها بدون إذن الزوج فصار الناس في هذا الحديث على هذه الطرق: الأول: أنه محكم عام في المرأة والمال. الثاني: أنه محكم مخصوص بالمال وهو ما دون الثلث، أي: من الثلث فأقل؛ يعني: لا تتصرف فيما زاد على الثلث، أما الثلث فأقل فلها ذلك. والقول الثالث: أنه عام أريد به الخاص في المرأة السفيهة. والرابع: أنه منسوخ، الذين قالوا بالأول قالوا: هذا مقتضي الحديث، والأصل بقاء الحديث على عمومه في المال وصاحب المال، ولأن المال مقصود للزوج، قد لا يتزوج المرأة إلا من أجل مالها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لمالها وحسبها وجمالها ودينها» فإذا كان المال من مخصوصات العقد، فكما أن المرأة لا تفوت على زوجها منفعة بدنها فلا تفوت منفعة مالها؛ لأنه مقصود للزوج.

وقالوا أيضا: الزوج يتبسط بمال زوجته كما جرت العادة، ولو سمح لها بأن تتصرف كما شاءت لفقد هذا التبسط، من أين يتبسط لو تصدقت لا يبقى له شيء يتبسط به، قالوا: وأيضا إذا كان عندها مال هان عليه البذل في النفقة؛ لأنها إذا كان عندها مال لا تلح عليه في الإنفاق تقول: أعطني كذا، فإن تيسر وإلا أنفقت من مالها فلا تلح عليه، لكن إذا بذلت مالها وبقيت صفر اليدين لا يمكن أن تجعله يطمئن، كلما دخل البيت: أعطنة لكذا، وإذا جلس يتغذى: أعطني لكذا، يتعشى: أعطني لكذا، عند المنام: أعطني لكذا، لماذا؟ لأنها معدمة، لكن إذا كان عندها مال فإنها تنفق إن تيسر أعطاها وإلا أخذت من مالها فلهذا كان لها الحق في السيطرة على مالها، وألا تتصرف إلا بإذنه، لو قال قائل: ألا يمكن حمل الحديث على وجه خامس، بأن نقول: المراد بالمال المال الخاص، أي: المال الذي تتعلق به رغبة الزوج كالحلي والثياب الجميلة وما أشبهها بخلاف المال الذي لا تتعلق به رغبة الزوج وليس للزوج فيه مدخل فيكون المال عاماً أريد به الخاص، لأن هذا تتعلق به رغبة الزوج إذا أصبح الزوج بل إذا أمسى الزوج وإذا الحلي الذي كانت في يد امرأته مملوءة به لا يوجد منه شيء لا شك أن هذا سيقلل الرغبة بالنسبة للزوج ويفوت به شيء من المتعة، حتى لو كان عندها مال تصرفت في الحلي قد يقول اشترى بدله، وتقول: إن شاء الله، ويأتي يوم، ثم أسبوع، ثم شهر، ثم سنة، وهي تقول: أشتري ولكن لا تشتري، أقول: إن كان أحد قال بهذا الوجه فهو جيد، فصار أحسن ما يقال في هذه الأقوال، هذا أن يحمل الحديث على المرأة السفيهة ويكون المراد بالمرأة المراد بهذا العموم المخصوص أو يحمل المال على المال الذي تتعلق به متعة الزوج وهو الحلي وما تتجمل به لزوجها ويكون المراد بمال أيضا عاماً أريد به الخاص ولا عجب أن يوجد عام يراد به الخاص، لأن هذا كثير في القرآن والسنة: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فأخشوهم} [آل عمران: 173] ومن الناس؟ نعيم بن مسعود الأشجعي واحد، إن الناس من؟ أبو سفيان أو أشراف قريش، لكن ليسوا كل الناس قد جمعوا لهم، إذن عام أريد به الخاص، فلا غزو أن يوجد عام يراد به الخاص، فأوجه ما أرى في هذا الحديث أحد هذين الأمرين: إما أن يكون المراد بالمرأة: المرأة السفيهة ويعني هذا: أن ولاية أبيها تنتقل إلى الزوج، أو أن المراد بالمال: ما تتعلق به رغبة الزوج، وليتم به متاعه، ويكون هذا في الحلي وشبهه؛ لأن ذلك يفوت على الزوج شيئاً من المتعة وحينئذ يبقى الحديث ليس فيه إشكال.

834 - وعن قبيضة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: «إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة؛ فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتي يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة» رواه مسلم. هذا الحديث في حل المسألة، وجعله المؤلف في باب التفليس والحجر؛ لأن المناسبة فيه ظاهرة، فإن الإنسان إذا أصيب بجائحة صار مفلساً وحينئذ يكون هذا الحديث له ارتباط وثيق في باب الحجر. يقول صلى الله عليه وسلم: «إن المسألة لا تحل ... إلخ» «المسألة» يعني: سؤال الناس العطاء، لا تحل «إلا لأحد ثلاثة» ثم بينهم، وقوله: «إلا لأحد ثلاثة» هذا مجمل بينه فيما بعد، والإجمال أولاً ثم التبيين ثانياً من أساليب اللغة العربية، وهو من مقتضى البلاغة، وذلك أن الشيء إذا جاء مجملاً فإن النفس تتطلع إلى بيان هذا المجمل، فإذا جاء التفصيل ورد على نفس متشوفة لتفصيل هذا المجمل، ومعلوم أن الشيء إذا ورد على نفس متشوقة صار أسرع في فهمه، وأرسخ في بقائه، فلهذا كان من أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجمل أولاً ثم يفصل ثانياً. وقوله في الحديث: «رجل تحمل» «رجل» بالجر على أنه بدل بعض من كل، والبدل- كما تعرفون- أقسامه خمسة، وبعضهم يجعله ستة، لكن من أقسامه: البعض من الكل، ف «أحد ثلاثة» هذه كل «رجل» هذا بعض من هذا الكل، «رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك» «تحمل» يعني: التزم في أمر عام ومصلحة عامة حمالة، فهذا له أن يسال حتى يصيبها ثم يمسك ولو كان غنياً. والثاني قال: «ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش» «أصابته جائحة» ما يجتاح الشيء، أي: يتلفه مثل الحريق أو غرق أو هدم، اجتاحت ماله كرجل صاحب غنم أتاه الوادي فاجتاح الغنم وتلفت عليه، فهذا رجل أصابته جائحة، «تحل له المسألة حتى يصيب قواماً» أي: ما يقوم به وهو ما تنحل به الضرورة فقط، ثم بعد ذلك يمسك. الثالث: «رجل أصابته فاقة» شدة الفقر، «حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة» فهذا تحل له المسألة.

هؤلاء الثلاثة هم الذين تحل لهم المسألة ومن عداهم لا تحل له المسألة، هذا الحديث يبين خطر المسألة وأنها لا تحل إلا في حال الضرورة، وذلك لأن المسألة ذل للسائل وإحراج للمسئول ففيها مفسدتان مفسدة للسائل، يقول: أعطني، ومفسدة للمسئول فيه إحراج، قد يكون المسئول ليس عنده شيء، وقد يكون غير متقاد لإعطاء هذا السائل وقد يكون هناك أسباب كثيرة لا يمكن أن يعطي وإذا سئل فأكثر الناس يخجل أن يمنع إذا سئل فلهذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم المسألة إلا في حال الضرورة، وذلك كما قلت أنها ذل للسائل وإحراج للمسئول لكن في حال الضرورة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ثلاثة أمثلة: الأول: «رجل تحمل حمالة» أي: تحمل حمالة لمصلحة عامة فهذا يسأل وإن كان غنياً، لماذا؟ لأنه قام بمهمة ومصلحة عامة فيشجع على ذلك ويعطي ما غرم، وهذا ما يعرف عند أهل العلم في باب الزكاة بالغارم لغيره، فهذا يعطي من أجل ما قام به من المصلحة، ومن أجل تشجيعه وغيره على القيام بمثل هذا الأمر، وهذا ليس في الحقيقة ضرورة، لأن الرجل غني لكن من أجل مراعاة المصلحة العامة حتى لا يسند باب التحمل والإحسان إلى الناس. الثاني: الرجل الذي أصابته جائحة اجتاحت ماله فهذا تحل له المسألة، لأنه أصابه ذل بعد عز وانكسار بعد جور ولو لم تحل له المسألة لحصل له نكسة نفسية؛ لأنه كان بالاول على جانب كبير من العز من المال الذي يعتز به ثم بعد يصاب بهذه الجائحة، فمن أجل جبره رخص له الشارع أن يسأله وإلا لكان الأصل ألا يسأل الثالث: رجل أصابته فاقة وإن لم يكن باجتياح ماله قد تكون جائحة لكن خسارة من وراء خسارة حتى ينفد المال، هذا تحل له المسألة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترط لإعطائه شرطاً وهو أن يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه، الحجى يعني: العقل والتمييز والخبرة لقد أصابت فلاناً فاقة فهذا يعطي. ففي هذا الحديث عدة فوائد: أولاً: تحريم مسألة الغير لقوله: «لا تحل المسألة» وإذا انتفى الحل ثبت التحريم لأنه ضده. ومن فوائد هذا الحديث: حماية الشارع لعزة الإنسان وشرفه؛ وذلك لأن السؤال- كما قلت- ذل، فحرم عليه أن يسأل ليبقى عزيز النفس قد حفظ ماء وجهه ولم يحتج لأحد من الناس. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل ولا غير المال؛ لأن المعنى الحاصل بسؤال المال حاصل في غيره، وإن كان لا يساوي الذل الحاصل بسؤال المال، ومن ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الإنسان إذا سأل غيره أن يدعو له فهو من المسألة المذمومة إلا إذا قصد بذلك مصلحة الغير، كيف ذلك؟ يعني: يقصد بذلك أن هذا الغير إذا دعا لك بظهر

الغيب انتفع هو؛ لأن الملك يقول: آمين ولك بمثله، وهذا مصلحة له، فإذا قصد بذلك مصلحة غيره من هذه الناحية فإنه لا يدخل في المسألة المذمومة؛ لأنك لا تريد مصلحتك الخاصة، إنما تريد مصلحتك مع مصلحة هذا الرجل، كذلك أيضا يلاحظ مصلحة الغير بحصول الأجر له؛ لأنه إذا دعا لك فقد أحسن إليك، وإذا أحسن إليك ناله من الأجر بقدر إحسانه، فيكون هذا أيضا ملحوظاً يفيد ذم المسألة، أما إذا قصد مصلحته الخاصة كما هو المتبادر لكل إنسان طلب من غيره أن يدعو له فهذا يقول فيه شيخ الإسلام أنه من المسألة المذمومة. ولكن قد يقول قائل: أليس قد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات أن يدعو للغير؟ فنقول: بلى فقد سألته المرأة التي كانت تصرع أن يدعو الله لها فقال: «إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله لك» قال: أصبر ولكن ادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها، أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وكذلك الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال: هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، ولما حدث أن من أمته سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، والأمثلة في هذا كثيرة، فهل نقول: إن مثل هذه الأدلة ترد على شيخ الإسلام ابن تيمية، أو نقول: إن هناك فرقاً بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين غيره؟ الظاهر الثاني. وأما مسألة طلب الدعاء للمصلحة العامة فهذا لا يدخل في كلام شيخ الإسلام؛ لأن الإنسان لم يسأل لنفسه؛ فلو جاء رجل إلى الخطيب يوم الجمعة وقال: «ادع الله أن يغيث المسلمين» فهذا ليس من السؤال المذموم؛ لأنه ليس خاصاً، بل هو لمصلحة الغير كما لو قلت لشخص: تصدق على فلان فإنه فقير فإنه لا يدخل في المسألة المذمومة. ومن فوائد الحديث: جواز السؤال لمن تحمل حمالة لكن بشرط أن يكون بقدر ما تحمل لقوله صلى الله عليه وسلم «تحمل حمالة حتى يصيبها ثم يمسك». ومن فوائد الحديث: أن من أخذ لسبب يقتضي الأخذ فإنه يقتصر على ذلك السبب فقط، وجهه أنه قال: «حتى يصيبها ثم يمسك» وبناء على ذلك لو أن رجلاً مديناً أخذ الزكاة لقضاء دينه فإنه لا يصرفها في غير قضاء الدين؛ لأنه أخذها لهذا الغرض، وقد مر علينا هذا وأخذناه من قوله تعالى: {والغارمين} عطفاً على قوله: {وفي الرقاب} وأن صرف الزكاة للغارم صرف إلى جهة لا يملكها الغارم، فإذا أعطي للغرم فإنه لا يصرفه في غيره؛ لأنه أعطي لجهة معينة.

ومن فوائد الحديث: أن للضرورات أحكاماً تخالف حال الاختيار؛ وذلك لأن المسألة حرام إلا في هذه الأحوال التي هي ضرورة. ومن فوائد الحديث: تشوف الشارع إلى المصالح العامة والإصلاح بين الناس وذلك بإباحة المسألة لمن تحمل حمالة لهذا الغرض، مع أن الأصل في المسألة التحريم. ومن فوائد الحديث: أن من اجتاحت ماله جائحة فإنه لا يحل له أن يأخذ بقدر الجائحة بل يأخذ ما يقوم به العيش فقط، فلو فرض أن ماله الذي أصابته الجائحة يساوي مائة ألف وهو يكفيه لقوام العيش مائة ريال فقط فإنه لا يأخذ أكثر من مائة ريال، لأن المقصود بهذه المسألة هو رفع الضرورة عنه لا أن يرد عليه ما أصيب به من الجوائح. ومن فوائد الحديث: أن الجائحة التي تصيب الثمار تكون على المستوى ولا يتحملها البائع لعموم قوله: «اجتاحت ماله فحلت له المسألة» وبذلك أخذ بعض أهل العلم وقال: إن حديث وضع الجوائح الذي مر علينا منسوخ بهذا الحديث، ولكن الصحيح خلاف ذلك، لأن الحديث عام وذلك خاص، [وصورة المسألة]: إذا اشترى شخص تمراً من إنسان على رؤوس النخل وأصيب هذا الثمر بجائحة، فقد مر علينا أن الجائحة تكون على البائع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق» وهذا الحديث لو أخذنا به لكان يقتضي أن تكون الجائحة على المشتري؛ لأن الثمر ماله بعد الشراء، ولكن يقال: هذا عام، وحديث وضع الجوائح خاص، والمعروف عند أهل العلم أن الخاص يقتضي على العام. ومن فوائد الحديث: أن من أصيب بفقر بعد غنى فإنه لا يحل له الأخذ أو لا يعطي من الزكاة إلا إذا شهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه بأنه فلاناً أصابته فاقة. ومن فوائد الحديث: اعتبار العقل والخبرة في الشاهد لقوله: «من ذوي الحجى من قومه» فقوله: «ذوي الحجى» هذا العقل و «من قومه» هذه الخبرة؛ لأن قومه أخبر به من غيره، فلابد من اعتبار هذين الأمرين في الشهادة: العقل؛ وأن تكون الإنسان ذا خبرة بما شهد به. ومن فوائد الحديث: أنه كلما كان الشيء أشد امتناعاً كان ثبوته أكثر، يعني: كان طلب ثبوته أكثر وأشد تحرياً، فهذه المسألة لابد فيها من شهود ثلاثة، يعني: لا يصلح أن يأتي رجلان ويقولان: نحن نشهد بأن هذا الرجل كان غنياً ثم افتقر لا يكفي بل لابد من ثلاثة لماذا؟ لأن هذا الذي ادعى الفقر بعد الغنى تعلق بدعواه حق الغير لأنه إذا أخذ من الزكاة فسوف يزاحم غيره، فتكون الشهادة الآن على استحقاقه، وعلى مزاحمة غيره على استحقاقه بكونه افتقر، وعلى مزاحمة غيره؛ لأنه إذا أعطي من الزكاة حجز ما أعطيه عن غيره، ولذلك كانت البينة فيه

مركزة من ثلاثة شروط، والشهادة بالمال يكفي فيها رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي، لكن هنا لما كانت الشهادة هذه تضمن ثبوت استحقاقه ومزاحمة غيره جعل الشرع لها ثلاثة شهود، وتكميلاً لهذا البحث نقول: إن البينات في الشرع قد تكون أربعة رجال، وقد تكون ثلاثة، وقد تكون رجلين وقد تكون رجلين، أو رجلاً وامرأتين، أو رجلاً ويمين المدعي، وقد تكون رجلاً واحداً، وقد تكون امرأة واحدة، هذه ستة أنواع، أربعة رجال هذا في الزنا واللواط لا يقبل فيه إلا شهادة أربعة رجال؛ لقول الله تعالى: {لولا جاء وعليه بأربعة شهداء} [النور: 13] ولقوله: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور: 4] ثلاثة رجال هذه المسألة إذا ادعى الفاقة بعد الغنى فلابد من ثلاثة رجال، لقوله «حتى يشهد ثلاثة»، «ثلاثة» عدد مؤنث، والعدد المؤنث يكون فيه المعدود مذكراً، رجلان في الحدود والقصاص لابد من رجلين، فلو شهد على شخص أنه سرق رجل وامرأتان لم تقبل الشهادة، لو أربع نساء لم تقبل الشهادة لماذا؟ لأنه لابد من رجلين فجميع الحدود ما عدا الزنا- لأنه لابد فيه من أربعة: رجال- لابد فيها من رجلين، والرابعة رجلان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعي، وهذه في المال وما يقصد به المال، قال الله تعالى {واستشهد شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة: 282] وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضي بالشاهد مع اليمين فالمال وما يقصد به المال ببناته ثلاثة، رجل وامرأتان، رجل ويمين المدعي، الخامس رجل واحد وذلك عند الضرورة تقبل شهادة رجل واحد إذا حصلت قضية ليس في المكان إلا رجل واحد فهذه تقبل، وكذلك السادس امرأة واحدة، وذلك فيما لا يطلع عليه إلا النساء في الغالب كالرضاع واستهلال الجنين إذا سقط من بطن أمه حياً وما أشبه ذلك، وإذا قبلت المرأة فالرجل من باب أولى. هذه أقسام البينات، أما القرائن فهي كثيرة لا حصر لها. ومن فوائد الحديث: أن من أبيح له أخذ شيء أبيح له سؤاله، فالرجل الذي تحمل حمالة يعني: أصلح بين جماعة وتحمل مالاً للإصلاح بينهم، هذا يباح له أن يأخذ بدل هذه الحمالة التي تحملها ويجوز له أن يسأله ويجوز أن يأخذ إذا أعطي وأن يسأل إذا لم يعط.

7 - باب الصلح

7 - باب الصلح الصلح: هو قطع الخصومة، والنزاع بين المتخاصمين والمتنازعين، ويكون في مواضع كثيرة، منها: الإصلاح بين الزوجين، كمال قال تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا} [النساء: 128] ولقوله تعالى: {وإذا خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها أن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء: 35]. ويكون كذلك بين الطوائف التي بينها عداوة، كما يحصل من العداوة بين القبائل، فيصلح بينهما، ومن ذلك قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9] ويكون أيضا من المسلمين والكفار في الحال التي لا يستطيع المسلمين أن يقاتلوا الكفار، فإنه يجرى الصلح بينهم كما جرى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش في صلح الحديبية، ولكن هل يصح الصلح إلى الأبد يعني: غير مؤجل أو لا يصح إلا مؤجلاً لاحتمال قوة المسلمين؟ الذي يظهر أنه لا يجوز الصلح إلا مؤجلاً؛ لأن المسلمين قد تتغير حالهم ويكون عندهم قدرة على قتال الكفار، ولأن الصلح غير المؤجل يستلزم سقوط جهاد الكفار؛ لأنه لا يمكن إذا صالح المسلمون أحدا من الكفار، إلا إذا نقص الكفار العهد، ولهذا قال الله عز وجل {إلا الذين عاهدتهم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظهروا عليكم أحد فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين} [التوبة: 4] وقال فيما إذا خفنا منهم خيانة: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال: 58]. يعني: لا تغدرهم إذا خفت بيننا وبينكم، أما إذا نقضوا العهد فإنهم يقاتلون كما قال الله تعالى: {أل تقتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة} [التوبة: 13] فالصلح بين الكفار والمسلمين حائز عند الحاجة إليه ثم مقام المسلمين مع هذا العدو المصالح على ثلاث درجات الأولى: إذا لم يكن من هؤلاء نقض للعهد، فالواجب إتمام العهد. الثاني: إذا خيف نقض العهد ولم ينقض العهد، فالواجب نبذ العهد، يعني: أن نخبرهم أنه لا عهد بيننا وبينكم، لا نباغتهم وننقض العهد، بل نخبرهم. الثالث: إذا نقضوا العهد فإنه يسقط عهدهم وحينئذ نقاتلهم، وكل هذا موجود في كتاب الله عز وجل. يكون الصلح أيضا بين المتخاصمين في المال، وهذا يقع كثيراً في المعاملات كالبيع والإجارة والرهن وغيره ذلك، وكل هذه الأمور الأصل فيها الجواز، ولكن قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة وإلا فلا أحد يمنع من الصلح بين المتخاصمين والمتنازعين أبداً، فالأصل الجواز.

835 - عن عمرو بن *** المزني رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحة *** حلالا أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراماً». قوله: «جائز» يعني بذلك: الجواز التكليفي والجواز الوضعي كيف ذلك. الجواز التكليفي ضد المحرم، فمعنى جائز أي: ليس بحرام، الجواز الوضعي بمعنى: النافذ ليس بفاسد، فضد الجائز من هذا الوجه ضده الفاسد الذي لا ينفذ، إذن الصلح جائز من حيث التكليف الشرعي، وجائز من حيث الوضع، يعني: أنه نافذ ولا يجوز إبطاله بل يجب إتمامه. وقوله: «بين المسلمين» هذا لا مفهوم له؛ لأنه قيد أغلبي، فإن الصلح بين المسلمين والكافرين جائز بالسنة الفعلية كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشا في الحديبية. قال: «إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراماً» فالصلح الذي حرم الحلال ويحلل الحرام هذا ليس بجائز؛ وذلك لأنه مضاد لله عز وجل في حكمة، تصالح شخصا على شيء محمر هذا لا يجوز، تصالحه على شيء تحرمه عليه عليه وهو حلال له بالشرع- هذا لا يجوز 0 مثال الأول: رجل حصل بينه وبين زوجته نزاع فاصطلحا على أن يطلق زوجته الأخرى، هذا الصلح لا يجوز، لماذا؟ لأنه أحل حراماً، ما هو الحرام؟ الاعتداء على حق الزوجة الأخرى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها» فهذا صلح محرم غير نافذ. صار بين شخص وآخر خصومة ونزاع فصالحه على أن يبيح له فرج أمته لمدة أسبوع هذا حكمه حرام، لماذا؟ لأنه أحل حراما إذ لا تجوز استباحة الفرج إلا بنكاح أو ملك، وهذا ليس نكاحاً ولا ملكاً، مثال تحريم الحلال: صالحه على ألا يأكل الخبز لمدة ثلاثة أيام هذا ينظر إذا كان فيه مصلحة فإن جميع المصالحات لابد فيها أن يحرم الإنسان من الحلال الذي أحله الله له، لأن الصلح لابد فيه من أن يتنازل الإنسان عن شيء من حقه، وهذا التنازل يقتضي تحريم الحلال باعتبار الصلح. شخص آخر قال لشخص بينهما معاملة قال: أنا لا أقر لك إلا إذا أسقطت عني نصف الدين هذا حرام، لماذا؟ لأنه يحرم الحلال، والحلال هو أن صاحب الدين له

المطالبة بجميع حقه، فإذا صالحته على أن يسقط عنك نصف الدين فقد حرمت عليه الحلال، ما هو الحلال؟ بقية دينه، وهذا لا يجوز، فإن أقر له، وتوسط أناس بينهما على أن يسقط عنه بعض الدين بعد الإقرار يجوز؛ لأن هذا ليس بصلح إذ إن الحق قد ثبت الآن، ولكن هذا من باب الشفاعة على إسقاط بعض الحق وهذا جائز «اشفعوا تؤجروا». هناك فرق بين أن أقول: لا أصالحك إلا بكذا وبين شخص تم الإقرار وثبت له الحق ثم شفع إليه شخص آخر على أن يسقط منه، فهذا لا بأس به وهو جائز، ولا يعد هذا من باب الصلح الذي أحل حراما أو حرم حلالاً بل هو من باب الشفاعة التي أسقط بها الإنسان بعض حقه. رجل عنده دين لشخص يحل بعد سنة فاصطلحا على أن يعجل الدين، ويسقط بعضه، وأقر له، قال: نعم، عندي لك ألف ريال لكن لو تحب أن أعطيك ثمانمائة الآن نقداً وتسمح عن المائتين، قال: ليس عندي مانع، هذا جائز على القول الراجح، لأنه ليس فيه ربا، هذا فيه مصلحة للطرفين ليس فيه ربا لأن صاحب الحق لم يأخذ أكثر من حقه بل أخذ أقل من حقه واستفاد المطلوب بسقوط بعض ما عليه واستفاد الطالب بالتعجيل ففيه مصلحة والربا على العكس من ذلك، الربا فيه ظلم لأحد الطرفين وذهب بعض العلماء بأن هذا لا يجوز، قال: لأن هذا شراء مؤجل بمعجل وأنت لو اشتريت ألف ريال بثمانمائة نقداً لكان هذا ربا لا يجوز، قال: هذا مثله، وأنك أخذت الآن ثمانمائة عن ألف، لكن هذا القول قول ضعيف، لأن هذا ليس من باب المعاوضة، هذا من باب الإسقاط، صحيح أنك لو جئت إلى رجل ثالث وقلت: أنا طلب من فلان ألف ريال الألف ريال التي في ذمته بثمانمائة أعطني ثمانمائة وأنا أحيلك عليه هذا لا يجوز، أما رجل أبرأته من بعض دينه فليس في هذا ربا ولا بيع وشراء أيضا بل هذا يسمى إسقاطا وإبراء. والحاصل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطانا قاعدة أصلها لنا: «الصلح جائز إلا صلحاً أحل حراماً او حرم حلالا» وهذا يشمل كل شيء، هل يشمل المصالحة على الدية فيمن يثبت عليه القصاص؟ يعني: رجل قتل رجلا عمداً عدوانا محضا، فطالب أولياء المقتول بالقصاص، فثبت القصاص: فصالح المحكوم عليه أولياء المقتول على أن يسقطوا عنه القصاص بمال جائز، ولكن هل يجوز المصالحة بأكثر من الدية، يعني: الدية عندنا الآن مائة ألف قال أولياء.

المقتول: لا نسقط القصاص عنك إلا إذا أعطيتنا مليونا هل يجوز؟ هذا فيه خلاف، فمن العلماء من يقول: لا يجوز أن يصالح بأكثر من الدية لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل له قتيل فهو يخبر النظرين إما أن يقتل وإما أن يودي» ولم يذكر شيئاً ثالثا ومن العلماء من قال: إنه يجوز؛ لأن هذا هو الذي ورد عن الصحابة، ولأن هذا حق لأولياء المقتول فلهم ألا يسقطوه إلا بعوض يريدونه. على كل حال: إذا قلنا بالمصالحة بمقدار الدية فالأمر فيه ظاهر، وإذا قلنا بالمصالحة فهل يدخل تحت الحديث: «الصلح جائز بين المسلمين» أو نقول: يدخل تحت الحديث في قوله: «إلا صلحاً أحل حراماً» لأن هذا الصلح أحل حراما ًوهو الأخذ من مال القاتل أكثر من الدية؟ الظاهر الأول أنه داخل في الصلح، لأن أخذنا من مال القاتل هنا باختياره وليس مكرهاً على ذلك، ولأنه هو الذي تسبب في استباحة دمه، فإذا كان هو الذي تسبب في استباحة دنه فإننه هو السبب الأول والأخير. ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراماً» يعني: أنهم إذا اشترطوا فإن هذه الشروط لازمة، ودليل هذا من القرآن قوله تعالى: {يا أيها الذين امنوا أوفوا بالعقود} فإن الوفاء بالعقد يتضمن الوفاء بأصله ووصفه، والشروط من أوصاف العقود، ولقوله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} والذي اشترط على نفسه شرطاً قد تعهد به فيكون داخلا في ذلك، إذن المسلمون على شروطهم، متى يثبت الشروط بين المتعاقدين وجب الوفاء بها إلا أن يسقطها من هي له فإن أسقطها من هي له فهي حقه، يعني: لو قال الذي شرط له هذا الشرط: أنا أسقطته فله ذلك مثاله باع شخص على آخر بيتا واشترط البائع سكني البيت لمدة سنة فوافق المشتري على هذا، هل يلزمه الوفاء به؟ يلزم يعني: معناه انه لا يجوز للمشتري أن يمنع البائع من سكناه هذه المدة فإن قال البائع: أنا أسقطت شرطي ولا أريد السكني لأن الله يسر لي بيتي هل له ذلك؟ له ذلك، لأنه أسقط حق نفسه، ولا مانع من أن يسقط الإنسان حق نفسه لأنه له، قال: «إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» «حرم حلالاً» بأنه إذا فعل ذلك صار مضاداً لحكم الله عز وجل «أو أحل حراماً» فهو مضادة لحكم الله، مثال الأول «أحل حراما» إذا قال: بعتك مائة ريال بمائة ريال إلى أجل هذا بيع مشترط فيه الأجل هل يصح اشتراط هذا الأجل؟ لا، لماذا؟ لأنه ربا أحل حراماً إذ إن بيع الفضة بالفضة لابد فيه من التقابض ببذل العقد، قال: بعتك مائة درهم بتسعين درهماً نقداً يعني: بشرط ألا تسعين درهماً هذا لا يجوز؛ لأنه أحل حراماً؛ إذ ن بيع الفضة بالفضة لابد فيه من التقابض ببذل العقد، قال: بعتك مائة ردهم بتسعين درهما نقداً يعني: بشرط ألا أعطيك إلا تسعين درهماً هذا لا يجوز، لأنه أحل حراما، بعتك هذه الناقة بشرط أن يتبعني ما في بطن ناقتك لا يجوز؛ لأن الشرط مجهول، بعتك هذا الست بشرط أن ترهنني ولدك لا يجوز، لأن رهن الولد حرام.

الثاني: قال: «أو حرم حلالاً» يعني: باعه شيئاً وقال له: أبيعك هذا الشيء بشرط أن تمتنع من شيء أحله الله، فهذا أيضاً لا يجوز، ولكن كما قلت لكم قبل قليل: إن كل الشروط لابد فيها من إسقاط مباح حتى المصالحة فلابد أن يكون هناك شرط يحرم الحلال الذي أحله الله. على كل حال: شرط الولاء للبائع هذا لا يجوز؛ لأنه بالنسبة للبائع أحل له حراماً، لماذا؟ لأن الولاء ليس له فأحل له الحرام، بالنسبة للمشتري حرم عليه الحلال؛ لأن الولاء من حقوقه، فإذا اشترط عليه للبائع ففيه تحريم الحلال. - رواه الترمذي وصححه، وأنكروا عليه، لأن راوية كثير من عبد الله بن عمرو بن عوف ضعيف، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه. - وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال: «رواه الترمذي وصححه» أي قال: إنه صحيح، والصحيح حجة، لأنه لا يكون صحيحاً إلا باجتماع خمسة شروط وهي: أن يكون الراوي عدلاً تام الضبط، ويكون السند متصلاً وأن يكون غير معلل ولا شاذ، هذا هو الصحيح، فالترمذي رحمه الله صحح الحديث، لكن أنكروا عليه وهم أئمة المحدثين وقالوا: كيف يصح ورواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وهو ضعيف، ونحن نقول: من شروط الصحيح أن يكون الراوي عدلا تام الضبط، فإذا كان الراوي ضعيفا فإننا نحكم بضعفه، ولا نقول صحيحاً، وبناء على ذلك هل لك إذا رأيت الحديث بسند ضعيف تعرف أن أحد رواته ضعيف هل لك أن تقول: ضعيف؟ لا، لأنه ربما يروى بسند آخر لهذا الحديث: وإما أن تقيد، فتقول: هو ضعيف من هذا الوجه؛ لأنك إذا قلت: ضعيف من هذا الوجه خرجت من عهدته، لكن إذا قلت: ضعيف وحكمت عليه بالضعف الموجب رده وهو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه مسألة ليست هينة، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يحكم على ضعف الحديث بمجرد أن يجده بسند ضعيف إلا إذا تتبع الطرف ولم يجده مروياً إلا من هذا الوجه فحينئذ يحكم بضعفه، وإلا فيجب عليه أن يقيد ويقول: هو ضعيف من هذا الوجه حتى يخرج من عهدته، وكما قرأنا في علم المصطلح أن الرجل قد يكون ضعيفاً باعتبار شيخ من المشاريخ، يعني: أن روايته عن هذا الشيخ ضعيفة وروايته عن المشايخ الآخرين صحيحة، عاصم بن أبي النجود أحد القراء الذين تلقي القرآن منهم ومع ذلك هو في الحديث ضعيف؛ لأن الرجل جعل همته كلها في القرآن والبحث عن طرق القراءات فاشتغل بتحقيق القرآن عن الأحاديث فلهذا صار من حيث السند في الأحاديث ضعيف لكن في القرآن حجة تلقته الأمة كلها بالقبول.

على كل حال: أنا أقول: حتى ولو كان الراوي ضعيفا فاعلم أنه قد يكون ضعيفاً بالنسبة لشخص، قويا بالنسبة لشخص آخر، فإذا روى هذا الرجل الحديث عن فلان قلنا: ضعيف وإذا روى عن فلان آخر قلنا: ضعيف، ولهذا تجدون في بعض الأحيان في تراجم الرواة: «فلان ضعيف في شيخه الفلاني» يعني: إذا روى عن هذا الشيخ صار ضعيفاً، فلان ضعيف في الشاميين، فلان ضعيف في المكيين، ولهذا علم الحديث من أشد العلوم حاجة إلى المواصلة والتعهد؛ لأنه دقيق، علم الفقه وغيره من المعلوم يستطيع الإنسان أن يحيط به بسهولة، لكن هذا لا يقدر، لأنه مشكل إن اعتمد على صحيح رواية هذا الرجل من طريق واحد وهو ضعيف في الطريق الآخر صار الجاهل كلما وجد هذا الرجل قال: إن الحديث صحيح؛ لأنه لا يعرف أنه يكون صحيحاً من وجه، وإن روى من وجه آخر فهو ضعيف، فعلم المصطلح علم مهم يحتاج إلى عناية. الترمذي رحمه الله صحح الحديث لكنهم أنكروا عليه لهذا السبب، قال: وكأنه أعتبر هذا اعتذار عن الترمذي من ابن حجر، كأنه- يعني: الترمذي- اعتبر الحديث بكثرة طرقه، واستفدنا من هذا فائدة: أن الضعيف بكثرة الطرق يصحح، لكن هذا أيضاً فيه نظر، لأن الضعيف بكثرة الطرق يصل إلى درجة قبل الصحة وهي الحسن، لكن الترمذي أحياناً يريد بالصحيح الحسن، وهذا اصطلاح خاص بالترمذي، فيكون معنى تصحيحه إياه أنه حجة لا أنه معناه أنه بلغ الرتبة العليا لكن صحيح على أنه حجة مقبولة، ومعلوم أن الحديث الحسن عند العلماء حجة مقبولة، يعمل به، هذه نكت جيدة في علم المصطلح. «وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه» يعني: إذن من طريق آخر، وحينئذ يكون هذا الحديث الذي صححه ابن حبان عن أبي هريرة شاهداً، لأنه جاء من حديث صحابي آخر، لكن لو جاء من حديث شيخ آخر والصحابي واحد يسمى متابعا. نرجع لشرح الحديث، الصلح أنواع: صلح في الحقوق، وصلح في الأموال، وصلح في الحروب، وصلح في السلم، وذكرنا من صلح الحروب/ صلح الحديبية الواقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، الصلح في الحقوق كالصلح بين الزوجين، الصلح في الدماء كالصلح بين الطائفتين المقتتلين، الصلح في الأموال يدخل فيه هذا الحديث العام: «الصلح جائز بين المسلمين» قال العلماء: الصلح في الأموال إما على إقرار وإما على إنكار، الصلح على الإقرار مثل: أن يدعي شخص على آخر بشيء فيقر له ثم يصالحه على عوض عنه سواء كان المدعي به ديناً أو عيناًن وهذا لا شك في جوازه من الطرفين، مثال ذلك: ادعى شخص على آخر بألف

ريال، فقال: نعم عندي لك ألف ريال، ولكن أريد أن أصالحك على هذا المسجل يعني: أعطيك هذا المسجل بدلاً عن ألف ريال فوافق، هذا يجوز، وسواء كان المسجل يساوي ألف ريال أو يساوي أقل أو يساوي أكثر، الصلح على عين، يعني: إذا كان المدعي به عينا. قال شخص لآخر: أنا أدعي عليك بأن هذا المسجل لي، قال: نعم، أنا أقر بذلك لكن أريد أن أصالحك على أن تأخذ بدلاً عنه مسجلاً آخر هذا يجوز من الطرفين ولا إشكال فيه، وحقيقته أنه بيع، وإن سمي صلحاً فهو بيع، صالحته عن دين مؤجل ببعضه حالاً يعني: شخص يطلب من شخص مائة ريال مؤجلة إلى سنة فقال: أصالحك على ثمانين ريال نقداً حاضرا يجوز على القول الراجح، لأن هذا ليس من الربا في شيء، فإن صاحب الحق لم يأخذ زيادة وإنما تنازل أصلاً، فهو ضد الربا في الواقع، لكنه أنتفع بشيء وهو تعجيل حقه، فالطالب انتفع بالتأجيل والمطلوب انتفع بالإسقاط فلا ظلم لا في هذا ولا في هذا؟ . الصلح على إنكار أن يدعي شخص على آخر بألف ريال فيقول المدعي عليه: لا ما عندي لك شيء ثم يخشى أن يحاكمه فيقول: أنا أصالحك على ألف ريال بثمانمائة ريال ودعنا من الخصومة والنزاع، هذا جائز في حق المظلوم، حرام في حق الظالم، أيهما الظالم؟ يحتمل إذا كان المدعي كاذبا، فالمظلوم المدعي عليه، لكنه افتدى بثمانمائة عن ألف خوفاً من المحاكمة إذن المنكر هو الكاذب، والمدعي صادق له، في ذمة هذا الرجل ألف ريال والمنكر كاذب فهنا الظالم المدعى عليه، الصلح هذا جائز ونافذ ظاهراً يعني: في ظاهر الحكم، في الظاهر للناس نافذ لكن في الباطن- أي: ما في بين الإنسان وبين ربه- لا ينفذ في حق الظالم ولا يبرأ منه يوم القيامة؛ لأنه ظالم إما معتد في الدعوى أو معتد في الأنكار، إن كان الكاذب المدعي فهو معتد في الدعوى، وإن كان الكاذب المنكر فهو معتد في الإنكار، إن كان الكاذب المدعي فهو معتد في الدعوى، وإن الكاذب المنكر فهو معتد في الإنكار، المهم أن هذا الصلح صحيح ظاهراً فاسد باطناً، فلو كان المصالح عليه عينا لم يحل للظالم الانتفاع بها، يعني: مثلا ادعى عليه بألف ريال قال: ما عندي لك شيء، فلما رأى أنه سيحاكمه قال: أصالحك عن هذا بهذا المسجل، فأخذه المدعي وهو كاذب فاستعماله لهذا المسجل حرام: كل مرة يستعمله فهو آثم، لأنه ظالم معتد فصار الصلح الآن نوعين على إقرار وعلى إنكار، والذي على إقرار إما على دين، وإما عن عين وكلاهما جائز صحيح، لأنه يفيد الطرفين، وليس فيه كذب ولا إنكار، والنوع الثاني: صلح على إنكار فهذا حكمه أنه جائز صحيح في حق المظلوم حرام فاسد في حق الظالم، سواء كان هو المنكر أو هو المدعي، الشروط الأصل فيها الحل إلى ما أحل حراماً أو حرم حلالاً، والشروط يجب الوفاء بها لقول الله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود}. والأمر بالوفاء بالعقد شامل للوفاء بأصل العقد وبوصفه، ووصف العقد هي الشروط المشروطة فيه، الأصل فيها الحل بناء على القاعدة.

(والأصل في الأشياء حل وامنع ... عبادة إلا بإذن الشارع) هذا بيت مفيد جداً، كل الأشياء الأصل فيها الحل، والأصل في العبادات الحظر إلا بإذن الشارع، والأصل في غير العبادات من الأعيان، والمنافع والشروط وغيرها الحل، ويدل لذلك أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو بالطل» فأما ما في كتاب الله حله فهو صحيح نافذ إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا، ادعى على رجل بمائة ألف صالح المدعي بولده هل يجوز؟ لا يجوز، لأنه أحل حراماً وهو استرقاق الحر وهو محرم، يقول عز وجل في الحديث القدسي: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره» هؤلاء خصمهم الله عز وجل، ومن كان الله خصمه فهو مخصوم مغلوب. رجل باع على شخص أمة، واشترط البائع على المشتري أن يطأها البائع لمدة سنة، ما تقولون؟ لا يجوز. رجل اشتري أمة واشترط المشتري أن يطأها دائماً فهذا يجوز، لأنها ملكه. نعود مرة أخرى للفوائد، وقبل الفوائد ننبه على أن تصحيح الترمذي للحديث واعتذار ابن حجر عنه هذا يعتبر من ابن حجر من الأخلاق الفاضلة، أن الإنسان يلتمس العذر لأخيه ما وجد له محملاً لاسيما إذا كان الإنسان المعتذر عنه معروفاً بالاستقامة والنصح، فإنه لا ينبغي للإنسان أن يتتبع هفواته وزلاته بل يعتذر عنه ما أمكن، احمل الكلام على أحسنه ما وجدت له محملاً، أما من اتبع هفوات الناس فإن يدخل في الحديث: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في حجر أمه» لكن الإنسان الفاضل هو الذي يلتمس غيره له العذر، لكن في الواقع أن ابن حجر رحمه الله قال: إنه ضعيف والعلماء تكلموا فيه كلاماً شديداً، في الحاشية عندي قال الشافعي وأبو داود: هو ركن من أركان الكذب- الذي هو كثير- ولكن الحديث من حيث المعنى صحيح لا شك فيه وتشهد له الأدلة الشرعية، ولعل الترمذي أيضا صححه لا باعتبار السند ولكن باعتبار المتن.

على كل حال في هذا الحديث فوائد: أولاً: جواز الصلح بين المسلمين لقوله: «الصلح جائز» وقد ذكرنا أن كلمة «جائز» تشمل الجواز التكليفي، والجواز الوضعي، فنقول في الجواز التكليفي: جائز. وليس بحرام، ونقول في الجواز الوضعي: نافذ وليس بفاسد. فإن قال قائل: منطوق الحديث جواز الصلح بين المسلمين، مفهومه عدم جواز الصلح بين المسمين والكافرين أو بين الكافرين؟ فيقال: هذا القيد أغلي «بين المسلمين» والقيد الأغلبي لا يكون مفهومه مخالفاً لمنطوقه، ولهذا جرى الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وهو صلح بين مسلمين وكافرين، وكذلك لو تصالح كافران واحتكما إلينا، وجب علينا أن ننفذ الصلح إذا لم يكن مخالفاً للشرع، إذن هذا القيد أغليي. ومن فوائد الحديث: أن حكم الله سبحانه وتعالى لا يغيره حكم المخلوق لقوله: «إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراماً» فكل شيء يجري بين الناس مخالفا للشرع فإنه لا ينفذ، لأن حكم الله هو الحكم الأحسن: {من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة: 50]. ومن فوائد الحديث: أن حكم الله سبحانه وتعالى- لا يغيره حكم المخلوق لقوله: «إلا صلحا حرم حلالاً أو أحل حرامأً» فكل شيء يجري بين الناس مخالفا للشرع فإنه لا ينفذ، لأن حكم الله هو الحكم الأحسن {من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة: 50] ومن فوائد الحديث: جواز الشروط بين الناس لقوله: «والمسلمون على شروطهم» وكذلك نقول في المسلمون على شروطهم إنه قيد أغلبي فإذا وجدت الشروط بين المسلم والكافر في عقد من العقود فهي نافذة، وكذلك لو وجد شروط بين الكافرين في عقد من العقود فهي نافذة. ومن فوائد الجملة الأخيرة: أن الشرط المخالف للشرع باطل غير نافذ لقوله: «إل شرطاً حرم حلالا أو أحل حراماً» ومن فوائده: أن حكم الشرع فوق حكم المخلوق، ولهذا إذا خالف شرط المخلوق شرط الخالق وجب إبطاله. ومن فوائد الحديث: من عمومه: بطلان جميع الأنظمة المخالفة للشرع، لأن الأمر المخالف للشرع [عبارة عن] شروط توضح وضعها البشر، فكل القوانين المخالفة للشرع مهما كان واضعها فهي فاسدة لا يجوز تنفيذها بل يجب إبطالها، وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم الشرط الفاسد حتى بعد أن اشترط في قصة بريرة. 836 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع جار جاره ن يغرز خشبة في جداره ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمي نبها بين أكتافكم» متفق عليه

يجوز في «يمنع» وجهان: الوجه الأول: لا يمنع، والوجه الثاني: لا يمنع، فعلى الوجه الأول تكون «لا» نافية والفعل بعدها مرفوع؛ لأن «لا» النافية لا تغير الفعل، وعلى الوجه الثاني: تكون «لا» ناهية والفعل بعدها مجزوم. فإن قال قائل: هي ناهية واضحة أن الرسول بنهى، لكن إذا كانت نافية. فنقول: هذا النفي بمعنى النهي، ويأتي النفي بمعنى النهي تأكيداً، يعني: كأنه لا يمكن أن يمنع جار جاره، فيكون هذا أبلغ من النهي، ولهذا قال العلماء: قد يأتي الخبر بمعنى الأمر وقد يأتي النفي بمعنى النهي فقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] هذا خبر بمعنى الأمر، وهذا الحديث بمعنى الأمر، «لا يمنع جار جاره» نفي بمعنى النهي، قوله: «جار جاره أن يغرز خشبة في جداره» «خشبة» فهذا عام، وصيغة العموم أنه جمع مضاف، والجمع المضاف يفيد العموم، وعلى رواية الإفراد «خشبة» نقول: هو نكرة في سياق النهي فيكون عاماً أي خشبة تكون، على هذا فمؤدى اللفظين واحد. قوله صلى الله عليه وسلم «لا يمنع جار جاره» المراد بالجار هنا: الجار الملاصق، لأن خشبة الجار لا توضع على الجدار إلا إذا كان الجار ملاصقاً، أما الجار الذي ليس بملاصق وإن كان له حق لكن لا يدخل في هذا الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم: «أن يغرز خشبة» «يغرز» يعني: يغرس، يحفر لها حفرة ويضعها فيها، أو أن يضعها على ظهر الجدار، فالغرز هنا ليس بشرط، معنى الغرز: أن يفتح مكاناً للخشبة ويدخلها فيه ويضعها على ظهر الجدار واضح، وإذا كان الرسول نهى أن يمنع جار جاره من غرز الخشبة فنهيه عن منع جاره من وضع الخشبة على ظهر الجدار من باب أولى؛ لأن الغرز أشد وقوله: «في جداره»: جدار الجار أو جدار المانع؟ جدار المانع؟ لأن جدار الجار الواضع لا يمكن أن ينهى عنه الرسول، لأنه ملكه، لكن الكلام على جدار المانع. ففي هذا الحديث عدة فوائد: أولاً: بيان حقوق الجار، وأن للجار أن ينتفع بملك جاره بما لا ضرر عليه فيه، ومن ذلك وضع الخشبة وهل يلحق بوضع الخشبة ما يساويها؟ الجواب: نعم، وذلك لأن الخشبة إذا وضعها الجار على الجدار استفاد الجار الواضع والجار صاحب الجدار، كيف ذلك؟ أما صاحب الخشبة فاستفادته واضحة؛ لأنه بدلاً من أن يقيم أعمدة أو جداراً آخر ملاصقا لجدار جاره يضع هذه، وأما استفاده الجار صاحب الجدار فلأن وضع الخشب على الجدار تثبيت له وتقيه السيول، وهذا ينتفع به الجدار، لاسيما فيما سبق لما كان الجدار من الطين صار الانتفاع بذلك واضحاً، وهذا الحديث ظاهره يمنع صاحب

الخشبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» ومعلوم أنه لا يحل لك أن تضر غيرك بمنفعة نفسك. إذا قال قائل: ما رأيكم فيما لو أراد أن يجري الماء على أرضه إلى أرضه التي وراءها يعني: أراد صاحب الماء أن يجري الماء على أرض جاره إلى أرض له وراء أرض جاره فمنع الجار. نقول: هذا لا يجوز لصاحب الأرض أن يمنع صاحب الماء من إجرائه على الأرض إلا أن يكون في ذلك ضرر، فإن لم يكن في ذلك ضرر فإنه لا يجوز أن يمنع، ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما أراد أن يمنع محمد بن سلمة من جريان الماء لجاره فقال عمر: «والله لتمرن به ولو على بطنك» يعني: لو فرضنا أننا أجريناه على بطنك لا يمكن تمنع، لماذا؟ لأن فيه منفعة لصاحب الأرض وفيه منفعة لصاحب الماء، أما صاحب الماء، فلأن الماء يصل إلى أرضه الأخرى، وأما صاحب الأرض؛ فلأنه يمكن أن يغرس على الماء، وكذلك الزرع حول الماء ينتفع لكن لو قال صاحب الأرض: أنا سابني على الأرض بناء فهل له أن يمنع؟ نعم، له أن يمنع، لأن الماء لو مشى من تحت البناء أضر به. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب على المسلم ألا يمنع أخاه حق الانتفاع بملكه إذا لم يكن عليه ضرر، وجهه: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وعلى هذا فلو أن رجلا مر برجال جالسين تحت جداره مستظلين به من الشمس، فقال: قوموا هذا ظلال جداري، هذا له الحق أو لا؟ لا، ليس له الحق، لكن لو دخلوا البيت واستظلوا بظل الجدار، معلوم له الحق ليس من أن يخرجهم من الظل ولكن يخرجهم من بيته، ولما جاءت امرأة إلى الإمام أحمد رحمه الله تسأله قالت: يا أبا عبد الله إن السلطان إذا مر بنا في الليل ونحن نغزل ازداد غزلنا بواسطة الأنوار التي يمر بها فهل يحل لنا ذلك- أي: هذه الزيادة/ لأن أنوار السلاطين في ذلك الوقت ليست نزيهة من كل وجهن فقال الإمام أحمد: نعم يحل هذا، ولما أدبرت سأل من بجنبه قال: كيف هذه تسأل هذا السؤال الدقيق؟ قال: هذه أخت إبراهيم بن أدهم، فدعا بها فقال: لا يحل لكم، كيف؟ قال: نعم من بيتكم خرج الورع، انظر كيف اختلفت الفتوى.

على كل حال: أقول: إن مثل هذه المنافع العامة لا يجوز لأحد أن يمنع منها من ينتفع بها. ومن فوائد الحديث: أنه إذا غرز الجار الخشبة لم يلزم بما يسمونه المباناة عندنا، يعني: أن الجار إذا بني وأحاط بيته بجدار، ثم بني جاره وأراد أن يغرس خشبة على الجدار قال: لا يمكن حتى تسلم نصف قيمة الجدار وتسمى المباناة. ولكن ظاهر الحديث أنه ليس للجار أن يطلب هذه القيمة؛ لأن الجدار لمن؟ الجدار له، ولهذا قال: «على جداره» فهو ملكه كيف تطالبني أن أحمل عنك بعض نفقة ملكي؟ فإذا قال: نعم تحمل بعض نفقة ملكي لأنك انفقت به، فالجواب: أن هذا النفع قد جعله الشارع لي ونهاك أن يمنعني، لكن الواقع أن الأمر عندنا على خلاف ذلك، والحكام يحكمون بوجوب دفع نصف النفقة ولعلهم يلاحظون في هذا قطع النزاع؛ لأنهم يخشون أن يتأخر الجار في البناء من اجل أن يقيم جاره الجدار وربما يتكلف عشرة آلاف أو أكثر؛ فإذا بني شرع هذا في البناء فيكون هذا حيلة فلذلك كان القضاة عندنا يحكمون بدفع المباناة يعني: دفع نصف التكاليف على هذا الجدار؛ إذا دفع نصف التكاليف يكون الجدار الآن مشتركاً بين الطرفين لو آل للسقوط ألزم الطرفان ببنائه، وعلى عدم تحميل نصف التكاليف يكون الجدار للأول، ولا يلزم إذا مال الجدار للسقوط ببنائه. قال: «ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟ » يعني: أي شيء لي «أراكم عنها» أيك عن هذه السنة التي حدثتكم بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «معرضين» يعني: لا تعملون بها، «والله لأرمين بها» أي: بالسنة، «بين أكتافكم حتى تنزل عليكم من فوق فترهقكم عملاً» وقيل: «والله لأرمين بها» أي: بالخشبة، أي: لا جعلنها على أكتافكم إن منعتم من وضعها على الجدار، فعلى الوجه الأول يكون الضمي في قوله: «بها» عائداً على السنة، وعلى الثاني يكون عائداً على الخشبة، ولكن أيهما أنسب؟ قال بعض العلماء: الأنسب الثاني، ويؤيد ذلك أمران الأول: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال ذلك حين كان والياً على المدينة لمروان فهو أمير والأمير له سلطة التنفيذ ولو بالقوة، والثاني: أنه يبعد أن يقول أبو هريرة عن السنة: لأرمي نبها بين أكتافكم؛ لأن السنة الأليف أن يقال فيها: لألقينها بين أيديكم ولا توصف بالرمي بين الأكتاف حتى تكون وراء الظهور، بل تلقى بين الأيدي حتى يقتدي بها الناس، ثم هناك وجه ثالث يرجح أن ما بين الأكتاف هو موضع الحمل عادة، فكان أنسب أن يكون المراد بها الخشبة، ونظير هذا قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «والله ليمرن به ولو على بطنك» يعني: الساقي للماء الذي يمر في ملك الجار.

ومن فوائد الحديث: أن المنافع المتحمضة التي ليس فيها ضرر لا يجوز الامتناع؛ وذلك لأن وضع الخشب فيه مصلحة للطرفين؛ أما صاحب الجدار؛ فلأن وضع الخشب عليه يقيه من الشمس والأمطار ويزيده شدة وقوة، لأن البناء يشد بعضه بعضا، وأما صاحب الخشب فالمنفعة له ظاهرة، وظاهر هذا الحديث أنه لا يشترط الضرورة، يعني: لا تشترط للنهي عن منعه أن يكون صاحب الخشب مضطراً إلى ذلك، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يشترط أن يكون مضطراً إلى ذلك بحيث لا يمكنه التسقيف إلا على جدار جاره، فإن كان يمكنه التسقيف على الجهة الأخرى فإنه يجوز للجار أن يمنعه، وكذلك يمكنه التسقيف بإقامة أعمدة وجسر على الأعمدة توضع عليه الخشب فلا ينهي الجار عن منعه من وضع الخشب على الجدار، ولكن ظاهر الحديث أولى بالتقديم، وهو أنه لا تشترط الضرورة، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يتضرر الجدار بذلك أو لا يتضرر، ولكن هذا الظاهر غير مراد، ما الذي يخرجه عن الإرادة؟ الأحاديث العامة الأخرى الدالة على أنه «لا ضرر ولا ضرار» ومعلوم أن هذا فيه الضرر وإذا كان الجار قد أراد الضرر صار إضراراً أيضا. ومن فوائد الحديث: تعظيم حق الجار على جاره؛ ولهذا أضافه قال: «جار جاره» من باب التحنن والتعطف على الجار، ولا شك أن للجار حقاً عظيما على جاره، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» وقال النبي صلى الله عليه وسلم «والله لا يؤمن والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» فالجار له حق على جاره، ومن حقوق ألا يمنعه هذا الحق. ومن فوائد الحديث: أنه لو كان الجدار مشتركاً فإنه لا يمنعه من وضع الخشب على جداره، يقال: إنه منع، أو إذا نهى عن منعه من وضع الخشب على الجدار الخاص بالجار فمن باب أولى إذا كان الجدار مشتركاً؛ لأن الجار له حق فيه. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للأمير ومن ولاه الله على شيء أن يكون قوياً في إمرته لقوله: «ما لي أراكم عنها معرضين ... إلخ» واللين له موضع، والشدة لها موضع، فإن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم استعمال اللين فهو خال من الحكمة، فأنتم قد مر عليكم مسائل كثيرة استعمل

فيها الرسول صلى الله عليه وسلم اللين، وأخرى استعمل فيها الشدة، الرجل الذي كان لابسا خاتم ذهب فنزعه النبي صلى الله عليه وسلم من يده ورماه به، وهذا نوع من الشدة، والذين اشترطوا الولاء في قصة بريرة قام صلى الله عليه وسلم وخطب خطاباً توبيخياً عظيماً، فالمهم أن الإنسان ينبغي له أن يستعمل الشدة في موضعها واللين في موضعه، ولهذا قال المتنبي وهو شاعر حكيم في الحقيقة: [الطويل] (ووضع الندار في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندا) وهذا صحيح إذا وضعت الندا يعني: الكرم والعطاء في موضع السيف فهذا مهانة وذل، بالعلا كوضع السيف في موضع الندا، يعني: في موضع الكرم لا تضع السيف، وفي موضع السيف لا تضع الكرم، بل كن حكيما في هذا وهذا. ومن فوائد الحديث: استعمال المبالغة في الوعيد لقوله: «والله لأرمي نبها بين أكتافكم» لأن الظاهر أن أبا هريرة لم يقصد بهذا أن توضع الخشب على الأكتاف، لأن هذا أمر لا يطاق، فيكون هذا من باب المبالغة في الوعيد مع أنه أقسم رضي الله عنه. 837 - وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه» رواه ابن حبان، والحاكم في صحيحهما. قوله: «لا يحل لامرئ» هذه من أسماء الأجناس للرجال، ويقال في النساء امرأة، ولكن تعليق الحكم بالرجال في قوله: «لامرئ» من باب التغليب وليس من باب التقيد. وقوله: «أن يأخذ عصا أخيه» أي: في الدين، وإن اجتمع الدين والنسب صار تأكيداً على تأكيد، وقوله: «بغير طيب نفس» أي: بغير رضا منه، لأن الإنسان إذا رضي طابت نفسه، وإذا لم يرضي لشحت نفسه بالشيء. ففي هذا الحديث: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يأخذ الإنسان عصا أخيه بغير نفس منه، لأنه عدوان، وقد أشارت الآية الكريمة إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {يا أيها الذين امنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29] وعلى هذا أساس كل معاملة، كل معاملة لابد فيها من رضا وطيب نفس إلا ما استثنى فإن الإكراه قد يكون بحق، وإذا كان بحق صار كالرضا، لأن من لم يرض بالشرع ألزم بالرضا به. ومن فوائد الحديث: تحريم أخذ مال الغير بغير حق.

فإذا قال قائل: أنت تقول: «مال» والحديث «عصا» ومال أعم من عصا، فكيف تستدل بالأخص على الأعم، لأن القاعدة أن يستدل بالأعم على الأخص؛ لأن العام يدل على جميع أفراده، لا أن يستدل بالأخص على الأعم، يعني: أن الدليل لا يكون أخص من المدلول. فالجواب: أن ذكر العصا تنبيه على ما هو أعظم منه، وعلى هذا فيكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم العموم، ونظير هذا من بعض الوجوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرام: الغراب، والحدأ، والفارة، والعقرب، والكلب العقور» فهذه الخمس لا يقال: إن غيرها لا يقتل في الحرم، بل ما كان مثلها في الأذى كان مثلها في الحكم، وما كان أعظم منها كان أولى منها بالحكم، فالذئب مثلا يقل في الحرم؛ لأنه أشد من الكلب العقور، والحية تقتل؛ لأنها كالعقرب أو أشد، الجرد يقتل؛ لأنه كالفارة وعلى هذا فقس. ومن فوائد الحديث: أنه إذا أخذ الإنسان مال أخيه بطيب نفس منه فلا بأس بذلك، ولكن هذا الإطلاق يقيد بالنصوص الأخرى الدالة على أنه لابد أن يكون المعامل جائز التصرف إن كان تصرفاً، وجائز التبرع إن كان تبرعاً، أيهما أوسع: التصرف أو التبرع؟ التصرف أوسع، ولهذا نقول: من جاز تبرعه جاز تصرفه، ولا نقول: من جاز تصرفه جاز تبرعه، فولي اليتيم يجوز أن يتصرف في مال اليتيم، ولكن لا يجوز أن يتبرع منه، الوكيل يجوز أن يتصرف فيما وكل به، ولكن لا يجوز أن يتبرع به، الذي عنده دين مستغرق لماله يجوز أن يتصرف في ماله ولا يجوز أن يتبرع فيه فالتبرع أضيق، وظاهر الحديث أنه لو طابت نفسه بعد التصرف جاز ذلك، وعليه فيكون فيه دليل على جواز تصرف الفضولي، وهو أن يتصرف الإنسان بمال غيره بغير ولاية ثم يأذن الغير في هذا التصرف، يسمى تصرف فضولي؛ لأنه متوقف على إذن الغير، فهذا التصرف فيه خلاف بين العلماء، والراجح أنه ينفذ في كل مسألة أجازها من له الحق، فلو بعت ملكك بدون توكيل منك ثم بعد ذلك أذنت لي وأجزت التصرف فيه خلاف بين العلماء، والراجح أنه ينفذ في كل مسألة أجازها من له الحق، فلو بعت ملكك بدون توكيل منك ثم بعد ذلك أذنت لي وأجزت التصرف فالصحيح الجواز، قال: ثم هنالك أن الإنسان يتردد فيما إذا كان الأمر يحتاج إلى نية، كما لو أديت الزكاة عنك ثم أجزتني بعد ذلك هل نقول: بأن الزكاة أجزأتك؟ أما على قول من يقول: إن تصرف الفضولي لا ينفذ إلا في مسائل معينة، فظاهره أن الزكاة لا تجزئ، وأما على القول بأن الأصل في تصرف الفضولي الصحة إذا أجيز، فإن الزكاة عندي فيها نظر، وذلك لاشتراط النية ممن تجب عليه عند الدفع، فقد يقال: إنها لا تجزئ؛ لأن المالك حين الدفع لم ينو، وقد يقال: إنها تجزئ؛ لأن الدافع فقد يقال: إنها لا تجزئ؛ لأن المالك حين الدف لم ينو؛ وقد يقال: إنها تجزئ؛ لأن الدافع نواها زكاة عن صاحبها وإذا كان نواها زكاة أجزأت، وربما يقوي هذا الاحتمال ما جرى من أبي هريرة مع الشيطان، أبو هريرة كان وكيلاً على زكاة الفطر في رمضان وقد جمع تمراً كثيراً،

وفي ذات ليلة جاءه شخص في صورة فقير فأخذ من التمر فأمسك به أبو هريرة وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا فقير وذو عيال، فرق له أبو هريرة وأطلقه، فلما أصبح أبو هريرة غدا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما فعل أسيرك البارحة» أخبره الله من طريق الوحي، فقال: يا رسول الله، إنه ادعى أنه ذو حاجة وذو عيال فأطلقته، قال: «كذبك وسيعود». يقول: فعلمت أنه سيعود لقول النبي صلى الله عليه وسلم سيعود، فجاء فأخذ من التمر، فقلت: لأرفعنك إلى الرسول، فادعى الفقر فأطلقه، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما فعل أسيرك البارحة؟ » قال: يا رسول الله، ادعى الفقر فأطلقته، قال: «كذبك وسيعود» فجاء فأخذ من التمر فأمسكته، فقلت: لن أتركك أبداً إلا عند الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: سأخبرك بآية من كتاب الله إذا قرأتها لم يزل عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، آية الكرسي: فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يضمن أبا هريرة الزكاة التي دفعها إلى هذا الشخص مع أنه لم يوكل في الدفع، إنما وكل في الحفظ فقط، فنقول: إن الحديث الذي معنا يدل على جواز تصرف الفضولي، لأنه بطيب نفس من صاحبه. إذا قال قائل: لماذا أتى المؤلف بهذا الحديث عقيب حديث أبي هريرة؟ قال الشارح: ليتبين أن قوله: «لا يمنع جار جاره» على سبيل الأولوية، وذلك لأننا لو مكنا الجار من وضع الخشب على جدار الجار لكان اعتدى على مال أخيه ووضع الخشب على جداره، فكأن المؤلف يقول: إن حديث أبي هريرة ليس للتحريم ولكن من باب الأولى، لكن هذا ليس بصحيح، ما أظن أن المؤلف أراد هذا، وذلك لأن حديث أبي هريرة لا يتنافى مع هذا الحديث، حديث أبي هريرة من حقوق الجار على الجار وليس فيه أخذ للمال الجدار يبقى على ملك صاحبه ولم يتضرر الجدار بذلك، ثم إن الحديث «لا يحل لامرئ ... إلخ» ليس على عمومه، فإنه يخصص منه أشياء كثيرة منها: الرهن مثلاً، الرهن يباع بغير طيب نفس من صاحبه؛ يعني: مثلا أن تطلب من زيد ألف ريال فرهنك زيد مالاً وقال: خذ هذا المال رهنا عندك إذا حل الأجل ولم يوفك فبعه وخذ حقك رضي راهنه أم لم يرض، كذلك تؤخذ النفقة ممن تجنب عليه رضي أم لم يرض، فالحديث ليس على عمومه، يعني: خصص بأدلة أخرى تدل على أن الإنسان إذا امتنع من حق واجب عليه أخذ منه قهراً رضي أم لم يرض.

8 - باب الحوالة والضمان

8 - باب الحوالة والضمان هذه الترجمة تضمنت بابين: الباب الأول: «الحوالة» وهي نقل الحق من ذمة إلى ذمة، و «الضمان» التزام ما على غيره من الحقوق، وجمع المؤلف بينهما لما بينهما من التشابه؛ لأن الضامن ينقل الحق على الذي عليه الحق إلى ذمته، والمحيل ينقل الحق من ذمته إلى ذمة غيره ففيهما تشابه، الحوالة: نقل حق من ذمة إلى أخرى، مثاله: زيد يطلب من عمرو مائة ريال وعمرو يطلب من خالد مائة ريال فجاء زيد على عمرو وقال: أعطني حقي، فقال: إن لي حقاً عند خالد هو مائة ريال وقد أحلتلك عليه، هذه حوالة تحول الحق من ذمة عمرو إلى ذمة خالد، فانتقل من ذمة إلى ذمة عمرو في هذه الحال هل يكون مطالباً بشيء؟ لا لأن الحق تحول من ذمته إلى ذمة خالد. أركان الحوالة لابد فيها من خمسة: محيل ومحال ومحال به ومحال عليه وصيغة المحيل: من عليه الحق، والمحال: من له الحق، والمحال به: من الدين الذي على المحيل، والمحال عليه: الدين الذي على المحال عليه، وصيغة يعني: لفظ يحصل به التحول، فالأركان إذن خمسة، لأننا لو نقول: لزيد على عمرو مائة ريال جمعت هذه ثلاثة ولعمرو على خالد مائة ريال هذه أربعة، بعد ذلك الصيغة قال عمرو لزيد: أحلتك على خالد، هذه الصيغة هي الخامسة، وهي في الحقيقة من عقود الإرفاق، لأن فيها إرفاقاً بالطالب والمطلوب والمحال عليه، وأركانها خمسة: محال ومحيل، ومحال عليه، أم الضمان: فهو التزام الشخص مع ما وجب أو يجب على غيره من الحقوق التي يصح ضمانها، وهو أيضا من عقود الإرفاق، وهو مشتق من الضمن، لأن ذمة المضمون تكون ضمن ذمة الضامن؛ لأنها تدخل ذمة المضمون في ذمة الضامن، وذمة الضامن في ذمة المضمون، وهي من عقود الإرفاق لما فيها من التيسير على كل من الطالب والمطلوب، مثال التزام ما وجب: أن ترى شخصاً ممسكاً بشخص يريد أن يحاكمه ويخاصمه ويرفعه إلى ولاة الأمور فتأتي أنت وتحسن، وتقول لهذا الطالب: أنا ضامن ما على فلان، هذا ضمن ما وجب، ومثال ضمان ما يجب: أن يقول لك شخص: إني أريد أن أشترى من فلان سيارة وهو لا يعرفه فأريد أن تضمنني في قيمتها، فتكتب له وثيقة بأنني ضامن ما يجب على فلان من قيمة السيارة التي يشتريها من المعرض الفلاني، فهذا ضمان ما يجب؛ لأن الحق لم يجب بعد لكنه سوف يجب فالضمان إذن له صورتان، وهو من عقود الإرفاق والإحسان، لأنه فيه إرفاقاً بالمضمون عنه.

حكم الحوالة وشروطها

حكم الحوالة وشروطها: 838 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» متفق عليه. وفي رواية أحمد: «ومن أحيل فليحتل» قوله: «مطل الغني ظلم» «المطل» هو المنع، يعني: منع ما يجب على الإنسان دفعه من دين يسمى مطلاً، والغني هنا هو القادر على الوفاء، وإن كان قد يسمى فقيرا في عرف الناس كرجل عليه مائة درهم وهو لا يملك إلا مائة درهم، فهذا في عرف الناس في وقتنا الحاضر فقير، ولكنه باعتبار قدرته على الوفاء غني فمطل هذا ظلم، يعني: منعه من وفاء الحق الذي عليه ظلم، والظلم في الأصل في اللغة العربية بمعنى: النقص، ومنه قوله تعالى: {كلتا الجنتين أتت أملها ولم تظلم منه شيئا} [الكهف: 33] أي: لم تنقص منه شيئا، وقال تعالى: {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} [الزخرف: 76] أي: ما نقصناهم مما يجب لهم أو مما هو من حقوقهم، ولكن هم الظالمون، ثم إن الظلم وإن كان بمعنى النقص فإنه أن كان في ترك ما يجب فهو ظلم في واجب، وإن كان في فعل محرم فهو ظلم في محرم ... إذن الظلم نقص، والنقص هنا نقص واجب أو فعلي محرم مطل الغنى ظلم نقص واجب لأن الواجب على الغنى أن يبادر بالوفاء فإن لم يفعل فقد نقص ما يجب عليه فكان ظالماً صورة المسألة رجل مدين لشخص بألف درهم، وهذا الشخص يطلبه: أعطني حقي والآخر يماطله يقول: غدا بعد غد بعد غد، نقول: هذا الرجل المطلوب يعتبر ظالماً، لأنه مطل في الحق الذي عليه، أي منعه مع قدرته على القيام به. ق ال: «وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» «أتبع» فسرته رواية الإمام أحمد رحمه الله وهي قوله: «من أحيل» ومعنى «أتبع» أي: طلب منه أن يتبع غيره؛ أي: أحيل، يقول صلى الله عليه وسلم: «من أحيل مليء» المليء مأخوذ من الملاءة أي: على قادر على الوفاء بماله وبدنه وحاله، معناه: أن نقدر على الاستيفاء منه بماله وبدنه وحاله. أما المال فهو أن يكون واجداً للمال الذي أحيل به عليه، فإن كان فقيراً معدماً ليس عنده مال فليس بمليء. «قادراً ببدنه» أي: يمكن أن يحضر لمجلس الحكم عند المحاكمة فيما لو امتنع من الوفاء فإن لم يكن إحضاره لسلطته أو قرابته فليس بملئ لأنه لا يمكن استيفاء الحق منه.

الثالث: بحاله، يعني: ألا يكون مماطلاً فإن كان غنياً يمكن إحضاره لمجلس الحكم لكنه مما طل لا يوفي فإنه ليس بمليء، إذن فالمليء من يمكن استيفاء الحق منه بماله وبدنه وحاله، فإن كان فقيرا فإنه لا يجب التحول عليه مثل أن يحيلك شخص على آخر بدراهم تطلبه إياها لكن هذا المحال عليه فقير ليس عنده مال فإنه لا يلزمك أن تتحول، لأن في ذلك إضرار عليك. ببدنه: فلو أحالك على أبيك قال: أنت تطلبني مائة ريال وأن أطلب أباك مائة ريال فأنا حولتك على أبيك فإنه لا يلزمك أن تتحول لماذا لأنه لا يمكن أن تحاكم أباك وتحضره إلى مجلس الحكم، لو أحالك على سلطان فإنه لا يلزمك أن تتحول، لماذا؟ لأنه لا يمكن مطالبته وإحضاره لمجلس الحكم رجل أمير في القرية أو شيخ القبيلة مثلا لا يمكن إحضاره لمجلس الحكم فلا يلزمك أن تتحول، فلو أحالك على شخص معروف بالمماطلة لا يمكن أن يوفي بل يلعب على الناس فإنه لا يلزمك أن تتحول، لأن في ذلك إضراراً بك؛ إذ يستحيل عليك أن تستوفي مالك. وقوله صلى الله عليه وسلم: «فليتبع» اللام هنا للأمر ولام الأمر مكسورة إلا إذا وقعت بعد حرف من حروف العطف وهي الواو والفاء وثم فإنها تكون ساكنة قال الله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} [الطلاق: 7] مكسورة هنا، {من قدر عليه رزقه فلينفق} ولم يقل: فلينفق، لماذا؟ لأنها أتت بعد الفاء، وقال تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم} [الحج: 29] ولم يقل: ثم ليقضوا لأنها وقعت بعد {ثم} و [ليوفوا] ولم يقل: وليوفوا؛ لأنها وقعت بعد الواو هنا «فليتبع» بسكون اللام، لأنها وقعت بعد الفاء ومعنى «فليتبع» أي: فليحتل كما تفسره رواية أحمد، وهذا اللام قلنا: إنها للأمر، ولكن هل الأمر للوجوب أو الأمر للاستحباب والإرشاد؟ اختلف في هذا أهل العلم، فمنهم من قال: إن الأمر للاستحباب وليس للوجوب؛ لأن صاحب الدين الذي أحيل يقول: أنا لا أقبل إلا من لي عليه الدين، والآخر ليس لي عليه دين ولا سبيل فلا يلزمني أن أتحول، وقال بعض العلماء: بل الأمر للوجوب؛ لأنه ذكر بعد قوله: «مطل الغني ظلم» حيث إنه قال: وتحول المحال على المليء عدل، والعدل واجب، وهذا القول الثاني هو المشهور من مذهب الإمام أحمد على أنه يجب أن يتحول إذا أحيل على مليء ولكن جمهور أهل العلم يرون أن التحول ليس بواجب، وأنه من باب حسن الاقتضاء، فإن فعله الإنسان وتحول كان ذلك خيراًن وإن لم يفعل فهو حر؛ لأنه لا يلزمه أن يستوفى دينه من غير مطلوبة، مثال ذلك: زيد يطلب من عمرو مائة ريال وعمرو يطلب من بكر مائة ريال، فقال عمرو لزيد: أحلتك بالمائة التي لك على المائة التي لي عند بكر وكان بكر مليئاً فهل يلزم زيدا أن يتحول؟ على قول من قال: إن اللام في قوله: «فليتبع» للوجوب يجب على زيد أن يتحول، وعلى القول

الثاني لا يجب، ولكنه إذا تحول فله أجر؛ لأن هذا من حسن الاقتضاء، وربما تناله الرحمة التي دعا بها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «رحم الله امرأ سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتض». في هذا الحديث فوائد كثيرة: أولاً: تحريم مطل الغني لقوله: «مطل الغني ظلم» والظلم حرام لقول الله تعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم} [الشورى: 42] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الظلم ظلمات يوم القيامة» ومن فوائده: أن مطل غير الغني ليس بظلم، يؤخذ من قوله: «مطل الغني» وهذا وصف مناسب للحكم وهو كن المطل ظلماً فإذا كان مناسباً للحكم كان قيداً فيه فإذا مطل الإنسان الفقير فليس بظالم، بل الظالم من يطالبه لقوله الله تعالى: {إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280] ومن فوائد الحديث: أنه إذا لم يطالب صاحب الحق بحقه فإن تأخير وفائه ليس بظلم، كشخص أقرض شخصاً مائة ريال، ولم يقيده بأجل، ولم يطالبه به، فنقول: ما دام المقرض لم يطالبك فلست بظالم، لماذا؟ لأنك لست بمماطل وهو كذلك، لكن إن علم من قرينة الحال مثل أن نعلم أن هذا الطالب فقير لكنه رجل كريم خجول لا يطالب أحداً فمطله حينئذ ظلم، لأننا نعلم أن الأمر لو عاد إليه لطالب لكنه رجل خجول وكريم، ولا يحب أن يقول لأحد: أعطني حقي، فإذا منعته حقه فإنك مماطل فتكون ظالماً، أما لسان المقال فمثل أن يؤجل الحق إلى أجل، فإن الحق إذا أجل إلى أجل كان ذلك دليلاً على أن صاحبه يريد وفاؤه إذا جاء ذلك الأجل، مثل أن يقول بعتك هذا الشيء بمائة ريال تحل على رأس المحرم في أول يوم منه، فإذا جاء أول يوم من محرم وجب على المشتري أن يسدد؛ لأن تأجيله هذا الأجل المعين، يعني: أنه إذا جاء هذا الأجل وجب على المطلوب أن يوفي الطالب، ومن فوائد الحديث: إثبات القصاص بين الناس، لأن الظلم لابد أن يقتص منه صاحبه، أي: المظلوم كما جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من تعدون المفلس فيكم؟ » قالوا: من لا درهم عنده ولا دينار، أو قالوا: ولا متاع، فقال: المفلس من يأتي بحسنات أمثال الجبال فيأتي وقد ضرب هذا وشتم هذان وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار. ومن فوائد الحديث أن لصاحب الحق أن يطالب من عليه حقه ووجه الدلالة: أنه جعل

مطل الغني ظلم، فإذ كان ظلما كان لصاحب الحق أن يطالبه لأنه صاحب حق، على هذا فلا يجوز أن نلوم صاحب الحق إذا طالب بحقه من له مطالبته، وما يجري على ألسنة بعض الناس من كونهم إذا رأوا الشخص يطالب غيره بحقه لاموه، وقالوا: عندك حلال كثير، لماذا تطالب؟ فنقول: ما دام الحق له فهو غير ملوم، ولهذا جعل الله تعالى من استعمل حقه غير ملوم فقال: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} [المؤمنون: 6] فلا يجوز أن يلام شخص يطالب بحقه. ومن فوائد الحديث: جواز الدعاء على المماطل الغني، وأن دعوة من مطله حرية بالإجابة، لأنه إذا ثبت أن مطل الغني ظلم كان الممطول مظلوماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب». ومن فوائد الحديث في قوله: «وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» جواز الحوالة وأنها ليست من الربا؛ لأنها عقد إرفاق فهي كالقرض ولو كانت عقد معاوضة لم تصح، لأنها بيع دين بدين، ولأنها ربا إذا كانت في أموال ربوية، ولكن لما كان المقصود بها الإرفاق صارت جائزة، مثلا أنا أطلب شخصاً مائة ريال وآخر يطلبني مائة ريال، فإذا أحلت الطالب لي على الذي أنا أطلبه جاز ذلك مع أنني لو بعت عليه ما في ذمة المطلوب لي كان البيع حراماً وفاسداً، لأنني بعت دينا بدين على غير من هو عليه، حرام كما سبق، ولأني بعت بدراهم بدراهم بدون قبض فلا يجوز، لكن الحوالة تجوز مع أن حقيقتها أنني بادلتك بالدين الذي لي بالدين الذي علي، وهذا هو البيع، ولكن لما كان المقصود بها الإرفاق صارت جائزة كالقرض، أرأيت لو أعطيتك قرضا مائة ريال ثم أوفيتني بعد شهر أليس هذا جائزاً؟ نعم، ولو اشتريت منك مائة ريال بمائة ريال إلى أجل لكان هذا حراماً، والفرق بينهما لأنني في الأول قصدت لإرفاق، وفي الثاني قصدت المعاوضة والاكتساب، والحوالة نفس الشيء لما كان المقصود بها الإرفاق صارت جائزة، ولو كان المقصود بها المعاوضة صارت حراماً، ولهذا لو أحلت بفضة على ذهب كان ذلك حراماً، لأن هذه معاوضة اختلف الجنس، ولو أحلتك ببر على شعير كان ذلك أيضا حراماً؛ لأنه معاوضة بيع، ولو أحلتك بمائة على مائتين كان ذلك حراماً لأنه صار معاوضة، مثال: أن تطلب مني مائة وأنا أطلب شخصا مائتين فقلت: أحلتك بالمائة التي تطلبني على المائتين التي أطلب هذا الشخص، كان ذلك حراماً لماذا؟ من أجل الزيادة صارت معاوضة تحولت من إرفاق إلى اكتساب والعكس لو أحلتك بمائة على ثمانين الصحيح جوازها؛ لأن هذا إرفاق وزيادة وليس فيه ربا، المسألة الأولى: إذا أحلتك مائة على مائتين فيها ربا لكن

أحلتك بمائة على ثمانين وقيلت هذا في الحقيقة إرفاق وزيادة إرفاق، لأنك قبلت التحول بحقك من ذمتي إلى ذمة فلان وزيادة؛ لأنك أبرأتني وأسقطت عني، فإذا كان يجوز أن أحيلك بمائة على مائة فجواز أن أحيلك بمائة على ثمانين من باب أولى، لأنه إرفاق بلا شك كما لو كان في ذمتي مائة وطلبت مني ثمانين وأسقطت الباقي فإن الصحيح جوازه فهذا مثلها، وإن أحلتك بثمانين على ثمانين من المائة التي أطلب شخصا مائة وأنت تطلبني ثمانين فأحلتك بثمانين على ثمانين من المائة التي أطلب هذا الشخص، هذا يجوز قولا واحداً؛ لأنني ما نقصت حقك ولا زدته، ولكنني أحلتك أن تستوفي بعض حقي الذي في ذمة هذا الشخص، إذن الحوالة لابد فيه من اتفاق الدينين حنساً، نأخذها من أن جوازها إنما هو للإرفاق فإذا اختلف الجنس صارت معاوضة، فصارت ربا ليست إرفاقا ولو أحلتك بمائة على مائة وعشرين من جنسها كان حراماً لأنه ربا، وعلى هذا فيشترط أيضا اتفاق الدينين قدراً، فلا يصح أن يحال بناقص على زائد، يعني: يحال بمائة على مائة وعشرين لا يصح، فإن أحيل بمائة وعشرين على مائة فهذا فيه خلاف، والصحيح أنه جائز؛ لأنه لم يخرج عن الإرفاق، بل فيه إرفاق وزيادة، إذن يشترط اتفاق الدينين قدرا ولكن هل يجوز أن يحال بناقص على زائد أو بزائد على ناقص أو بعبارة أخرى يشترط إنفاق الدين قدراً فلا يحال بناقص على زائد ولا بزائد على ناقص، بناء على اشتراط هذا الشرط، إلا أن القول الراجح أنه يجوز الإحالة بزائد على ناقص لماذا؟ لأن هذا إرفاق وزيادة، والرجل المحال لم يقصد المعاوضة ولا التكسب، لو قصد التكسب أو المعاوضة ما أخذ ثمانين عن مائة، وهل يشترط اتفاق الدينين أجلا فلا يحل حال على مؤجل ولا مؤجل على حال؟ ننظر إذا كان كل من الدينين المحال به والمحال عليه حالا مع اتفاق الجنس والقدر فالحوالة جائزة، وليس فيه إشكال، وإذا كان المحال به حالا والمحال عليه مؤجلا فقد أحلنا بحاضر على مؤجل، أيهما أنقص؟ المؤجل، يعني: إذن أحلنا بزائد على ناقص، الإحالة بالزائد على الناقص جائزة، وعلى هذا فإذا أحلنا بحال على مؤجل لكنه غير زائد، بعني: بمائة حالة على مائة مؤجلة فالحوالة جائزة لماذا؟ لأنها اشتملت على الإرفاق وزيادة، وهذا الرجل المحال لم يقصد المعاوضة؛ لأنه لو قصد المعاوضة ما أخذ مؤجلاً بحال؛ إذ لا يعقل أن يأخذ مؤجلا بحال، بالعكس لو أحلنا بمؤجل على حال؟ هناك ناقص على زائد لكنه ليس زائداً قدراً بل هو زائد وصفا؛ زيادة الوصف هذه لمن؟ للمحيل، فإذا أسقطها فإنه لا بأس بذلك؛ يعني مثلا: لو أحال بمؤجل على حال الآن المؤجل حق للمحيل؛ لأنه هو الذي يتوسع إلى صاحب الحق المؤجل عليه، فإذا رضي بإسقاطه فهو كما أوفاه قبل الأجل، ومعلوم أنه إذا أوفاه قبل الأجل بدون نقص فإنه جائز قولا واحدا، فهنا إذا قال أن الحق لي أن يبقي الدين مؤجلا على لكن أنا مسقط هذا الحق وأنا أحيلك على فلان وديني

عليه، حال فإن هذا لا بأس فيه، وإن كان في الحقيقة إحالة بناقص على زائد لما كان القدر لا يختلف، وإنما الاختلاف في الوصف حق لمن أسقطه كان ذلك جائزاً، هذا هو القول الصحيح، ومن العلماء من يرى أنه لا يصح، ويرى أنه لابد أن يتساوى الدينان جنساً ووصفا وقدراً، لو أحاله برديء على جيد أو بجيد على رديء فهنا إذا أحاله بجيد على رديء فقد أحاله بزائد على ناقص فيجوز، لأن المحال أسقط بعض حقه والحق له، وبالعكس لو أحاله برديء على جيد فهنا ننظر هل الزيادة هنا في القدر أو بالوصف، هنا بالوصف، فعلى القاعدة التي أصلنا وأن الاختلاف في الوصف لا يضر، نقول: هذا لا بأس به، ولاسيما إذا أحيل بجيد على رديء هذا لا شك أنه من الإرفاق وأنه إسقاط لبعض حقه، أما إذا أحيل برديء على جيد فهنا قد نتوقف في جواز ذلك لماذا؟ لأن المحال أخذ أكثر من حقه، ولأن الغالب أن المحيل لا يحيل برديء على جيد إلا من أجل إحراج وضغط فربما يكون الطالب المحال قد أحرج المطلوب المحيل وضغط عليه فأراد أن يتخلص منه، فقال: أنا أطلب فلان مائة صاع من البر وأنت تطلبني مائة صاع فأحلتك عليه، فهنا ربنا نتوقف فيما إذا أحال برديء على جيد، أما العكس فلا شك في جوازه. وقوله: «إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» من فوائده: أنه إذا أحيل على غير مليء فإنه لا يلزمه الإتباع لماذا؟ لأنه علق الحكم على وصف مناسب له، فإذا انتفى هذا الوصف الذي علق عليه الحكم وهو مناسب له انتفى الحكم ضرورة أن المعول يتبع العلة، والحكم تابع للعلة وجودا وعدماً، فإذا أحيل على غير مليء فهو بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل لأن الحق له. ومن فوائد الحديث: أنه لو كان المحال متصرفا لغيره فهل يجوز أن يحتال مع كون المحال عليه غير مليء أو لا يجوز؟ يعني: إنسان يتصرف لغيره كولي اليتيم، وكيل لشخص أحيل على غير مليء فهل يجوز أن يحتال أو لا؟ لا يجوز؛ وذلك لأن المتصرف لغيره لا يجوز أن يتصرف إلا بالتي هي أحسن لقول الله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء: 34] ومن المعلوم أنه إذا أحاله الغني على شخص غير مليء فليس هذا بأحسن بل هو إضرار. وعلى هذا فنقول: لو أحيل الوكيل بالدين على شخص غير مليء فإنه لا يجوز له أن يقبل، مثاله: وكلت شخصاً ليبيع لك سيارة فباعها على إنسان غني، فقال الغني الذي اشترى السيارة: أنا أحيلك على فلان يقول للوكيل، وكان فلان غير مليء فهل يجوز للوكيل في هذه الحال أن يقبل ويتحول؟ لا: لأنه يتصرف لغيره، والمتصرف لغيره يجب أن يكون تصرفه بما هو أحسن ولا يجوز أن يتصرف بما فيه الضررر، لو كان هذا الذي باع السيارة باعها لنفسه فهل يجوز أن يتحول على غير مليء؟ نعم يجوز،

ضمان دين الميت

في هذا الحديث: دليل على مراعاة الحقوق، وأن هذه الشريعة الإسلامية كاملة في مراعاة الحقوق فالأول: في القضاء الجملة الأولى: «مطل الغني ظلم» الثانية: في الاقتضاء منع حيلة، ففي الأولى مراعاة جانب القضاء وأنه يجب على الإنسان أن يقض الدين ولا يماطل، وفي الثانية مراعاة جانب الاقتضاء، وأنه ينبغي للإنسان أن يكون سهلا فيقتضي حقه إما ممن عليه الحق وإما ممن أحيل عليه، فالشريعة الإسلامية لكمالها تراعي الجانبين جانب القضاء وجانب الاقتضاء. ومن فوائد الحديث: أنه لابد من رضا المحيل المطلوب فلا يجبر على الإحالة، يؤخذ من قوله: «وإذا أتبع» وهذا يدل على أن الأمر موكل إلى المتبع وهو المحيل، وهل يشترط رضا المحال عليه؟ الجواب: لا، فلو أحال زيد عمرا على بكر، وقال بكر لزيد: أنا لا أقبل حوالة عمرو، لأن عمراً رجل صعب لا يمهل ولا يمهل، وأريد أن يكون صاحبي أنت يقول: المحال عليه للمحيل فهل يلزم المحيل قبول ذلك، أو نقول: لا يلزم؟ نقول: لا يلزم، فرضا المحال عليه ليس بشرط، ووجهه أن لصاحب الحق أن يستوفى الحق بنفسه وبمن يقوم مقامه، والمحال قائم مقام المحيل، فالمحيل يقول للمحال عليه، أد حقي وأنا لي أن أستوفي حقي بنفسي أو بمن يقوم مقامي، فهمنا الآن رضا المحيل لابد منه، أما رضا المحال عليه ليس بشرط بقينا برض المحتال إن كان المحال عليه معسراً غير مليئ اشترط رضاه؛ يعني: فقيراً أو مما طلاً فإنه يشترط رضا المحتال وإن كان مليئاً، فإن قلنا: إن لام الأمر في قوله: «فليحتل» للوجوب فإنه لا يشترط رضاه، وإن قلنا للاستحباب فإنه يشترط، فصار رض المحيل شرطاً لكل حال، رضا المحتال عليه إن كان على غير مليء اشترط رضاه، وإن كان على مليء إن كان الأمر في قوله: «فليحتل» للوجوب فلا يشترط رضاه، وإن قلنا: إنه للاستحباب اشترط رضاه. ضمان دين الميت: 839 - وعن جابر رضي الله عنه قال: «توفي رجل منن فغسلناه وحنطناه، وكفناه ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خطأ، ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حق الغريم وبريء منهما الميت؟ قال: نعم، فصلى عليه» رواه أحمد وأبو داود، والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم. قوله: «منا» يعني: من الأنصار، وقوله: «غسلناه» يعني: تغسيل الميت وصفته أن يغسل فرج الميت، ثم يغسل رأسه برغوة السد، وهو الورق المعروف يدق ويجعل في الماء، ويضرب

باليد حتى يكون له رغوة فتؤخذ رغوته فيغسل بها رأس الميت ولحيته دون السفل، لأن السفل لو غسل به الشعر لبقي فيه الشعر ودخل فيه فيغسل الرأس واللحية بالرغوة ثم يغسل بقية البدن بالسدر ويغسل ثلاثا أو خمساً أو سبعا أوتسعاً أو أكثر من ذلك، ما دام الميت محتاجاً إلى التنظيف. وقوله: «حنطناه» يعني: جعلنا فيه الطيب، وأحسن ما يكون الكافور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: «اجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً» وهو نوع من الطيب معروف يدق ويخلط في الماء في آخر غسلة، وله ثلاث فوائد: أولاً: أنه طيب، الثاني أنه يصلب البدن، والثالث أنه يطرح الهوام عن الميت لئلا تنال جسده بسوء، والمسألة كلها مؤقتة لابد من التغير إلا أن يشاء الله. «وكفناه» يعني: لففناه في كفنه وبقي أن يصلى عليه. قال: «ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: تصلي عليه» «تصلى» هذه جملة خبرية لكنها في الواقع طلبية، يعني: أنها إما بمعنى الأمر؛ أي: صل عليه، والأمر هنا بلا شك للالتماس؛ لأن مقام النبي صلى الله عليه وسلم أرفع من مقامهم وإذا وجه الطلب إلى من هو أربع من مقام الطالب سمي التماساً أو سؤالاً، ويحتمل أن تكون خبرية نزعت منها همزة الاستفهام، أي: أتصلي عليه؟ والمراد بالاستفهام هنا: العرض، يعني: يعرضون على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، وأيا كان فإنما جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الميت شفاعة له، وهو صلى الله عليه وسلم أعظم الشافعين قدرا عند الله. يقول: «فخطا» «خطا» يعني: تقدم ليصلي عليه، ثم قال «أعليه دين؟ » فقلنا: ديناران، «فانصرف» الديناران مبتدأ خبره محذوف، يعني: عليه ديناران، والديناران هما نقد الذهب لأن الند إن كان من الفضة سمي دراهم وإن كان ذهب سمي دنانير «فانصرف» أي لم يصل عليه وكان صلى الله عليه وسلم في أول الأمر إذا قدم إليه ميت للصلاة عليه وعليه دين لم يصل عليه لأن صلاته على الميت شفاعة ومن عليه دين لا تنفع فيه الشفاعة، لأن حق الآدمي لابد من وفائه ولهذا كانت الشهادة تكفر كل شيء إلا الدين، فيتأخر الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: «صلوا على صاحبكم» والحكمة من هذا: حث الناس على التقليل من الدين، وعدم الاستدانة لأن الإنسان إذا علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصل على هذا الرجل من أجل دينه وهو عليه دين فإنه سوف يتحرز تحرزاً شديداً من الاستدانة. يقول: «فتحملهما أبو قتادة فأتيناه» لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد انصرف فقال أبو قتادة: «أنا أتحملهما» رضي الله عنه وجزاه خيراً، فأتيناه فقال أبو قتادة: «الدينارات علي» وهذا ضمان للدين من أبي قتادة لصاحب الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حق الغريم وبرئ منهما الميت» «حق الغريم» هذا

مصدر مؤكد لمضمون الجملة الخبرية وهي قوله: «الديناران علي» كأنه قال: تلتزمهما التزام حق ثابت لا يتغير فقال أبو قتادة: نعم، فتضمن قوله رضي الله عنه تضمن التزاماً وإبراء التزاما على نفس وإبراء للميت، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وبرء منهما الميت، قال: نعم، فصلى عليه» وأصل الحديث في البخاري فالحديث صحيح. يستفاد من الحديث عدة فوائد: أولاً: أنه من المقرر عند المسلمين أن الميت يغسل لقوله: «غسلناه» وهذا التغسيل واجب فرض، لكنه فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، والدليل على فرضيته قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته في عرفة قال: «اغسلوه بماء وسدر» وقوله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثا أو خمساً ... إلخ» والأصل في الأمر الوجوب، وظاهر السنة أنه لا فرق بين أن يكون الميت نظيفاً أو غير نظيف حتى لو اغتسل قبل موته بدقائق، ثم مات، فإنه يجب أن يغسل، لأن الموت نفسه موجب الغسل. ومن فوائد الحديث أيضا: أنه قد تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم- مشروعية التحنيط لقوله: «وحنطماه» وليس التحنيط أن يطلي الميت بما يبقي بدنه، وإنما التحنيط أن يجعل فيه الطيب، ويدل على أن هذا أمر معتاد مشروع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذين خاطبهم في تغسيل الميت الذي مات في عرفة: «لا تحنطوه» وهذا يدل على أن من عاتهم تحنيط الميت. ومن فوائد الحديث أيضا: أن من المتقرر عند الصحابة الكفن، وتكفين الميت فرض لقول النبي صلى الله عليه وسلم «كفنوه في ثوبيه» والأصل في الأمر الوجوب فيجب أن يكفن يعني يغطى في ثوب يستر جميعه، ولهذا قال العلماء: إن الميت كله عورة يجب أن يكفن فإن لم يوجد ما يكفي وضع علي أوراق شجر، ولا يترك كما صنع الصحابة في مصعب بن عمير رضي الله عنه واستشهد في أحد وكان عليه بردة إن عطوا رأسه بدت رجلاه وإن غطوا رجليه بدا رأسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطي رأسه وأن يجعل على رجليه شيء من الإذخر ليسترهما. ومن فوائد الحديث: حرص الصحابة على أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم على موتاهم، ويتفرع علي هذا أنه ينبغي أن نحرص على أن يصلي على الميت من كان أقرب إلى الإجابة لإيمانه وروعه لأن الصحابة كانوا يتحرون ذلك، أي: أن يصلي على موتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أنه لا حرج أن يسأل الإنسان عن المانع، هل وجد أم لا، وذلك أن الأصل في الميت المسلم أن يصلي عليه ولا يسأل عن حاله، لكن لا بأس أن نسأل عن المانع

ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل عليه دين؟ فإن قلتم: إنه قد مر علينا أن نجري الأحكام على ظاهرها وألا نسأل عن المانع، ولهذا لو قال لك قائل: هلك هالك عن أبي وأم فكيف نقسم المال؟ هل تقول: الأب والأم مسلمان أو كافران أو لا يلزم؟ لا يلزم، لأن الأصل أنهما مسلمان، فلماذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أو كان يسأل هل عليه دين أفليس الأصل عدم الدين؟ الجواب: بلى، إذن ما الداعي للسؤال ما الداعي أن نبحث عن المانع الذي يمنع من الصلاة؟ والجواب عن هذا الإشكال وهو إشكال حقيقي واقع: أن الصحابة- رضي الله عنهم- يغلب عليهم الفقر، والاستدانة واردة، ولما كان الدين شأنه عظيم صار النبي صلى الله عليه وسلم يسأل هل عليه دين أم لا، هل يقاس على هذه المسألة ما إذا كان المشتهر عن هذا الرجل أنه لا يصلي وقدمت إلينا جنازته فهل نسأل هل كان يصلي أو لا؟ نعم القياس يقتضي هذا إذا علمنا أن هذا الرجل متهاون لا يصلي وهذا السؤال فيه شيء من الحرج، وفيه شيء من المنفعة، أما الشيء الذي من الحرج فإن فيه إحراجاً لأهل الميت، لأنهم لا شك سيحرجون إن كان لا يصلي فأخبروا بالصدق فهذه مصيبة، وإن أخبروا بالكذب فهذه أيضا مصيبة، فنقول: نعم، هذا لا شك أنه حرج وإحراج، لكن يترتب عليه مصالح عظيمة، يترتب عليه أن الذي يترك الصلاة سيحسب ألف حساب، ولأنه إذا علم أنه إذا مات سيسأل عن حاله ويفضح أمام الناس، ثم يحمل ويقال: لا نصلي عليه، ثم إن كان عندنا عزم وقدرة وقوة قلنا: ولا ندفنه في المقبرة بلي إذهبوا به بعيدا واحفروا له حفرة وأغمسوه فيها، الإنسان إذا علم أن هذا مآله في الدنيا والخزي في الآخرة أعظم فإنه ربما يرتدع عن ترك الصلاة فيكون في هذا فائدة عظيمة. على كل حال: هذا الحديث يدل على هذه الفائدة وهي أنه إذا كان المانع متوقعاً فلا بأس من السؤال عنه وإلا فإن الأولى ترك السؤال، لأن السؤال عن الموانع من باب التنطع الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم «هلك المتنطعون» لكن إذا كان المانع متوقعاً وكانت الفائدة كبيرة من معرفته فلا بأس من الاستفهام عنه. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي قصد من ترجى إجابته ليصلي على الميت، ويؤخذ من كون الصحابة يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي على جنائزهم؛ لأن الصلاة على الميت شفاعة له، ومن أقرب إلى الإجابة لصلاحه وتقواه كان أقرب إلى الشفاعة. ومنها: حسن أدب الصحابة في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لقولهم: «فصلى عليه» ولم يقولوا: صل عليه، وتصلي كما قلنا في الشرح- جملة خبرية لكنها إنشائية، إذ أنها على تقدير همزة الاستفهام أي: أتصلي عليه؟

ومن فوائد الحديث: أن ظاهره أن الجنائز تقدم في مكان يحتاج إلى مشي؛ لقوله: «فخطا خطوات» وكان الغالب في الجنائز في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنها يصلى عليها في مكان غير المسجد يسمى مصلى الجنائز، خاص بالصلاة على الجنائز ويصلى أحيانا على الأموات في المسجد عكس ما كان عليه الناس اليوم، فاليوم يصلي الناس على الجنائز في المساجد وليس لها أمكنة خاصة للصلاة عليها. ومن فوئد الحديث: جواز السؤال عن المانع إذا كانت الحال تقتضي وجوده لقوله: «أعليه دين؟ » فإن لم تقتض الحال وجود المانع فالسؤال عنه من التنطع، فمثلا إذا جاءنا رجل وقال: إنه طلق زوجته هل نسأله أطلقتها وهي حائض، أم نقول بصحة الطلاق بدون سؤال عن المانع؟ الثاني هو الأولى، لأن الأصل عدم وجود المانع إلا إذا كان في بيئة لا يعرفون أن طلاق الحائض حرام، فحينئذ نسأل هذا إذا قلنا بأن طلاق الحائض لا يقع، أما إذا قلنا بأن طلاق الحائض واقع فإنه لا حاجة إلى السؤال، لماذا؟ لأنه واقع بكل حال حتى وإن كانت حائضا. وهل نسأل عن فوات الشرط؟ يعني: قلنا وجود المانع لا نسأل عنه هل نسأل عن فوات الشرط أو لا؟ لا نسأل عن فوات الشرط، لأن الأصل وقوع الشيء على وجه صحيح، والدليل على هذا ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن قوما جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال: «سموا أنتم وكلوا» وفي هذا إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يسألوا لأن الذبح ليس من فعلهم فهم ليسوا مسئولين عن فعل غيرهم، وإنما يسألون عن فعلهم هم، ولهذا قال: سموا وكلوا، يعني: سموا على فعلكم وهو الأكل وأما الذبح الذي ليس من فعلكم فلا تسألوا عنه، إذن الأصل ألا نسأل عن فوات الشرط ولا وجود المانع إلا إذا اقتضت الحال ذلك فحينئذ لا بأس، كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم «أعليه دين». ومن فوائد هذا الحديث: تعظيم الدين، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يستدين إلا عند الضرورة الملحة، لأنه إذا كان الدين يمنع شفاعة الشافعين فهو خطير، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمتنع عن الصلاة على من عليه دين، لأن صلاته شفاعة، والدين لا تنفع معه الشفاعة حتى الاستشهاد وفي سبيل الله الذي يكفر جميع الأعمال لا يكفر الدين. ويتفرع على هذه الفائدة: بيان سفه بعض الناس الذين يستهينون بالديون وتجده يستدين لأدنى حاجة عنده سيارة تكفيه لشغله وزيادة لكنها من طراز قديم لها عشر سنوات، يعني: من

موديل ثمانين، قال: أنا أشتري موديل تسعين فيبيع هذه بثلاثة آلاف ويشتري بثلاثين ألفا وليس عنده من الثلاثين ألفا ولو ريالا إلا قيمة السيارة القديمة، هذا جعل وسفه وضلال، وإذا كان الله في القرآن لم يرشد إلا الاستدانة مع الحاجة التي تكون شبه ضرورة وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يتخلى من الدين، قال الله تعالى: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله} [النور: 33] ولم يقل: وليستدن الذين لا يجدون نكاحاً، وإنما قال: {وليستعفف} ولما قال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس عندي صداق أدفعه للمرأة لم يقل: استدن، بل قال: «ألتمس ولو خاتما من حديث» فلما لم يجد زوجه بما معه من القرآن. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإمام أن يدع الصلاة على من عليه دين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعض العلماء/ لا هذا من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم لأن صلاته شفاعة، وأجيب بأن صلاة غيره شفاعة أيضاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئاً غلا شفعهم الله فيه» والإمام مسؤل عن رعيته إذا امتنع من الصلاة على من عليه دين تعزيز له وكذلك تحذيرا من الدين كان ذلك مصلحة للرعية ومعلوم أن المصلحة قد يرتكب من أجلها مفسدة، لكنها دونها: يعني: أن المفسدة التي تحصل تنغمر في جانب المصلحة، فإذا رأى الإمام أو نائب الإمام ألا يصلي على من عليه دين فإن ذلك لا بأس به، وله أصل من هذا الحديث ومن فوائد الحديث: جواز ضمان دين الميت لقوله: «فتحملها أبو قتادة» فأقره النبي صلى الله عليه وسلم وإذا جاز ضمان دين الميت، فضمان دين الحي مثله، فيجوز للإنسان أن يضمن الدين عمن هو عليه، وهذا هو الشاهد من هذا الحديث، واختلف العلماء في جواز ضمان الدين المجهول، فقال بعض العلماء: إنه جائز وقال آخرون: إنه لا يجوز، مثال ذلك: أن يرى شخصا قد أمسكه الشرط يريدون حبسه بدين عليه فجاء هذا الرجل المحسن وقال: لدين عليه فجاء هذا الرجل المسحن وقال: الدين علي وهو لا يدري ما قدره، فقال بعض العلماء/ إن هذا الضمان ليس بصحيح لأنه مجهول، وقد يكون الدين كثيراً لم يخطر على بال الضامن ولو تبين لو قدره ما ضمنه فيكون في ذلك ضرر عظيم وربما يجحف بمال الضمان وربما لا يقدر عليه فيتعب به، ومن باب أولى أن يضمن ما يجب على غيره وقد مر علينا أنه يجوز ضمان ما يجب، يعني: بأن أقول: «كل من باع على فلان كذا وكذا فأنا ضامن» وسبق لنا أن المذهب جوازه، ولكن لو قيل بقول وسط في هذه المسألة وهو أن يحدد الضامن حدا أعلى فيقول: أنا ضامنه ما لم يتجاوز عشرة آلاف مثلا، فإنه

إذا حد الأعلى زال الخطر، لكن يقول: أنا ضامن ما عليه، وقد يكون عليه عشرة ملايين، وهو ما عنده إلا عشرة إلاف هذا صعب، فالقول الوسط في هذه المسألة: أنه يجوز ضمان الدين المجهول إذا حدد الضامن حدا أعلى حتى يكون على بينة من أمره. ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة أبي قتادة رضي الله عنه حيث أحسن إلى هذا الميت حتى صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا من فضائله فإنه ينبغي لنا أن نقتدي به وبأمثاله من أهل الخير وأن نفرج عن كرب المكروبين، فإن من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للقاضي وولي الأمر أن يستثبت من المقر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم «حق الغريم وبرئ منها الميت» فقال أبو قتادة: «نعم» وإنما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك من أجل أن يثبت الحق، وإذا فإن مقتضى الضمان أن يتحمل الضامن حق الغريم، ولكن أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يثبت الأمر فقال: «حق الغريم ... إلخ» فقال: نعم ومن فوائد الحديث: أن المضمون يبرأ بإبراء الضامن له لقوله: «وبرئ منهما الميت» وعلى هذا فلا يرجع أبو قتادة في هذا الحديث في تركة الميت بشيء لأنه التزم مع الميت وأبرأه فلا يرجع بشيء، فإن لم يبرأ الضامن المضمون عنه، بل فأن: أنا ضامن فقط فهل يبرأ بالمضمون عنه؟ الجواب: لا، بل يتعلق الحق بذمة الضامن وذمة المضمون عنه، ويكون لصاحب الحق في استيفاء حقه جهتان جهة: من جهة المضمون عنه، وجهة: من جهة الضامن، فله أن يطالب الضامن وله أن يطالب المضمون، ويذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يحق له أن يطالب الضامن إلا إذا تعذر عليه مطالبة المضمون، وبناء على هذا القول لو جاء الغريم إلى الضامن، وقل: أوف، فله أن يقول: أذهب إلى المضمون عنه، فإذا أبى أن يوفيك فأنا أوفيك، وعلى القول الأول هل يملك الضامن هذا؟ لا، القول الأول أن للغريم مطالبة الضامن والمضمون عنه، على هذا القول إذا جاء الغريم للضامن وقال أعطني ما ضمنت، فليس له الحق أن يقول: أذهب إليه فإن أبي فأتني، ولكن لو شرط الضامن أنه لا يدفع الدين إلا إذا تعذر استفاؤه من المدين ورضي الغريم بذلك فإن المسلمين على شروطهم، ويكون هذا القول قولاً وسطاً بمعنى أن له الحق أن يرجع على الضامن ما لم يشترط أنه لا يرجع عليه أو لا يستوفي منه إلا إذا تعذر الاستيفاء من المضمون عنه. ومن فوائد الحديث: أن المضمون عنه يبرأ براءة كاملة إذا التزم الضامن ذلك وأبرأ المضمون عنه، ووجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «نعم» ولولا أنه يبرأ ما صلى عليه؛ لأنه إذا لم

يبرأ فقد تعلق الدين بذمته، وإذا كان الدين متعلقا بذمته لم يكن هناك فرق بين الحال الأولى التي قبل الضمان عنه والحال الثانية التي بعد الضمان عنه، وهذا القول هو الصحيح أنه إذا تحمل أحد الدين عن الميت على وجه يبرأ به الميت ورضي الغريم فإنه يبرأ الميت براءة تامة، وعلى هذا فلا تتعلق نفسه بدينه كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» فإذا ذهب الورثة إلى غريم لأبيهم وقالوا: إن الدين الذي لك على أبينا نحن نلتزمه ونبرئ الميت منه فرضي بذلك الغريم فإن الميت يبرأ براءة كاملة، وكذلك إذا وثق حق الغريم برهن فإنه يبرأ الميت براءة كاملة، ولا تتعلق نفسه بدينه، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة بدين عليه عند يهودي، ومن المعلوم أننا لا نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم معلقة نفسه بدينه بل خرج من الدنيا ولم يطلبه أحد- صلوات الله وسلامه عليه- لأنه قد وثق الدين بالرهن بالدرع التي رهنها عند الغريم. ومن فوائد الحديث: الاكتفاء بالجوار ب «نعم» لقوله: «نعم» وعلى هذا فلو قيل لشخص: أعتقت عبدك؟ قال: نعم، فيعتق، طلقت زوجتك؟ قال: نعم طلقت قال ولي المرأة: زوجتك بنتي فقيل له: أقبلت؟ قال: نعم، ينعقد النكاح، أفي ذمتك لفلان مائة درهم؟ قال: نعم، يثبت، المهم أن «نعم» تقوم مقام الجواب، بل هي حرف جواب، وقد قيل: إن السؤال معاد في الجواب، فإذا قيل: أعليك كذا؟ قال: نعم، فالتقدير: على كذا. 840 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه» متفق عليه. وفي رواية للبخاري: «فمن مات ولم يترك وفاء» قوله: «يؤتى بالرجل» يعني: يأتي أهل الميت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: «المتوفى» هذا هو الصواب في نطقها، ولا تقل: «المتوفى» وتقول: «توفي زيد» ولا تقل: توفي، وذلك لأن الميت متوفى وليس متوفياً، قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 42] وقال الله تعالى: {قال يتوفاكم ملك الموت} [السجدة: 11] إذن ما تسمعه من بعض الناس من قولهم: «توفي فلان» فهو خطأ من حيث اللغة العربية. «يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين» الجملة هذه حالية من «الرجل» أو نائب فاعل «يتوفى»

يجوز هذا وهذا، «فيسأل» يعني: النبي صلى الله عليه وسلم «هل ترك لدينه من قضاء؟ إلخ» يقول: «فيسال هل ترك لدينه من قضاء؟ » وفي حديث أبي قتادة السابق لم يسأل هل ترك لدينه من قضاء، فإما أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة لمن عليهم الدين صار له ثلاث حالات: حال لا يسال، وحال يسأل وحال يقضي الدين، وإما أن يقال: إن حديث أبي قتادة رضي الله عنه قد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم علم من حال الرجل أنه ليس عنده شيء كان فقيراً يحتمل أن عليه ديناً أم لا، ولهذا سأل هل عليه دين، يعني: كأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفه لكن لا يدري هل عليه دين أم لا فسال، وإذا كان كذلك لم يكن هناك فرق بين حديث أبي هريرة وحديث جابر رضي الله عنه، يقول: «هل ترك لدينه من قضاء؟ » فإن حدث أنه ترك وفائ صلى عليه، وذلك لأن حق الغريم صار مضمونا بما ترك الميت من قضاء فيصلي عليه، وإلا يعني إذا قال ما عنده شيء قال: صلوا على صاحبكم، وهل قضاء الدين مقدم على الوصية؟ الجواب: نعم، وهل هو مقدم على الميراث؟ الجواب: نعم أما تقديمه على الميراث فبنص القرآن، فإن الله تعالى لما ذكر المواريث قال: {من بعد وصية يوصين بها أودين} [النساء: 11] لكن كيف نقول: إن الدين مقدم على الوصية مع أن لوصية مقدمة على الدين في الذكر: {من بعد وصية يوصي بها أودين} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «ابدأ فيما بدأ الله به» ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم؟ فالجواب: أنه قد صح من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، والمعنى يقتضي ذلك، لأن الدين واجب، والوصية تبرع ليست بواجبة، ولكن قدم ذكر الوصية على الدين من أجل العناية بمراعاتها؛ لأنه لما كانت الوصية تبرعاً فإن من المتوقع أن يتهاون الورثة بها فجبرت بالتقديم، أما الدين فإنهم لم يتهاونوا به ولو تهاونوا به، لوجد من يطالب به، فمن أجل ذلك قدمت الوصية جبراً لما قد يحصل عليها من التفويت والإخلال، ويقول: «فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم» لما فتحت عليه الفتوحات وكثر المال عنده، ولاسيما من بعد صلح الحديبية لأنه بعد صلح الحديبية فتح الله على رسول صلى الله عليه وسلم فتح عليه خيب، وكان الناس بالأول أجياعا حتى فتحت خيبر فشبعوا وكذلك كانت غزوة حنين حصل فيها مغانم كثيرة لما فتحت الفتوحات قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم» إذا كان هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وجب أن يقدموه على أنفسهم، معناه: أني أراعي أنفسهم، إذا كان هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وجب أن يقدموه على أنفسهم، معناه: أني أراعي أنفسهم أكثر مما يراعونها كل إنسان يراعي نفسه، لكن رعاية النبي صلى لله عليه وسلم لنا أكثر من رعايتنا لأنفسنا: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] وهذا وجب علينا أن نقدم محبته على محبة أنفسنا، وأن نفديه بأنفسنا، وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا وكل أحد، قال: «فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه» لكن دين له وفاء أو ليس له وفاء؟ ليس له وفاء.

وفي رواية: «من مات ولم يترك وفاء فعلي قضاؤه» وقد ورد غب نفس الحديث أن من ترك ضياعاً- يعني: عقارات ومالاً- فلورثته، فكان صلى الله عليه وسلم يجبر ولا يجبر كيف ذلك؟ يعني: يقضي الدين ولا يأخذ التركة، إذا مات أحد وعنده تركة لا يأخذها بل تكون لورثته، وإن مات أحد عليه دين وليس له تركة فإنه يقضيه. قال: «هل ترك لدينه»، الدين: كل ما ثبت في الذمة سواء كان ثمن مبيع أو أجرة أم قرضاً أم صداقاً أم ضماناً لمتلف أم غير ذلك، كل ما ثبت في الذمة فهو دين عند العلماء، خلافاً لما يفهمه العامة الآن من أن الدين هو التورق، يعني: أن يبيع الإنسان على شخص شيئاً بثمن مؤجل أكثر من ثمنه حاضراً، ويسمى الدين والوعد والتورق وما أشبه ذلك، لكن الدين في الشرع أعم من ذلك كل ما ثبت في الذمة من ثمن مبيع، أو أجرة، أو قرض أو ضمان أو صداق أو خلع أي شيء يثبت في الذمة فهو دين. يقول: «هل ترك لدينه من قضاء؟ » «من» حرف جر زائد لفظاً، لكن له معنى، ولهذا نقول: «من قضاء» مفعول «ترك» منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، «من قضاء» أي: من شيء يقضي منه الدين، «فإن حدث» يعني: يحدث أنه ترك وفاء قال: «صلوا على صاحبكم» والجملة هنا شرطية حذف منها فعل الشرط، وأما أداة الشرط فلم تحذف لكنها أدغمت ب «لا» وتقدير الكلام: وإن لم يحدث أنه ترك وفاء، أما جواب الشرط فهو قوله: قال: صلوا «وإلا قال: صلوا على صاحبكم» يعني: على من أتيتم بصحبته وهو هذا المتوفى سواء كان صاحبا له في الدنيا أم لم يكن؛ لأنهم الآن حين جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه أصحاب له. «فلما فتح الله عليه الفتوح» «الفتوح» جمع فتح، والمراد بذلك: البلاد التي فتحها الله عليه، ولاسيما مثل خيبر، فإن المسلمين غنموا فيها مغانم كثيرة، وكذلك غزوة حنين غنموا فيها مغانم كثيرة، «لما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم» يعني: أنا أوثق ولاية من المؤمنين بأنفسهم، كل ولي نفسه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالإنسان من نفسه إذا كان مؤمنا فإذا كان المؤمنون بعضهم أولياء بعض فالنبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس إيماناً وأقواهم، فيكون صلى الله عليه وسلم هو أولى المؤمنين بالمؤمنين، ولهذا قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم». «فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه» فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم ضامناً لديون من مات وليس له وفاء

وفي رواية للبخاري: «فمن مات ولم يترك وفاء فعلي قضاؤه» فإن ترك وفاء فإنه يوفي ما تركته؛ لأن حق الورثة لا يرد إلا بعد الدين والوصية كما مر. في هذا الحديث فوائد: أولاً: مشروعية إحضار الميت لم يرجى قبول دعوته ليصلي عليه، الدليل: أن الصحابة كانوا يأتون بموتاهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه. يتفرع على هذا فائدة أخرى وهي: أنه ينبغي أن يؤتي بالميت إلى المسجد الذي يكون أكثر جماعة؛ لأن ذلك أقرب للشفاعة فإن من مات وقام على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً شفعهم الله فيه، وربما يؤخذ منه جواز التأخير لكثرة الجمع؛ لأن الذين يأتون بالميت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لو أنهم صلوا عليه في أمكنتهم ودفنوه لكان أسرع، لكن يأتون به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رجاء الشفاعة، فإذا كان التأخير يسيراً لكثرة الجمع فلا بأس به، وأما التأخير الكثير الذي أصبح الناس اليوم يتباهون به يموت الإنسان اليوم يكون له أقارب في بلاد بعيدة قد يكون حتى في بلاد أوربية فينتظرون به حتى يحضر أقاربه، فهذا خلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإسراع بالجنازة، وخلاف ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله» وهو أيضا جناية على الميت، لكن الناس لا يشعرون كيف يكون جناية على الميت؟ لأن الميت إذا كان صالحاً فإن نفسه تقول: قدموني قدموني، تطلب أن توصل إلى القبر الذي فيه النعيم يفتح له باب من الجنة يأتيها من روحها ونعيمها حتى ينسى الدنيا كلها؛ لأنه ينتقل إلى نعيم أعظم بكثير من نعم الدنيا: {الذين توفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم دخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل: 32] ادخلوا الجنة اليوم لأنه إذا فتح له باب إلى الجنة وآتاه من روحها ونعيمها فإنه لا شك يوقن أنه في الجنة فكوننا نؤخر الجنازة من أجل حضور فلان كأنما هي فرح وعرس يؤخر حتى يحضر الناس، لا شك أن هذا خلاف السنة وفيه جناية على الميت، أما التأخير اليسير كانتظار الظهر إذا مات بالصبح، أو انتظار الفجر إذا مات بالليل هذا لا بأس به ولا يضر إن شاء الله، لكن تأخيره يوم يومين إلى حد أنهم أحيانا يضعونه في الثلاجة، لأنه سيبقى مدة يومين أو ثلاثة فلا شك أن هذا خطأ، والواجب على طلبة العلم أن يبينوا للعامة أن هذا خلاف السنة، حتى لا يتخذوا ذلك سنة وعادة، لأن الناس إذا ارتكبوا الشيء صعب أن يتحولوا عنه، لكن إذا بين لهم أن هذا من الخطأ تركوه، وحتى الذي قد فعله أو يحدث نفسه بالفعل يرتدع.

ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لقوله: «فيسال هل ترك لدينه من قضاء؟ » إذ لو كان يعلم الغيب لم يسأل، وهذا الأمر واضح، فإن الله أمر أن يبلغ، فقال الله له: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إن ملك} [الأنعام: 50] فهو لا يعلم الغيب- عليه الصلاة والسلام- لا في حياته ولا في مماته، وإن كان قد تعرض عليه أعمال أمته، لكن هذا ليس علماً بالغيب بل هذا يوصل إليه ويبلغ به كما كان يبلغ به في حياته. ومن فوائد الحديث: قبول خبر الواحد لقوله: «فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه» كلمة «حدث» مبني للمجهول يصلح أن يكون الذي حدثه واحداً، أو أكثر، لكن نحن نعلم أنه إذا لم يكن للميت إلا ولي واحد فإنه لن يعلم بحاله إلا واحد، أما إذا كان له أولياء متعددون فإنهم يعلمون بحاله، فالظاهر أنه يؤخذ من هذا قبول خبر الواحد، لكن فيما لم يكن فيه نزاع، أما إذا كان فيه نزاع فإنه يوكل إلى الحاكم الشرعي ويقضي فيه بما تقتضيه الأدلة. ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصلي على من عليه دين لا وفاء له لقوله: «فإن حدث ... إلخ» وإن لم يوف لماذا؟ لأن حق الغريم صار مضمونا بما تركه من الوفاء، فإن الورثة ليس لهم سلطان على التركة إلا بعد قضاء الدين لقوله تعالى في آيات المواريث {من بعد وصية يوصي بها أودين} فلو مات ميت وخلف مليوناً من الدراهم وخلف ابنا وبنتا وعليه مليوناً من الدراهم ديناً فليس للابن والبنت شيء من هذا المليون الذي تركه أبوهما، لماذا؟ لأنه لا حق للوارث إلا بعد قضاء الدين، ولهذا إذا قيل: إن خلف وفاء صلى عليه. ومن فوائد الحديث: وجوب الصلاة على الميت لقوله: «وإلا قال: صلوا على صاحبكم والأمر للوجوب». ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لمن له شأن في البلد إذا مات ميت عليه دين لا وفاء له ألا يصلي عليه، وأن يبين سبب ذلك، فيقول مثلا: هل عليه دين؟ إذا قالوا: نعم، قال: هل له وفاء فإذا قالوا: لا قال: إذن صلوا عليه؛ لأن في ذلك فائدتين: الفائدة الأولى: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله يقول: {لقد كان لكم في رسول الله أسوى حسنة} [الأحزاب: 21] الفائدة الثانية: أن ذلك أدعى إلى حذر الناس من الدين وهيبثهم منه، لاسيما في وقتنا الحاضر حيث استهان الناس بالديون، وصار الرجل يستدين الألف والألفين، وكأنما استدان درهما أو درهمين، ولا يبالى ثم إن من الناس من يستدين لأمور كمالية، بل يستدين لأمور إسرافية، يسرف رجل فقير لا يملك إلا مائة ريال، بنى قصراً يبنيه من يملك مليون ريال قال: أبني قصراً مثل فلان، لو أبني بيتاً قال الناس، هذا مسكين فقير قال: لا أنا أريد أن أبني قصراً مشيداً والسيارة عنده سيارة صغيرة على قدر

حاله لكن قال: لا أنا أشتري «بيوك» مثل الأغنياء هذا مسرف، لأنه أخذ بأكثر من الكمال بلغني أيضاً عن إنسان أنه اشترى فراشاً لدرجه وتدين دينا عشرين ألفا هذا سفه، فالحاص: أن الإنسان إذا كان له شأن في البلد كالقاضي والأمير وما أشبهها وامتنع عن الصلاة على من عليه دين لا وفاء له حذر الناس من الدين وهابوه ورأوا أنه عظيم. ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكرم الخلف؛ لأنه لما فتح الله عليه الفتوح قال: «أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم» وصار يقضي الديون عن المدينين، وهل هذا من خلقه أم من ولايته؟ قال بعض أهل العلم: إن هذا من خلقه، وخلقه الكرم صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك فلا يلزم ولي الأمر أن يقضي الديون من بيت المال؛ لأن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فعله لمقتضى خلقه الكريم لا أنه تشريع للأمة، وقال بعض أهل العلم: بل هو تشريع للأمة ومن خلقه وبناء على هذا يجب على ولي الأمر أن يقضي ديون من لا وفاء لهم من بيت المال، وهذا القول هو الصحيح، وأنه يجب على ولي الأمر أن يقضي ديون الأموات الذين ماتوا وليس لهم وفاء، هذا إن تحمل بيت المال ذلك، أما إذا كان بيت المال لا يقوم بمصالح المسلمين كلها، فمعلوم أن المصالح العامة أولى من المصالح الخاصة، لو كان بيت المال لا يتسع لأرزاق المدرسين وأرزاق الأطباء وأرزاق الأئمة والمؤذنين، وإصلاح الطرق وما أشبه ذلك، فمعلوم أن هذا المصالح أولى من المصالح الخاصة؛ لأن نفع هذه متعد وقضاء الدين نفعه قاصر. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز قضاء دين الميت من الزكاة، وأنه لو مات أحد وعليه دين فإنه لا يحل أن نقضي دينه من الزكاة، وأنه لو مات أحد وعليه دين فإنه لا يحل أن نقي دينه من الزكاة، وعلى هذا جمهور أهل العلم، بل حكاه انب عبد البر وأبو عبيدة القاسم بن سلام حكياه إجماعاً، أي: العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز قضاء الدين من الزكاة عن الميت إذا لم يخلف وفاء؛ لأن الله تعالى جعل الدين في تركته فقال: {من بعد وصية يوصي بها أودين} وإذا كان في التركة ولم يوجد تركة فإنه لا يوفي؟ ودليل آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يوفي الدين من الزكاة؛ لأنه من المعلوم أن الزكاة مشروعية في السنة الثانية من الهجرة ولم يكن يقضي الدين منها، بل لما فتحت الفتوحات قضي الدين قد يقول قائل: لعل الزكاة قبل فتح الفتوح لا تفي بحاجات الأحياء، ومن المعلوم أن حاجات الأحياء مقدمة على حاجات الأموات، وهذا لا شك أنه احتمال وارد ولكن الواقع بخلافه، فإن من المعروف أن للزكاة إبلاً لها راعي كما في قصة العرنيين الذين أخرجهم الرسول صلى الله عليه وسلم لإبل

الكفالة

الصدقة، وكما ثبت أنه كان يسم إبل الصدقة، وكذلك الطعام عند أبي هريرة في زكاة الفطر يكون كثيراً، فهذا الاحتمال يضعفه من الحال الواقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز قضاء دين الميت من الزكاة، وممن ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وحكاه وجها في مذهب أحمد، والوجه ليس عن الإمام أحمد إذا قيل في المذهب فهو عن أكابر أصحاب الإمام، أما الرواية فهي عن الإمام والقول يحتمل الوجه والرواية، ولكن ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة ضعيف، وهذا إحدى المسائل التي لا أختار فيها ما اختاره شيخ الإسلام، ومر علينا قبل يومين مسألة ثانية وهي الجمع بين الأختين من الرضاعة فإن الشيخ يرى جوازه والصحيح خلافه، على كل حال: هذا الحديث يدل على أنه لا يقضي دين الميت من الزكاة، اللهم إلا لو لم نجد من أهل الزكاة الأحياء فحينئذ قد نقول بجواز قضاء الدين عن الميت من الزكاة. ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم: وإذا كان أولى بنا من أنفسنا وجب علينا أن نحبه أكثر من أنفسنا؛ لأنه إذا جعل ولايته لنا أشد وأقوى من ولاية أنفسنا لأنفسنا، فإن الواجب أن نكافئه ببعض حقه، وأن نجعل محبته صلى الله عليه وسلم أشد من محبتنا لأنفسنا، وهذا هو الواجب، ولا يتم الإيمان إلا به: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» حتى من نفس الإنسان. ومن فوائد الحديث- وهو الذي ساقه المؤلف من أجله-: جواز ضمان الدين عن الميت لقوله: «فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه» وكلمة «علي» هل التزام أو تشريع؟ سبقت الإشارة إلى ذلك، إن قلنا: إنه قالها لمقتضي الكرم فهي التزام، يعني: أنه تكرم وضمن، وإن قلنا: إنها تشريع فإنها تشريع يعني: يخبر خبرا بأن على الإمام الذي يتولى أمور المسلمين أن يقضي ديون أمواتهم وهذا هو الصحيح. الكفالة: 841 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا كفالة في حد» رواه البيهقي بإسناد ضعيف. هذا كفالة، والأول ضمان، والفرق بين الكفالة والضمان أن الضمان ضمان الحق، والكفالة

ضمان إحضار صاحب الحق، فالكفالة للبدن والضمان للحق، ويظهر الفرق بينهما في مثالين المثال الأول: رجل ضمن فلاناً بألف درهم مؤجلة إلى سنة فلما حل الأجل جاء الغريم للضامن يطلب حقه، فقال الضامن: دونك المضمون خذ حقك منه، يقول: لا، ما أريد المضمون أنا أريدك أنت، يلزمه بهذا؟ نعم، الغريم يلزمه؛ لأن الضمان وارد عن الحق الذي عليه، هذا مثال. مثال آخر: رجل أقرض شخصا مائة ردهم فجاء إنسان آخر فكفله كفل الرجل، وهذا الدين لنفرض أنه مؤجل إلى سنة لما حل الأجل أتى الغريم إلى الكفيل، وقال: أعطني الدراهم التي كفلت صاحبها فقال دونك المكفول هل يبرأ الكفيل؟ نعم يبرأ، لأن الكفيل إنما التزم إحضار بدون المكفول ولم يتحمل الدين الذي عليه، فإذا أحضره برئ منه، سواء أوفى أو لم يوف، فهذا هو الفرق بين الضمان والكفالة، والكفالة كفالة من يمكن استيفاء حقه من الكفيل جائزة، كل حق يمكن استيفاؤه من الكفيل فالكفالة فيه جائزة، وكل حق لا يمكن استيفاؤه من الكفيل فإن الكفالة فيه ليست جائزة فإذا كفل شخصاً بدين يجوز أم لا؟ يجوز، لأنه لو تعذر استيفاؤه من المكفول أخذ من الكفيل، مثلا لو فرضنا أن المكفول ما حضر عند حضور الأجل فيؤخذ من الكفيل، لو كفل شخصا بحد رجل سارق أمسكناه وثبت عليه القطع، ولكن قال: أمهلوني حتى أذهب أزور أهلي وأرجع، فقلنا: ما نأمن أن تهرب، فقال رجل فقال: أنا كفيله، هل تصح هذه الكفالة؟ نقول: لا تصح، لأنه لا يمكن استيفاء الحق من الكفيل، يعني: لو تغيب المكفول الآن ما يمكن أن نقطع يد الكفيل، لأنه حد، ولو قلنا: إنها تقطع يده لزم أن تقيم الحد على من لم يجرم، وقد قال الله تعالى: {ولا تزر وازرة وز أخرى} [الأنعام: 164] وهذا هو ما دل عليه هذا الحديث مع ضعفه بناء على القاعدة التي ذكرنا وهي أن من كفل شخصا بحق يمكن استيفاؤه من الكفيل لو تعذر إحضار المكفول فالكفالة جائزة، وإن لم يمكن فالكفالة غير جائزة، لو كفل شخصا بقصاص، يعني: شخص وجب عليه القصاص فقال: زروني أذهب إلى أهلي وأوصي وأسلم عليهم وأرجع إليكم واصنعوا ما شئتم، فقلنا: لا نأمن أن تهرب، فقام رجل فقال: أنا كفيله يصح أو لا يصح؟ لا يصح، لأنه لو تعذر إحضاره لم يقتص من هذا. فإن قال قائل: إذا تعذر القصاص فالدية، الحد معروف أنه ليس فيه بدل لكن القصاص فيه بدل. فالجواب عن هذا أن يقال: إذا كانت الكفالة في القصاص فقط دون البدل فإنها لا تصح، وإن كانت في القصاص أو بدله؛ أي: أنه كفل موجب هذه الجناية فالكفالة صحيحة، لأنه إذا تعذر القصاص وجبت الدية.

9 - باب الشركة والوكالة

تنازع رجل وزوجته عند القاضي فحكم القاضي بأن تسلم المرأة نفسها إلى زوجها فوراً، فقالت: ذروني أخبر والدي، فقلنا: نخشى أن تهربي، قال رجل: أنا أكفلها ما تقولون؟ لا يصح، لماذا؛ لأنه لا يمكن استيفاء الحق من الكفيل لو تعذر إحضار المرأة، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الكفالة في هذه الأمور، وقال: إنه لا يلزم من الكفالة أن يقوم الكفيل بأداء الحق الواجب على المكفول، إذ أن المقصود أن نلزم الكفيل بإحضار المكفول، فبدلاً من أن نتعب بطلب من وجب عليه القصاص وإحضاره نلزم الكفيل، لكن لو تعذر ومات المكفول فإننا لا نجري الحق على الكفيل، فالكفالة هذه فيها فائدة، ولا يلزم منها أن يؤخذ الحق من الكفيل، وما فائدتها إذن؟ أن نلزم الكفيل بإحضار بدن المكفول، بدلاً من أن نتعب نحن نلزمه هو، قالوا: وهذا يجري كثيراً في مشائخ القبائل: يعني: يجب علي بعض أفراد القبيلة حد فيقول: أمهلوني يوما أو يمين حتى أنظر في أمري، نقول: من يكفلك؟ يقول: شيخ القبيلة، جرت العادة أن شيخ القبيلة يستطيع إحضار بدن الكفيل ما دام على الدنيا؛ لأنه شيخ عندهم مثل السلطان فهذا فيه فائدة، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أنه تجوز الكفالة في الحدود لا أن تقام الحدود على من كفل، لكنه يلزم بإحضار بدن الكفول فيكون التعب والطلب على الكفيل، ثم إن فيه أيضا فائدة أخرى وهي اطمئنان من له الحق في مسألة القصاص، مثلاً يطمئن إذا علم أن هذا الرجل الذي له سلطة قد كفل إحضار هذا الرجل الذي عليه القصاص اطمأن، وهذا القول أصلح، لأن الحديث الوارد ضعيف كما رأيتم والكفالة في الحدود والقصاص وشبهها من الحقوق فيها مصالح، ومن المصالح أن الذي عليه الحق وهو المكفول إذا علم أن فلاناً كافله ولاسيما إذا كان من مشائخ قبيلته فإنه لا يمكن أن يهين كفالته يصعب عليهم، عندهم عادات يصعب عليه إهدار كرامته فيذله، فيحضر هو بنفسه المكفول خوفاً من إهانة الكفيل. 9 - باب الشركة والوكالة يقال: الشركة، ويقال: الشركة، ويقال: الشركة؛ أي بوزن سرقة وثمرة ونعمة فوزن سرقة شركة، ووزن نعمة شركة، وهي في اللغة: الاختلاط اختلاط، شخصين في شيء، ومنه قوله تعالى: وإن كثير من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض} [ص: 24] أي: من الشركاء، وأما في الاصطلاح: فهي اجتماع في استحقاق أو تصرف، يعني: أن يجتمع شخصان في شيء مستحق لهما، أو يجتمع شخصان في تصرف بينهما، وتسمى الأولى شركة أملاك، والثانية شركة عقود، مثال الأولى: ورث ابنان بيتاً من أبيهما، الاجتماع بينهما هو اجتماع في استحقاق استحقا ملكية هذا

البيت، اجتماع في تصرف أعطى شخص ماله عاملاً يعمل فيه بنصف الربح وهي المضاربة، هذه اجتماع في تصرف ليس بينهما مالك مسبق اجتمعا ولكن صار الملك بينهما بسبب العقد الجاري بينهما، أما الوكالة فهي تفويض الشخص غيره في تصرف بملكه مثل أن أقول لشخص: وكلتك أن تشتري لي كذا وكذا، فأنا فوضته في تصرف أملكه، وهو البيع، وهو أيضا يملكه، فإن وكلته في شيء لا يملكه بل هو مطلوب من الموكل نفسه فإن الوكالة لا تصح، فلو وكلت شخصا أن يصلي عني فإن الوكالة لا تصح، لماذ؟ لأن هذا يتعلق بعين الشخص لا تدخله الوكالة. الشركة والوكالة كلاهما جائزان فأن الله تعالى قال: {ضر الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا} [الزمر: 29] فأثبت الشركة في الرجل، وأما الوكالة فهي أيضا ثبتت بها السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وسيذكرها المؤلف. 842 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت من بينهما» رواه أبو داود وصححه الحاكم هذا الحديث يسميه أهل الحديث: «الحديث القدسي» وهو حديث بين الحديث النبوي وبين القرآن الكريم، لا يلحق بالقرآن الكريم، وهو فوق مرتبة الحديث النبوي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسنده إلى الله إسناداً صريحاً، فقال: «قال الله» لكنه ليس كالقرآن الكريم؛ لأن القرآن معجز بلفظه ومعناه، متعبد بتلاوته، يقرؤه الإنسان في الصلاة وخارج الصلاة؛ لا يقرأه الجنب لا تقرأه الحائض عند أكثر أهل العلم ولا يمس صحيفته إلا طاهر ولا يجوز بيعه عند بعض أهل العلم، حتى قال ابن عمر: وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصحف، فله أحكام كثيرة لا يساويه فيها الحديث القدسي؛ لأن القرآن الكريم كلام الله عز وجل لفظاً ومعنى، والحديث القدسي ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه رواية، لكنه قاله من لفظه تعبيرا وليس من كلام الله لفظاً وإلا لكان معجزا لأنه لو كان من كلام الله لفظاً لكان صفة من صفات الله، وصفات الله تعالى لا يمكن لمخلوق أن يأتي بمثله، وهذا هو وجه الإعجاز في القرآن الكريم. ولكن قد يقول قائل: كيف يقول الرسول: «قال الله تعالى» وتقول أنت: ليس من لفظ الله؟ فنقول في الجواب عن هذا: إن القول قد يضاف إلى القائل وإن كان لم يتكلم به، وإنما جواب عن هذا: إن القول قد يضاف إلى القائل وإن كان لم يتكلم به، وإنما

تكلم بمعناه، والدليل على هذا ما حكه الله عز وجل عن الرسل السابقين، وعن أقوامهم فإن الله يقول: {وإذ قال موسى ... }، {وقال نوح رب لا تذر على الأرض} [نوح: 33] ومن المعلوم أن نوحاً لم يقل هذا اللفظ؛ لأن لغة نوح غير عربية، ولأنه لو كان هذا هو لفظ نوح لكان معجزاً لأن هذا اللفظ معجز، بل هذا اللفظ كلام الله نقله عن نوح بمعناه، كذلك قول فرعون للسحرة ولموسى ولومه وكذلك محاورتهم له، كل هذا إنما نقل بالمعنى، ومع ذلك يضيفه الله إليهم صراحة، فهكذا الحديث القدسي؛ ولأنه لو كان الحديث القدسي كلام الله لفظاً لوجب أن يساوي القرآن في أحكامه، لماذا؟ لأن الشريعة لا تفوق بين متماثلين ولو كان لفظ الرب عز وجل لكان كالقرآن سواء، ثم نقول أيضا: لو كان كلام الله لفظاً لكان أعلى سنداً من القرآن، لأن القرآن نزل بواسطة من نزل به؟ جبريل، والحديث القدسي ينسبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه بدون واسطة يقول: «قال الله» فإذا قال قائل: يمكن أن يقول: «قال الله» وهو بواسطة جبريل، نقول: الأصل أن ما أضافه الرسول إلى ربه مباشرة بدون ذكر الواسطة أنه من الله إلى الرسول، ولهذا لو أن رجلاً من الثقات الذين لا يعرفون بالتدليس قال: قال كذا وكذا ثم أسند الحديث، هل يحمل كلامه على أنه دلس وأسقط رجلا بينه وبين من روى عنه؟ لا، لكن لو رواه المدلس لكان يحتمل سقوط راو بينه وبين من أسند الحديث إليه، والمدلس إذا لم يصرح بالتحديث فإن حديثه محمول على الانقطاع على أن بينه وبين من روى عنه رجلا أسقطه، وغير المدلس إذا قال: قال فلان يحمل على الاتصال وأنه ليس بينهما أحد، ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يكون مدلساً، فإذا قال: «قال الله» فهو بدون واسطة. على كل حال: هذا الحديث يقول الله عز وجل: «أنا ثالث الشريكين» ولم يقل: ثاني الشريكين، لأن القاعدة في اللغة العربية أنه إذا كان ثالث الاثنين من غير الجنس فإنه لا يذكر بلفظ مطابق، وإذا كان من الجنس فإنه يذكر بلفظ مطابق، ولنضرب مثلاً في غير هذا الحديث، لو قيل: فلان رابع أربعة ماذا يكون؟ من جنسه ولو قيل: رابع ثلاثة صار من غير جنسه، ولهذا قال الله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة/7] ولم يقل: إلا هو ثالثهم وقال عن النصاري: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] ولم يقل ثالث اثنين، لماذا؟ لأنهم يجعلون الله ومريم وعيسى سواء، يجعلون الكل جنساً واحداً، وقال تعالى: {وإذا أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين} [التوبة: 40] لماذا قال ذلك؟ لأنهم من جنس واحد، فهنا قال: «ثالث الشريكين» لأنه-سبحانه وتعالى- لا مثيل له، فقال: «ثالث الشريكين» كما قال: {إلا هو رابعهم} بماذا يكون ثالث الشريكين؟ بالتسديد والتوفيق، وإنزال البركة في بيعهما وشرائهما وشركتهما، وإلا فمن المعلوم أنه ليس ثالثهما يبيع ويشتري معهما كلا، ولكن

المعنى: أنه معهما بالتسديد والتوفيق يوفقهما والله عز وجل إذا كان يسدد الإنسان في بيعه وشرائه حصل خيرًا كثيرًا كما في قصة عروة بن الجعد رضي الله عنه حينما وكله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشتري له أضحية وأعطاه دينارًا قال: خُذ هذا الدينار اشتر به أضحية فاشترى به شاتين فباع إحداهما بدينار، ورجع بشاة ودينار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: » اللهم بارك له في بيعه وشرائه «، فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه؛ لأن الله أجاب دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا سدد الله الإنسان يسر الله له فصار يشتري الشيء ثم يزيد، وإذا خُذل الإنسان ونزع الله منه البركة صار بالعكس يشتري الشيء هو وآخر فيبيعه هو بخسارة، والثاني يبيعه بربح، وهذا مشاهد، كيف يبيعه بخسارة؟ لما هبطت الأشياء بعدما اشترى هو وصاحبه صار متسرعًا وقال: نزلت القيمة اليوم عشرة في المائة أخشى غدًا ان تنزل عشرين في المائة بعد أن نزلت عشرة في المائة فيخسر، باع ما يساوي مائة بتسعين، أما الثاني فقال: لا، لا أبيع بخسارة ربما تزيد، فالذي قدّر النقص يقدر الزيادة فأبقاه يومين، او ثلاثة، فباعه بمائة وعشرة فربح، وكلاهما قد اشترياه على حد سواء، فإذا أنزل الله سبحانه وتعالى- البركة للإنسان وسدده صار يشتري الشيء ويربح، وغيره يشتري فيخسر، إذن الله سبحانه يكون ثالث الشريكين. قال: » ما لم يخن أحدهما صاحبه «، » ما «يسمونها مصدرية ظرفية، كيف ذلك؟ مصدرية: لأنه يحول الفعل بعدها إلى مصدر، ظرفية؛ لأنه يقدر قبل المصدر ظرف، فيكون التقدير: أنا ثالث الشريكين مدة انتقاء خيانة أحدهما صاحبه، أو مدة عام خيانة أحدهما صاحبه، أيهما أحسن عدم أو انتفاء؟ انتفاء؛ لأننا نقول: » لم «نافية، ولا نقول: عدمية، فالأحسن المطابق للفظ أن نقدر انتفاء، ما هي الخيانة؟ الخيانة: مخالفة الأمانة، وتكون بعدة أساليب مثل أن يكتم عنه شيئًا من الربح تربح السلعة عشرة ويقيد الربح تسعة أو خمسة، ومن ذلك ما يفعله بعض الناس الوكلاء للدولة- والعياذ بالله-يذهب إلى راعي الدكان ويشتري منه حوائج- مشتريات-يقول: قيدها بالفاتورة عشرة، وهو لا يعطيه إلا خمسة، هذا خيانة للدولة، الدولة التي يجب عليك النصح لها كما تنصح لنفسك؛ لأن الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين، لكن هؤلاء لا يخافون الله عز وجل فيتفق مع صاحب الدكان بأن يقيد بالفواتير السلعة بمائة وهي أقل من ذلك، هذه خيانة، فمثلًا إذا اشترى هذا الشريك الشيء بمائة وهي أقل من ذلك هذه خيانة، قيده بمائة وعشرين فهذه خيانة، ومن الخيانة أيضًا ألا ينصح في البيع والشراء فُيحابي قريبه إذا اشترى بمال الشركة من قريبه زاد في الثمن وإذا باع على قريبه نقص في الثمن، فالمهم أن الخيانة لها صور لا تُحصى جِمَاعُها أنها ضد الأمانة في كل شيء، فإذا حصل خيانة قال: » فإذا خانا خرجتُ من بينهما «، وإذا خرج الله من بينهما فلا تسأل عن الدمار والخسارة؛ لأنهما لا يوفقان أبدًا. «»

في هذا الحديث فوائد: أولًا: جواز الشركة، ووجه ذلك: أن الله يكون ثالث الشريكين غذا انتفت الخيانة بينهما. ومن فوائده: الترغيب في أداء الأمانة في الشركة، ووجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الله ثالث الشريكين ترغيبًا في أداء الأمانة، وهل منها أن الشركة مستحبة؟ هي جائزة لا شك، لكن لاحظ أن الله يكون ثالثهما ما لم يخن أحدهما صاحبه، والخيانة واردة أو منتفية؟ واردة، فالإنسان إذا شارك فقد خاطر؛ لأن المسألة ليس الله يكون ثالثهما مطلقًا بل ثالثهما ما لم يخن أحدهما صاحبه، ومن الذي يأمن نفسه من الخيانة؟ ! ! ولهذا إن قلنا بأن الشركة مستحبة فيجب أن يكون ذلك بقيد وهو أمن الإنسان نفسه من الخيانة، ولكن لاشك أن الانفراد أسلم، كون الإنسان ينفرد بماله ولا يشاركه أحد فيه أسلم؛ لأنه يبقى حرًا طليقًا يتصرف بما شاء في ماله حسب الحدود الشرعية، لكن إذا كان مشاركًا مشكل لاسيما إذا كان شريكه من البخلاء؛ لأن أيضًا بعض الشركاء يصير بخيل يقول: لا تصرف قرشًا واحدًا إلا معلمة مشكل هذا، وأيضًا قد يكون المال قليلًا، وإذا كان المال قليلًا فإن كل واحد من الشريكين يريد أن يُبين له كل تصرف، صحيح إذا كثر المال هان عند الشريكين تصرف كل واحد بالمال، لكن إذا كان قليلًا ولاسيما إن نُكبوا بحسرات فلا تسأل، لهذا أرى أن الانفراد أسلم من الشركة، وأننا على فرض القول بأنها مستحبة من أجل أن الله ثالث الشريكين يُشترط فيها أن يأمن الإنسان نفسه، وإلا فلا يشارك. ومن فوائد الحديث: الحث على الأمانة، وأن الأمين يسدده الله عز وجل. ومن فوائده: التحذير من الخيانة، وأن الإنسان إذا خان نُزعت منه البركة، وتخلى الله عنه، وما بالك بشيء تخلى الله عنه، فيكون عليه الدمار والخسارة. 843 - وعن السائب المخزومي رضي الله عنه: أنه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فجاء يوم الفتح، فقال: » مرحبًا بأخي وشريكي «.رواه احمد، وأبو داود، وابن ماجه. بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت وهو على رأس الأربعين من عمره الشريف، وكان بالأول يبيع ويشتري، وكان يرعى الغنم، وكان يأخذ بضاعة لخديجة إلى الشام، ومعروف صلى الله عليه وسلم بأنه يبيع ويشتري، ومعروف أيضًا بالأمانة التامة، حتى كانت قريشًا تسميه» الأمين»

قوله: » يوم الفتح «يعني: يوم فتح مكة في رمضان في السنة الثامنة من الهجرة، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في مكة تسعة عشر يومًا من أجل ترتيبها، وكما تعلمون جميعًا فهي أم القرى تحتاج إلى مدة يبقى فيها الفاتح يدبر ويتصرف، بقي-عليه الصلاة والسلام-تسعة عشر يومًا منها نحو عشرة أيام في رمضان والباقي من شوال، وكان لا يصوم، أى: لم يصم رمضان مع أن العشر الأواخر أفضل رمضان، ولم يصمها النبي صلى الله عليه وسلم وكان يصلي ركعتين كل هذه المدة ويقول: » يا أهل مكة، أتموا فإنا قوم سَفر «فأثبت صلى الله عليه وسلم انهم سَفر مع انهم أقاموا أكثر من أربعة أيام، ومن المعلوم أن أحتمال أن ينقضي التدبير والتصريف لهذه البلد المفتوحة في أقل من أربعة أيام هذا الاحتمال بعيدًا جدًا، يعني: حسب الأحوال نجزم بأن الرسول قد نوى اكثر من أربعة أيام؛ لأن المقام والحال تقتضي ذلك أن يبقى مدة، ومن ثم بقي تسعة عشر يومصا يقصر الصلاة ولم يُحد للأمة حدًا معينًا، يقول: من بقي هذه المدة فقد انقطع حكم السفر في حقه، بل أطلق الأمر، فما دام الإنسان مسافرًا مفارقًا وطنه وعنده نية الرجوع إلى الوطن متى انتهى عمله فإنه مسافر، حتى إن العلماء قالوا: لو بقي إلى أن يموت أربعين سنة وخمسين سنة فهو مسافر، لكنهم اختلفوا هل هذا إذا لم يُحدد أو مطلقًا؟ فالمشهور من المذهب- وعليه أكثر أهل العلم-أنه بشرط ألا يحدد، فإذا أقام لقضاء حاجة ولكن تمدت الأيام فهو في حكم المسافر ولو بقي سنين، لكن لو حدد فهذا هو موضع الخلاف بين أهل العلم، وابن القيم في زاد المعاد قال: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم تفريق بين من حدد وبين من لم يحدد بل أطلق على كل: هذه المسألة الخلاف فيها معروف، لكن قصدنا أن الفتح كان في رمضان في السنة الثامنة من الهجرة. فقال: » مرحبًا بأخي وشريكي «، الرُحب بمعنى: السعة، ومنه رحبة البيت: المكان المتسع أمامه، ورحبة المسجد: المكان المتسع في المسجد، فمعنى مرحبًا، أي: سكنت مكانًا مرحبًا أي: واسعًا، أكثر الناس يرون أن مرحبًا تحية، لكن لا يدرون ما معناها، لو قلت ما معناها؟ يقول: تحية، أما لو قلت له: مرحبًا مشتق من الرحبة ومنه رحبة المسجد ورحبة البيت، قال: لا نعرف هذا هي تحية، المهم هذا معناها في اللغة. وقوله: » أخي وشريكي «الشاهد قوله» شريكي «، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم الشركة، والشركة كما سمعتم آنفًا في اللغة هي الخلطة أو الاختلاط، وفي الاصطلاح: هي اجتماع لاستحقاق أو تصرف. من فوائد الحديث: جواز الشركة، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها بعد الفعل، وفيه دليل على أن ممارسة البيع والشراء لا تقدح في المروءة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شارك السائب المخزومي، فممارسة العقود لا تعتبر قدحًا في الإنسان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه باع واشترى، بل إنه

توفي ودرعه مرهونة عند يهودي، لكن قال العلماء: ينبغي للقاضي، ومن حكمه من ذوي الأمر ألا يُباشر البيع والشراء بنفسه نظرًا لفساد الناس كيف ذلك؟ قالوا لأن الناس سوف يُحابونه، فتكون هذه المحاباة بمنزلة الرشوة؛ لأن لولا أنه في هذا المكان من السلطة ما حباه الناس، فتكون مباشرته للبيع والشراء سببًا لأن يحابيه الناس فيقع هو وهم في الإثم. ومن فوائد الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم حين رحب بشريكه فقال: » مرحبًا باخي وشريكي «، وهكذا ينبغي للإنسان إذا عامل شخصًا أن يقابله بحسن الخلق بقدر المستطاع، ولقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: » رحم الله امرأ سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضي «. 844 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: » اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر ... «. الحديث رواه النسائي. الحديث أنه قال: جاء سعد بأسيرين ولم أجاء أنا وعمار بشيء، » يوم بدر «، يعني: يوم غزوة بدر، وكان في رمضان في السابع عشر السنة الثانية من الهجرة، وكان سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أن عير قريش خرجت من الشام، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعرض لها ليأخذها، وإنما فعل ذلك؛ لأن قريشًا اعتدوا عليه وجنوا عليه وعلى أصحابه، حيث أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، ولم يكن بينه وبينهم عهد، فكانت أموالهم بالنسبة له حلالًا له من أجل عدوانهم، وعدم المعاهدة بينه وبينهم، فخرج إلى العير بنحو ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، لا يريد قتالًا وكان معه سبعون بعيرًا وفرسان يتعاقبون على هذه الرواحل، فأرسل أبو سفيان - وكان أمير العير-إلى قريش يستنجدهم لما سمع بما أراد النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلك طريق الساحل بعيدًا عن المدينة لينجو بعير قريش، فلما بلغ قريشًا ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم واستصراخ أبي سفيان إياهم اجتمعوا برؤسائهم لأمر أراده الله عز وجل فجمع الله بينهم وبين رسوله صلى الله عليه وسلم على غير معاد، وحصل في هذه الغزوة من النصر المبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أعز الله به جنده وخذل به أعداءه، وقتل من صناديدهم من قتل، وسحب منهم أربعة وعشرون رجلًا من كبرائهم وألقوا في قلبيب من قلب بدر جيفًا منتنة، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بعد ثلاثة أيام من انتهاء المعركة،

وجعل يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: » فلان بن فلان «، هل وجدتم ما وعد ربكم حقًًا، فإني وجدت ما وعد ربي حقًا؟ . فقالوا: يا رسول الله كيف تكلم قومًا جيفوا؟ فقال: » ما أنتم أسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يجيبون «، وههذه الغزوة كانت قبل أن تفرض الأنفال وتُبين، فكانت لله ورسوله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي منها من اقتضت المصلحة إعطاؤه، فاجتمع الناس كل ينفله ما شاء مما يرى أنه من الحكمة، من جملة ما كان من النفل الأسري، لأنه أسر من قريش سبعون رجلًا وقُتل منهم سبعون رجلًا، يقول عبد الله بن مسعود: أنه اشترك هو وعمار وسعد فيما يصيبون يوم بدر فأصابوا أسرى جاء سعد بأسيرين، ولم يأت ابن مسعود ولا عمار بشيء، وبناء على عقد الشركة يكون الأسيران بينهم أثلاثًا لكل واحد ثلثا أسير، لكن بعد هذا تقرر قسمة الغنائم وأنزل الله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 40]. فصارت الغنيمة تُقسم خمسة أقسام أربعة منها للغانمين وواحد لهؤلاء الخمسة {فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} واستقر الأمر على ذلك إلى اليوم وإلى يوم القيامة، لكن قبل ذلك لم تكن الغنيمة تُقسم على هذه القسمة. ففي الحديث دليل على جواز الاشتراك فيما يُحصله المشتركون ويُسمى عند أهل العلم-هذا النوع من الشركة-شركة الأبدان؛ لأنها مبنية على عمل البدن المحض، ليس هناك مال بلا عمل بدن، فإذا اشترك شخصان فيما يكتسبان من حشيش او حطب أو سمك من البحر، أو صيود من البر، أو ما أشبه ذلك مما يكون نتيجة العمل البدني فالشركة جائزة، ويكون الملك بينهما على ما اشترطاه يعني: لا على رءوسهم قد يكون ثلاثًا ويشترطون الربح أرباعًا لواحد منهم النصف، والاثنين على ربع، حسب ما يرونه من قوة هذا الرجل وحدقه، واكتسابه، وقد تكون بالتساوي كما لو اشترك أربعة فيما يكتسبون وجعلوا المال بينهم أرباعًا، المهم أن الملك على ما شرطاه؛ لأن هذا عقد يرجع أمره إلى العاقد، فإذا قال: نشترك في الاحتطاب نجمع حطبًا ونبيعه، وما رزقنا الله فهو بيننا، هو أربعة لكن منهم واحدًا جيدًا نشيطًا يأتي بما يأتي به الرجلان، فقالوا: نجعل لك الثلث ولنا نحن الثلاثة الثلثان يجوز هذا؛ لأن الأمر راجع إليهم. فإن قال قائل: هذا فيه جهالة وغرر، لأن أحدهما قد يُحصل والآخر لا يحصل كما في هذا الحديث هو وعمار لم يُحصلا شيئًا وسعد حصل اثنين فيكون في هذا غرر. نقول: نعم، هذا لا شك أن فيه شيئًا من الغرر لكن ليس فيه معاوضة، يعني: ليس فيه مال بمال يُخشى بينهما الاختلاف، إنما المسألة عمل بدن فقط، فإذا قُدر أن أحدهم أتى بكثير

والآخر أتى بقليل فليس هناك معاوضة حتى نقول: إن أحدهما إما غانم وإما غارم، أرأيت لو أن أحدهما قال للثاني: أنا سأذهب وأصيد لك؟ فهذا ليس فيه شيء، فنقول: هذه الشركة جائزة وتسمى شركة الأبدان، ومنها شركة الصنائع، يعني: من هذا النوع من الشركة شركة الصنائع يشترك رجلان صانعان في عمل كأبواب الحديث مثلا أو المواسير أو ما أشبه ذلك هذا يجوز. واختلف العلماء هل تجوز شركة الصنائع مع اختلاف الصنعة بأن يكون أحدهما حداداً والثاني نجاراً؟ على قولين: فمنهم من قال: بالجواز، لأن الغاية واحدة وهي الاكتساب، ومنهم من قال: إنه لا يجوز مع اختلاف الصنائع لأن الحداد ربما يكون إنتاجه أكثر بكثير من النجار، أو بالعكس، بخلاف ما إذا كانا مشتركين في الصنعة، فإن الغالب أنهما متقاربان أو متساويان، والمعروف في المذهب عندنا أن هذه الشركة جائزة ولو مع اختلاف الصنائع، لأن الغاية هي الربح في هذه الصنعة وهي حاصلة سواء مع اتفاق الصنائع، يعني: من هذا النوع من الشركة شركة الصنائع يشترك رجلان صانعان في عمل كأبواب الحديث مثلا أو المواسير أو ما أشبه ذلك هذا يجوز. واختلف العلماء هل تجوز شركة الصنائع مع اختلاف الصنعة بأن يكون أحدهما حداداً والثاني نجاراً؟ على قولين: فمنهم من قال: بالجواز؛ لأن الغاية واحدة وهي الاكتساب، ومنهم من قال: إنه لا يجوز مع اختلاف الصنائع؛ لأن الحداد ربما يكون إنتاجه أكثر بكثير من النجار، أو بالعكس، بخلاف ما إذا كانا مشتركين في الصنعة، فإن الغالب أنهما متقاربان أو متساويان، والمعروف في المذهب عندنا أن هذه الشركة جائزة ولو مع اختلاف الصنائع؛ لأن الغاية هي الربح في هذه الصنعة وهي حاصلة سواء مع اتفاق الصنائع أو اختلافها، لو اشترك شخصان أحدهما في الاصطياد من البر والثاني في الاصطياد من البر والثاني في الاصطياد من البحر واشتركاً على أن ما يكتسبان فبينهما، فالحكم الجواز مع أنه قد يأتي صاحب البحر بسمك كثير، وصاحب البر لا يأتي إلا بشيء قليل أو يكون العكس يأتي صاحب البر بصيود كثيرة، وصاحب البحر لا يأتي إلا بقليل، المهم أن هذا جائز ولا بأس به. ومن فوائد الحديث: جواز الاشتراك فيما يكتسبه الرجلان من أسرى، أو صيود، أو احتطاب، أو حشيش أو غير ذلك، مما تكون الوسيلة فيه العمل البدني المحض. ومنها: سعة الشريعة وذلك بتنويع موارد الرزق، لأن الإنسان ربما لا يكتسب إذا كان وحده، وإذا كان له شريك اكتسب ونشط على العمل. ومنها: أن اكتساب المال بالطرق المباحة جائز؛ لأن هذا النوع لا شك أن يساعدون بعضهم بعضا، وأنهم ربما يتسابقون أيهم أكثر إنتاجاً وعملاً. وهل نقول: ومنها جواز الاشتراك في الأسرى؟ لا، لأن بعد استقرار تقسيم الغنيمة صار السرى أمرهم على الإمام لا للمجاهدين، نعم لو اشتركوا فيما يجعله الإمام من النفل فلا بأس، مثل أن يقول الإمام: من قتل قتيلا فله ما عليه من السلاح هذا جائز؛ لأنه فيه تشجيعاً على قتل الأعداء، وهو نوع اكتساب، فإذا قال الإمام أو قائد الجيش: من قتل قتيلا فله ما عليه من السلاح، واشتركا اثنان فيما يكتسبانه من هذا الوجه فهو جائز كما اشترك عبد الله بن مسعود وعمار وسعد فيما يحصل من الأسرى.

الوكالة

الوكالة: 845 - وعن جار بن عبد الله رضي الله عنه قال: «أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا أتيت وكيلي بخيبر، فخذ منه خمسة عشر وسقا» رواه أبو داود وصححه. الظاهر جواز سكون السين وفتحها، قال: «أردت الخروج إلى خيبر» ما هي خيبر؟ خيبر مكان يقع من المدينة نحو مائة ميل نحو الشمال الغربي، وفيه حصون وقصور ومزارع لليهود، وسبب مجيء اليهود إلى خيبر وإلى المدينة أنهم قد قرءوا في التوارة أنه سيبعث نبي يكون مهاجره المدينة، فصاروا يجتمعون من أقطاب الأرض في المدينة انتظاراً لهذا النبي الذي أخبرت به التوراة، وكانوا يستفتحون على الذين كفروا، يعني: يستنصرون، ويقولون: سيبعث نبي ونكون من أتباعه ونغلبكم، ولكن لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من العرب أنكروا وتنكروا لهذا، وقالوا: ليس هذا النبي الموعود، لأنهم ظنوا أن هذا النبي سيكون من بني إسرائيل، ولكن كان من بني إسماعيل من بني عمه، والغالب أن بني العم يقع بينهم الحسد، ولاسيما مثل اليهود الذين هم أشد الناس حسداً، فحسدوا العرب، وقالوا: ليس هذا النبي الذي أخبرت به التوراة، وأنكروا المهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم غزاهم في خيبر، فلما حصل الفتح طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقيهم في خيبر على أن يكونوا عمالاً فيها مزارعين في الزرع ومساقين في النخل، لأن العمل في النخل يسمى مساقاة، والعمل في الزرع يسمى مزارعة، فعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاهم خيبر على النصف، نصف ما يخرج منها من ثمر أو زرع يكون لليهود والنصف الثاني للمسلمين، وحصل بفتحها خير كثير ورزق كثير للصحابة- رضي الله عنهم- وكفاهم اليهود المؤنة والتعب وبقي المسلمون على ما هم عليه من الجهاد في سبيل الله والتفرغ للدعوى، وخيبر تدر عليهم. لما حصل الفتح كان النبي صلى الله عليه وسلم وكيل في خيبر من أجل ملاحظة الثمار التي للمسلمين ومن أجل مقاسمة اليهود، فأراد جابر أن يخرج إلى خيبر، قال: «فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم» أي: ليخبره بأنه سيخرج إلى خيبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقا» وتمام الحديث، «فإن أراد منك أمارة فضع يدك على ترقوته» وليت المؤلف جاء بها، كأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل آية بينه وبين وكيله على هذا الوجه أنه إذا جاء أحد يقول: أرسلني الرسول قال: ما العلامة إذا كان صادقاً أن الرسول بعثه سيضع يده على ترقوته قال هذه العلامة وإن لم يكن صادقاً فلا يدري.

نقول: في هذا الحديث عدة فوائد منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل وكيلاً في خيبر؛ لأن هذا من الحزم، فإن الإنسان مهما كان لا يمكن أن يحيط بجميع الأعمال المنوطة به، والنبي صلى الله عليه وسلم كما تعلمون قد أنيطت به الأمة كلها، فلابد أن يتخذ أعواناً ووكلاء، من جملة من اتخذ من الوكلاء هذا الرجل وكيلا في خيبر من أجل جمع ما للمسلمين من الثمار والزروع من خيبر ومراقبة اليهود. ومن فوائد هذا الحديث: جواز الوكالة، فما هي الوكالة؟ الوكالة سبقت تفسيرها بأنها لغة: التفويض، ومنه التوكيل على الله تفويض الأمر إليه، وفي الاصطلاح تفويض غيره في عمل يملك التصرف فيه. ومن فوائد الحديث: أن الصحابة- رضي الله عنهم- إذا أرادوا أمراً، ولاسيما فيما يتعلق بشئون المسلمين العامة أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم لأن جابراً أخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يحتمل أن جابراً إنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يأمر له بشيء. ومن فوائد الحديث: جواز إعطاء الإمام ما يعطيه من الرعية على حسب ما يرى أنه مصلحة ولا يلزمه أن يسوي الناس في هذا، بل الواجب أن يعدل بين الناس، وهنا فرق بين التسوية وبين العدل، والعدل إعطاء كل ذي حق ما يستحقه، والتسوية أن يسوي بين الناس، هنا نعرف خطأ من يقول: إن الدين الإسلامي جاء بالمساواة فإن هذا خطر عظيم ومبدأ لغرض فاسد، والدين الإسلامي أبعد ما يكون عن المساواة {لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} [الحديد: 10] {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} [النساء: 95] {هل يستويان مثلا} {قل هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] وإذا قلنا بأن الدين الإسلامي دين المساواة احتج علينا من يقول: إذن المرأة يجب أن تساوي الرجل، فإذا قلنا: إن الدين الإسلامي دين العدل انفصلنا وانفككنا عن هذا المبدأ؛ لأنه ليس من العدل أن تسوى المرأة بالرجل، المهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتصرف فيما يعطي من بيت المال بحسب ما تقتضيه الحكمة والعدل لا بالتسوية، صحيح أن دين الإسلام يسوي بين الشيئين المتفقين وهذا لا نسيمه تسوية بل نسميه عدلاً، لأن التسوية ليس فيها معنى العدل، العدل قد تضمن معنى لا يتضمنه لفظ التسوية. ومن فوائد هذا الحديث حسب الجملة التي حذفها المؤلف رحمه الله- أنه ينبغي للإنسان أن يجعل أمارة يعرف بها صدق المدعي× لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمارة بأن يضع المدعي يده على ترقوته. نسبت أن أتكلم عن الوسق هو الحمل الذي تحمل به الإبل، ومقداره ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم فكم تكون خمسة عشرة وسقا؟ تسعمائة ساع بالصاع النبوي. إذا قال قائل: هذا العطاء كثير كيف يعطي النبي صلى الله عليه وسلم رجلا واحدا خمسة عشرة وسقا؟ فالجواب: أن هذا العطاء ليس عندنا دليل أنه لجابر وحده، قد يكون جابر ومعه آخرين، وإذا كان لجابر ومعه آخرين فليس غريبا أن يعطيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا العطاء الكبير.

حكم الوكالة وشروطها

حكم الوكالة وشروطها: 846 - وعن غزوة البارقي رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية» الحديث. رواه البخاري في أثناء حديث، وقد تقدم. ذكر المؤلف هذا الحديث للاستدلال على جواز الوكالة، فقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم عروة البارقي رضي الله عنه أن يشتري له شاة أضحية بدينار، فاشترى بالدينار أضحيتين ثم باع إحداهما بدينار، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأضحية ودينار، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة في البيع، فكان لا يبيع شيئا إلا ربح فيه حتى التراب ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له. ففي هذا الحديث دليل على جواز التوكيل في الشراء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكل عروة أن يشتري له أضحية بدينار. ومن فوائده: أن لا يشترط في الوكالة أن يعين الموكل مقدار الثمن فيما إذا وكله في شراء فيقول مثلا: اشتر لي كذا وكذا بدون أن يقدر الثمن، وذلك لأن هذا الوكيل محل ائتمان عند الموكل، وإذا كان محل ائتمان فإنه لن يشتري له إلا بمثل الثمن ولا يمكن أن يشتري بأكثر، ولكن إن خاف الموكل أن يكون الثمن مرتفعا ارتفاعاً لا يخطر له على بال كما لو كانت الأسعار مضطربة ترتفع أحياناً وتنخفض أحياناً، فحينئذ ينبغي أن يقيد له الحد الأعلى، فيقول مثلا: أنت وكيل أن تشتري لي كذا بشرط ألا يتجاوز كذا وكذا، ومثاله يقول: وكلتك أن تشتري شاة أضحي بها بشرط ألا تتجاوز خمسمائة ريال، أما إذا كانت الأسعار ثابتة فإنه لا حاجة إلى تقدير الثمن، كذلك لو وكله أن يبيع له، قال: خذ هذا الثوب فبعه فإنه لا يشترط أن يبين له مقدار الثمن الذي يبيع له، لماذا؟ لأنه قد ائتمنه وإذا كان قد ائتمنه فلا يمكن أن يبيع بأقل من ثمن المثل، ولكن لو خاف أن يبيعه بنقص فحينئذ يحدد الحد الأدني فيقول: بعه على ألا ينقص الثمن عن كذا وكذا حتى لا يقع في مشكلة فيما بعد، لأني قد أوكله أن يبيع لي هذا الثوب وكنت أقدر أن يبيعه بعشرة ثم يأتيني بخمسة، وهذا مشكلة وقد يتهمه الوكيل، فإذا خفت من أن ينقص عما في ضميرك فينبغي أن تحدد الثمن. وفي الحديث دليل على مشروعية الأضحية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكله أن يشتري له أضحية، والأمر كذلك، وقد ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة من حين قدم، ولم يتخلف عن الأضحية إلا في حجة الوداع، لأنه لما حج أهدى ولم يضح، ولهذا لا يشرع للحاج أن يضحي اكتفاء بالهدي.

ومن فوائد بقية الحديث الذي لم يذكره المؤلف هنا: أنه يجوز للوكيل أن يتصرف فيما هو أحظ للموكل وإن لم يستأذن منه، لكن بشرك أن يحافظ على ما وكل فيه، دليله: أن عروة اشترى بالدينار شاتين ثم باع إحداهما بدينار ورجع بشاة ودينار، وهذا ما يسمى عند أهل العلم بتصرف الفضولي، هل هو جائز ونافذ؟ والصحيح أنه جائز نافذ إذا أجازه من تصرف له فيه، أما إذا لم يجزه فإنه يرد ووجه ذلك: أنه إذا أجازه فإنه حق آدمي رضي به فأجيز، أما إذا لم يجزه فإن الممتصرف تصرف فيما ليس له فيه حق، مثال ذلك: لنفرض أني أعلم أنك سوف تبيع سيارتك فجاء شخص وقال: من له هذه السيارة فبعتها عليه بدون أن أستأذن منك وبدون أن توكلني، ثم بعد ذلك أخبرتك بأنني بعتها، فقلت: لا بأس أنا قد أجزتك، فهل يصح بيعي؟ الصحيح أنه يصح، وذلك لأن الأصل في منعي من التصرف في هذه السيارة مراعاة حقك فإذا رضيت بذلك زال المانع، وهذا عروة البارقي رضي الله عنه لم يأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبيع الشاة الثانية، لكنه رضي الله عنه لما علم أن المقصود الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يريده حاصل إذا باع الشاة الثانية، قال: إذن أتصرف لأنها في مصلحة الموكل، أما لو تصرف على وجه لا يحصل به مقصود الموكل فإن ذلك لا يصح، مثل أني قول: خذ اشتر لي سبع ضحايا فيجد بقرة تباع فقال: أشتريها بدلاً عن السبع، فإن هذا لا يصح، لأن مقصود الموكل يفوت، فإن الأضحية بالغنم أفضل من الأضحية بالبقرة. على كل حال: هذا الحديث يدل على جواز تصرف الفضولي بشرط أن يجيزه ويمضيه، ولكن لو كان هذا التصرف يحتاج إلى نية مثل أن يؤدي عنه زكاة شخص يعرف أن هذا الرجل الغني عنده زكاة فمر به فقير يعرف حاله تماماً فأعطاه دراهم ينويها زكاة عن التاجر، والتاجر لم يوكله فهل يجوز ذلك؟ في هذا خلاف، فمن العلماء من قال: لا يجوز، ومنهم من قال: إنه جائز، واستدل من قال بالجواز بفعل أبي هريرة رضي الله عنه؛ حيث جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقة الفطر، فجاءه ذات ليلة رجل هو الشيطان على صورة رجل وأخذ من التمر فأمسكه أبو هريرة، وقال لأخبرن عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فادعى هذا الرجل أنه فقير وذو عيال، فرق له أبو هريرة وأطلقه، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «ما فعل أسيرك البارحة» قال: يا رسول الله ادعى أنه ذو حاجة وعيال فأطلقته وقال: إنه لن يعود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كذبت وسيعود» معنى «كذبك» يعني: كذب عليك، يعني: سيعود- فلما كانت الليلة الثانية ترقبته وعلمت أنه سيعود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه سيعود، فجاء هذا فأخذ من التمر فأمسكه أبو هريرة وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل، وادعى أنه ذو حاجة وعيال فرق له أبو هريرة

جواز التوكيل في قبض الزكاة

وتركه، فلما غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «ما فعل أسيرك البارحة» قال: يا رسول الله ادعى أنه ذو حاجة وعيال فأطلقته وقال: إنه لن يعود فقال: «كذبت وسيعود» فجاء في الثالثة فأمسكه وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعى أنه ذو حاجة وعيال، فقال: لا، لأرفعنك، فقال: ألا أخبرك بآية إذا قرأتها فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال: بلي أخبرني، فقال: آية الكرسي، فلما أصبح أبو هريرة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «صدقك وهو كذوب» صدقك في آية الكرسي، ثم قال: «أتدري يا أبا هريرة من تخاطب منذ ثلاث» قلت: الله ورسول أعلم، قال: «ذاك شيطان» الحاصل/ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأبي هريرة: لماذا تمكنه من الأخذ وأنا لم أوكلك، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم تصرف أبي هريرة مع أنه يتصرف في مال زكوي، القول الثاني: أنه إذا كان زكاة فإنه لا يجوز، لأن الزكاة لا تصح إلا بنية سابقة على الفعل، وأنا متردد إلا في مسألة الزكاة المجموعة التي أمر الإنسان أن يحفظها ثم جاء مستحق وأعطاه، فهذه لا شك أن حديث أبي هريرة يدل عليها، وأما الزكاة التي لم تعد وأخرج عن صاحب المال بدون إذنه فهي محل تردد، لكن لو جاءني أحد يستفتي وقد فعل فقلت له: لا بأس، أما أنه سيفعل لقلنا: لا تفعل حتى تراجع صاحب المال. جواز التوكيل في قبض الزكاة: 847 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة ... » الحديث متفق عليه. «بعث رسول الله عمر على الصدقة» عمر بن الخطاب رضي الله عنه معروف لدى الجميع، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ذات عام على الصدقة، يعني: يجمعها من الناس، هذا يدل على جواز التوكيل في قبض الزكاة وأنه يجوز لولي الأمر أن يوكل من يقبض الزكاة من أهلها، وإذا قبضها العامل من أهلها فإنها تبرأ بذلك ذممهم، فلو تلفت فلا ضمان على أهل الأموال، لو فرض مثلا أن إنساناً أخذ الصدقة من قبل الحكومة من أهلها ثم تلفت، مثل أن تكون بعيراً فندت أو دراهم فاحترقت أو ما أشبه ذلك، فإن أهل الزكاة الذين دفعوها لا يضمونها؛ لأن ذممهم برئت باستلام وكيل ولي الأمر، ولكن هل يضمن هذا الوكيل العامل؟ إن تعدي أو فرط ضمن، وإن لم يتعد ولم يفرط فلا ضمان، ومن هذا النوع الجمعيات الخيرية التي فيها ترخيص من الدولة، فإن قبضتها كقبض الدولة فلو أعطيتها زكاة ثم تلفت أو سرقت فإن ذمتك تبرأ، ولا ضمان عليهم إذا لم يتعدوا أو يفرطوا.

وقول المؤلف: «الحديث» كيف نقرؤه؟ يعني: الحديث أو الحديث أو الحديث؟ يجوز النصب، يعني: اقرأ الحديث، ويجوز الجر، يعني: إلى آخر الحديث، لكن النصب هو المشهور، يعني: اقرأ الحديث، وإذا كان يريد المؤلف أن نقرأ الحديث فنقول: إن عمر لما رجع ذكر للرسول صلى الله عليه وسلم أنه منع الصدقة ثلاثة رجال: ابن جميل واسمه عبد الله، والعباس بن عبد المطلب، وخالد بن الوليد ثلاثة، وكلهم حكم لهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضيه العدل، فقال صلى الله عليه وسلم في ابن جميل: «ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله» يعني: ما ينكر إلا هذا وهذا ينكر أو يشكر؟ يشكر، ولهذا قال العلماء: إن هذا من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح، وهذا معروف في البلاغة إذن أنكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عليه أن يشكر الله على نعمته ويؤدي الزكاة قال: «وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً» انظر الدفاع العجيب، قال: «أما خالد فإنكم تظلمون خالداً» ولم يقل: تظلمونه، بل أظهر في موضع الإضمار تفخيماً له؛ لأنه ذكره باسمه أعظم وأفخم، «فقد احتبس أدرعه وأعتداه في سبيل الله» والذي يحتبس أدراعه وأعتداه في سبيل الله هل يمنع الزكاة، وهو يفعل التطوع؟ لا يمكن هذا إن لم ينقل/ أن الأعتاد والأدراع جعلها من الزكاة في سبيل الله، لكن الظاهر أنها وقف، لأنه قال: احتبس يعني فكأنه يقول: إن الذي يفعل التطوع لا يمكن أن يمنع الواجب، أما العباس فقال أكرم الخلق صلى لله عليه وسلم: «هي علي ومثلها» لماذا قال: هي على ومثلها؟ قيل: إن هذا عبارة عن تأجيل الزكاة، يعني: إذا منع أن يعطيكم هذه السنة فأنا أعطيكم زكاة هذه السنة وزكاة العام المقبل، ولكن الذي يظهر لي- والله أعلم- أن هذا من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وليس من باب تعجيل الزكاة، وذلك أن العباس قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم «أما شعرت يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه» الصنو: النخلتان في جذع واحد، كما قال تعالى: {صنوان وغير صنوان ... } [الرعد: 4] العم والأب صنو؛ لأن أصلهما واحد، وهو الجد أنا أقول: إن ألتزام الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «على ومثلها» من باب الكرم من وجه، ومن باب إدلال قرابة الوالي من وجه آخر، العباس عم الرسول فإذا منعها فينبغي أن يضعف عليه الزكاة بأن يؤدي زكاتين لئلا يدل قرابة الوالي لقرابتهم له، وهذا ما يسمى عندنا في العرف الحاضر استخدام الوجاهة أو استخدام المنصب، يعني: بعض الناس يستخدم منصبه ووجاهته في الأمور من أجل أن يدفع اللوم عن نفسه، أو من أجل أن يأخذ من الناس ما يأخذ، ونظير هذا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا نهى الناس عن شيء جمع آل الخطاب وقال لهم: «إني نهيت الناس عن كذا وكذا، فوالله لا أرى أحدا فعله إلا أضعفت عليه العقوبة» أين هو من حكم الناس اليوم؟ إذا كان أحد من الأقارب يفعل الشيء يضعف عليه العقوبة؛ لماذا؟ لأنه أقاربه انتهكوا هذا الشيء من أجل

جواز التوكيل في ذبح الهدي والأضحية وتفريقهما

أمرين أولاً: ضعف الإيمان، والثاني: قرابتهم للحاكم، يظنون أن هذا يمنعهم لكن عند عمر بالعكس يضعف عليه العقوبة، فأظن هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم أظنه من هذا الباب، أي: أنه إذا كان العباس منع من أجل قرابته من الرسول فكأنه يقول: أنا قريب الرسول ما علي زكاة، فأرد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل في هذا شيئاً من التأدين، بأن يضعف عليه الزكاة. الشاهد من هذا الحديث: جواز توكيل الإمام من يقبض الزكاة من أهلها، وهل يجوز أن يوكل من يفرقها في أهلها؟ الجواب: نعم، وسيأتينا في الحديث القادم إن شاء الله. جواز التوكيل في ذبح الهدي والأضحية وتفريقهما: 848 - وعن جابر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين، وامر عليا رضي الله عنه أن يذبح الباقي» الحديث رواه مسلم اختصر المؤلف الحديث اختصاراً مخلا جدا لأننا ما ندري أين كانت هذه، ولكن نظراً لأنه سبق في كتاب الحج كأنه اعتمد على ذلك، حديث جابر هذا هو حديثه الطويل في صفة الحج الذي يعتبر أصلا في المناسك، لأن جابراً رضي الله عنه ذكر حج النبي صلى الله عليه وسلم منذ خرج من المدينة إلى أن حل يوم النحر في حج الرسول صلى الله عليه وسلم أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بعير عن كم شاة؟ عن سبعمائة شاة مع أنه صلى الله عليه وسلم حالته المادية ضعيفة جدا إذ مات ودرعه مرهونة عند يهودي، والناس الآن يسألون عن نسك الإفراد، لماذا؟ لأنه ليس فيه هدي يقول: نبغي نسك ما علينا فيه هدي ولو كان التمتع أفضل وهذا النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في حجة الوداع مائة ناقة عن سبعمائة شاة، ولما كان يوم العيد ورمى الجمرة ذهب إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده الكريمة، هذا مع المعاناة والتعب والمجيء على الإبل والشمس والرمي نحو ثلاثا وستين وأعطى علي بن أبي طالب البقية ينحرها وهي سبعة وثلاثون بعيراً، والمهم أعطى علي بن أبي طالب فنحر الباقي وأمره أن يتصدق بجلودها ولحمها معروف وجلالها حتى الجلال الذي يرفع على ظهر البعير أمره أن يتصدق به ثم أن يأخذ من كل بعير قطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من اللحم وشرب من المرق امتثالاً لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} [الحج: 28] وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يحافظ هذه المحافظة حتى يأخذ من كل بعير قطعة، فإذا أكل من اللحم وشرب من المرق فقد نال جسده كل ما في هذه الإبل من الطعام، نسأل الله أن يعيننا إذا رأينا أنفسنا نتهاون ونتكاسل، فقد يقول قائل: خذ هذه الدراهم أعط شركة الراجحي يذبحون عنك، أو خذ هذه الدراهم اجعلها في بلاد أخرى من بلاد المسلمين ولا تضخ، سبحان الله ضح، كل من أضحيتك أهد كل من هديك لابد من تعب حتى تحقق العبادة لله من كل وجه.

جواز الوكالة في إثبات الحدود وتنفيذها

على كل حال: الشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل علي بن أبي طالب في أن ينحر بقية الهدى هذا واحد، وأمره أن يتصدق، وهذا الثاني، ففي هذا دليل على جواز التوكيل في ذبح الهدي وإذا جاز التوكيل في ذبح الهدي جاز التوكيل في ذبح الأضحية، لأنهما سواء لا فرق بينهما، وكذلك إذا جاز التوكيل في تفريق لحم الهدي جاز التوكيل في تفريق لحم الأضحية، وإذا جاز التوكيل في تفريق لحم الأضحية، جاز التوكيل في تفريق الزكاة والصدقة قياساً، لأن الكل مال يخرج تقرباً إلى الله عز وجل قال بعض أهل العلم: وفي نحر الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بيده مناسبة لسنوات عمره الشريف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عمره ثلاثاً وستين سنة، وكان هدية الذي نحره في آخر سنة من سنواته ثلاثا وستين فنطاق، هذا العدد مع عدد سنواته والله أعلم هذا أمر مقصود، أو أنه أمر جاء على سبيل المصادفة. جواز الوكالة في إثبات الحدود وتنفيذها: 849 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة العسيف: قال النبي صلى الله عليه وسلم «لأغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» الحديث متفق عليه. «في قصف العسيف» وفي رواية: في قصة الأجير: والعسيف كالأجير لفظاً ومعنى، لفظاً لأن كل واحد منه على وزن فعيل، ومعنى لأن العسيف بمعنى الأجير، قصة هذا الرجل أن شخصاً استأجر شاباً يعمل عنده فزنى هذا الشاب بامرأة الرجل، فما زنى بها أخبر أبوه بأن عليه الرجم على هذا الشاب- وتعرفون الأب وربما لا يكون له ولد إلا هذا أدركته الشفقة فقال: أنا أعطيكم وليدة ومائة شاة، الوليدة هي الجارية، فافتدى بهذا المال، والذي قال له ذلك: أي: الذي قال: إن على ابنك الرجم جاهل انظر إلى ضرر الفتيا بجهل، قال: ولد هذا يرجم فصدق الرجل؛ لأنه جاهل فافتداه بمائة شاة ووليدة يقول: ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني بأن على ابني مائة جلدة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد عليك» رد بمعنى: مردود كما في قوله: صلى الله عليه وسلم «من عمل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» الغنم والوليدة رد عليك، لأنها أخذت بغير حق، وما أخذ بغير حق وجب رده، ليطابق الحق، «وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» لماذا؟ لأنه غير محصن، والزاني غير المحصن يعني: الذي لم يتزوج ويجامع زوجته- عليه جلد مائة وتغريب عام، «واغد يا أنيس» هذا الشاهد لرجل من أسلم «أغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» فغدا أنبي إلى امرأة الرجل فاعترفت فرجمت.

والشاهد من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلك وكل هذا الرجل في إثبات الحد وفي تنفيذ الحد يعني: استيفاؤه، فدل هذا على أنه يجوز للإمام أن يوكل من يثبت الحد بالإقرار أو بغيره ويجوز أيضا للإمام أن يوكل من يستوفي الحد، فلو قال مثلا القاضي أو الإمام ومن له تنفيذ الحدود: يا فلان، اذهب إلى فلان فإن اعترف بالسرقة فاقطع يده، فذهب إليه فاعترف، فإنه يقطع يده بناء على توكيل الإمام في هذا الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن اعترفت فارجمها» ولم يقل: إن اعترفت أربع مرات، ولا إن اعترفت مرتين، إنما قال: «إن عرفت» فقط، ففيه دليل على ان الاعتراف بالزنا يكفي فيه مرة واحدة، وقد جرى مثل ذلك للغامدية، وحيث اعترفت مرة واحدة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليها، وفعلاً قالت للرسول صلى الله عليه وسلم أتريد أن تردني كما رددت ماعزاً رضي الله عنه، لكن يشكل على هذا قصة ماعز بن مالك رضي الله عنه حيث جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني زنيت، فتنحى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فأعاد عليه، وقال: يا رسول الله، إني زنيت، فتنحى عنه، فأعاد عليه ثالثة، فتنحى عنه، فأعاد عليه رابعة، وقال: إنه زنى، فقال: «شهدت على نفسك أربعا قال: أبك جنون» قال: لا، وسأل عنه من يعرفه هل في الرجل شيء، حتى ذكر أن الرسول أمر من يقوم يستشمه لعله شرب خمراً، فلما تمت القضية أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمه فرجمه الناس، فلما أذلقته الحجارة ومسته هرب رضي الله عنه حتى لحقوه وأدركوه وأتموا عليه فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه» ما عنفهم ولا قال: اضمنوا الرجل؛ لأنهم إنما رجموه بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ما علموا أنه إذا هرب يترك، فهم استندوا على أمر شرعي، المهم: أن بعض أهل العلم أخذ بحديث ماعز وقال: لابد في الإقرار بالزنا من أربع مرات، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شهدت على نفسك أربعا» وقالوا: إنه لما كان لابد في ثبوت الزنا من شهادة أربع رجال كان لابد في الإقرار به من تكرار الإقرار أربع مرات، ولكن كل هذه أدلة ضعيفة والصحيح أن الزنا يثبت بالإقرار مرة إذا أتمت شروط الإقرار، ولا يحتاج إلى تكرار، لأنه شهد على نفسه، قال الله تعالى: {يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135] وهل الشاهد إذا شهد نقول: كرر الشهادة، لو جاء إنسان يشهد يقول: أشهد أن فلانا يطلب فلاناً من أجل ألف ريال هل نقول: كرر؟ لا، ما نقول هذا؛ لأنه شهد على نفسه فلا حاجة إلى التكرار، وقصة ماعز قضية عين، ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من لم يشهد أربع مرات فلا تقيموا عليه الحد، قضية عين، ويظهر فيها- إذا تأملتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى من هذا الرجل أنه لابد

من استثبات؛ ولهذا سأله: «أبك جنون؟ » وأمر الناس أن يشموه وسأله عنه من حوله، كل هذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد بالتكرار الاستثبات والتثبيت؛ لأن المسألة ليست هينة، بل فيها قتل فيرجم حتى يموت، فلهذا استثبت الرسول صلى الله عليه وسلم وأما قولهم إن الرسول قال: «شهدت على نفسك أربع مرات» فنعم نقول: الرسول ما قال: ولو شهدت أقل من أربع ما أقمنا عليك قال: «شهدت على نفسك» يعني: والآن ما بقي شيء، وأما قياسه على الشهادة فمن أبطل القياس؛ لأننا لو قسناه على الشهادة لقلنا: إذن والمال لابد فيه من مرتين؛ لأنه لابد من رجلين في المال فلابد من الإقرار مرتين ولم يقل به أحد، حتى الذين قالوا بالإقرار أربعاً في الزنا ما قالوا بالإقرار مرتين في الأموال وشبهها، ويدل لذلك حديث أبي هريرة حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأنيس: «إن اعترفت فارجمها» ولم يقل: إن اعترفت أربعاً، ولكن في الحديث إشكال وهو كيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأنيس: «اذهب فإن اعترفت فارجمها» مع أن الأفضل لمن أتى حدا أن يستر على نفسه ولا ينبغي لمن زنى أن يذهب للقاضي ويقول: إنه زنى، يعني: فعل ماعز جائز ولكن ليس هو الأفضل، بل الأفضل أن يستر على نفسه ويتوب فيما بينه وبين ربه، فكيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أنيساً أن يذهب ليقرر المرأة؟ نقول: إنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليها، لأن المسألة اشتهرت فالرجل صار يسأل وزوج المرأة حاضر ووافق على قول والد العسيف، هذا قرينة تدل على الأمر واقع، وما دام وقع واشتهر فلا ينبغي كتمانه؛ لأن هذا ضرر إذا اشتهرت الفواحش وكتمت فففيها شر، فلما اشتهر هذا الأمر كان لا وجه لستره، ولذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه من يقررها فلما أقرت رجمها. هل يجوز التوكيل في الصلاة؟ إنسان قال لأخيه: أنا الآن بي نوم وأنام قبل أن يؤذن العشاء فوكلتك أن تصلي العشاء؟ لا يجوز إذا وكله في الوضوء والصلاة أيضا لا يجوز، لماذا، لأن هذا عبادة متعلقة ببدن الإنسان، لو وكله في الصوم لا يجوز، وكله في الحج؟ فيه تفضيل إذا كان عجز عن الحج عجزاً مستمراً جاز كما جاءت به السنة وإلا فلا يجوز. في هذا الحديث فوائد: ولتكم الفوائد دائرة على جميع القصة، جواز استئجار الأجير للخدمة، وجه ذلك: أن هذا العقد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلم به وأقره. وفيه خطورة تأجير الشباب، لأن هذا الرجل وهو صحابي حصل منه الزنا بامرأة من استأجره، فإذا كان هذا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة فما بالك في عهدنا اليوم، ولهذا نعتبر أن الخدم الذين يكونون في البيوت من أخطر ما يكون على أعراض أهل البيت، كما أن الخادمات اللاتي تكون في البيوت من أخطر ما يكون على أعراض أهل البيت، وقد سمعنا قضايا مفزعة مشينة تجري من الخدم الذكور والإناث لا يليق بنا أن نتكلم بها في هذا الموضع

ولكنها مشهورة ومعروفة، ولهذا نحن نحذر من استقدام الخدم واستقدامهم إلا عند الضرورة، وكنت أتساهل في موضوع بقاء المرأة خادما بلا محرم لكن بعد أن سمعت ما أصم أذني من القضايا أرى أنها لا تستقدم إلا بمحرم يكون معها يحفظها هي بنفسها ويحفظ منها، ولاسيما إذا كان في البيت شباب، والمسألة خطيرة، وفشو الزنا في المجتمع سبب للدمار، قال الله عز وجل {وإذا أردنا أن تهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فحق عليها القول فدمرناها تدميراً} [الإسراء] ولا تستبعد العقوبة، ولا تغرنك الدنيا والإمهال، فإن الرسول صلى لله عليه وسلم قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» وتلا قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظلمة إن أخذه أليم شديد} [هود: 102] فالنعمة التي نحن فيها اليوم من الأمن والرخاء والرغد الذي وصل إلى حد يضرب به المثل، ووصل إلى حد يستقدم الخادم من لا يحتاجه، حتى بلغني أن شخصا وزوجته عنده ثلاث خدم هو وزوجته فقط واحدة لغسيل البيت، وواحدة للطعام، وواحدة لتنظيف الثياب، وما أدراك ما تنظيف الثياب أمور مفزعة مشيبة، والذي يحصل على هذا الترف والغفلة عن توجيهات الشرع، وإرشاد الشرع حيث نهى عن البزخ، ونهى عن الإسراف وأمر بالاقتصاد ولكن مع الأسف الشديد أن غير المسلمين خير من المسلمين في هذا الباب في الاقتصاد والحرص على حفظ الوقت، وعلى حفظ المال، والناس يحدثوننا عن الأمم الكافرة في حرصهم على الاقتصاد وعلى الوقت، شيء عظيم نعلم أن ما ذهبوا غليه وساروا عليه هو الشرع، لكننا أضعناه وأخذوا به، لهذا أنا أرجو منكم أنتم بما أنكم طلبه علم أن تختلطوا بالمجتمع وتحذروا المجتمع من هؤلاء الخدم ذكورا كانوا أو إناثاً، وتقولوا: من اضطر إلى ذلك اضطرارا حقيقياً فليأت بالمرأة ومحرمها حتى يسلم من شره وتسلم من شره، يعني: أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، حتى إن يكون الرجل عند النساء المتعددات الشابات الجميلات وعمره نحو ستين سنة ثم تأتيه الخادمة ويزني بها! ! عمره ستون سنة قد نضبت شهوته وعنده ثلاث نساء هذه من جملة ما حدثت به وشكي إلى - ويزني بالخادمة التي قد تكون أقبح من نسائه، لكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والذي ينبغي أن نستصرخ إخواننا الدعاة للتحذير من هؤلاء الخدم، سواء كانوا ذكورا أم إناثاً، وإذا أردنا أن نأخذ شاهداً قلنا: كان هذا في خير القرون خطر الخدم والأجراء في البيوت. ومن فوائد الحديث: أن ما أخذ على وجه باطل فإنه يجب رده، دليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم «الوليدة والغنم رد عليك» فأبطل هذا صلى الله عليه وسلم كما أبطل شرط الولاء لغير المعتق في قصة

بريرة، وكما أبطل بيع التمر بأكثر منه، حين قال صلى الله عليه وسلم لما جيء له بتمر طيب قال: «كل تمر خبير هكذا» قالوا: لا، لكن نأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، قال: «عين الربا ردوه» فأمر بده وإبطاله وهكذا كل ما خالف الشرع يجب على المسلمين إبطاله؛ لأن الله أبطله. وفي هذا الحديث: خطورة الفتيا بغير علم وأنها تؤدي إلى تغيير حدود الله، وإلى أكل المال بالباطل، فهذه الفتيا التي أتي بها أن على ابنه الرجم أدت إلى أمرين. على تعطيل الحد الشرعي وهو جلد المائة وتغريب عام، وإلى أكل المال بالباطل، وهكذا الفتيا بغير علم خطرها شديد ولهذا جعلها الله تعالى من أصول المحرمات التي حرمت في جميع الشرائع وهي خمسة: {قل إنما حرم ربي الفواحش منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] فجعلها من هذه الأصول حتى قال بعض العلماء: أن القول على الله بلا علم أشد مما سبق، لأن الإشراك لا يفسد به إلا صاحبه، لكن القول بلا علم تفسد به أمم، ولهذا يجب الحذر من الفتيا بغير علم، ويمر بنا أشياء غريبة جداً منها قال رجل يدعي العلم: إذا وجبت عليك رقبة فاقض دينا عن شخص محبوس وهذا عتق رقبة كفارة قتل، انظر محبوس من خمس ريالات وأخرجه من الحبس، وقل: الحمد لله أعتقت رقبة، هذا شيء واقع أن سئلت عنه، وقال رجل ممن سافر لرمضان في العمرة فإنه يحرم عليه أن يفطر، لماذا؟ لأن الصوم واجب، والعمرة تطوع، والتطوع لا يسقط الواجب، ما شاء الله قياس! ! إذا سمعت هذا الكلام قلت: هذا كلام ابن تيمية، لكن هل هذا صحيح، هل يجب الصوم في السفر حتى نقول: إن السنة لا تسقط الواجب، الصوم في السف لا يجب، لو سافر الإنسان في رمضان للنزهة جاز له الفطر، بل قال أبو حنيفة رحمه الله وشيخ الإسلام ابن تيمية لو سافر سفرا محرما فإنه يجوز له أن يفطر في رمضان، أعرفتم مضرة الفتيا بغير علم وأشياء طويلة وعريضة بعضها نسيته ولكن هذا شيء سمعته من قرب، فالحاصل: أن الفتيا بغير علم فيها مضار عظيمة، لو لم يكن منها إلا أنها تؤدي إلى عصيان الله في قوله تعالى {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} من فوائد الحديث: أن الزاني إذا كان غير محصن وجب جلده مائة جلدة وتغريبه سنة كاملة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم «لأقضين بينكما بكتاب الله» فبين أن عليه الجلد وتغريب عام، ولكن

هذا الحديث فيه إشكال، أما جلده مائة ففي كتاب الله واضح: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدة منها مائة جلدة} [النور: 2] لكن تغريب العام أين هو في كتاب الله؟ نعم في كتاب الله، لأن ما ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أوجب الله علينا اتباعه، إذن هو في كتاب الله من حيث وجوب العمل به. ومن فوائد الحديث: أن الزاني المحصن يرجم؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» والرجم: أن يوقف الزاني أمام الناس، ويضرب بالحصى لا كبيرة ولا صغيرة حتى يموت، والمحصن هو الذي تزوج وجامع زوجته، فأما من لم يتزوج فليس بمحصن، ومن تزوج وطلق قبل الجماع فليس بمحصن، لابد أن يكون تزوج وجامع، ولا فرق بين أن تكون الزوجة باقية معه حتى زنى أو قد طلقها أو ماتت عنه لا فرق. ومن فوائد الحديث: الاكتفاء بمرة في الإقرار بالزنا، وجهه: أنه قال: «فإن اعترفت» ولم يقيد الاعتراف بأربع وهذا هو القول الراجح، وقد سبق بيان رجحانه والإجابة عن حديث ماعز.

10 - باب الإقرار

10 - باب الإقرار «الإقرار» مصدر أقر، ومعناه: الاعتراف واعلم أن الإنسان إما أن يقر بحق عليه، أو يقر بحق لهن أو يقر بحق لغيره على غيره، ثلاثة أقسام، إذا أقر بحق عليه فهو مقر وشاهد على نفسه، وإن أقر بحق على غيره، فهو مدع على غيره، وإن سماه إقرارا فهو دعوى، وإن أقر بحق لغيره على غيره فهو شاهد، شهد لفلان على فلان الإقرار بالحق الذي على الإنسان واجب، لقوله تعالى: {يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135] فيجب على الإنسان أن يقر بالحق الذي عليه، ومن أقر ألزم بمقتضى إقراره قليلاً كان أو كثيراً بشرط أن يكون ممن ينفذ إقراره فيما أقر به، إذن لابد أن يكون بالغاً عاقلاً رشيداً، إذا كان إقراره بالمال أو بما يقصد به المال؛ لأن هذا هو جائز التصرف فلو أقر الصبي الصغير فقال: في ذمتي لفلان ألف ريال فإن إقراره لا يصح؛ لأنه لو تصرف بألف ريال ما قبل أو ما صح تصرفه فكذلك إقراره فلابد من أهلية المقر فيما أقر به، وإلا فلا يقبل، إذا رجع عن إقراره فهل يقبل منه الرجوع، نقول: أما في حق الآدمي فلا يقبل منه الرجوع، فلو قال: في ذمتي لفلان مائة درهم ثم رجع وقال: رجعت في إقراري وليس في ذمتي له شيء فإن إقراره لا يقبل، لأنه يثبت حق الآدمي عليه والآدمي رفع حقه مبني على المشاحة، ولا يمكن أن يقبل الرجوع إلا إذا وافق صاحب الحق على الرجوع فالحق له، وأما في حق الله فيقبل الرجوع في غير الحد مثل أن يقول: أنا لم أؤد الزكاة ث رجع، وقال: قد أديتها فإننا فيقبل الرجوع في غير الحد مثل أن يقول: أنا لم أؤد الزكاة ثم رجعن وقال: قد أديتها فإننا نقبل منه الرجوع ونكل أمره إلى دينه ولا نلزمه بأداء الزكاة، وكذلك لو قال: أنا لم أصم القضاء الذي علي من رمضان ثم رجع، وقالك قد قضيته فإننا لا نطالبه. أما في الحدود فقد اختلف العلماء في ذلك: هل يقبل رجوعه ويرفع عنه الحد أو لا يقبل؟ هذا محل خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: يقبل، ومنهم من قال: لا يقبل على الإطلاق، ومنهم من فصل فقال: إن قامت قرينة على كذبه في رجوعه فإننا لا نقبل منه الرجوع، وإن لم تقم قرينة فإنه يقبل، مثال ذلك: لو قامت قرينة على أنه عذب عند الإقرار بغير حق ثم رجع فهنا نقبل رجوعه، ولو قامت قرينة على أن رجوعه ليس بصحيح بحيث يكون قد وصف القضية فقال مثلا أنا قرعت الباب على هذه المرأة في الساعة الواحدة ليلاً، ودخلت عليها وفعلت بها الفاحشة وخرجت في الساعة الرابعة ليلاً؛ ونمت على سرير صفته كذا وكذا وكانت

الحجرة صفتها كذا وكذا طولاً وعرضاً ثم بعد هذا كله قال: رجعت عن إقراري هل نقبله؟ أبداً لا نقبله؛ لأن هذه قرائن تدل على كذبه في الرجوع. ما الدليل القائلين بقبول الرجوع فيما يوجب الحد؟ دليلهم: حديث ماعز بن مالك رضي الله عنه أنهم لما بدءوا يرجمونه وأذلقته الحجارة هرب حتى أدركوه وأكملوا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه»، فقالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل توبة هذا الرجل فقبول الرجوع كذلك، ولاشك أن هذا قياس مع الفارق العظيم؛ لأن المقر أراد رفع الحكم من أصله، أما هذا فقد بقى على إقراره بالزنا، لكن أراد المخرج بالتوبة فقال: «هلا تركتموه ... الخ» لو أن المقر هذا جاءني وقال: أنا أقررت ومازلت على إقراري، ولكن دعوني أتوب إلى الله عز وجل ولم تبلغ الحدود إلى السلطان فإننا ندعه ونقول: دعوه يتوب فيتوب الله عليه، أما إذا وصلت إلى السلطان فلا ترفع، لأن الله قال: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليه} [المائدة: 34]. على كل حال: لا دلالة في حدث ماعز على قبول رجوع المقر، وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية دلالة حديث ماعز على ذلك وقال إنه لو قبل رجوع المقر بالحد عن إقراره ما أقيم حد في الدنيا؛ لأن غالب الحدود في الزنا إنما تثبت عن طريق الإقرار، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابة «منهاج السُنّة» قال: إنه لم يثبت الحد بالبيّنة إلى يومنا هذا، كل الحدود التي أقيمت في الزنا إنما كانت بالإقرار؛ وذلك لأن الشهادة بالزنا ليست هينة لابد أن يتفق الشهود على الشهادة، ولابد أن تكون الشهادة على أنهم رأوا ذكره في فرجها، من يرى هذا؟ صعب حتى رأوه فوقها لا يستطيعون أن يقولوا: إن ذكره في فرجها، ولذلك لا يثبت حد الزنا بشهود أبدًا ولا أظنه يثبت، لكن لو قال لنا قائل: يمكن الآن يثبت بماذا؟ بالتصوير، قلنا: ولا يثبت بالتصوير؛ لأن هناك ما يسمى بالدبلجة، المهم يمكن أن يأخذوا من هذا ومن هذا ويكونّون صورة، فلسنا على يقين حتى في التصوير مشكل والحد لابد فيه من ثبوت، فإذن إذا قلنا بأنه لابد من أن يقيم المقر على إقراره، وفتحنا باب الرجوع فإنه لا يمكن أن يقام حد الإقرار على سبيل الوجوب؛ لأن كل مقر يمكنه أن يرجع لاسيما في عهدنا الحاضر يُحبس ويُلقن الرجوع ثم بعد أن يكتب إقرارًا وإمضاءه على الإقرار ويثبت كل شيء ويحبس يقول له الذين في الحبس: أنكر وأرجع، فيقول: رجعت، فيأتي من الغد يقول: رجعت عن إقراري؟ فماذا نقول له؟ بعد العمليات كلها وإضاعة الوقت والإثبات عليه يرجع في إقراره ويذهب. على كل حال: الإقرار في حق الآدمي لا يقبل الرجوع، وفي حق الله من العبادات الخاصة يقبل الرجوع؛ لأن هذا شيء بينه وبين الله في الحدود فيه خلاف بين العلماء، والراجح أنه لا يقبل الرجوع ما لم تقم بيّنة تؤيد رجوعه بحيث يقيم بينة أنه أكره على الإقرار لم يثبت ثبوتًا

شرعيًا تبرأ به الذمة، أما حكم الإقرار فإنه يقبل الرجوع؛ لأن أصل إقراره لم يثبت ثبوتًا شرعيًا تبرأ به الذمة، أما حكم الإقرار فهو واجب؛ يعني: يجب على الإنسان أن يقر بما عليه في أصله ووصفه في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135]. وإذا أقر الإنسان في الدنيا وأخذ الحق منه كان هذا أفضل له وأطيب مما لو جحد وأخذ منه في الآخرة؛ لأنه في الدنيا يؤخذ منه من ماله والمال يأتي خلفه، لكن في الآخرة لا يوجد خلف إذا أُخذ من أعماله الصالحة، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قال: «ما تعدون المُفلس فيكم؟ »، قالوا: من لا درهم عنده ولا متاع، قال: «لا المُفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا، فيأخذ هل من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئاتهم وطرح عليه، ثم طُرح في النار»، وهذا هو المُفلس، ولهذا ذكر عن بعض السلف أنه إذا قيل له: إن فلانًا اغتابك أرسل إليه هدية، فيقول: ما هذا؟ قال: لأنك أهديت إليّ حسناتك، وأنا أهدي إليك متاع الدنيا، أيهما أبقى؟ الحسنات خير وأبقى، وهذا هو الواقع. إذن الواجب على الإنسان أن يقر بما عليه في الدنيا حتى يستوفي قبل أن يموت. 850 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «قل الحق ولو كان مرا». صححه ابن حبان في حديث طويل. «قل» فعل أمر، والأمر للوجوب، «قل الحق ولو كان مرا» يعني: ولو كان القول مُرًّا، وهذا أحسن من أن تقول ولو كان الحق مرًا؛ لأن الحق وإن كان مر المذاق في أول وهلة لكن عاقبته أن يكون حلوًا، فلو قلنا: قل الحق ولو كان القول مرًا صارت المرارة وصفًا للقول لا للمقول؛ لأن المقول حتى والحق حلو. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قل الحق» ما هو الحق؟ الحق هو ما وافق الواقع؛ لأن ما وافق الواقع هو ثابت، فيكون حقًا، والحديث يدل على وجوب قول الحق ولو أذاق الإنسان مرارة قوله، فلو أن رجلًا جنى على شخص مثلًا قطع يد إنسان عمدًا ثم أمسك الجاني وليس للمجني عله بنية، فإن بإمكان الجانب أن يرفع القطع بماذا؟ بالإنكار، فيقول للمدعي: هات بنية أني أنا الذي قطعت يدك، لكن إذا قال: نعم. أنا الذي قطعت يده فهذا القول سيكون مرًا عليه لكنه حق، كيف يكون مرًا؟ لأنه إذا أقرّ فسوف تقطع يده، وهذا لاشك أنه مرّ على الإنسان وصعب، لكن

المؤمن لا يهمه أن يفوت عضو منه في الدنيا لبقاء حسناته في الآخرة، وعموم الحدث يقتضي أيضًا أن يقول الحق ولو كان مرًا في غير إقرار مثل أن يقول كلمة حق عند سلطانٍ جائر، فإن هذا الحق سيكون مرًا؛ لأن السلطان يخشى من بطشه إذا قيل الحق عنده وهو لا يوافق هواه، ولهذا ورد في الحديث: «أعظم الجهاد كلمة حق عن سلطان جائر»، ويشمل الحديث شهادة الإنسان على أبيه، وعلى ابنه، وعلى أخيه، وعلى قريبه؛ لأن شهادة الإنسان على هؤلاء ستكون مره لكنها قول حق، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقول الحق، ولو كان القول مرًا ويؤخذ من مفهوم الحديث: وجوب اجتناب قول الباطل، ولو كان حلوًا فلا يجوز للإنسان أن يشهد لأحد من أقاربه بشيء هو يعلم أنه كاذب، وإن كان هذا قد ينال لذة ومتعة بهذه الشهادة للقريب، لكن ذلك خلاف الحق، فلا يجوز له أن يشهد به، ومن ذلك إذا كان في قول الإنسان الباطل انتصار لنفسه كما يجري بين الطلبة في المناظرات فتجد الإنسان يعدل عن قول الحق إلى قول الباطل من أجل أن ينتصر لنفسه، فيجد لذلك متعة لأنه انتصر ولو بالجدال بالباطل، وهذا حرام لا تقل الباطل، ولو كان حلوًا؛ لأن الأمر بقول الحق ولو كان مرًا يدل على النهي عن قول الباطل ولو كان حلوًا، ومن ذلك ما يفعله بعض المنافسين عند السلاطين والولاة يأتون إليهم يما يُخالف الواقع مما يكون في رعيتهم من أجل أن يدخلوا عليهم السرور في تلك اللحظة فيجدون في ذلك متعة أنهم قالوا شيئًا يُعجب رئيسهم ومديرهم وإن كانوا يعلمون أن هذا خلاف الواقع، فهؤلاء خالفوا ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الواجب أن تجتنب قول الباطل مهما كان، ولو كان في القول به إرضاء أبيك أو أبنك أو أخيك. «قل الحق ولو كان مرًا» ما وجه دخول الإقرار في هذا الحديث؟ وجه ذلك: أن المُقرّ بما عليه يجد أن في هذا الإقرار مرارة، لكن يجب عليه أن يقول به، عدل المؤلف عن حديث الإقرار من هذا وهو ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا عُذر لمن أقر» هذا الحديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف إلا أن الفقهاء -رحمهم الله- يعبرون به في كتبهم، ويقولون: «لا عذر لمن أقر»، وإذا أقر الإنسان بما عليه فهل يجب أخذه بمتض هذا الإقرار؟ الجواب: نعم، هل يقبل رجوعه

11 - باب العارية

عن هذا الإقرار؟ فيه تفصيل إن كان في حق المخلوق فإن رجوعه لا يقبل، وإن كان في حق الخالق ففيه خلاف 11 - باب العارية ويقال: العارية بالتشديد، والعارية من الإحسان الذي أمر الله به في قوله: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195]. لأنها -أي العارية- إباحة نفع عين تبقى بعد استيفاءه، أي: استيفاء النفع وتأمل التعريف «إباحة النفع»، وليست تمليك بل إباحة نفع، يعني: أنني أنا المعير أبحت لك أن تنتفع بما أعرتك لم أملكك إياه بل هو ملكي، والنفع لي لكني أبحتك أن تنفع نفع عين، تبقى بعد استيفائه، فإذا أباحة العين فهذا ليس عاري، إذا أباحه نفع عين لا تبقى بعد استيفائه، مثال لك: إن قال: أعرتك هذه الخُبزة، ما هو نفع الخُبزة؟ الأكل، إذا أكلتها لم تبق بعد الاستيفاء، ولهذا إذا أضيفت العارية إلى عين لا تبقى بعد استيفاء المنفعة فإنها لا تصح، لكن هل تنزل على المعنى الذي تصح عليه وهو الهبة، أو يُقال: لم تصح العارية مُطلقًا، وأن هذا المستعير إذا أكل الخبزة الني أعير فإنه يضمن قيمتها؛ لأن العارية لم تصح، أو يقال: إنها تصح على الوجه الذي يمكن أن تنزل عليه من وجوه الانتفاع. وقولنا: إباحة نفع وليس بتمليك يُستفاد منه: أن المستعير لو أراد أن يؤجر العين التي استعارها فإنه لا يملك ذلك، لماذا؟ لأن المنفعة ليست ملكًا له لكن أبيحت له إباحة، لو أراد أن يُعيرها مثل: أن يستعير شخص كتابًا من زميله ثم يطلبه زميل آخر فيعيره إياه فهل يملك؟ لا؛ لأنه لم يملك النفع، وإنما أبيح له أن ينتفع، ونظير ذلك من بعض الوجوه: أن الإنسان لو مرّ ينخل عليه تمر وليس عليه حائط ولا حوله ناظر فله أن يقف تحت التمر ويأكل حتى يملأ بطنه لكن لو قال: أنا أملأ بطني: كيلو وآخذ كيلو أبيعه فلا يملك هذا؛ لأنه إنما أبيح له الأكل فقط لا أن يحمل أو يمتلك، كذلك العارية إنما أبيح له أن ينتفع فقط وليس مالكًا للنفع. حكم العارية: حكم العارية ذكرت أنها سنة؛ لأنها داخلة في عموم قول الله تعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195]. لكنها قد تجب أحيانًا، إذا رأيت شخصًا يحتاج إلى ثوب في الشتاء لشدة البرد وأنت معك ثياب فهنا يجب عليك أن تعيره ثوبك كي يدفع به شدة البرد، وجدت شخصًا عطشان، ولكن ليس معه إناء يستقي به من البئر ومعك دلو يمكن أن يستقي به من البئر فحكم العارية واجبة؛ لأن فيها إنقاذ لمعصوم، إنما الأصل فيها أن مستحبة، جاءك شخص يستعير منك سلاحًا لينحر به ناقة فلان ليأكلها هذا حرام؛ لأنها إعانة على محرم، إذن فالأصل أنها سنة وقد تحرم وقد تجب.

وجوب العناية بالعارية وردها على المعير

وجوب العناية بالعارية وردّها على المُعير: 851 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه». رواه أحمد، والأربعة، وصححه الحاكم. «على اليد ما أخذت» عني: على اليد ضمان ما أخذت ورعاية ما أخذت من الأعيان حتى تؤديه إلى صاحبه. وعموم هذا الحديث يتناول عدة مسائل، أولًا: ما أخذ على سبيل العارية، يعني لو أخذت منك شيئًا عارية فعلي رعايته وصيانته وحمايته مما يُتلفه ورده إليك، ومنها: ما أخذ على سبيل الإجارة، كما لو استأجر شخص مني ساعة يستيقظ بها من النوم. فإن عليه حماية هذه الساعة وصيانتها وحفظها وردها إلي، آخذ مي المرتهن رهنًا في دين علي فعليه ما أخذ حتى يؤديه، المهم كل من أخذ شيئًا فإن عليه حماية هذا الشيء والقيام بمصالحه ما دام عنده وأداؤه على صاحبه. «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ومن ذلك العارية، فإذا استعار شخص مني كتابًا مثلًا فعليه حماية هذا الكتاب ورده عليّ، لكن ما تقولون في رجل استعار كتابًا من أخيه وملأه من الحواشي يخط رديء -لا يُقرأ- مداخل لأسطر الكتاب، وفي النهاية جعله كراريس بدلًا ما كان محبوكًا هل يجوز؟ إذا قال هذا المستعير: أنا فعلت كذلك لأجل أن يكون هناك حواش كثرة تنفعك لكن حواشيه غلط بدل أن يكتب الفاعل مرفوعًا يكتب الفاعل منصوبًا والمفعول مجرورًا بالكسرة، نقول: هذا حرام عليه، بل لو وضع حاشية مفيدة صحيحة كان حرامًا عليه حتى يأذن صاحبه، أما تفكيك الكتاب حتى يجعله كراريس ويدعي أن ذلك من مصلحة القارئ لأن حمل الإنسان عشرة ورقات أحسن من حمله ستمائة صفحة، فهذا أيضًا حرام لا، إذا استعار المِنشفة التي تُعلّق بالجدار وتنشف به بعد الغسل، من المعلوم أنك إذا تنشفت بها سوف يزول خملها، فهل نقول: لا تتنشف، لأنك إن فعلت زال الخمل الذي فيها؟ لا، لا نقول هذا، لماذا؟ لأن هذا من لازم الانتفاع بها أن يزول هذا، كذلك إنسان أعارني رِشاء -شيء يُربط به الدلو وينزل في البئر ويُستقى به- فاستعار مني الرشاء لكن بدأ يستخرج الماء بالرشاء، فالرشاء لا شك أنه سيضعف، فهل نقول له: إن عليك الضمان؛ لأن على اليد ما أخذت حتى تُؤديه؟ لا، لماذا؟ لأن هذا من لازم الانتفاع به.

استعرت منه سيارة لأسافر بها إلى الرياض وأرجع، من المعلوم أن السيارة إذا مشت على الإزفلت سوف تتآكل عجلاتها فهل نقول لا تمش فيها لأنك لو مشيت لتآكلت العجلات فتؤديها لصاحبها على غير ما أخذت عليه؟ لا، لماذا؟ لأن هذا من لازم الانتفاع، إذن يُخصص من عموم هذا الحديث أنه متى نقصت العارية بالانتفاع المأذون فيه فإنه ليس على المستعير ضمانها. يؤخذ من هذا الحدث فوائد: أولًا: حرص الإسلام على أداء الأمانة؛ لقوله: «حتى تؤديه»، فلو استعرت من سيارة سافرت عليها ورجعت وانتهت الاستعارة فقلت: تعال خذ سيارتك، قال: لا، أحضرها أنت، من الصواب معه؟ مع صاحب السيارة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «حتى تؤديه». استعرت منه مُسجلًا أسجل به قراءة وانتهيت من التسجيل فقلت: تعالى خذ المسجل، فقال: ائت بالمسجل أنت، فقلت: كيف؟ المسجل لك متى شئت خذه، هل أنا ظالم؟ نعم، المستعير ظالم، كيف يحسن إلي وأقول: أنت الذي تأخذ مالك: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» مرّ علينا قبل مدة أن الواجب على من أطارت الريح ثوب جاره إلى بيته أن يعلمه به أو يسلمه له، فلماذا تقول يكفي الإعلام؟ لأني لم آخذه لمصلحة، لم يكن في بيتي لمصلحة حتى أؤديه، إنما أطارته الريح على بيتي وأنا لست مُلزمًا بأن أحمله إليه، وربما يكون الشيء ثقيلًا يحتاج إلى مؤنه قد تحمل الريح من على سطح جاري شيئًا ثقيلًا حينئذ لا يلزمني حمله بل يكفي الإعلام. ومن فوائد الحديث: وجوب العناية بالعارية وحفظها عن التلف؛ لأنه لا يمكن أداؤها كما أخذها الإنسان إلا بذلك. ويترتب على هذه الفائدة: أنه لو تعدى أو فرّط فهو ضامن؛ لأنه ترك ما يجب عليه، ومن ترك ما يجب عليه لم تكن يده يد أمانه، وكل يد ليست يد أمانه فإنها ضامنة، أما حديث أبي هريرة: 2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك». رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، صححه الحاكم، واستنكره أبو حاتم الرازي، وأخرجه جماعة من الحُفّاظ وهو شامل للعارية. «أدِّ» الخطاب لواحد، لكن المراد به كل يتأتى خطابه، وعلى هذا فيشمل جميع الأمة أد.

أيها المُخاطب الذي تعقل الخطاب، «أد الأمانة»، يعني ما ائتُمنت عليه، «إلى من ائتمنك» فأدها كاملة دون تعد ولا تفريط ولا نقص، «ولا تخن من خانك»، الخيانة هي الغدر في موضع الائتمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تخن من خانك»، وإنما قال ذلك؛ لأن من خان الإنسان قد تأمره نفسه أن يخونه كما خانه أولاً فيُجازى بمثله. هذا الحديث يستفاد منه فوائد منها: وجوب أداء الأمانة ومن بينها العارية، وهذا وجه استشهاد المؤلف بهذا الحديث. ومن فوائد الحدث أيضًا: أن الإنسان لا يرد الأمانة إلا لمن ائتمنه، فلا يردها إلى شخص آخر إلا أن تقوم بينه أو قرينة فليفعل، بيّنة مثل أن يأتي شخص ببينة بأن أمره صاحب الأمانة بان يقبضها، فهنا يتعين أن ترد إليه بالبينة، أو قرينة مثل أن يردها على من يحفظ ماله عادة كرجل استعار من شخص إناء ثم عاد فقرع بينه فسأل عنه، قالوا: إنه في السوق فأعطى الإناء أهل البيت فهل يبرأ بذلك؟ نعم يبرأ؛ لأن هذا هو ما جرت به العادة، ولا يلزمه أن يذهب ويتطلب هذا الرجل. من فوائد الحديث: تحريم الخيانة مطلقًا لقوله: «لا تخن من خانك»، أما تحريم الخيانة لمن خانك فهو منطوق الحديث، وأما تحريم الخيانة مما لم يخن؛ فلأن هذا من باب أولى، وما كان من باب أولى فقد اختلف العلماء هل هو داخل في المنطوق دخولًا لفظيًا، ويكون ذكر الأدنى تنبيهًا على ما فوقه أو هو داخل بالقياس، فيكون اللفظ لا يتناوله لكن تناوله من حيث المعنى؛ لأن القياس الجلي الذي يكون فيه المقيس أولى بالحكم من المقيس عليه لا شك أنه داخل في ضمن اللفظ من حيث المعنى. على كل حال: إذا كان الحديث يدل على تحريم الخيانة لمن خانك فإنه يدل على تحريم الخيانة، من العلماء من أخذ بظاهر الآية وأعلّ الحديث وقال: إن الحديث ضعيف ولم يأخذ به، ولكن هذا ليس بسديد، والجمع بينهما أن نقول: إن العدوان ليس فيه ائتمان المعتدي الذي اعتدى عليك عدوانًا ظاهرًا لكن الذي ائتمنك لا يجوز أن تعتدي عليه في مقابل أنه خانك، لأن مقتضى الأمانة دفع الخيانة، وأنت أمين فليس هذا من باب {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة 194]. فإن قال قائل: ما الجمع بين هذا الحديث وبين حديث هند بنت عتبة حين شكت زوجها أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال: «خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».

فالجواب على ذلك أن نقول: هذا ليس فيه ائتمان، فأبو سفيان لم يأتمنها على ماله، لكنها أخذت قدر حقها الواجب عليه من ماله بدون ائتمان، وهناك فرق بين رجل يأخذ ما يجب له بدون ائتمان وشخص ائتمنه غيره فخان الأمانة. يبقى النظر إذا قال قائل: إذا قلتم بهذا فكل من كان له على شخص دين وقدر على شيء من ماله فله أن يأخذ بمقدار دينه، لأن المدين لم يأتمنه فهو يأخذ من ماله بقدر دينه، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال زوجها بدون علمه؟ فالجواب: أن هذه المسألة يُعبّر عنها عند أهل العلم بمسألة الظفر، يعني: الذي يظفر بماله، شخص له عليه حق هل يأخذ بقدر حقه، وهذه المسألة فيها أربعة أقوال للعلماء: القول الأول: المنع مطلقًا، واستدلوا عليه بهذا الحديث. القول الثاني: الجواز مطلقًا، واستدلوا عليه بالآية: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليك} [البقرة: 194]. حتى إن ابن حزم قال: يجب أن تأخذ من ماله بمقدار مالك؛ لأن الله أمر قال: {فاعتدوا} لكن هذا ليس على سبيل الوجوب؛ لأن قوله: {فاعتدوا} على سبيل الإذن والإباحة، ولهذا لو أسقطت حقك وسمحت كان هذا جائزًا بالاتفاق على كل حال: هذا قول. القول الثالث: إن كان ما أخذته من جنس ما هو لك فلا بأس مثل أن يكون في ذمته لك مائة صاع من بُرّ فتأخذ من ماله مائة صاع من بُرّ، وأما إذا كان من غير الجنس فإنه لا يجوز؛ لأنه إذا كان من غير الجنس صار مبادلة ومعاوضة فيكون عقد بيع، وعقد البيع لا يجوز إلا برضاً من البائع، وعلى هذا فلا يجوز. لو كان في ذمته لك مائة صاع من البر ولم تجد عنده إلا رزًا فهل تأخذ؟ الجواب على هذا القول: لا؛ لأنه ليس من جنس مالك. القول الرابع: أنه إذا كان سبب الحق ظاهرًا فلك أن تأخذ بمقدار حقك، وإن كان باطلًا فليس لك أن تأخذ، واستدلوا لذلك بما إذا كان ظاهرًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أذِن لهند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها؛ لأن سبب وجوب النفقة ظاهر، وهو الزوجية، فهي زوجته فلو أخذت منه ثم عثر عليها ثم طالبها لم يقل الناس: إنها خائنة؛ لأن الناس يعرفون أنها زوجته، ولها حق النفقة، وكذلك أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن نزلوا على قوم ضيوفًا ولم يعطوهم حق ضيافتهم أن يأخذوا من أموالهم بمقدار ما لهم من الضيافة، لماذا؟ لأن الحق سببه ظاهر وهو الضيافة، هذا القول هو

أنواع العارية

الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد على أنه إذا كان سبب الحق ظاهرًا فلك أن تأخذ بغير علم من له الحق، وإن لم يكن ظاهرًا فليس لك أن تأخذ، واستدلوا لذلك بأن الأصل احترام مال المسلم: «إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا»، هذا عام خُص منه ما دلّ الدليل على جوازه، وهو أخذ المرأة من المال زوجها كحديث هند، وأخذ الضيوف مِن مال من استضافوه ولم يضيفهم، هل مثل ذلك الأب لو قصّر لابنه في النفقة، أو الأخ لو قصر أخوه في النفقة الواجبة ولا؟ نعم مثله، وعلى هذا فنقول: الأصل في الأموال التحريم، فلا يحل لأحد أن يأخذ من مال أخيه شيئًا إلى بدليل شرعي، ووقد دل الدليل على جواز أخذ من له النفقة ومن له الضيافة فتقتصر على ما دلّ عليه الدليل، وأما قوله سبحانه: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا} فقد بينا أن هذا في العدوان الظاهر إنسان ضربك اضربه، إنسان نهب منك مالاً انهب المال الذي معه، وما أشبه ذلك، أما الأشياء الخفية فلا، ولأنه لو أجيز الأخذ بما سببه خفي لكان في ذلك فوضى بين الناس؛ لأن كل واحد يقول: أخذت من ماله لأني أطلبه، فيكون هناك فوضى، هات بينة، وقد يعثر استرجاع الحق به، وأما الحديث الذي معنا: «ولا تخن من خانك» فهو بمعزل عن هذا كله؛ لأن الذي ائتمنك جعلك أمينًا والأمين لا يجوز أن يكون خائنًا؛ لأن ذلك ينافي متضى العقد فلا تخن من خانك، وقوله شامل للعارية؛ أي: في قوله: «أدَّ الأمانة إلى من ائتمنك». أنواع العارية: 853 - وعن يعلى ابن أمية رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتتك رسلي فأعطيهم ثلاثين درعًا، قلت: يا رسول الله، أعارية مضمونة أو عاري مؤداه؟ قال: بل عارية مؤداه». رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان. قوله: «إذا أتتك رسلي»، يعني: الذين أرسلهم إليك، «فأعطهم ثلاثين درعًا» ولم يطلب النبي صلى الله عليه وسلم منه علامة كما قال ذلك فيمن أرسله إلى وكيله في خيبر يقول: «فقلت يا رسول الله، أعارية مضمونة أم عارية مؤداه؟ » قال: «بل عارية مؤداه»، الفرق بينهما أن العارية المؤداة هي التي ترد بعينها إن بقيت، فإن تلفت فليس على المستعير ضمان، والعارية المضمونة هي التي لو تلفت لضمنها المستعيد. وهذا الحديث فيه فوائد: أولاً: جواز استعارة الدروع وهي عبارة عن قمص من حديد

مُحلق مربوطة كل خلقة في الأخرى حتى يصير كأنما نسج من حديد يتخذه الناس عند القتال ليتقوا به رءوس السهام؛ لأن السهم إذا ضرب الحديد ما ينفذ وجُعل ليسهل التحرك فيه، وهو موجود أظنه عند بعض الناس هنا لمن أراد أن يطلع عليه، وفيه دليل على أن العارية حسب شرط المعير على المستعير، إن كانت مؤداه فهي مؤداه، وإن كانت مضمونة فهي مضمونة، ولا إشكال في أنه إذا وجد الشرط فالحكم على حسب الشرط، لكن إذا فقد الشرط فهل هي مؤداه أو مضمونة؟ في هذا خلاف بين أهل العلم فمنهم من قال: إنها مؤداه، ومعنى مؤداه: أنه لا ضمان على المستعير إلا بتعدٍّ أو تفريط لقوله صلى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك»، وهذه أمانة، ومنهم من قال: إنها ليست مضمونه إلا أن يشترط، فإن اشترط، فإن اشترط فهي مضمونة سواء تعدي أو فرط، واستدلوا بهذا الحديث وبالذي بعده وبعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحلّ حرامًا أو حرّم حلالًا»، وعلى هذا فتكون مضمونه إن شرط أنها مضمونة، وإن لم يشترط فلا ضمان ما لم تعد أو يفرط. القول الثالث: أنها مضمونة ما لم يشترط عدم الضمان، فإن اشترط عدم الضمان فلا ضمان وإلا فهي مضمونة، والفرق بينه وبين الأول: أن الأول يقول: هي مضمونة لكل حال سواء فرّط أو لم يفرط تعدي أو لم يتعدّ، والقول الصحيح في هذا أنها ليست مضمونة إلا بالشرط، وذلك لأنها أمانة داخلة في عموم الأمانات التي ليس فيها ضمان إلا بتعد أو تفريط، فإن شرط ضمانها فعلى ما شرط؛ لأنه هو الذي ضيق على نفسه، مثال ذلك: استعار منك شخص كتابًا فقلت له: عليك ضمانه فالتزم، فهنا يضمن الكتاب سواء تعدّى أو فرّط أم لم يتعدّ ولم يفرط؛ لأنه شرط عليه فإن شرط عدم الضمان فلا ضمان، وإن سكت ففيه خلاف: هل تضمن أو لا تضمن؟ والصحيح: أنه لا ضمان، ويستثنى من ذلك ما مر علينا، فمثلًا: إذا تلفت العارية فيما استعيرت له، مثل المنشفة إذا أصابها خمل فإنه لا ضمان عليك، وكذلك الكتاب لا شك أنه مع الاستعمال يضعف تجهيزه فليس عليك ضمان، لأنه تلف فيما استعمل له فليس فيه ضمان. 854 - وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعًا يوم حنين. فقال: أغصب يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة». رواه أبو داوود، وأحمد، والنسائي، وصححه الحاكم.

- وأخرج له شاهدًا ضعيفًا عن ابن عباس. استعار منه النبي صلى الله عليه وسلم وذلك قبل أن يسلم صفوان، وقوله: "أغصب"، يعني: أهي غصب؟ وقوله: «عارية مضمونة»؛ يعني: علينا ضمانها لو تلفت، في الأول قال الرسول: «بل عارية مؤداة» وهنا قال: «عارية مضمونة»؛ لأن هذا كافر لم يسلم بعد، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطمئن قلبه بأنها مضمونة فأعاره، ولما أسلم وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها عليه تسامح فيها وقال: "يا رسول الله إني أسلمت" يعني: وإني أريدها لله عز وجل فصار ذلك خيرًا له. ففي هذا الحديث فوائد: أولاً: جواز استعارة أدوات الحرب من الكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار هذه الدروع من صفوان قبل أن يسلم، ويقاس على الدروع كل عتاد الحرب، لكن بشرط أن نأمن من غشه أما إذا لم نأمن فإنه لا يجوز أن نشتريه منه؛ وذلك لأنه - أي: الكافر - عدو للمسلمين بكل حال كما ذكر الله تعالى في عدة آيات: {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1]. {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصرى أولياء ... } [المائدة: 51]. فهم يخشى منهم، فإذا أعطونا عتادًا حربيا من سلاح أو دروع أو وقاية من أشياء مهلكة أو ما أشبه ذلك، فإنه لا بأس به بشرط أن نكون في ضرورة إلى ذلك، فإذا كان هناك ضرورة إلى الاستعانة بهم، وأمنا من شرهم فلا بأس لأجل الضرورة، وليس هذا من توليهم، الذي يكون من توليهم هو أن نذهب إليهم لنعينهم على عدوهم مثل أن يقاتلهم عدو لهم فنذهب معهم نقاتل نعينهم على عدوهم فهذا من ولايتهم ولاشك، فإن كان عدوهم مسلمًا فإنه يخشى على من أعانهم أن يكون كافرًا؛ لأنه أعان كافرًا على مسلم، وإن كان عدوهم كافرًا فإن هذا حرام ولا يجوز بلا شك، ويمكن أن يلتحق المعين بالكافرين في هذه الحال إذا تولى هؤلاء وناصرهم محبة لهم، وأما إذا أعانوك هم على عدوك فليس هذا من باب الولاية، ولكن من باب دفع الضرورة إن اضطررت إليهم وأمنت من سوء عاقبتهم فلا حرج، وهذا هو القول الوسط في هذه المسألة، فإن من العلماء من قال: لا يجوز مطلقًا ومنهم من قال: يجوز ولو أدنى حاجة، ومنهم من قال: يجوز للضرورة وهذا هو الأقرب أنه إذا دعت الضرورة القصوى فلا بأس، أما مجرد الحاجة فلا، ولكن على كل حال ليس هذا من جنس الاستعانة بهم في أدوات الحرب وعتاد الحرب؛ لأن أدوات الحرب وعتاد الحرب الذي يستعمله المسلمون اليوم أغلبها من بلاد الكفار، لكنه يجب أن نأمن من أن يكون هذا العتاد عتادًا فاسدًا أو ضارًا بحيث أننا نضيع أموالنا في مثله ويخوننا عند الحاجة إليه؛ لأنهم لا يؤمنون أعداء بلا شك. ومن فوائد الحديث: أن العارية إذا شرط المستعير ضمانها فهي مضمونة، وإن لم يشترط فليست بمضمونة؛ لأن يد المستعير يد أمانة، والأصل في يد الأمانة أنه لا ضمان عليها إلا بتعد أو تفريط.

12 - باب الغصب

وقوله: «أخرج له شاهد ضعيفًا عن ابن عباس»، من الذي أخرج؟ الحاكم؛ لأن الضمير يعود على أقرب مذكور، والعلماء يقولون - في المصطلح -: هنا ثلاثة أشياء: أولاً: شاهد، والثاني: متابع، والثالث: اعتبار الشاهد، هو أن يروي حديثًا بمعناه من طريق آخر فهنا الحديث الأول عن صفوان، والثاني عن ابن عباس، إذن نقول: هذا شاهد، والمتابع أن يتابع الضعيف راو آخر في الأخذ عن شيخه مثل أن يكون هذا الحديث روي من طريق أحد رجاله ضعيف لكن جاء من طريق آخر يوافق هذا الضعيف في شيخه، فهنا نقول: هذا الضعيف وجد له متابع في شيخه فيقوى الحديث هنا؛ لأن جانب الضعيف قوي بالمتابع الذي تابعه في الأخذ عن الشيخ، أما الاعتبار فهو أن يتبع الإنسان طرق الحديث إذا كان فيه راوٍ ضعيف يتبع طرقه لعله يجد متابعًا أو يتبع جميع المسانيد لعله يجد شاهدًا، واعلم أننا لا نحتاج إلى المتابع ولا إلى الشاهد فيما إذا كان السند صحيحًا؛ لأن المتابعات والشواهد إنما نحتاج إليها لتقوية الضعيف، فإذا استغنينا عنه فلا حاجة إلى طلب المتابع والشاهد، وحينئذٍ لا حاجة إلى التتبع لأنه مضيعة وقت، ولكن يجب أن نعلم أن الشاهد إذا كان الضعيفان على وجه لا ينجبر بالشاهد - يعني: كل م الحديثين المرويين من طريقين ضعيف للغاية - مثل: أن يكون كل من الراويين عن هذا الشيخ معروفين بالكذب، الضعف هنا شديد هذا لو يأتي ألف واحد يتابعون في هذا الشيخ الثقة فإننا لا نقبل، لماذا؟ لأن الضعف شديد وإذا كان الضعف شديدًا فإن الحديث لا يتقوى بالمتابع ولا بالشاهد، لكن إذا كان الضعف يسيرًا فإنه يقوى حتى يصل إلى درجة الحسن لكن الحسن لغيره. **** 12 - باب الغصب "الغصب" مصدر: غصب يغصب، وهو أخذ الشيء قهرًا، وفي الاصطلاح: الاستيلاء على مال الغير قهرًا بغير حق، فخرج بقولنا: "الاستيلاء على مال الغير" ما لو استولى الإنسان على ماله من غيره قهرًا مثل أن يجد المسروق منه ماله عند السارق فيأخذه منه قهرًا، فهذا ليس بغصب؛ لأنه استولى على ملكه لا على ملك غيره، وخرج بقولنا: "قهرًا" السرقة، فإن السرقة يستولي السارق فيها على مال الغير خلسة بدون أن يشعر، وخرج بقولنا: "بغير حق" ما لو استولى على مال غيره بحق كالاستيلاء على المرهون فيباع من أجل مصلحة الغريم، فهنا يستولي القاضي على هذا المال المرهون لبيعه قهرًا على صاحبه لكن هذا بحق فلا يسمى عصبا.

حكم الغصب

حكم الغصب: والغصب محرم بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أمولكم بالبطل إلا أن تكون تجرةً عن تراضٍ} [النساء: 29]. فقال: {لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل}، وكل مال أخذ بغير حق فهو باطل، فيدخل في هذا النهي. وأما في السنة فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترًا معنويًا على تحريم مال المسلم، ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن يوم عرفة في أكبر مجمع للمسلمين فقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»، وكذلك في يوم النحر في منى أكد ذلك: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا». وأما الإجماع فقد انعقد على تحريم الاستيلاء على مال الغير بغير حق، والمغصوب إما أن يكون عقارًا، وإما أن يكون منقولاً، فالعقار مثل الأرض والأشجار وشبهها، والمنقول كالذي ينقل من مكان إلى مكان كالدراهم، والدنانير، والثياب، والسيارات، والأواني، والأمتعة وكلها يدخل فيها الغصب أعني العقار والمنقول ويحرم فيها الاستيلاء على حق الغير بغير حق، ثم ذكر المؤلف حديث سعيد بن زيد. 855 - عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين». متفق عليه. "اقتطع" يعني: أخذ قطعة من الأرض ظلمًا، "الشبر": هو ما بين رأس الخنصر والإبهام عند مد الأصابع، وكان هو المقياس منذ عهد بعيد؛ لأنه في الحقيقة متر لازم للإنسان دائم كل إنسان معه متر إذا اعتبرنا الشبر وكذلك إذا اعتبرنا الذراع، وهو ما بين رأس المرفق إلى رأس الأصبع الوسطى وهو مقياس، وكذلك "الباع" ما بين الخطوتين عند مد الرجل هذا أيضًا مقياس، ثم ظهرت المقاييس الأخيرة وهي المتر وفوعه، لكن أدنى شيء يقدر به في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في الغالب الشبر، وإن كان قد يقاس بالأنملة كما في قص المرأة رأسها عند النسك. وفي رواية للبخاري: «من اقتطع شيئًا»، فيشمل الشبر فما دونه وما فوقه. وقوله: «شبرًا» هذا تقدير بالأقل للمبالغة، وما كان تقديرًا للمبالغة فليس له مفهوم لا قلة

ولا كثرة، ففي قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرًا يره} [الزلزلة: 7 - 8]. فإن عمل دون ذلك يراه أيضًا، وكذلك ما ورد في الأكثر مثل: {إن تستغفر لهم سبعين مرةً فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80]. فلو استغفر أكثر لم يغفر لهم، المهم أن ما قصد به المبالغة قلة أو كثرة فإنه لا مفهوم له. وقوله صلى الله عليه وسلم: «ظلما» هذه متعلق بقوله: «اقتطع» يعني: الذي عمل فيها كلمة اقتطع، فيحتمل أن تكون مصدرًا في موضع الحال، أي: من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، ويحتمل أن تكون صفة لمصدر محذوف تقديره: من اقتطع اقتطع اقتطاعًا ظلمًا، ويحتمل إعرابًا ثالثًا وهي أن تكون مفعولا من أجله، أي: من اقتطع شبرًا من الأرض من أجل الظلم، يعني: الذي حمله عليه الظلم فجزاؤه كذا وكذا، هذه ثلاثة أوجه أقربها - والله أعلم - أن تكون مصدرًا في موضع الحال ظالمًا، والظالم هو المعتدي الذي لا وجه لاقتطاعه. "طوقه الله إياه يوم القيامة"، الضمير في "إياه" يعود على هذا الشبر الذي اقتطعه، ومعنى "طوقه" أي: جعله طوقًا في عنقه كالطوق الذي تلبسه المرأة للزينة، وقوله: "يوم القيامة" يعني: يوم الجزاء والحساب، وهذا اليوم له أسماء كثيرة: اليوم الآخر، ويوم الحساب، ويوم الحشر، ويوم المعاد، وأسماء كثيرة، وذلك لأنه يتضمن هذه الأوصاف التي سمي بها، ويوم القيامة سمي بهذا الاسم، لأنه يقوم فيه الناس من قبورهم لرب العالمين، كما قال تعالى: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليومٍ عظيمٍ يوم يقوم الناس لرب العلمين} [المطففين: 4 - 6]. ولأنه يقوم فيه الأشهاد كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الأشهد} [غافر: 51]. ويقام فيه العدل كما قال تعالى: {ونضع الموزين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئًا} [الأنبياء: 47]. إذن سمي يوم القيامة لهذه الوجوه الثلاثة. "من سبع أراضين" متعلق بـ"طوق"، يعني: يطوقه الله إياه من سبع أرضين، وذلك لأن الإنسان إذا ملك شيئًا من الأرض ملكه وما تحته إلى الأرض السابعة، فإذا ظلم أحد شبرًا من الأرض العليا صار كأنه ظالم من كل أرض مقدار شبر. هذا الحديث فيه: الوعيد الشديد على من اقتطع شبرًا من الأرض أو أكثر أو أقل. وفيه أيضًا: أن من اقتطع شبرًا من الأرض بحق فليس عليه شيء؛ لأن مفهوم قوله: "ظلمًا" أنه إذا لم يكن ظلمًا فليس فيه وعيد، مثل: لو أن رجلاً له جار في الأرض فجاء هذا الجار فأدخل جزءًا من أرض جاره على أرضه، فجاء الآخر الذي قد أخذ من أرضه ما أخذ فأدخل الذي أخد منه إلى أرضه، فهذا لا شك أنه اقتطع شبرًا من الأرض أو أكثر لكن بحق؛ لأن الأرض أرضه، فلا يلحقه هذا الوعيد، وفيه أن هذا العمل من كبائر الذنوب، وجهه: أن فيه وعيدًا في

الآخرة، وكل شيء فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة أو نفي إيمان أو ترتيب غضب أو تبرؤ منه أو ما أشبه ذلك فإنه من كبائر الذنوب، بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: كل شيء رتب عليه عقوبة خاصة في الدنيا أو في الآخرة فإنه من كبائر الذنوب، وذلك لأن المحرمات نوعان: نوع يذكر أن هذا الشيء محرم أو ينهي عنه مثلاً، ولكن لا يذكر فيه وعيد فهذا يكون من الصغائر، ونوع آخر يذكر فيه وعيد، يعني: يرتب عليه عقوبة خاصة به ففي هذا يكون هذا الشيء من كبائر الذنوب. ومن فوائد هذا الحديث: أن الجزاء من جنس العمل، وذلك أن هذا الرجل لما تحمل هذا الإثم بالنسبة للأرض جوزي بأن يتحمل العقوبة بمثلها يوم القيامة. وفيه: إثبات يوم القيامة، وهذا شيء دل عليه السمع والعقل، أما السمع ففي القرآن آيات كثيرة تدل على ثبوت هذا اليوم، والسنة كذلك، كما قال النبي صلى الله عليه والسلام: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً»، وأما العقل فلأن العقل يحيل أن يخلق هذه الخليفة العظيمة ويرسل إليها الرسل، وينزل عليها الكتب، ثم تكون النتيجة أن تموت هذه الخليفة ولا يترتب على ذلك شيء، فإن هذا بلا شك ينافي حكمة الله تعالى، كما قال الله تعالى: "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} [القصص: 85]. فيبن الله عز وجل أن الذي أنزل عليه الكتاب لابد أن يرده إلى معاد يجازي فيه الناس على هذا القرآن. ومن فوائد الحديث: أن الأرضين سبع لقوله: "من سبع" وثبوت كونها سبعًا بهذا العدد المعين ليس مذكورًا في القرآن لكنه مشار إليه في قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12]. فإن المثلية هنا في العدد؛ لأنها ليست مثلهن في الكيف؛ لأن السماء أعظم من الأرض وأوسع، فلا يمكن أن تكون مثلها في الكيفية، إذن هي مثلها في العدد، لكن هذا ليس بصريح، أما السنة فإنها صريحة في ذلك. ومن فوائد الحديث: أن هذه الأرضين متطابقة، هذا هو الظهار؛ يعني: ليس بينها فاصل؛ لأنه لو كان بينها فاصل ما جوزي الإنسان بالعقوبة إلا على الأرض العليا فقط دون الأرض السفلى، وما بينهما مع أنه يحتمل أن نقول: إن هذا ليس بصريح في أنها متطابقة، لأنه إذا كانت الأرضون السفلى ليس فيها سكان يعمرونها فإنه يكون لمن في الأرض العليا الحق في هذه الأرضين. ومن فوائد الحديث: ما ذكره الفقهاء - رحمهم الله - أن القرار تابع لما فوقه، كما أن الهواء

تابع لما تحته، فالإنسان يملك ما تحت أرضه إلى الأرض السابعة، ويملك ما فوق أرضه إلى السماء، فلو أن أحدًا أراد أن يحفر سربًا تحت أرضه فله أن يمنعه، ولو أراد أن يخرج جناحًا من بنائه على هواء جاره فله أن يمنعه من ذلك؛ لأن الإنسان يملك ما تحت أرضه إلى الأرض السفلى، وما فوق أرضه إلى السماء الدنيا. ومن فوائد الحديث: أن يوم القيامة لا يقاس بأيام الدنيا؛ لأن تطويق الشخص من سبع أراضين بمقدار ما غصب من الأرض العليا أمر يبدو مستحيلاً في الدنيا، ولنفرض أنه اقتطع أميالاً ظلمًا فإنه يطوق إياه يوم القيامة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يمكن في الدنيا أن يتحمله الإنسان، ولكن يقال: إن أحوال الآخرة ليست كأحوال الدنيا، بل هي تختلف اختلافًا عظيمًا، ولهذا تدنو الشمس يوم القيامة من الخلائق بمقدار ميل، ولا يحترقون مع أنها لو دنت إلى الأرض الآن بمقدار أنملة لفسدت الأرض واحترقت، كذلك أيضًا يحرق الناس يوم القيامة، فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه ومنهم من يبلغ إلى حقويه ومنهم يلجمه العرق وهم في مكان واحد، كذلك أيضًا يوم القيامة، نور المؤمنين يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وغير المؤمنين في ظلمة، وهذا أيضًا لا يمكن أن يكون في الدنيا، إذن فأحوال الآخرة لا يمكن أن تقاس بأحوال الدنيا أبدًا لوجود الفارق العظيم، والأبدان يوم القيامة تعطي طاقة عظيمة أكثر من طاقتها؛ لأنها تنشأ للبقاء لا للفناء، أما في الدنيا فإنها تنشأ للفناء، ولكن في الآخرة تنشأ للبقاء، فتكون الطاقات في ذلك اليوم غير الطاقات في هذا اليوم، يتفرع على هذه القاعدة: أننا لا نورد على أنفسنا ولا على غيرنا كيف يكون كذلك، لماذا؟ لوجود الفارق العظيم بين هذا وهذا، ويتفرع على هذا أيضًا: أنه إذا كان الاختلاف بين الخلق لاختلاف الدارين فما بالك بالاختلاف بين الخلق والخالق، وعلى هذا فلا يمكن أن تقول في شيء من صفات الله يستحيل أن يوجد في صفات المخلوقين لا يمكن أن نقول: كيف ولم فمثلاً علو الله عز وجل فوق المخلوقات كلها أمر ثابت ونزوله إلى السماء الدنيا نفسه أمر ثابت أيضًا، وهذا يبدو بالنسبة للمخلوق أمرًا مستحيلاً لكنه بالنسبة للخالق ليس بمستحيل، أي: ليس بمستحيل أن يكون الله فوق كل شيء وهو نازل إلى السماء الدنيا؛ لأن الله لا يقاس بخلقه، وهذه قاعدة ينبغي لكم أن تفهموها: أنه لا يمكن أن يقاس الغائب بالشاهد، فإذا صح النقل عن صفة من صفات الغائب وجب قبوله ولا نفسه بالشاهد.

856 - وعن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعةٍ فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: كلوا، ودفع القصعة الصحيحة للرسول، وحبس المكسورة". رواه البخاري، والترمذي، وسمى الضاربة عائشة، وزاد: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «طعام بطعامٍ، وإناء بإناءٍ» وصححه. أدخل المؤلف رحمه الله هذا الحديث في باب الغضب؛ لأنه داخل في معنى الغصب، وهو الاستيلاء على مال الغير قهرًا بغير حق، لكن هذا الحديث ليس غصبًا واضحًا؛ لأنه إنما فيه اعتداء لا غصب، هذه القصة كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه وهي عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، وكانت أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وكانت رضي الله عنها أشد نساء النبي صلى الله عليه وسلم غيرة فيه لشدة محبتها له، وكانت أصغر نسائه، فاجتمع في حقها ثلاثة أسباب: شدة الغيرة، وصغر السن، وشدة المحبة، فيجري منها هذا، أرسلت إحدى نساء الرسول - وهي زينب بنت جحش - إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا وهو في بيت عائشة، وهذا شيء عظيم عند الضرة أن ترسل إليها ضرتها بطعام وهو عندها؛ لأن هذا يثيرها، كيف ترسل طعامًا إليه وهو عندي، هل أنا ناقصة، هل أنا لا أجد ما أعطيه؟ هذه مضادة، فلما جاء بها الرسول يقول: ضربت بيدها فكسرت القصعة، يعني: ضربت القصعة حتى وقعت على الأرض وانكسرت، وهذا الفعل قد يدل أيضًا على قوة الغيرة، والغيرة مثل الغضب قد يفقد الإنسان فيها تصرفه، ولا يستطيع أن يملك نفسه، فلم يعنفها ولم يوبخها بل ضم القصعة هكذا وجعل الطعام فيها، والظاهر - والله أعلم - أن هذا الطعام لا يتأثر إذا وقع على الأرض، ولعله كان تمرًا، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: "كلوا" ودفع القصعة الصحيحة - قصعة عائشة - للرسول وحبس المكسورة لعائشة وقال: "طعام بطعام، وإناء بإناء"، وكأن الطعام الذي هيأته عائشة كأنه دفعه مع قصعتها، وقال: "طعام بطعام، وإناء بإناء"، هذا هو الظاهر ويحتمل أن يكون الطعام الذي جاء فسد لوقوعه على الأرض وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وجعله في القصعة المكسورة، وقال: "كلوا" وحينئذ يكون طعامًا بطعام وإناء بإناء؛ لأن الطعام الذي بعثت به زينب جعل النبي صلى الله عليه وسلم طعام عائشة في قصعة زينب حتى يكون طعام عائشة كأنه طعام زينب، وحينئذ يكون النبي صلى الله عليه وسلم أكل طعام زينب لا طعام عائشة، فيكون طعامًا بطعام، أما الإناء فإن الرسول قد أعطى إناء عائشة لزينب وقال: "إناء بإناء".

هذا الحديث فيه فوائد منها: أن إبهام صاحب القصة لا حرج فيه، ولا يعد ذلك من كتمان العلم إذا كان لا يتعلق بتعيينه فائدة، دليل ذلك قوله: "كان عند بعض نسائه"، فأما إذا كان يتعلق بتعيينه فائدة فإنه لا ينبغي إبهامه. ومن فوائد هذا الحديث: اعتناء السلف بالمعنى والقصة دون من وقعت منه إلا إذا كان في تعيينه فائدة لقوله: "كان عند بعض نسائه". ومن فوائد الحديث: إثبات الأمومة لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمؤمنين لقوله: "أرسلت إحدى أمهات المؤمنين"، وهذا ثابت في كتاب الله، قال الله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6]. ومن فوائد الحديث: جواز استخدام الخادم؛ لقوله: "مع خادم له بقصعة"، وهذا هو الأصل، إلا إذا كان في ذلك محظور، فإنه إذا كان في ذلك محظور يمنع، كما لو خشيت الفتنة أو الانغماس في الترف كما يوجد عند بعض الناس خدم أكثر من أفراد عائلتهم، يذكر أن بعض الناس لا يكون في البيت إلا هو وزوجته ومع ذلك عنده ثلاث خادمات هذا إسراف. ومن فوائد الحديث: جواز إهداء الطعام. ومن فوائده: حل الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآل البيت من قوله: «فيها طعام»، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «كلوا»، أما الصدقة فلا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم وآله، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا تحل له صدقة التطوع ولا الزكاة، وأما آله فتحل لهم صدقة التطوع أيضًا، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة لا تحل لآل محمد»، ولكن هذا العموم يخصصه التعليل لقوله: «إنما هي أوساخ الناس»، والأوساخ لا تكون إلا في الزكاة؛ لأنها هي التي تطهر المال. ومن فوائد الحديث: أن ما فعل على سبيل الغيرة فإن الإنسان لا يلام عليه، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلم الزوجة التي كسرت القصعة، ولكن لا يرفع ذلك الضمان؛ يعني: ما فعل على سبيل الغيرة لا يرفع الضمان إن كان فيه ضمان، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس القصعة المكسورة وأرسل القصعة الصحيحة ولكنه لم يقتد بضرب اليد. ومن فوائد الحديث: أنه لا قصاص في اللطمة والضرب على الظهر والضر على اليد وما أشبه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتص من المرأة التي ضربت يد الخادم، هكذا استدل بعض أهل العلم على انتفاء القصاص في الضربة واللطمة ونحوها، وقال بعض العلماء: بل القصاص ثابت

في الضربة واللطمة ونحوهما؛ لعموم قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194]. وقوله: {وجزؤا سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40]. ولكن بشرط أن يؤمن التعدي في الاستيفاء بحيث يكون القصاص على يد شخص نعلم أنه لا يزيد؛ لأن هناك فرقًا بين الضرب الخفيف والضرب الثقيل، وهذا القول هو الصحيح أن القصاص ثابت في الضرة واللطمة وشق الثوب لعموم الأدلة الدالة على جواز ذلك؛ فإذا قال قائل: لماذا لم يقتص النبي صلى الله عليه وسلم إذا قلتم بثبوت القصاص في اللطمة ونحوها فلماذا لم يقتص النبي صلى الله عليه وسلم للخادم؟ فالجواب: إما أن يقال: إنه لما كان هذا الفعل صادرًا عن قوة الغيرة والإنسان لا يملك نفسه عند قوة الغيرة عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يقال: إن الخادم لم يطالب بحقه، وإما أن يقال: هذه قضية عين يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم استسمح الخادم، ويحتمل أنه أعلمه وسامح هو بنفسه، ويحتمل احتمالات أخرى، وقضايا الأعيان لا تقضي على عمومات الكتاب والسنة. ومن فوائد الحديث: سعة حلم النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث لم يوبخ هذه الفاعلة على ما فعلت وجعل يضم القصعة المكسورة ويضع الطعام فيها. ومن فوائد هذا الحديث: أن الشيء المثلي يضمن بمثله سواء كان مكيلاً أو موزونًا أو معدودًا أو مذروعًا أو مصنوعًا أو غير ذلك، وجهه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حبس المكسورة، وأرسل الصحيحة، وهذه القاعدة، أي: أن الشيء المثلي يضمن بمثله والمتقوم يضمن بقيمته، قاعدة متفق عليها في الجملة، ولكن ما هو المثلي وما هو المتقوم؟ قال بعض العلماء: المثلي كل مكيل أو موزون ليس فيه صناعة مباحة يصح السلم فيه، "كل مكيل أو موزون" هذا الجنس، "ليس فيه صناعة مباحة"، هذا النوع "يصح السلم فيه" هذا أيضًا للنوع، مثل البر هذا مكيل، مثل اللحم، سكر هذا موزون، ليس فيه صناعة مباحة، فإن كان فيه صناعة مباحة خرج عن كونه مثليًا بسبب الصناعة كالحديد فإنه - قبل الصناعة - موزون، لكن إذا صنع منه الأواني خرج عن المثلية وصار متقومًا فإن كانت الصناعة حرامًا كما لو صنع من الذهب فإن هذه الصناعة حرام لم يخرج عن كونه مثليًا؛ وذلك لأن هذه الصناعة لا قيمة لها فلا تخرجه عن أصله، "يصح السلم فيه"، احترازا مما لا يصح السلم فيه مثل المكيلات المختلفة كبر اختلط في شعير وما أشبه ذلك مما لا

يصح السلم فيه فإنه لا يكون مثليًا، وهذا التعريف هو الذي مشى عليه فقهاء الحنابلة - رحمهم الله - ولكن القول الصحيح: أن المثلي ما له مثيل ونظير، سواء كان مكيلاً أو موزونًا أو معدودًا أو مذروعًا أو حيوانًا أو غير ذلك، كل شيء له مثيل ونظير فهو مثلي حتى وإن كان مصنوعًا، ويدل لهذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل القصعة السليمة مكان القصعة التي كسرت، ولو كان هذا من باب المقومات لأرسل النبي صلى الله عليه وسلم القيمة دون القصعة. فإن قال قائل: أليس قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أعتق شقصًا له في عبد وله شريك لم يعتق فإن العتق يسري إلى العبد بقيمته - بقيمة الشقص المشترك - ومعلوم أن العبد له مثيل؟ الجواب أن نقول: بلى قد يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن شقص العبد ليس مثليًا لأنه ليس له مثل، مثال ذلك: زيد وعمرو شريكان في عبد، فأعتق زيد نصيبه من هذا العبد، حينئذ يسري العتق إلى نصيب شريكه فيعتق العبد كله جبرًا بدون اختيار، ويضمن زيد الذي أعتق نصيبه لشريكه عمرو قيمة نصف العبد، فهنا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم القيمة مع أن العبد له، مثل عبد بعيد، فما الجواب؟ الجواب أن يقال: أنه هنا ليس عبدًا كاملاً ولكنه نصف عبد، ونصف العبد لا يوجد، لاسيما إذا قلنا: إن العبد إذا أعتق نصفه صار العتق إلى بقيته، إذن فوجود المثل في هذه المسألة متعذر فيكون فيها دليل على أنه إذا تعذر المثل رجعنا إلى القيمة، هذا هو الصحيح ويدل عليه هذا الحديث. لو أن رجلاً أتلف لرجل شاة فبماذا يضمنها؟ شاة على القول الراجح، وعلى قول من يقول: إن المثلي المكيل والموزون بالشروط المعروفة فإنه يضمنها بالقيمة. فإذا قال قائل: هل يلزم أن تكون الشاة البديلة مماثلة للشاة المضمونة أو لا؟ نقول: أما شرعًا فلا يجوز أن يضمن هزيلة بشاة سمينة أو شاة سمينة بشاة هزيلة، وأما عند المخاصمة والمشاحة فإنه لابد أن تكون البديلة مثل المضمونة، فمثلاً رجل أتلف لشخص شاة هزيلة تساوي عشرة ريالات، وعند المتلف شاة سمينة تساوي عشرين، فقال المتلف لصاحب الشاة المتلفة: خذ شاتي بدلاً عن شاتك، يجوز هذا ما دام برضاه يجوز، وكذلك العكس لو كانت الشاة المتلفة السمينة تساوي عشرين درهمًا ليس عند المتلف شاة إلا هزيلة لا تساوي إلا عشرة ورضي صاحب الشاة المتلفة: خذ شاتي بدلاً عن شاتك، يجوز هذا ما دام برضاه يجوز، وكذلك العكس لو كانت الشاة المتلفة السمينة تساوي عشرين درهمًا ليس عند المتلف شاة إلا هزيلة لا تساوي إلا عشرة ورضي صاحب الشاة المتلفة بالشاة الهزيلة، يجوز، لأن الحق له، ومعلوم أن الإنسان يجوز أن يستوفي حقه بأقل من ماله وبأكثر إذا رضي الطرف الآخر، إذن هذه القصعة الصحيحة هل هي تساوي الأخرى أو مثلها أو أحسن منها؟ محتمل، ليس في الحديث ما يدل على هذا، وإذا كان محتملاً وجب الرجوع إلى القواعد العامة، وهو أن الواجب أن يضمن الشيء بمثله، ولكن إذا اختار أحد الطرفين أن يأخذ أقل من حقه أو أكثر فلا بأس.

حكم الزرع في الأرض المغصوبة

حكم الزرع في الأرض المغصوبة: 857 - وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته». رواه أحمد، والأربعة إلا النسائي، وحسنه الترمذي، ويقال: إن البخاري ضعفه. هذا أيضًا من الغصب، رجل غصب أرضًا وزرع فيها ثم خرج الزرع ونما، فلمن يكون الزرع؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليس له من الزرع شيء» أي: لصاحب الزرع الذي زرع في أرض غيره ليس له شيء؛ لأن الأرض ليست له بل مغصوبة، ولكن له نفقته، ما هي نفقته؟ أجرة الحرث وقيمة الحب، أما نماء الزرع فهو لصاحب الأرض؛ لأنه نما من أرضه ومائه، فليس لهذا الغاصب إلا ما أنفق على هذا الزرع فيعطى قيمة الحب وأجرة الحرث: {إن الله فالق الحب والنوى} [الأنعام: 95]. لماذا لا تقولون: إن الزرع له وعليه الأجرة لصاحب الأرض؟ قلنا: قد قال بذلك من قال من أهل العلم، وعلى هذا نقول: الزرع لك وأنفق عليه حتى يخلص ولصاحب الأرض عليك أجرة المثل، أو سهم المثل، ولكن هذا القول يخالف ظاهر الحديث ويؤدي إلى أن يعتدي الناس بعضهم على بعض، فكل من أراد أن يزرع لذهب إلى أرض فلان وفلان وزرع فيها، فإذا طالبه قال: أعطيك أجرة المثل، أو سهم المثل، فإذا قلنا له: ليس لك شيء والنفقة التي أنفقت نعطيك إياها، حينئذ لا أحد يتجرأ؛ لأنه إذا كان لا يأخذ إلا النفقة صار عمله وحبس نفسه على هذا الزرع ذهب هباء، وحينئذ لا أحد يقدم على هذا العمل. هناك قول ثالث: أنه ليس له شيء إطلاقًا؛ أي: لصاحب الزرع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لعرق ظالم حق»، وهذا القول فيه شيء من الضعف، ولو قيل بأن هذا الزارع يعطي قيمة الزرع فقط؛ لأن الزرع ملكه، وأما الحرث والحبس فليس له شيء؛ لأن الحرث انتفاع بأرض غيره فلا يعطى عنه عوضًا، وأما الحب لما كان ملكه فإننا نعطيه، لو قيل بهذا لكان قولاً جيدًا، ويمكن أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: «وله نفقته» أي: عوض ما اشترى من الحب، وأما ما عمل في الأرض فالأرض أرض غيره، وهذا القول قول قوي، فصارت الأقوال ثلاثة مع احتمال القول الرابع. وقولنا: أجرة المثل أو سهم المثل الفرق بينهما: أن الأجرة ما لها دخل في الزرع، يعني: لو فرض أن الزرع تلف نسلم الأجرة وإذا قلنا بسهم المثل فإنه يعطي مثلا إذا كانت مثل هذه الأرض تزرع بالنصف يعطى بالنصف قل أو

كثر، والاحتمال الرابع يحصل به العدل من جهة أننا رددنا إلى الزراع عين ملكه ويحصل به منع الظلم من حيث إن الزارع لم يحصل على كسب بل حصل على خسارة. 858 - وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض، غرس أحدهما فيها نخلاً، والأرض للآخر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله. وقال: ليس لعرقٍ ظالم حق». رواه أبو داود، وإسناده حسن. هذا أيضًا فيه غصب يقول: "قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"، وهذا فيه إشكال من جهة أن هذا الراوي مجهول، ومعلوم أن جهالة الراوي توجب الطعن في الحديث، فإن أسباب الطعن كما في نخبة الفكر، عشرة منها جهالة الراوي، فيكون هذا الحديث ضعيفا لجهالة رواية؟ والجواب عن ذلك أن نقول: إن جهالة الصحابي لا تضر؛ لأن الصحابة كلهم عدول، وأصل التعليل بجهالة الراوي من أجل أننا لا نعلم عدالته، فإذا كان الصحابة - رضي الله عنه - كلهم عدول فإنه لا يضر أن تجهل عين الراوي من الصحابة. فإن قال قائل: قولكم: إن الصحابة كلهم عدول منقوض بالقرآن؛ لأن الله قال: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن له شهداء ... } [النور: 6]. وقد وقعت هذه القصة مع الصحابة، فإن هلال بن أمية قذف زوجته بشريك بن سحماء وكلاهما صحابيان، وقال الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات: 6]. وهذا إثبات بالفسق فيمن جاء بالنبأ، فكيف تقولون: أن الأصل في الصحابة العدالة وأن جهالتهم لا تضر؟ فالجواب: عن ذلك أن نقول: هذه القضايا المعينة المحصورة بعدد ضعيف لا تمنع من الحكم بالجملة على العدالة في جميعهم؛ لأن الأصل هو العدالة، ثم إن هذا الذي يقع منهم إذا وقع في شخص معين لا يقتضي أن يكون قدحًا في الجميع، ثم إنه إذا وقع من هذا الشخص المعين فإن له من الصحبة وتقدم الإسلام والغزوات مع الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من المقامات الفاضلة ما ينتفي به القدح فيهم - رضي الله عنهم - ولهذا كان جهالة الصحابي لا تضر وإن كان يقع من بعضهم ما يقع، فهو قيل النذر لا من حيث عمل الفاعل ولا من حيث عدد الصحابة مغمور في جانب ما لهم من الفضائل العظيمة الكثيرة.

قال: «رجلين اختصما»، و"رجلين" مبهم، وهذا يوجب القدح في الحديث أو لا؟ لا يوجب إطلاقًا؛ لأن معرفة صاحب القضية ليس شرطًا في الصحة. يقول: "اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، "إلى" هنا للغاية وللانتهاء، أي: أن خصومتها بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاختصام افتعال، من خصمه إذا غلبه في الحجة، فمعنى "اختصما" أي: كل واحد منهما طلب أن يكون هو الغالب في الحجة، محل الخصومة أرض لواحد والنخل لواحد، يعني: أن أحدهما غرس في أرض الآخر. يقول: "فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها" "قضى": أي: حكم بأن الأرض لصاحبها، وهل صاحب النخل الذي غرس؟ أقر بأنها مملوكة لغيره؟ قطعًا، وإلا فكل واحد منهما مقر بأن ملك صاحبه لصاحبه، فصاحب النخل يقر بأن الأرض ليست له، وصاحب الأرض يقر بأن النخل ليس له، "وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله"، يعني: يقتلعه من الأرض من أجل أن يخلي الأرض لصاحبها، ولكن هذا قد يكون فيه ضياع للمال ومفسدة؛ لماذا؟ لأن ربما هذا النخل يموت، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ليس لعرق ظالم حق»، فهذه العروق عروق النخل ليس لها حق؛ لأنها وضعت بغير رضا صاحب الأرض. فوائد الحديث الذي قبله، أولاً: تحريم الزرع في أرض قوم بلا إذنهم، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزرع لصاحب الأرض ولو كان بحق، ولو كان جائزًا لكان الزرع لصاحبه؛ أي: للزارع. ومنها: أن ما حرم لحق العباد جاز إذا أسقطوا حقهم لقوله: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم»، فعلم من هذا أنهم لو أذنوا فلا حرج. وهل يمكن. أن يؤخذ من عمومه أنهم لو أذنوا ولو بعد خروج الزرع؟ إن صح أن تؤخذ هذه الفائدة صار في ذلك دليل على جواز تصرف الفضولي ونفوذه إذا أجيز. ومن فوائد الحديث: أنه إذا وقعت مثل هذه الصورة فإن الزرع يكون لصاحب الأرض وللزارع نفقته. أما الحديث الثاني: ففيه دليل على وقوع المخاصمة بين الصحابة - رضي الله عنهم - وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر اختصام الرجلين في هذه المسألة. وفيه دليل على أن الأختصام لا ينافي العدالة إذ لو نافي العدالة لكان في هذا الاختصام قدح في الصحابيين المختصمين إلا إذا كان الاختصام في باطل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان".

ومن فوائد الحديث: أن من غصب أرضًا فغرس فيها ألزم بقلع النخل، ولكن هاهنا مسائل، أولاً: هل يجوز إلزامه بقلع النخل ولو تضرر؟ نعم؛ لأنه هو الذي جلب الضرر على نفسه. ثانيًا: لو قلع النخل وبقي أثره في الأرض وصار فيها حفر وهذا [منخفض] وهذا مرتفع فهل يضمن صاحب النخل؟ الجواب: نعم؛ لأن هذا أثر فعله. ثالثا: لو أن صاحب الأرض طلب أن يبقى النخل ويقوم وتعطى قيمته لصاحب النخل فأبى صاحب النخل ذلك، فهل يلزم صاحب النخل بأن يبقي نخله ويعطيه صاحب الأرض قيمة النخل؟ المذهب لا يلزم؛ لأن النخل ملكه، ولكن ينبغي أن يقال: إن كان في قلعه فائدة لم يلزم، وإن لم يكن في قلعة فائدة ألزم؛ لأنه إذا لم يكن في قلعة فائدة حصل في قلعه مفسدة وهي إضاعة مال النخل وتفويت منفعة الأرض على صاحب الأرض؛ لأن صاحب الأرض إذا غرس من الآن سيبقى سنوات ينظر الثمر، أما إذا كان النخل باقية قائمة انتفع بها من الآن، فإذا علمنا أن صاحب النخل ليس له غرض صحيح في طلب القلع فإننا نمنعه من ذلك. [نقول]: الحديث يدل على أن الزرع لصاحب الأرض وعليه النفقة، نقول: إذا كانت النفقة أكثر من قيمة الزرع بأن كان هذا الغاصب أنفق على هذا الزرع على حرثه وسقيه وبذره عشرة آلاف ريال وقيمته في السوق خمسة آلاف ريال هل يلزم صاحب الأرض أن يأخذ الزرع بنفقته أولا؟ الجواب: لا؛ لأنه لم يأذن بهذا الزرع حتى نقول: هذا أمر الله وجاءت الخسارة من عند الله، نقول لا نلزم صاحب الأرض بأخذ الزرع ويكون الزرع للغاصب، يبقى النظر تعطيل الأرض مدة الزرع، هل يطالب صاحب الأرض بأجرة أو بسهم بأجرة المثل أو بسهم المثل؟ أجرة المثل يقال: لو استأجرت الأرض للزرع فقال: تؤجر بألف ريال، سهم المثل يقولون: لو زرعت استحق صاحب الأرض الخمس، ربما يختار صاحب الأرض ما هو أكثر، لكن نحن نريد أن نحكم حكمًا شرعيًا هل الأرق أن تكون بالسهم أو تكون بالأجرة؟ نقول: يرجع في هذا إلى عادة الناس في هذا المكان، إذا كان عادة الناس أنهم يؤجرون أراضيهم للمزارعين أخذنا بأجرة المثل وإذا كان عادتهم أنهم يعطون أراضيهم بسهم من الزرع أخذنا بسهم من الزرع، هذه المسألة إن كنت قد قلتها فيعتبر هذا القول تأكيدًا لا تأسيسًا وإن لم أكن قلتها فهو تأسيس.

ويستفاد من الحديث: أن العرق غير الظالم له حق، مثاله: استأجرت منك أرضًا لأغرس فيها شجرًا لمدة عشر سنوات وانتهت المدة والشجر باقٍ فهل يطالبني صاحب الأرض أن أقلع الشجر ويتلف علي؟ نقول: الحديث يدل على أن العرق لو كان بحق فلصاحبه حق، وحينئذ لا نلزمك بقلع هذا الشجر الذي غرسته بل يبقى لك بالقيمة، فيقال: قدر الأرض خالية من الشجر، وقدرها فيها الشجر، فإذا قدرناها خالية من الشجر بمائة ألف وقدرناها موجودًا فيها الشجر بمائة وخمسين ألفًا فتكون قيمة الشجر خمسون ألفًا، فنقول لصاحب الأرض: هذه العرق ليس بظالم فله حق، وحينئذ يبقى العرق مقومًا عليك بقيمته خمسين ألفًا في المثال الذي ذكرنا فإن قال صاحب الشجر: أنا أريد أن أقلع شجري، نظرنا فإن كان قصده الإضرار منعناه، وإن كان له غرض مقصود وافقناه؛ لأنه الآن له غرض مقصود؛ كأن يقول: أريد أن أقلع الشجر بعروفه لأغرسه في أرض لي ويثمر من سنته، هذا له غرض مقصود فنقول: لك الحق الشجر شجرك، وإن قال: أقلعه وأرميه، لكن لا أريد أن ينتفع صاحب الأرض بغرس من الآن وينتظر عشر سنين، ماذا نقول؟ نمنعه؛ لأن في هذا إضرارًا بنفسه وإضرارًا بأخيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، وأنت الآن تتلف هذا الشجر على صاحبك، وأنت أيضًا تخسر خمسين ألفًا. - وآخره عند أصحاب السنن من رواية عروة، عن سعيد بن زيدٍ. - واختلف في وصله وإرساله، وفي تعيين صحابيه. أما الاختلاف في تعيين صاحبيه فإنه لا يضر؛ لأن الصحابة كلهم عدول، وأما الاختلاف في الوصل والإرسال، فقد اختلف أهل الحديث هل هذه العلة قادحة أو ليست قادحة؟ والصحيح أنها ليست قادحة إذا كان الواصل ثقة؛ لأن مع الواصل زيادة علم، ولا ينافي الإرسال، لو كان الوصل ينافي الإرسال طلبنا الترجيح، لكنه لا ينافيه؛ لأن المحدث أحيانا يصل الحديث وأحيانًا يرسله، بل أحيانًا يرفعه وأحيانًا يقفه، أحيانًا يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحيانًا يحدث به من عند نفسه، مثلاً حديث عمر بن الخطاب: "إنما الأعمال بالنيات" ربما يسنده عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وربما يقول عمر لشخص من الناس: "إنما الأعمال بالنيات"، فيرويه الراوي عن عمر بالصيغة الثانية على أنه موقوف، ويرويه الأول على أنه موصول مرفوع. فالحاصل: أنه إذا اختلف في الوصل والإرسال؛ فالصحيح أننا نأخذ بالوصل ما دام الواصل ثقة؛ وذلك لأنه لا منافاة بين الوصل والإرسال.

859 - وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى: "إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا". متفق عليه. كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يتحين الفرص في إبلاغ القواعد العامة، ولا فرصة أعظم من اجتماع الناس في الحج؛ لأن الناس كلهم مجتمعون حتى إنه قبل: إن الذي حج معه نحو مائة ألف والصحابة كلهم مائة وأربعة وعشرون ألفًا، يعني: عامة المسلمين حجوا معه، فكان صلى الله عليه وسلم في هذا الحج يخطب الناس يعلمهم مناسك الحج؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ويعلمهم القواعد الثابتة الراسخة، منها هذا الحديث، وقد سألهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ "، سألهم ليستعدوا لما سيلقي عليهم، لأن المقام مقام عظيم. لما سألهم أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه؛ إذ استبعدوا أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا اليوم وهو معروف أنه يوم النحر، قال: "أليس يوم النحر؟ " قالوا: يقولوا: شهر ذي الحجة كما أنه بين لهم أن هذا اليوم يوم النحر، لكن قالوا: ربما يكون أراد يوم النحر ولم يرد شهر ذي الحجة، لا ندري، فمن كمال أدبهم - رضي الله عنهم - أن قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أليس شهر ذا الحجة؟ » قالوا: بلى، «أي بلد هذا؟ » قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أليس البلد الحرام؟ » قالوا: بلى، قال: «إن دمائكم وأموالكم - والذي أحفظه - أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا». فأكد تحريم الدماء والأموال، الدماء تطلق على القتل فما دونه من الجروح، فإن القتل لا شك أنه يريق الدم، والجرح الذي دون القتل أيضًا يريق الدم وكلاهما حرام، لكن هناك مستثنيات مثل النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة، المهم: هذه القاعدة لها استثناء، كذلك أيضًا الأموال حرام لا يحل للإنسان شيء من مال أخيه بغير حق، لا أن يكتم ما يجب عليه ولا أن يأخذ ما ليس له؛ لأن أخذ الأموال إما كتم ما يجب بذله، وإما أخذ ما لا يجوز أخذه، فإذا كان في ذمة زيد لعمرو مائة درهم وجحدها زيد، هذا أكل للمال بالباطل، لكن عن طريق جحد ما يجب بذله، رجل آخر اعتدى على دكان شخص أخذ مائة مائة درهم هذا أيضًا حرام، نوعه أخذ ما لا يجوز أخذه، فالأموال مثل الزكاة، الرهن الحجر كما هو معروف، المهم: أن هذه القاعدة لها استثناءات، "كحرمة يومكن هذا" هذا من باب التأكيد، "حرمة يومكم هذا": يوم النحر، "في شهركم هذا": مكة.

13 - باب الشفعة

يوم النحر أفضل أيام شهر ذي الحجة؛ لأن الله سماه يوم الحج الأكبر وقيل: يوم عرفة أفضل منه، والأصح أن كل واحد منهما له مزية ليست للآخر، أفضل الأشهر الحرم: الثلاثة المتوالية: شهر ذي الحجة؛ لأن شهر ذي الحجة اكتنفه شهران محرمان هما ذو القعدة ومحرم، مكة معلومة أعظم حرمة في الأمكنة، مكة ويليها المدينة، ويليها القدس. ومن فوائد الحديث: أولاً: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ الشريعة، وأنه ينتهز الفرصة ليبلغها في الأماكن العامة، ولهذا ينبغي لطالب أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الشريعة في الأماكن العامة، لكن بشرط أن يكون الناس مستعدين لقبول كلامه وخطبته لا أن يأتيهم في مكان غير لائق. ثانيًا: من فوائد الحديث: استحباب خطبة الإمام في الحج يوم النحر أو نائبه في الحجيج، لأن أهل العلم يقولون: إنه ينبغي أن يكون للحج إماما إما الإمام الأعظم إن تيسر وإما نائبه؛ لأن الناس غالبًا يحتاجون إلى إمام يقتدون به، ولهذا لما تخلف الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة عن الحج أمر على الناس أبا بكر رضي الله عنه، فلابد للحجاج من أمير، من جملة وظائف الأمير في الحج: أن يخطب الناس يوم النحر، ويوم عرفة أيضًا يعلمهم القواعد العامة في الشريعة والأحكام الخاصة في الحج. ومن فوائد الحديث: تأكيد تحريم الدماء والأموال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أكد ذلك بتأكيد حرمة الزمان والمكان الشهر واليوم والبقعة. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي أن يلقي المتكلم على السامع ما يجعله ينتبه ويستعد لقبول ما يلقى إليه، وهذا بناء على ما أشرت إليه في الحديث أنه سألهم أي يوم هذا؟ .. إلخ. **** 13 - باب الشفعة الشفعة: مأخوذة من الشفع، والشفع ضد الوتر، وسميت شفعة؛ لأن الشفيع يشفع المشتري في استبقاء المبيع؛ وذلك لأن الشفعة هي انتزاع الشريك حصة شريكه ممن اشتراها منه، مثال ذلك: رقم واحد له شريك، رقم اثنين، فباع رقم واحد على رقم ثلاثة على غير الشريك، الشريك الآن رقم واحد خرج؛ لأنه باعه على رقم ثلاثة غصبًا عليه بدون رضاه حتى لو قال: أنا اشتريت وسلمت الثمن وكتبت باسمي نقول: ولو كان كذلك أنا لي الحق أن أنتزعها منك غصبًا، إذن تعريف الشفعة اصطلاحًا: انتزاع الشريك حصة شريكه ممن اشتراها منه. حكم الشفعة: حكمها: أنها ثابتة بدليل السنة، واختلف العلماء هل هي على وفق القياس؛ أو على خلاف القياس فبعضهم قال: إنها ليست على القياس؛ لأن المشتري يؤخذ من حقه بغير رضاه، إذن

هي على خلاف القياس؛ لأن القياس ألا يؤخذ المال إلا برضا: {يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجرة عن تراضٍ منكم} [النساء: 29]. ولكنه لا يصح القول أبدًا أن في الشريعة ما هو على خلاف القياس، كل ما في الشريعة فهو على وفق القياس؛ لأن معنى خلاف القياس أن العقل لا يؤيده أو أنه مناقض للقاعدة المطردة في الإسلام، لكن ليس في الشريعة الإسلامية ما يخالف العقل، وليس في الشريعة ما يخالف القواعد العامة في الشريعة. فإن قال قائل: أليس يروى عن علي بن أبي طالب أنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على خفيه". فالجواب: أن هذا الحديث إن صح لأنه مختلف في تصحيحه ولكنه حسن فمراده بالرأي الذي يكون بادي الرأي لأول وهلة، أما عند التأمل فإنه يتبين أن مسح أعلى الخف أولى من مسح أسفله، كيف؟ لأن المسح ليس غسلاً حتى نقول: إنه يحصل به التنظيف، وأنت لو مسحت أسفل الخف لازداد تلويثًا ولوث يدك أيضًا؛ فلهذا كان العقل والرأي العميق أن يسمح أعلى الخف؛ لأنه يحصل به التعبد لله تعالى، فليس في الإسلام - ولله الحمد - ما يخالف العقل وما يخالف القياس، وما ذكر من أن السلم والشفعة والإجارة والنكاح على خلاف القياس ليس بصحيح حتى النكاح على خلاف القياس مشكل كيف ذلك؟ قالوا: نعم؛ لأن المعقود عليه المنفعة وهي مجهولة ربما تموت المرأة أو ليلة وربما تبقى عشرين سنة فهي مجهولة، إذن هذا عقد على شيء مجهول فهو مخالف للقياس، لكن نقول: ليس في الشريعة الإسلامية ما يخالف القياس، تأمل حتى يتبين لك أن الشريعة كلها على وفق القياس، الشفعة الآن وهي التي استطردنا في الكلام من أجلها، الشريك ينتزع من المشتري حصة شريكه قهرًا فيأتي المشتري يصبح قهرني هذا الرجل أخذ مالي غصبًا علي ما هذا القياس؟ نقول: نعم، هذا هو القياس، أنت رجل جديد وهذا أمكن منك في الملك، وربما تنكد عليه، وكم من شريك تمنى شريكه ألا يكون معه شركة إطلاقًا، فلدفع ما يخشى منه من المخاصمات والمنازعات والمضادة، جعل الشارع للشريك أن يشفع فصار موافقًا للقياس تمامًا؛ لأن الشريعة تدرأ كل ما يمكن أن يكون فيه نزاع وبغضاء، وإذا جاء هذا الشريك الجديد وصار شاذا وعقبه كئودًا أتعب من الشريك الأول؛ ولهذا إذا كان المشتري الجديد شريكًا يشتري بالثمن هل يشفع الشريك الأول؟ الغالب ألا يشفع، يقول: الحمد لله الذي أبدل درهمنا شريكنا الأول بدينار ويبقيه، لكن يأتي رجل مجهول أو رجل يعرف بسوء الشركة وينزل علي ويتعبني، إذن الشفعة موافة تمامًا

للقياس وهي مقتضى الشرع؛ لأنا نعرف أن الشريعة الإسلامية تنبذ كل شيء يؤدي إلى النزاع والعداوة والبغضاء: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه"، "لا ينكح على نكاحه" لا يؤجر على إجارته، لا يسم على سومه، كل شيء يوجب العداوة والبغضاء الشريعة تمحوه محوًا ولا تأتي به أبدًا، ولننظر إلى الحديث الأول: 860 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة». متفق عليه، واللفظ للبخاري. "قضى" بمعنى: حكم، والقضاء إما أن يكون كونيا وإما أن يكون شرعيًا، فإن كان مما يتعلق بالشرع فهو شرعي، وإن كان مما يتعلق بالكون فهو كوني، ففي قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسراءيل في الكتب لتفسدن في الأرض} [الإسراء: 2]. هذا قضاء كوني ولا يمكن أن يكون قضاء شرعيًا؛ لأن الله لا يقضي بالفساد ولا يحب الفساد ولا المفسدين، وفي قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23]. هذا شرعي، يعني: أمر ولذلك لم يكن كل الناس يعبدون الله، وفي قوله تعالى: {والله يقضى بالحق} [غافر: 20]. شمول لهما جميعًا يقضي شرعًا وقدرًا وكونًا بالحق: {والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيءٍ}، وقوله هنا: "قضى بالشفعة" أي: قضاة شرعيًا حكم حكمًا شرعيا بالشفعة، أي: بأن ينتزع الشريك حصة شريكه ممن أشتراها منه. "في كل ما لم يقسم"، هنا عمومان "كل" و"ما" و"فكل" من صيغ العموم، و"ما" اسم الموصول من صيغ العموم، "كل ما لم يقسم" قضى بالشفعة فيه فلو باع رجل نصيبه من سيارة مشتركة فإن الحديث يدل على أن فيها الشفعة، ولو باع نصيبه من كتاب فإن الحديث يدل على أن فيه الشفعة، ولو باع نصيبه من أرض فالحديث يدل على أن فيها الشفعة، ولو باع من بستان، فالحديث يدل على أن فيها الشفعة، ولو باع نصيبه من بيت فالحديث يدل على أن فيه الشفعة، يؤخذ من عموم قوله: "في كل ما لم يقسم" فيشمل العقار، والمنقول، والجماد، والحيوان، وكل شيء هذا عموم لفظي، المعنى أيضًا يقتضيه؛ لأن الضرر الحاصل بالشريك الجديد لا يختلف فيه عقار وغيره بل قد يكون العقار أهون من غيره، لكن قال: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" وهذا الوصف لا ينطق إلى على ما كان عقارًا؛ لأن غير العقار ليس فيه حدود ولا تصريف طرق، فمن ثم ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا شفعة إلا في العقار؛ لأن قوله: "فإذا وقعت الحدود" الفاء للتفريع، والتفريع يدل على أن المفرع عليه يوافق الفرع في الحكم، فعلى هذا الرأي يكون العموم في قوله: "في كل ما لم يقسم" عمومًا أريد به الخصوص،

أي: في كل ما يقسم من الأرض والعقار وشبهها مما له حدود وطرق، وبناء على ذلك لا شفعة في منقول، ما هو المنقول؟ هو الذي ينقل كالسيارات والحبوب الثمار والثياب؛ لأن هذه كلها ليس لها حدود ولا طرق، ثم إن قوله: "إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق" استدل به أيضًا بعض الفقهاء على مسألة أخص من مطلق العقار، وقالوا: إن الشفعة لا تجوز إلا في عقار يمكن قسمه وتحديه، فأما ما لم يمكن قسمه من العقار فليس فيه شفعة، مثل البيوت الصغيرة والبساتين الصغيرة التي لا يمكن أن تقسم، فهذه ليس فيها شفعة، وبناء على هذا القول تكون الأشياء ثلاثة أقسام: منقول وعقار يمكن قسمته وعقار لا يمكن قسمته، فالمنقول ليس فيه شفعة، والعقار الذي لا يمكن قسمته ليس فيه شفعة، والعقار الذي يمكن قسمته فيه شفعة؛ لأن قوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق" يدل على أن هذا العقار مشترك يمكن أن تقع فيه الحدود وتصرف فيه الطرق، ولنضرب لهذا ثلاثة أمثلة: المثال الأول: رقم واحد واثنين شريكان في سيارة، فباع رقم اثنين على رقم ثلاثة نصيبه من السيارة فهل لرقم واحد أن يأخذه بالشفعة من رقم ثلاثة؟ لا، لماذا؟ لأن هذا منقول. واحد واثنين شريكان في بيت صغير لا يمكن أن ينقسم فباع رقم اثنان على رقم ثلاثة نصيبه فهل لرقم واحد أن يشفع على رقم ثلاثة؟ لا، لماذا؟ لأنه لا تمكن قسمته، والحديث يقول: "إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة"، ومن المعلوم أن ضرر الشريك في عقار لا تمكن قسمته أعظم من ضرر الشريك الجديد في عقار تمكن قسمته، لماذا؟ لأن العقار الذي تمكن قسمته إذا رأى الشريك الأول ضررًا من الشريك الجديد قال لهم القسمة، وقال: قسمه وتخلص منه، لكن المشكل إذا كان العقار لا ينقسم فهذا لا يمكن أن يطلب القسمة؛ لأنه لو طلب القسمة قال: لا يمكن أن ينقسم وحينئذ يبقى ضرره متحققًا لا يمكن دفعه، وهذا لا شك أن الشريعة العادلة لا يمكن أن تثبت الشفعة فيما تمكن قسمته وتمنع الشفعة فيما لا تمكن قسمته؛ لأن هذا خلاف الصواب في المسألة. إذن عندنا الآن ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الشفعة تثبت في كل شيء، القول الثاني: أن الشفعة تثبت في كل عقار يمكن قسمته أو لا يمكن، القول الثالث: لا تثبت إلا في عقار يمكن قسمته، وقد علمتم وجهة النظر من الحديث، ولكننا إذا تأملنا وجدنا أن القول الصحيح أن الشفعة ثابتة في كل شيء حتى في المنقول، فلو باع شخص سيارة، يعني: رقم واحد واثنان شريكان في سيارة باع رقم اثنان على رقم ثلاثة نصيبه من هذه السيارة فلرقم واحد أن يشفع على رقم ثلاثة ويأخذ نصيبه؛ لأن عموم قوله: "كل ما لم يقسم" يتناول هذه الصورة، فأما التفريع فإن القول الراجح أن ذكر الحكم لبعض أفراد العموم لا يقتضي تخصيص العموم،

يعني: إذا جاء عموم ثم فرع عليه بذكر حكم يختص ببعض أفراده فإنه لا يقتضي التخصيص، ولهذا قال الجميع في قوله تعالى: {والمطلقت يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروءٍ ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} [البقرة: 228]. قالوا: إن الآية عامة في البوائن والرواجع، يعني: يشمل المطلقة ثلاثًا والمطلقة واحدة، يعني: "أل" في المطلقات من ألفاظ العموم ولم يقولوا: إنه خاص بالرجعيات؛ لأنه فرع عليه قوله: {وبعولتهن أحق بردهن} فإن قوله: {وبعولتهن} خاص بالرجعيات ومع هذا قالوا: إن العموم في قوله: {والمطلقت} باق على عمومه شامل لمن بعلها أحق بردها ولمن لا يحق لبعلها في ردها، إذن القول الصحيح أنه شامل لكل شريك باع حصته في مشترك فإن لشريكه أن يشفع، وفهم من قوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق" أنه لا شفعة للجار؛ لأنه إذا وقعت الحدود صار الشريك جارًا وليس شريكًا، يعني: لو أن واحدا أو اثنين شريكان في أرض اقتسماها ووضعا الحدود صار الشريكان الآن جارين؛ لأنه وقعت الحدود، فهذا الحديث يدل على أن الجار ليس له شفعة لأنه وقعت الحدود، لكن الحديث عندنا فيه أمران: وقوع الحدود وتصريف الطرق، فيؤخذ من هذا أنه لو وقعت الحدود ولم تصرف الطرق فالشفعة باقية، مثل أن تكون الأرض ليس لها إلا شارع واحد فقسمت فصار الشارع مشتركًا بين الجارينن فظاهر الحديث أن الشفعة باقية؛ لأنه اشترط أمرين، الأول: وقوع الحدود وبه يثبت الجوار وتنتفي الشركة، يعني: يكون جارًا لا شريكًا، اشترط شيئًا آخر وهو تصريف الطرق فإن بقي الطريق واحدًا فالشفعة باقية، والحكمة من ذلك: أنه إذا بقي الطريق واحدًا فإن الأذى يحصل من الشريك الجديد، في أي شيء؟ في المشاركة في الطريق، كل يوم يوقف سيارته بالطريق، وأحيانًا يوقف أكبر من ذلك ونكون كل يوم في نزاع هذا تعب، هو يقول: أنا شريكك في هذا الطريق ماذا أقول؟ نعم أنت شريكي فيقول: أفعل ما أريد أوقف سيارة أو أي شيء، إذن فيه تعب فحينئذ نقول لهذا الجار: لك الشفعة؛ لأن الحديث يدل على أنه لابد من شيئين: وقوع الحدود، وتصريف الطرق، فإذا وقعت الحدود ولم تصرف الطرق فالحكم باقٍ، والشفعة باقية وعليه فنقول: هذا الحديث يدل على أنه ليس للجار شفعة إلا إذا كان بينه وبين جاره طريق مشترك. - وفي رواية مسلم: «الشفعة في كل شركٍ: في أرضٍ، أو ربعٍ، أو حائطٍ». "في كل شرك" أي: في كل مشترك، "في أرض أو ربع أو حائط"، "أرض" واضحة، "ربع": دار "حائط": بستان، فهذه ثلاثة أشياء، أرض بيضاء مشتركة إذا باع أحد الشريكين فلشريكه الشفعة،

ربع يعني: دارًا مشتركة بين اثنين باع أحدهما نصيبه فلشريكه الشفعة، "حائط": بستان باع أحد الشريكين نصيبه منه فلشريكه الشفعة. قوله: "لا يصلح"، وفي لفظ: «لا يحل أن يبيع حتى يعرض على شريكه». لا يحل أو لا يصلح؛ لأن نفي الصلاح نفي للحل وزيادة؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» يعني: لا يحل، "فلا يصلح" كقوله: «لا يحل أن يبيع حتى يعرض على شريكه»، الضمير في قوله: «أن يبيع على الشريك»؛ لأنه قال: "في كل شرك"، إذن لا يحل أن يبيع حتى يعرض على شريكه، فإذا حرج أو ساوم على الأرض وأراد أن يبيع فإنه لا يحل له أن يبيع حتى يعرض على شريكه وينظر هل له نظر في هذا الشخص أو ليس له نظر، ووجه التحريم: أن فيه قيامًا بحق الجار؛ لأن الشريك جار وزيادة، فإذا كان جار له حق فالشريك من باب أولى شريك مخالط مقارب وهذا مخالط، أيهما أعظم حقًا؟ الشريك المخالط، فإذا كان جارك له عليك حق فكذلك الشريك من باب أولى. ثانيًا: أنه إذا عرض عليه وكان له رغبة كان أهون من أن ينتزعها من المشتري أولاً؛ لأنه إذا اشتراها قبل أن يبيعها شريكه لم يكن هناك أحد ينازع؛ لأنها لم تنقل لأحد. ثالثًا: أنه ربما إذا اشتراها أحد يتصرف فيها تصرفًا يمنع الشفعة؛ لأن المشتري لو وقف الأرض التي اشتراها امتنعت الشفعة؛ لأن الوقف لا يمكن بيعه فيفوته هذا النصيب. رابعًا: أنه إذا عرض عليه واختاره سلم من منازعة المشتري؛ لأن المشتري ربما ينازع يكون عنده قوة فيحصل عداوة بين المشتري وبين الشريك، ومن أجل هذه المصالح حرم النبي صلى الله عليه وسلم على الشريك أن يبيع حتى يعرض على شريكه، لكن إن باع فهل يصح البيع أو لا يصح؟ البيع صحيح مع الإثم، وذلك لأن النهي هنا لا يعود إلى معنى في العقد، وإنما يعود إلى حق الغير فلم يمنع صحة البيع، فالبيع صحيح لكنه قد فعل إثمًا والبيع هنا لا يسقط حق الشريك من الشفعة إلا أن يتصرف المشتري تصرفًا يمنع الشفعة فحينئذ يضيع حقه. - وفي رواية الطحاوي: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفة في كل شيءٍ». ورجاله ثقات. في رواية مسلم: «الشفعة في كل شرك»، ثم أبدل من هذا العموم بعضًا من كل فقال: «في أرض أو ربع أو حائط»، وهذا يسمى بدل بعض من كل في إعادة العامل وهو "في"؛ لأنه لو كان بدلاً بدون إعادة العامل لقال: في كل شرك أرض أو ربع أو حائط لكنه بدل بإعادة العامل، فهل البدل يخصص المبدل منه؟ ينبني على ما سبق، وقد يقول: إنه لا يخصص، وأن المراد بهذا

البدل التمثيل، يعني: مثل الأرض مثل الربع مثل الحائط وتكون، رواية مسلم موافقة لرواية الطحاوي التي فيها: "كل شيء" عام. وقوله: "ورجاله ثقات" إذا قال أهل الحديث: رجاله، فالمراد: الرواة، حتى لو فرض أن السند كله نساء لا يمكن أن يقول: نساؤه ثقات، بل يقول رجاله؛ لأن المراد الرواة. في هذا الحديث فوائد: أولاً: ثبوت الشفعة في المشترك لقوله: «قضي النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم». ومن فوائد الحديث: أنه لا شفعة لجار إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق. ومن فوائده: ثبوت الشفعة للجار إذا شارك جاره في الطريق، ويقاس عليه كل منفعة يشتركان فيها كما لو كانا شريكين في البئر، أي: أن الجارين بينهما وادي شريكان فيه فباع أحد الجارين، فلجاره أن يشفع؛ لأن بينهما شيء مشترك وهو البئر، فهو كالطريق بل قد يكون أشد الطريق إذا قل ماء البئر وكان أحد الجارين أرضه كبيرة، والثاني أرضه صغيرة، فقال صاحب الأرض الكبيرة: نريد أن نحفر زيادة، الماء قل، فقال صاحب الصغيرة: لا هذا يكفينا؛ لأنه لا يحتاج إلى ماء كثير حينئذ يتنازعان فتحصل العداوة والبغضاء، فإذا كان الجاران مشتركين في شيء من حقوق الملك ومصالح الملك فللجار أن يشفع. ومن فوائد الحديث: ثبوت الشفعة في كل شيء مشترك لقوله: «في كل ما لم يقسم»، «في كل شرك» «في كل شيء»، كلها عمومات وتفريع حكم بعض أفراد العموم لا يقتضي التخصيص. ومن فوائد الحديث: تحريم بيع الشريك بيع الشريك نصيبه حتى يعرضه على شريكه؛ لقوله: «لا يحل أن يبيعه حتى يعرض على شريكه». ومن فوائده: أنه لو عرض على شريكه ثم قال الشريك: ليس لي رغبة فيه ثم باعه فهل تثبت الشفعة بعد البيع أو لا؟ في هذا خلاف، أكثر العلماء قالوا: له الحق، قالوا: لأن إسقاطه للشفعة قبل وجود السبب، ما سبب ثبوت الشفعة؟ البيع، والبيع ما حصل، فإذا أسقط الشفعة قبل وجود الشفعة فقد أسقط الشيء قبل وجود سببه فلا يثبت، قالوا: ونظير ذلك لو أن الرجل قال لورثته: أنا أريد أن أوصي بنصف مالي تسمحون؟ قالوا: نعم نسمح، فأوصى بنصف ماله ثم مات، فهل لهم أن يعارضوا فيما زاد على الثلث؟ لا فرق بينهما وبين المسألة السابقة، والقول الراجح في مسألة الورثة أنه إذا كان في مرض موته المخوف فإسقاطهم صحيح لازم، وهذا هو القول الصحيح؛ لأن السبب - سبب تعلق الورثة بالتركة - وجد وهو مرض الموت المخوف بخلاف ما كان صحيحًا، والمسألة فيها ثلاثة أقوال: الصحة مطلقًا، وعدم الصحة

مطلقًا، والتفصيل، هذه المسألة أكثر أهل العلم يقولون: إنه إذا أسقط الشريك الشفعة وقال: ليس لي فيه غرض فإنه تثبت له الشفعة بعد البيع، وعللوا ذلك بأن إسقاطها قبل البيع إسقاط للشيء قبل وجود سببه فلا يثبت، والقول الثاني: أن استحقاقه للشفعة يسقط، قالوا: لأن هذا هو الفائدة من عرضه على الشريك، وهذا القول هو الذي قواه الشارح صاحب سبل السلام على أنه إذا أسقط حقه من الشفعة فليس له أن يشفع بعد ذلك، ويمكن أن يقال: يفرق بين أن يقول: ليس فيه رغبة وبين أن يقول: الآن ما لي رغبة، لكن لما باعه ندم وأخذ بالشفعة بخلاف ما إذا قال: أنا مسقط للشفعة، فهذا صريح في أن الرجل أسقط حقه وحينئذ لا يعود حقه. ومن فوائد الحديث: أن الشفعة لا تكون إلا في البيع؛ لقوله: «لا يحل أن يبيع حتى يعرض على شريكه» وبناء على هذا لو وهب أحد الشريكين نصيبه لشخص فليس للشريك الشفعة؛ لأن الحديث يقول: "لا يحل له أن يبيع" وهذا ليس بيعًا، ولكن بعض أهل العلم يقول: بل تثبت الشفعة حتى في الهبة؛ لأن الضرر الحاصل بالشريك الجديد لا فرق فيه بين أن يكون الانتقال بهبة أو بغير هبة، ولكن يقدر الشقص بقيمة ويرجع الموهوب له بهذه القيمة على الشريك، فيقال مثلاً: هذا النصيب المبيع يساوي مائة ألف وهو قد آتاك مجانًا بدون شيء فعلى الشريك أن يدفع لك مائة ألف، وهذا القول أصح أي: أن الشفعة تثبت في كل انتقال اختياري، أما إذا كان الانتقال غير اختياري - كما لو مات أحد الشريكين وانتقل النصيب إلى ورثته - فإنه ليس للشريك أن يشفع؛ لأن هذا انتقال اضطراري وليس باختياره، إذا انتقل بإجارة مثل أن يقوم بين اثنين حوض كبير يؤجرانه للبضائع أو للورش أو ما أشبه ذلك فأجر أحد الشريكين نصيبه لشخص ثالث فهل لشريكه أن يشفع ويقول: أنا أحق بالإجازة؟ فنقول: من خصه بالبيع لم يثبته في الإجارة؛ لأن الإجارة انتقال المنفعة لمدة معلومة، والبيع يخالف الإجارة من وجهين: أولاً: أن البيع انتقال العين بمنافعها، والثاني: أن البيع مؤبد والإجارة مؤقتة، فحتى لو حصل فيها ضرر فالضرر مؤقت سنة أو سنتين ثم يزول، ولكن الذي يظهر أن الإجارة تثبت فيها الشفعة لأن الضرر حاصل، وإن كان نسبة الضرر بالنسبة للإجارة أقل بكثير من نسبة البيع، لكن يقال: أن النزاع سيحصل حتى في الإجارة، ويكون تقييد المسألة بالبيع في الحديث بناء على الأغلب؛ لأن كون أحد الشريكين يؤجل نصيبه مع بقاء الملك، هذا قليل، والحديث بناء على

شفعة الجار وشروطها

الأغلب، وما كان بناء على الأغلب فإنه لا مفهوم له، ويمكن أن يقال في وجه آخر: بأن هذا على سبيل التمثيل والعلة في البيع والإجارة واحدة. ومن فوائد الحديث: حكمة التشريع الإسلامي وأنه يحارب كل ما فيه نزاع؛ لأن الإسلام يريد من أبنائه أن تكون قلوبهم صافية بعيدة عن الحقد والغل والكراهية والبغضاء؛ لأن القلوب إذا تنافرت حصل الضرر العظيم، ويقول الشاعر: [الكامل] (إن القلوب إذا تناثر ودها ... مثل الزجاجة كسرها لا يجبر) إذا انكسر قدح من الطين يمكن جبره لكن من زجاج لا يمكن، وإن كان في الوقت الحاضر أظنه يمكن، لكن في الزمن الأول لا يمكن، وعلى كل حال هذا الدين - ولله الحمد - محارب كل شيء يوجب العداوة والبغضاء إلا في الدين، فالدين أوثق عرى الإيمان، الحب في الله والبغض في الله. ومن فوائد هذا الحديث: أن لكل شريك على شريكه حقًا لقوله: «لا يحل له أن يبيع حتى يعرض على شريكه»، والشفعة هل هي حق للمالك يعني: هل يعتبر فيها المالك أو هي حق للشركة، يعني: هل هي من حقوق الملك؟ أو من حقوق المالك، يرى بعض العلماء أنها من حقوق الملك ويرى آخرون أنها من حقوق المالك، فمن قال: إنها من حقوق المالك قال: لا شفعة لكافر على مسلم، فإذا كان هذا المشترك بين ذمي ومسلم، فباع المسلم نصيبه على مسلم، فليس للذمي أن يشفع لأنه لا شفعة لكافر على مسلم، ومن جعل ذلك من حقوق الملك قال: لا فرق بين أن يكون المستحق للشفعة كافرًا أو مسلمًا، وأنه إذا باع شريك الذمي نصيبه على مسلم فاللذمي أن يشفع، وإذا باع المسلم نصيبه على ذمي وشريكه ذمي فله أن يشفع؛ لأنه ذمي مثله، ولو باع على ذمي وشريكه مسلم فله أن يشفع من باب أولى. شفعة الجار وشروطها: 861 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جار الدار أحق بالدار». رواه النسائي، وصححه ابن حبان، وله علة. "الجار": هو من جاورك وصار إلى جنبك من أي جهة كان، ولكن هذا الحديث يقول

المؤلف: "وله علة"، والعلة - كما يقول [في الحاشية عندي]- لأنه رواه جماعة من الحفاظ عن أنس وآخرون عن الحسن عن سمرة وقالوا: هذا هو المحفوظ، لكن صحح ابن القطان الطريقين، وإن كان في سماع الحسن من سمرة خلاف. يقول: "جار الدار أحق بالدار"، وهذه الأحقية هل هي أحقية شفعة، بمعنى: أنه يستحقها إذا بيعت أو أحقية أولوية، يعني: أنه ينبغي للجار أن يعرض على جاره قبل أن يبيع؟ هذا فيه خلاف؛ فمنهم من يرى الأول، يعني: أنه له الشفعة، يعني: أن الجار له الشفعة وهو أحق بالدار إذا بيعت، فله أن يأخذها بالشفعة، وقال آخرون: بل هو أحق؛ أي: أنه يراجع ويعرض عليه البيع أولاً؛ لأنه جار، ومن إكرامه والقيام بحقه أن تعرض عليه قبل أن تبيع؛ لأنه قد يأتي الجار ما ينكد عليه وربما يضره فكونك تراجعه هذا أولى وأقوم بحق الجار، وهذا القول هو الصحيح، أن المراد بالأحقية يعني أحق أن يباع عليه من غيره، فأما إذا بيع فقد تعلق بالشقص حق المشتري، والمشتري أولى من الجار؛ لأنه لا علاقة بين الجار وجاره إلا حق الجوار فقط، أما الملك فملكه مستقل، فلا يمكن أن يرجع أو أن يسقط حق المشتري حتى يعرضه على الجار. 862 - وعن أبي رافعٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجار أحق بصقبه». أخرجه البخاري، وفيه قصة. "بصقبه" أي: بجواره وقربه، والباء إما أن تكون للتعدية، أي: تعدية الحق، وإما أن تكون للسببية أي: أحق بما جواره؛ لأنه قريب وأيًا كان هذا أو هذا فإنها تدل على أن الجار أحق من غير الجار بسبب قربه وجواره وهذه الأحقية ما هي؟ نقول فيها ما قلنا في الحديث الأول: إما أنها أحقية شفعة، وإما أنها أحقية جوار ومراجعة وعرض قبل أن تباع، والثاني هو الصحيح؛ لأن الأحاديث السابقة كلها تدل على أن الجار ليس له الحق في الشفعة إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. 863 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا». رواه أحمد، والأربعة، ورجاله ثقات. قال: "إذا كان طريقهما واحدًا" فهنا الحديث صريح بأن المراد بالأحقية أحقية الشفعة،

لكنه يختلف عن الحديثين السابقين بأن الحديثين السابقين مطلقان وهذا مقيد بما إذا كان طريقهما واحدًا، وإذا قيد الحكم بهذا لم يكن مخالفًا للأحاديث السابقة، وهي قوله: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة»؛ لأن قوله: «إذا كان طريقهما واحدًا» يدل على أن الطرق لم تصرف وحينئذ تجتمع الأحاديث. نرجع أولاً إلى فوائد الأحاديث الثلاثة: فيها دليل على مراعاة حق الجار، ولا شك أن للجار حقًا كبيرًا على جاره، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل إكرام الجار من مقتضى الإيمان فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»، وحتى نفي الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه فقال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه»، يعني: ظلمه وغشمه. ومن فوائد الأحاديث: أن من حق الجار إذا أراد جاره أن يبيع ما جاوره فليعرض عليه؛ لأنه أحق بجواره. ومن فوائد الأحاديث الثلاثة: أنه إذا كان بين الجارين طريق مشترك فللجار حق الشفعة، وحق الشفعة أخص من الحق المطلق العام، وعلى هذا فنقول: إذا كان بين الجارين طريق مشترك فللجار أن يشفع إذا باع جاره. فإن قال قائل: كيف تقولون: إنه يشفع وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»، وأنتم إذا سلطتم الجار على الأخذ بالشفعة استحللتم مال المسلم بغير رضًا منه، وقد قال الله تعالى: {لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} [النساء: 29]. فالجواب عن ذلك أن نقول: إننا سلطنا الجار على الأخذ بالشفعة من أجل دفع الضرر الذي يتوقع من هذا الجار الجديد؛ لأن بينهما طريقًا مشتركًا هذا الطريق ربما يتعرض الجار الجديد لأذية الجار الأول بالمزاحمة ووضع الحصى والسيارات وهكذا، أما إذا كان ليس بينهما شيء مشترك لا طريق ولا بئر ولا ماء ولا غيره فإنه لا شفاعة؛ لأن الأصل تحريم أخذ المال من المشتري بغير حق، أصل المال محترم اشترى بماله والملك ملكه كيف نأخذه منه قهرًا. وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال أعني هل للجار شفعة أو لا؟ فمن العلماء من قال: لا شفعة له مطلقًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شرك أي: في كل مشترك، والجوار ليس شركًا، فمنطوق الحديث: أن الشفعة ثابتة في المشترك، ومفهوم الحديث: أنه لا شفعة في غير المشترك، ولأن الأذية في المشترك أشد من الأذية في المجاور،

فلا يمكن أن نقيس المجاور على المشترك؛ لأن من شرط القياس تساوي الأصل والفرع، إذن فالجار انتفي أن يكون له حق الشفعة بمتضى النص ومقتضى القياس فلا شفعة له. القول الثاني: أن للجار شفعة، وأخذوا بعموم الحديثين: "الجار أحق بصقبه"، والثاني: "جار الدار أحق بالدار" وقالوا: هذا عام، والمنطوق في حديث جابر لا يعارضه؛ لأن المنطوق في حديث جابر ما هو؟ ثبوت الشفعة في المشترك، مفهومه عدم ثبوتها في عدم المشترك، والمنطوق عند أهل العلم مقدم على المفهوم، كون الجار لا شفعة له نستدل عليه من حديث جابر بالمفهوم، ونستدل على ثبوت الشفعة له بالمنطوق في الحديثين الأخيرين، والقاعدة عند الأصوليين أنه إذا تعارض المنطوق والمفهوم فإنه يقدم المنطوق؛ لأن دلالته أقوى، إذن فللجار حق الشفعة مطلقًا. القول الثالث: قول وسط يأخذ بالحديثين فيقول: إذا كان بين الجارين حقوق مشتركة كالطريق والماء وما أشبه ذلك من الحقوق فللجار أن يشفع، وإن لم يكن بينهما حقوق مشتركة فليس للجار شفعة، وهذا القول اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الصحيح؛ لأن هذا القول دل عليه النص والمعنى، واجتمعت به الأدلة، فالنص حديث جابر: «الجار أحق بجاره إذا كان طريقهما واحدًا» وحديث جابر أيضًا الذي صدر به المؤلف الباب، "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة"، فيفهم منه أنه إذا لم تصرف الطرق فالشفعة ثابتة وإن وقعت الحدود؛ لأنه بوقوع الحدود يكون الشريك جارًا وبتصريف ينفصل انفصالاً تامًا، فيفهم منه أنه إذا لم تصرف الطرق فإن الشفعة ثابتة، وهذا القول به تجتمع الأدلة كما عرفتم، وهو الصحيح. إذا قال قائل: "إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق" خاص بالأرض وشبهها فما تقولون إذا كان الجوار في منقول؟ نقول: إذا كان الجوار في منقول فلا أحد يقول بالشفعة فيه، يعني: لو أضع مسجلي إلى جنب مسجله ثم أبيعه هل تشفع؟ لا، لا أحد يقول بهذا، وعلى هذا فتكون الشفعة للجار خاصة في العقار، أما المنقول فلا أحد يقول فيه. في الحديث الأخير قال: «ينتظر بها وإن كان غائبًا» يستفاد منه: أن الشفعة لا تسقط بطول المدة؛ لقوله: "ينتظر بها"، فإذا كان الجار غائبًا وكان بينهما طريق مشترك فإن الشفعة لا تسقط ينتظر بها، ولكن إذا علم بها الشريك بالبيع فهل له أن يؤخر حتى ينتظر ويتروى ويفكر أو يحصل الثمن إن كان ليس عنده، أو نقول: إما أن تأخذ الآن وإما أن يسقط حقك؟ ظاهر

حديث جابر، أنه ينتظر بها ويمهل؛ لأن الإنسان قد لا يستوعب النظر في الأخذ بالشفعة في حال علمه بالبيع، لاسيما إذا كان العقار كبيرًا والثمن كثيرًا؛ لأنه محتاج إلى نظر وترو، وهذا القول هو الذي يدل عليه الحديث وهو الصحيح، والقول الثاني: أن لشفعة لابد أن تكون فورية؛ يعني: على الفور، فإن لم يطالب بها على الفور فإنها تسقط، واستدل أصحاب هذا القول بقول المؤلف: 864 - وعن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفعة كحل العقال». رواه ابن ماجه والزار، وزاد: «ولا شفعة لغائب» وإسناده ضعيف. هذا الحديث: «الشفعة كحل العقال» أي عقال؟ عقال البعير؛ لأنه هو الذي يحل، وحل عقال البعير إذا أراد الإنسان أن يحله لا يحتاج إلى مدة؛ لأنه لا يعقد وإنما يجعلونه نشيطًا يعني: ينشط نشطًا بحيث إذا جذبته انحل، هذا العقال ينحل بسرعة، فالحديث يدل على أنه لابد من المبادرة ولا شفعة لغائب، وظاهره وإن لم يعلم بالبيع، وهذا الحديث - كما ترون - ضعيف السند شاذ المتن، ضعف السند حكم به المؤلف والشذوذ في المتن؛ لأنه قال: «ولا شفعة لغائب» والحديث الذي قبله أصح منه، قال: «ينتظر بها وإن كان غائبًا»، وعلى هذا فيكون الحكم المستفاد من هذا الحديث حكمًا باطلاً ضعيفًا لا يعتمد، والشفعة كغيرها من حقوق الإنسان لا تسقط إلا بما يدل على إسقاطه إياها بالقول أو بالفعل. ولكن إذا قال قائل: إلى متى؛ لأن المشتري يقول: أخبرني هل أنت تريد الشفعة فخذ مالك وأعطني الدراهم أو لا تريد فدعني أتصرف؟ نقول: إذا طالب المشتري بيان الحال وقال للشريك: أعلمني بماذا تريد فإنه يجبر الشريك على أن يأخذ أو يدع، ويمهل المدة - إذا طلب الإمهال - التي يمكنه أن يتروى فيها وينظر، فإذا قدرنا أن هذا الشريك باع نصيبه بخمسمائة ألف وجاء المشتري وقال: تأخذ بالشفعة قال: أنظرني حتى أرى هل أنا سأحصل خمسمائة ألف أو لا أحصل، هل إنه من المصلحة أن آخذ بالشفعة أو لا؟ ففي هذه الحال نقول له: حق يمهل لا دائمًا، ولكن المدة التي لا يتضرر فيها المشتري، ويقال لابد أنه يمهل. خلاصة هذا الباب: أن الشفعة ثابتة في كل شيء مشترك.

14 - باب القراض

ثانيًا: أن الشفعة ثابتة للجار بشرط أن يكون بينه وبين جاره حقوق مشتركة مثل الطريق والماء. ثالثًا: لابد أن يبادر بالشفعة، ويمهل المدة التي يقدرها الحاكم إذا طلب الإمهال على وقت لا يتضرر الشفيع بذلك. **** 14 - باب القراض "القراض": مصدر قرض يقارض قراضًا ومقارضة: وهو مأخوذ من القرض وهو القطع، فالقراض في اللغة: من القرض وهو القطع، وفي الاصطلاح: "دفع مال لمن يعمل فيه بجزء مشاع معلوم من ربحه وإن شئت فقل بجزء من ربحه"، ولابد أن يكون هذا الجزء مشاعًا معلومًا مشاعًا، يعني: عامًا لا معينًا معلومًا لا مجهولاً، وتسمى بالمضاربة، والمضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض، وهو السفر؛ لأن الغالب أن الذي يأخذ المال يسافر من أجل أن يشتري السلع من خارج البلد ليأتي بها إلى البلد فيربح، إذن لها اسمان: مضاربة ومقارضة وقراض مثالها: أعطيتك عشرة آلاف ريال على أن تتجر بها ولك نصف الربح، فاتجرت بها وصارت اثني عشر ألفًا، فكم نصيبك منها؟ ألف، ولابد أن يكون هذا الجزء مشاعًا، فلو قلت: خذ عشرة آلاف ريال اتجر بها ولك من الربح خمسمائة ريال والباقي لي أو لي خمسمائة والباقي لك هذا لا يصح؛ لأنه لابد أن يكون الجزء مشاعًا لا معينًا، لأن المعين ربما لا يربح المال إلا هذا القدر المعين، وربما لا يربح ولا القدر المعين، وربما يربح شيئًا كثيرًا يكون هذا قدرًا معينًا قليلاً بالنسبة للربح، فإذا قلنا: لك نصف الربح، لك ربع الربح صار صاحب المال والعامل مشتركين في المغنم والمغرم، أعطيتك عشرة آلاف ريال على أن تتجر بها ولك بعض ربحها مشاعًا لكنه غير معلوم؛ لأن البعض مجهول، إذن لا تصح المضاربة، لماذا؟ لأننا قلنا: لابد أن يكون الجزء مشاعًا معلومًا. مثال رابع: أعطيتك عشرة آلاف ريال على أن تتجر بها ولك من الربح ما شئت ما تقولون؟ هذا لا يصح أيضًا؛ لأنه مجهول ما ندري، ربما يشاء النصف، ربما يشاء الثلثين، ربما يقول كل الربح لي، إذن لابد أن يكون مشاعًا معلومًا وإلا لم تصح، هذه المعاملة ادعى بعض العلماء أنها على خلاف القياس، وقد ذكرنا فيما سبق أن كل من ادعى شيئًا ثبت شرعًا أنه على خلاف القياس فقوله هو خلاف القياس أي: قول هذا المدعي هو خلاف القياس لماذا؟

لأنه ليس في الشرع شيء يخالف القياس؛ لأن المراد بالقياس: النظر والعقل، فتقول أنت دعواك أن في الشرع ما يخالف القياس هي خلاف القياس، ما من شيء في الشرع وهو على وفق القياس، هذه المضاربة قالوا: إنها على خلاف القياس؛ لأن الربح مجهول قد يأخذ عشرة آلاف ريال على أنه سيربح خمسة آلاف ريال ولكنه لا يرح إلا عشرة ريالات، كم نصيبه؟ إنسان صار يكدح ليلاً ونهارًا بهذا المال عشرة آلاف ريال، ويضرب الفيافي والقفار والجبال والأودية، فلما رجع وصفي المال فإذا الربح خمسة ريالات وهو أخذه بالخمس - خمس الربح - يكون نصيبه ريالاً واحدًا فيكون هذا مجهولاً وربما يكسب خمسة آلاف ريال فيكون ألف ريال قالوا: هذا مجهول، فهذا العقد على خلاف القياس؛ لأننا أجريناه مع جهالة الربح، فيقال: بل هذا على وفق القياس؛ لأن المتجر بماله ربما يربح وربما يخسر، الذي يتجر بماله تجده يسعى ويسافر ويخاطر ويضرب البحار ويضرب البراري ثم لا يربح بل قد يخسر، إذن كونه يربح أو لا يربح هذا ليس خطرًا ولا فيه غرر؛ لأن الإنسان نفسه يعمل بماله ويربح ويخسر، ثم نقول: بل هي على وفق القياس تمامًا؛ لأن فيه مصلحة للطرفين، من هما؟ صاحب المال والعامل، فصاحب المال يكسب من ماله وهو مستريح، والعامل يكسب من مال الرجل، ولولا هذا لم يكن عنده مال يتجر به فصار فيها مصلحة للطرفين للمضارب والمضارب وهذا هو عين القياس، ونظيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر منهم العمل والأصل لمن؟ للمسلمين والثمرة بينهم، وهذا تمامًا نظير المضاربة، المال من رب المال، والعمل من العامل، والربح بينهما، الربح في مسألة خيبر يوازي الثمر، والأصل في خيبر النخل والأرض يوازي رأس المال من المضارب. إذن المضاربة يتبين أنها على وفق القياس، وأنها من المصلحة للطرفين المضارب والمضارب الذي أخذ المال وأتجر به، ولهذا إذا خرجت عن العدل صارت حرامًا لو أعطاه المال وقال له: خذ هذا المال واتجر به ولك ربح الرز ولي ربح السكر صارت حرامًا لا تجوز، لماذا؟ لأن السكر قد يربح كثيرًا والرز لا يربح أو بالعكس، فيكون أحدهما غانمًا والثاني غارمًا، ومثال آخر: خذ هذا اتجر به ولي من الربح ألف والباقي لك أيضًا لا يجوز، لماذا؟ لأنه ربما لا يربح إلا هذا الألف فيكون خسرانا وربما تتوقع أنه سيربح ألفين ويكون الربح بينكما نصفين ولكنه يربح عشرة آلاف، فلا يكون لرب المال من الربح إلا العشر، بل إنما كنا نتوقع أنه يسكون له النصف، إذن إذا خرجت عن العدل حينئذ تكون خارجة عن القياس ولا تصح، إذا لم تصح فماذا نعطي العامل هل نقول: ليس للعامل شيء لأن هذا عقد فاسد محرم فلا يترتب عليه شيء، أو تقول: للعامل أجرة المثل، يعني: كأنه خادم يشتغل بالمال فتعطيه أجرة مشاهرة كل شهر كذا، أو نقول: للعامل سهم المثل أيهما أقرب؟ عرفتم في قواعد ابن رجب

أن في المسألة خلافًا، وأن الصحيح ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أن للعامل سهم المثل؛ لأننا إذا قلنا: سهم المثل فإننا لو قدرنا أن العقد صحيح ولم يربح ماذا نعطيه؟ لا شيء، ولو قلنا أجرة المثل لزم أن نعطيه أجرة المثل وإن لم يربح المال، أيضًا ربما يربح شيئًا كثيرًا وربما يربح ما لو أعطي نصيبه لصار له في الشهر عشرة آلاف وأجرة المثل له في الشهر ألف فإذا قلنا: له سهم المثل نقول: الآن نقدر كأن المضاربة صحيحة، وكم يأخذ من السهم، قال: وهذا عادة يأخذه على نصف الربح، نقول: إذن كم ربحت الآن؟ قال: عشرة آلاف، فنعطيه خمسة آلاف قال: ربحت ألفين نعطيه ألفًا وهلم جرا، الآن ما ربح شيئًا فلا نعطيه شيئًا، وذلك لأن العامل إنما دخل على أنه مضارب ما دخل على أنه أجير حتى نعطيه أجرة إنما دخل على أنه مضارب وأنه خاضع للربح أو للخسران فكيف تعطيه أكثر مما توقع أو نعطيه أقل لو كان الربح كثيرًا، فالصواب إذن أنها إذا فسدت فإننا نعطيه سهم المثل، لو قدر أن الاتفاق الذي بينهما كان على نصف الربح، وأن سهم المثل لو نظرنا إلى السعر العام بين الناس لكن المضارب يعطي الثلث، فماذا نفعل نعطيه الثلث أو النصف؟ نعطيه الثلث ما دام قلنا سهم المثل؛ وذلك لأنه ربما يكون هناك محاباة أو ضرورة إلى من يعطيه النصف، والعادة أنه لا يستحق إلا الثلث، فنقول: ما دام هذا العقد فاسدًا وتبين أنه باطل فإننا نرجع إلى سهم المثل، ونقول: ماذا يكون سهم العامل في أوساط الناس؟ قالوا: يكون الثلث، نقول: ليس له إلا الثلث. 865 - عن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجلٍ، والقارضة، وخلط البر بالشعر للبيت، لا للبيع». رواه ابن ماجه بإسنادٍ ضعيفٍ. "ثلاث" مبتدأ و"فيهن البركة" مبتدأ وخبر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول، فالخبر هنا جملة أسمية: "فيهن بركة"، والبركة: هي الخير الكثير الثابت، وأصله: مأخوذ من البركة؛ لأنها تجمع الماء وهي كبيرة ويثبت فيها الماء بخلاف الساقية؛ لأن الساقية يمشي منها الماء، يعني: فيهن الخير الكثير الثابت. أولاً: "البيع إلى أجل"، وهذا يشمل تأجيل الثمن وتأجيل المثمن، فتأجيل الثمن مثل أن أقول: بعت عليك هذه الدار بعشرة آلاف مؤجلة إلى سنة، هذا تأجيل الثمن، تأجيل المثمن، مثل: أن أقول للفلاح: هذه بمائة درهم بمائة صاع توفين إياها بعد سنة، هذا أيضًا إلى أجل، المؤجل فيه المثمن وهذا الأخير يسمى السلم وقد ثبتت به السنة.

البيع إلى أجل بين طرفين سواء في الثمن أو في المثمن فيه بركة وذلك من وجهين: الأول: أنه لابد أن يكون فيه زيادة، فالذي يباع نقدًا بمائة إذا بيع مؤجلاً سكون بمائة وعشرة مثلاً ففيه زيادة. الوجه الثاني: أن فيه راحة للمشتري، فبدلاً من أن نسلم الثمن نقدًا يؤجل إليه إلى سنة فيكون في هذا سعة له، ففيه إذن بركة من وجهين: وجه للبائع بزيادة الثمن له بسبب التأجيل، ووجه ثان للمشتري بسهولة دفع الثمن؛ لأن النقد أصعب على الإنسان من المؤجل. الثاني: "المقارضة" وهي ما نحن فيه، يعني: المضاربة، ففيها بركة لصاحب المال؛ لأن ماله بكسب من غير أن يتعب، وبركة للعام؛ لأنه يحصل له مال يتجر به، ولولا المضاربة لبقي معطلاً ففيه بركة لكل من المضارب والمضارب. الثالث: "خلط البر بالشعير للبيت لا للبيع"، البر أطيب من الشعير لا شك وأغلى من الشعير فالإنسان إذا كان عنده بر وعنده شعير، إن استعمل البر وأكله صارت النفقة عليه أكثر، فصاع من بر بعشرة، وصاع من شعير بخمسة، فيقوم ويشتري مع البر شعيرًا من البر بعشرة صار الصاعان بخمسة عشر، لكن لو أنه أنفق صاعين من البر صارا بعشرين فصار هذا أسهل ففيه بركة، لكن للبيت أما البيع فلا؛ لأنه لو خلط شعيرًا ببر للبيع صار في ذلك غرر، وربما يكون في ذلك غش، قد يجعل البر الخليط فوق الشعير فيكون في ذلك غش، وقد يخلطه به ويكبس بعضه ببعض فيكون في ذلك غرر؛ لأن الإنسان لا يدرك أيهما أكثر حب الشعير أم حب البر فإذا كان للبيع فليس فيه بركة أما للبيت ففيه بركة. ولكن لو قال قائل: لو خلطنا البر بالشعير على وجه واضح هل في هذا غش؟ فالجواب: لا؛ لأنه ما دام معلومًا ظاهرًا فليس فيه غش. في هذا الحديث من الفوائد: حلول البركة في هذه الأمور الثلاثة: البيع لأجل، والمقارضة، وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع. ومن فوائد الحديث: أن الأشياء تتفاوت في بركتها وخيرها، وهذا أمر معلوم مدرك بالحس. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي البيع إلى أجل طلبا للبركة، فإذا تمكن الإنسان من البيع إلى أجل كان ذلك خيرًا له من أن يبيع بنقد، ولكن لو باع بنقد فلا بأس، وإذا كان البيع إلى أجل فيه بركة فالنكاح إلى أجل - أعني: تأجيل المهر - فيه بركة أيضًا، ولهذا لو أن الناس سلكوا هذه الطريق وأجلوا بعض المهر واقتصروا في النقد على ما يحتاجون إليه عند الدخول لكان في هذا بركة وتيسير على الناس بدلاً من أن يبذل الإنسان أربعين ألفًا نقدًا للمهر، على أن يبذل

مثلاً عشرين ألفًا ويكون الباقي مؤجلاً، لو أن الناس سلكوا هذا الطريق لوجدوا بركة؛ لأنه لا شك أن هذا من التيسير. ومن فوائد الحديث: جواز المقارضة وأنها من الصفقات المباركة لقوله هنا "والمقارضة". ومن فوائده: جواز خلط الشعير بالبر للبيت وأن في ذلك بركة. ومن فوائده: تجنب هذا الخلط فيما إذا كان للبيع؛ لأن ذلك يربك المشتري، فيتردد أيهما أكثر: حب الشعير أو حب البر، ولو جعل البر فوق الشعير فهذا لا يجوز. قال المؤلف: "رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف"، ولكن يجب أن نعلم أن الإسناد قد يكون ضعيفًا ويكون المعنى صحيحًا وحينئذ لا نجزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله؛ لأن سنده ضعيف، لكن نقول: قواعد الشريعة تشهد له، وقد يكون السند صحيحًا والمتن ضعيفًا لمخالفته لما هو أرجح منه من السنة، وهذا ما يعرف عن أهل العلم بالشاذ فلا يكون صحيحًا. 866 - وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه: «أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضةً: ألا تجعل مالي في كبدٍ رطبةٍ، ولا تحمله في بحرٍ، ولا تنزل به في بطن مسبلٍ، فإن فعلت شيئًا من ذلك فقد ضمنت مالي». رواه الدارقطني، ورجاله ثقات. قوله: "كبد رطبة" يعني: الحيوان، يعني: لا تبيع ولا تشتري في الحيوان، لماذا؟ لسببين: أولاً: أنه عرضة للهلاك؛ لأن الحيوان بقاؤه على الخصب وكثرة الأمطار، وقد يتخلف ذلك، وإذا تخلف احتاج إلى نفقات باهظة، ثانيًا: أن الحيوان ذو روح يحتاج إلى رعاية وعناية، وربما يفعل الإنسان عنه في أيام الصيف فيموت عطشًا، وربما يغفل عنه في الشتاء فيموت بردًا، فالمهم أن مؤنة الحيوان أشد من مؤنة الجماد، والذمة مشغولة بالحيوان أكثر من مشغوليتها بالجماد. قال: "ولا تحمله في بحر"، وهذا في وقته الحمل في البحر في وقته عرضة للهلاك لماذا؟ لأن السفن في ذلك الوقت سفن شراعية تمشي على الهواء ضعيفة لا تتحمل الأمواج ولا العواصف فيها خطورة، فيشترط عليه ألا يحمله في بحر. "ولا تنزل به في بطن مسيل" يعني: في الوادي مجرى الماء، لماذا؟ لأنه إذا نزل في بطن مسيل ربما يبغته السيل فيجري في الماء أو يفسده فيشترط عليه ألا يجعل في بطن مسيل لاسيما المسيل الذي يكون بين الجبال؛ لأن المسيل قد يكون في أرض واسعة فسيحة هذا خطره أقل؛ لأن جريه سيكون بطيئًا ضعيفًا، لكن إذا كا بين جبال في مضايق هذا إذا جاء ينحدر من عال إلى مضيق فيكون عميقًا ويكون جريه قويًا.

"فإن فعلت شيئًا من ذلك فقد ضمنت مالي"، حكيم بن حزام معروف بأنه صاحب بيع وشراء وتجارة؛ ولذلك كان الرسول يوصيه ويقول: "لا تتبع ما ليس عند" فهو صاحب تجارة، ومن جملة تجارته أنه يعطي ماله مقارضة، يعني: مضاربة يشترط عليه شروطًا أربعة ألا يجعله في حيوان، ولا يحمله في بحر، ولا ينزل به في بطن مسيل، فإن فعل فهو ضامن؛ إن هلك الحيوان ضمنه، إن غرق المال ضمنه، إن نزل به في بطن مسيل ضمنه. فيستفاد من هذا الحديث: جواز شروط مثل هذا في المضاربة، فإن لم يشترط وحصل اختلاف وحمله في البحر أو في بطن مسيل أو جعله في كبد رطبة، فهل عليه الضمان؟ نقول: لا ضمان عليه، اللهم إلا في بطن المسيل إذا كان في وقت نزول المطر في ايم الشتاء، أما في الصيف فلا بأس، والقاعدة عندنا أنه إذا لم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه، "كل يد أمينة إذا لم يحصل تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه"، وعلى هذا فالمضارب إذا لم يحصل منه تعد ولا تفريط فليس عليه ضمان، لكن كيف التعدي؟ التعدي: فعل ما لا يجوز، والتفريط: ترك ما يجب، ففعل ما لا يجوز مثل: أن يلقي بالمال إلى التهلكة، وفعل ما لا يجوز: أن يستعمل المال في حاجته الخاصة. - وقال مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن جده: «أنه عمل في مالٍ لعثمان على أني الربح بينهما» وهو موقوف صحيح. "موقوف" يعني: على عثمان، وهو أحد الخلفاء الراشدين لهم سنة متبعة، وهو معروف رضي الله عنه بأنه صاحب ثراء وغنى، فيعطي ماله مضاربة على أن الربح بينهما، فبناء على ذلك يجوز أن أعطي شخصًا مالاً على أن الربح بيني وبينه، ولكن قلنا: لابد أن يكون مشاعًا معلومًا، وبيني وبينه معلوم إذا كان لي ربعه وله ثلاثة أرباعٍ هل هو بيننا؟ بيننا، له عشرة ولي تسعة أعشاره أيضًا هو بيننا، إذن إذا قلت الربح وصار الربع والعشر والثلث كله بينية عاد إلى الجهالة، فيقال: نعم الأصل أن البينية فيها إبهام لكنها عند الإطلاق تقتضي المساواة، هذه أيضًا من القواعد الفقهية، البينية عند الإطلاق تقضي المساواة، ولهذا لو أعطيت فقراء عشرة طعامًا وقلت: هذا بينكم وجاء واحد منهم وأخذ نصفه وقال: نصفه لي ولكم الباقي، هل يملك هذا؟ لا، لماذا؟ لأن البينية تقتضي المساواة، فإذا قلت: هذا بينكم وهم عشرة فلكل واحد عشرة ولا يمكن أن يتعدى، إذن الذي جعل البينية هنا صحيحة لأنها عند الإطلاق، وعلى هذا فإذا قال: الربح بيننا فهو نصفان.

15 - باب المساقاة والإجارة

15 - باب المساقاة والإجارة ليته قال: والمزارعة كان أحسن، وجعل للإجارة بابا مستقلاً؛ لأن بينهما فروقًا كثيرةن أي: أن بين المساقاة والمزارعة وبين الإجارة فروقًا كثيرة، لكن المساقاة والمزارعة هما المتشابهتان. "المساقاة" في اللغة: مأخوذة من السقي؛ لأن حروفها الأصلية سين، وقاف، وباء، إذن هي من السقي، وهي معروف يعني: صب الماء على الأرض لتشربه، فهي من المساقاة وهي: دفع أرض وشجر لمن يقوم عليه بجزء مشاع معلوم من ثمره، مثال ذلك: رجل عنده بستان وتعب من العمل فيهن وجاء إلى شخص وقال: هذا بستاني خذه واعمل فيه ولك نصف ثمره، هذه المساقاة جائزة؛ لأن فيه مصلحتين: مصلحة لصاحب الأرض، ومصلحة للعامل، فصاحب الأرض يستريح ويكفيه هذه المؤنة والتعب، والآخر استفاد لأنه ليس عنده ما يشتري ثمرًا ولي عنده بستانًا فيعمل في هذا البستان ويحصل الثمر، ففيها مصلحة للطرفين؛ وهي تشبه تمامًا المضاربة. "الإجارة": مأخوذة من الأجر وهو الثواب، أي: مكافأة العامل على عمله، ولهذا لو قلنا: فلان له أجر عند الله، يعني: ثوابًا مكافأة على عمله فهي في الأصل من الأجر وهو الثواب، أي: المكافأة على العمل، وأما في الاصطلاح فهي: دفع عين لمن ينتفع بها بعوض معلوم أو القيام بعوض معلوم أو القيام بعوض معلوم، فالبيت إذا أعطيته عاملاً ليخيطه لك فهذا دفع عين لمن ينتفع بها بعوض معلوم، والثوب إذا أعطيته عاملاً لخيطه لك فهذا دفع عين لمن يعمل فيها بعضو معلوم، والعامل إذا استأجرته ليعمل عندك فهذا عقد على عمل معلوم بعوض معلوم، فالإجارة قد تكون على عمل وعلى عمل في عين، وعلى نفع في عين، ولكها جائزة: {إن خير من استئجرت القوي الأمين} [القصص: 26]. حكم المساقاة: 867 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرعٍ». متفق عليه. "عاملهم" أي: أعطاهم الأرض على أن يعملوا فيها، "بشطر ما يخرج منها"، شطر يعني: نصف من ثمر هذا باعتبار الشجر، أو زرع باعتبار البقول، الزروع يعني: على النصف من الثمر في الأشجار والزرع في البقول، وقوله: "عامل أهل خيبر" وهم اليهود، خيبر حصون ومزارع تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من الشمال الغربي، فتحها النبي صلى الله عليه وسلم، ولما فتحها إذ الناس لا

يستطيعون القيام عن العمل بها لاشتغالهم وهي مزارع، فطلب اليهود من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعملوا فيها على النصف، ولهذا قال: - وفي رواية لهما: «فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا، فقروا بها، حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه». إذن هم الذين طلبوا البقاء فيها يكفونهم المؤنة، يعني: العمل على هذه الأشجار والأرض ولهم نصف الثمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نقركم بها على ذلك ما شئنا»، فقروا حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه، "نقركم على ذلك ما شئنا" يعني: لكم نصف الثمر، لكن ما شئنا حسب مشيئتنا، وإذا رأينا ما يقتضي أن نخرجكم منها أخرجناكم، فوافقوا على هذا الشرط، فبقوا آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم يعني: أربع سنوات قبل أن يموت، وبقوا خلافة أبي بكر كلها وبقوا في خلافة عمر حتى أجلاهم عنها، وكان إجلاؤه إياهم عنها في سنة عشرين من الهجرة، أجلاهم إلى فدك، إذن بقوا بعد الفتح أربع عشرة سنة، وكان سبب إجلائهم أربعة أمور: منها ما ثبت في الصحيح، ومنها ما ثبت في غيره، فالذي ثبت في الصحيحين أنهم فدعوا عبد الله بن عمر كان عندهم فألقوه من ظهر بيت ففدعوه، والفدع: انسلاخ الكف من الذراع أو القدم من الكعب، ويسمى عندنا الفك يعني: أنفكت قدمه، فأجلاهم عمر؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه نزل هناك في ليلة من الليالي فحصل منهم ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: ليس لنا عدو هنالك إلا اليهود، وإني سأجليهم؛ لأنه رأى أن اعتداءهم على ابن الخليفة يعنيك اعتداءهم على الإسلام وتحديًا للمسلمين فرأى رضي الله عنه أن يجليهم، فجاءه زعيمهم وقال: كيف تجلينا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال أتظن أني نسيت ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بك إذا خرجت بك قلوصك تخطو بك يومًا فيومًا"، يعني: من خيبر، قال: يا عمر، قالها محمد هزيلة، يعني: يضحك - هزل ليس جد - قال: كذبت يا عدو الله، فأخرجهم هذا في البخاري وغيره. السبب الثاني: أنه لما ثبت عند عمر أنه لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، واليهود في خيبر يقيمون دينهم، قال: لا يمكن ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قاله: «لا يجتمع دينان» سأجليهم، فأجلاهم عمر لهذا السبب. السبب الثالث: أن رجلاً من الأنصار قدم من الشام إلى المدينة فنزل في خيبر ومعه علوج،

يعني: عبيد من الشام، فاتصل اليهود بهؤلاء العلوج وقالوا: اقتلوا صاحبكم تحرروا منه، فقتلوه فصار في هذا غدر من اليهود، فكان من أسباب إجلائهم. السبب الرابع: أن المسلمين كانوا قلة وهم في حاجة إلى عمل أهم، فلما كثر المسلمون واستغنوا عن عمل اليهود في خيبر أجلاهم عمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطهم عقدًا مؤبدًا بل قال: «نقركم على ذلك ما شئنا» حسب ما تقتضيه المصلحة. لكن هذه الأسباب ليست في الصحيحين، فقد تكون صحيحة وقد تكون ضعيفة، لكنها لها وجه إلا أن كون سبب ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» فيه إشكال؛ لأن هذا الدين كان موجودًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف يقرهم وهذا الدين باقٍ، وقد يجاب عنه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت كان محتاجًا إليهم، ولهذا لم يأمر بإخراج اليهود والنصارى في جزيرة العرب إلا في آخر حياته، حتى قال: «لئن بقيت - أظنه قال: - إلى قابل لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب»، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم في الأول متساهلاً في هذا ثم بعد ذلك لما رأى من خطرهم على الجزيرة أمر بإخراجهم، حتى قال في مرض موته صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»، وهو عام شامل للمشركين الذين يعبدون الأصنام، وكذلك لكل من كان كافرًا بالله العظيم. على كل حال: نحن نقول: إن صحت هذه الأسباب الأربعة فهي أسباب، وإن لم تصح فيكفي السبب الأول الثابت في الصحيح وهو فدع عبد الله بن عمر، فكان في ذلك إذلال للمسلمين عمومًا، فأجلاهم عمر. - ولمسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع عن يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم، ولهم شطر ثمرها». النخل معروف، والأرض لأجل الزراعة، فالأرض يزرع عليها والنخل ليقتسم ثمرها، وقوله: «أن يعتملوها» يعني: هم الذين يدفعون أجرة العمل على ثمر النخل وهم الذين يدفعون الحب الذي يزرع، «ولهم شطر ثمرها». يعني: ثمرها وزرعها كما جاء في الرواية التي قبل، يعني: لهم النص من الزرع والنصف من الثمر.

ففي هذا الحديث فوائد منها: جواز معاملة اليهود، وهذا أمر مشهور مستفيض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل اليهود بيعًا وشراء ومساقاة ومزارعة، وكان - عليه الصلاة والسلام - عند موته رهن درعه عند رجل من اليهود بطعام اشتراه لأهله، وكذلك يقاس على اليهود من سواهم من الكفار كالنصارى والوثنيين وغيرهم، إلا أن أهل العلم يقولون: إنه لا ينبغي أن يوليهم ولاية مطلقة؛ لأنهم ربما يتجرون بالخمر وهو لا يعلم، أو يتجرون بالربا وهو لا يعلم، أو يتجرون بالأشياء الممنوعة وهو لا يعلم، فأما الشيء الذي يؤتمنون فيه أو الشيء الذي يكون هو رقيبًا عليهم فإن هذا لا بأس به. وفيه دليل على جواز ائتمان الكافر ما لم تتبين خيانته، ووجه ذلك: أن هؤلاء مؤتمنون على الثمر وبإمكانهم أن يجزوا شيئًا من التمر أو يأخذوا شيئًا من الزرع والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم، فإذا كان الكافر مؤتمنًا فلا بأس من ائتمانهم، أما إذا كان غير مؤتمن فإنه لا يؤمن، لاسيما فيما يتعلق بأمور المسلمين العاملة كمثل هذه المسألة، ومثل كتابة دواوين وغيرها. هل يؤخذ من هذا الحديث بقول الكافر إذا كان أمينًا؟ قد نقول: إنه يؤخذ، وقد نقول: إنه لا يؤخذ، لكن هناك أدلة تدل على جواز الأخذ بقول الكافر إذا كان أمينًا، مثل: استرشاد النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط الديلي الذي استأجره النبي صلى الله عليه وسلم ليدله على الطريق في سفره إلى المدينة في الهجرة فإن هذا كان مشركًا، ولكنه كان أمينًا فاستأمنه النبي صلى الله عليه وسلم حتى على راحلته وراحلة أبي بكر، وقال له: موعدك بعد ثلاث ليال غار ثور، فذهب الرجل بالراحلتين، وأتى بعد ثلاث ليال إلى الغار مع أن المقام خطير جدًا وهو أن قريشًا كانت تطلب الرسول صلى الله عليه وسلم وقد جعلت لمن يدلها عليه وعلى أبي بكر مئاتي بعير، وكانت فرصة لهذا المشرك أن يدل قريشًا على النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لما ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة. فإذن نقول: إن دل هذا الحديث على قبول قولهم والأخذ بقولهم فذاك، وإن لم يدل فهناك أدلة أخرى تدل على أنه يجوز الأخذ بقول الكافر، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى جواز فطر المريض إذا قال له الطبيب الكافر: إن الصوم يضرك، وكذلك جواز الصلاة قاعدًا إذا قال الطبيب: إنه يضرك القيام، وكذلك الإيماء بالركوع والسجود إذا قال له الطبيب: يضرك السجود، المهم: أنه متى وجدت الثقة فإنه لا بأس بالأخذ بقول الكافر.

ومن فوائد الحديث: جواز المساقاة لقوله: «عامل أهل خيبر»، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة. ومن فوائده: أنه إذا شرط سهم لأحد المتعاملين للآخر، فمثلاً إذا قيل في عقد المساقاة: لرب الشجر الثلث وسكت عن سهم العامل فإن هذا صحيح؛ لأنه إذا تعين سهم أحدهما كان للثاني الباقي، أي: لا يشترط أن أقول في المساقاة: لرب الشجر الثلث وللعامل الثلثان؛ لأنك إذا عينت سهمًا لأحدهما كان الباقي للآخر. ومن فوائد الحديث: جواز المشاركة إذا تساوى الشريكان في المغنم والمغرم؛ لقوله: "بشطر ما يخرج منها". مع أن العامل ربما يعمل ويتعب في ماله وبدنه ثم تفسد الثمرة فيكون غير رابح، لكن كما أنه غير رابح فكذلك صاحب الشجر هو أيضًا غير رابح؛ لأنه كان يؤمل أن شجره يثمر ولم يثمر، فإذا تساوى الشريكان في المغنم والمغرم فإن الشركة جائزة، المحظور هو أن يختلف الشريكان بأن يكون أحدها غارمًا بكل حال والآخر تحت الخطر. ومن فوائد الحديث: أنه لا يشترط أن يكون الغراس في المغارسة والبذر في المزارعة من رب الأرض، مثال ذلك: أعطيت شخصًا أرضًا بيضاء ليغرسها وله نصف الشجر، هذه مغارسة هذا يجوز حتى لو كان هو الذي يشتري الشجر، كذلك أعطيته هذه الأرض البيضاء ليزرعها بنصف الزرع والحب على المزارع هذا أيضًا لا بأس به، هذا ما دل عليه حديث ابن عمر في قصة المساقاة والمزارعة لأهل خيبر، من أين يؤخذ؟ يؤخذ من وجهين: أولاً: في اللفظ المتفق عليه بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ولم يذكر أن البذر على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الأرض، ثانيًا: في رواية مسلم قال: «على أن يعتملوها من أموالهم»، وهذا صريح في أن المال على المزارع، وهذا القول الذي دل عليه الحديث هو القول الراجح وهو الذي عليه العمل من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على أنه لا يشترط في المزارعة وكذلك في المغارسة أن يكون البذر والغراس من رب الأرض، وذهب بعض العلماء إلى اشتراط أن يكون البدر والغراس من رب الأرض، وعلى هذا فلو أعطيت رجلاً أرضًا بيضاء ليزرعها بالنصف من الزرع وجب علي أن يكون البذر مني، وكذلك الغراس من المغارسة، لماذا؟ قالوا: قياسًا على المضاربة؛ لأن المضاربة يكون المال من صاحب المال المضارب وليس على المضارب إلا العمل، قالوا: فقياس ذلك في المزارعة أن يكون البذر من رب الأرض، ولكن هذا القياس قياس فاسد الاعتبار، لماذا؟ لأنه مصادم للنص، والقياس المصادم للنص فاسد الاعتبار لا عبرة به، ثم هو قياس مع الفارق؛ لأن نظير المال في المضاربة الأرض وقد دفعها، أما مسألة

الزرع فهي من جنس ما يلزم في المضاربة من سقي الحيوان، لو أشترى المضارب حيوانًا فإنه سوف يسقيه ويروضه وما أشبه ذلك، فالبذر يكون تابعًا لعمل المزارع والمغارس، أما نظير المال فهو الأرض المدفوعة، وبهذا تبين أن هذا القياس فاسد، أولاً: لمصادمته للنص، وكل قياس في مصادمة النص فإنه مرفوض، وثانيًا: أنه قياس مع الفارق؛ وذلك لأن المال الذي يقال: إنه يدفعه المضارب نظيره الأرض التي يدفعها من تعامل من تعامل مع شخص في الزراعة. ومن فوائد الحديث: جواز كون المساقاة غير معلومة الأجل، يعني: جواز الأجل المجهول في المزارعة والمساقاة؛ لقوله: "نقركم ما شئنا"، ومعلوم أن مشيئته مجهولة فعليه يجوز عقد المساقاة والمزارعة إلى أجل مجهور، وهذا أحد الأقوال في تخريج هذا الحديث. القول الثاني: أن هذا الحديث يدل على أن المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة، وبناء على ذلك لا يشترط لها ذكر الأجل ولكل واحد منهما - أي: من المساقي والمساقى - أن يفسخ متى شاء. الوجه الثالث في تخريج الحديث: أنه من باب الخيار لأحد المتعاقدين؛ لأن لو كان ذلك من العقود الجائزة ما احتاج أن يقول: "نقركم ما شئنا"؛ لأن العقد الجائز نفسه للمتعاقدين فيه المشيئة متى شاءا فسخا. فإذن الاستدلال بهذا الحديث على أن المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة غير صحيح، إذ لو كانتا من العقود الجائزة لم يحتج إلى ذكر المشيئة، فإن العقد الجائز لكل من المتعاقدين فسخه ولو لم يشترطا المشيئة، فأقرب ما يقال في ذلك هو أن هذا من باب الخيار، وأنه إذا اشترطا، أو أحدهما الخيار فلا بأس، وبناء على هذا نقول: إن المساقاة والمزارعة من العقود اللازمة، ولابد من تقدير الأجل فيها سنة أو سنتين أو ثلاثًا أو أكثر، لابد من هذا، ولكل من المتعاقدين شرط الخيار إما لهما جميعًا، وإما لأحدهما، والحديث هذا من باب اشتراط الخيار لأحدهما لقوله: "ما شئنا"، ولم يقل: وما شئتم، واستدل به بعض العلماء على جواز الإجارة المجهولة، وأنه يجوز أن تقول للشخص: أستأجر منك هذا البيت حتى أجد بيتًا أشتريه، وإلى هذا ذهب ابن القيم في زاد المعاد، وأنه يجوز الأجرة المجهولة المعلقة بشرط مجهول، قال: لأن هذا ليس فيه شيء، فمثلاً هذا رجل يبحث عن بيتٍ فجاء إلى شخص وقال: أجرني بيتك حتى أجد بيتًا فأجره كل سنة بمائة ريال حتى يجد بيتًا، فوجد بيتًا في نصف السنة، قله أن يفسخ ويعطيه خمسين ريالاً، وهذا القول الذي اختاره ابن القيم وجيه؛ لأن الأصل في العقود الحل في أصلها وشروطها حتى يتبين دليل التحريم، فما دام الأصل الحل وهذا لا يترتب عليه

إجارة الأرض

أي مفسدة، لاسيما إذا حدد أكثر المد بأن قال: تؤجرني مدة لا تزيد على سنة حتى أجد البيت، فإن هذا أقرب إلى العلم بتحديد أكثر المدة مع أن الصحيح الجواز حتى وإن لم يحدد أكثر المدة. ومن فوائد الحديث: قوة عمر في الحق لقوله: "حتى أجلاهم عمر". فإن قال قائل: كيف يجليهم عمر وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشأ أن يجليهم، والشرط الذي اتفقوا فيه مع الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يقرهم على ما شاء؟ فالجواب عن ذلك يسير جدًا أن يقال: إن قوله: "على ما شئنا" إنما قاله باعتبار أنه هو الولي الأعلى للأمة فخليفته يقوم مقامه، فهذا عقد لعموم المسلمين للمصالح العامة، والخليفة الذي يأتي بعد الخليفة الأول يكون نائبًا عنه، وعلى هذا فلا يكون في فعل عمر مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "نقركم على ما شئنا". ومن فوائد هذا الحديث: التصريح بأنه يجوز أن يكون البذر من العامل؛ لقوله في رواية مسلم: "على أن يعتملوها من أموالهم". إجارة الأرض: 868 - وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: «سألت رافع بن خديج رضي الله عنه عن كراء الأرض بالذهب والفضة؟ فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وإقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به». رواه مسلم. - وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض. رافع بن خديج كان من الأنصار، وكانت الأنصار - رضي الله عنهم - أكثر الناس زرعًا لهم زروع كثيرة، وكانوا يتعاملون بالمزارعة؛ لأن من له حقول كثيرة لابد أن يعلم. قال: «سألت عن كراء الأرض بالذهب والفضة» يعني: أنه جائز، مثل: آجرتك هذه الأرض كل سنة مائة درهم على أن تزرعها، الزرع لمن؟ الزرع للمستأجر، ولرب الأرض الأجرة، وليس هذا من باب المشاركة؛ لأن عقد الأجرة مستقل، وعلى هذا فلا يرد علينا أنه ربما يزرع الأرض ولا يحصل مقدار الأجرة وربما يزرع الأرض ويحصل له أضعاف أضعاف الأجرة، لا يقال: إن هذا غرر؛ لأنها ليست من باب المشاركة بل هي من باب الأجرة وأنا أجرتك كل سنة

بمائة درهم، زرعتها أو لم تزرعها لا دخل لي، أنا لي أجرة معينة عقد مستقل سواء خسرت أو ربحت، ولهذا أجاب رافع قال: "لا بأس به" أي: أنه جائز، والبأس هنا بمعنى: الحرج يعني: ليس فيه حرج ولا ضيق، إنما هو جائز، إنما قال: "وإنما كان ... إلخ"؛ لأن من العلماء في عهد رافع من منع أجرة الأرض، وقال: لا يجوز أن يؤجر الإنسان أرضه، بل إن كان به قدرة على زرعها زرعها وإلا أعطاها أخاه المسلم يزرعها، وليس لصاحب الأرض شيء، ولا يجوز أن يأخذ عليها أجرة، كما سيأتي في حديث لم يذكره المؤلف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من كان عنده أرض أن يزرعها أو يمنحها لأخيه، ومنع من الإجارة والمزارعة، فرافع رضي الله عنه قال: إن هذا لا بأس به، ثم استدل قال: "إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ... الخ". "الماذيانات" هي ما على مسايل الماء، يعني: الذي يكون على البركة، أو على الساقية، أو على النهر، يقول: ما على أطرافه فهو لك والباقي لي، هذا لا يجوز؛ لأنه قد يكون الذي على الماذيانات كثيرًا والآخر قليلاً، أو يكون العكس، هذا غرر لا يجوز؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لم يشترك صاحب الأرض والمزارع في المغنم والمغرم. وقوله: "أقبال الجداول" يعني: السواقي التي تتفرع من الماذيانات، وهي معروفة من شاهد المزراع عرفها، و"أقبال" يعني: مقدم وأوائل الجداول، يقول: لك أول هذا السقي ولي آخره، أو العكس، وأشياء من الزرع يعينها، فيقول: أعطيتك الأرض تزرعها لي الجانب الشرقي ولك الجانب الغربي، أو لي الجانب الشمالي ولك الجانب الجنوبي، أو لي الشعير ولك الحنطة، أو لي السكري في النخل ولك الشقر، أو ما أشبه ذلك في أشياء من الزرع، هذا أيضًا لا يجوز، ولهذا قال: «فيهلك هذا ويسلم هذا، ويهلك هذا ويسلم هذا» يعني: يسلم ما عين لمالك الأرض ويهلك ما عين للمزارع أو العكس. قال: "فلذلك" اللام: للتعليل، أي: فلأجل هذا الغرس والجهالة زجر عنه، أيكنهى بشدة، والزاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: "على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فالضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم زجر عنه الناس لما فيه من الغرر، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به، يعني: فأما إذا ذكر شيء معلوم مضمون فلا بأس به، ما هو المعلوم المضمون؟ الأجرة؛ لأنه سئل عن كراء الأرض بالذهب والفضة، وكراء الأرض بالذهب والفضة شيء مضمون معلوم للجميع، مضمون لصاحب الأرض؛ لأنه أعطاه الأرض بمائة درهم مضمون فهذا جائز. وقوله: «وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض»، يعني: أنه ثبت

في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض، فحمل هذا على أن المراد بذلك: الكراء الذي يؤدي إلى الجهالة، أما الكراء المعلوم فإنه لا بأس؛ لأن الأصل في المعاملات الحل إلا ما دل الشرع على تحريمه. في هذا الحديث فوائد منها: حرص السلف على السؤال عن العلم، وسؤال السلف عن العلم إنما يصدون به العمل لا يقصدون به أن يعلموا ما عند الإنسان من علم، خلافًا لما يفعله كثير من الناس اليوم، تجده يسأل العالم لينظر ما يجد ما عنده من العلم، ثم يسأل عالمًا آخر وهكذا، أما السلف فإنهم يسألون عن العلم من أجل أن يعملوا به، وهذا فرق بين بين السؤالين. ومن فوائد الحديث: جواز كراء الأرض بالذهب والفضة، يعني: أن أستأجر منك أرضك لأزرع فيها بدراهم أو دنانير، الدراهم الفضة، الدنانير بالذهب، فجوز أن أستأجر منك أرضك لمدة سنتين أو ثلاث كل سنة بكذا من الدراهم، أو من الدنانير وأزرع فيها وأنا وحظي قد أكسب من الزرع أضعاف أضعاف الأجرة، وقد أخسر، لكن صاحب الأرض ليس له أجرة معينة. وهل يقاس على ذلك ما لو استأجرتها بمائة كيلو من التمر أو مائة كيلو من البر أستأجرها بمنقول غير الطعام كأن أستأجرها بسيارة أو قطعة أرض أو ما أشبه ذلك؟ الجواب أن يقال: نعم لا بأس به، وعلى هذا فيجوز أن أكري الأرض بأصواع معلومة من البر لمن يزرعها من البرد بشرط ألا أقول: إنها مائة صاع مما تزرع؛ لأني لو قلت: مائة ضاع مما تزرع لكان في ذلك غرر؛ لأنه يكون حينئذ مزارعة، والمزارعة لا يجوز فيها اشتراط شيء معين لأحدهما، مثلاً استأجرت منك هذه الأرض بمائة صاع من البر لأزرعها برًا هذا جائز ويثبت في ذمة المستأجر مائة صاع بر سواء زرع أم لم يزرع، اتفقت معك على أن أزارعك هذه الأرض ولي من الزرع الذي يخرج مها مائة صاع، والباقي لك هذا لا يجوز؛ لأن هذه شركة والمشاركة لابد أن تكون مبنية على العدل، وهو الاشتراك في المغنم والمغرم، وأنا إذا اشترطت مائة صاع مما يخرج منها من البر فأنا غانم وأنت قد تكون غانمًا وقد تكون غارمًا؛ لأن الزرع قد يحصل منه شيء كثير مئات الأصواع، وقد لا يحصل منه إلا مائة وقد لا يحصل منه إلا أقل، وقد لا يحصل منه شيء إطلاقًا فهذه المشاركة لم يتساو فيها الشريكان في المغنم والمغرم وإذا لم يتساو فيها الشريكان كانت ميسرًا وغررًا وحرامًا، إذن لو آجرتك إياها بثلث ما يخرج منها هل يجوز؟ نعم يجوز، فصارت الأجرة تنقسم إلى أربعة أقسام: الأول: أن تكون الأجرة بشيء مما يخرج من الأرض آصع معلومة مما يخرج من الأرض فهذا لا يجوز، لماذا؟ لأنه ميسر فهو مزارعة لكن مبنية على ميسر.

الثاني: أن يكون بشيء معلوم من جنسه لا منه هذا جائز. الثالث: أن يكون بجزء مشاع كنصف وثلث وربع هذا أيضًا جائز، وهو في الحقيقة مزارعة. الرابع: أن يكون بذهب وفضة أو غيرهما مما يجوز أجرة فهذا أيضًا جائز ولا بأس به ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز المؤاجرة بشيء معلوم لأحدهما من الخارج من الأرض مثل الماذيانات وأقبال الجداول، وما على البركة من النخل وما أشبه ذلك، هذا لا يجوز؛ لأنه غرر، والمشاركة مبنية على التساوي في المغنم والمغرم. ومن فوائد الحديث: كمال الشريعة الإسلامية؛ وذلك بتحريم المعاملات المتضمنة للغرر لما في هذه المعاملات من إلقاء العداوة والبغضاء؛ لأنها إذا كانت غير مبنية على العدل، فإن من يتصور نفسه مغلوبًا فسوف يكون في نفسه شيء على الغالب فتقع العداوة بين المسلمين. ومن فوائد الحديث: حرص الشرع على إبعاد الناس عن كل ما يلقي العداوة والبغضاء بينهم لأننا نعلم أن الحكمة في منع معاملات المغالبات هي اتقاء ما يحصل بها من العداوة والبغضاء، ودليل ذلك قوله تعالى: {يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة: 219]. وبين الله تعالى أن إثمهما أكبر من نفعهما، وقال: {يأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلم رجس من عمل الشيطن فاجتنبوه لعلمكم تفلحون إنما يريد الشطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم} [المائدة: 90، 91]. الخمر واضح أنه يلقي بالعداوة؛ لأنه ربما يجترئ السكران على من عنده بالأذى والضرر، وربما بالقتل، والميسر كذلك؛ لأن المغلوب سوف يكون في قلبه شيء على الغالب وربما يقول: إنك لم تغلبني، ويحصل نزاع وعداوة. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للمسئول إذا سئل عن شيء أن يبين الجائز والممنوع إذا كان يحتاج إلى تفصيل، بل قد يجب عليه؛ لأن رافع بين خديج بين ما هو جائز وما هو ممنوع. ومن فوائد الحديث: أن الدين الإسلامي أصلح المعاملات الجارية بين الناس في الجاهلية كما أصلح العبادات؛ لأنهم في الجاهلية يؤاجرون على هذا الوجه الذي فيه الغرر، فأصلحه الشرع، مثل: المضاربة، فإن المضاربة كانت معروفة في الجاهلية فأقرها الشرع، ومنها ما منع الشرع ما كان محرمًا مائة وأبقى ما كان جائزًا كالربا مثلاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس في عرفة، قال: ربا الجاهلية موضوع وأبقى رأس المال، فقال: «وأول ربًا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله»، فهنا أجاز النبي صلى الله عليه وسلم أصل رأس المال ومنع الزيادة، القسم الثالث: ما عدله يعني: معناه أنه كان يتعامل به الناس على وجه غير مرضي

المزارعة

فعدله، مثل هذا الحديث، فإن الناس كانوا يؤاجرون الأرض في المزارعة، لكن على وجه مجهول منوع فعدله النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: ما أشار إليه المؤلف أنه يبين ما أجمل من النهي عن كراء الأرض، وينبني على هذه الفائدة أن النصوص الشرعية يبين بعضها بعضًا وهو كذلك، فالقرآن يبين بالنسبة، والسنة يبين بعضها ببعض، والقرآن يبين بعضه ببعض أيضًا. المزارعة: 869 - وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة». رواه مسلم أيضًا. "النهي": طلب الكف على وجه الاستعلاء، فإذا قال لك شخص: لا تفعل فقد طلب منك الكف عن هذا الفعل على وجه الاستعلاء، ويزاد في التعريف: "بصيغة المضارع المقرون بلا الناهية"، وإنما زيد هذا القيد لئلا يدخل في التعريف: "اتركوا كذا"، "اجتنبوا كذا"، فإن هذا طلب الكف على وجه الاستعلاء لكن ليس بصيغة المضارع المقرون بلا الناهية، فلا يسمى هذا نهيًا وإنما يسمى أمرًا بالترك أو أمرًا بالاجتناب، إذن صيغته لا تفعل، يعني: المضارع المقرون بلا الناهية. إذا قال قائل: هل قول الصحابي: "نهى" صريح في النهي أو غير صريح؟ فالجواب أن نقول: يرى بعض العلماء أن هذا ليس بصريح وأنه مرفوع حكمًا، وعللوا ذلك بأنه يحتمل أن الصحابي فهم من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم النهي وليس بنهي، وقال بعض العلماء: بل إنه صريح؛ لأنه أضاف النهي إلى من؟ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، واحتمال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن الشيء ولكن فهمه الصحابي احتمال بعيد؛ لأن الصحابي لسانه عربي، والنبي صلى الله عليه وسلم لسانه عربي، والصحابي ثقة أيضًا فلا يمكن أن يقول: نهي إلا وهو متيقن أنه نهى، سواء جاء بصيغة النهي أو بغير الصيغة وهذا القول هو الصحيح، أما إذا قال الصحابي: أمرنا أو نهينا بالبناء للمجهول فهو مرفوع حكمًا؛ لأنه لم يصرح بالناهي أو الآمر، فأما إذا صرح بأن قال: أمرنا رسول الله أو نهانا، فالصحيح الذي لا شك فيه أنه مرفوع حكمًا، وأنه منزلة صيغة النهي، "نهى عن المزارعة"، وقد سبق أنها دفع أرض لمن يزرعها بجز معلوم مشاع من الزرع، وهنا يقول: "نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة" الأمر: طلب الفعل على وجه الاستعلاء، والمراد بالفعل: الإيجاد، فيشمل القول باللسان والعمل بالجوارح، فإذا قلت: قل: لا إله إلا الله فقد أمرته، وإذا قلت: ارجع واسجد فقد أمرته، إذن الأمر هو طلب الفعل، والمراد بالفعل هنا ليس

ما يقابل القول، بل المراد بالفعل: الإيجاد، فيشمل القول والعلم، قوله: "بالمؤاجرة" يعني: أن يؤجر الإنسان أرضه بشيء معلوم كمائة درهم، عشرة دنانير، وما أشبه ذلك، وقوله: "أمر" المراد بالأمر هنا: الإباحة بلا شك؛ لأنه في مقابلة نهي، فهو أمر في مقابلة النهي فيكون رافعًا للنهي، ولذلك لا نقول للإنسان: يستحب لك أن تؤجر أرضك أو يجب عليك أن تؤجر أرضك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، بل نقول: لا يحرم عليك أن تؤجر الأرض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة، ونظير هذا قوله - تبارك وتعالى -: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد يأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلئد ولا ءامين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضوانًا وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 1 - 2]. فهذا الأمر للإباحة لوروده بعد النهي، كذلك إذا قيل: "نهى"، و"أمر" فالأمر هنا للإجابة بلا شك. في هذا الحديث النهي عن المزارعة، وقلنا: إن الأصل في النهي التحريم، واختلف العلماء - رحمهم الله - في الجمع بين هذا الحديث وبين حديث رافع بن خديج؛ فإن حديث رافع يدل على جواز المزارعة، وهذا يدل عل النهي عن المزارعة، فكيف نجمع؟ اختلف العلماء في هذا، فقال بعض العلماء: إن هذا النهي كان قبل الإذن بالمزارعة فيكون النهي على هذا القول منسوخًا وعللوا ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة كان المهاجرون لا مال عندهم فكانوا يحتاجون إلى الزرع ليعيشوا، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزارعة من أجل أن يبقى الباب مفتوحًا للمهاجرين يزرعون ويغنمون، وهذا القول فيه نظر؛ لأن من شروط النسخ: العلم بتأخر الناسخ، وهذا ليس بعلم بل مجرد الاستنتاج ولا يسمى علمًا، وقال بعض أهل العلم: إن المزارعة المنهي عنها هي المزارعة التي كان الناس يفعلونها، والتي أشار إليها رافع بن خديج بقوله: "على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع"، فتكون "أل" في المزارعة ليست للعموم لكنها للعهد الذهني، يعني: المزارعة المعروفة المعهودة عندكم وهي المبنية على الغرر والجهالة، وقال بعض العلماء: إن النهي هنا للكراهة فلا يدل على التحريم، وقال آخرون: بل النهي في المزارعة لمن عنده فضل أرض لا يحتاجها فلا يزارع عليها بل يمنحها لأخيه بلا مزارعة، وأصح الأقوال في ذلك: أن المزارعة يراد بها المزارعة المعهودة عندهم المبنية على الغرر، وهي التي ذكرت في حديث رافع بن خديج بان يقول لك: أزارعك في ارض هذا لك الشرقي ولي الغربي، أو لك الشعير ولي البر مثلاً، أو لك الذي على مجاري الماء ولي الباقي، فهذا كله حرام؛ لأنه مبني على الغرر، وهو الذي ورد النهي عنه.

حكم أخذ الأجرة عن الحجامة

وقوله: "أمر بالمؤاجرة" فيه دليل على إباحة دفع الأرض بأجرة تسلم لصاحب الأرض سواء زرعا المستأجر أم لم يزرعها، وسواء كسب من ورائها مثل الأجر أو أقل أم لم يكسب شيئًا، انتهى الكلام عن المساقاة. وهنا مسألة: وهي لو أعطيت الأرض شخصًا وقلت: إن زرعتها برًا فلك النصف، وإن زرعتها شعيرًا فلك الثلث فهل يجوز هذا؟ الصحيح أنه يجوز، وقد ثبت ذلك من فعل عمر فقد كان رضي الله عنه يدفع الأرض للزارع ويقول: أنت بالخيار، لكن إن زرعت برًا فلي النصف ولك الباقي، وإن زرعت شعيرًا فلي الثلثان ولك الباقي لماذا زاد سهمه إذا كان شعيرًا؟ لأن الشعير أرخص من البر؛ ولهذا يبعد أن يقول: إن زرعتها برًا فلي النصف، وإن زرعتها شعيرًا فلي الثلث، هذا بعيد، لكن ربما يأتي يوم من الأيام يكون الشعير أغلى من البر. على كل حال: هذا لا بأس به، وهذا الأثر الوارد عن عمر رضي الله عنه بجواز هذا دليل على جواز قول القائل: أبيعك هذا الشيء بعشرة نقدًا أو بعشرين لمدة سنة ثم يقبل المشتري بأحد الثمنين، فإن الصحيح أن ذلك جائز، وأن هذا ليس من البيعتين في بيعة. حكم أخذ الأجرة عن الحجامة: 870 - وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: «احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الذي حجمه أجره، ولو كان حرامًا لم يعطه». رواه البخاري. قوله: "احتجم" أي: طلب من يحجمه، والحجامة: عبارة عن إخراج الدم الفاسد في البدن، وهي نافعة قرنها النبي صلى الله عليه وسلم بالعسل والكي وقال: "الشفاء في ثلاث وذكر منها شرطة محجم"، ولها أطباء معروفون يعرفون من أين يحجمون وفي أي موضع، ويعرفون الإنسان يحتاج إلى الحجامة أو لا يحتاج، وقد كان الناس يفعلونها كثيرًا، وإذا اعتادها الإنسان فإنه لابد أن يفعلها، وإذا لم يفعلها كثر عليه الدم، وربما يؤثر عليه، حتى إن الإمام أحمد قال: لو هاج به الدم وهو صائم في رمضان فله أن يحتجم ويفطر، ثم إن الحجامة لها مواضع معينة في البدن، ولها أزمنة من الشهر، فلا تفعل في نصف الشهر ولا في أول الشهر ولا في آخر الشهر، يعني: لا تفعل حين ضعف الهلال من أول الشهر، ولا من آخره، ولا حين امتلائه بالنور؛ لأن فوران الدم في الأجسام له صلة بنور القمر فهو يغار في أول الشهر وفي آخره وعند

وسطه يزداد فورانه، والحجامة في هذا وفي هذا ليست جيدة؛ لأنها في حال فوران الدم ربما يخرج دم كثير من الإنسان يضره وفي حال انقباضه وغوره ربما تكون الحجامة مؤثرة؛ لأن الدم يكون أنقص، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد الأوقات التي ينبغي أن يحتجم فيها الإنسان، من أراد أن يطلع عليه فليفعل. يقول: "احتجم وأعطى الذي حجمه أجره"، ولم يبين الأجر؛ لأنه لا فائدة من بيانه. ثم قال: "ولو كان حرامًا لم يعطه" يعني: لو كان أجر الحاجم حرامًا لم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم إياه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفعل الحرام؛ لأنه مشرع؛ ولأنه أتقى الناس لله عز وجل وأخشاهم له فعلا يفعل. 871 - وعن رافع بن خديجٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كسب الحجام خبيث» رواه مسلم. هل كسب الحجام من البيع بالبر والرز والسكر والثياب؟ لا، ولكن من حجامته، من أين نأخذ من حجامته؟ من الوصف، يعني: كسب الحجام بحجامته كما لو قلت: المتقي في الجنة من أجل تقواه. "كسب الحجام خبيث" يعني: أجرة الحجام التي يكتسبها من حجماته خبيثة، الخبيث يطلق على الحرام، ويطلق على الرديء، ويطلق على المكروه الذي تكرهه النفوس وتعافه النفوس، فمن إطلاقه على الحرام قوله تعالى: {ويحل لهم الطيبت ويحرم عليهم الخبئث} [الأعراف: 157]. إذن يحرم المحرمات، فالخبيث هنا المحرم، ومن إطلاقه على الردي قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267]. الخبيث: يعني: الرديء، ومن إطلاقه على ما تعافه النفس وتكرهه قول النبي صلى الله عليه وسلم في البصل والثوم: «إنها شجرة خبيثة»، يعني: تكرهها النفوس وتعافها. نأتي إلى كسب الحجام هل نقول: إن المراد بقوله "خبيث": حرام؟ ممكن، هل المراد بذلك أن النفس تعافه؟ ممكن، هل المراد أنه رديء مخالف للمروءة؟ ممكن، إذن ما دام الاحتمال قائمًا بين هذا وهذا وهذا فإنه لا يمكن الاستدلال بالحديث على التحريم، لماذا؟ لأنه مع قيام الاحتمال سقط الاستدلال، إذ لا يتعين أن المراد بالخبيث: الحرام، ولهذا احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو كان المراد بالخبيث الحرام لم يعطه، وكان الذي ينبغي من حيث الترتيب أن يذكر حديث ابن عباس بعد حديث رافع لأجل أن يرفع حديث ابن عباس الوهم الذي يحصل من حديث رافع، لكن على كل حال المسألة من باب الأولوية.

هذان الحديثان - كما ترون - قد يبدو بينهما تعارض، فإن حديث رافع بن خديج احتمال أن يكون المراد به التحريم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بالخبيث من أجل المبالغة في التنفير عنه، ولم يقل: لا يأخذ الحجام الأجرة، بل قال: خبيث مبالغة في النفير عنه، وإلى هذا ذهب بعض العلماء وقال: إنه لا يجوز أن يأخذ أجرة على حجامته، لكن هذا القول ضعيف ويضعفه حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره. ثانيًا: يضعفه أن لقوله: "كسب الحجام خبيث" ثلاثة معانٍ، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال. ثالثاً: أنه مخالف لقواعد الشريعة؛ لأن القاعدة الشرعية أن ما جاز أخذ العوض عنه كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم شيئًا حرم ثمنه»، فمفهومه: أنه إذا أباح شيئا أباح ثمنه، وإذا كان عملاً فإن ثمنه الأجرة، فإذا أبيح العمل أبيحت أجرته. والحجامة هل هي حرام أو حلال؟ حلالا، هذا أدنى ما يقال فيها، فإذا كانت حلالاً فأخذ العوض عليها حللا، وبهذا تبين أن الذين قالوا بتحريم كسب الحجام واستدلوا بالحديث تبين أن قولهم هذا ضعيف لوجوه ثلاثة. هل يمكن أن نستدل بمعنى آخر وهو أننا لو قلنا بأن كسب الحجام حرام لأدى ذلك إلى عدم وجود الحجامين؟ نعم، فتعطل مصلحة للمسلمين وهي الحاصلة بالحجامة؛ لأننا لو قلنا للحجام استأجر حانوتًا وهات كراسٍ وهات آلات الحجامة، واقتطع جزءًا كبيرًا من وقتك لتحجم الناس ثم إياك أن تأخذ منهم قرشًا لأنه حرام ماذا يقول؟ يقول: لا أشتغل، فيتعطل شيء فيه مصلحة وهي الحجامة. من فوائد حديث ابن عباس: جواز الحجامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، بل إن الحجامة أحيانًا تكون مطلوبة وذلك فيما إذا تضرر الإنسان بتركها، والذين يعتادونها إذا تركها يتضررون ويبتعهم فوران الدم حتى يحتجموا. ومن فوائد الحديث: أن الحجامة طب نبوي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعلها. ومن فوائد الحديث: أن أجرة الحاجم حلال، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الحاجم أجره، ولو كان حرامًا لم يعطهز ومن فوائده: الاستدلال بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأن الأصل أن لنا فيه أسوة هذا هو الأصل، فلو ادعى مدعٍ الخصوصية قلنا: عليك الدليل، وبهذا نعرف ضعف ما سلكه بعض العلماء المتأخرين

كالشوكاني رحمه الله في أنه أدنى معارضة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم مع فعله يحملها على الخصوصية مع أن الجمع ممكن، وهذا لا شك أنه خطأ؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة وسنة كما أن قول كذلك، فمتى أمكن الجمع بين الفعل والقول وجب الجمع بينهما، ولا يحمل على الخصوصية إلا إذا تعذر الجمع. ومن فوائد الحديث: بيان فقه ابن عباس رضي الله عنه وأنه أتى بدليل منطقي في مقدمة ونتيجة قال: "أعطاه ولو كان حرامًا لم يعطه"، وبه نعرف أن ما ذهب إليه المنطقيون من تضخيم على المنطق، وأن من لم يحط به علمًا على يقين من أمره، ولهذا قالوا: لابد أن نتعلم المنطق من أجل أن نعتقد المعتقد الصحيح، ولكن شيخ الإسلام قابل هذه الدعوى عندهم فقال: إني كنت أعلم دائمًا أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد، إذن فهو إضاعة وقت. أما حديث رافع بن خديج وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كسب الحجام خبيث" ففيه دليل على دناءة كسب الحجام، واستدل به بعض العلماء على أن كسب الحجام حرام، ووجه استدلاله بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كسب الحجام خبيث ومهر البغي خبيث»، فقرنه بمهر البغي، والبغي هي الزانية، ومهرها هو ما تعطاه على الزنا، ومعلوم أنه حرام، قالوا: فهذا دليل على أن كسب الحجام حرام، ولكن يعارض هذا الاستلال بما استدل به عبد الله بن عباس من أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الحجام أجره ولو كان حرامًا لم يعطه، ثم نقول: إن دلالة الاقتران ضعيفة، صحيح هي قرينة لكنها ليست لازمة بمعنى: أنه إذا اقترن شيئان في حكم لا يلزم أن يكونا فيه سواء وإلا فلا شك أن اقترانهما يدل على تساويهما، ودليل هذا قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينةً} [النحل: 8]. فقرن الخيل بالبغال والحمير، وبالبغال والحمير حرام، والخيل حلال، استدل الحنفية على تحريم الخيل بهذه الآية، وقالوا: إن الخيل حرام؛ لأن الله تعالى قرن الثلاثة في حكم واحد، كما قلت لكم: إن دلالة الاقتران ضعيفة، ولكنها قوية من وجه، فإذا قلنا بأن الآية دالة على التحريم مثلاً في الثلاثة قلنا: الآية لا تدل على تحريم الأكل بل إنما تدل على أغلب الانتفاع بها وهو الركوب والزينة، أما الأكل فليس في الآية تعرض له هذا من وجه، من وجه آخر أنه قد ثبت في صحيح مسلم من حديث أسماء رضي الله عنها قالت: "نحرنا فرسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المدينة وأكلناه"، وهذا نص صريح عن أن الخيل حلال، إذن رددنا هذا الاستدلال بكون كسب الحجام حرامًا بما ذكره ابن عباس رضي الله عنه، وذهب بعض أهل العلم إلى أن كسب الحجام إن كان أجرة يعني: معاقدة فهو حرام وإن أعطي على ذلك مكافأة فهو

التحريز من منع الأجير حقه

حلال، وحملوا حديث ابن عباس على أن الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الحجام مكافأة، ولكن في النفس من هذا شيء؛ لأن ابن عباس قال: أعطى الحجام أجره، ولم يقل: كافأه، والأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا بدليل على خلاف ذلك. التحريز من منع الأجير حقه: 872 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه ولم يعطه أجره». رواه مسلم. قوله: "أنا خصمهم" يعني: أنا الذي أخاصمهم، ومن المعلوم أن من كان خصمه الله فهو مخصوم، كما أن من كان محاربًا لله فهو مهزوم، وقوله: "ثلاثة أنا خصمهم" ليس المراد ثلاثة أعيان بل المراد: ثلاثة باعتبار الجنس والوصف، قد يكون ثلاثة ملايين. وقوله: "أنا خصمهم يوم القيامة" بينه، "يوم القيامة" هو اليوم الذي يبعث فيه الناس، وسمي يوم القيامة؛ لأنه يقام فيه العدل، ويقوم فيه الأشهاد، ويقوم الناس من قبورهم. الأول: "رجل أعطى بي" يعني: أعطى العهد، أي: عاهد بالله على شيء من الأشياء ثم غدر مثل أن يقول: لك علي عهد الله ألا أخبر بما قلت لي ثم يخبر، فهذا أعطى بالله ثم غدر، أو يعطيه شيئًا أمانة فيقول: لك على عهد الله ألا أخون هذه الأمانة، ثم يخون، هذا أيضًا غدر بالعهد، فكل من أعطى شيئًا بالله ث غدر فهو داخل في هذا الحديث؛ لأنه انتهك ذمة الله، فكان الله خصمه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبعث البعوث: «إذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على ذمة الله وذمة رسوله فلا تنزلهم على ذمة الله وذمة رسوله، ولكن أنزلهم على ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله ورسوله»، فإذن نقول: إنما كان الله خصمه؛ لأنه غدر بذمة الله وعهد الله. الثاني: "رجل باع حرًا فأكل ثمنه" استولى على حر وباعه على أنه عبد مملوك فأكل ثمنه، وإنما كان الله خصم هذا؛ لأن الحرية من حقوق الله، فالله - سبحانه وتعالى - خلق الخلق أحرارًا، فإذا استرق الإنسان أحدًا بغير سبب شرعي كان قد انتهك حرمة من حرره عز وجل واسترقه، ولهذا نقول أن الحق في الحرية، والعبودية لله عز وجل، لا يمكن لأحد أن يسترق بشرًا إلا حيث أذن الله في نقول أن الحق في الحرية، والعبودية لله عز وجل، لا يمكن لأحد أن يسترق بشرًا إلا حيث أذن الله في ذلك، أما أن يستولي على حر ويبيعه ويأكل ثمنه فالله تعالى خصمه؛ لن الحرية من حقوق الله

عز وجل، لو أن رجلاً باع ابنه وأكل ثمنه لا يجوز، لأن الحرية لله، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» يعني: في المنافع لا في الاسترقاق. الثاني: «رجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه ولم يعطه أجره»، استأجر أجيرًا على عمل معين أو زمن معين على عمل معين، مثل أن أستأجره لينظف بيتي، على زمن، مثل أن أستأجره لمدة شهر على عمل كخياطة، أو تشغيل ماكينة هذا إما زمن وإما عمل، "فاستوفي منه" يعني: أخذ حقه كاملاً من هذا الأجير في الواقع يمد يدًا قصيرة، لاسيما وأنه في هذه الحال لا بينه له؛ لأنه لو كان له بينة لكانت حجته قوية ولم يمتنع المستأجر من منع الأجرة في الغالب، فلهذا كان الله تعالى خصم هذا الرجل. والشاهد من هذا الحديث لباب الإجارة: الصنف الثالث: "رجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه ولم يعطه أجره". في هذا الحديث عدة فوائد: أولاً: إثبات الحديث القدسي وهو الذي رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، وسمي قدسيًا لقداسته؛ لأنه أعلى ربتة من الحديث النبوي، فكل ما رواه النبي صلى الله لعيه وسلم عن ربه فإنه يسمى حديثًا قدسيًا. ومن فوائد الحديث: إثبات القول لله؛ لقوله: "قال الله"، وإثبات القول هو مذهب أهل السنة والجماعة، أي: أن الله يقول ويتكلم بما شاء ومتى شاء وكيف شاء. ومن فوائده: إثبات المخاصمة بين الله تعالى وبين هؤلاء الثلاثة لقوله: "أنا خصمهم" إذا جعلنا الخصم من باب التخاصم، أما إذا جعلنا خصم بمعنى خاصم فإنه لا يكون هناك خصومة من الطرف الثاني، والحديث يحتمل أن يكون الله يخاصمهم ويتكلم معهم، ويقول: لماذا فعلتم، أو ما أشبه ذلك، ويحتمل ان ينزل العقوبة بدون مخاصمة؛ لأنهم مخصومون عند الله. ومن فوائده: إثبات القيامة التي يكون فيها الجزاء. ومن فوائد الحديث: عظم هذه الذنوب الثلاثة وأنها من كبائر الذنوب، ووجه كونها من كبائر الذنوب: أن فيها عقوبة معينة ووعيدًا. ومن فوائد الحديث: وجوب الوفاء بالعهد؛ لأنه إذا كان الغدر به يستلزم خصم الله للإنسان كان ذلك دليلاً على وجوب الوفاء بالعهد، وقد دل عليه القرآن والسنة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من لم يوف بالعهد قد ارتكب صفة من صفات المنافقين.

جواز أخذ الأجرة على القرآن

ومن فوائد الحديث: تحري بيع الحر لقوله: "ورجل باع حراً فأكل ثمنه". فإن قال قائل: الحديث دل على تحريم من أكل الثمن ولكن ما تقولون فيما لو باع حرًا وتصدق بثمنه؟ حرام أيضًا، لكن عبر بالأكل بناء على الغالب، فهو كقوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا} [النساء: 10]. ولو أخدوها بغير الأكل لكان الحكم واحدًا. ومن فوائد الحديث: تحريم قتل الحر؛ لأنه إذا حرم استرقاقه فقتله من باب أولى؛ لأنه إتلاف له نهائيًا واسترقاقه تغيير وصف الحرية إلى رق مع بقاء الحياة، على كل حال تحريم القتل معروف؛ لأن كونه تأخذه من هذا ليس معناه أنه لا يوجد أدلة صحيحة في تحريم القتل. ومن فوائد الحديث: وجوب تسليم الأجرة على المستأجرة للأجير، وجه ذلك: أن المانع للأجرة يكون الله خصمه يوم القيامة، وفيه تهديد لما يوجد اليوم في الكفلاء الذي يحرمون الأجراء الذين يستقدمونهم من بلادهم، فتجده يماطل بأجرته، ويخفضها عما تم الاتفاق عليه، وربما لا يعطيه شيئًا يلجئوه إلى أن يفر إلى أهله دون أن يأخذ شيئًا، هؤلاء يكون الله تعالى يوم القيامة خصمهم؛ لأنهم خانوا هؤلاء الأجراء ولو أن الأجير ترك من العمل أدنى شيء لأقام عليه الدنيا، وهو مع ذلك يأكل أجره ولا يبالي! ! جواز أخذ الأجرة على القرآن: 783 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله». أخرجه البخاري. أولا: لنعرف كلمة "أجرًا" ما الذي نصبها؟ مفعول "أخذ"، وهي في أول وهلة يظن الظان أنها تمييز لأنها وقعت اسم التفضيل، لكن ليس كذلك، يعني: إن أحق شيء أخذتم عليه أجرًا كتاب الله وهو خبر "إن"، هذا أحق ما يؤخذ عليه أجر. وهذا أتى به المؤلف في باب الإجارة ليستدل به على جواز أخذ الأجرة على القرآن، وقوله: "كتاب الله" نسبه إلى الله كما نسبه الله تعالى إلى نفسه في عدة آيات؛ لأنه تكلم به - سبحانه وتعالى -، فالقرآن كلام الله تكلم به وكتب في الصحف التي في أيدي الملائكة، وكتب كذلك في الصحف التي بأيدينا، فسمي كتاب الله، ولا نعلم أن الله - سبحانه وتعالى - كتبه بيده، وإنما كتب - سبحانه وتعالى - التوراة بيده كما قال تعالى: {وكتبنا له في الألواح من كل} [الأعراف: 142].

الأخذ على كتاب الله له ثلاث صور

الأخذ على كتاب الله له ثلاث صور: الصور الأولى: أن يأخذ أجرًا على التلاوة. الصورة الثانية: أن يأخذ أجرًا على تعليم القرآن. الصورة الثالثة: أن يأخذ أجرًا على الاستشفاء به، هذه ثلاث صور فأيها المراد؟ نقول: إن السنة دلت على أن المراد بذلك صورتان: الصورة الأولى، التعليم، والثانية الاستشفاء، أما مجرد التلاوة فإن الأدلة تدل على تحريم ذلك، مثال التلاوة: ما يصنعه بعض الناس الآن من أنه إذا مات الميت أتوا بقارئ يقرأ القرآن، يقولون: إنه لروح الميت، وهذا العمل حرام؛ لأنه لا يجوز أخذ الأجرة على مجرد القراءة، وهو كذلك بدعة؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلونه، فهو حرام من جهة أخذ الأجرة على القراءة ومن جهة كونه يدعه، ولهذا يعتبر صرف المال لهذا العلم إضاعة للمال، ولا يجوز لأحد أن يفعل ذلك، فإن قال: المال لي بعد انتقاله من الميت، قلنا: نعم هو لك لكن أضعته وإضاعة المال حرام، فكيف إذا كان في الورثة صغار وأخذ هذا من نصيبهم يكون أشد وأشد، ثم إن الميت لن ينتفع بهذه القراءة، حتى على القول بأن الميت إذا قرئ له شيء ينفعه، فإن في هذا لا ينتفع به، لماذا؟ القارئ ليس له أجر، ووصول الأجر إلى الميت فرع عن ثبوت الأجر للقارئ، والقارئ هنا لا أجر له؛ لأنه أراد بعلم الآخرة الدنيا، وكل عمل للآخرة فإنه لا يجوز أن يجعل للدنيا لقول الله تعالى: {كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وبطل ما كانوا يعملون} [هود: 15، 16]. إذن هذه الصورة حرام بدليل الآية التي سقتها لكم. الصورة الثانية: أن يأخذ على القرآن أجرًا على تعليمه يقول: أنا أعلمك كل سورة بكذا فهذا على القول الراجح جائز لدخوله في عموم قوله: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي طلب منه أن يزوجه المرأة التي وهبت نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم قال له: «ألتمس ولو خاتمًا من حديد» فقال: لا أجد شيئًا فقال: «أمعك شيء من القرآن؟ » قال: نعم سورة كذا وكذا، فعلهما، فقال: «قد زوجتكما بما معك من القرآن»، فجعل تعليمه لها مهرًا، والمهر لا يكون إلا مالاً؛ لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24]. وإذا كان مالاً صح عقد الأجرة عليه، إذن فتعليم القرآن يجوز أخذ الأجرة عليه حتى مع المعاقدة، بأن يقول: لا أعلمك إلا بكذا، أما المكافأة على التعليم فلا شك في جوازها. الصورة الثالثة: الاستشفاء به بأن يكون مريض يذهب إلى قارئ يقرأ عليه من أجل أن يبرأ من مرضه فهذا أيضًا جائز؛ لأن هذا العوض في مقابلة قراءته التي يراد بها الاستشفاء فهي

عوض عن أمر دنيوي وهو شفاء هذا المريض، هذا من حيث التعليل أما من حيث الدليل فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه كان في سفر ومعه جماعة فنزلوا على قوم من العرب ليلاً فاستضافوهم، ولكنهم لم يضيفوهم فتنحى أبو سعيد ومن معه ناحية، فأذن الله عز وجل، أن يلدغ رئيس القوم الذين منعوا الضيافة لدغته عقرب فعملوا كل عمل لعل الألم يسكن عنه ولكنه لم يجد شيئًا، فقالوا: اذهبوا إلى هؤلاء النفر لعل فيهم من يقرأ، فجاءوا إلى النفر من الصحابة قالوا: إن سيدهم لدغ فهل عندكم من راق؟ يعني من قارئ، قالوا: نعم، فذهب أبو سعيد رضي الله عنه إلى هذا الرجل فقرأ عليه حتى تعطونا أجرًا فجعلوا لهم قطيعًا من الغنم، فلما أخذوه وأرادوا أن يقتسموه، قال أبو سعيد: لا نقتسمه حتى نسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، قال ذلك من باب الاحتياط، فلما قدموا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أصبتم خذوا واقتسموا واضربوا لي معكم سهما» وضحك صلى الله عله وسلم، فهذا دليل على جواز أخذ الأجرة على قراءة القرآن للاستشفاء، هذا هو حاصل هذا الحديث. إذن "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" يكون هذا مخصوصًا بالصورتين الآخيرتين: التعليم والاستشفاء. ومن فوائد الحديث: جواز أخذ الأجرة على القرآن؛ لقوله: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله»، وعرفتم أنه إنما يكون ذلك في التعليم أو في الاستشفاء، أما مجرد القراءة فلا. ومن فوائد الحديث: أن الأعمال تتفاضل لقوله: "إن أحق" و"أحق" اسم تفضيل. ومن فوائده: أن استحقاق الأجرة بقدر المنفعة، فكلما كانت المنفعة أعظم كان أخذ الأجر عليها أحق. ومن فوائده: إثبات أن القرآن كتاب الله لقوله: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتبا الله"، ووجه نسبته إلى الله: أنه كلامه، وليس المعنى أنه كتبه بيده كما كتب التوراة ولكنه كلام الله. ومن فوائد الحديث: وجوب تعظيم القرآن؛ لأنه كلام الله، وتعظيم الكلام تعظيم للمتكلم به.

874 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه». رواه ابن ماجة. "الأجير" فعيل بمعنى: مفعول، أي المأجور أي: المستأجر، أعطوه أجره، يعني: عوض منفعته وعلمه، وسمي أجرًا لأنه في مقابل عمل، وكل شيء في مقابلة عمل فإنه يسمى أجرًا، ومنه قوله تعالى: {إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حسابٍ} [الزمر: 10]. قال: "قبل أن يجف عرقه" يعني: من عمله، ومعلوم أن العرق لا يدوم طويلاً، فمراد النبي صلى الله عليه وسلم أن نعطيه أجره فورًا؛ لأن الأجير قد يعمل ولا يعرق، وقد يعمل ويعرق، ومراد النبي صلى الله عليه وسلم المبادرة بإعطائه أجره حتى يعطي قبل أن يجف عرقه، فلو عمل عملاً ليس فيه عرق يعطى من حين أن ينتهي، والأمر هنا ليس للوجوب وإنما هو للاستحباب؛ لأن المبادرة بإعطاء الأجر أفضل ما لم يصل إلى حد المماطلة، فإن وصل إلى حد المماطلة صار التأخير حرامًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم». إذن نأخذ من هذا الحديث: استحباب المبادرة بإعطاء الأجير أجره. ومن فوائده أيضًا: أن الأجير إنما يستحق الأجرة بتمام العمل، فإن لم يتم العمل نظرنا إن كان لغير عذر فلا حق له في شيء من الأجرة، وإن كان لعذر فله من الأجرة بقدر ما عمل، مثاله: رجل استأجر شخصًا أن يعمل له يومًا كاملاً فلما أذن الظهر قال: لا أريد العمل بدون عذر، ففي هذه الحال يضيع عليه عمله في أول النهار هدرًا، لماذا؟ لأنه ترك إتمام العمل بلا عذر، وعقد الإجارة عقد لازم من الطرفين، فإذا تركه بلا عذر فلا حق له فيما عمل، أما لو في أثناء النهار عند أذان الظهر أصيب بمرض لا يستطيع معه أن يعمل، ففي هذه الحال نقول: إنه يستحق من الأجرة بقدر ما عمل، فإذا كان قد عمل النصف أعطيناه نصف الأجرة أو الربع أعطيناه الربع، وهكذا؛ لأنه ترك بقية العمل لعذر فاستحق ما عمله، فإن كان ترك الإتمام من المستأجر لا من الأجيرة فإننا نقول: إن الأجير يستحق جميع الأجرة إلا إذا كان لعذر فله من الأجر بقدر ما عل، مثال ذلك: استأجر شخص رجلاً ليبني له جدارًا فلما كان في أثناء العمل أتى السيل فهدم الجدار وليس عند المستأجر شيء يكمل به الجدار أو يبني به الجدار الجديد فهنا لا يستحق العامل إلا مقدار ما عمل، وذلك لأن عدم إتمام العمل ليس باختيار المستأجر، أما لو كان في أثناء العمل قال: أريد عدم البناء يعني: بدا لي ألا أبني هذا الجدار، فإننا نقول

للمستأجر: عليك جميع الأجرة؛ لأنك أبطلت عمل هذا الرجل بدون عذر لك، والأجير مستعد يقول: أنا ما عندي مانع أن أكمل. لو قال قائل: إذا اتفق المستأجر والأجير على تأجيل الأجرة لشهر أو أكثر فهل يجوز؟ نعم يجوز، لأن الحق لهما، فإذا اتفقا على تأجيل الأجرة جاز، كما أنهما لو اتفقا على تعجيل الأجرة فإنه جائز، ثم قال: - وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي يعلي والبيهقي، وجابر عند الطبراني، وكلها ضعاف. ولكن حتى لو كانت ضعافًا فإننا نقول: إن الأحاديث الضعيفة إذا تعددت طرقها فإنها ترقي إلى درجة الحسن، هذا من وجه، من وجه آخر القياس، والقواعد الشرعية تقتضي أن يعطي الأجير أجره فورًا؛ لأنه استكمل العمل فوجب أن يعطي أجره فورًا بدون تأخير، فهذا الحديث إذا كان ضعيفًا من حيث تعدد الأسانيد فإننا نقول: إن بعضها يقوي بعضًا، وعلى تقدير أنه لا يتم هذا المدعى فإن القواعد الشرعية تقتضي مدلول هذا الحدوث، أي: أن تبادر بإعطاء الأجير أجره. 875 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استأجر أجيرًا فليسلم له أجرته». رواه عبد الرازق وفيه انقطاع، ووصله البيهقي من طريق أبي حنيفة. قوله: «من استأجر أجيرًا فليسلم له» أي: يعين له أجرًا بعينه جنسًا وقدرًا ووصفًا، فمثلاً: إذا استأجره بدراهم يبين له جنس الدراهم وقدرها، فمثلاً بقول: دراهم سعودية، دراهم مصرية، دراهم عراقية، دراهم يمنية، ويعينها أيضًا بالقدر كأن يقول: دراهم عشرة، مائة ألف المهم أن يعين، وذلك أن تسمية الأجرة فيها فوائد أهمها: قطع النزاع عند الاختلاف؛ لأننا لو اختلفنا فيما بعد، وطلب الأجير أكثر مما يتصوره المتسأجر صار فيه نزاع، مثاله: لو قلت لرجل: تعال احمل لي هذا المتاع من مكان إلى مكان ولم تسم الأجرة، فحمله، فلما وصل إلى المكان الذي طلبت أن يحمله إليه قال: الأجرة مائة ريال والشيء نفسه يساوي خمسين ريالاً يحصل نزاع، يقول صاحب الشيء: خذ الشيء كله لك؛ لأن قيمته خمسون ريالاً وهو طالب

عليه مائة ريال، وهذا مشكل، ولهذا لابد من التسمية، قال أهل العلم - رحمهم الله - بتسمية الأجرة شرط، وذلك من باب القياس؛ لأن الإجارة نوع من البيع، والبيع يشترط فيه العلم بالثمن والعلم بالمثمن، فيجب أن تكون الأجرة معلومة، لكنهم قالوا: تكون الأجرة معلومة بالعرف ومعلومة بالشرط اللفظي، يعني: بالقول، المعلوم بالقول مثل أن يقول: أعمل لي هذا بكذا وكذا من الدراهم، المعلوم بالعرف مثل: أن يسلم الإنسان الرجل الخياط خرقة ويقول: خطها لي ثوبًا بدون أن يقدر الأجرة هذا معلوم بالعرف لأن الخياط قد أعد نفسه لهذا العمل وأجرته عند الناس معروفة، فإاذ انتهى من خياطته يقول: لك الأجرة كذا وكذا، ومثله أيضًا القصار أعيطت ثوبك قصارًا ولم تعين الأجرة فلما انتهى قال: أجرته كذا وكذا هذا أيضًا معلوم بالعرف، وما هو القصار؟ الغسال، وليس القصار الذي يجعل الثياب قصيرة كما هو المتبادر من اللفظ، فأنت إذا أتيت إلى صاحب المغسلة وقلت له: خذ هذا الثوب واغسله ولم تقل بكذا فعليك أجرة المثل، لكن هذا في الحقيقة أحيانًا يكون فيه نزاع؛ لأن بعض الخياطين تكون خياطته رفيعة ليست عادية إذا خاط الناس الثوب بعشرة يخيطه هو بعشرين أو بثلاثين، وحينئذ يغتر صاحب الثوب؛ لأنه أعطاه إياه بناء على أنه من العاديين، يعني: بعشرة مثلاً ثم يقول له: بثلاثين أو أربعين، فهذه ترد على هذه المسألة التي ذكرها العلماء وهي: أن من أعطى ثوبه خياطًا أو قصارًا بدون قطع الأجرة فإنه يستحق أجرة المثل، ولكن يقال: الأصل العمل على الغالب، ويقال للذي أعطى الثوب: أنت المقصر لماذا لم تسأله؟ أنت أعطيت شخصًا من عادته يخيط بكذا وبكذا بأجرة رفيعة فلماذا لم تحتط لنفسك وتبين، إذن تسمية الأجرة يكون بالنطق حين العقد ويكون بالعرف، ثم قد تكون الأجرة بالمعاقدة سواء عين الأجرة أو لا، وقد يكون بغير المعاقدة، أي: تدل عليه قرينة الحال، مثاله: إنسان أنقذ مال شخص من هلكة بنية الرجوع على صاحبه فله أجر المثل، مثاله: رأيت مال فلان تلتهمه النار فأنقذت المال من النار ثم طالبت صاحبه بالأجرة وأنت ناو للرجوع ولم تنو التقرب إلى الله، فلك الأجرة وإن لم يكن عقدًا، لماذا؟ لأنك أنقذته من هلكة، فلو قال لك صاحب المال الذي أنقذته من الهلكة: من قال لك أنقذه؟ لماذا لم تتركه؟ نقول إذن: اذهب - أيها الرجل - بالذي أنقذته وبعه في السوق وخذ أجرتك، هل سيوافق صاحب المال على هذا؟ لا يوافق، فنقول: كلامك غير وارد وغير معقول ويعتبر سفهًا، وإذا كنت صادقًا فيما تقول فقدر أن الرجل تركه واحترق، اذهب يا فلان وبع المال وخذ مقدار أجرتك، والباقي إذا جئنا به على صاحبه فسيقول: جزاكم الله خيرًا الذي أعطيتموني هذا ولم تتركه تأكله النار.

16 - باب إحياء الموات

فصار عندنا ثلاثة أشياء: أجرة معينة بالتعاقد يقول مثلاً: استأجرتك تعمل كذا بكذا، الثاني: أجرة بعقد لكنها مقدرة بالعرف، مثل الغسال والخياط والنجار، الثالث: أجرة بلا عقد لكن دل عليه العرف، وذلك فيمن أنقذ مال غيره من هلكته فإنه يستحق أجر المثل، يوجد قسم رابع مثال: رأيت شخصًا لم تجر عادته بأن يعمل، قلت: يا فلان، من فضلك خذ هذا واحمله إلى البيت، فحمله إلى البيت، ثم طالبني بالأجرة قال: أعطين أجرة هل يستحق الأجرة أم لا؟ تقول: هذا الرجل إن كان أعد نفسه لهذا العلم كالحمالين فله أجر المثل، وإن لم يكن أعد نفسه لهذا العمل فلا شيء له؛ لأنه متبرع، هكذا قال أهل العلم. من فوائد الحديث: مشروعية تسمية الأجرة للأجير لقوله: "فليسم له أجرته". ومن فوائده: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ما يكون به قطع النزاع؛ لأن تسمية الأجرة قطع للنزاع. ومن فوائده: مشروعية تعيين العمل المستأجر عليه، وهذه تؤخذ من أنه إذا كان يشرع تسمية الأجرة والأجر أحد العوضين، فإن ذلك يقتضي أن يشرع تسمية العمل المستأجر عليه لأنه أحد العوضين، وهذا أيضًا كالأجرة، فإذا جئت مثلاً لشخص تعطيه ثوبك ليخيطه ثم خاطه على العادة وقال: أجرته كذا وكذا وجبت الأجرة، ولا يلزمه أكثر من خياطة العادة، فلو قال صاحب الثوب: أنا أريد أن تطرزه وتجعل فيه عشرة أزرة فهذا الرجل ليست له ذلك، نقول: ذلك خلاف العادة، ولا يلزمه إنما يلزمه ما جرت به العادة ما لم يكن هناك شرط، كذلك يستحق أجرة العادة التي تعطي لمثله. **** 16 - باب إحياء الموات يعني: إحياء الأرض الميتة، ولكن العلماء سموها مواتًا؛ لأنه ليس فيها حياة، والحياة بالإحياء، وسيأتي إن شاء الله، وأيضًا سموها الموات للفرق بينها وبين الأرض المجدية، فالمجدية تسمى ميتة: {وءاية لهم الأرض الميتة أحيينها} [يس: 33]. الموات مأخوذة منا لموت، وهي في الاصطلاح: الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم، "المنفكة" يعني: الخالية كالأرض التي ليست لأحد ولم يختص بها أحد مثل الأرض التي في البر، أما المملوكة فلا تسمى مواتًا وإن كانت هامدة مجدبة، وكذلك ما كانت مختصة مثل الأشياء التي تتعلق بمصالح البلد كمسايله ومطايله ومراعيه وأفنية البيوت هذه لا تسمى مواتًا في الاصطلاح، لماذا؟ لأنه يتعلق بها حق الغير، فإذا وجدنا أرضًا إلى جانب بيت لكنها فناء للبيت تلقى فيها كناسة البيت وتوقف فيها سيارة صاحب البيت، فهل نعتبرها مواتًا، أو نقول: ليست مواتًا؟ ليست مواتًا؛ لأنها تتعلق بها مصالح المحيي، كذلك مسايل البلد، وكانوا فيما سبق يزرعون

على حواشي الأودية، فلو أتى إنسان وأراد أن يحيى هذه المسايل قلنا: لا؛ لأنها تتعلق بها مصالح البلد، كذلك مراعي البلد القريبة منه التي يخرج الناس إليها مواشيهم لترعى ليست مواتًا فليس لأحد أن يحييها، إذا تبين هذا فهل إذا استولى الإنسان على أرض ميتة يملكها أو لا؟ نقول: نعم يملكها، كما دل عليه الحديث الآتي: 876 - عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمر أرضًا ليست لأحدٍ؛ فهو أحق بها»، قال عروة: «وقضى به عمر في خلافته». رواه البخاري. قال: "من عمر" وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم العمارة قال: "من عمر" فيرجع في ذلك إلى العرف، فما سماه الناس تعميرًا فهو تعمير، وما لم يسمه الناس تعميرًا فليس بتعمير، فإذا كانت أرضًا زراعية وجاء شخص وأحاطهم بمراسيم - أحجار توضع على حدود الأرض - فهل هذا الرجل أحياها أولا؟ لا، لم يحييها، لكن لو زرعها صار محييًا لها، كذلك لو خط أرضا ليبني فيها قصرًا لكنه لم يبن القصر حتى الآن، فهل يعتبر محييًا لها؟ لا، لم يعمرها، فإذا بنى القصر صار معمرًا لها، إذا عمرها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فهو أحق بها"، يعني: ليس لأحد أن يزاحمه فيها ولا أن يهلكها، قال عروة: وقضى به عمر في خلافته، وفائدة هذا الأثر: أن هذا الحكم باق لم ينسخ، وفهم من قوله: "ليست لأحد" أنه لو عمر أرضًا لأحد قد ملكها من قبل ثم تركها ثم جاء شخص فزرعها وعمرها، فهي للثاني أو للأول؟ للأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط قال: "ليست لأحد"، فعلم من هذا أنها لو كانت لأحد قد أحياها من قبل فهي للأول. من فوائد الحديث: أولاً: أنه لا إحياء بدون تعمير لقوله: "من عمر أرضً". ثانيًا: أطلق النبي صلى الله عليه وسلم العمارة فيرجع في ذلك إلى العرف على القاعدة المشهورة: (وكل ما أتى ولم يحدد ... بالشرع كالحرز فبالعرف احدد) وقوله: "كالحرز" يعني: حرز الأموال، والحرز نحتاج إليه في باب الوديعة وفي باب السرقة، فالسرقة من غير حرز ليس فيها قطع وإذا وضع الوديعة في غير حرز فهو ضامن. ومن فوائد الحديث: أنه لو اجتمع معمران لأرض فهي للأول، لقوله: "ليست لأحد". ومن فوائده: أن من ورد على تعمير آخر يعني: شخص عمر وترك الأرض برهة من الزمن واندثرت ثم جاء آخر فعمرها بعد، فهي للأول يعني: معناه سواء كان أثر إحياء الأول باقيًا أم داثرًا فإن الثاني لا يملكها.

877 - وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحيا أرضًا ميتةً فهي له». رواه الثلاثة، وحسنة الترمذي، وقال: روي مرسلاً. وهو كما قال، واختلف في صحابيه، فقيل: جابر، وقيل: عائشة، وقيل: عبد الله بن عمر، والراجح الأول. قوله: "من أحيا أرضًا" هي على وزان قوله في الحديث السابق "من عمر أرضًا"، وقوله: "ميتة" هي بوزان قوله: "ليست لأحد"، وقوله: "فهي له" بوزان قوله: "فهو أحق به"، إذن هذا الحديث بمعنى الحديث الأول أن الإنسان إذا أحيا أرضًا ميتة منفكة عن الاختصاصات وملك معصوم فهي له. مثال ذلك: رجل خرج من البلد فوجد مساحات كبيرة ليست ملكًا لأحد ولا تتعلق بها مصالح البلد فأحياها، نقول: هذه الأرض التي أحييتها هي ملك لك تبيعها، وتؤجرها، وترهنها، وتوقفها، وتهبها وتورث من بعدك، هي لك ملكك، وذلك لأنه استولى عليها من غير منازع فكانت له، كما لو خرج إلى البر فاحتش الكلأ أو الحطب فإنه يكون له؛ لأنه حاذه وملكه، وعموم الحديث يقتضي أنه لا يشترط في ذلك إذن الإمام، واعلموا أن العلماء إذا قالوا: الإمام فيعنون به الرئيس الأعلى للدولة يعني: لا يشترط أن يكون قد استأذن أو أخذ منه مرسومًا أو ما أشبه ذلك؛ لأن الحديث على من أحيا أرضًا ميتة فهي له ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إلا أن يمنعه الإمام كما أنه لم يقل: إن أذن له الإمام، فدل ذلك على أنه يملكها سواء أذن الإمام أم لم يأذن. وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على قولين: وهما في مذهب الإمام أحمد: فمن العلماء من قال: إنه لا يملكها إلا بإذن الإمام، وأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضًا ميتة» هذا إذن منه، يعني: من باب الإذن كما لو قال الإمام في بلده أو في مملكته: من أحيا أرضًا ميتة فهي له، فيرون أن هذا من باب الإذن السلطاني؛ يعني: أنه أذن بأن أحيا أرضا ميتة فهي له، قالوا: ولابد من إذن الإمام؛ لأن هذه أرض ليست مملوكة لأحد وليس لأحد ولاية عليها فيكون وليها الإمام، فإذا اعتدى أحد عليها وأحياها بلا إذنه فقد اعتدى على حق الإمام وافتات عليه، فكما أنه لا يملك أحد أن يقيم الحدود على الناس فكذلك لا يملك احد أن يأخذ أرضًا ليست لأحد

والولي عليها ولي الأمر إلا بإذنه، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة أيضًا. القول الثاني: أنه لا يشترط إذن الإمام وأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» من باب التشريع الإذن الشرعي والتمليك الشرعي، وليس من باب الإذن السلطاني، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم قال قولاً تشريعيًا وليس تنظيميًا، وبناء على هذا فإذا أحيا الإنسان أرضًا ميتة فهي له؛ لأن هذه ليست ملكًا لأحد، قالوا: وكما أن الإنسان إذا خرج إلى البر واحتش الحشيش واحتطب الحطب واستسقى من النهر وما أشبه ذلك، فإنه لا يشترط فيه إذن الإمام بالاتفاق فهذا كذلك لا يشترط فيه إذن الإمام، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه يملكه أي: يملك ما أحياه سواء أذن الإمام أم لم يأذن، وأجاب الآخرون أعني: الأولين عن الماء والكلأ، وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم شرك الناس فيها فقال: «الناس شركاء في ثلاثة: الماء، والكلأ، والنار»، ولم يقل: والأرض، فإذا لم يقل: والأرض صار تدبير الأرض إلى ولي الأمر، ولكن الذي يظهر أن القول الصحيح أن من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وذلك لأن الأصل في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أنه تشريع لا تنظيم حتى يقوم دليل على أنه تنظيم. ولهذا قلنا: إن الإنسان إذا قتل قتيلاً في الحرب فله سلبه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل قتيلاً فله سلبه» يعني: ما عليه من الثياب وما أشبهها. ومن العلماء من قال: إن المراد بحديث: "من قتل قتيلاً" هو أيضًا الإذن السلطاني، وأنه لا يملك المقاتل سلب القتيل إلا إذا قال قائد الجيش: "من قتل قتيلاً فله سلبه. على كل حال: القاعدة الأصلية: أن الأصل في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم هو التشريع، ولكن لو أن ولي الأمر منع من الإحياء إلا بإذنه فله ذلك؛ لأنه قد يرى من المصلحة تنظيم الإحياء حتى لا يعتدي الناس بعضهم على بعض، ولا يحصل نزاع، وتكون المسألة تخطط الأراضي وما أشبه ذلك من قبل الدولة، وترقم، ومن جاء من الناس يحيي قلنا له: هذه أرضك.

878 - وعن ابن عباس رضي الله عنه أن الصعب بن جثامة رضي الله عنه أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله». رواه البخاري. ابن عباس صحابي، والصعب بن جثامة صحابي أيضًا، وقد كان كريمًا مضيافًا عداء يسبق الظباء، ولما نزل به الرسول صلى الله عليه وسلم بودان أتى له بحمار وحشي وأهداه إليه، وقيل إنه ذبحه وأتى بلحمه؛ فرده النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم»؛ لأنه لما رده صار في وجهه شيء، أي: تغير وجهه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، يعني: إنا محرمون مع أن أبا قتادة رضي الله عنه اصطاد حمارًا وحشيًا وأكل منه أصحابه وهم محرمون، ولكن الجمع بينهما أن أبا قتادة لم يصطده لأصحابه، وإنما اصطاده لنفسه، وأطعم أصحابه منه، وأما الصعب بن جثامة فاصطاده للرسول صلى الله عليه وسلم، والصيد إذا صيد من أجل المحرم صار حرامًا على المحرم، وإن كان لم يصده. يقول: أخبره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا حمى إلا لله ورسوله»، الحمى معروف، وهو في اللغة: المنع، ومنه الحمية وهي الامتناع عن شيء معين من الطعام أو غيره، فالحمى معناه: المنع، وهو عبارة عن منع أرض معينة يحميها الرئيس أو الشريف في القبيلة حتى لا يرعاها أحد، وتبقى هي لرعي إبله وغنمه ويشارك الناس في مراعيهم، كانوا في الجاهلية يفعلون هذا؛ يحمي السيد أو الشريف أو الكبير في قومه أرضًا يقول: لا يسمها احد ولا يقربها أحد لتكون لمن؟ لماشيته من إبل أو بقر أو غنم، وهو مع ذلك يشارك الناس في بقية المراعي وهذا ظلم واضح، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذا، وقال: «لا حمى إلا لله ورسوله»، لا حمى إلا لله: الله عز وجل غني عن كل شيء، ولا يحتاج إلى أحد يحمي له؛ لأنه يطعم ولا يطعم، ولكن ما أضيف إلى الله من مثل هذه الأمور، فالمراد به المصالح العامة مثل: إبل الصدقة أو خيل الجهاد، وما أشبه ذلك، فإذا حمى ولي الأمر أرضًا لإبل الصدقة، أو لخيل الجهاد، أو لإبل الجهاد، أو ما أشبه ذلك من المصالح العامة فإن ذلك جائز؛ لأنه يحمي لله لا يدخل عليه شيء ولا يختص بشيء دون المسلمين يحمي شيئًا للمسلمين، وهو في الواقع أن هذا الحمى لله، أما قوله: "ولرسول الله": فقد اختلف فيها أهل العلم، فقيل: المراد بذلك ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم شخصيًا، يعني: أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحمي ما شاء لنفسه هو - يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم - له أن يختط أرضًا معينة، ويقول: هذه لي، وعلى هذا القول فاختلف العلماء: هل ذلك من خصائصه، بمعنى: أن غيره من ولاة الأمور ليس لهم الحق أن يحموا لأنفسهم، أو أن ذلك له ولمن كان بمنزلته من ولاة الأمور الذين لهم الولاية العامة؟ على قولين، أما القول الثاني في أصل المسألة فيقولون: إن عطف الرسول على

الله من باب عطف المشرع المبلغ عن الشرع، وأن المراد بما لرسول الله هو ما كان لله كقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41]. والخمس الذي لله والرسول هو خمس واحد، لكن لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مشرعًا مبلغًا عن الله صار ما يقوم به نيابة عن الله عز وجل هو خليفة الله تعالى في خلقه، وبناء على هذا القول نقول: إنه لا يراد بالرسول هنا الرسول صلى الله عليه وسلم شخصيًا ماذا يراد به؟ يراد به أنه مشرع فيكون ما لله فهو لرسول الله، فيحمل الحديث إذن على أن المراد بالحمى هنا: حمى ما كان لله عز وجل، كإبل الصدقة وإبل الجهاد وما أشبهها، وهذا القول أصح، ويرجحه أن الناس شركاء في ثلاثة الماء والكلأ والنار، وإذا كانوا شركاء في ذلك فليس لأحد أن يختص به دونهم، كما لو أنه اشترك اثنان في بيت مثلاً فليس لأحدهما أن يختص به دون الآخر، ولو اشترك اثنان في مزرعة فليس لأحدهما أن يختص بها دون الآخر، فالصواب أن المراد يحمى الله ورسوله: ما حمي للمصالح العامة أما الخاصة فلا، هذا القول هو الراجح ويليه في الرجحان أن المراد بالرسول: خوصية شخصه صلى الله عليه وسلم، لكن هذا خاص به هو ولا يشاركه أحد من ولاة الأمور والخلفاء؛ لأن عمر رضي الله عنه لما حمى ما حماه من المراعي حول المدينة صرح بأنه لا يحميه لنفسه إنما يحميه للناس لصاحب الغنيمة، وكذلك للمصالح العامة، فالصواب في هذه المسألة أنه ليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمي أرضًا يختص بها؛ لأن الناس شركاء في ارض الله عز وجل. المؤلف رحمه الله جاء بهذا الحديث في باب إحياء الموات فما مناسبته؟ المناسبة أن الحمى نوع من الاختصاص؛ لأن الحامي يختص بهذه الأرض المحمية ويمنع غيره منها. من فوائد الحديث: أولاً: ثبوت الحمى يعني: أنه يجوز في الأصل لكن بشروط. ثانيًا: أنه لا يجوز الحمى لشخص معين لقوله: "إلا لله ورسوله". ثالثًا: جواز الحمى للمصالح العامة، يعني: المواشي التي مصلحتها للمسلمين ولكن ينبغي أن يقال أو يسأل لو أن أحدًا تجرأ واحتش من هذا الحمى أو تجرأ ورعى إبله فيه فهل يكون آثمًا؟ الجواب: يكون آثما لدخوله في قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]. فإذا حمى ولي الأمر هذا المكان لدواب المسلمين العامة فإنه لا يجوز لأحد أن يعتدي عليه.

879 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار». رواه أحمد، وابن ماجه. وله من حديث أبي سعيد مثله، وهو في الموطأ مرسل. "وعنه" أي: عن ابن عباس رضي الله عنه. "الضرر": ما يحصل به ضرر من مال أو بدن أو جاه أو غير ذلك، وهو ضد النفع؛ لأن الأشياء إما نافعة وإما ضارة، [وإما ما لا ضرر فيه ولا نفع] وكلها إما في البدن أو المال أو الجاه أو العرض أو غير ذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر" هذا نفي، ولكن هل هو نفي لوجود الضرر أو لانتفائه شرعًا، يعني: هل النفي نفي لوجوده في الواقع أو نفي لوجوده في الشرع؟ نفي لوجوده في الشرع، وذلك أن النفي في الأصل يعود إلى الواقع، فإذا وحد في القرآن أو السنة نفي يحمل على الوجود، أي: أنه لا وجود له في الواقع، فإن تعذر نفيه على الوجود في الواقع حمل على نفيه في الوجود الشرعي فيكون نفيًا للصحة، فإن دل دليل على أنه صحيح وأن حمله على انتفاء الصحة لا يصح حمل على نفيه في الوجود الشرعي فيكون نفيًا للصحة، فإن دل دليل على أنه صحيح وأن حمله على انتفاء الصحة لا يصح حمل على انتفاء الكمال، وعلى هذا فنقول: "لا ضرر" ليس نفيًا لوجود الضرر، بل الضرر موجود، والضرار موجود أيضًا، لكنه لانتفائه شرعًا، يعني: أن الضرر منفي شرعًا، وقلنا لكم: إن الضرر يكون في البدن والمال والجاه وغير ذلك، كل ما يحصل به فوات منفعة فهو ضرار. وقوله: "ولا ضرار" قيل: إن معناه الضرار هو معنى الضرر، لكنه يزيد في بنيته للمبالغة، وعلى هذا فتكون الجملة الثانية بمعنى الجملة الأولى، فهي على هذا كالتوكيد، ولكن هذا ليس بصحيح، وذلك لأن التوكيد يأتي بدون ذكر حرف العطف مثل أن تقول: لا ضرر لا ضرر، أما إذا جاء حرف العطف فإن العطف يقتضي المغايرة، أي: أن الثاني غير الأول، وعلى هذا فلابد من فرق بينهما، الفرق بينهما أن الضرر ما حصل بدون قصد، والضرار ما حصل بقصد، وذلك لأن الضرار مصدر ضار يضار مثل قاتل يقاتل قتالاً، وهذا ضار يضار ضرارًا فهو ضرر مقصود، وعليه فيكون الحديث نفي الضرر الحاصل بلا قصد ونفي الضرر الحاصل بقصد، ثم هذا النفي معناه النهي يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقرار على الضرر وعن الإضرار؛ وذلك لأن النفي يأتي بمعنى النهي من باب المبالغة كأن هذا الشيء مفروغ منه من حيث تجنبه وحيث

ينفي وجوده لا إيجاده؛ لأن النهي عن الشيء نهي عن إيجاده ونفي الشيء نفي لوجوده، فقد يعبر بالنفي عن النهي من باب المبالغة كأن هذا الشيء أمر لابد من تجنبه، فلذلك عبر عن النهي عنه بالخبر عنه وهو نفيه. في هذا الحديث: ينهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرر، وهذا النهي يتضمن وجوب رفع الضرر سواء كان بالمال أو بالنفس أو بالجاه أو بالعرض أو بأي نوع من أنوع الضرر؛ لأن قوله: "لا ضرر" يقتضي رفعه ففيه إذن تحريم الضرر أو تحريم إبقاء الضرر. ومن فوائده: تحريم المضارة وقد ثبت في ذلك الوعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن من ضار ضار الله به، فلا يجوز للإنسان أن يضار غيره. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للإنسان أن يؤذي الناس أو يشغلهم بالأصوات المنكرة كما يفعل بعض الناس، تجده مثلاً يستمع إلى الأغاني المحرمة ويجعلها بصوت عال يفزع من حوله من الجيران، وربما يكون من حوله من أهل المساجد، كأن يكون يسكن حول مسجد فتجده يشغل هذا الشيء بصوت عال فيؤذي الناس، فهذا لا شك أنه من الضرر، وإن كان ليس ضررًا بدنيًا، لكنه ضرر ديني، فهو يشغل الناس عن دينهم ويوقعهم في الإثم، أو العب، وهذا الحديث في الحقيقة أنه يعتبر قاعدة؛ لأنه يمكن أن يدخل في جميع أبواب الفقه فمتى وجد الضرر وجب رفعه ومتى قصدت المضارة فإنها حرام؛ ولهذا ذكر بعض العلماء هذه القاعدة، وقال: إن الضرر منفي شرعًا، يعني: لا يمكن أن يقع. إذا قال قائل: لماذا جاء به المؤلف في باب إحياء الموات بعد قوله: «لا حمى إلا لله ورسوله»؟ قلنا: جاء بذلك لنستفيد منه تقييد الحمى بعدم الضرر، أي: أنه إذا تضمن الحمى ضررًا على المسلمين وجب منعه حتى وإن كان لماشية المسلمين، ولنفرض أن الإمام الذي له الماشية أو الذي يتولى ماشية المسلمين حمى حمى قريبًا من البلد بحيث تضرر أهل البلد بذلك فإنه يمنع، وكانوا في الزمن السابق يخرجون إلى قريب البلد يحتشون ويحتطبون، تخرج المرأة والصبي إلى قريب من البلد ليأتوا بالحشيش ويبيعونه، فإذا قدر أن هذا وقع هكذا وأن ولي الأمر حمى لمواشي المسلمين بهذا القرب من البلد الذي يضرهم قلنا: هذا لا يجوز،

حتى لو قال: إن هذا لمواشي المسلمين نقول: لا يجوز، لا ضرر ولا ضرار، وأنت يمكنك أن ترتفع في مكان بعيد عن البلد وتحمي لمواشي المسلمين؛ لأن مواشي المسلمين لا يحتاجها الناس يوميًا بخلاف بهائم البلد ومواشي البلد، فإن الناس يحتاجونها يوميًا. ثم قال: «وله من حديث أبي سعيد مثله وهو في الموطأ مرسلاً». نقول: حتى ولو كان في الموطأ مرسلاً فقد وصله أحمد وابن ماجه، ثم على فرض أن فيه شيئًا من الضعف فإن نصوص الكتاب والسنة تشهد له، فالشرع كله يحارب الضرر ويمنع الضرر، وإذا نشأ الضرر عن مضارة كان أشد وأعظم، لأن الضرر إذا حصل عن مضارة فقد باء الإنسان بالإثم من أصل الضرر، لكن إذا حصل الضرر بدون قصد المضارة فهذا لا يأثم به الإنسان لكن يلزمه أن يرفع الضرر فإن أبقاه مع علمه به صار مضارًا، وهذا أيضًا من الفروق بين الضرر والضرار، أن الضرر قد يأتي بلا علم الإنسان فنقول: هو لا يأثم ما دام أتى بلا علم لكن من علم ولم يرفعه كان آئما. 880 - وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحاط حائطًا على أرضٍ فهي له». رواه أبو داود، وصححه ابن الجارود. "من" شرطية، ودليل ذلك أن الجواب أتى مربوطًا بالفاء في قوله: "فهي له"، وإنما ربط الجواب بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، والجملة الأسمية أحد الجمل التي تربط بالفاء إذا وقعت جوابًا للشرط، وقد جمعت الجمل التي يجب ربطها بالفاء إذا وقعت جوابًا في قوله: (أسمية طلبية وبجامد ... وبما وقد وبلن بالتنفيس) قوله: "من أحاط حائطًا على أرض" لم يقيد النبي صلى الله عليه وسلم ارتفاع الحائط فيرجع في ذلك إلى العرف، يعني: ما عد حائطًا فإنه يحصل به الإحياء والتملك، وقيده بعض العلماء بما إذا كان الحائط على قدر قامة الرجل، وقيده بعضهم بما إذا كان لا يمكن الدخول منه إلا بتسلق وإن لم يصل إلى قامة الرجل، وهذا أقر إلى لفظ الحائط؛ لأن الحائط ما أحاط بالشيء، لكن الحائط قد يكون قصيرًا كالعتبة، هذا لا يعتبر حائطًا، وقد يكون أرفع من ذلك يحتاج إلى تسلق، وإن لم يكن طول قامة الرجل فهذا يحصل به الإحياء.

قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحاط حائطًا على أرض»، "أرض": نكرة تشمل كل أرض لكنها مقيدة بما سبق بألا تكون مملوكة لأحد، وألا يتعلق بها حق أحد من الناس، وقوله: "فهي له" اللام هنا للتمليك "فهي" أي: الأرض التي أحاطها بحائط "له" ملكًا تدخل في ملكه ويتصرف فيها كما يتصرف الملاك في أملاكهم. في هذا الحديث من الفوائد: أن الإنسان إذا أحاط أرضًا بحائط على حسب ما ذكرناه فهي له. ومن فوائده: أنه لا يشترط في هذه الأرض التي أحاطها بحائط أن يزرعها أو يخرج ماءها بل يملكها بمجرد هذا التحويط. ومن فوائده: أنه لو وضع عليها كومة من الترب أحاطها بكومة من التراب فإنه لا يملكها بذلك؛ لأن هذا لا يعد حائطًا. ومن فوائده: أنه لو وضع عليها كومة من التراب أحاطها بكومة من التراب فإنه لا يملكها بذلك؛ لأن هذا لا يعد حائطًا. ومن فوائده: أيضًا أنه لو قسمها بمراسيم، بأحجار، علامة على حدودها فإنه لا يملكه لأن هذا ليس بحائط، بل لابد من أن يكون هناك حائط. 881 - وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حفر بئرًا فله أربعون ذراعًا عطنًا لماشية». رواه ابن ماجه بإسنادٍ ضعيفٍ. هذا الحديث يقول: " من حفر بئرًا فله أربعون ذراعًا عطنًا لماشيته" يعني: حفر بئرًا للماشية، وكانت البادية يحفرون آبارًا يسقون بها إبلهم وغنمهم، فتجد كل طائفة حولها بئر تسقي منه، فحدد النبي صلى الله عليه وسلم هذا بأربعين ذراعًا لعطن الماشية أربعين ذراعًا من أي جانب؟ من جميع الجوانب، فتكون الساحة ثمانين من أربع جهات ثمانين من الشرق إلى الغرب، وثمانين من الشمال إلى الجنوب. في هذا الحديث من الفوائد: أن للبئر حريمًا يعني: مكانًا محترمًا بحيث إنه لا يعتدي عليه أحد. وفيه أيضًا من الفوائد: إن حريم البئر التي للماشية تقدر بأربعين ذراعًا، والذراع: نحو ثلثي مرت، ولم يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم عن البئر التي تحفر للزراعة؛ لأن هذا الحديث كما تشاهدون في بئر الماشية، ولكن إذا كان البئر للزرع فكم يعطى صاحبه؟ يقال: أن صاحبه يملك كل ما

تزرعه هذه البئر، يعني: ما جرت العادة بأن هذه البئر تزرعه فإنه يملكه، ومن المعلوم أنه يختلف، فمثلاً إذا كانت البئر عميقة وماؤها كثير فإنها تحتاج إلى أرض كبيرة، وإذا كانت بالعكس كفاها الأرض الصغيرة، ثم إن الحاجة لا تقتصر على ما يريد أن يزرعه؛ لأن الزرع يحتاج إلى جرين - وهو المكان الذي توضع فيه السنبل من أجل الزرع لا يتقيد بأربعين ذراعًا ولا بخمسة وعشرين ولا بخمسين، (وإنما) يتقيد بما يمكن أن يحييه بهذه البئر حسب العادة وما ذكره بعض العلماء: من أن حريم البئر العادية خمسون ذراعًا من كل جانب، وحريم البئر الجديدة خمسة وعشرون من كل جانب، فهذا وردت فيه أحاديث أيضًا لكن تحمل على ما إذا كانت للماشية، أما الزرع فلا يمكن أن يحفر بئرًا ويتكلف عليها ثم نقلو: ليس لك إلا خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب، لو قلنا بهذا ما ملك أحد شيئًا إلا أن يحفر الأرض كلها آربارًا، فنقول: البئر إما أن يحفره الإنسان لماشيته فيعطي مقدار عطن الماشية وهو أربعون ذراعًا كما في الحديث الذي ذكره المؤلف، وبعضهم يقول: إنها خمسون ذراعًا في المادة وخمسة وعشرون ذراعًا في الجديدة كما هو المشهور، أما بئر الزرع فإنه يعطى قدر ما تسقيه هذه البئر بحسب العادة قل أو كثر، وذكرنا أيضًا أنه يعطى قدر ما تسقيه هذا البئر بحسب العادة قل أو كثر، فذكرنا أيضًا أنه يعطى قدر ما تسقيه وما تتعلق به مصالحه مثل الجرين - مكان الدياس وكذلك الأرض البيضاء التي تجمع فيها الذب لأنه يحتاج إلى ذلك فكل ما يتعلق بمصالح هذه الأرض يكون له. 882 - وعن علقمة بن وائل، عن أبيه رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضًا بحضر موت». رواه أبو داود، والترمذي، وصححه ابن حبان. - وعن ابن عمر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه، فأجرى الفرس حتى قام ثم رمى بسوطه، فقال: أعطوه حيث بلغ السوط». رواه أبو داود وفيه ضعف. هذان الحديثان في الإقطاع والإقطاع هو: أن الإمام أو ولي الأمر يقتطع جزءًا من الأرض

يعطيه شخصًا، فهذا الذي أقطع يكون أحق به من غيره ولا أحد يزاحمه فيه، وقال بعض العلماء: بل إن هذا الذي أقطع يملكه ملكًا تامًا ويكون إقطاع الإمام له بمنزلة الإحياء؛ لأن الإمام له ولاية على أراضي المسلمين فله أن يقطع من شاء. المهم أن الإقطاع هو أن يقتطع الإمام قطعة من الأرض غير مملوكة ويعطيها لشخصٍ معينٍ، فالحديث الأول عن علقمة عن أبيه وهو وائل بن حجر وهو حضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضًا بحضر موت، يعني: قال هي لك ولم يبين مقدار الأرض لأنه لا حاجة إلى ذلك؛ إذ إن بيانها يعين: قلتها وكثرتها بحسب ما يراه ولي الأمر، يعني: ليست محددة بحد معين إذا رأى أن المقطع يتمكن من إحياء هذه الأرض أعطاه بقدر ما يتمكن، وقوله: "حضر موت" هي مقاطعة في اليمن معروفة، والإقطاع معناه: التمليك، يعني: ملكه أرضًا، أي: قال: لك هذه الأرض، ولكن أهل العلم يقولون: إن الإقطاع ينقسم إلى قسمين: إقطاع تمليك بمعنى: أن الإمام أو نائب الإمام يملك شخصًا من الناس أرضًا معينة، الثاني: إقطاع إرفاق بمعنى: أن الإمام أو نائبه يمنح هذا الرجل الانتفاع بهذه الأرض يمنحه أن ينتفع بها فقط، مثل: أن يعطيه أرضًا في السوق يضع فيها بضاعته يستقل فيها البضائع من الناس ليبيعها، فأما إقطاع الإرفاق فإنه لا يملكه المقطع؛ لأنه إقطاع انتفاع فقط والأرض ليست له، لكن ما دام الإقطاع باقيًا والرخصة قائمة فهو أحق بهذا المكان من غيره؛ لأنه لولا الإقطاع لكان المكان لمن سبق، ولنفرض أن هذه أرض واسعة في وسط السوق يجلب الناس فيها بضائعهم فيأتي الإمام ويقطع شخصًا معينًا قطعة من هذه الأرض ينتفع بها وحده هذا إقطاع إرفاقٍ، فيكون هذا المقطع أحق بها من غيره؛ لأن ولي الأمر منحه إياه، أما إذا لم يكن إقطاعًا، فالناس في هذا المكان سواء ويكون المكان لمن سبق إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به». هذا إقطاع إرفاق، إقطاع التمليك أن يقطعه قطعة من أرض على أن تكون ملكًا له، هذا الإقطاع اختلف أهل العلم هل يملكه المقطع ويكون إقطاع ولي الأمر بمنزلة الإحياء أو يكون المقطع أحق به من غيره لا يزاحمه فيه أحد، ولكن إذا لم يحيه فليس ملكًا له؟ الثاني وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، أي: أن الإقطاع لا يحصل به الملك، ولكن المقطع يكون أحق به، وعلى هذا فلا يزاحمه أحد في إحيائه، ولكن لو حصل

تشوف لإحياءه - يعني: واحد يقول: أنا أريد أن أحيي هذه الأرض، وقد أقطعت لشخص - فإنه يقال لهذا المقطع: إما أن تحييها وإما أن ترفع يدك، وبضرب له مدة يقدرها الحاكم بحيث يتمكن من إحيائها، ومن العلماء من يرى أن إقطاع التمليك يحصل به الملك، وعلى هذا فإذا أقطع الإمام أو نائبه شخصًا أرضًا مواتًا فإنه يملكها بهذا وتكون ملكًا له، يتصرف فيها تصرف الملاك في أملاكهم من بيع وهبة ورهن ووقف وغير ذلك، ولكن الأقرب المذهب أن الإقطاع لا يحصل به التمليك، لكن فائدته أن المقطع يكون أحق به من غيره لا يزاحمه فيه أحد، ويرجع هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له»، فقال: «من أحيا» فرتب الملكية على الإحياء، وإقطاع الإمام ليس فيه إحياء؛ لأن الإمام نفسه لو تحجرها لنفسه لم يكن تحجره إحياءً فكيف بمن كان فرعًا عنه؟ ! إذن فالقول الراجح في هذه المسألة: أن المقطع لا يملك الأرض، ولكن يكون أحق بها من غيره بحيث لا يمكن أن يملكها أحد ما دام له فيها حاجة. من فوائد الحديث: جواز إقطاع الإمام أرضًا لمن يحيها، ودليله فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل فيما فعله التشريع، ولكن هذا الجواز يجب أن يقيد بالقاعدة العامة، وهو أنه لا يجوز للإمام أن يقطع إلا لمصلحة فلا يحابي أحدًا في الإقطاع، يعني: لا يكون إذا جاءه شخص قريب له أو صديق له أو له جار أقطعه، وإذا جاءه الفقير البعيد لم يقطعه، هذا لا يجوز، الواجب أن يراعي العدل، كذلك لا يجوز أن يقطع الشخص أرضًا واسعة وهو لا يستطيع أن يعمرها؛ لأن ذلك تحجر لأرض المسلمين، وإنما يقطع المقتطع ما يمكن أن يحييه ويعمره، ثالثًا: لا يجوز - بناء على القاعدة العامة - أن يقطع ما فيه ضرر على المسلمين، مثل: أن يقطع أحد من الناس محل المراعي وما أشبه ذلك من مصالح المسلمين، لأنه إذا كان لا يملك حمى هذه الأرض فكيف يملك إقطاعها؟ ! ثم ذكر الحديث الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه ... الخ. قوله: «أقطع الزبير» هذا الإقطاع إقطاع تمليك. وقوله: "حضر فرسه" أي: منتهى عدوه، يعني: قال ركض الفرس حتى يقف فإذا وقف فهو لك - هذا معنى حضر فرسه، يعني: منتهى عدوه، يقول: فأجرى الفرس يعني مشاه وسيره حتى وقف، فلما وقف - من حرص الزبير على سعة الأرض رمى بسوطه من أجل أن يزيد المساحة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، كما نعرف جميعًا، من خلقه كان صلى الله عليه وسلم أكرم الناس لما رأى طمع هذا في الأرض ورمى بسوطه، قال: «أعطوه حيث بلغ السوط»، وهذا من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان من الولاة الجبابرة، لقال: أنقصوا له على قدر ما بلغ سوطه. لماذا يتعدى ويتجاوز ما حددنا له، نحن حددنا له منتهى عدوه، وهو الآن زاد فعاقبوه بأن ينقصوا من مقدار ما بلغ سوطه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس سياسة وأكرمهم وأحسنهم خلقًا، فلما رأى هذا الرجل متشوفًا متطلعًا إلى الزيادة قال: «أعطوه حيث بلغ السوط».

الحديث على كل حال: إسناده ضعيف، لكن معناه لا ينافي القواعد الشرعية، كيف ذلك؟ نقول: لأن الإقطاع تبرع؛ إذ قد يقول قائل بعكس ما قلت الآن، قد يقول قائل: إن هذا ينافي القواعد الشرعية لأن حضر الفرس مجهول، فكيف يصح وهو مجهول؟ ! لكن الجواب أن نقول: إن الذي يمتنع فيه الغرر ما كان عقد معاوضة، أما عقود التبرعات فلا بأس ان يكون فيها جهالة؛ ولهذا صححنا أن يهب الإنسان شيئًا مجهولاً، صححنا أن يهب العبد الآبق والجمل الشارد، ولا بأس؛ لأن هذا الموهوب له إن حصل على الهبة فهو غانم، وإن لم يحصل فليس بغانم بخلاف البيع والشراء، فهو إذا لم يحصل على العوض صار غارمًا، وإن حصل صار غانمًا. إذن نقول: هذا فيه دليل على جواز إقطاع المجهول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه، ومنتهى سوطه حيث بلغ السوط، هل يمكن في الوقت الحاضر أن نقطعه حضر سيارته؟ لا، لماذا؟ لأن السيارة لا تتعب، ممكن يقودها من هنا إلى مكة، فهذا لا يصح لأنه لا منتهى له في الواقع، لكن إذا كان عنده فرس، عنده بعير، عنده حمار يمكن. ومن فوائد الحديث: أن النفوس مجبولة على الطمع، فهذا الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه من أفضل الصحابة، ومع ذلك - إن صح الحديث - طمع هذا الطمع، لما وصل منتهى عدو الفرس رمى بسوطه، والطمع فيما ليس بمحرم لا يلام عليه الإنسان، أما الطمع في المحرم، فهو حرام، وكذلك الطمع الذي يشغل عن واجب هو حرام، والطمع الذي يشغل عن مستحب ليس بحرام، لكن الزهد تركه، والذي يشغل عن واجب الورع تركه، لماذا؟ لأن هناك فرقًا بين الورع والزهد، أكثر الناس لا يعرفون الفرق. الورع: ترك ما يضر، والزهد: ترك ما لا ينفع، إذن إذا كان يشغل عن الواجب كان تركه ورعًا؛ لأنه لو باشره ترك واجبًا، وترك الواجب يضر في الآخرة، ترك ما يشغل عن المستحب هذا زهد؛ لأنه لو ترك المصلحة بدون شاغل لم يضره في الآخرة، لكنه يفوت النفع، فهنا ترك ما لا ينفع يسمى زهدًا، فإذا قيل: فلان زاهد، فلان ورع، أيهما أعلى حالاً؟ الزاهد أعلى حالاً من الورع. إذن نقول: في الحديث دليل على جواز طمع الإنسان في الأمور المباحة له. ومن فوائد الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب أن يعطي النفس ما يلائمها بشرط ألا يوقع في محظور، وهذا من هديه صلى الله عليه وسلم، كل شيء يتطلع إليه الغير وهو لا يضر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوافق عليه لحسن خلقه، وهذا من تأليفه للناس، وتحبيب الناس إليه، يذكر في إسلام سلمان الفارسي أنه كان عند أناس من أهل الكتاب كل واحد من أسياده يوصيه أن يكون عند سيد آخر عنده علم من الكتاب؛ لأنهم يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حان وقت خروجه إلى أن وصل إلى المدينة، وقصته مشهورة، لكن كان من جملة العلامات التي ذكرت لسلمان الفارسي أن

بين كتفيه خاتم النبوة، يقول: «فوجدته في جنازة، فجلست خلفه، وعليه رداؤه، فجعلت أتطلع أنظر، فلما رآني أتطلع أنزل الرداء، من أجل أن أرى» وهذا من حسن الخلق، إذا رأيت أخاك المسلم يتطلع إلى شيء وهو لا يضرك أن يطلع فالأحسن أن تريه إياه، يعني: لو كان معك شيء غريب ساعة، قلم، أي شيء، وهذا يتطلع إليه؛ فدعه يراه تدخل عليه السرور، وأنت لا يضرك، المهم أن هذا من أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم. 884 - وعن رجل من الصحابة رضي الله عنه قال: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: الناس شركاء في ثلاثٍ: في الكلأ، والماء، والنار». رواه أحمد، وأبو داود، ورجاله ثقات. «الناس شركاء في ثلاثة» أولاً: قوله: «غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم» الغزو هو الخروج لقتال الأعداء، وكل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كلها جهاد في سبيل الله، ما خرج يومًا من الأيام إلا لتكون كلمة الله هي العليا، وكان صلى الله عليه وسلم قد حضر بنفسه بضعًا وعشرين غزوة، إما سبعًا وعشرين، وإما تسعًا وعشرين غزوة صلى الله عليه وسلم. "الناس": مبتدأ، و"شركاء" خبره يعني: مشتركون في ثلاث، وهذا حكم شرعي، "في الكلا"، وهو العشب الذي ينبته الله عز وجل بدون فعل فاعل، هذا الكلأ يعني: ما يكون من الأمطار، فالناس فيه شركاء حتى ولو كان في أرضك، فالناس فيه مشاركون لك لعموم الحديث. الثاني: الماء النابع من الأرض أو النازل من السماء، الناس فيه شركاء، ولو كان في أرضك، لماذا؟ لأن هذا الماء من فعل الله ليس من فعلك، أنت لو حفرت إلى الأرض السابعة لا تستطيع أن تخرجه، من الذي يخرجه الله {أفرءيتم الماء الذي تشربون ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} [الواقعة: 69]. {قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورًا فيمن يأتيكم بماء معين} [الملك: 30]. فالله تعالى هو الذي أخرج هذا الماء ليس لك فيه حول ولا قولة، غاية ما هنالك أنك سبب فيه، الثالث: النار: اختلف العلماء في النار، ما المراد بها؟ فقيل: وقود النار، وقيل: هي النار نفسها، فعلى الأول يكون المراد بذلك الحطب وشبهه، الناس فيه شركاء، لا يختص به أحد دون أحد، ولا يجوز أن يخصص به أحد دون أحد؛ لأن الناس شركاء فيه، وقيل: المراد بها: النار نفسها وهذا هو المتبادر من اللفظ، والقاعدة عندنا أن الواجب حمل الكلام على المتبادر منه ما لم تمنع منه قرينة، وهنا لا مانع منأن تقول: النار هي النار نفسها، ولكن كيف يكون الناس فيه شركاء يعني: مثلاً إذا أوقدت نارًا وأتيت بماء لي أسخنه عليها ليس لك الحق أن تمنعني من ذلك، لا

تقول: لا؛ لأني أنا وأنت شركاء فيها، كذلك لو أردت أن أستوقد منها أتيت مثلاً بعود من الحطب لأستقود من نارك لك الحق أن تمنعني من ذلك لأنني شريك معك، لماذا؟ لأن هذه النار هل هي بفعلك أو بفعل الله؟ بفعل الله عز وجل، ما تستطيع أن توقدها أبدًا لو أنفقت ما في الأرض كلها، لم تستطيع أن توقد شررة منها، فالله تعالى هو الذي أنشأها، فإذا كان كذلك فالناس فيها شركاء. إذن الناس شركاء في هذه الثلاث: الكلأ، والثاني: الماء، والثالث: النار، أما ما حازه الإنسان من الكلأ، وما حزه من الماء، فهو ملكه، فلو حششت الكلأ وأودعته في بيتك، فهل الناس شركاء لك فيه؟ لا؛ لأنك ملكته، وكذلك لو استسقيت من الماء ووضعته في السقاء أو في الجالون فهو ملكك، لا أحد يشركك فيه؛ لأنك حزته، وكذلك الحطب لو احتطبته وأدخلته في بيتك، فإنه يكون ملكًا لك، لا أحد يشاركك فيه، هل نقول: وكذلك لو عبأت نارًا؟ أنا لا أدري إذا كان يمكن أن يخزن اللهب، لكنك إذا استطعت تخزينه صار ملكًا لك، أما الغاز فهو وقود مثل الحطب. قوله: «غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم» يستفاد من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يشح بنفسه أن يغزو مع الصحابة، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم لولا أنه يراعي بعض أصحابه الفقراء الذين لا يجدون ما يحملهم عليه ما ترك غزوة إلا خرج معها، لكن الغزوات الكبار يحضرها ولابد. ومن فوائد الحديث: أن الناس شركاء في هذه الأمور الثلاثة، وهذه دلالة المنطوق في الحديث، مفهومه: أن الناس ليسوا شركاء فيما سواها، وأن كل إنسان يملك ملكًا خاصًا، فهو له لا يشاركه في أحد، فيكون في هذا الحديث رد لقول من استدل به على ثبوت الاشتراكية في الإسلام؛ لأنه كان في زمن من الأزمان يدندن الاشتراكيون حول هذا الحديث، ويقولون: إن الاشتراكية من الإسلام، حتى قيل في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم: والاشتراكيون أنت إمامهم! ! وكذبوا في ذلك، أنا أقول: هذا الحديث الذي استدللتم به الآن على الاشتراكية هو في الحقيقة دليل عليكم؛ لأن تخصيص الاشتراك في ثلاث يدل على انتفاء الاشتراك فيما وساه، وهذا هو إثبات الملكية الخاصة، وهذا من حكمة الله أن كل مبطل يستدل بدليل صحيح على باطله فإن الدليل يكون دليلًا عليه، وليس دليلاً له، ولهذا التزم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" أو ما يسمى بالعقل والنقل، التزم انه ما من شخص يستدل بدليل صحيح على باطل إلا كان الدليل عليه لا له؛ فحينئذٍ نقول: هذا دليل على بطلان الاشتراكية.

ومن فوائد الحديث: أن الأشياء التي لا صنع للآدمي فيها، وإنما هي من فعل الله يكون الناس فيها شركاء؛ لأن الناس كلهم عند الله سواء، فما دام الله تعالى لما قد أخرج هذا لعباده ينتفعون به، فإن الناس فيه سواء، ولا يمكن أن يختص به أحد دون الآخر. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن يخصص أحد بهذه الأشياء المشتركة، فلا يجوز حتى للإمام أن يقول لشخص من الناس: لك كلأ هذه الأرض دون غيرك، وقد سبق لنا أنه لا يجوز الحمى إلا للمواشي العامة للمسلمين، بشرط ألا يضرهم. ومن فوائد الحديث: أن ما نبت في ملكك من الكلأ أو ما نبع من الماء فالناس مشاركون لك فيه، ولكن أهل العلم يقولون: إن صاحب الأرض أحق به من غيره؛ لأنه مالك أرض فيكون أحق بفرعها من غيره؛ لأن الفرع تبع للأصل، وعلى هذا فإذا كان هذا الماء النابع في أرضي لا يكفي زرعي أو يكفيه ولا يزيد عليه؛ فإنه ليس لأحد أن يزاحمني في الماء؛ لأنني أنا أحق به من غيري، ولهذا جاءت الأحاديث في تحريم بيع فضل الماء، أما ما كان في حاجة صاحب الأرض الذي نبع الماء في أرضه؛ فإنه لا يزاحمه أحد فيه فهو أحق به. إذا قال قائل: ما تقولون في رجل عنده كلأ لا يحتاج إليه ليس عنده مواش تأكله، ولكن قد أحاط أرضه بشبك، فهل لأحد أن يعتدي على هذا الشبك، أو لا يجوز إلا بعد مراجعة ولي الأمر؟ الثاني: لأن هذا الرجل الذي أحاط أرضه صار فيها شيء من الحماية، ولكن لولي الأمر أن يلزمه بإزالة هذا الحاجز من أجل أن يرعى الناس هذا الكلأ أو يحشوه إلا إذا كان عنده ماشية ترعاه أو هو يحشه ويبيعه فهو أحق به كما قلنا. كذلك بالنسبة للماء تقول: إذا كان عند إنسان غدير وهو: الماء المجتمع من الأمطار، واحتاج الناس أن يدخلوا إليه ليسقوا منه مواشيهم أو ليستسقوا منه لأنفسهم فليس له الحق أن يمنع الناس من ذلك؛ لأن الناس شركاء له فيه، لكن إذا كان يحتاجه هو لزرعه فله أن يمنع غيره منه إلا عند الضرورة، فيجب أن يمكن من اضطر إلى الشرب منه. في الحديث يقول: "عن رجل من الصحابة"، "رجل" مجهول، نقول: لكن هو من الصحابة، وقد قال علماء الحديث: إن جهالة الصحابي لا تضر، ولكن يورد علينا مورد أن من الصحابة من فعل بعض المعاصي الظاهرة، بل بعض الكبائر، فكيف تقولون: إن جهالة الصحابي لا تضر أفلا يمكن أن يكون ممن فعل هذه الكبيرة؟ الجواب: أن الأصل في الصحابة العدالة، وأن من فعل منهم كبيرة، فهو إما أن يكون له حسنات عظيمة كبيرة تنغمر فيها هذه المعصية مثل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، فإنه قد فعل

17 - باب الوقف

كبيرة من كبائر الذنوب، وهي التجسس لحساب المشركين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب حينما استأذنه أن يقتله، قال له: «وما يدريك أن الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، فكانت هذه الحسنة العظيمة ماحية لهذه السيئة الكبيرة، والسيئة الكبيرة منغمرة في هذه الحسنة الكبيرة، أيضًا قد يكون منهم من تاب ومن تاب تاب الله عليه، قد يكون منهم من طهر بإقامة الحد عليه أو العقوبة، ومعلوم أن الحدود كفارة للذنوب، قد يكون بعضهم استغفر له الرسول صلى الله عليه وسلم لما يسأل بعضهم الرسول يقول: يا رسول الله! استغفر لي، فالمهم أن الأصل فيهم العدالة، وما يروى عن بعضهم من الوقوع في المعصية فإن هذه المعصية لها أسباب كثيرة تنغمر فيها هذه المعصية، ولهذا لا شك أنهم عدول في الأصل، والأصل قبول خبرهم، ولو كانوا مجهولين. فإن قال قائل: أليس أبو موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب ثلاثًا، ولما لم يأذن له انصرف، ثم لما عابته عمر على ذلك أخبره بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لمن يستأذن ثلاثًا أن ينصرف، فقال له: هات من يشهد معك، فكيف تقولون: إن الأصل قبول خبر الصحابي وأن جهالته لا تضر؟ فالجواب: أن نقول: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يتثبت لأنه قد يفهم الشيء على خلاف ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا ردًا لخبر أبي موسى، ثانيًا: أن عمر بن الخطاب أدرك زمن التابعين، فخاف أن يقوم أحد من التابعين بفعل شيء يلام عليه ثم يدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن له في ذلك، فأراد رضي الله عنه سد الباب، ولا أظن أن عمر يشك في صدق أبي موسى، وأن أبا موسى أراد أن يحابي نفسه، فيروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، هذا شيء مستحيل. على كل حال نعود إلى الأصل، وهو أن الأصل في الصحابة العدالة، ولهذا قال أهل الحديث: إن جهالة الصحابي لا تضر. **** 17 - باب الوقف "الوقف": مصدر وقف يقف وقفًا ووقوفًا، وأصل الوقف قطع المشي والسير، ولكنه هنا تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، يعني: أن يحبس الإنسان أصل المال، ويسبل منفعته يطلقه، مثاله: أن يوقف هذا البيت على الفقراء فأصل البيت محفوظ لا يمكن أن يتصرف فيه ببيع ولا هبة ولا ميراث ولا غيره، ومنفعته للفقراء مطلقًا كل من كان فقيرًا استحق من هذا الوقف، ولهذا

نقول: الوقف: هو تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، ولم يكن هذا التصرف في المال معروفًا في الجاهلية، وأول وقف كان في الإسلام وقف عمر بن الخطاب الآتي في الحديث الذي بعد الحديث الأول، والوقف في الأصل يقصد به البر والتقرب إلى الله عز وجل، لأن الإنسان يوقفه ليبقى العمل له بعد موته، فيكتسب بذلك أجرًا وصوابًا بع الموت وبناء على هذا؛ فإنه لا يجوز للإنسان أن يوقف وقفًا محرمًا، مثل: أن يوقف على بعض أولاده على الآخرين، والتفضيل حرام، والوقف إنما يقص به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن تقرب الإنسان إلى الله بمعصية الله. فبدأ المؤلف بحديث أبي هريرة: 885 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له». رواه مسلم. "إذا مات ابن آدم انقطع" هذه جملة شرطية يتوقف فيها الجواب على الشرط، فإذا مات الإنسان، انقطع عمله، وانتقل إلى دار الجزاء؛ لأنه دار العمل هي الدنيا فقط، وبعد الموت لا عمل وليس فيه إلا الجزاء. "إلا من ثلاث" فإنه لا ينقطع عمله قال: "صدقة جارية": الصدقة الجارية كل نفقة تكون بعد الموت في سبيل الله، أي: فيما يقربه إلى الله، ولا يختص ذلك بالفقراء والمساكين، بل لو وقف شيئًا على المار في هذا الطريق وقف شيئًا للشرب يشرب منه الأغنياء والفقراء، بنى مسجدًا يصلي فيه الأغنياء والفقراء، فكل هذا داخل في الصدقة الجارية، ومعنى جارية: أي مستمرة بخلاف الصدقة المقطوعة فهي أن يتصدق الإنسان بدراهم على شخص وينتهي، الصدقة الجارية أن يستمر هذا الإنفاق مثل أن يوقف بيتًا على طلبة العلم، هذا البيت سوف يبقى الانتفاع به ما دام البيت باقيًا، فإذن الصدقة فيه جارية مستمرة كذلك لو أوقف سيارة للحجاج والعمار فالانتفاع بهذه السيارة باقٍ مستمر، فيكون من الصدقة الجارية، أوقف عين ماءٍ لمن يشرب من المسلمين هذه أيضًا صدقة جارية. الخلاصة الآن: أن الصدقة الجارية كل ما ينفق تقربًا إلى الله سواء كان على الفقراء أو على جهات أخرى والصدقة الجارية قد تكون خاصة، وقد تكون عامة، فالخاصة مثل: أن يقول: هذا البيت وقف على الفقراء من ذريتي هذا خاص للفقراء من الذرية، والعام مثل: أن يقول: هذا البيت وقف على الفقراء من المسلمين، فيشمل كل من افتقر من المسلمين، ومن العام أن

يبني مسجدًا يصلي فيه المسلمون، فإن هذا المسجد سوف يعم من المسلمين الأمم الكثيرة التي قد لا تكون على فكر الذي أوقفه. "أو علم ينتفع به" يعني: إذا مات الإنسان وانتفع الناس بعلمه بعد موته؛ فإنه يجري له أجره سواء كان ذلك مما ينتفع به في الدنيا، أو مما ينتفع به في الآخرة؛ لأن الذي ينتفع به في الدنيا في أجر، لكن الذي ينتفع به في الآخرة أكثر أجرًا، فإذا خلف الإنسان علومًا شرعية، وانتفع الناس بها عبد موته فهذا علم لا ينقطع، إذا خلف علومًا دنيوية ينتفع الناس به كعلم الخياطة، وعلم البناء، وما أشبه ذلك، فإنه أيضًا له أجره، كما لو زرع الإنسان زرعًا أو غرس غرسًا وانتفع الناس به أكلوا من ثمره فإنه يؤجر عليه، كذلك إذا انتفعوا بعلمه الدنيوي الذي ينفع الناس؛ فإنه يؤجر عليه، لكنه ليس كالأجر على العلم الشرعي الذي ينتفع الناس به في دينهم، أما إذا كان علمًا آخر يضر الناس؛ فإنه لا أجر له فيه، كما لو علم الناس علومًا من الألعاب المحرمة، أو المعازف المحرمة؛ فإن ذلك يكون وزرًا عليه ما دام الناس يأخذون به. قال: "أو ولد صالح يدعو له": قوله: "ولد صالح" هل هو شرط أو هو لبيان الواقع؟ قال بعض العلماء: إنه شرط؛ لأن غير الصالح لا تستجاب له دعوى، فلا ينتفع به والده، وقيل: إنه لبيان الواقع؛ لأن الغالب أنه لا يدعو للأب إلا الصالح سواء استجيب أو ما استجيب، وغير الصالح ربما يستجاب له، وهذا هو الأقرب أن هذا القيد لبيان الواقع؛ لأن غير الصالح ينسى والده، لكن الصالح هو الذي يذكر والده فيدعو له. وقوله: "أو ولد" يشمل الذكر والأنثى؛ لأن الولد في اللغة العربية يشمل الجنسين جميعًا كما قال الله تعالى: {يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11]. قال: أولادكم، ثم فصل فقال: {للذكر مثل حظ الأنثيين}، إذن فالولد اسم يشمل الذكور والإناث. وقوله: "يدعو له" أي: يسأل الله له المغفرة، والرحمة، والجنة، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا من العمل؛ لأنه إذا دعا له بالمغفرة واستجاب الله دعاءه انتفع الولد بغفران الذنوب، وهذا من العمل، والشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "صدقة جارية"؛ لأن الوقف صدقة جارية، فيكون الواقف منتفعًا بوقفه بعد موته. وفي هذا الحديث فوائد: أولاً: الحث على العمل الصالح والمبادرة به؛ لقوله: "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله"، والإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت؛ فإذا كان لا يدري متى يفجؤه الموت، وقد علم أنه إذا مات انقطع عمله أوجب له ذلك كثرة العمل الصالح، والمبادرة به، وعدم الكسل والتهاون. ومن فوائد الحديث: فضيلة الصدقة الجارية لقوله: "إلا من ثلاثٍ: صدقة جارية".

ومن فوائده أيضًا: فضيلة العلم، وأن الإنسان إذا خلف علمًا، وانتفع الناس به بعد موته فهو عمل له يكسب به أجرًا، الغالب أن انتفاع الناس بالعلم أكثر من انتفاعهم بالمال، والدليل على ذلك أنك ترى أهل العلم الذين انتفع الناس بعلمهم سواء انتفعوا بروايتهم أو بتفقههم تجد انتفاع الناس بهم منذ سنوات عديدة، والصدقات الجارية تندثر وتزول، انظر مثلاً: صدقة عمر رضي الله عنه التي تصدق بها في خيبر أين هي؟ تلفت، انظر إلى علم أبي هريرة تجده باقيًا، وكذلك علم عمر فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما رواه تفقهًا، إنما العلم أعظم نفعًا، وأكثر وأعم من الصدقة الجارية. ومن فوائد الحديث: إثبات مشروعية الوقف، وأن الوقف ليس من الأمور البدعية، بل هو من الأمور المشروعة؛ لأنه داخل في قوله: "صدقة جارية". ومن فوائد الحديث: الحث على نشر العلم، وأنه ينبغي لطالب العلم أن ينتهز الفرص، وألا يدع فرصة تذهب إلا وهو ناشر لعلمه؛ لأنه كلما انتشر العلم كثر الانتفاع بالعلم، وكلما كثر الانتفاع، كثر الأجر والثواب، فينبغي لك أن تنشر العلم. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يشترط أن يكون العلم كثيرًا وافرًا؛ لأن كلمة علم نكرة، والنكرة تدل على الإطلاق، فهو علم بلا قيد، أي علم ينتفع به؛ فإنه ينفعك بعد موتك حتى لو علمت الناس بسنة من السنن الرواتب، أو بسنة مما يفعل أو يقال في الصلاة، وانتفع الناس بها بعد موتك، كان لك أجرها جاريًا كما قلت، وجه الدلالة من الحديث: أنه مطلق "علم ينتفع به" لم يقل: "علم كثير"، فكل علم ينتفع به ولو قل؛ فإنه يكتب للإنسان بعد موته، هل نقول: لو أن الإنسان أوقف شيئًا على طباعة كتب العلم هل يدخل في الصدقة الجارية أو في العلم الذي ينتفع به؟ في الاثنين؛ لأنه صدقة جارية وعلم ينتفع به؛ لأن الإعانة على العلم لها أجر العلم. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يعتني بتربية أولاده على الصلاح؛ لقوله: "أو ولد صالح" ومعلوم أن التربية لها أثر كبير في إصلاح الأولاد، وأنت إذا اتقيت الله تعالى فيهم في التوجيه والأدب اتقوا الله فيك، وإذا أهملت حق الله فيهم فيوشك أن يهملوا حق الله فيك جزاءً وفاقًا، إذن نأخذ من كلمة "ولد صالح" أنه ينبغي - إن لم نقل يجب - أن يعتني بتربية أولاده على الصلاح. ومن فوائد الحديث: أن الدعاء للميت أفضل من إهداء القرب إليه، يعني: أن تدعو له أفضل من أن تصلي له ركعتين، أو أن تتصدق عنه بدرهمين، أو أن تضحي عنه، أو أن تحج عنه، أو أن تعتمر عنه، فالدعاء أفضل، ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - وهو يتحدث عن العمل -: "أو ولد صالح يدعو له" ولم يقل: أو ولد صالح يصلي له أو يتصدق عنه أو يصوم عنه أو ما

أشبه ذلك، ولهذا لم يكن من عهد السلف أن يكثروا التصدق أو العمل للأموات، وإنما حدث هذا في الأزمنة المتأخرة. فلو سألنا سائل: ما تقولون: أيهما أفضل أن أصوم يومًا لأبي الميت، أو أدعو له؟ قلنا الأفضل أن تدعو له، وصمم لنفسك، وادعوا الله له، ولاسيما عند الفطر، لو سألنا: هل الأفضل أن أعتمر لأبي أو أدعو له؟ قلنا: اعتمر لنفسك وادع الله له في الطواف في السعي، وهذا هو الأحسن، وأنت أيضًا سوف تحتاج للعمل سيمر بك الذي مر على أبيك، فلا توزع عملك على فلان وفلان، واجعل العمل لك وهؤلاء ادع الله لهم. ومن فوائد الحديث: أن الأولاد غير الصالحين لا يؤمل فيه الخير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد ذلك بالولد الصالح؛ فالولد غير الصالح لا يؤمل في الخير، وهذا هو الغالب أن الولد غير الصالح يكون نكدًا على أبيه وعلى أهله، ولكن مع ذلك ينبغي للإنسان إذا وهب الله له ولدًا غير صالح أن يحرص على إصلاحه، وأن يلح على الله بالدعاء في أن يصلحه، وألا ييأس من روح الله، فكثيرًا ما يصلح الولد بعد أن كان فاسدًا، لا يقول: والله عجزت، وهذا لا ينصلح حاله، هذا لا يجوز؛ لأنك لا تدري كم أناس صلحوا بعد أن كانوا فساقًا! 886 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: «أصاب عمر رضي الله عنه أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخير لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه. فقال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر رضي الله عنه: أنه لا يباع أصلها، ولا يورث، ولا يوهب، فتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقًا غير متمولٍ مالاً». متفق عليه، واللفظ لمسلمٍ. وفي روايةٍ للبخاري: «تصدق بأصلها، لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره». "خيبر": هي حصون ومزارع لليهود تبعد عن المدينة نحو مائة ميل في الشمال الغربي افتتحها النبي صلى الله عليه وسلم قسم منها ما قسم على الصحابة، وأصاب عمر أرضًا من خيبر فلما أصابها أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، يعني: يأخذ أمره ومشورته فيهان فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب .. الخ، أصبت: يعني: حصلت على أرض، وقوله: "لم أصب مالاً" المال: اسم لكل ما يتمول من أعيان ومنافع وحقوق، أعيان مثل الدور والأراضي، والمنافع كمنافع

الأشياء التي استأجرها فإن الإنسان إذا استأجر بيتًا أو استأجر سيارة يملك منافعها أو حقوقًا كحق الشفعة مثلاً، فالمال شامل لهذا كله، وقوله: "قط" هذه ظرف لما مضى وهو مبني على الضم في محل نصب، وتأتي غالبًا بعد النفي، فيقال: ما ملكته قط، وهنا قال: "لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه" أنفس بمعنى: أغلى وأحب، والمال النفيس هو: المال الذي كون محبوبًا عند الناس وغالبًا في نفوسهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مشيرًا عليه: «إن شئت حبست أصلها»، ولم يقل: أحبس أصلها، لئلا يظن عمر رضي الله عنه أن هذا على سبيل الوجوب، بل قال له: «إن شئت حبست أصلها» يعني: وقفته «لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدقت بها» أي: بثمرها، كما جاء رواية أخرى؛ لأنه لا يمكن أن يكون المراد تصدقت بالأصل؛ لأن قوله: "حبست أصلها" لا يتطابق مع قوله: "تصدقت"؛ لأن التصدق ينافي الحبس أو التحبيس، ولهذا نقول! تصدقت بها أي: بثمرها كما جاء مفسرًا في رواية أخرى، قال: فتصدق بها عمر، أي بالثمر، قال: أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب؛ لأن هذا هو معنى الحبس، لا يباع الأصل، ولا يوهب، ولا يورث، والفرق بين البيع والهبة: ظاهر البيع عقد معاوضة، يعني: أنك تعطي الشيء وتأخذ بدله، مثل أن أقول: بعت عليك هذه السيارة بعشرة آلاف، هذا عقد معاوضة، أما الهبة فهي عقد تبرع، بمعنى: أن تبذل المال ولا تأخذ عوضًا عنه، قال: "ولا يورث"، يعني: الأصل لا يورث والإرث: انتقال التركة من الميت إلى من يرثه، وعلى هذا فلا تدخل هذه الأرض في ملك عمر الذي يرثه من بعده ورثته. "فتصدق بها في الفقراء": هذا بيان لمصارف الوقف الذي وقفه عمر، ويدخل في هذا المساكين، وهم الذين لا يجدون الكفاية، وكذلك يدخل فيه المغارمون، وهم الذين لا يجدون ما يوفون به ديونهم. والثاني: "ذي القربى": أختلف شراح الحديث في المراد بها، فقيل المراد: قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد: قربى عمر، وهذا هو الصحيح. "وفي الرقاب"، يعني: العبيد يشترون من مغلة هذا الوقف ويعتقون أو عبيد مكاتبون، والعبد المكاتب هو: الذي اشترى نفسه من سيده بثمن مؤجلٍ، فهنا نعطيهم من حق الرقاب ما يوفون به كتابتهم. إذن الرقاب يشمل العبيد والمكاتبين، العبيد بمعنى: أن نشتري عبيدًا فنعتهم، والمكاتبين هم: الذين اشتروا أنفسهم من سادتهم، فنعطيهم معونة تفي بدين الكتاب، ويدخل في ذلك فك الأسرى المسلمين من الكفار، يعني: لو أن الكفار أسروا أحدًا من المسلمين، وأعطيناه من هذا المال الذي تصدق به عمر لكان هذا صحيحًا كما نعطيهم من الزكاة.

الرابع قال: "وفي سبيل الله": المراد الجهاد في سبيل الله، سواء أعطى المجاهدين أو صرف في السلاح والمركوب. الخامس قال: "وابن السبيل": هو المسافر الذي انقطع به السفر، ولو كان غنيًا في بلده، مثال ذلك رجل من أهل المنطقة الشرقية سافر إلى الحج ونفدت نفقته، وهو غني في بلده، واحتاج إلى نفقة توصله إلى المنطقة الشرقية، فهذا من أبناء السبيل، نعطيه حتى من الزكاة؛ لأنه الآن محتاج فيعطى. السادس: "الضيف"، يعني: الذي ينزل ضيفًا على عمر أو على آل عمر، فإنه يستحق من هذا الوقف، فصارت المصارف الآن التي وجه عمر وقفه إليها ستة اختارها رضي الله عنه، ولم يجعل الوقف على أولاده أو ذريته فيحصره فيهم، ويكون كأنه لم يخرجه عن الورثة، بل جعله عامًا في كل ما يقرب إلى الله. ثم قال: «لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف»: لا جناح يعني: لا إثم ولا حرج، "على من وليها": أي ولي الأرض التي تصدق بها وحبس أصلها، وقوله: "على من وليها": هنا لم يبين في هذه الرواية من الذي جعله عمر واليًا عليها، لكنه بين في رواية أخرى بأنه جعل الولي عليها ابنته حفصة وذوي الرأي من أهله، يقول: أن يأكل منها بالمعروف، يأكل من الثمرة، أما الأرض فهي واقفة لا يمكن أن تباع، وقوله: "بالمعروف": أي بما جرى به العرف، ولكن هل المراد بما جرى به العرف من نفقة أو بما جرى به العرف من أجرة؟ اختلف في ذلك شراح الحديث، فقيل: المراد بما جرى به العرف من أجرة، وقيل: المراد بما جرى به العرف من نفقة، والقولان يختلفان، فإذا قلنا: بما جرى به العرف من النفقة فإنه يأكل مقدار نفقته، ولو زادت على أجرته، لو فرضنا أنه لو استأجر ناظرًا على هذا الوقف بمائة درهم في الشهر، ولكن النفقة لا يكفيه إلا مئتان صارت النفقة أكثر، فإذا قلنا: المراد بالمعروف أي بالأجرة المعروفة، قلنا: لا تأخذ أكثر من مائة درهم، وإذا قلنا: إن المراد بالمعروف يعني: النفقة بالمعروف قلنا لك: أن تأخذ مائتي درهم، بالعكس لو كانت الأجرة مائتي والنفقة مائة انعكست الأحكام، فنقول: إذا قلنا بأن المراد بالمعروف الأجرة فله أن يأخذ مائتين، وإذا قلنا: الإنفاق، فلا يأخذ إلا مائة، والأقرب أننا نقول: إن كان فقيرًا فيأخذ المعروف من النفقة، وإن غنيًا فإنه يأخذ المعروف من الأجرة؛ لأنه ليس له حاجة في الزائدة، وهذا عمل معروف كل شهر بمائة، فلا يأخذ أكثر من مائة. يقول: "وبطعم صديقًا" يعني: ولا حرج عليه أن يطعم صديقًا أي الولي يعني: إن كان له صديق يخرج معه في آخر كل نهار وفي البستان عنب وتين، وجلس معه هل نقول إنك تأكل أنت أيها الولي وصديقك الذي معك لا يأكل؟ ! عمر يقول: لا بأس أن يطعم صديقًا لكن غير

متمول مالاً يعني: لا يأكل يقصد التمول من الأصل، بمعنى لا يبيع شيئًا منها من أجل أن يتموله، وكذلك لا يطعم الصديق من أجل التمول، يعني: يقيد عليه بحساب إذا أطعمه كيلو عنب قيده عليه في هذه الحال يكون متمولاً، وهو اشترط ألا يكون متمولاً مالاً. ثم قال: وفي رواية للبخاري: «تصدق بأصلها لا يباع ولا يوهب ولكن ينفق ثمره»، المراد بأصلها: أصل الأرض، ويشمل ما فيها من الأشجار والنخيل، يقول: "لا يباع ولا يوهب"، هذا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، والبيع هو: المعارضة يعني: يبدل بغيره على سبيل البيع، ولا يوهب، يعني: إعطائه تبرعًا بدون مقابل، ولكن ينفق ثمره، وإذا أنفق الثمر فإن المنفق عليه يتصرف فيه كما شاء لأنه ملكه، فالثمر إذن يملك ويباع ويوهب، ولكن الأصل لا يباع ولا يوهب يبقى ثابتًا محبسًا. هذا الحديث فيه فوائد كثيرة: أولاً: فيه دليل على أن خيبر ملكها المسلمون، وجه ذلك أن إثبات الوقفية دليل على ثبوت أصل لملك؛ لأنه لا يمكن أن يوقف أحد شيئًا لا يملكه. ومن فوائده: استشارة أهل العلم والفضل فيما يقوم به الإنسان من تصرف؛ لأن عمر استشار النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مقيد فيما إذا خفي على الإنسان كيف يتصرف، وأما إذا كان وجه الصواب معلومًا ووجه المصلحة معلومًا فلا حاجة إلى الاستشارة؛ لأن الاستشارة للخلق كالاستخارة للخالق عز وجل والاستخارة لا تكون إلا في الأمر الذي ينبهم على المرء ولا يدري ما عاقبته ولا مصلحته؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستخير الله في كل شيء، لكن هل تقدم الاستشارة على الاستخارة أو العكس؟ من العلماء من قال: استخر ثم استشر من أجل أن تكون الاستشارة إذا أشير عليك برأي صار هذا دليلاً على أن الله اختار لك هذا الرأي، ومنهم من قال: ابدأ بالاستشارة، والصحيح البدء بالاستخارة أولاً؛ لأنه إذا التبس الأمر عليك وأنت صاحب الشأن فإن غيرك سوف يكون مثلك ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستخارة إذا هم الإنسان بالأمر وأشكل عليه ولم يأمر بالاستشارة. إذن في الحديث مشروعية استشارة أهل العلم والفضل. ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث إنه لجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه من أثقب الناس رأيًا وأصحهم فهمًا حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن بك فيكم محدثون - يعني ملهمون - فعمر» وكان مشهورًا رضي الله عنه في إصابة الصواب ومع ذلك رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن فوائد الحديث: اتهام الرأي الإنسان لا يعجب برأيه، بل يتهم رأيه فهذا هو الذي أمر به عمر رضي الله عنه قال: أيها الناس اتهموا الرأي ثم استشهد بذلك بما جرى منه في صلح الحديبية حيث عارض النبي صلى الله عليه وسلم في الشروط التي اشترطها على نفسه مع الكفار؛ لأن عمر في صلح الحديبية تأثر من الشروط وناظر الرسول صلى الله عليه وسلم وناقشه قال له: ألست كنت تحدثنا أننا نطوف بالبيت؟ قال: بلى ولكن هل قلت: أنك تطوف به هذه السنة؟ قال: لا قال: إنك آتيه ومطوف به وقال له: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: لم نعطي الدنية في ديننا؟ لماذا نقول: من جاء منكم مسلمًا رددناه إليكم ومن جاءكم منًا فلا تردوه علينا؟ وهذا فيه غضاضة في ظاهره فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أما من جاءنا منهم مسلمًا ورددناه فإن الله سيجعل له فرجًا ومخرجًا، وأما من ذهب منا إليهم فهو الذي اختار لنفسه هذا» هذا معنى الكلام في الجملة الأخيرة، ثم قال له: «إني رسول الله وليست عاصيه وهو ناصري»، ثم ذهب عمر إلى أبي بكر وناقشه في ذلك، فكان جواب أبي بكر كجواب النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء، الآن كان عمر عند المناقشة يرى أن رأيه أصوب، ولكن كان ما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم هو الصواب، فالمهم: أنه ينبغي للإنسان أن يتهم رأيه مهما كان من الذكاء والفطنة فهو ناقص. ففيه: فضيلة عمر في استشارته النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضًا: منقبة لعمر، حيث اختار أن يخرج أنفس ماله لله عز وجل لقوله: «لم أصب مالاً هو أنفس عندي منه» وهكذا كانت عادة الصحابة - رضي الله عنهم - إذا رأوا المال الذي يعجبهم تصدقوا به ويتأولون قول الله عز وجل: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92]. وأبو طلحة رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية كان له بستان قريب من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيه ماء طيب عذب يأتيه الرسول صلى الله عليه وسلم ويشرب منه ولما نزلت هذه الآية وإذا أحب ماله إليه هذا البستان ببرحاء فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن الله تعالى أنزل قوله: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. وإن أحب مالي إلي ببرحاء وإني أخرجه صدقة إلى الله ورسوله قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ ذاك مال رابح ذاك مال رابح» صحيح هذا الربح ليس الربح أن تنمي مالك لوارثك ثم قال: أرى أن تجعلها في الأقربين فأوقفها أبو طلحة في قرابته وبني عمه وهكذا عمر رضي الله عنه هذا المال أنفس ماله عنده ومع ذلك استشار النبي صلى الله عليه وسلم أن يضعه. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للإنسان أن تتعلق نفسه بشيء من ماله لأن أنفس يعني:

أطيب وأغلى، وهو مأخوذ من النفس بأن النفس تتعلق به، فإذا تعلقت نفسك بالمال فهذا من طبيعة الإنسان، ولولا طبيعة الإنسان وتعلق نفسه بالمال ما كان للإنفاق فائدة، لأن إنفاق ما ليس بمحبوب أمر سهل، لكن الحقيقة أن المحك هو أن تنفق شيئًا محبوبًا لك فحب الإنسان للمال أمر طبيعي لا يلام، عليه وإذا أدي ما أوجب الله عليه فيه فقد سلم منه. ومن فوائد الحديث: حسن تعبير الرسول صلى الله عليه وسلم لأن قول عمر: مرني ماذا أفعل بها؟ لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم تابعه على تعبيره وقال: أفعل كذا لكان ذلك على سبيل الوجوب لكنه خرج من ذلك بقوله: «إن شئت حبست أصله» لئلا يلتزم عمر بما لا يلزمه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: ثبوت هذا النوع من التصرف وهو حبس الأصل وتسبيل المنفعة ويسمى عند العلماء: الوقف لأن هذا تصريف غريب، العادة أن الإنسان يتصرف في الشيء يخرجه من ملكه، لكن هذا لم يخرج من الملك على سبيل الإطلاق، بل خرج خروجًا مقيدًا لأن أصله ثابت، ولكن ثمرته غير ثابتة يستغلها من هي له استغلالاً كاملاً ويملكها ملكًا مطلقً، ومن فوائد هذا الحديث: جواز تحبيس الإنسان ماله وإن لم يملك سواه يعني: يجوز للإنسان أن يوقف جميع أملاكه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل لم يقل لعمر: هل لك مال غيره؟ فلما لم يستفصل علم أن الحكم عام، ومن القواعد المقررة في الأصول أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقام، ولكن يستثى من ذلك ما إذا كان الإنسان في مرض الموت المخوف، فإنه لا يملك أكثر من الثلث، ودليل ذلك أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بثلثي ماله منعه فقال: بالشطر فمنعه، فقال: بالثلث فقال: "الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس" فهذا دليل على أن الإنسان المريض مرض الموت المخوف لا يملك أكثر من الثلث. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أن الوقف مبني على البر؛ لقوله: "تصدق" والصدقة بذل المال تقربًا إلى الله عز وجل وعلى هذا فلو وقف على جهة إثم فإن الوقف يقع باطلاً لو وقف بيته لأصحاب الأغاني والمعازف فالوقف باطل؛ لماذا؟ لأنه ليس على جهة بر بل هو جهة محرمة، لو وقف بيته على الأغنياء لم يصح؛ لأن الأغنياء ليسوا أهلاً للصدقة، لو وقفه على القرابة وفيهم أغنياء صح لأن صلة القرابة بر وعبادة، لو وقف هذا الماء على المارين بالشارع صح، ولو مر في الشارع كفار لا يضر لأنهم يأتون تبعًا؛ ولهذا لو وقف على أهل الذمة فقط ما صح؛ لأن أهل الذمة كفار لكن إذا وقف وقفًا عامً على المار به في الشارع فلا بأس.

المهم أن نأخذ من هذا الحديث: أن أصل الوقف مبني على البر على أن يكون طاعة الله، فإذا كان على إثم أو على شيء لا إثم فيه ولا بر فإنه لا يصح، إلا إذا كان على معين فإنه يصح فيما هو على بر وفيما ليس على بر ولا إثم، فلو وقف على بيت وهو غني فهذا صحيح؛ لأنه ليس على جهة عامة. من فوائد الحديث: أنه لا يباع الوقف لقوله: "ولا يباع" كما قال الرسول صلى الله عليه، فلا يجوز بيع الوقف ولأننا لو أجزنا بيع الوقف لفات معنى التحبيس، لكن هل تجوز المناقلة به يعني: أنه لو وقف بيتًا هل يجوز أن يناقل فيبدله ببيت آخر؟ لا يجوز لأن المبادلة أو المناقلة بيع، البيع هو: مبادلة مال بمال. فإذن لو بدل هذا الوقف ببيت آخر فإنه لا يجوز، حتى ولو كان هو الواقف فلو أنه أوقف بستانه الشرقي لم بدا له أن ينقل الوقف إلى البستان الغربي فهذا لا يجوز؛ لأنه معاوضة وإن كان هو نفس الذي يعواض لكن ما دام أخرجه لله لا يرجع فيه إلا إذا دعت الضرورة إلى بيعه مثل أن تتعطل منافعه كمسجدٍ بناه لله وانتقل أهل الحي أو أهل البلدة كلهم، انتقلوا فهنا بيعه جائز لماذا؟ للضرورة لأن منافعة تعطلت وكذلك لو وقف بيتًا وانهدم البيت وليس له ما يعمره به ففي هذه الحال يجوز أن يبيعه للضرورة؛ لأن منافعة المقصودة بالوقف تعطلت، واختلف أهل العلم هل تجوز المناقلة به للمصلحة والمنفعة يعني: أن ينقله لما هو أنفع وأصلح؟ فمن أهل العلم من أجاز ذلك، ومنهم من منع ذلك قال: إن حديث عمر يقول: "لا يباع"، وليس فيه استثناء هذا دليل، قالوا: ولأننا لو أجزنا البيع للمصلحة أو المناقلة للمصلحة لحصل في ذلك تلاعب من ناظر الأوقاف، إذ كل واحد يتراءى له أن المصلحة في نقله ينقله فتمنع المناقلة سدًا للباب، كما فعل مالك رحمه الله حين استأذنه الرشيد الخليفة العباسي المعروف أن يهدم الكعبة ويردها على قواعد إبراهيم قال له: لا، لا تفعل، لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك، كلما جاء إنسان من الملوك قال: أغير فيه. مع أن المصلحة: إن عموم حديث عمر ليس فيه استثناء والتعليل سدًا للباب لئلا يتلاعب ناظر الأوقاف فيها، يكون كل واحد منهم يقول: المصلحة في هذا فيناقل، أما من أجاز المناقلة للمصلحة فاستدلوا بأدلة عامة وأدلة خاصة تصح أن يقاس عليها، أما الأدلة العامة فقالوا: إن الشارع ينظر دائمًا إلى المصلحة فيما كان أصلح فإن الشارع لا يمنع؛ لأن أصل الشريعة كلها مبني على المصالح وعلى تحصيلها، وتقليل المفاسد، فإذا كانت المصلحة متعينة فهو داخل في هذا الإطار العام للشريعة، أما

الدليل الخاص فهو ثابت في الصحيح في قصة الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلى في بيت المقدس فقال: صل هاهنا فأعاد عليه، فقال: صل ها هنا فأعاد عليه الثالثة فقال له: شأنك إذن»، وهذا لا شك أنه تغيير للنذر، لكنه تحويل له من مفضول إلى أفضل قالوا: فإذا جاز تحويل النذر من المفضول إلى الأفضل فالوقف مثله؛ لأن الوقف التزام من الإنسان بأن يصرف المال إلى هذه الجهة فإذا جاز تحويل النذر إلى ما هو أفضل فكذلك تحويل الوقف، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم وهو الصحيح، لكن يجب أن يقيد هذا بمراجعة القضاء - والمحاكم الشرعية - لئلا يتلاعب ناظر الأوقاف، فلابد من مراجعة المحاكم وإذا أقرت المحكمة هذا فلا حرج. ومن فوائد الحديث: أنه لا تجوز هبة الوقف يعني: بدله تبرعًا بدون عوض لقوله: «ولا يوهب» حتى الواهب لا يجوز أن يهبه للموقوف عليه لأنه لو وهبه للموقوف عليه لملك عينه وجاز له أن يتصرف فيه، ولكنه يعطيه الموقوف عليه على أنه وقف لا على أنه هبة. ومن فوائد الحديث: أن الهبة غير البيع، وجه ذلك: أنها عطفت على البيع، والأصل في العطف المغايرة؛ يعني: المعطوف غير المعطوف عليه، والغرض من هذا أننا إذا قلنا: إن الهبة ليست بيعًا فإنها لا توافق البيع في أحكامه يكون لها أحكام خاصة، فلو وهب الإنسان شيئًا بعد أذان الجمعة الثاني وهو ممن تلزمه الجمعة فالهبة صحيحة، ولو وهب شيئًا في المسجد فالهبة صحيحة ولو وهب شيئًا مجولاً فالهبة صحيحة، فالمهم أننا إذا قلنا: إن الهبة غير البيع صارت مفارقة له في أحكامه وهو كذلك. ومن فوائد الحديث: حسن اختيار عمر رضي الله عنه في تصريف الوقف حيث وقفه على وجهات ينتفع بها المسلمون عمومًا، الفقراء، القربى، الرقاب، سبيل الله، ابن السبيل، الضيف، وإذا قارنا بين وقف عمر وأوقاف الناس اليوم تبين الفرق العظيم؛ أوقاف الناس اليوم يخصونا بالذرية ثم مع تخصيصهم إياها بالذرية يحصل بهذا من النزاع بين الذرية لصلب الواقف وبين ذرية الذرية ما يوجب أن تتقطع الأرحام بينهم وتحصل الشحناء والعداوة كما هو واقع فإنه يحصل بين العم في أوقاف جدهم مثلاً من النزاع والشحناء والعداوة ما يوجب التقاطع بينهم، فربما ينال الموقف من هذه العداوة والبغضاء شيء من الإثم لأنه السبب، وقد حكى لي بعض الناس أن بني عم تخاصموا في وقف لهم فقال أحدهم: لعنة الله على جد جمعنا في هذا الوقف! انظر كيف وصل به الأمر؟ لأنه أحس بشيء عجز أن يتحمله من العداوة والبغضاء والخصومات، لكن وقف عمر بعيد من هذا الذي يوجب النزاع.

ومن فوائد الحديث: فضيلة الصرف في هذه الجهات، أما الفقراء فظاهر، والقربى كذلك ظاهر؛ لأن الصرف في القربى من باب صلة الرحم وصلة الرحم من أفضل الأعمال حتى إن الله سبحانه وتعالى تكفل للرحم أن يصل من وصلها ويقطع من قطعها، وأما الرقاب فالفضل فيها ظاهر؛ لأن الشرع حث على العتق ورغب ورغب فيه، حتى إن من أعتق عبدًا من العبيد أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار ممن أعتقه، وهذا فضل عظيم، وأما سبيل الله فظاهر، الجهاد في سبيل الله ذروة الإسلام، ويشمل الجاهد بالقتال وبالعلم كل هذا داخل في سبيل الله، وأما ابن السبيل فالصرف فيهم ظاهر أيضًا ما هي الفائدة في الصرف في ابن السبيل؟ لأن ابن السبيل فالصرف فيهم ظاهر أيضًا ما هي الفائدة في الصرف في ابن السبيل؟ لأن ابن السبيل يكون منقطعًا ليس معه شيء يوصله إلى البلدة، انقطع به السفر فهو في ضرورة إلى ما يوصله إلى بلدة، وأما الضيف فالصرف فيه ظاهر؛ لأن الضيف مسافر نزل بك يحتاج إلى عناية؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه». وكثير من الناس قد يخجل من أنه يبقى في السوق من مر مد يده إليه وقال: أعطني فإذا نزل الضيف على ناظر الوقف الذي أوقفه عمر كفاه المؤونة، والعلماء اختلفوا في وجوب الضيافة في المدة التي فيها مطاعم وفنادق هل تجب أو لا تجب؟ فمن العلماء من قال: لا تجب لأن الضيف غير مضطر، ومنهم من قال: بل تجب وهو ظاهر النصوص أن الضيافة تجب إذا نزل بك الضيف وإن كان يوجب مطاعم أو فنادق، وقوله: «ولا يورث» فالمعنى: أن أصل الموقوف لا يورث أي: لا ينتقل بالإرث. فيستفاد منه: انه لا يجري فيه الميراث؛ لأن الموقوف عليه يتلقى الوقف من الواقف، فإذا وقف شخص بيته على أولاده وكانوا ثلاثة ومات الرجل أو بقي حيًا، فإن أولاده يستحقون هذا البيت أثلاثًا، فإذا مات أحدهم عن أولاده فإن الولدين الباقيين يستحقان البيت أنصافًا فإذا مات أحدهما فإن البيت يستحقه الباقي وحده أما ورثة الأول وورثة الثاني فلا ينتقل إليهم نصيب آبائهم؛ لأن الوقف لا يورث، ولو قلنا: إنه يورث لكان الميت الأول إذا مات يستحق ورثته نصيبه فيشاركون أخويه، وكذلك الثاني لكن الوقف لا يورث، ولو قلنا: إنه يورث لكان الميت الأول إذا مات يستحق ورثته نصيبه فيشاركون أخويه، وكذلك الثاني لكن الوقف لا يورث ينتقل من الواقف رأسًا إلى الموقوف عليه إذن الوقف لا يورث. ومن فوائد الحديث: بعد نظر عمر رضي الله عنه حيث جعل الوقف مشاعًا بين هؤلاء الأصناف الستة وهل هؤلاء الأصناف الستة، يعتبر المصرف جميعهم أو مجموعهم؟ يعني: هل هو المجموع أو الجميع؟ الجميع معناه: أننا نوزع الثمر على جميع الأصناف الستة، والمجوع أن يكون المصرف هؤلاء وإذا اقتصرنا على واحد جاز، فهل المراد أن يصرف للجميع أو للمجموع؟ نقول: لا شك أنه إذا لم يوجد بعضهم فإنه يتوفر الثمر للباقي؛ لأن الاشتراك هنا

اشتراك تزاحم، فإذا قدر أن الواقف ليس له قريب، أو لم يوجد ضيف فإن نصيب هذا المفقود يكون للموجود بلا إشكال، إذا وجد الجميع فهل يوزع الثمر بينهم أو يكتفي بواحد منهم؟ بناء على أن الصرف يكون في المجموع لا في الجميع هذا ينبني على الخلاف في أصناف الزكاة المذكورين في قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} [التوبة: 60]. فهؤلاء الأصناف الثمانية اختلف أهل العلم هل يجب استيعابهم أو لا؟ فمنهم من قال: يجب استيعابهم، وأن الزكاة تجزأ إلى ثمانية أسهم لكل واحدٍ سهم، ثم منهم أيضًا من قال: إن ما ذكر بصيغة الجمع يجب أن يعطى جمعًا فنعطي من الفقراء ثلاثةً والمساكين ثلاثةً والعاملين عليها ثلاثة والمؤلفة قلوبهم ثلاثةً وفي الرقاب ثلاثةً والغارمين ثلاثةً وفي سبيل الله ثلاثةً أو واحد ممكن، نقول: هذه ليس فيها جمع وابن السبيل واحد، لكن الصحيح أن آية الزكاة تصرف في المجموع أي: أن هؤلاء الثمانية جهة الاستحقاق وأنه لا يجب توزيع الزكاة على الثمانية؛ والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذًا إلى اليمن قال «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم». فاقتصر على صنف واحد فهل نقول: إن مثل هذا الذي ذكر عمر ينبني على الزكاة؟ نقول هذا هو الظاهر والفقهاء - رحمهم الله - ذكروا في هذه المسألة أنه إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي، وإن كان لا يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي، وإن كان لا يمكن حصرهم جاز التفصيل والاقتصار على واحد منهم، فهنا لا يمكن حصر هؤلاء، فيجوز أن نقتصر على صنف واحد إلا إذا علمنا أن مراد الواقف التوزيع على الجهات فيجب اتباع ما أراده الواقف. ومن فوائد الحديث: ثبوت أصل الولي في الوقف وأنه لابد أن يكون له ولي؛ لقوله: «لا جناح على من وليها» ولأنه لو لم يوجد ولي للوقف لضاع وتلف؛ ولأنه لو لم يوجد للوقف لضاع تنفيذه وصار ملعبة للناس. فإذن فلابد للوقف من ولي يليه ويسمى عند الفقهاء الناظر، ناظر الوقف، وولي الوصية يسمى وصياً، والمأذون له بالتصرف في حال الحياة يسمى وكيلاً، والمأذون له من قبل الشرع يسمى وليًا، فالولي من ولاه الشرع كولي اليتيم، وولي المرأة في النكاح الوصي من أوصى إليه بعد الموت كشخص قال: يفرق ثلثي في سبيل الله والوصي عليه فلان، والناظر من وكل إليه شأن الوقف، والوكيل من أذن له في التصرف في حال الحياة، كرجل قال الشخص: خذ هذا وبعه لي أخذ هذه الدراهم اشتر لي كذا وكذا، المهم أن هذا الحديث فيه الإشارة إلى أنه لابد للوقف من ولي، فمن الذي يليه؟ نقول: يليه من عينه الواقف فإذا عين الواقف شخصًا تعين، وليس لأحد أن يعترض عليه، وقد عين عمر رضي الله عنه على وقفه ابنته حفصة، ثم ذوي الرأي من أهلها، فإن لم يعين ناظرًا فمن الناظر؟ الموقوف عليهم إن

كانوا محصورين مثل الذرية، إذا قال: وقف على أولادي أو ذريتي فهؤلاء معينون محصورون، فيكونون هم نظار، وعلى هذا فإذا كان الموقوف عليهم عشرة فيكون الناظرون عشرة؛ لأنهم محصورون، وإن كان الوقف على جهة أو على قوم غير محصورين فالناظر القاضي، مثال الذي على الجهة: أن يقول هذا وقف على المساجد، مثال الذي على قوم لا يحصرون هذا الوقف على الفقراء فالناظر هنا القاضي، الآن نبدأ أولاً بما عينه الواقف، فإن لم يعين فالموقوف عليهم إذا كانوا معينين محصورين فإن لم يكن كذلك- بأن كان الوقف على جهة أو على قوم غير محصورين- فالناظر هو القاضي. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للواقف أن يشترط للناظر شرطاً لقوله: «لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف» وهل يجوز أن يشترط في الناظر شرطاً بأن يقول: لا يتولى وقفي هذا إلا طالب علم؟ يجوز، إذا نقول: يجوز للوقف أن يشترط للناظر شرطاً، فإن لم يشترط له شرطاً فماذا نصنع؟ إذا قال الناظر: فلان على الوقف ولم يجعل له أجرة لا أجرة لا أكلاً بمعروف ولا جزءاً مشاعاً من الثمرة ولا شيئاً مقدراً في كل شهر لم يجعل شيئاً فهل للناظر أن يطلب شيئاً على نظره؟ الجواب: نعم، له أن يطلبه، له أن يقول: أنا لا أنظر على هذا الوقف إلا بأجرة إما كل شهر بكذا وإما بشيء مشاع من الثمرة كالربع والخمس والعشر وما أشبه ذلك، وإلا فالأكل، قال: أنا فقير إذا فرغت نفسي للنظر في هذا الوقف فأنا أشترط أن أنفق منه على نفسي وأهلي فلا بأس فإن أبى أهل الوقف وقالوا: لا نعطيك أجرة ولا سهماً مشاعاً ولا أكلاً بمعروف فله أن يرفض النظر، ولكن في هذه الحالة إذا تخلى يجب أن يبلغ القاضي ولا يتركه هكذا؛ لأن مستحقو الوقف ربما يتلاعبون به إذا لم يكن له ناظر، فلا بد أن يبلغ القاضي؛ لأن القاضي له النظر العام على مصالح المسلمين. من فوائد الحديث: جواز الرجوع إلى العرف لقوله: "بالمعروف" وهذا في الأمور الجائزة كالنظر والوكالة وما أشبه ذلك لا شك في جوازه، لكن في الأمور اللازمة كالإجارة التي تكون عقداً ملزماً للطرفين، هل يجوز أن يرجع فيها إلى العرف؟ الصحيح الجواز، إذا استأجر شخصاً وقال: كم أجرتك؟ قال: مثل الناس، فالصواب أن هذا جائز ولا بأس به، وهل يتعدى ذلك إلى المعاوضة بالبيع بمعنى: أن يقول البائع أو المشتري: آخذه كما يبيع الناس هل يجوز؟ الصحيح أنه يجوز؛ لأن العرف مطرد، وأقرب إلى عدم الغبن، فبيع المساومة قد يكون فيه غبن، لكن بيع العرف بلا شك أقل غبنا من المساومة؛ لأن المساومة إذا جئت لصاحب الدكان وقلت: بع علي هذا الكتاب، فقال: الكتاب بكم؟ أنا غريب لا أعرف قيمة هذا الكتاب، فقلت: بعشرة وهو يساوي خمسة بالمكتبات، لكن من أجل أن الكتاب غال عندي ولا أعرف الثمن

قلت بعشرة، قال: لا زد ... إنه رجل عفريت! فقال: زد، فقلت بخمس عشرة، فقال: زد فقلت: بعشرين فيكون ذلك غبناً وحراماً، لكن إذا قال: كم تدفع في الكتاب؟ فقلت بما يساوي في المكتبات فذهبنا وسألنا في المكتبات ولاسيما العمد فهنا لا شك أنه أقل خطراً في مسألة الغبن؛ ولهذا كان شيخ الإسلام-رحمه الله- يرى أنه يجوز أن يبيع الإنسان بالعرف، أي: أن يبيع كما يبيع الناس، وذكر لهذا أصولاً كثيرة، أليس مهر المثل ثابتاً شرعاً؟ ومهر المثل معناه: الرجوع إلى ما يتعارف الناس في مهر هذه المرأة. على كل حال: نحن نرى أنه يجوز أن توكل أجرة الوقف إلى العرف. من فوائد الحديث: جواز إطعام الصديق، إذا شرطه الواقف فقال: لا جناح على من تولى هذا الوقف أن يطعم صديقه، وهنا يوجد إبهام لأن الأصدقاء قد يكثرون قد يكون هذا الرجل محبوباً عند الناس وكل الناس أصدقاء له، وقد يكون رجلاً غير محبوب ولا يجد صديقاً فنقول: هذا لا يضركما أن الضيف قد يكثر وقد يقل هذا لا يضر. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى حق الضيق على أهل البلد، ووجهه: أن عمر جعل للضيف في هذا الوقف حقاً. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يشترط في الموقف أن يتبين حدوده إذا كان معلوماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لعمر: هل حددت؟ وكم متراً هو؟ فإذا كان الشيء معروفاً فلا حاجة إلى بيان مقداره بالأمتار؛ ولهذا كانت مكاتب الأولين يقول: باع فلان على فلان بيته في الحي الفلاني شهرته تغني عن تحديده ويصدق القضاة على هذا ويعتبرونه بيعاً صحيحاً لأنه مشهور، لكن لما تغير الناس وكثر الباطل صار القضاة اليوم يحافظون محافظة تامة على ذكر الحدود والمقدار بالأمتار، ولاشك أن هذا أضبط وأقطع للنزاع؛ لأن هذه البيوت لو فرضنا أنها تهدمت لاشتبك الناس بعضهم مع بعض كل واحد يقول: أنت دخلت على أرضي؛ فإذا كانت محددة بالجيرة والأمتار صارت منحصرة وصار هذا أسلم للنزاع فعمل القضاة اليوم لاشك أنه أضبط وأبلغ وأقطع للنزاع، فلا حرج من العمل به، ولا يقال: إن هذا من باب التنطع؛ لأننا نقول: لما أحدث الناس أحدث الله عليهم كما تكونون يولى عليكم.

ومن فوائد الحديث: أن الموقوف لا يوهب كيف ذلك؟ يعني: أن الموقوف عليه لو أراد أن يهب الوقف لشخص فإنه لا يملك هذا؛ لأن الهبة: التبرع بالعين ومنافعها والوقف لا يمكن أن يتبرع الإنسان بعينه؛ لأن الهبة تنقل الملك من الوقفية إلى الملك المطلق الذي غير موقوف، وهذا لا يجوز، وبناء على ذلك لو كان عند الإنسان كتاب موقوف وأراد أن يهبه لصديق له نقول: هذا حرام لا يجوز، وإذا استغنى عنه وقال: أنا أعطيه صديقي فهل له أن يستغنى عنه أو لا؟ يتنازل عن حقه له ولهذا نقول: ليست هبة؛ لأنها لو كانت هبة لجاز للثاني أن يبيعه ولورث عند الثاني ولهذا نقول. من فوائد الحديث: أن الوقف لا يصح إلا من مالك، فلو أن شخصاً قال: هذا البيت وقف في سبيل الله ثم ذهب واشتراه من صاحبه فهل يكون وقفاً أو لا؟ لا لماذا؟ لأنه وقفه قبل ملكه والحديث يقول «أصاب عمر أرضاً بخيبر» أصابها يعني: ملكها فلا وقف إلا بعد الملك، لو قال: إن ملكت هذا البيت فهو وقف فملكه هل يكون وقفاً؟ نعم يكون وقفاً لأنه يجوز شراء الأرض للتقرب بها إلى الله فإذا علق التقرب بها إلى الله على ملكها كان ذلك جائزاً، كما لو علق عتق العبد شرائه فقال: إن اشتريت هذا العبد فهو حر فهذا يصح عند الإمام أحمد -رحمه الله- قال: لأن العتق قربة، وبناء عليه نقول: إن الوقف قربة لكن أكثر أهل العلم يقولون: لا يصح حتى في العتق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عتق لابن آدم فيما لا يملك، وهو حين التعليق غير مالك له، وإذا لم يصح في العتق مع قوته ونفوذه وسريانه لم يصح أيضا في الوقف. إذن فالعلماء مختلفون على قولين فمن صحح تعليق العبد بالملك فإنه يصحح تعليق الوقف بالملك ومن لا فلا، والتصحيح أنه يصح إذا علقه لكن بشرط أن يكون هذا متقارباً يعني: أنه يقول هذا ويشتريه فوراً، أما لو طال الوقت فإن هذا قد يكون فيه غرر على الإنسان، ربما يكون الإنسان عنده رغبة في أن يشتري هذا البيت فيوقفه ثم يشتري بيتا آخر فيوقفه فتتغير الحال، ففي هذه الحال له أن يبطل هذا التعليق وإذا أبطله واشترى البيت لم يكن وقفاً. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجوز لإنسان أن يتحدث عن أبيه باسمه فيقول مثلاً: قال فلان، يعني: أباه، ولا يقول: قال أبي، لقول عبد الله: "أصاب عمر"، لكن هذه الفائدة مبنية على أن قول الصحابي حجة إذا لم يخالفه دليل أو صحابي آخر، أما إذا قلنا: بأن قول الصحابي ليس بحجة وأن فيما قاله الله ورسوله أو أجمع عليه الناس فإنه لا تستفاد هذه الفائدة من هذا الحديث، ولكن هل للإنسان أن ينادي أباه باسمه في الغيبة؟ واضح، أما مناديه باسمه فيمكن أن نرجع فيه إلى العرف، فيقال: إذا كان في ذلك غضاضة وإهانة للأب فإنه لا يجوز، أما إذا لم يكن فلا بأس به أن يناديه باسمه فيقول: يافلان.

ومن فوائد الحديث: جواز إطعام الضيف من الوقف إذا اشترط استحقاقه؛ لقوله "والضيف" ولا فرق بين أن يكون الضيف غنياً أم فقيراً. ومن فوائده: جواز تولية المرأة على الوقف؛ لأن الثابت أن عمر جعل وليه على هذا الوقف ابنته حفصة -رضي الله عنها-. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للواقف أن يبين الشروط حتى لا يكون التباس؛ لقوله: "غير متمول" إذ إن قوله: "يطعم صديقاً" لو جاءت على إطلاقها لأمكن أن يعطي حتى من عين الوقف لكن لما قال: "غير متمول" دفع هذا الاحتمال. 887 - وعن أبي هريرة -رضي الله عن- قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة» الحديث، وفيه «وأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» متفق عليه. "بعثه" يعني: أرسله وعلى الصدقة يعني: ولياً على الصدقة هنا: الزكاة من أجل أن يقبضها، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبعث على الزكاة من يقبضها من أهلها فبعث عمر ذات سنة من السنوات على الصدقة فلما رجع قيل إنه منع ثلاثة: العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن جميل وخالد بن الوليد، أما عبد الله بن جميل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في حقه: «ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأعناه الله»، وهذا ذم عظيم لهذا الرجل، لكنه ذم أتى بصيغة تشبه المدح، وهذا ما يعرف عند البلاغين بالذم الذي يكون بما يشبه المدح، وهو أشد من الذم المطلق، فهو كقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]. وهل كون الإنسان فقيراً فيغنيه الله، هل هذا عذر له في منع الصدقة، أو أبعد له من العذر؟ الثاني، ولهذا قال: ما ينقم يعني: ما ينكر من نعمة الله عليه إلا هذا، فهو تأكيد الذم بما يشبه المدح، وأما العباس، فقال: «هي علي ومثلها»، وقد سبق لنا في زمن غير طويل أن الرسول صلى الله عليه وسلم تحمل صدقة العباس مضاعفة؛ لأن العباس كان من قرابته، وذكرنا عن عمر في هذا سنة أنه إذا نهى عن شيء جمع أهله، وقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، ولا أعلم أحداً منكم فعل ذلك إلا أضعفت عليه العقوبة، وأما خالد قال: "فأما خالد فقد أحتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله"، لكن المؤلف لم يأت إلا بالشاهد، وإلا فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً»، ولم يقل: تظلمونه تفخيماً له وإعلاء له، فالإظهار في مكان الإضمار من باب التفخيم والتعظيم في المدح والثناء، يعني: تظلمون خالداً ذلك الرجل الذي ليس أهلاً لأن يظلم؛ لأنه حبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، والأدراع: جمع

درع وهي: ألبسة الحرب، وهي عبارة عن قميص منسوج من حلقات الحديد يلبسه المقاتل ليتقي بذلك السهام، وأما الأعتاد فكل ما يعتد به في الحرب من سيف ورمح وقوس وغير ذلك، "احتبسها في سبيل الله" أي: جعلها حبيسة في سبيل الله للمجاهدين، وهذا يحتمل وجهين: الأول: أنه -رضي الله عنه- جعل الزكاة في هذا الوجه أي: في سبيل الله فلم يمنعها بخلاً أو شخاً أو استكباراً، وإنما أداها لكن جعلها في سبيل الله. والوجه الثاني: أنه -رضي الله عنه- وقف هذه الأشياء في سبيل الله على المجاهدين، وكأنه يقول صلى الله عليه وسلم: إن رجلاً تبرع بماله لا يمكن أن يمنع الواجب لأنه ليس من المعقول ولا من الشرع أن تبذل التطوع وتمنع الواجب؟ ! لاسيما مثل الصحابة -رضي الله عنهم- الذين هم أشد الناس تمسكا بدين الله، وأعقل الناس بلا شك وحينئذ يكون المعنى: أن من احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله تطوعاً فلا يمكن أن يمنع زكاة ماله الواجبة، وأياً كان الاحتمال فإن هذا بلا شك دفاع عن خالد -رضي الله عن-. يستفاد من الحديث: مشروعية بعث السعادة لقبض الزكاة من أهلها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هل هذا على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب؟ فيه قولان لأهل العلم، منهم من قال: يجب أن يبعث العمال لقبض الزكاة؛ لأن الناس ليسوا كلهم على حد سواء، ومنهم من قال: إن هذا على سبيل الاستحباب، وهو الصحيح إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك مثل أن يكون طائفة ممتنعة عن أداء الزكاة فحينئذ يجب أن يبعث إليهم من يقبضها. ومن فوائد الحديث: ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بعمر بن الخطاب، فينبني على هذا حصول منقبة له للأمانة والقوة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتمن إلا من تحقق فيه شرطا الولاية، وهما القوة والأمانة {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين} [القصص: 26]. {قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39]. فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يولي على هذا الأمر إلا من علم أن فيه القوة والأمانة، وهما شرطا الولاية، وفيه إطلاق الصدقة على الزكاة كما في القرآن: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]. وفيه الدفاع عمن ليس مستحقا للدم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دافع عن خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، وهذا شيء واجب يعني: يجب على المسلم أن يذب عن عرض أخيه المسلم فإذا سمع أحداً يتكلم فيه بما لا يستحق وجب عليه أن يدافع وأن يبين الحق. ومن فوائد الحديث: جواز وقف الأعيان غير الثابتة؛ لقوله: "احتبس أدراعه وأعتاده" بخلاف الأراضي والعقار فهي ثابتة لكن هذا إنما يتم لو كان الحديث لا يحتمل إلا هذا الوجه أما مادام يحتمل احتمالاً آخر، وهو أن المراد بذلك صرف هذه الأشياء في سبيل الله على أنها

18 - باب الهبة والعمرى والرقبى

زكاة، فإذا كان هذا الإحتمال فإن الحكم الأول لا يتعين، لأنه من المعروف أنه إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، فلو استدللت بهذا الحديث على جواز الأعيان غير الثابتة لقال لك خصمك -الذي يقول لا يجوز-: هذا لا دليل فيه، لأن خالداً لم يوقف وقفاً إنما احتبسها احتباساً لغوياً أي: جعلها في الجهاد في سبيل الله على إنها زكاة لأن السياق قد يؤيد ذلك حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الصدقة فقال: إن خالداً قد أدى صدقته بجعلها في سبيل الله، وحينئذ لا يتم الاستدلال، ولكن يقال في حكم هذه المسألة - أعنى وقف الأعيان غير الثابتة- يقال: إن الأصل في التصرف الصحة حتى يقوم دليل على المنع، ولا دليل على المنع، فإن هذه الأشياء مثل الدرع والعتاد يمكن الانتفاع بها إلا بذهاب عينها فهذه لا يصح وقفها، وإن قدر أن أحداً أوقفها فهى صدقة، فلو قال شخص: وقفت هذا الخبز على الفقراء لا يصح، ويكون صدقة، وبناء على ذلك لو أراد أن يبيع هذا الخبز الذي أوقفه على الفقراء لجاز، لأننا نقول: إن الصدقة لا تلزم إلا بتسليمها للمتصدق عليه. على كل حال: هذه المسألة مرت علينا في باب الوقف في الفقه، وذكرنا خلاف العلماء وأن بعضهم استثنى الماء وقال: إنه يصح وقف الماء، وإن كان لا ينتفع إلا بإتلافه بخلاف الطعام، وأن من العلماء من أجاز وقف الطعام، وهذا القول هو الصحيح. **** 18 - باب الهبة والعمرى والرقبى الهبة: مشتقة من هبوب الريح لأنها تمر دون مقابل، وهي: التبرع بتمليك المال بلا عوض لمنفعة المعطى وذلك أن التبرع بلا عوض قد يراد به التقرب إلى الله وقد يراد به التودد إلى المعطى يسمى هدية، وما يراد به مجرد نفع المعطى بقطع النظر عن الموادة والتقرب إلى الله يسمى هبة، وتشترك الثلاثة في أنها تبرع بدون عوض، والأصل في الهبة الجواز كما انه الأصل في جميع العقود، وإذا عرفت في جميع العقود الجواز، فاعلم أنه متى ادعى مدع أن هذا العقد حرام فعليه الدليل، لأن استصحاب الأصل دليل شرعي. وأما العمرى والرقبى فهي الهبة المقيدة بالعمر، وسيأتي بيان أوصافها. الهبة المقيدة بالعمر تسمى عمرى وتسمى رقبى، أما كونها تسمى عمرى فواضح لأنها مشتقة من العمر، وأما كونها

الهبة وضوابطها

تسمى الرقبى، فلأن كل واحد منهما يرقب موت الآخر، لأنها مقيدة بالعمر، وبعد العمر ترجع إلى صاحبها على خلاف وتفصيل يأتى إن شاء الله. الهبة وضوابطها: 888 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنى نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فأرجعه». - وفي لفظ: «فانطلق أبى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي. فقال: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا. قال: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم فرجع أبى، فرد تلك الصدقة» متفق عليه. وفي رواية لمسلم قال: «فأشهد على هذا غيري، ثم قال: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواءً؟ قال: بلى. قال: فلا إذن». "نحلت": أعطيت ابني، ومنه قوله تعالى: {وأتوا النساء صدقتهن نحلة}. أي: عطية تامة، وقوله "إنى نحلت ابنى هذا غلاماً كان لى" قد يقول قائل: لماذا أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل من شرط أن يشهد عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فالجواب: ليس من شرط الهبة أن يشهد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن بشير بن سعد رضى الله عنه كان له ابن من عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة، وأهداه هذا الغلام فقالت أمه عمرة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لأنها خافت أن ينازعه أحد من إخوانه من الزوجة الأخرى، فقالت لا أرضى حتى تشهد رسول الله، فجاء ليشهده، وأخبره بأنه نحل ابنه هذا هذه النحلة، وأن أمة عمرة بنت رواحة قالت: لا أرضى حتى تشهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: «أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ » أولاً: نسأل لماذا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل نحل بقية ولده مثل ذلك أم لا؟ وهل يجب مثل ذلك؟ الجواب: إنما سأله لأنه أخبره أن هذا الابن ابن لعمرة بنت رواحة وسأل لعله خص هذا الابن من هذه المرأة دون إخوته فلذلك سأل، وسيأتى في الفوائد أن مثل هذا السؤال لا يجب إلا بقرينة، ونسأل مرة أخرى عن قوله: «أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ » لماذا نصب كل وهى مبتدأ بها؟ والجواب على ذلك: أن هذه الجملة من باب الاشتغال والاشتغال أن يتقدم اسم ويتأخر عنه عامل يعمل في ضمير ذلك الاسم، وسمى اشتغالاً لأن العامل اشتغل بضميره عنه، مثاله: زيد ضربته. اشتغلت "ضرب" بضمير "زيد" فصار مرفوعاً، ولولا هذا الإشتغال لوجب أن تنصب زيد فنقول" زيداً

ضربت؛ لأن العامل إذا لم يشتغل عنه تسلط عليه فنصبه، فإذا قلت: زيد ضربته جاز لك في إعراب زيد وجهان: الرفع: "زيد ضربته" على أن يكون زيد مبتدأ وجملة ضربت خبر، "وزيداً ضربته" على أن يكون زيد مفعولاً لفعل محذوف يفسره ما بعده، والتقدير: ضربت زيداً، ولكن أيهما أرجح النصب أو الرفع؟ هذا الحكم تجرى فيه الأحكام الخمسة وجوب النصب، ومنعه، وترجيحه، ومرجوحيته والتساوى التي هي الإباحة. على كل حال: لا نفصل في هذا، لكن الذي يهمنا أن الهمزة في قوله: " أكل ولدك؟ " همزة استفهام والغالب أن تختص بالفعل، الغالب أن أدوات الاستفهام تدخل على الأفعال، فإذا جاء المشغول عنه بعد همزة الاستفهام ترجح نصبه، لأن الغالب -كما قلت- أن أدوات الاستفهام يليها الفعل، فإن كانت الأداة التي وليها المشغول عنه تختص بالفعل ولا تدخل على الاسم تعين النصب، وهنا نقول: النصب راجح أو متعين؟ راجح، لأن الاستفهام يدخل على الأسماء والأفعال، لكن الغالب في الأفعال، ولهذا نقول: يجوز في هذه الجملة: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ ويجوز "أكل ولدك؟ "، لكن النصب أرجح، لأن أدوات الاستفهام لا يليها إلا الفعل غالباً، "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ " "ولد" مفرد مضاف يعم جميع الأولاد، كما أن "كل" أيضاً مفيدة للعموم وقوله: "ولدك" يشمل الذكور والإناث، وفي رواية لمسلم: «أكل بنيك نحلته مثل هذا؟ » ولنا عليها عودة -إن شاء الله-، قال "لا" يعنى: لم أنحله مثل هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فأرجعه" يعنى: رده واعتبره لاغياً، وإرجاع الشيء معناه: إبطال ما سبق فيرجع الشيء إلى ما كان عليه قبل التصرف، وفي لفظ «فانطلق أبى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على صدقتي» بناء على اقتراح زوجه عمرة بنت رواحة يعني: على الصدقة التي تصدق بها على فالإضافة إلى المفعول به لأنك تضيف الصدقة إلى نفسك أحياناً وإلى من تصدقت بها عليه، فإذا قلت: صدقة وكلت عليها فلاناً فقد أضفتها إلى نفسك إلى الفاعل، وقد تضاف إلى المفعول به فيقول المعطى: صدقتي يعني: التي تصدق بها على، وهذا الحديث من هذا الأخير وسماها صدقة، لأنها تجتمع مع الصدقة في أن كل واحد منهما بلا عوض، على أن العطية أيضاً إذا أريد بها وجه الله ولو كانت للأبناء فهي من الصدقات، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن صدقة الإنسان على نفسه وعلى أهله فقال: «أفعلت هذا بولدك كلهم؟ »، الجملة هنا كالجملة السابقة إلا أنه ليس فيها اشتغال قال: لا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»، يعني: اتخذوا وقاية من عذابه وذلك بفعل الطاعة واجتناب المعصية وهنا يراد بها اجتناب المعصية، وهي تخصيص بعض الأولاد بالعطية دون بعض، قال: "واعدلوا" يعنى: ساووا بينهم. والأولاد جمع مضاف فيشمل الذكور والإناث والصغار ويشمل من كان غنياً ومن كان فقيراً، قال «فرجع أبي فرد تلك الصدقة» "رجع" يعني: على

النعمان فأخذ الصدقة منه وهي الغلام، وفي بعض الروايات أنها حائط، وجمع بينهما بأنها حائط وفيه غلام، وفي رواية لمسلم قال: «فأشهد على هذا غيري»، لأنه جاء به ليشهد النبي-صلى الله عليه وسلم- «أشهد على هذا غيري»، وفي رواية: «فإني لا أشهد على جور»، إذن فقوله: «أشهد على هذا غيري» للتوبيخ وليست للإباحة، ولا للوجوب ولا للاستحباب، ولكنها للتوبيخ، لأنه قال: "إني لا أشهد على جور" فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "أشهد على هذا غيري" فهذا يوبخه، ثم قال: «أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ » السرور معروف، سرور القلب وهو راحته وطمأنينته وانشراحه، "أيسرك أن يكونوا" يعنى: الأولاد، "لك في البر سواء؟ "، قال: "بلى" هنا واقعة موقع نعم، لأن الجواب في مثل هذا يكون "بنعم" في حال الإثبات إلا إذا كان الاستفهام داخلاً على نفي مثل: {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين: 8]. فنقول: "بلى"، أما إذا كان الاستفهام داخلاً على الإثبات فإن جوابه إما نعم وإما لا، لكن قد تنوب بلى مناب نعم كما تنوب نعم مناب بلى فمن الأول هذا الحديث ومن الثانى قول الشاعر: "الوافر": (أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك لنا تدانى) (نعم وترى الهلال كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني) الشاهد قوله: "نعم" في جواب: "أليس؟ "، والأصل أن يقال: "بلى"، وهذا الشاعر من أزهد الناس وأقلهم شوقاً وطمعاً، لأنه يكفيه من معشوقته أن يجمع الليل بينه وبينها ولو كانت هي في المشرق وهو في المغرب ما دام ترى الهلال وهو يرى الهلال، فذلك لهم تدان، ما أدرى هل عشقه إياها ضعيف؟ وإلا فهو رجل قنوع في الواقع، قال النبي - صلى الله عليه وسلم- لما قال له سعد: بلى أي نعم، قال "فلا إذن"، أي: فلا تعطه إذن، أي: في هذه الحال، أي: في الحال الذي يسرك أن يكونوا لك في البر سواء فلا تعطه من بينهم. هذا الحديث كما ترون فيه هبة لكنها هبة حصل فيها مانع وهو عدم التسوية. - ففي الحديث من الفوائد فوائد كثيرة: أولاً: جواز عطية الوالد لولده، وأن ذلك يسمى عطية، وهذا خلاف النفقة، فإن النفقة إلزام على الأب أن ينفق على ولده كما قال الله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة: 233].

ومن فوائد الحديث: جواز تملك الرقيق؛ لقوله: «إنى نحلت ابنى هذا غلاماً». ومن فوائده أيضاً: تعيين الموهوب له، وتعيينه يكون بالإسم، ويكون بالإشارة، وطريقه هنا الإشارة. ومن فوائده: أن الإشارة تقوم مقام العبارة في التعيين، ويتفرع من هذه الفائدة: أن الرجل لو زوج ابنته بالإشارة صح العقد، فلو قال زوجتك ابنتي هذه، وهي حاضرة، ولم يسمها صح العقد، لأن الإشارة تقوم مقام العبارة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب على المفتي أن يستفصل إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله: "أكل ولد نحلته مثل هذا؟ " أما إذا لم يكن هناك حاجة، فإنه لا يجب السؤال، ولا الاستفصال، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل كثيراً عن مسائل ولا يستفصل، ولو وجب ذلك لكان فيه مشقة. فإذا قال قائل: إني بعت بيتي على فلان فلا حاجة أن يقول: يعته بثمن معلوم، والبيت معلوم، ويستفصل عن جميع الشروط، وهل بعته بعد أذان الجمعة الثاني أو في وقت آخر ويذكر كل الشروط والموانع؟ هذا صعب، لكن إذا دعت الحاجة إليه وكان المقام يقتضى فلابد من الإستفصال. فلو سألك سائل فقال: هلك هالك عن بنت وأخ وعم شقيق، هنا سنقول: للبنت النصف، هذا لا يحتاج تفصيل، لها النصف على كل الأحوال، الأخ والعم يحتاج إلى تفصيل، لأنك ستقول: هل الأخ شقيق أو لأب أو لأم؟ إن قال السائل: لأم، فالباقي بعد فرض البنت للعم، لأن الأخ من الأم لا يرث مع الفرع شيئاً، وإن قال: إن الأخ شقيق أو لأب، فالباقي له، ولا شيء للعم، فهل يجب على المفتى في مثل هذا السؤال أن يستفصل؟ نعم، لأن الجواب يترتب على الإستفصال. ومن فوائد الحديث: أنه يجب التسوية في عطية الأولاد، لقوله: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ "، لأن المماثلة تقتضى التسوية، وظاهره أنه لا فرق بين الذكر والأنثى فإذا أعطى الذكر مائة فليعط الأنثى مائة، لأن هذه مماثلة، والنبي - صلى الله عليه وسلم- لم يستفصل، قال: "أكل ولدك؟ "، إلى هذا ذهب كثير من أهل العلم، وهو رواية عن أحمد، بمعنى: أن الواجب التسوية بين الذكر والأنثى، وقال بعض العلماء: بل الواجب التفضيل، أي: نفضيل الذكر في العطية على الأنثى، وأن الإنسان إذا أعطى ولده مائة فليعط الأنثى خمسين، وإذا أعطى الأنثى مائة، فليعط الذكر مائتين، واستدل هؤلاء بأنه لا أحد أعدل من الله، وقد قال الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11]. ولأن المال لو بقى عند الأب حتى مات لكانت قسمته على

الأبناء والبنات بالتفضيل للذكر مثل حظ الأنثيين، فكيف تقول: إذا قدم تملكهما وجب التسوية؟ فما دام هذا المال لو بقي حتى مات الأب لاقتسموه بالتفضيل، فكذلك إذا قسمه هو فليكن بالتفضيل، وأجابوا عن الحديث بأن كلمة ولد صالحة للذكور والإناث، وإحدى رواية مسلم: «ألك بنون؟ » تفيد بأن بشير بن سعد كان عنده من الأولاد بنون وليس عنده بنات، ومن المعلوم أنه إذا أعطى أولاده وكانوا كلهم بنين فإن الواجب التسوية، وهذا الأخير أقرب، أي: أن التسوية بينهم تكون بحسب الميراث. ومن فوائد الحديث: أن التسوية فيما إذا كان الشيء مثله، يعني: عطية مجردة أما إذا كان لسد الحاجة والنفقة، فإن العدل بينهم أن يعطي كل واحد ما يسد حاجته ويكفيه سواء كان أكثر من الثاني أم أقل أم مساوون، فإذا قُدر أن له ولدين أحدهما صغير والثاني كبير طويل، الصغير يكفيه من الثياب متر، وهذا الكبير الطويل يحتاج إلى خمسة أمتار مثلاً، فهل نقول: إذا كسوت الكبير خمسة أمتار فادخر للصغير ما يُقابل الزائد؟ الجواب: لا؛ لأن النفقة العدل فيها أن تعطي كل واحد منهم كفايته، كذلك لو كان عنده أبناء بلغ أحدهم سن الزواج فزوجه، والآخرون صغار، فهل يعطي الآخرين مثل المهر الذي أعطاه الكبير؟ لا، بل لو أعطاهم لوجب أن يعطي الكبير مثل ما أعطاهم، هل يجوز أن يُوصي بمثل ما أعطى الكبير مهرا للصغير؟ لا يجوز، ولو أوصى لبطلت الوصية، بل نقول: العدل بينهم أن من بلغ سن الزواج وطلب الزواج تزوج، ولكن لو سألنا قال: أنا زوجت الكبير في زمن الرخص حيث كان المهر مائة ريال، والصغير الآن بلغ سن الزواج في زمن الغلاء، المهر بعشرة آلاف ريال، ماذا نقول؟ أعطه عشرة آلاف لأنك أعطيت الأول مهرا، أعط هذا مهرا، ولو كان الأمر بالعكس زوج الكبير في حال الغلاء، ثم رخصت المهور، فهل يُعطى الصغير الذي زوجه حال رخص المهور يعطيه ما زاد في مقابل ما أعطى الكبير؟ لا؛ لأن هذا كفاية، ومثل ذلك لو احتاج أحد الأولاد إلى علاج، وأعطاه علاجا أو عالجه في بلد آخر، فإن هذه النفقات لا يلزم أن يعطي مثلها الآخرين، لأنها للحاجة، لو أعطى أحدهم لكونه طالب علم، فأعطاه من أجل طلب العلم ولم يعط الآخرين، فهل يجب عليه أن يعطى الآخرين؟ نقول: نعم إذا كان مستعداً أن يعطى الآخرين مثل ما أعطى هذا إذا طلب العلم هذا لا بأس به، لاسيما إذا قال لهم: أنا أعطيت أخاكم من أجل أنه طالب علم، فإن هذا لا بأس به في التشجيع على العلم، نعم لو فرض أن أحدهم كان فيه مانع من طلب العلم مثل أن يكون أشل فأعطى طالب العلم، فهنا قد يتوجه القول بأن يعطي الأشل، لأنه إنما ترك طلب العلم عجزاً عنه لا زهدا فيه ورغبة عنه، لو كان أحدهم يعمل معه في فلاحته أو تجارته فنحله شيئا دون الآخرين هل يجوز؟ نقول: إذا كان هذا العمل مع أبيه متبرعا وقصده البر؛ فإنه لا يجوز أن يعطيه شيئًا يخصه به لأن هذا يريد ثواب الآخرة، فله ثواب الآخرة، أما إذا

حكم الرجوع في الهبة

كان من نيته أن يرجع على أبيه بمقدار عمله، فهنا يعطيه أبوه مقدار عمله، ويعامله كأنه أجير أجنبي، فإن كان لا ينوي الرجوع على أبيه لكن صار بينه وبين أبيه سوء تفاهم، فقال لأبيه: أنا أريد مقابل عملي في مالك أو فلاحتك فهل يُعطى بأثر رجعي؟ لا؛ لأنا نقول: إنك عملت متبرعا، ولهذا نقول: ينبغي للأب أن يكون عنده شيء من العدل، فإذا كان هذا الولد يعمل معه في فلاحه وفي تجارته ينبغي له أن يجعل له سهمًا من الربح، لكنه سهم كسهم الأجنبي لا يبر ولده بزيادة لاسيما إذا كان الأخوة الآخرون لهم تجارات ومزارع يختصون بها، وهذا منقطع على أبيه، فإن مثل هذا يتعين أن يفرض له الأب شيئا إما من الربح وإما بأجرة شهرية، لكن لا يزيد على أجرة المثل. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز قول: لا، أمام من يستحق التعظيم؛ لقوله: لا، وقد ورد في حديث جابر ما هو أعظم من ذلك، حيث قال له النبي (صلى الله عليه وسلم): «بعني» يعني: الجمل «بأوقية»، قال: لا، فإذن يجوز أن يخاطب الكبير والشريف ومن له التعظيم بمثل هذا، أما قول العامة يقولون كلمة ما أدري ما، هي كلمة يريدون بها التعظيم والاحترام فالظاهر لي -إن شاء الله- أنها جائزة، وقد يقول قائل: لعل هذا من باب التنطع إذا كان الصحابة (رضي الله عنهم) وهم أحسن منا خُلقا وأكمل منا أدبًا يخاطبون النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو أحق البشر أن يُعظم بكلمة «لا»، فلماذا لا نقول: لا؟ ولهذا أنا ربما أقيس هذه على قول بعض العلماء: الأولى أن يقول: أبول، ولا يقول: أريق الماء، بعض الناس يقول: أطير الماء، فيقولونها من باب التأدب بالألفاظ وقد ذكر صاحب الفروع (رحمه الله) الأولى أن يقول: أبول، ولا يقول: أريق الماء. حكم الرجوع في الهبة: (889) - وَعَن ابن عبّاس (رضي الله عنه) قال: قال النّبيّ (صلى الله عليه وسلم): «العَائد في هبته كالكلب يقيء، ثم يَعُودُ في قيئه». مُتفق عليه. - وفي رواية للبخاري: «ليْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوء، الذي يعودُ في هبته كالكلب يقيء ثُمَّ يَرّجع في قيئه". هنا مُشبَّه ومُشبه به، المشبه العائد، والمشبّه به الكلب، وما هو الجامع بينهما؟ الجامع أشار إليه في قوله: «يقيء ثم يعود في قيئه»، أي: الكلب في رجوعه في قيئه، يعني: أن الكلب يقيء ما في بطنه من الطعام ثم يرجع فيأكل هذا القيء، وذلك لأن الكلب إذا جاع أكل ما يليه أي شيء يصادفه يأكله، فهذا الذي أعطى الهبة ثم بعد ذلك رجع فيها، نقول: أنت مثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه، وفي رواية البخاري: «ليس لنا مثل السوء» بمعنى: العيب والنقص، والمثل

يعني: صفة ليست صفة السوء لنا نحن المسلمين؛ لأن الإسلام أعلى ما يكون في العبادة والأعمال والأخلاق، وقد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه مثّل رسالته (صلى الله عليه وسلم) بقصر مشيد مبني إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون ويتعجبون منه إلا موضع هذه اللبنة، يعني يقولون: ما أحسن هذا القصر ما أجمله لولا وضعت هذه اللبنة، يقول: فأنا اللبنة، يعني: أنه (صلى الله عليه وسلم) أتم الله به البناء، وذكر عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فكل مثل سوء في المعاملات فإن الإسلام بريء منه، ولهذا قال: ليس لنا مثل السوء، لنا، يعني: معشر المسلمين؛ لأن ديننا كامل تام من كل وجه. «الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه»، هذا كالأول في قوله: «الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع» بدل يعود والمعنى واحد، يعني: أنه يشبه الكلب، ووجه الشبه بينهما: أن كلا منهما عاد فيما أخرج منه الكلب عاد في القيء وهذا عاد في الهبة. هذا الحديث: يدل على تحريم الرجوع في الهبة؟ ولكن ما إذا قبضت؛ وذلك لأن مقتضى التشبيه أن تكون الهبة قد خرجت من يد الواهب وانفصلت؛ لأن القيء قد أنفصل من الكلب ثم يرجع، فإذا وهب الإنسان شيئا وأقبضه فإنه لا يجوز له أن يرجع فيه، فإن رجع كان ذلك حرامًا، وجهه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) شبهه بأقبح صورة وأخبث ذات؛ فإن الكلب من أخبث الدواب حتى من الخنزير، ولهذا كانت نجاسته لا تطهر إلا بسبع غسلات، إحداها بالتراب، وطهارة الخنزير تطهر بإزالتها، فالكلب أخبث الحيوانات، ثم هذه الصورة من أبشع الصور أن يقيء ثم يعود في قيئه، فهذا دليل على تحريم الرجوع في الهبة بعد القبض، أما قبل القبض فليس الرجوع فيها حرامًا لكنه من إخلاف الوعد، والعلماء مختلفون في إخلاف الوعد، هل هو حرام أو مكروه؟ فجمهور أهل العلم على أنه مكروه، واختار شيخ الإسلام أنه حرام، وأن من وعد وجب عليه الوفاء، واستدل لذلك بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) جعل عدم الوفاء بالعهد من سمات المنافقين تحذيرا منه، وبأن هذا مخالف لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 43]. فأنت إذا أعطيت شخصا قلت: هذا الكتاب يا فلان لك، لكنه لم يقبضه خرج من المجلس ثم بعد إذن رجع عليه ليأخذ الكتاب فقلت له: رجعت في هبتي، نقول: هذا ليس حرامًا من جهة الرجوع في الهبة؛ لأن الهبة لم تُقبض بعد، وهي لا تلزم إلا بالقبض، لكنه حرام من جهة إخلاف الوعد؛ لأن قولك له: هذا الكتاب لك أدنى ما فيه بأنه وعد بتمليكه إياه، فإذا رجعت فهذا إخلاف الوعد، إذن الرجوع في الهبة على القول الراجح حرام سواء قبضت أم لم

تقبض، لكن إن كان قبل القبض فهي من باب إخلاف الوعد، وإن كان بعده فهي من باب الرجوع فيما ملكه الموهوب له، لأنه يملكها بالقبض، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وقال بعض العلماء: إن الرجوع في الهبة مباح، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) شبه الراجع بالكلب، والكلب عمله لا يتعلق به تكليف، فرجوعه في قيئه لا يأثم به، وإذا كان لا يأثم كان المشبه -وهو الراجع في الهبة- لا يأثم برجوعه، لأن التشبيه إلحاق المشبه بالمشبه به، ولكن هذا لا شك أنه من تحريف النص وتعطيل معناه، فهو رجوع بالنص إلى غير ما يريده الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ففيه تحريف لمعنى النص، وتعطيل له؛ لأنا إذا قلنا بجواز الرجوع في الهبة، وقلنا: إن هذا الحديث يدل على الجواز، عطلنا الحديث عن معناه المراد به؛ إذ معناه التحذير من هذا العمل، والآن جعلنا معناه الإباحة لهذا العمل، فعطلنا النص، ثم هو أيضا تحريف للنص، إذ إن النص لا يدل على ذلك، بل النص يدل على التحذير من هذا غاية التحذير، لو أنك قلت لرجل من الناس: يا كلب، قال: لماذا؟ قلت: لأنك رجعت في الهبة، قال: إذن لا أوصف بأني كلب، لأن الرجوع في الهبة جائزة فتقول: الذي وصفك بهذا الرسول (صلى الله عليه وسلم)، هل يرضى بهذا أو يفهم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصفه بذلك من أجل أن يقول له: ارجع في هبتك كما أن الكلب يرجع؟ هذا شيء مستحيل، ولم يشبه الآدمي الذي فضله الله على كثير ممن خلق، لم يشبه بالحيوان إلا في مقام الذم، شبّه الذين حُمَلوا التوراة بالحمار يحمل أسفارا ذمًا، وشبه الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بالكلب {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} [الأعراف: 176]. ذماً لا مدحاً، وشبه الذي يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة بالحمار يحمل أسفارا مدحا أو ذمًا؟ ذمًا، إذن لم يشبه الآدمي الذي فضله الله على كثير ممن خلق بالحيوان إلا في مقام الذم، ولهذا نهى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يبرك الإنسان في سجوده كبروك البعير، ونهى أن يبسط الساجد ذراعيه افتراش السبع، إذن لا يمكن أن نقول: إن هذا الحديث يدل على جواز الرجوع في الهبة. ثم يبطل هذا القول غاية الإبطال قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «ليس لنا مثل السوء»، وهو صريح في أن الرجوع في الهبة مثل سوء تبرأ منه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولو ذهب ذاهب إلى أن الرجوع في الهبة بعد القبض من الكبائر لم يبعد، لماذا؟ لتبرأ النبي (صلى الله عليه وسلم) من ذلك: «ليس لنا مثل السوء». ومن فوائد الحديث: أنه لا فرق بين كون الراجع غنيًا أو فقيرا، فلو افتقر الواهب ثم أراد أن يرجع على الموهوب له، قلنا: لا يجوز، ولا فرق بين أن يرجع على الموهوب له بصفة صريحة أو بحيلة، مثال الصفة الصريحة: أن يذهب إليه ويقول: أعطني ما وهبتك، والحيلة: أن يشتريه بأقل من ثمنه، فإذا كان الموهوب يساوي مائة، واشتراه بثمانين، فقال رجع بالخمس

مشاعا، فلا يجوز، بل إن بعض العلماء حرم شراء الإنسان ما وهبه لغيره، ولو بثمن المثل، وعلل ذلك بأنه حيلة على الرجوع في الهبة، واستدل لذلك بقصة عمر بن الخطاب أنه حمل رجلاً على فرس في سبيل الله أعطاه إياه يجاهد عليه، فأهمله الرجل فأراد عمر أن يشتريه ظنا منه أنه سيبيعه برخص، فاستأذن النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: «لا تشتره ولو أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه»، فجعل النبي (صلى الله عليه وسلم) شراء ذلك من باب الرجوع؛ لأنه قال: «فإن العائد في صدقته كالكلب»، وهذا القول ليس ببعيد، لاسيما إذا اشتراه الرجل مباشرة، فإن الغالب أن الموهوب له سوف يخجل ولا يماكسه في الثمن. ومن فوائد الحديث: دناءة الكلب وخسته حيث كان يفعل هذا الفعل، ولا ندري عن بقية الحيوانات هل تفعل مثل ذلك أم لا؟ لكن إن فعلت فهذه دناءة أن يتقيء ثم يرجع في قيئه، ولا تستغرب إذا قلنا في ذلك دناءة الكلب وخسته؛ لأنك قد تقول: هذه بهائم وما لها وللخسة؟ ! وما لها ولكرائم الأخلاق؟ ! فنقول: بل إن البهائم تُمدح على كرائم الأخلاق، فإن ناقة النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة الحديبية لما بركت وخلأت - أبت أن تستمر في السير إلى مكة - صاح الناس، وقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، يعني: حرنت ووقفت، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «والله ما خلأت وما ذاك لها بخلق»، فدافع عنها «ولكن حبسها حابس الفيل» ثم قال: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها شعائر الله إلا أجبتهم عليها»، الحاصل: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) دافع عن ناقته أن تُوصف بسوء الخلق، قال: «ما خلأت وما ذاك لها بخلق»، فبعض الحيوانات يكون دنيئا خسيسًا، ويدل ذلك على خبثه، وبعض الحيوانات قد يترفع عن مثل هذه الخسة، ويدل لهذا أيضا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «خمس من الدواب كلهن فاسق»، فوصفهن بالفسق، ويدل لهذا أيضا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) «حرم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطيرة»، لماذا؟ قال العلماء: لأن الآكل لذلك إذا تغذى بهذا اللحم تأثر به، صار يأكل الناس، لأنه أكل لحم السباع، فيخشى أن يكون سبعًا، وإذا لم تتحقق السبعية فربما يكون من طبيعته محبة أذى الناس، فلذلك نهى عنه، وقد أخذ العلماء بهذا فقالوا: يكره للإنسان أن يسترضع لولده امرأة

حمقاء، قالوا: لأن ذلك يُؤثر في طبيعة الولد، يكون الولد أحمق، تُطلب له امرأة تكون حليمة حسنة الأخلاق، لأنه يتأثر بذلك. على كل حال هذا الحديث يدلنا على خسة الكلب ودناءته، وبه نعرف خسة من أكرموا الكلب وعظموا الكلب، وصاروا يجعلونه ينام على السرير، وهم ينامون على الأرض، ويختارون له من اللحم أطيبه، يعطونه إياه، ويغسلونه بالصابون المطيب والشامبو، وهم لو غسلوه بماء البحر فهو عين نجسة خبيثة، لكن سبحان الله ربما يكون قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26]. يتناول حتى هذا، وهي أن النفوس الخبيثة تألف الخبيثة، ومن ثمّ نسمع عنهم لخبثهم أن الواحد منهم إذا علا الخلاء، وتعرفون أن كراسي الخلاء عندهم مرتفعة، قال: هاتوا الجرائد، ثم جلس على هذا الخلاء كاشف العورة وهو يقرأ الصحف -ويستريح في هذا، مع أن المكان خبيث، كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) إذا أراد أن يدخله قال: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث»، لكن هم لخبث أنفسهم يألفون هذا، وهذه المعاني لا يدركها إلا من تأمل في كلام الله وكلام رسوله (صلى الله عليه وسلم) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. لا يوجد أعظم من هذا الوصف، لكن أكثر الناس يظنون أن الإنسانية إنسانية حتى فيمن انحرف عن مقتضى الإنسانية، ولكن الإنسانية إنسانية إذا وافق الإنسان الطبيعة والفطرة التي خلق عليها الإنسان، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها أن أقوم لله بدين الله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ} [الروم: 20].هذه فطرة الله إذا لم تقم وجهك للدين حنيفا فقد خالفت الفطرة وخرجت عن مقتضى الإنسانية وصرت مثل البهائم بل أشرُ {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55] {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 22]. فكل من لم يسمعه الله دينه، فإنه أصم أبكم وهو شر الدواب، ولكن مع الأسف نرى أن كثيرًا من الناس اليوم لا يرون هذا شيئا بل قد يرون أن بعض الكفار الذين أخذوا من محاسن أعمال الفطرة ما أخذوا خيرًا من المسلمين! اعلم أنه ليس في الكفار صدق ولا وفاء بعهد ولا حُسن في معاملة إلا وهو في الإسلام، كل شيء من محاسن الكفار فهو موجود في الإسلام، لكن من أصمه الله من المسلمين وصار أذنابًا لهم يرى أن كل خُلق حسن ومعاملة طيبة فهى منهم، حتى إننا سمعنا بعض الناس يقول - إذا أراد أن يحث صاحبه على الوفاء بالوعد -: إنه وعد إنجليزي، لماذا لا تقول: أنه وعد مؤمن؟ لأن المؤمن هو الذي لا يُخلف، وليس في الإنجليز ولا في الأمريكان ولا في الروس ولا

حكم رجوع الوالد في هبته لولده

غيرها شيء من محاسن الأخلاق إلا وهو عند المسلمين، لكن المسلمين حقيقة فرطوا وأضاعوا وصاروا يتخلقون بأخلاق الكفار، والكفار يتخلقون بأخلاقهم في المعاملة التي يُمَشون فيها دنياهم، أما في العبادة فهم ما أخلوا شيئا من الإسلام. حكم رجوع الوالد في هبته لولده: 890 - وَعَن ابن عُمَرَ، وَابْنِ عَبّاس (رضي الله عنهما)، عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا يَلُ لِرَجُلٍ مُسلم أن يعطي العطية، ثم يرجع فيها؛ إلا الوالد فيمَا يُعطي وَلَدَهُ». رَوَاهُ أَحْمَد، وَالأربَعَة، وَصَحْحَهُ الترمذي، وَابْنُ حِبانَ، وَالحَاكم. قوله: «لا يحل» من المعلوم أن الحل يقابله التحريم أو يقابله الحرام لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذَا حَلَالٌ وَهذَا حَرَامٌ} [النحل: 116]. ولقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. فإذا نفى أحدهما ثبت الآخر، فقوله: «لا يحل» كقوله يحرم، وقوله: «لرجل مسلم» الرجل: هو الذكر البالغ، والمسلم هو الذي أسلم لله بالتزام شرع محم (صلى الله عليه وسلم) ِ، وذكر الرجل بناء على الأغلب؛ لأن المرأة مثله ووصف بالمسلم من باب الإغراء على تجنب هذا العمل، كأنه يقول: إن كان مسلمّا فليجتنب كما نقول للإنسان: لا يحل لكريم أن يبخل يعني: بمقتضى كرمه، فلا يحل لرجل مسلم أي: بمقتضى إسلامه فهو من باب الإغراء، وقوله: «أن يعطى العطية» العطية فعيلة بمعنى مفعولة، يعني: أن يعطي شيئا ثم يرجع فيه بعد أن يسلمه، «إلا الوالد فيما يعطي ولده» الوالد اسم فاعل من ولد يلد وهو شامل للذكر والأنثى، لأن الأم تُسمّى والدة، والأب يسمى والد، وقوله: «فيما يُعطي ولده» يشمل الذكر والأنثى يعني: كل الذي يعطيه فإنه يجوز أن يرجع، ووجه ذلك أن الوالد له أن يتبسط بمال ولده يعني: له أن يأخذه منه بلا عوض، فإذا كان كذلك فله أن يرجع فيما وهبه له، ولو بعد ملكه إياه. ففي الحديث فوائد: أولا: تحريم الرجوع في العطية، يُؤخذ من قوله: «لا يحل». ومن فوائده: إبطال قول من يقول: إن العود في الهبة جائز، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) شبه ذلك برجوع الكلب في قيئه، ورجوع الكلب في قيئه لا يترتب عليه إثم فيكون جائزا، فنقول: هذا الحديث مما يردُ به على هذا التأويل الفاسد. ومن فوائد الحديث: أنه لا يحل للرجل أن يعطي عطية ثم يرجع، فمفهومه أن الأنثى تحل لها أن تعطي عطية ثم ترجع، ولكن هذا المفهوم غير معتبر، وذلك لأن التعبير بالرجل من باب

التغليب، وكل شيء يُؤتى به بناء على التغليب فإنه لا يكون له مفهوم، وعلى هذا فإنه لا يحل للمرأة أيضا أن تعطي العطية ثم ترجع فيها. ومن فوائده: أن الإسلام يحث على الأخلاق الكريمة، وجه ذلك: أن الرجوع في الهبة خُلق ذميم، ومن تخلق به فهو لئيم، والمسلم لا يمكن أن يرجع، لأن إسلامه يمنعه من أن يرجع فيما أعطى. ومن فوائد الحديث: أن عدم الرجوع في الهبة من مقتضيات الإسلام، لقوله: لا يحل لرجل مسلم». ومن فوائده: جواز رجوع الوالد فيما وهب ولده؛ لقوله: «إلا الوالد ... إلخ»، وظاهرة أنه يشمل الأم والأب، وذهب بعض العلماء إلى أنه خاص بالأب، وأن الأم لا يحل لها أن ترجع، وعلل ذلك بأن الأب هو الذي يتملك من مال ولده وأما الأم فليس لها حق التملك فإذا لم يكن لها حق التملك لم يكن لها حق الرجوع في الهبة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد (رحمه الله)، على أن الرجوع في الهبة جائز للأب خاصة دون الأم، ولكن بعض أهل العلم ذهب إلى العموم وقال: لا فرق بين الأب والأم لأن الحديث يقول: الوالد والأم لا شك أنها والدة. ومن فوائد الحديث: أنه لا فرق بين أن يكون الولد صغيرًا أو كبيرا؛ لقوله: «ولده» لأنها مفرد مضاف فيعم، ولا بين أن يكون ذكراً أو أنثى، ولا بين أن يعطيه ويعطى إخوانه أو لا، ولا بين أن يكون نفقة أو غير نفقة، المهم أن الحديث عامّ، فهل نأخذ بهذا العموم؟ فالجواب: أن الأصل الأخذ بالعموم، ولكن إذا وجدت أدلة تخصص هذا العموم فإنه يخصص فننظر الوالد فيما يعطي ولده يشمل الصغير والكبير، ليس فيه تخصيص، الوالد فيما يعطي ولده إذا كان حيلة على أن يفضل بعض الأولاد مثل أن يعطي الولدين كل واحد سيارة، ثم يرجع في عطية أحدهما وهو من الأصل إنما أراد أن يفضل، فهنا نقول: الرجوع حرام، ما الدليل على التخصيص؟ قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، هل يشمل ما أعطاه للنفقة وما أعطاه تبرعا؟ نقول: لا؟ لا يشمل؛ لأن ما أعطاه للنفقة لا يجوز الرجوع فيه؛ لأن النفقة واجبة، فلو أعطاه مثلاً عشرين ألفا مهرا يتزوج به، فإنه لا يجوز أن يرجع فيه، وذلك لأن الإنفاق واجب عليه، ولا يمكن أن يُسقطه، هل يشمل ما إذا رجع في هبته ليعطيها لولد آخر أو ليتملكها هو؟ لا يشمل هذا فلو رجع في عطية زيد من أبنائه ليعطيها لعمرو الابن الثاني، كان هذا الرجوع حرامًا؛ لأنه قصد به المحرّم وهو التفضيل، وما قُصد به المحرم كان حرامًا.

شروط قبول الهدية

ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز لأي واهب أن يرجع إلا الوالد، وظاهره حتى لو أن شخصا وهب إنسانا هبة بناء على سبب معين، وتبين انتفاء هذا السبب، فإنه لا يرجع، ولكن بعض العلماء قال: إنه في هذه الحال يرجع لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «إنما الأعمال بالنيات»، مثال هذا: امرأة أحست من زوجها أنه يريد أن يطلقها أو فعلاً قال سأطلقها، فأعطته دراهم لئلا يطلقها، ولكنه ما كاد أن تصل الدراهم إلى جيبه حتى طلقها، فهذه ذكر أهل العلم أنها ترجع؛ لأنها إنما وهبته من أجل أن تبقى عنده لا من أجل أن يطلقها، فإذا علمنا بلسان المقال أو بقرائن الأحوال أنها إنما وهبته ليبقيها ثم طلقها، فلها أن ترجع، ومثل ذلك لو أن شخصا وهب إنسانا هبة بناء على أنه هو الذي أنجز له الحاجة الفلانية، ثم تبين أنه غيره فله أن يرجع؛ لأن هذه الهبة وإن لم يشترط أنها فى مقابل العمل فالقرينة تدل على أنها فى مقابلة العمل، فإذا تبين أن العمل لم يقع من الموهوب له فللواهب أن يرجع، وقد يُقال: إن هذا لا يدخل في الحديث أصلاً؛ لأن الحديث يقول: «لا يحل لمسلم أن يعطي العطية»، وهو ظاهر في أن هذه العطية ليس لها مقابل، وما ذكر في مسألة الزوجة وفي مسألة العامل إنما أعطي في مقابل شيء لم يحصل فلا يدخل فى هذا الحديث. شروط قبول الهدية: 891 - وعَنْ عائشة (رضي الله عنها) قالت: «كان رَسُول الله (صلى الله عليه وسلم) يقبل الهدية، وَيُثيب عليها». رَوَاهُ البخاري. يقول العلماء (رحمهم الله): إن «كان» إذا كان خبرها مضارعا فإنها تدل غالبًا على الدوام لا دائما، وما أطلقه بعض العلماء من أن «كان» تفيد الدوام، فليس مرادًا، والدليل على هذا أنه قد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بسبح والغاشية، وأنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة والمنافقين، ولا يمكن أن نقول: إن «كان» تدل على الدوام، لو قلنا بذلك لتناقض الخبران، فإذن هي تدل على الدوام غالبًا، نقول: «كان يقبل الهدية (صلى الله عليه وسلم) كان يقبلها من أي شخص حتى قال (صلى الله عليه وسلم): «لو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلته». مع علو مرتبته (صلى الله عليه وسلم) وشرف مقامه لو أهدي إليه هذا الشيء الزهيد لقبله من أي شخص حتى إنه يقبل الهدية من اليهود، أهدت إليه امرأة من يهود خيبر - حين فتح خيبر- أهدت إليه شاة وقد سألت ما الذي يعجبه من

الشاة؟ قالوا: كان يعجبه، فجعلت في هذا الذراع سمًا قاتلاً، وأهدت الشاة إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فدعا أصحابه وأخذ من هذا الذراع فلما لاكه - لم يهضمه مضغه ولكنه ما هضمه ما نزل إلى معدته ثم لفظه -عليه الصلاة والسلام-، وتبين أن فيه سما فدعا المرأة فقال: وما الذي حملك على هذا؟ قالت: أردت إن كنت نبيًا فإن الله سوف يُنقذك منه، وإن كنت كاذبًا فنستريح منك، فكان هذا آية للرسول (صلى الله عليه وسلم) أن الله تعالى أنجاه منها، ولكن مع ذلك كان في مرض موته يقول: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني، وهذا أوان انقطاع الأبهر مني» حتى إن الزهري قال: إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُعتبر شهيدا؛ لأن اليهود قتلوه، وهذا من عادة اليهود عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة، يقتلون الأنبياء بغير حق، الحاصل: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقبل الهدية، وقد ذكر ابن القيم نقلاً عن ابن عساكر أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد هذه الأكلة صار إذا قُدم إليه طعام جعل المقدم يأكل منه قبله، أو شراب جعل المقدم يشرب منه قبله احترازا وتحريا، والإنسان مأمور بالتحري. على كل حال: نقول: «كان يقبل الهدية» والهدية: هنا جنس يشمل القليل والكثير من أي مُهدٍ كان، ولكنه لكرمه يثيب عليها يعني: يُعطي مقابلاً لها، هو كريم (صلى الله عليه وسلم) أكرم الخلق فيعطي أكثر، ولكن ربما نقول: إنه يثيب عليها بما تيسر له، المهم أن يكسر منة المهدي حتى لا يقع في نفسه يومًا من الدهر أنه منَّ على الرسول (صلى الله عليه وسلم). ومن فوائد الحديث: قبول الهدية، يعنى: أن قبول الهدية جائز، ولكن اشترط العلماء ألا يعلم أنه أهدى له خجلاً وحياء فإن علم أنه أهدى له خجلاً وحياء فإنه لا يجوز أن يقبلها. ثانيًا: ألا تقع موقع الرشوة بحيث يُهدي الخصم إلى القاضي هدية أمام الحكومة، يعني: أمام المحاكمة لأنها رشوة. ثالثا: ألا تعظم منة المهدي بحيث نعرف أن هذا المهدي من أهل المن يعني: من الناس المنَّانين؛ لأن في قبولها في هذه الحال غضاضة على المهدى إليه، لا يأمن أنه كلما جلس في مجلس وسلم قال: عليك السلام، قال: تذكر لما أعطيتك ذاك اليوم! ! فإن هذا يؤذيه فإذا كان يخشى من الأذية فلا يقبل، والإنسان لا ينبغى له أن يذل نفسه. الشرط الرابع: ألا تكون الهدية محرمة سواء كان التحريم لعينها أو لحق الغير، مثال المحرم لعينه: أن يهدى إليه علبة دُخان، فالقبول هنا حرام حتى وإن كان المهدى إليه لا يشرب الدخان؛ فإنه لا يجوز أن يقبلها، لأن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه، أو محرمة بعينها لحق الغير

فائدة في الإثابة على الهدية وحكمها

مثل أن أعرف أن هذا الذي أهدي إلي قد سرقه من فلان أو فلان أو غصبه من فلان، فهنا لا يجوز قبوله، فإن كان الواهب أو المهدي ممن كسبه حرام لكن بعينه يعني: لم يهد إليَّ شيئا محرما لعينه أو بعينه لكن كسبه حرام، فهل يجوز أن أقبل هديته - كشخص يتعامل بالربا- فهل يجوز أن أقبل هديته؟ الصحيح أنه يجوز أن تقبل هديته؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل هدية اليهود وهم يأكلون السحت، ويأكلون الربا، ولأن هذا محرم لكسبه، والمحرم لكسبه يتعلق حكمه بالكاسب لا بمن تحول إليه على وجه مباح، نعم لو فرض أن في رد هدية هذا الذي يكتسب المال الحرام ردعا له عن الكسب الحرام كان ردها هاهنا حسنا من باب تحصيل المصالح ودفعا للمفسدة، أما إذا لم يكن فيه مصلحة فلا يجب علي ردها. هذه الشروط التي ذكرناها مأخوذة من أدلة أخرى غير هذا الحديث. فائدة في الإثابة على الهدية وحكمها: وقوله: «يثيب عليها» هل الثواب واجب؟ لا، لكنه من مكارم الأخلاق إلا إذا علمت أنه أهدى إلي لأثيبه، فحينئذ تجب الإثابة، مثال ذلك: هذا رجل أمير أملك جاء شخص صعلوك فأهدى إليه فرسا تساوي خمسة آلاف ريال، فقال له الأمير: جزاك الله خيرا وأخلف عليك، وصرفه، فهل هذا يكفي؟ لا يكفي؛ لأن قرينة الحال أنه يريد الثواب، ولهذا قال العلماء: إنه تجب الإثابة إذا علمنا أن الواهب يريد الثواب، وهذا صحيح كما قالوا: إنه يحرم قبول الهدية إذا علمنا أنه أهدى خجلاً وحياء فإنه يحرم قبول الهدية، فهذه أيضا تجب الإثابة أيهما أولى أن يثيب أو أن يرد الهدية؟ أن يثيب؛ لأن هذا هو هدي النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولأن في هذا جبرًا لقلب المهدي؛ لأنك لو رددت الهدية سوف يحدث في ذهنه لماذا ردها أكراهة لي أم في مالي حرام أم كذا أم كذا؟ لكن إذا قبلت فأثب إذا كنت تخشى أن صاحبك قد خسر عليها شيئا كثيرا، فأثب عليها، ويزول بذلك المحظور. «كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقبل الهدية» وربما سأل الهدية لكن لمصلحة، مثال ذلك قصة السرية الذي بعثهم النبي (صلى الله عليه وسلم) فنزلوا إلى قوم ضيوفا فلم يضيفوهم وقدر الله (عز وجل) أن لدغ سيد القوم لدغته عقرب، فطلبوا من يقرأ عليه فقالوا: لعل هؤلاء القوم معهم راقٍ، فجاءوا إلى الصحابة وقولوا: إن سيدنا لُدِغ، وإنا نطلب من يرقي عليه، قالوا: ما نرقي عليه إلا بجعل، والصحابة معهم حق؛ لأنهم ما ضيفوهم، فجعلوا لهم غنما، فذهب أحدهم وجعل يقرأ عليه من فاتحة الكتاب فقط حتى قام الرجل كأنما نشط من عقال، ثم ترددوا في هذا، وقالوا: لا نأكل من الغنم حتى نصل إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) ونخبره، فلما وصلوا إلى المدينة، وأخبروا النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «خذوا

? واضربوا لي معكم بسهم»، إذن طلب الهدية، لكن لأي شيء؟ لمصلحة القوم؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إذا أخذ وأكل طابت نفوسهم أكثر، فلهذا نقول: هذا من مصلحة المُهدي، والنبي (صلى الله عليه وسلم) لم يرد أن ينتفع بهذا ولكن لتطمئن قلوبهم، وكذلك دخل يوماً ورأى البرمة على النار وفيها لحم، فقدم إليه الطعام فقال: «ألم أرد في البرمة على النار» فقالوا: هذا لحم تُصدق به على بريرة، قال: «هو عليها صدقة، وهو لنا منها هدية». (892) - وَعَن ابن عَباس (رضي الله عنه) قَال: «وَهَبَ رَجُل لِرَسول الله (صلى الله عليه وسلم) نَاقَهُ، فأثابه عَلَيْهَا، فَقَالَ: رَضيتَ؟ قَالَ: لا، فزاده، فَقَالَ: رَضيتَ؟ قَالَ: لا فزاده، قَالَ: رَضيتَ؟ قَالَ: نعم». رَوَاهُ أَحْمَد، وصححه ابنُ حِبَّانَ. قوله: «وهب رجل لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ناقة»، من المعلوم أن هذا الرجل لم يهد هذه الناقة إلا وهو يترقب عوضا عنها، فالهدية هنا بمنزلة البيع، ولهذا أعطاه النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى رضي كما أعطى جابر بن عبد الله حتى رضي، كرر عليه حتى باع عليه، المهم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) فهم أن هذا الرجل الذي أهدى الناقة إنما أهداها على وجه المعاوضة فأثابه عليها فقال: رضيت؟ فقال: لا. فزاده ... إلخ، وهذا واضح في أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يثيب ما يرضى به المُهدي إما بلسان حاله وإما بلسان مقاله، أما لسان المقال فكما سمعتم فى الحديث، وأما لسان الحال فأن يقدر المهدى إليه أن ما أثاب على هديه أكثر من قيمتها فإذا غلب على ظنه أنه أكثر أو أنه مساوٍ فقد أثاب. ويستفاد من هذا الحديث: أن هبة الثواب لابد فيها من رضا الواهب أو المهدي، الدليل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كرر عليه الاسترضاء، ولكن لو أن المُهدي طلب أكثر مما تساوي مثاله أهدى إليك رجل ناقة تساوي ألفا فأعطيته ألفا، فقلت: رضيت. قال: لا. أعطيته ألفا ومائة. رضيت؟ قال: لا. ألف ومائتين، رضيت؟ قال: لا. والقيمة ألف، هل يلزمني أن أعطيه حتى يرضى ولو زاد على الثمن؟ لا يلزمني في هذه الحال، بل يجوز لي أن أقول: إذا لم ترض خذ ناقتك ولا غضاضة علي في هذا، لأننا عرفنا أن الرجل إنما من ليستكثر، والله (عز وجل) يقول لنبيه (صلى الله عليه وسلم): {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]. ومن فوائد الحديث: حُسن خلق النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث نزل كل إنسان منزلته، فأعطى هذا الرجل حتى رضي، وكان يوهب (صلى الله عليه وسلم) من أصحابه، ولم يكن يفعل معهم كفعله مع هذا الرجل.

صور العمرى والرقبى

صور العمرى والرقبى: (893) - وَعَن جابر (رضي الله عنه) قال: قال رَسول الله (صلى الله عليه وسلم): «العُمرى لِمنْ وهبَتْ لَهُ». مُتفق عليه. - ولمسلم: «أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا، ولعقبه». - وفي لفظٍ: «إنما العمرى التي أجازها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها». هو حديث واحد فيه بيان العُمرى والرقبى، العمرى: فُعلى مأخوذة من العمر، والرُّقبى على وزن َفُعْلى أيضا، مأخوذة من المراقبة، وكلاهما بمعنى واحد على القول الراجح، وهي أن يهب الإنسان شيئا لشخص هبة مُقيّدة بعمره، فيقول: وهبتك هذه عمرك، أو يقول: أعمرتك هذه أو أرقبتك هذه إذن فهي نوع من أنواع الهبة، لكنها مقيدة بالعمر، ولها ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يُصرح بأنها له ولعقبه، فيقول: أعمرتك هذا البيت لك ولعقبك. الصورة الثانية: أن يُصرح بأنها له مدة عمره فقط. فيقول: أعمرتك هذا البيت مدة حياتك ثم هو لي. هاتان الصورتان الأمر فيهما واضح في الصورة الأولى تكون للمعمر ولعقبه يجري فيها الميراث ويكون قوله: «هي لك ولعقبك» من باب التوكيد؛ لأن مقتضى الهبة أن تكون للموهوب له ولعقبه. في الصورة الثانية: أن يقول: هي لك ما عشت فإذا مت فإنها ترجع إليَّ أو يقول: هي لك ما عشت وليس لعقبك منها شيء هذه الصورة واضحة أيضا ترجع إلى المغير لأنه قيدها، بماذا قيدها؟ قيدها في حياته وأنه ليس لعقبه منها شيء، وهذه أشبه ما تكون بالعارية إلا أنها تختلف عنها بأنها لو تلفت فليس على المعمر ضمان، لأنها موهوبة له فى هذه المدة. الصورة الثالثة: أن يُطلق فيقول: أعمرتك هذا البيت فقط، فهذه المسألة تكون للمعمر ولعقبه، يعني: تكون كالصورة الأولى، يعني: أنها له ولعقبه فلا ترجع إلى المعمر، هذا هو الذي

يدل عليه حديث جابر (رضي الله عنه)، وهذا هو الموافق للقواعد العامة؛ لأن القواعد العامة أن المسلمين على شروطهم إلا شرطا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، فإنه يسقط. فلننظر الآن إلى الأحاديث يقول: «العمرى لمن وهبت له»: العمرى: هى الهبة المقيدة بالعمر «لمن وهبت له» يعني: ملكا وإذا كانت له فإنه يجري فيها الميراث، أنه إذا مات المُعمّر رجعت إلى ورثته على حسب الميراث، وهذا نصر صريح بأن العمرى لمن وهبت له، لكن المراد بها: العمرى المطلقة، يعني: التي لم تقيد بعمر المُعمر ولم تقيد بأنها له ولعقبه؛ لأنها لو قُيدّت بذلك فأمرها ظاهر، لكن إذا أطلق فيقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «لمن وهبت له؟ » قال: ولمسلم: «أمسكوا عليكم ... الخ» الخطاب هنا لمن؟ للمعمرين الواهبين، «ولا تفسدوها» يعني: بإخراجها عن ملككم فالمراد بالإفساد هنا ليس هو الإفساد الذي ضد الإصلاح، بل المراد إخراجها عن ملككم، يعني: أمسكوها ولا تخرجوها عن ملككم وذلك لأن العمرى يخرج بها الملك من المُعْمِر إلى المُعْمَر، ولهذا فرع عليها قوله: «فإنه من أعمر عُمرى فهي للذي أعمرها ... إلخ»، إذن لا تظن أنك إذا قلت: أعمرتك هذا البيت أن البيت سيرجع إليك، بل يكون للمعمّر، وحينئذٍ يفسد عليك كيف يفسد على المعمر؟ لأنه خرج عن ملكه، وفسد تصرفه فيه، لم يملك أن يتصرف، فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: تصرفوا على بصيرة فإنكم إن أعمرتم شيئا أفسدتموه على أنفسكم ونقلتم ملكه إلى المعمر حيا وميتا ولعقبه وقوله: «حياً» واضح أنه لو لم يكن حيا لكان ميتا و «لعقبه» كيف تكون هذه العمرى له ميتا ولعقبه؟ نقول: يمكن مثل أن يُوصي بجزء من ماله مثلاً إذا أوصى بثلث ماله ومن جملته هذه العُمرى صارت له ميتا، والثلثان للورثة لعقبه فكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: «هي له في حياته وبعد مماته ولعقبه»، أو يقال: له حيا وميتا فيما لو أوقفها على أعمال البر ومات فإن ثوابها يكون بعد موته له، أي: للمُعْمَر، أما عقبه فهو إذا أوقفها خرجت عن مُلكه وعن ملكهم أيضا، فصار قوله: «ميتا ولعقبه» لها صورتان: الصورة الأولى: أن يُوصى بالثلث فإذا أوصى بالثلث صار ثلث المعمّر داخلاً في الوصية، والثلثان للورثة. الصورة الثانية: أن يُوقف هذا الذي يعمره فيكون هذا وقفا في سبيل الله فحينئذ تكون له ميتا، وهل لعقبه منها شيء في هذه الصورة؟ ليس لعقبه منها شيء فيكون قوله: «ميتا ولعقبه» على وجه التوزيع، إما له خالصة إذا وقّفها، وإما لعقبة خالصة إذا لم يُوص بشيء فتكون كلها لعقبه. على كل حال: هذا الحديث يدل على أن العُمرى تكون ملكا تامًا للمُعْمَر يجري فيها الميراث، والوصية وكل شيء.

? ثم قال: وفي لفظ: «إنما العمرى التي أجازها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يقول: هي لك ولعقبك» يعني يقول: أعمرتك هذا البيت لك ولعقبك، وهذه هي الصورة الأولى التي ذكرناها المقيدة بأنها له ولعقبه، فأما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها. «ما» هنا مصدرية ظرفية يُحول الفعل معها إلى ظرف ومصدر فيكون التقدير مدة عيشك، فإذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها وهو المُعْمِر بالكسر، إذن ذكر في الحديث صورتين: الصورة المقيدة بأنها له ولعقبه، والصورة الثانية بأنها له ما عاش، وبقي علينا الصورة المطلقة التي يقول أعمرتك هذا البيت، ولا يقول: ما عشت، ولا يقول: لك ولعقبك، وهذه تكون هبة تامة للمعمر حيا وميتاً ولعقبه. خلاصة الكلام: أن العمرى نوع من أنواع الهبة، وأن لها ثلاث صور: تارة تُقيّد بحياة الإنسان، وتارة تُقيّد بأنها له ولعقبه، وتارة تُطلق فإذا قيدت بحياة الإنسان رجعت إلى المعمر، إذا قيدت بأنها له ولعقبه، فهي له ولعقبه أي: للمعمر ولعقبه، وإذا أطلقت فهي للمعمر ولعقبه. ولأبي داود والنسائي: «لا تُرقبوا ولا تُعمروا» الرُقبى هي: العُمرى، لكن سُمّيت بذلك، لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه، فإن المعمر أو المرقب يرقب موت المرقب إذا مات سوف ترجع إليه يقول: فمن أرقب شيئا أو أعمر شيئا فهو لورثته، يعني: من بعده، وهذا كالحديث السابق. يُستفاد من هذا الحديث فوائد: أولاً: أن العمرى والرقبى جائزة شرعا لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أجازها. ومن فوائده: اعتبار الشروط في العقود؛ لقوله في رواية مسلم: «هي لك ... إلخ» وهذا قد دل عليه القرآن ودلت عليه السُنة في مواضع كثيرة فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. والأمر بالإيفاء بالعقود أمر بإيفاء أصل العقد ووصفه الذي هو الشروط وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34]. وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرطه»، مفهومه كل شرط في كتاب الله فهو صحيح، وقال (صلى الله عليه وسلم): «المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحلّ حرامًا أو حرّم حلالاً»، وعلى هذا فالشروط في العقود جائزة ما لم تتضمن حرامًا فإن تضمنت حرامًا فهي حرام، لو قال المقرض مثلاً للمقترض: أقرضتك ألف ريال على أن تخدمني كل يوم ساعة هذا حرام، لماذا؟ لأنه أحل حرامًا، إذ إن المقترض لا يجوز أن ينتفع من المقرض بشيء حكم شراء الهبة:

حكم شراء الهبة

حتى الهدية لو أهدى إليه المقترض لا يجوز له قبوله، لأن كل قرض جر نفعًا فهو ربا، هذه القاعدة معروفة. ومن فوائد الحديث: إرشاد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى الاحتفاظ بالأموال في قوله: «أمسكوا عليكم أموالكم»، وهذا يدل بالمفهوم علي النهي عن إضاعة الأموال وقد دل عليه الكتاب والسُنة، قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. وقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]. وثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى عن إضاعة المال، وأن الإنسان يُسأل عن ماله فيما أنفقه، وهذا يدل على وجوب حفظ الأموال حتى لو كان الإنسان غنيًا لا يجوز له أن يبذر، كما قال الله تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67]. لما قال بين ذلك فيه احتمال أن يكون إلى التقتير أكثر أو إلى الإسراف أكثر، فإن كان إلى التقتير أكثر كان مذموما، وإن كان إلى الإسراف أكثر كان مذمومًا، ولهذا قيدها بقوله: {قَوَاماً} يعنى: مستقيمًا ليس فيه ميل إلى هذا ولا إلى هذا. ومن فوائد الحديث: أن الرقبى التي تمضي للمعمر أو للمرقب تكون إذا أطلقت، وإذا قيدت بأنها له ولعقبه، أي: في صورتين، وأنها إذا قيدت برجوعها إلى المرقب أو المعمر فإنها ترجع إليه. حكم شراء الهبة: (89) 4 - وَعَنْ عُمَرَ (رضي الله عنه) قَالَ: «حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك. فقال: لا تبتعه، وإن أعطاكه بدرهم ... ». الحديث متفقٌ عليه. قوله: «حملت على فرس في سبيل الله»، «حملت» لها مفعول محذوف تقديره: حملت ر جلاً على فرس، فالمعنى: أنه تصدق على هذا الرجل بفرس يُجاهد عليه في سبيل الله. وقوله: «فأضاعه» يعني: أهمله فلم يقم بواجبه يعني: أجاعه أعطشه ولا أعلفه، فضعف الفرس. وقوله: «فظننت أنه بائعه برخص» أي: بثمن قليل. وقوله: سألت الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك كأنه (رضي الله عنه) تردد في جواز شرائه بعد أن أخرجه في سبيل الله، فقال: «لا تبتعه» يعني: لا تشتره، وعندنا كلمتان: باع وابتاع، يعني: بذل الشيء بثمن، ابتاعه: اخله بثمن، ونظيرها شرى واشترى، شرى، يعني: باع، واشترى، يعني: أخذ،

عندنا أن شرى بمعنى اشترى، يقول القائل: شريت السلعة وهو قد اشتراها، وهذا لا يستقيم في اللغة العربية، بل يُقال: اشترى فإذا قال: شريت السلعة فالمعنى بعتها، ولهذا لو أن شخصا قال لك: يا فلان لماذا تشتري بيت فلان، وأنا لي فيه نظر؟ فقلت: والله ما شريته تكون بارا بيمينك، إذن في هذا تورية بناء على استعمال الناس لهذه المادة شرى أي: اشترى. وقوله: «وإن أعطاكه بدرهم» يعني: ولو كان بثمن رخيص، ومعلوم أنه لو طلب عليه ثمنا كثيرا ما اشتراه عمر، لكن يقول: لا تشتره بأي حال من الأحوال. تمام الحديث: «فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه»: الحديث الصورة فيه واضحة. في هذا الحديث فوائد كثيرة: منها جواز إيقاف الحيوان في سبيل الله لقوله: «حملت على فرس في سبيل الله» فإن الظاهر أنه أوقفه، ويُحتمل أنه (رضي الله عنه) تصدّق به على الرجل صدقة مطلقة على أنه ملكه. فإن قال قائل: أفلا يكون قوله (صلى الله عليه وسلم): «لا تعد في صدقتك، فإن العائد ... إلخ» أليس هذا يقوي أن عمر تصدق به على ذلك الرجل تمليكا؟ ! فالجواب: أن الوقف يُسمّى صدقة كما مر علينا في كتاب الوقف أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لعمر: «تصدق بثمره» فالوقف يُسمّى صدقة، على كل حال: سواء أوقفه عمر أو أعطاه هذا الرجل على أنه صدقة تمليك، فهو دليل على جواز ذلك. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن يشتري الإنسان صدقته، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عمر عن شراء هذا الفرس. ومن فوائده: أن الشراء نوع من الرجوع في الهبة أو الصدقة، وجهه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا تعد في صدقتك ... إلخ». فإن قال قائل: كيف يكون عودًا في الصدقة وهو قد اشتراه بثمن؟ فجوابه: أن العادة في مثل هذا أن المتصدق عليه يعطي المتصدق الشيء بأقل من ثمنه فإذا نقص الثمن فكأنه عاد ببعض الصدقة. مثاله: إذا قدرنا أن هذا الفرس يُساوي مائة درهم، فأراد عمر أن يشتريه بثمانين درهمًا فقد عاد بعشرين درهمًا يعني: خمس ما تصدق به، فهذا نوع من الرجوع في الصدقة، وكذلك لو وهبت شخصا هبة ثم اشتريتها منه فإنه لا يجوز لأن العادة تقتضي أن يخفض من الثمن لأنك أنت الذي مننت عليه فلا يمكن أن يُماكسك في الثمن، ويكون التنزيل نوعا من الرجوع، فإن قال قائل: ما تقولون فيما لو باعه بثمن المثل تمامًا بحيث إن هذا الفرس مثلاً نودي عليه في

السوق وسامه الناس ووقف ولم يزد فاشتراه الذي تصدق به هل تجوزون هذا؟ الجواب: قل نجوزه بناء على أن الرجوع في هذه الصورة لم يتحقق وقد تمنع منه سلا للذريعة، لئلا يتجاسر الناس على هذا الأمر، ويشترون ما تصدقوا به أو ما وهبوه بثمن أقل، لأننا لو قدرنا أن الثمن يكون مطابقا للقيمة في صورة من الصور فإن هذا قد لا يتأتى في جميع الصور يعني: أن يكون الواهب ورعًا لا يمكن أن يأخذه بأدنى من قيمته، لكن يأتى واهبون كثيرون يأخذونه بأقل من قيمته، فلذلك نقول: إن باب سد الذرائع وهي قاعدة معروفة عند الأصوليين والفقهاء أيضا تقتضي المنع مطلقا، أي: لا يشتريه ولو بثمن المثل. فإن قال قائل: لو أن هذا الرجل باعه على شخص آخر فهل يجوز أن يشتريه من الشخص الآخر؟ الجواب: نعم؛ لأنه انتقل منه على وجه الشراء، ويدل لهذا الأصل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دخل ذات يوم فوجد اللحم على النار، فقيل: إنه تصدق به على بريرة، فقال: هو لها صدقة ولنا منها هدية. ومن فوائد الحديث: ورع عمر (رضي الله عنه) حيث توقف في الأمر حتى سأل النبي (صلى الله عليه وسلم). ومنها: أن الله تعالى قد يعطي الإنسان الذي عُرف بالورع كرامة بحيث لا يقدم على شيء فيه حرج وشك، فإن عمر لو أقدم بسرعة على هذا الفعل لوقع في المحظور، لكنه من كرامة الله له أن توقف حتى يسأل (صلى الله عليه وسلم). ومنها أيضا: حرص الصحابة على العلم، ولكن الصحابة يحرصون على العلم ليعملوا به بخلاف ما كان الناس عليه من زمن بعيد، يحرصون على العلم حرصا نظريًا فقط لا عمليا، فتجده يحرص على العلم ويحقق المسألة، ويعرف الحكم، لكن لا يعمل بها، فهذه مشكلة، وهي موجودة الآن بكثرة عند الناس، وهذا يكون حجة عليه، وأنا أذكر لكم بالنسبة للورع قصة وقعت لشخص من الناس كان قد قطع أثلاً له، يعني: جرّه ولما جاء ليأخذه وإذا جاره قد قطع أثله أيضا، وجعله كومة إلى جنب كومة الرجل، فأناخ بعيره وحمل عليها الخشب وربطه وزجر البعير لتقوم فأبت أن تقوم لأنها حمل عليها حطب غيره، وكان الرجل معروفا بالورع والصلاح، فزجرها وضربها فأبت، فتعجب، ناقته يعرفها، فلما فكر وقعت عينه على خشبة وعرف أنه أخطأ وأنه حمل خشب غيره فأنزل الخشب وحمل خشبه، فلما انتهى بمجرد ما كلم البعير بأدنى زجر قامت ومشت! هذا شيء حُكي لنا، وهذا من حماية الله للإنسان فقد يحصل أن الله يُعسر عليه الشيء المحرم الذي يضره من حيث لا يشعر. قد يحرمك الله شيئا تحب أن يتحصل لك، لكن في النهاية يكون خيرا لك.

الحث على الهدية

الحث على الهدية: 895 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «تهادوا تحابوا». رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى بإسناد حسن. «تهادوا»: فعل أمر من الهدية، والمعنى ليهد بعضكم إلى بعض، وسبق لنا أن الهدية نوع من الهبة، ولكنه يقصد بها التآلف والتودد، ولهذا تُسمّى هدية. وقوله: «تحابوا»، فعل مضارع حُذفت منه إحدى التائين، والتقدير: تتحابون، وحُذفت النون منه، لأنه مجزوم على أنه جواب الأمر في قوله: تهادوا تحابوا يعني: أنكم إذا تهاديتم كان ذلك سببا للمودة فيما بينكم، فإن الهدية تُوجب المحبة إذا أهدى إليك شخص شيئا فإنك تحبه، هذه فطرة الناس التى فطرهم عليها، ومن ثمّ كان للمؤلفة قلوبهم نصيب من الزكاة؛ لأنهم إذا أعطوا منها أحبوا المُعطي وألفوه وازدادت قوة إيمانهم أو انكف شرهم إن أعطوا لكف الشر. يُستفاد من هذا الحديث: استحباب الهدية، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر بها، ولكن لابد لذلك من شروط: الشرط الأول: أن يكون المهدي قادرا عليها فلا يذهب يستدينها ثم يهديها كما يفعل بعض الناس يستدين قيمة الهدية ثم يهديها إلى تاجر أو أمير أو ملك يرجو من وراء ذلك أن يعطى أكثر ثم قد لا يُعطى ويُنسى، فلابد من هذا القيد. الشرط الثاني: ألا تكون عونا للمهدى إليه على معصية الله، فإن كان يُهدي إلى هذا الشخص ثم يذهب المهدى إليه فيشتري بها شيئا محرمًا، فإنه لا يجوز الإهداء إليه، لأن القاعدة الشرعية أن ما ترتب عليه الإثم فهو إثم لقول الله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] هذا بالنسبة للمهدى لابد أن يكون واجداً، ولابد ألا يستعين المهدى إليه بها على شيء محرم، بقي علينا قبول الهدية هل يُشرع للإنسان أن يقبل الهدية أو أن يردها أم ماذا؟ سبق لنا حديث عائشة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) «كان يقبل الهدية ويثيب عليها»، وعلى هذا فنقول: يُسن للإنسان قبول الهدية إذا كان يريد أن يثيب اقتداء برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وسبق لنا هناك أنه يُشترط للقبول ألا يخاف الإنسان منة المهدي، فإن خاف أن يمن عليه فإنه لا يلزمه القبول، ولا يشرع له القبول؛ لأن بعض الناس إذا أهدى هدية صار يمن بها على المهدى كلما جلس معه مجلساً، قال: يا فلان لا تنس هديتي ذلك اليوم، فيكسر على رأسه البيض، وهو قد أهدى إليه، هذا لا يلزمه

القبول، بل ولا يشرع له، إذن نقول للمُهدّى إليه: إذا كنت تخشى أن يمن عليك هذا المُهدي فإنه لا يُشرع لك أن تقبل لئلا يؤذيك ويشترط لقبولها أيضا ألا تعلم أو يغلب على ظنك أنه إنما أهداها حياء أو خجلاً، فإن علمت أو غلب على ظنك أنه أهدى حياء أو خجلاً، فإنه لا يجوز لك أن تقبل، ولكن هل تقول: أنا لا أقبل الهدية، لأنك ما أعطيتني إلا خجلاً أو تردها بردّ لطيف؟ الثاني، لكن أنت إذا علمت أن هذا الرجل لم يهد إليك الهدية إلا خجلاً منك أو حياء: فقل يا أخي جزاك الله خيرا أنا مستغنٍ عنها وأنت ربما تكون أحوج بها وكلامًا لطيب خاطره. ومن فوائد الحديث: أن الهدية سبب للمحبة؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) جعل ذلك جوابًا للأمر بها في قوله «تهادوا». ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يفعل كل ما فيه جلب المودة بينه وبين الناس سواء في الهدية أو في لين الجانب أو في الكلام الحسن أو في طلاقة الوجه، كل ما يوجب المودة بينك وبين الناس فافعله بقدر المستطاع، ولكن يعتري الإنسان أحيانا حالات قد لا يكون فيها على الوجه الذي ينبغي، فمثل هذه الحال ينبغي له أن يعتذر لصاحبه، أحيانا قد يكلمك شخص وأنت مثلاً مشغول فكريا أو مشغول بدنيًا أو مشغول اجتماعيا بشيء لا يمكنك أن تنبسط مع هذا الرجل فحينئذ ينبغي أن تعتذر منه من أجل أن يطيب قلبه وتقضي حاجتك أنت. قال: رواه البخاري في «الأدب المفرده وهو كتاب للبخاري غير الصحيح، وقد جمع فيه (رحمه الله) أحاديث جيدة في الأخلاق والسلوك لكنها ليست في الصحة كالصحيح؛ ولهذا قال المؤلف هنا: وأبو يعلى بإسناد حسن مع أن البخاري هو الذي رواه. ? ? ? - وعن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «تهادوا، فإن الهدية تَسُلُّ السخيمةَ». رواه البزار بإسناد ضعيف. «تهادوا» أي: ليهد بعضكم إلى بعض، وهذا أمر ثم علل هذا الأمر بقوله: «فإن الهدية تسل السخيمة»، وهي: الضغينة والحقد والكراهة، وهو بمعنى الحديث الأول، «وتسل السخيمة» أي: تذهبها فإن الإنسان قد يكون في قلبه شيء عليك فإذا أهديت إليه شيئا فإنه يزول عنك ما في قلبك، ولكن يشترط في هذه الهدية، وهو ينبغي أن يكون في الحديث السابق - ألا تكون الهدية سببًا لترك واجب أو فعل محرم، فإذا كانت سببًا له فهي ممنوعة، وهذا يتصور فيما لو أهدى

إليك رجل من التجار هدية، وهو ممن يتعامل بالربا من أجل ألا تنكر عليه فهنا لا يجوز لك القبول؛ لأنه متى كانت الهدية وقاية لدينك فلا تقبلها، وهذا يقع كثيرا، فإن بعض الناس يُماكس بعض العلماء على مسائل الدين فيكثر لهم من الهدايا، من أجل أن يسكتوا عنه، فإذا كانت الحال هكذا فإنه لا يجوز قبول الهدية، لأنك صرت الآن بعت دينك بها، اشتريت بآيات الله ثمنا قليلاً، لكن هذين الحديثين على ما فيهما من ضعف معناهما صحيح، لا شك أن الهدية تجلب المودة وتذهب السخيمة. (897) - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة». متفقٌ عليه. قوله (صلى الله عليه وسلم): «يا نساء المسلمات» من باب إضافة الموصوف إلى صفته، يعني: يا أيتها النساء المسلمات، وخص النداء بنساء المسلمات؛ لأن المرأة المسلمة هي التي يحملها إسلامها على قبول ما جاء به النبي (صلى الله عليه وسلم)، فهو من باب الإغراء والحث على قبول ما أمر به (صلى الله عليه وسلم). وقوله: «لا تحقرن»، هذا نهي، وفيه إشكال من حيث الإعراب؛ لأن المعروف أن «لا» الناهية تجزم الفعل، وهنا الفعل آخره الراء وهو غير مجزوم بل هو مفتوح ولننظر ماذا تقولون؟ لأنه مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، لكن يرد على هذا قوله تعالى: {ثُمّ لَتُسْأَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ} [التكاثر: 8]. فإن الفعل هنا متصل بنون التوكيد ولم يُبْنَ؟ إذن نقول: يبنى على الفتح إذا كانت مباشرة لفظا وتقديرا، وهذه لفظا لا تقديرا يقول: «لا تحقرن جارة لجارتها»، الجارة: هي القريبة وليس المراد بالجارة: الضرة، يعني: الزوجة الثانية للزوج المراد بالجارة هنا القريبة قال: «ولو فرسن شاة»، فرسن الشاة هو للغنم بمنزلة الخف للإبل، وهو مما يضرب به المثل في القلة والزهد فيه، والحديث يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «لا تحقر المرأة أن تهدي لجارتها شيئا من بيتها ولو كان شيئا قليلاً مثل فرسن الشاة». فنستفيد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يهدي لجيرانه ولو شينَا قليلاً وقد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «إذا اشتريت لحمًا فأكثر مرقها وتعاهد جيرانك»، حتى في هذا الأمر، وذلك لما يترتب عليه من الفائدة وهي الألفة بين الجيران، ولا شك أن الألفة بين الجيران فيها مصالح كثيرة منها: التعاون على البر والتقوى فيما إذا كان أحدهما مقصراً، ومنها: الحماية والرعاية، لأن جارك يحميك.

ومنها: التغاضي عن الحقوق إذا كان بينك وبينه حق ومعلوم أن الجار بينه وبين جاره حق فإذا كنت تهدي إليه ويهدي إليك تغاضى عن حقوقك وتغاضيت أنت عن حقوقه. ومنها: أن الإنسان ينال بها كمال الإيمان لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره». ولهذا أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بالهدية إلى الجيران حتى في الشيء القليل. ومنها جواز هدية المرأة من بيت زوجها للشيء اليسير لقوله: وجارة لجارتها، والعلماء (رحمهم الله) قيدوا ذلك بشرط ألا يكون الزوج بخيلاً لا يرضى فإن كان بخيلاً لا يرضى فإنه لا يجوز لها أن تُهدي شيئا من بيت زوجها حتى ولو قليلاً وقد كان بعض النساء المجتهدات المحبات للخير تُهدي الشيء القليل ولو كان الزوج قد نهاها وتقول: إنه يفسد؛ لأن بعض الأزواج يقول لزوجته: لا تهدي شيئا أبداً ولو فسد الطعام، فمن النساء من تقول: إذا كان يفسد فأنا سأهدي، وجوابنا على ذلك أن نقول لها: لا يحل لكي أن تهدي إذا نهاك عن الهدية، لأن المال ماله، والبيت بيته، والإثم الحاصل بفساد هذا المال عليه هو، أما أنت فليس لك الحق، لكن في هذه الحال ينبغي لها أن تعظه وتخوفه من الله فإذا بقي شيء من الطعام الذي يفسد لو بقي تحثه على أن يتصدق به، وهذا يقع كثيرا فيما إذا كان عند الزوج وليمة، أما إذا كانت المسألة عادية، فإنه يمكنها أن تجعل الطعام بقدر الحاجة فقط، وحينئذ لا يبقى شيء في الغالب، لكن إذا كان هناك دعوة فربما يبقى شيء كثير. ومن فوائد الحديث: جواز صدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها، وجهه أنه إذا جاز أن تتصدق من مال زوجها اليسير فمن باب أولى أن تتصدق بشيء من مالها. (898) - وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «من وهب هبه؛ فهو أحق بها ما لم يثب عليها». رواه الحاكم وصححه، والمحفوظ من رواية ابن عمر، عن عمر قوله. يعني: المحفوظ أنه موقوف وليس بمرفوع، موقوف على عمر يقول: «من وهب هبة فهو أحق بها»، هذا ليس على إطلاق بل المراد من وهب هبة ثواب فهو أحق بها ما لم يُثب عليها، وذلك أن الهبة على نوعين: نوع يُراد به الثواب، فهذه حكمها حكم البيع إذا لم يحصل لك الثواب فلك أن تردها، ونوع يُراد به التبرع المحض، فهذه تكون ملكا للموهوب له سواء أثابك أم لم يثبك، فيحمل هذا الحديث على النوع الأول أي: على الهبة التي يريد بها المهدي الثواب.

19 - باب اللقطة

فإذا قال قائل: ما الذي يدرينا أنه أراد الثواب، أو التبرع المطلق؟ نقول: القرينة، فإذا جاءنا رجل فقير أهدى لشخص غني، فهنا القرينة تدل على أنه أراد الثواب، فإذا لم يثبه فهو أحق بهبته يرجع بها، لكن إذا كانت الهبة بين شخصين متساويين فإن الظاهر أنها ليست للثواب، وأنها تبرع محض، لكن إذا قامت قرينة تدل على أنها ثواب، فإنه يردها إذا لم يثب عليها. يُستفاد من الحديث: أن هبة الثواب إذا لم يثب عليها الواهب فإنه يرجع فيها. ومن فوائده: العمل بالقرائن، لأننا لا نعلم أنها هبة ثواب إلا بقرينة، أما لو صرح وقال: سأهدي عليك هذا الكتاب لتهدي علي كتابك فهذا بيع محض، لكن إذا لم يصرح ودلت القرينة على أنه للثواب عمل بها. 19 - باب اللقطة اللقطة: على وزن فعلة، وهي بمعنى الشيء الملقوط، وفسرها أو عرفها الفقهاء بأنها: «مال أو مختص ضل عن ربه أو أضاعه ربه»، المال: ما يصح عقد البيع عليه، والمختص: ما لا يصح عقد البيع عليه، فالكلب المعلم مختص، فإذا وجد الإنسان كلبًا معلمًا فهو لقطة، وهو مختص يعني: لقطة بالمعنى العام، وإن كان يُسمّى ضالة وإذا وجد كتابًا فهو مال، إذن ما أضاعه ربه من ماله المختص فإنه لقطة، فإذا كان حيوانا فله اسم خاص وهو الضال. واللقطة تنقسم إلى ثلاث أقسام: قسم يملكه الإنسان بمجرد ما يجده: وهو الشيء اليسير الزهيد الذي لا تتبعه همة الناس مثل الريال والريالين، هذه متى وجدها الإنسان فهي له ما لم يعلم صاحبها، فإن علم صاحبها فهي لصاحبها، لكن إذا لم يعلم فهو لمن وجده، ومثل القلم الذي قيمته ثلاثة ريالات وريالين هو لمن وجده ما لم يعلم صاحبه. القسم الثاني: الحيوان. والقسم الثالث: ما عدا ذلك، وإن شئتم جعلنا الحيوان قسماً مستقلاً، وقسمنا غيره القسم الثاني ما تتبعه همة أوساط الناس فهذا نقول: يُعرفه الإنسان الواجد له مدة سنة فإذا جاء صاحبه، وإلا هو للواجد كالدراهم الكثيرة، والكتب الثمينة، والآلات الثمينة، والحلى وما أشبه ذلك، ولكن أحيانا يكون الشيء مما يسرع إلي الفساد بمعنى: أن لو بقي إلى سنة لفسد فحكمه أنه يبيعه الواجد ويحفظ ثمنه ويُعرفه سنة، فإن جاء صاحبه وإلا فهو له، مثل أن يجد كيسا من

الخضروات يساوي خمسة ريال، فهذا لو أبقاه لمدة سنة لفسد فنقول: عرفه تمامًا ثم بعه واحتفظ بقيمته، ثم ابحث عن صاحبه لمدة سنة، فإن جاء صاحبه وإلا فهو لك، القسم الثالث: الحيوان، وهو ينقسم إلى قسمين: بل إن شئت فقل إلى ثلاثة. القسم الأول: حيوان أعلم أنه مُسيب متروك فهذا لمن وجده كشاة هزيلة لا تستطيع المشى أعرف أن صاحبها بمقتضى العادة قد تركها زهدا عنها، فهذه تكون لمن وجدها لأن صاحبها لا يريدها، كما في حديث جابر قال: أردت أن أسيبه. القسم الثاني: ما لا يعلم أنه مُسيّب ولكنه يمتنع من صغار السباع مثل الإبل، فهذا لا يجوز التعرض له يُترك كما سيأتي. القسم الثالث: ما لا يعلم أنه تركه رغبة عنه، ولكنه لا يمتنع من صغار السباع، مثل الغنم، فهذا أيضا سيأتي حكمه وبيانه إن شاء الله. 899 - عن أنس (رضي الله عنه) قال: «مَرَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) بتمرة في الطريق، فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها». متفق عليه. أي طريق هذا؟ طريق من طرق المدينة، والمدينة تجبى إليها زكاة التمور، فمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بتمرة في الطريق فأراد أن يأخذها ليأكلها، فقال ... إلخ، الصدقة يعني: الصدقة الواجبة؛ لأن هذا هو المعروف فيما يُجبى من التمر أنه يُجبى الشيء الواجب، وقوله: «لأكلتها»، لأنها مباحة لا تتبعها همة أوساط الناس ولا يهتمون فيأكلها، لأنها لمن وجدها، وإنما قال: لولا أن أخاف أن تكون من الصدقة، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يحرم عليه أكل الصدقة الواجبة والمستحبة أيضا، وأما آل النبي (صلى الله عليه وسلم) فإنها لا تحرم عليهم صدقة التطوع على القول الراجح، وإنما يحرم عليهم الصدقة الواجبة. في هذا الحديث: دليل على أن من وجد شيئا ليس له أهمية عند الناس فهو له، وجه الدلالة أنه قال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها»، والمانع هذا لا يتأتى في كل أحد، فدل ذلك على أن وجودها سبب لتملكها إلا أن يوجد مانع. ومن فوائد الحديث: شدة ورع النبي (صلى الله عليه وسلم)، لأنه خاف أن تكون من الصدقة فلم يأكلها.

ولكن قد يقول قائل: هل لنا في هذا أسوة؟ بمعنى أننا إذا وجدنا شيئا نشك في تحريمه، والأصل عدم التحريم أي: أن ندعه خوفا من أن يكون محرمًا؟ يُقال: إن كان هناك قرينة تقتضي أن يكون من الشيء المحرم فالورع تركه، وإلا فإنه لا وجه لتركه، ويدل لذلك ما ثبت في البخاري عن عائشة أن قومًا سألوا النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سموا أنتم وكلوا». قالت: وكانوا حديث عهد بكفر فلم يأذن لهم في التورع منه؛ لأن الأصل الحل فالجمع بين هذا وهذا بأحد وجهين، إما أن يقال: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) له مقام لا يساويه أحد في تورعه (صلى الله عليه وسلم)، وإما أن يقال إن النبي (صلى الله عليه وسلم) وجد قرائن تدل على أنها من الصدقة، وأنه إذا وجدت قرائن في الحرام فالورع تركه، أما على الوجه الأول وهو أنه يفرق بين قوي الورع وبين عامة الناس فإن في النفس منه شيئا، وإن كان الإمام أحمد في ظاهر فتواه يدل على ذلك على أن الناس يختلفون في تجنب الشيء ورعا منه، فإنه يذكر عنه أنه سألته -أظن- رابعة العدوية قالت: إن السلطان يمر بنا ونحن نغزل في الليل وأنه إذا مر ازداد الغزل من أضواء سرج السلطان فهل تُجوز لنا هذه الزيادة؟ فتعجب الإمام أحمد من هذا السؤال فقال: نعم، لأن السلطان مار بالسوق، على كل حال وأنتم ما ذهبتم تقصدون الاستضاءة بنور سرجه، ثم أدبرت فدعاها؛ لأنه سأل صاحبه قال: من هذه؟ فقال: هذه فلانة فدعا بها وقال: لا تزيدي غزلكم فإن بيتكم خرج الورع فهذا يدل على أن الفتوى في هذا الأمر تختلف، أما إذا قلنا بالثاني وهو أنه كان عند النبي (صلى الله عليه وسلم) قرينة تدل على أنه من الصدقة فالأمر ظاهر، وهو أنه كلما قويت القرائن كان الورع تركه. ومن فوائد الحديث: أن التمر والطعام إذا وقع في الطريق بدون قصد فإنه لا يأثم صاحبه، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر ذلك، واستشكل بعض العلماء هذا الحديث من وجه وقال: كيف لم يرفعها النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يحتفظ بها؛ لأنها إن كانت من الصدقة فهي من مال بيت المسلمين، وإن كانت من غير الصدقة فإنه ينتفع بها يتصدق بها على فقير، المهم ينتفع بها، فلما لم يرفعها النبي (صلى الله عليه وسلم) والجواب على هذا الاستشكال أنه في غير محله لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يقل: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة» لرفعتها بل قال: «لأكلتها»، وفرق بين الرفع والأكل، فالحديث ليس فيه دليل على أنه لم يرفعها، بل لو قال قائل: إن فيه دليلاً على أنه رفعها لكان له وجه، على هذا يكون هذا الاستشكال غير وارد. أتى المؤلف بهذا الحديث في هذا الباب ليستدل به على ما ذكرنا آنفا من أن الشيء القليل

الذي لا يهتم به الناس فإنه يملكه من وجده، ولكنا اشترطنا ألا يعلم صاحبه فإن علم صاحبه وجب عليه أن يسلمه له، أو على الأقل يعلمه به، فيقول: وجدت لك كذا وكذا، وهذا يقع كثيرا، مثل: سقط من بيت جارك طاقية فأطارتها الريح إلى بيتك، طاقية تساوي ريالين لكنك تعلم صاحبها فيجب عليك أن توصلها إياه، أو أن تعلمه بها تقول: سقطت علينا طاقية من البيت. 900 - وعن زيد بن خالد الجهني (رضي الله عنه) قال: «جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فسأله عن اللقطة؟ فقال: اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها. قال: فضالة الغنم؟ قال: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب. قال: فضالة الإبل؟ قال: ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها». متفق عليه. قوله: «جاء رجل» يرد في الحديث كثيرا إبهام الرجل أو إبهام المرأة، وذلك أن تعيينها لا يتعلق به حكم، فإذا تعلق به حكم فإنه لابد من ذكره، لكن اذا لم يتعلق به حكم وكان المقصود بيان حكم هذه القضية فإن الصحابة (رضي الله عنهم) وكذلك من بعدهم من الرواة لا يهتمون بتعيين المبهم، فقوله: «جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، لو قال لنا قائل: عينوا هذا الرجل نقول: إنه ليس بنا حاجة إلى تعيين أو عدم تعيينه لا يختلف به الحكم فسأله عن اللقطة يعني: ماذا يصنع بها؟ واللقطة سبق لنا تعريفها وهي: مال أو مختص ضل عن ربه يعني: ضاع عن صاحبه سأله عنها فقال: «اعرف» وإذا فسرناها بالتفسير الذي سمعتم صارت بمعنى اسم المفعول أي: لقطة بمعنى ملقوطة فقال: «اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة»، الوعاء: الوعاء التي فيه هذه اللقطة الكيس مثلاً، وكاءها: ما تربط به من حبل أو غيره قد تكون مربوطة بحبل أو بإزرار، المهم أن المراد بالوكاء: ما تربط به، وقوله (صلى الله عليه وسلم): «اعرف عفاصها» يتناول معرفة العفاص من أي مادة هل هو من جلد أو خرق أو بلاستيك أو ما أشبه ذلك، وهل هو ثخين أو رفيع وهل هو أحمر أو أسود، المهم اعرف نوعه وصفاته، ويمكن أن نقول هل هو كبير زائد على ما فيه، أو صغير ضيق بما فيه كل هلا لابد من معرفته، الوكاء يعرف هذا، الوكاء من أي نوع وكم شداً شُد؟ يعني: هل شُد مرتين أو ثلاثا، وهل هو ربط شديد، أو ما أشبه ذلك؟ والحكمة من ذلك من معرفة العفاص والوكاء من أجل أن يضبط صفاتها، حتى إذا جاء من يصفها بعده سلمها له. فإن قال قائل: ألا يكفي أن يحفظها عن معرفة العفاص والوكاء؟ قلنا: نعم، ربما يكفي لكن قد تتغير الأمور وينسى عينها، يعني: عنده أشياء لها عفاص ووكاء تخلط به فينساها أو ربما تحترق العفاص ويتلف الوكاء، المهم أن معرفة ذلك أمر مهم.

فإن قال قائل: هل يلزمه أن يكتب هذا؟ قلنا: إن توقفت معرفة ذلك على كتابته وجب عليه؛ لأن ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب، قال: «ثم عرفها سنة»، يعني: اطلب من يعرفها، هذا معنى التعريف، بأن يقول: من ضاعت له اللقطة، من ضاعت له الدراهم، من ضاعت له الأقلام، من ضاعت له الساعات؟ وما أشبه ذلك، ولكن هل يصفها عند التعريف؟ لا، لئلا يدعيها من ليست له لكنه يجملها، في هذا الحديث لم يقل الرسول (صلى الله عليه وسلم): اعرف عددها أو نوع ما فيها من النقود قد يكون فيها دولارات وقد يكون فيها ريالات تالفة فيقال: المفروض أن الواجد لا يفتحها لأنها أمانة وليس له الحق أن يفتحها، لكن إن قدر أنها تخرقت الخرقة أو تمزقت فحينئذٍ يعدها ويعرف عددها، وقوله: «عرفها سنة»، أي سنة هي؟ السنة العربية الإسلامية اثنا عشر شهراً وهذه السنة هي السنة التي وضعها الله لعباده {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [التوبة: 36]. إلى يوم القيامة {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]. وهذه الأشهر هي الأشهر التي تتقيد بالأهلة لقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. إذن السنة اثنا عشر شهرا في كتاب الله والمراد بالشهر للشهر ما بين مطلع الهلالين بدليل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. وبذلك نعرف سفه قوم من العرب المتأخرين حيث عدلوا عن التوقيت العربي الإسلامي إلى توقيت جاهلي نصراني؛ لأن التوقيت الذي يسمّى الميلادي مبني على ميلاد عيسى بن مريم (عليه الصلاة والسلام) فالذين وضعوه النصارى، ويا عجبا لقوم يقولون: إنهم عرب ثم ينتسبون أيضا إلى الإسلام ثم يعدلون عن التوقيت العربي الإسلامي إلى هذا التوقيت! وهذا -أيها الإخوة- يعطي الكفرة - من النصارى وغيرهم- زهوا وعلوا واستكباراً علينا، حيث عدلنا عن تاريخنا العربي الإسلامي إلى تاريخهم! والتاريخ ليس بالأمر الهين، بل إنه يعتبر عزا للأمة وفخر، فإذا انضم الناس إليه فإنهم بذلك يكسبونهم ويقولون: آل بهم الأمر إلينا، ولما كانت هذه الأمم العربية التي تُنسب للإسلام وتنطوي تحت لوائه، لما كانت مقهورة مستعمرة من الكفار فإنها قد تكون معذورة؛ لأن المغلوب المقهور لا يستطيع أن يتصرف، ولكن مع الأسف أنها حين تحررت من الاستعمار لم تُعد إلى أصلها وشرفها بالدين الإسلامي وبالتوقيت الإسلامي وبقيت على ما كانت عليه وهذا والله يندي له الجبين أن نكون أمة ذيلاً لغيرنا حتى في التاريخ الإسلامي نعدل عنه لنؤرخ بتاريخ نصراني، ولقد حدثني بعض الناس الذين قدموا للتدريس هنا وهم من غير السعوديين قال: والله ما عرفت الأشهر العربية إلا حين جئت لهذا البلد وهو يدرس، يعني: عمره ذهب منه جزء كبير، وهو لا يعرف الأشهر العربية الإسلامية،

فلهذا ينبغي لنا أن نكون أمة لنا شخصيتنا ولنا مقوماتنا ولنا تاريخنا، وألا نكون أذيالاً لغيرنا وإذا اضطررنا إلى أن نؤرخ بتاريخهم نظرا لانفتاح الناس بعضهم على بعض، فمن الممكن أن نجعل الأصل التاريخ الإسلامي العربي ونقول: الموافق لكذا، ليس فيه مانع أما أن نمحو التاريخ الإسلامي ولا يعرف ثم نجعل بديلاً عنه هذا التاريخ النصراني، فلاشك أن هذا خطأ عظيم، ولقد نص الإمام أحمد أنه كره هو نفسه أن يؤرخ بأشهر الفرس، وهو إذا قال: أكره فهو عند أصحابه للتحريم، فالحاصل أن السُنة إذا أطلقت فالمراد بها: السنة الإسلامية العربية، وهي السنة الهلالية التي مدتها اثنا عشر شهرا، والشهر مربوط بالأهلة، وهو ما بين الهلالين {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. والعجيب أن هذه الأشهر النصرانية مبنية على أوهام ليست حقائق؛ لأن بعضها ثمان وعشرون، وبعضها واحد وثلاثون، فعلى أي أساس، والعجيب أني رأيت في كتاب، ما أنهم هموا بأن يجعلوا السنة اثنا عشر شهرا حسب سير الشمس، لكن يجعلون الأيام متساوية قالوا: لأنه أضبط فقامت الكنيسة عليهم باسم الدين قالوا: لا يمكن أن تغيروا دعوها على ما هي عليه من عوج ولا تغيروها، لأن تغيير التاريخ ليس هينا لاسيما ونحن الآن إذا غيرنا التاريخ سنغيره من أشرف مناسبة وهي الهجرة إلى مناسبة يتخذها النصارى عيدا لهم، وهي ميلاد عيسى ابن مريم (عليه الصلاة والسلام) وحينئذ ربما يأتي اليوم الذي نجعل هذا عيدا لنا نصنع ما يختص بالعيد، وقد قال ابن القيم (رحمه الله): من هنأهم بأعيادهم فإنه إن لم يكفر فقد أتى أمرا عظيما، قال: لأن التهنئة بأعيادهم -والأعياد مواسم دينية- رضا بالكفر، قال: وهو أعظم من أن يهنئهم بالسجود للصنم، لو واحد يسجد للصنم، وقلت له: تقبل الله وهنأته، يقول: هذا أشد من التهنئة بالأعياد، وأشد من تهنئته بشرب الخمر، لو وجدت واحد يشرب الخمر من النصارى وقلت له: هنيئا مريئا تهنيه بهذا يقول: تهنئتهم بعيدهم أشد؛ لأنه إشعار بالرضا بالكفر، وهذا أمر عظيم، وقد بلغني أن من المسلمين -مع الأسف - من يهنئهم بأعيادهم بل من يسافر إلى بلادهم يشاركهم الأفراح بهم، نعوذ بالله- تستعينون بنعم الله المال الذي أعطاه الله على معصية الله، نسأل الله لنا ولكم الهداية. ثم قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «فإن جاء صاحبها» يعني: في هذه المدة مدة السنة، وإلا، يعني: وإلا يأتي فشأنك بها نقرأ شأنك بالفتح وبالضم، فإن كانت بالضم فهي مبتدأ والجار والمجرور بعدها خبر، وإن قرأت بالفتح فهي مفعول لفعل محذوف تقديره: الزم شأنك بها أو اتبع شأنك بها، وفي هذه الجملة حذف فعل الشرط وبقاء أداة الشرط، لأن قوله: «وإلا»، يعني: وإلا يجيء صاحبها، وإنما جاز حذف فعل الشرط مع بقاء أداة الشرط، لأنه معلوم، وقد ذكر ابن مالك (رحمه الله) قاعدة في المحذوفات في باب المبتدأ والخبر فقال:

(وحذفُ مَا يُعلم جائز كما ... تقول زيد بعد من عندكما) كل ما يُعلم فحذفه جائز، قوله: «فإن جاء صاحبها» من صاحبها؟ الذي يعرفها ويقول: ضاع لي كذا وكذا، ويصف العفاص والوكاء، ويصف نوع ما فيها، وجنسه وقدره إن كان معدودًا، المهم أنه لابد أن يضبطها بصفات لا تتجاوزها، وهل يلزم أن يذكر صاحبها الزمن أو لا يلزم؟ لا يلزم ذكر الزمن ولا ذكر المكان، وذلك لأنها قد تسقط منه في أول يوم من الشهر مثلاً، ولا توجد إلا في اليوم العاشر من الشهر، كذلك أيضا ربما لا يدري في أي مكان تسقط يكون قد مشى من طرف البلاد إلى طرفها وسقطت منه في وسط البلد، أو في طرف البلد الشرقي أو في طرفها الغربي، فالمكان والزمان ليس ذكرهما شرطا، المهم العفاص والوكاء إذا احتيج إلى ذلك. وقوله: «وإلا فشأنك بها»، يعني: أن الأمر إليك فتدخل في ملكك ويكون التصرف فيها كما يتصرف في ملكه، وذلك بعد السنة، وقد أطلق النبي (صلى الله عليه وسلم) التعريف، لم يقل: عرفها سنة كل يوم، ولا كل أسبوع، ولا كل شهر، فيرجع في ذلك إلى العُزف بناء على القاعدة المعروفة: أن ما لا يُحدّ شرعا فمرجعه إلى العرف، وعلى هذا قول الناظم: (وكل مَا أتى وَلَم يُحَدد ... بالشرع كالحرز فبالعرفِ احدُدِ) يقول: «قال: فضالة الغنم؟ » من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، أي: فالغنم الضالة يعني: ماذا أفعل بها فهي مبتدأ والخبر محذوف، فضالة الغنم يعني: ماذا أصنع فيها، والضالة من الغنم هي: الضائعة التي لا تعلم أين تتجه، أما إذا كانت الغنمة ماشية في طريقها إلى أهلها، فإنه لا يقال إنها ضالة، فلو وجدت شاة في زقاق في البلد تمشي ليست واقفة ولا تتردد يمينا ويسارا، فلا يُقال عنها إنها ضالة، لماذا؟ لأن القرينة تمنع أن تكون ضالة، حيث إنها سائرة في طريقها، وكثير من الغنم تخرج تأكل من الأسواق ثم ترجع إلى أهلها إنما الكلام على الضائعة. قال: «هي لك أو لأخيك أو للذئب»، «هي لك» الخطاب لمن وجدها، يعني: لك أيها الواجد، أو لأخيك يعني: صاحبها أو غيرك ممن يجدها بعدك، فالمراد بأخيك: من هو أعمُ من صاحبها، «أو للذئب»، الذئب المعروف الذي يأكل الغنم، وهذا ليس خاصا بالذئب، المراد بذلك: ما يأكل الغنم سواء كان ذئبا أو سبعًا آخر كالنمر والأسد، المهم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذكر الذئب، لأنه الغالب في الجزيرة العربية، وإلا فغير الذئب مثل الذئب، هي لك إن أخذتها أو

لأخيك إن تركتها وسلمت من الذئب إن تركتها وأكلها الذئب، إذا أكلها الذئب فعلى من يكون الضمان؟ ليس على الذئب ضمان، وإن أكلتها أنت فليس عليك ضمان، أو لأخيك كذلك إن أكلها أخوك فلا ضمان عليه، لأنه لا يضمنها الذئب، فكذلك ابن آدم لا يضمنها، هذا هو ظاهر الحديث، وهو ما ذهب إليه أهل الظاهر، وهم دائما يذهبون إلى الظاهر، فيقولون: هي لك ملكك، لأخيك ملكه، للذئب ملكه، وإن كان لا يملك، فهو لا يضمن وأنت كذلك إذا أكلتها لا تضمن، لأن إتلافك أنت خير من إتلاف الذئب، فإن إتلاف الذئب لا ينتفع به الآدمي، وإتلافك أنت ينتفع به الآدمي، ولا شك أن هذا ظاهر الحديث، هذا ما ذهب إليه أهل الظاهر استنادا إلى ظاهر الحديث، ولكن المشهور عند الفقهاء أن الحديث ليس على ظاهره، قالوا: هي لك إن لم يأت صاحبها بعد تعريفها سنة؛ لأنه إذا كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذكر أن اللقطة تُعرف سنة، فلا فرق بينها وبين الضالة، لأن كلاً منهما مال محترم قد ضاع عن صاحبه، فإذا كان كذلك فإن الحكم فيهما سواء فتُعرف ضالة الغنم، تُعرفها سنة، فإن جاء صاحبها فهى له، وإن لم يأت فهي لك. إذا قال قائل: إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فرق بينهما في سياق واحد، فكيف يصح القياس مع تفريق الشرع بينهما في سياق واحد؟ فالجواب: -والعلم عند الله-: أن البهيمة - أي: الضالة من الغنم - لا تبقى كما يبقى المال، لأنها تحتاج إلى إنفاق وربما يكون الإنفاق عليها أضعاف أضعاف قيمتها، فالإنسان الواجد محتاج إلى أن يبادر بذبحها فمن ثم قال: «هي لك أو لأخيك أو للذئب»؛ لأن صاحبها الذي وجدها لن يبقيها لمدة سنة فإنها قد ترهقه بالنفقات، فإذا رجع على صاحبها ربما يكون قد أنفق عليها أكثر من قيمتها، ولهذا نقول: إن واجدها لا يجوز أن يبقيها ويُنفق عليها ما لم يعلم أن الإنفاق عليها خير من بيعها أو ذبحها، وإلا فلا يجوز له لأنه مؤتمن، والمؤتمن يجب عليه أن يفعل ما هو أصلح وأنفع. قوله: «لك أو لأخيك» الكلام هنا في الضالة أما المعلوم صاحبها فإنها للأخ قطعا الذي هو صاحبها، فإذا كنت تعلم أن هذه شاة فلان، فإنها ليست بضالة يجب عليك أن تبين له أنها عندك حتى يأتي إلى أخذها. قال: «فضالة الإيل؟ » قال: «ما لك ولها» فضالة الإبل يعني: الضائعة من الإبل، والإبل معروفة وهي من أكبر الحيوانات الأليفة جسمًا، ومن أكثرها نفعًا، فيها منافع ومشارب ومآكل

وتجارة، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): وما لك ولها، يعني: أي شيء لك ولها يجمع بينكما حتى تأخذها وهذا يُراد بمثله أي: بمثل هذا التركيب البراءة منها وألا تأخذها وألا تقربها، ولهذا جاء الحديث بلفظ آخر: «دعها»، وفي بعض الروايات أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) غضب - عليه الصلاة والسلام - قال: «ما لك ولها؟ »، و «ما» هنا استفهامية مبتدأ، والجار والمجرور خبر المبتدأ، أو المراد بالاستفهام هنا: الإنكار، يعني: اتركها دعها ما لك ولها. «معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر» صحيح البعير معها السقاء والحذاء، السقاء هو: البطن لأنها إذا ملأت بطنها من الماء بقيت مدة طويلة ما تشرب حتى في أيام الصيف، وحذاؤها أي: خفها خف رجليها تتوقى به الشمس والحصى، فهي قوية صبور ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها، ترد الماء فتشرب، ولذلك الإبل إذا شربت تشرب حتى تروي ثم تتقدم عن مكان الماء، ثم تقف تتبول مدة من الزمن، ثم ترجع تشرب حتى تظن أنها ملأت البطن وأنه يكفيها لمدة أيام وتأكل الشجر؟ نعم، والحشيش أيضا تأكله، لكنه قال: تأكل الشجر لأن الغالب أن الشجرة تبقى خضراء، لكن الحشيش من حين أن يأتى الصيف ييبس، إنما الشجر يبقى أخضر غالبًا، فلهذا قال: تأكل الشجر، الشاة لا تأكل إلا الشجرة القصيرة إلا غنم الحجاز فغنم الحجاز، تأكل الشجر لأنها تصعد للشجرة، لكن الغالب أن الغنم لا تأكل الشجر إلا الشجر القصير. قال: و «حتى يلقاها ربها»، أو هي تصل إلى ربها، يعني: يلقاها إما هو الذي يطلبها حتى يجدها، أو هي تصل إليه. هذا الحديث فيه فوائد عديدة: أولا: حرص الصحابة (رضي الله عنهم) على السؤال لأنهم يريدون أن يعبدوا الله على بصيرة، والإنسان الذي يريد ذلك لابد أن يسأل، فمن حرصهم كانوا يسألون النبي (صلى الله عليه وسلم) عن كل شيء. ومن فوائده: أن الدين الإسلامي كما نظم العبادة وهي معاملة الإنسان بينه وبين ربه، فقد نظم المعاملة بينه وبين العباد، وذلك في المعاملات، فالدين الإسلامي ليس مقتصرا على العبادة التي بينه وبين ربه، ولكنه شامل منظم للحياة كلها، الحياة التي يتعامل الإنسان فيها مع ربه، والتي يتعامل فيها مع عباد الله، ومن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض فهو كافر به، كل من قال: أنا أعترف بالدين الإسلامي بما يتعلق بالعبادات فقط، وأما المعاملات فإنها من شئون البشر ينظمونها، وليس للدين فيها مدخل، من أعتقد هذا الاعتقاد فهو كافر حتى بدين العبادات، لأن الله تعالى يقول: {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [النساء: 150].

وقال لبني إسرائيل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَاب} [البقرة: 85]. وهذا العقاب لا يصلح إلا للكافر، ويقال لهذا الإنسان من الناحية العقلية: إذا كنت تؤمن بالله ربًا في تنظيمه للعبادة، لزمك أن تؤمن به ربًا في تنظيمه للمعاملة بين الخلق، إذا قال لك: الله حرم الربا، تقول: لا أقبل الربا ثروة اقتصادية يُنمي الاقتصاد وينعش الحياة، ما نقبل هذا التحريم! هل هذا إيمان بالله ربًا؟ أبدا، إذا قال: حرم الله الزنا، قال: لا، الزنا إذا كان واحد فقير وشاب وعنده شهوة قوية دعوه يتمتع ويتلذذ، وبعد ذلك إذا أغناه الله يتزوج، نقول: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور: 32]. كيف تؤمن بالله وأنت تقول هذا الكلام، إذا حرم الله الميسر قال: لا، الإنسان ممكن أن يصبح غنيّا في لحظة، فتقول: أيضا ممكن يُمسي غنيًا ويصبح أفقر عباد الله، حرم الله الميسر كما حرم الخمر أنت تقبل أو لا تقبل؟ إذا قال: لا، هذا فيه تنمية اقتصادية، انظر للدول الغربية كيف اغتنت؟ ! نقول: هذا كفر ما رضيت بالله ربًا، ونقول لك: إن الدول الغربية تعاني من الطبقية طبقة غنية، وطبقة فقيرة، لا يوجد تكافل اجتماعي، لا يعرفون زكاة ولا صدقة، ولكنهم وحوش ترعى وتشبع، ولو مات غيرها جوعاً. على كل حال أقول: إن فى هذا الحديث دليلاً على أن الشريعة نظمت المعاملة بين الخلق كما نظمت المعاملة بين الخالق، وأن العبد الحقيقي لله هو الذي يأخذ بتنظيم الله في كل شيء، ومن أخذ بتنظيم الله في العبادة دون المعاملة فإنه متبع لهواء لا لشرع الله. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا وجد لقطة وجب عليه أن يعرف الأمور التي ذكرها الرسول (صلى الله عليه وسلم): العفاص والوكاء، لكن لم يقيد الرسول (صلى الله عليه وسلم) المعرفة، والمراد المعرفة: التي يتميز بها المعرف يعني: معرفة تامة باللون والشكل والنوع وكل شيء، كل ما فيه معرفة للعفاص والوكاء ولم يفصح السائل ولا النبي (صلى الله عليه وسلم). مسألة: فى حكم التقاط اللقطة هل يلتقطها أو لا؟ هذه المسألة حسب النصوص الشرعية فى الأصل مباحة، يعنى: لا نقول لك: متى وجدت لقطة فخذها ولا نقول لك: متى وجدت لقطة فلا تأخذها، الأمر راجع إليك، مباح إلا أن العلماء يقولون: قد يجب الالتقاط، وقد يُستحب، وقد يحرم فقالوا: هو في الأصل مباح، لكن قد يجب، وقد يُستحب، وقد يحرم. يجب إذا كانت اللقطة في مكان لا تأمن أن يجدها شخص فيكتمها، لأن اللصوص أو أهل الطمع والشح كثيرون، فتخشى إن تركتها أن يعقبك عليها رجل يأكلها، فهنا يجب عليك أن تأخذها؛ لأن هذا فيه حفظ لمال أخيك، لا سيما إذا كنت تعلم صاحبها.

متى يحرم؟ يحرم إذا كان لا يأمن نفسه عليها، كيف ذلك؟ نعم الإنسان يعرف أنه ذو طمع شديد، وأنه لو أخذها أكلها، لا يأمن نفسه هنا نقول: يحرم عليك أخذها، كذلك يحرم أن تأخذها إذا كانت في مكة إلا إن كنت تريد أن تنشدها دائمًا، يعني: اللقطة في مكة لا تؤخذ محترمة إلا الإنسان يريد أن ينشدها دائمًا، دليل ذلك قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «لا تحل ساقطتها إلا لمنشدٍ»، يعني: إذا كنت تنشدها مدى الدهر، وهذا أمر لا يستطيعه الإنسان، ولهذا يتأكد على المسئولين في مكة أن يجعلوا طائفة من الأمناء تتلقى ما يُلقط في مكة من أجل أن تريح الناس، ويكون ذلك أقرب لحفظ الملتقطات، وفي الحرم المكي طائفة تتلقى هذا، فإذا وجدت شيئا في المسجد الحرام فاذهب به إلى هذه الطائفة، وتبرأ ذمتك، لأنه أحيانا يجد الإنسان في المسجد الحرام دراهم كثيرة، وأشياء ثمينة ومهمة، يجد حُلي، المهم أنه من فضل الله أنه يوجد في المسجد الحرام طائفة نصبتهم الدولة من أجل تلقي هذه الملتقطات، وهذا فيه راحة. بقي علينا المستحب، يُستحب التقاط اللقطة إذا غلب على ظنه أنه يؤدي الواجب من التعريف وأن ذلك أحفظ من تركها، فهنا يُستحب أن يأخذها، لكن إذا كان يخشى أن تشق عليه وأن تصده عما هو أنفع وأهم فلا يأخذها. ومن فوائد الحديث: وجوب تعريفها سنة لقوله: «ثم عرفها سنة»، وكيفية التعريف أن يطلب من يعرفها، فيقول: من ضاعت له الضائعة في المكان الفلاني، لكن لا يذكر جنسها ونوعها، وعددها وعفاصها ووكاءها، لأنه لو ذكرها كانت عُرضة لأن يأخذها كل واحد لكن يجعلها مبهمة ويُعين المكان والزمان. الحديث لم يبين الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيه كيف التعريف، هل هو كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر؟ وإذا كان لم يبينه الرسول (صلى الله عليه وسلم) رجع في ذلك إلى العُرف، والعرف يقتضي أن تتابع التعريف أول ما تجدها، لأن صاحبها حينئذٍ يكون كثير الطلب لها، فتكثر التعريف. قال بعض العلماء: يكون التعريف في الأسبوع الأول كل يوم، ثم كل أسبوع مرة، إلى شهر، ثم كل شهر مرة، وعلى كل حال هذا اجتهاد ممن قدّره، والأعراف قد تختلف قد يكون هذا الإنسان وجدها في موسم يكثر الناس فيه، ولكنهم لا يأتون إلى هذا المكان إلا بعد أسبوع كما يوجد في بعض البلاد يجعلون التجارة موزعة يقول مثلا يوم السبت يجتمعون في البلد الفلاني، ويوم الاثنين في البلد الثاني، وهكذا، فهنا نقول: إذا كنت وجدتها في مكان الموسم فلا حاجة أن تعرفها كل يوم، تعرفها في مكان الموسم، وإذا جاء الأسبوع الثاني تعرفها، فمادام الأمر راجعا إلى العُرف فإننا لا نحدده، لكن التحديد الذي ذكره بعض العلماء، والذي ذكرته لكم هذا مقارب.

مسألة مهمة: كيف تكون وسائل التعريف؟ قال العلماء: يُعرف عند أبواب المساجدوليس في المسجد، يقول: من ضاع له الشيء الفلاني، لكن لو عرفها في نفس المسجد فإنه لا يجوز، قال بعض أهل العلم: يكره. أما من أنشد في المسجد، وقال: من عيّن لي اللقطة أو الضالة، فهنا نقول: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تُبن لهذا، لكن لو أنه وجد مفاتيح وعلقها في قبلة المسجد هل يكون هذا تعريفا؟ نقول: إذا جرت العادة به فهو تعريف. لكن إذا قال قائل: إذا علقناها في المسجد كل واحد يقول إنها لي؟ نقول: لا هذا غير صحيح الذي ليست له لا يستفيد منها شيئا، لكن لو وجد صرة دراهم وعلقها في قبلة المسجد لا يجوز؛ لأن كل واحد يقول لي، أما الشيء الذي تعلم أنه لن يدعيه إلا صاحبه، فهذا لا بأس أن يُعلق فى المسجد فيما يظهر، لا يُقال: إن المسجد لم يبن لهذا، لأننا نجيب عن ذلك بأن هذه وجدت في المسجد وأقرب من يعرفها من يرتاد المسجد. ومن فوائد الحديث: أنه إذا جاء صاحب اللقطة في زمن التعريف وجب ردها إليه؛ لقوله: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها» لأن تقدير الكلام فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «فإن جاء صاحبها» فمتى يثبت أنه صاحبها؟ قال بعض العلماء: لابد أن يأتي ببيتة، لعموم قول النبي (صلى الله عليه وسلم): والبينة على المدعي، وهذا المال مجهول صاحبه، فلابد أن يأتي المدعي بالبينة، فإن لم يأت ببينة فليس له فيها حق، هذا قول، قالوا: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يبين من صاحبها، فهو مطلق، والنصوص الأخرى تبين من صاحب المال، وهو المدعي إذا كان له بينة، وقال بعض أهل العلم: مَن وصفها وصفا يُطابق وصفها حين وجودها فهو صاحبها، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أطلق، وإذا جاءنا رجل يصفها وصفا مطابقا لوصفها حين وجودها فإن القرينة تدل على أنه صاحبها> وأما الحديث: «البينة على المدعي» فهذا الحديث إنما يكون على من ادعى أن ما في يده له فيأتي إنسان ويدعيه، والدليل سياق الحديث: «لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن البينة على المدعى واليمين على من أنكر»، وواجد اللقطة هل يدعي أنها له؟ أبدا، لا يدعيها يقول: أسأل الله أن يأتي بصاحبها، فإذا جاء صاحبها ووصفها الوصف المطابق لوصفها حين وجودها فتعطى إياه، إذن القول الراجح في هذه المسألة أن صاحبها من وصفها وصفا لما هي عليه حين وجدانها.

من فوائد الحديث: أنه بعد تمام الحول إذا لم يأت صاحبها تكون لواجدها؛ لقوله: «فشأنك بها»، فهذا يدل على ملكه إياها، إذ لا يملك الشأن المطلق بها إلا مَن كان مالكا، والشيء يعرف بالنص عليه أو لوجود لازمه، فهنا من لازم الملك أن يكون شأنه بها، وهل هذا الدخول دخول اختياري أو دخول قهري؟ يعني: هل لو شاء لم يتملكها لو قال: أنا لا أريد أن أتملكها؟ في هذا خلاف بين أهل العلم: المشهور من مذهبنا أنه ملك قهري بمعنى: أنه إذا تم الحول ولم يأت صاحبها، دخلت في ملكك قهرا شئت أم أبيت، كما أن الميت إذا مات وخلف ورثة، فإن المال مال الميت يدخل فى أملاكهم قهرا عليهم حتى لو قالوا: ما نريده، مثال ذلك: واحد مات له أب، الأب خلف عشرة ملايين، قيل للابن: بارك الله لك فيها، قال: لا أريدها! ماذا نقول له؟ نقول: دخلت في ملكك قهرا غصبًا عليك؛ لأن الله ملكك إياه في قوله: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]. لم يملكك المخلوق حتى نقول باختيار لك، الذي ملكك الله، فكذلك اللقطة ملكك إياها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إذن فهي دخلت في ملكك قهرا ليس لك خيار، ويكون ضمانها عليك عينا ومنفعة. إذن نقول من الفوائد: أنه إذا تم الحول دخلت اللقطة في ملك الواجد قهرا عليه، يترتب على هذا لو كان الإنسان الذي وجدها مدينا وله غرماء يطالبونه ووجد عشرة آلاف ريال وعرفها إلى تمام السنة، فلم تُعرف، تمت السنة، أين مصير العشرة؟ تدخل في ملكه قهرا، فإذا جاء الغرماء يطلبونه قال: يا أيها الناس! ما عندي شيء قالوا: عندك عشرة آلاف ريال، قال: أنا لا أريدها ماذا يقولون؟ نحن نريدها هي دخلت في ملكك قهرا، وعلى هذا فيلزم أن يسدد الدين من هذه الدراهم التى وجدها. ومن فوائد الحديث أنه لا يجب الإشهاد على اللقطة إذا وجدها لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر بذلك في هذا الحديث، وإنما أمر بتعريف عفاصها ... إلخ. ومن فوائد الحديث: أن التعريف لا يتقيد بيوم معين أو أسبوع معين بل يرجع في ذلك إلى العرف، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يقيدها، لكن بعض العلماء يقول: في الأسبوع الأول كل يوم، ثم كل أسبوع، ثم كل شهر، لكن المرجع في هذا إلى العرف كما مر. ومن فوائد الحديث: أنه إذا كان يعرف صاحبها فإنه لا يحتاج إلى تعريف بل يسلمها إليه إما بحملها إليه أو بإخباره بها. يُؤخذ من قوله: «فإن جاء صاحبها»، لأن المعنى أن صاحبها عرفها فجاء فأدها إليه، فإذا كنت تعلم صاحبها من أول فلا حاجة إلى التعريف. ومن فوائد الحديث: أن ظاهره أنه يعرف اللقطة مطلقًا قلت أم كثرت. وقد يقول القائل: إن هذا ليس ظاهر الحديث، لأن قوله: «أعرف عفاصها ووكاءها» يدل

على أنها ذات أهمية قد جُعلت في وعاء وقد أوكي عليها الوكاء، وهذا يدل على أنها ذات أهمية، فإن كان الأمر كذلك فهو واضح، وإن لم يكن كذلك وجب أن يقيد إطلاق هذا بالحديث الذي قبله، وهو أنه إذا كانت اللقطة يسيرة لا يهتم بها عادة فهي لواجدها، ولا تحتاج إلى تعريف؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال في التمرة: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها». إذن لنا في هذا تخريجان: أحدهما: أن نقول إن هذا الحديث يدل على أن اللقطة ذات أهمية؛ لأنها ذات عفاص ووكاء، أو يُقال: إن كان مطلقا فيقيد بالحديث السابق. ومن فوائد الحديث: أن أجرة التعريف على الملتقط لقوله: «عرفها» فالأمر موجه إلى الملتقط، وعلى هذا فإذا كان التعريف يحتاج إلى أجرة فالأجرة على الواجد؛ لأنه هو المطالب بالتعريف، فمثلاً: إذا وجد صرة فيها ألف درهم واستأجر مُعرفا بمائة درهم، فالمائة درهم على الواجد، وإذا وجد صاحب اللقطة أعطي الألف كاملة، وهذا ما ذهب إليه الفقهاء المتأخرون من أصحاب الإمام أحمد، وقالوا: إن الأجرة على الواجد، وقيل: بل الأجرة على صاحب اللقطة على رب اللقطة، وقالوا: لأن هذا التعريف من مصلحته، فهو الغانم، والغرم للغنم، فإذا كان هو الغانم، وجب أن يكون هو الغارم، وعلى هذا فتكون أجرة التعريف على رب اللقطة، وهذا القول هو الصحيح، لأن التعليل قوي، وإيجاب الشارع التعريف إنما هو من أجل حفظها على صاحبها، لأنه لو لم يُعرفها لم يتمكن صاحبها من الوصول إليها، فإذا كان التعريف لمصلحة صاحبها، فكيف يلزمني أن أقوم بما يعود إلى مصلحته؟ ! ، وهذا القول هو الصحيح: أن التعريف أجرته على صاحب اللقطة. من فوائد الحديث: أن الواجد إذا تمت السنة فإنه يملكها ملكا تامًا لقوله: «وإلا فشأنك بهاه، ولكن إذا جاء ربها بعد السنة ووجدها قد تلفت فهل يضمنها الواجد؟ إذا قلنا: إن الواجد يملكها صار له سلطة عليها تامة بمعنى أنه إن شاء أكلها إن كانت تؤكل، وإن شاء استعملها بلباس أو غيره إن كانت تُلبس، وإذا كان له سلطة عليها تامة فكيف يُضمّن؟ ولهذا قال بعض العلماء: إنه إذا تمت السنة ولم يأت صاحبها فإنه لا يضمنها لصاحبها إلا أن تكون موجودة بعينها فيردها، أما إذا كان قد تصرف فيها فإنه لا يضمن، يعنى: مثل أن تكون ثيابًا لبسها وتمزقت، فإنه لا يضمن، لماذا؟ لأن الشارع ملكه إياها وأذن له أن يفعل فيها ما يشاء، فهي إذا تلفت تحت يده فقد تلفت بإذن من الشارع، «وما ترتب على المأذون فليس بمضمون»، أما

إذا كانت موجودة فليردها على صاحبها، لأنها عين وُجد مالكها فلا عذر لأحد في عدم الدفع له، وقال بعض العلماء: بل إذا تلفت بعد تمام الحول فعليه ضمانها مطلقا سواء تعدى أو فرط أو لم يتعد أو لم يفرط، وسواء بقيت العين أم لم تبق، لأنه لما ملكها دخلت في ضمانه عينا ومنفعة، وإذا دخلت في ضمانه وجب ضمانها لصاحبها بكل حال، وهذا الأخير هو المشهور من المذهب، على أنه يضمنها بكل حال، وعليه فهي من غرائب العلم تكون هذه اللقطة بالأمس غير مضمونة على الواجد، وفي اليوم مضمونة عليه يعني: بالأمس قبل أن يتم السنة هي غير مضمونة فهو أمين إن تعدى أو فرط ضمن، وإلا فلا، في اليوم بعد تمام السنة تكون مضمونة، وأنا أضرب لكم مثلاً يتبين فيه الأمر: هذا رجل وجد مائة ألف ريال لقطة وصار يُعرفها، فلما بقي على تمام السنة يوم واحد أتاها حريق بغير اختياره فاحترقت فهل عليه ضمان؟ لا ضمان عليه، لماذا؟ لأنه أمين لم يتعد ولم يفرط، بعد أن تمت السنة أتاها حريق فاحترقت فعليه الضمان، بالأمس المال لغيره وهو أمين عليه فلا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط، اليوم المال له داخل في ضمانه عينا ومنفعة فيكون عليه الضمان، هذا هو المشهور من المذهب، وهو من غرائب العلم يُقال لما كانت في ملكه يضمن مطلقا، ولما كانت في ملك غيره لا يضمن إلا بالتعدي والتفريط، أما القول الثاني: فقالوا في هذه الصورة: لا ضمان عليه، لأنه لما تم الحول دخلت في ملكه وتلفت، فسواء بفعله أو بفعل له فلا ضمان عليه، لأنه صاحب ملكه، وهذا القول أصح، الصحيح أنها بعد تمام الستة ملك للواجد يتصرف فيها كما شاء، فإن جاء ربها وهي باقية دفعها إليه، وإن جاء ربها وهي تالفة فلا شيء عليه. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان مخير في أخذ ضالة الغنم، لقوله: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» لكن هذا التخيير هو تخيير إرادة أو تخيير مصلحة؟ ، ربما نقول: إن التخيير تخيير مصلحة يعني: إن رأى المصلحة أخذها وإلا تركها. ومن فوائد الحديث: أن الغنم غير الضالة لا يجوز التعرض لها، بل تترك وتذهب هي بنفسها إلى صاحبها لقوله: «فضالة الغنم» يعني: الضائعة أما التي عرف بأنها غير ضائعة مثل ما يوجد الآن الغنم تترك ترعى سواء في المدن أو في البر، تُترك ترعى ثم تأوي إلى أهلها فهذه لا يجوز التعرض لها، لأنها ليست بضالة بل هي مهتدية تعرف بيتها. ومن فوائد الحديث: أن من وجد ضالة الغنم ملكها بدون تعريف لقوله: «هي لك» ولم يأمره بالتعريف، في اللقطة أمره بالتعريف، وهنا لم يأمره بالتعريف، وهذا ما ذهب إليه كثير من

العلماء، قالوا: إنها للإنسان بمجرد ما يجدها ما لم يعلم ربها، لكن جمهور العلماء على وجوب التعريف، قالوا: لأنها من حيث التمول كاللقطة تمامًا، فإذا كانت اللقطة تعرف فكذلك ضالة الغنم، وعلى هذا فيكون قوله: «هي لك» أي: بعد التعريف، وهذا الذي عليه الجمهور. وهل من فوائد الحديث: أن الذئب يملك لقوله: «أو للذئب؟ » لا؛ لأن اللام هنا للاختصاص كما تقول السرج للدابة، بل تقول: الحوش للغنم، الجراج للسيارات وهي لا تملك لكن هذا من باب الاختصاص. ومن فوائد الحديث: أنه يُسن قتل الذئب؛ لأن إتلافه للمال فسوق، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): وكلهن فاسق، لأنها تؤذي، وهذا أيضا يؤذي بأكل الأموال، وهو كذلك، أي: أنه يُسنّ قتل الذئب، وكل مؤذ فإنه يُسن قتله، لكن ما آذى بطبعه من قتله، وإن لم يؤذ، وما آذى عرضا أذية طارئة فإنه لا يُقتل إلا حين يكون مؤذيا، فمثلاً: الإبل الأصل فيها أنها لا تؤذي، فلو فرض أن بعيراً منها صار يأكل الناس، فإنه يُقتل، فصار ما طبعه الأذى يُقتل بكل حال، وما تجدد له الأذى أو طرأ عليه الأذى فإنه لا يُقتل إلا حين يطرأ عليه الأذى. ومن فوائد الحديث: تحريم التقاط ضالة الإبل لقوله: «مالك ولها؟ »، وفي رواية: «دعها» والأصل فى الأمر الوجوب أو وجوب الترك. ومن فوائده: أن العلة في وجوب ترك الإبل أنها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها، فيؤخذ من هذه العلة أنه لو كانت الإبل صغيرة لا تملك هذا الذي علل به النبى (صلى الله عليه وسلم) فإنها يجوز التقاطها. ويؤخذ من ذلك أيضا: أنه لو كانت الإبل في مسبعة كثيرة السباع بحيث لا يستطيع البعير الواحد مقابلة عشرة ذئاب، فإنه يجوز أخذها، ويؤخذ منه أيضا أنه لو كانت في أرض مملوءة بقطاع الطريق الذي يأخذون هذه البعير فيحولون بينها وبين صاحبها، فإنه يجوز التقاطها. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز التقاط الظباء؛ لأنها تسلم من الذئب بسرعة عدوها. ومن فوائد الحديث: تحريم التقاط ضالة الطير كالحمام وشبهها قياسا على الإبل، لأنها تطير حتى تصل إلى ربها أو يجدها ربها. ومن فوائد الحديثه: جواز إطلاق الرب على غير الله - سبحانه وتعالى - لقوله: «حتى يلقاها ربها»، وهذا كثير في السُنة، ولكنه كما تشاهدون رب مقيد - ربها، والرب المطلق لا يكون إلا لله. أما المقيد مثل رب الدار، رب البعير، رب السيارة، فهذا لا بأس به. ومن فوائد الحديث: تحريم التقاط البقر بالقياس لأنه يمتنع من الذئاب. ومن فوائد الحديث تحريم التقاط الحمير الوحشية؛ لأنها تسلم، أما الأهلية فقال بعض

العلماء: إنها كالإبل تسلم، وقال آخرون: بل هي كالغنم لا تسلم، وهو الصحيح أنها لا تسلم، الواقع أن الحمير لا تمتنع من صغار السباع تأكلها الذئاب، بل هي من أكثر الحيوانات جبنا، يقولون: إن الشاة ربما إذا شمّت رائحة الذئب تهرب، لكن الحمار إذا شم رائحة الذئب فرّق بين رجليه وجعل يبول ولا يتحرك، هذا هو المشاهد، فإذن نقول: إنها لا يمكن أن تُقاس على الإبل، لأنها لا تتحمل أن تأكل الشجر وترد الماء حتى يجدها ربها، بل هي من أجبن الحيوان، كما أنها أيضا من أبلد الحيوان، ولهذا قال لى بعض مشائخنا: الحمار أدل ما يكون لمكانه الذي يستوطنه؛ لأنه ليس عنده تفكير مركب على الأمور الحسية، ويقول: ولذلك مَن ليس عندهم تفكير من بني آدم تجدهم أدل ما يكون للبيوت، لكن هذا الظاهر أنه غير مُسَلم، إنما بالنسبة لدلالة الحمار إلى بيته ومأواه هذا شيء مشهور وهو يعلله - شيخنا هذا- بأنه بليد لا يفكرلذلك كان فكره سطحياً. بقي علينا مسائل تتعلق بالحديث إذا وجد شاة فمن المعلوم أن الشاة تحتاج إلى نفقة من أكل، وشرب، وتدفئة، فهذه النفقات على من؟ هذه النفقات على صاحبها حتى تتم سنة، فإذا تمت سنة فهي على الواجد. ثانيًا: إذا كانت فيها نماء ونتاج كما لو كانت شاة فيها لبن فيها ولد فلمن يكون النماء؟ النماء قبل تمام السنة لصاحبها، وبعد تمام السنة لواجدها، لماذا؟ لأنها قبل تمام السنة ملك لصاحبها، وبعد تمام السنة ملك لواجدها، النماء المتصل كالسمن؛ لأن اللبن والولد نماء منفصل، النماء المتصل كالسمن يعني: هذه سمنت فهل هو لصاحبها أو لواجدها؟ ما كان قبل الحول فلا شك أنه لصاحبها، لأن عليه النفقة وله الغنم، وما كان بعد الحول فهو لواجدها، وقال بعض العلماء: بل النماء المتصل تابع لها مطلقا، وعلى هذا فيكون لصاحبها إذا وجد، وعلل ذلك فقال: إن النماء المتصل لا يمكن تمييزه بخلاف النماء المنفصل، فالدماء المنفصل قبل الحول لصاحبها وبعده لواجدها، والنماء المتصل كله لصاحبها، لكن الصحيح أنه ما كان قبل الحول فهو لصاحبها وما بعده لواجدها، فإذا قال قائل: كيف نميزه؟ نقول: تُقوم هذه الشاة عند تمام الحول تساوي مائتين وبعد أن وجدنا صاحبها لمدة شهرين أو ثلاثة صارت تساوي بسبب السمن مائتين وخمسين فالفرق إذن خمسون ريالاً فتكون للواجد؛ لأنها نمت بما يقابل الخمسين، وهي على ملك الواجد، وهذا القول هو الصحيح، لأن النفقة بعد تمام الحول على الواجد، فإذا كان له الغرم فيجب أن يكون له الغنم في مقابل غرمه.

حكم إيواء الضالة دون تعريفها

من فوائد الحديث: حكمة الشريعة في التفريق بين المتفرقات حيث جعلت لهذه الأنواع لكل واحد منها حكمًا يناسبه؛ اللقطة لها حكم يناسبها، الضالة من الغنم لها حكم يناسبها، ضالة الإبل لها حكم يناسبها، فهذا من تمام الشريعة ومراعاتها للحكم والمصالح. حكم إيواء الضالة دون تعريفها: 901 - وعنه (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من آوى ضالة فهو ضالٌ، ما لم يُعرفها». رواه مسلم. قوله: «من آوى» إيواء الشيء بمعنى: استقباله وضمه إلى ماله إذا كان مما يتمول، فمن آوى ضالة يعني: استقبلها وأدخلها في ملكه فهو ضال. وقوله: «ضالة» يعني: من الحيوانات؛ لأن ما سوى الحيوان يسمى لقطة؛ لأن غير الحيوانات ليس مما يهتدي ويضل، الذي يهتدي ويضل هو الحيوان. وقوله: «ما لم يعرفها» فإن عرفها فليس بضال. هذا الحديث ظاهره: أن من آوى ضالة ولو من الغنم فهو ضال، وأن من آوى ضالة ولو من الإبل فهو ضال ما لم يعرفها، ولكن يجب أن يُحمل هذا الحديث على الضالة من غير الإبل، لأن الضالة من الإبل من آوها فهو ضال سواء عرفها أم لم يعرفها. فيستفاد من الحديث: أنه لا يجوز لمن وجد ضالة أن يؤويها، إلا إذا كان يريد التعريف وقد مر علينا أن هذا شرط لجواز الالتقاط، كل شيء ضاع من ربه من ضوال أو لقط فإنه لا يجوز للإنسان أن يأخذه إلا بشرط أن ينوي التعريف. ومن فوائد الحديث: تحريم إيواء الغنم وغيرها بغير قصد التعريف كما لو أخذها يريد أن يتملكها فإنه ضال. ومن فوائده: أنه إذا آواها بغير قصد التعريف فهو ضامن سواء تعدى وفرط أم لم يتعد ولم يفرط، لماذا؟ لأنه غير مأذون له في الأخذ، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمون. سؤال: إذا وجد الطفل لقطة فمن يعرفها؟ الجواب: يعرفها وليه.

الإشهاد على اللقطة وحكمه

الإشهاد على اللقطة وحكمه: 902 - وعن عياض بن حمار (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من وجد لقطة فليشهد ذوي عدلٍ، وليحفظ عفاصها ووكاءها، ثم لا يكتم، ولا يغيب، فإن جاء ربها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء». رواه أحمد، والأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان. اللقطة سبق لنا أنها المال أو المختص الذي ضل عن ربه بشرط ألا يكون زهيدا فإن كان زهيدا لا تتبعه همة أوساط الناس فليس بلقطة؛ لأن الذي يجده يملكه مالم يعلم صاحبه، وقد مر علينا هذا ونعيده الآن لأهميته، ومن وجد شيئا وهو لا يعرف صاحبه فإن كان من الأمور الزهيدة التي لا يهتم بها أوساط الناس فهو له، ولا يحتاج إلى تعريف ودليله حديث التمرة: «لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها»، من وجد لقطة وهي ذات أهمية فإنه يجب عليه أن يُعرفها، بعد أن يعرف عفاصها ووكاءها على ما سبق، من وجد ضالة فإن كانت تمتنع من صغار السباع كالإبل فهذه لا يجوز التقاطها، وتترك كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «مالك ولها ... إلخ»، وقلنا لكم إن مثل ذلك ما يمتنع من صغار السباع بالطيران أو بالعدو، الضالة التي لا تمتنع من صغار السباع كالغنم ذكرنا أن العلماء اختلفوا فيها منهم من قال إنها لواجدها لقوله: «هي لك»، فإن تركها فهى لأخيه، وإن لم يجدها أخوه فهى للذئب، ولكن المشهور عند أهل العلم أنها كاللقطة تُعرف سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فهى لواجدها لكنا ذكرنا في هذا القسم: أنه إذا كان يخشى أن تأكل شيئا كثيرًا في النفقة فإنه يبيعها ويحفظ قيمتها. وهنا قال: «من وجد لقطة»، حتى الزهيد، لا لأن الزهيد لواجده، «فليشهد ذوي عدل»، الفاء رابطة للجواب جواب الشرط الذي هو «من»، وجواب الشرط يجب ربطه بالفاء في مواضع سبعة جمعت في بيت واحد وهو: (اسميةٌ طلبيةٌ وبجامد ... وبما وقد وبلن وبالتنفيس) التي معنا «فليشهد» لماذا اقترنت بالفاء؟ لأنها طلبية إذ إن اللام في قوله: «فليشهد» لام الأمر، وقوله: «ذوي عدل» أي: صاحب عدل، والعدل هو الاستقامة في الدين والمروءة، مأخوذ من العدالة عدل أي: مستقيم في دينه ومروءته، في دينه بألا يفعل كبيرة ولا يصرّ على صغيرة، في مروءته بألا يفعل ما يخل بالمروءة.

وقوله: ذوي عدله أي: صاحبي عدل، وهو واضح في أنه وصف المذكر؛ لأن وصف المؤنث يقال ذواتى، كما قال تعالى: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} [سبأ: 16]. لكن هنا قال: «ذوي» يعني: رجلين ذوي عدل، وإنما أمر بالإشهاد لئلا يحصل نزاع بين الواجد وبين صاحبها إذا وجدها، فقد يدعي صاحبها أنها أكثر عددًا أو أنها أطيب وصفا، فإذا أشهد أستراح على الأقل من اليمين، فلا توجه إليه اليمين ما دام عنده بينة واشترط أن يكون ذوي عدل؛ لأن الفاسق لا يُقبل خبره ولا يرد؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. ما قال: فردوه ولا فاقبلوه، بل قال: {فَتَبَيَّنُوا} لماذا؟ لأن الفاسق قد يصدق، قد توجد قرائن تدل على صدقه، ولهذا لا يرد خبر الفاسق مطلقًا ولا يقبل مطلقا، لكن العدل: فليشهد ذوي عدل يُقبل خبره، ولهذا أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يكون الشاهدان ذوي عدل. «وليحفظ عفاصها ووكاءها»، هل المراد بذلك حفظ ذاتها، أو المراد حفظ ذاته، أو أوصافه؟ الثاني، يعني: فليحفظ العفاص، وهو الوعاء الذي فيه اللقطة، والوكاء: الحبل الذي رُبطت به إما بنات أو بأوصافه. يقول: «ثم لا يكتم ولا يغيب»، «لا يكتم» يعني: يُعرف؛ لأن السكوت عن التعريف كتم، و «لا يُغيّب» أي: لا يُخفي منها شيئًا، بل ينشد ويصدق فيما يبدي منها. «فإن جاء ربها فهو أحق بها» أي: رب اللقطة وهو المالك أو من ينوب منابه، «فهو أحق بها» يعني: فهي له، لأنه إذا كان أحق فإنه لا منازع له في هذا الحق، «وإلا» يعني: وإلا يأتي «فهو مال الله» هذه الجملة «وإلا» ترد علينا كثيرا في كلام العرب، وفي السُنة أيضا، فما كيفية تركيب هذه الجملة؟ نقول: أصلها إن الشرطية ولا النافية وما بعدها جواب الشرط وفعل الشرط محذوف، إن هنا ليست محذوفة لكنها مدغمة بلا وأصلها «وإن لا»، فعل الشرط محذوف يفهم مما سبق، قال: وإلا، قدر الفعل «وإلا يجد»، جملة «فهو مال الله» جواب الشرط، واقترن بالفاء لأن الجملة اسمية، وإلا، يعني: وإلا يجيء ربها فهو أي: الموجود ولم يقل: فهي فأعاد الضمير على المعنى، وإلا لقال: فهي، «فهو مال الله يؤتيه من يشاء»، أي: يعطيه، ومن الذي أعطيه في هذه الصورة، الواجد يعني وإلا يجيء صاحبها فهي لمن وجدها مال الله يؤتيه من يشاء. هذا الحديث فيه فوائد: أولا: الأمر بالإشهاد على اللقطة حين وجودها لقوله: «فليشهد» هذا الأمر هل هو للوجوب أو للاستحباب والإرشاد؟ في هذا قولان لأهل العلم فمنهم من قال: إن الإشهاد واجب واستند إلى أن الأصل في الأمر الوجوب حتى يقوم دليل على صرفه

عن الوجوب، وقال: من وجد لقطة وجب عليه أن يشهد، وقال بعض أهل العلم: بل الأمر هنا للاستحباب، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر به في حديث زيد بن خالد مع أن السائل يبدو - والله أعلم - أنه أعرابي لا يفهم الشروط والحدود الشرعية، ولو كان الإشهاد واجبا لبينه النبي لهذا الأعرابي الذي أراد أن يسأل ويمشي، الأول مذهب الشافعي، والثاني مذهب أحمد، يعني: الإشهاد إما واجب، وإما سنة، ولا شك أن الاحتياط الإشهاد؛ لأن الإنسان ربما تغلبه نفسه الأمارة بالسوء فيما بعد ويكتم اللقطة ولاسيما وإذا كانت لقطة ذات أهمية كبيرة، فالإشهاد أحوط بلا شك، وينبغي مع الإشهاد إتمامًا للاحتياط أن يكتب ذلك لأن الشهود ربما يغيبون أو ينسون أو يموتون. ومن فوائد الحديث: أن الإشهاد المعتبر إشهاد ذوي العدل، وأن الإنسان لا ينبغي أن يشهد إلا ذوي العدل، لأنه هو المقبول الشهادة. فإن قال قائل: لو أشهد فاسقا ثم تاب الفاسق وأذى وهو عدل هل تُقبل شهادته؟ قلنا: نعم، قبل اعتبار بحال الأداء، كما أنه لو أشهد وهو عدل ثم فسق فإنها لا تقبل. ولو أشهد صغيرا ثم بلغ وضبط الشهادة فإنها تُقبل اعتبارا بحال الأداء. ومن فوائد الحديث: أن ظاهره أن المرأة لا تُقيل شهادتها بهذا، ولكن هذا الظاهر غير مراد لأن الله قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. وقد ذكر أهل العلم أن المال وما يقصد به المال يُستشهد فيه الرجلان والرجل والمرأتان. ومن فوائد الحديث: أنه يجب أن يحفظ عفاصها ووكاءها؛ لقوله: «وليحفظ» وهذا الأمر لم يعارضه شيء يدل على عدم الوجوب فيه، بل جاء ما يشهد للوجوب في قوله في حديث زيد بن خالد: «اعرف عفاصها ووكاءها». ومن فوائده: تحريم كتم اللقطة لقوله: «ثم لا يكتم»، وتحريم تغييب شيء منها لقوله: «ولا يغيب». ومن فوائده الإشارة إلى وجوب القيام بالأمانة في أموال الغير لأن كل هذه الأوامر الأربعة: «فليشهد»، «وليحفظ»، «ثم لا يكتم»، «ولا يغيب» كل هذا من أجل المحافظة على مال الغير وهو كذلك؛ أي: أنه يجب على الإنسان إذا كان مؤتمنا على مال الغير أن يحافظ عليه.

ومن فوائد الحديث: أنه إذا جاء ربها فهو أحق بها مطلقا سواء قبل الحول أم بعده لعموم قوله: «فإن جاء ربها». ومن فوائده: جواز وصف المالك بالرب لقوله: «ربها» لكن الربوبية المطلقة لا تكون إلا لله، فالربوبية التي تُضاف إلى غير الله ربوبية خاصة، وربوبية ضعيفة، خاصة فيما يملكه الرب، وهي ضعيفة لأن هذه الربوبية لا تمكنك أن تفعل ما تشاء في مالك، لأن تصرفك في مالك مُقيد بالشرع. ومن فوائد الحديث: أنه إذا لم يأت ربها فهي لواجدها لقوله: «وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء». ومن فوائده: جواز إضافة المال إلى الله فيقال هذا مال الله، فإن كان المال من الأموال الشرعية كالزكاة والغنيمة والفيء وما أشبه ذلك فواضح، لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول} [الأنفال: 41]. وإن كان من الأموال الخاصة فإنه مال الله حقيقة لأنك أنت ومالك لله، ولهذا قال الله تعالى: {وَآتُوهُم} يعني: المكاتبين {مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 32]. وهنا قال: «وإلا فهو مال الله». ومن فوائد الحديث: إثبات المشيئة لقوله: «من يشاء»، والمشيئة ليس فيها إشكال فيما يتعلق بفعل الله، والمسلمون كلهم مجمعون على مشيئة الله فيما يتعلق بفعله سُنيهم وبدعيهم لكن ما يتعلق بفعل العبد هذا محل الخلاف، فانقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط، طرف بالغ في الإثبات، وطرف بالغ في النفي، وطرف توسط، فالذين بالغوا في الإثبات الجبرية، وقالوا: إن فعل العبل واقع بمشيئة الله وليس للعبد فيه أي مشيئة هؤلاء بالغوا في إثبات مشيئة الله وجعلوها تجبر حتى في المسائل الاختيارية، وقسم آخر غلوا في النفي فقالوا ليس لله تعالى مشيئة في فعل العبد، والعبد مستقل بفعله ما يشاؤه سواء شاء الله أو لم يشأ، وهم القدرية مجوس هذه الأمة المعتزلة، والثالث توسط وقالوا: مشيئة الله نافذة في كل شيء، ومشيئة العبد تابعة لمشيئة الله لقول الله تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} [الكوثر: 28]. وهذا هو الحق الذي تجتمع به الأدلة. ومن فوائد الحديث: أن الله تعالى قد ييسر للإنسان مالاً بلا كسب منه أو بلا تعب هذه اللقطة بلا تعب وجدت مالاً في السوق قدره مائة ألف وأنشدته ولم يأت صاحبه هل تعبت فيه؟ أبدا، الله تعالى قد ييسر للإنسان مالاً بلا تعب. فإن قال قائل: إذا ثبت أنه ملك فهل يجب فيه الخمس كما يجب في الركاز - الذي يوجد مدفونا في الأرض وليس له مالك- إذا وجده الإنسان؟ فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «في الركاز الخمس»

حكم اللقطة في مكة

فهل هذا الذي وجدته على ظاهر الأرض بدون حفر وبدون تعب هل إذا تملكته يكون فيه الخمس؟ نقول: لا يجب فيه الخمس لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «مال الله يؤتيه من يشاء». وأيضا يمكن أن يفرق بينه وبين الكنوز فإن هذا المال حصل فيه شيء من التعب وهو الإشهاد والإنشاد والمعاناة فى حفظه سنة كاملة، لكن الركاز تملكه بمجرد ما تحصل عليه تنتفع به في لحظة. حكم اللقطة في مكة: (903) - وعن عبد الحمن بن عثمان التيمي (رضي الله عنه): «أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن لقطة الحاج». رواه مسلم. » نهى» ما هو النهي؟ طلب الكف على وجه الاستعلاء من الطالب، لأنه لولا أنه أعلى ما نهى؛ لأن الذي يكون بمنزلتك إذا نهاك عن شيء فإنما يلتمس يعني: يترجى، والذي يكون دوني يُسمّى دعاء، يعني: يستجدي لكن الذي ينهاك هو من كان أكبر منك فمثلاً هذا رجل ظالم باطش أراد أن يُوقع بك فقلت: لا تحبسني لا تضربني هذا استجداء يسمونه دعاء، لكن ينبغي أن يكون الدعاء لله رب العالمين، هذا لا يمكن نسميه نهيا، فإذا قال رجل لابنه: يا ولد لا تخرج، هذا نهي، لماذا؟ لأنه على سبيل الاستعلاء، زميل قال لزميله: من فضلك لا تفعل معي كذا، هذا التماس. على كل حال: النهي هنا من الناهي؟ الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولا شك أن توجيه النهي إلينا على سبيل الاستعلاء يعني: أنه جاء من أعلى إلى أدنى، وإن كان النبي (صلى الله عليه وسلم) ليس فيه علو وليس فيه تكبر، بل هو أشد الناس تواضعًا، لكنه جاء من أعلى إلى أدنى. وقوله: «عن لقطة الحاج» اللقطة سبق تعريفها، و «الحاج» هو: من قصد مكة لأداء المناسك، ويصح أن نصفه بأنه حاج بمجرد إحرامه بالحج، فلو أحرم من ذي الخليفة قيل: إنه حاج، لقول عائشة (رضي الله عنها): وأهل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالحج، فمن حين يحرم بالحج يقال: إنه حاج، فإذا ضاع من المحرم بالحج لقطة فإن الحديث ينطبق عليه في ظاهره أنه ينهى عن لقطته فإذا وجدّت في مكان الحاج الذي نزلوا فيه لقطة ولو كانوا في بدر، فإنك لا تأخذها لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن لقطة الحاج، وهؤلاء محرمون بالحج، فلقطتهم لقطة حاج، هذا ظاهر الحديث لكن الظاهر -والله أعلم- أن المراد بلقطة الحاج، إنما نهى عنها، لا لأنه حاج، ولكن لأنه في مكة، وإنما قيل: الحاج بناء على الغالب، هذا الذي يظهر وهو وإن كان خلاف ظاهر اللفظ، لكن

أحوجنا إليه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال في مكة: «لا تحل ساقطتها إلا لمنشد»، وعلى هذا فنقول: إن النهي عن لقطة الحاج لا لأنه حاج، ولكن لأنه بمكة، ويكون المراد النهي عن لقطة من في مكة. هذا النهي هل هو للتحريم أو للكراهة؟ الصحيح أنه للتحريم، وأنه لا يجوز للإنسان أن يلتقط اللقطة في مكة إلا إذا كان يريد إنشادها ولا يريد أن يتملكها، لأن اللقطة في غير مكة يلتقطها الإنسان على أنه يشدها وبعد سنة يتملكها لكن في مكة لا يجوز أن يلتقطها إلا بنية أنه سينشدها دائماً. فيستفاد من الحديث: تحريم التقاط اللقطة في مكة، ولكن لو قال قائل: ما الحكمة من ذلك؟ نقول: الحكمة أن هذا من باب احترام هذا المكان، لأن هذا المكان يجب أن يكون آمنا، أنظر إلى الشجر والحشيش في هذا المكان آمن لا يجوز لأحد أن يقطع شجره أو يحش حشيشه، الصيد آمن فإذا كان كذلك فأموال الآدميين يجب أن تكون آمنة، افرض أن أمامك الآن رزمة دراهم عشرة آلاف ريال وجدتها في السوق، نقول: لا تأخذها إلا إن كنت تريد أن تنشدها دائما، لماذا؟ لأنك إذا تركتها أنت وتركها من بعدك والثالث والرابع وهكذا، في النهاية يأتي صاحبها ويجدها. ولكن إن قال قائل: لو أن الإنسان خاف أن يجدها شخص لا يعرفها يتملكها، فهل له أن يأخذها؟ نقول: له ولكن بشرط الإنشاد أو أن يعطيها الجهات المسئولة إن كان هناك جهات مسئولة مرتبة لاستقبال ما يلتقطه الناس، وهذا في الحقيقة بالنسبة لمكة أمر ينبغي أن تقوم الدولة به أي: بأن تضع لجنة مأمونة لاستقبال ما يلتقطه الناس في مكة، لأن هذا فيه حفظ للأموال، وفيه إزالة الحرج عن الناس، لأني أنا سأكون محرجًا إذا وجدت عشرة آلاف على الطريق إن أخذتها مشكل، وإن تركتها مشكل، فأبقى محرجا، لكن إذا علمت أن هناك جهة مسئولة تستقبل هذه الملتقطات، سهل علي أن آخذها وأوصلها إليها

حكم لقطة المعاهد

حكم لقطة المعاهد: 904 - وعن المقدام بن معد يكرب (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ألا لا يحل ذو ناب من السباع، ولا الحمار الأهلي، ولا اللقطة من مال معاهد، إلا أن يستغني عنها». رواه أبو داود. لماذا كانت معد يكرب مع أنها مضاف إليها؟ لأنها اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف: العلمية والتركيب المزجي. «ألا» أداة استفهام، لها فائدتان: التنبيه والتوكيد، واعلم أن كل حرف جر زائد فإنه يفيد التوكيد في أي مكان في أول الجملة أو في وسطها أو في آخرها، كنون التوكيد، فإن كان في أول الجملة فأضف إليه إفادة التنبيه؛ لأن التنبيه يكون في أول الكلام، وهذه قاعدة مفيدة في البلاغة. «ألا لا يحل ذو» أي: صاحب «ناب من السباع» الناب هو السن فيما وراء الرباعية، والمراد بالناب هنا ليس مجرد الناب إنما المراد به: الناب الذي يفترس به، وقوله: ومن السباع، وصف آخر فإذا كان هناك سبع وله ناب فإنه لا يحل أكله مثل الذئب والكلب والنمر والأسد لا يحل أكلها، لماذا؟ لأن الإنسان يتأثر فيما يتغذى به، فإذا تغذى بلحم هذا النوع من الحيوان اكتسب من طباعه فيكون محبًا للعُدوان، ولهذا قال العلماء: يكره للإنسان أن يسترضع لابنه امرأة حمقاء؛ لأن ابنه يكون أحمق، إذن الألبان المجففة التي ترد الآن للأطفال باعتبار أن الطفل هل يكتسب من طباع الغنم إذا كان اللبن من غنم حتى لو اكتسب فطباعها هادئة. على كل حال: إنما نهى عن أكلها لأن الجسم إذا تغذى قد يكتسب من طبيعة أصلها، وهي العدوان فيحب الاعتداء. نعود للحديث: «ألا لا يحل» ألا أداة استفتاح وتفيل التنبيه وزيادة العناية، فهي أداة استفتاح لأنه يفتتح بها الكلام، وتفيد التنبيه لأنها بمنزلة المفتاح للسمع، وتفيد الاعتناء لأنه أوتي بما يقتضي، وكل شيء يُؤتى به للتنبيه، فهو دليل على أن الموضوع مهم، وقوله: «لا يحل ذو ناب» أي: صاحب ناب، والناب هو ما بعد الرباعية من الأسنان ينهش به الحيوان اللحم وغيره. وقوله: «من السباع»، أي: السباع الضارية، والمراد بذلك: أن الحيوان المفترس، وعليه فلا يحل مثل السبع والذئب والكلب، والحكمة في هذا أن الإنسان إذا تغذى بهذا اللحم فربما

يكتسب من طبيعته؛ لأن الجسم يتأثر بما يتغذى به، وقد قال أهل العلم إنه يكره أن يسترضع لولده امرأة حمقاء أو سيئة الخلق لئلا يؤثر في طبيعة الصبي، فكذلك كل ذي ناب من السباع إذا صار الإنسان يتغذى به تأثر به وصارت طبيعته طبيعة سبُعية تحب العُدوان. قال: «ولا الحمار الأهلي»، وهو الحمار المعروف الذي يكون بين الناس، والأهلي احترازاً من الوحش المتوحشي الذي لا يألف الناس، وهو حمار البَرَ أما الأهلي فهو حرام وإن توحش حتى لو فرض أن بعض الحمير توحش وصار كالثعلب والظباء وصار لا يألف الناس ويفر منهم فإنه حرام، وقد حُرمَت الخمر بعد أن كانت حلالاً فأصبحت بعد التحريم نجسة، وهي قبل التحريم طاهرة، فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حين فتح خيبر أمر أبا طلحة أن ينادي في الناس: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية لأنها رجس»، يعني: نجسة حرامًا فلا تحل. قال: «ولا اللقطة من مال معاهد إلا أن يستغنى عنها، المعاهد هو الذي بيننا وبينه عهد من الكفار، لأنه حصن ماله بهذه المعاهدة، والكفار بالنسبة لنا أربعة أقسام: معاهدون، ومستأمنون، وذو ذمة، ومحاربون. فأما المعاهدون فهم الذين جرى بيننا وبينهم صلح على وضع الحرب لمدة معينة كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع قريش في غزوة الحديبية. وأما المستأمنون فهم الذين طلبوا الأمان لبقائهم في البلاد الإسلامية للتجارة وعرض أموالهم ثم يرجعون، أو للبحث عن الإسلام وشرائعه يستمعون القرآن والحديث ثم يرجعون، هؤلاء نسميهم مستأمنين بالكسر وهم الذين طلبوا الأمان. الثالث: ذوو الذمة الذين نبقيهم في بلاد الإسلام لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولكن بالجزية نأخذ منهم كل عام جزية يقدرها الإمام. الرابع: المحاربون وهم من سوى ذلك، المحاربون مالهم حلال ودمهم حلال ولا إشكال في ذلك، والمعاهدون والمستأمنون وذوي الذمة مالهم حرام ودمهم حرام، فلا يجوز أن نغدر بهم، وبيننا وبينهم عهد، ولا يجوز أن نأخذ شيئًا من أموالهم ولا يجوز أن نقول في اللقطة إذا وجدناها من أموالهم: إنها مال كافر فلا تحل لنا، ولهذا قال: «ولا اللقطة من مال معاهد»؛ لأنه قد يقول أحد الناس: إن هذا كافر فماله حلال، نقول: لا ما دام بينك وبينه عهد فقد حصن نفسه وماله فلا يحل لك أن تخونه في أي شيء. قوله: «إلا أن يستغني عنها» يحتمل معنيين:

المعنى الأول: إلا أن تكون مما يُستغنى عنه عادة كالشيء الزهيد الذي لا تتبعه همة أوساط الناس. والثاني: أن يستغني عنها يعني: أن يقول لك: أنا في غنى عنها، وهي لك، وهذا الاستثناء يكون للمسلم أيضا، فإذا وجدت لقطة في بلاد إسلامية فإنها يجب احترامها ما لم يستغن عنها إما بإذن صاحبها وإما بكونها لا يهتم بها الناس. فإذا قال قائل: كيف أدري أنها مال معاهد؟ فالجواب: أن يُقال إذا وجدتها في بلادهم، مثلاً: صالحنا أهل بلد جيران لنا وهم كفار ثم سافر أحد من الناس فوجدها في بلادهم هذه مال معاهد، لأن البلد ليس فيه إلا كفار معاهدون أو يكون هذا الذي وجدناه من خصائصهم مثل أن يكون صليبا من ذهب فإنه معروف أن الصليب لا يكون إلا للنصارى، أو يكون من ألبستهم الخاصة فيكون لقطة من مال معاهد. ويستفاد من هذا الحديث: تحريم ذي الناب من السباع، لقوله: «ألا لا يحل». فإذا قال قائل: هل هناك ضابط للحلال من الحيوان؟ قلنا: نعم له ضابط الأصل في الحيوان الحل، ودليل ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] كل ما في الأرض فهو لنا حلال، {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية: 13]. وبناء على هذه القاعدة: لا يمكن أن نحرم [شيئا] من جميع الحيوانات من زواحف وطيور إلا بدليل، ولو تنازع اثنان في حيوان طائر أو زاحف هل هو حلال أو حرام؟ فقال أحدهما: إنه حرام، وقال الثاني: إنه حلال، فالصواب مع من قال إنه حلال حتى يقوم دليل على التحريم. ومن فوائد الحديث: أن ما كان سبعًا لا ناب له أي: ليس يفترس بنابه فهو حلال، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) اشترط شرطين: الأول: أن له نابا يفترس به. والثاني: أنه سبع. وبناء على هذا تكون الضبع حلالاً لأنها من السباع لكنها ليست ذات ناب، إذ إنها لا تأكل الحيوان إلا عند الضرورة بخلاف الذئب، الذئب يدخل الغنم أربعين شاة يشق بطنها كلها ويأكل كبد واحد والباقي يفسدها، لكن الضبع لا تأكل إلا عند الضرورة، ومن ثم كانت حلالاً، وجعل النبي (صلى الله عليه وسلم) فيها شاة إذا قتلها المحرم.

ومن فوائد الحديث: تحريم الحمار الأهلي لكن إذا دعت الضرورة لذلك حل، فلو فرض أن رجلاً يسير على حمار، ونفد زاد وجاع وخاف أن يهلك فلا بأس ان يذكي حماره ويأكل منه. وكذلك ذو ناب من السباع يحل أكله للضرورة، فلو أن إنسانا جائعًا في البر وخشي على نفسه من الهلاك فمر به ذئب فرماه يحل لقول الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. ولقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3]. حتى الخنزير لو اضطررت إلى أكله فكله، والكلب أيضاً كله. فإذا قال قائل: كيف يحل وهو نجس، والنجس مضر؟ قلنا: لأن قوة الطلب تدفع ضرره أو تخفف من ضرره قوة الطلب يعني: الجوع فالمعدة تجدها متأهبة تهضم هذا بسرعة ولا يتأثر، ولهذا ذكر أن صهيباً الرومي كان عند النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد أوجعته عينه فجيء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بتمر فأكل مته فطلب صهيب أن يأكل فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) فإنك أرمد، والأرمد يؤذيه التمر» فقال: يا رسول الله أمضغه من الجانب الآخر، فضحك النبى (صلى الله عليه وسلم) ومكنه. قال ابن القيم (رحمه الله): لأن هذا وإن كان يضر فى الأصل لكن قوة الطلب تجعل المعدة تذهبه. إذن يصير ذو الناب حلالاً عند الاضطرار ولكن لا يأكل منه إلا بقدر الضرورة، لأن ما زاد على الضرورة لا ضرورة إليه، فإذا كان يشبعه نصف كيلو فلا يأكل إلا ما يسد رمقه فقط، فإن جاع ثانيًا أكل ولكن هل له أن يتزود فيحمل معه من هذا اللحم؟ نعم إذا كان يخشى أن يحتاج إليه مرة ثانية فيحمل. ومن فوائد الحديث: حل الحمار الوحشي لمفهوم قوله: «الأهلي». ومن فوائد الحديث: تحريم لقطة المعاهد، وأنها كغيرها لقوله: «ولا اللقطة من مال معاهد ... إلخ». ومن فوائده: أن مال المعاهد محترم وهو ظاهر من قوله: «ولا اللقطة من مال معاهد»، وإذا كان ماله محترمّا فدمه محترم لا يجوز أن نقتله، حتى وإن كان أعدى عدو لنا مادام بيننا وبينه عهد، فإنه لا يجوز قتله، لكن إذا نقض العهد بأي ناقض من نواقض العهد المعروفة عند العلماء حل دمه.

20 - باب الفرائض

20 - باب الفرائض «الفرائض»: جمع فريضة كصحائف جمع صحيفة وهي بمعنى مفروضة، والفرض في الأصل: الحز حز الشيء يعني: لو حزرت لحمة بالسكين فتكون قد فرضتها، والمراد بالفرض في أصول الفقه: ما وجب فعله، والمراد بالفرض هنا: النصيب المقدر شرعا لوارث، فقولنا: النصيب المقدر خرج به التعصيب لأنه غير مقدر، إذ إن العاصب ربما يرث المال كله، وربما يرث نصف المال، وربما لا يرث شيئا، وخرج بقولنا: «لوارث» النصيب المقدر في الزكاة فإنه مقدر لكن ليس لورثة، ولكن لأهل الزكاة وخرج به أيضا الوصية، فإن الإنسان قد يُوصي بربع ماله، أو خمس ماله لشخص فهل تسمى هذا فريضة؟ لا، لأننا نقول: مُقدّر شرعا لوارث {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]. فربع العشر في المال الذهب أو الفضة نصيب مقدر شرعا لأهل الزكاة، لكن لا يُسمّى فريضة في الاصطلاح، فالفريضة في الاصطلاح: كل نصيب مقدر شرعا لوارث، والورثة وأصحاب الفروض محصورون وأصحاب التعصيب غير محصورين فقد يكون العصبة مئات أو آلاف لكن أصحاب الفروض عشرة فقط لا يزيدون. أصحاب الفروض: 905 - عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «الحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر». متفق عليه. «ألحقوا الفرائض» أي: أعطوها أهلها؛ لأن الله فرضها لهم وقال: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} [النساء: 11]. وقال في الآية الثانية: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} [النساء: 12]. وقال في الآية الثالثة: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا} [النساء: 176]. إذن ما خالف هذا البيان فهو ضلال فيجب علينا أن تُلحق الفرائض بأهلها للأدلة الثلاثة المذكورة وهي ثلاث آيات من سورة النساء. وقوله: «بأهلها»، أي: بأصحابها وهم عشرة: الزوجان اثنان، والأبوان أربعة، والبنات، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، والأخوات لأب، والأخوات لأم، والجدات، هؤلاء هم أصحاب الفروض فنعطي كل ذي فرض فرضه، ثم إن بقي فيقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «هو لأولى رجل ذكر» أي: لأقرب، وليس المعنى لأحق، لأنه لو اجتمع عندنا عم غني جداً وابن عم فقير جداً فلمن؟ فللعم لأن أولى، بمعنى: أقرب، لو فسرناها بمعنى أحق لكان لابن العم الفقير، فهي بمعنى: أقرب.

مراتب العصوبة

وقوله: «رجل ذكر» وهل هناك رجل غير ذكر؟ نقول: إن قوله: «رجل» غير قوله: «ذكر» لأن الرجل هو البالغ، والذكر خلاف الأنثى، فيكون قوله: «ذكر» كالتعليل لقوله: «رجل»، يعني: فيُعطى الرجل لذكورته ثم إن قوله: «ذكر» لو لم توجد لكان العاصب من كان رجلا وهو البالغ فيكون الصغير ليس بعاصب، فلابد من ذِكر الذكر وذِكر الرجل؛ لأنه صار أولى بالتعصيب لذكورته ورجولته جميعًا، وتعرفون أن الرجل عليه من المسئوليات المالية أكثر مما على الأنثى، بناء على هذه القاعدة التي أصلها النبي (صلى الله عليه وسلم) نحتاج إلى أن نعرف من الأولى وكيف الأولوية؟ يقول العلماء: الأولوية أن تقدم الأسبق جهة ثم الأقرب منزلة ثم الأقوى وهو الشقيق على الذي لأب. مراتب العصوبة: على هذه القاعدة أيضا نحتاج إلى أن نعرف مراتب العصوبة، المراتب بنوة ثم أبوة ثم أخوة ثم عمومة ثم الولاء، هذه خمس هى مراتب العصوبة: التعصيب: البنوة هم الأبناء وأبناؤهم وإن نزلوا إلى يوم القيامة، الأبوة الآباء والأجداد وإن علوا إلى آدم، الأخوة الأخ الشقيق أو لأب وأبناؤهم وإن نزلوا إلى يوم القيامة، العمومة الأعمام الأشقاء أو لأب وأبناؤهم وإن نزلوا إلى يوم القيامة، الولاء هو المُعْتِق الذي أعتق العبد، وكذلك عصبته المتعصبون بأنفسهم. هذه خمس مراتب، نقدم الأسبق جهة، وهي جهة البنوة ثم الأبوة، ثم الأخوة، ثم العمومة، ثم الولاء، فإن كانوا في جهة واحدة قدم الأقرب منزلة، فإذا وجد ابن وابن ابن فكلاهما في جهة واحدة، وهي جهة البنوة، فمن نقدم؟ الابن لماذا؟ لأنه أقرب منزلة، وإذا وُجد أب وجد كلاهما في جهة واحدة وهي الأبوة فتقدم الأب على الجد، لماذا؟ لأنه أقرب منزلة، وجد أخ شقيق وابن أخ شقيق نقدم الأخ الشقيق لأنه أقرب منزلة، وإذا وجد عم شقيق وابن عم شقيق نقدم العم الشقيق، لأنه أقرب منزلة، وإذا وجد ابن ابن ابن ابن عم شقيق كم هذه؟ خمسة، ووجد عمّ أب شقيق نقدم الابن النازل، لأنه أقرب منزلة لأن ابن عمك يلتقي بك في الجد وعم أبيك يلتقي بك في أب الجد، فاتصال ابن العم النازل بك أقرب من أتصال عم أبيك، وإذا وجد مُعتق ومعتق معتق نقدم المعتق لأنه أقرب فإذا كانوا في القرب سواء قدم الأقوى، وهو الشقيق على الذي لأب، فإذا وجد ابن شقيق وابن لأب هذا لا يتصور، أب شقيق وأب لأب لا يتصور. إذن القوة فى الأبوة والبنوة غير واردة، القوة تكون فى الأخوة والعمومة، وإذا وجد أخوان أحدهما شقيق والثاني لأب نقدم الشقيق لأنه أقوى، الشقيق يدلي بأبوين والذي لأب بأب ?

ميراث الزوجين

واحد، ويكون هذا في العمومة، وفي الأخوة وأبنائهم وإن نزلوا، وفي العمومة وأبنائهم وإن نزلوا، فمثلا: ابن أخ شقيق وأخ لأب تقدم الأخ لأب، لأنه أقرب منزلة، لأن الأخ معطوف على الابن أما لو قلت ابن أخ شقيق وأخ لأبٍ نقدم الأخ الشقيق، لأنه يكون الأخ معطوف على الأخ، انظروا كيف الفرق بسبب اللغة العربية؟ ! ميراث الزوجين: الزوجان: يعني الزوج والزوجة، ففرض الزوج النصف إن لم يكن للزوجة ولد، والريع إن كان لها ولد لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء: 12]. والولد يشمل الأبناء والبنات وبنات الابن وأبناء الابن، يعني: يشمل الذكور والإناث من أولاد الصلب وأولاد الأبناء وإن نزلوا، هذا فرض، هذا، والولد في الآية يشمل الذكور والإناث من أولاد الصلب، والذكور والإناث من أولاد الأبناء فقط لا أولاد البنات فإذا هلك هالك عن زوجة وابن بنت فلها النصف، لأن ابن البنت لا يدخل في التعريف الذي ذكرنا، لأن ذكرنا الولد الذكور والإناث من أولاد الصلب، يعني: الأولاد المباشرين، والذكر والأنثى من أولاد الأبناء فقط دون أولاد البنات، فإذا هلكت امرأة عن زوج وأخت شقيقة، فللزوج النصف، وإن هلكت عن زوج له أولاد وأخ شقيق هل الأولاد منها أو من غيرها؟ على كل حال: العِبرة بأولاد الميت لا بأولاد الوارث، وإذا هلكت امرأة عن زوج وبنت ابن فكم للزوج؟ الربع، وإذا هلكت عن زوج وابن ابن فله الربع أيضا، وإذا ماتت عن زوج وابن بنت ابن للزوج النصف، لأن ابن بنت الابن ليس من الفرع الوارث، نحن قلنا: الفرع الوارث يكون من أولاد الصلب الذكور والإناث أو من أولاد الذكور أي: أولاد الأبناء. الزوجة لها نصف ما للزوج، فإذا هلك الزوج عن أولاد فلها ثمن وإذا هلك وليس له أولاد فلها الربع، فإذا هلك عن زوجة وابن فللزوجة الثمن، عن زوجة وابن ابن فلها الثمن، عن زوجة وبنت ابن فلها الثمن، عن زوجة وابن بنت فلها الربع، عن زوجة وابن بنت ابن فلها الربع، فصار الولد المراد به الذكور والإناث من أولاد الصلب، وأولاد البنين من ذكور أو إناث دون أولاد البنات هذا ميراث الزوج والزوجة. ميراث الأم: الأبوان نبدأ بالأم إذا كان للميت أولاد ونقول في الأولاد ما قلنا في مسألة الزوجين يعني: أولاد ذكور أو إناث أولاد صلب أو أولاد أبناء فللأم السُدس، فإذا هلك هالك عن أم وله أبناء أو بنات أو أبناء أو بنات ابن فللأم السدس، وإذا هلك هالك وله عدد من الإخوة أخوان فأكثر

ذكر المسألتين العمريتين

أو أختان فأكثر أو أخ وأخت فلها أيضا السدس، إذن لها السدس إذا وجد عدد من الإخوة أو فرع وارث ولو واحداً؛ لقول الله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]. ترث الثلث إذا لم يكن للميت ولد ولا عدد من الإخوة ولم تكن المسألة إحدى العمريتين، كم شرطا؟ ثلاثة، فإذا هلك هالك عن أم وأخ شقيق كم للأم؟ الثلث لأنه واحد، عن أم وأختين شقيقتين فللأم السدس لوجود عدد من الأخوة. ذكر المسألتين العمريتين: الشرط الثالث: ألا تكون المسألة إحدى العمريتين، فإن كانت إحدى العمريتين فلها السدس الباقي بعد فرض الزوجين، والعمريتان هما: زوجة وأم وأب أو زوج وأم وأب هاتان هما العمريتان، وسميتا بذلك نسبة إلى عمر بن الخطاب؛ لأنه أول من قضى بهما حيث لم تقع هذه المسألة لا في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا في عهد أبي بكر (رضي الله عنه)، فكيف نقسمها؟ يقول العلماء: أعط الزوجة أو الزوج حقه ثم قل للأم ثلث الباقي والباقي للأب، فإذا هلكت امرأة عن زوج وأم وأب فكم للزوج؟ النصف، يبقى نصف عندنا أم وأب، إن أعطينا الأم الثلث، ورثت ضعفي الأب، لأنه ما عندنا إلا نصف فنقول مثلاً: المسألة من ستة للزوج النصف ثلاثة، وللأم الثلث اثنان، وللأب الباقي واحد، وهذا عكس قواعد الفرائض، قواعد الفرائض أن للذكر مثل حظ الأنثيين إذا كانت من جنسه أو على الأقل مثلها، فالأخ من الأم له مثل ما للأخت، والإخوة الأشقاء: الأخ له مثل حظ الأنثيين، فهنا لا يمكن أن نقول للأم الثلث، لماذا؟ لأنها تكون حينئذ أكثر من الأب، وهذا يُخالف قواعد الفرائض، لماذا لا نقسم الباقي بينهما وبين الأب، نقول: هذا أيضا لا يستقيم لأنها صاحبة فرض ولا يمكن أن نقسمها قسمة إخوة من أم، لأنها فرع مستقل بخلاف الإخوة من الأم، ولهذا قال في الإخوة من الأم {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}. إذن لم يبق إلا أن نقول: لو انفردت الأم والأب في الميراث فكيف نقسمه بينهما؟ الجواب: أقسمه أثلاثاً؛ للأم ثلث، وثلثان للأب فنقول: قدر أن الباقي بعد فرض الزوج كأنه مال مستقل فيكون للأم ثلثه، والباقي للأب، ولهذا كانت هذه القسمة في غاية ما يكون القياس الصحيح، فنقول في هذا المثال للأم ثلث الباقي والباقي للأب. لو قال قائل: أروني في كتاب الله فرضا يُسمّى ثلث الباقي، أو أروني في سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فرضا يُسمّى ثلث الباقي؟ قلنا: لا نرى فرضا وليس موجودا، فإذا قال: لماذا تجعلون الأم والأب كالأخ والأخت وتقولون: الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين؟ ! قلنا: هذا لا يستقيم

ميراث الأب

لأن الذي للذكر مثل حظ الأنثيين في مسائل الفرائض يرثون بالتعصيب، وهنا الأم صاحبة فرض، فلابد أن نفرض لها ولم نجد إلا ثلث الباقي. المسألة الثانية من العمريتين هي: هلك رجل عن زوجة وأم وأب، فنقول للزوجة الربع، فالمسألة من أربعة للزوجة الربع، وللأم ثلث الباقي وهو واحد والباقي للأب ويساوي النصف، ونصيب الأم يساوي الربع. إذن ميراث الأم ثلاثة أقسام ثلث كامل وسدس وثلث الباقي، الثلث الباق في العمريتين وهما مسألتان لا ثالث لهما، السدس فيما إذا وجد عدد من الإخوة أو فرع وارث يعني: ولد أو ولد بنت وإن نزل، الثلث كاملاً فيما عدا ذلك إذا هلك هالك عن أم وابن، للأم السدس، لو كان بدل الابن بنت كذلك للأم السدس، ولو كان بدل البنت بنت بنت فللأم الثلث، لو هلك هالك عن أم وأب وأخوين شقيقين، للأم السدس والباقي للأب والإخوة يسقطون. لو قال قائل: إذا كان الإخوة لا يرثون فوجودهم كالعدم ماذا نقول؟ قال الله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]. ومعلوم أنه إذا كان هناك أب فليس للأخوة ميراث. وهذه المسألة مما ذهب شيخ الإسلام فيها إلى خلاف رأي الجمهور، فقال: إذا لم يرثوا فإنهم لم يحجبوا، فيعطى الأم في هذا المثال الثلث كاملاً، لأن الإرث انحصر فيها هي والأب فتعطى الثلث، ولكن ظاهر الآية الكريمة خلاف هذا القول، وهو رأي الجمهور، وهو الصحيح، أي: أن الإخوة وإن لم يرثوا فإنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس. ميراث الأب: ميراث الأب أسهل من ميراث الأم، لأن ميراثه إما سدس وإما تعصيب، وإما سدس وتعصيب، يكون له السدس بلا تعصيب إذا وجدّ فرع وارث من الذكور، فهنا له سدس بلا تعصيب. مثاله: هلك هالك عن ابنه وأبيه، للأب السدس فرضا، ولا يرث سواه والباقي للابن، ويرث تعصيبًا بلا فرض إذا لم يوجد فرع وارث فإنه يرث تعصيبًا لا فرضا كما لو هلك هالك عن أمه وأبيه فللأم الثلث والباقي للأب ولا نقول له السدس ويرث بالفرض والتعصيب إذا وجدّ إناث الفروض، يعني: البنات أو بنات الابن فهنا يجمع بين الفرض والتعصيب فأحواله إذن ثلاثة. هلك هالك عن أب وابن ابن، للأب السدس لوجود الذكر الفرع الوارث والباقي لابن الابن.

ميراث الجد والجدة

إذا هلك عن بنت وأب هل يرث هنا بالتعصيب أو بالفرض أو بهما؟ يرث بهما للبنت النصف، وللأب السدس فرضا، والباقي تعصيبًا لماذا لا نقول وللأب الباقي؟ نقول: لأن الله قال: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ} [النساء: 12]. هنا فيه ولد، فلابد أن نعطي الأب السدس فرضه ثم له الباقي بالتعصيب، ولكن لاحظ إذا كنت تقسم هذه المسألة للعامي لا تقل له: السدس فرضنا والباقي تعصيبًا، لو قلت له ذلك يشوش عليه، ولكن تقول له بينه وبين البنت، للبنت النصف وله الباقي لأن العامي لو قلت له: للبنت النصف وللأب السدس فرضنا والباقي تعصيبا شوش عليه. فائدة: الفرع الوارث كل واحد من الفروع ليس بينه وبين الميت أنثى. ميراث الجد والجدة: الجد والجدة هما من أصحاب الفروض، أما الجد فدليله أنه أب، الجد أب قال الله تعالى: {مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]. وإبراهيم ليس أبا للرسول وأصحابه؛ لأن بينه وبين الرسول (صلى الله عليه وسلم) آباء كثيرين، لكنه جدّ فسماه أبا وقال تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38]. إبراهيم جده لكنه جعله أبًا، فهذا هو الدليل على أن الجد يرث ميراث الأب، فإذا كان يرث ميراث الأب ففرضه السدس لا يزيد ولا ينقص لكنه أحيانا يرث بالفرض إذا وجد فرع وارث من الذكور ويرث بالتعصيب إذا لم يوجد فرع وارث، وبالفرض والتعصيب إذا كان الفرع الوارث أنثى. إذن الجد كالأب. ولكن من المراد بالجد هنا؟ المراد به: من لم يكن بينه وبين الميت أنثى، فأما من كان بينه وبين الميت أنثى فليس بوارث، فأب الأم لا يرث لأن بينه وبين الميت أنثى وأبو الجدة لا يرث، وأبو الأب يرث وأبو الجد من قبل الأب يرث، وأبو الجد من قبل الأم لا يرث، فصار ميراث الجد كميراث الأب، ولكن يجب أن تعلم أن الأم مع الجد في إحدى المسألتين العمريتين ليس كالأم مع الأب، لأنها مع الجد ترث الثلث كاملاً، الاختلاف هنا في ميراث الأم، فالأم مع الجد ليست كالأم مع الأب. مسألة العمريتين: فيما إذا هلك هالك عن زوج وأم وجد فللزوج النصف، وللأم الثلث، والباقي للجد، الجد أخذ السدس الآن، ولو هلك إنسان عن زوجة وأم وجد، فللزوجة الربع، وللأم الثلث، وللجد الباقي، فصار الآن الجد مثل الأب لكن في العمريتين يكون ميراث الأم الثالث كاملاً في مسألة الجد وثلث الباقي في مسألة الأب. أما الجد مع الإخوة فقد اختلف العلماء هل حكمه حكم الأب أو يختلف؟ والصحيح أن حكمه حكم الأب، وهذا مذهب أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) وثلاثة عشر صحابيا،

ومذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وشيخنا عبد الرحمن السعدي وشيخنا عبد العزيز بن باز - وهو الحق -، أي: أن الجدّ مع الإخوة كالأب مع الإخوة، وعلى هذا فيسقطهم، فإذا هلك إنسان عن جد وأخ شقيق فالمال للجد، وذهب بعض العلماء إلى أن الإخوة لا يسقطون بالجد إلا إن كانوا من أم فقط، فإنهم يسقطون به أما إذا كانوا أشقاء أو لأب فإنهم لا يسقطون به، ويرثون معه على تفاصيل لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، بل الكتاب والسنة يدلان على خلاف هذه التفاصيل، ووجهه: أنه لو كانت هذه التفاصيل المذكورة في باب الجد والأخوة حقا لبينها الله في كتابٍ أو لبينها الرسول (صلى الله عليه وسلم) كما بين ميراث الأم بالتفصيل، وميراث الأبوين بالتفصيل، وميراث الزوجات بالتفصيل، وميراث الأزواج بالتفصيل، فأين في كتاب الله ثلث الباقي أو السدس الكل أو المقاسمة أو ثلث المال أين هذا؟ إذن الذين قالوا بتوريث الإخوة الذين ليسوا لأم مع الجد ليس لهم دليل لا من الكتاب ولا السُنة ولا الإجماع ولا القياس الصحيح، بل إن الكتاب والسنة يدلان على خلاف هذا القول، وأقوال بعض الصحابة ليست بحجة إذا كانت لا يدل عليها الكتاب ولا السُنة ولم يجمع عليها الصحابة، ولو أردنا أن نأخذ بأقوال الصحابة أو نحتج بها - وهي حجة بلا شك - لكن قصدي في هذه المسألة- لكان أولى الناس في الاحتجاج بقوله أبا بكر وهو لم يقل بذلك، إذن الجد كالأب إلا في باب الإخوة لغير أم فإن فيه خلافا، والصحيح أنه كالأب. وأما العمريتان فينبغي أن يكون مورد الاستثناء ميراث الأم فتقول: إن الأم مع الجد في باب العمريتين تختلف عنها مع الأب والاختلاف ظاهر؛ لأنها هي والأب في منزلة واحدة، أما مع الجد فهي أقرب منه، فلذلك لم يكن هناك ضرر إذا قلنا: إنها ترث الثلث كاملاً وإن زادت على نصيب الجد؛ لأنها قد تزيد على نصيب الجد، ففي زوج وأم وجد من ستة للزوج النصف ثلاثة، وللأم الثلث اثنان، وللجد الباقي واحد، فزادت عليه، وفي زوجة وأم وجد من اثني عشر للزوجة الربع ثلاثة، وللأم الثلث أربعة، والباقي خمسة للجد. بقي لنا الجدة وأمرها سهل، لا ترث إلا السدس لا تزيد ولا تنقص بشرط ألا تُدلي بأبٍ لا يرث، يعني: لا تدلي بأب قبله أنثى فأم الأم ترث، أم الأب ترث أم أم أم أم الأم خمس مرات ترث، وأم أب الأب خمس مرات ترث، أم أب الأم لا ترث لأنها أدلت بذكر مسبوق بأنثى فلا ترث، الدنيا تحجب العليا يعني: القريبة تحجب البعيدة، فأم أم تحجب أم الجد؛ لأنها أقرب منزلة وأم الأب تحجب أم الجدة أيهما أقرب؟ أم الأب، والأم تحجب الجدة، كل الجدات.

ميراث البنات والأخوات والإخوة

ميراث البنات والأخوات والإخوة: بقي لنا البنات، الواحدة لها النصف، وما زاد لهما الثلثان، بشرط ألا يكون معهما أبن، فإن كان معهما ابن ورثن معه بالتعصيب، للذكر مثل حظ الأنثيين. بنات الابن نفس الشيء ميراثهن الواحدة لها النصف، وما زاد فالثلثان، لكن تزيد شرطا. ثانيًا: ألا يوجد ابن ابن بدرجتهن، وألا يكون فوقهن فرع وارث. الأخوات الشقيقات والأخوات لأب سهل أيضا الواحدة لها النصف وما زاد فالثلثان، لكن بشروط ثلاثة: ألا يوجد أخ شقيق، ولا أصل ذكر، ولا فرع مطلقًا، ذكرا أو أنثى، ففي زوج وأخت للزوج النصف وللأخت النصف، وفي زوج وأختان للزوج النصف وللأختين الثلثان، وتعول المسألة. الأخوات لأب أيضا سهل أمرهن، للواحدة النصف، ولمن زاد الثلثان، لكن بشروط ألا يوجد أخ لأب، ألا يوجد أصل من الذكور، ألا يوجد فرع مطلقًا، ألا يوجد أحد من الأشقاء، كم الشروط؟ أربعة. والأصناف التى ذكرنا من النساء أربعة: البنات، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، والأخوات لأب، فالشروط على حسب فهن هنا الترتيب البنات رقم واحد الشرط فيهن واحد، بنات الابن رقم اثنان، والشرط فيهن اثنان، الأخوات الشقيقات رقم ثلاثة، الشروط ثلاثة، الأخوات لأب رقم أربعة، الشروط أربعة. بقي لنا الإخوة من الأم والأخوات، أيضا سهل أمرهم، للواحد السدس، ولمن زاد الثلث، لكن بشرطين: ألا يوجد فرع وارث، ولا أصل من الذكور وارث، وإذا وجد الشرطان فللواحد السدس ولمن زاد الثلث، هؤلاء هم أصحاب الفروض فإذا مات الميت وجب أن نبدأ بهؤلاء وتعطيهم فرضهم لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر». ولنضرب لهذا مثلاً: امرأة ماتت عن زوجها وأمها وأخويها من الأم، وأخيها الشقيق، نقول: نبدأ بالفرائض قبل كل شيء، الزوج هنا له النصف؛ لأنه لا يوجد فرع وارث، الأم لها السدس؛ لأنها استكملت الشروط لوجود عدد من الإخوة، الأخوان من الأم لهما الثلث؛ لأنه ليس يوجد فرع وارث، ولا أصل وارث، ولا عدد من الذكور، فالمسألة من ستة، للزوج النصف ثلاثة، وللأم السدس واحد، وللأخوين من الأم الثلث اثنان، هذه الستة والأخ الشقيق لا شيء له، التركة ستة ملايين أخذ الزوج ثلاثة ملايين، والأم مليونا، والأخوان من الأم مليونين، والأخ الشقيق نقول: يكفيك أن نعزيك، لماذا لا يأخذ؟ نقول: لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر»، أنت أولى رجل ذكر، لكن لم يبق لك شيء، ألحقنا

الفرائض بأهلها فأعطينا الزوج والأم والإخوة من الأم كل واحد نصيبه، ولم يبق لك شيء، فأدلى علينا بقياس قال: إذا كان الإخوة من الأم مدلين بجهة واحدة وهي الأمومة، وأنا مدل بجهتين وهي الأمومة والأبوة، فأنا أحق بالميراث منهما، فماذا نقول؟ نقول له: أولاً: لا قياس مع النص، ولا تفكر أننا نلغي مدلول النص من أجل قياسك، لأننا نعلم أن قياسك فاسد، وكل قياس يخالف النص فهو فاسد. ثانيًا: أن قياسك هذا لا يطرد، أرأيت لو كان يوجد بنت بدل الأم هل يرث الإخوة من الأم شيئا؟ لا، وأنت ترث فكيف القياس؟ ! ثالثا: لو فرضنا أن الميتة هذه ماتت عن زوجها وأخويها من أمها وثلاثة إخوة أشقاء، فكانت المسألة من ستة، لزوجها النصف ثلاثة، ولأخويها من أمها الثلث اثنان، والباقى وأحد للأشقاء الثلاثة بإجماع المسلمين، ليس للإخوة الأشقاء ثلاثة إلا واحد، يعني: نصف ما للأخوين من الأم، فأين القياس؟ إذن نقول: هذا قياس فاسد مصادم للنص فلا عبرة به. فلو قال كما يذكر أن أحد الأشقاء لما تحاكموا إلى عُمر قالوا: يا أمير المؤمنين هب أبانا كان حمار -أنا ما أظنها تصح عن هذا الرجل؛ لأنه لو قال هذا أمام عمر لم يجد إلا الدارة فوق رأسه- فهذا غير صحيح؛ لأن الوصف الذي علق الشارع الحكم به لا يتغير وأنت من أصحاب التعصيب، إن بقي لك شيء فهو حقك، وإن لم يبق شيء فليس لك حق. إذن هذا الحديث يمكن أن نستدل به على القول الصحيح في مسألة الحميرية، فنقول: إن الإخوة الأشقاء يسقطون ولا شك، لأن هذا هو ما دل عليه الحديث، الحديث يقول (صلى الله عليه وسلم): «فأولى رجل»، فأولى هنا بمعنى: أقرب، وليست بمعنى أحق، لأننا لو جعلناها بمعنى أحق لكان العاصب الفقير وإن بَعُدَ أولى من العاصب القريب إذا كان غنيًا، وقد تكلمنا على الأقرب في أول شرحنا لهذا الحديث، وقلنا: إن هاهنا جهات خمسا: بنوة، أبوة، أخوة، عمومة، ولاء، فيقدم الأسبق جهة ثم الأقرب منزلة ثم الأقوى، وعلى هذا قال الجعبري (رحمه الله): (فبالجهة التقديم ثمّ بقربه ... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا) فابن ابن نازل أحق بالتعصيب من أب قريب، لو هلك عن أب وابن ابن نازل فللأب السدس لوجود الفرع الوارث، والباقي للابن النازل، لأنه أسبق جهة، ولو هلك عن ابن ابن وابن أبن ابن فالتعصيب للأول لأنه أقرب منزلة، ولو هلك عن أخ شقيق وأخ لأب فللأخ

حكم ميراث المسلم للكافر والكافر للمسلم

الشقيق؛ لأنه أقوى، ولو هلك عن أخ لأب وابن أخ شقيق فللأخ لأب لأنه أقرب منزلة، ابن أخ لأب وابن أخ شقيق فلابن الأخ الشقيق؛ لأنه أقوى، ابن شقيق وابن لأب هذا لا يمكن، إذن القوة لا تكون إلا في الأخوة والعمومة فقط، ابن ابن ابن عم شقيق نازل، وعم أب شقيق التعصيب للأول؛ لأن أبن ابن العم النازل تجتمع معه بالجد، وعم الأب تجتمع معه بأب الجد، إذن الأول أقرب، ولهذا قال بعض الفقهاء (رحمهم الله) قاعدة مفيدة، وهى: أنه لا يرث بنو أب أعلى مع بني أب أقرب وإن نزلوا، من الذين نزلوا؟ بنو الأب الأقرب يعنى: لو جاء ابن ابن ابن عم إلى العاشر وعم أب فالمال للأول؛ لأنه يجتمع معك فى أب أقرب، فصار العصبة خمس جهات: بنوة ثم أبوة ثم أخوة ثم عمومة ثم ولاء، فتقدم في التعصيب الأسبق جهة، فإن كانوا في جهة واحدة فالأقرب منزلة أحق فإن كانوا بمنزلة واحدة فالأقوى ووصف القوة لا يكون إلا في الأخوة والعمومة، ويكون أيضا في النسب لكونه أخا للمعتق أو عمّا أو ابن أخ وابن عم. حكم ميراث المسلم للكافر والكافر للمسلم: 906 - وعن أسامة بن زيد (رضي الله عنهما) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم». متفق عليه. «لا يرث» النفي هنا بمعنى: النهي بمعنى أنه لا يجوز أن يرث المسلم الكافر، ولو كان قريبه، ولا يرث الكافر المسلم، ولو كان قريبه. مثال ذلك: رجل مسلم أبوه نصراني مات الرجل المسلم فإن أباه لا يرثه لأن الكافر لا يرث المسلم، مات الأب النصراني وله ولدان: أحدهما مسلم، والثاني نصراني، فميراثه لولده النصراني، لا لولده المسلم، لأن المسلم لا يرث الكافر، فإذا قال قائل: لماذا ما الحكمة؟ الحكمة أن الأصل في الميراث أنه مبني على الموالاة والنصرة، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الأول: «فلأولى رجل» فهو مبني على الموالاة والنصرة، ولا موالاة ولا نصرة بين المسلم والكافر، بل كل منهما يجب أن يكون عدوا للآخر، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]. وقد أشار الله إلى هذا في القرآن في قوله وهو يخاطب نوحا (عليه السلام) لما قال: {نَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]. فنفى أن يكون من أهله مع أنه ابنه، لأنه كافر، ونوح نبي من الأنبياء - أحد أولي العزم-، فدل هذا على أنه لا صلة بين المسلم والكافر، وظاهر الحديث أنه لا فرق

بين أن يكون الكافر يقرَّ على دينه أو لا يقر، فالذي يقر على دينه مثل اليهودي والنصراني والمشرك الأصلي، وأما الذي لا يقر فهو المرتل، فلو كان أحد القريبين مرتداً فإنه لا يرث من قريبه ولا قريبه منه، ومثاله -وهو كثير في وقتنا الحاضر- رجل لا يصلي فمات له ابن مسلم خلف ملايين وله عم لهذا الولد المسلم فمن الذي يرثه؟ عمه أما أبوه فلا يرث، لماذا؟ نقول: لأنه غير مسلم هو كافر، والابن مسلم، وقد قال النبي يَغ: ولا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافره، فظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون الكافر أصليًا يقرّ على دينه أو مرتلا لا يقرّ على دينه، لأن الحديث عام استثنى -.بعض العلماء ما إذا أسلم قبل قسمة التركة، فإنه يرث ترغيبا له في الإسلام مثال هذا: رجل هلك عن أبناء وزوجة وأحد أبنائه لا يصلي، فهذا الذي لا يصلي ليس له ميراث لكنه قبل أن تقسم التركة هداه الله وصلى فاستثنى بعض العلماء" هذه المسألة وقالوا: إذا أسلم قبل أن تقسم التركة، فإنه يُعطى ميراثه لماذا؟ قالوا: ترغيبا له في الإسلام، ولكن الصحيح أنه لا يُعطى شيئا لأن الحديث عام والترغيب في الإسلام ينبغي أن نقول للورثة: أعطوا هذا الذي أسلم نصيبه من الميراث لتنالوا الأجر فإن ذلك لا شك يرغبه في الإسلام، فالصواب أن هذا ليس له ميراث العموم الحديث، ولأننا يمكن أن نناقض هذا التعليل، فنقول: قد يُسلم ظاهرا ليحوز الإرث ثم إذا حازه كفر، فهذه المصلحة تقابل بمفسدة ولكنه لا شك أنه إذا أسلم فإنه ينبغي لنا أن نحث الورثة على أن يعطوه نصيبه لما في ذلك من التأليف على الإسلام، والتآلف بين الأنام. واستثنى بعض العلماء أيضا الولاء، فقالوا: إن الولاء يورث به حتى مع الكفر، فلو كان السيد كافرا ومات عتيقه وليس له وارث سواه، فإن السيد يُعطى من الميراث، ولكن هذا القول ضعيف، لأنه يستدل بعموم قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «إنما الولاء لمن أعتق»، وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأن هذا الحديث فيه بيان أن الولاء سبب من أسباب الإرث، فإذا أردنا أن نحتج بهذا العموم قلنا أيضا إن الله قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]. فاستدلوا بهذه الآية على أنه لا مانع من الإرث على خلاف الدين، فالاستدلال بهذا الحديث ضعيف، والصحيح أنه لا ميراث مع اختلاف الدين ولو بالولاء، والدليل على ذلك عموم الحديث: ولا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، واستثنى بعض العلماء المرتد

فقال: إنه يورث ولا يرث. واستدل من قال بذلك بأن الصحابة (رضى الله عنهم) ورثوا ورثة المرتدين الذين ارتدو بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولكن هذا الاستثناء ضعيف، لأن عموم الحديث لا يخصصه إلا بنص أو بإجماع، ولا إجماع في المسألة ولا نص. فالجواب: إبقاء الحديث على عمومه، وأن المرتد لا يرثه أحد من أقاربه، ويذهب ماله إلى بيت المال، واستثنى بعض العلماء المنافقين فقال: إنه يجري التوارث بينهم وبين المؤمنين، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) عاملهم معاملة المسلمين ظاهرا، وهذا الاستثناء صحيح إذا لم يُعلم نفاقه، أما إذا عُلم نفاقه واشتهر وأعلنه فإنه كافر، ولا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، لكن إذا كان لا يُعلن نفاقه، فإنه يجرى التوارث بينه وبين أقاربه المسلمين، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يعامل المنافقين معاملة المسلمين، إذن فلا يستثنى من هذا الحديث إلا المنافق الذي لم يظهر نفاقه. هذا الحديث يسميه العلماء: «موانع الإرث»، يعني: إذا وجدت أسباب الإرث، لكنه وجد مانع فإنه لا توارث، وذلك لأن الأحكام لا تثبت إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها، ولهذا لو توضأ الإنسان وضوءا كاملاً وتطهر طهارة كاملة في ثوبه وبقعته ثم صلى في وقت النهي فصلاته باطلة لوجود المانع، وحينئذ يجدر بنا أن نتكلم عن الموانع، فنقول: الموانع ثلاثة: اختلاف الدين، والقتل، والرق. أما اختلاف الدين فقد سمعتم دليله: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم»، وهل يرث الكافر الكافر؟ إن كان دينهما واحدا توارثا، وإن كان دينهما مختلفا فلا إرث، فاليهودي لا يرث من النصراني، والنصراني لا يرث من اليهودي؛ لأن الكفر مِلل. الثاني: القتل يعني: لو أنه قتل الوارث مورثه، فإنه لا يرثه، ولو كان أباه لماذا مع وجود الأبوة؟ استدلوا بأثر ونظر، أما الأثر فهو أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن القاتل لا يرث شيئا من المقتول». وأما النظر فقالوا: إننا لو ورثنا القاتل أدى ذلك إلى أن يُقتل الرجل من أجل ماله، وهذا يفتح باب شر على الناس، فإذا حرمناه سددنا الباب، وعلى هذا فلا يرث القاتل سواء كان قتله عمداً أم خطأ، حتى لو انقلبت امرأة على طفلها في النوم ومات، فإنها لا ترث منه، هل هذه تعمدت؟ لا، أم تقتل ولدها وهي نائمة مستحيل، لكن نقول سدا للباب، لئلا يدعي مدع قاتل عملا أنه كان قتل خطأ، ولكننا نقول في هذه المسألة: أما الحديث فلا يصح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن القاتل لا يرث، وأما التعليل فينبغى أن يُقال بمقتضاه بشرط أن نعلم أن يغلب على الظن أن هذا الوارث إنما قتل مورثه من أجل ان يرثه، فإن نفى هذا فإنه لا وجه لحرمانه من الميراث.

ونضرب لهذا مثلاً يوضح المسألة: لو أن شخصا يقود سيارة بأبيه وحصل منه خطأ فانقلبت السيارة ومات الأب فهل يرث؟ نقول: أما على القول بأن القتل مانع من موانع الإرث ولو كان خطأ فإنه لا يرث على كل حال، وأما على القول الثاني الذي يقول إذا انتفت التهمة فالأصل أن يعلم السبب عمله وأن يرث، على هذا القول الثاني نقول: إن الابن هنا يرث من أبيه، ولكن لا يرث من الدية، يرث من ماله الأول، لأن هذا الولد يجب على عاقلته دية أبيه والدية تضم إلى مال المورث، لكن في هذه الحال نقول للولد: ليس لك من الدية شيء لك من مال أبيك الأول، فإذا كان عند أبيه مائتا ألف والدية التي حصلها مائة ألف يرث الابن من مائتي الألف دون مائة الألف التي هي الدية، وقد جاء فى هذا حديث أخرجه ابن ماجه، وقال أبن القيم في إعلام الموقعين: به نأخذ، يعني: أن القتل إذا كان خطأ فإنه لا يمنع من الميراث لانتفاء العلة التي بها منع القاتل من الميراث، وهذا القول هو الصحيح أن القاتل خطأ يرث من المقتول، أما إذا تعمد مثل أن يكون ابن عم وعند ابن عمه مال كثير وهو فقير ويأتي لابن عمه يقول: أعطني درهما أشتري به خبزا للفطور والغداء، فيقول: لا، فقال له يتهدده، ثم قتله ففي هذه الحال لا يرثه قطعًا لأن الرجل عُلم أنه يريد المال، ومن القواعد المقررة عند الفقهاء: من تعجل شيئًا قبل أوانه عُوقب بحرمانه. الثالث من الموانع: الرق، يعني: إذا كان الوارث لولا الرق لورث فهذا مانع من موانع الإرث، يعني: إذا وجد سبب الإرث في شخص وكان رقيقا فإنه لا يرث مثاله رجل له أخ رقيق. وله عم حر فمن الذي يرث؟ العم الحر لكن لولا الرق لورث الأخ الشقيق، الرق مانع من موانع الإرث، والدليل أن الله سبحانه وتعالى ذكر الميراث باللام الدالة على الملك فقال: : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]. وقال: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم}، {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}، {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} وإذا كان استحقاق الوارث للإرث بالملك؛ فإن الرقيق لا يملك لأنه مُلك لسيده، والدليل على أن الرقيق لا يملك قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «من باع عبدًا وله مال فماله للذي

باعه إلا أن يشترطه المبتاع» يعني: المشتري، فقوله: «ماله للذي باعه»، يدل على أن العبد لا يملك، وبناء عليه لو ورّثنا العبد المملوك من قريبه لكان ثمرة الميراث لسيده وهو أجنبى من الميت، ولهذا نقول: الثالث من موانع الإرث الرق، يعني: أن الرقيق لا يرث وهل يورث؟ لا لأنه ليس له مال حتى يورث ماله لسيده، نرجع مرة ثانية نقول: هذه الموانع تنقسم إلى قسمين مانع من جانب واحد ومانع من الجانبين فاختلاف الدين مانع من الجانبين، يعني: أن من خالفك في الدين لا يرث منك، ولا ترث منه، القتل من جانب واحد، يعني: أنه لا يرث القاتل ولكن المقتول يرث من القاتل، هل هذا يتصور؟ نعم يتصور بأن يجرحه القاتل جرحا مميتًا ثم يموت القاتل بسكتة أو حادث قبل أن يموت المجروح حينئذ يكون المقتول وارثا للقاتل إذن القتل مانع من جانب واحد وهو جانب القتل، الرق مانع من الجانبين فالرقيق لا يرث ولا يورث. من فوائد الحديث: أولاً: منع ميراث المسلم من الكافر، والكافر من المسلم. ثانيًا: المباينة التامة بين المسلم والكافر حتى الميراث الذي يكون ملكا قهريا لا يجري بين مختلفين في الدين. ثالثاً: أن العمدة في الموالاة والمناصر اتفاق الدين، ومع الاختلاف لا تجوز الموالاة والمناصرة. رابعًا: أن المسلم يرث من المسلم وأن الكافر يرث من الكافر، ولكن العلماء اختلفوا: هل الكفر ملة واحدة فيرث اليهودي من النصراني والمجوسي والشيوعي والمرتد أو أن الكفر ملل مختلفة فلا يرث اليهودي من النصراني ولا النصراني من اليهودي؟ في هذا قولان لأهل العلم، فمنهم من قال: إن الكفر ملة واحدة وإن الكفار يتوارثون وإن اختلفت مللهم، ومن العلماء من يقول: بل لا يرثون مع اختلاف الملل، أما الأولون فقالوا: إن الكفر ملة واحدة لقول الله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} [الأنفال: 73]. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} [المائدة: 51]. وأما الذين قالوا لهم ملل مختلفة ولا يتوارثون فقالوا إن الله قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [المائدة: 112]. فيتبرأ كل منهم من الآخر من حيث الدين، أما قوله «بعضهم أولياء بعض» فهذا بالنسبة

للمسلمين فهم أولياء بعضهم لبعض على المسلمين أما فيما بينهم فلا وهذا هو الصحيح: أن الكفر ملل مختلفة، والدليل على ذلك انظر اختلافهم في المسيح ابن مريم، اليهود يقولون: إن المسيح ابن زانية وأمه زانية قاتلهم الله، والنصارى يقولون: إنه إله وأمه إله، فرق عظيم كيف تقول: إن هؤلاء بعضهم أولياء بعض لكن هم أولياء على المسلمين أما فيما بينهم فلا، إذن اليهودي يرث من اليهودي والنصراني من النصراني، والمجوسي من المجوسي. المرتد يقولون: إنه لا يرث ولا يورث ويذهب ماله إلى بيت المال؛ لأنه لا يُقر على دينه المرتد يجب أن يقال له: إما أن ترجع للإسلام الذي خرجت منه وإلا فالسيف. 907 - وعن ابن مسعود (رضي الله عنه) في بنتٍ، وبنت ابن، وأخت «قضى النبي (صلى الله عليه وسلم) للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت». رواه البخاري هذه المسألة أفتى بها أبو موسى الأشعري قبل ابن مسعود سئل أبو موسى الأشعري وهو بالكوفة عن بنت وبنت ابن وأخت فقال للبنت النصف وللأخت النصف لأنه رأى أنهما أنثيان ليس معهما عاصب وقد قال الله تعالى: {وَلَهُ أختُ فَلَهَا نصف ما ترك} [النساء: 176]، وقال في البنت: {وإن كانت وواحدة فلها النصف} [النساء: 11]. فقال للبنت النصف وللأخت النصف وقال للسائل ائت ابن مسعود فسيوافقني على ذلك، فأتى ابن مسعود فأخبره بما قال أبو موسى فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، يعني: إن تابعت أبا موسى على قسمه لأقضين فيها بقضاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم): للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت، فانظر أدبهم أي الصحابة مع من هو أعلم منهم أبو موسين لا شك أنه مجتهد في فتواه مستند إلى النص لكنه أخطأ في الفتوى ومع ذلك أحال المسألة على ابن مسعود لأنه أعلم منه وكلاهما صحابي، عكس ما عليه بعض الناس اليوم نجد الشخص يحفظ مسألة واحدة من مسائل العلم وهي: أن الماء قسمان وهي أن الماء طهور ونجس ثم يقول أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ثم يقول: من يبارزني في العلم؟ ثم يضلل أئمة الإسلام ويقول: هم رجال ونحن رجال، ليست المسألة رجل ورجل، وبين الرجال فروق عظيمة في العلم والإيمان والدين، فالواجب أن يعرف الإنسان قدر نفسه. ولا يستهين بغيره؛ لأنه إذا استهان بغيره عوقب بأن يستهين الناس به، لا يظن أنه الآن إذا قطف ثمرة الاستعلاء أنها ستبقى له أبدا، لأن من استهان بغيره بغير حق فإن الله تعالى يسلط عليه من يهينه ويذله.

المهم: أن قول ابن مسعود «لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين»، فيه وصف المخطئ - ولو كان مجتهدا- بالضلال، إلا إن يقال: أن ابن مسعود أضاف الضلال إلى نفسه إن تابعه؛ لأنه عالم بالحكم، ولكن الاحتمال الأول أصح، أي: أن المخطئ يصح أن نقول إنه ضال وإن كان مخطأ، لكن لا يسوغ أن نقابله بذلك ونقول: إنك ضال، بل نقول بحسب ما تقتضيه الحال مثل أن نقول: تبين الأمر انظر في المسألة مرة أخرى، لأنك ربما إذا جابهته وقلت له: أنت ضال يحصل في هذا مفسدة كبيرة، لكن الإنسان العاقل يستطيع أن يبين الضلال للشخص بأسلوب مقنع مُرض. قال: «لأقضين فيها بقضاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فأقسم (رضي الله عنه) بأن يقضي فيها بقضاء رسول الله فأقسم ولكننا ما نرى «والله» في كلامه؟ نقول: إنه مقدر، لأن اللام في «لأقضين»، واقعة في جواب القسم، والتقدير: والله لأقضين، ثم قال: وللابنة التصفية لتمام الشروط؛ لأن شرط إرث البنت النصف ألا يوجد معها معصب ولا مشارك، لا توجد بنت أخرى ولا يوجد ابن معصب، فيكون لها النصف، ودليل ذلك قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]. هذه واحدة لها النصف، بنت الابن كيف يكون لها السدس؟ نقول لأن بنت الابن من البنات تنسب إلى جدها فيقال فاطمة بنت علي بن عبد الله إذن تنسب إلى جدها، فهي من البنات لكن لنزول درجتها عن البنت كان من الحكمة ألا تساويها في الميراث، بل تعطى السدس لأن البنت ميراثها النصف تام الشروط لم يبق من الثلثين إلا السدس فتعطاه بنت الابن. فإن قال قائل: لماذا لم تفرضوا لها الثلث قلنا: لو فرضنا لها الثلث لزاد نصيب البنتين عن الثلثين والبنتان ليس لهما إلا الثلثان؛ ولهذا نقول في قسمة الميراث لبنت الابن السدس ولا نقف، بل نقول: تكملة الثلثين يجب أن نقول: تكملة الثلثين، يعني: لو قلت للبنت النصف ولبنت الابن السدس قلنا: هذا خطأ لابد أن تقول: تكملة الثلثين من أجل أن تشير إلى الحكمة في أنك لم تعطها إلا السدس، والحكمة أنك لو أعطيتها أكثر من السدس لزاد نصيب البنتين على الثلثين وهذا ممتنع، ولهذا تقول: لها السدس تكملة الثلثين، بقي أن يقال: الأخت لماذا لم ترث النصف؟ نقول: لا يمكن لوجود الفرع الوارث، وإذا وجد الفرع الوارث فإن الإخوة لا يرث الإناث منهم بالفرض؛ لأنهم كلالة لا يرثون إلا في الكلالة كما قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176]. وفي مسألتنا له ولد وهي البنت وبنت الابن «وله أخت فلها نصف ما ترك» ففي هذا المثال ليس لها فرض بل لها تعصيب، فإن قال قائل: كيف تجعلون لها تعصيبا وهي أنثى وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): والحقوا الفرائض بأهلها ...

الحديث» وهنا أعطيتموه الأخت وحرمتم الأعمام والأعمام ذكور فكيف تعطون الأخت؟ نقول: لأن هذا الحديث مخصص لعموم قوله «فلأولى رجل ذكر» يعني: أن الأخوات مع إناث الفروع الوارثات بالفرض يكن عصبات بمنزلة الإخوة فتكون هذه القسمة التي قسمها النبي (صلى الله عليه وسلم) مخصصة لعموم «فلأولى رجل ذكر». ونقول: هذه الأخت: الآن بمنزلة الأخ بمقتضى قسمة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فيكون هذا مخصصا لقوله: «فلأولى رجل ذكر» وحينئذ نأخذ من هذا قاعدة: أنه إذا اجتمع مع البنات أو بنات الابن أخوات فإنهن يرثن بالتعصيب، لو كان في هذا المثال مع الأخت الشقيقة ابن أخ شقيق من يرث؟ الأخ الشقيقة، لأنها أقرب منزلة ما دام يثبت أنها عاصبة فهي بمنزلة الأخ، ومعلوم أن الأخ لا يرث معه ابن الأخ، فتكون الأخت الشقيقة هنا أقرب منزلة ولو كان معها أخ لأب، يعني: هلك هالك عن بنت وبنت ابن وأخت شقيقة وأخ لأب فيكون للشقيقة؛ لماذا؟ لأنها أقوى لو كان بدل الأخت الشقيقة ابن أخت شقيقة وابن أخ شقيق، نقول لا يصح لأن ابن الأخت الشقيقة لا يرث أصلا، لماذا؟ لأن الحواشي لا يرث منهم من أدلى بأنثى إلا الإخوة من الأم لأنهم يدلون بالأم إذن ابن الأخت الشقيقة لا يرث؛ لأنه مدل بأنثى لو كان مع بنت الابن بنت ثانية مثل: أن يهلك هالك عن بنت وبنت ابن وبنت ابن ثانية وبنت ابن ثالثة وأخت شقيقة؟ السدس بين الثلاث لا يزيد بزيادتهن؛ لأننا لو زدنا بزيادتهن لزدنا عن فرض الأنثيين من الفروع وفرض الأنثيين من الفروع لا يزيد على الثلثين، إذن لو كانت بنات الابن مع البنت لو كن عشرة أو مائة فليس لهن إلا السدس تكملة الثلثين، لو كان مع البنت بنت أخرى، يعني: هلك هالك عن بنتين وبنت ابن وأخت شقيقة لكان للبنتين الثلثان وبنت الابن تسقط والباقي للخت الشقيقة فهذا الرجل مات عن بنت ابنه وأخت شقيقة وبنتين. قلنا: إن بنت الابن تسقط والباقي للخت الشقيقة، لماذا؟ لأن بنت الابن في هذه الحال ليست صاحبة فرض؛ لأن الفرض انتهى بالثلثين وليست عاصبة إذن ليس لها ميراث، لو كان معها أخ ابن ابن لكان الباقي مع أخيها تعصيبا وتسقط الأخت الشقيقة، وهذا ما يسميه الفرضيون بالأخ المبارك الذي لولاه لم ترث أخته. 908 - وعن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا يتوارث أهل ملتين». رواه أحمد، والأربعة إلا الترمذي. وأخرجه الحاكم بلفظ أسامة.

- وروى النسائي حديث أسامة بهذا اللفظ. هذا الحديث يدل على أن الكفر ملل؛ وأنه لا يتوارث أهل ملتين، وقد سبق لنا آنفا بأن هذا القول هو القول الراجح. يستفاد من حديث ابن مسعود: أنه إذا وجدت مسألة على وفق ما جرى فإنها تقسم على ما قاله ابن مسعود (رضي الله عنه). ويستفاد منه: حسن أدب الصحابة بعضهم مع بعض حيث ذكرنا لكم القصة. ويستفاد منه أيضا: أنه لا يمكن أن يزيد الإناث من الفروع عن فرض الثلثين لا يمكن أبدًا مهما بلغن. فائدة: في الفروض التي لا تزيد بزيادة عدد من له الفرض. ويستفاد منه: أن بنات الابن مع البنت الواحدة إذا ورثت النصف ميراثهن واحد لا يزيد بزيادتهن، أي: أن لهن السدس تكملة الثلثين، وهذا هو أحد الفروض التى لا تزيد بزيادة مستحقها، والثاني ميراث الزوجات لا يزيد بزيادتهن، فمن كان عنده واحدة وله أبناء ففرضها الثمن وإن كان عده اثنتان فالثمن أو ثلاث أو أربع أو خمس فالثمن، إذا كان عنده أربع نساء وطلقهن في مرض موته المخوف طلاقا بائنا ثم تزوج أربع نساء وهو في مرض موته المخوف ومات كم يرثه؟ ثماني نساء. عن كل حال: لا يزيد الفرض بزيادتهن، الثالث: الجدات لا يزيد الفرض بزيادتهن فالجدة الواحدة لها السدس والثنتان لهما السدس والثلاث أيضا السدس لا يزيد، والرابعة الأخوات لأب مع الأخت الشقيقة الواحدة إذا ورث النصف يرثن السدس تكملة الثلثين ولا يزيد بزيادتهن هذه أربع فروض لا تزيد بزيادة من له الفرض. ومن فوائد حديث ابن مسعود: أنه ينبغي تأكيد الحكم، خصوصا إذا ظهر مخالف لقوله: «لأقضين» فيها بقضاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهكذا ينبغي للإنسان عندما يفتي بحكم من الأحكام ويخشى أن يكون عند المستفتي شيء من الشك أو القلق ينبغي له أن يؤكد هذا بأي مؤكد سواء مؤكدا لفظيا كالقسم أو مؤكدا معنويا كذكر الأدلة. ومن فوائد الحديث: أن هذه القسمة تخصص عموم قوله (صلى الله عليه وسلم): «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر».

ميراث الجد

أما الحديث الثاني: ففيه دليل على أن ملل الكفر والإسلام لا يتوارث أهلها، لأن كل ذي ملة منفردون عن أصحاب الملة الأخرى ولا تعاون بينهم ولا موالاة ولا نصرة. ميراث الجد: 909 - وعن عمران بن حصين قال: «جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: إن ابن ابني مات، فما لي من ميراثه؟ فقال: لك السدس فلما ولى دعاه، فقال: لك سدس آخر، فلما ولى دعاه. فقال: إن السدس الآخر طُعمةٌ». رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي. - وهو من رواية الحسن البصري عن عمران، وفي سماعه خلاف. وعلى هذا فيكون الحديث منقطعا، لكن لننظر هذا جد من جهة الأب؛ لأنه قال: «إن ابن ابني» فيكون جداً من قبل الأب، وسبق لنا أن الجد من قبل الأب ينزل منزلة الأب عند عدمه، وأنه لا يستثنى من ذلك شيء على القول الراجح؛ لأنه يسقط الإخوة ومسألة العمريتين قلنا إنه ليس النظر باعتبار ميراث الجد، ولكنه باعتبار ميراث الأم، وحينئذ لا استثناء بل الجد كالأب، بقي أن يقال كيف تتنزل هذه الصورة؟ نقول: تتنزل على عدة صور. منها: أن يكون هذا الجد معه ابنتان لابنه فإذا كان معه ابنتان لابنه صار للبنتين الثلثان وللجد السدس فرضا والباقي تعصبا وهذا معنى قوله: «السدس الآخر طعمة». الصورة الثانية: لو كان هناك بنت وبنت ابن صار للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، ويبقى للجد السدس فرضا والباقي تعصيبًا، ويجب أن ينزل على هذه الصورة، لأن قواعد الفرائض معلومة بالشرع وهذه قضية عين لم تفصل فيها هذه القضية فتنزل على قضية يكون فيها الجد وارثا بالفرض وبالتعصيب ولم يبق أيضا إلا الثلث، لو كانت البنت واحدة وهذا الجد لكان للبنت النصف وللجد السدس فرضا والباقي تعصيبًا، إذن لا ينطبق على هذا الحديث لماذا؟ لأن الباقي بعد فرض السدس أكثر من السدس والنبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لك السدس الآخر». يستفاد من هذا الحديث: أن الجد أبا الأب وارث وأنه يرث بالفرض وبالتعصيب لقوله: «لك سدس آخر» ولكن لابد أن يبين أن هذا السدس ليس فرضا وبيانه في هذا الحديث يؤخذ من

قوله: «السدس الآخر طعمة»، هذا واحد، ومن قوله: «لك سدس آخر» ولم يقل لك السدس ب «أل» المعرفة وإذا أخذ السدس فرضا والباقي كان الثلث صار سدسا آخر على كل حال يجوز أن تقول لمن ورث بالتعصيب لك النصف ولكن الأولى أن تقول لك النصف مثل لو هلك هالك عن زوج وأب، نقول للزوج النصف وللأب الباقي هذا هو الأصل لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «ما بقى فلأولى رجل ذكر» لكن لك أن تقول وللأب النصف ولكن يتبين أنه بالتعصيب لئلا يظن أن الأب يفرض له النصف. من فوائد الحديث: أولاً: حرص الصحابة (رضي الله عنهم) على العلم بالشيء قبل الإقدام عليه؛ لأن هذا سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يقدم على شيء. ومن فوائده: تمام بيان الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأنه يبين للناس ما نزل إليهم على أتم وجه، ولهذا أعطاه السدس الأول فرضا، ثم أعطاه السدس الثاني تعصيبًا. ومن فوائده: أنه لا يجب أن يستفصل المفتي عن الموانع، هل هناك مانع من موانع الإرث أو لا؛ لأن الأصل أن وجود السبب موجب للمسبب والمانع طارئ، وعلى هذا فلو سألك سائل عن ميت مات عن أب وأم لا حاجة أن تقول هل الأب يصلي أو هل الأم تصلي بمعنى: أنه لا يلزم المفتي السؤال عن المانع، نعم يجب على المفتي أن يسأل عن سبب الحكم مثل لو قال قائل هلك هالك عن بنت وأخ وعم فهنا لابد أن يسأل عن الأخ هنا هل هو لأم أو لأب أو شقيق؛ لأن الحكم يختلف إن كان أخا من أم فليس له ميراث؛ لأن البنت تسقطه ويكون التعصيب للعم، وإن كان أخا لغير أم وهو الذي لأب أو شقيق فللبنت النصف والباقي له ويسقط العم هذا لابد فيه من الاستفصال، يعني: الشيء الذي يتوقف عليه ثبوت الحكم لابد فيه من الاستفصال، أما الموانع فلا يجب أن يستفصل المفتي عنها، لو قال: طلقت زوجتي هل يلزمه أن يقول: طلقتها وهي حائض أو في طهر جامعتها فيه أو لا؟ لا يلزمه؛ لأن الأصل صحة الطلاق وعدم وجود المانع، لكن لو جاء يسأله أنه يريد أن يطلق زوجته، حينئذ لابد أن يقول: هل هي حائض أو في طهر جامعتها من أجل أن يكتب الطلاق على وجه صحيح.

ميراث الجدة

ميراث الجدة: 910 - وعن ابن بريدة، عن أبيه (رضي الله عنهما): «أن النبي (صلى الله عليه وسلم) جعل للجدة السدس، إذا لم يكن دونها أم». رواه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وقواه ابن عدي. قوله: «الجدة» الجدة هي أم الأم، وأم الأب وإن علون أمومة، يعني: أم أمك جدة، وأم أبيك جدة، أم أم أمك جدة، وأم أم أبيك جدة، وهاتان الجدتان وارثتان بالإجماع، يعني: أم الأم وإن علت أمومة، وأم الأب وإن علت أمومة، هاتان وارثتان، فإذا هلك هالك عن جدة أم أم نقول لها السدس ولكن يشترط ألا يكون دونها أم فإن كان دونها أم فلا ميراث لها؛ لأن الأم أقرب من الجدة، الأم أم الميت مباشرة والجدة أم أمه أو أم أبيه فهي أقرب منها، فإذا وجد أم فلا ميراث للجدات إطلاقا سواء كن من جهة الأب أو من جهة الأم ما دامت الأم موجودة فليس لجدته ميراث، هلك هالك عن أمه وأم أبيه ليس للجدة شيء لماذا؟ لأن دونها أم، إذن الأم تحجب أمها وتحجب أم الأب، هلك عن أبيه وأم أبيه فترث على القول الراجح لأن الحديث يقول «إذا لم يكن دونها أم» فعلم منه أنه إذا كان دونها أب فإنها ترث لأن الحديث يقول إذا لم يكن دونها أم. وهذه المسألة أشكلت على بعض العلماء فقال: كيف ترث أم الأب معه وهي مُدلية به؟ والقاعدة في الفرائض أن من أدلى بشخص حجب به ولهذا لو هلك هالك عن ابن وابن الابن لسقط ابن الابن، ولو هلك عن أخ وابن أخ لسقط ابن الأخ فالقاعدة في الفرائض أن من أدلى بشخص سقط به، أم الأب أدلت بالأب إذن تسقط به حسب هذه القاعدة. ولكن الجواب على هذه القاعدة أن يقال: إن هذه القاعدة منقوضة بالإخوة من الأم يرثون مع الأم وهم مدلون بها إذن لم تكن هذه القاعدة مطردة لكن يمكن أن نصحح هذه القاعدة فنقول من أدلى بشخص وقام مقامه عند عدمه سقط به وإلا فلا يسقط، ومعلوم أن الجدة لا تقوم مقام الأب عند عدم الأب وأن الإخوة من الأم لا يقومون مقام الأم عند عدم الأم وبهذا تكون القاعدة محررة. على كل حال: هذا الحديث يدلنا على أن الجلدة ترث سواء كانت من قبل الأب أو من قبل الأم، الجدة من قبل الأم هي أم الأم وإن علت أمومة، وأم الأب وإن علت أمومة، فإن وجد

بينها أم فلا ميراث لها ومن هنا نأخذ أنه لو وجد دونها جدة فلا ميراث للعليا، يعني: لو وجد دون الجدة العليا جدة دُنيا فليس للعليا ميراث كما أن الأم تحجب الجدات فالجدة الدنيا تحجب الجدات العلويات فإذا هلك عن أم أب وأم أم أم فالميراث لأم الأب لأنها الدُّنيا والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول إذا لم يكن دونها أم، هلك عن أم أم وأم أم أب فالميراث لأم الأم لأنها دنيا، يعني: أدنى منها هلك عن أم أم أم أم أم أم، وأم أم أب فالميراث هنا أنهما متساويان، إذن السدس بينهما ولا نعطي كل واحدة سدسا، لأنا لو أعطينا كل واحدة سدسا فقد تأتينا جدة ثالثة ورابعة وخامسة، إذا جاءنا ست جدات وقلنا كل واحدة لها السدس أخذن المال كله ولهذا لم يكن لهن إلا السدس سواء كن واحدة أو أكثر، إذن الجدات التي ترث أم الأم وإن علت أمومة والثانية أم الأب وإن علت أمومة، أم أب الأب هل ترث؟ يعني: أم الجد وإن علت أمومة لا ترث وقيل ترث، أم الجد، يعني: مثلاً هي أم أب الأب ترث، إذن ممكن أن ترث ثلاث جدات أم أم أم، أم أم أب، أم أب أب، إذن يمكن أن ترث أربع جدات، أم جد الجد ترث مثل أم أب أب أب أب الأب أن ترث إذن يمكن أن يرث أربع جدات أو خمس جدت وزيادة أيضا. على كل حال: الكلام على أن القول الراجح أن من أدلت بوارث فهي وارثة، هذه القاعدة وهو القول الصحيح، وهو مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وعلى هذا فيمكن أن ترث خمس جدات في آن واحد إذا تساوين، لكن الإمام مالكا يقول لا يرث إلا جدتان أم الأب وإن علت أمومة وأم الأم وإن علت أمومة والمشهور عند الحنابلة ثلاث جدات أم الأم وإن علت أمومة، وأم الأب وإن علت أمومة، وأم الجد وإن علت أمومة أما إذا أدلت بأب أعلى من الجد، فإنها لا ترث ولو كانت مدلية يوارث، والصحيح مذهب الشافعي أن الجدة إذا أدلت بوارث فهي وارثة. أم أب الأم هل ترث؟ لا ترث، لأنها أدلت بغير وارث إذن كل من أدلت بغير وارث فلا ميراث لها وكل من أدلت بوارث على القول الصحيح فإنها ترث إذن أم أب الأم لا ترث هي

ميراث الخال وذوي الأرحام

جدة لكن لا ترث لأنها أدلت بغير وارث، أم أم الأب هل ترث؟ ترث لأنها مدلية بوارث؛ لأن بنتها التي هي الجدة الأولى ترث، أم أب الجدة هل ترث؟ لا ترث؛ لأنها أدلت بغير وارث؛ لأن كل جد أدلى بأنثى فلا يرث، إذن من أدلى به فليس بوارث. خلاصة الكلام في هؤلاء الجدات: أن الذي يرث أم الأم وإن علت أمومة، أم الأب وإن علت أمومة وهذا بالاتفاق، أم أب الأب وإن علت أمومة، أم جد الأب وإن علت أمومة ترث على القول الراجح، وهو من أدلت بوارث ورثت ومن أدلت بغير وارث لم ترث. كيف توزع السدس؟ إذا كن في منزلة واحدة فهو بينهن، وإن كانت إحداهن أدنى فهو لها وحدها لا فرق بين التي تدلي بالأم والتي تدلي بالأب، إذا مات عن أم أم أم وعن أم أب فللثانية، ولو مات عن أم أم أب وأم أم للثانية أيضا، وعن أم جد وأم أب وأم أم للأخيرتين دون الأولى؛ لأن الأولى أبعد. في هذا الحديث فوائد منها: أن الجدة وارثة لقوله: «جعل للجدة». ومن الفوائد: أن ميراث الجدة السدس. ومن فوائده: أنه يشترط في ميراث الجدة ألا يكون دونها أمّ، فإن كان دونها أم فلا ميراث لها؛ لأن الأم تحجبها، ويتفرع على هذه الأخيرة أن العليا من الجدات محجوبة بالدنيا، فمن هي أدنى تحجب من هي أعلى، لكن ذكرنا قاعدة في ميراث الجدة، وهي شرط ثالث أن تُدلي بوارث، فإن أدلت بغير وارث فليس لها ميراث؛ لأنه إذا كان الأصل لا يرث فالفرع من باب أولى، ولهذا لابد أن تكون الجدة مدلية بوارث. ميراث الخال وذوي الأرحام: 911 - وعن المقدام بن معد يكرب (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «الخال وارث من لا وارث له». أخرجه أحمد، والأربعة سوى الترمذي، وحسنه أبو زرعة الرازي، وصححه الحاكم وابن حبان.

912 - وعن ا [ي أمامة بن سهل (رضي الله عنه) فال: «كتب عمر إلى أبي عبيدة (رضي الله عنهما) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له». رواه أحمد، والأربعة سوى أبي داود، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان. هذان الحديثان في ميراث الخال، والخال أخو الأم، وأخو الجد، وأخو أم الجدة، وأخو جدة الجدة وإن علوا، فكل من كان خالاً لشخص فهو خال لذريته إلى يوم القيامة، هذه قاعدة تفيدك حتى في النسب في تحريم النكاح، خالك أخو أمك، أخو أم أبيك خالك وهو خال أبيك، خال جدك، خال جد جدك خالك وهكذا. قوله: «الخال وارث من لا وارث له»، يعني: بفرض أو تعصيب، وذلك لأن الورثة ثلاثة أصناف: ذوو الفرض، وذوو التعصيب، وذوو رحم، أما ذوو الفرض فعشرة، وأما ذوو التعصيب فخمس جهات، وقد عرفنا ذلك، ما عدا هؤلاء من الأقارب فهم ذوو رحم، والرحم هم القرابة كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]. وقال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]. فكل قريب ليس من ذوي الفروض ولا من العصبة فهو من ذوي الأرحام. نأتي للخال هل هو صاحب فرض؟ لا، هل هو من العصبة؟ العصبة جهتهم بنوة وأبوة وأخوة وعمومة وولاء، هل هو منهم؟ إذن هو من ذوي الأرحام، فإذا مات ميت ليس له إلا خال، فالمال لخاله، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: «الخال وارث من لا وارث له» أي: من ليس له فرض أو تعصيب، مات ميت عن أخي جدته وليس له سواها، فالمال له لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) «الخال وارث من لا وارث له»، وهذا الحديث أحد أدلة القائلين بميراث ذوي الأرحام؛ لأن العلماء مختلفون في ذوي الأرحام هل يرثون أم لا؟ فمنهم من قال إنهم لا يرثون؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر»، وهم لا يدخلون في هذه الجملة بالاتفاق، فإذا كانوا لا يدخلون فلا ميراث لهم، ويكون المال لبيت المال، يعني: لو هلك هالك عن خال فقط فالذين لا يقولون بميراث ذوي الأرحام يقولون: إن مال هذا الميت يكون لبيت المال، ولا يرثه خاله؛ لأن خاله ليس بذي فرض ولا عصب، فلا ميراث له، لكن الصحيح أنهم يرثون، والدليل على هذا الحديث الذي معنا: «الخال وارث من لا وارث له».

ومن الأدلة قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]. أولو الأرحام، يعني: الأقارب، وهذان دليلان أثريان، ومن الأدلة العقلية أن صلة الميت بذي الرحم أقوى من صلته بعموم المسلمين؛ لأن لذي الرحم قرابة، فهل من المعقول أن نجعل ماله في بيت مال المسلمين الذي ينتفع به عموم الناس، ونحرم خاله الذي هو من أقاربه؟ لا، ليس من المعقول، إذن فالدليل العقلي يدل على أن ذوي الأرحام وارثون؛ لأنهم أولى من بيت المال الذي يكون لعموم المسلمين؛ ولأن الخال ممن تجب صلتهم لأنه من ذوي الرحم وصرف مال الميت عنه إلى بيت المال هذا نوع من القطيعة، وإن كان الميت قد مات، وليس له التصرف في ماله، لكن هو نوع من القطيعة كيف نقطع قريبه ونصل بيت المال الذي يكون لعموم المسلمين، وربما لا يكون أيضا متصرفا على ما ينبغي، قد يكون بيت المال يتلاعب به الولاة ويصرفونه في معاصي الله، أو ما لا فائدة فيه. فالصحيح أن ذوي الأرحام وارثون، لكنهم لا يرثون إلا بشرط ألا يوجد صاحب فرض ولا عاصب، فلو هلك هالك عن بنت وخال فللبنت النصف فرضا والباقي رداً، والخال ليس له شيء، ولو هلك هالك عن بنت وابن عم بعيد جدا لا يتفق معها إلا في الأب العاشر وعن خالة للبنت النصف فرضا والباقي لابن العم النازل والخالة ليس لها شيء؛ لأن معنا صاحب فرض وعاصب وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر». كيف يرث ذوو الأرحام؟ يرثون بالتنزيل، يعني: أننا ننزلهم منزلة من أدلوا به فيأخذون ميراثه، مثاله: هلك هالك عن ابن أخت شقيقة وبنت أخ شقيق، ابن الأخت الشقيقة من ذوي الأرحام؛ لأنه أدلى بأنثى وكل من أدلى بأنثى من الحواشي فهو من ذوي الأرحام، هذه قاعدة معروفة، بنت الأخ الشقيق من ذوي الأرحام أيضا لماذا؟ لأنه كل أنثى غير الأخوات من الحواشي فهي من ذوي الأرحام، هذه أيضا قاعدة مفيدة، بنت العم من ذوي الأرحام، العمة من ذوي الأرحام، الخالة من ذوي الأرحام. إذن عندنا قاعدتان: كل من أدلى بأنثى من الحواشي فهو من ذوي الأرحام، وكل أنثى من الحواشي فهي من ذوي الأرحام إلا الأخوات. المثال الذي ضربنا: هلك هالك عن بنت أخيه الشقيق وابن أخته الشقيقة، نحن نقول: ننزلهم منزلة من أدلوا به، فبنت الأخ الشقيق مدلية بالأخ الشقيق، وابن الأخت الشقيقة مُدل بالأخت الشقيقة، فقدر أن الميت مات عن أخيه الشقيق وأخته الشقيقة كم تعطي الأخ الشقيق؟ نقسم المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، يعني: نعطي الأخ الشقيق اثنين من ثلاثة، والأخت الشقيقة واحدا من ثلاثة، أعطي من أدلوا بهم نصيبهم، فنعطي بنت الأخ الشقيق نصيب الأخ ?

الشقيق، ونعطي ابن الأخت الشقيقة نصيب الأخت الشقيقة، فنقول لبنت الأخ الشقيق اثنان من ثلاثة، ولابن الأخت الشقيقة واحد من ثلاثة، إذن طريقة التوريث أن ننزلهم منزلة من أدلوا به ويحجب الأعلى من دونه، فإذا هلك هالك عن بنت أخ شقيق وينت ابن أخ شقيق، فالمال للأولى؛ لأنها أعلى، ولو مات عن بنت أخ لأب وعن بنت بنت أخ شقيق، فالمال لبنت الأخ لأب؛ لأنها أعلى، وهكذا، يعنى: أن الأعلى يحجب الأدنى، وإن شئت فقل: الأقرب يحجب الأبعد. هلك هالك عن أبي أم وعن بنت أخ شقيق، القاعدة: أن ننزلهم منزلة من أدلوا به أبو الأم ينزل منزلة الأم، بنت الأخ تُنزل منزلة الأخ، فكأنه مات عن أم وأخ شقيق اقسم المال بين أم وأخ شقيق للأم الثلث والباقي للأخ الشقيق، إذن لأبي الأم الثلث والباقي لبنت الأخ الشقيق، لأننا ننزل ذوي الأرحام منزلة من أدلوا به ونقسم المال بين من أدلوا به ثم كل من أدلى بشخص أخذ ميراثه. هلك هالك عن عمة وخالة، الخالة مدلية بالأم والعمة مدلية بالأب، اقسم المال كأن الميت مات عن أب وأم، كم للأم الثلث يعطى للخالة، وللأب الباقي يعطى العمة. إذا مات ميت عن خالة شقيقة وخالة من أب وعمة شقيقة وعمة من أب، كيف نقسم المال؟ الخالتان بمنزلة الأم الشقيقة والتي لأب، والعمتان بمنزلة الأب اقسم المال بين أم وأب للأم الثلث، والباقي للأب، الآن نريد أن نقسم نصيب الأم بين أختها الشقيقة وأختها من أب، لأننا نقدر كأن الأم ماتت عن هؤلاء، فتقول: المسألة فيها نصف وفيها سدس فيها نصف للشقيقة وسدس للتي لأب تكملة الثلثين، إذن نقسم الثلث بين الأخت الشقيقة، والأخت التي لأب على هذا الأساس، فنقول للخالة الشقيقة ثلاثة وللخالة لأب واحل فنقسم الثلث أربعة للشقيقة ثلاثة وللخالة لأب واحد نأتي للعمتين عمة شقيقة وعمة من أب، العمة أخت الأب نقدر كأن الأب مات عن أخت شقيقة وأخت لأب كيف نقسم ماله لو مات عنهما؟ نقول: نصف للشقيقة وللتي لأب السدس، إذن هي أربعة نقسم الثلثين بين العمة الشقيقة، والعمة لأب أرباعا للعمة الشقيقة ثلاثة أرباع، وللعمة لأب الريع، فصار ذوو الأرحام ينزلون منزلة من أدلوا به، فيقسم المال بين من أدلوا به ثم يقسم نصيب من أدلوا به عليهم كأنه مات عنهم حسب القواعد السابقة. فإذا قال قائل: لماذا ننزل منزلة من أدلوا به، لماذا لا تجعل كل واحد منهم مستقلاً بنفسه؟ فالجواب: نقول إن ميراثهم فرع عن غيرهم وليسوا وارثين بأنفسهم، ولذلك ننزلهم منزلة من أدلوا به، هذا هو القول الراجح، وبعض العلماء ينزلهم حسب القرب فيقول الأقرب إلى الوارث

هو الذي يستحق الميراث، لكن الذي مشى عليه الإمام أحمد (رحمه الله) أنهم ينزلون منزلة من أدلوا به فيرقون إلى أن يصلوا إلى الوارث ويقسم المال بين الورثة الذين أدلوا بهم ذوو الأرحام، كأن الميت مات عنهم ثم يوزع الميراث أو يوزع نصيب من أدلوا به عليهم كأنه مات عنهم. هلك هالك عن أبي أم وخال كلاهما مدل بالأم وعن عمة مدلية بالأب كيف نقسم المال؟ عندنا أبو أم وخال وعمة تقول: كان الميت مات عن أم وأب، فللأم الثلث، والباقي للأب، إذن نقول للعمة لك الثلثان، لأنك بمنزلة الأب، ونقول لأبي الأم والخال نقدر كان الأم ماتت عنهما كأنها ماتت عن أبيها وأخيها فيكون المال لأبيها، إذن ثلث الأم يأخذه أبو الأم، والخال ليس له شيء من الذي حجبه؟ حجبه أبوه هذا هو ميراث ذوي الأرحام فنأخذ القاعدة أولاً ينزلون منزلة من أدلوا به، ثانيًا يُقسم نصيب من أدلوا به عليهم كأنه مات عنهم. ثم قال في الحديث الذي معنا حديث أبي أمامة: «الله ورسوله مولى من لا مولى له»: المراد بالمولى هنا في قوله: «من لا مولى له» يشمل من لا مولى له بالولاء وهو العتق، ومن لا مولى له بالقرابة؛ لأن القرابة فيها أولوية كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «وما بقي فلأولى رجل ذكر»، وقال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض} [الأنفال: 75]. فقوله: «ومن لا مولى له»، أي: من لا وارث له، فالله ورسوله وارث من لا وارث له، أما الله (عز وجل) فهو غني عن كل أحد، وأما الرسول (صلى الله عليه وسلم) فهو في حياته كغيره من البشر يحتاج كما يحتاج الناس، لكنه بعد موته يكون نصيبه كنصيب الله (عز وجل) أي: أنه يُدفع إلى بيت مال المسلمين كما قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]. يعني: يصرف في مصالح العباد في بيت المال؛ فإذا هلك هالك ليس له وارث فإن ميراثه يُصرف إلى بيت المال. وعُلم من هذا الحديث أنه إذا كان له وارث فإنه لا حظ لبيت المال في ماله يُعطى الوارث إن كان صاحب فرض أعطيناه فرضه، ثم نبحث عن مُعصب إن وجدنا عاصبًا أعطيناه الباقي وإن لم نجد رددناه إلى ذوي الفرض إلا إذا كان ذوو الفرض زوجا أو زوجة، فإنه لا يرد عليه، فإذا هلك هالك عن بنت فقط وليس له قريب سواها فإننا نقول في القسمة للبنت النصف فرضا والباقي ردا، أما كونها ترث النصف فرضا فهو واضح في القرآن، لكن كيف أعطيناها الباقي ردا؟ أعطيناها ذلك بقوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم} [الأنفال: 75]. ومن المعلوم أننا إذا أعطيناها هي كان أولى من أن نصرفه إلى بيت المال؛ لأن بيت المال لعموم المسلمين والأقربون أولى بالمعروف.

حكم ميراث الحمل

أما إذا كان صاحب الفرض زوجا أو زوجة فإنه لا يرد عليهم، فإذا هلك ميت عن زوجة فقط ليس له وارث سواها، فللزوجة الربع، والباقي لبيت المال. فإن قال قائل: لماذا لا تردون على الزوجة؟ قلنا: لأن دليل الرد لا يشملها إذ إن دليل الرد هو قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض} [الأنفال: 75]، والزوجة ليست من ذوي الأرحام، نعم لو كانت بنت عم لورثناها بالرحم، لقلنا لها الربع فرضا والباقي ترثه على أنها ذات رحم تعصيبًا، لكن إذا لم يكن بينه وبينها قرابة، فإنها ليست من ذوي الأرحام للآية. فإن قال قائل: ألم يُرو عن عثمان بن عفان وهو أحد الخلفاء الراشدين الذين لهم سنة مُتبعة أنه رد على امرأة هلكت عن زوجها فأعطاه عثمان جميع مالها، فما هو الجواب؟ الجواب أن نقول: هذه قضية عين ليست كلامًا تُفرع عليه الأحكام، قضى بهذا فيحتمل أن الزوج كان ذا رحم، يعني: ابن عم، هذه واحدة، ويحتمل أنه - أي: عثمان - رأى أن الزوج له حق في بيت المال فأعطاه ما زاد على فرضه بناء على أنه من المستحقين لكونه رآه فقيرا فأعطاه فما دامت القضية فيها احتمال فإننا لا نجعل هذا دليلاً على أن الزوج يرد عليه، وقد حكى بعض الفرضيين وبعض الفقهاء إجماع أهل العلم على أن الزوجين لا يرد عليهما. حكم ميراث الحمل: 913 - وعن جابر (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إذا استهل المولود وُرِث». رواه أبو داود وصححه ابن حبان. «استهل» مأخوذ من الإهلال، وهو رفع الصوت وسمي رفع الصوت إهلالأ لظهوره وفي الحديث أن جبريل عليه الصلاة والسلام أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال، يعني: بالتلبية، وفي حديث جابر فأهل النبي (صلى الله عليه وسلم) بالتوحيد لبيك اللهم لبيك، أهل يعني: رفع صوته فإذا استهل المولود، يعني: وضعته أمه صرخ فإنه يرث، وهذا الاستهلال يكون بسبب طعن الشيطان في خاصرته، لأن كل مولود يطعن الشيطان في خاصرته ولعله

يريد أن يهلكه؛ لأن الشيطان عدو لبني آدم إلا عيسى بن مريم فإن الشيطان لم يفعل به هذا، حتى إن بعض القوابل اللاتي يولدن النساء يرين أثر الضرب في خاصرته، لأنه يريد أن يقتل بني آدم لأنهم أعداء له، فإذا استهل ورث. ففي هذا الحديث: دليل على أن الحمل يرث، يعني: لو مات ميت عن حمل فإنه يرثه، لكن يُشترط لذلك شرطان الأول: أن يُعلم وجوده حين موت مورثه، والثاني: أن يستهل صارخا، وهذا، يعني: أن تُعلم حياته بعد خروجه، فإن علم أنه كان ناشئا بعد موت مورثه فإنه لا يرث. ولكن إذا قال قائل: كيف نتيقن أنه موجود حين موت مورثه؟ نقول: نتيقن أنها تلده لأقل من ستة أشهر من موت المورث ويعيش، فبذلك علمنا أنه كان موجودًا حين موت مورثه، لماذا؟ لأن أقل مدة يعيش فيها الحمل ستة أشهر لا يمكن أن يعيش الحمل إذا خرج قبل ستة أشهر، فإذا خرج لأقل من ستة أشهر من موت المورث وعاش علمنا أنه كان موجودًا حين موت مورثه. لكن إذا قال قائل: ربما كان نشأ بعد ذلك جامعها زوجها بعد موت المورث وحملت، نقول: هذا لا يمكن أبدا، فإذا مات المورث عن الحمل فماذا نصنع بالنسبة للتركة إذا طلب الورثة أن تُقسم؟ هل نقسم التركة باعتبار الأضر في حق الجنين أو باعتبار الأضر في حق الأحياء، نقول: يجب الاحتياط وأن نعامل الورثة بالأحوط. إذا قال لنا قائل: ما هو الدليل على أن أقل مدة يمكن أن يعيش فيها الحمل ستة أشهر؟ قلنا: الدليل قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]. وقوله في الآية الثانية: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْن} [لقمان: 14]. فإذا أسقطنا زمن الفصال وهو عامان ومدتها أربع وعشرون شهرا يبقى مدة الحمل ستة أشهر، وقد ذكر أبن قتيبة - في المعارف - أن عبد الملك بن مروان أحد الخلفاء ولد لستة أشهر، إذن إذا ولد لأقل من ستة أشهر فهو موجود حين موت المورث سواء كانت أمه توطأ أم لم توطأ، أما إذا وُلد لأكثر من ستة أشهر ولأقل من أربع سنين، فإننا ننظر إن كانت لا توطأ فإنه موجود حين موت المورث، وإن كانت توطأ فإننا في شك، هل وجد أو لا، وحينئذ لا يرث، ولهذا يجب على الإنسان إذا كان له زوجة يرث حملها من الميت أن يتجنبها إذا مات الميت حتى يتبين أنها حامل أو غير حامل، وذلك بأن تحيض إن حاضت فليس بحامل، وإن لم تحض وتبين حملها فهي حامل، وإن ولدته لأكثر من أربع سنين منذ مات مُورثه فإنه لا يرث على كل حال، لماذا؟ بناء على أن أكثر مدة الحمل أربع سنين.

وحينئذ نقول: المسألة لا تخلو من ثلاث حالات: إما أن يولد لأقل من ستة أشهر، ويعيش فهذا يرث بغير تفصيل بكل حال، وإما ألا يولد إلا بعد أربع سنين منذ مات الميت فهذا لا يرث بكل حال، بناء على أن أكثر مدة الحمل أربع سنوات، وإما أن يولد بين ذلك فهذا فيه تفصيل: إن كانت توطأ فإنه لا يرث لاحتمال أن يكون نشأ من الجماع الذي بعد المورث، وإن كانت لا تُوطأ كامرأة غاب عنها زوجها مثلاً، فإنه يرث؛ لأنه لم يتجاوز أكثر مدة الحمل. الشرط الثاني: أن يستهل صارخا، يعني: أن يوضع حيًا حياة مستقرة، فإن وضع ميتا فإنه لا يرث ولو بعد أن نُفخت فيه الروح، فلو وضعت جنينًا له تسعة أشهر ميتًا فإنه لا يرث؛ لأن من شرط إرثه أن يستهل صارخا، وهذا كناية عن وجود الحياة فيه، يعني: أن يُولد حياً. فإذا قال إنسان: إذا مات ميت عن ورثة فيهم حمل يرثه فكيف نصنع؟ الجواب: أن تقول: إن اتفقوا على أن ينتظروا هذا الحمل فلا إشكال، وإن قالوا: لا نحن نريد القسمة، قلنا: نورثكم اليقين ونوقف للحمل الأحوط، يعني: نعامل كلاً من الحمل ومن يرث معه بالأحوط، كما قال البرهاني: (وكل مفقود وخُنتى أشكالا ... وحمل اليقين فيه عُملا) يُعمل باليقين، وهو ما يرثه كل واحد على كل تقدير، فمثلاً: إذا هلك عن زوجة حامل وابن، نعطي الزوجة الثمن؛ لأن فيه فرعا وارثا، والابن يقولون: إنه يوقف للحمل الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين، هنا لو جعلنا الحمل أنثيين أعطينا الابن الموجود نصف الباقي، وإن قدرنا أن الحمل ابنان فإننا نعطي الابن الموجود ثلث الباقي لاحتمال أن يكون الحمل ذكرين، ولو هلك عن زوجة حامل وجدة وأخ شقيق نعطي الزوجة الثمن؛ لأنها ترث بكل حال، ونعطي الجدة السدس، والأخ الشقيق لا يُعطى شيئا؛ لأنه لو ولد الجنين حجبه إذا كان ذكرا، إن لم يولد المولود، يعني: خرج ميتا ماذا نعمل؟ نرجع ونعطي الزوجة تتمة الربع وهو الثمن، ونعطي الباقي للأخ الشقيق والجدة لا تُعطى شيئا؛ لأنها أخذت نصيبها كاملاً. | إذن ما لم ينقصه الحمل نعطيه نصيبه كاملاً. إذن ما لم ينقصه الحمل نعطيه نصيبه كاملاً، ومن يحجبه الحمل لا نعطيه شيئًا، ومن ينقصه الحمل نعطيه الناقص، المثال الذي معنا اجتمعت فيه الأمور الثلاثة: الزوجة ينقصها الحمل فأعطيناها الأنقص، الجدة لا ينقصها الحمل فأعطيناها حقها كاملاً الأخ الشقيق يحجبه فلم نعطه شيئا، فإن قام علينا الأخ الشقيق وقال: الحمل يُحتمل أن يكون أنثى فلها النصف، وللزوجة الثمن، وللجدة السدس، والباقي لي، المسألة من ((24)) للزوجة الثمن (3)، وللجدة السدس (4) هذه (7) وللبنت النصف (12)، والباقي (5) يقول: لي، نقول: لا، ويمكن أن يكون الحمل أنثيين، فلها (? 6) وللزوجة (? ) فيکون (? ? )، وللجدة (4) فيكون (? ? ) والباقي

يقول: لي، نقول: لا، فيه احتمال أن يكون الحمل ابناً، وليس لك شيءً، وما دام يوجد احتمال، فإننا نعامل الورثة بالأحوط. إذا قال قائل: لماذا لا نوقف أكثر من إرث ذكرين؟ نقول: لأن الغالب أن المرأة لا يزيد حملها عن اثنين، ولهذا إذا ولدت امرأة ثلاثة فأكثر صارت شهرة، ويُذكر لي ولا أدري هل هو صحيح أم لا أنه في شرق آسيا لا يُستغرب أن تلد المرأة ثلاثة أو أربعة، فماذا نعمل مع هذا الواقع وكلام الفقهاء؟ هل نأخذ بكلام الفقهاء ونقول: الحمل حظ ونصيب أو نعتبر الواقع؟ نعتبر الواقع، فإذا قدرنا أن الغالب الثلاثة، وقفنا ثلاثة، وإذا قالوا الأربعة كثير، وقفنا الأربعة، وإذا قالوا الخمسة نادر، فلا نوقفه. من فوائد الحديث الأول: إذا استهل المولود ورث، أي: أن الحمل يرث. ومن فوائده: أنه يرث ولو كان حين موت المورث لم يبلغ أربعة أشهر؛ لأنه إذا لم يبلغ أربعة أشهر يدخل في كونه حملاً، فلو فرض أنه أعني مورثه مات قبل أن يكون بشرا، فإنه يرث إذا استهل لعموم الحديث. ومن فوائده: شمول الشريعة الإسلامية حتى فيما يُقدّر من الأمور؛ لأن حياة الجنين ليست مضمونة، وإنما هي مقدرة باعتبار ابتدائه ونفخ الروح فيه، وباعتبار خروجه قد يخرج ميتا كما هو كثير. 914 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ليس للقاتل من الميراث شيء». رواه النسائي/ والدارقطني، وقواه ابن عبد البر، وأعله النسائي، والصواب: وقفه على عمرو. المؤلف يقول: الصواب وقفه، يعني أنه من قول عمرو بن العاص وليس من قول النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإذا لم يكن من قول النبي (صلى الله عليه وسلم) فإنه لا يعتبر حجة؛ لأن الحجة فيما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) ولنتكلم على مسألة القاتل: هذا الحديث لو صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) لكان يقتضي أن القاتل ليس له من الميراث شيء، ولو كان أقرب الناس إلى الميت، فإذا هلك شخص عن ابن قتله فإن الابن لا يرث؛ لأن القاتل ليس له شيء، وهذا واضح فيما إذا كان القتل عمدا، وظاهر العموم أنه ليس للقاتل من الميراث

شيء، ولو كان قاتلاً بحق كمن قتل قصاصا، ولكن هذا الظاهر ليس بمراد، فإن القاتل بحق ليس جانيا، وظاهر الحديث أنه ليس للقاتل من الميراث شيء ولو كان قتله خطأ يقينا فإنه ليس له شيء، كامرأة تنام على ابنها في الليل فيموت، فهنا نجزم بأن المرأة لم تتعمد قتل ابنها، ومع ذلك لا ترث على ظاهر هذا الحديث. ولكن نقول: إنه ما دام الحديث لا يصح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإننا نقسم القتل بحسب القواعد الشرعية العامة إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما كان بحق كالقصاص ورجم الزاني، فإنه لا يمنع الميراث قطعا. مثال ذلك: ثلاثة إخوة قتل الأكبر منهم الأوسط فهنا من يرث الأوسط؟ الأصغر، والأكبر لا يرث؛ لأنه تعمد القتل، ولكن الأصغر اقتص من أخيه الأكبر، فيرث، وهذا المثال اجتمع فيه من يرث، ومن لا يرث، فالأخ الأكبر الذي قتل الأوسط لا يرث لأنه متعمد للقتل، والأخ الأصغر الذي قتل الأكبر قصاصا يرث؛ لأنه قتله بحق. بقي القسم الثالث: إذا كان قتله خطاأ وليس له حق في قتله، فهل يرث أو لا يرث؟ المشهور من مذهب الحنابلة أنه لا يرث خوفا من أن يقوم قائم فيقتل مورثه عمداً ويقول: إنه خطأ، فمن أجل سد الذريعة نقول: لا يرث القاتل خطأ، ولكن القول الصحيح خلاف ذلك، وهو أن القاتل خطأ إذا كان خطؤه لا شك فيه فإنه يرثه ودليل ذلك عموم الأدلة المثبتة للميراث، فقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْن} [النساء: 11]. هذا عام لا يمكن أن نخرج من عمومه إلا ما قام الدليل على إخراجه، {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]. هذا عام يشمل حتى الزوج الذي قتل امرأته خطأ كما لو كان مسافرا بزوجته وحصل عليه حادث بدون قصد، وماتت الزوجة، فإن الآية تدل على أنه يرث، وهذا الزوج يرى أنه من أكبر المصائب عليه أن زوجته ماتت، ويقول: لو خيرت أن أعطيها أكثر من مالها عشر مرات ولا تموت لفعلت، فكيف نقول: إن هذا الزوج يُحرم من الميراث؟ ! والله يقول: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12].، فإذن عندنا عموم، هذا العموم لا يمكن أن يُخصص إلا بدليل من الشرع، ولا دليل على سقوط الإرث في مثل هذه الحال التي نعلم أنه لا يتطرق إليها احتمال العمد، فحينئذ يرث، ولكن يرث من تلاد مالها لا من الدية؛ لأن القاتل خطأ يجب عليه أن يسلم دية إلى أهل المقتول، والدية هذه تورث كما يورث ماله القديم، وحينئذ نقول: إنه يرث - أي: القاتل خطأ- من مال المورث الأول دون الدية؛ لأن الدية واجبة ?

عليه، وقد روى ابن ماجه حديثًا في ذلك ذكره ابن القيم في آخر كتاب (إعلام الموقعين)، في فتاوى النبي (صلى الله عليه وسلم) ذكره، وقال به نأخذ، وهذا القول هو القول الراجح. من فوائد الحديث: أن القاتل لا يرث شيئا لا قليلاً ولا كثيرا وعموم الحديث يدل على أنه لا يرث سواء ورث بالسبب أو بالنسب الذي يرث بالنسب هم القرابة، والذي يرث بالسبب الزوجية والولاء، فالحديث ظاهره العموم. ومن فوائده: أن الشريعة اعتبرت سد الذرائع، يعني: أن ما كان ذريعة للشيء فإنه يُمنع إن كان ذريعة إلى محرم، وجهه أن منع القاتل من الميراث سد لذريعة القتل من أجل الميراث. ظاهر الحديث أن القاتل لا يرث مطلقًا ولو قتل بحق، لكن هذا غير مراد؛ لأن التهمة في حق القاتل بحق غير واردة؛ لأن سبب الحق قائم، وهو استحقاق القصاص مثلاً، فلا يمكن أن تُرد الشبهة في حقه، لو أنه قتله تطببا أي: عالجه وهو إنسان حاذق فهلك المريض بسبب علاج هذا الشخص، فظاهر الحديث أنه لا يرث، ولكنه غير مراد فإنه في هذه الحال يرثه؛ لأنه مُحسن، وقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل} [التوبة: 91]. فيكون وارثا، والضابط الذي لا ينخرم أنه إن قتل بحق فإنه يرث، وإن قتل بغير حق فإنه لا يرث إلا إذا تيقنا أنه خطأ من غير احتمال العمدية فإن الصحيح أنه يرث. 915 - وعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ما أحرز الوالد أو الود فهو لعصبته من كان». رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصححه ابن المديني، وابن عبد البر. «أحرز» بمعنى كسب وأخذ الوالد فهو لعصبته وما أحرز الولد فهو أيضا لعصبته ولكن سبق لنا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» فذاك الحديث يخصص هذا الحديث فهو لعصبته أي: إذا لم يكن له ذوو فرض فإن كان له ذوو فرض فإنهم -.مقدمون على العصبة. في هذا الحديث: دليل على أن التوارث بين الوالد والولد ثابت فإن وجد مانع من موانع الورث فإنه للعصبة الذين من وراء الولد والذين من وراء الوالد فلو فرض أن شخصا توفي عن ?

أب رقيق وعن عم حر فالميراث للعم الحر ولا يرث الأب الرقيق، وذلك لأنه لو ورث لصار المال لسيده وسيده أجنبي فلا يرث وفي قوله فهو لعصبته من كان، يعني: أيا كان العصبة سواء كان قريبا أم بعيدا، فإن المال يكون له لكنه كما ذكرت لكم مقيد بما إذا لم يكن صاحب فرض. (91) 6 - وعن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع، ولا يوهب». رواه الحاكم من طريق الشافعي، عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، وصححه ابن حبان، وأعله البيهقي. «الولاء» مبتدأ، و «لحمة» خبر، والولاء: هو ما يثبت للمعتق على عتقه من الولاية وهو أخص من الولاية المطلقة فإذا أعتق الإنسان عبدا ثبت له عليه الولاء لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «إنما الولاء لمن أعتق»، والولاء ثابت للمعتق أيًا كان العتق، والعتق أنواع تارة تعتقه تقربًا إلى الله، وتارة تعتقه في كفارة، وتارة تعتقه في زكاة؛ لأن الزكاة ذكر الله للرقاب نصيبًا منها، إذا أعتقه تقربا إلى الله فلا شك أن الولاء له، لقوله: «إنما الولاء لمن أعتق»، وإذا أعتقه فى كفارة فهل يكون الولاء له أو يكون الولاء لأهل الكفارة وهم الفقراء، وإن كان للفقراء فهو في بيت المال، وإذا أعتقه في زكاة فهل يكون الولاء للمعتق أو يكون الولاء لأهل الزكاة؟ لأن هذا أعتق في زكاة، فمن العلماء من قال: إن المعتق في كفارة أو زكاة كالمعتق تقربًا فيكون ولاؤه للمعتق، واستدلوا بعموم الحديث: «إنما الولاء لمن أعتق». ومنهم من قال: بل إن الولاء فيما إذا أعتقه في كفارة يكون للفقراء وفيما إذا أعتق زكاة يكون لأهل الزكاة، لأننا لو رددنا الولاء للمعتق تعاد إليه شيء من كفارته أو من زكاته ولتسارع الناس إلى مثل هذه الحال من أجل أن يعود النفع إليهم في المستقبل، وهذا القول أقرب من الأخذ بالعموم. وعلى كل حال: فمتى ثبت الولاء فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: «إنه لحمة» بمعنى: التحام كلحمة النسب، أي: كالتحام النسب، والنسب حق شرعي لا يورث ولا يباع ولا يوهب، ولهذا لو جاءنا رجل، وقال: أنا وهبت نفسي لكم لأكون منكم، يقوله لشخص معروف من قبيلة معروفة قال ?

له هذا الكلام، فهل يثبت النسب للموهوب له؟ لا ولو أن رجلا باع نسب ابنه على شخص فإن هذا لا يصح لأن النسب ثابت حق شرعي لا يمكن إزالته. الولاء كذلك ثابت حق شرعي لا يمكن إزالته حتى إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما بلغته عائشة (رضي الله عنها) فى الأنصار الذين باعوا عليها بريرة واشترطوا أن يكون ولاؤها لهم قال النبى (صلى الله عليه وسلم): «خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق وأبطل الشرط»، مع أنه قد شرط والتزمت به عائشة بأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) فدل هذا على أن الولاء لا يمكن إسقاطه عن المعتق لا بشراء ولا بهبة ولا بغيرها كما أن النسب لا يمكن إسقاطه لا يمكن أحد أن يبيع نسبه أو نسب ابنه أو نسب ابنته لا يباع ولا يوهب، يعني: لو أن شخصا أعتق عبدا ثبت له الولاء فلو جاءه شخص وقال بع علي ولاء عبدك الذي أعتقته فإن البيع لا يصح كما لو جاء شخص لآخر، وقال: بع علي نسبك، فإنه لا يصح كذلك الولاء ولو أن المعتق وهب الولاء لشخص آخر، فكذلك لا يصح كما لو وهب الإنسان نسب ابنه إلى شخص آخر فإنه لا يصح، وهل يورث؟ لا يورث لأنه لو صح نقل الملك فيه بهبة أو بيع لصبح نقل الملك فيه بالإرث إذن فلا يورث فلو أن شخصنا أعتق عبدا وخلف عقارا وكان له ابنان فكيف يكون الإرث بالنسبة للاثنين؟ العقار بينهما نصفان والولاء لا يورث لكن لو مات العتيق كيف يرثانه؟ إذا لم يوجد عصبة نسب يرثانه بالسوية، لكنهما يرثانه إرث استحقاق لا انتقال، مات أحد الابنين عن أبن والعقار موجود والعتيق موجود كيف يكون العقار ينتقل إلى من؟ إلى ابن الابن يرث نصف العقار من أبيه، لكن هل يرث من أبيه ولاء العبد؟ لا، لا يرث ولهذا لو مات العبد عن ابن سيده الذي أعتقه وابن ابنه من الذي يرث العبد؟ ابن السيد الذي أعتقه دون ابن ابنه، ولو كان الولاء يورث لورثه ابن الابن والابن نصفين لكن الولاء لا يورث. الولاء يثبت للمعتق وعصبته المتعصبين بأنفسهم، فإذا هلك هالك عن ابن وبنت وله عبد عتيق موجود كيف يرث الابن والبنت أباهما؟ يرثانه بالتعصيب للذكر مثل حظ الانثيين، لكن مات العتيق عن ابن معتقه وبنت معتقه من يرثه؟ الابن فقط، ابن العتيق هو الذي يرثه ولو كان يورث لورثت البنت كما ورثت من أبيها إذن الولاء لا يورث؟ هذه نتمم التمثيل فيها لنبين لكم أنها تسمى مسألة القضاة يقولون: إن ملكا سأل عنها سبعين قاضيًا من قضاة المدينة كلهم أخطأوا فيها. على كل حال نقول: ابن وبنت اشتريا أباهما من شخص مالك له، يعني: الأب رقيق وهما ?

أحرار ثم إن الأب عتق؛ لأن الإنسان إذا اشترى أباه عتق الأب واشترى عبدا فأعتقه ثم مات الأب وهما قد اشترياه نصفين، يعني: هي سلمت عشرة والابن سلم عشرة كيف يرثانه؟ يرثانه أثلاثا للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لأنهما يرثانه بجهتى تعصيب، تعصيب نسب وتعصيب ولاء سبب أيهما أقوى؟ تعصيب النسب إذن يرثانه بتعصب النسب فيكون أثلاثا، مات العتيق عتيق الابن كيف يرثانه؟ البنت لا ترث؛ لأن ابن المعتق يعصب بالنسب فهو أقوى من تعصيبه لأبيه بالولاء، فيكون ميراث المعتق لابن المعتق لا لبنته وكذلك الآن أنه لا غرابة أن يغلط فيها إن صحت الرواية سبعون قاضيا من قضاة المدينة. النهاية أن الولاء كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «لحمة كلحمة النسب» لا يمكن استبداله لا بيع ولا هبة ولا بإرث ينتقل على أنه لحمة كلحمة النسب، ثم إن كان هذا السند معلولا لكن يشهد له حديث عائشة الثابت في الصحيحين أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إنما الولاء لمن أعتق». 917 - وعن أبي قلابة، عن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أفرضكم زيد بن ثابت». أخرجه أحمد، والأربعة سوى أبي داود وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، وأعل بالإرسال. هذا الحديث -كما قال المؤلف - أعل بالإرسال والعلة أحد أسباب القدح في الحديث؛ لأن من شروط الصحة أن يكون غير معلل ولا شاذ، فالحديث إذن ضعيف وعلى تقدير صحته فإنه خطاب لقوم معينين وليس خطابا للأمة جميعها لم يقل الرسول (صلى الله عليه وسلم) أعلم أمتي بالفرائض زيد بن ثابت ولا أفرض أمتي زيد بن ثابت وإنما قال: «أفرضكم» والخطاب لقوم معينين وهذا على تقدير صحته مرفوعا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يقتضي أن يكون زيد أفرض هذه الأمة ثم على فرض أنه موجه للأمة لا يقتضي أن يكون زيد معصوما من الخطأ؛ لأني إذا قلت: فلان أعلم من فلان لا يعني أن الأعلم معصوم، فإن الأعلم قد يخطئ لأنه ليس أحد من الناس حاويا لجميع العلوم، ما من عالم إلا وفوقه أعلم منه كما قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم} [يوسف: 76]. حتى تنتهي إلى علام الغيوب (عز وجل). فالحاصل: أن الحديث أولاً ضعيف، ثانيا لو صح فهو مخاطب به جماعة معينة، ثالثًا لو فرض عمومه للأمة فلا يستلزم عصمة زيد من الخطأ، ولهذا لا يمكن لأي إنسان أن يحتج علينا في مسألة فرضية بأن هذا قول زيد بن ثابت، لأننا نقول في جوابه زيد بن ثابت غير معصوم حتى لو

21 - باب الوصايا

كان أعلم الأمة على تقدير صحة الحديث فإنه لا يقتضي أن يكون معصومًا، لأنه لا يوحى إليه، عل كل حال أخذ بهذا كثير من العلماء واختاروا من أجله مذهب زيد بن ثابت، ومنهم الشافعي كما قال صاحب الرحبية: (فكان أولى باتباع التابعي ... لاسيما وقد نحاهُ الشافعي) ولكن مع ذلك نقول: إنه وإن تابعه من تابعه من العلماء، فإنه ليس معصوما من الخطأ، ولهذا تجدون الخطأ واضحًا في مسألة الجد والإخوة، وتفاصيله وتقسماته تدل على ضعفه، وأنه قول لا أصل له، لأنكم تعرفون فيه تقسيمات، يقسم أولاً إلى قسمين: أن يكون معه صاحب فرض، وألا يكون، وإذا لم يكن معه صاحب فرض يُخيّر الجد بين المقاسمة أو ثلث المال، وإذا كان معه صاحب فرض يخير بين المقاسمة أو ثلث المال أو السدس إلا إذا لم يبق إلا السدس، فإنه يأخذه الجد إلا في الأكثرية استثناء، ثانيا: فإنه يفرض للأخت ثم يقسم بينهما وبين الجد هذه التقسيمات لو كانت صحيحة لوجدت في القرآن والسنة لما أراد الله (صلى الله عليه وسلم) بيان تصيب الأم المقسم بينه {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُث} [النساء: 11]. مع أن التقسيم فيه دون التقسيم في باب الجد والإخوة كما أن باب الجد والإخوة فيه أيضا شيء من الظلم؛ لأنك إذا جعلت الإخوة في منزلة الجد فإما أن تعطيهم كما تعطي الجد وإما ألا تكون عدلاً بينهم، فالحاصل أن هذا المذهب الذي هو مذهب زيد (رضي الله عنه) في باب الجد والإخوة بين الضعف وبه يتبين أنه مهما كان الحديث المذكور صحيحًا فإنه لا يعنى عصمة زيد من الخطأ. 21 - باب الوصايا المؤلف جعل الوصية بعل الفرائض، ولكن الفقهاء من الحنابلة جعلوا الوصايا قبل الفرائض وترتيب فقهاء الحنابلة أقرب للصواب: أولاً: لأن الوصية تكون قبل الموت. وثانيًا: أن الوصية مقدّمة على الميراث، كيف ذلك؟ لو أن رجلاً أوصى بثلثه وهلك عن أمه وأخيه الشقيق وخلف عشرين ريالاً، بل خلف واحد وعشرين ريالاً، الوصية لها الثلث، والأم مع الأخ الشقيق لها الثلث، والباقي الثلث للأخ الشقيق، هنا لو قلنا إن الوصية لا تُقدّم

على الميراث لكان للوصية الريع وللأم الربع وللأخ النصف، يعني: تجعل النقص على الجميع لكننا نقدم الوصية ثم نقسم الباقي على أصحاب الميراث، فنقول: التركة واحد وعشرون ريالاً أوصى بالثلث سبعًا، يبقى أربعة عشر للأم ثلثها أربعة وثلثان انظر الآن كان بالأول الأم لها الثلث فتستحق سبعة من واحد وعشرين الآن لم تستحق إلا أربعة، وثلثان من أربعة وعشرين ولو لم تقدم الوصية لتساوى صاحب الوصية مع الأم، والأخ الشقيق يُعطى النصف كم بقي للأخ؟ يبقى له تسعة وثلث، وكان الأول يرث أربعة عشرة إذن نقول: إن الترتيب الذي سلكه الفقهاء من الحنابلة أقرب للصواب من الترتيب الذي ذكره المؤلف. الوصايا جمع وصية وهي ما يُعهد به على وجه الاهتمام به، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 121] أما في الاصطلاح فالوصية هي التبرع بالمال بعد الموت، أو الأمر بالتصرف بعده، التبرع بالمال بعد الموت، مثل أن يقول: إذا مت فأخرجوا ثلثي مالي في أعمال البر، أو يقول: إذا مت فأعطوا فلانا كذا وكذا، الأمر بالتصرف بعده، مثل أن يقول: إذا مت فالناظر على أولادي الصغار فلان، هنا لم يوص بمال، ولم يتبرع بمال، لكن أمر بالتصرف بعد الموت ما هو التصرف؟ النظر في حق أولاده الصغار، إذن الوصية تكون بالمال وتكون بالحقوق. حكم الوصية: يقول العلماء: إن الوصية تجري فيها الأحكام الخمسة: الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام، وهذه الأحكام الخمسة التي تجري في الوصية مأخوذة من الكتاب والسنة، إما دليلاً، وإما تعليلاً، فنبدأ أولاً بالوصية الواجبة وهي تكون في كل دين واجب على الموصي ليس به بينة سواء كان هذا الدين لله كالزكاة والنذر أو كان للمخلوق كثمن المبيع والأجرة والقرض، فكل دين واجب ليس فيه بينة فالوصية به واجبة، لماذا؟ لأنه لو لم يوص به لضاع حق من له الحق، وهذا حرام، وما لا يتم درء الحرام إلا به فهو واجب؛ لأن درء الحرام واجب، فإذا قدرنا أن شخصا في ذمته لفلان مائة ريال، وليس به بينة، وجب عليه أن يُوصي بأن في ذمتي لفلان مائة ريال، فإن كان به بينة سقط الوجوب، وبقي الاستحباب، سقط الوجوب لأن الحق لا يضيع مع وجود البينة، لكن يبقى الاستحباب فيستحب أن يُوصي ولو مع وجود البيئة لأمرين: الأول: لاحتمال ألا تقوم البينة إما لنسيانها، أو لإنكارها، أو لموتها، أو لمشقة إقامتها، كل هذا وارد.

ثانيًا: أنه إذا كانت الوصية من الموصي سهل على الورثة أن يقوموا بتنفيذها لكن إذا لم تكن بوصية منه فربما يحوجون صاحب الحق إلى المحاكمة، فينكرون وويقولون: هاتوا شهودًا، وهذا لا شك أنه ضرر بالنسبة لصاحب الحق، إذن فمن عليه دين واجب ليس به بينة فالوصية به واجبة، وإن كان به بينة فالوصية مستحبة للوجهين اللذين ذكرناهما، هناك وصية واجبة مختلف فيها وهي الوصية للأقارب الذين لا يرثون فهذه الوصية اختلف العلماء في وجوبها، فأكثر العلماء على عدم الوجوب، وذهب بن عباس وجماعة من السلف والخلف إلى وجوب الوصية للأقارب غير الوارثين، وكل منهم استدل بآية واحدة، وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. كتب، حقًا على المتقين، ثلاثة مؤكدات تؤكد الوجوب؛ لأن «كتب» بمعنى فرض كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]. و «حقا» بمعنى ثابتا واجبًا، «على المتقين» الذين يتقون الله، فهذه ثلاثة مؤكدات تؤكد وجوب الوصية للوالدين والأقربين. ولكن جاءت آيات المواريث فأخرجت الوارث من هؤلاء، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث»، فخرج الوالدان الوارثان، وخرج الأقارب الوارثون لا يُوصى لهم اكتفاء بما جعل الله لهم من الميراث، فيبقى من لم يرث من الوالدين والأقربين، فمن العلماء من قال: إن هذه الآية منسوخة بآيات المواريث، ومنهم من قال: إنها مخصوصة بآيات المواريث، وهو الصواب، أي: أنها مخصوصة؛ لأنه متى أمكن العمل بالدليلين كان واجبا، والعمل بالدليلين عن طريق تخصيص العموم ممكن فيكون واجباً. الوصية المحرمة أن تكون لوارث أو زائدة على الثلث مطلقًا، لوارث أو أجنبي دليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى قسم المواريث وقال في الآية الأولى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ الله} [النساء: 11]. فقال: فريضة، فدل هذا على أن تقسيم التركة على هذا النحو فريضة واجبة من الله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11]. وقال في الآية الثانية بعد أن ذكر ميراث الزوجات والإخوة من الأم قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 13، 14]. فالزوج مثلاً إذا أوصى لزوجته بعشرة ريالات كان هنا قد تعدى الحدود؛ لأن الله إنما فرض لها ثمنا أو ربعًا، فإذا أعطاها ولو عشرة ريالات من مليون فقد تعدى الحدود وقد قال الله تعالى: {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14]، في الآية الثالثة لما ذكر الله ميراث الحواشي: الإخوة الأشقاء أو لأب قال: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا} [النساء: 176]. فدل ذلك

حكم كتابة الوصية

على أن ما خالف ما بين الله فهو ضلال، إذن هذه أدلة تدل على تحريم الوصية للوارث، ما زاد على الثلث دليله حديث سعد بن أبي وقاص حينما أصيب بمرض في حجة الوداع فجاءه النبي (صلى الله عليه وسلم) يعوده فقال: إنه ذو مال كثير ولا يرثه إلا ابنة له، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث، قال: الثلث والثلث كثير، فقول النبي (صلى الله عليه وسلم)، لا في الموضعين يدل على التحريم؛ لأن الوصية خير وأجر للإنسان ولا يمكن أن يمنع النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا الخير والأجر إلا لامتناعه شرعا، فيحرم أن يُوصي بشيء زائد على الثلث سواء لأجنبي أو للوارث. إذن الوصية المحرمة نوعان: الأول: الوصية لوارث مطلقًا. والثاني: الوصية بزائد على الثلث مطلقا. الوصية المباحة هي: أن يوصي الإنسان بالثلث فأقل، إذا كان ورثته أغنياء فهنا الوصية مباحة، وقد نقول إنها مستحبة إذا كان وارثه غنيًا؛ لأنها خير وإذا كانت خيرا ولا تضر الوارث شيئا؛ لأنه غني فالخير مطلوب، وسيأتي فيما بعد أن الوصية ينبغي ألا تزيد على الخمس وأن أفضل جزء يُوصى به الخمس، لأنه الذي ارتضاه أبو بكر (رضي الله عنه) لنفسه، والنبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «الثلث والثلث كثيرة». أما المكروهة فهى: وصية الشخص الذي ماله قليل ووارثه فقير، فإذا كان وراثه فقيرا وماله قليل فإن الوصية حينئذ تكون مكروهة لما فى ذلك من الإضرار بالوارث، والرجل الميت ماله قليل ووارثه أحق الناس به، فلهذا قال العلماء: إن هذا القسم تكون الوصية فيه مكروهة. وتكون مباحة فيما سوى ذلك، مثل: إذا أوصى الإنسان بماله كله إذا لم يكن له وارث، فهذا مباح؛ لأنه في هذه الحال لا يضر بأحد، فله أن يوصي بجميع ماله، أو إذا كان وارثه غنيًا وأوصى بالثلث فإن ذلك أيضا من المباح، لكن ذكرنا قبل قليل أنه ينبغي أن يكون من الأشياء المستحبة. حكم كتابة الوصية: 918 - عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده». متفق عليه. هذا الحديث فيه إشكال من حيث الإعراب، أولاً: قوله: «ما حق امرئ» ما هذه نافية، وهل هى حجازية أو تميمية؟ الحجازية هي التي تحمل عمل ليس، ومعلوم أن «ما» هذه معناها: ليس سواء

جعلناها حجازية أم تميمية، لكن اختلف الحجازيون والتميميون في عملها، فالحجازيون أعملوها بشروط والتميميون أهملوها مطلقا، وقال الشاعر يصف معشوقته: (ومُهفهف الأعطاف قلتُ له انتسب ... فأجاب ما قتل المحاسب حرام) ما هنا تميمية، هنا نقول في الحديث هي تميمية ونقول: ينبني على الإعراب. يقول: وحقه مبتدأ «لامرئ» مضاف إليه ومسلم صفة لامرئ «له شيء»، صفة لامرئ يريد صفة لشيء، «يبيت ليلتين» يُحتمل أن تكون صفة لامرئ، ويحتمل أن تكون خبر المبتدأ، يعني: ما حقه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده وإلا أداة حصر والواو «وصيته» للحال «ووصية» مبتدأ و «مكتوبة»، خبره، فالإعراب الآن واضح. «ليلتين»، ما إعرابها؟ ظرف منصوب على الظرفية، وهي في محل نصب خبر يبيت؛ لأن بات ترفع المبتدأ وتنصب الخبر واسمها هنا مستتر وليلتين ظرف هو الخبر. قوله: «ما حق»، يعني: ما الذي ينبغي له أن يفعل فهنا حقه بمعنى: المنتفي، أي: ليس ينبغي له أن يبيت ليلتين إلا ووصيته ... إلخ. وقوله: «امرئ مسلم»، يُقال للرجل ويقال للمرأة امرأة، وكثيراً ما يرد علينا نصوص في الكتاب والسنة تقييد الخطاب أو الحكم بالرجال، وهذا من باب التغليب الشرف الرجال على النساء، والقاعدة: أن ما ثبت في حق الرجال، يثبت في حق النساء إلا بدليل، وقوله: «مسلم» ضدها الكافر، فهل نقول: إن هذا قيد شرطي أو قيد أغلبي؟ فيه خلاف، بعضهم قال: إنه شرطي، وبعضهم قال: إنه أغلبي، وأن الذي عليه الحق ليس له أن يبيت إلا ووصيته مكتوبة. وقوله: «شيء» كلمة شيء من أعم إن لم تكن أعم شيء، تشمل المال والتصرف والمنافع والاختصاصات، كل شيء، ليس له حق ... إلخ. وقوله: «يريد أن يوصى فيه»، أي: يعهد به إلى أحد. «بيت ليلتين»، يعني: ليس له الحق أن يبيت ليلتين، وكلمة ليلتين هل هي من باب المبالغة فيكون المراد يبيت زمنا قليلاً أو من باب التحديد وأن الشارع أعطى مهلة للإنسان يفكر في أمره ويتروى، ولكنه لم يمد له في الأجل خوفا من أن يهاجمه الموت، فجعل له ليلتين يفكر في نفسه ويستخير ربه ويشاور غيره؟ الظاهر الثاني، وأن الشرع له قصد، يعني: أنه لا يتأخر عن ليلتين، لكن إن زاد يكون مُفرطا. وقوله: «إلا ووصيته» معروفة، ولم يقل: إلا وقد كتب وصيته، بل قال: «مكتوبة»، ليعم ما إذا كتبها هو بيده أو كتبها غيره، والمراد بالكتابة هنا الكتابة المعروفة التي يُعتمد عليها؛ لأنه ليس كل كتابة تكون عمدة، فالكتابة التي ليست مشهورة بين الناس لا تفيد إلا إذا صدقت من جهة رسمية كالمحاكم مثلاً.

في هذا الحديث يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «إن الجد كل الجد والحزم لمن أراد أن يوصي ألا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة»؛ لأن الإنسان قد يفاجئه الموت، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، "، وكم من إنسان قد مدّ خيوط الأمل فانبترت ولم تتجاوز قدمه؛ فليبادر الإنسان ما دام يريد أن يُوصي، وحث الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن تكون مكتوبة؛ لأن المسموعة قد تُنسى فلو أن الإنسان أشهد على نفسه شفويا بالوصية لكان هذا كافيا، لكن لا شك أن الكتابة أضبط. من فوائد هذا الحديث: أن الدين الإسلامي يأمر بالحزم وألا يؤخر الإنسان أموره؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) جعل لمن أراد أن يُوصى ليلتين. ومن فوائده: أن الوصية ليست بواجبة؛ لقوله: «يريد أن يوصي فيه»، ووجه ذلك: أن المعلق على إرادة الإنسان لا يكون واجبا؛ لأن الواجب لابد أن يفعله الإنسان شاء أم أبى، ولهذا لما سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم»، قالوا: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت»، علمنا أن الوضوء من لحم الإبل واجب، وأن الوضوء من لحم الغنم غير واجب؛ لأنه علق الوضوء من لحم الغنم على مشيئة الإنسان، فهنا قال: «يريد أن يوصي فيه»، فهذا يدل على أن الوصية ليست واجبة، ولكن هذا الاستنباط في نظر ظاهر؛ لأن الإرادة هنا لا تنصب على مطلق الوصية بل على النوع الذي يوصي فيكون له شيء يريد به أي: بهذه الشيء المعين، فالإنسان قد يوصي بعقار وقد يوصي بمال، وقد يُوصي بمنافع، وقد يُوصي بنظر على أولاده، فالإرادة متوجهة إلى نوع ما يوصي به، ولهذا قال: «شيء يريد أن يوصي به»، ولم يقل: «ما حق امرئ مسلم يريد أن يوصي» بل قال: «له شيء يريد أن يوصي به»، وبين العبارتين فرق ظاهر. وجه آخر: أنه قد يعلق الشيء على الواجب على الإرادة باعتبار فعله، فلو قلت: إذا أردت الصلاة فتوضأ، هل هذا يدل على أن الصلاة ليست بواجبة؟ لا، لكن الإرادة مُعلقة على الفعل، قد يكون الشيء واجبًا، لكن لا يريد أن يفعله في الحاضر، بل يريد أن يؤجله فيكون التعليق على الإرادة لا يدل على أن المراد ليس بواجب إذا وجدت أدلة أخرى تدل على الوجوب، وقد علمتم أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ ... } إلخ. يدل على وجوب الوصية، إذن فالاستدلال بهذا الحديث على عدم وجوب الوصية فيه نظر من وجهين. ?

ومن فوائد الحديث: أن الموصى به لا يتقيد بشيء معين، لقوله: «له شيء يريد أن يُوصي به»، ولكنا نقول: هو مطلق «له شيء، لكن يجب أن يكون مقيدا بالشرع، فلو أن الإنسان أوصى بشيء محرم بأن أوصى بعشرة آلاف ريال يشترى بها خمر لمن أراد أن يشرب الخمر، فهذا لا يجوز، إذن هذا المطلق يقيد بالشرع بما دلت الشريعة على جوازه. ومن فوائد الحديث: أن تخيير الوصية لا يكون أكثر من ليلتين لقوله: «يبيت ليلتين» فإنه إذا بات أكثر من ليلتين ليس له حق في ذلك، وهو يدل على أنه يجب أن يبادر بالوصية إذا كان يريد أن يُوصي بشيء، لكن كما تعلمون هذا إذا كانت الوصية واجبة أما إذا كانت غير واجبة فله الحق أن يبيت ليلتين أو أكثر. ومن فوائد الحديث: العمل بالكتابة لقوله: «إلا ووصيته مكتوبة عنده». ومن فوائده: أن الكتابة أبلغ في الحفظ من السماع، وجهه أنه لم يقل: إلا وقد أشهد على وصيته بل قال: «مكتوبة عندمه، ومن ثم نعرف أن من طعن بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه إنما يروي الحديث عن صحيفة، فإن طعنه مطعون فيه، لماذا؟ لأن الرواية من الصحيفة إذا كانت محفوظة لم تختلف فيها الأيدي أثبت من الرواية عن طريق السماع والحفظ؛ لأن الكتابة أوثق. قوله: «إلا ووصيته مكتوبة» لو قال قائل: الحديث يدل على مطلق الكتابة، فهل هذا مراد؟ فالجواب: لا المراد به الكتابة التي تثبت بها الوصية، وما هي الكتابة التي ليست بوصية؟ هي الكتابة المعروفة أو الموثقة من طريق يحصل به التوثيق، فلو أن الشخص مثلاً كتب وصية لكن خطه غير معروف فهل تفيدنا شيئا؟ لا، فلابد أن يكون خطه معروفا أو موثقا من قبل جهة يحصل بها التوثيق كالمحكمة أو الإمارة أو إمام الحي، المهم لابد أن تكون الوصية معروفة أو موثقة. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يحتفظ بالوثائق وألا يهمل فيها لقوله: «عنده» لا يهمل ويفرط بل يحفظ الوثائق؛ لأن الإنسان إذا أهمل فربما يزاد في الشيء ويُنقص، فإذا كان الشيء عنده وفي حوزته كان ذلك أضبط. ومن فوائد الحديث: الرد على الجبرية، وهذه مسألة عقدية، لقوله: «يريد أن يُوصى فيه»؛ لأن الجبرية لا يثبتون للإنسان إرادة، بل يقولون: الإنسان يتحرك بدون إرادة، فالذي يحرك يده

ضوابط الوصية

هكذا مثل الذي ترتعش يده بلا إرادة، يقولون: لا فرق بينهما، ويقولون: إن حركات الإنسان كحركات الريش في الهواء بدون إرادة، وهذا في الحقيقة قول مجرد تصوره كافٍ في إبطاله ورده ولهذا لو أنك أمسكت واحدا من هؤلاء وضربته على أم رأسه، وقلت له: هذا قضاء الله وقدره، ما بيدي حيلة، شيء بغير إرادة، هل يقبل؟ ربما يقول: نعم أقبل منك ولكن سأضربك بخشبة وأقول: هذا ليس بيدي، ولهذا يُذكر أن أمير المؤمنين عمر جيء إليه بسارق فأمر بقطع يده، فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين والله ما سرقت المال إلا بقدر الله، فقال: ونحن لا نقطعك إلا بقدر الله فاحتج عليه بحجته مع أن أمير المؤمنين (رضي الله عنه) يقطع يد السارق بقدر الله وشرع الله، وأما السارق فيسرق بقدر الله لا بشرع الله؛ لأن الله لم يأذن له بالسرقة، ولكن عمر (رضي الله عنه) ما حاول أن يقول: نقطعك بالقدر والشرع، احتج عليه بحجته؛ لأنها تُلقمه حجرا. ومن فوائد الحديث: أن المسلم هو الذي يكون حازمًا دائمًا لقوله: «ما حق امرئ مسلم»، فالمؤمن كيس فطن عاقل يحتاط للأمور ويرتبها، ليس المسلم الذي يهمل نفسه، ومن ثمّ ولاسيما في وقتنا الحاضر - ينبغي للإنسان أن يرتب وقته، يعني: الصباح لكذا، والمساء لكذا، يوم السبت لكذا، ويوم الأحد لكذا، حسب ما تقضية الحاجة حتى لا يضيع عليه الوقت؛ لأنه قال: «ما حق امرئ مسلم»، فوصفه بالإسلام وإن كان عامًا فإنه يدل على أن هذا شأن المسلم أي: أنه لا يضيع الفرصة أبدا. ضوابط الوصية: 919 - وعن سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) قال: قلت: «يا رسول الله، أنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا. قلت: أفاتصدق بثلثه؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». متفق عليه. سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وله مقامات عظيمة في الجهاد وتاريخه مشهور، مرض في حجة الوداع فجاءه النبي (صلى الله عليه وسلم) يعوده كعادته (صلى الله عليه وسلم) في كونه يتفقد أصحابه ويعود من يحتاج إلى العيادة، فجاءه فوجده يبكي، قال: «ما يبكيك؟ » قال: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي، وكانوا يكرهون أن يموت الرجل في الأرض التي هاجر منها، وسعد من المهاجرين، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): «إنك لن تُخلف»، وهذه بشرى له، يعني: لن تموت في مكة، «ولعلك أن تُخلف حتى ينتفع بك أقوام ويُضر بك آخرون»، وأن تخلفه الثانية غير

الأولى، تُخلف الأولى، يعني: لن تُخلف عن أصحابك فتموت في مكة، ولعلك أن تُخلف أي: تُعمّر وتبقى عمرا طويلاً حتى ينتفع بك أقوام، ويُضر بك آخرون، وهذا الذي توقعه النبي (صلى الله عليه وسلم) وقع، فإن سعدا خلف وانتفع به أقوام وهم المسلمون في الفتوحات العظيمة وضر به آخرون وهم الكفار بما حصل فيهم من قتل وأسر وغنيمة لأموالهم، فوقع ما أخبر به النبي (صلى الله عليه وسلم). «لكن البائس سعد بن خولة» يرثي له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن مات بمكة، وهو من المهاجرين، يعني: يتوجع له الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن مات بمكة، وإن كان الأمر بيد الله هو الذي يُميت من شاء في أي مكان وفي أي زمان. ثم قال: يا رسول الله: «أنا ذو مال»، مال هنا نكرة، والمراد بها التكثير أي: ذو مال كثير، «ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة»، أي: لا يرثني من أولادي وذريتي إلا ابنة لي واحدة، وليس المراد لا يرثني بالتعصيب؛ لأن سعد بن أبي وقاص له عصبة كثيرون بني عم، لكن لا يرثني من أولادي إلا ابنة لي واحدة، هكذا قال في ذلك الوقت، ولكنه «رضي الله عنه» مات عن سبعة عشر ابنا واثنتي عشرة بنتا، وكان يتوقع أنه لا يرثه إلا واحدة، حتى خلف ومات عن هؤلاء التسعة والعشرين ولذا. يقول: «أفأتصدق بثلثي مالي؟ » هذا مبني على قوله: «لا يرثني إلا ابنة لي» يعني: وفي هذه الحال «أفأتصدق بثلثي مالي؟ » أي: باثنتين من ثلاثة، والهمزة في قوله: «أفأتصدق» للاستفهام، والمراد بالاستفهام هنا الاستعلام والاستفتاء، والفاء عاطفة، ولكن هل هذا مكانها أو أن مكانها قبل الهمزة، لكن قُدمت الهمزة عليها؛ لأن لها الصدارة؟ في هذا قولان لعلماء النحو: الأول: أن الفاء في محلها وأن همزة الاستفهام دخلت على شيء مُقدّر، والفاء حرف عطف على ذلك المقدر، وهذا المحذوف يقدر بحسب ما يقتضيه السياق. والقول الثاني: أن الفاء ليست في محلها، وأنها سابقة على الهمزة، لكن قدمت الهمزة عليها؛ لأن لها الصدارة فعلى الأول يكون التقدير جملة مناسبة للسياق. «ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة»، أأتبرع بشيء من مالي فأتصدق بثلثي مالي، يكون المحذوف تقديره هكذا، وعلي الثاني يكون التقدير فأتصدق بثلثي مالي، ذكرنا في قراءة التفسير أن الثاني أقل تكلفا؛ لأن الأول قد يصعب تعيين المحذوف المقدر؛ لأنه يتصيد من السياق، وقد يصعب على الإنسان أن يقدر الشيء المناسب، أما الثاني فهو أسهل، لأنك تقول: حرف العطف الواقع بعد الهمزة حرف عاطف على الجملة السابقة، ولا تحتاج إلى تقدير. قوله: «أتصدق بثلثي مالي»، يعني: أتبرع به صدقة، والصدقة ما يُراد بها وجه الله، وظاهر هذا اللفظ أنه (رضي الله عنه) أراد أن يتصدق به حالاً في حال حياته؛ لأن هذا مقتضى الصدقة، وفي بعض ألفاظ الحديث: «أوصي بثلثي مالي»، وعلى هذا فيكون سعد سأل عن الوصية لا عن الصدقة.

فإذا قال قائل: هل هناك فرق بين الصدقة وبين الوصية؟ قلنا: نعم الصدقة تكون عطاء منجزا قبل الموت، والوصية تكون عطاء مؤخرا بعد الموت، وقد ذكر الفقهاء بين العطية والوصية فروقا تبلغ إلى عشرة فروق، ولكن حديث سعد لما كان بعض ألفاظه قد صرح فيه بأنه وصية وحينئذ لا يكون هناك احتمال لكونها عطية، يقول: «أفأتصدق بثلثه مالي؟ قال: لا. قلت: أفأتصدق بشطره أي: بنصفه. قال: لا. قلت: أفأتصدق بثلثه؟ أي: بواحد من ثلاثة. قال: الثلث والثلث كثير»، يعني: الثلث جائز، «والثلث كثير»، فالثلث الأول مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: جائز، وأما الثلث الثاني فهو أيضاً مبتدأ وكثير خبره، وفي بعض الروايات - وهي مرجوحة- والثلث كبيرة يعني: جزء كبير النسبة بالنسبة للمال، ثم علل النبي (صلى الله عليه وسلم) منعه من الوصية بما زاد على الثلث، فقال: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة» في «أن» روايتان إحداهما: «أن تذر»، والثانية: «إن تذر» والفرق بينهما أن «أن تذر» مصدرية تنصب الفعل فيجب أن يكون الفعل بعدها منصوبا، أما «إن» فهي شرطية ويكون الفعل بعدها مجزوما فنقرؤها هكذا: «إنك إن تذر ورثتك». على رواية «أن» كيف يكون إعرابها نقول: «أن تذر» مصدرية وهي في محل المبتدأ يعني: يقدر ما بعدها مصدرا في محل نصب على أنه بدل اشتمال من الكاف في قوله: إنك ويكون التقدير: إن وذرك ورثتك أغنياء خير، ويكون «خير» خبر إن، أما على رواية الكسر «إن تذر» ف «إن» شرطية وتذر فعل الشرط، وجواب الشرط جملة خير من أن تذرهم، ولكن لابد فيها حينئذ من تقدير، والتقدير: إنك إن تذر ورثتك أغنياء فهو خير، وعلى هذا فيكون قد حذف صدر الجملة الواقعة جوابًا، وما هو؟ «هو» وحذفت الفاء أيضا من الجواب، مع أن الجواب هنا جملة أسمية، والجملة الاسمية إذا وقعت جوابًا للشرط وجب اقترانها بالفاء، لكن قد تُحذف أحيانا - أي: القاع- ومنه قول الشاعر: * منْ يفعل الحسنات الله يشكرها *

والتقدير: فالله يشكرها، لكن حذفت، هذا إعراب هذه الجملة، أما المعنى فيقول النبي (صلى الله عليه وسلم) معللاً منعه الصدقة بما زاد على الثلث، يقولون إن ذلك من أجل الورثة، وأنك إذا تركت ورثتك أغنياء فهو خير من أن تذرهم عالة، «أغنياء»، مفعول ثان لتذر؛ لأن تذر تنصب مفعولين، ولكن ما معنى أغنياء؟ أي: غير محتاجين للناس بما تتركه لهم من الميراث، خير من أن تذرهم عالة أي فقراء، لأن عالة جمع عائل. وقوله: «يتكففون الناس»، أي: يمدون أكفهم إلى الناس ليسألونهم: يا عم أعطني، يا عم أعطني. ففي هذا الحديث عدة فوائد منها أولاً: حسن خلق النبي (صلى الله عليه وسلم) ورعايته، لكونه كان يعود أصحابه ويرعى أحوالهم. ومنها: حرص الصحابة (رضي الله عنهم) على الفقه في الدين، ولهذا لم يقدم سعد ابن أبي وقاص على الصدقة بشيء من ماله في هذه الحال حتى سأل النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويتفرع على هذه القاعدة أنه ينبغي لنا أن نقتدي بالصحابة في هذه الأمور، فلا نقدم على شيء من العقود أو المعاملات حتى تعلم حكمه في شريعة الله، لتكون المعاملات على بصيرة، أما عمل الناس اليوم فيتبعون كل ما جد من العقود والشركات بدون أن يسألوا أهل العلم، فهذا خلاف ما كان عليه الصحابة (رضى الله عنهم). ومنها: جواز البناء على الظاهر، وأن الخبر لا يعد كليا لقوله: «ولا يرثني إلا ابنة لي»، فإن هذا بناء على الظاهر الواقع، وقد تختلف الأحوال. ومنها: أن السائل ينبغي له أن يذكر الحالة على حقيقتها؛ لأن سعداً (رضي الله عنه) ذكر أنه ذو مال، وأنه لا يرثه إلا ابنة له، ولم يعم الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لم يسأله إلا حيث بين له الحال تمامًا، وهلا أمر واجب على المستفتي إذا استفتى الإنسان أن يشرح له الحال على الوجه الذي يسأل عنه خلافا لبعض المستفتين الآن، تجده يستفتي في شيء فيذكر كلامًا مجملاً ثم مع النقاش يتبين أن الأمر على خلاف ما صوره لك أولا. ومن فوائد الحديث: أن من كان عنده مال كثير فإنه لا حرج عليه أن يوصي به أو يتصدق به في مرضه، لقوله: «وأنا ذو مال»، لأنه سبق لنا في الشرح أن المراد بقوله: «ذو مال»، أي: مال كثير. ومن فوائد الحديث: جواز تصرف المريض ولو كان مرضه مخوفا؛ لأن الظاهر من حال سعد (رضي الله عنه) أنه كان متصورا أن هذا المرض مخوف، ومع ذلك أجاز له النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يتصرف على الوجه الذي لا ينافي الشريعة، فهل نقول: يجوز للمريض أن يبيع ماله في مرضه المخوف؟ نعم يجوز؛ لأنه إذا باعه سوف يأخذ ثمنه وليس هذا تبرعا، لكن لا يجوز أن يحابي

به فيبيعه برخص إلا بمقدار الثلث، فلو كان عنده عقار يساوي ثلاثمائة ألف فباعه على شخص بمائة وخمسين ألفا، فإن هذا البيع لا يجوز، باعه بمائتي ألف يجوز، باعه بمائتين وخمسين يجوز من باب أولى. ومن فوائد الحديث: تحريم الصدقة للمريض مرضا مخوفا بما زاد على الثلث، وجهه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) منعه من التصدق بثلثي ماله، أو بالشطر، فإن كان صحيحا فهل يجوز أن يتصدق بما زاد على الثلث؟ نعم، ويجوز بالنصف وبالثلثين، بل بماله كله، لكن بشرط أن يكون عنده قدرة على التكسب لعائلته، فإن لم يكن له قدرة على التكسب لعائلته، فإنه لا يجوز أن يتصدق بما ينقص كفايتهم. ومن فوائد الحديث: جواز استعمال «لا» في الجواب، وأنه لا يُعد جفاءً، وجهه أن أكمل الناس خلقا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال في جوابه: «لا»، لكن للأسف بعض الناس الآن يرى من الجفاء أن تقول للشخص: «لا»، وما دام النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: لا، وهو أكمل الناس خلقا (صلى الله عليه وسلم)، فإننا نعلم علم اليقين أن استعمالها لا يُعد جفاءً، ولا يخالف حسن الخلق. ومن فوائد الحديث: جواز التنازل في المطلوب، وأن الإنسان لا ينبغي له أن ييأس، يعني: إذا مُنع من شيء أن يُعرض، بل ينزل إلى ما دونه، لأنه إذا لم يُحقق رغبته فيما زاد يمكن أن تتحقق له الرغبة فيما دون ذلك، ولهذا لم ييأس سعد (رضي الله عنه) لما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): «لا» لم ييأس نزل قال: الشطر، فقال: «لا»، ولم ييأس. قال: الثلث. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي أن يقصر الموصي أو المتصدق في مرض موته عن الثلث، لقوله (صلى الله عليه وسلم): «الثلث والثلث كثير»، ولهذا صح عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنه قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الريع، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «الثلث، والثلث كثيرة» وأبو بكر (رضي الله عنه) اختار الوصية بالخمس، وقال: أختار ما اختاره الله لنفسه؛ لأن الله قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]. ولا شك أن ما اختاره أبو بكر (رضي الله عنه) مع قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «الثلث، والثلث كثير» يكون هو الأفضل، ولهذا قال الفقهاء (رحمهم الله): يُسن أن يوصي بالخمس. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأنه قال: والثلث كثيره ثم علله، وهذا من حسن التعليم؛ لأن الحكم إذا قرن بعلته استفدنا من ذلك ثلاث فوائد: الفائدة الأولى: بيان سمو هذه الشريعة وأن أحكامها معلقة بالمصالح ومعللة بها. والثانية: زيادة الطمأنينة بالحكم، لأن الإنسان إذا علم بحكمة الحكم ازداد طمأنينة. ?

والثالثة: القياس إذا كان الشيء مما يقاس عليه. والرابعة: انتفاء الحكم بانتفاء علته؛ لأن العلة المنصوصة يتبعها الحكم بخلاف العلة المستنبطة، وفي حديثنا هذا نقول: لو لم يكن للإنسان وارث وأوصى بما زاد على الثلث فوصيته جائزة. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان إذا خلف مالاً للورثة فهو مأجور عليه، وجهه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير ... إلخ»، فجعل بقاء المال للورثة خيرا من الصدقة به لكنه أباح الثلث توسعة للإنسان، لئلا يُحرم الإنسان من ماله عند انتقاله من الدنيا. ومن فوائد هذا الحديث: البناء على الظاهر؛ لأن الرسول قال: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء»، مع احتمال أن يموت ورثة سعد ويبقى سعد، لكن الأمور تُبنى على الظاهر، وقد مر علينا كثيراً أن الاحتمالات العقلية لا تُعارض الأحكام الشرعية، يعني: أن حكم الشرع مبني على الظاهر، ولو جعلنا للاحتمالات العقلية مدخلاً في نصوص الكتاب والسُنة ما بقي دليل واحد إلا ويحتمل عدة معان إلا أن يشاء الله. هل يصح إقرار المريض بمال لشخص أو لا يصح؟ يعني: هل نقول: إن إقراره كالصدقة إن أقر بها دون الثلث قبلناه وإلا فلا، أم ماذا؟ في هذا خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إذا أقر بما زاد على الثلث لم يقبل إلا بإجازة الورثة، ومنهم من قال: بل يُقبل مطلقا؛ لأن الإقرار إضافة استحقاق سابق بخلاف العطية المبتدأة فإنها كما عرفتم لا تصح إلا من الثلث فأقل لكن الإقرار ليس عطية، بل هو نسبة حق إلى أمر سابق، لاسيما إذا قال: إنه باقي ثمن البيت أو باقي ثمن السيارة أو قيمة كتب شرعية يعني: نسبه إلى سبب، فهذا لا شك أنه يقبل حتى لو استوعب جميع المال. إذا أقر لوارث في مرض موته فهل يقبل أو نقول إن إقراره للوارث كالوصية للوارث؟ لا تقبل أو تفصل؟ فهاهنا ثلاثة احتمالات: هل يقبل أو لا يقبل أو يفصل؟ المشهور من المذهب أنه لا يقبل إقراره بالمال للوارث؛ لأنه متهم إلا إذا عزاه إلى سبب، فإن هناك قولاً آخر بالتفصيل وهو الصحيح أنه إذا عزاه إلى سبب فإنه يقبل بأن قال: لأخي عندي عشرة آلاف ريال باقي قيمة البيت، وقد علم أن أخاه قد باع عليه البيت، فهنا يقبل لماذا؟ لأنه عزاه إلى سبب، ومن ذلك إذا قال: إن في ذمته مهر امرأته وقدره عشرة آلاف، فإن الصحيح أنه يُقبل، المذهب: لا يُقبل حتى وإن عزاه إلى سبب، ولكنه إذا أقر بمهر لامرأته فإن لها مهر المثل لا ما أقر به، وليس لها مهر

المثل أيضا بإقراره ولكن بالزوجية؛ لأن الأصل عدم تسليم المهر، يعني: رجل مريض قال في ذمتي لامرأتي عشرة آلاف مهرا مات الرجل هل تأخذ عشرة آلاف من التركة بناء على إقراره؟ نقول: على حسب ما اخترناه نعم تأخذ إلا إذا قيل إن هذا زائد زيادة فاحشة على مهر المثل؛ فإننا لا نقبل ما زاد على مهر المثل، أما إذا كان عادة فلها ذلك، لكن المذهب يقول: لها مهر المثل بكل حال بالزوجية لا بإقراره، وذلك لأن الأصل عدم قبضها المهر فيكون باقيا في ذمته. ومن فوائد الحديث: تفاضل الأعمال لقوله: «أغنياء خير من أن .... إلخ». مسألة: لو أن الورثة أجازوا ما زاد على الثلث، يعنى: أوصى الرجل بأكثر من الثلث فأجازوه فهل تنفذ الوصية أو لا؟ إذا أجازوها بعد الموت، فإنها تنفذ؛ لأن الحق لهم، وقد ثبت أن المال لهم بعد موت المورث، فإذا أجازوه فلا إشكال في الجواز، وأنه يثبت للموصي، وقالت الظاهرية: إنه لا يثبت ولو أجازه الورثة واحتجوا بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) منع من الوصية فيما زاد على الثلث، أما إذا أجازوها قبل الموت بأن أوصى رجل بأكثر من الثلث فقال: إني أوصيت بنصف مالي بعد موتي فهذا إما أن يكون مريضا مرض الموت أو صحيحًا، إن كان صحيحا فإن إجازتهم لا تؤثر ولا تنفع، ولهم أن يردوا الإجازة بعد الموت إذا كان صحيحًا لماذا؟ لأنه لم يوجد سبب الموت وهو المرض، فليس لهم في ماله أي تعلق، ولا يدري فلعلهم يموتون قبل، أما إذا كان في مرض الموت ففيه خلاف قوي، فمن العلماء من قال: إنه لا تنفع إجازتهم، ومنهم من قال: إنها تنفع، وهذا هو الصحيح إلا إذا علمتا أنهم إنما أجازوها حياء وخجلاً، فإنها لا تنفذ، ولا يجوز للمريض أصلاً أن يستأذنهم في ذلك. مثاله: رجل مريض مرض الموت، وعنده عقار بيت هو كل ماله فجمع ورثته وقال لهم: أنا مريض وأريد أن أوصي بجميع بيتي، فهنا ربما يقولون: نعم حياء وخجلاً، فهنا نقول: لا يجوز له أن يفعل؛ لماذا؟ لأنه بالضرورة رجل مريض يدعو ورثته، ويقول: أسمحوا لي أن أجعل بيتي وقفا لي، فالعادة أنهم يخجلون ويوافقون لاسيما إذا كانوا أبناءه، فالصحيح في هذه المسألة الإجازة بعد الموت صحيحة ونافذة، الإجازة في حال الصحة غير مفيدة ووجودها كالعدم، ولهم أن يرجعوا بعد الموت، الإجازة في مرض الموت على القول الراجح صحيحة ونافذة إلا إذا علمنا أنهم أجازوا خجلاً فإنها لا تنفذ.

حكم الصدقة عمن لم يوص

حكم الصدقة عمن لم يوص: 9 (20) - وَعَنْ عَائشة (رضي الله عنها): «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنَّ أُمِّي اقْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَلَمْ تُوصِ، وَأَنَا أَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ لَتَصَدَّقَتْ، أفَلَهَا لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. قالت: «أن رجلاً» يعمدُ كثير من المحدثين إلى معرفة المبهمات من هذه الأسماء، وهذا لا شك أنه علم، ولكنه ليس كبير علم إذا كان لا يتعلق بمعرفة الشخص فائدة شرعية، أو يختلف به الحكم، مثل أن يكون ابن عم في القضية أو خال فإن التعيين ليس بذات أهمية كبيرة؛ لأن المقصود معرفة الحكم من القصة يقطع النظر عن الرجل إلا إذا كان تعيينه يختلف به الحكم، فحينئذٍ لابد من البحث عنه حتى يُعرف اسمه بعينه. «فقال: يا رسول الله إن أمي افتُلتت» يعني: أُخذت فلتة، ومعنى فلتة أي: بغتة، أي أنها لم تكن مريضة ولكنها ماتت فجأة. «ولم تُوص» يعني: لم تعهد إلى أحد في التصدق بعدها، وكأن هذا معروف بينهم أن الميت يوصي؛ لأنه سبق أن الراجح من أقوال أهل العلم وجوب الوصية للأقارب. قال: «وأظنها لو تكلمت تصدقت» وذلك بناء على ما عرفه من حال أمه أنها تُحب الصدقة، وأنها لو تكلمت تصدقت لكن أخذها الموت فجأة قبل أن تتكلم وأفلها أجر إن تصدقت» قال: «نعم» هذه الصيغة يأتي مثلها كثيرًا في القرآن، وهي أن يأتي حرف الاستفهام وبعده حرف عطف الفاء أو الواو أو ثم، وقد ذكرنا أن لعلماء النحو فيها قولين: القول الأول: أن تكون الفاء مقدمة على الهمزة ولكن الهمزة قُدَّمَت لأن لها الصدارة. والثاني: أن تكون الهمزة في مكانها والفاء في مكانها والمعطوف عليه محذوف يقدر بحسب ما يقتضيه السياق، وقد ذكرنا أن الوجه الأول غالبًا أسهل؛ لأنه يجعل هذه الجملة معطوفة عليل ما قبلها. وقوله: «أفلها أجره» أي: ثواب عند الله «وإن تصدقت عنها» هذه «إن» شرطية، والشرط يحتاج إلى جواب، فأين الجواب؟ قال ابن القيم: إن مثل هذا التركيب لا يحتاج فيه الشرط إلى جواب استغناء بما سبق عنه، وقال بعضهم: إن هذا التركيب له جواب ويقدر بجنس ما قبله فمثلاً أفلها أجر إن تصدقت عنها فلها أجر ولا شك أن ما ذكره ابن القيم أقرب للصواب؛ لأن كل أحد يعرف أن مثل قول القائل: «أفلها أجر إن تصدقت عنها» لا يحتاج إلى جواب لأن الجواب

مفهوم، والشيء المفهوم المعلوم الذي يقتضيه السياق قطعًا لا حاجة إلى تقديره، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «نعم» وهي حرف جواب تفيد الإثبات أي إثبات ما سبق، أي: إثبات ما بعد الاستفهام إن كان نفيا فنفي وإن كان إثباتا فإثبات، فإذا قلت: أقام زيد؟ فقال المخاطب: نعم، فهذا إثبات القيام، وإذا قلت: ألم يقام زيد؟ فقال المخاطب: نعم، فهذا نفي القيام، يعني: أنه لم يقم والعامة يظنون أنك إذا قلت: ألم يقم زيد؟ فقال المخاطب: نعم، يعني: أنه قام وليس كذلك، بل إذا قال: نعم فهو تقرير لما بعد النفي؛ إن كان ما بعد النفي نفيًا فهذا نفي، وإن كان ما بعده إثباتًا فهذا إثبات، ويذكر عن ابن عباس (رضي الله عنهما) في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. قال: لو قالوا: «نعم» لكفروا؛ لأنهم إذا قالوا «نعم» أثبتوا النفي: أي: لست بريتا وهذا كفر فلما قالوا: بلى صار هذا نفيًا للنفي، أي: إثباتًا لا نفيًا، ولهذا لو قلنا لعامي: ألم تطلق امرأتك؟ قال: نعم، نعم ماذا يقصد؟ أنه طلقها؛ ولهذا جاء بها بغلظة وكررها مما يدل على أنه قصد الطلاق، لكن لو قالها طالب علم قيل له: ألم تطلق امرأتك؟ قال: نعم، فلا تطلق لأن طالب العلم لما قال: نعم، يعني: لم يطلق لكن العامي قال: نعم، يعني: أنه طلق. على كل حال: هذه القاعدة، لكن مع ذلك قال النحويون: إنها قد تأتي في محل بلى إذا دلت على ذلك القرينة، وأنشدوا عليه قول الشاعر: [الوافر] (أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيَّانا فذاك لنا تلداني) (نعم وترى الهلال كما نراه ... ويعلوها النهار كلما علاني ( الشاهد في قوله: «نعم في جواب أليس الليل يجمع أم عمرو إلى قوله نعم، قال «نعم» يعني: أن لها أجرًا. هذا الحديث ليس بغريب على الصحابة (رضي الله عنهم) أنهم كانوا يسألون النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أحكام الشريعة لكنهم كان من عادتهم أن يسألوه في الغالب قبل أن يقعوا في الأمر وهذا هو الأدب، وهو حقيقة الطلب أما بعد أن يفعل الإنسان الشيء ويقدم عليه يأتي فيسأل وربما لا يسأل إلا بعد سنين طويلة أحيانا يسأل الناس عن أشياء فعلوها منذ عشر سنوات أو أكثر ولكن قد يعذر الناس في الوقت الحاضر في تأخير السؤال لأن الناس من قبل ليس عندهم تفتح للعلم أما الآن -والحمد لله- فقد حصل تفتح كبير للعلم وصاروا يسمعون من هنا وهناك، وصاروا يسألون عن أشياء قديمة جدا. ?

في هذا الحديث من الفوائد: أولاً: حرص الصحابة على معرفة الأحكام الشرعية حيث يأتون يستفتون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثانيًا: أنه ينبغي للعاقل الحازم أن يبادر بالأمر الذي يُوصي به خوفًا من أن يأتيه الموت بغتة قبل أن يوصي، ويدل لهذا أيضًا ما سبق من حديث ابن عمر «وما حق أمرى مسلم ... » إلخ. ومن فوائد الحديث: أن الوصية كانت معروفة عندهم، حيث قال: «إنها افتلتت نفسها ولم توص»، فهذا يدل على أن الوصية كانت معروفة عندهم وأن من لم يوص فإن أمره يكون غريبًا. ومن فوائد الحديث: العمل بالظن ولكن لابد أن يكون هناك قرائن فإن لم يكن قرائن فإن الظن أكذب الحديث، لكن إذا وُجِدَت قرائن فلا حرج أن يعمل الإنسان بظنه، إلا أن يترتب على ذلك محظور شرعي فإنه لا يُعمل بالظن ولو قويت القرينة، فلو أن شخصا رأى امرأة تدخل بيتًا فيه غير محارم لها والبيت محل تهمة فهل يجوز أن يشهد بأن هذه المرأة زنت مع أنه كان يغلب على ظنه؟ لا يجوز أن يشهد بذلك لأنه يترتب على هذا مفسدة عظيمة. وفي القصة التي وقعت في عهد عمر (رضي الله عنه) أن أربعة شهدوا على رجل بالزنا فقال عمر: تشهدون بالزنا؟ قالوا: نعم، قال: تشهدون أن ذكره في فرجها؟ قالوا: نعم، فأمسكهم واحدًا واحدًا؛ لأنه استبعد أن يقع الزنا من المشهود عليه فأمسك بهم واحدًا واحدًا، أمسك بالأول وقال: تشهد بهذا؟ قال: «نعم» والثاني والثالث مثله وثبتوا عل شهادتهم: الرابع لما لم يبقَ إلا هو قال المشهود عليه: يا فلان! اتق الله لا تشهد بما شهد به أصحابك والله لو كنت بين أفخاذنا ما استطعت أن تشهد بما شهدوا به! فقال الرابع: مهلاً يا أمير المؤمنين! أنا رأيت استا تنبو وذكرًا ينزو، لكنني لا أشهد أن ذكره في فرجها فكبر عمر فرحًا قال: الله أكبر، وجلد الثلاثة الأول كل واحد ثمانين جلده وأبرأ الرابع لماذا؟ لأن هؤلاء الثلاثة قذفوه والرابع لم يقذف، فانظر الآن مع أن القرينة قوية لكن يترتب عليها هدم عرض المسلم وعرض المسلم ليس بهين، فبذلك رُفِعَ حدُّ القذف عن الرابع لأنه لم يصرح أما الثلاثة فإنهم صرحوا بالزنا، ولهذا قلت لكم: إن الأربعة شهدوا بالزنا، ولكن لما جاء بهم واحدًا واحدًا ثبت ثلاثة منهم على أنهم رأوا الذكر في فرجها، أما الرابع فلم يقل ذلك لكن رأى أمرًا عظيمًا، إذن العمل بالظن جائز إلا في المواضع التي يُشترط فيها اليقين، ويكون فيها ضرر؛ فإنه لا يُعمل بالظن. من فوائد الحديث: انتفاع الأم بصدقة ابنها لقوله: «وأفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم» فأثبت النبي (صلى الله عليه وسلم) الأجر لأمه إذا تصدّق عنها، وفي هذا دليل على أن الجواب يُغني عن?

إعادة السؤال؛ لقوله: «نعم»، ويتفرع على هذا مسائل كثيرة في الإقرارات والعقود، فمثلاً: لو قلت لشخص: أبعت بيتك على فلان؟ قال: نعم. فقال للثاني: أقبلت؟ قال: نعم. كل واحد لم ينطق بالبيع ولا بالشراء، فهل ينعقد البيع؟ نعم؛ لأن حرف الجواب يُغني عن إعادة السؤال. ولو سئل الرجل أطلقت امرأتك؟ قال: نعم، تُطلق. ولو قال الولي: زوجتك ابنتي. فقيل للزوج: أقبلت؟ قال: نعم، انعقد النكاح. ولو سئل شخص: أقتلت فلانًا؟ قال: نعم، ثبت الإقرار وهكذا. المهم أن هذه القاعدة مفيدة أن الجواب يُغني عن إعادة السؤال إن كان الجواب للإثبات فهو للإثبات، وإن كان للنفي فهو للنفي، ولهذا لو قال: لا، كان التقدير لم أفعل. فلو سئل شخص: أبعت بيتك على فلان؟ قال: لا، لم يثبت البيع، ولو قال: بعت بيتي على فلان، فقيل للثاني: أشتريت البيت؟ . قال: لا، لم يثبت شيء. هذا الحديث فيه إشكال مع قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. فهذا القول يدل على أن سعي غيره لا ينفعه، فليس له إلا ما سعى فقط، فما هو الجواب؟ الجواب من وجهين: الأول: أنه لا تعارض بين الكتاب والسُنة التي تصح عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)؛ لأن الكل حقٌ من عند الله فلا تعارض، وعليه فيقول: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] إن قُدر أنها معارضة للحديث، فالحديث مخصص، والتخصيص سائغ في الأدلة وكثير، وعلى هذا فتخص الآية بما إذا عمل الولد لأمه، والولد بُضعة من أبيه كما ثبت ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله: «إن فاطمة بضعة مني يريبها ما رابني»، وإذا كان بضعة منه صار عمله كأنه عمل أبيه، ولهذا جاء في الحديث: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» وعلى هذا فتخصُّ الآية في هذا الحديث بما إذا عمل الإنسان لأمه، وكذلك إذا عمل لأبيه من باب أولى، فإن جزئية الابن للأب أقوى من جزئيته لأمه، ولهذا قال الله تعالى: {خُلِقَ مِن ماء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6، 7]. ومن المعلوم أن الماء الدافق هو ماء الأب، على هذا نقول: يُستثنى من عموم الآية ما إذا عمل الولد عملاً صالحًا لأبيه أو أمه، ولكن هل نطلق ونقول: إذا عمل عملاً صالحًا، أو نقول: ما إذا عمل عملاً صالحًا هو المال فقط؟ قال بعض العلماء كذلك، ضيق الخناق وقال: لا يخصص العموم إلا بالصورة الواقعة فقط، وهي ما إذا تصدق الإنسان عن أبيه وأمه، وأما لو قرأ القرآن أو صلى ركعتين أو صام يومًا أو يومين تطوعًا، فإن

ذلك لا ينفعه؛ لأن الله قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، ولأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إنما الأعمال بالنيات» والميت لم ينو هذا العمل، فكيف يكون له بلا نية بل ربما يكون الميت يكره الأعمال التطوعية ربما يكون الميت ليس على دينه قويمًا، فكيف نلزمه بشيء يكرهه في حياته؟ على كل حال أقول: إن بعض العلماء ضيق هذا وقال: إن هذا خاص في الصدقة فقط، ولكن القول الثاني في هذه المسألة أن الأمر واسع، وأن الإنسان يجوز أن ينوي العمل الصالح لأبيه وأمه وأخيه وأخته وعمه وعمته وخاله وخالته وأي واحد من المسلمين، ويجيب عن الآية {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] أي: أنه لا يُحمل عليه سعي غيره بمعنى أنه لا يُعطى من سعي غيره، ولكن إذا أعطاه غيره من سعيه، فلا بأس لأن غيره إذا أعطاه من سعيه، فقد أعطاه باختياره، بخلاف ما إذا قلنا: أنت يا فلان ترتفع درجتك بعمل أخيك، أنت يا فلان ترتفع درجتك بعمل زوجتك، وهكذا، فإن هذا لا يمكن فالإنسان ليس له إلا سعيه، ولا يمكن أن يأخذ من سعي غيره ليوضع على سعيه، لكن إذا أراد غيره أن يعمل له فلا بأس، واستدلوا لذلك بأدلة منها هذا الحديث، قالوا: إذا جازت الصدقة عن الميت فالصدقة عمل صالح، فما الذي يجعل هذا العمل نافذًا للغير ويمنع غيره؟ لا فرق، كله قُربى، الصدقة قربى، والصلاة قربى، والقرآن قربى، فإذا صح أن القرب تجعل للأموات؛ فإنه لا فرق، فإن التعيين بالصدقة قضية عين ليست من كلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى نقول: هذا كلامه يثبت الحكم بما نصَّ عليه، وينتفي عما سواه، هذا رجل حصل له هذه القضية وجاء يسأل هل نستطيع أن نقول: إن غيرها ليس مثلها؟ لا نستطيع أن نقول هذا، لأنه لو وقع شيء آخر فإن الجواب أقل ما نقول فيه: إنه غير معلوم، ويُقاس على ما كان معلومًا، كذلك أيضا هناك أعمالٌ بدنية جاءت بها الشريعة «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»، وهذا وإن كان بعض العلماء قال: إنه في النذر خاصة فهذا التخصيص غير صحيح، ولا يمكن أن نحمل قوله: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» لا يمكن أن نحمله على النذر ونخرج صوم رمضان، لأننا لو حملناه على النذر دون صوم رمضان لكنا حملناه على المعنى الأقل، ونفينا الحكم على المعنى الأكثر، أيهما أكثر: أن يموت المسلم وعليه صيام من رمضان، أو يموت وعليه صيام نذر؟ الأول بلا شك، لأن صيام النذر ممكن أن تمضي حياته كلها لا ينذر لله (عز وجل)، ولو نذر يمكن أن ينذر غير الصيام، ينذر صدقة أو صلاة أو ما أشبه ذلك، المهم أنا نقول العبادات البدنية المحضة كالصوم جاءت الشريعة بانتفاع الغير بها «ومن مات وعليه صيام صام عنه وليه»، في الحج قالت امرأة: يا رسول الله! إن أبي أدركته فريضة

الله على عباده في الحج شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: «نعم». وهذا في حجة الوداع من آخر الأحكام الشرعية، والحج عبادة بدنية محضة في الأصل، والمال ليس شرطًا فيها ولا ركنًا فيها، قد يحج الإنسان على رجليه من الصين وأنا عهدت أناسًا يأتوننا من أفغانستان ومن غيرها، يأتون على أقدامهم إلى مكة ستة أشهر ذهابًا، وستة أشهر رجوعًا، هذا معلوم، إنها أعمال بدنية المهم أن الحج إن شئتم قولوا: مُركبةً، وإن شئتم قولوا: بدنية محضة، وأهل مكة أيضًا يحجون حجا بدنيًا محضًا يحمل متاعه على ظهره ويمشي. على كل حال: الحج عبادة بدنية، وجاءت السَّنة بالنيابة فيها وانتفاع الغير بها، فإذا قلت: هذه بنت تحج عن أبيها، وهي بضعة منه، قلنا: ماذا تقول في حديث ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سمع رجلاً يقول: «لبيك عن شُبرمَة، قال: مَنْ شُبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال: «أحججت عن نفسك؟ » قال: لا. قال: «حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة». فهنا يقول: أخ أو قريب والأخ أو القريب ليس بضعة منه فأجاز الحج عنه، وقد ذكر صاحب الفتوحات الإلهية على تفسير الجلالين - وهو ما يُعرف بحاشية الجمل- ذكر على الآية التي أشرت إليها أولاً: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، ذُكِرَ عن شيخ الإسلام ابن تيمية أكثر من عشرين وجها كلها تدل على أن الإنسان ينتفع بعمل غيره وهذا من الغرائب؛ لأني طلبت هذا الكلام الذي نسبه لشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى وغيره مما يُنسب للشيخ ما وجدته، لكن لعل هذه فتوى وقعت عند الجمل فكتبها على هذه الآية؛ لذلك نقول: إن القول الراجح عندنا هو أن الإنسان إذا عمل عملاً صالحا بنية أنه لفلان فإنه يقع لفلان سواء كان ماليا أو بدنيًا أو مركبًا منهما، ولكن إذا كان قد عمل العمل أولاً ثم قال: اللهُمَّ ما كتبت من ثواب لي على هذا العمل فاجعله لفلان، فهل ينفع؟ هو بالنية الأولى ناويه لنفسه، ثم بعد ذلك قال: اجعله لفلان، فالظاهر أنه لا ينفع، لأنه بعد أن كتب لك لا تملك هبته الذي كتب لك الآن هو الثواب فلا تملك هبته، وقال بعض الفقهاء: إنه يملك أن يهبه، وأنه لو قال بعد فراغه من العمل: اللهُمْ ما كتبت من ثواب فاجعله لفلان فإن ذلك جائز، ولكن الذي يترجح عندي الأول، أنه لابد أن ينوي من الأصل أنه لفلان، فإذا نوى أنه لفلان نفع، ولهذا ذكر الفقهاء عن الإمام أحمد (رحمه الله)

أنه قال: أي قرَّبة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك، لكن مسألة الحي في النفس منها شيء لأننا لو أجزنا ذلك بالنسبة للأحياء لاتكل الأحياء بعضهم على بعض، فالذي يظهر أن الأحياء يُقال اعملوا أنتم. مسألة مهمة: هل في هذا الحديث دليل على مشروعية عمل الإنسان عملاً يجعله لغيره أو على جواز أن يعمل الإنسان عملاً يجعله لغيره؟ الثاني، يعنى: أننا لا تندب الإنسان إلى أن يعمل عملاً يجعله لغير، لكن لو فعل فإننا لا نُنكر عليه، ولا نقول هذا بدعة؛ لأنه لولا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أجاز ذلك لكان العمل بدعة؛ فلما أجازه عُلِمَ أنه جائز وأنه لا ينكر على مَنْ فعله، ولكن هل يندب لكل إنسان أن يفعله؟ بمعنى هل نقول للناس: يُسنّ لكم أن تعملوا أعمالاً من الصدقات أو الحج أو غيرها للأموات؟ الجواب: السُّنة لا تدل على هذا، ولم يأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أمته أن يفعلوا ذلك، لكن أجاز لأمته أن يفعلوا هذا وفرق بين الإقرار على الجواز وبين الإقرار على الندب والطلب من الناس أن يفعلوا ذلك. فإذا قال قائل: هذا شيء غريب أن تجعلوا عبادة أقرَّها الشارع أمرًا مباحًا؟ فالجواب: أنه لا غرابة لأننا لم نجعل العبادة أمرًا مباحًا لكننا جعلنا إهداء العبادة أمرًا مباحًا، وفرق بين هذا وهذا، ويدل لذلك أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أقر عائشة (رضي الله عنها) حين أُحرمت بالعمرة ثم أتاها الحيض ولم تتمكن من إتمامها وأمرها أن تُدخل الحج على العمرة وتكون قارنه، وقال لها: «طوافك بالبيت والصفا وبالمروة يسعك لحجك وعُمرتك» أقرها على أي شيء؟ على أن تأتي بعمرة بعد انتهاء الحج؛ لأنها طلبت منه أن تأتي بعُمرة وألحت عليه، وقالت: يا رسول الله! يذهب الناس بعمرة وحج وأذهب بحجِّ؟ فأمر أخاها أن يخرج بها إلى التنعيم وتُحرم، ولكن هل أرشد أخاها وقد ذهب معها إلى أن يحرم؟ أبدًا، ولو كان هذا مشروعا ما فوَّت النبي (صلى الله عليه وسلم) أخاها أن يفعله، ثم نقول: هل هو مشروع لمن حصل له مثل حال عائشة؛ لأن من لم يحصل له مثل حال عائشة لا شك أنه ليس بمشروع في حقه أن يأتي بعمرة بعد الحج، ولكن هل هو مشروع لامرأة حصل لها مثل ما يحصل لعائشة أو لرجل أحرم بعمرة بناء على سعة الوقت ثم ضاق الوقت ولم يتمكن من أداء العمرة فأدخل الحج عليها وذهب إلى مشاعر الحج، هل نندب له إذا انتهى من الحج أن يأتي بعمرة لكن من لم تطب نفسه إلا أن يأتي بعمرة؟ نقول له: لا بأس أن تأتي بعمرة، لا نبدِّعك ولا نمنعك. ثانيًا: خرج رجل في سرية وكان إمامًا لأصحابه فجعل يُصلي بهم ويقرأ ويختم بقل هو الله أحد، فلما قدموا على النبي (صلى الله عليه وسلم) أخبروه فقال: «سلوه لأي شيء كان يفعل ذلك؟ » فسألوه

فقال: لأنها صفة الرحمن فأحبُّ أن أقرأها. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «أخبروه أن الله يحبه»، ولم يُنكر عليه بل أقره فهل نقول: يُشرع لكل مصلِّ أن يختم صلاته بقل هو الله أحد؟ لا، لأن ذلك ليس من هدي الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولا أمر به، لكن لو فعله فاعل لم ننكر عليه، فهذه ثلاثة أمثلة. هذا الحديث الذي فيه أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أقرَّ الرجل أن يتصدق عن أمه، ولكن لم يأمر أمته بذلك، وحديث عائشة، وحديث صاحب السرية، حديث سعد بن عُبادة أيضًا كان له نخل بستان فسأل النبي (صلى الله عليه وسلم) أيتصدق به عن أمه، وكانت قد ماتت، فأذن له، وبهذا نعرف أنه لا يُشرع لإنسان أن يتصدق بالصدقة عن الميت أو يوقف له وقفًا، لكن لو فعل فإن ذلك ليس بممنوع، فالمراتب ثلاث: مشروع، وجائز، وممنوع، لو لم ترد السُنة بإقراره لكان ممنوعًا وبدعة، ولو وردت السُّنة بالأمر به ونُدب الناس إليه، لكان مشروعًا وسُنة، ولما أقرت السُّنة فعل من فعله، ولكن لم تأمر الناس به كان جائزاً هو قربة لمن فعله. في هذا الحديث إشكال من الناحية الإعرابية وذلك في قوله: «أظنها لو تكلمت تصدقت»؛ لأن من المعروف أن «أظن» تنصب مفعولين فأين مفعولاها الآن؟ ويوجد إشكال آخر «لو تكلمت تصدقت»، فمعروف أن جواب «لو» إذا كان مثبتا يقرن باللام، لو تكلمت لتصدقت، فماذا نقول؟ هو ليس بواجب، والدليل من القرآن {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70]. هل الدعاء للميت أفضل أم إهداء العبادة له أفضل؟ الدعاء أفضل، ودليله أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما سأله رجل عن بر والديه بعد موتهما لم يذكر الصدقة عنه، وإنما ذكر الدعاء. دليل آخر: قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، فهنا قال: «أو ولد صالح يدعو له» مع أن السياق في باب العمل «انقطع عمله»، فلو كانت أعمال الشخص عن غيره أفضل من الدعاء له لذكرها النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث. فإذا سألنا سائل: أيهما أفضل أن أتصدق لأبي أو أدعو الله أن يغفر له؟ قلنا: الثاني أفضل، والأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) دعوا لآبائهم، قال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} [نوح: 28]. لكن إبراهيم بعد ذلك تبرأ من أبيه لما تبين له أنه عدو لله، وبهذا نعرف أن أبوي نوح كانا مؤمنين، وأن أبا إبراهيم لم يكن مؤمنًا، وأم إبراهيم مؤمنة؛ لأنه دعا بالمغفرة ولم يُنكر عليه ولم يتبرأ منها.

حكم الوصية للوارث

حكم الوصية للوارث: 921 - عن أبي أُمَامَة الباهلي (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حقًّ حقَّه، فلا وصية لوارث» رواه أحمد، والأربعة إلا النسائي، وحَسَّنَهُ أحمد والترمذي، وقواه ابن خزيمة، وابن الجارود، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما)، وزاد في آخره: «إلا أن يشاء الورثة». وإسناده حسنٌ. قال: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه» يعني: بعد الموت، «كل ذي حق حقه» أي: كل صاحب حق حقه الذي اقتضته حكمته؛ لقوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11]. فأعطى الأب نصيبه مع الفرع الوارث وعدمه، وأعطى الأم نصيبها مع الفرع الوارث وعدمه، مع الإخوة وعدمهم، أعطى الأزواج نصيبهم مع الفرع الوارث وعدمهم، أعطى الإخوة لأم نصيبهم مع الانفراد والتعدد، أعطى الإخوة الأشقاء نصيبهم ذكورًا وإناثًا، كل أحد أعطاه الله حقه. «فلا وصية لوارث» لا نافية للجنس، ولهذا بُني ما بعدها على الفتح «ولا وصية» لا قليلة ولا كثيرة «لوارث» أي: لمن يرث بالفعل أو بالتقدير، بالفعل يعني: لا لمن يصلح أن يكون وارثًا، ولكن لمن هو وارث بالفعل فإنه لا وصية له، يقول في اللفظة الثانية: «إلا أن يشاء الورثة» فلا بأس، «لا وصية لوارث» لا بقليل ولا بكثير، أخذنا ذلك من أن «الوصية» نكرة في سياق النفي فتعمُ، بل إن هذا النفي أعني نفي «لا» النافية للجنس من أقوى دلالات النفي على الانتفاء، ولهذا يقولون: إن نفيها نصٌّ في العموم أي: لا وصية لوارث لا قليلة ولا كثيرة، لوارث بالفرض أو بالتعصيب أو بهما، بهما، يعني: سواء كان الوارث وارثًا بالفرض كالزوج أو بالتعصيب كالعم أو بهما كالأب مع الإناث من الفروع فإنه لا وصية لوارث أبدًا، قال في اللفظ الثاني: «إلا أن يشاء الورثة»، هذا مستثنى من قوله: «لا وصية لوارث» وقوله: «إلا أن يشاء الورثة» المراد بالورثة من تعتبر مشيئتهم وهم الذين يصح تبرعهم، فأما السفيه والصغير والمجنون فلا عبرة بمشيئتهم، فلو أن رجلاً له ثلاثة أولاد أوصى لأحدهم بمائة درهم وكان الولدان الآخران

أحدهما بالغ عاقل رشيد، والثاني صغير فأجاز الكبير والصغير فهل الإجازة نافذة؟ نافذة في حق الكبير دون الصغير؛ لأن الصغير لا يصح تبرعه ومشيئته وجودها كعدمها بخلاف الكبير. يُستفاد من هذا الحديث فوائد منها: أن المعطي هو الله (عز وجل) فهو الذي يُعطي من شاء ويمنع من شاء، ولهذا جاء في الحديث: «ولا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت» وليعلم أن إعطاء الله تعالى نوعان: إعطاء شرعي، وإعطاء كوني، فالمواريث من إعطائه الشرعي والاستحقاق من الزكاة وقسم الزكاة بين أهلها من إعطائه الشرعي، قسم الغنائم من إعطائه الشرعي، كون الله (عز وجل) يرزق هذا الإنسان مالاً كثيرًا دون أخيه هذا إعطاء كوني، الإعطاء الكوني لا يمكن لأحد أن يتدخل فيه؛ لأن الإنسان لا يملك أن يرزق الناس أو أن يمنعهم رزق الله، الإعطاء الشرعي يمكن لأحد أن يتدخل فيه، ولكنه ممنوع من تعدي الحدود الشرعية، ولهذا لما قسّم الله المواريث قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 13، 14]. فالإعطاء الشرعي لا يمكن لأحد مجاوزته بل يجب أن ينفذ على ما أمر الله ورسوله، الإعطاء الكوني قلنا: لا أحد يستطيع أن يمنع رزق الله عن أحد أو يرزق أحدا منعه الله لكن ربما بالعدوان يعتدي أحد على أحد فيسلبه ماله فهنا حصل اعتداء، ولكنه في الأصل لا يمكن أن يملك منع هذا الرزق عن هذا الرجل، إنما يملك التسلط عليه بعد وجوده هذا ممكن، ولهذا نقول: إن الإنسان إذا اعتدى على شخص بغير سبب شرعي فأخذ ماله فإنما أخذه بعد أن منحه الله. من فوائد الحديث: أنه لا تحل الوصية للوارث. ما الفائدة في أن النفي يأتي في موضع النهي؟ يكون أقوى من النهي. ومن فوائد الحديث: جواز الوصية لغير الوارث ولو كان قريبًا، لقوله: «لا وصية لوارث»، والحكم المعلق بوصف يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه ويقوى بقوته ويضعف بضعفه، ولهذا لو قلت لك: أكرم المجتهد من الطلبة فغير المجتهد لا يستحق الإكرام، المجتهد بقوة يستحق من الإكرام أكثر والمجتهد اجتهادًا يسيرًا أو متوسطًا يستحق إكرامًا يسيرًا أو متوسطًا، ولو قلت: أكرم النائم من الطلبة هذا لا يستقيم. على كل حال: القاعدة عندنا أن الحكم المعلق بوصف يوجد بوجوده وينتقي بانتفائه، ويقوى بقوته ويضعف بضعفه. «لوارث» انتفاء الوصية معلَّق بالإرث، فلو انتفى الإرث ولو كان من أقرب الناس صحت الوصية، ولنضر ب لهذا مثالاً: رجل له ثلاثة أبناء أوصى لواحد منهم ما حكمه؟ لا تصح الوصية

له ابنان وابنه الثالث قد مات وله أبناء فأوصى لأبناء ابنه هل يصح؟ نعم، لماذا؟ لأنهم غير وارثين فهنا نجد أن الوصية لأبيهم غير صحيحة، والوصية لهم صحيحة، والعلة أن أباهم وارث وهم غير وارثين، وانتفاء الوصية معلق بالإرث «لا وصية لوارث». ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز تقديم الأحكام على حكم الله أي حكم، وجهه قوله: «لا وصية لوارثة، فإذا كان لا يجوز أن يتقدم على حكم الله في نصيب الورثة فما بالك في الحكم العام؟ وعليه فالحكم بالقوانين يُعتبر تعديًا على حدود الله؛ لأنه إذا كان الإنسان لا يزيد وارثًا على ميراثه الذي قدم له؛ لأن ذلك تعد على حدود الله، فكذلك من غير الحكم رأسًا؛ لأن الذين يحكمون بالقانون -نسأل الله لنا ولهم الهداية-، غيروا الحكم رأسًا، يعني: نزعوا حكم الله ووضعوا بذله حكم القانون، ولهذا كانت هذه المسألة كبيرة جداً ليست مثل شخص حكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله؛ لأن واضع القانون واضح أنه استبدل شرع الله بغيره، لكن الذي حكم بغير ما أنزل الله في قضية معينة قد يكون الحامل له على الحكم هوى النفس مع اقتناعه بحكم الله، قد يكون الحامل له على الحكم العدوان على المحكوم عليه؛ لأنه يبغضه بغير دافع الشرع وواضع القانون محله؛ لأن هذا كفر؛ لأن الذي يرفع الشرع ويضع القانون محله، لا شك أنه يعتقد بأن القانون خير للناس من شرع الله، والله يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ومن فوائد الحديث: أن تحريم الوصية للوارث إنما هو لحفظ حقوق الورثة وجه الدلالة حديث ابن عباس «إلا أن يشاء الورثة». ومن فوائده: لو أجاز الورثة الوصية لأحد منهم فالوصية نافذة؛ لقوله: «إلا أن يشاء الورثة»، ولكن هل تعتبر مشيئة الورثة بعد الموت فقط، ولا تعتبر قبله أو لا؟ في هذا للعلماء أقوال ثلاثة: الأول: أنهم إذا أجازوا ولو قبل الموت ولو في الصحة فالوصية نافذة، مثاله: رجل صحيح شحيح جمع أولاده الثلاثة اثنان منهم بالغان والثالث صغير، وقال لهم: يا أبنائي! أخوكم الصغير صغير وأنتم عندكم والحمد لله أموال كثيرة اسمحوا لي أن أوصي له بربع مالي، فقالوا: نسمح لك، أنت مسامح، أنت في حل، وإن لم تُوص له لأعطيناه، فأوصى له ثم مرض ومات فهل تصح الإجازة؟ على قول من يرى أن الإجازة صحيحة مطلقًا تصح، ولكن الصحيح أنها لا تصح في هذه الحال، وذلك لأن الرجل صحيح شحيح، ولا ندري أيرث أبناءه أم يرثه أبناؤه، فسبب الموت غير موجود، فلا تصح الإجازة، لكن لو أجازوا بعد موته صار ذلك ابتداء عطية، أو تنفيذًا على خلاف بين العلماء.

الثاني: رجل مريض مرض الموت المخوف جمع أولاده الثلاثة وقال: اسمحوا لي أن أوصي لأخيكم الصغير أنتم قد أغناكم الله وهو محتاج، فقالوا: قد سمحنا لك، فأوصى له فهل تنفذ الإجازة؟ فيه خلاف، أما من قال بأن الأولى تنفذ فهذه من باب أولى، لكن من قال لا تنفذ ففيه قولان منهم من قال: تنفذ. ومنهم من قال: لا تنفذ، وحجة المانعين قالوا: لأن الورثة لا حق لهم في المال قبل موت المورث ولا ينتقل ملك المورث إلى ملكهم إلا بعد موته، ومن المعلوم أن الإنسان قد يُصاب بمرض الموت الشديد ويموت الصحيح قبله، كم من إنسان في النزاع خرج وارثه إلى السوق فدُهس فمات قبله، فإذن يقول: لا عبرة بالإجازة، ولو كان الموروث في مرض موته. المثال ثالث: بعد أن مات وقد أوصى لابنه الصغير وله أبناء ثلاثة وبعد أن مات اجتمع الأبناء وأجازوا الوصية لأخيهم ما حكمه؟ هذا جائز لأنهم أجازوا بعد أن انتقل المال إليهم فإجازتهم نافذة كما لو أعطوه ابتداءً وهذا لا شك فيه، والقول الراجح من هذه الأقوال الثلاثة أن الإجازة جائزة نافذة فيما إذا كانت بعد الموت أو في مرض الموت المخوف هذا هو الصحيح؛ لأنه إذا كان في مرض الموت المخوف فقد وجد سبب تعلق حق الوارث بمال الميت وقوله: «إلا أن يشاء الورثة» يستفاد منه أنه لابد من إجازة جميع الورثة حتى تنفذ الوصية، فإن أجاز بعضهم دون بعض نفذت الإجازة في نصيبه فقط دون نصيب الثاني. مثال هذا: رجل له ثلاثة أبناء أوصى لأحدهم بالثلث فلما مات أجاز أحد الأبناء الوصية وامتنع الثاني ماذا يستحق من المال؟ تنفذ الإجازة في حق من أجاز دون مَنْ لم يجز، والمال بينهم أثلاث، والثلث الموصى به أجاز واحدا ومنع الثاني والثالث الموصى به لم يوص له ثلثه من أصله ولأخيه الذي أجاز ثلثه وللثالث الذي منع ثلثه، وعلى هذا فنقول: الثالث الذي منع يُؤخذ حقه من الثلث وهو التسع واحد من تسعة فيضاف إلى نصيبه ثلاثة يكون له أربعة ويكون لمن أجاز اثنان، ويكون للثاني ثلاثة. ?

الوصية بثلث المال

الوصية بثلث المال: (922) - وَعَنْ مُعَاذُ بن جَبَلٍ (رضي الله عنه) قال: قال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم): «إنّ الله تَصَدّق عَلَيْكُمْ بثلث أمُوَالِكُمْ عِندَ وَفَاتِكُمْ؛ زِيَادَةً في حسناتكم». رَوَاهُ الدَّارَ قُطني وأخرجه أحمد والبزار من حَديث أبي الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ مَاجَة: مِنْ حَدِيث أبي هُرَيْرَةً (رضي الله عنه) وَكُلَهَا ضعيفة، لكنْ قَدْ يُقوّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالله أَعْلَمُ. المراد: رخص لكم أن تُوصوا بثلث أموالكم، وليس المراد مطلق الصدقة؛ لأن كل أموالنا صدقة وتفضل من الله (عز وجل) علينا، القليل منها والكثير، الذي عند الموت، والذي في الحياة، لكن المراد بقوله: «تصدّق» أذن لكم تفضلاً منه بثلث أموالكم عند وفاتكم. وقوله: «زيادة» يحتمل أن تكون حالاً من ثلث، ويُحتمل أن تكون مفعولاً من أجله أي: من اجل الزيادة في حسناتكم. ففي هذا الحديث: دليل على أنه يجوز للإنسان أن يُوصي بالثلث ولو عند الموت لقوله: «عند وفاتكم» حتى في مرض الموت يجوز أن يُوصي بالثلث، ويجوز أيضًا أن يوصي بالثلث منقلاً بعد موته لحديث سعد بن أبي وقاص وقد سبق، فالوصية تكون بعد الموت والعطية تكون في مرض الموت، والحديث يقول: «عند وفاتكم» يحتمل أن المراد بالعندية: العندية السابقة أو العندية اللاحقة، فإن كان المراد العندية اللاحقة فهي وصية، وإن كان المراد بالعندية العندية السابقة فهي العطية؛ لأن العلماء يقولون: إن التبرع بالمال في مرض الموت المخوف يُسمّى عطية، ولا ينفذ منه إلا الثلث فقط، ولغير وارث. في هذا الحديث فوائد: منها: إثبات الصدقة من اللهم لقوله: «إن الله تصدّق»، وقد جاء مثلها في حديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن قوله تعالي: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتتنكم الذين كفروا} [النساء: 101]. فقال: يا رسول الله كيف نقصر وقد أُمنا؟ فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»، ففيه إذن إثبات التصدق من الله، وهل تأخذ من إثبات التصدق أن نسميه بالمتصدق؟ لا، بناء على القاعدة العامة من أنه لا يُؤخذ من الصفة اسم، ويُؤخذ من الاسم صفة، يعني: كل اسم فهو متضمن لصفة، وليس كل صفة تتضمن اسمًا، وذلك لأن الصفات أعم من الأسماء وأشمل، ولهذا تكون صفات الله تعالى حتى فيما يقع منه الشر فالله تعالى خلق كل شيء الخير والشر، فالصفة إذن أعم وأوسع.

22 - باب الوديعة

من فوائد الحديث: أنه لا يجوز للمريض مرض الموت أن يتطوع بأكثر من الثلث، لقوله: وبثلث أموالكم». فإن قال قائل: ما وجه هذا؟ قلنا: لأن المقام مقام الامتنان ومقام الامتنان يذكر فيه أعلى ما يكون منة ولو كان هناك منة أكثر من الثلث لكان مقتضى الحال أن تُذكر. وإلا لو قال قائل: الحديث ليس فيه النهي عن أكثر من الثلث، قلنا: نعم لكن لما كان في مقام الامتنان كان المذكور فيه على وجوه الامتنان ولو كان هناك وجه أعلى لبيّنه. ومن فوائد الحديث: جواز تبرع الإنسان عند الموت لقوله: «عند وفاتكم» بالثلث فأقل، ولكن يشترط في هذا شرط وهو أن يكون يعي ما يقول، فإن كان لا يعي ما يقول، مثل أن وصل به المرض إلى حل صار يهدي لا يحسن ما يقول ولا يدري ما يقول، فهنا لا يصح تصرفه ولا تبرعه؛ لأنه ليس له عقل. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان يؤجر على ما قدّمه من العمل بعد الوفاة لقوله: «زيادة في حسناتكم» خصوصًا إذا فسرنا العندية بأنها العندية اللاحقة ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». ومن فوائد الحديث: بيان منَّة الله وفضله على عباده وذلك بالصدقة حيث أذن لهم أن يتصدقوا بالثلث، يعني: فأقل من أجل زيادة الحسنات. وقوله: «وأخرجه أحمد والبزار ... إلخ»، فقال: وهي ضعيفة قد يقوي بعضها بعضًا، والأحاديث إذا وردت من وجوه ضعيفة ولكن تعددت طرقها فإنها ترتقي إلى درجة الحسن، لكنه حسن لغيره لا حُسن لذاته، والفرق أن الحسن لغيره هو الذي تجبر بغيره، والحسن لذاته هو الذي انجبر بنفسه. 22 - باب الوديعة «الوديعة»: فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأن كلمة فعيل تُطلق على اسم الفاعل وعلى اسم المفعول، فيُقال: «فلان سليم» بمعنى سالم، «فلان جريح» بمعنى: مجروح، الوديعة هنا فعيلة بمعنى مفعولة، وسمّيت بذلك لأن صاحبها يودعها عند المتبرع لحفظها. وتعريفها شرعًا: دفع مال لمن يحفظه ويشمل أي مال كان دراهم أو متاعًا أو منقولاً أو غير ذلك، إن كان بأجرة فالمودع أجير، وإن كان تبرعًا فالمودع محسن، وهنا نسأل هل يجوز الإيداع وهل يجوز الاستيداع؟ نقول: نعم يجوز الإيداع أن يجوز للإنسان أن يُودع ماله عند أحد؛

? لأن الحاجة قد تدعو إليه، وهذا ليس فيه شيء من الذل، حتى نقول: إنه يكره كما يُكره السؤال؛ لأن ذلك مما جرت به العادة، ولا يعد الناس في هذا ذلاً. بالنسبة للاستيداع يعني: أخذ الوديعة ليحفظها لغيره هل هو مباح أو لا؟ . الجواب: أنه مستحب لأنه إحسان، فكم من إنسان تضيق به الأرض وهو يحب أن يجد من يقبل ماله ليكون وديعة عنده فيكون ذلك من الإحسان والإحسان مطلوب؛ لأن الله قال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. فصار التوديع مباحًا والاستيداع بمعنى: أخذ الوديعة مستحبة. يد الوديع، يعني: المودع يد أمانة أو يد ضمان؟ يد أمانة، ولهذا تُسمَّى الوديعة عند العامة عُرفا تُسمّى أمانة، إذن يده يد أمانة وإذا كانت يده يد أمانة فلا ضمان عليه فيما لو تلفت الوديعة، إلا أن يتعدى أو يفرط فما هو التعدي؟ التعدي: فعلُ ما لا يجوز، والتفريط: ترك ما يجب، ويظهر هذا بالمثال لو أن شخصًا أودعك شيئًا تتلفه الشمس فوضعته في مكان تأتيه الشمس، هذا تفريط لأنك لم تفعل ما يجب من تظليله عن الشمس، ولو أنه أودعك شيئا ثم استعملته لنفسك، فهذا تعد لأنه فعل ما لا يجوز، ومن ذلك لو أودعك دراهم ثم استعملتها واشتريت بها حاجة لك أو أقرضتها أحدًا فإنك تعتبر متعديًا لأن الوديع لا يحل له أن يتصرف في الوديعة أي تصرف كان. (923) - عَنْ عَمرو بن شعيب، عَنْ أبيه، عَنْ جَده (رضي الله عنه) عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «مَنْ أودع وَدِيعَةً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضمان». أخرَجَهُ ابْنُ مَاجَهُ، وَإسْنَادُهُ ضعيف. من أودع يعني: أعطي وديعة أي: مودوعة أي: مجعولة عنده على سبيل الحفظ فليس عليه ضمان وذلك لأن يده يد أمانة وليست يد ضمان فليس عليه ضمان، لكن إن تعدى وفرط فهو ضامن، لأن التعدي أو التفريط خلاف الأمانة، إذا كان المودع يده يد أمانة فهل يقبل قوله في ردها إلى صاحبها، يعني: لو أن صاحبها أتى إليه يومًا من الدهر وقال: إني قد أودعتك كذا وكذا، فقال: نعم ولكن رددتها إليك فهل يُقبل؟ نعم، يقبل لأن يده يد أمانة، والذي أودعه هذا الشيء ائتمنه بلا شك وهو محسن، وما على المحسنين من سبيل، لو أودعه بأجرة كما يُصنع في بعض البنوك الآن يجعلون صناديق خاصة للودائع فأودعها إياه بأجرة هل يقبل قوله في الرد؟ عند الفقهاء لا يُقبل قوله في الرد؛ لأنه قبضها لمصلحة نفسه لا لمصلحة مالكها بخلاف المودع مجانًا، فإنه قبضها لمصلحة مالكها فيكون محسنا، وقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91]. أما أخذها بأجرة فقد قبضها لحظ نفسه فلا يكون محسنا،

وإذا لم يكن محسنا فهل الأصل الرد أو الرد دعوة؟ الرد دعوة والدعوة تحتاج إلى بينة؛ لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»، ما يفعله الناس الآن في إعطاء الدراهم البنوك وتسميتها وديعة هل هذا صحيح؟ لا، لأن هذه الدراهم التي يعطونها البنوك يعطونها إياهم على أنهم يدخلونها في صندوق البنك يتصرف فيها، والعبرة في الأمور بحقائقها لا بألفاظها، وحقيقة هذا الأمر أنه إذا أعطاك الشخص دراهم وأدخلتها في جملة مالك وانتفعت - حقيقة هذا الأمر- أنها قرض، ولهذا لا يصح أن تُسمى هذا وديعة، الناس يقولون إيداع إيداع، وهو ليس إيداعًا إنما هو إقراض، ولذلك لو أن البنك احترق وتلف ما فيه حتى مالك الذي أعطيته إياه كما إذا أعطيته إياه بعد العصر واحترق بعد المغرب يعني: أنتا تيقنًا أن المال الذي أعطيته إياه دخل في الحريق، فهل يضمنه؟ يضمنه، ولو كان وديعة لم يضمنه، لهذا لا يصح أن نسمى هذا وديعة، تُسميه قرضا، وقد نصر على هذا أهل العلم، وقالوا: لو أن صاحب الوديعة أذن للمودع في التصرف فيها انقلبت إلى قرض بعد أن كانت وديعة، والقرض يختلف عن الوديعة كثيرًا. قال المؤلف: وباب قسم الصدقات تقدم في آخر الزكاة، وباب قسم الفيء والغنيمة يأتي عقب الجهاد - إن شاء الله تعالى -. كأنه (رحمه الله) نبَّه على هذا؛ لأن الشافعية يذكرون في كتبهم قسم الصدقات وقسم الفيء والغنيمة كليهما في هذا الموضع، فكأن المؤلف اعتذر عن ذلك بأن قسم الصدقات سبق، وأن قسم الفيء والغنيمة يأتي في باب الجهاد. مِن فوائد هذا الحديث: جواز الإيداع، لقوله: «من أودع وديعة». ومنها: جواز الاستيداع، يعني: قبول الوديعة؛ لقوله: «من أودع»، وجه الدلالة من ذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) رتب علي هذا الفعل حكمًا شرعيًا فقال: «فليس عليه ضمان»، وما ترتب عليه حكم شرعي فهو صحيح، فيكون هذا الحديث دالّاً على جواز الإيداع والاستيداع. ومن فوائد الحديث: أنه ليس على المودع ضمان؛ لقوله: «ليس عليه ضمان» والتعليل لأنه محسن، وقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، ولهذا لو خرجت يده عن الإحسان وتعدَّى أو فرَّط صار عليه ضمان.

كتاب النكاح

كتاب النكاح

[*]

قَالَ: «كتاب»؛ وذلك لأنه يتضمن أبوابًا كثيرة، وقد ذكرنا فيما سبق أن العلماء يصنفون التأليف إلى كتاب وباب وفصل، والفرق بينها: أن الكتاب جنس يشمل أنواعا كثيرة، مثلا: كتاب الطهارة يشمل المياه، الأواني، الاستنجاء، الوضوء، الغُسل، التيمم، إزالة النجاسة، الحيض، فالباب يتضمن نوعًا من جنس مثل كتاب المياه هو نوع بالنسبة للطهارة، الوضوء هو نوع بالنسبة للطهارة وهكذا، أما الفصل فهو جملة مسائل من نوع واحد يعمد المؤلفون إليه إما لطول الباب، وإما لأهمية المسائل؛ لأن التفصيل في التأليف بقولك: فصل كذا، فصل كذا، فصل كذا، هذا يؤدي إلى عدم الملل والسآمة. وقد ذكر المؤلف هنا كتاب النكاح لأنه جنس يتضمن أشياء كثيرة كما سيأتي. أولاً: نتكلم عن حكم النكاح وسيأتي في حديث ابن مسعود، لكن ما هو تعريف النكاح؟ أصله من الاجتماع، يقال: تناكح القوم، يعني: اجتمعوا فيما بينهم، وأما في الشرع فهو اجتماع بين رجل وأنثى على صفة مخصوصة، هذه الصفة: هي ما دل عليه الشرع من عقد النكاح بشروطه المعروفة. حكم النكاح: 924 - عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، من اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنه أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فإنه له وِجَاءٌ». متفق عليه. قوله: «لنا» يعني: لنا نحن معشر الشباب الصغار من الصحابة، قَالَ: «يا معشر» «معشر» بمعني: طائفة، وقوله: «الشباب» هنا جمع شاب، ويُحتمل أن يكون مصدرا، فيكون معشر بمعنى: يا أصحاب الشباب، والشاب يُطلق على مَن تجاوز البلوغ إلى ثلاثين سنة، وبعضهم قال: إلى أربعين سنة ثم يكون كهلاً ثمّ شيخا. «من استطاع منكم الباءة فليتزوج» وخصّ الشباب بالخطاب؛ لأنهم هم الذين يحتاجون إلى ما وجههم إليه، فالشهوة فيهم أكثر من الشهوة في الشيوخ، «الباءة» أي: قدر على الباءة،

والمراد بالباءة هنا: النكاح، ويشمل الاستطاعة البدنية والاستطاعة المالية، لأن الشاب إذا لم يكن عنده استطاعة بدنية فلا حاجة به إلى النكاح، وإذا كان عنده استطاعة بدنية لكن ليس عنده مال فليس عنده قدرة على النكاح، ولكن قد يقول قائل: إن المراد بالاستطاعة هنا: الاستطاعة المالية، لقوله: «ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإن هذا يدل على أن المخاطب لديه قدرة بدنية لكن ليس عنده قدرة مالية، وقوله: «فليتزوج» هذه جواب «مَن»، وقُرنت بالفاء؛ لأن الجملة الواقعة جوابًا طلبية، وهي فعل مضارع؛ لأنها مقرونة بلام الأمر، «فليتزوج». «فإنه» أي: الزواج، «أغض للبصر وأحصن للفرج»، ولم يقال: وأكثر للولد، مع أنه أكثر للولد، لأن غالب الشباب أكبر همهم ما يكون به غض البصر وتحصين الفرج، ولهذا تجد اللذينَ يهنئونه بالزواج لا يتبادر إلى أذهانهم أنهم يهنئونه بأنه وجد حرثا يبذر فيه ويكون له أولاد، بل ربما يقولون: له تريث في الإنجاب لمدة سنتين أو ثلاث أو أربع، إنما يُهنئونه لأجل ما يكون به غض البصر وتحصين الفرج، ولهذا لم يذكر النيي (صلى الله عليه وسلم) الفائدة العظيمة وهي كثرة الولد؛ لأنه يُخاطب الشباب، وأهم شيء لديهم هذان الأمران. «فإنه أغض للبصر» «أغض» يعني: أشد غضًّا للبصر، والغض هو النقص، يعنى: أنه يحجز البصر عن النظر إلى النساء، وهذا شيء مُجرب مشاهد، فالإنسان إذا تزوج غض بصره عن النظر إلى النساء، أما قبل ذلك فإنه يخشى أن يديم النظر إلى النساء بناء على ما جبله الله عليه من هذه الغريزة، وإن كان الإنسان قد يكون عنده من الإيمان ما يمنعه: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]. لكن الكثير هو هذا. وقوله: «أحصن للفرج» أي: أمنع، ومنه سمي الحصن، لأنه يمنع من فيه، «أحصن للفرج» يعني: أمنع عن المحرم -عن الفاحشة- فإنه يمنع الإنسان من الفاحشة، ولذلك أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) الرجل إذا رأى من امرأة ما يعجبه أن يأتي أهله وقال: «إن ما معها مثل الذي معها»، يعني: مع أهلك مثل الذي كان مع التي أعجبتك. «ومن لم يستطع»، أين المفعول به؟ محذوف، تقديره: الباءة، «فعليه بالصوم»، «عليه» هنا جار ومجرور يُراد به: الإغراء؛ أي: فليلزم الصوم، والمراد بالصوم هنا: الإمساك عن الطعام والشراب تعبداً لله -سبحانه وتعالى- من طلوع الشمس إلى غروب الشمس؛ أي: أن المراد بالصوم هنا: الصوم الشرعي لا الصوم اللغوي، لأن الصوم اللغوي هنا لا معنى له؛ ولأن القاعدة المقررة أن يحمل كلام كل متكلم على عرفه، فإذا جاء الكلام من النبي (صلى الله عليه وسلم) يُحَمل على العرف الشرعي لأنه مُشرع، لكن لو جاءنا من رجل لغوي حملناه على المعنى اللغوي.

وقوله: «ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجَاء» «من لم يستطع»، أي: لم يستطع الباءة، وقلنا: إنه يُراد بها الجماع، ويُراد بها ما يحصل به الجماع من المال، والمراد بها هنا: ما يحصل به الجماع من المال؛ لقوله: «من لم يستطع»؛ إذ لا يصح أن يحمل، قوله: «من لم يستطع» على الجماع، لأن من لا يستطيع الجماع لا يحتاج إلى النكاح، لكن من لم يستطع المال الذي يحصل به الجماع «فعليه بالصوم»، «عليه» هذه جار ومجرور وهو بمعنى: فليلزم، فهو اسم فعل أمر بمعنى: فليلزم، والعرب تستعمل الجار والمجرور بمعنى اسم الفعل، ومنه قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] وقوله: «فإنه له وجاء»، «إنه» أي: الصوم، «له» أي: لمن لم يستطع، «وجاء» أي: مانع يمنع من قوة الشهوة وثورانها، يعني: أن الصوم يقطع الشهوة، فيقل على المرء التعب من أجلها، هذا الحديث خاطب النيي (صلى الله عليه وسلم) فيه الشباب؛ لأنهم أخرى به من الشيوخ، وذلك لأن الشباب هم الذين تتوافر فيهم هذه الشهوة، فلهذا وجّه الخطاب إليهم. فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولاً: حسن خطاب النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث وجه الخطاب إلى من هم أولى به. ومن فوائده: أن الشاب القادر على الزواج يجب عليه أن يتزوج لقوله (صلى الله عليه وسلم): «فليتزوج» واللام للأمر والأصل في الأمر الوجوب، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن القادر على الزواج يجب عليه أن يتزوج، لأن الأصل في الأوامر الوجوب، ولما فيه من المصالح العظيمة، وقال بعض أهل العلم: إن الأمر هنا للاستحباب، وعللوا ذلك بأن النكاح تعود مصلحته إلى الفاعل، وهي مصلحة جسدية متعلقة بالشهوة، فيكون الأمر للإرشاد، أي: للاستحباب، ولكن الصحيح أن الأمر للوجوب؛ وذلك لأن النكاح عبادة؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمّر به، ولأنه من سنن المرسلين كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] ولقول النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يتحدث عن حاله: «وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني». لكن الفقهاء - رحمهم الله- قسّموا النكاح إلى عدة أقسام فقالوا: إنه واجب وحرام ومكروه ومُباح ومسنون على حسب ما تقتضيه الحال، والأصل فيه عند الفقهاء السنية ولا يجب إلا لسبب، فما هو الواجب؟ قالوا: النكاح الواجب هو الذي يكون على من يخاف الزنا بتركه، فالذي يخاف الزنا إذا تركه يجب عليه أن يتزوج، والعلة لأن فيه وقاية من الوقوع في الحرام، والحرام واجب الاجتناب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا خاف ألزنا على نفسه

وجب عليه أن يتزوج، وهذا جزء من القول الذي أشرنا إليه آنفا وهو وجوب النكاح على من استطاعة». لأن القائلين بالوجوب يقولون: يجب وإن لم يخف الزنا ما دام فيه شهوة فيجب عليه أن يتزوج. الثاني: ويكون حرامًا إذا كان في دار الحرب، يعني: مثلاً لو أننا كنا نقاتل الكفار ونحن في بلادهم فإن النكاح هنا يحرم؛ لأنه يخشى من استرقاق الولد ربما يستولي الكفار علي المسلمين ويسبوا ذريتهم فيسترقون أولادهم، وما لا يتم دفع الحرام إلا به فهو واجب، إذن فاجتناب النكاح واجب لكن قالوا: إذا كانت هناك ضرورة بأن خاف الزنا بتركه فإنه يجوز. الثالث: ويكره لإنسان فقير ليس له شهوة، لماذا؟ لأن هذا الزواج لا يستفيد منه إلا الإزهاق، يرهق نفسه بالإنفاق على زوجته ورعايتها، وهذا لا شك أنه شاق لا داعي له ما دام الرجل ليس فيه شهوة فلا حاجة للتزوج. الرابع: المباح، ويكون لإنسان له شهوة ولكن لا مال له، فهنا نقول: يُباح لك النكاح من غير وجوب أو استحباب، وذلك لأنك غير قادر على الباءة، فإذا تزوجت فهذا مُباح، لكنه ليس مستحبًا بل هُوَ من باب المباح، وكذلك الإنسان الذي عنده مال وليس له شهوة فالنكاح في حقه من قسم المباح؛ لأنه ليس فيه ما يدعو إلى النكاح لكن إذا تزوج صار فيه مصلحة، فالزوجة تخدمه وهو أيضًا يعف الزوجة ويحصل فيه مصالح. الخامس: المسنون، وهو الأصل؛ ولذلك نجد أن الأحكام الأربعة الأخرى كلها تحتاج إلى سبب يحولها من الاستحباب إلى الوجوب أو التحريم أو الكراهة أو الإباحة. من فوائد هذا الحديث: حسن تعليم الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبيانه لأمته، وهو أنه إذا ذكر الحكم ذكر علته؛ لأن ذكر العلة فيها فوائد ثلاث: الفائدة الأولى: بيان سمو الشريعة وعلوها، وأن أحكامها كلها مبنية على رعاية المصالح. الفائدة الثانية: زيادة طمأنينة المخاطب؛ لأن المخاطب إذا عرف الحكمة اطمأن إلى الحكم أكثر وصار في ذلك أيضا زيادة حث له، لمن؟ للمخاطب، لأنه إذا عرف الحكمة واطمأن فإن ذلك يزيده رغبة في هذا الحكم، ولهذا قوله (صلى الله عليه وسلم) هنا: «أغض للبصر وأحصن للفرج»، لا شك أنه يرغب الإنسان في النكاح. الفائدة الثالثة: قياس ما شارك هذا المعنى أو المحكوم به في المعنى، فإننا إذا وجدنا هذه

العلة في شيء آخر قلنا: هذا حكمه حكم الذي عُلل بهذه العلة، ووجه ذلك: أن الشريعة الإسلامية لكمالها واطرادها لا تفرق بين مُتماثلين كما أنها لا تجمع بين المتفرقين، فإذا كانت علة الحكم المذكور ثابتة في مكان آخر نقل حكم هذا المذكور إلى ذلك المكان الآخر؛ لأننا نعلم أن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين متماثلين. ومن فوائد هذا الحديث: أن غض البصر مطلوب؛ لأنه إذا كان قد أمر بالنكاح من أجل غض البصر صار سبب الحكم أولى بالحكم من المسبب هذا بقطع النظر عن قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 30، 31] لكن نيد أن نأخذ الحكم من هذا الحديث. ومن فوائد الحديث: مشروعية تحصين الفرج لقوله: «وأحصن للفرج». ومن فوائد الحديث: تجنب كل ما يوجب إطلاق البصر أو وقوع الفرج في السواقط، وجه ذلك: أنه إذا أمر بالنكاح من أجل منفعة غض البصر وتحصين الفرج، فإن ما يوجب خلاف ذلك يكون منهيا عنه، ويتفرع على هذه القاعدة: أن الإنسان إذا وجد من نفسه افتتانًا لمطالعة بعض الصحف التي تشتمل على صور فإنه يجب عليه أن يتجنب ذلك؛ لأن هذا ربما يدعوه إلى إطلاق البصر أو إلى فعل الفاحشة نسأل الله العافية. ومن فوائد الحديث: جواز الاقتصار على بعض الحكمة إذا كان المقام يقتضي ذلك، يُؤخذ من أن النبي (صلى الله عليه وسلم) علل الأمر بالتزوج بأنه «أغض للبصر وأحصن للفرج»، مع أن فيه علة أخرى ينظر إليها الشارع نظرة هامة وهي كثرة النسل والأولاد، لكن لما كان يُخاطب الشباب، والشباب لا يهتم في أول الأمر إلا فيما يتعلق بالشهوة وتحصين الفرج وغض البصر علل بالعلة المناسبة للمخاطب وهم الشباب. ومن فوائد الحديث: حكمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيما إذا تعذر الشيء حسًا أو شرعًا فإنه (صلى الله عليه وسلم) يذكر البديل عنه، لقوله: «ومن لم يستطع فعليه بالصوم» فإذا لم يمكنك القيام بالنكاح قدّرا لأنك معسرًا فعليك بالصوم. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يستقرض ليتزوج، وجه الدلالة: أنه قال: «من لم يستطع فعليه بالصوم»، ولم يقل: فليستقرض، أو فليستدن، ويدل لهذا أيضًا قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33]. يعني: بدون واسطة، لم يقل: حَتى يغنيهم الله بأي وسيلة، قال: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33] وهذا لا يحصل إلا بالغنى، ويدل

النهي عن التبتل

لذلك أيضا حديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وسلم) فلم يُردها، فقال بعض القوم: إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): يسأله هل عنده صداق؟ قال: إزاري وليس له رداء، قال: إزارك إن أعطيتها إياه بقيت لا إزار لك، وإن استمتعت به لم يكن لها فائدة منك، إذن لا يصلح، فقال: «التمس»، فذهب الرجل يلتمس ما وجد ولا خاتم من حديد، قال: «معك شيء من القرآن؟ » قال: نعم كذا وكذا، قال: «مَلَّكْتكَها بما معك من القرآن»، ولم يقال له (صلى الله عليه وسلم): استقرض أو استدن، فدل هذا على أنه لا ينبغي لمن ليس عنده مؤنة النكاح أن يستقرض. لو قال قائل: ما هي الحكمة في أنه لا يستقرض، أليس هذا من مصالح الإنسان؟ نقول: بلى، ولكن الاستقراض ذل يكسب الإنسان ذلاً وانكسارًا، لا سيما إذا رأى من أقرضه فإنه يراه ويتصور أنه عبدٌ له، لذلك لم يُرشد النبي (صلى الله عليه وسلم) من لم يجد أن يستقرض. ومن فوائد الحديث: تحريم الاستمناء الذي يسمونه العادة السرية، وجهه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يُرشد إليه عند عدم القدرة على الباءة، ولو كانّ جائزاً لأرشد إليه؛ لأنه أهون من الصوم بلا شك، ولأن الإنسان يجد فيه متعة، والصوم لا يجد فيه إلا ألم الجوع والعطش بخلاف هذا الفعل، وإذا كان من عادة النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يخيّر بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمّا كان في ذلك دليل على أن الاستمناء في إثم لأنه أيسر الأمرين من الصوم أو الاستمناء، فلما لم يختره علم أنه إثم. النهي عن التبتل: 925 - وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه): «أَنَّ اَلنَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) حَمِدَ اَللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ, وَقَالَ: لَكِنِّي أَنَا أُصَلِّي وَأَنَامُ, وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ, وَأَتَزَوَّجُ اَلنِّسَاءَ, فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». متفق عليه. هذا الحديث له سبب وهو أن ثلاثة نفر من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) لشدة رغبتهم في الخير جاءوا إلى أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) يسألونهن عن عمله في السر، يعني: في بيته، فأخبروا بذلك فكأنهم تقالوا هذا العمل، وقالوا: إن النيي (صلى الله عليه وسلم) قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، ولكننا نحن لسنا كذلك، فقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا

أتزوج النساء، غرضه بذلك أن ينقطع عن الزواج إلى العبادة، هكذا قالوا اجتهادًا منهم، فلما علم النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك قام خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما ذكره المؤلف؛ وذلك لأن هذا المبدأ الذي ابتدعه هؤلاء مبدأ خطير يشبه مبدأ النصارى الذين ابتدعوا رهبانية ما كتبها الله عليهم، لكن يبتغون بذلك رضوان الله، ولكن شدَّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، ثم بعد ذلك عجزوا، وهكذا كل إنسان يشدد على نفسه لابد أن يعجز في النهاية. المهم: أن هؤلاء جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فحمد الله وأثنى عليه كعادته في خطبه أنه كان يحمد الله ويثني عليه: «الحمد لله» مثل أن يقول: الحمد لله هذا حمد، «الثناء»: أن يكرر صفات الكمال؛ لأنه مأخوذ من الثُنيا، وهى العودة بعد البدء، قد يطول وقد لا يطول. ثمّ قال: «لكني أنا أصلي وأنام»، هذا هديه، وقد قال الله تعالى في سورة المزمل: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20]. {أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} يعني: فوق النصف بقليل، {وَنِصْفَهُ} النصف {وَثُلُثَهُ} دون النصف، فهو (صلى الله عليه وسلم) لا يُكمل الثلثين قائمًا إلا في رمضان، فإنه إذا دخل العشر الأواخر من رمضان كان يقوم الليل كله، لكن هذا عارض، إنما هديه الدائم هو هذا، ومع ذلك فكان ينام في آخر الليل كما في صحيح البخاري أنها قالت: ما ألفيته سَحَراً إلا نائمًا؛ يعني: أنه ينام قليلاً في آخر الليل، وقد بين (صلى الله عليه وسلم) أن أفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه. وقوله: «أصلي وأنام»، هذا في ليلة واحدة، أحيانًا يقوم كل الليالي، يعني: كل ليلة يقوم حتى يُقال: لا ينام، وأحيانا ينام حتى يُقال: لا يقوم، وسبب ذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يتعبد لله -سبْحَانَهُ وتعالى- بما هو أصلح، إلا الفرائض فإنه لا يخل بها، لكن النوافل يتعبد لله بما يكون أصلح أحيانا يكون الأصلح، إذا جاءه ضيف يحتاجون إلى إكرام وسهر معهم في أول الليل ولم يقم صار هذا أفضل، كما شغله الضيف عن سنة الظهر فلم يصلها إلا بعد العصر، أحيانا يعرض له مسألة من مسائل العلم يحقق فيها في أول الليل وينام في آخره هذا أيضا أفضل، المهم: أن ما عدا الفرائض فإنه يُرجع فيه إلى الأصلح، فإن تساوى فإن كل نافلة تبقى على وظيفتها. يقول: «وأصوم وأفطر»، وكان (صلى الله عليه وسلم) يصوم من كل شهر ثلاثة أيام لا يُبالي أصامها في أول الشهر أم في وسطه أم في آخره هذا ثابت، وربما صام يوم الاثنين والخميس، وكذلك يصوم في الأيام التي يُندب صيامها كيوم عرفة ويوم عاشوراء، وَقال: «لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع».

فالحاصل: أنه كان يصوم ويفطر، وقد ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) أن أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا قال ذلك لعبد الله بن عمرو بن العاص الذي بلغه أنه قال إني أقوم ولا أنام، وأصوم ولا أفطر، ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين له أن هذا ليس من السنة، وما زال يحَاططه حتى أذن له أن يصوم يومًا، ويُفطر يومًا، قال عبد الله: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «لا أفضل من ذلك»، يعني: لا شيء أفضل من صيام داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، فلما كبر عبد الله بن عمرو قال: ليتني قبلت رخصة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وشق عليه الصوم حَتَّى صوم يوم وفطر يوم، فكان يجمع الخمسة عشر يومًا جميعًا يصومها ويفطر خمسة عشر يومًا. يقول: «وأتزوج النساء»، يعني: ولا أتبتل خلافا لهؤلاء الرهط، وتزوجه للنساء (صلى الله عليه وسلم) كما يتزوج الرسل من قبله، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]. ثم إن تزوجه للنساء ليس تزوج تشه ولهذا لم يتزوج امرأة بكرًا إلا عائشة، ولو شاء أن يتزوج ما شاء من الأبكار لحصل له ذلك، لكنه (صلى الله عليه وسلم) إنما يريد بزواجه مصالح شرعية عظيمة سوى قضاء الوطر، وقد حبب الله إليه النساء فقال (صلى الله عليه وسلم): «حُبِّب إليّ من دُنياكم النساء والطِّيب، وجُعلت قرّة عيني في الصلاة». وذلك لأجل المصلحة العظيمة لأجل أن يكون له من كل قبيلة وبطن من العرب صلة؛ لأن الصلة بالنسب إذا فقدت تأتي الصلة بالصهر كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]، فالصهر قسيم النسب في باب التواصل بين الناس، فكان (صلى الله عليه وسلم) قد حُبّب إليه النساء، وأعطي قوة ثلاثين رجلاً، وكان يتزوج النساء من أجل الاتصال بين قبائل قريش وبطون قريش، ثم ما يحصل لهؤلاء الزوجات من الفضل والمناقب باتصالهن برسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثمّ ما يحصل من العلم الكثير الذي لا يفعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلا في بيته، فإن هذا العلم إنما نشره بين الأمة زوجاته؛ لأنهن يعلمن ذلك، فالمهم: أن من هدي الرسول أن يتزوج النساء. قال: «فمن رغب عن سنتي فليس مِنِّي» أي: زهد فيها وتركها، وسنته هنا أي: طريقته، أي: مَن رغب عن طريقته في كونه يصوم ويفطر، ويُصلي وينام، ويتزوج النساء «فليس مني»، أي: فأنا بريء منه، وصدق النيي (صلى الله عليه وسلم)، لأن هذا هو مقتضى الفطرة الذي يرغب عن سنتك لا شك أنه مُفارق لك، وانه لا صلة بينك وبينه والذي يرغب في سنتك هذا هُوَ الموالي لك، ولهذا كان من أعظم الولاء أن يكون الإنسان موافقا لمن تولاه في أفعاله وأقواله وهو شيء مشاهد،

حَتَّى إن الإنسان إذا أحب شخصنا صار يقتدي به وينظر ماذا يفعل فيفعل مثله فكذلك الولاية من أراد أن يكون من أولياء الله ورسوله فليسلك ما شرعه الله على لسان رسوله (صلى الله عليه وسلم). وقوله: «من رغب عن سنتي»، «رغب» تتعدى بـ «في»، وتتعدى بـ «عن»، فإن تعدت بـ «في» فهي للطلب، وإن تعدّت بـ «عن»، فهي للهرب؛ يعني: إذا قلت: رغبت في كذا فأنت تطلب، «رغبت عن»: تهرب منه لا تريده هنا «من رغب عن سنتي»، أي: هرب منها وتركها وزهد فيها، «فليس مني»، أي: ليس ممن ينتسب إلى لأن الذي ينتسب إليه حقًا هُوَ الذي يأخذ بشريعته (صلى الله عليه وسلم). في هذا الحديث فوائد كثيرة منها: محاربة الإسلام للرهبانية، يؤخذ ذلك من كون النبي (صلى الله عليه وسلم) أنكر على هؤلاء التبتل والعبادة الشاقة من صوم أو صلاة. ومنها: أن العبادة قد تكون مكروهة لا لذاتها ولكن لما يعرض لها من وصف، فالصلاة من أحب الأعمال إلى الله ومع ذلك إذا التزم بها الإنسان على هذا الوجه صارت إما محرمة أو مكروهة على الأقل ويتفرع على هذه الفائدة: ما يُطنطن به أهل البدع الذينَ إذا أنكرت عليهم بدعة ميلاد الرسول (صلى الله عليه وسلم) قالوا كيف تنكر علينا، أنت ترغب عن الصلاة على الرسول (صلى الله عليه وسلم) أو ترغب في الصلاة عليه؟ أرغب في الصلاة عليه لكن أرغب عن البدعة، هل هذه الصلاة التي أحدثتموها وهذا الثناء على الرسول (صلى الله عليه وسلم) في هذه الليلة هل هذا مما شرعه الرسول؟ لا، إذن يكون بدعة، وكل بدعة ضلالة، فالمهم: أن هذا الحديث يتفرع على فائدته أن کل ما كان مخالفًا للرسول (صلى الله عليه وسلم) فهو بدعة وإن كان أصله مشروعا وعبادة. ومن فوائد الحديث: مبادرة النبي (صلى الله عليه وسلم) لإبطال الباطل؛ لأنه من حيث ما ذكروا له ذلك قام وخطب ونهى عنه، ويترتب على هذا أن نقتدي به وأن نُبادر بإنكار الباطل؛ لأن الباطل إذا سرى وانتشر صار انتشاله صعبا، لكن في أول أمره يسهل. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي إعلان الإنكار إذا دعت الحاجة إلى ذلك بحيث يكون هذا المُنكر منتشراً وجهه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خطب الناس مع أنه بإمكانه أن يكلم هؤلاء وينهاهم عما أرادوا ولكنه خاف أن ينتشر. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي البداءة في الخطبة -ولو كانت عارضة- بالحمد والثناء، وهذا كان هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه يبدأ خطبه بالحمد والثناء، واختلف العلماء (رحمهم الله) في خطبتي العيد هل تبدئان بالحمد والثناء أو بالتكبير، على قولين في هذه المسألة، والأرجح أنهما يبدئان بالحمد والثناء، وإن كان التكبير فيه حمد وثناء؛ لأنك تقول: «الله أكبر الله أكبر لا

إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد»، لكن ليس هذه صفة الخطب التي كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقوم بها. ومن فوائد الحديث: بيان ما كان عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) من الدين اليُسر لقوله: «أصلي وأنام، وأصوم وأفطر». ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يشق على نفسه في العبادة؛ وذلك لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين منهاجه وسيرته في عبادته أن يجمع بين راحة البدن وبين عبادة الله (عز وجل)، حَتّى إن الإنسان لو كان يُصلي في الليل وأتاه النوم فإنه مأمور بالكف عن الصلاة والرقاد. هكذا أمر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وبين ي (صلى الله عليه وسلم) علة ذلك قال: «ربما يذهب ليدعو لنفسه فيسبها» وهذا صحيح، ربما تريد: «رب اغفر لي» فتقول: رب أهلكني، لأنك نائم! ! فعلى كل حال أنموذج من أنه ينبغي للإنسان ألا يشق على نفسه في العبادة. ومن فوائد الحديث: مشروعية الصوم على وجه الإطلاق لقوله: «أصوم وأفطر»، وهذا يشمل الصوم المطلق والصوم المعين المقيد كصوم الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من الشهر، وأيام البيض، وستة أيام من شوال، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء. ومن فوائد الحديث: مشروعية النكاح؛ لأنه هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) لقوله: «وأتزوج النساء». فإذا قال قائل: هذا فعل تقتضيه الفطرة والطبيعة البشرية فهو كالأكل والشرب فلا يكون مشروعًا في حد ذاته؟ فالجواب عن ذلك أن يُقال: بينهما فرق؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) ساق الحديث هنا على أن هذا هديه وسيرته، ولم يقل: وآكل وأشرب، وأيضا النكاح يترتب عليه مصالح متعددة، منها: مصلحة الزوجة والأولاد الذين سيقوم بتربيتهم والإنفاق عليهم فليس كالأكل والشرب. ومن فوائد الحديث: أن من رغب عن سنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فليس منه لقوله: «من رغب عن سنتي فليس مني»، وهذا يدل على أن من رغب عن سُنة الرسول فقد أتى كبيرة، لأن من علامة الكبيرة على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية أن يتبرأ الشارع من فاعلها، ولكن يجب أن نعلم أن ترك السُنة ينقسم إلى قسمين: ترك رغبة عنها، وهذا هُوَ الذي يُعَدُّ من الكبائر، وترك تهاون بها، أي: أنه يتهاون في فعلها دون الرغبة عنها ويرى أنها مشروعة ويحبها لكن يتكاسل، يعني: يدعها كسلاً، الثاني لا يكون فعله كبيرة إلا إذا كان ما فعله كبيرة، أما مجرد أن يترك المسنون فهذا ليس بكبيرة.

الحث على تزوج الولود الودود

لكن لو ترك رفع اليدين مثلاً عند تكبيرة الإحرام زهدًا في السُنة ورغبة عنها ماذا نقول؟ هذه كبيرة، أما لو تركها تهاونًا -يعني: كسلاً- فهذا ليس بكبيرة ولا يأثم بها، ففرق بين الذي يتركها رغبة عنها؛ لأن الذي يتركها رغبة عنها يكون قد حمل كراهة لها وبعدًا عنها، فيكون ما قام في قلبه هو الذي أثر فيه حتى جعل تركه للسنة كبيرة. وقد يقول قائل: إن قوله: «من رغب عن سنتي» أي: عن سنته الواجب فعلها؟ فيقال: حَتَّى ولو حمل الحديث على هذا الوجه فإن ترك الواجب لا يُؤدي إلى الكبيرة إلا على حسب الحجم الواجب وأهميته، لكن الرغبة عن السنة -أعني: تركها زهداً فيها- لا شك أنه كبيرة، يعني: لو قيل: لماذا لم تفعلها؟ قال: لا أريد أن أفعلها هذه ليست بشيء، ويقع في نفسه شيء من الزّهد فيها. ومن فوائد الحديث: أن من اشتد تمسكه بالسُنة فهو من الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لكن منه حسا أو معنى؟ معنى، بمعني: أنه تابع له تمام الاتباع، فكلما تمسكت بسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كنت أولى الناس به، ويشهد لهذا قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]. ومن فوائد الحديث: أن السنة تطلق على الطريقة، فتشمل الواجب والمستحب، ما تقولون فيمن ترك الزواج رغبة عن السنة؟ يكون آثمًا، نعم وفاعلاً لكبيرة، أما من تركه وحشة منه وهيبة فإن هذا لا يكون قد أتى كبيرة، ومن تركه خوفا من الفقر نقول هذا سوء ظن بالله؛ لأنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، فأنت إذا تزوجت فتح الله لك باب رزق يكون رزقا لزوجتك وليس الزواج سببًا للفقر. الحث على تزوج الولود الودود: 926 - وعنه (رضي الله عنه) قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمرنا بالباءة، وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، ويوقل: تزوجوا الولود الودود. فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة». رواه أحمد، وصححه ابن حِبان. - وله شاهد عند أبي داود، والنسائي، وابن حِبان أيضًا من حديث معقل بن يسار. قوله: «عنه»، أي: عن أنس، وقوله: «كانّ»، يقول الأصوليون: إن «كان» كان خبرها فعلا

مضارعًا فهي تدل على الدوام غالبًا، فإذا قلت: كان يفعل كذا؛ فهو يعني: أن هذا من شأنه غالبًا وليس دائمًا، والدليل على ذلك أنه ليس دائمًا أن من الصحابة من يقول: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقرأ في الجمعة بسبح والغاشية، وآخرون يقولون: كان يقرأ بالجمعة والمنافقين، ولو قلنا: إن «كان» تفيد الدوام دائمًا لكان بين الحديثين تعارض، ولكن هذا يدل على أن «كان»، تفيد الدوام غالبًا، ثم هل هذا مستمر أو غير مستمر؟ هذا يُؤخذ من دليل آخر. قال: «كان يأمرنا بالباءة»، وهي النكاح لقوله (صلى الله عليه وسلم): «من استطاع منكم الباءة ... » إلخ، «وينهى عن التبتل»، الأمر والنهي ضدان؛ لأن الأمر طلب الفعل، والنهي: طلب الكف فهما ضدان. وقوله: «التبتل» يعني: الانقطاع عن النكاح ينهى عنه نهيًا شديدًا، يعني: أنه يشدد في النهي عنه. ويقول -إضافة إلى الأمر بالباءة-: «تزوجوا الولود ... » إلخ. الأمر هنا بصفة من يطلب تزوجها من النساء، «الودود» يعني: كثيرة المودة التي تتودد للزوج؛ لأن من النساء من يتودد للزوج بلين الكلام والتجمل وغير ذلك من أسباب المودة، ومن النساء من تكون بالعكس، بعض النساء اذا دخل زوجها وصدره ضائق فعلت ما يوسع صدره حتى يسر ويزول عنه ضيق الصدر، وبعض النساء إذا دخل زوجها وهو ضائق صدره كتمت في وجهه فزادته بلاء وسوء، الأولى نسميها ودودًا والثانية نسميها بغوضًا، الثانية في الحقيقة تُوجب أن يبغضها زوجها، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر أن نتزوج الودود، والحكمة من ذلك ليس هو الاقتصار على السعادة الزوجية فقط، بل الحكمة من ذلك: أن الإنسان إذا ودُ زوجته أحب ملاقاتها، وبملاقاتها يكثر النسل: ولهذا قال بعده: «الولود» يعني: كثيرة الولادة، ومن المعلوم أن النساء يتزوجن أبكارا وثيبات، الثيب معروف أنها كثيرة الولادة، لأنها سبق أن ولدت مثلاً، والبكر غير معروفة بكثرة الولادة في نفسها لكنها تُعرف بكثرة الولادة بأقاربها، وذلك لأن الوراثة كما تكون في الخلق الظاهر تكون كذلك في الخلق الباطن، وكذلك تكون في الخصائص الجسدية، فإذا كانت المرأة من أناس تُعرف نساؤهم بكثرة الولادة فهي ولود، ولو كانت بكرا اعتبارا بحال قريباتها. وقوله: «فإني مكاثر» يعني: مُباه بكم الأنبياء أينا أكثر هو أو غيره، ومن المعلوم أن أتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) أكثر الأتباع وأنه لا نبي أكثر أتباعا منه، وفي الرؤيا التي أريها النبي (صلى الله عليه وسلم) فعُرضت عليه الأمم ورأى النبي معه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، رفع له سواد عظيم فظن أنه أمته، فقيل له: هذا موسى وقومه، ثم رفع رأسه فإذا سواد عظيم قد سدّ الأفق أكثر من الأول، فقيل: هذه أمتك. وقال: «إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة»، وكل الأمم نصف، وهذه

الأمة نصف، وأخبر أن الجنة مائة وعشرون صفا، وأن هذه الأمة ثمانون صفا، فتكون هذه الأمة بمقدار الثلثين، لكن كيف تكون مقدار الثلثين لابد من سبب من أسباب ذلك كثرة النسل في الأمة، فإذا كثر النسل في الأمة كثرت الأمة. يُستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: وجوب النكاح لقوله: «يأمرنا بالباءة»، والأصل في الأمر الوجوب، ويؤيد ذلك أنه ينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، والتبتل ضد النكاح، فإذا كان ينهى عنه تهيا شديدا صار الأمر بالباءة أمرا أكيدا، وهذا القول هو الراجح أن النكاح واجب على الإنسان لكن بشرط القدرة، فإن لم يكن قادراً فإنه لا يجب لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. ومن فوائد الحديث: النهي عن التبتل، فالإنسان لا يتبتل حَتَّى لو فرض أنه تزوج وأتى بالواجب ثم ماتت زوجته أو طلق فإنه يُنهى أن يتبتل، لأن بعض الناس ربما يتدين بعد زواجه ثم يقول: ما لي وللنساء، فيطلق زوجته، فنقول له: هذا حرام عليك أن تتقرب إلى الله بترك النكاح، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «من رغب عن سنتي فليس مني»، ونهى عن التبتل نهيا شديدا. وَمِنْ فوائد الحديث: أن النهي ينقسم إلى شديد وخفيف، فالنهي الخفيف يقتضي الكراهة، والشديد يقتضي التحريم. ومن فوائد الحديث: أن الأوامر والنواهي تتفاضل فبعضها أوكد من بعض، يعني: بعض المنهيات أو بعض المأمورات أوكد من بعض؛ لقوله: «ينهى نهيًا شديدًا»، وقد عرفتم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، والصغائر تتفاوت، وكذلك الكبائر تتفاوت. ومن فوائد الحديث: مشروعية انتقاء المرأة الودود الولود، فإن قال قائل: إذا تعارضت الموادة والولادة مع الدين فأيهما يقدم؟ الدين، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «اظفر بذات الدين تربت يمينك». ومن فوائد الحديث: أنه كلما كانت المرأة أقوى ودًا للرجل كان ذلك أسعد للحياة، ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. لتقوي ذلك السكون وهو كذلك، ووجهه: أن المودة محلها القلب، والقلب مُدّبر الأعضاء، فإذا صلح صلحت، وإذا فسد فسدت، وإذا أحب أحبت، وإذا كره

كرهت، فهو المدبر، فإذا ألقى الله الودّ بين المرأة وزوجها حصل لهما من الألفة والسعادة ما لا يحصل لو كان الأمر بالعكس. ومن فوائد الحديث: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يُباهي الأنبياء بأمته لقوله: «فإني مكاثر بكم»، ولهذا ذكر العلماء من فوائل النكاح: تحقيق مباهاة النبي (صلى الله عليه وسلم) بأمته، ونحن يسعدنا كثيرًا أن نسعى لما يحقق رغبة النبي (صلى الله عليه وسلم) ومباهاته بأمته. ومن فوائد الحديث: تشوف الشارع إلى كثرة الأولاد لقوله: «الولود»؛ وذلك لأن كثرة الأولاد عزّ للأمة واستغناء بنفسها عن غيرها وهيبة لها، وقد مَنْ الله على بني إسرائيل بالكثرة فقال: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} [الإسراء: 6] وذكر شعيب قومه بذلك فقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86: ]. ويتفرع على هذا: أن الدعوة إلى تقليل النسل هي دعوة من كافر يريد تقليل الأمة الإسلامية أو جاهل لا يدري ماذا يترتب على كثرة النسل، أو إنسان ليس له هم إلا الشهوة يريد أن تتفرغ زوجته لقضاء وطره منها وليس يسائل أن يكثر الأولاد أو يقل الأولاد، ونحن نشاهد كثيرًا من الناس اليوم مع الأسف يحرصون على تقليل الأولاد يقولون: لأن هذا يمتع الإنسان بزوجته أكثر وتتفرغ الزوجة لزوجها أكثر، وإذا كانت موظفة تتفرغ لوظيفتها أكثر وهذا كله نظر قاصر، فالأولاد كلهم، خير ويفتح الله عليك من أبواب الرزق ما لا يخطر على بالك بسبب أولادك، لأن الله يقول: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. حتى صار بعضهم يستعمل ما يُعرف عند النساء بحبوب منع الحمل، وهذه ضارة من الناحية الطبية ومانعة لمقصود الشرع من كثرة النسل. ومن فوائد هذا الحديث: حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) على تكثير أمته؛ لأنه أمر وعلل؛ أمر بتزوج الولود الودود، وعلل ذلك بأنه يكاثر بهذه الأمة الأنبياء يوم القيامة. ومن فوائده: أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يتباهون أيهم أكثر تابعًا، لماذا؟ لأنه كلما كثر أتباع النيي كثر أجره لأنهم إذا اتبعوه وعملوا بشريعته فإن له أجر هذا العامل: «من سَنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة». قوله: «وله شاهد ... » إلخ، الشواهد والمتابعات تُقوي الحديث، فالمتابعات متابعة الراوي في السند إلى منتهاه، والشواهد أن يأتي حديث بمعنى الحديث المشهود له لكن من طريق آخر، فهنا حديث معقل بن يسار والأول حديث أنس، فالشاهد يكون بمعنى الحديث المشهود له، والمتابعة تكون في السند، وقسمها العلماء إلى متابعة قاصرة ومتابعة تامة، فإن كانت في

تنكح المرأة لأربع

شيخ الراوي فهي متابعة تامة، وإن كانت فيمن فوقه فهي متابعة قاصرة، مثال ذلك: حدّثنا واحد عن اثنين عن ثلاثة عن أربعة عن خمسة، وواحد ضعيف فيأتي إنسان ويقول حدثنا شخص آخر غير رقم واحد عن اثنين عن ثلاثة عن أربعة عن خمسة فهذا المتابع يُوافق المتابع في شيخه، نقول: هذه متابعة تامة؛ لأنه تابعه في السند كله، فإن جاء واحد وقال: حدثني فلان عن رقم ثلاثة عن أربعة عن خمسة هذه متابعة قاصرة، والغرض منها تقوية رواية هذا الضعيف، والشاهد تقوية الحديث كله، ولا نحتاج إلى المتابعات والشواهد إلا في الأحاديث الضعيفة؛ لأن الأحاديث الصحيحة لا تحتاج لشاهد ولا مُتابع، لكن لو وجد شاهد قواه بلا شك إنما نحتاج في الأحاديث الضعيفة إلى شاهد أو مُتابع من أجل أن يرتفع إلى درجة الحسن. تنكح المرأة لأربع: (927) - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةً (رضي الله عنه)، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «تُنكَحُ الْمَرْأةً لأربعة: لمَالهَا، وَلحَسُبها، وَلجَمَالها، ولدينها، فَاظفر بذات الدين تربتْ يَدَاك». مُتَفَق عليه مَعَ بقية السَّبْعَةِ. «تنكح» خبر وليست أمرًا يعني: أن أغراض الناس في النكاح تتنوع، والغالب أنها تكون لهذه الأغراض الأربعة: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها. «لمالها»، مثل: أن تكون امرأة عجوز لكنها عندها مليارات يتزوجها الثاني لمالها؛ لأنه يترقب موتها بين عشية أو ضحاها، وإذا لم يكن لها أولاد يأخذ النصف، وإن قيل بالردّ على الأزواج -وهو قول ضعيف- أخذ جميع المال، لكن الصحيح أنه لا يرد على الزوجين. «ولحسبها» وهذه في القبائل، معروف أن القبائل بعضها يختلف عن بعض في الشرف والخسة، فيأتي إنسان وضيع من حيث الحسب فيتزوج من قبيلة رفيعة من أجل أن يرفع نفسه وذريته؛ لأنه إذا تحدّث الناس وقالوا: فلان تزوج من آل فلان ارتفع قذره وأولاده أيضا ترتفع أقدارهم؛ لأنه يقال: هؤلاء أخوالهم بنى فلان. الثالث: «لجمالها»، يعني: لأن المرأة جميلة ليست ذات مال ولا ذات حسب، لكن جميلة فيتزوجها لجمالها حتى لو لم تكن ذات حسب.

والرابع: «لدينها» امرأة دَينة، ولاسيما إن كانت ذات علم يتزوجها لذلك؛ لأنه يحب أن يتزوج امرأة تعينه على طاعة الله، والمرأة الدّينة تُعين على طاعة الله وتقوم بحق الزوج على الأكمل وتسايره في أموره، حَتَّى إن بعض الدّيِّنات إذا رأت من زوجها رغبة في امرأة أخرى ذهبت هي تخطب له، لكن لو تأتي امرأة غير دينة وحلم بالليل أنه يتزوج يمكن أن تقيم عليه الدُّنيا كما هُوَ الواقع إلا من شاء الله! لكن أنا حُدّثت عن بعض الدينات أنهن يخطبن لأزواجهن، لأن صاحبة الدين لا تغدر بك إطلاقًا إن غبت حفظتك، إن أسررت إليها لم تخنك في سرك ولا في مالك ولا في أولادك ولا في أهلك، ولذلك قال: «فاظفر بذات الدين» يعني: اجعلها بمنزلة الغنيمة التي يظفر بها واجدها، و «ذات الدين»، أي: صاحبة الدين، وثق أنك إذا لزمت هذه الوصية من أنصح الخلق لك، فإنه ربما تنقلب هذه المرأة الدينة وإن كانت قليلة الجمال تقلب فتكون في عينيك أجمل النساء، ولاحظوا أن الجمال ليس كل شيء أحيانا تكون المرأة جميلة، لكن يجعلها الله في عين زوجها غير جميلة، فتجد الناس يتحدثون عن جمالها لكنها عنده ليست بجميلة فإن القلوب بيد الله (عز وجل) فإذا أخذت بهذه الوصية فالعاقبة بلا شك حميدة كأنك تستشير الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيشير عليك بأن تتزوج امرأة ذات دين. وقوله: «تربت» يعني: التصقت بالتراب، أو امتلأت ترابًا، أو علق بها التراب، والمعاني كلها متلازمة. المعنى: أنك افتقرت؛ لأن من لا تجد يده إلا ترابا فهو فقير، ولكن هذه الكلمة تُطلق على الألسن ولا يُراد بها معناها ومدلولها، وإنما يُراد بها الحث والترغيب على فعل الشيء، وقيل: إنها على تقدير شرط محذوف تقديره: تربت يداك إن لم تظفر بها، فعلى هذا المعنى الثاني تكون جملة دعائية، أي: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) دعا على من لم يظفر بذات الدين بهذا الدعاء، أما على الأول فهي جملة إغرائية، يعنى: يراد بها إغراء المرء على هذا الأمر، ومثلها قول النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) لمعاذ بن جبل: «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يُكب الناس في النار على وجوههم ... ».إلخ. «ثكلتك» يعني: فقدتك، والرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يدعو على المرء بأن تفقده أمه لكنها جملة إغرائية، وقيل: إنها جملة دعائية على تقدير محذوف، أي: إن لم تفهم على كل حال تربت يداك، أي: التصقت بالتراب أو امتلأت به أو علق بها التراب وهو كناية عن الفقر. في هذا الحديث: دليل على أن أغلب أغراض الرجال في هذه الأمور الأربعة المال والحسب والجمال والدين.

ومن فوائده: أنه لا حرج على المرء إذا تزوج المرأة لمالها، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أقر هذا الرجل ولم ينكر عليه، لكن رغب في ذات الدين. وكذلك من فوائده: أنه لا بأس أن يتزوج الإنسان المرأة لحسبها ليرتفع بها حسبه وليرتفع بها حسب أولاده أيضًا. ومن فوائد الحديث: أن المرأة قد يتزوجها الإنسان لجمالها، وأنه لو تزوجها لجمالها فلا حرج عليه، وربما يكون الإنسان من عشاق الجمال فلا يغض بصره إلا ذات جمال، لأن الرجال يختلفون اختلافا كثيرًا في هذا الباب. ومن فوائد الحديث: أن المرأة يجوز أن يتزوجها الإنسان من أجل الدين، حَتَّى وإن لم يكن له غرض في النكاح إلا دين المرأة فإنه يجوز أن يتزوجها لأجل الدين. ومن فوائد الحديث: أن أعلى هذه الأغراض أن يتزوج المرأة لدينها لقوله: «فاظفر بذات الدين تربت يداك». ومن فوائده: أنه ينبغي للإنسان أن يحرص على قبول وصية النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحرص على ذات الدين، وإن كان غالب الناس اليوم إنما يسألون عن الجمال وإن كان بعضهم يتزوج لمالها وحسابها، وهل هذه الأغراض منحصرة في ذلك؟ لا، تقدم الحديث الذي قبله الذي يقول فيه: «تزوجوا الودود الولود»، فقد يتزوج الإنسان امرأة؛ لأنها من نساء معروفات بالتودد لأزواجهن، فهو يريد امرأة تصفو معها حياته بالتودد لأزواجهن والتراضي واتباع ما يهواه الزوج، وكذلك الولود كما سبق، وقد يتزوج الإنسان المرأة للتعلم، وذلك بأن تكون امرأة معها علم قد أخذت الشهادة العالية والرجل معه شهادة ثالث ابتدائي يتزوجها للتعلم، هذا صحيح، وقد يتزوجها من أجل حضانة أولاده كأن تكون أم أولاده قد ماتت فيتزوجها من أجل حضانة الأولاد. فأغراض الرجل كثيرة ومختلفة، لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذكر الأغراض الغالبة، المهم: أن الإنسان متى تزوج المرأة لغرض مقصود شرعا فإنه جائز، ولكن أحسن ما يكون يتزوجها للدين، لو تزوجها للغناء امرأة مغنية وهو رجل طروب يحب الغناء؟ هذا حرام إلا إذا كان الإنسان يريد أن يتزوج هذه المرأة من أجل أن يدعوها إلى الخلاص من هذا الشيء ولكن نخشى أن يُفتن.

الدعاء لمن يتزوج

الدعاء لمن يتزوج: 928 - وعنه (رضي الله عنه)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان إذا رفأ إنسانًا إذا تزوج قال: «بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير». رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان. «كانَ إذَا رَفَأ»، أي: دعا له عند زواجه قال كذا وكذا، وأصله من رفأ الثوب: إنا وصل بعضه بعض، يعني: إذا خاطه ووصل بعضه بعض، وكانوا في الجاهلية إذا رَفأ بعضهم بعضا قالت بالرفاء والبنين، بالرفاع يعني: بالصلة، والبنين يعني: الذكور، أي: أدعوا لك بالرفاء، وأدعو لك بالبنين، وذلك لأنهم كانوا يكرهون البنات: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58 - 59]. وكانوا في الجاهلية إذا ولدَ له أنثى وأدوها، والعجب أنهم يكرهون البنات ويجعلونها لله ويقولون: إن الملائكة بنات الله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62]. «إذا تزوج» يعني: إذا عقد له على امرأة سواء حصل الدخول أم لم يحصل، يعني: لو عقد له على امرأة ولم يكن دخول شرع هذا الدعاء وإن خطب امرأة وأجيب فإنه لا يُشرع هذا الدعاء، لأنه لم يكن تزوج من بعد، والحديث يقول: «إذا تزوج». وقوله: «إذا رَفَأ إنسانا» المراد به: الذكر، وربما يقال للأنثى من صاحباتها وزميلاتها يقول: «بارك الله لك» أي: في أهلك، أي: وضع البركة فيك، والبركة تشمل البركة في العلم والبركة في الأخلاق، كما تشمل البركة في الرعاية، والبركة في الأولاد، أي: أن كل ما يمكن أن يكون فيه بركة فهو داخلي في هذا، إذن معنى هذا: يبارك الله لك في أهلك بكثرة الأولاد يبارك في أهلك بالخلق والرعاية الحسنة، يبارك في أهلك بالاستمتاع المهم بارك لك في كل ما تأتى في البركة، والبركة قال العلماء: هي الخير الكثير الثابت، لأنه مأخوذ من البركة أي: بركة الماء، وبركة الماء كما نعلم كثيرة وثابتة، كثيرة الماء ليس كالماء الذي في الإناء، وثابتة أيضا لأنها لا تجري. وقوله: «وبارك عليك» أي: أنزل عليك البركة لأهلك، فإذن يكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) دعا للرجل فى أهله ولأهله فيه، «بارك عليك»، وهل يمكن أن يُقال: إن البركة هنا عامة بالنسبة لأهله وله، يعني: بارك الله لك في كل شيء وبارك عليك في كل شيء؟ قد يقال: إنها عامة، وقد قال: إنها خاصة، والذي يخصصها هي قرينة الحال، لأن الدعاء له مناسبة فينزل على هذه المناسبة،

ولهذا نجد أن اللين يباركون للمتزوج لا يخطر في بالهم أن يُبارك له في ماله، وإنما يقصدون أن يبارك له في أهله، فإذن يمكن أن نقول: إن العموم هنا لا يُراد وإن كان اللفظ صالحا له؛ لأن قرينة الحال تقتضي تخصيصه. «وجمع بينكما في خير» أي: بينك وبين أهلك في خير ديني ودنيوي، فيشمل كل ما يمكن من الخير، فهذه ثلاث جمل: «بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير». ترفئة الجاهلية كم؟ اثنتان قاصرتان لفظا ومعنى، ومن العجب أن بعض السفهاء منا إذا رفا أحدا قال: بالرفاء والبنين عودًا على الجاهلية، ومثل هذا لا يجوز، لأن استبدال اللفظ الإسلامي الذي وضعه النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى لفظ جاهلي منسوخ يدل على رغبة الإنسان عن السنة لكن الغالب على هؤلاء أنهم جهال لا يعرفون ما قاله الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا يدركون خطورة إرجاع الناس إلى الجاهلية فهذا خطر عظيم، ولهذا يجب أن تمُحي كل ما يتعلق بأمور الجاهلية مما لا يقره الإسلام، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية». إذن في هذا الحديث بحث: أولاً: «بارك الله لك»، هل هو خبر أو إنشاء؟ خبر بمعنى الإنشاء؛ لأن «بارك» فعل ماض، لكن لا يراد الخبر، يُراد الطلب، أي: أنك تسأل الله أن يبارك له وعليه. ثانيا: هل يشرع هذا القول للرجل وللمرأة؟ قلنا: بالنسبة للرجل لا شك فيه، وأما بالنسبة للمرأة فقد يُقال: إنه مشروع من النساء. ومن فوائد الحديث: أنه يُشرع قوله لمن تزوج، أما من خطب فلا يُشرع له. ومن فوائده أيضًا: أنهُ يُقال لمن تزوج وإن لم يحصل الدخول؛ لأن الإنسان بمجرد العقد يصبح زوجا للمرأة، والمرأة زوجة له، لو مات ورثته ولو ماتت ورثها فيُدعى له بالبركة. ومن فوائد الحديث: أنه لا تشرع المصافحة عند الترفئة، الدليل عدم الدليل، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يفعله ولو كان يفعله لنقل مع القول؛ لأنه يبعد أن الصحابة يعقلون سنة جُمعت إلى سنة أخرى، يعني: يبعد أن الرسول كان يُصافح ويقول هذا الذكر ثم يُنقل هذا الذكر، ولا تُنقل المصافحة؛ ولأن المصافحة لا وجه لها في هذه الحال، إنما المصافحة تكون عند الملاقاة والسلام، يتفرع على هذه الفائدة: أن التقبيل أيضًا أبعد وأبعد خلافا لعُرف الناس اليوم، حيث إنه يُصافح ويقبل، وربما ضم ضمة يتنفس متها الصعداء، على كل حال: هذا ليس بمشروع لا المصافحة ولا التقبيل.

خطبة الحاجة

ومن فوائد الحديث: أن التهاني والتحيات الإسلامية تجدها خيرا وأكثر بركة من التحيات التي ليست إسلامية بحتة مثل: أن يقتصر الإنسان على قوله: «مرحبا»، «أهلاً مرحبا» يعني: حللت مكانا واسعًا، أهلاً حللت أو نزلت أهلاً ما الفائدة في مثل هذه التحيات أليست هي إكرام فقط؟ لكن «السلام عليكم»، تحية ودعاء، «بالرفاء والبنين» كذلك إذا كان يتضمن دعاء فهي دعاء في أمر دنيوي؛ لكن «بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير» تشمل الخير في الدُّنيا والآخرة، فأنت إذا تأملت ما يحصل من السّنن التي جاء بها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في مثل هذه المناسبات وجدت أنها خير ودعاء وبركة وصلاح. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي اللجوء إلى الله (عز وجل) في كل الأمور عند الفرح وعند الحزن، فعند الزواج أسأل الله البركة للزوج وعليه، وأن يجمع بينه وبين أهله في خير. خطبة الحاجة: (929) - وَعَنْ عَبد الله بن مَسعُود (رضي الله عنه) قَالَ: «عَلَمَنَا رَسُولُ الله التَشهُدَ في الحَاجَة: إنّ الحَمْدُ لله، نحمده، ونستعينه، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنعُوذ بالله مِنْ شَرُور أنفسنَا، مَنْ يَهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ويقرأ ثلاث آيات». وراه أحمد، والأربعة، وحسنه الترمذي، والحاكم. قوله: «علمنا» هذا من دأب النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يعلم أصحابه تعليمًا ابتدائيا وتعليمًا سببيًا، يعني: تعليمه تارة يكون لسبب يسأل فيجيب، وتارة يكون ابتدائيا بدون سبب. وقوله: «التشهد في الحاجة»، التشهد إذا قرأت ما علمه وجدت أن في إحدى جُمله «أشهد أن لا إله إلا الله»، وأطلق على كل هذا الذكر التشهد؛ ولأنه أشرف ما فيه كلمة التوحيد الكلمة التي يدخل بها الإنسان في الإسلام، كما قيل في التحيات لله والصلوات والطيبات يقال التشهد؛ لأن أشرف ما فيها «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله» وقوله: «في الحاجة»، أي: إذا أردنا حاجة نتشهد هذا التشهد لكن ليس كل حاجة، الحاجة ذات الخطر والاهتمام، بدليل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يُسأل في أشياء ليست ذات أهمية ولا يقرأ هذه الخطبة، لكن المراد الحاجات ذات الأهمية ومنها المواعظ والخطب التي في الجمعة والتي في غيرها وهي: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ... » إلخ، «إن الحمد لله» هذه جملة خبرية مؤكدة بـ «إن» كما أكدت في التلبية: «إن الحمد والنعمة لك»؛ وذلك لأن المحمود علي کل حال هو والمستحق للحمد علي کل حال هوا الله -سبحانه وتعالى- وقوله «الله» هذه للاختصاص

والاستحقاق، فالحمد الكامل خاص بالله مختص به لا يكون لغيره لأن غيره يحمد علي شيء معين، أما الحمد المطلق الكامل فهو لله أيضا الحمد المطلق الكامل لله على وجه الاستحقاق يعني أنه أهل لأن يحمد، وكم من محمود ليس أهلاً لأن يُحمد، إذن الجملة مؤكدة بـ «إن»، و «الحمد»، هو وصف المحمود بالكامل، واللام في قوله: «لله» للاستحقاق وللاختصاص، أما كونها للاستحقاق فإنه لا أحد يستحق الحمد أصلاً إلا الله (عز وجل)، وغيره إن حُمد فإنما يُحمد فرعًا، لأن كل من أحسن إليك فإنما هو بأمر الله وبإذن الله فيكون حمده حمد فرع لا حمد أصل، أما الذي يستحق الحمد فهو الله (عز وجل)، والاختصاص باعتبار الحمد المطلق الكامل فهو خاصاً بالله، لأن غير الله قد يحمد على شيء ويذم على شيء آخر، لا أحد يكون له الحمد المطلق من کل وجه إلا الله -سبحانه وتعالى-. «نحمده» الجملة هذه إما أن تكون مؤكدة لما قبلها، وإما أن يكون المراد بالجملة الأولى الخبر، يعني: أن الله مستحق بالحمد مختص، ونحمده الإنشاء، يعني: أننا نحمده تُنشى الحمد له، فعلى الاحتمال الأول تكون الجملة تأكيدا لما قبلها، وَعَلى الاحتمال الثاني تكون الجملة المستأنفة لمعنى غير المعنى الأول، والقاعدة عند أهل العلم أنه إذا دار الكلام بين التأسيس والتأكيد فالتأسيس أولى، لماذا؟ لأن التأسيس يفيد معنى جديدًا، والتوكيد لا يفيد غير المعنى الأول إلا أنه يقويه فقط ولهذا من القواعد عندهم أن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التوكيد. «ونستعينه» نطلب منه العون على كل الأمور، لاسيما في الأمر الخاص الذي قدم بين يديه هذه الخطبة ولذلك مثلاً: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] على كل الأمور لاسيما العبادة، «ونستغفره»: نطلب منه المغفرة، والمغفرة هي أن الله يستر ذنبك عن العباد في الدُّنيا والآخرة ويتجاوزه عنك فلا يُؤاخذك به، فلا تتم المغفرة إلا بهذين الأمرين: ستر الذنب، والثاني: التجاوز عنه؛ وذلك نظر لأصل الاشتقاق؛ لأن المغفرة مشتقة من المغفر وهو ما يستر به الرأس عند القتال، وفي هذا المغفر ستر ووقاية، إذن «نستغفره» نطلب منه المغفرة لكل الذنوب؛ لأن الذنوب سبب للفشل وتعسير الأمور، ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجًا، حتّى إن الذنوب سبب للحيلولة دون الوصول إلى الصواب في الحكم، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 105 - 106].

قال بعض العلماء": إن هذه إشارة إلى أن الذنوب تحول بين المرء والصواب، وأنه ينبغي للإنسان عند الفتوى أو الحكم بين الناس أن يقدم الاستغفار حتى يزول عنه آثار الذنوب، فهنا تسأل المغفرة، لأن مغفرة الله لك سبب لتيسير أمورك فاستعانة واستغفار، وليس في الحديث: «نستهديه»، وليس فيه: «نتوب إليه»، ولكن بعض الناس يقولها، وإذا لم تكن واردة في الحديث فلا ينبغي إدخالها فيه لأن الإنسان إن أراد أن يخطب خطبة مستقلة يفعل ما شاء، ويقول ما شاء مما ليس بمُحَرَّم، لكن كونه يركز على خطبة معينة ويدرج فيها ما لم يرد هذا فيه شيء من النظر، ولهذا لا حاجة أن نقول: «نستهديه ونتوب إليه»، لأن ذلك لم يرد. يقول: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا»، «نعوذ» أي: نلجأ إليه ونعتصم به من شرور أنفسنا، والأنفس لها شرور ولها خيرات، وذلك أن الله تعالى جعل في الإنسان نفسا مطمئنة ونفسنا أمارة بالسوء ونفسنًا لوامة وكلها في القرآن: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1 - 2]. {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28]. {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، هذه النفوس الثلاث هي في ابن آدم وهو يعرفها آثاره، فالنفس المطمئنة تأمرك بالخير وتنهاك عن الشر، والنفس الأمارة بالسوء تأمرك بالسوء والشر، واللوامة قيل: إن اللوَّامة وصف صالح للنفسين جميعًا، وعلى هذا فلا تكون نفسنا ثالثة فيقولون مثلاً: اللوامة تلومك إذا فاتك الشر، واللوامة الأخرى تلومك إذا فاتك الخير فالأولى تنزع إلى النفس الأمارة بالسوء، والثانية تنزع إلى النفس المطمئنة وليست نفسا ثالثة، وهذا ليس ببعيد، لكن النفس التي فيها الشر هي النفس الأمارة بالسوء، شرور النفس تشمل البدايات والغايات، أما البدايات فهي ما يرد عليك من الأمر بالفحشاء وترك المأمورات هذه بدايات، أما الغايات فهي ما يترتب على هذه الشرور التي أمرتك بها نفسك الأمارة بالسوء قد تكون الغايات أشد وقعًا من البدايات، وانظر إلى قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]. فجعل الله تعالى إعراض الإنسان عن قبول الحق نتيجة لذنوب سبقت وليست كل الذنوب: {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] حَتَّى إن بعض السلف -رحمهم الله- إذا نام عن قيام الليل قال: ما حُرمت قيام الليل إلا بمعصية ثم يجدد لنفسه توبة؛ لأنهم يعلمون أن الإنسان لن يترك الطاعات أو يكون في المعاصي إلا نتيجة لمعاصٍ سابقة، فإن الإنسان إذا تقرب إلى الله زاده الله قربا وعصمه من الذنوب.

إذن شرور النفوس تنقسم إلى بدايات وغايات، فالبدايات هي الذنوب التي يفعلها الإنسان، والغايات هي عقوبات هذه الذنوب، وكلها ولا شك شرور سببها النفس. «من يهده الله فلا مضل له» يعني: من يُقدر هدايته ومن يهده بالفعل فلا مضل له، فإذا أراد الله هداية شخص فإن الناس لا يستطيعون أن يضلوه أبدًا مثاله: رجل منحرف؛ ما من معصية تُذكر إلا ذهب إليها وباشرها فصار فيه فتح من الله، أراد أن يتجه للخير فجاءه قرناء السوء يقولون: لماذا تخرج عما أنت فيه؟ لماذا تميل إلى كذا؟ هؤلاء لا يستطيعون، إذا كان الله قد أراد هدايته لا يستطيعون أن يصدوه أو يمنعوه أبدًا مهما حاولوا لأن الله قدّر هدايته، كذلك الإنسان الذي قد اهتدى بالفعل، وقد أراد الله أن يستمر على ما هُوَ عليه لا يستطيع أحد أن يهديه. إذن من يهذه الله تقديرا وفعلاً فإنه لا أحد يضله فلا مضل له. «ومن يضلل فلا هادي له»، كذلك من يضلل تقديرًا أو فعلاً فلا هادي له، وأكبر مثل على ذلك أبو طالب عم النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي صار منه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إحسانا بالغًا مدافعة عظيمة ومع هذا لم يتمكن النيي (صلى الله عليه وسلم) من هدايته حَتَّى في آخر لحظة قال له: «قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله». ولكنه حيل بينه وبينها -والعياذ بالله- لأن الله لم يرد هدايته، والذي يُضله الله لا هادي له. فإذا قال قائل: هاتان الجملتان قد يكون فيهما تأييس من دعوة الضالين إلى الهداية؛ لأن الإنسان قد يقول: إن الله قد أراد إضلال هؤلاء فكيف أحاول أن أهديهم؟ قلنا: هذا الظن، أي: أن يظن الإنسان أن هذا مدلول الكلام خطأ، بل المعنى: أنك إذا أردت الهداية فلا تطلبها إلا من الله، وأنك إذا فعلت ما أمرت به من الدعوة إلى الخير ولكن المدعو لم ينتفع فحينئذ تُفوض الأمر إلى الله، وتقول: لو أراد الله هدايته لاهتدى، «فمن يضلل فلا هادي له»، وكذلك: «من يهده الله فلا مُضَلِّ له». المقصود: أن نعتصم بالله -سبحانه وَتَعَالَى-، حتى لا يضلك أحد. قال: «وأشهد أن لا إله إلا الله ... » إلخ الشهادة في الأصل من المدركات الحسية التي تُدرك بالجسر يشاهدها الإنسان، ولكن تُطلق أحيانا على المعلوم يقينا حتى كأنه مُشاهد، وإلا فالأصل أنها من المدركات الحسية شهدت الهلال، شهدت الشمس، شهدت فلانا وهو يفعل كذا وكذا، ولكن تُطلق أحيانا على ما كان معلومًا يقينا كأنه مُشاهد بالحس، فأشهد أن لا إله إلا الله، يعني: أقر وأعترف اعترافا يقينيا كالمشاهد بالعين أنه لا إله إلا الله، وَ «لا» هنا نافية للجنس،

والنافية للجنس نص في العموم لا تحتمل الاتباع في المنفي، فإذا قلنا: «لا إله إلا الله» لم تحتمل إثبات إله سوى الله، وقوله: «إله» بمعنى: مألوه، فهي فعال بمعنى: مفعول، وصيغته هذه موجودة في اللغة العربية كثيرا، فإنه يقال: غراس بمعنى: مغروس، وفراش بمعنى: مفروش، وبناء، بمعنى: مبني، فمعنى: «لا إله»، أي: لا مألوه، وما معنى المألوه؟ الذي تألهه القلوب محبة وتعظيمًا، تألهه بمعنى: تقبله وتركن إليه وتخضع له محبة وتعظيمًا «إلا الله». فإن قال إنسان: هذه الشهادة يكذبها الواقع، لأنه توجد آلهة تُعبد من دون الله اللات والعزى ومناة وهبل، ويوجد ناس يعبدون البقر ويتبركون بأبوالها وأرواثها ويحرمون قتلها أو ذبحها، ويوجد ناس يعبدون الشمس ويعبدون القمر، كيف نقول: «لا إله إلا الله» أي: لا معبود ولا مألوه إلا الله؟ نقول: بين الله (عز وجل) أن هذه الآلهة باطلة أسماء بلا مسميات: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40]. فقط وليست مسميات؛ فاللات ليست إلها وإن سميتموها إلها؛ لأنها لا تخلق ولا ترزق ولا تنفع ولا تضر، قال إبراهيم لأبيه {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 42] فإذن يصدق هذا النفي أنه لا إله إلا الله، فإذا أورد إنسان علينا هذا الإيراد قلنا: هذه الآلهة باطلة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [لقمان: 30]، وما هي إلا أسماء دون مسميات فالألوهية منتفية عنه. إذا قال قائل: قد علمنا في القواعد النحوية أن «لا» النافية للجنس لا تعمل إلا في النكرات فهل لفظ «إله» نكرة أو معرفة؟ نكرة، «الله» - لفظ الجلالة- معرفة - أعرف المعارف - هل عملت فيه «لا»؟ بعضهم يقول: عملت فيه ويجعل الله (لفظ الجلالة) خبر «لا» ويُسهل عملها في المعرفة هنا الفصل بينهما وبين الخبر بـ «إلا»، وهذا الفصل يمنع التركيب، وبعضهم يقول: إن الخبر محذوف، والله (لفظ الجلالة) بدل منه، وذلك لأن التام المنفي يجوز فيه البدل والنصب عَلى الاستثناء، فيجوز لا إله إلا الله ويجوز: لا إله إلا الله، فالله (لفظ الجلالة) هنا بدل، والأرجح أنه بدل، فالله (لفظ الجلالة) بدل من الخبر، والخبر محذوف، والتقدير: حق، وأما من قدره «لا إله موجود» فهذا خطأ؛ لأنه يكذبه الواقع إلا من يقولون بوحدة الوجود وأن الكون كله شيء واحد، فهؤلاء يقدرون موجودًا، يقول: لا إله موجود إلا الله، فالواجب أن يكون التقدير، أي: تقدير المحذوف: «حق»، أي: لا إله حق إلا الله. «وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله»، أي مُحَمّد؟ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، «عبده ورسوله» عبد الله ورسول الله، فيوصف بالعبودية، وبهذا يكون قد انتفى عنه حق الربوبية، لأنه ليس له حق من الربوبية إطلاقًا، حتى إنه أنكر على شخص قال: ما شاء الله ?

وشئت، قال: «أجعلتني لله ندًا؟ »، مع أن للإنسان مشينة تمنع وتدفع، ومع ذلك قال: «أجعلتني لله ندًا؟ » فهو عبد، بل هُوَ (عليه الصلاة والسلام) أشد الناس تحقيقًا للعبودية، قال (صلى الله عليه وسلم) وهو الصادق: «إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له»، فهو عبد الله وبهذا الوصف انتفى عنه حق الربوبية، «ورسوله»، يعني: مُرْسله إلى الخلق، إلى الجن والإنس (صلى الله عليه وسلم)، وبهذا الوصف أنتفى عنه الكذب فهو عبد لا يُعبد، ورسول لا يكذب (صلى الله عليه وسلم). «ويقرأ ثلاث آيات» يعني: يقرأ في هذه الخطبة، فإذا انتهى إلى قوله: «عبده ورسوله» قرأ الآيات وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. ثم يتكلم عن الموضوع اللي خطب من أجله، في هذه الخطبة يقول: «أشهد أن لا إله إلا الله» وفيما قبلها من الجمل: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه»، قال: «نحمده»، وفي الشهادة قال: «أشهد»، ولم يقل: نشهد، فهل هذا مجرد اختلاف تعبير وأسلوب فهو بلاغة لفظية أو أن المعنى يختلف؟ نقول: المعنى يختلف؛ وذلك لأن الاستعانة والاستغفار تكون لجميع الأمة، بمعنى: أن الإنسان يستغفر لنفسه ولغيره، ولهذا قال الله تعالى في وصف التابعين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. وقالوا: نستغفر جميعًا، بأن يكون كل واحد منا يستغفر للآخر، ونستعين جميعًا، أي: كل واحد منا يستعين الله للآخر، أما الشهادة فهي خبر عما في نفس القائل لا يشركه فيه آخر؛ لأنها توحيد، فلهذا قال: «أشهد» ولا يشاركه أحد في هذه الشهادة؛ لأنها إخبار عما في قلبه، أما الأول فهو طلب، «نستعين»: نطلب العون، «نستغفر»: نطلب المغفرة، والإنسان يطلب المعونة لنفسه ولإخوانه، ويطلب المغفرة لنفسه ولإخوانه، أما الشهادة فهي خبر عما في نفسه، وليست خبرا عما في نفس غيره ولذلك قال: «أشهد .... إلخ». في هذا الحديث فوائد عديدة منها: حرص النيي (صلى الله عليه وسلم) على إبلاغ الرسالة وهداية الأمة لقوله: «علمنا». ومن فوائد الحديث: تسمية الشيء بأفضل ما جاء فيه، حيث أطلق على هذه الخطبة التشهد.

ومن فوائد الحديث: استحباب تقديم هذه الخطبة بين يدي الأمور الهامة لقوله: «التشهد بالحاجة»، وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب هذه الخطبة عند عقد النكاح، وقالوا: يجب عند عقد النكاح أن تُقرأ هذه الخطبة؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) عَلمهم إياها، وهذا يدل على اهتمامه بها ولكن الصحيح خلاف ذلك، وأن تلاوة هذه الخطبة سنة وليست بواجبة، بدليل أن النيي (صلى الله عليه وسلم) زوج الرجل الذي طلب منه أن يزوجه المرأة التي وهبت نفسها للرسول (صلى الله عليه وسلم) ولم يقرأ هذه الخطبة بل قال: «زَّوَجْتُكَهَا بما معك من القرآن». ومن فوائد هذا الحديث: إثبات الحمد الكامل لله وأنه مختصر به ومستحق له؛ لقوله: «إن الحمد لله». ومن فوائده: طلب المعونة والمغفرة من الله وحده؛ لقوله: «نستعينه ونستغفره». فإن قال قائل: هل تجوز الاستعانة بغير الله؟ الجواب: نعم، إذا كان المستعان قادرا على ذلك، قال النيي (صلى الله عليه وسلم): «من استعانكم فأعينوه»، وقال: «والله في عون العبد ما كانَ العبد في عون أخيه»، وقال: «تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع عليه متاعه صدقة»، فإن استعان بميت لا يجوز، لماذا؟ لأنه غير قادر، فإن اعتقد أن له تأثيرا سريا كان ذلك شركا أكبر، الاستغفار هل يُطلب من غير الله هل يصح أن تقول: يا فلان، اغفر لي؟ يصح أن تطلب منه المغفرة عن حقه الخاص، قال الله تعالى: {وإن تَعْفُوا وَتَصَفَحُواً وتَغْفِرُواً فإنَ الله غَفُور رَّحِيمٌ} [التغابن: 14]. أما أن تطلب المغفرة عن حق الله فهذا لا يمكن، قال تعالى: {وَمَن يَغْفِرُ الذّنوب إلا الله} [آل عمران: 135]. ومن فوائد الحديث: أن الاستعاذة تكون بالله: «نعوذ بالله من شرور أنفسنا»، هل الاستعاذة تكون بغير الله؟ تكون بغير الله فيما يقدر عليه، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لما ذكر ما ذكر من الفتن: «فَمن وجد مُعَاذًا فليُعذ به»، وقد وردت عدة أحاديث في إثبات الاستعاذة للمخلوق لكن يُشترط فيما يقدر عليه. ومن فوائد الحديث: أن الله أرحم بنا من أنفسنا لقوله: «شرور أنفسنا»، فاستعذت بالله من نفسك، إذن فالله أرحم بنا من أنفسنا، وهذا له أدلة غير هذا، قال الله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. فنهانا عن قتل أنفسنا؛ لأنه أرحم بنا من أنفسنا.

ومن فوائد الحديث: أن للنفوس شروراً لقوله: «نعوذ بالله من شرور أنفسنا». ومن فوائد الحديث: أن من قضى الله هدايته فإنه لا يمكن أن يُضله أحد لقوله: «من يهده الله فلا مُضل له». ومن فوائد الحديث: أن فيه إشارة إلى أن الإنسان يلجأ إلى الله في طلب الهداية لا إلى غيره، لقوله: «من يهده الله». إذن أطلب الهداية من الله، وربما تُؤخذ من قوله: «ومن يضلل فلا هادي له»، أخشى أن يضلني الله فأطلب منه الهداية. ومن فوائد الحديث: أنه يجب أن يعلن الإنسان بلسانه ما يعتقده في قلبه من انفراد الله بالألوهية وثبوت العبودية والرسالة لمحمد (صلى الله عليه وسلم) من قوله: «وأشهد ... إلخ»؛ لأن مجرد الإقرار بالقلب لا يكفى بل لابد من النطق باللسان، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «أُمرت أن أقاتل الناس حَتَّى يشهدوا أن لا إله إلا الله»، وقال: «يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» فقال: «قولوا» فلابد من القول مع الاعتقاد. ومن فوائد الحديث: أن لا إله حق إلا الله، ويتفرع على هذه الفائدة: أن كل ما عبد من دون الله فهو باطل. ومن فوائد الحديث: إثبات العبودية للنبي (صلى الله عليه وسلم) لقوله: «عبده»، ويتفرع منها: الردِّ على الغلاة في الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذين يدَّعُون أنه رب أو أنه له حقاً من الربوبية بالإغاثة من الكُربات وإجابة الدعوات وغير ذلك وقد شاهدنا في المسجد النبوي مشاهد تدل على هذا، حيث إن بعض العامة إن أرادوا الدعاء يتجهون إلى القبر ويجعلون القبلة عن أيمانهم وكأنهم يصلون بين يدي الله، وهذا لا شك أنه غلو سواء كانوا يدعون الله متجهين إلى القبر أو كانوا يدعون صاحب القبر (صلى الله عليه وسلم). ومن فوائد الحديث: إثبات الرسالة للرسول (صلى الله عليه وسلم) لقوله: «ورسوله». ومن فوائده: تشريف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بإضافة عبوديته ورسالته إلى الله. ومن فوائد الحديث: إثبات رحمة الله بالخلق، حيث أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم ولم يجعله ملكا؛ لأنه لو جعله ملكا أي: لو أرسل ملكا إلى أهل الأرض من البشر لجعله رجلاً أي على هيئة رجل؛ لأن البشر لا يألفون من ليس من جنسهم، وهو أيضا لا يألفهم، ولهذا قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8، 9]. يعني: لعاد الاشتباه عليهم كما يزعمون، مع

أنه لا يشتبه الرسول الذي يرسله الله من البشر؛ لأن الله يعطيه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، فالله تعالى لا يرسل الرجل أني رسول الله إليكم فآمنوا بي، ومن كفر بي فإني أستبيح دمه وأهله، بل يعطيه آيات يُؤمن على مثلها البشر، يقول: «يقرأ ثلاث آيات»، هي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]. وفي هذه الآية يُنادي الله المؤمنين بوصف الإيمان، ويأمرهم أن يتقوا الله حق تقاته، يعني: التقوى الحق، يعني: من باب إضافة الصفة إلى: موصوفها والتقوى الحق هي المبنية على الإخلاص لا على المراعاة، لأن من الناس من يتقي الله رياء وسمعة، يتقي الله في العلانية ويعصيه في السر، هذا لم يتق الله حق تقاته، وينهى الإنسان أن يموت إلا على الإسلام: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. فإن قال قائل: هذا النهي في غير المقدور؛ لأن الإنسان لا يقدر ألا يموت إلا وهو مسلم؟ وكيف يمكن؟ والجواب: أن الله تعالى لن ينهى عن شيء غير مستطاع تركه، ولا يأمر بشيء غير مستطاع فعله، وكيف يستطيع الإنسان ألا يموت إلا مسلمًا، يستطيع ذلك بأن يثابر على العمل الصالح في حياته، والله -سبْحَانه وتعالى- أكرم من أن يخذل شخصا أمضى عمره في طاعة الله، فإذا نشأ الإنسان في طاعة الله ومرن نفسه على الطاعة، فإن الله يشكر له حتّى يُحسن له الخاتمة ويموت على الإسلام، وإلا فمن المعلوم أن الإنسان ليس في استطاعته ألا يموت إلا مسلمًا، لكن باستطاعته أن يقوم بعمل يكون له به خسن الخاتمة بالعمل الصالح، ولا يُنافي هذا ما جاء في حديث ابن مسعود (رضي الله عنه): «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حَتَّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها»، لا يُعارض ما قلنا؛ لماذا؟ لأن حديث ابن مسعود مقيد بما ثبت في صحيح البخاري: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار»، وهذا نعمة -ولله الحمد- أن الإنسان لا يُخذل إذا صدق مع الله لأن الله أكرم من عبده، فإذا كان هذا الرجل مُفنيًا عمره في طاعة الله فليبشر بالخير: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ}، وبعده {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223]. بشارة للإنسان قبل أن تحصل الملاقاة ما دمت مؤمنًا لا تخف من الملاقاة؛ لأن لك البشارة. الآية الثانية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم ... } الآية. {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1]. هي نفس آدم، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} المخلوق منها أنثى، فكيف قال: {زَوْجَهَا}؟ نقول: اللغة الفصحى أن الزوج مذكر سواء كان للأنثى أو للرجل لكن فيه لغية لتأنيث الزوج إذا كان للأنثى

واعتمدها الفرضيون -رحمهم الله- من أجل التمييز بين المسائل؛ لأنك لو قلت: هلك هالك عن زوج وبنت وأم، فالإنسان يُشكل عليه من هذا الزوج تعطيه ربع أو ثمن فإذا بين الزوجة، إذا كان المراد الأنثى زال الإشكال ولهذا اعتمد الفرضيون بالتزام التاء فيما إذا كانت أنثى، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني: حواء، هكذا سمّاها النبي (صلى الله عليه وسلم) حواء بالمد قال: «لولا حواء لم تكن أنثى زوجة، ولولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم» يعني: لكان اللحم لا يفسد لكن عُوقبوا فصار يفسد، {وَبَثَّ مِنْهُمَا} أي: من هذين الزوجين {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} أيهما أكثر؟ النساء في الواقع أكثر من الرجال، واستدل شيخ الإسلام (رحمه الله) بقول النبي (صلى الله عليه وسلم) للنساء: «إنكن أكثر أهل النار»، وأن أهل النار من بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون من الألف وقال: هذا دليل على أن النساء أكثر، لكن قوله: {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} وصف الرجال بالكثرة دون النساء، لأن كثرة الرجال هي التي تغني، أما كثرة النساء فليس فيها إلا العبء والعويل، وإن أردت أن تعرف انظر عند الشدائد من الذي يقابله؟ الرجال، والنساء لهن لطم الخدود وشق الجيوب ونتف الشعر، ولهذا وصف الرجال بالكثرة من أجل أن كثرتهم هي المفيدة، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ... } إلخ، اتقوا الله والأرحام، فتقوى الله بطاعته، وتقوى الأرحام، أي: تقوى إثم الأرحام إذا قُطعت، وهذا يعني: الأمر بصلة الأرحام، ومَن الأرحام؟ هم الأقارب، قال الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] 0. وليس الأرحام ما يتعارفه العامة اليوم وهم الأصهار؛ لأن الأرحام عند العامة هم أقارب الزوج أو الزوجة، ولكن اللغة العربية تُسمي أقارب الزوج والزوجة أصهارا: {إنَّ الله كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 176] خف من هذه الجملة كان الله عليكم رقيبًا في كل الأحوال، فإن شئتم ألا تتقوا الله فافعلوا ولكن عليكم من الله رقابة. أما الآية الثالثة فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] إلخ. ففي هذه الآية يأمر الله المؤمنين بأن يتقوا الله ويقولوا قولاً صائبًا يحصل به سد الخلل، وما هُوَ القول السديد؟ هو كل قول يكون به مصلحة دينية أو دنيوية فهو قول سديد، ويشبه هذا قول النيي (صلى الله عليه وسلم): «مَنْ كانَ يُؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت». أمر الله بشيئين وذكر جزاءين: {اتَقُوا الله وَقُولُواً قولا سديدا} الجزاء: {يُصلح لَكُمْ أَعُمالَكُمْ وَيَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 71]، يصلح لكم أعمالكم في الدُّنيا سواء كانت الأعمال عملاً دنيويا أم عملاً دينيًا، فإن الله تعالى يُصلحه إذا اتقى الإنسان ربه وقال قولاً سديدا، {ويَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي: ما يقع منكم من الذنوب يغفره

آداب الخطبة: حكم النظر إلى المخطوبة وضوابطه

الله جزاء لتقواكم وقولكم القول السديد، ثم قال جملة عامة: {وَمَن يُطع الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَاز قوّرًا عظيمًا} [الأحزاب: 71]، والفوز هو حصول المطلوب والنجاة من المرهوب، ودليل ذلك قوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]. فبالزحزحة عن النار يحصل زوال المكروه وبإدخاله الجنة يحصل المطلوب، فالفوز هو هذا، {فَقَد فاز قوّرًا عظيمًا}، [الأحزاب: 71] ومَن يعص الله ورسوله فقد خسر، وفي نفس السورة: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36] فالإنسان العاصي ضال ضلالاً مبينا، والإنسان المطيع فائز فوزاً عظيمًا، وانظر أي الطريقين تريد؟ الطاعة التي بها الفوز في الدُّنيا وفي الآخرة. آداب الخطبة: حكم النظر إلى المخطوبة وضوابطه: ? ? 0 - وعن جابر (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إذَا خَطبَ أَحَدُكُم المرأة، فَإِن استطاع أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى مَا يَدْعُوهُ إلى نكاحها، فَلْيَفْعَل». رَوَاهُ أحمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَرِجَاله ثقات، وصححه الحاكم. وإذا خطب أحدكم يعني: إذا أراد أن يخطب كما جاء في الرواية الأخرى عند أحمد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إذا ألقى الله في قلب امرأة خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها». فإذا أراد أن يخطب امرأة فلينظر، والتعبير بالفعل عن إرادته كثير في القرآن وفي السنة، ففي القرآن في قوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} [النحل: 98] يعني: إذا أردت أن تقرأ، وفي السُنة: «كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا دخل الخلاء قال: أعوذ بالله من الخبث والخبائث» أي: إذا أراد الدخول، ولا يعبر بالفعل عن إرادته إلا إذا كانت الإرادة جازمة وكان الفعل متعقبا لها، فمثلاً إذا قرأت القرآن فاستعذ لابد من إرادة جازمة، ولابد أن تكون القراءة متعقبة للإرادة، أما أن يريد أن يقرأ مثلاً بعد العصر فلا يمكن أن يعبر عنه بأنه قرأ في الصباح، لأنه قد بعُد الزمن بين الإرادة والفعل. قال: «إذا خطب»، وأصل الخطبة هو طلب الزواج والنكاح، وكانوا إذا أرادوا ذلك قدّموا بين يدي هذا الطلب خطبة يجعلونها وسيلة للقبول، فمثلاً يذهب الرجل إلى أهل المرأة ويخطب، فيخبر عن نفسه، ثم يقول: وأنا أتقدم إلى ابنتكم أو ما أشبه ذلك، ولكن هذا الأسلوب يختلف باختلاف الناس وباختلاف الأحوال، أحيانا يمكن للإنسان أن يذهب بنفسه

إلى ولي المرأة ويخطبها منه، وأحيانا لا يمكنه ذلك وتكون العادة أن يرسل رسولاً، وأحيانا لا يمكنه ذلك، وتكون العادة أن يكتب كتابًا. قال: «فإن استطاع»، يعني: إن قدر، وذلك لأن النساء ذوات الخدور لا يستطيع أن يراهن كيفما أراد، ولكن إن استطاع بالمحاولة فليفعل، وكانوا يختبئون للمرأة حَتَّى ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها. وقوله: «إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل»، ما الذي يدعوه؟ أهم شيء هو الوجه، فإن الإنسان إذا رأى أن المرأة جميلة الوجه أقدم على خطبته وتأتي بقية الأعضاء بالتبع، ومن المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يريد منه أن ينظر إلى الفرج وإلى البطن وإلى الظهر وما أشبه ذلك، وإنما يريد أن ينظر إلى ما يظهر غالبًا عند محارمها، هذا هُوَ الذي يُرَخص للإنسان فيه، وقوله: «فليفعل»، اللام هنا للأمر، والأصل في الأمر الطلب الحقيقي، وقد اختلف العلماء في هذا، فمنهم من قال: إن اللام هنا للإباحة لورود ذلك بعد المنع؛ لأن الأصل منع الإنسان من رؤية المرأة، فإذا قيل: إذا كان كذا وكذا فانظر صار الأمر هنا للإباحة كقوله -تبارك وتعالى -: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] فهنا الأمر للإباحة لوروده بعد النهي والمنع، وقال بعض العلماء: بل الأمر هنا للإرشاد والاستحباب ولم أر أحدا قال: إنه للوجوب، فهنا قولان: الأول: أن الأمر للإباحة لوروده بعد المنع؛ لأن الأصل منع نظر الرجل إلى المرأة، والثاني: أنه للإرشاد والاستحباب لما يترتب عليه من المصالح، فمنها: أنه أحرى أن يؤدم بينهما أي: يؤلف بينهما؛ لأنه حينئذ يُقدم على بصيرة إن أعجبته ويترك على بصيرة إن لم تعجبه، ومنها: أن الإنسان لا يُلام على ما لو قال: إنني أتركها، لأن فيها كذا وكذا بخلاف ما لو خطب ثم عزف بدون سبب فإن الناس قد يلومونه، أما إذا كان عن رؤية فسيعلل السبب. ففي هذا الحديث فوائد: أولاً: أنه ينبغي للإنسان أن ينظر إلى المخطوبة وهو بناء على أن اللام للإرشاد والطلب، وهذا هُوَ الراجح أنه للإرشاد وانه ينبغي أن ينظر إلى مخطوبته، ولكن هذا الإطلاق مُقيّد بأمور. الأول: ألا يكون بخلوة فهو حرام، فإن كان بخلوة فهو حرام لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «لا يخلونَ رجل بامرأة إلا مع ذِي محرم». الثاني: أن يكون عازمًا على الخطبة والتقدم، فإن لم يكن عازمًا فلا يفعل، وذلك لأن الأصل تحريم نظر المرأة خولف فيمن أراد الخطبة من أجل المصلحة المترتبة على ذلك، فإذا كان غير عازم فإنه لا يجوز له أن يفعل. الثالث: أن يغلب على ظنه إجابته، يعني: إذا خطب أجيب، فإن كان يغلب على ظنه

العكس فإنه لا يجوز له النظر؛ لماذا؟ لأن النظر هنا لا فائدة منه، إذ إن الفائدة هِيَ أن يقدم على طلب المرأة فيما يُجاب، فإذا علم أنه لن يُجاب إلى ذلك فإنه لا يجوز، مثاله: ما اشتهر عند القبائل، ولاسيما القبائل البدوية أنه لا يمكن أن يزوجوا شخصا غير قبلي، فهنا لو أراد أن يخطب ابنتهم فإنه لا يجوز أن ينظر، لماذا؟ لأنه يغلب على ظنه عدم الإجابة، ومثل ذلك ما يفعله بعض من يدّعون أنهم أشراف وأنهم من سلالة النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يُزوّجون أحدا من غيرهم وهذا لا شك أنه خطأ عظيم، وأنهم بذلك جاهلون، ومع ذلك هم مصممون على ألا يزوجوا إلا من يكون شريفا، فهذا لو تقدم أحد ليس بشريف فإنه لا يجوز أن ينظر؛ لأن الغالب على الظن أنهم لا يُجيبون. الرابع: ألا يتمتع بالنظر إلى المرأة المخطوبة، وبناء على هذا الشرط يكون النظر مقدرًا بقدر الحاجة، فإذا اقتنع من رؤيتها ودخلت خاطره فليكف؛ وذلك لأن ما أبيح للحاجة فإنه يتقدّر بقدرها ولا يجوز أن يزيد عليها، والتمتع بالنظر إليها يفضي إلى الاستمرار في النظر. الخامس: أن أمن ثوران الشهوة، فإن كان لا يأمن فلا يجوز النظر، وفي هذا الشرط شيء من النظر؛ لان الإنسان لا يأمن كل إنسان يتقدم إلى امرأة يخطبها قد لا يأمن، صحيح أن يقال: إذا أحس بالشهوة وجب الكف وأما أن يأمن ثورانها فهذا شيء قد لا يتحقق، لكن متى أحس وجب عليه الكف لخوف الفتنة، إذا تمت الشروط جاز النظر. وهل يشترط أن تكون عالمة بحضور الخاطب؟ لا يشترط، فلو نظر إليها بدون أن تشعر به فلا بأس، ولكن لو كانت عالمة فهل يجوز أن تأتى إليه قصدًا؟ الظاهر أنه في الزمن الأول لا يمكنه هذا لقوله: «إن استطاع أن ينظر»، وهو إلى عهد قريب غير ممكن إطلاقًا، ولا أحد يفكر بأن مخطوبته تأتي إليه عن قصد وعَمَّد، وأظن هذا لابأس به إن شاء الله. ولكن هل يجوز أن يتحدث إليها حديثًا طويلاً؟ الظاهر أنه لا يجوز أن يتحدث إليها حديثًا طويلا، لأن المقصود هو الاستعلام فقط، فإذا حدثها بحديث قصير بحيث يعرف كلامها وصوتها فإن ذلك كافي أما غير ذلك فهي أجنبية منه فلا يتحدث إليها، وكذلك من باب أولى

ألا يتحدث إليها عن طريق الهاتف، لأن الغالب أن هذا الحديث لا يخلو من متعة سواء كان متعة في الحديث أو متعة شهوة، وكثير من الناس يتحدثون إلى مخطوباتهم ربما يبقون الليل كله كما يسألون أحيانا عن هذا مرَّ عليه الليل كله وهو لا يشعر به، لماذا؟ لقوة تعلق قلبه بهذه المحادثة وهذا لا شك على أنه يتمتع بالمحادثة، إذن فسدُ الباب أولى، يُقال الآن أنت عرفتها واقتنعت بها وخطبتها وقبلت فلا حاجة إلى الحديث، فإذا قال: أنا لا أستطيع أن أملك نفسي كما يقولون: هذا يقول: أنا إذا فعلت هذا لم أنم بالليل، نقول: اعقد المسألة بسيطة، وإذا عقدت تحدث معها كل الليل لا يوجد مانع هذا هو الدواء، لأنه ما دام لم يعقد عليها فهي ومَن في السوق سواء فهل يمكن لأحد أن يمسك امرأة في السوق يتحدث إليها هذا الحديث؟ لا يمكن، إذن هذه مثلها تماماً. ومن فوائد الحديث: سمو الشريعة الإسلامية، حيث يطلب من الإنسان ألا يدخل في أمر إلا على بصيرة. ومن فوائده: سدّ باب القلق والندم على الإنسان، وهذا من منهج الإسلام القويم أن الإنسان لا ينبغي له أن يفتح على نفسه باب القلق والندم؛ لأن ذلك يُزعجه ويفسد عليه حياته وربما يفسد عليه دينه، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) فيمن أصابه ما يكره بعد فعل الأسباب: «لا تقل: لو؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان». من الندم والحزن. وهذا الحديث: يدل على ذلك على أنه ينبغي على الإنسان أن يسدّ باب الحزن والندم عن نفسه، وذلك أنه إذا خطبها عن علم وبصيرة زال عنه الندم. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يحرم النظر إلى النساء لقوله: «إذا خطب أحدكم امرأة»، ولو كان النظر إلى النساء جائزًا وكان من عادة نساء الصحابة لكان الإنسان يستطيع أن ينظر سواء كان خاطبًا أو غير خاطب وهو كذلك، وهذا من الأدلة التي يستدل بها على وجوب تحجب المرأة عن الرجال الأجانب. (931) - وَلَهُ شاهد عندَ الترمذي، وَالنَّسَائي: عن المغيرة. وعند ابن مَاجَهُ، وَابن حِبانَ: ومن حديث محمد بن مسلمة.

(932) - وَلِمُسلم: عَنْ أَي هُرَيْرَةً (رضي الله عنه): أنّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لِرَجُل تَرَوّجَ امْرَأة: أنظرت إليها؟ قَالَ: لا. قَالَ: اذَهَب فانظر إليها». «تزوج» يعني: أراد الزواج؛ لأنه لو كان قد تزوجها بالعقد لم يكن للنظر إليها حاجة، ولكن المراد: أراد أن يتزوجها. قال: «أنظرت إليها؟ »، قال: لا، قال: «اذهب فانظر إليها»، وهذا يدل على ما رجّحناه في الحديث الأول أن الأمر للاستحباب والإرشاد، وأنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يتزوج امرأة أن ينظر إليها، ولاسيما إذا كانت من قوم ليسوا بذاك الجمال أو من قوم يكون فيهم نقص في أعينهم أو في أنفهم أو في أفواههم، فإن النظر هنا يكون آكد من النظر إلى المرأة التي تكون من قوم فيهم الجمال وفيهم السلامة من العيوب. فإذا قال قائل: إذا كنت لا أستطيع أن أنظر إليها فماذا يصنع هل يجزئ عن نظري نظر غيري؟ الجواب: نعم، لكن نقول: إن لم يمكن أن تنظر بنفسك فأوص من ينظر مثل أن يكون بينك وبين أخيها أو غيره من محارمها صلة قوية فتطلب منه أن ينبئك عن صفاتها، أو أن ترسل أحدا من النساء اللاتي تثق بهن حتى تنظر ثم تخبرك، ولكن لابد أن تكون المرأة المرسلة ثقة؛ لأن بعض النساء تكون غير ثقة، فإذا ذهبت للخطبة ودس إليها أهل المرأة ما يدسون جاءت إلى الخاطب، وقالت: رأيت البدر وهي لا تصلح! وحدثنا حديثًا عن بعض الإخوان الذينَ عندهم سلامة قلب أنه تزوج ذات يوم ولكن المرأة لما دخل عليها لم تُعجبه، فلما جاء إلى المسجد وكان يتكلم أحيانا يعظ الناس، قال في جملة كلامه: احذروا هؤلاء الخطيبات -يعني: اللاتي يخطبن- فإنها تأتيك، وتقول: عيونها كذا ووجهها كذا وكذا يعني: كبيرا وجميلاً، فإذا دخلت عليها وجدتها هرة مُكفهرة، فلابد من إرسال امرأة ثقة لئلا تغتر. فإذا قال قائل: حَتى لو أرسلت امرأة ثقة، فإن الأعين تختلف والرغبات تختلف، وكم من امرأة جميلة عند شخص وهي عند آخر ليست بجميلة. قلنا: صحيح ولكل نفس مذاق، ولكن إذا لم نستطع الأكمل، فهذا خير من العدم، على كل حال: هذا الحديث يُضاف إلى ما سبق ويكون شاهداً له.

نهي الرجل أن يخطب على خطبة أخيه

نهي الرجل أن يخطب على خطبة أخيه: (933) - وَعَن ابن عُمَرَ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَ رَسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ولا يخطب أحَدُكُمْ عَلَى خطبة أَخِيهِ، حَتَّى يَقُول الخاطب قَبْلَهُ، أوْ يَأْذَنَ لَهُ». مُتَفَقُ عَلَيهِ، وَاللّفظ للبخاري. «لا يخطب»، وفي لفظ: «لا يخطب»، والفرق بينهما: أنه لو قال: «لا يخطب» بالسكون صارت «لا» ناهية، ولا الناهية تجزم الفعل، وأما على رواية: «لا يخطب» بالضم فـ «لا» نافية، والفرق بين النفي والنهي: أن النهي أمر طلب، أو بعبارة أصبح طلب الكف، وأما النفي «لا يخطب»، فإنه يدل على أنه ليس من شأن المؤمن أن يخطب على خطبة أخيه، ولهذا قال العلماء: إن الخبر في موضع الطلب أبلغ من الطلب المحض، كأنه يقول: إن هذا شيء مفروغ منه لا يمكن أن يقع، فإذن الخبر في موضع الطلب أبلغ من الطلب، لماذا؟ لأن الطلب قد يفعل وقد لا يفعل، أما إذا جاءت الجملة خبرية فكأن الأمر مفروغ منه أنه سيفعل، فمثلاً قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] أبلغ من قوله: «وليتربصن المطلقات»، لأن جملة يتربصن خبرية فهي أبلغ من أن تأتي بلفظ الطلب، لأن الطلب قد يفعل وقد لا يفعل، والجملة الخبرية تدل على الوقوع، وأن هذا أمر من شأنه أن يكون ولابد. «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه»، «خطبة»، بالكسر هي طلب الزواج من المرأة، وأما خطبة بالضم فهي الكلمة التي تُقال ويخطب بها، فبينهما فرق يجب على الإنسان أن يعرفه، «أخيه» هنا المقصود: أخيه في الدين، أما أخوه في النسب فإن كان مؤمنا فهو أخ له وإن كان غير مُسلِم فسيأتي القول فيه، قوله: «على خطبة أخيه» أي: أخيه المؤمن: لأن الله (عز وجل) قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وأتى بكلمة «أخيه»، دون «على خطبة الرجل» مثلاً استعطافا وحثًا على عدم الخطبة على خطبته؛ لأنه أخوك، فكيف تعتدي على حقه وتخطب على خطبته، فهو من باب الاستعطاف -استعطاف الإنسان المخاطب -. وقوله: «حَتَّى يترك الخاطب» يعني: يترك الخاطب الذي هو أخيه، ومعنى «يترك» أي: يترك الخطبة ويصرح بالتنازل عنها إما لأهل الزوجة وإما لأحد من أصحابه، المهم: أن يثبت أن الرجل ترك الخطبة. قال: «أو يأذن له» هو بخصوصه مثل أن يسمع شخصًا يقول: أنا أريد أن أخطب بنت فلان

ويكون السامع قد خطبها من قبل فيقول له -أي: السامع- إني قد خطبتها ولكني أذنت لك أن تخطبها، هذا إذن صريح. وقوله: «أو يأذن له»، يدل على أنه لابد من إذن الخاطب، فلو أذن لغيره فإن ذلك لا ينفع؛ لأن الإنسان قد يتنازل عن خطبة المرأة لشخص معين ولا يتنازل عن خطبتها لشخص آخر، مثل: أن يرى أن الخاطب الثاني أو الذي يريد خطبتها أنفع لها منه، إما لغناه أو لعلمه أو لسبب آخر فيأذن له، لكنه لا يأذن إذنا عامًا فهنا يختص الإذن بمن عين وأذن له فقط. في هذا الحديث فوائد: أولاً: حرص الشارع على ثبوت الأخوة بين المسلمين، وجه ذلك: أن الخطبة على خطبة أخيه تُوجب التنافر والتعادي والبغضاء، ولهذا تجدون كثيرا من النصوص إذا تأملها الإنسان يجد أن الشريعة الإسلامية تراعي كثيرا المودة والألفة بين المؤمنين، انظر إلى الخمر والميسر والأنصاب والأزلام حزمها الله وبين الحكمة من ذلك فقال {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91]. هذا، ولا يجوز البيع على بيع المسلم، وهناك نصوص كثيرة تدل على أن الشريعة الإسلامية تراعي الأخوة بين الناس والألفة وعدم التفرق. ومن فوائد الحديث: تحريم خطبة الإنسان على خطبة أخيه المسلم، لقوله: «لا يخطب» النهي، والأصل في النهي التحريم، ويُؤكد التحريم هنا أن في الخطبة على خطبة أخيه عدوانا عليه هو أحق وأسبق. فإن قال قائل: وهل يجوز للمرأة أن تخطب على خطبة أختها؟ نقول: القياس يقتضي ألا يجوز أن تخطب مثل أن تسمع امرأة بأن شخصا قد خطب فلانة فتعرض نفسها عليه فهذا حرام عليها، لأن العلة واحدة وهي العدوان على حق الغير. فإن قال قائل: ما الجواب عن حديث فاطمة بنت قيس أنه خطبها ثلاثة معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد، ما الجواب؟ وجاءت تستشير النبي (صلى الله عليه وسلم) في ذلك، فبيّن لها أن معاوية صعلوك لا مال له، وأن أبا جهم ضراب للنساء، ثم قال: وانكحي أسامة، فما الجواب؟ الجواب أن يُقال: إن هؤلاء الثلاثة كل واحد خطب دون أن يعلم بأن الثاني قد خطب لأن هذه قضية عين وليست فيها التصريح بأن كل واحد منهم خطب وهو يعلم أن أخاه قد خطب. فإذن تُحمل هذه القضية على ما يوافق الشرع، على أن كل واحد خطب دون أن يعلم بخطبة الثاني وحينئذٍ لا إشكال.

ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للإنسان أن يخطب على خطبة الذمي والحربي، ولكن لو سألنا سائل كيف يتصور أن يخطب على خطبة الذمي والحربي؟ لأن الذمي والحربي لا يمكن أن يتزوجا مسلمة؟ فالجواب: أن المسلم يجوز أن يتزوج امرأة نصرانية أو امرأة يهودية، فإذا أراد إنسان من المسلمين أن يخطب امرأة يهودية مثلاً وعلم أنه خطبها رجل يهودي فظاهر الحديث أنه يجوز أن يخطب على خطبة اليهودي؛ لأن اليهودي ليس أخا له، وكذلك لو كان الخاطب نصرانيا فيجوز أن تخطب، ولكن بعض أهل العلم يقول: إن هذا حرام ولا يجوز أن يخطب على خطبة اليهودي ولا النصراني إذا كان لهما ذمة، أما إن كانا حربيين فليس لهما حق، ولهذا جاءت أحاديث متعددة في عدم جواز الاعتداء على حقوق أهل الذمة. فإن قال قائل: ما الجواب عن الحديث «أخيه»؟ قلنا: الجواب على هذا أنه خرج مخرج الغالب، وما خرج مخرج الغالب فإنه لا مفهوم له عند أهل العلم، ولهذا أمثلة كثيرة منها قوله تعالى في معرض المحرمات في النكاح: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} [النساء: 23]. فإن قال: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم}، والربائب اللاتي لسن في الحجور حرام على القول الراجح وهو قول الجمهور، قالوا: وهذا القيد خرج مخرج الغالب مبينا للعلة، وما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. إذن نقول: على هذا القول لا يجوز للإنسان المسلم أن يخطب على خطبة اليهودي والنصراني أو غيرهما من أهل الذمة، وهذا القول قوي، وفيه أيضا ما يقويه من الناحية التربوية؛ لأن غير المسلمين إذا رأوا هذا العدوان من المسلمين كرهوا الإسلام، لاسيما إذا قيل لهم: إن الإسلام يُجوز هذا الشيء فهذا يوجب النفور منه، فإذا علموا أن الإسلام يحترم الحقوق فإنهم قد يرغبون فيه على الأقل يكفون ألسنتهم عن التعرض له، وإن تعرضوا له عُلم كذبهم. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للإنسان أن يخطب على خطبة أخيه مع الجهل: هل رُدَّ أم لم يرد؟ يعني: لو أنك سمعت أن شخصا خطب امرأة ولا تدري هل رُدُّ أم لم يُرد فهل يجوز أن تخطب؟ ظاهر الحديث أنه لا يجوز، وهذا هو الحق أنه لا يجوز، وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) علق الحكم بمجرد الخطبة إذا خطب، وهذه الحال لا تخلو من ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يعلم أنه رُدّ. والقسم الثاني: أن يعلم أنه قبل، والقسم الثالث: أن يجهل، وفي هذه الحال سواء غلب على ظنه أنه قبل أو أنه رُدّ أو استوى الأمران، فالأقسام إذن ثلاثة: أن يعلم أنه رُدّ وفي هذه الحال يجوز أن يخطب، ومن أين نأخذها؟ من الحديث، لأنه إذا رُدّ فالخطبة غير قائمة، أن يعلم أنه قبل فهنا لا شك أنه حرام عليه. وهذان القسمان لا إشكال فيهما. القسم الثالث: ألا يعلم أقبل أم رُدّ، وهذه تحتها ثلاث حالات: أن يغلب على ظنه أنه قبل، أن يغلب على ظنه أنه رُد، أن يستوي الأمران، وفي هذه الأحوال الثلاث لا يجوز على القول الراجح أن يخطب على خطبة أخيه، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) علق الحكم بالخطبة وليس بالقبول، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الخطبة في هذه الحال، أي: إذا كان لا يعلم أنه قيل ولا يعلم أنه رُدّ قالوا: لأنه حَتَّى الآن لم يتعلق حقه بالمرأة، ولكن هنا القول مُخالف لظاهر الحديث؛ ولأن المرأة وإن لم تكن قبلت أو أولياؤها، لكن قد تكون مالت إلى القبول، فإذا خطبها الثاني، رجعت عن الميل إلى قبول الثاني، فيصير في هذا عدوان، وفي البيع «نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن السوم على سوم المسلم»، مع أن البيع لم ينعقد، لكن إذا مال البائع إلى السائم فإنه لا يجوز لك أن تسوم عليه هذه مثلها، فالصحيح أنه لا يجوز أن يخطب حتى يعلم أنه ردّ. قال: «أو يترك الخاطب»، هذه الحال الثانيةُ، إذا ترك الخاطب عُلم أن الخاطب ترك خطبة المرأة وعدل، ولكن بأي طريق يعلم؟ سبق لنا أنه يعلم بالصريح كان يقول: والله أنا خطبت ولكن عدلت، أو يعلم من خبر ثقة أنه عدل، المهم أنه إذا ترك جازت الخطبة؛ لأنها الآن غير قائمة. الحال الثالثة: «أو يأذن له»، إذا أذن له وقال: يا فلان، علمت أنك تذكر فلانة وأنا قد خطبتها، ولكن آذن لك، ففي هذه الحال يجوز أن يخطب، فصار جواز الخطبة على خطبة الإنسان تكون في ثلاثة أحوال، وظاهر الحديث أنه لو أذن لغيره فإنه لا يحل لغير المأذون له أن يتقدم للخطبة، لأن الحديث نص أن يأذن له، وكما قلنا في شرح الحديث إن الإنسان قد يأذن لشخص ولا يأذن لآخر، والأصل الحرمة واحترام الخاطب حَتَّى يقوم دليل على أن هذا الأصل قد زال.

حديث الواهبة

حديث الواهبة: 934 - وعن سهل بن سعد الساعدي (رضي الله عنه) قال: «جاءت امرأة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالت: يا رسول الله، جئت أهب نفسي، فنظر إلها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فصعد النظر فيها، وصوبه، ثم طأطأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست، فقام رجل من أصحابه. فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك حاجة بها فزوجنيها. قال: فعل عندك من شيءٍ؟ فقال: لا والله يا رسول الله. فقال: اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئا؟ فذهب، ثم رجع. فقال: لا والله ما وجدت شيئا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): انظر ولو خاتما من حديد، فذهب، ثم رجع. فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري -قال سهل: ما له رداء- فلها نصفه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك من شيء فجلس الرجل، وحتى إذا طال مجلسه قام؛ فرآه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) موليًا، فأمر به، فلما جاء. قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، عددها. فقال: تَقْرَؤُهُنَّ عن ظهر قلبك؟ قال: نعم، قال: اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن». متفق عليه، واللفظ لمسلم. قال: «امرأة» نكرة يعني: غير معروفة، وعدم معرفة المرأة لا يخل بالمعنى؛ لأن الأصل أن الأحكام عامة، ونجد بعض الناس يتكلف في تعيين الشخص وهو في الحقيقة لا حاجة إليه، اللهم إلا أن يتعلق بتعيينه حكم شرعي حينئذ لابد أن نعرفه [وإلا فلا]. «جاءت امرأة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالت: يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي»، الهبة هي التبرع للشخص بدون مُقابل وهذا -أعني: هبة المرأة نفسها إلى شخص ليتزوجها- من خصائص النبي (صلى الله عليه وسلم) كما قال الله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً} [الأحزاب: 50] يعني: وأحللنا لك امرأة مؤمنة {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]. وقوله: «صعد النظر» أي: رفعه، «وصوّبه»، أي: نزله، قال الله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19]. «صيب» يعني: مطر نازل من السماء، «وصعد النظر إليها وصوبه»، لأنه الآن خاطب، والخاطب يجوز أن ينظر إلى مخطوبته، ومن جهة أخرى أن كثيرا من العلماء ذكروا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) له خصائص في باب النظر وفي باب الخلوة بالمرأة، ومن هذه الخصائص أنه يجوز له أن ينظر إلى المرأة ويجوز أن يخلو بها، وذلك لأن الفتنة مأمونة غاية الائتمان بالنسبة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأصل النظر إنما حرم لخوف الفتنة وإلا لكانت المرأة مثل الرجل، لكن لخوف الفتنة

مُنع النظر ومنعت الخلوة، لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) الفتنة مأمونة في حقه غاية الأمان؛ ولهذا جاز له أن ينظر إلى المرأة الأجنبية وأن يخلو بها، على أن لدينا علة أخرى في هذا الحديث وهي الخطبة. قال: «ثم طأطأ رأسه، يعني: نزله بمعنى: أنه صار لا ينظر إليها، «فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست»، وهذا من حُسن خلق الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه لا يردُّ أحدًا أو يصدمه، فلو قال لها: أنا لا أريدك صار في هذا صد عظيم، لكنه طأطأ رأسه وسكت، والمرأة من فقهها جلست ولم تنصرف. «فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم تكن لك بها حاجة فزوّجُنيها»، هذا التماس وطلب وليس أمرًا؛ لأن مثل الصحابي لا يأمر النبي (صلى الله عليه وسلم)، لكن هذا من باب الترجي والالتماس أن يزوجه إيّاها، فقال: «هل عندك من شيء؟ » أولاً: نريد إعراب «من شيء؟ » مبتدأ، والخبر: «عندك»، وهنا نقول: إن «شيء» مبتدأ مرفوع بالابتداء بضمة مقدرة على آخره مع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد؛ إذن هي نكرة مقرونة بحرف الجر الزائد فتكون دالة على العموم، يعني: أي شيء يكون، ولكن هذه النكرة مقيدة بأن تكون صالحة للمهر، يعني: هل عندك من شيء يصح أن يكون مهرًا ولا يصدق هذا بحبة الشعير كما قاله الظاهرية، لماذا؟ لأنه شيء وهو عام لكن هذا عام مخصوص بأن يكون هذا الشيء متموَّلا بدليل قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا} [النساء: 24]، لابد من المال أو المنفعة كما سيأتي. «فقال: لا والله»، أقسم الرجل أنه ليس عنده شيء، ومعلوم أن الرجل عنده شيء لكن ليس عنده شيء يصدقها إياه، وإلا فهو عنده إزار لا شك، عنده أهل، لكن المراد شيء يصدقها إياه، فقال: «اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا». لو قال قائل: كيف يأمره أن يذهب إلى أهله ينظر وقد أقسم أنه لا يجد شيئا؟ فالجواب: أن الإنسان يحلف على غلبة ظنه وربما يكون هذا الظن، ولكن لو فتشت لوجدت، وكثيرا ما ينسى الإنسان أشياء في بيته فيقسم أنها ما عنده ويذهب يبحث فيجدها. «فذهب ثُمَّ رجع فَقَالَ: لا والله ما وجدت شيئًا» ما وجد ولا قرشًا واحدًا يعني: حال الصحابة (رضي الله عنهم) الدُّنيا ليست مفتوحة عليهم، فقال: «انظر ولو خاتما من حديد» يعني: هل عندهم شيء ولو خاتما من حديد. الخاتم معروف، والحديد معروف وهذا يضرب مثلاً

للقلة، يعني: ولو أقل القليل، يعني: لو كان خاتما من حديد تعطيها إياه فافعل وليس هذا على أساس الدُبلة كما يظنه الناس لا، المقصود ولو شيئا زهيدًا كالخاتم من حديد، «فرجع فَقَالَ: ولا خاتماً من حديد»، لأن الرجل فقير، «ولكن هذا إزاري»، وليس عليه رداء، إزار فقط ستر به عورته، وما نزل من جسده، قال سهلٌ: ماله رداء، قال: «هذا إزاري فلها نصفه، فَقَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ما تصنع بإزارك؟ »، حتى لو أعطيت المرأة نصفه مهرا ماذا تصنع هل تستفيد منه؟ لا، ولهذا قال: «إن لَبِسْته لم يكن عليها منه شيء، وإن لَبِسَتْه لم يكن عليك منه شيء»، إزار ولعله لية واحدة، لو كان ليّات ربما يُقسم لكنه لية واحدة، «فجلس الرجل ... » إلخ. قوله: «ماذا معك من القرآن؟ » يعني: ما الذي معك من القرآن، وقوله: «اذهب فقد ملكتكها»، المعنى: انه ملكه ثم قال له: «اذهب فقد ملكتكها»، قال: «بما معك من القرآن»، الباء هنا اختلف العلماء -رحمهم الله- فيها فقال بعضهم: إنها سببية، وقال بعضهم: إنها عِوضية، والفرق بين القولين ظاهر، فإن قلنا: إنها سببية صار معنى الحديث: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) جعل حفظه لهذه السور مهرا، ومعلوم أن هذا لا تنتفع به المرأة، وإن قلنا: إنها عوض صار المعنى: أنك تعلمها مما معك من القرآن، والأقرب الثاني، لأنه هُوَ الموافق لقوله تعالى: {أن تبّتغُوا بأمَولِكُم} [النساء: 24]، وملك تنصب مفعولين الكاف والثاني هاء وهي من باب كسا، والفرق بين كسا وظن وبابها أن ظن وبابها تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، بمعنى: أنك لو جردت الجملة عن العامل لصار الباقي مبتدأ وخبر، تقول: «ظننت زيدا قائمًا» احذف العامل «زيد قائم»، لكن «كسوت عَمْراً جُبّة»، احذف الفعل «عمرو جبة»، فلا يصلح، «ملكتكها» احذف ملكت هل يصلح «أنت إياها؟ »، لا يصلح، قال: «ملكُتُكها»، ويجوز من حيث اللغة العربية أن يعبر فيقال: ملكتك إيّاها، «بما معك من القرآن» قلنا: إن الباء الراجح أنها للعوض، ويرجح هذا أمران: الأول: قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا} [النساء: 24] فشرط الله لحل المرأة أن يكون ذلك بالمال. والوجه الثاني: أن في بعض ألفاظ هذا الحديث: «فَعَلَمُها»، وهذا يدل على أن الباء للعوض وليست للسببية، وهنا قال: «بما معك من القرآن» هل هذا مجهول؟ الجواب: لا؛ لأنه قال في الأول: معي سورة كذا وكذا فبينها، واللفظ لمسلم. وفي رواية: كما قال: «انطلق فقد زوجتکها، فعلِّمها من القرآن». وفي رواية للبخاري: «أمكناكها بما معك من القرآن»، يعني: جعلناك متمكنًا فيها بما معك من القرآن، وفي لفظ ثالث: «زُوّجُتُكها بما معك من القرآن»، فالألفاظ مختلفة، وهذا الاختلاف لو ادَّعى مدعً أنه اضطراب يُوجب ضعف الحديث فهل نسلم له ذلك؟ لا، لماذا؟ لأن الألفاظ هنا لا تتعارض، والمضطرب

? شرطه ألا يمكن الجمع، أن يتعارض اللفظان ولا يمكن الجمع ولا الترجيح، فإن أمكن الجمع جُمع وإن لم يمكن أخذنا بالترجيح، فإن لم يمكن لا هذا ولا هذا فحينئذٍ نحكم بالاضطراب، والاضطراب هو أحد أسباب الطعن في الحديث. هذا الحديث فيه فوائد كثيرة: أخذ بعض العلماء منه أكثر من أربعين فائدة، ويمكن ألا يستطيع بعض العلماء أن يستخرج منه عشرين فائدة، ويمكن أن يكون من دون العلماء لا يستطيع أن يفهم إلا ست أو سبع؛ فوائد لأن الناس يختلفون في الفهم اختلافا عظيمًا. رُب نص واحد يأخذ منه بعض العلماء فوائد كثيرة وآخرون لا يأخذون منه إلا قليلاً من الفوائد، ولهذا قيل لعلي بن أبي طالب: هل خصكم النبي (صلى الله عليه وسلم) بشيء يعني: من العلم؟ قال: «والذي فلق الحبة وبرأ النّسمة إلا فهمَا يُؤتيه الله أحدًا في كتابه فهذا لا حدّ له وما في هذه الصحيفة، قالوا: وما في هذه الصحيفة؟ العقل وفكاك الأسير وألا يُقتل مُستلم بكافر، ثلاث مسائل والباقي: «فهم يؤتيه الله من شاء»، فتجد بعض الناس يأخذ من النص الواحد مسائل كثيرة والبعض لا يأخذ، فلنعد للحديث. من فوائد الحديث: أنه يجوز التحدث عن المبهم إذا لم يتعلق بتعيينه فائدة لقوله: «جاءت امرأة»، ولم يُعينها. وفي الحديث: جواز هبة المرأة نفسها لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) هبة مجردة بدون عوض لقولها: «يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي»، وهل يقاس عليه غيره؟ لا، لا يجوز لامرأة أن تهب نفسها لأحد هبة مجردة عن العوض، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] فإن زوجت المرأة نفسها شخصا بدون مهر فالنكاح صحيح، وعليه مهر المثل، وحينئذٍ نقف هنا لنقسم هذه المسألة. القسم الأول: أن يتزوج الرجل المرأة بمهر معين مثل أن يقول ولي المرأة: زوّجتك ابنتي بمهر قدره عشرة آلاف، فهذا جائز ولا حرج فيه بالاتفاق، وفي الحديث: «زَوَجُتُكها بما معك من القرآن». القسم الثاني: أن يزوجها بمهر معين لكنه غير معلوم مثل أن يقول: زوِّجُتُكها بما في يدك من الدراهم وهو معه صرة من الدراهم هذا أيضا جائز ولا يضر فيه الجهل؛ وذلك لأن عقد النكاح ليس من عقود العوض التي تقع فيها المشاحة، ويكون كل من العاقدين يريد الربح المالي، عقد النكاح عقد متعة بقطع النظر عن عوضه؛ إذن هذا يصح.

القسم الثالث: أن يزوجها ويسكت فيقول: زوجتك ابنتي، فيقول: قبلت، ولا يذكرون المهر، فهنا يصح النكاح أيضا بالاتفاق ويكون لها مهر المثل. القسم الرابع: أن يتزوجها ويشترط الزوج أن لا مهر عليه، فيقول: أنا قبلت النكاح لكن بشرط أن لا مهر علي، فما الحكم؟ في هذه المسألة قولان: الأول: أن النكاح غير صحيح؛ لأن الله اشترط للحل المال قال: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم} [النساء: 24] وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله)، وعلى هذا فلا نكاح في هذه الحال، ويكون هذا الذي عقد له خاطبًا من الخطاب إن خطب من جديد ورضينا أن نزوجه زوجناه وبالمهر. القول الثاني: أن النكاح صحيح ويجب لها مهر المِثل قياسًا على ما إذا زوجه ولم يسم مهرا، ولكن هذا القياس قياس مع الفارق؛ وذلك لأن المتزوجة بدون تسمية مهر قد دل القرآن والسنة على صحة نكاحها، فقال الله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء} [البقرة: 236]. ومن المعلوم أن الطلاق لا يكون إلا بعد صحة العقد، وهذه الآية صريحة في أن الإنسان يطلق زوجته بدون أن يُسمّي لها مهرا، وأما السُنة فحديث ابن مسعود في المرأة يتزوجها الرجل ولم يُسم لها مهرا ثم يموت قال: لها مهر المثل، فقام رجل فقال: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قضى بمثل ذلك، هذا لا يصح أن يُقاس عليه ما إذا زوجها وشرط أن لا مهر؛ لأنه إذا شرط أن لا مهر فهو مُخالف تمامًا لظاهر القرآن وهو قوله تعالى: (وأحلَ لَكُمْ مَا وَراء ذلكم أن تَبْتَغُوا بأموالكم} [النساء: 24]، فالقول الصحيح ما ذهب إليه شيخ الإسلام، وأيضا إذا تزوجها بشرط أن لا مهر عليه فهذه حقيقة الهبة، وقد قال الله تعالى في الهبة إنها خاصة بالرسول (صلى الله عليه وسلم). ومن فوائد الحديث: جواز نظر الخاطب إلى مخطوبته؛ لقوله: «فصعُد فيها النظر»، فإن قيل: إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يخطب، قلنا: هذا أولى من الخاطب أن تأتي المرأة تعرض نفسها على الرجل، فإذا جاز للخاطب أن ينظر فالمطلوب المخطوب من باب أولى. ومن فوائد الحديث: جواز تكرار النظر من الخاطب للمخطوبة لقوله: «فصعّد وصوّب»، وهو كذلك، فلا حرج للخاطب أن يكرر النظر لمخطوبته، ولكن سبق لنا أنه لابد من شروط، ولأن النظرة الأولى أو الواحدة قد لا تُعطي الإنسان تصورا كاملاً عن المرأة. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجب على المرأة أن تستر وجهها عن الرجال الأجانب؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) صعد فيها النظر وصوبه، وأشد ما يرغب الرجل إليه من المخطوبة هو الوجه، وعلى هذا فيكون في الحديث دليل على جواز كشف المرأة وجهها عند الرجال الأجانب، هكذا

استدل به بعض العلماء، والحقيقة أنه لا دليل في الحديث، أولاً: لأن هناك جوابًا مجملاً عن كل حديث يدل على أن المرأة يجوز أن تكشف وجهها عند الرجال الأجانب، هناك جواب مجمل وهو أن من المعلوم أن لكشف الوجه حالين: حال جواز، وحال منع، يعني: أن كشف الوجه في أول الإسلام كان جائز، فإن الحجاب لم يفرض إلا في السُنة الخامسة أو السادسة، فكل حديث يدل على أن المرأة تكشف وجهها عند الرجال الأجانب فإنه يحتمل أن يكون قبل الحجاب وإذا كان كذلك فلا دليل فيه، والقاعدة المعروفة عند العلماء في الاستدلال أن ما كان محتملاً لا يصح أن يكون دليلاً، لأن المحتمل له معنيان، فحمله على أحد المعنيين دون دليل يحتاج إلى دليل، ولهذا قالوا: إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، فحينئذ نقول: هذا الحديث -حديث سهل- إن ثبت أن المرأة كاشفة وجهها فإنه محمول على ما قبل الحجاب، على أننا نمنع من كون هذا الحديث دالاً على كشف المرأة وجهها؛ لأنه لا يلزم من تصعيد النظر وتصويبه أن تكون كاشفة، فالإنسان قد يستدل على المرأة بهيكلها وبهاء جسمها ومقاطعه مثلاً؛ لأنه قد يستدل بالجملة على التفصيل، فليس فيه دليل واضح على أنها قد كشفت الوجه، وحينئذ تبقى النصوص الدالة على وجوب ستر المرأة وجهها عن الأجانب تبقى مُحكمة لا معارض لها. ومن فوائد ألحديث: حُسن خلق الرسول (صلى الله عليه وسلم) من قوله: «ثمّ طأطأ رأسه وسكت»، لم يقل: لا أريدك وهو لا يريدها فلم يقل: أنا قابل، ولكن من حُسن خلقه أنه طأطأ رأسه هكذا وسكت. ومن فوائد الحديث: حُسن أدب هذه المرأة؛ لأنها جلست ولم تتكلم ولم تغضب وذهبت مع أن المقام يقتضي أن تغضب، لكن من أدبها (رضي الله عنها) وصبرها وتحملها أنها جلست لعل النيي (صلى الله عليه وسلم) يقبل لا تدري لعل الله يُحدث بعد ذلك أمرا فجلست. ومن فوائد الحديث: حُسن أدب الصحابة -رضي الله عنهم- في مخاطبة النبي (صلى الله عليه وسلم)، لقول الرجل: ما رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، ونظير هذا القول ذي اليدين حين سلم النبي (صلى الله عليه وسلم) من ركعتين في صلاة الظهر أو العصر، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) مَهيبًا يهابه أخص أصحابه به في القوم أبو بكر وعمر وهما أخص أصحابه فهابا أن يُكلماه، وفي القوم رجل له يدان طويلتان كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يمزح عليه يسميه ذا اليدين، فقال ذو اليدين: «يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ ». لا قال: نسيت، ولا قال: قُصرت، السرعان من الناس خرجوا يقولون: قصرت الصلاة، لكن هذا الرجل قال: أنسيت أم قصرت الصلاة، فيه احتمال ثالث لكنه بالنسبة

للرسول (صلى الله عليه وسلم) غير وارد القسمة العقلية تقتضي ثلاثة احتمالات: نسي، قصرت، الثالث: تعمد السلام قبل التمام ولكنه غير وارد، ولهذا لم يورده لو أنه أورده لكان فيه إساءة أدب عظيمة، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «لم أنس ولم تُقصر»، أحد الاحتمالين غير صحيح وهو خبر، وهل في أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) ما ليس بصحيح؟ لا، ولكن بناء على ظنه، وهذا نأخذ منه فائدة كبيرة وهو أن الذي يخير على حسب ظنه فيقع الأمر على خلاف ظنه لا يُعد كاذبًا، وإن كان حالفا لم يحنث سواء في المستقبل أو في الماضي، لما قال: «لم أنس ولم تقصر»، هنا أمران منفيان: أمر محتمل وأمر غير محتمل، لما جزم به الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما هو غير المحتمل؟ القصر لما قال: لم تُقصر تعين الثاني وهو النسيان ولهذا قال: «بلى قد نسيته»، فتعارض عند النبي (صلى الله عليه وسلم) ما في نفسه وما في نفس ذي اليدين، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يعتقد أن الصلاة تامة وذو اليدين يقول: إنها غير تامة، فاحتاج إلى حكم بينهما، فرجع إلى الناس قال: «أحق ما يقول ذو اليدين؟ » قالوا: «نعم»، فتقدم فصلى ما ترك. أقول: إن من رأى أدب الصحابة وجدهم على أكمل ما يكون من الأدب مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولهذا قال هنا: يا رسول الله، إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها». ومن فوائد الحديث: أن النيي (صلى الله عليه وسلم) له أن يتزوج بلا ولي؛ لأن المرأة لما قالت: «قد وهبت لك نفسي»، لم يقل: أين وليك يزوجني وهو كذلك له أن يتزوج بلا مهر ولا ولي، وقد خصه الله تعالى بخصائص كثيرة في باب النكاح؛ لأن هذا فيه مصلحة عظيمة، كل امرأة تتصل بالرسول (صلى الله عليه وسلم) سوف تحفظ لنا سننا كثيرة وعلمًا كثيرًا في مسائله الداخلية، ولهذا أبيح له أن يتزوج ما يشاء حتى نزل {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52]. ومن فوائده أيضًا: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) له أن يزوج دون أن يرجع إلى الولي لما قال الرجل: «زوجنيها» لم يقل: لست بولي لها، ولا قال: أين وليها، وهو كذلك لقوله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]. وهو بهذه المرأة أولى من وليها. ومن فوائد الحديث: جواز المهر قليلاً كان أو كثيرا لقوله: «شيء»، وشيء نكرة في سياق الاستفهام فتفيد العموم، وهل يشمل كل شيء وإن كان غير مُتَمَول؟ عند الظاهرية نعم، حَتّى لو قال: زوجتكها على قشر بيضة؛ لأنه شيء، حتى لو قال: زوجتكها على حبة شعير، لأنه شيء، ولكن هذا القول ضعيف جدًا، لأن ما لا يتمول ليس بشيء، والدليل على ضعف هذا القول قول الله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24] فلابد أن يكون المهر متمولاً، ثم هناك دليل آخر وهو قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. وحبة الشعير ما تتنصف، المهم: أن هذا من عيب المستدل أن يأخذ بدليل واحد ويترك بقية الأدلة، ولهذا يصعب كثيرا على الإنسان أن يخول لنفسه باب الاجتهاد دون أن يكون عنده سعة علم، يوجد بعض الناس

ولاسيما النشء الجديد تجده إذا علم مسألة بدليلها يحكم مباشرة دون أن ينظر إلى بقية الأدلة، وهذا نقص، لأن الأدلة الشرعية كتلة واحدة لا تتجزأ لابد أن يكون عند الإنسان إلمام، ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يُلم بكل دليل لكن لابل أن يكون عنده شيء. ومن فوائد الحديث: جواز القسم بدون طلبه لقوله: «لا والله يا رسول الله»، مع أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يطلب منه أن يقسم، لكن المقام يستدعي التوكيد، فلذلك أقسم الرجل. ومن فوائده: جواز مخاطبة الكبير للشرف بـ «لا» من قوله: «لا»، وله شواهد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لجابر بن عبل الله: «بعنيه» أي: الجمل، فقال: «لا»، عند الناس الآن يستعيبون أن يقولوا كلمة «لا» لذي الشرف والسيادة، يقولون: (مالك لدي) بدلاً من «لا»، ولكن ما دام الصحابة -رضي الله عنهم- وهم أكمل منا أدبًا يُخاطبون الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو أعظم الناس سؤددًا وشرفا بكلمة «لا» فلا ينبغي أن ندعها ونقول: إن غيرها أفضل منها. ومن فوائد الحديث: حكمة النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث قال له: «اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ »؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) إنما قال ذلك لاحتمال أن يكون هذا الرجل في بيته شيء لم يعلم به، وهذا يقع كثيرا يكون في بيتك شيء وتنفيه وهو موجود إما نسيانا وإما لأنك لا تعلم به، إذن نأخذ منه: حكمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في معاملة الصحابة. ومن فوائد الحديث: كمال أدب الصحابة أيضا مع الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فإن الرجل لما قال له: «اذهب فانظر هل تجد شيئا؟ »، ذهب مع أنه في الأول يقول: «لا والله ما عندي شيء»، ومع ذلك ذهب، وهذا الذهاب يحتمل أنه امتثال لأمر النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويُحتمل أن الرجل قدّر في نفسه لعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) بلغه أن في البيت شيئا لم يعلمه عن طريق، الوحي ولهذا ذهب الرجل، على كل حال: يدل على كمال أدبه، لأنه ذهب بدون أن يستفهم. ومن فوائد الحديث: جواز لبس خاتم الحديد لقوله: «انظر ولو خاتماً من حديد» لأن المقصود من الخاتم أن يلبس وإلا ما الفائدة، قد يقول قائل يُباع يبيعه على من يلبسه، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء، فمنهم من قال: إنه لا يجوز لبس خاتم الحديد، واستدلوا بحديث لكنه ضعيف أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: «إنه حلية أهل النار»، وهذا يدل على الذم، ولكن الصحيح أنه جائز لهذا الحديث الثابت في الصحيحين وهو أقوى من قوله: «إنه حلية أهل النار» على أن حديث: «إنه حلية أهل النار» يُحتمل أن المعنى: أن المشركين في ذلك الوقت كانوا يتحلون به

فقال: إنه حليتهم تنفيرا من التشبه بهم لا من أجل كراهة الحديد ذاته. فالله أعلم، لكن ما دام عندنا حديث ثابت في الصحيحين فالأخذ به أولى، وهل يُقاس على ذلك ما تحفظ به الساعة وهو ما يسمى بالأستيك؟ يرى بعض العلماء أن يُقاس على الخاتم من الحديد وأنه لا يجوز للرجل - على القول بالتحريم أو الكراهة - أن يلبس هذا النوع من سيور الساعات، ولكن قد ينازع في ذلك؛ لأن الغالب أن المقصود من هذه السيور حفظ الساعة دون النظر إلى كونه حُلية، وإن كان بعض الناس قد يقصد هذا السير ولهذا تجده يختار شيئا معيّنا دون شيء آخر، لكننا إذا قلنا بأن الأصل وهو الخاتم ليس بحرام فهذا الفرع من باب أولى. ومن فوائد الحديث: أن المهر يصح بالقليل والكثير لقوله: «انظر ولو خاتماً من حديد»، ويصح أيضا في المنافع كما سيأتي، ويستفاد من هذه الجملة: جواز لبس خاتم الحديد وحينئذ يطلب الجمع بينه وبين وصف الرسول (صلى الله عليه وسلم) خاتم الحديد بأنه حلية أهل النار والجمع إنما يُطلب عند التقابل للترجيح، وهذا الحديث كما رأيتم في الصحيحين حديث: «إنّ خاتم الحديد حلية أهل النار»، فإن كثيرا من العلماء ضعُفه وقال: إنه لا يصح عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وحينئذ لا يكون مقاومًا لهذا الحديث الصحيح حتى يُطلب الجمع. ومن فوائد الحديث: أنه يوجد في الصحابة الفقر العظيم بحيث إن الرجل لا يجد إلا ما يلبسه يؤخذ من قوله: «ولا خاتم من حديد ولكن هذا إزاري». ومن فوائد الحديث: أنه لا يجب ستر أعلى البدن، ووجهه: أن هذا الرجل ليس له رداء كما قال سهل: «ما له رداء»، ويدل لذلك أيضا حديث جابر بن عبد الله (رضي الله عنه)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال في الثوب: «إن كانَ واسعًا فالتحف وإن كان ضيقًا فائتزر به»، وقد صلى جابر نفسه (رضي الله عنه) بإزار، وكان رداؤه عنده يستطيع أن يلبسه. ومن فوائد الحديث: جواز القسم أو الحلف بلا استحلاف؛ لأن الرجل حلف دون أن يستحلفه النبي (صلى الله عليه وسلم) فأقره النبي (صلى الله عليه وسلم) والنبي لا يقر على شيء مُحَرَّم، ولهذا كان من أدلة الجواز إقرار النبي (صلى الله عليه وسلم) للشيء كما كان العلماء - رحمهم الله - يستدلون بهذا على حل الشيء فيقولون: كان هذا يفعل على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم). ومن فوائد الحديث: أن الإنسان لا يجوز أن يبذل ضروراته لغيره لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «وإنْ لبسته لم يكن عليك منه شيء»، وظاهر هذا الحديث هذه الجملة فيها إشكال لقوله: «إن لبسته»، وذلك أن الإزار للرجال لا يماثل إزار النساء، وإذا كان لا يماثله فإن لبس المرأة للإزار يكون

تشبهًا بالرجال، وتشبه النساء بالرجال من كبائر الذنوب؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لعن المتشبهات من النساء بالرجال، فماذا تقول عن ظاهر الحديث؟ يمكن أن جاب عنه بأن المراد بلبسها إياه استعمالها له سواء لبسته على هيئة ما يلبسه الرجل أو على هيئة أخرى، كأن تجعله سراويل مثلا لأن اللبس له وجوه متعددة شتى، حَتَّى إن أنس بن مالك لما ذكر زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم) له ولأمه أو جدته مُليكة ذكر أنه أخذ حصيرًا قد أسودُ من طول ما لبس، والحصير لا يلبس ولكنه يُستعمل، فلبس كل شيء بحسبه فإذا كان ظاهر هذا الحديث أن المرأة تلبس إزار الرجل فإنه يجب حمله أنها تلبسه على وجه لا يماثل لبس الرجل له لئلا تقع في التشبه المتوعد عليه باللعنة. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا صبر ظفر، فإن هذا الرجل سكت وأطال القيام فلما قام جعل الله له فرجًا، يقول: «جلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام». ومن فوائد الحديث: جواز جعل المنفعة مهرا لقوله: «ملَكُتُكها بما معك من القرآن»، إذن فيجوز أن يكون المهر عينا، ويجوز أن يكون منفعة، ويؤيد هذا ما جرى لموسى -عليه الصلاة والسلام- فإن مهر إحدى البنتين كان رعاية الغنم لمدة ثمان سنين أو عشر سنين. ومن فوائد الحديث: جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لأن عوض هذا التعيين كان البضع، والبضع لا يستباح إلا بالمال لقوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24] ومن فوائده: جواز جعل تعليم القرآن أجرة، فهل هناك فرق بين هذه الفائدة والتي قبلها؟ نعم، ما هو؟ يعني مثلاً شخص عنده بيت فقلت: أجرني إياه على أن أعلمك القرآن، فهنا جعلنا تعليم القرآن نفسه أجرة أما المسألة الأولى فإننا جعلنا مَن يُعلم القرآن يأخذ عليه أجرة، ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز أن يُجعل تعليم القرآن مهرا، واستدلوا بحديث ضعيف وهو أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لن تكون لمن بعدك مهرًا». وهذا الحديث ضعيف لا يصح، وعلى تقدير صحته فإنه يمكن أن يُفسر قوله: «لمن بعدك» أي: بعد حالك كما قلنا في حديث أبي بردة بن نيار حين قال له النبي (صلى الله عليه وسلم) في العناق: «إنها لن تجزى عن أحد بعدك»، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ليس المراد بعده في الزمن بل بعده في الحال والوصف؛ وذلك لأن الشريعة الإسلامية لا تُعطي أحدًا حُكما للشخص نفسه، لأن الأحكام الشرعية كلها معلقة بالوصف والمعنى المقضي لها حتى خصائص الأنبياء ليست خصائص لأعيانهم، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) أعطي

آيات بينات؛ لأنه رسول الله وليس لأنه مُحَمّد بن عبد الله، وهذا الذي ذهب إليه ابن تيمية هُوَ الحق. ومن فوائد الحديث: أنه قد يكون فيه إشارة إلى اشتراط القدرة على تسليم المهر لقوله: «تقرأهن عن ظهر قلب»، لأن الإنسان الذي لا يقرأ القرآن عن ظهر قلب ربما لا يحصل على مصحف، لاسيما في الزمن السابق في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لكن الذي يحفظ عن ظهر قلب قادر على أن يُعلم. ومن فوائد الحديث: انعقاد النكاح بما يدل عليه، لقوله: «فقد مَلَكُتُكها بما معك من القرآن»، وذكر المؤلف ثلاثة ألفاظ «ملكتكها، زوّجتكها، أمكناكها بما معك من القرآن»، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة هل ينعقد النكاح بكل لفظ يدل عليه أم لابد من لفظ معيّن؟ المذهب أنه لابد من لفظ معين وهو لفظ التزويج أو الإنكاح، أو الأمة يقول لها: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك كما جرى ذلك من النبي (صلى الله عليه وسلم) في صفية بنت حيي، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) أعتقها وجعل عتقها صداقها، ما هُوَ الدليل؟ قالوا: لأن هذا هُوَ اللفظ الذي جاء به القرآن، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ} [الأحزاب: 49]. وقال: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 221]. وقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى} [النور: 32]. فهذا اللفظ الذي جاء به القرآن فيجب أن نتقيد به، فيقال: إن المراد بهذا اللفظ ليس تعيين اللفظ، ولكن بيان المراد والمعنى، وإذا سلكتم هذا المسلك في الاستدلال لزمكم أن تقولوا إن البيع لا ينعقد إلا بلفظ البيع؛ لأن هذا هُوَ اللفظ الذي جاء به القرآن، فلفظ الإنكاح أو التزويج إنما جاء على الدلالة على المعنى المراد لا لتعيين هذا اللفظ، وكل شيء لا يتعبد بلفظه فإنه يرجع فيه إلى العرف هذه قاعدة مفيدة من العقود؛ لأن العقود حقائقها تعود إلى العُرف المصطلح عليه، فالصحيح أن عقد النكاح كغيره من العقود ينعقد بكل لفظ دل عليه سواء بلفظ التزويج أو الإنكاح أو بلفظ: أعتقتك، أو ملكتك بنتي، أو زوجتك بنتي، ما دام هذا اللفظ يُحدد المعنى فإنه ينعقد به النكاح. ومن فوائد الحديث: أنه يجب على الزوج أن يُسَلّم المهر لقوله: «فَعَلَمُهَا». ومن فوائد قوله: «فعلمها»: الرد على قول من قال: إن الباء في قوله: «بما معك»، للسببية، وأنه يتعين أن يكون معناها العوض، أي: ملكتك بما معك من القرآن بحيث تعلمها إياه.

إعلان النكاح

935 - ولأبي داود: عن أبي هريرة قال: «ما تحفظ؟ قال: سورة البقرة والتي تليها. قال: قم فعلمها عشرين آية». «ما» هذه استفهامية، يعني: أي شيء تحفظ من القرآن؟ قال: «سورة» بالنصب من أجل أن يطابق الجواب السؤال كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]. بالنصب، فإذن الصواب سورة البقرة ... إلخ. ولكن هذا اللفظ الذي رواه أبو داود يعارض اللفظ الذي في الصحيحين لأن ظاهر لفظ الصحيحين أنه زوجها بكل ما معه وهذا يقول: «علمها عشرين آية»، فالظاهر أن هذه اللفظة غير محفوظة. إعلان النكاح: 936 - وعن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه (رضي الله عنهم)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «أعلنوا النكاح». رواه أحمد، وصححه الحاكم. «أعلنوا» لخطاب للأمة، والإعلان هو الإظهار، وضده الإسرار، وقوله: «أعلنوا النكاح» يشمل إعلان عقده وإعلان الدخول، أي: أنه يشمل العقد والدخول الذي فيه تُسلّم المرأة للرجل، وإنما أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بإعلان النكاح لما فيه من الفوائد. * فمن فوائد إعلان النكاح: أنه يتضح به الفرق بين النكاح والسفاح؛ لأن السفاح -الذي هو الزنا- إنما يكون خفية وسرا، فبإعلان النكاح يتميز الفرق بين هذا وهذا. ومن فوائده إعلان الشعيرة الفطرية الشرعية وهي النكاح؛ لأن النكاح يقتضيه الشرع والفطرة والجبلة التي جبل الله عليها الخلق. ومنها: أنه يكون فيه تشجيع للاقتداء به والتآسي، فإنه إذا انتشر اقتدى به أمثاله وتزوجوا كما تزوج مثيلهم. ومنها أيضا: أنه ربما يكون عند أحد علم برضاع بين الزوج والزوجة، فإذا أشهر وأعلن وتبين فإنه يندفع بذلك مفسدة أن يتزوج ثم يدخل ثم يأتي بأولاد ثم بعد ذلك تظهر الشهادة. هذه فوائد إعلان النكاح الذي أمر به النبي (صلى الله عليه وسلم) وقوله: «أعلنوا» أمر، والأصل في الأمر الوجوب، ولكن لا يُعلم به قائل من أهل العلم، أي: بوجوب إعلان النكاح، وعلى هذا فيكون الأمر للاستحباب، والصارف له أنه لم يقل به أحد من أهل العلم، فيكون للاستحباب، واعلم أن النكاح أتم ما يكون إذا اجتمع فيه الإشهاد والإعلان هذا أتم ما يكون، فإن اجتمع الإشهاد

اشتراط الولي

مع الإسرار فقد اختلف العلماء في صحته فمنهم من يرى أنه صحيح ومنهم من يتوقف؛ لأن الإشهاد مع الإسرار لا يُستفاد به فائدة كبيرة. الثالث: أن يكون الإعلان بدون إشهاد يعني: يتزوج إنسان لحضور الولي بدون إشهاد، مثل أن يقول: زوّجتك بنتي، فيقول: قبلت، ثم بعد ذلك يُعلن فقد اختلف العلماء في صحته، والراجح أنه صحيح كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله)، لأن الإعلان أبلغ من الإشهاد المجرد، ثم إن الإعلان تحصل به الشهادة، لأن هذا مما يُعلم بالاستفاضة، بقي أن يخلو من الإعلان والإشهاد فالنكاح لا يصح؛ لأنه فقد به الإشهاد الذي به يثبت النكاح والإعلان الذي به يظهر النكاح، فهذه أربعة أقسام في مسألة الإعلان والإشهاد. اشتراط الولي: 937 - وعن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا نكاح إلا بولي». رواه أحمد والأربعة، صححه ابن المديني، والترمذي، وابن حِبان، وأعله بالإرسال. قوله: «لا نكاح إلا بولي»، النفي هنا ليس نفيًا لوجود النكاح، لماذا؟ لأنه قد يوجد النكاح بلا ولي، قد تُزّوج المرأة نفسها، فإذا تعذر أن يكون النفي نفيا للوجود يُحمل على نفي الصحة؛ لأن انتفاء الصحة عدم شرعي، وقولنا: في الأول: نفي الوجود، يعني: الوجود الحسي، فالأصل في النفي نفي الوجود الحسي، فإن لم يمكن انتقلنا إلى نفي الوجود الشرعي الذي يعبر عنه العلماء بنفي الصحة، فإن لم يمكن، يعنى: بأن دل الدليل على صحة هذا المنفي صار النفي نفيا للكمال، «لا نكاح إلا بولي» نقول: النفي للوجود؟ لا، لماذا؟ لأنه قد يوجد، قد تُزوج المرأة نفسها بلا ولي، نفي الصحة؟ نعم، نفي الكمال؟ لا، لأنه متى أمكن حمل النفي على نفي الصحة كان ذلك هو الواجب؛ لأنه الأصل في النفي، إذن لا نكاح يصح إلا بولي، أي:

بولي يتولى عقده، والولي هو القريب، ويُشترط أن يكون عاصبًا، يعني: القريب من العصبة، أما ذو الأرحام والإخوة من الأم فليسوا من الأولياء، المراد بالولي العاصب. وقوله: «لا نكاح إلا بولي»، نقول: إن الحكمة من ذلك بأنه لا نكاح إلا بولي هو أن الولي عنده من المعرفة في الأمور ومن بعد النظر ما ليس عند المرأة. ثانيا: عنده من التأني وعدم الاندفاع ما ليس عند المرأة، أما المرأة فهي قاصرة النظر قريبة النظر كل إنسان يخدعها إما بمظهره أو بلين كلامه أو ما أشبه ذلك، فتنخدع وتقع في الهلكة وهي لا تشعر، فلهذا كان من رحمة الله (عز وجل) بالمرأة ألا تزوج نفسها، وألا يزوجها إلا الولي. من فوائد الحديث: عدم صحة النكاح بغير ولي، فالولي إذن شرط في صحة النكاح، ويدل لاشتراطه قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]. {تُنكِحُوا} فأتى بالفعل الرباعي، ولم يقل ولا تنكحن المشركين، وانظر أول الآية ماذا قال: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، لأن الرجل ينكح المرأة بنفسه، أما المرأة فلا تنكح نفسها، ولهذا قال: {ولا تنكحوا} يعني: لا تُنكحوا المؤمنات المشركين حتى يؤمنوا، فأضاف الإنكاح إلى غير المنكوح، ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {وأنكِحُوا الْأَيَامَى} [النور: 32] يعني: اللاتي ليس لهن أزواج، و {الصالحين من عبادكم} يعني: الأرقاء، فإن الرقيق يزوجه سيده، فهنا أضاف الإنكاح إلى غير المنكوحة، فدل هذا على أنه لابد من الولي. ثالثًا: قوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]. ووجه الدلالة: أنه لو لم يكن الولي شرطا لم يكن لعضله أثر، يعني إذا منع زوجت نفسها ولا تبالي، فلولا أن الولي شرط ما كان لعضله أثر حَتَّى ينهى عنه، فهذه ثلاث آيات من القرآن بالإضافة إلى هذا الحديث، والحكمة من ذلك ما أشرنا إليه، وهو أن المرأة قاصرة، فلا يمكن أن تتولى هذا العقد الخطير الذي يكون معها طيلة حياتها إلا بولي. ويستفاد من قوله: «إلا بولي»: أنه لابد أن يكون الولي ذا رشد، وجه الدلالة من الحديث: أنه لا يمكن تحقق المصلحة للمرأة إلا إذا كان الولي رشيدا وإلا فما الفائدة؟ ! الذي ليس برشيد وجوده كالعدم. ويُستفاد أيضا: اشتراط أن يكون من ذوي الولاية على المرأة، وعلى هذا فلا يزوج الكافر المسلمة، لماذا؟ لأنه لا ولاية لكافر على مُستلم حتى لو كان أباها فإنه لا يزوجها، وبناء على ذلك لو كان أبوها لا يصلي ولها عم يصلي فالولي العم، أما الأب فلا ولاية له، لأنه كافر، . .والكافر ليس له ولاية على المسلم. ويُستفاد من الحديث: أنه إذا اجتمع وليان فأكثر قدم الأولى منهما وهو الأقرب، نحن قلنا:

نكاح المرأة بغير إذن وليها

الولي القريب، وجه ذلك: أن الحكم المعلق بوصف أو على وصف يكون أقوى باعتبار قوة ذلك الوصف، وَعَلى هذا فلو اجتمع عم شقيق وأخ شقيق فمن يزوج؟ الأخ الشقيق؛ لأنه أولى بها من عمها لقرابته، وحينئذ نحتاج إلى أن نعرف ترتيب هؤلاء الأولياء، فنقول: إن ترتيب هؤلاء الأولياء كترتيبهم في الميراث ما عدا الأبوة والبنوة، فإن الأبوة في باب النكاح مقدمة على البنوة لوجهين: أولاً: أنه في البكر أمر ضروري، لأن البُنْوَة في حقها وهي بكر متعذرة، ثانيا: أنه لو كانت ثيبا ولها أولاد وأب، فالأب أعرف في الغالب من الولد وأشفق على بنته من الابن على أمه، فلهذا قُدّم الأب في ولاية النكاح على الابن مع أنه في الميراث يقدّم الابن على الأب تعصيبًا، فلو هلك هالك عن أب وابن قلنا: للأب السدس والباقي للابن تعصيبًا، إذا قُدر أن الولي الأقرب ليس أهلاً للولاية أو عضل امتنع ننتقل إلى من بعد الأولى فالأولى، فإذا كان الأب يمتنع من تزويج بناته؛ لأنهن مدرسات ويستغل بقاءهن من أجل الحصول على المال وطلبهن من هو كفؤ فهل يزوجهن عَمُهن؟ نعم أو الأقرب منه كالأخ مثلاً. - وروى الإمام أحمد عن الحسن عمران بن الحصين مرفوعًا: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين». لكن هذا الحديث ضعيف زيادة الشاهدين: أما الأول «لا نكاح إلا بولي» فهو صحيح، وله شاهد من حديث أي موسى (رضي اله عنه). نكاح المرأة بغير إذن وليها: 938 - وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له». أخرجه الأربعة إلا النسائي، وصححه أبو عوانة، وابن حَبان والحاكم. قوله: «أيما امرأة نكحت» هذه «أي» شرطية، و «أي» مبتدأ، و «ما» زائدة، و «أي» مضاف، و «امرأة» مضاف إليه.

? فإن قال قائل: كيف قلت: إنها بالرفع «أيما» مع أنها بالنصب في قوله تعالى: {أيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]؟ فالجواب: أنها في الآية الكريمة مفعول به مقدم: {أيّا مَا تَدْعُوا}، وفي هذا الحديث مبتدأ «أيما امرأة نكحت»، قوله: «امرأة» نكرة في سياق الشرط فتعم الثيب والبكر. وقوله: «بغير إذن وليها فنكاحها باطل»، أي: ولم يقل: بغير بوليّ؛ لأن الولي قد يأذن بالتزويج على سبيل التوكيل، فإن باشره بنفسه فالمباشرة أقوى من الإذن، لكن ربما لا يباشر ويأذن بالتوكيل فيكون الحديث شاملاً لهذا، وقوله: «بغير إذن وليها»، لو قال قائل: لو أذن وليها لها أن تُزّوج نفسها؟ فالجواب: أن ذلك لا يصح، لأنها لو كانت أهلاً لتزويج نفسها فرعًا عن غيرها لصح أن تكون أهلاً لتزويج نفسها أصلاً من نفسها، ولهذا نقول: «من لا يصح تصرفه في شيء لا يصح أن يكون وكيلاً فيه»، وعلى هذا فليس في الحديث دليل على أن الولي لو أذن لها أن تزوج نفسها لصح النكاح. وقوله: «فنكاحها باطل»، الباطل في اللغة العربية: الضائع الذاهب سدى، والعقد الباطل هُوَ الذي لا يترتب عليه أثره والنكاح يترتب عليه آثار عظيمة منها حل المرأة للزوج ولحوق الأولاد به ووجوب النفقات، وغير ذلك من الأحكام الكثيرة، كل هذه الأحكام لا تترتب إذا كان النكاح باطلاً، ومَنْ زوّجت نفسها بغير وليها فنكاحها باطل. قال: «فإن دخل بها»، فاعله يعود على الزوج وإن لم يسبق له ذكر فالسياق يقتضيه، قال: «دخل بها»، يعني: جامَعَهَا، وهذا هُوَ معنى الدخول بالمرأة كما في قوله تعالى: {مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} [النساء: 23]. أي: جامعتموهن، فالدخول بالمرأة يعني: جماعها. قال: «فلها المهر بما استحل من فرجها»، ف «لها»، أي: للمدخول بها المهر بما استحل من فرجها. ولم يقل: فإن دخل بها فهي زوجته، قال: «لها المهر» ولكنها هي حرام عليه، لكن لما استحل فرجها بهذا العقد الفاسد صار لها المهر، والمهر العوض الثابت للمرأة بعقد نكاح وما الحق به. قال: «فإن اشتجروا»، الواو في قوله: «اشتجروا» يعود على الأولياء، فإذا قال قائل: أين مرجعه، وكيف يعود الضمير على غير مرجع؟ فالجواب: أن مرجعه معلوم من السياق؛ لأنه قال: «بغير إذن وليها فإن اشتجروا»، يعني: الأولياء تنازعوا فيما بينهم، «فالسلطان ولي مَنْ لا ولي له»، وصورة الاشتجار: أن يقول الأب: لا أزوج بنتي هذا الرجل، فيقول العم: سأزوجها أنا، فيقول: إن زوجتها لأفرغن برأسك عشر رصاصات، هله ممكن أن يقع عند البادية يحصل

مشاجرة، فإنها إذا وقعت المشاجرة بين الأب وأخيه الذي هو العم فهي بين الأب ومن هو أبعد من الأخ أولى، إذن سيحصل شجار هذا يقول: زوج، وهذا يقول: لا، يقول: «فالسلطان ولي من لا ولي له»، لم يقل النبي (صلى الله عليه وسلم): فالسلطان يزوجها، وإنما أتى بقاعدة عامة: «السلطان ولي من لا ولي له»، فمن هُوَ السلطان؟ السلطان هُوَ الذي له السلطة في مكان العقد، فإذا كنا في بلد فيها سلطان أعلى فالسلطان الأعلى هُوَ الولي أو من ينيبه، وإذا كنا في بلد ليس فيها سلطان أعلى مثل بلاد الكفر، فالسّلطة فيها ليس لها ولاية على المسلمين فإنها يزوجها ذو سلطان في مكانه كبير القوم أو كبير القبيلة. من فوائد الحديث: بطلان إنكاح المرأة نفسها بدون إذن وليها؛ لقوله: «فنكاحها باطل». ومن فوائد الحديث: أنها لو وكلت من يزوجها من الرجال فإن النكاح باطل أيضا، لقوله: «بغير إذن وليها». ومن فوائده: أن لو وكل الولي من يزوجها فنكاحها صحيح، لأنه كان بإذن وليها. ومن فوائد الحديث: أنه لا فرق في التعبير بين باطل وفاسد لقوله: «فنكاحها باطل»، واعلم أن البطلان والفساد في لسان الشارع لا فرق بينهما، الفساد والبطلان والخدّاج كلها بمعنى واحد، لكن الفقهاء -رحمهم الله- هم الذين اختلفوا، فعند أبي حنيفة أن الباطل ما مُنع بأصله، والفاسد ما مُنع بوصفه؛ فبيع الخنزير باطل، وبيع صاع من البر بصاعين منه فاسد، وعند الحنابلة لا فرق بين الباطل والفاسد إلا في بابين من أبواب الفقه الأول: الحج، والثاني: النكاح، في الحج قالوا: إن الفاسد ما حصل فيه جماع قبل التحلل الأول هذا فاسد، ومع هذا فإنه يمضي في هذا الحج الفاسد ويقضيه في سنة أخرى، مثاله: رجل جامع زوجته ليلة عيد النحر في مزدلفة فهنا جامع قبل التحلل الأول فيكون الحج فاسدًا ويجب عليه أن يمضي فيه ويكمله ويحج من العام المقبل، الباطل ما حصلت فيه الردّة يعني: إذا ارتدّ الإنسان في أثناء الحج بطل حَجَّه ولا يمضي فيه، لأنه حبط قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217]. وقال أهل العلم: الردة تحبط الأعمال كلها، في النكاح قالوا: الباطل ما اتفق العلماء على فساده، والفاسد ما اختلفوا فيه، مثال الباطل: نكاح المقيدة من غير المحرم بإجماع المسلمين لقوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]. ومثال الفاسد: أن تتزوج امرأة بلا شهود، فإن هذا فاسد، وله أمثلة كثيرة لا تظنوا أنه شحيح في الأمثلة: تُزوج بلا شهود، تُزوج بلا ولي، أن يتزوج امرأة رضع من ?

أمها مرة أو ثلاث مرات هذا من النكاح الفاسد؛ لأن العلماء اختلفوا في الرضاع المحّرم. المهم: أن كل ما اختلف العلماء فيه فإنه يُسمّى نكاحًا فاسدًا، ويفرق بينه وبين الباطل بأن الباطل لا أثر له، وأن الفاسد حكمه حكم الصحيح إلا في وجوب الفراق، فإن الفاسد يجب فيه التفرق، والصحيح لا يجب، أو في الإرث والصحيح فيه إرث، وربما يكون في مسائل أخرى، على كل حال: المشهور من مذهب الحنابلة أنه لا فرق بين الفاسد والباطل إلا في موضعين الحج والنكاح، الحديث يدل على أن الفاسد يُسمّى باطلاً، لأن الحديث إذا وقعت الصورة المذكورة فيه فقد كان العقد مختلفًا في صحته وهو على قاعدة الفقهاء يوصف بأنه فاسد، والنبي (صلى الله عليه وسلم) وصفه بأنه باطل، فدل هذا على أنه لا فرق في لسان الشرع بين الفاسد والباطل. ومن فوائد الحديث: أنه لو فارق المرأة التي تزوجها بلا ولي قبل الدخول بها فليس لها مهر أو فلا تستحق المهر كاملاً لقوله: «فإن دخل بها فلها المهر»، فمفهومه أنه إن لم يدخل بها فليس لها مهر، ولكن هل تستحق نصفه بالخلوة؟ أي: خلا بها بدون جماع؟ نقول: في هذا خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: إنها تستحق نصف المهر للشبهة، ومنهم من قال: إنها لا تستحق، وبناء ذلك على أنه هل العبرة بما في ظن المكلف أو العبرة بما في واقع الأمر؟ إن قلنا: العبرة بما في ظن المكلف كان لها نصف المهر، وذلك لأن الزوج والزوجة في هذا العقد يعتقدان أنه صحيح فيعاملان بما يعتقدان، وإن قلنا: العبرة بواقع الأمر فإنه ليس لها شيء من المهرة لأن واقع الأمر يقتضي أن هذا العقد وجوده كعدمه، ولذلك لا يترتب عليه الإرث، أما إذا جامعها فإن الحديث صريح في أن لها المهر كاملاً لأنه جامعها يعتقد أنها امرأته وأنها حلال له؛ ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «فلها المهر بما استحل من فرجها»، والأقرب أنه إذا خلا بها فإن لها نصف المهر؛ لأنه استحل منها ما لا يستحله إلا الزوج بناء على صحة العقد على ما في ظنهما. ومن فوائد الحديث: أن الأولياء إذا اختلفوا فإن السلطان يكون وليا لها لقوله: «فإن اشتجروا فإن السلطان يكون وليا لها»، ولكن هل مقتضى هذه الولاية أن يتولى العقد بنفسه أو أن يقول لمن أراد أن يزوجها: زَوجُها، أو لمن أراد ألا يزوجها: لا تزوجها؟ الثاني هو الأصح، يكون وليًا، يعني: يتولاها ويحكم بين المتشاجرين، فان امتنعوا كلهم عن التزويج فحينئذ تنتقل الولاية إلى السلطان، مثال الأول الذي قُلت إنه يحكم بينهم: خطبت امرأة خطبها رجل

اشتراط رضا الزوجة

ليس بكفٍء لكن سيبذل دراهم كثيرة، فقال أبوها: أريد أن زوجها، وقال أولياؤها: لا، فاختصموا تشاجروا يرجعون إلى السلطان، السلطان في هذه الحال ماذا سيقول؟ يحكم بعدم التزويج والعكس بالعكس لو أن الخاطب كفء، فقال أحد الأولياء: تُزوج، وقال الثاني: لا، فالسلطان يأذن لمن قال: إنها تُزوج، فإن امتنعوا كلهم عن التزويج والخاطب كفء فإن السلطان يتولى التزويج. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أنه لا يمكن لهذه الأمة أن تبقى بلا سلطان لقوله: «فالسلطان ولي من لا ولي له»، ووجه هذا: أنه ليست الأمة كلها لها أولياء وليست الأمة كلها تخلو من التشاجر، فإذا حصل التشاجر أو عدم الولي فمن يتولى أمور الناس إلا السلطان، ولهذا قال أهل العلم: إن نصب الإمام فرض كفاية على المسلمين عمومًا، وأنه لا يجوز للأمة أن تبقى بلا سلطان، وقال ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم): «أن من مات وليس في عنقه بيعة فإن ميتته جاهلية»، وفي رواية: «فقد خلع ربقة الإسلام من عُنقه»، وهذه المسألة يوجد بعض الناس -نسأل الله العافية- لشدة غيرتهم وقلة عقلهم يخلع بيعة الإسلام ببيعة الإمام، ويقول: أنا لا اعترف بهذا السلطان ولا أعترف بهذا الرئيس أو ما أشبه ذلك، وحينئذ يموت ميتة جاهلية أو يكون قد خلع ربقة الإسلام من عنقه فيواجه الله (عز وجل) وهو خال من ربقة الإسلام؛ لأنه خرج عن الجماعة، ومن شدّ شذ في النار. اشتراط رضا الزوجة: (939) - وَعَنْ أبي هُرَيْرَةً (رضي الله عنه)، أنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «لا تُنكح الأيمُ حَتَّى تُسْتَأمَرَ، وَلا تنكح البكُرُ حَتَّى تُسْتَأذَنَ قَالُوا: يا رَسُولَ الله، وكيف إذنها؟ قَالَ: أَنْ تَسكُت». مُتفق عليه. 940 940 - وَعَن ابن عَبّاس (رضي الله عنهما)، أنّ النّبيّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: «الثيّب أحَقُ بنفسهَا مِنْ وَليّها، وَالبكُرُ تُسْتَأمَرُ، وَإذنها سكّوتها». رواه مسْلِمُ. - وفي لفظٍ: «ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر». رواه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان.

941 - وَعَنْ أبي هُرَيْرَةً (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا تُزَوّجَ المَرْأَةُ المرأة، وَلا تزوج المرأة نفسها». رواه ابن ماجه، والدارقطني، ورجاله ثقات. هذه أحاديث ثلاثة كلها تدور حول شيء واحد وهو رضا الزوجة هل هو شرط أو ليس بشرط، هذه الأحاديث تبين حكم هذه المسألة، فحديث أبي هريرة يقول (صلى الله عليه وسلم): «لا تُنكح الأيم»، أي: لا تزوج حَتَّى تستأمر، والأيم هي التي فقدت زوجها، فهي التي قد تزوجت، وعبّر عنها في الحديث الثاني بالثيب؛ لأنها قد زالت بكارتها بالزوج الأول، «حَتَّى تُستأمر» أي: يؤخذ أمرها، وذلك بأن تقول: نعم زوجوني بفلان، أما البكر فقال: «لا تُنكح البكر حَتَّى تُستأذن»، فيقال: سنزوجك فلانًا، ولا نقول: هل ترغبين؟ هل توافقين؟ هل تأمرين بذلك؟ لا يقال هكذا، بل يُقال: ستزوجك فلانا، ولكن أشكل على الصحابة -رضي الله عنهم- كيف تستأذن يعني: كيف يكون صدور الإذن منها؟ فقال: وأن تسكت، وإنما سألوا هذا السؤال؛ لأن الغالب على البكر الحياء وأنها تخجل أن تتحدث بما يتعلق بالزواج. فيستفاد من هذا الحديث: تحريم إنكاح الثيب حَتَّى تُستأمر لقوله: «لا تُنكح» لأنه نفي بمعنى النهي، والنفي إذا كان بمعنى النهي زاده تأكيدا، كيف ذلك؟ لأنه إذا صيغ بصيغة النفي فالنفي خبر وليس إنشاء، فكأنه يقول: إن هذا الأمر أمر مفروغ منه لا يمكن أن يقع، ولذلك قال أهل البلاغة: إن إتيان النهي بصيغة النفي أو الأمر بصيغة الخبر يكون أشد تأكيدًا، لأنه بمنزلة أن يُقال: إن المنهي عنه ضار أمرا منتفيًا، وإن المأمور به صار أمرا واقعًا، إذن التحريم أخذناه من كلمة «لا تُنكح». فإن قال قائل: هذا نفي. قلنا: هو بمعنى النهي. فإن قال: ما هي البلاغة، أو ما هي الحكمة في أن يأتي النهي بصيغة النفي؟ فالجواب: لأن هذا أبلغ في التأكيد، كان المنهي عنه صار أمرا منتفيًا لا وجود له. ومن فوائد الحديث: حكمة الشرع في التفريق بين الثيب والبكر. ومن فوائده: مراعاة العلل والمعاني في الأحكام، ووجهه: أنه إنما فرق بين البكر والثيب، لأن البكر تستحيي غالبًا ولا تتمكن من المشاورة والائتمار فجعل لها الإذن فقط. ومن فوائد الحديث: اشتراط الرضا من الزوجة ولو كان المزوج الأب، ووجهه: أن هذا

النهي ليس فيه استثناء، وإذا لم يكن فيه استثناء فالأصل العموم، فالأب لا يزوج ابنته البكر إلا بإذنها ولا الثيب إلا بإذنها كغيره من بقية الأولياء. ويُستفاد من هذا الحديث بالقياس: اشتراط رضا الزوج، وأنه لو زوج عن إكراه فإن النكاح لا يصح، وهل يمكن أن يزوج عن إكراه؟ يمكن، لأن بعض الناس يُجُبر ابنه على أن يتزوج بنت أخيه -بنت أخ الأب - ويقول: لابد، فإذا أجبره وتزوج ابنة عمه جبرا فإن النكاح لا يصح. ما تقولون في رجل استأذن ابنته البكر قال: إن فلانا خطبك فهل نزوجك به؟ قالت: نعم أنا لا أطلب إلا مثل هذا الرجل والحمد لله الذي أرشده إلينا هل يزوجها؟ نعم من باب أولى، لكن الظاهرية يقولون: لا يزوجها، لماذا؟ لأن الرسول قال: «إذنها أن تسكت»، وهذه ما سكتت، هذه امرأة تقول: زوجوني ما نزوجها، والأخرى سكتت نزوجها، أيهما أولى؟ الأولى لو استأذنها أبوها فضحكت أو استأذنها فبكت؟ هذا يُنظر، على كل حال: العلماء اختلفوا، فبعضهم قال: إذا ضحكت فإنه ليس بإذن؛ لأنها قد تضحك تعجبًا من حال أبيها، فيكون الضحك ضحك استنكار وليس ضحك إقرار، ومنهم من قال: إن هذا إذن، لأن الضحك يدل على الانبساط والفرح والسرور فهو أبلغ من السكوت، التي بكت هل هو أقرب للمنع أو للإذن؟ الظاهر أنه للمنع أقرب لكن مع ذلك يقول الفقهاء -رحمهم الله- ولو ضحكت أو بكت فهو إذن، لكن يظهر أنها إذا بكت فإنها لا تريد أن تتزوج، وقد يكون البكاء من الفرح، ولكن الأقرب أنه ليس بإذن، لكن لو قال: أنت لا تبكين ماذا تقولين؟ فسكتت حينئذ يكون إذنا. الحديث الثاني -حديث ابن عباس - قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «الثيّب أحق بنفسها من وليها» يعني: أنها يُرجع إليها في النكاح، وتُشاور مشاورة دقيقة، فلا يكفي أن يُقال خطبك فلان، فهل تأذنين بالتزويج، لا، فلابد أن تُستأمر ويكشف لها الأمر، فيقال مثلاً: هو شاب أو شيخ عالم أو جاهل، غني أو فقير، ذا شرف أو ليس ذو شرف، يعني: يبين لها الأمر تمامًا؛ لأنها أحق بنفسها، ولهذا لا تزوج حَتَّى تُستأمر، أما البكر يقول: تُستأمر، أي: تُستأذن، والدليل قوله: «إذنها سكوتها»، ولم يقل: وأمرها سكوتها، بل قال: إذنها وهذا التفسير يدل على أن المراد بقوله:

«تُستأمر» أي: تُستأذن، وإذنها سكوتها، والذي يستأذنها أبوها أو وليها غير الأب، ويكفي في البكر أن نقول: خطبك رجل كفء فهل تأذنين؟ إذا قالت: نعم صح الإذن؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) إنما طلب إذنها، استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن الثيب تُزوج نفسها قال: لأنه قال: «أحق بنفسها من وليها»، «والبكر تُستأمر» يعني: تُستأذن ولكن لا دليل فيه، وذلك لأن قوله: «أحق بنفسها من وليها» هذا من باب أنه يكشف لها عن الأمر تمامًا حَتَّى تكون كأنها تشاهده عيانًا ثم بعد ذلك تأذن أو لا تأذن، وهذا الذي قُلناه وإن كان خلاف ظاهر الحديث لكنه لا يمكن الجمع بين هذا الحديث وبين ما سبق من النصوص الدالة على اعتبار الولي إلا بهذا التأويل. وفي لفظ: «ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تُستأمر»، «ليس للولي مع الثيب أمر» أي: في تزويجها، بل الأمر إليها إن شاءت أذنت وتولى العقد وليها، وإن شاءت لم تأذن، «واليتيمة تُستأمر»، واليتيمة هي التي مات أبوها ولم تبلغ، «وتُستأمر» أي: تُستأذن كما في الأحاديث السابقة، ولكن هل المراد باليتيمة هنا حقيقة اليتيمة أو المراد باليتيمة التي لم تتزوج وهي قد بلغت قريبًا؟ الثاني، وذلك لأن التي دون البلوغ لا يزوجها أحد من الأولياء؛ لماذا؟ لأن إذنها غير مُعتبر عند كثير من العلماء، وإلا بعضهم يقول: يعتبر الإذن من السنة التاسعة، لكن أكثر العلماء على خلافه، وَعَلى هذا فيكون المراد باليتيمة: البالغة القريبة البلوغ؛ لأنها هي التي يصح إذنها، أما ما قبل البلوغ فليس لها إذن مُعتبر؛ وذلك لأنها لا تعرف، صغيرة لا تعرف مصالح النكاح، فيكون إذنها كالعدم، على كل حال: هذه الأحاديث كلها تدل على أنه لابد من إذن الزوجة في إنكاحها. ثم قال عن أبي هريرة: «لا تُزوّج المرأة المرأة ... » إلخ، «لا تزوج»، عندي بالرفع، وعلى هذا فيكون نفيا بمعنى النهي، والخبر بمعنى الطلب يأتي كثيرًا سواء كان أمراً أو نهيًا، «لا تزوج المرأة المرأة» حَتَّى ولو كانت بنتها فإنها لا تزوجها ولا تزوج نفسها حَتَّى وإن كانت كبيرة عاقلة فإنها لا تزوجها، لو وكلتها امرأة أخرى جاءت امرأة إلى امرأة كبيرة في السن عاقلة رشيدة وقالت لها: قد وكلتك أن تزوجيني فزوجتها؟ لا يصح؛ لأنه إذا كان لا يصح العقد لنفسها فلغيرها من باب أولى، وهذا الحديث يضم إلى ما سبق؛ لأنه لابد من الولي في النكاح، وقد سبق الكلام عليه، وبينا أن القرآن والسنة كلاهما يدل على اشتراط الولي. أما الفوائد فحديث أبي هريرة أخذنا فوائده.

حكم الشغار

وحديث ابن عباس فوائده قريب من الأول: وهو أن الثيب لابد أن تأذن في النكاح على وجه ينكشف به الحال؛ لأنها أحق بنفسها. ومن فوائده: أن اليتيمة -وهي التي لم تتزوج بعد- لابد أن تُستأمر، والمراد: تُستأذن، فيكون دالاً على ما دل عليه الحديث الأول. ويستفاد من هذا الحديث: حكمة الشريعة في أنها تنزل كل حال ما يليق بها. أما حديث أبي هريرة الثاني فهو أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نهى أن تزوج المرأة نفسها أو غيرها وعلى هذا لا يكون لها ولاية ولا وكالة في عقود النكاح. ومن فوائد الأحاديث كلها: حفظ حقوق المرأة في الإسلام خلافا لما كانوا عليه في الجاهلية حيث إنهم يُجبرون بناتهم أن يتزوجن بما يشاءون لا بما يشأن. ومن فوائد الأحاديث كلها: مراعاة أهلية الولاية، أي: أنه لا يتولى الأمور إلا من كان أهلاً. ومن فوائدها: الإشارة إلى قُصور المرأة، وأنها إذا كانت لا يصلح أن تكون وليّة على نفسها في التزويج فإنه لا يصح أن تكون وليّة على غيرها في الحكم والإمارة، ولهذا لا يصح أن تكون امرأة أميرة ولا يصح أن تكون قاضية، أما أن يُحكمها نساء في أمر بينهن فلا بأس، أو تكون مديرة لمدرسة نساء فلا بأس، لكن أن تكون لها إمرة على الرجال أو على العموم فإن ذلك لا يصح شرعًا؛ لأنها إذا كانت ليست أهلاً أن تزوج نفسها أو تكون وليّة على نفسها فعلى غيرها من باب أولى. حكم الشغار: 942 - وعن نافع، عن ابن عمر (رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الشغار: والشغار: أ، يزوج ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق». متفق عليه. - وَاتَفَقا مِنْ وَجْهِ آخَرَ عَلَى أَنْ تُفسير الشغار من كلام نافع. هذا الحديث يقول ابن عمر: «نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن نكاح الشغار»، كلمة «نهى»، مأخوذة من النهي، وتعريف النهي: طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء، وليس المراد بالفعل هنا ما يقابل القول، بل المراد بالفعل هنا: الإيجاد ولو كان قولاً، فلو قال الشخص لآخر: لا تقل كذا فهذا طلب الكف عن القول، لكنه نهي، إذن هو طلب الكف على وجه الاستعلاء، يعني: أن يشعر الطالب بأنه أعلى رتبة من المطلوب، حتى لو فرض بأنه أدنى رتبة في الواقع فإنه يُسمى نهيًا، كيف يشعر بأنه أعلى وهو أدنى رتبة؟ لنفرض أن رجلاً وجد أميراً ليس معه جنود

والرجل هذا لص وجده في البر وقال له: لا تركب بعيرك، ماذا نقول؟ هذا نهي، مع أن الناهي أدنى رتبة، لكن هُوَ في نفس الأمر يرى أنه أعلى منه، ولهذا قالوا: على وجه الاستعلاء، ولم يقولوا: طلب العالي من النازل. قوله: «نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم). لا شك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أعلى رتبة من أمته فيوجه النهي إليها، واختلف العلماء في كلمة «نهى عن كذا»، أو صيغة النهي المعروفة، يعني: أنهم اختلفوا هل قول الصحابي كقوله: «قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لا تفعلوا؟ » على قولين: القول الأول: أن قول الصحابي «نهى»، أضعف من قوله: «قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لا تفعل؟ قالوا: لأن «لا تفعل»، صريحة في النهي؛ لأن هذه هي صيغة النهي، وأما «نهى»، فهنا تعبير الصحابي عما فهمه من قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقد يفهم من شيء ليس بنهي أنه نهي وعلى هذا فتكون أضعف، ولكن مع ذلك لها حكم النهي بالصيغة لا شك، وذلك لسببين: السبب الأول: أن الصحابة -رضي الله عنهم- يعرفون النهي ليسوا عجمًا، لا يدرون النهي من الخبر. والثاني: أن عند الصحابة من الورع ما يمنعهم من أن يقولوا: نهى مع احتمال أنه ليس بنهي، فمن قال لا: يستفاد منه النهي؛ لأنه ليس بصيغته فقوله ضعيف، بل نقول: يُستفاد منه النهي بلا شك لكن الصيغة أصرح، ولماذا قلنا: يُستفاد؟ للسببين المذكورين، وعلى هذا فإذا قال: «نهى» فهو كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): «لا تنكحوا شغارًا». يقول: «نهى عن الشغار»، و «الشغار»، مصدر شاغر يُشاغر شغارا، ونظيره في التصريف: قاتل يُقاتل قتالاً، إذن لابد من طرفين وهو مشتق إما من الشغور وهو الخلو، وإما من شغرَ الكلب إذا رفع رجله ليبول، ويمكن أن يُقال: لا مانع من أن يكون مشتقًا من المعنيين جميعًا؛ لأن فيه شغورا وشغراً، فلا مانع من أن يكون مشتقًا منها جميعًا. فما هو الشغار؟ فسره الراوي بقوله: «والشغار أن يُزوّج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته»، وهذا السياق يحتمل أن يكون من ابن عمر كما جاء ذلك، ويحتمل أنه من نافع، وقد جاء كذلك، ويُحتمل أنه من مالك الراوي عن نافع، وقد جاء كذلك، ولكنه لم يرد مرفوعًا فيما أعلم، يعنى: لم يرد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) هُوَ الذي فسر الشغار بهذا، هذه الروايات الثلاث من كلام ابن عمر أو نافع أو مالك ليس بينها تعارض في الحقيقة، لماذا؟ لأنه يجوز أن ابن عمر فسره ثم تلقاه نافع عنه، ثم كان إذا حدث بالحديث لا ينسب التفسير إلى ابن عمر يقوله من

نفسه اعتمادًا على ما رَوَاهُ ابن عمر، وكذلك نقول بالنسبة إلى مالك مع نافع كما أنت الآن تقول: يا فلان، لا تقصد السوء فإنما الأعمال بالنيات ... إلخ، هذا يُحمل على أنه من قولك لكنه من قول الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فابن عمر إذا فسره ثم رواه عنه نافع ثم قاله متحدثا به لا يُقال: إن هذا يعارض أن يكون من قول ابن عمر؛ لأنه من الجائز أن يتحدث به نافع دون أن يسنده إلى ابن عمر فيسمعه سامع فيظنه من قول نافع، وكذلك نقول بالنسبة لمالك مع نافع، على كل حال: لم يرد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) - فيما أعلم- أنه فسر الشغار بهذا، ولكن نقول: إذا فسره الصحابي فهو أعلم الناس بمراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لأنه عاصره وفهمه ولاسيما ابن عمر (رضي الله عنهما) فإنه كان من أحرص الناس على حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولهذا نجد أعلم الناس بكلامه أخصهم بصحبته. إذن نقول: لو كان هذا من تفسير ابن عمر (رضي الله عنهما) فإنه هُوَ المتعين لأن ابن عمر صحابي، والصحابة أعلم الناس بمراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم). يقول: وأن يزوج الرجل ... » إلخ، «يزوجه علي»، «علي» تدل على أنه مشترط، يعني: أن النكاح الثاني شرط للنكاح الأول، وقوله في الحديث: «ابنته»، هذا ليس خاصا بالبنت، بل على سبيل التمثيل، فلو زوجه أخته على أن يزوجه أخته فهو شغار، زوجه أخته على أن يزوجه ابنته شغار هذا على سبيل التمثيل، ولهذا جاءت عبارة الفقهاء - رحمهم الله- أن يزوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته وهي أعم من ابنته، لكن ابنته أوضح، لكن وليته ابحث من وليته، ولهذا غالبًا تجد عبارات السلف وكل من كان من الرسول أقرب تجدها سهلة يسيرة مبسطة تصورها سهل بخلاف عبارات المتأخرين ففيها شيء من التعقيد وإن كان فيها شيء من الشمول، لكن عبارات السلف أصلح وأوضح وأبين. يقول: «وليس بينهما صداق»، وهو المهر، وسُمّى صداقًا؛ لأن بذله لطلب المرأة دليل على صدق الطالب المال محبوب إلى النفوس ولا يبذل المحبوب إلا للوصول إلى ما هُوَ أحب؛ لأنه لا يمكن أن يُبذل المحبوب لطلب المكروه، ولا يمكن أن يُبذل المحبوب لطلب محبوب مثله؛ لأنه يكون عبثًا، إنما لا يبذل المحبوب إلا لطلب ما هو أحب إما عينا وإما جنسا وإما وصفا، المهم: لابد أن يكون هناك مُرجحًا، ولهذا سمي الصداق صداقًا، لماذا؟ لأنه دليل على صدق الطالب كما سميت الصدقة صدّقة؛ لأنها دليل على صدق باذلها وأنه يريد ثواب الله، تصورتم الآن الشغار، يقول: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك، فقال: قبلت، ثم زوّجه! هذا شغار بشرط ألا يكون بينهما صداق، ووجه النهي عنه ظاهر جدا، لأن الله تعالى قال: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم} [النساء: 24]. وفرج المرأة ليس مالاً، وهذان الرجلان جعلا بضع كل واحدة من المرأتين مهرا للأخرى وهذا لا يصح، هذا وجه.

? الوجه الثاني: أنه لو جاز هذا لكان سببًا لإضاعة الأمانة؛ لأن الرجل ربما يزوج ابنته من ليس بكفء؛ لأنه سيزوجه ابنته فيغير الأمانة. ثالثًا: أنه قد يؤدي إلى إكراه المرأة على الزواج؛ لأن الولي يريد أن يصل إلى غرضه وغايته فلا يهمه رضيت أم كرهت. الرابع: أنه يكون في الغالب سببًا للنزاع والخصومات التي لا تنتهي؛ لأن إحدى المرأتين لو فسدت على زوجها حاول زوجها أن يفسد موليته على الزوج، وهذا يقع كثيرا إذا رغبت الزوجة على زوجها مباشرة ذهب إلى ابنته عند زوجها ويفسدها عليه وهذا مُشاهد ومُجرب، فهذه أربع مفاسد كلها تدل على أن نكاح الشغار باطل لا يقره الإسلام، ولكن الحديث يدل على أنه لا يكون شغارا إلا بشرطين: الأول: أن يكون نكاحًا مشترطًا في نكاح الأولى لقوله: «على أن يزوجه». الثاني: ألا يكون بينهما صداق لا قليل ولا كثير، فلننظر إلى مفهوم هذين الشرطين إذا زوجه ابنته ثم زوّجه الأخر بعد ذلك ابنته بدون شرط فهذا ليس بشغار وصحيح ولا فيه إشكال، ولكن هل يجب المهر لكل واحدة أو لا؟ نعم يجب مهر المثل لكل واحدة ما دام لم يسم فإن الواجب مهر المثل. مسألة أخرى: لو زوجّه ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وجعلا صدّاقًا لكل واحدة فليس بشغار، وظاهر الحديث أنه يصح ولو بأدنى صداق، وأدنى الصداق ما يصح عقد البيع عليه (شيء بربع ريال) هل يصح عقد البيع عليه؟ نعم، «التمس ولو خاتماً من حديد»، ولكن هذا ليس بمراد؛ يعنى: حتّى وإن كان هذا ظاهر الحديث فليس بمراد، وذلك بمقتضى قواعد الشريعة، لأنه إذا أعطاه درهمًا واحد فهل هُوَ جعل للمرأة مهرها الحقيقي أو صار مهرها هذا الدرهم والبضع؟ الثاني، بل البضع أكثر بكثير من الدرهم، ولهذا لابد أن نقيد بأن يكون الصداق صداق المثل، فأما إذا كان دون ذلك فإنه لا يصح؛ لأنه إذا كان دون ذلك صار بضع إحداهما جزءًا من الصداق والبضع ليس بمال، فلابد أن يقيد بأن يكون مهر المثل، وإذا كانت إحدى البنتين بكرا شابة والبنت الأخرى ثيبا عجوزاً يختلف المهر وليكن كذلك لا بأس أن الذي تزوج عجوزا ثيبا يبذل مهرا يكون لمثلها، والثاني يبذل مهرا يكون لمثلها، المهم: أن يكون مهر المثل. هناك أيضا شرط ثانٍ لابد منه وهو رضا البنتين، وهذا يؤخذ مما سبق من الأدلة أنه لابد من رضا الزوجين في النكاح وإلا لم يصح النكاح. لابد من شرط ثالث أيضا وهو أن يكون كل منهما كفؤا للمرأة، فإن كان غير كفء فإنه لا

? يصح، إذا تمت هذه الشروط فإن النكاح يكون صحيحًا، ولكن قد يورد علينا مورد فيقول: إن هذه الشروط إذا اجتمعت لا تمنع من أن يخون الولي في ولايته؛ لأنه سيحصل له زوجة، فما هو الجواب عن هذا؟ الجواب أن نقول: إنه وإن خان فإننا ما دمنا اشترطنا رضا الزوجة فإنها لن ترضي إلا بمن تريده. فإن قال قائل: وَإِذَا تجاوزنا هذا فإنه يرد علينا المفسدة الثانية، وهو أنه إذا ساءت العشرة في إحدى الزوجتين فإن زوجها سوف يفسد زوجة الآخر عليه فما هُوَ الجواب عن هذا؟ هذا حقيقة ليس عنه جواب إلا أن يقول قائل: إن الجواب أن الأصل عدم ذلك لكنه لا يمكن أن نقول: إن الأصل عدم ذلك، ونحن قد عللنا به النهي؛ لأننا لو قلنا: إن الأصل عدم ذلك بطل أن يكون علة للنهي وصار هناك تناقض، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن نكاح الشغار لا يصح مطلقًا حَتّى ولو برضا الزوجتين، ولو يكون كل واحد منهما كفؤا لها، ولو سميا صداقا يبلغ صداق المثل، وهذا القول متجه لوجهين: الوجه الأول: ما ثبت في صحيح مُسلم عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «لا شغار في الإسلام» وهذا عام. والثاني: أننا في عصرنا هذا يجب التحرز من فتح الباب؛ لأنك إذا فتحت الباب ربما يسميان مهرا يقول: زوجتك بنتي بعشرة آلاف ريال على أن تزوجني بنتك بعشرة آلاف ريال ثمّ إذا تم العقد قال: أنا أب، لي أن أتملك من مال ابنتي ما شئت وسمحت عن المهر، وذاك يقول أيضا: سمحت عن المهر، وتكون النتيجة أن لا مهر، فلذلك أنا أرى سد الباب في هذا الزمن، وأنه لا يصح الشغار مطلقا وإن كان المذهب يمشون على ما شرحنا أولاً بمقتضى الحديث ولكن نظرا لفساد أهل الزمان أرى أن يُسدّ الباب مطلقًا، ولكن هنا مسائل قد وقعت ولاسيما عند البادية، ولكن حصل برضا الطرفين وبمهر وبالشروط المعروفة فهل نفتي بالمنع الذي اخترناه نظرًا لفساد أهل الزمان، أو نقول: هذا أمر جرى، وما دام يمشي على ما يقتضيه هذا الحديث فإننا نمضيه نرى هذا أيضا أنه ما قد وقع الناس منه وكان فيه مهر فإنه يمضي ولا نفرق بين الزوجين وزوجتيهما، ولا نقول: إن أولادكما ليسوا أولاً شرعيين لا إنما نقول: أنتما الآن على نكاحكم ما دام قد حصل الرضا، وأن كل واحد كفء للثاني وحصل المهر فالنكاح صحيح، لكن نمنع الابتداء ونكون

تخيير من زوجت وهي كارهة

بذلك مطبقين للقاعدة الاستدامة أقوى من الابتداء المعروفة عند العلماء، ولها فروع منها الطيب للمحرم ممنوع ابتداء وليس ممنوعا استدامة ولهذا قالت عائشة (رضي الله عنها): «كنت أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو محرم». ومن فوائد الحديث: تحريم نكاح الشغار، ودليله: النهي، والأصل في النهي التحريم؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]. ومن فوائد الحديث: أنه لو عقد نكاح الشغار فإنه لا يصح، لماذا؟ لأنه منهي عنه، ولو صححنا المنهي عنه لكان في ذلك مضادة لله ورسوله، لأن الذي نهى الله عنه ورسوله يُراد منه اجتنابه والقضاء عليه، فإذا صححناه فهذا إثبات له وإبقاء عليه، ولقول النيي (صلى الله عليه وسلم): «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». والمنهى عنه ليس عليه أمر الله ورسوله، بل أمر الله ورسوله على تركه واجتنابه فيكون بذلك باطلاً مردودًا. ومن فوائد الحديث: عناية الشرع بالمرأة لحماية حقوقها لئلا تكون ألعوبة بيد الرجال، فإنه لو جاز الشغار لتلاعب الرجال بالنساء وصار الإنسان يجعل مولياته اللاتي ولأه الله عليهن ألعوبة يكتسب بها الأبضاع ويتزوج بها ما شاء من النساء، وجهه: النهي عن الشغار. ومن فوائد الحديث: سد الشرع لجميع أبواب ما يقتضي النزاع؛ لأن نكاح الشغّار من أسباب النزاع، فإنه إذا وقع العقد شغارا وساءت العلاقة بين إحدى الزوجتين وزوجها حاول هذا الزوج أن يُفسد المرأة الأخرى على زوجها وحصل بذلك من النزاع والشقاق ما هو معلوم. تخيير من زوجت وهي كارهة: 943 - وعن ابن عباس (رضي الله عنهما): «أن جارية بكرًا أتت النبي (صلى الله عليه وسلم) فذكرت: أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي (صلى الله عليه وسلم)». رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وأعل بالإرسال. «الجارية» تطلق على الأنثى الصغيرة، وتطلق على الأمة المملوكة، وتطلق على مجرد الأنثى، فلها إطلاقات بحسب السياق، ولكن الأكثر أن الجواري: النساء الصغار.

يقول: «جارية بكرًا»، هو عطف بيان يبين أن هذه الجارية بكرا ليست ثيبا، «أتت النبيّ ... » إلخ. قوله: «زوجها وهي كارهة»، الجملة هنا حال، يعني: والحال أنها كارهة لم ترض الزواج أو لم ترض الزوج، «فخيرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، خيرها بين أن تبقى مع الزوج أو تفسخ النكاح مع أنها بكر والولي أبوها. وقول المؤلف على هذا الحديث: «أعِلُ بالإرسال»، العلة: وصف خفي لا يطلع عليه إلا جهابذة العلماء يوجب القدح في الحديث؛ وذلك لأن العلة إذا كانت ظاهرة فإنها تكون معلومة كل يطلع عليها مثل لو أسند الإمام أحمّد حديثًا إلى عمر بن الخطاب علة هذا الحديث ظاهرة واضحة لكن لو يأتي إنسان معاصر لشخص يسند الحديث إليه ولكنه لم يسمع منه هذا يخفى على كثير من الناس أن الرجل المعاصر لم يسمع ممن أسند الحديث إليه، ولهذا قال ابن حجر (رحمه الله) في شرح «نخبة الفكرة»: هذا من أغمض أنواع الحديث، يعني: أنه غامض، الإرسال علة لا شك، والذي فات فيه اتصال السند، لكن إذا روي الحديث مرسلاً تارة وموصولاً أخرى وكان الواصل ثقة فإن هذه العلة لا تقدح؛ لأن مع الثقة زيادة علم مثال ذلك: الحديث رواه أربعة (? ، ? ، 3، 4) تارة يروى الحديث بهذا السند كله أربعة رجال، وتارة يروى بسند (? -? -4) فيسقط واحد، هذه الرواية مرسلة، لكن إذا كان راوي الأولى ثقة فإن الإرسال في الثانية لا يقدح، لماذا؟ لأن معه زيادة علم، واحتمال النسيان في الرواية الثانية وارد، قد يكون الراوي الذي أرسله نسي، إذن العلة هنا غير قادحة لا على رأي الفقهاء ولا على رأي المحدثين؛ لأن له شواهد تؤيده منها ما ثبت في الصحيحين فيما سبق: «لا تُنكح البكر حَتَّى تُستأذن»، وفي رواية لمسلم صريحة: «البكر يستأذنها أبوها»، فإذا كانت لا تُنكح حَتَّى تُستأذن، فإن أنكحت بغير استئذان صار النكاح منهيًا عنه، ولكن يرد علينا إذا كان منهيًا عنه فكيف نخير المرأة؟ أفليس القاعدة أنه إذا كان منهيا عنه ألا يصح ثم إن اختارت النكاح جددنا العقد؟ فيقال: إن النهي هنا ليس لحق الله (عز وجل) وإنما هو لحق الآدمي، فإذا رضي الآدمي بإسقاط حقه وإمضاء العقد فإن العلة -علة النهي- تزول، ولهذا خيرها النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يفسخ النكاح. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للإنسان أن يشكو والده عند القاضي في الحقوق الخاصة، مثلاً: لو أن والده أبى أن يزوجه وهو فقير وأبوه غني فله أن يرفعه للحاكم ويطالبه بتزويجه؛ لأن هذه من الحقوق الخاصة التي لابد له منها، ولو أبى أن ينفق عليه وهو فقير والأب غني فللولد أن يرفعه إلى الحاكم؛ لأن هذه من الحقوق الخاصة التي لابد للولد منها، فإذا زوّجه بواحدة

ولم تعفه فطالب بثانية فيجب أن يزوجه وبثالثة وبرابعة، على كل حال: الحقوق الخاصة للإنسان أن يُطالب والده بها، أما ما لا يختص بذات الشخص كالديون مثلاً فإنه لا يُطالبه بها مثل أن يكون الولد قد أقرض أباه دراهم ثم طالبه بها وأبى أن يعطيه إياها فليس له أن يرفعه للحاكم، وإن فعل فإن الحاكم يقول له: «أنت ومالك لأبيك»، فتبطل الحكومة يعنى: الخصومة. ومن فوائد الحديث: أن نكاح البكر ولو كان من الأب يرجع إليها لا إلى الأب، ووجهه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خيرها، ولو كان الأب يملك إجبارها لقال النبي (صلى الله عليه وسلم): إنه لاحق لك مع أبيك. ومن فوائد الحديث: جواز تصرف الفضولي وهو أن يتصرف الإنسان في حق الغير بغير إذنه، فإذا أذن له نفذ التصرف، ووجه ذلك: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) جعل أمر هذا النكاح -أي: نكاح الجارية التي أكرهت على الزواج- إليها، فيفهم من هذا: أنها إن أجازته نفذ، وإن لم تجزه انفسخ، فإذا كان هذا في النكاح مع خطورته ففي غيره من العقود أولى، فعلى هذا لو أن شخصا باع سيارة إنسان بلا توكيل لكنه يعرف أن هذا الرجل يرغب أن يبيع سيارته، فجاء شخص يطلب سيارة فاغتنم الفرصة فباعها عليه بدون توكيل، ثم بعد ذلك أخبر صاحب السيارة فوافق فهل العقد يصح؟ يصح، وهل يملكه المشتري من حين العقد، أو من حين الإجازة؟ الأول، من حين العقد؛ لأنه أجاز العقد السابق، وهذا يُشبه من بعض الوجوه ما مر علينا وهو إجازة الورثة للوصية أو قبول الموصين له الوصية بعد موت الموصي بمدة، فهل ينسحب الملك على ما مضى وتكون في ملك الموصى له من موت الموصي أو من قبول الموصى له؟ ذكرنا أن في هذا خلافا، وأن الذي مشى عليه صاحب «زاد المستقنع»، أن الملك يثبت من حين الموت، وأن المذهب لا يثبت إلا بالقبول. ومن فوائد الحديث: أن الشريعة الإسلامية تأخذ للمظلوم حقه، ولو كان على أقرب الناس إليه، وجهه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خير هذه المرأة التي زوّجها أبوها وهي كارهة؛ لأن هذا ظلم لها، من أظلم الظلم أن المرأة تُزّوج بشخص تكرهه؛ لأن هذا الشخص سيبقى شريكها في البيت وفي الأولاد، فكيف يمكن أن يُجبرها على شخص لا تريده؟ يحصل عليها من الضرر والقلق النفسي، وربما يصل أحيانا إلى حد الجنون، وبعض النساء تحاول أن تخرق نفسها أو تقتل نفسها من شدة ما وجدت من القهر، ولا شك أن هذا من الاعتداء والظلم، والشرع يرفع الظلم عن المظلوم ولو كان من أقرب الناس إليه.

حكم من عقد لها وليان على رجلين

حكم من عقد لها وليان على رجلين: 944 - وعن الحسن، عن سمرة، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «أيما امرأة زوجها ولبان، فهي للأول منهما». رواه أحمد، والأربعة، وحسنه الترمذي. «أيُما امرأة»، هذه جملة شرطية، فعل الشرط: «زوجها»، وجوابه «فهي للأول منهما»؛ أي: من الزوجين؛ وذلك لأن عقد الولي الثاني ورد على امرأة متزوجة فلم يصح، وعلى هذا فتكون المرأة للزوج الأول الذي عقد له أولاً، والمثال واضح: امرأة لها أخوان خُطبت من أخيها الأكبر فزوجها، وخطبت من الأصغر وهو في بلد آخر مثلاً ولم يعلم أن أخاها الأكبر زوجها فزوّجها لمن تكون؟ للأول، ووجهه ظاهر، لأن عقد الثاني ورد على مزوجة فلا يصح، فإن كان الأول أخا لأب والثاني أخ شقيق فلمن تكون؟ للثاني، لأن الأول ليس له ولاية فهو أخ من أب، والثاني أخ شقيق، وإذا اجتمع أخ شقيق وأخ لأب فالولاية للأخ الشقيق؛ لأنها أقوى، إذا زوجاها معا لاثنين فإنه ينفسخ النكاحان، لماذا؟ لأنه لا يمكن فسخ أحدهما فيفسخ النكاحان، وإن زوّجاها واحدًا بعد الآخر، ولكن جهل السابق أو نسي فحينئذ يقرع؛ لأن أحد العقدين صحيح ولكنه مجهول فيقرع، فصارت الأقسام ثلاثة: القسم الأول: أن نعلم المتأخر فالنكاح للأول، والثاني: أن نعلم أنهما وقعا معا، وهذأ تصوره فيه صعوبة لكن تتميمًا للأقسام فهنا لا يصح النكاحان؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، الثالث: أن نعلم الترتيب؛ أي: أن أحدهما قبل الآخر، لكن نجهل أو ننسى، فهنا يقرع بينهما، لماذا؟ لأننا نعلم أن أحد العقدين صحيح، وأنها الآن محبوسة على أحد الزوجين ولا يمكن أن نقول: لا نكاح، بل النكاح ثابت لأحد الرجلين فيميز أحدهما بقرعة؛ لأن العقدين إذا اجتمعا وتزاحما ولم يمكن الجمع بينهما فإنه لا يمكن استحقاق أحدهما إلا بقرعة، والقرعة تجرى في أعظم من هذا، تجرى في الأنفس، في الهلاك، لو كان الناس في سفينة في البحر وكانت السفينة مثقلة ولابد أن يلقي بعض الركاب ليسلم الباقون فإن ترك الركاب غرقوا جميعًا فهل يلقيهم جميعًا؟ لا، لأن هذا إزهاق ?

حكم زواج العبد بدون إذن سيده

لنفوس بريئة، إذن من نلقي؟ قال الشباب: ألقوا الشيوخ؛ لأنهم أقرب للموت، هل يصح هذا؟ لا يصح، وقال الشيوخ: ألقوا الشباب، لأن الأمهات يلدن بدلهم؟ نقول: لا هذا ولا هذا، نقول: بالقرعة كما حصل ليونس -عليه الصلاة وَالسّلام- يونس ركب في فلك مشحون مملوء والى إلى الغرق إلا أن يُلقى بعض الركاب، فساهم فصارت القزعة على جماعة منهم يونس وألقي في البحر، لكن -والله أعلم- أن الذين القوا معه هلكوا، أمّا هو فقيد الله له حوتا كبيرا ابتلعه بدون مضغ أكلة جميعًا وبقي في بطنه، قال (عز وجل): {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143، 144]. لكن صدق رسول الله: «تَعَرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة». لما كان من المسبحين عرفه الله (عز وجل) في الشدة فأنقذه. في هذا الحديث فوائد منها: أنه ينبغي للأولياء إذا خطب من أحدهم أن يرد الأمر إلى الآخرين مخافة أن يقع العقد منهم بدون علم فيحصل اللبس. وفيه أيضًا: أنه إذا عقد أحد الأولياء قبل الثاني فالحكم للأول، ولكن لابد أن يكون كل واحد منهم وليا، أما لو كان السابق غير ولي ولكنه ابن عم أو أخ لأب مع أخ شقيق فلا عبرة بعقده. ومنها: اعتبار الأسبقية في الدين الإسلامي، ولهذا أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) من دعاه اثنان أن يُجيب أسبقهما، فالأولية لها مزية في الدين الإسلامي، وقد تكون الأخروية أحق أو أولى المهم أن الأولية لها الفضل. حكم زواج العبد بدون إذن سيده: (945) - وَعَنْ جَابر (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم): «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه أو أهله؛ فهو عاهر». رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، وكذلك ابن حبان. «أيَّما عبد تزوّج»، «أي»، هذه شرطية، «ما»، زائدة للتوكيد، و «تزوج»، فعل الشرط، وجملة «فهو عاهر» جواب الشرط، وقوله: «بغير إذن مواليه»، الموالي هم الذين أعتقوه في الأصل، وقد يُطلق المولى على المالك وهو المراد هنا؛ وذلك لأنه إذا أعتق ملك نفسه، لكن ما دام مملوكًا فالأمر لسيده، قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32].

حكم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو أختها

وقوله: «أو أهله»، «أو» هذه للشك من الراوي، يعني: هل لفظ الحديث بغير إذن مواليه أو بغير إذن أهله، والمعنى واحد، إذن المراد بالموالي هنا الملاك. وقوله: «فهو عاهر» أي: زان، وذلك لأن نكاحه غير صحيح، إذ إن العبد لا يملك أن يُزوج نفسه، ودليل ذلك في القرآن قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]. {عِبَادِكُمْ} جمع عبد وهو الذكر المملوك، فقوله: {وَأَنكِحُوا} يدل على أن العبد لا يزوج نفسه، وإنما يزوج فهو كالأيم الأنثى التي مات عنها زوجها أو فارقها، لا تُنكح نفسها، بل يُنكحها وليها، إذن فتزوج العبد بغير إذن مواليه، أي: أسياده كتزوج المرأة بغير ولي. يُستفاد من هذا الحديث: أنه يشترط لصحة نكاح العبد أن يأذن سيده إذا أذن فهل هو يزوج نفسه أو لابد أن يزوجه السيد؟ نقول: ظاهر الحديث أنه أذن فله أن يزوج نفسه بخلاف ما إذا كانت المرأة قد أذن لها وليها أن تتزوج فليس لها أن تُزوج نفسها؛ وذلك لأن المرأة ليست أهلاً للعقد أصلاً بخلاف العبد فإنه أهل للعقد ولذلك إذا عتق زوج نفسه، فعدم تزويج نفسه ما دام مملوكا لا لعدم الأهلية ولكن لوجود مانع وهو الملك، إذن للسيد إذا أراد أن يزوج العبد طريقان الأول: أن يقول ولي المرأة: زوجت عبدك فلانا ابنتي فلانة، فيقول السيد: قبلت النكاح لعبدي، يقيد لا يقول: قبلت النكاح فقط، الصيغة الثانية: أن يقول السيد لعباده: تزوج، فيقول ولي المرأة للعبد نفسه، زوجتك بنتي فلانة، فيقول العبد: قبلت. حكم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو أختها: 946 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها». متفق عليه. «لا» نافية ولكن هذا النفي بمعنى النهي: أي: لا تجمعوا بين المرأة وعمتها - يعني: في النكاح- لأن المرأة في هذه الحال تكون بنت أخي الأخرى، «ولا بين المرأة وخالتها»، لأنها تكون بنت أختها، فلا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها. هل نقول في هذه الحال: إن عمة الزوجة حرام وخالة الزوجة حرام على الزوج؟ يُعبر بعض العلماء بذلك فيقول: هذا حرام، ولكنه تحريم إلى أمد، ولكن الصحيح أنها ليست حرامًا، إنما الحرام الجمع، فنقول: هكذا اتباعًا للفظ القرآن والسنة، ففي القرآن {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]. ولم يقل: وحرمت عليكم أخوات نسائكم، وفي السنة هذا الحديث، ولم يقل: حرمت عليكم عمات نسائكم وخالات نسائكم، والمحافظة على

? اللفظ الذي جاء في القرآن والسنة لا يولد إشكالاً، وما قاله الفقهاء -رحمهم الله- ولد إشكالاً، فإن بعض الناس ظن أنها -أي: أخت الزوجة أو عمتها أو خالتها- لما كانت حرامًا فإنها تكون محرمًا، والذي ظن ذلك هم العامة قالوا: مثل أم الزوجة حرام على الزوج وهي محرم، إذن أخت الزوجة محرم إلى وقت معين وعمتها محرم إلى وقت معين وخالتها محرم إلى وقت معين! ! فإذا قلنا: ليست أختها حرامًا وليست عمتها حرامًا وليست خالتها حرامًا، ولكن الحرام هو الجمع زال الإشكال، وصار توهم المحرمية غير وارد، إذن فالمحرم الجمع، إذا ضممنا هذا الحديث إلى الآية الكريمة صار النساء اللاتي يحرم الجمع بينهن ثلاثة: أخت الزوجة، وعمتها، وخالتها فقط وهذا يسير جدا. إذا قال قائل: هل مثل ذلك أختها من الرضاع، عمتها من الرضاع، خالتها من الرضاع؟ فالجواب: نعم لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، فإذا حرم الجمع بين الأختين من النسب حرم الجمع بينهما من الرّضاع، وإذا حرم الجمع بين المرأة وعمتها من النسب حرم الجمع بينها وبين عمتها من الرضاع، وإذا حرم الجمع بين المرأة وخالتها من النسب حرم الجمع بينها وبين خالتها من الرضاع، خلافا إلى ما ذهب إليه شيخ الإسلام من أن أخت الزوجة من الرضاع وعمتها وخالتها لا يحرم الجمع بينهن وبين الزوجة؛ لأن عموم الحديث: ويحرم من الرضاع ما تجرم من النسبة تدخل فيه هذه الصورة، فإنه إنما حرم الجمع بين الأختين من أجل النسب، إذن يحرم الجمع بين الأختين من أجل الرضاع كما حرم الجمع بينهن من أجل النسب، وكذلك يقال في المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، هل يجوز للإنسان أن يجمع بين زوجة رجل وبنته من غيرها؟ يجوز، لأن الذي يحرم الجمع بينهن ثلاث فقط وما عدا ذلك لا يحرم. هل يجوز أن يجمع بين المرأة وبنتها من غير زوجها؟ يعني: مات رجل عن امرأة ثمّ تزوجها إنسان ثم جمع إليها بنتها من غيره؟ لا يجوز، لماذا؟ لأنها أم امرأته، وقد قال تعالى في المحرمات إلى الأبد: {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} [النساء: 22]، إذن بين زوجة الرجل وبنته من غيرها جائز، بين زوجة الرجل وابنتها من غيره لا يجوز حَتَّى لو طلق البنت أو ماتت لا يجوز أن يتزوج أمها؛ لأنها من المحرمات إلى الأبد، هذا الذي ذكر أحسن بكثير من قول بعض الفقهاء: كل امرأتين لو قدرت إحداهما ذكرا والأخرى أنثى لم يحل أن يتزوجها لأجل النسب أو الرضاع لا لأجل الصهر، هذا أسهل أو اللفظ القرآني والنبوي؟ القرآني والنبوي أفضل بكثير؛ لأنك تقول: الذي يحرم الجمع بينهن ثلاث فقط: المرأة وأختها، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها وانتهت. فإذا سألك سائل: هل يجوز أن يجمع بين زوجة إنسان وبنته من غيرها؟

حكم خطبة المحرم ونكاحه

نقول: نعم، ومن هنا ننبه أنه ينبغي لنا أن نحافظ على الألفاظ الشرعية في مثل هذه المسائل، مثلاً عند العامة يسمون زوجة الأب: «خاله»، الآن لو تقول للعامة: يجوز أن يجمع بين بنت الرجل وزوجته قالوا: الخالة، كيف يجوز؟ أنا أقول أن الكلمات تُغيّر المعنى، ولهذا ربما يأتي واحد يقول: أبو الزوجة خالها مشكل هذا، ولهذا نهى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن تسمى صلاة العشاء العتمة، لأن هذه تسمية الأعراب وقال: «إنها في كتاب الله العشاء»، فالمحافظة على الألفاظ الشرعية أولى. إذن الآن الحديث يدل على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، والصحيح: أن هذا يشمل الرضاع كما هو في النسب، إذا وقع العقد على واحدة بعد الأخرى فأي العقدين يصح؟ الأول، إذا وقع العقد عليهما جميعًا فقال: زوجتك ابنتي هاتين؟ لا يصلح العقد، لأنه لا يمكن فسخ أحدهما دون الآخر، ما الجواب عن قول صاحب مدين لموسى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27]. هذا ليس فيه جمع يقول: «إحداهما»، لكن يرد عليه مسألة التعيين وقد أجبنا عنه فيما سبق، نقول: لأن موسى عين ما يريد منهما فلا إشكال فيه. حكم خطبة المحرم ونكاحه: (947) - وَعَن عُثْمَانَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم): «لا ينكح المُحرمُ، وَلا ينكح». رَوَاهُ مسْلِمُ، وَفي روايةٍ لهُ: «وَلا يخطب عليه». 948 - وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: «تزوج النبي (صلى الله عليه وسلم) ميمونة وهو محرم» متفق عليه. 949 - ولمسلم عن ميمونة نفسها (رضي الله عنها: «أن النبي (صلى الله عليه وسلم) تزوجها وهو حلال» هذه الأحاديث في حكم تزوج المحرم وتزويج المحرمة، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «لا ينكح المحرم» يعني: لا يتزوج، وهذا يشمل المرأة والرجل، فالمرأة لا يجوز أن تُنكح، والرجل لا يجوز أن ينكح، وذلك لأن الإنسان إذا نكح وهو مُحرم فلا يخلو من حالين إما أن يتعجل فيدخل بزوجته، وهذا يُؤدي إلى فساد النسك وقد قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. وإما

أن يبقى قلبه مُعَلقا بالزوجة فيفسد عليه الإقبال على نسكه، ولهذا نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، كذلك «ولا ينكح» أي: لا ينكح غيره وهذا في الولي، فإذا كان الولي محرما فإنه لا تزوج موليته ولو كانت حلالاً، ولو كان زوجها الذي تزوجها حلالاً. وفي رواية له: «لا يخطب» يعني: لا يتقدم لشخص يخطب مُوليته ابنته أو أخته، والحكمة في ذلك: هي تعلق القلب واشتغاله بهذه الخطبة. وقوله: «ولا يُخطب عليه» يعني: المرأة إذا كانت مُحرمة فإنها لا تُخطب، فنهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن عقد النكاح وعن وسائله وذرائعه، الوسائل والذرائع هما الخطبة والنكاح والعقد. ففي هذا الحديث: تحريم نكاح المحرم، يُؤخذ ذلك من قوله: «لا ينكح»، وهو إن كان بالجزم فهو نهي صريح، وإن كان بالرفع فهو نفي بمعنى النهي، وظاهر الحديث أنه ما دام مُحرمّا فالنكاح غير صحيح حتى ولو بقي عليه التحلل الثاني، مثاله: رجل كان حاجا فرمى جمرة العقبة يوم العيد وحلق حل التحلل الأول هل يجوز أن يتزوج؟ ظاهر الحديث أنه لا يجوز، ولكن القول الثاني في المذهب - وهو اختيار شيخ الإسلام-: أنه يجوز، وقال: إن قوله: «المحرم» «أل» تفيد الكمال، يعني: المحرم إحرامًا كاملاً وأما ما بعد التحلل الأول فإن المحرّم. النساء كما جاء في الحديث: «إذا رميتم وحلقتم حل لكم كل شيء إلا النساء»، وهذا عقد وليس نساء، فلهذا ذهب شيخ الإسلام، وجماعة من العلماء وأظنه رواية عن أحمد أنه يجوز عقد النكاح بعد التحلل الأول، ولكن المشهور من المذهب أنه كالعقد قبل التحلل الأول، والذي ينبغي للمفتي في هذه المسألة أنه إذا كان ابتداء العقد فلا يُعْقد، لكن لو فرض أن أحدا قد عقد فهذا هُوَ الذي ينبغي أن يُقال فيه بالقول الثاني لصعوبة تجديد العقد؛ ولأنه ربما يكون هناك ذرية جاءوا من بعده، مثال هذا: لو أن شخصا حج ورمى وطاف وسعى ولكن لم يحلق ثم عقد النكاح قبل أن يحلق وقبل أن يفدي عن الحلق فماذا نقول؟ نقول: هذا صحيح، أما لو قال: أريد أن أعقد النكاح، قلنا له: أصبر حَتَّى تحل التحلل الثاني احتياطا وإبراءً للذمة. من فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يأتي بما يشغله عن العبادة أو بما يكون ذريعة لإفسادها؛ من أين يؤخذ؟ من نهي المحرم عن النكاح؛ لأنه إما أن يشتغل، وإما أن يدخل فيفسد نسكه. ومن فوائد الحديث: تحريم خطبة المخرم خاطبًا كان أو مخطوبا، لقوله: «لا يخطب» «ولا يخطب عليه».

ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى سد الذرائع كقوله: «ولا يخطب»، وظاهر الحديث أنه لا تجوز الخطبة تصريحا ولا تعريضا، وقد يقول قائل: إن الخطبة الكاملة هي الصريحة، وأن التعريض لا بأس به مثل أن يصادف رجل آخر وهو مُحرم ويقول مثلاً لا تفوتني ابنتك، أو أنا أرغب في مثل ابنتك، هذا يُسمى عند العلماء تعريضًا، ولكن لا شك أن الأحوط هو ألا يخطب لا تعريضًا ولا تصريحًا. أما حديث ابن عباس فإنه يقول (رضي الله عنهما): إن النبي (صلى الله عليه وسلم) تزوج ميمونة وهو مُحرم، ميمونة بنت الحارث، وهي خالة عبد الله بن عباس. وقوله: «وهو محرم» جملة حالية في محل نصب من فاعل تزوج وهو النبي (صلى الله عليه وسلم) تزوجها وهو مُحرم بالعمرة، ولمسلم عن ميمونة نفسها التي عقد عليها النكاح أن النبي (صلى الله عليه وسلم) تزوجها وهي حلال، ويوجد حديث آخر رواه أبو رافع (رضي الله عنه)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) تزوج ميمونة وهو حلال قال «وكنت السفير بينهما»، يعني: الواسطة، فهنا تعارض حديث ابن عباس المتفق عليه مع حديث ميمونة الذي رواه مسلم وحديث أبي رافع، فاختلف العلماء (رحمهم الله) في الترجيح بينهما؛ فمن العلماء من رجح حديث ابن عباس من وجه واحد فقط من حيث السند؛ لأنه متفق عليه، هناك أيضا وجه آخر: أن ميمونة خالته فهو من أعلم الناس بها، ومنهم من رجّح حديث ميمونة من ثلاثة أوجه: الأولى: أنها صاحبة القصة، ومعلوم أن صاحب القصة أدرى بها من غيره. الوجه الثاني: أنها يُؤيدها حديث أبي رافع وهو السفير الواسطة بينهما. الوجه الثالث: أنه الموافق لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «لا ينكح المحرم»، والأصل عدم الخصوصية، فإذا كان الأصل عدم الخصوصية فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يتزوج وهو مُحرم؛ لأن الأصل أن الثابت للأمة ثبت له، وما ثبت له ثبت للأمة إلا بدليل، وهذا القول الثاني هو الصحيح أن النيي (صلى الله عليه وسلم) تزوجها وهو حلال. فإذا قال قائل: ماذا نصنع بحديث ابن عباس؟ قلنا: ابن عباس لم يطلع على أنه تزوجها إلا بعد أن أحرم النبي (صلى الله عليه وسلم) فظن أنه تزوجها وهو مُحرم فروى ما بلغه ولم يبلغه قبل ذلك أنه تزوجها وهو حلال، فالصواب: أنه تزوجها وهو حلال، وابن عباس لم يطلع على ذلك إلا بعد أن أحرم، على هذا لا تثبت الخصوصية للرسول (صلى الله عليه وسلم) في ذلك، أي: في جواز نكاحه وهو مُحرم، أما على من رجّح حديث ابن عباس فإنه يقول: هذا من خصائص النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقد خص (صلى الله عليه وسلم) بمسائل كثيرة في النكاح.

شروط النكاح

شروط النكاح: 950 - وعن عقبة بن عامر (رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج». متفق عليه. «أحق» اسم تفضيل منصوب على أنه اسم «إن»، و «ما استحللتم» خبر إن، و «ما» هنا في قوله: «ما استحللتم به»، اسم موصول؛ أي: الذي استحللتم به الفروج، وقوله: «أحق الشروط أن يوفى به» يعني: أن يوفى به إذا شرط ما استحل به الفرج. ما معنى قوله: وما استحل به الفرج»؟ لأن الزوجة أو أهلها الذين اشترطوا ذلك لم يبيحوا الفرج للزوج إلا إذا التزم بهذا الشرط، فصار توقف جل الفرج على قبول هذا الشرط، ولهذا قال: «ما استحللتم به الفروج»، وإلا فإن الفروج تستحل بالعقد، لكن الشرط في العقد كالأصل. قوله: «إن أحق الشروط»، «الشروط» جمع شرط، والشرط يُطلق على شرط الصحة وعلى شرط اللزوم، هناك شروط للصحة هذه تسمى شرط العقد، وشروط للزوم تسمى شرطا في العقد، ولهذا يميز العلماء بين شروط النكاح والشروط في النكاح، وشروط البيع والشروط في - البيع، وشروط الوَقف والشروط في الوقف، شرط العقد مثلاً نكاحًا كان أم بيعا أم وَقُفا أو غيره شرط العقد ما تتوقف عليه صحته، بمعنى: أنه إذا فقد لم يصح العقد مثل: العلم بالمبيع وبالثمن في البيع شرط للعقد لا يصلح العقد، إلا به، الولي في النكاح شرط للعقد لا يصح العقد إلا به، الشروط في العقد ما يتوقف عليها لزوم العقد، يعني: يصح، لكن لزومه أو الالتزام به يتوقف على الشرط، لكن لو فقد الوفاء بالشرط فالعقد صحيح. فرق آخر: شروط العقد موضوعة من قبل الشرع فلا يمكن لأحد إسقاطها، والشروط في العقد موضوعة من قبل العاقد فلمن له الشرط أن يُسقطه. قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «إن أحق الشروط أن يوفي به»، هل يريد شروط العقد أو الشروط في العقد؟ الثاني الشروط في العقل، والإنسان إذا اشترط في العقد شروطًا صارت هذه الشروط من أوصاف العقل ودخلت في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. يعني: أوفوا بأصلها ووصفها، ووصفها هي الشروط التي شرطت فيها، الإنسان يُؤمر بالوفاء بالشروط في البيع والوفاء بها قيام بالحق الواجب عليه، فهل يُؤمر بالوفاء بالشروط في النكاح؟ الجواب: نعم، يؤمر أكثر؛ لأنه قال: «أحق الشروط ... إلخ». ووجه كونه أحق الشروط: أن

الشروط في البيع يُستحل بها الانتفاع بالمبيع، والشروط في النكاح يُستحل بها الأبضاع، واستحلال الأبضاع أخطر من استحلال التصرف في المبيع والملك أخطر بكثير، فإذا كان أخطر كان الوفاء بالشروط المشروطة فيه أولى وأحق ولهذا يقول: «إن أحق الشروط ... إلخ». «الفروج»، جمع فرج، والمراد به: الفروج التي أحل الله، وهي فروج النساء. بالنسبة للشروط في النكاح في قوله: «إن أحق الشروط أن يُوفى به ما استحللتم به الفروج»، تنقسم إلى ثلاثة أقسام: شرط بمقتضى العقد، وشرط لمصلحة العاقدين ولا يُنافي العقد وشرط ينافي العقد. فالشرط الذي يكون بمقتضى العقد: هُوَ الذي يثبت سواء شرط أو لم يشرط مثل الإنفاق على الزوجة لو اشترطت المرأة في العقد أن يُنفق عليها الزوج، فهذا الشرط ثابت بمقتضى العقد، وشرطه ليس إلا توكيدا فقط، لو اشترطت الزوجة أن يقسم لها مثل ضرتها فهذا شرط ثابت بمقتضى العقد ولو اشترطته فهو توكيد، لو اشترط الزوج على الزوجة أن تُطيعه فيما يلزمها طاعته فيه هذا بمقتضى العقد لا حاجة لشرطه لكن شرطه يكون توكيدًا. الثاني: ما كان مُخالفا لمقتضى العقد، أي: محرمًا، مثل أن يشترط الزوج على الزوجة ألا تمنعه من الجماع وقت الحيض فهذا الشرط لا يصح وحرام ولا يجوز الوفاء به، ومثل: أن تشترط الزوجة على الزوج أن يقسم لها أكثر من ضرتها أيضا هذا شرط باطل محرّم ولا يجوز الوفاء به أما ما عدا ذلك فهو يثبت بالشرط، والأصل فيه الحل إلا ما دل الشرع على المنع، مثل أن تشترط مهرا معينا تقول مهري ألف درهم أو هو يشترط ألا يزيد المهر على ألف درهم فهذا جائز، ومثل أن تشترط البقاء في بلدها أو البقاء في بيتها فهذا أيضا جائز، ومثل أن تشترط عليه خادمًا يخدمها، يعني: امرأة تخدمها فهذا جائز، والأصل في هذا القسم الحل إلا ما قام الدليل على منعه، إذا اشترط عليها هو ألا يقسم لها وأن يأتيها متى أراد فهذا جائز على القول الصحيح، يجوز أن يشترط ألا يلزمه قسّم لها؛ لأن هذا حق لها أسقطته، ولهذا أسقطت سودة بنت زمعة حقها من القسم لعائشة"، لو شرطت عليه أن يحج بها يصح، لو شرطت عليه ألا تُرضع ولده الظاهر أنه غير صحيح إلا إذا قيل: يصح ما لم يضطر الصبي إليها، فإن اضطر الصبي إليها فلا يصح، على كل حال: اعلموا أن الأصل في هذا هو الجل والجواز إلا ما دل الدليل على منعه فالأقسام إذن ثلاثة: ما كان ثابتًا بمقتضى العقد وهذا يكون شرطه توكيدًا، وما كان مُحَرَمًا

فهذا باطل ولا يجوز الوفاء به، وما ليس كذلك لا هذا ولا هذا، فالأصل فيه الإباحة حتى يقوم دليل على المنع. لو شرطت أن لها الخيار إذا لم يناسبها الوضع أن تفسخ النكاح؟ قال شيخ الإسلام هذا شرط صحيح، لاسيما إذا قالت: إذا لم يُناسبني الوضع مع أهلك فلي الفسخ أو طلب الإنزال في بيتي آخر، لأنه يقع كثيرا أن يكون البقاء مع الأهل غير مناسبٍ، فهي تحتاط لنفسها، فتقول: على أني أشترط عليك إن لم يناسبني الوضع مع أهلك فلي الخيار أو أن تسكنني في مسكن آخر، فهذا الشرط صحيح، لأنه لمصلحة المرأة وليس مخالفا لمقتضى العقد، وإذا شرطت أن تكمل دراستها تقول: هذه ينبغي أن تقيد، يقال: نعم نمكنها من الدراسة بشرط إذا قدّرنا أن الباقي عليها ثلاث سنوات نجعل لها أربع سنوات ولا تزيد، أما أن نجعل لها الباب مفتوحًا فهذا مُشكلة لأن بعض النساء لا يهمها أن تنجح أو لا تنجح فترسب نفسها في مادة: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف: 16] تقول: رسبت، على كل حال: أنا أقول: ينبغي أن تُقيّد لكي لا يتلاعب بحق الزوج. من فوائد الحديث: جواز الشروط في العقود، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) ذكر الشروط على سبيل الإطلاق، لكن هذا مقيد بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة من قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «كل شرط ليس في كتاب فهو باطل وإن كان مائة شرط» ومن قوله (صلى الله عليه وسلم): «المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حرامًا أو حرّم حلالاً». ومن فوائد الحديث: سعة الشريعة الإسلامية، حيث لم تضيق على المكلفين بالشروط، بل جعلت الباب مفتوحًا؛ لأن الإنسان قد يكون له أغراض يحتاج إلى شرطها والالتزام بها. ومن فوائد الحديث: إثبات الشروط في النكاح وأنها أحق بالوفاء من غيرها. ومن فوائد الحديث: الرد على من ضيق الشروط في النكاح حتى كادوا لا يصححون إلا ما كان ثابتا بمقتضى العقد، فإننا إذا لم تُصحح إلا ما كان ثابتًا بمقتضى العقد صار هذا الحديث لا فائدة منه، لأن ما كان ثابتًا في مقتضى العقد فهو ثابت شرط أم لم يُشترط. ومن فوائد الحديث: أن ما كان معلقا بشرط لم يثبت إلا بتحقق هذا الشرط لقوله: «وما استحللتم به الفروج»، فإذا كان عقد النكاح مشتملاً على شرط فإن هذا العقد يعتبر مانعًا من تحليل الفرج إلا بالوفاء به والتزامه. ومن فوائده: الإشارة إلى أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]

حكم زواج المتعة

شامل للوفاء بأصل العقد والشرط في العقد؛ وذلك لأن الشرط في العقد من أوصاف العقد، إذ إن الشرط في العقد يجعل العقد مقيدا بهذا الوصف أو بهذا الشرط والتقييد وصف، فيكون قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} شاملاً للوفاء بأصل العقود والشروط فيها التي هي أوصاف لها، وهذا يفيدك في أشياء كثيرة مما يتعامل به الناس اليوم من المخادعة في العقود التي تكون بينهم وبين دولتهم والتي تكون بينهم وبين الناس، فيظنون أن الشرط في العقد لا يدخل في قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وهذا ظن خاطيء، لأن العقد يشمل نفس العقد وأوصاف العقد التي هي الشروط فيه. ومن فوائد الحديث: أن الأصل في الفروج التحريم؛ لقوله: «ما استحللتم به الفروج» ولذلك لو اشتبهت أخته بأجنبية حرم عليه نكاح المرأتين جميعا وهذا يعيد، لكن يأتي ف الرضاع أحيانا يشتبه هل رضعت الأولى الكبرى من أمه أو رضعت الصغرى، وحينئذ يجب عليه أن يتجنب المرأتين جميعًا حَتَّى يتيقن الحِل، لأن الأصل في الفروج التحريم لقوله: «ما استحللتم». حكم زواج المتعة: 951 - وعن سلمة بن الأكوع (رضي الله عنه) قال: «رخص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام، ثم نهى عنها». رواه مسلم. عام أوطاس هو عام فتح الطائف وهو في نفس الوقت عام فتح مكة، فأحيانا يعبر عنه بعام فتح مكة، لأنه أشهر وأعظم، وتارة يعبر عنه بغزوة أوطاس أو عام أوطاس كما في ذلك الحديث، وذلك لأن العام اثنا عشر شهرا، فإذا كان فتح مكة في رمضان وكانت غزوة أوطاس في ذي القعدة فالعام واحد فيعبّر أحيانا بعام الفتح وأحيانا بعام أوطاس، فهذا الحديث إذن لا يُعارض ما صح لأنه حرمها عام فتح مكة لأن الزمن واحد. قوله: «رخص عام أوطاس»، قد يُستفاد منه: أنها كانت في الأول حرامًا، لأن الترخيص إنما يكون من مُحَرَّم لا رخصة إلا في مقابلة المحرم تكون المتعة حُرمت أولاً ثمّ رُخّص فيها ثلاثة أيام ثم نهى عنها، فتكون حرمت مرتين أولاً ثمّ أبيحت ثمّ حُرمت وهذا يشبه ما مرّ علينا قريبًا من تحريم مكة حيث قال كثير من العلماء: إنها كانت حرامًا ثمّ أحلت للرسول (صلى الله عليه وسلم) ساعة من نهار ثم حرمت، وقد سبق لنا الخلاف في هذا، المتعة اختلف فيها العلماء هل حرمت مرتين أو مرة واحدة؟ فمن العلماء من قال: إنها حرمت مرة واحدة، ومنهم من قال: بل

حرمت مرتين، وهؤلاء استدلوا بهذا الحديث: «رخّص عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنها». 952 - وَعَنْ عَليّ (رضي الله عنه) قال: «ونهى رَسُولَ الله (صلى الله عليه وسلم) عَن المتعة عَامَ خَيبر». مُتَفَق عليه. وعام خيبر قبل عام أوْطاس، لأنه في السنة السادسة وأوطاس في السنة الثامنة، فتكون حرمت عام خيبر وأحلت عام أوْطاس ثلاثة أيام ثمّ حُرمت، وهذا هُوَ الذي ذهب إليه كثير من أهل العلم، ولكن بعض العلماء قال: إنها لم تحرم إلا مرة واحدة عام الفتح فقط، وأن حديث علي: «نهى عن المتعة عام خيبر»، كان فيه لفظ آخر: «نهى عن المتعة عام خيبر، وعن لحوم الحمُر الأهلية»، والذي ثبت تحريمه عام خيبر هو لحوم الحمر الأهلية، فذهب وهم بعض الرواة إلى المتعة في لحوم الحمّر الأهلية، وإلى هذا ذهب ابن القيم في زاد المعاد. أولاً: ما هي المتعة؟ المتعة: هي النكاح إلى أجَّل، مثل أن يقول: زوجني بتلك لمدة شهر، كإنسان قدم بلدا وأراد أن يتزوج لكنه لا يريد أن يتزوج زواجًا مطلقا، فطلب أن يزوجه ولي المرأة لمدة شهر، فوافق على ذلك، نقول: هذا نكاح متعة، لماذا سمي نكاح متعة؟ لأن المقصود به التمتع فقط لا أن يجعلها زوجة يسكن إليها وتلد له وتكون شريكة له في الحياة ومُشاركة لورثته بعد مماته لا يريد أن يتمتع كالتيس المستعار، ثم إذا انتهى الأجل المؤقت انفسخ النكاح، لو قال: أنا رغبت الزوجة أبقوها، قالوا: لا، المدة انتهت، ليس لك خيار وليس فيها عدّة إنما فيها استبراء لئلا تختلط الأنساب، لأنه ليس عقد نكاح عقد متعة فقط، ولهذا ليس فيها نفقة، وليس للزوجة فيها قسم، وليس له عدد محدود ممكن لإنسان إذا كان عنده قدرة بدنية ومالية وقدم بلدًا في نساء كثير أن يتزوج للمتعة مائة امرأة؟ إذ إنه ليس بنكاح ولا تثبت له أحكام نكاح حتى الأولاد لا يُلحقون بالرجل هذا إلا بشرط وإلا فهم أولاد سفاح، فهذه هي المتعة، لكن كانت في الأول حلالاً بناء على أن الشرع الإسلامي إذا سكت عن أحكام الجاهلية فإنها تبقى على ما هي عليه ثم بعد ذلك حُرمت حرمها النيي (صلى الله عليه وسلم) عام الفتح بالاتفاق، لكن هل كانت حلالاً من قبل ثم حُرمت في خيبر ثمّ أحلت عام الفتح ثمّ حُرمت هذا محل الإشكال، وأيا كان فإن المتعة حُرمت إلى يوم القيامة كما في حديث سبرة بن معبد الجهني أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال عام الفتح: «مَنْ كانَ منكم استمتع فليعطها ما استمتع به، ومن لم يكن كذلك فليخل سبيلها»، ثمّ قال: «إن ذلك حرام إلى يوم القيامة»، ثبت ذلك في صحيح مُسلم أنها حرام إلى يوم القيامة، فانتهى موضوع المتعة وصار حرامًا إلى يوم القيامة، أما أهل العلم فقد اختلفوا

مسألة: هل نية المتعة كشرطها

في حكم هذه المسألة، فذهب ابن عباس (رضي الله عنهما) إلى حل نكاح المتعة، وناظره على ذلك ابن عمه علي بن أبي طالب مُناظرة تامة حتى قال له: إنك رجل تائه، قاله علي لابن عباس وبين له أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حرمها وشدد على ابن عباس، ثم إن ابن عباس أختلف الناقلون هل أباحها للضرورة أو إباحة مطلقة؟ والمشهور -بل الذي عليه المحققون - أنه أباحها للضرورة؛ يعني: إذا كان الإنسان في بلد واضطر إليها وخاف الزنا فإنه لا بأس، لكنه لما رأى الناس توسعوا في هذا الأمر وصار كل واحد يدّعي الضرورة رجع عن فتواه ووافق الجماعة، أما العلماء من بعدهم فإن المشهور عند الشيعة أنهم يُحلون ذلك ويجيزونها، والعجب أنهم يدّعون عصمة علي بن أبي طالب وأنه إمامهم ثم يخالفونه في هذه المسألة، هو ينكرها إنكارا شديدا حتى على ابن عمه ويصفه بأنه تائه عن الصواب ومع ذلك يخالفونه كما خالفوه في المسح على الخفين، هو الذي روى التوقيت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المسح على الخفين، وهم يقولون: لا يجوز المسح على الخفين، ولكن علماء الأمة وأئمتها حرموا المتعة وقالوا: إنها حرام، حَتَّى إن بعض علماء الشيعة المتأخرين أنكر المتعة وقال حقيقة الأمر أنها جناية على النساء، تصبح النساء وكأنهن غنم تقرعها التيوس، والمرأة إذا أفسدها الرجل المتمتع هل يرغب أحد في نكاحها بعد؟ لا، فتفسد النساء وتضيع الذرية ويصبح الشعب كأنه شعب بهائم، يعني: بعض العقلاء من الشيعة المعاصرين أنكروا هذا وقال: إن هذا لا يجوز، وإن الصواب مع المانعين. على كل حال: أئمة المسلمين المشهورين كلهم يُحّرمون المتعة، ومن أجازها مثل ابن عباس أجازها عند الضرورة ويشترط ألا يترتب عليها مفسدة بالتوسع فيها وإلا مُنعت كغيرها من المباحات. إذا قال قائل: الحكمة في النهي عن المتعة ما هي؟ أولاً: أن الله جعل النكاح مقراً وسكنًا بين الزوجين، فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] وهذا من أعظم مقاصد النكاح وهو مفقود في نكاح المتعة؛ لأن الرجل نفسه يشعر إنما أراد أن ينال الشهوة فقط والمرأة تشعر بأنها امرأة مُستأجرة للمتعة فقط ولا تشعر بسكن ولا مودة ولا رحمة، ولهذا تجد المتمتع إذا لم تعجبه هذه المرأة ذهب يطلب امرأة أخرى وربما يأخذ بالمتعة عشر نساء قبل أن تغرب الشمس. مسألة: هل نية المتعة كشرطها، يعني: لو أن الإنسان كان في بلد غريبًا، ثم أراد أن

يتزوج امرأة، ومن نيته أن يطلقها إذا غادر البلد، فهذا نكاح مؤقت ولكن بالنية، هذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين، فالمشهور من مذهب أحمد أن ذلك حرام ولا يجوز، وعللوا هذا بدليل وقياس؛ أما الدليل فقالوا: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إنما الأعمال بالنيات»، وهذا نوى نكاحًا مؤجلاً فثبت له ما نوى، وأما القياس فقالوا: إن الإنسان إذا تزوج امرأة لتحليلها لمطلقها ثلاثا بالنية لا بالشرط فإن النكاح يكون فاسداً كما لو شرط ذلك في العقد، قالوا: فإذا كان نكاح التحليل يثبت بالنية فكذلك نكاح المتعة: مع أن التزوج في نكاح التحليل لا يعلم أهل الزوجة ماذا يريد هذا الزوج، وأما الذين قالوا بالجواز فقالوا إن الفرق بينه وبين نكاح المتعة أن نكاح المتعة إذا تمّ الأجل انفسخ النكاح بمقتضى الشرط الذي اشترطه الزوج على نفسه واشترطته المرأة أيضا لنفسها، وأما النية فإنه لا ينفسخ النكاح، لأنه ربما تتغير نيته ويرغب في المرأة ويبقيها زوجة له، ولكن أنا أرى أنه حرام حتى وإن قلنا: إنه ليس من المتعة، وذلك لأن فيه غشًا للزوجة وأهلها، فإن الزوجة لو علمت أن هذا الرجل لا يريد إلا أن يتمتع بها أيامًا ثم يُطلقها لم ترض بذلك وأهلها لا يرضون بذلك، لاسيما أنها تكسد إذا فضر بكارتها أصبحت يَا غير مرغوب فيها، لاسيما أن بعض دول الكفر يرون أن المرأة المطلقة لا يمكن أن تتزوج مدى الدهر وحينئذ تكون معرضة نفسها للسفاح، ولذلك نرى أن هذا حرام لا من جهة العقد، لأننا حتى لو تنازلنا وقلنا: إن العقد لا تُؤثر فيه النية فإن فيه تحريمًا من جهة أخرى وهي الغش، أنت لو أراد شخص أن يتزوج ابنتك أو أختك بهذه النية هل ترى بأنه غاش لها؟ نعم لا شك، ولو علمت بأن هذه نيته ما زوجته، إذن فعامل غيرك بما تُحب أن يعاملك به. فإذا قَالَ قائل: القول بالجواز فيه فسحة للغرباء وفيه منع لهم عن الزنا؟ فالجواب عن هذا سهل أن نقول: إن دواء خوف الزنا بينه الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم» فأنت إذا كنت مستطيعًا للنكاح الصحيح فتزوج بنكاح صحيح لا بنية أنه سيطلقها، وإذا كنت غير مستطيع فعليك بالصوم، هكذا بين لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأما أن نرتكب المحظور من أجل إرضاء الشهوة وخوف الفتنة كما يقولون فهذا ليس بصحيح، خوف الفتنة بين لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دواءه فلنأخذ بهذا الدواء، أما أن نرتكب المحظور ونخلع الناس ونغشهم فهذا ليس بسديد، أما الآن فنعود لبقية الحكم في تحريم نكاح المتعة فنقول: إن فيها مخالفة لمقصود النكاح، لأن مقصود النكاح الألفة وبناء البيت الزوجي والحصول على الأولاد، وهذا -أعني: نكاح المتعة - لا يشتمل على

هذه الحكمة، لماذا؟ لأن الزوج نفسه يشعر بأنه مفارق لهذه الزوجة فلا تحصل الألفة التي يطمئن بها القلب لا بين الزوج ولا بين الزوجة. ثانيا: أن الزوج في هذه الحال سيحاول بقدر الاستطاعة ألا تلد المرأة؛ لأنها مفارقة عن قرب، فسيحاول ألا يأتيه أولاد، وحينئذ تضيع هذه المياه التي كانت بصدد أن تنجب أولاداً بدون فائدة. ثالثا: أن في هذا مفسدة كبيرة للنساء؛ لأن هذا الرجل الذي يريد أن يتزوج نكاح متعة ليس له حد معين في العدد يتزوج ما شاء، فممكن أن يتمتع في الليلة الواحدة بعشر نسوة، يعني: في الشهر ثلاثمائة امرأة تفض بكارتها وتذهب هباء، وإذا قدرنا أن المتمتعين عشرات فكم من امرأة تفسد كل الأبكار تذهب بكارتهن بغير فائدة من سيتزوجها وهي ليست ببكر إلا إنسان بحاجة يعجز عن إدراك البكر ويتزوج امرأة ثيباً أو لغرض آخر يختار الثيب على البكر. ومنها أيضا: أن في هذا إهانة للمرأة وإهدار لكرامتها؛ لأن هذا المتمتع أصبح كالتيس بين الغنم لا يبالي بالنساء ولا يهتم بهن كأنه سلط عليهن لقضاء وطره فقط. ومنها أيضا: أن جميع ما يترتب على النكاح من الأحكام مفقود في المتعة، فيكون هنا استمتاع دون أن تترتب أحكام النكاح عليه مثل التوارث والمهر والأولاد وغير ذلك، كل هذه تفوت، وهذا لا شك أنه دمار، ولهذا كان من الحكمة أن الله سبحانه حرم نكاح المتعة وفي حديث سيرة أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حرمها إلى يوم القيامة وعلى هذا فلا يمكن النسخ؛ لأن الحكم إذا قيد إلى يوم القيامة فإنه لا يمكن نسخه بعد ذلك؛ إذ إننا لو قلنا بجواز النسخ لقلنا بجواز كذب خبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهذا شيء مستحيل. 953 - وعنه (رضي الله عنه): أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن متعة النساء، وعن أكل الحمر الأهلية يوم خيبر. أخرجه السبعة إلا أبو داود. كأن المؤلف ساق هذا اللفظ ليبين انفصال النهي عن المتعة عن أكل لحوم الحمر قال: «نهى عن متعة النساء». تم الكلام، «وعن أكل الحمر الأهلية يوم خيبر». قوله: «نهى عن متعة النساء» احترازاً من متعة الحج؛ لأن هناك متعتين الأولى: متعة الحج، وهذه ليست منهيا عنها، بل مأمور بها، إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب، ومتعة الحج هو أن يحرم الإنسان بالعمرة في أشهر الحج ويتحلل منها ثم يحرم بالحج من عامة فتكون العمرة مستقلة عن الحج ويكون هو متمعاً بين العمرة والحج بما أحل الله له، ولهذا سمي تمتعا كما

قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} [البقرة: 196]. أي: بسبب العمرة وتحلله منها، تمتع بماذا؟ بما أحل الله له، لو أنك قدمت إلى مكة في أشهر الحج ومررت بالميقات وأنت تريد الحج لزمك أن تحرم من الميقات وتبقى في إحرامك إلى يوم العيد، وحينئذ لا تمتع بنساء ولا بطيب ولا غير ذلك من محظورات الإحرام، فإذا نويت العمرة من الميقات ودخلت مكة وطفت وسعيت وقصرت حللت وتمتعت بما أحل الله لك من محظورات الإحرام، إلى متى؟ إلى الحج، إن قدمت في ذي القعدة تمتعت إلى ثمانية من ذي الحجة، ولهذا جاءت «إلى» الدالة على الغاية هذه مأمور بها أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بها أصحابه وحتم عليهم، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنها كانت في تلك -أي: المتعة- واجبة على الصحابة وهذا هو الصحيح بمعنى: أنها واجبة على الصحابة سنة في حق غيرهم، وقد روي مسلم في صحيحه عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنه سئل عن المتعة فقال: كانت لنا خاصة، والمراد بهذا: وجوبها، أما مشروعيتها لعامة الناس فإن سراقة بن مالك سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ قال: «بل لأبد الأبد» لأنها مشروعة، لكن كانت واجبة على الصحابة؛ لأنهم هم الذين خوطبوا بها مباشرة، ولأن في عصيانهم إبطالاً لهذه الشرعة؛ لأنه إذا كان الصحابة المجابهون بالأمر يتركونها ولا يأتون بها كان من بعدهم من باب أولى، فلهذا كان قول شيخ الإسلام أصح مما مال إليه تلميذه ابن القيم من وجوب التمتع أو فسخ الحج إلى العمرة، بل نقول: على الصحابة واجبة وعلى من بعدهم سنة، ولهذا قيدها قال: «عن متعة النساء»، فما هي متعة النساء؟ هي أن يتزوج الإنسان المرأة إلى أجل نهى عنها الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعن أكل الحمر الأهلية يوم خبير، «الحمر الأهلية» قيدها احترازا من الحمر الوحشية، لأنه يوجد حمر وحشية تعتبر صيداً تعيش في البر، وقد اصطاد الصعب بن جثامة للنبي (صلى الله عليه وسلم) حين نزل به بالأبواء، وكان الصعب كريماً، وكان عداء سبوقاً يسبق الحمر الوحشية ويصيدها، فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) بحمار وحشي فرده النبي (صلى الله عليه وسلم)، فتغير وجهه وحق له أن يتغير أن يرد النبي (صلى الله عليه وسلم) هديته والنبي (صلى الله عليه وسلم) أكرم الناس خلقاً فتغير فقال: «إنا لم نردها عليك إلا أنا حرم» فاقتنع. على كل حال: الحمر الوحشية حلال، الحمر الأهلية حرام، لكن قيل: يوم خيبر حلال تذبح وتؤكل، وسبحان الله! قبل أن تحرم كانت من الطيبات وبعد أن حرمت كانت من الخبائث، لأن الحكم لمن؟ لله، فالله عز وجل بعد أن حرمها أودع فيها خبثاً، وكانت في الأول طيبة تؤكل كما يؤكل البقر، لكن لما حرمها الله صارت خبيثة أوجد الله فيها خبثا ولهذا أمر أبا طلحة عام خيبر: إن الله ورسوله ينهياكم عن لحوم الحر الأهلية فإنها رجس، أي: خبيثة نجسة. في هذا الحديث: دليل على تحريم نكاح المتعة فإذا عقد هل يصح أو لا؟ لا يصح، لأن

لدينا قاعدة مفيدة لطالب العلم وهي أن ما نهي عنه لذاته لا يكون صحيحاً ولو فعله الإنسان، فلو أراد شخص أن يصلي في أوقات النهي صلاة لا سبب لها فصلى صلاة خاشعاً فيها مطمئناً لا تصح الصلاة، وكذلك لو أن الإنسان عقد نكاح متعة لا يصح النكاح، كل شيء نهي عنه لذاته فإنه لا يصح، لو باع الإنسان بعد نداء الجمعة الثاني لا يصح البيع ولا ينتقل فيه الملك، بل يبقى المبيع ملكاً للبائع والثمن ملكاً للمشتري. فإذا قال قائل: ما الحكمة؟ لماذا لا تقولون إذا فعل المنهي عنه فهو آثم والعقد الصحيح؟ فالجواب: أن في تصحيح العقد مضادة لله ورسوله، لأن تحريم الشرع له يريد من الأمة ألا يبقى له كيان، وإذا صححناه أبقينا له كيانا وصار معتبرا، ويظهر هذا بالمثال: إذا باع شخص بيتاً على إنسان بعد نداء الجمعة الثاني البيع حرام، العقد باطل غير صحيح، لو قلنا: إن البيع حرام والمتعاقدان يأثمان، ولكن العقد نافذ وصحيح صار هذا مضادة للشيء، لأن الشرع إنما نهاك لئلا تعقد ولئلا ينتقل الملك إلى المشتري في المبيع وملك الثمن إلى البائع، فإذا صححناه فهذا ضد ما أراد الشارع. إذن القاعدة: كل ما نهي عنه لذاته من عبادة أو معاملة إذا وقع من المكلف فهو غير صحيح. ومن فوائد الحديث: تحريم لحوم الحمر الأهلية حتى ولو كانت صغيرة ولو سمينة، لو اضطر الإنسان إليها جاز الأكل لكن بقدر الضرورة، ودليل ذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليوم الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3]. وإذا كان الخنزير وهو أخبث من الحمار يجوز عند الضرورة فالحمار من باب أولى، نحن قلنا: الخنزير أخبث من الحمار، لأن الخنزير لم يأت عليه يوم من الدهر وهو طاهر حلال، والحمار قد أتى عليه يوم من الدهر وهو طاهر حلال. 954 - وعن ربيع بن سبرة عن أبيه (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً». أخرجه مسلم وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، وابن حبان.

حكم زواج المحلل

قوله: «أذنت» أي: رخصت، وهذا لا يدل على تقدم المنع؛ لأن الإذن قد يكون بالقول وقد يكون بالإقرار، فقوله: الإذن، قال: «أذنت لكم»، التحريم أضافه إلى الله ليزيده قوة وقبولا وإذعانا، وإن كان ما حكم به الرسول فهو حكم الله عز وجل لكن هذا أبلغ، لأن الحكم لله والرسول مبلغ، وقوله: «يوم القيامة» هو اليوم الذي يبعث فيه الناس، ويسمى يوم القيامة؛ لأن الناس يقومون فيه من قبورهم لرب العالمين ولأنه يقام فيه الأشهاد: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]. ولأنه يقام فيه العدل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]. قوله: «فليخل سبيلها»، الرسول منع حتى استمرار الإنسان فيه مع أنهم يقولون: إن الاستدامة أقوى من الابتداء، لكن هنا صارت الاستدامة تبعاً للابتداء. وقوله: «فمن كان عنده ... » إلخ، أي: أن من عنده امرأة عقد عليها عقد استمتاع فليخل سبيلها، ولم يقل الرسول (صلى الله عليه وسلم): فليطلقها، بل قال: «يخل سبيلها» يتركها. ثم قال: «ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا»، وإنما نهى عن أن يأخذوا منهن شيئا؛ لأنهن استحققن ما أعطين بما استحل من فروجهن، هذا يدل على ما دلت عليه الأحاديث السابقة، ويدل على أن الحل منسوخ، وعلى أنه نسخ بأمر الله؛ لأن الله حرمه، وعلى أنه لا يمكن أن يعاد حله، أي: نكاح المتعة لقوله: «إلى يوم القيامة». ويستفاد من هذا الحديث: أن من عقد على شيء عقداً فاسداً فإن الواجب التخلي عنه؛ لقوله: «فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها»، وعلى هذا فلو تبايع الرجلان بيعاً غير صحيح بفقد شرط من شروطه أو بمانع من موانعه فالواجب فسخ هذا البيع والتخلي عنه، بل نقول: الواجب التخلي عنه، ولا نقول: الفسخ، لماذا؟ لأن الفسخ فرع عن صحته وهنا العقد غير صحيح. حكم زواج المحلل: 955 - وعن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: «لعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المحلل والمحلل له». رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وصححه. -وفي الباب عن علي أخرجه الأربعة إلا النسائي. لابد أن نعرف من هو المحلل؟ المحلل هو الذي يتزوج امرأة مطلقة من زوج سابق

طلاق ثلاث من أجل أن ترجع للأول حلالاً، وذلك أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاث مرات طلق ثم ارجع ثم طلق ثم ارجع ثم طلق الثالثة فإنها لا تحل له إلا بعد زوج، لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا} فتكون هذه الثالثة؛ لأن ما سبق مرتان فهذه الثالثة، {فَلَا تَحِلُّ لَهُ} أي: للمطلق، {مِن بَعْدُ} أي: من بعد هذه الطلقة، {حتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 229، 230]. أو يطأها؟ النكاح في القرآن الكريم لا يكون إلا للعقد: {وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ .... } [النساء: 22]. أي: العقد، لكن هنا ليس للعقد، هنا للجماع؛ لأنه قال: «حتى تنكح زوجاً غيره»، فأضاف النكاح إلى الزوج ولا يكون زوجا إلا بعقد، فالنكاح بعد الزوجة هو الوطء وإلا لقال: حتى تنكح رجلا غيره، لو قال ذلك صار المراد بالنكاح: العقد، فلما قال: «حتى تنكح زوجاً» فمعنى ذلك: أن الزوجية سابقة على النكاح. وحينئذ يحمل النكاح على الوطء كما دل عليه الحديث الذي ذكره في الحاشية وهو حديث رفاعة القرظي وفيه قالت: «طلقني فأبت طلاقي» يعني: بهذه الطلقة بت الطلاق، المهم أن أقول: الرجل إذا طلق الزوجة ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، فهذا رجل طلق امرأة ثلاثا فجاء صديق له فتزوجها على شرط أنه إذا حللها للزوج، يعني: جامعها بعد النكاح طلقها، نقول: هذا محلل حكمه أنه ملعون، والملعون هو المطرود عن رحمة الله. المحلل له من؟ الزوج الأول كيف كان ملعونا، لأنه كان التحليل باتفاق معه وكان عالما به، أما إذا لم يكن عالما فكيف يلعن، لكن هو عالم كان له صديق فقال له: أنا طلقت أم أولادي، وهذه الطلقة الأخيرة تزوجها حللها لي، ففعل الصديق رأفة بصديقه تزوجها وجامعها رأفة بصديقه، نقول: الثاني محلل والأول محلل له، وكلاهما ملعون على لسان النبي (صلى الله عليه وسلم)، والسؤال الآن هل تحل للزوج الأول أو لا؟ لا تحل للزوج الأول، إذن لم يستفد إلا أنه لعن، وسيأتي بيان ذلك. وقوله: «لعن المحلل» أي: قال لعنة الله عليه، والخبر هنا بمعنى الدعاء، ويجوز أن يكون خبراً بمعنى الخبر، يعني: خبر حقيقي؛ وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يوحي إليه ويبلغ من الله، فيمكن أن يكون قول الرسول: «لعنة الله على المحلل» خبراً عن الله لا دعاء، أما أنا إذا قلت: «لعنة الله على كذا» فأنا داع إلا إذا كنت قد بنيت هذا على نص يدل على هذا مثل «لعنة الله على من لعن

مسائل مهمة

والديه»، هذا خبر، لأنه جاء به النص، فكذلك دعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) على فاعل هذا يحتمل أن يكون دعاء، ويحتمل أن يكون خبراً، حديث جابر: «لعن آكل الربا» أي: قال: اللهم العنه، أو خبر عن الله أنه لعنه؟ فيه احتمال، لكن هذا نقول: سواء كان دعاء أو خبراً فإنه يدل على أن الفاعل مستحق للعنة، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يمكن أن يدعو على أحد إلا وهو مستحق. المحلل هو من تزوج امرأة طلقت ثلاثا من أجل أن يحللها للأول وذكرنا أنه يشترط لحلها للأول شرطان: الأول: صحة النكاح بأن يكون نكاح رغبة لا نكاح تحليل ولا نكاح متعة، فلابد أن يكون النكاح صحيحا، لو تبين أن النكاح غير صحيح فلا تحل للأول، مثاله: تزوج إنسان امرأة نكاح رغبة قد طلقت من زوجها الأول ثلاثا ثم بعد ذلك تبين أنها أخته من الرضاع ما حكم النكاح؟ باطل، هل تحل للأول؟ لا، لأن النكاح غير صحيح، وقد اشترطنا أن يكون النكاح صحيحا، تزوجها بلا ولي أيضا فلا تحل للأول؛ لأن النكاح فاسد غير صحيح. الشرط الثاني: أن يجامعها، والدليل ما سيأتي في حديث عائشة القادم، وقد أشرنا إليه فيما سبق من الشرح، ودليل ذلك في القرآن قوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. وجه الدلالة: أنه قال: {تَنكِحَ زَوْجًا}، والنكاح هنا محمول على الوطء، ولا يصح أن يحمل على العقد؛ لأن قوله: {زَوْجًا} يقتضي أن تكون الزوجية مقدمة على النكاح، وحينئذ يتعين أن يكون المراد بالنكاح: الوطء، ويكون الحديث موضحاً لهذه الآية. مسائل مهمة: هل إذا عادت إلى الأول بعد النكاح الصحيح هل تعود إليه على طلاق ثلاث أو على واحدة؟ يقول العلماء: إنها تعود على طلاق ثلاث، بمعنى: أن الزوج الأول يملك ثلاث طلقات، والطلقات الأولى لا تحسب عليه، فإذا طلقها الزوج الأول بعد أن عادت إليه فيملك أن يراجع، طلق ثانية يملك أن يراجع، طلق ثالثة لا يملك، إذن تعود إلى الزوج الأول على طلاق ثلاث أي: كأنه تزوجها من الآن، لأن نكاح الزوج الثاني هدم الطلاق الأول. فإن طلقها الزوج طلقتين ثم تزوجت بزوج آخر وجامعها ثم طلقها ثم عادت إلى الزوج الأول فهل تعود على طلاق ثلاث أو على ما بقى من الطلاق؟ فيه خلاف، يرى بعض العلماء أن النكاح الثاني يهدم ما سبقه من الطلاق، وعلى هذا فتعود للزوج الأول على طلاق ثلاث، ويرى آخرون بأنه لا يهدم، وعلى هذا فتعود إلى الزوج الأول على ما بقى من طلاقها عادت

نكاح الزاني والزانية

إلى الزوج الأول ثم طلقها فلا تحل له مع أن الطلقة التي وقعت واحدة لكنها مبنية على ما سبق. إذن إذا طلقت ثلاثا ثم تزوجت بآخر ثم عادت إلى الأول تعود إليه على طلاق ثلاث، إن طلقت أقل من ثلاث ثم تزوجت ثم عادت للأول فتعود على ما بقى من الطلاق، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو الصحيح. فإذا قال قائل: كيف يهدم الزوج الثاني ثلاث طلقات ولا يهدم الطلقتين مثلا؟ قلنا: نعم، لأن نكاح الزوج الثاني فيما إذا طلقت ثلاثا صار له تأثير في الحل للزوج الأول، أما نكاحها للزوج الثاني بعد الطلقتين أو بعد الواحدة فليس له أثر، لا يفيد شيئاً؛ لأن الزوج الأول غير محتاج إليه الآن، فلما لم يكن مؤثرا شيئا بقى الطلاق السابق على ما كان عليه، ولعموم قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ... } ثم قال: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. فمذهب أحمد هو الصحيح. وقوله: «في الباب عن علي» إذا أطلق «علي» فالمراد به: علي بن أبي طالب، وإذا قيل: عن ابن مسعود فهو عبد الله، وإذا قيل: عن ابن عباس فهو عبد الله، وإذا قيل: عن ابن عمر فهو عبد الله. نكاح الزاني والزانية: 956 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله». رواه أحمد، وأبو داود، ورجالة ثقات. قوله: «لا ينكح» اختلف المفسرون لهذا الحديث وللآية الكريمة في قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً} [النور: 3].ما المراد بقوله: «لا ينكح»؟ قيل: المراد به: الوطء، يعني: لا يزني الزاني إلا بزانية، الزاني لا ينكح إلا زانية، يعني: الزاني لا يزني إلا بزانية، فجعلوا النكاح بمعنى: الجماع، والجماع بالزنا زنا، ولكن هذا القول ضعيف جدا جدا، لأنه لا يمكن أن يطلق الله النكاح الشرعي الذي ثبت به أحكام عظيمة كثيرة من حل وتحريم ونفقات وإرث لا يمكن أن يطلق هذا النكاح وهو العقد العظيم الذي لا نظير له في العقود على الزنا وهو إن أطلق على الجماع فيمن أضيف إلى زوجته فإنه لا يطلق على الجماع بحال من الأحوال، يعني مثلا: إذا قلنا: نكح الرجل امرأته، أي: جامعها، هذا معقول، لكن نكح الرجل امرأة أجنبية سنة هذا لا يمكن أبدا لهذا نقول: هذا القول ضعيف جدا وهو في نفس الوقت غير مستقيم، لأنه ما معنى لا يزني الزاني إلا بزانية؟ إن أراد إلا بزانية أي: بامرأة، يعني: تمارس الزنا فهذا لا يصدق قضيته، غير صحيح؛ لأن الزاني قد يزني بامرأة بكراً ما تريد الزنا إطلاقا، وإن أراد بالزانية امرأة معروفة

بالزنا وتمارس الزنا، فكأنه يقول: الزاني لا يزني إلا بزانية، فأي فائدة في هذا؟ هذا كما يقال: «الأرض تحتنا والسماء فوقنا، والآكل للخبز آكل للخبز» هذا ليس فيه فائدة، ولهذا كان القول الصحيح: أن معنى الحديث ومعنى الآية: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3]. {لا يَنكِحُ} لا يتزوج إلا زانية، لا يتزوج إلا زانية أو مشركة كيف ذلك؟ نقول: الزاني لا ينكح إلا زانية، إذا كان نكاح الزاني لامرأة عفيفة حراماً فهذه المرأة العفيفة إذا تزوجها الزاني فإما أن تكون عالمة بالتحريم المستفاد من قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولكنها رفضت التحريم وقالت: ليس بحرام ولم ترض به حكماً وحينئذ تكون مشركة؛ لأنها تعتقد أن هذا الرجل جامعها بعقد حلال؛ حيث إنها لم تقتنع بالتحريم، والذي لا يقتنع بحكم الله كافر مشرك، وإما أن توافق على الزواج به وهي تعترف أنه حرام ولكنها لا تبالي بالحرام فتعتقد أنه جامعها جماعاً محرماً بغير عقد صحيح وحينئذ تكون زانية، حمل الآية على هذا المعنى لا يحتاج إلى تكلف ولا يحتاج إلى تأويل مستكره واضح جداً، فنقول: إذا تزوج زان بعفيفة فإما أن تكون راضية بحكم الله بالتحريم فتكون زانية؛ لأنها تعتقد أن هذا النكاح غير صحيح محرم فيكون وطاها بغير نكاح وهذا هو الزنا، وإما أن ترفض الحكم ولا تعترف به وحينئذ تكون مشركة، لأنها رفضت حكم الله واختارت حكماً ترضاه هي فجعلت نفسها شريكة مع الله في الحكم والتشريع وهذا الذي ذهب إليه ابن القيم، وأظن أنه سبقه شيخه ابن تيمية رحمة الله وهو قول ظاهر جداً. أما حكم المسألة فيقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» المجلود في الزنا، وإنما قال: «المجلود» من أجل تحقق الزنا، يعني: الذي ثبت زناه فجلد، «لا ينكح إلا مثله» أي: إلا زانية، ووجهه كما قلنا: إنها عالمة بتحريم النكاح ولكنها مرتكبة للمحرم فتكون زانية مثل هذا الزاني، فعلى هذا يكون الحديث دالا على أنه لا يجوز أن يزوج الزاني حتى يتوب من الزنا، فإن طرأ عليه في النكاح، يعني: كان عفيفا وزوجناه ثم انحرف وصار يزني يذهب إلى البلاد الأجنبية ويزني فهل ينفسخ نكاحه؟ لا، لماذا؟ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء. فعلى هذا نقول: الزاني لا يزوج حتى يتوب، ولو زنى بعد الزواج فإن النكاح لا ينفسخ: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]. نقول في قوله تعالى: {إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} كما قلنا في قوله: {إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} فهذا الذي تزوجها إما أن يكون راضيا بحكم الله وهو يعتقد بأنه مرتكب للحرام فيكون زانيا أو يكون غير راض بحكم الله ويرى أنه لا بأس أن يتزوج الزانية

وحينئذ يكون مشركاً، فلو تزوج بزانية قبل أن تتوب فالنكاح باطل غير صحيح يجب أن يفرق بينهما، فإن تابت قبل أن يعقد عليها النكاح صح أن يعقد عليها النكاح، لأنها إذا تابت ارتفع عنها وصف الزنا وصارت الآن عفيفة، لأن العفة تتجدد كما أن الزنا يتجدد، لكن ما علامة توبتها؟ يقول بعض العلماء: علامة توبتها أن تراود فتمتنع؛ يعني: يذهب لها رجل يقول لها: مكنيني من نفسك، فإذا أبت كان دليلا على توبتها، ولكن هذا القول ضعيف جداً، لأن المراودة لا تدل على التوبة، لأن الذي راودها إما أن يكون معروفا بالعفة والصلاح فإنها ستمتنع وإن كانت ترغب، وإن كان رجلاً فاسقاً فهو على خطر عظيم، ما هو؟ أن يفعل الزنا بها، ولهذا نقول: سلوك هذه الطريقة في استطلاع توبتها خطأ جداً، إذن كيف نعلم أنها تابت؟ نعلم أنها تابت بمن يتصل بها من النساء أو بحيث تأتى أهل العلم وتسألهم تقول: إنها أذنبت ذنبا عظيما تعينه أو تكبره عند المسئول وتقول: أنها تابت فهل لها من توبة؟ المهم أن التوبة لها علامات. خلاصة هذا الحديث: «لا ينكح الزاني المجلود» هل يمكن أن يحول الحديث إلى العموم، أي: لا ينكح الزاني المجلود، ونجعل الزاني وصفاً يشمل المرأة والرجل؟ يمكن، وعلى هذا يكون الحديث مطابقا للآية والآية، مفصلة: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]. والعجيب أن جمهور العلماء على حل تزوج الزاني بالعفيفة والعفيف بالزانية وهذا من الغرائب، وجه كونه غريباً: أن الله قال: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} نصاً في التحريم، لكن هم ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه بناء على معنى قوله: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ} أي: لا يطأ {إِلَّا زَانِيَةً} وقلنا: إنه ضعيف، إذن لو أن خاطبا خطب وهو متهم بالزنا هل نعطيه؟ لا؛ لأن المتهم لا يرضى دينه بل ولا خلقه؛ لأن من المعاصي ما يهدم الدين والخلق، ومن المعاصي ما يهدم الدين فقط، فالزنا -والعياذ بالله- يهدم الدين ويهدم الخلق، ولهذا يضرب بالزاني المثل في خلقه وسفالته. يؤخذ من هذا الحديث من الفوائد: تحريم إنكاح الزاني بعفيفة ما لم يتب، ما الدليل على أنه إذا تاب جاز تزويجه؟ الوصف؛ لأنه إذا تاب زال عنه وصف الزنا. ومن فوائد الحديث: حماية الشريعة للأخلاق، لأن الزاني -والعياذ بالله- لا يبالي أن تزني امرأته؛ لأنه هو يزني بنساء الناس، والواقع في الذنب لا ينكره على غيره. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز -بل يجب- منع تزويج الزاني ولو كان مستقيم الدين في غير الزنا، قد يكون رجل يصلي ويتصدق ويصوم ويحج ويعتمر لكنه مبتلي -نسأل الله العافية- بمسألة الزنا، فهل نزوج هذا الرجل ونقول: هذا دينه جيد ولعله يتوب من الزنا؟ لا يجوز أبدا،

وأشر من ذلك إذا كان لا يصلي؛ بعض الناس يقول: نزوجه لعل الله يهديه، فيزوجوه فتاة دينة طيبة فينكد عليها حياتها بحجة أنه ربما يهديه الله، نحن نقول: ربما يهديه الله، وربما يفسد المرأة، ولهذا يجب علينا إذا استشرنا في أمثال هؤلاء أن نبين النصيحة ولو كان أقرب الناس إلينا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]. 957 - وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: «طلق رجل امرأته ثلاثا، فتزوجها رجل، ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فأراد زوجها أن يتزوجها، فسأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فقال: لا، حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول». متفق عليه، واللفظ لمسلم. قوله: «طلق امرأته» يعني: مرة، ثم مرة، ثم مرة، وليس المراد: أنه قال: أنت طالق ثلاثا، لأن أنت طالق ثلاثا في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا تعد إلا واحدة، كل ما جاءكم «بت طلاقا» أو «طلقها ثلاثا» فالمراد: واحدة بعد الأخرى، ولهذا في هذا الحديث ألفاظ متعددة طلقها آخر ثلاث تطليقات. وقوله: «قبل أن يدخل بها» أي: قبل أن يجامعها، «فسأل ... » إلخ، هذا سبقت الإشارة إليه، وأن الزوج الثاني لا بد أن يجامع، فإن عقد عليها وخلا بها دون أن يجامعها ثم طلقها فإنها لا تحل للأول. وقوله: «من عُسيلتها»، هل العُسيلة هي الإنزال أو مجرد الجماع؟ الجواب الصحيح: أنها مجرد الجماع، وأنها تحل للأول وإن لم يحصل إنزال، لأن الجماع نفسه كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): «عُسيلة»، ولكم مع الإنزال لاشك أنه أتم. وعلى هذا فنقول: إنه لا تحل للزوج الأول حتى يجامعها الزوج الثاني، فإن طلقها قبل أن يجامعها ولو كان قد خلا بها أو قبلها أو ضمها فإنها لا تحل للزوج الأول لابد من جماع. بقي علينا مسألة: هل العبرة بنية الزوجة أو بنية الزوج أو بنية الولي؟ قال الفقهاء: «من لا فرقة بيده لا أثر لنيته». وعلى هذا فالمرجع لنية الزوج، لأنه هو الذي بيده الفرقة هي لو نوت أنه إذا حللها للزوج الأول عادت للأول ليس بيدها لو قالت الزوجة: طلقني، قال: لا، فالعبرة بنية الزوج، وقال بعض العلماء: بل بنيتها أو بنية الزوج، أما كون العبرة بنية الزوج فالأمر ظاهر؛ لأنه هو الذي بيده عقدة النكاح، وأما كون نيتها معتبرة؛ فلأنها قد تسعى إلى أن يفارقها الزوج بأي حيلة، ماذا تصنع؟ تنكد عليه إذا قال: سوي الشاي سوت حليباً أو بالعكس، أو تقول: لا

أسوي كلما أمرها تقول: لا، كذلك عند الفراش تتعبه هذا أيضا ربما يضطر الزوج إلى أن يطلقها، أحيانا بعض النساء تتحدى زوجها تقول له: أنت رجل؟ قال: نعم، أنا أكثر رجولية منك، تقول: إن كنت رجلاً فطلقني، تأخذه الحمية الآن ربما يطلقها، كذلك أيضا ربما يكون الرجل عنده حاجة مدين أو غير ذلك تقول: أنا أعطيك أكثر مما أعطيتني وطلقني، على كل حال: هذا القول وجيه جداً إذا علمنا أن هذه الزوجة نيتها سيئة وأنها نكدت على الزوج حتى طلقها لتعود للأول ينبغي أن نمنعها منه؛ لأنها أرادت الزوج الأول على وجه محرم؛ لأنه لا يحل لها أن تعصي زوجها أو تنكره لحقوقه فتعاقب بالحرمان، ونقول: الآن لا تحل لزوجها، الآن ربما تبكي على الزوج الثاني، لو أن القاضي صار جيداً وقال: عرفنا من تصرفك أنك تريدين الأول وتريدين التحليل فالآن لا تحلي للأول، فيما أعتقد أنها سوف تبكي على الثاني وتحاول الرجوع إليه ربما إذا جاءت الثاني قال لها: «الصيف ضيعت اللبن». وحينئذ تبقى معلقة. على كل حال: الأصل أن النية نية الزوج، ولكن القول بأنه يرجع إلى نية الزوجة قول قوي جداً، قلنا: إن الطلاق كان على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) الثلاث واحدة وظل كذلك في عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر فقال: «إني أرى الناس قد تتايعوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم»، ما معنى «كانت لهم فيه أناه؟ » يعني: كان فيه سعة يطلقون مرة واحدة، هل أنت إذا طلقت مرة واحدة تلتزم بالرجوع إلى زوجتك؟ لا، فبعض الناس عنده جهل يقول: أطلقها ثلاثا من أجل ألا أراجعها، نقول له: أنت إذا طلقت واحدة فإنك لا تلزم بمراجعتها دعها حتى تنقضي العدة وإن شئت راجعها، فهو (رضي الله عنه) قال: «فلو أمضيناه عليهم» فأمضاه عليهم وهذا صحيح، أي: أثر صحيح، وهو صريح في أن إمضاء الثلاث كان من اجتهادات عمر. الحديث في مسلم. قال بعض العلماء: فأخذ العلماء به فكان إجماعا، أي: من العلماء من قال: إن الطلاق الثلاث يكون ثلاثا تبين به المرأة، وقال بعض العلماء: بل الإجماع على عكس ذلك، لأن حديث ابن عباس وهو في مسلم أيضا يقول: كان الطلاق الثلاث في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فعندنا ثلاثة عهود: عهد النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعهد أبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، قالوا: فلو أننا نتساهل في نقل الإجماع لكان الإجماع على ماذا؟ على أن الثلاث واحدة وهذا حق، ولهذا كان الراجح من أقوال أهل العلم: أن طلاق

مسألة شهر العسل

الثلاث واحدة سواء وقع بلفظ واحد أو بألفاظ متكررة، وأنه لا طلاق إلا بعد رجعة أو نكاح جديد، بعد رجعة مثل أن يقول: طلقت زوجتي ثم يراجع، إذا راجع عادت زوجته، فإذا طلق هذه الثانية إذا رجع عادت زوجته، فإذا طلق هذه الثالثة أو يقول لزوجته: أنت طالق وتعتد فتنقضي العدة ثم يتزوجها من جديد ثم يطلق ثم تنقضي العدة ثم يتزوجها من جديد ثم يطلق، فالثالثة هذه تبين بها على كل حال، قولها (رضي الله عنها): «طلق امرأته ثلاثا» الطلاق الثلاث يعني: البت آخر طلقة تكون. هذا الحديث يدل على أن المرأة إذا طلقت ثلاثا لا تحل للزوج الأول إلا بعد النكاح صحيح وبعد وطء الزوج الثاني بعد نكاح صحيح؛ لأن وطء الثاني لا يباح إلا بنكاح صحيح فلابد من نكاح صحيح ولابد من وطء وقوله: «حتى يذوق من عُسيلتها» ذكرنا أن المراد بالعسيلة: الجماع، وأن بعض العلماء قال: المراد به: الإنزال، وأنه إذا حصل جماع بدون إنزال فإنها لا تحل للأول، والصحيح أن المراد بالعسيلة: الجماع وإن لم ينزل، وأنه إذا جامعها فإنها تحل للأول لكن بشرط أن يكون النكاح صحيحا، أما لو كان نكاح تحليل فإن وطأها لا يحل أصلا ولا يحلها للزوج الأول، لأن نكاح التحليل حرام وباطل فلا يفيد شيئا. ومن فوائد هذا الحديث: أنه يكنى عن الشيء الذي يستحيا من ذكره بما يدل عليه لقولها: «قبل أن يدخل بها» والمراد بالدخول: الجماع، وهكذا جاء في القرآن: {مِن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ ... }. ومن فوائده: أنها لو تزوجت بزوج آخر وبقيت عنده سنة أو أكثر ثم طلقها بدون جماع فإنها لا تحل للأول لابد من جماع. ومن فوائد الحديث: أنه إذا تصرف الإنسان تصرفا ولكنه على خلاف الشرع وهو يعتقده صحيحاً فإنه لا عبرة بتصرفه فهنا هذه المرأة لما طلقت ظنت أن التصرف هذا يبيحها للزوج الأول فبين النبي (صلى الله عليه وسلم) أنها لا تحل له حتى يدخل بها. مسألة شهر العسل: *هل يؤخذ من هذا الحديث ما يسمونه بشهر العسل؟ الجواب: أنه لا يؤخذ منه هذا؛ لأن ذوقه من عُسيلتها يمكن أن يكون في ليلة واحدة في

1 - باب الكفاءة والخيار

أول ليلة، فلذلك لا يمكن أن يتخذ من هذا الحديث دليل على ما يسمونه بشهر العسل، ثم هذا الذي يسمونه بشهر العسل كثير من الناس الذين عندهم مال يذهبون إلى خارج البلاد وينفقون نفقات كثيرة وربما يفعلون أشياء منكرة فيبدلون شكر النعمة كفرا -والعياذ بالله-، وما أحسن ما يفعله بعض الناس -وأقول: ما أحسن، يعني: أنه أهون من غيره وإلا فليس له أصل في الشرع- يسافر بها إلى مكة أو المدينة يؤديان عمرة وزيارة للمسجد النبوي، لكن مع ذلك أننا نقول: إن هذا أمر مشروع، لكن نقول: إذا بليتم فهذا أحسن، لكن -الحمد لله- يبقى الإنسان في بلده مستريحا وآمنا. **** 1 - باب الكفاءة والخيار «الكفاءة» يعني: مكافأة الشيء بالشيء، ومن المعلوم أن الكفاءة في الدين من حيث أصل الدين لابد منها، فلا تتزوج المسلمة كافراً باتفاق المسلمين وبالنص أيضا: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. والكفاءة في العدالة يعني: فاسق يتزوج امرأة ملتزمة هذا ليس بشرط ما دام فسقه لا يخرجه من الإسلام، لكنه لا ينبغي أن يزوج الفاسق مع إمكان أن تزوج بعدل لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه»، ولكن أحيانا تلجئ المصلحة إلى تزويج فاسق مثل أن تكون المرأة ثيبا لا يكثر الخطاب عليها، أو تكون المرأة قد كبرت ويقل الخطاب عليها، فهنا تزويجها بالفاسق يكون لحاجة إلا أنه يستثنى من الفسق فسق الزنا كما سبق فإن تزويج الزاني حرام ولا يصح النكاح لقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3]. إذن الكفاءة في الدين لابد منها، ويستثنى منها: أن يتزوج المسلم بالكتابية؛ لأن الزوج هنا أعلى من الزوجة، وقد جاء في القرآن الكريم يحل تزوج الرجل المؤمن بالمرأة الكتابية فقال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ... } [المائدة: 5]. ولكن مع هذا كره كثير من السلف أن يتزوج المؤمن كتابية مع إمكان أن يتزوج مسلمة وإن كان هذا حلالا لكن كرهوا ذلك، وعللوا الكراهة بأمرين: الأول: أن هذا قد يكون خطراً على دين المرء المسلم، ولاسيما إذا أحبها حباً شديداً فإن ذلك يخشى أن تؤثر فيه، ويذكر أن رجلاً مؤذناً صعد المنارة فوجد على أحد السطوح امرأة نصرانية

جميلة فأخذت بلبه فأرسل إليها يخطبها فأبت إلا أن يكون نصرانيا -نعوذ بالله- فحاول فقالت: لا يمكن إلا أن تكون نصرانيا فتنصر، ولما تنصر قالت له: إنك بعت دينك بشيء رخيص فستبيعني بأرخص، لا حاجة لي فيك، فصار مرتداً عن الإسلام، ولم يحصل له مقصوده. إذن استثنينا من مكافأة الدين المسلم يتزوج كتابية، ومع ذلك قلنا: إن كثيرا من السلف كره ذلك خوفاً على الإنسان من أن تؤثر فيه. السبب الثاني: إنه إذا تزوج الكتابية فإنه سوف ينقص تزوج المسلمة، فتبقى النساء المسلمات عانسات لا أزواج لهن، فبدلاً من أن يتزوج كتابية يتزوج مسلمة، يحصن فرج امرأة مسلمة خير له من أن يحصن فرج امرأة كتابية. الكفاءة في العدالة ليست بشرط، لكن لا ينبغي أن يزوج امرأة ذات عدالة برجل فاسق إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ومثلنا لهذا بمثالين. الثالث: الكفاءة في النسب، يعني: أن تكون المرأة ذات نسب، وأن يكون الزوج لا نسب له، وليس معنى لا نسب له ألا يكون له أب، لا، هو له أب لكنه ليس من قبائل العرب، والمرأة من قبائل العرب وهو ما يعرف عندنا بالخضيري والقبلي، وعند العامة البحتة الشيخ والعبد القبيلي يسمى شيخاً، والذي ليس له قبيلة يسمى عبداً بناء على الأصل؛ لأن الأصل أن غير القبيلي من الموالي من الذين أسلموا ولم يعرف لهم نسب عربي من الفرس أو الروم أو غيرهم، على كل حال: الكفاءة في هذا الأمر مختلف فيها، فمن العلماء من يقول: إنها شرط للصحة في النكاح، فلو تزوج غير قبيلي بقبيلية فالنكاح غير صحيح لفوات شرط الكفاءة، وقال بعض أهل العلم: إنه شرط للزوم وليس شرطاً للصحة، يعني: أن المرأة إذا زوجت بغير قبيلي وهي قبيلية فلأوليائها أن يفسخوا، أولياؤها غير الذين زوجوها؛ لأن الذين زوجوها قد رضوا أبناء العم وأبناء الأخ وما أشبه ذلك فلهم أن يفسخوا النكاح، ولكن هذا القول الثاني والذي قبله كلاهما ضعيف، أما القول الأول الذي قبله فهو من الغرائب أن تكون هذه الكفاءة شرطاً للصحة؛ رجل عالم غني كريم ذو خلق دين لكنه غير قبيلي يأخذ امرأة قبيلية جلفة، ونقول: إن النكاح غير صحيح؟ ! هذا نتعجب أن يقول به عالم من العلماء، ولكن كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم). كذلك أيضا كونه شرطا للزوم هذا فيه نظر، امرأة رضيت هي ووليها الأقرب بهذا الرجل العالم العادل الكريم الشجاع ولكنه غير قبيلي كيف تقول لابن العم البعيد: افسخ إن شئت مع أننا نخشى أن يكون قصده بهذا الفسخ الحسد والغيرة أن يتزوجها مثل هذا الرجل، فالصحيح أنه ليس لأحد أن يفسخ، وما أحسن ما حصل في قضية عند أحد قضاة هذا البلد سابقاً تزوجت

امرأة قبيلية لشخص غير قبيلي زوجها أبوها ورضيت بذلك فجاء أعمامها يتحاكمون إلى الشيخ القاضي فقال لهم: لا بأس أنا أفسخ النكاح، ولكن بشرط أن تلزموا بالإنفاق عليها مدى الحياة وهو قاضٍ ذكي يعرف أنهم لن يلتزموا بذلك، تناظروا فيما بينهم وإذا الإنفاق عليها سيكون متعباً لهم، فقالوا: لا، فقال: ارجعوا وراءكم، وهذه لاشك أنها ذكاء من القاضي لعلمه أنهم لن يلتزموا، أما لو علمنا أنهم سيلتزمون لقلنا: إنكم ليس لكم حق، وسيذكر المؤلف (رحمة الله) ما يتعلق بهذا الأمر. وأما قوله: «الخيار» فيعني به: خيار العيب، وأعلم أن الخيار في النكاح له سببان بل أكثر: السبب الأول: العيب، يعني: أن يجد أحد الزوجين صاحبه معيباً، هذا واحد، الثاني: فوات صفة مشروطة مثل أن يشترط الزوج أن تكون الزوجة بكراً فيتبين أنها ثيب، أو أنها جميلة فيتبين أنها غير جميلة، المهم: فوات صفة مشروطة، السبب الثالث: ما سيذكره المؤلف من إسلام أحد الزوجين وما أشبه ذلك، فهذا الخيار إما سببه عيب في المرأة أو فوات صفة مشروطة يكون لمن له حق الخيار إن شاء فسخ النكاح وإن شاء أمضاه. هل هناك خيار شرط اختلف العلماء هل يثبت خيار الشرط في النكاح أو لا؟ فمنهم من قال: إنه يثبت بناء على أنه يشترط عند العقد أن لكل واحد منهم الفسخ لمدة ثلاثة أيام أو أربعة أيام، فمن العلماء من قال: يصح، ومنهم من قال: لا يصح، قال: لأنه إن كان خياراً للزوج فهو مستغن عنه بماذا؟ بالطلاق، يطلق بلا خيار، وإن كان الخيار للزوجة فإن الزوجة ناقصة في عقلها ودينها ربما إذا حصل من زوجها أدنى كلمة قالت: اخترت الفسخ فهدمت النكاح هذا هو الواقع، كما أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك قال: «إنك لو أحسنت إلى أحداهن الدهر كله ثم رأت منك سيئة واحدة قالت ما رأيت منك خيراً قط»؛ فلهذا لا يصح لها الخيار. والذي نرى في هذه المسألة التفصيل، وهو أنه إذا كان الخيار لغرض مقصود فلا بأس مثل أن تقول إن طاب لي سكنه في هذا البيت فذاك وإلا فلي الخيار، ثم تنزل على قوم يؤذونها مثلا نزلت على أناس عندهم إخوة متعددون كل واحد منهم له زوجة، كل زوجة لسانها أطول من ذراعها ويتعبون هذه المرأة فقالت له: أنا أشترط لنفسي أنه إذا لم يطب لي المسكن فلي الخيار هذا جائز؛ لأنه لغرض مقصود ليس خيارا مطلقاً بل هو خيار لغرض مقصود. إذن خيار عيب، خيار فوت صفة مشروطة، خيار شرط.

حكم زواج العرب الأحرار بالموالي

حكم زواج العرب الأحرار بالموالي: 958 - عن ابن عمر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض، إلا حائكاً أو حجاماً». رواه الحاكم، وفي إسناده راوٍ لم يسم، واستنكره أبو حاتم. -وله شاهد عند البزار عن معاذ بن جبل بسند منقطع. العرب إذا أطلق فالمراد بهم: العرب المستعربة؛ لأن هناك عرباً عاربة؛ يعني: من الأصل هم عرب، فبنو إسماعيل عرب مستعربة؛ لأن لغة إسماعيل لغة إبراهيم غير عربية، ثم لما نزل جرهم مكة وهم من عرب عاربة استعربت ذرية إسماعيل، فصاروا العرب المستعربة، يعني: الذين تلقوا العربية من جديد وهم أفضل من العرب العاربة؛ لأنهم من سلالة الأنبياء، ولأن فيهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أشرف بني آدم. يقول: «العرب بعضهم أكفاء بعض» حتى لو كانوا من قريش، بنو تميم وغيرهم أكفاء، فالهاشمي والتميمي وغيرهم من آل البيت كلهم أكفاء، الموالي من هم؟ الذين أعتقوا، جمع مولى وهو العتيق، «بعضهم أكفاء بعض»، فالمولى كفء للمولى والعربي كفء للعربي. «إلا حائكاً أو حجاماً»، الحائك هو صانع الحياكة الغزل والنسيج، لأن هذه المهنة عند العرب مهنة ممقوتة، يعني: مزرية للإنسان، والحجام كذلك، الحجام مصاص الدماء، والحجامة في الزمن السابق وإلى الآن عبارة عن شرط مكان معين في البدن ثم توضع فيه ما يسمى بالقارورة، ولها أنبوبة دقيقة يمصها الحجام حتى يبرز الدم وتفرغ هذه القارورة من الهواء، وإذا تفرغت من الهواء وقد ضغط عليها على المكان فإنها تبقى لاصقة ثم تفرغ الهواء يستوجب سحب الدم، فإذا امتلأت من الدم سقطت ثم يعيدها مرة ثانية حسب ما يراه، الحجام عند العرب ذو مهنة حقيرة مزدراة فلا يكون الحجام كفؤا لبنت البزار بائع الأقمشة ولا لبنت الصائغ بائع الذهب، الصانع صاحب الكير كذلك هذا إن صح الحديث، ولكن الحديث استنكره أبو حاتم؛ وذلك لأن هذه الصنائع المزرية تكون مزرية عند قوم غير مزرية عند آخرين، ثم قد تكون مزرية في زمن غير مزرية في زمن آخر، ربما الحجامة فيما سبق على هذا الوجه الذي شرحناه آنفا وتكون الحجامة بوسائل جديدة لا يقربها الحاجم ولا يمص الدم ويكون بعيداً عما يزدريه الناس به.

قال: «وفي إسناده راوٍ لم يسم» إذن فهو مبهم مجهول، وحديث المجهول مجهول مردود لا يصح. إذن هذا الحديث نأخذه فوائده، وبعدئذ إذا تبين أنه باطل بطلت فوائده. هذا الحديث يدل على أن العرب بعضهم لبعض أكفاء ولو كانت القبائل بعضها مع بعض أشرف: يعني: لو كان بعض القبائل أشرف من بعض فإن العرب كلهم أكفاء بعض. فيستفاد من ذلك أيضا: أن ما يفعله بعض المنتسبين لآل البيت في وقتنا الحاضر من كون الهاشمي لا يزوج إلا هاشمية منكر لا أصل له من الشرع، ولهذا تجد النساء عندهم عانسات وتجد الشباب في ضيق، لأن الشاب في عاداتهم لا يمكن أن يتزوج غير هاشمية أو غير امرأة من آل البيت والشابات أيضا لا يمكن أن يزوجن بغير هاشمي أو من آل البيت، ويحصل بهذا شر كثير مع أن هذا القول ليس له أصل، آل النبي (صلى الله عليه وسلم) لاشك أن لهم خصائص، لكن ليس من خصائصهم ألا يتزوجوا من أحد وألا يتزوج منهم أحد. وظاهر هذا الحديث: أن العرب أكفاء لبعض مطلقاً، ولكن لابد أن نلاحظ ما أسلفناه في مقدمة البحث وهو كفاءة الدين، فالعربي الكافر ليس للعربية المسلمة مهما كان حتى لو كان الكافر من أهل الكتاب، لو فرضنا أن عربيا تنصر وأراد أن يأخذ امرأة مسلمة، قلنا: لا، ليس لك ذلك، هنا إشكال أورده بعض النصارى قالوا: الإسلام ليس فيه عدالة، لماذا؟ قال: لأنه يجيز لأهله أن يتزوجوا بالنصرانية ولا يجيز النصراني أن يتزوج بمسلمة وهذا جوز؟ هذه شبهاتهم التي يأتون بها، يقال: إن هذا أورد على بعض طلبة العلم فقال: الجواب على هذا سهل؛ لأن المسلم يؤمن بمحمد وعيسى، والنصراني لا يؤمن إلا بعيسى، هو يتزوج امرأة نصرانية؛ لأنه يؤمن برسولها ولا يمكن أن نزوجها رجلاً لا يؤمن برسولها. ومن فوائد الحديث: أن الموالي بعضهم لبعض أكفاء، فهل يؤخذ منه أن المولى لا يكون كفؤا للعربي؟ قد يؤخذ، وقد لا يؤخذ، وقد لا يؤخذ، استمع إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة: 178]. ومعلوم أن العبد يقتل بالحر مع أن الله تعالى يقول: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}، ولو قتل العبد حراً لقتل، صحيح لو قتل الحر عبدا لكان عند كثير من العلماء لا يقتل، وإن هناك خلاف في المسألة، فإن بعض العلماء يقول: إذا قتل الحر عبداً قتل به، ويستدلون بالعمومات وبأدلة أخرى تأتي في باب القصاص. -- أن الحائك ليس كفؤاً لغير الحائك لقوله: «إلا حائكاً»، وأن الحجام ليس كفؤا لغير الحجام لقوله: «أو حجاماً» وإذا قلنا: هذا الحديث ضعيف سقطت هذه الفوائد إلا ما شهدت له النصوص الأخرى ككفاءة الدين مثلاً.

ثم قال: «وله شاهد عند البزار بسند منقطع» فما الفائدة؟ هذا الشاهد قد نقول: هذه شهادة غير مقبولة، لأنه إسناد منقطع لانقطاع السند، من هذا المنقطع؟ قد يكون من الكذابين ما ندري، الأول رواية لم يسم، والثاني سنده منقطع، أين قوة هذا بهذا، ثم إن أبو حاتم (رحمة الله) استنكره إما عن طريق المتن وإما عن طريق السند. 959 - وعن فاطمة بنت قيس (رضي الله عنها)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لها: «أنكحي أسامة». رواه مسلم. فاطمة بنت قيس من صميم العرب، وأسامة بن زيد بن حارثة أصله عربي، لكنه مولى جرى عليه الرق ووهبت خديجة زيداً للرسول (صلى الله عليه وسلم) وولده أسامة، أعتقه الرسول فكان له الولاية عليه وعلى ذريته، لأن الإنسان إذا أعتق صارت ولايته له ولاية ذريته أيضا، فأعتقه الرسول (صلى الله عليه وسلم) وكان أسامة بن زيد مولى لكنه مولى كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يحبه ويحب أباه مع أنه مولى وأكرمه في حجة الوداع إكراماً لم ينله أحد من العرب أردفه خلفه قبل أن يردف الفضل بن العباس؛ لأنه أردف أسامة في سيره من عرفة إلى مزدلفة، وأردف الفضل بن العباس في سيره من مزدلفة إلى منى المدى قريب والإرداف متأخر، فإرداف أسامة أطول من إرداف الفضل وأيضاً أقدم، قدمه الرسول (صلى الله عليه وسلم) على كل العرب، أسامة (رضي الله عنه) أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) فاطمة أن تتزوجه، لأن فاطمة جاءت تستشيره في ثلاثة خطبوها: أسامة بن زيد، والثاني: أبو جهم، والثالث: معاوية بن أبي سفيان، فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): «أما أبو جهم فضراب للنساء». وفي رواية: «فلا يضع العصا عن عاتقه» فقيل: إنه لا يضع العصا عن عاتقه لكثرة أسفاره، لأن العصا يحتاج إليها المسافر ليضرب الإبل، وقيل: لا يضع العصا ليضرب النساء وهذا الذي تفسره الرواية الثاني: «ضراب للنساء»، والضراب للنساء غير مرغوب عند النساء، وقال في معاوية: «صعلوك لا مال له» يعني: فقير. وقال: «انكحي أسامة»، قالت: «فنكحت أسامة واغتبطت به» أي: صار غبطة ببركة مشورة الرسول (صلى الله عليه وسلم). فإن قال قائل: كيف يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «معاوية صعلوك لا مال له» وهو لا يدري فلعله يكون ذا مال، وفعلا كان ذا مال ماذا صار؟ صار خليفة من أكبر الخلفاء الذين يتباهون بالدنيا؟ فنقول في الجواب عن هذا: إنه يؤخذ منه فائدة مهمة جداً وهي أن العبرة في الأمور

بالمنظور منها لا بالمنتظر، أنت غير مكلف بأمر غيبي، أنت مكلف بشيء بين يديك، ومن هنا نعرف جواباً لسؤال يقع كثيراً: يخطب الرجل امرأة ملتزمة وهو غير ملتزم وتحب أن تتزوج به وتقول: لعل الله أن يهديه على يدي، وهذا عمل بمنتظر ما ندري، المنظور الذي أمامنا أنه غير ملتزم فإذا قالت: لعل الله أن يهديه على يدي، قلنا: ولعل الله أن يضلك على يديه كله متوقع، وكونك تضلين على يديه أقرب من كونه يهدي على يديك، لأن المعروف أن سلطة الرجل على المرأة أقوى من سلطتها عليه، وكم من إنسان يضايق الزوجة لما يريد حتى يضطرها إلى أن تقع فيما يريد دون ما تريد، وهذا شيء مشاهد مجرب، أهم شيء عندي أن نعرف أن الإنسان مكلف بما ينظر لا بما ينتظر، ويتفرع على هذه القاعدة المفيدة: لو أن ولياً لمال اليتيم رأى أن من المصلحة أن يشتري له عقاراً، لأن العقارات في ارتفاع، فاشترى له عقارا بخمسمائة ألف وبعد سنتين أو ثلاث نزل إلى مائة ألف، فهل نقول لهذا الرجل: أنت فرطت؟ نعم، لأن الإنسان ليس له إلا النظر في الحاضر، أما المستقبل فأمره إلى الله، ولو أن الإنسان نظر إلى الاحتمالات التي يمكن أن تكون في المستقبل ما فعل شيئا لكن الحمد لله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}. ومن فوائد الحديث: أنه يجب للمستشار أن يذكر العيوب فيمن استشير فيه وهو إذا فعل ذلك يكون مأجوراً مثاباً على ذلك ثواب الواجب، لا يقول: أنا لا أريد أن أقطع رزقه، نقول: لا بأس اقطع رزقه ما دام في هذا نصيحة لأخيك المسلم فأنت مأجور. ومن فوائد الحديث: خبرة النبي (صلى الله عليه وسلم) بأصحابه؛ لأن هذه مسائل دقيقة، والرسول (صلى الله عليه وسلم) له مشاغل كثيرة إمام رسول قائد مبلغ، كل الأمة شئونها متعلقة به ومع ذلك لا يخفي عليه كثير من أحوالهم، يعرف النسب ويعرف الأحوال، وسبحان الذي ألهمه. ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي للإنسان أن يكون خبيراً بأهل زمانه؛ لأنه قد يحتاج إلى هذه الخبرة، وإذا احتاج إليها ثم سأل عنها فربما لا ينصح له بإعطاء الحقيقة، وكم من إنسان سأل عن شخص فجعلوه فوق الثريا وهو تحت الثرى، لاسيما في عصرنا الحاضر يوجد ناس يبيعون ذممهم بكل رخيص تسأله عن فلان يقول: ما شاء الله قانت آناء الليل ساجداً وقائماً، حسن الأخلاق وهو يناضح الريح ويهوشها إذا هبت، يعني: ينبغي ولاسيما الذي يتولى أمور الناس أن يكون عالماً بأحوالهم. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للحرة أن تنكح المولى، الدليل: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أشار عليها وهي حرة من قبائل العرب أن تتزوج أسامة بن زيد وهو من الموالي، وهذا مما يدل على أن الحديث الأول منكر كما قال أبو حاتم؛ لأنه خالف الأحاديث الصحيحة. ومن فوائد الحديث: أن الأخلاق والدين مقدمة على غيرها؛ لأن أسامة (رضي الله عنه) أقوى وأنفع بالنسبة لهذه المرأة من معاوية ومن أبي جهم.

أنواع الخيار

ومن فوائد الحديث: اعتبار المال في الترجيح لقوله: «أما معاوية فصعلوك لا مال له» ولكن يرد على هذا أن أسامة أيضا مولى والراجح من حال المولى أنه فقير، فيقال: إن هذا يجبره صلته بالنبي (صلى الله عليه وسلم) حتى أنه يلقب بحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ومن فوائد الحديث: مراعاة حسن الخلق في الخاطب لقوله: «أما أبو جهم فضراب للنساء». ومن فوائد الحديث: أنه لا حرج في الخطبة على خطبة الرجل إذا لم يعلم الخاطب، لأن هؤلاء الثلاثة خطبوها جميعا ولم يقل النبي (صلى الله عليه وسلم) لها: انكحي الخاطب الأول، لأن الخاطبين الاثنين قد اعتديا على حقه، بل جعل الأمر سواء. ومن فوائد الحديث: أن فاطمة قالت إنها نكحت أسامة فاغتبطت، فيؤخذ من هذا: مشورة أهل الدين والصلاح قد يكون فيها خير لمن استشار. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يفيد غيره فيما يرى أنه أعلم به منه، هذا إذا أشكل عليه الأمر، وأما إذا لم يشكل فالأمر ظاهر لا يحتاج إلى مشورة. 960 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند، وانكحوا إليه» وكان حجاماً. رواه أبو داود، والحاكم بسند جيد. «بني بياضة» قبيلة من العرب، و «أبو هند» مولى من الموالي، يعني: ليس بذي قبيلة فيما يظهر، وقوله: «أنكحوا» أي: زوجوه، «وانكحوا إليه» يعني: تزوجوا من بناته، فأمرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يزوجوه وأن يتزوجوا منه، أي: من بناته، «وكان حجاماً»، والحجام كما عرفنا سابقاً هو الذي يمارس مهنة الحجامة وهي معروفة، ووصفناها لكم فيما سبق. ففي هذا الحديث دليل على جواز إنكاح الحجام والتزوج من بناته. وفيه دليل على ضعف الحديث الأول حديث ابن عمر في قوله: «إلا حائكاً أو حجاماً»؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر بني بياضة أن يزوجوا هذا الرجل وكان حجاماً. أنواع الخيار: 961 - وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: «خيرت بريرة على زوجها حين عتقت». متفق عليه في حديث طويل.

- ولمسلم عنها (رضي الله عنه): «أن زوجها كان عبدا». وفي رواية عنها: «كان حراً». والأول أثبت. وصح عن ابن عباس عند البخاري: أنه كان عبداً. بريرة هذه مولاة مملوكة، ثم إن أهلها كاتبوها؛ أي: باعوا نفسها عليها، يعني: اشترت نفسها من أهلها على تسع أواقٍ من الفضة، الأوقية كم درهماً؟ أربعون درهماً تسع في أربعين بثلاثمائة وستين درهماً هذه قيمتها، اشترت نفسها من مالكيها بثلاثمائة وستين درهماً، ثم جاءت إلى عائشة (رضي الله عنها) تستعينها تطلب منها المعونة، فقالت عائشة: «إن أحب أهلك أن أعد لهم هذه الدراهم وأنقدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت»، فذهبت بريرة إلى أهلها وقالت لهم ذلك ولكنهم أبوا، فجاءت بريرة تخبر عائشة وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) حاضراً فقال لها النبي (صلى الله عليه وسلم): «خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق» يعني: وإن اشترطوا أن الولاء لهم فالولاء لك؛ لأنك أنت المعتقة، فاشترتها عائشة واشترطت لهم الولاء، ثم إن النبي (صلى الله عليه وسلم) خطب وأبطل هذا الشرط وقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرطه أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق»، لما عتقت خيرها النبي (صلى الله عليه وسلم) أن تبقى مع زوجها أو أن تفسخ النكاح وهذا هو وجه الشاهد من الحديث اختارت (رضي الله عنها) أن تفسخ النكاح، وكان زوجها يحبها محبة شديدة وهي تكرهه كراهة شديدة ففسخت النكاح، فجعل زوجها يتابعها في أسواق المدينة يبكي يريد أن تبقى معه ولكنها لم ترحمه لأنها لا تحبه، ومشكل أن يبقى الإنسان مع شخص لا يحبه هذا شيء ثقيل على النفس، كما قال المتنبي: [الطويل] (ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد) المهم: أنه توسط بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، طلب من النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يشفع له عند هذه الزوجة فشفع له عند الزوجة فقالت: يا رسول الله، إن كنت تأمرني فسمعاً وطاعة، وإن كنت تشير علي فليس لي حاجة فيه، فقال: «بل أشير»، قالت: لا حاجة لي فيه، ففسخت النكاح، بقيت بريرة عند عائشة في البيت وكانت كالخادمة عندهم، في يوم من الأيام دخل النبي (صلى الله عليه وسلم) يريد طعاماً فقدموا له طعاماً ليس فيه لحم، فقال: «ألم أر البرمة على النار؟ »، البرمة: إناء من الفخار من الطين، فقالوا: يا رسول الله، هذا لحم تصدق به على بريرة، والنبي (صلى الله عليه وسلم) كان لا يأكل الصدقة لا

الزكاة ولا التطوع، فقال: «هو عليها صدقة ولنا هدية»، فجاءوا به فأكل منه، فهذه من بركات هذه المرأة أنه حصل للأمة هذه السنة العظيمة أن من قبض شيئاً ومَلَكه فله أن يُملكه من لا يحل له تملكه، هذه قاعدة مفيدة، هذا لأن التحريم إنما جاء من حيث الكسب، أما ما كان محرماً لعينه فهذا لا يحل لأحد، لو أن شخصاً ملك خمراً وأراد أن يهبها لأحد قلنا: هذا حرام، لو أن شخصاً سرق مال شخص وأراد أن يهبه لأحد، قلنا: هذا حرام، لأنه محرم لعينه إلا إذا رضي صاحب المال، أما المحرم للكسب فإن هذا يتبع السبب إن كان السبب مباحاً فهو حلال وإن كان غير مباح فهو حرام، الشاهد من هذا أنها خيرت. وقوله: «ولمسلم ... » إلخ فهذه روايات مختلفة أولاً: أن زوجها كان عبداً، هذه رواية، رواية أخرى: «كان حراً» رواية مؤيدة للأولى أنه كان عبداً وهذا أرجح أنه كان عبداً، ومن ثم اختلف العلماء من أجل اختلاف هذه الروايات، هل إذا عتقت الأمة تحت حر يكون لها الخيار؟ على قولين لأهل العلم، أما إذا كانت تحت عبد فالخيار لها واضح، لأنها إذا عتقت وهو عبد صارت أعلى منه، لأنها صارت حرة وهو عبد، فلما صارت أعلى منه قلنا: لكِ الخيار الآن أن تبقي مع من هو دونك أو أن تفسخي النكاح لكن إذا عتقت تحت حر، وهل يمكن للأمة أن تتزوج حراً؟ نعم بالشرطين اللذين ذكرهما الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ} [النساء: 25]. ثلاثة شروط: الأول: أنه لا يستطيع مهر الحرة. الثاني: أن تكون الأمة مؤمنة لا كتابية ولا غير كتابية. الثالث: أن يخاف العَنَت، فإذا تزوج الحر جارية بهذه الشروط ثم عتقت عتقها سيدها فهل لها الخيار؟ نقول: في هذا قولان لأهل العلم منهم من قال: إنه لا خيار لها؛ لأن غاية ما حصل أنها ارتقت إلى مرتبة توازن الزوج فلا خيار لها، وهذا هو الأرجح، ومنهم من قال: لها الخيار، واستدل ببعض ألفاظ هذا الحديث أن زوج بريرة كان حراً، وعلل ذلك بأنه إنما ثبت لها الخيار، لأنها ملكت نفسها ومن حين زوجت وهي أمة زوجها سيدها، ولكن يقال في الرد على هذا التعليل: إذا كان زوجها سيدها باختيارها ورضاها فإنه لا ضرر عليها هي لم تكره،

حكم من أسلم وتحته أختان

يقولون: إذا كان زوجها برضاها واختيارها فإن الغالب أنها تختار الفسخ. قلنا: هذا صحيح لكن غير الغالب وارد، قد تتزوجه راضية به ثم بعد ذلك تريد أن تفارقه لسوء خلقه أو لسبب من الأسباب، على كل حال القول الراجح أن الأمة إذا عتقت تحت زوجها فإن كان حراً فلا خيار لها وإن كان عبداً فلها الخيار. يستفاد من هذا الحديث: أن الأمة إذا عتقت كان لها الخيار أن تبقى مع زوجها أو أن تفسخ العقد، ماذا تقولون في رواية أنه كان حراً؟ شاذة، لماذا؟ لأنها مخالفة لما هو أرجح. حكم من أسلم وتحته أختان: 962 - وعن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه (رضي الله عنه) قال: «قلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): طلق أيتهما شئت». رواه أحمد، والأربعة إلا النسائي، وصححه ابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، وأعله البخاري. هذا الحديث لو ثبتت العلة التي أشار إليها البخاري (رحمة الله) فإنه ينطبق على القواعد الشرعية، هذا رجل أسلم وتحته أختان ومن المعلوم أن الجمع بين الأختين حرام لا يجوز، إذن لابد من أن يحتار إحداهما، فهل نقول: إن عقد الأولى هو الصحيح والعقد على الثانية باطل وليس له إلا الأولى، أو نقول: إن الثاني هو الصحيح، أو نقرع بينهما؟ نقول: الخيار له، إن شاء أخذ الأولى وإن شاء أخذ الثانية، وإنما كان الخيار له ولم نقل: إن النكاح الأول هو الصحيح؛ لأن الثاني وارد عليه لأنه تزوج الثانية في حال كفره، يعني: قبل أن يلتزم بأحكام الإسلام فلذلك كان نكاحه إياها صحيحاً، أما الآن وقد أسلم فإن موجب المنع قائم، لأنه الآن قد جمع بين أختين فلابد أن يفرق فيقال: اختر أيتهما شئت، ولفظ الحديث يقول: «طلق أيتهما شئت»، وظاهر الحديث أنه إذا طلق واحدة منهما فهذا يعني أنه اختار الثانية التي لم تطلق، وهو كذلك، لكن الفقهاء -رحمهم الله- قالوا: إذا طلق واحدة فقد اختارها فيلزمه أن يفسخ الثانية يقولون: لأنه لا طلاق إلا بعد نكاح، فإذا طلق فقد اختارها تبقى الثانية يجب أن يفسخ النكاح، مثاله: رجل أسلم وتحته زينب وفاطمة فطلق زينب من التي اختارها الآن؟ على كلام الفقهاء زينب، ولكن الحديث أولى نقول: إذا طلق إحداهما فإن طلاقه علامة على عدم اختياره لها كيف يطلق من اختارها؟ ! ويكون هذا الطلاق بمعنى الفسخ، فالصواب ما دل عليه الحديث من أنه إذا طلق إحداهما فهذا اختيار للباقية.

حكم من أسلم وتحته أكثر من أربعة

يستفاد من هذا الحديث: أن عقود أنكحة الكفار صحيحة، وأنه لا يبحث عنها إلا إذا كان موجب المنع قائماً حين الإسلام فيجب المنع، ولنضرب لهذا أمثلة: تزوج كافر أخته؛ لأن المجوس يرون جواز نكاح الأخوات والأمهات والبنات، فهذا مجوسي تزوج أخته ثم أسلم حين تزوجه بها يعتقد أن النكاح صحيح ونحن لا نتعرض له قبل الإسلام لأنه يرى أنه صحيح، ثم أسلم هل يجب أن نفرق بينهما؟ نعم، لماذا؟ لأن المانع قائم هي لا تزال أخته فيجب أن يفرق بينهما. مثال آخر: رجل تزوج أخت زوجته وهو كافر ثم ماتت الزوجة الأولى ثم أسلم؛ النكاح الأول عقده صحيح باعتبار اعتقاده، فنقول: الآن تبقى الزوجة. مثال الثالث: رجل تزوج مطلقته ثلاثاً قبل أن تنكح زوجاً غيره وهو كافر ثم أسلم هل المانع باقٍ؟ ساقٍ مثل أخته. مثال رابع: رجل تزوج امرأة في عدتها وهو كافر انقضت عدتها ثم أسلم؟ تبقى؛ لأن المانع قد زال، انتهت العدة فهي الآن تحل له؛ إذن الضابط انظر هل هي تحل له في حال إسلامه أو لا؟ إن كانت تحل له فلا تسأل عن العقد، تزوج امرأة وهي محرمة ثم أسلم بعد أن حلت إحرامها؟ لا يصح العقد بإجماعه؛ لأن المحرمة مسلمة ولا تحل لكافر، على كل حال ما هو الضابط الآن إن كانت الآن لو عقد عليها لصح النكاح فإنها تبقى، وإن كان لو عقد عليها لم يصح النكاح فإنها لا تبقى. حكم من أسلم وتحته أكثر من أربعة: 963 - وعن سالم، عن أبيه: «أن غيلان بن سلمة أسلم وله عشر نسوة، فأسلمن معه، فأمره النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يتخير منهن أربعاً». رواه أحمد، والترمذي، وصححه ابن حبان، والحاكم، وأعله البخاري، وأبو زرعة، وأبو حاتم. هذا يشبه الأول، وسالم هو ابن عبد الله بن عمر، «عن أبيه» يعني: عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) أعله البخاري وهؤلاء الجماعة بأن الحديث غير محفوظ ولكنه في الحقيقة جار على القواعد الشرعية، هذا رجل كان كافراً وقد تزوج على عشر نسوة والشرع لا يجيز إلا أربعة فلما أسلم وأسلمن معه أمره النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يختار منهن أربعاً، يعني: ويفارق البواقي، من يختار من الأربع الأوليات أو الأخريات؟ يختار من شاء الأوليات أو الأخريات أو المتوسطات ما يريد المهم ألا تكون مبقياً على أكثر من أربع.

رد من أسلمت إلى زوجها إذا أسلم

ففي هذا الحديث فوائدها منها: أن عقد النكاح إذا كان فاسداً وقد تم في عهد الكفر فإنه لا يحكم بفساده، وجه ذلك: أنه لو حكم بفساده لقال النبي (صلى الله عليه وسلم): فارق الست الأخيرات، لأن ما زاد على أربع يعتبر فاسداً. ومن فوائده: أنه إذا أسلم وقد زال المانع فإنه يبقي على نكاحه؛ لماذا؟ لأن هؤلاء النساء لا يحرمن بأعيانهن إنما يحرم أن يجمع أكثر من أربع، فإذا فارق ستاً مثلا زال المانع. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للإنسان أن يجمع أكثر من أربع نسوة، ويؤيده قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. ولو كانت الزيادة على أربع جائزة لقال: فانكحوا ما شئتم أو ما طاب لكم من النساء ولم يقيد، فكونه -سبحانه وتعالى- قيد دليل على أنه لا يجوز للرجل أن يجمع أكثر من أربع. فإن قيل: أليس النبي (صلى الله عليه وسلم) جمع أكثر من أربع؟ فالجواب: بلى قد جمع النبي (صلى الله عليه وسلم) أكثر من أربع مات عن تسع، ولكن هذا من خصائصه، وقد خصه الله عز وجل في مسائل عديدة في النكاح لا تحل لغيره، والله عز وجل له أن يخص من شاء من عباده، ثم إن النبي (صلى الله عليه وسلم) أبيح له أكثر من أربع نسوة لا من أجل الطرب والشهوة ولكن من أجل المصالح العظيمة التي تترتب على زيادة النساء عنده، ويدل على هذا أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يتزوج بكراً قط إلا عائشة، كل اللائي تزوجهن ثيبات إلا عائشة، وهذا يدل على أن تزوج الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليس الغرض منه مجرد قضاء الوطر ولو كان كذلك لكانت البكر أحسن والنبي (صلى الله عليه وسلم) يعلم هذا، وقد قال لجابر حين سأله: «هل تزوجت؟ » قال: نعم، قال: «أبكر أم ثيباً» قال: ثيباً، قال: «فهلا تزوجت بكراً تلاعبك وتلاعبها، وتضاحكك وتضاحكها» قال: يا رسول الله، إن لي أخوات يحتجن إلى رعاية فاخترت الثيب، فهذا يدل على أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعلم قال: «إن البكر أحسن من الثيب»، ومع ذلك لم يتزوج من النساء إلا ثيباً ما عدا عائشة، فزواجه (صلى الله عليه وسلم) من أجل المصالح التي تترتب على تعدد النساء وهذا يظهر لمن تأمله. رد من أسلمت إلى زوجها إذا أسلم: 964 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «رد النبي (صلى الله عليه وسلم) ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحاً». رواه أحمد، والأربعة إلا النسائي، وصححه أحمد والحاكم.

965 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي (صلى الله عليه وسلم) رد ابنته زينب على أبي العاص بنكاح جديد». قال الترمذي: حديث ابن عباس أجود إسناداً، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. هذا الحديث موضوعه إذا أسلمت المرأة قبل الزوج أو أسلم الزوج قبل المرأة، فإذا أسلمت المرأة قبل الزوج فإنه ينتظر، فإن أسلم الزوج في العدة فهي زوجته، وإن انتهت العدة ولم يسلم تبين انفساخ العقد من حين إسلامها، دليل ذلك قوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. وهي الآن قد أسلمت وزوجها كافر، فإذا انقضت عدتها فقد انقطعت العلاقة بينهما فتنفصل، أما إذا أسلم قبل أن تعتد فإنها زوجته يقر على نكاحها، وبناء على ذلك لو لم يكن هناك دخول ولا خلوة فأسلمت الزوجة فإنه ينفسخ العقد بمجرد إسلامها، لماذا؟ لأنه لا عدة، مثاله رجل عقد على امرأة -وهما كافران- ثم أسلمت قبل أن يدخل بها ويخلو بها، فهنا ينفسخ النكاح بمجرد الإسلام، لأنه ليس هناك عدة حتى ينتظر فيها إسلامه بل ينفسخ النكاح في الحال، إذن إذا أسلمت المرأة فإنها إن كان ذلك قبل الدخول والخلوة ينفسخ النكاح بمجرد الإسلام وإن كان بعد الدخول أو الخلوة فإنه ينتظر، فإن أسلم الزوج قبل انتهاء العدة فهي زوجته وإن لم يسلم حتى انقضت العدة انفسخ النكاح، أسلمت في أول يوم من شهر محرم وقد حصل الدخول أو الخلوة نقول: انتظري حتى تحيضي ثلاث مرات، فإن أسلم الزوج قبل أن تحيضي ثلاث مرات فأنت زوجته، وإن حضتي ثلاث مرات قبل أن يسلم الزوج تبين انفساخه من حين إسلامك، هذا هو رأي جمهور العلماء، لو كان بالعكس أسلم الزوج قبل أن تسلم المرأة قبل الدخول أو الخلوة؟ فيه تفصيل، إن كانت كتابية فإن العقد لا ينفسخ، لماذا؟ لأن الكتابية تحل للمسلم فالنكاح غير باطل، وإن كانت غير كتابية فإنه ينفسخ النكاح، هذا إذا كان قبل الدخول والخلوة، أما إذا كان بعد الدخول أو الخلوة فإننا ننتظر إن أسلمت الزوجة وهي غير كتابية فهي زوجته، وإن لم تسلم تبين انفساخ النكاح من حين أسلم زوجها -هذه القاعدة-، وهذا الحكم هو ما اختاره جمهور العلماء، وذهب بعض العلماء إلى أن المرأة إذا انتهت عدتها قبل إسلام زوجها ملكت نفسها فإن أسلم زوجها بعد العدة فهي بالخيار، والفرق بين القولين: أنه إذا انتهت العدة قبل إسلام الزوج ليس لها خيار يتبين انفساخ النكاح ولا يمكن أن ترد إليه إلا بعقد، وأما على القول الثاني فإنها تخير إذا انتهت العدة إن شاءت ردت إليه بغير عقد وإن شاءت استمرت على الفراق وتزوجت زوجاً آخر وإن

شاءت تزوجته بعقد على هذا القول تخير بين أمور ثلاثة، إما أن ترجع إلى زوجها بدون عقد، أو ترجع إليه بعقد، أو لا ترجع إليه لا بعقد ولا بغيره هذا بعد انتهاء العدة، ولننظر إلى الحديثين اللذين ذكرهما المؤلف لنطبقهما على القولين: قال: «بعد ست سنين» يعني انقضت عدتها، ولم يحدث نكاح، يعني: لم يجدد العقد، وهذا الحديث يشهد للقول الثاني أنها إذا انتهت العدة قبل إسلام الزوج فلها الخيار إن شاءت، فهي قد ملكت وإن شاءت رجعت إلى زوجها بعقد، وإن شاءت رجعت إلى زوجها بغير عقد، ولهذا رد النبي (صلى الله عليه وسلم) ابنته إلى العاص بغير عقد، وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم على أن انتهاء العدة فاصل بين كونها لها الخيار أو ليس لها الخيار؛ لأنه لو أسلم قبل انقضاء العدة فليس لها الخيار فهي زوجته، ممكن أن نعرف أن القولين اتفقا فيما إذا أسلم قبل انقضاء العدة كيف اتفقاهما؟ أنها زوجته وليس لها الفسخ، وإن أسلم بعد انتهاء العدة فعلى القول الأول لا تحل له إلا بعقد وعلى القول الثاني تخير هذا حاصل الخلاف في هذه المسألة، أبو العاص بن الربيع أسلم بعد ست سنين ورد النبي (صلى الله عليه وسلم) ابنته زينب، وهذه المرأة توفيت في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وكان لها بنت صغيرة تحمل باليد، فجاءت والنبي (صلى الله عليه وسلم) يصلي بالناس فحملها وهو يصلي بالناس إذا قام حملها وإذا سجد وضعها، قال بعض أهل العلم: وإنما كان ذلك الفعل حين موت أمها كان البنت تصيح فأراد النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يسكتها؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كما نعلم أحسن الناس خلقاً حتى إن ابنه الحسن والحسين يأتي إليه وهو ساجد يصلي بالناس فيركب على ظهره فيطيل النبي (صلى الله عليه وسلم) السجود ويعتذر للجماعة بأن ابنه ارتحله، يعني: جعله راحلة له كما يفعل الصبيان الآن، على كل حال: هذا الرجل أثنى عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) مرة ثناء عظيماً على المنبر لمناسبة وهي أن الرسول حدث أن علي بن أبي طالب يريد أن يتزوج بنت أبي جهل على فاطمة فخطب الناس وقال: «إن فاطمة بضعة مني يريبها ما رابني» ولقد حدثت أو كما قال «إن ابن أبي طالب يريد أن يتزوج بنت أبي جهل والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد» ثم عدل (رضي الله عنه) عن الزواج إن صح أنه هم بذلك، ثم أثنى على أبي العاص بن أبي الربيع، لأنه حدثه فصدقه ووعده فوفى له، وهذا منقبة لأبي العاص، الحاصل: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) رد إليه ابنته بالعقد الأول ولم يحدث نكاحاً. أما الحديث الثاني حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده اختلف المحدثون فيه هل هو من قبيل المرسل، يعني: المنقطع أو من قبيل المتصل، والصحيح أنه من قبيل المتصل، وأن

من أسلم وهو أحق بزوجته

العلماء من المحدثين والفقهاء يستدلون بحديثه كما نقل ذلك البخاري (رحمة الله) والعلة التي أعل بها نفاها أهل العلم من أهل التحقيق، وما أكثر ما يستدل الفقهاء بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، حتى إن بعض المحدثين قالوا: إن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر، يعني: أنه من أصح الأسانيد، لكن الصحيح أنه لا يبلغ إلى هذا الحد وليس بالضعيف كما ذكره بعضهم، يقول الترمذي: حديث ابن عباس السابق أجود إسناداً، وفيه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) ردها ولم يحدث نكاحاً، ولكن يقول: العمل على حديث عمرو بن شعيب، يعني: العمل عند العلماء، لأن هذا قول الجمهور أنها لا ترد على زوجها إذا أسلم بعد انقضاء العدة إلا بعقد جديد. خلاصة ما في هذا البحث: أولاً: إذا أسلمت المرأة قبل الزوج فإن كان قبل الدخول انفسخ النكاح وإن كان بعده انتظرنا حتى تنتهي العدة، فإن أسلم قبل انتهاء العدة فهي زوجته تبقى معه، وإن أسلم بعدها لم تحل له إلا بعقد جديد على رأي جمهور العلماء، وعلى الرأي الثاني تخير بين أن تبقى على نكاحها الأول أو تنكحه بعقد جديد هذا إذا أسلمت المرأة، أما إذا أسلم الزوج فإننا ننظر إذا كانت الزوجة كتابية فهما على نكاحهما؛ لأن الزوج المسلم يجوز له ابتداء أن يتزوج كتابية، وإن كانت غير كتابية فإن كان قبل الدخول انفسخ النكاح وإن كان بعده ننتظر حتى تنتهي العدة، فإن انتهت انفسخ النكاح، وإن أسلمت الزوجة قبل انتهاء العدة فهي زوجته. يستفاد من هذين الحديثين: أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها فإن لها أن ترجع إليه ولو بعد العدة على حديث ابن عباس بلا عقد وعلى حديث عمرو بن شعيب لا ترجع إلا بعقد. فإن قال قائل: لماذا لا نسلك طريق الترجيح ونقول: إن حديث عمرو بن شعيب دل على إحداث عقد فهو مثبت والأول نافٍ؟ والقاعدة إذا تعارض مثبت ونافٍ تقدم المثبت على النافي؛ لأن معه زيادة علم. نقول في الجواب على هذا التعارض: لابد فيه من التكافؤ، وإذا كان حديث ابن عباس أجود إسناداً فلا تعارض؛ لأن الأجود إسناداً مقدم، ولهذا ذكرت لكم أنه اختاره شيخ الإسلام وابن القيم. من أسلم وهو أحق بزوجته: 966 - وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: «أسلمت امرأة فتزوجت، فجاء زوجها، فقال: يا رسول الله، إني كنت أسلمت، وعلمت بإسلامي، فانتزعها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من زوجها الآخر، وردها إلى زوجها الأول». رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. وصححه ابن حبان، والحاكم. هذا له علاقة بالحديثين السابقين، وهو أن هذه المرأة أسلمت فأسلم زوجها وعلمت

فسخ النكاح بالعيب

بإسلامه، لكنها تزوجت رجلاً آخر، فردها النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى زوجها الأول، لماذا؟ لأنها باقية على نكاحها الأول وقد علمت بإسلامه فأقدمت على أن تتزوج شخصاً وهي في حبال شخص آخر، ولهذا انتزعها النبي (صلى الله عليه وسلم) من زوجها الثاني وردها إلى الزوج الأول. يستفاد من هذا الحديث: أن المرأة إذا تزوجت شخصاً وهي في حبال زوج آخر فإن النكاح لا يصح، وجه ذلك: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) انتزعها من الثاني وردها إلى الأول. ومن فوائد الحديث: إنه إذا تزوج رجل امرأة بشبهة، أي: شبهة عقد يظنه صحيحاً وهو فاسد فإنه ليس عليه حد ولا عقوبة، وجه ذلك: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يحد الزوج الثاني ولم يحد الزوجة أيضا، فكل عقد حصل فيه شبهة فإنه كالعقد الصحيح، ولو فرضنا أنها حلمت من الزوج الثاني فهل يكون أولادها أولا ذا للأول أو الثاني؟ يكونوا للثاني؛ لأن الوطء هذا حصل بشبهة. وفي هذا الحديث إشكال من بعض الوجوه وهي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل الزوج الأول إنه أسلم وعلمت بإسلامه فكيف حكم النبي (صلى الله عليه وسلم) بمجرد قوله؟ والجواب عن هذا أن نقول: إنها لم تنكر لما ادعى زوجها ذلك فحكم النبي (صلى الله عليه وسلم) بمقتضي دعوى زوجها الأول؛ لأنها لم تنكره. فسخ النكاح بالعيب: مر علينا أنواع الخيار إلا خيار العيب وهو ما سيأتي في هذا الحديث: 967 - وعن زيد بن كعب بن عجرة، عن أبيه قال: «تزوج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) العالية من بني غفار، فلما دخلت عليه ووضعت ثيابها، رأى بكشحها بياضاً، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) ألبسي ثيابك والحقي بأهلك، وأمر لها بالصداق». رواه الحاكم، وفي إسناده جميل بن زيد وهو مجهول، واختلف عليه في شيخه اختلافا كثيراً. «العالية» علم على امرأة اسمها العالية، وبنو غفار قبيلة عربية معروفة، وضعت ثيابها، لأنها ليس عندها إلا زوجها، و «الكشح» ما بين الخاصرة والضلع. وقوله: «بياضاً» يعني: بهقاً أو برصاً، البهق والبرص كلاهما داءان جلديان، لكن البرص أشد بياضاً من البهق، وكلاهما مما تنفر الطباع منه، وإذا طبقنا هذا الحديث على ما عرفناه من مصطلح الحديث تبين أنه ضعيف، ما سببه؟ جهالة الراوي، ثانياً: الاضطراب، الاختلاف الكبير في شيخه، لكن لننظر هل هذا الحديث لما ضعف سنداً هل هو ضعيف متناً أو تشهد الأدلة لصحته؟ يقول: «تزوج العالية فلما دخلت عليه وضعت ثيابها»، وضع الثياب أمام الزوج ليس به بأس، وذلك لأن الزوج والزوجة يجوز لكل واحد منهما أن ينظر إلى الآخر في جميع بدنه، إذن هذا

لا يخالف الأصول، حتى إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يغتسل هو وعائشة من إناء واحد تختلف فيه أيديهما، وهذا يدل على جواز تعري المرأة والرجل أمام الآخر. وقوله: «رأى بكشحها بياضاً ... » إلخ. هذا أيضا لا ينافي الأصول، لأن أمره بلباس ثيابها يدل على لازم ذلك وهو أنه لا يريدها، وقوله: «الحقي بأهلك» هذا كناية عن الطلاق كما مر علينا أن الرجل إذا قال لزوجته: الحقي بأهلك ونوى به الطلاق صار طلاقاً، إذن هذا لا يخالف الأصول، «وأمر لها بالصداق» أيضا لا يخالف الأصول؛ لأن الرجل إذا خلا بامرأته بعد العقد وجب لها الصداق كاملا. من فوائد الحديث: أن المرأة هي التي تدخل على الزوج، ولهذا يقال: تزف إليه امرأته، وعادة الناس اليوم أن الزوج هو الذي يدخل على امرأته، ولكن هذا لا يخالف السنة؛ لأن الظاهر أن هذه من أمور العادات وليست من أمور التعبد، فإذا كانت من الأمور العادية رجع فيها إلى العرف ما لم يخالف الشرع. ومن فوائده: جواز تعري الزوجة أما زوجها وكذلك الزوج أما زوجته وهذا جائز بنص القرآن، قال الله تعالى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجهمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهمْ فَإِنَّهُمْ غَيْر مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6، 5]. فإن هذا يشمل حفظ الفرج من الفاحشة ومن النظر أيضاً. ومن فوائد الحديث: أنه لا حرج على الإنسان إذا رأى بامرأته عيباً خلقيا أن يفارقها لا يقال: إن هذا العيب الخلقي من الله ولا يمكنها أن تتخلى عنه؛ لأننا نقول الإنسان إذا لم يشته الطعام فإنه لا يجبر على أكله، كذلك إذا كان لا ترتاح نفسه إلى هذه الزوجة فلا حرج عليه. فإن قال قائل: في هذا كسر لقلبها؛ لأنها تكون حينئذ مصابة من وجهين: الوجه الأول: ما فيها من العيب، والوجه الثاني: فراق الزوج. قلنا: هذا من المصائب، والمصائب التي تصيب الإنسان هي بنفسها مكفرات للذنوب، ثم إن صبر الإنسان واحتسب الأجر على الله صار فيها ثواب الصبر، فهي على كل حال المصائب إذا صبر الإنسان عليها فإنها تكفر الذنوب ثم إن احتسب الأجر على الله صارت ثواباً، فنقول لهذه المرأة التي أصيبت بما أوجب أن يفارقها الزوج: أنت أصبت بأمر الله وقدره، فلك الأجر اصبري واحتسبي. ومن فوائد الحديث: الاستدلال باللازم على الملزوم لقوله: «ألبسي ثيابك» فهذا من ملزوم كونه مفارقاً لها. ومن فوائد الحديث: أن قوله: «ألحقي بأهلك» من ألفاظ الفراق، ولكن هل نقول: إن هذا طلاق أو كناية عن ألفاظ الطلاق؟ يحتمل إن نظرنا إلى السبب وهو العيب قلنا: إنه كناية عن

الفسخ، وإن نظرنا إلى أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) لها بالصداق قلنا: إن هذا من الطلاق، لأن اختياره الطلاق يدل على أنه أرادها ولكنه لا يطيق العيش معها فطلقها، ولكن ربما يقول قائل: إننا نحملها على أنها للفسخ ويكون أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) لها بالصداق من باب الكرم وإن كان لا يجب عليه؛ لأنها ضرته ولكن هذا من باب الكرم وما أكثر كرم النبي (صلى الله عليه وسلم) فهاهو مع جابر بن عبد الله اشترى منه الجمل وأعطاه الجمل والدراهم، إذن الأمر بالصداق إن كان بناء على أن قوله: «ألحقي بأهلك» طلاق فالأمر فيه ظاهر؛ لأنه طلاق بعد الخلوة، والطلاق بعد الخلوة موجب للصداق كاملاً، وإن كان المراد بقوله: «ألحقي بأهلك» الفسخ ففيه إشكال؛ لأن الزوج إذا فسخ عقد نكاح المرأة من أجل العيب رجع في الصداق، يعني: أخذ الصداق الذي هو بدل، فنقول في الجواب على الإشكال: إن هذا من باب كرم النبي (صلى الله عليه وسلم). على تقدير صحة الحديث يؤخذ منه: أن البرص أو البهق ينفسخ به النكاح وهو كذلك، فإذا وجد الزوج بامرأته برصاً فله الفسخ، وإن وجدت فيه هي برصاً فلها الفسخ، ولا فرق بين أن يكون هذا البرص في داخل الثياب أو في خارج الثياب بدليل أن الرسول رأى هذا البياض في كشحها في داخل الثياب، لا يقول قائل: إن الذي داخل الثياب مستور وإنه لا يظهر، نقول: لكن شعور الزوج أو الزوجة بهذا العيب يوجب تقزز النفس وكراهيتها، والحديث أصل في ثبوت الخيار في العيب، وإذا ثبت الخيار بالعيب فإن الزوج قد بذل مهراً، فإذا فسخ من أجل العيب هل يضيع مهره؟ لا، نقول: المهر إن كان بعد الدخول أعطى المهر ثم رجع به الزوج على من غره، من الذي غره؟ الولي المباشر إلا إذا كان الولي غير عالم بالعيب فيرجع به على المرأة هذا إذا كان الصداق قد تقرر بالدخول، أما إذا علم بالعيب قبل أن يدخل بها يفسخ وليس لها شيء؛ لأنها غرته وخدعته. الخلاصة: إن كان الفسخ للعيب قبل الخلوة والدخول فلا مهر، وإن كان بعد الدخول أو الخلوة فلها المهر، ويرجع به الزوج على من غره وهو الولي، لأنه المباشر، فإن لم يعلم الولي رجع به على المرأة فإن لم تعلم المرأة مثل إن كان برص في ظهرها ولم يخبرها أحد به فلا شيء له؛ لأنه لم يخدع ولم يعز. هذه القاعدة في مسألة الفسخ بالعيب. *ولكن ما هو العيب الذي يفسخ به هل هو محدود أو معدود؟ أولا: اختلف العلماء في الفسخ بالعيب؛ فمن العلماء من قال: لا فسخ، ويقال للزوج: إن رضيت بها معيبة وإلا طلقتها، المشكل إذا كان العيب في الزوج، فقالت المرأة: أنا لا أريده، يقولون: تصبر وتحتسب هذا من البلوى، وهذا مذهب الظاهرية أنه لا فسخ بعيب؛ لماذا؟ قالوا: لأن الآثار الواردة في الفسخ بالعيب ضعيفة لا ينبني عليها الحكم الشرعي، وقياس النكاح على

البيع غير صحيح، لماذا؟ لأن الظاهرية لا يرون القياس فهو عندهم باطل، وبتاء على هاتين المقدمتين ينتفي الفسخ بالعيب؛ لأن الآثار إذا كانت ضعيفة والقياس باطل ما عندنا دليل، لكن جمهور العلماء خالفوهم في هذا وقالوا: بل العيب مسوغ للفسخ سواء كان في الزوج أو في الزوجة، وقالوا: إن هذه الآثار إذا لم يصح كل واحد منها على انفراد فإنها بالمجموع تصح، ثانيا: القياس على العيب إذا كان الإنسان لو اشترى حماراً فوجد فيه عيباً فله رده والحمار يركب فكيف بالمرأة تبقى معه يجد فيها عيباً تزوج امرأة فإذا أذناها مقطعة وأصابعها مقطعة وصماء وعمياء بكماء كيف هذا؟ نقول: هذا ليس له خيار، ولو وجد الإنسان عيب في حماره قلنا: لك الخيار! ! ثم نقول: العيب منافٍ لمقتضى الزوجية؛ لأن الله قال: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الزومر: 21]. وكيف تكون المودة مع عيب ينفر منه الإنسان ويود ألا يراه في حياته، أين المودة وأين السكن؟ فلهذا كان إيماء النص والآثار والقياس الصحيح كلها تدل على ثبوت فسخ النكاح بالعيب، يبقى النظر هل العيوب معدودة أو محدودة؟ قال بعض العلماء: إنها معدودة أربعة خمسة عشرة، وقال آخرون: بل هي محدودة، وهذا القول هو الصحيح، فلنتتبع الآثار التي ذكرها المؤلف. 968 - وعن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: «أيما رجلٍ تزوج امرأة فدخل بها، فوجدها برصاء، أو مجنونة، أو مجذومة، فلها الصداق بمسيسه إياها، وهو له على من غره منها». أخرجه سعيد بن منصور، ومالك، وابن أبي شيبة، ورجاله ثقات. «البرص» معروف، و «المجنونة» فاقدة العقل، و «المجذومة» أي: المصابة بالجذام، وقيل: هو الطاعون أو غيره، لكنه مرض معدٍ وقاتل، ولهذا قال العلماء: يلزم الإمام أن يعزل الجدماء في مكان خاص لئلا يعدو وأظن أنه يوجد الآن نوع من المستشفيات تسمى بالعزل -الحجر الصحي-؛ إذن نقول: كم عيباً؟ ثلاث. «فلها الصداق بمسيسه» أي: بجماعة إياها، لأن الدخول بالمرأة، يعني: الجماع، والخلوة غير الدخول، «وهو» الضمير يعود على المهر، «له»: أي: للزوج «على من غره منها»، إذن نقول للزوج الذي تزوج امرأة ودخل بها ووجد بها أحد هذه العيوب الثلاثة: أعطها الصداق وارجع به على من غرك وهو الولي لأنه المباشر، فإن كان الولي فقيراً فلا رجوع له على المرأة، بل

حكم العنين

على هذا الولي متى أغناه الله أخذه منه، وفي قوله: «وهو له على من غره» إيماء إلى أن الولي إذا لم يكن غاراً، بل هو جاهل بالعيب فإنه يرجع على المرأة؛ لأنها حينئذ هي التي غرت. 969 - وروى سعيد (رضي الله عنه) أيضاً: عن علي نحوه، وزاد: «وبها قرن، فزوجها بالخيار، فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها». «القرن» هو عبارة عن ورم يكون في فرج المرأة فيمنع الوطء، ومعلوم أن ما يمنع الوطء ينافي مقصود النكاح؛ لأن الوطء من أعظم مقاصد النكاح، وهذا الأثر إذا أضيف إلى الذي قبله كم عيباً الآن ذكره المؤلف؟ أربعة وهي: البرصاء، المجنونة، المجذومة، وكذا القرناء، أي: التي بها قرن. هناك عيوب أخرى لم يذكرها المؤلف ألحقها بعض العلماء وجعلوها محصورة في شيء معين، ولكن الصحيح أنها غير محصورة، وأن العيب كل ما ينفر أحد الزوجين عن صاحبه خلقة، وقولنا: «خلقة» احترازاً من الخلق فلو وجدها سريعة الغضب، أو وجدته سريع الغضب، فهذا ليس بعيب، لكن إذا كان خلقة، العمى عيب، الصمم عيب على القول الصحيح، الخرس عيب، العرجاء عيب، ولكن العرج البين، مقطوعة الأصابع والأذن عيب، القدم عيب، ننزل هذا على القاعدة إذا وجد هذا العيب قبل الدخول ففسخ فليس لها شيء إذا وجده بعد الدخول أو الخلوة فلها المهر، ويرجع به على من غره، إذا كانت هي التي وجدت في الزوج هذا إن كان بعد الدخول تفسخ ولها المهر، لكن إذا كان قبل الدخول ففسخت فقال بعض العلماء: ليس لها مهر لا نصف ولا كل، لأن الفرقة جاءت من قبلها، وقال آخرون: بل لها نصف المهر؛ لأن الفراق قبل الدخول إذا كان من قبل الزوج فللزوجة نصف المهر كما قال تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. أيهما أرجح؟ هل نقول: إن هذا الفسخ من قبلها لها مهر أو من قبله فلها المهر، قال بعض العلماء: إنه من قبلها؛ لأنها لو شاءت لصبرت عليه، وقال آخرون: بل من قبله؛ لأنه غرها، وهذا القول هو الصحيح، فهي فسخت بسبب، ولا تطيق البقاء مع هذا الرجل المعيب. حكم العنين: 970 - ومن طريق سعيد بن المسيب (رضي الله عنه) أيضا قال: «قضى به عمر (رضي الله عنه) في العنين، أن يؤجل سنة». ورجاله ثقات. «العنين» هو الذي لا يقوى على الجماع، لأنه لا ينتشر معه مثل هدبة الثوب، العنين يؤجل سنة هلالية كاملة من أجل أن تمر به الفصول الأربعة، لأن الرجل قد يضعف عن الجماع في

فصل دون فصل، فإذا مرت به الفصول الأربعة ولم يقو على الجماع دل ذلك على أن فيه آفة وعيباً فلهذا أجله عمر سنة هلالية وليست شمسية، لأن المعتبر في الشرع الأهلة، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِ} [البقرة: 189]. وقال بعض الفقهاء: يؤجل سنة شمسية؛ لأنه لا تكمل الفصول إلا باعتبار السنة الشمسية، الفصول الأربعة تدور على الشمس وليس على القمر، فإذا كان العلة أن تمر به الفصول فقال: لابد أن تكون السنة الشمسية فإذا كانت هلالية نقص الفصل الرابع عشرة أيام، على كل حال: الخلف سهل، ولكن العنة تحدث أو متى ثبت وطؤه مرة واحدة فلا عنة؟ قال بعض العلماء: متى ثبت أنه وطأ هذه المرأة مرة واحدة فلا عنة، لكن القول هذا ضعيف، والصواب أن العنة ربما تحدث ولكن إذا حدثت فإما أن نعلم عدم رجوع القدرة على الوطء، وإما أن نؤمل الرجوع، مثال ذلك: رجل أصيب بحادث وكان قادراً على الجماع قبل الحادث، ولما أصيب بالحادث صار لا يستطيع الجماع، هنا حدثت العنة، فنقول: على القول الراجح لها أن تفسخ، فإن قال الأطباء: إن العجز عن الوطء الآن يمكن أن يزول ويقدر فيما بعد سنة مثلاً، فإن هذه العنة لا توجب الفسخ لأنه ينتظر زوالها. مسألة: هل العقم عيب أو ليس بعيب؟ هذا أيضا مما اختلف فيه العلماء؛ فقال بعض العلماء: إن العقم عيب، يعني: إذا كان الزوج لا يولد له أو كانت الزوجة لا تلد، فإن هذا عيب يوجب الفسخ، وقال بعضهم: العقم ليس بعيب، ولكن إن اشترط الولادة صار العقم فوات صفة مشروطة، والأخير هو المذهب والأول هو الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، واستدل لهذا القول بأن من أعظم مقاصد النكاح الولادة؛ ولهذا تجد الزوج أو الزوجة يذهبان كل مذهب من أجل الدواء لحصول الولد؛ ولأن العلماء -رحمهم الله- قالوا: إنه يحرم العزل عن المرأة بدون إذنها؛ لماذا؟ لأن لها حقاً في الولادة، والعزل في الغالب يمنع الولادة، فالصواب أن العقم عيب، ولكن لو أراد الإنسان أن يخرج من الخلاف فماذا يصنع؟ يشترط يقول: إن بان أنها عقيمة، أو تقول هي: إن بان أنه عقيم فلي الفسخ، فحينئذ يثبت الفسخ قولاً واحداً، ووجه ذلك: ثبوت الاشتراط أولاً.

2 - باب عشرة النساء

2 - باب عشرة النساء «العشرة» معناها: المعاشرة، وهي المعاملة بين الشخصين يكون بينهما صلة فيعاشر أحدهما الآخر، وهي أن المعاشرة بين الزوجين مرجعها إلى العرف، لقوله تعالى: {عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. ولقوله: {وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ} [البقرة: 228]. فالمعاشرة هي المعاملة مع كل اثنين بينهما ارتباط كالأصحاب والأزواج، والمعاشرة بالمعروف أمر واجب أمر الله به فقال: {عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] والحكمة تقتضيه؛ لأن المعاشرة بالمعروف توجب الألفة ودوام الارتباط بين المتعاشرين، أما إذا نبى كل واحد منهما عن المعاشرة بالمعروف فإن الأمر سيكون خطيراً، وسوف تحدث الفرقة لا محالة إلا أن يريد الله عز وجل الإصلاح بينهما، من المعاشرة بالمعروف أن يستمتع الرجل بزوجته حيث أمره الله، وذلك أن يأتيها في قلبها في غير الحيض والعبادة الواجبة مثل: الصيام والإحرام. حكم إتيان المرأة في دبرها: 971 - عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ملعون من أتى امرأة في دبرها». رواه أبو داود، والنسائي واللفظ له، ورجاله ثقات، ولكن أعل بالإرسال. كيف نعرب «ملعون»؟ خبر مقدم، وذلك لأنه إذا كان المقدم وصفاً فإنه يكون خبراً إن طابق في الإفراد ولم يعتمد على استفهام ونحوه، هذه قاعدة في النحو، فإن قوله: «ملعون من أتى»، مثل: «قائم زيد»، «قائم» خبر مقدم، وزيد مبتدأ مؤخر، أما إن اعتمد على استفهام أو نحوه فإنه يكون مبتدأ وما بعده فاعل مثل أن تقول: «أقائم زيد؟ » فقائم مبتدأ وزيد فاعل أغنى عن الخبر، ويجوز أن تعربه مبتدأ وخبر كما سبق أولاً، أما إذا كان هذا الوصف وما بعده مختلفين، مثل أن يكون الوصف مفرداً وما بعده مثنى أو جمعاً فإنه يتعين أن يكون الوصف مبتدأ وما بعده فاعل سد مسد الخبر، مثل أن تقول: «قائم الزيدان»، فهنا نقول: «قائم» مبتدأ و «الزيدان» فاعل، ولا يمكن أن تقول: قائم خبر مقدم، لأنه يشترط في الخبر أن يكون مطابقاً للمبتدأ وهنا لا مطابقة. إذن «ملعون» خبر مقدم، و «من أتى» «من» مبتدأ مؤخر، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وأول من لعن -فيما نعلم- إبليس حيث قال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 78]، {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} [الحجر: 35]. {لَعْنَتِي} يعني نفسه عز وجل، اللعنة إما أن تقول: اللام للعموم، يعني: اللعنة مني ومن غيري، أو أن اللعنة مني وتكون «أل» هنا للعهد الذهبي. وقوله: «امرأة» هنا نكرة في سياق الإثبات فهي مطلق وليست عاماً؛ لأن النكرة لا تكون

للعموم إلا إذا كانت بعد نفي أو نحوه، وقوله: «امرأة» المراد: زوجته أو ما ملكت يمينه؛ وذلك لأن الشرع لا يؤلف الحكم على الحرام، فلا يقول قائل: من أتى امرأة من زوجة أو مملوكة أو أجنبية لا؛ لأن من أتى امرأة أجنبية فهو زان، والزنا من كبائر الذنوب المتفق عليها، وقوله: «في درها» الدبر معروف. يستفاد من هذا الحديث: أن إتيان المرأة في دبرها من كبائر الذنوب، ولهذا رتب عليه اللعنة. ومن فوائده أيضاً: التحذير من إتيان المرأة في الدبر، وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) رتب عليه اللعنة تحذيراً للأمة. ومن فوائده: بيان الحكمة العظيمة في تحريم هذا الشيء وجعله من الكبائر؛ وذلك لأنه يحصل به مفسدة ويفوت به منفعة، المفسدة التي تحصل هي أن الإنسان يطأ زوجته في محل الأذى والقذر؛ لأن الدبر محل الأذى والقذر فيتلوث ذكره بهذا القذر والنتن والرائحة الكريهة هذه تفوت به مصلحة وهي أن النطفة التي ينزلها في هذا المحل لو أنزلها في المحل الذي جعله الله لها لحصل بذلك ولد، أما هذا فإنه يذهب هباء فلذلك كان تحريم وطء المرأة في دبرها موافقاً للحكمة تماماً. وقوله: «أعل بالإرسال»، والإرسال يطلق على معنيين عند أهل الحديث المعنى الأول: ما سقط منه الصحابي، أي: ما رفعه التابعي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، والثاني: أن المرسل من قطع إسناده، يعني: الذي لم يتصل إسناده مطلقاً، لكن إذا قالوا: مرسل ومنقطع تعين أن المرسل ما سقط منه الصحابي أي ما رفعه التابعي أو الصحابي الذي لم يسمع من النبي (صلى الله عليه وسلم). 972 - وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في دبرها». رواه الترمذي، والنسائي، وابن حبان، وأعل بالوقف. قوله: «لا ينظر الله» أي: نظر رحمة ورأفة، وليس المراد به: النظر العام، لأن الله -سبحانه وتعالى- لا يخفى عليه شيء ولا يغيب عن بصره شيء. وقله: «لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً» هذا بناء على الغالب، وإلا فلو أتى من ليس برجل؛ أي: شخصا لم يبلغ؛ لأن الرجل اسم للبالغ، فلو أن رجلاً أتى من دون سن البلوغ

لثبت له هذا الحكم، وقوله: «أو امرأة في دبرها» كذلك لا ينظر الله إليه ولو كانت امرأته، لأن هذا نوع من اللوطية. ففي هذا الحديث يقول المؤلف: إنه أعل بالوقف يعني: بعض الرواة رواه موقوفاً، أو أن بعض الحفاظ قال: إنه موقوف، وسبق لنا أن الإعلال بالوقف ليس بعلة إلا إذا كان الرافع غير ثقة، أما إذا كان الرافع ثقة فالصحيح أن الوقف ليس بعلة، ولو أن أحدا أعله بالوقف قلنا: هذه العلة غير قادحة، وأظننا قد عرفنا الفرق بين الرفع والوقف، الرفع ما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، والوقف ما نسب إلى الصحابي، ونحن نقول: إذا قال أحد الحفاظ: إنه موقوف على الصحابي ابن عباس فالجواب عن ذلك من وجهين: الوجه الأول: أن الإعلال بالوقف ليس بعلة إذا كان الرافع ثقة؛ لأن الرفع معه زيادة علم ووجه الزيادة أن سند الموقوف ينتهي إلى الصحابي وسند المرفوع إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فهذه زيادة، ثم نقول: إن الصحابي أحيانا يسند الحديث إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا قصد الرواية ولابد أن يسنده إذا قصد الرواية، وأحيانا يقول الحديث من عند نفسه إذا قصد الحكم فيسمعه السامع ولم يسمعه قبل مرفوعاً إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيظنه موقوفاً. وهذا الحديث نقول: إنه حتى لو ثبت أنه موقوف على ابن عباس فإن مثل هذا لا يقال بالرأي فيثبت له حكم الرفع، لأن الوعيد بأن الله لا ينظر لا يمكن أن يأتي به ابن عباس من عند نفسه، فيثبت له حكم الرفع. فإن قال قائل: أنتم لا تحكمون بالرفع في قول الصحابي المعروف بالأخذ عن بني إسرائيل، وابن عباس عرف بالأخذ عن بني إسرائيل؟ فالجواب عن ذلك أن نقول: هذا في أمور الغيبيات، أما في الأحكام الشرعية فإن ابن عباس وإن كان قد أخذ عن نبي إسرائيل ما أخذ في الترغيب والترهيب لا يمكن أن يأخذ عن بني إسرائيل ما يتعلق بالأحكام الشرعية؛ لأن هذا يقتضي شرع شيء في الشريعة المحمدية مأخوذ عن بني إسرائيل، ومثل هذا لا يمكن أن يقدم عليه ابن عباس (رضي الله عنه) فمثلا لو أن ابن عباس أراد أن يسند الحديث إلى الرسول لابد أن يبلغ الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأحيانا يريد أن يبين الحكم الشرعي فهنا ربما يقوله من عند نفسه فيسمعه من يرويه عنه فيظنه من قوله فيرويه موقوفاً، ثانياً: قلنا: إن هذا الحكم لا مجال للرأي فيه، فلو فرض أن منتهاه ابن عباس فإن مثله لا يقال بالرأي وحينئذ يثبت له حكم الرفع فإن أورد علينا شخص أن ابن عباس ممن عرف عن الأخذ عن بني إسرائيل، ونحن نقول: إن قول الصحابي يثبت له حكم الرفع إذا لم يعرف بالأخذ عن بني إسرائيل، فالجواب: أن هذا حكم شرعي ليس فيما يتعلق بالترغيب والترهيب.

مسألة في حد إتيان الرجل الرجل

في هذا الحديث فوائد: أولاً: إثبات النظر لله؛ أي: منه لقوله: «لا ينظر»، ونفي النظر عن هؤلاء يدل على ثبوت النظر لغيرهم؛ لأنه لو انتفى النظر عن الجميع لم يكن لتخصيص هؤلاء فائدة، وقد استدل الأئمة بمثل هذا ففي قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. استدل الأئمة على أن الأبرار يرون الله، قالوا: فإنه لما حجب هؤلاء الفجار في حال الغضب دل على أن الأبرار في حال الرضا ينظر إليهم؛ لأنه لو كان الحجب من هؤلاء ومن هؤلاء لم يكن لتخصيص هؤلاء فائدة. ومن فوائد الحديث: أن إتيان الرجل الرجل من كبائر الذنوب، وجهه: أنه أثبت عليه الوعيد، وكل ذنب رتب عليه الوعيد فإنه من كبائر الذنوب، كل ذنب رتب عليه حد في الدنيا فهو من كبائر الذنوب، كل ذنب تبرأ النبي (صلى الله عليه وسلم) من فاعله فهو من كبائر الذنوب، وأحسن ما حدث به الكبيرة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: من أن ما رتب عليه عقوبة خاصة فهو من الكبائر، وذلك أن المنهيات تارة ينهى عنها ويقال إنها حرام فقط، وتارة تقرن بعقوبة خاصة إما في الدنيا وإما في الآخرة. مسألة في حد إتيان الرجل الرجل: ولم يذكر في هذا الحديث حد إتيان الرجل الرجل، لكن قال قوم من أهل العلم: فيه التعزيز دون الحد، وقال آخرون: فيه حد الزنا، فالمحصن يرجم وغير يجلد، وقال آخرون: بل يقتل الفاعل والمفعول به بكل حال، سواء كان محصنا أم غير محصن. وقال آخرون: ليس فيه حد ولا تعزيز! وهذا من غرائب الأقوال، يقولون: اكتفاء بالرادع الطبيعي وقاسوا ذلك على من شرب البول وشرب الخمر، فمن شرب الخمر يجلد، ومن شرب البول لا يجلد، قالوا: اكتفاء بالرادع الطبيعي ليس أحد من الناس يشرب البول لكن كثيرا من الناس يشرب الخمر، فجعل فيه عقوبة من أجل أن تردع الناس عن شرب الخمر، ولكن هذا القول لا يصح، بل هو من أبطل الأقوال، فنحن لا نسلم أن من شرب البول لا يعزر، بل نرى أنه يجب أن يعزر؛ لأن شرب البول حرام وإذا كان الإنسان لا تردعه طبيعته وفطرته فتردعه العصا والسوط، وكل معصية ليس فيها حد ففيها التعزير؛ إذن إذا بطل الأصل بطل الفرع، ثم على تقدير التسليم أن شرب البول ليس فيه شيء فإنه لا يصح القياس؛ لأن شرب البول لا يمكن لأي إنسان أن يميل إليه، وأما إتيان الذكر الذكر فهذا يمكن أن يميل إليه الإنسان، وهاهم قوم لوط أمة كلهم ابتلوا بهذا الشيء فصاروا يأتون الذكران من العالمين، ويذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، لما

انتهكوا الحرام جعل الله في قلوبهم كراهة النساء فصاروا يتركون الأزواج ولو كن من أحسن النساء ويأتون الفاحشة؟ ! إذن ما هو القول الراجح؟ أنه يقتل الفاعل والمفعول، أولاً: لأن ذلك جاء في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وهذا حديث صححه كثير من الأئمة. ثانياً: أنه نقل إجماع الصحابة على قتل الفاعل والمفعول به، وقد حكي إجماعهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، إلا أن الصحابة اختلفوا كيف يقتل، فقال بعضهم: بالسيف، وقال بعضهم: بالرجم، وقال بعضهم: يلقى من أعلى شاهق في البلد ثم يتبع بالحجارة، وقال بعضهم: بل يحرق كما جاء ذلك عن أبي بكر وغيره من الخلفاء، والأصح أنه يقتل بما يرى الإمام أنه أنكى وأعظم، إما بالإحراق، وإما بالإلقاء من أعلى شاهق، وإما بالرجم، المهم الذي يرى أنه أنكى وأعظم ردعاً للناس يفعله؛ لأن هذه الفاحشة خبيثة توجب أن تجعل ذكور البشر بمنزلة الإناث فينقلب الذكور إناثاً ولا يمكن التحرز منها، كيف إذا رأيت ذكراً مع ذكر أن تقول: من هذا الذي معك؟ لكن ذكر مع أنثى ممكن أن يحترز الناس منه، فالمهم: أن القول الراجح أنه يجب على ولي الأمر أن يقتل الفاعل والمفعول به لكن يشترط البلوغ والعقل والاختيار، فإن كان دون البلوغ فإنه لا يقتل ولكن يعزر، كما يعزر ابن عشر في ترك الصلاة، ومن كان مجنوناً فلا يقتل، ومن أكره على ذلك فإنه لا يقتل إذا كان مفعولاً به وإذا كان فاعلاً مثل أن يأتيه رجل يكون مثل المرأة ويطلب منه أن يفعل به ويقول إما أن تنفذ ما قلت وإما أن أقتلك ومعه سلاح، لكن الفقهاء -رحمهم الله- يقولون: لا يمكن الإكراه على الوطء؛ لأنه لا وطء إلا بانتشار، ولا انتشار مع الإكراه، لأن المكره لا ينتشر ذكره، لأنه خائف، ولكن هذا أيضاً ليس بصحيح؛ لأنه إذا ابتلي فربما يحصل ذلك منه؛ لأن النفس أمارة بالسوء، ربما إذا أكره حتى صار لا يبقى إلا الفعل ينسى الإكراه ويحصل منه هذا الشيء، على كل حال: المكره على الفعل سواء كان فاعلاً أم مفعولاً به ليس عليه حد، لكن لابد من ثبوت الإكراه، قال: «أو امرأة في دبرها» هذا الشاهد. يستفاد من هذا الحديث: أن من أتى امرأة في دبرها فإن الله لا ينظر إليه، وعلى هذا فيكون إتيان المرأة في دبرها من كبائر الذنوب، ولكن إذا أتى امرأة في دبرها فهل ينفسخ النكاح؟ قلنا: لا ولكن للزوجة أن تطالب بالفسخ، لأن هذا من سوء العشرة، أما من عرف به، يعني: يفعله باستمرار فقد قال شيخ الإسلام يجب أن يفرق بينه وبين امرأته؛ لأن هذه معصية، ولا تجوز المعاشرة منهما على هذا الوجه.

الوصية بالنساء

هذا الحديث يعتبر شاهداً للحديث الذي قبله؛ لأن كلا منهما يدل على الوعيد فيمن أتى امرأته في دبرها، وعلى هذا فيكون شاهداً للحديث الأول مقوياً له ولم يذكر عن أحد من الأئمة أنه أجاز وطء المرأة في دبرها، وما يروى عن الشافعي (رحمة الله) في ذلك فقد أنكره أصحابه وكذبوه، وكذلك ما يروى عن مالك فقد أنكره أصحابه وكذبوه، والمروي عنهم محمول على ما إذا أتى الإنسان امرأة في قبلها من دبرها، وما سوى ذلك فإنه لا يصح، وقد ذكرنا فيما سبق من أنه يمكن أخذ تحريم هذا من تحريم الوطء في الحيض لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]. والأذى الذي في الدبر أشد وأخبث من الأذى الذي في القبل حال الحيض. الوصية بالنساء: 973 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء من الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً». متفق عليه، واللفظ للبخاري. -ولمسلم: «فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها». «من» هذه شرطية، جوابها «فلا يؤذي جاره»، وقوله «من كان يؤمن بالله» الإيمان في اللغة عند أكثر المعرفين له: التصديق، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية نظر في هذا وقال: إنه لا يصح أن يكون بمعنى التصديق، لأن التصديق لا يساوي الإيمان في التعدي واللزوم، والغالب أن الفعل لا يكون بمعنى الفعل إلا إن ساواه في التعدي واللزوم، ولهذا يقال: صدقته ولا يقال: أمنته، إذن فهما مختلفان، لكن قد أقر به وآمن به، ولأن الإقرار أخص من مطلق التصديق فهاهو أبو طالب مصدق برسالة النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول عن نفسه: [الكامل] (ولقد علمتم أن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا) ويقول: [الطويل] (ولقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعني بقول الأباطل) إذن هو مصدق لكنه غير مقر ولا معترف؛ ولهذا لم يكن مؤمناً، فتبين بهذا أنه لا يصح أن نقول إن الإيمان هو التصديق، بل الإيمان هو الإقرار بالله.

وقوله: «بالله واليوم الآخر»، «بالله» ليست في وجود الله فقط بل هو الإيمان المستلزم للقبول والإذعان، وقوله: «اليوم الآخر» هو يوم القيامة، ووصف بالآخر؛ لأنه لا يوم بعده، وقرن الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله يقتضي العمل رغبة فيما عند الله، والإيمان بالله كذلك يقتضي العمل خوفاً من عقاب الله ورغبة فيما عنده، «اليوم الآخر» فيه الجزاء، والإيمان بالله فيه الحث وبعث الهمة على العمل، فيكون الإنسان لديه أمران: الأمر الأول باعث على العمل، والأمر الثاني مانع من المخالفة، وهو الإيمان باليوم الآخر، ولهذا يقرن الله بينهما كثيراً في القرآن الكريم. قال: «فلا يؤذ جاره» بحذف الياء على أن «لا» ناهية وبإثباتها على أنها نافية، والأذية دون الضرر، فإذا نهى عن الأذية فالضرر من باب ألوى، يعني: يتأذى بأقل القليل حتى بدخان الوقود -وقود النار- وبالأصوات وبغيرها، أي أذية. وقوله: «جاره» الجار هو: من جاورك وقرب منك، وحده بعض العلماء بأربعين داراً من كل جانب، وقال بعض العلماء: يرجع في ذلك إلى العرف، لأن الحديث الوارد في ذلك لا يصح عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولو صح لكان فيصلاً ولكنه لم يصح، وعلى هذا فيرجع إلى العرف وهذا أقرب؛ لأننا لو قلنا: إن الجار أربعون داراً في كل جانب ولاسيما في وقتنا هذا الذي تجد فيه البيوت واسعة جداً لكان نصف البلد حاراً للإنسان أو أكثر لكن العبرة بالعرف. «واستوصوا بالنساء» يعني: اقبلوا الوصية بهن، يقال: وصيته فاستوصى أي: قبل، وقوله: «خيراً» يعني: اقبلوا بعن وصية الخير، والذي أوصانا بها الرسول (صلى الله عليه وسلم)، «فإنهن» هذه الجملة تعليل للحكم وهو الأمر بالاستيصاء، قال: «فإنهن خلقن من ضلع»، ويجوز من ضلع والفتح أشهر، فما هو الضلع؟ الضلع هو ضلع آدم، فإن آدم -عليه الصلاة والسلام- لما أراد الله أن يجعل له زوجة نام نومة فخلقها الله من ضلعه الأصغر هكذا جاء في الآثار والله أعلم، لكن الثابت أنها خلقت من ضلع، قال: «وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه»؛ ولهذا المرأة ما تتحمل وضعفها الاعوجاج، قال: «فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركت الضلع لم يزل أعوج». إذن لا يمكن الانتفاع به إلا إذا كان أعوج، ثم كرر قبول الوصية في قوله: «فاستوصوا بالنساء خيراً». ولمسلم: «فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج» وهذا معنى قوله: «وإن تركته لم يزل

أعوج» «وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها»، فرواية مسلم بينت معنى الكسر وهو الطلاق. من فوائد الحديث: التحذير من أذية الجار لقوله: «فلا يؤذي جاره»، ووجه التحذير: أن الحديث يدل على أن أذية الجار ينتفي بها الإيمان. ومن فوائد الحديث: أن أذية الجار من كبائر الذنوب؛ وذلك لأن انتفاء الإيمان عن سائر المعصية وعيد وعقوبة فينطبق عليها إثم أو حد الكبيرة، ويؤيد ذلك قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه». يعني: ظلمه وغشمه. ومن فوائد الحديث: إثبات اليوم الآخر، يتفرع على هذه الفائدة: أن من آمن بالله واليوم الآخر فسيحمله إيمانه على اجتناب المعاصي خوفاً من عذاب ذلك اليوم. ومن فوائد الحديث: كمال الدين الإسلامي، حيث أوصى بالضعيف خيراً، قال: «فاستوصوا بالنساء خيراً»، ولاشك أن النساء ضعيفات في العقل والدين كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب بلب الرجل الحازم من إحداكن». وأنت إذا تأملت الدين الإسلامي وجدته قد أوصى بكل ذي ضعف، فقد أوصى بالأيتام، وأوصى بالفقراء، وأوصى بأبناء السبيل، كل ذلك لأن أمثال هؤلاء يحتاجون إلى رأفة ورعاية. ومن فوائد الحديث: بيان ما من الله به على الأمة من مخالفة عادات جاهلية، فإنهم في الجاهلية كانوا يؤذون النساء يئودونهن أحياء، وفي الميراث لا يورثونهن، يقولون: الميراث لمن يركب الخيل ويذود عن الحياض والمرأة ليست كذلك، ولهذا قال الله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء: 7]. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول (صلى الله عليه وسلم) وذلك بضرب الأمثال؛ لأن الأمثال المحسوسة تقرب المعاني المعقولة، وجه ذلك: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) شبه المرأة بالضلع، والضلع معروف للجميع أنه أعوج، فإن ذهب الإنسان يقيمه كسره، وإن استمتع به استمتع به على عوج. ومن فوائد الحديث: أن النساء خلقن من ضلع لقوله (صلى الله عليه وسلم): «فإنهن خلقن من ضلع». ومن فوائد الحديث: أن الإنسان يرجع إلى أصله، بل إن شئت عمم أن كل مخلوق يرجع إلى أصله؛ لأن قول الرسول «إنهن خلقن من ضلع» يبين أنهن ما دام خلقن من شيء أعوج فستكون عوجاء ولهذا نهى الشارع عن أكل لحوم كل ذي ناب -السباع- لماذا؟ لئلا يتأثر الإنسان بطبيعة السبع فيكون محباً للعدوان؛ ولهذا أيضا رجع إبليس إلى أصله، حيث قال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارِ} فصار

نهي المسافر عن طروق أهله ليلا

معه الطيش والعلو؛ لأن النار بطبيعتها تطلب العلو ولكنه علو غير منظم لسان خارج من هنا ولسان خارج من هنا ... إلخ. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للرجل أن يصبر على عوج المرأة، لقوله (صلى الله عليه وسلم): «إن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً» وهذا حث من الرسول (صلى الله عليه وسلم) على أن نستمتع بها على عوجها: إذا غضبت أرضيها، وإذا لقتني بوجه عابس ألاقيها بوجه منبسط؛ لأنك لو قابلتها بمثل ما تعاملك به طال الشجار والنزاع والسب والشتم، وربما يطلق ولا يجد من يفتيه بأن طلاقه لا يقع، حينئذ تكون المشاكل، والإنسان العاقل يستطيع أن يرضي المرأة؛ لأن المرأة ترضى بكل كلمة، ولاسيما من الزوج ترضيها وكل كلمة تغضبها، وينبغي مثلا بعض النساء يكون عندها غيرة عظيمة حتى إذا رأته يكرم أمه جعلت الأم بمنزلة الضرة وصارت تكره الأم وتسبها عنده حتى لو كان له أصحاب من الرجال قامت تتكلم في الرجال هذا فيه وهذا فيه وهو من أطهر الناس، لكن الغيرة، فمثل هذه كيف أعاملها؟ أعاملها على قدر عقلها وأطمئنها وأذكر هذا الشيء وأقول: لا ينبغي أن تضعي نفسك في هذا الموضع تتعبين، فيستمتع بها على عوج. ومن فوائد الحديث: شدة الطلاق على المرأة لقوله (صلى الله عليه وسلم): «كسرها طلاقها» وصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) فإن طلاق المرأة لا شك كسر لها، وينبغي لنا في هذا الجانب أن نطالع هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) في معاملته لأهله وزوجاته كيف يرضي الجميع، كيف كان يسابق عائشة على الأقدام، وكان يسترها حتى تنظر الحبشة وهو يلعبون في المسجد، فينبغي لطالب العلم أن يجمع مثل هذه الأشياء حتى يبرزها للناس؛ لأن من الناس من يجعل المرأة بمنزلة الخادم يهينها ويتعبها وربما يخدش كرامتها بسب أبيها وأمها، كل هذا موجود عند الناس وهو خلاف هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) قولاً وفعلاً. نهي المسافر عن طروق أهله ليلاً: 974 - وعن جابر (رضي الله عنه) قال: «كنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة، فلما قدمنا المدينة، ذهبنا لندخل. فقال: أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً -يعني: عشاء- لكي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة». متفق عليه. -وفي رواية البخاري: «فإذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرق أهله ليلاً». قال: «في غزوة» ولم يعين الغزوة، وعدم تعيينها لا يضر، لأن المقصود الحكم، وهذا يقع كثيراً في الأحاديث يقول: «قال رجل»، «كنا في غزوة»، «كنا في سفر»، والغالب أن تعيين هذا

المبهم لا يحتاج إليه؛ لأن المقصود الحكم، ربما يحتاج إليه ليعرف هل هذا ناسخ أو لا؟ لكنه ليس ضرورياً في أكثر الأشياء. يقول: «فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل»، «قدمنا» أي: قاربنا بدليل قوله: «ذهبنا لندخل»؛ وذلك لأنه لا يتحقق القدوم إلا بالدخول، فلما قال: «ذهبنا لندخل» علمنا أن المراد يقوله «قدمنا» أي: قاربنا، وقد سبق لنا مراراً أن اللغة العربية يطلق فيها الفعل على إرادته أو على قربه، وهذا من سعة اللغة، فقال «أمهلوا» أي: انتظروا وأعطوا أهلكم مهلة، «حتى تدخلوا ليلاً» يعني: عشاء، يعني: ليس ليلاً في آخر الليل أو في وسط الليل، بل في أول الليل، لأن العشاء يكون في أول الليل عند مغيب الشفق الأحمر، ثم علل قال: «لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة»، الشعثة: التي صار رأسها أشعث، لأن المرأة إذا لم يكن عندها زوج لا تهتم بنفسها ولا تتجمل، اللهم إلا ذهبت إلى زيارة أحد من الناس، فإذا كان الزوج عندها وكانت تحبه فإنها لاشك سوف تتجمل له في شعرها وثيابها أو غير ذلك، وإن كانت لا تحبه فالأمر بالعكس إذا كان رأسها ممشوطاً وأحست بقدومه شعثته، إذا كان ثياب لا بأس بها غيرتها، على كل حال: الغالب -الحمد لله- على النساء أنهن يرغبن في أزواجهن وإذا أحست أنه سيقدم فإنها تمتشط، والاستحداد معناه: إزالة ما ينبغي إزالته من الشعر كالإبط والعانة ويلحق بذلك الأظفار وشبهها، المهم: أنها تزيل ما ينبغي إزالته من الشعور، كل ذلك من باب التجمل لزوجها والتنظف له. وفي رواية للبخاري: «إذا أطال أحدكم الغيبة» وهذا تصريح بما يفهم من الحديث الأول عن طريق اللزوم، لأن قوله: «لكي تمتشط الشعثة» يدل على أن الغيبة طويلة أدت إلى شعث المرأة، وكذلك «تستحد المغيبة» يدل على طول الغيبة، ولكن لا شك أن ما دل باللفظ أدل مما دل على سبيل اللزوم، فيكون تصريح البخاري بهذه الرواية تصريح بما يفهم من طريق اللزوم من اللفظ الأول، قال: «فلا يطرق أهله ليلاً»، الطارق هو الآتي ليلاً، ومنه قوله تعالى: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1]. النجم الذي يظهر في الليل، فالآتي ليلاً هو الطارق، ومعنى «يطرق أهله ليلاً» كلمة «ليلاً» من باب التوكيد؛ لأن الطرق هو الإتيان ليلاً، وربما يطلق الطرق على مطلق الإتيان، وعلى هذا فيكون قوله: «ليلاً» من باب التأسيس وليس من باب التوكيد، لأننا إذا جعلناه من باب التوكيد صار يعني أنه يمكن الاستغناء عنه، وإذا جعلناه من باب التأسيس فإنه لا يستغني عنه، وإذا فرضنا أنه لا يكون الطرق إلا ليلاً: نقول إن ذكر التوكيد هنا لإزالة الاحتمال، وما هو الاحتمال؟ احتمال أن يكون الطرق هو الإتيان نهارا. يستفاد من هذا الحديث: أن من هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) مشاركته في الغزوات هو نفسه يشارك في الغزوات لقوله: «كنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة»، وقد شارك (صلى الله عليه وسلم) في تسع وعشرين غزاة قاتل فيها (صلى الله عليه وسلم).

ومن فوائد الحديث: حسن رعاية النبي (صلى الله عليه وسلم) لأمته بحيث بلغت إلى هذا الحد إلى أن يعلمهم كيف يدخلون على أهليهم. ومن فوائد الحديث: أن من هدي الصحابة أن المرأة تتجمل لزوجها بإزالة الشعث والتنظيف؛ لقوله: «لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة». ومن فوائد الحديث: جواز كون الإنسان أشعث؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال ذلك مقرراً له، وإلا لكان ينهى عن هذا ولكنه وإن كان جائزاً فالأولى للإنسان ألا يكون كذلك إذا رآه إنسان نفر منه، لأن بعض الناس مثلا يتخذ الشعر ولكنه باتخاذه الشعر يجعل الشعر أشعث أغبر إذا رأيته ربما تهرب منه وهذا لا ينبغي، كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتخذ الشعر ولكنه يرجله حتى إنه يروى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «من كان له شعر فليكرمه»، وهذا خلاف ما يرويه العامة من قولهم: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «أكرموا اللحى وأهينوا الشوارب»، والنبي (صلى الله عليه وسلم) لم يقل هكذا، ولهذا قال بعض الفسقة: أكرموا اللحى، فنقول: سمعاً وطاعة نكرمها بحلقها؛ لأن بقاء الشعر عليها يلوثها فتطهيرها أحسن هذا إكرام. أقول: إن الباطل قد يبني عليه باطل، هم لما قالوا هذا الكلام قالوا: إذا كان الرسول قال: هكذا فسمعاً وطاعة، وهذا إكرام اللحى، ولكن نقول: هذا الحديث باطل ولا يجوز نسبته إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، وغاية ما روي أنه قال: «من كان له شعر فليكرمه»، يعني: بالترجيل والتنظيف حتى لا يبقى الشعر مغبر يكون سبباً لتولد الهوام، فالحاصل: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أقر هذه الحال لكنها مع ذلك [لا تترك] فإن الله جميل يحب الجمال؛ فكون الإنسان يترك نفسه هكذا هذا أمر غير مقبول. ومن فوائد الحديث: مراعاة حال الأهل ألا يأتيهم الإنسان على غرة ويكونون على حال يتقزز منه، بل الذي ينبغي للإنسان أن يأتي أهله وهم في هيئة توجب المودة والمحبة وانظر إلى حكمة الشارع كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يأمر أهله إذا أراد مباشرة الحائض يأمرهم أن يتزروا؛ لماذا؟ لئلا يرى منها ما يكره من آثار الدم فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يأمر عائشة فتتزر فيباشرها وهي حائض لئلا يرى منها ما تكره النفس فينطبع في نفسه التقزز منها. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان ينبغي له إذا أطال الغيبة ألا يطرق أهله ليلاً ما لم يتقدم خبر منه لهم، فإن تقدم خبر منه لهم فلا بأس، يعني: مثلاً لو قال: سأقدم البلد في الرحلة التي تأتي في

النهي عن إفشاء الرحل سر زوجته

الساعة الواحدة فهذا جائز؛ لأنه سوف يكونون مستعدين له متهيئين له، والمحظور كل المحظور هو أن يأتيهم على حال غير مرغوب فيها. النهي عن إفشاء الرحل سر زوجته: 975 - وعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر شرها». أخرجه مسلم. الشر ضد الخير، وشر هنا اسم تفضيل، لكنه حذفت منه الهمزة، وأصله شراً، وكذلك «خير» أصله أخير. فإذا قال قائل: ما الفرق بين قول الإنسان: هذا شر ويريد أنه من الشر، وهذا خير ويريد أنه من الخير وبين قولنا: إن خير وشر اسم تفضيل؟ نقول: الفرق بينهما: أنه إذا كان هناك مفضل ومفضل عليه، فخير وشر اسم تفضيل مثل قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]. من أصحاب النار، أما قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. فهذا ليس اسم تفضيل؛ لماذا؟ لأنه لا يوجد مفضل ومفضل عليه. «شر الناس منزلة عند الله» هذا من باب التفضيل، إذن هناك فاضل ومفضول، «الرجل» خبر إن، «وشر» اسمها. وهنا يقال: أين الهمزة في قوله: «شر»؟ فيقال: إنها حذفت تخفيفاً كما حذفت الهمزة من لفظ الجلالة «الله» وأصلها: «إله» وكما حذفت من «الناس» وأصلها: «أناس»، والعرب أحياناً يحذفون للتخفيف من الكلمات، ولاسيما الكلمات التي يكثر استعمالها، وقوله: «شر الناس»، كلمة «الناس» من ألفاظ العموم ولكنه قد يراد بها الخصوص، أي: أنه لا يراد بها العموم من الأصل، وهنا نفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص، العام المخصوص يكون المتكلم قد أراد العموم أولاً ثم يخرج بعض أفراده من الحكم مثلاً: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]. «أولاد» هذه عام خرج بالسنة من خالف دين أبويه، لأنه لا يرث، نسمى أولادكم هنا عام مخصوص، لأنه أريد عمومه ثم

مخصوص، أما العام الذي أريد به الخصوص فهو من الأصل لم يرد فيه العموم إنما أريد به الخاص، ولهذا لا يستثنى منه بخلاف الأول العام المخصوص يدخله الاستثناء، والعام الذي أريد به الخصوص لا يدخله الاستثناء؛ لأنه لم يرد به العموم من الأصل، ومن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]. «الناس» عام أريد بها خاص؛ لأن ليس كل الناس من مشارق الأرض ومغاربها جاءوا يخبرون النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن الناس قد جمعوا له، والمراد بالناس الثانية: خاص ليس كل الناس قد جمعوا؛ إذن هذا عام أريد به الخاص، والفرق أن العام المخصوص أريد به أولاً العموم ثم أخرج بعض الأفراد، والعام المراد به الخصوص لم يرد به العموم أصلاً وإنما أريد به ذلك المعنى الخاص، فهنا قوله (صلى الله عليه وسلم): «إن شر الناس عند الله» لا شك أنه لا يراد به العموم، لأن هذا الذي ذكره النبي (صلى الله عليه وسلم) يوجد من هو شر منه، فالمشركون والملحدون والجاحدون أشر من هذا، فهو إذن عام أريد به الخصوص. إذن ما المراد به؟ أي: شر الناس في إفشاء السر من يفضي هذا السر المذكور، وليس على سبيل العموم حتى على رواية: إن من شر الناس لا يراد به العموم، وإلا من شر الناس الذين من هذا الجنس الذين يفشون السر. وقوله: «عند الله منزلة يوم القيامة» يعني: إذا كان يوم القيامة فإن الناس درجات عند الله كما قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 163]. فهذا الذي ذكره النبي (صلى الله عليه وسلم) يكون عند الله من شر الناس منزلة، وقوله: «الرجل» هذه خير «إن»: لأن الراجح من أقوال النحويين أن النواسخ تعمل في المبتدأ أو الخبر، أما النواسخ التي تنصب الجزأين فالأمر ظاهر، «ظن وأخواتها» تنصب جزأين، وأما التي ترفع أحد الجزأين فهذه بعض العلماء يقول: ما بقي على الرفع فليس للأداة فيه عمل كخبر «إن» واسم «كان»، وما تغير فهو الذي أثر فيه العامل، ولكن الصحيح أنه يؤثر في الجميع؛ إذن «الرجل» خبر «إن». «الرجل يفضي»، الإفضاء قال بعض العلماء: هو الجماع، وقال آخرون: بل هو الخلوة ولو بغير جماع، يقال: أفضى إليه بكذا، أي: جعله أمراً خاصاً بينه وبينه، قال الله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]. وهذا المعنى الثاني أعم من الأول. وقوله: «إلى امرأته» المراد بذلك: الزوجة «وتفضي إليه ثم ينشر سرها» يعني: ينشر ما أسرت إليه في هذا الإفضاء ينشره بين الناس سواء بين عامة الناس أو بين خاصتهم حتى ولو كان عند أبيه أو أمه فإن هذا يدخل في الحديث. في هذا الحديث فوائد: أولاً: تحريم هذا العمل أن ينشر الإنسان السر الذي بينه وبين زوجته، مثل أن يقول: جامعتها على صفة كذا، أو لما جامعتها صاحت، أو ما أشبه ذلك من الأشياء

التي يستحيا من ذكرها؛ فإن الحديث هذا يدل على تحريمها، بل يدل على أنها من الكبائر؛ لأن فيه وعيداً ويستثنى من ذلك ما دعت الحاجة إليه لبيان حكم شرعي مثل: لما سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) بحضرة عائشة عن رجل يجامع زوجته ثم يكسل، يعني: لا ينزل، فقال: «كنت أفعله أنا وهذه ثم نغتسل»، هذا فيه شيء من إفشاء السر لكنه لحاجة شرعية، ثم إنه أيضاً عام ليس تفصيلياً، ولا شك أن الشيء التفصيلي أعظم من هذا، وكذلك أيضاً سأله عمر بن أبي سلمة -وهو ربيب النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ لأن النبي تزوج أمه أم سلمة سأله عن الصائم يقبل زوجته فقال: «سل هذه» يقول لعمر: «سل هذه» يعني: أمه، فسألها فقالت: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يفعل ذلك، فقال له: يا رسول الله، إنك قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: «إني لأخشاكم لله وأعلمكم به»، أو قال: «بما أتقي»، والحديثان في مسلم وعلى هذا فإذا اقتضت المصلحة الشرعية أن يذكر ما لا ينشر فإن ذلك لا بأس به، جائز، أما ما يفعله على سبيل التندر والتفكه فهذا حرام. بقى أن نقول: هل المرأة مثل الرجل؟ نعم، مثل الرجل قياساً، نقول: إن القياس الجلي الذي لاشك فيه أن المرأة كالرجل وأنه لا يحل لها أن تفضي بالسر بينها وبين زوجها إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، نحو: أن تستفتي عند الشيخ افرض أنها تريد أن تستفتي عن حال زوجها عند الجماع بأنه ضعيف أو ما أشبه ذلك من المسائل التي تحتاج إلى السؤال، فهنا نقول: إنه جائز لدعاء الحاجة إلى ذلك، لا يمكن أن تعرف الحق إلا بهذا، أما إذا كانت تقوله على سبيل التندر كبعض النساء يجلسن كل واحدة تصف زوجها، هذه تقول: معه مثل الثوب، والثانية تقول: شيئاً آخر فهذا لا يجوز. ومن فوائد الحديث: إن الناس درجات عند الله لقوله: «إن شر الناس عند الله»، «شر» دالة على التفضيل، وهل نأخذ من ذلك تفاضل الناس في الإيمان؟ نعم، لماذا؟ لأن منزلة الإنسان عند الله بحسب إيمانه، فيكون هذا الحديث دليل على ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من التفاضل في الإيماء، والذي عليه أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، سبب زيادته: الطاعة، ونقصه: بالمعصية، وله أسباب أخرى ليس هذا موضع ذكرها، ومن أهل السنة من قال: إنه يزيد ولا نقول: ينقص، بل نقول: يزيد؛ لأن الله قال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]. ولكن في هذا نظر لأنها لا تتصور الزيادة إلا في مقابلة نقص، ثم إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين». فأثبت نقصان الدين. ومن فوائد الحديث: إثبات يوم القيامة، وما هو يوم القيامة؟ هو اليوم الذي يبعث فيه

حقوق الزوجة على زوجها

الناس من قبورهم، وسمي بذلك؛ لأن الناس فيه يقومون لرب العالمين من قبورهم، الثاني: أنه يقام فيه القسط لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]. الثالث يقوم فيه الأشهاد: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]. ومن فوائد الحديث: وجوب ستر ما يحصل بين المرء وزوجته وهذه تخصص مما سبق. حقوق الزوجة على زوجها: 976 - وعن حكيم بن معاوية، عن أبيه (رضي الله عنه) قال: «قلت: يا رسول الله، ما حق زوج أحدنا عليه؟ قال: تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت». رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وعلق البخاري بعضه، وصححه ابن حبان، والحاكم. هذه خمسة أشياء؛ ثلاث منهيات واثنان مأمورات قوله: «قلت: يا رسول الله، ما حق؟ » من القائل؟ معاوية بن حيدة، «قلت: يا رسول الله، ما حق زوج أحدنا عليه؟ » سأل هذا السؤال لا ليعلم الحق فقط ولكن ليعلم ويطبق ويقوم به، وقوله: «زوج أحدنا»، زوج مذكر وليس فيه تاء التأنيث، والسائل رجل، وكان المتوقع أن يقول: زوجتي، ولكن زوجة لغة رديئة في اللغة العربية؛ لأن زوج يطلق على الذكر والأنثى فيقال للمرأة: زوج، ويقال للرجل: زوج، لكن العلماء في باب الفرائض قالوا: إنه يجب في باب الفرائض خاصة أن تؤنث الأنثى فنقول: «زوج» و «زوجة» من أجل الفرق بينهما عند القسمة وهذا واقع، أما في اللغة العربية فإنك تذكر الزوج سواء للأنثى أو للذكر. قال: «تطعمها إذا أكلت» يعني: لا تأكل وتدعها جائعة، وظاهر قوله: «إذا أكلت» أنك تطعمها مما تأكل، إن طيباً فطيب، وإن وسطاً فوسط، وإن رديئاً فرديء. «وتكسوها إذا اكتسيت» كذلك لا تكسو نفسك وامرأتك عريانة، بل تكسوها إذا اكتسوت. «ولا تضرب الوجه» ولم يقل: «لا تضرب» مطلقاً؛ لأن ضرب الزوج أحياناً يكون مباحاً بل مأموراً به، لكن الذي ينهى عنه هو ضرب الوجه لسببين: الأول: أن ضرب الوجه أعظم إهانة من ضرب غيره والإنسان يجد هذا في نفسه لو ضربك إنسان على وجهك صار هذا أشد مما لو ضربك على ظهرك. الوجه الثاني: أنه ربما يتأثر الوجه بهذا الضرب فتكون مغيراً للصورة التي خلق الله -سبحانه

وتعالى- آدم عليها، وهذا لاشك انه أعظم ضررا مما لو ضربته في ظهره، لنفرض ضربته في ظهره وانكسر ضلعه هذا يجبر ولا يتأثر لكن أنخدش وجهه يبقى هذا دائما مشوهاً ولهذا نهي عن ضرب الوجه. قال: «ولا تقبح»، يعني: لا تقبح المرأة، أي: لا تصفها بالقبح، وظاهر الحديث لا تصفها بالقبح الخِلقي أو الخُلقي، الخِلقي مثل أن يصفها بعيب في وجهها، في عينها، في أذنها، في طولها، في قصرها، هذا واحد، الثاني الخلق أن يقول أنت حمقاء، أنت مجنونة وما أشبه ذلك «لا تقبح»؛ لأن هذا التقبيح سيؤثر -ولو على المدى البعيد- في نفسيتها، وسيذكرها الشيطان هذا التقبيح دائماً. وقوله: «ولا تهجر إلا في البيت» يعني: لا تهجر زوجتك من البيت أو تهجرها تطردها من البيت إن أردت إن أردت أن تهجر فاهجر في البيت؟ الهجر يكون في الكلام لكنه محدد بثلاثة أيام ودليل ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم): «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام». فإن قال: الهجر في الكلام لا يكفي، نقول: الحمد لله ليس هنا مشكلة إذا تمت ثلاثة أيام تدخل عليها وتقول: «السلام عليكم» كلما مر ثلاثة أيام سلم عليها ويزول الهجر، هذه واحدة. ثانيا: الهجر في الطعام مثلا إذا كان من عادتك أن تتغدى مع أهلك اهجر تأديباً لها. ثالثا: الهجر في المنام له أنواع كثيرة: منها: ترك الجماع والمداعبة. ومنها: أن تعطيها ظهرك عند اللزوم. ومنها: أن تجعل لك فراشاً خاصا. ومنها: أن تجعل لك غرفة ولها غرفة، المهم: أنه أنواع كثيرة، ويمكن أن نقول: إن الهجر إخلاف عادته، فمثلاً إذا كان عادته معها طيبة، كأن يكون يمزح معها كثيراً قد يكون من الهجر أن يهجر هذه الخصلة، ثم أعلم أن الهجر لا يجوز إلا لسبب. من فوائد الحديث: حرص الصحابة على العلم بما عليهم وما لهم لقوله: «يا رسول الله، ما حق زوج أحدنا عليه؟ ». ومن فوائد الحديث: أنه يجب على الرجل الإنفاق على زوجته طعاماً وكسوة، لقوله: «تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت».

ومن فوائده: أن النفقة بقدر الغنى لقوله: {إذا أكلت} {تكسوها إذا اكتسبت} , ويدل قوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق: 7] {قدر عليه} يعني: ضيق عليه, يعني: في مقابله, فقوله: {لينفق ذو سعة}. نفهم منه أن من قدر ضيق. فإذا قال قائل: إذا أعسر الزوج بعد الغنى فهل للزوجة حق في المطالبة بالنفقة أو الفسخ؟ * فالجواب على ذلك أن فيه قولين للعلماء: الأول: أن لها الحق في طلب الفسخ؛ لأنه لم يقم بالواجب عليه. والقول الثاني: أنه ليس لها الحق في ذلك؛ لأن هذا شيء بغير اختياره وعموم قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساُ إلا وسعها} [الطلاق: 7]. يدل على أن من لم يؤته شيئاً فغنه لا يكلفه والمسالة فيها للعلماء أخذ ورد ومناقشات, وسيأتي ذكرها في باب النفقات. ومن فوائد الحديث: النهي عن ضرب الوجه بقوله: "ولا تضرب الوجه". ومن فوائده: جواز الضرب مع غير الوجه؛ لأن منطوق الحديث عن ضرب الوجه مفهومه جواز ضرب غير الوجه. فإن قال قائل: هل الإنسان مخير متى شاء ضرب زوجته؟ قلنا: لا, بل لا يضربها إلا لسبب, وقد بين الله تعالى مراتب التأديب فقال: (فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء: 34]. فإذا جاز الضرب لوجود سبب الجواز فإنه لا يضرب الوجه. ومن فوائد الحديث: تكريم الوجه, بحيث لا يضرب ولا يقبح ولا يتفل عليه, ولذلك لو أن أحداً تفل على وجه شخص لاستشاط غضبه ولو تفل على غترته من الخلف ربما دعاه لتنظيف الغترة, على كل حال: الشيء يختلف لو أن أحداً فعل ذلك في وجهك ما تركته إلا أن تخشى من شر أكبر. ومن فوائد الحديث: النهي عن التقبيح المعنوي والحسي لقوله: "ولا تقبح", وليعلم أن الأصل في النهي التحريم, وقد يراد به الإرشاد أحياناً, وقد يراد به السنية حسب ما تقتضيه القرائن والأحوال. ومن فوائد الحديث: تحريم الهجر خارج البيت وجوازه في البيت, ولكن لا يجوز إلا لسبب, ثم إن الهجر في الكلام لا يجوز أن يزيد على ثلاثة أيام مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث, يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". ومن فوائد الحديث: بيان شمول الشريعة الإسلامية, وأنها لم تدع شيئاً ينفع الناس في

جواز إتيان المرأة من دبرها في قبلها

معاشهم ومعادهم إلا بينته, أحياناً يكون السبب سؤال سائل أو حدث نازلة يتبين بها الحكم وأحياناً يكون ذلك بدون سبب يبتدئ النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بدون أن يكون لذلك سبب. جواز إتيان المرأة من دبرها في قبلها: 977 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها, كان الولد أحول؛ فنزلت: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة: 223]. متفق عليه, واللفظ لمسلم. "كانت اليهود", اليهود قوم سكنوا المدينة وهو من بني إسرائيل وكانوا أشد الناس عتوا وظلماً وجهلاً وسفهاً, هؤلاء القوم الذين في المدينة كانوا ثلاث قبائل: بنو النضير, وبنو قريظة, وبنو قينقاع, وكان سبب نزولهم المدينة أنهم قرءوا عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يهاجر إلى أرض سبخة وجدوا ذلك في كتبهم وكانوا يؤملون أن يكون من بني إسرائيل فهاجروا إلى المدينة ونزلوا فيها وكانوا إذا كان بينهم وبن الأنصار من الأوس والخزرج كلام أو مناوشات يستفتحون عليهم فيقولون: سيبعث فينا نبي ننتصر به عليكم: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89]. وردوا قوله: فكانت اليهود مندمجة مع الأنصار من الأوس والخزرج وكانوا يحدثونهم بما يحدثونهم به مما عندهم من التوراة, فكانوا يقولون: "إذا أتى الرجل ... " الخ, وسموا يهوداً إما لقولهم: {إنا هدنا إليك} , تقول: "إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول" يعني: في مكان الحرث, لكنه لا من الوجه, ولكن من الخلف, يقول اليهود: إن الولد يكون أحول, ومن الأحوال؟ هو الذي مال سواد عينه إلى أحد الجانبين, إما إلى الأيمن وإما إلى الجانب الأيسر, والحول عيب, ومن الغرائب أن بعض الشعراء قال عند أحد الخلفاء وهو ينظر إلى الشمس وكان الخليفة أحول فقال: (والشمس قد كادت ولما تفعل ... كأنها في الأفق عين الأحول) يعني: كادت تغيب ولما تفعل ... الخ يقولون: إن الخليفة استشاط غضباً كأن هذا تعيير للخليفة, فالحاصل: أن الحول عيب, ولكن من نعمة الله علينا أننا في هذا الزمن فتح الله على الأطباء أن يعدلوا هذا الحول بعملية يجرونها ويوازنون بين جانبي العين حتى تكون العين متوسطة, والسؤال هل يجوز هذا العمل؟ يجوز بلا ضرر؛ لأنه من باب إزالة العيب, وليس من

باب الوشم والوشر والتفليج للأسنان؛ لأن الأخير تجميل والأول إزالة عيب, فرق بين التجميل وإزالة العيب, ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قطع أنفه أن يتخذ أنفاً من ورق ثم أنتن فأذن له أن يتخذ أنفاً من ذهب, وما دمنا في هذا فإنكم ستجدون في كتب الفقهاء -رحمهم الله- أنه يحرم قطع البواسير, لماذا؟ لأنها في عهدهم خطر, أما الآن فأصبحت سهلة جداً وليس فيها خطورة, تجدون في بعض الكتب أنه يحرم شق البطن لخياط الفتق؛ لماذا؟ لأنه في ذلك الوقت خطر ربما ينزف دما ويموت, أما الآن فأصبح الأمر سهلاً ميسراً, تجدون في كتب الفقهاء أنه يحرم قطع الإصبع الزائدة -الإصبع السادس- لماذا؟ للخطورة, أما الآن فالأمر -ولله الحمد- سهل. وعلى هذا فنقول: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً, فما دام الخطر قد زال فإن هذه الأشياء التي ذكرها العلماء أنها حرام تكون مباحة جائزة. نعود للحديث: لماذا قالت اليهود أنه يكون أحول فنزلت: {نساؤكم حرث لكم .. } تكذيبًا لليهود, ووجه كونه تكذيبًا: أن الله لما أباح أن نأتي هذا الحرث أنى شئنا دل على أنه لا عقوبة على ذلك؛ لأن كون الولد أحول عقوبة والمباح ليس عليه عقوبة. قال: "فنزلت: {نساؤكم حرث لكم} أي: محل حرث لكم, محل زراعة, كما أن الأرض حرث للإنسان يضع فيها الحب ويخرج النبات, كذلك المرأة حرث للرجل يضع فيها النطفة فيخرج الولد بإذن الله عز وجل, وقوله: {أنى شئتم} الظاهر أن "أنى" هنا ظرف مكان, أي: من حيث شئتم مقبلين ومدبرين وعلى جنب المهم أن يكون الإتيان في القبل هذا معنى الحديث. أما فوائد الحديث فهي متعددة منها: أن اليهود عندهم من الدعاوى ما لا أصل له كهذه المسألة, ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثنا بنو إسرائيل ألا نصدقهم ولا نكذبهم, وأخبار بني إسرائيل تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما شهد الشرع بصدقه الكتاب أو السنة, فهذا حق ومقبول. والقسم الثاني: ما شهد بكذبه فهو مردود. والثالث: ما لم يشهد بكذبه ولا صدقه, فالواجب التوقف فيه, ولكن لا حرج أن نحدث به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بذلك؛ لأن التحدث بهذا لا يضر, وقد ينفع قد يكون به مواعظ للإنسان ينتفع لكنه لا ضر؛ لأن شرعنا لم يشهد بكذبه.

ومن فوائد الحديث: أن القرآن كلام الله عز وجل لقوله: "فنزلت", من أي مكان نزلت؟ من فوق؛ لأن النزول إنما يكون من أعلى, فإذا كانت من فوق وهو كلام منسوب إلى الله عز وجل دل هذا على أن القرآن كلام الله, وهل هو كلامه حرفاً ومعنى, أو معنى فقط؟ حرفا ومعنى, تكلم به عز وجل بحروفه, وهل هو مسموع؟ نعم, مسموع سمعه جبريل ونقله إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم, ومر علينا في درس التوحيد أن من أهل البدع من يقول: إن كلام الله معنى قائم بنفسه وليس شيئًا يسمع أو يكون بالحروف, وهذا مذهب الشاعرة الذين يدعون أنهم يتبعون أبا الحسن الأشعري, وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية بطلان هذا المذهب من تسعين وجها في مؤلف يسمى "التسعينية", وهي موجودة في مجموع الفتاوى القديمة, فيه من يقول: أن القرآن مخلوق, ويقول: كل كلام الله مخلوق منفصل بائن منه وليس من صفاته, وهذا مذهب المعتزلة والجهمية وهم إلى المعقول أقرب من الأشاعرة؛ لأن الأشاعرة يقولون: أن الكلام هو المعنى القائم في النفس, والمعنى القائم في النفس لا يسمى كلامًا, ثم يقولون: ما سمعه جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم أو ما كتبه الناس في المصاحف فهو مخلوق, المعتزلة يقولون: لا, هو كلام الله لكنه مخلوق, وهم يقولون مخلوق عبارة عن كلام الله. ومن فوائد الحديث: أن الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين: قسم ابتدائي نزل ابتداء وهو أكثر آيات القرآن, وقسم سببي, أي: نزل لسبب وهذا قليل لكنه موجود والعلم بالسبب - أي: بسبب نزول الآية- له فوائد من أهمها: أنه يعين على فهم المعنى, فنحن مثلاً إذا قرأنا قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 58]. نفهم من هذا أن الطواف بهما من قسم المباح الذي ليس فيه جناح, ولكننا إذا فهمنا السبب عرفناه المعنى, السبب أنه كان على الصفا والمروة صنمان, فكل الناس يتحرجون من الطواف بهما من أجل الصنمين, فأنزل الله عز وجل هذه الآية {إن الصفا ... }. إذن نفي الجناح نفي لما يتوهمه الناس من أن الطواف بهما في حرج من أجل الصنمين, على هذا ينبغي لنا أن نعتني بمعرفة أسباب النزول, وهذا موجود -الحمد لله- من المفسرين من يذكره عند تفسير كل آية, ومن المفسرين من ألف كتباً مستقلة في بيان أسباب النزول. ومن فوائد الحديث: أن المرأة للرجل بمنزلة أرض الحرث لقوله: {حرث لكم}. ومن فوائده: أن مسألة الجماع يرجع فيها إلى الزوج لا إلى الزوجة, بمعنى: أنه إذا أراد أن يجامع أو لا يجامع فالأمر إليه كما أن الأمر في الحرث إلى الزارع؛ ولهذا إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح, لكن إذا دعته هي وأبي لم يحصل عليه هذا الإثم, نعم عليه أن يجامعها بالمعروف أو في كل أربعة أشهر مرة عند الفقهاء, يعنى:

في السنة ثلاث مرات وهي امرأة شابة وتشتهي ما يشتهي الرجال وتدعوه وتتزين له تعمل كل شيء يقول: ما تمت أربعة أشهر ثم يطأها مرة؛ المرة الثانية على رأس ثمانية أشهر, والثالثة على رأس السنة, ولكن هذا القول ضعيف جداً, وإن كانوا يستدلون بمسالة الإيلاء للرجل المولي أربعة أشهر, لكن المولي عقد عقداً له حكمه أما غير المولي فليس كذلك, والصحيح أن مسالة الجماع يرجع فيها إلى العرف وهي داخلة في قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19]. لكنها ليست كلما أرادت أن يفعل الزوج تلزمه, أما هو إذا أراد أن يفعل يلزمها؛ إذن يؤخذ من قوله: {نساؤكم حرث لكم} أن أمر الجماع راجع إلى الزوج. ومن فوائد الحديث والآية: سعة رحمة الله عز وجل بأن أعطى الزوج شيئاً من الحرية في أن يأتي حرثه من حيث شاء؛ لأن الناس يختلفون في مذاقهم وفي مزاجهم, ربما بعض الناس يختار أن تكون على صفة معينة والآخر على صفة أخرى فيسر الله الأمر وقال: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} يعنى: من حيث شئتم. ومن فوائد الحديث والآية: الإشارة إلى تحريم الوطء في الدبر, وجهه: {فأتوا حرثكم}؛ لأن الدبر ليس موضع حرث مهما فعل الإنسان لا يمكن أن يولد له إذا كان الإتيان من غير المكان. ومن فوائد الآية: الرد على طائفة مبتدعة وهي الجبرية؛ لأنهم ينكرون أن يكون للإنسان مشيئة يقولون: الإنسان لا يشاء فعله ولا يقدر عليه, وقد مر علينا في البحث في العقيدة بيان أوجه الرد الكثيرة على هذه الطائفة المبتدعة, وأنه لو أن أحدًا أمسك واحدًا منهم وضربه ضربًا مبرحًا, وقال: له إن هذا ليس بإرادتي وليس بمشيئتي, هذا أمر مقدر وكلما قال أوجعتني ضربه ثانية, وقال: هذا أمر مقدر, هل يوافق على هذا؟ لا يوافق, بل يخبطه خبطة أكبر, ويقول: هذا أمر مقدر, على كل حال: هذا القول لا يمكن أن يستقيم عليه حال من الأحوال, والآيات والأحاديث والواقع كله يشهد بأن هذا قول باطل. وهل يمكن أن يؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان إذا تلا آية من القرآن للاستدلال أو لاستنباط لا يلزمه أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟ ربما يؤخذ, لكن هناك أدلة أخرى تدل على أن الإنسان إذا أتى بالآية استشهادًا أو استنباطًا فإنه لا يلزمه أن يتعوذ, ومن العجيب أن بعض الغلاة في هذه المسألة يقول: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {نساؤكم حرث لكم} فنقول: كيف ذلك؟ الله لم يقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, قال: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} [النحل: 98]. فإذا كنت تريد أن تستعيذ فاستعذ قبل أن تقول: قال الله تعالى؛ لأنك إذا قلت: قال الله تعالى ثم قلت: أعوذ بالله صارت الاستعاذة من أمر الله وليس الأمر كذلك.

ما يقال عند إتيان النساء

ما يقال عند إتيان النساء: 978 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله, اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا: فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك؛ لم يضره الشيطان أبدًا". متفق عليه. هذا الحديث فيه إشكالات من جهة النحو أولاً: "لو" حرف شرط غير جازم ويدخل على الجملة الفعلية ولا يدخل على الجملة الاسمية, والذي أمامنا الآن جملة اسمية, فما الجواب؟ الجواب: أن الذي أمامنا ليست جملة اسمية, بل هي جملة فعلية, والدليل على ذلك فتح همزة "أن"؛ لأنها لو كانت جملة اسمية لوجب كسرها؛ إذن هي جملة فعلية, فما هو الفعل المقدر؟ لو ثبت أن أحدكم أو لو حصل أن أحدكم ... الخ, المهم: أن نقدر فعلاً مناسباً, زال الإشكال الآن عندنا الآن "لو" شرطية تحتاج إلى فعل شرط وجواب شرط, فأين جوابها؟ "فإنه يقدر بينهما", "لو أن أحدكم", "أن" تحتاج على اسم وخبر, فأين اسمها؟ "أحدكم", أين خبرها؟ جملة: "إذا أراد أن يأتي" إذا" شرطية تحتاج إلى فعل شرط وجوابه, "أراد": فعل الشرط, و"قال": جواب الشرط, وجملة: "إذا أراد قال" خبر "أن", "إن يقدر", "إن" حرف شرط يحتاج إلى فعل شرط وجوابه, فعل الشرط, "يقدر" وجوابه: "لم يضره الشيطان"؛ إذن تأخر الإعراب الآن "لو" شرطية فعل الشرط فيها محذوف تقديره: "حصل", "أن" حرف توكيد ينصب الاسم فيها "أراد", وجوابه: "قال", "لو" شرطية تحتاج إلى فعل الشرط وعرفناه تقديره, أين جوابها؟ "فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره", "إن" في "إن يقدر" شرطية تحتاج إلى فعل شرط وجوابه. "يقدر": فعل الشرط, "ولم يضره" جواب الشرط, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم ... " الخ و"لو" هذه شرطية, والغرض منها الحض على هذا العمل وقوله: "إذا أراد أن يأتي" يعني: أن يجامع ولكن اللغة العربية -لحسن أسلوبها- تكني عما يستحيا من ذكره؛ لما يدل عليه فبدل من أن يقول: لو أن أحدكم إذا أراد أن يجامع قال: "أن يأتي أهله" وليس المراد أن يأتي إلى البيت بل يأتي أهله في الجماع ولهذا يكني الله عن الجماع باللمس أو الملامسة وقوله" "أن يأتي أهله" أي: زوجه وسميت الزوجة أهلاً؛ لأن الإنسان يأهلها ويأوي إليها ويسكن إليها, قال: "باسم الله"؛ الجار والمجرور لا يدل له من متعلق كما قال ناظم الجمل: [الرجز] (لابد للجار من التعلق ... بفعل أو معناه نحو مرتق)

(واستثن كل زائد له عمل ... كالبا ومن والكاف أيضًا ولعل) على كل حال: الجار والمجرور "باسم الله" متعلق بمحذوف تقديره يعرف مما قبله "باسم الله أتي أهلي" واسم الله المراد به كل اسم من أسماء الله؛ لأنه مفرد مضاف والباء في قوله: "باسم الله" للاستعانة والمصاحبة. "اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا", "اللهم", يقول النحويون: إن أصله يا الله فحذفت ياء النداء وعوض عنها الميم ثم أخرت الميم تيمنا باسم الله وتبركا به, واختيرت الميم دون غيرها؛ لأنها دليل جمع كأن الداعي جمع قلبه على الله الذي ناداه وعلى هذا فنقول: "الله" (لفظ الجلالة) منادى مبني على الضم في محل نصب حذفت منه ياء النداء وعوض عنها الميم, "جنبنا الشيطان" يعني: أبعده عنا, واجعله منا في جانب بعيد و"الشيطان" اسم جنس للمردة من الجن, وهو مأخوذ من شطن إذا بعد عن رحمة الله والدليل على أنه مأخوذ من شطن أنه منصرف فيدل ذلك على أن النون فيه أصلية ولو كانت زائدة والألف زائدة لمنع من الصرف ولكن النون أصلية, قال الله تعالى: {وحفظناها من كل شيطان رجيم} [الحجر: 17]. "وجنب الشيطان ما رزقتنا" يعني: أبعده 'ما رزقتنا, يعني/ أعطيتنا من الولد الذي يكون من هذا الإتيان. قال: "فإنه أن يقدر بينهما ولد", وحذف الفاعل ولم يقل: وإن يقدر الله للعلم به كما قال تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفًا} [النساء: 28]. فحذف الفاعل للعلم به, يقول: "ولد" ذكر أو أنثى وهل الولد يطلق على الأنثى؟ نعم. "في ذلك لم يضره", "في ذلك" أي: في ذلك الإتيان الذي يسمى عليه هذه التسمية, "لم يضره الشيطان أبداً" لم يضره ضرراً حسياً بدنياً أو ضرراً معنوياً أو دينيًا أو خلقيًا؟ نقول: الحديث عام لم يضره الشيطان حسًا ولا معنى ولا في الدين ولا في الخلق. وقوله: "أبدًا" تأكيد للنفي "لم يضره الشيطان أبدًا" كما في قوله تعالى: {ولا يتمنونه أبدا} [الجمعة: 7]. فهنا التأكيد تأكيدًا للنفي, هذا الحديث يتضح فيه تمامًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الرجل إذا أتى أهله أن يقول هذا الذكر ولكنه صلى الله عليه وسلم ساقه بصيغة العرض لا بضيعة الطلب وهذا من باب تغير الأساليب قد يكون الطلب بلفظ الأمر وقد يكون بألفاظ تفيده. نستفيد من هذا الحديث: الحث على هذا الذكر عند الجماع؛ لأن كل إنسان يود أن الشيطان لا يضر ولده وهذا من أسبابه. ومن فوائد الحديث: الرد على الجبرية في قوله: "إذا أراد أن يأتي". ومن فوائد الحديث: بركة البسملة وهو كذلك, فالبسملة فيها بركة عظيمة, يدل على بركتها أن الإنسان إذا سمى على الذبيحة حلت, وإذا لو يسم حرمت إذا سمى على الأكل امتنع الشيطان من مشاركته, وإذا لم يسم شاركه الشيطان فيه.

ومن فوائد الحديث: إثبات أن الشيطان قد يسلط على الولد لقوله: "لم يضره" إذا قال هذا الذكر؛ إذن لو لم يقله لكان عرضة للضرر. فيستفاد منه: أن الشيطان قد يسلط على الولد كما يسلط على الوالد. ويستفاد منه: الرد على منكر الأسباب, وهم نفاة الحكمة من الجهمية والأشعرية وغيرهم يقولون: إن الأسباب لا تأثير لها سواء كانت حسية أو شرعية, والحقيقة أن الشرع كله يرد على هؤلاء؛ لأن على تقدير صحة القول يكون الإيمان والعمل الصالح ليسا سبباً لدخول الجنة, والمعاصي ليست سببًا لدخول النار, وهذا قول باطل كل الشرع يرده, والواقع يرده؛ لأن هؤلاء يقولون: إنك إذا ضربت الزجاجة بالحجر وانكسرت الزجاجة برميها بالحجر فإنها لم تنكسر بالرمي انكسرت عند الرمي لا بالرمي, والعجيب أن صبياننا الصغار إذا ضربت الحجر بالفنجان وانكسر يقولون كسرت الفنجان بالحجارة, فهم يعرفون هذا بينما يجهله هؤلاء الرجال الأذكياء يقولون: السباب لا تؤثر وإنما يحصل الأثر عندها لا بها وهذا شك لأنه خطأ, لماذا قالوا هذا؟ قالوا: لو أنك أثبت للأسباب أثر لأشركت بالله؛ لأنك جعلت خالقًا مع الله مؤثرًا, والذي يؤثر ويخلق هو الله, فنقول لهم: إن الأسباب ليست مؤثرًا بذاتها, ولكن بما أودع الله فيها من القوة المؤثرة, ولو شاء لسلب هذه الأسباب أثرها, أرأيتم النار سبب للإحراق وإذا أراد الله أن يسلبها هذا سلبًا, فقد كانت النار على إبراهيم بردًا وسلامًا ولم تحرقه؛ إذن نحن نقول إحراق النار للأشياء بإذن الله لكن الله جعل فيها قوة تؤثر في المسببات. ومن فوائد الحديث: جواز حبس الفاعل للعلم به من قوله: "إن يقدر"؛ لأن المقدر هو الله, يقولون: قد يحذف الفاعل للستر عليه كرجل رأى سارقًا يسرق البيت فقال: يا أيها الناس, سرق البيت وهو يعرف السارق هذا ستر عليه, وقد يكون للجهل به كما لو رأى سارقًا يسرق البيت لكن لا يدري من فقال: سرق البيت فهذا للجهل به. فإذا قال قائل: كيف نحدد أنه للجهل أو أنه للستر عليه أو أنه للعلم به؟ نقول: السياق, لو أن أحدًا من الناس أورد علينا قصة رجل كان يسمي هذه التسمية ويستعيذ هذه الاستعاذة كلما أتى أهله ولكن الله رزقه أولادًا شياطين, فماذا نقول؟ نقول هذا سبب والسبب قد يكون هناك موانع تمنع من تأثيره ولنفرض البيئة "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". فالبيئة قد تؤثر وتكون سببًا لتسلط الشيطان على هذا المولود لكن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا بالأسباب لتقوم بها وما عدا ذلك فهو إلى الله ربما يقول الآتي

لعن المرأة إذا عصت زوجها

لأهله هذا القول وهو في شك منه ويقول أجرب هل يحصل له هذا؟ لا؛ لأنه في شك لابد أن تكون على يقين من أن هذا إذا حصل فإن الشيطان لا يضر؛ لأن هذا قول من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم, نظير ذلك فيما نحن بصدد قراءته قريبا -إن شاء الله- أسباب الإرث نسب وولاء ونكاح قد يوجد موانع تمنع لو كانت الزوجة من أهل الكتاب هل يجري بينها وبين زوجها توارث؟ لا, لا يجري كيف لا يجري مع وجود زوجية؟ نقول: الزوجية سبب, ولكن وجد مانع فبطل تأثير السبب. يستفاد من الحديث: جواز ذكر الله لمن هو مكشوف العورة كيف ذلك؟ لأن الإنسان إذا أتى أهله لابد أن يكشف عورته خصوصًا إذا أتى أهله الإتيان الذي يطلب به الحرث فيقول هذا الذكر والدعاء حال كشف العورة ولكن ربما نقول: إنه لا يدل على جواز ذلك على سبيل الإطلاق ولكن على سبيل الحاجة يعني: إذا كان محتاجًا لكشف العورة؛ لأن الإنسان في حال الجماع محتاج لذلك, أما لو كشفها بدون حاجة فإن ذلك محرم على رأي بعض العلماء ومكروه عند بعض العلماء ومباح عند آخرين إذا لم يجد ناظرًا ولكن لاشك أن الحياء يقتضي ألا تكشف عورتك إلا لحاجة "والحياء من الإيمان". كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. لعن المرأة إذا عصت زوجها: 979 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح". متفق عليه, واللفظ للبخاري. - ولمسلم: "وكان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها". قوله: "دعا" بمعنى طلب منها أن تحضر إلى الفراش, وذلك من أجل أن ينال متعته منها بالجماع أو ما دونه فالحديث عام, وقوله: "فأبت" أي: امتنعت أن تجيء سواء بالقول قالت: "لا", أو امتنعت بالفعل بأن تكرهت وتأخرت ولم تأت, سواء علقت الإباء على شرط أو لا بأن قالت لا آتي إلا إذا اشتريت لي سيارة كاديلاك أو إذا أعطيتني حليًا مثل حلي فلانة أو إذا أتيت لي بخادم. وقوله: "فبات غضبان عليها" هذا شرط, يعني: إن رضي وصار حليمًا وعاقلاً وأعطى المرأة على قدر عقلها ولم يغضب فهذا طيب ولا تتعرض الملائكة للعقوبة المذكورة, فإن بات غضبان كما يوجد عند كثير من الأزواج يغضب إذا أبت أن تجيء لا من أجل أنها تفوت

الملائكة حقيقتهم ووظائفهم

عليه بامتناعها شهوته, ولكن من أجل أنه يشعر بأنها تحتقره وأنها تريد أن تذله وقد يكون من الجهتين جميعًا يكون هو محتاج إلى ما يريد فتحول بينه وبين إرادته فيغضب, وقد يكون من الناس سريع الغضب يغضب لأدنى سبب ولا يفكر في الأمور والعواقب, المهم أنه إذا بات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح "لعنتها" أي: دعت عليها باللعن, يعني: قالت اللهم العنها, هذا هو الظاهر, وليس المراد باللعن: أن الملائكة تسبها, لأن اللعن يطلق على السب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل هل يلعن الرجل والديه؟ قال: "نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه". وهذا دليل على أن السب لعن؛ لأن الساب يطرد المسبوب ويبعده عنه لكن قوله هنا "لعنتها الملائكة" الذي يظهر لي -والعلم عند الله- أن المعنى: دعت عليها بلعنة الله يعني قالت: اللهم العنها, والملائكة جمع ملأك وأصل ملأك مالك من الألوكة وهي الرسالة والملائكة رسل كما قال تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً} [فاطر: 1]. ففيها إعلال بالقلب وهو أن يجعل حرف بدل حرف فالملائكة أصلها ملأك, وأصل ملأك مألك؛ لأنه مشتق من الألوكة وليست الهمزة قبل اللام إذن ففيه إعلال بالقلب أي حرف مكان حرف ومن ذلك "أشياء" أظنكم تقرءونها غير مصروفة كما قال الله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء} [المائدة: 101]. "وأسماء" أظنكم تقرءونها مصروفة كما قال الله تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها} [النجم: 23]. مع أن "أسماء", و"أشياء" الوزن واحد, فلماذا كانت "أسماء" مصروفة و"أشياء" غير مصروفة؟ السبب هو الإعلال بالقلب فأصل "أشياء": شيئاء على وزن فعلاء ففيها ألف التأنيث الممدودة لكن "أسماء" على وزن "أفعال" ليس فها ألف تأنيث فالهمزة الثانية في "أسماء" هي لام الكلمة والهمزة الثانية في "أشياء" همزة التأنيث الممدودة فلهذا لو أشكل على طالب العلم لماذا "أسماء" مصروفة و"أشياء" غير مصروفة والوزن واحد؟ نقول: لأنه يوجد إعلال بالقلب "فأشياء" فيها قلب ليس أولها همزة أولها الشين التي هي فاء الكلمة والهمزة بعدها وهي عين الكلمة الهمزة في شيئاء قلنا: إنها ألف التأنيث الممدودة, فلهذا منعت من الصرف "أسماء" نقول: الهمزة زائدة لكن في مكنها فليست فاء الكلمة في "أسماء" هي السين وعينها الميم واللام هي لام الكلمة فليس فيها ألف تأنيث ولهذا لو قال لك قائل: زن "أسماء", تقول: "أفعال" زن "أشياء" "فعلاء". إذن ينبغي لكم قراءة الصرف, "الملائكة" مأخوذة من الألوكة وهي الرسالة. الملائكة حقيقتهم ووظائفهم: ومن الأشياء التي يجب علينا أن نؤمن بها والإيمان بها من أركان الإيمان الستة؟ الملائكة

يقول العلماء: هم عالم غيبي مغيب عن الناس خلقهم الله عز وجل من نور ليقوموا بعبادته, وهم صمد لا يأكلون ولا يشربون؛ لأنهم لا يحتاجون لأكل ولا شراب, ليس عندهم أمعاء ولا معدة ولا أجواف يسبحون الليل والنهار, يفعلون ما يؤمرون, أعطاهم الله تعالى قوة وسمعًا وطاعةً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, هؤلاء الملائكة ربما يتشكل بعضهم أو يتمثل بعضهم بالبشر جبريل -عليه الصلاة والسلام- أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه اثر السفر ولا هو من أهل المدينة غير معروف بالمدينة ثم جلس إلى النبي وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد وسأله, ومرة جاء على صورة دحية الكلبي, وملك من الملائكة جاء مرة على صورة أبرص أقرع أعمى مسافر ثلاث مرات وهو ملك؛ إذن هم يتمثلون بالبشر, لكن بإذن الله وإلا فالأصل ما ذكرنا عنهم آنفًا. ولا بأس أن نقول: ما وظائف الملائكة؟ هي وظائف متعددة, منهم الموكل بالوحي وهو جبريل, ومنهم الموكل بالقطر والنبات وهو ميكائيل, ومنهم الموكل بالنفخ في الصور وهو إسرافيل, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل يستفتح: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السموات والأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم", ومنهم مالك خازن النار, خازن الجنة قيل: إن اسمه رضوان ولكنه لم يثبت, اشتهر أن ملك الموت اسمه عزرائيل ولكن ذلك لم يثبت وإنما نقول ملك الموت كما قال الله عز وجل: {قل يتوافكم ملك الموت} [السجدة: 11]. أما تسميته إذا كانت لا تصح عن معصوم فليس لنا أن نسميه, وهناك ملائكة موكلون بكتابة أعمال بني آدم" {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 10 - 12]. {عن اليمين وعن الشمال قعيد} [ق: 17]. قال العلماء: والذي عن اليمين له السلطة على الذي على الشمال إذا أذنب الإنسان ذنبًا يقول صاحب اليمين لصاحب الشمال: أمسك لعله يتوب ولا يكتب وصاحب الشمال ليس له إمرة على صاحب اليمين بمجرد ما يفعل الإنسان الحسن تكتب وهذا من لطف الله بنا؛ لأنه علم حالنا فرحمنا, ويوجد ملائكة حفظة يسمون المعقبات, يعقب بعضها بعضا: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11]. هؤلاء

يتعاقبون فينا ليلاً ونهارًا يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ينزل كلائكة النهار في صلاة الفجر ويغادر ملائكة الليل في صلاة الفجر وينزل ملائكة الليل في صلاة العصر ويغادر ملائكة النهار في صلاة العصر انظر اعتناء الله عز وجل بنا يسخر الملائكة أن تتنزل علينا ونحن نصلي وأن تغادر ونحن نصلي إكرامًا لنا, يوجد أيضًا ملائكة سياحون في الأرض يطلبون حلق الذكر فإذا وجدوا حلقة ذكر جلسوا يستمعون الذكر: "إذا وجدتم رياض الجنة فارتعوا". قالوا: يا رسول الله, وما رياض الجنة؟ قال: "حلق الذكر". المهم: أن الملائكة -عليهم السلام- لهم وظائف متعددة شتى فنؤمن بالملائكة إجمالاً, ونؤمن بما علمنا من تفاصيل حالهم على وجه التفصيل ولا يتم إيماننا إلا بذلك والإنسان تحيد به ملائكة يحفظونه من أمر الله وتحيط به شياطين يأتونه من كل جانب قال الله عز وجل عن الشيطان: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} [الأعراف: 17]. فاستحضر أن الملائكة تحفظك من هؤلاء الشياطين؛ لتزداد قوة وتزول عنك الوحشة ولا تخضع وتذل وتخف من الشياطين ما دمت تشعر أن الله قد سخر لك ملائكة معقبات من بين يديك ومن خلفك يحفظونك من أمر الله, فكن قويًا بهذا الحفظ, بعض الناس تغلبه الشياطين وينسى الملائكة الذين يحفظونه فتجده في وحشة وربما يدخله الشيطان من الوحشة يقشعر جلده ويفز وحينئذ يكون سببًا لدخول الجني فيه فإذا شعر الإنسان بأن عنده ملائكة يحفظونه من أمر الله اطمأن وقال: الحمد لله جنود من جنود الله, وجنود الرحمن أقوى من الشياطين لما قال سليمان لمن حوله: {أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن} عفريت ليس جنيًا عادياً {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين} [النمل: 38, 39]. {قوي} ما أعجز أن أحضره, {أمين} ما أتلف فيه شيئًا: {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} [النمل: 40]. أيهما أبلغ؟ الثاني بكثير؛ لأن قوله: {فبل أن تقوم من مقامك} لأن له ساعة معينة يقوم فيها المهم أن الذي عنده علم من الكتاب قال: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} فإذا العرش عنده ولذلك قال {فلما} الفاء تدل على التعقيب {فلما رآه مستقرًا عنده} {مستقرًا} كأنه وضع منذ عشر سنين ولهذا النحويون قالوا كيف تقولون: إن مفعول "ظن وأخواتها" كيف يقولون: لازم يكون محذوفًا متعلقًا وهذا مذكور مستقرًا عنده؟ قالوا: لأن الاستقرار هنا ليس الاستقرار العام هذا استقرار خاص ثابت له سنوات, إذن الذي

عنده علم من الكتاب من الذي جعله يأتي بهذه السرعة؟ قال العلماء: إنه دعا الله فحملته الملائكة إذن الملائكة أقوى من الجن وشياطين الجن فإذا شعر الإنسان بما أخبر الله به {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11]. اطمأن وقالوا إن معنا قوة أكثر من قوة الشياطين. يقول: "حتى تصبح" يعني حتى يأتي الصباح, ذلك بطلوع الفجر, فياويلها إذا كانت في ليالي الشتاء تكون الليالي طويلة. ولمسلم: "كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها" أي: الزوج؛ لأنه إذا بات غضبان فيسخط عليها رب العالمين حتى يرضى عنها الزوج وقوله: "كان الذي في السماء" هو الله, لكنه ذكره في السماء مبالغة في التعظيم؛ لأن المقصود السماء هو العلو والله -سبحانه وتعالى- هو العلو المطلق الذي لا شيء فوقه ولا شيء يحاذيه وهو في المخلوقات كلها وما فوق المخلوقات عدم إلا من الله؛ لأنه إذا كانت المخلوقات كلها تحت الله ما الذي يكون معه؟ لا شيء كله عدم؛ ولهذا نقول: الله في السماء ولا يحيط به شيء؛ لأنه ليس هناك شيء حتى يحيط بالله. وهذا الحديث وأمثاله مما فيه إثبات أن الله في السماء, يعتد أهل السنة والجماعة أن الله في السماء حقيقة وأن المقصود بالسماء هو العلو المطلق وليس السماء المبنى على أنه يمكن أن يراد به السماء المبنى ولا يدل ذلك على أن السماء محيط به أو على أنه في السماء مباشرة كما يقول: "استوى على العرش" فعلو الله على السماء بمعنى أن السماء تحته لا بمعنى أنه مستو عليها كما استوى على العرش. أقول: أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله في السماء حقيقة؛ في العلو المطلق الذي ليس فوقه شيء ولا يحاذيه شيء, وهذا العلو المطلق هو عدم ليس فيه شيء لا سماء ولا أرض ولا كرسي ليس فيه إلا الله عز وجل كل شيء تحته, هذا مذهب أهل السنة والجماعة, وقال أهل التعطيل: إن الله ليس في السماء قيل لهم: {ءأمنتم من في السماء} [الملك: 16]. قال: نعم, من في السماء ملكه وسلطانه فيقال: هذا القول باطل؛ لأننا إذا قلنا: من في السماء ملكه وسلطانه احتجنا إلى تقدير والأصل عدم التقدير؛ ولأنه ليس من المعقول أن يكون ملكه وسلطانه فوقه لابد أن يكون هو فوق كل ما يملك وكل ما له سلطان عليه. فإن قال قائل: إذا جعلنا "في" للظرفية ألا يحصل إشكال؟ فالجواب: لا, ما دمنا نقول: إن السماء هنا هو العلو المطلق وليس السماء المبنية فلا إشكال والسماء يطلق في اللغة العربية بمعنى: العلو, قال أهل اللغة كل ما علاك فهو سماء

حتى السقف الذي فوقنا يسمى سماء؛ لأنه من السمو, وهو الرفعة, فإذا كان الله في السماء حيث العلو المطلق لم يبق إشكال في أن تكون "في" للظرفية, وإذا جعلنا المراد بالسماء السماء المبنية فإنهم يخرجون "في" على معنى "على" أي: من على السماء ويستشهدون لمجيء "في" بمعنى "على" بقوله تعالى عن فرعون: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} [طه: 71]. يعني عليها وبقوله تعالى: {قل سيروا في الأرض} [النمل: 69]. أي: عليها, ليس معنى: سيروا فيها احفروا نفقًا تسيرون فيه. الخلاصة: أن أهل السنة والجماعة يثبتون علو الله وانه فوق كل شيء وأنه في السماء, أي: في العلو المطلق ولا يقتضي ذلك شيئًا ممتنعًا على الله. وقوله: "ساخطًا عليها" منصوب على أنه خبر "كان" ترفع المبتدأ وتنصب الخبر, والسخط والغضب معناهما متقارب وهما صفتا كمال عند وجود سببهما؛ لأنهما يدلان على كمال القوة؛ لأن الساخط يشعر بأنه قادر على الانتقام فهو صفة كمال وكذلك الغضبان واعلم أن أهل التعطيل الذين ينكرون قيام الأفعال الاختيارية بالله ينكرون السخط والغضب ويقولون: إن الله لا يسخط ولا يغضب ينكرونه إنكار تأويل لا إنكار تكذيب وإلا كفروا يقولون يسخط ولكن بمعنى ينتقم أو يريد الانتقام فمعنى "ساخطًا" أي: مريدًا للانتقام منها أو منتقمًا منها ولكن لاشك أن تأويلهم هذا تحريف فهو تفسير للقرآن برأيهم لا بمقتضى اللغة ولا بمقتضى الشرع والدليل على هذا أن الله تعالى قال في كتابه: {فلما أسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55]. فيجعل الانتقام غير الأسف والأسف وهو الغضب فجعل الانتقام غير الغضب وجعل الانتقام مترتبًا على الغضب وما يترتب على الشيء فليس هو فليس هو الشيء وهذا يرد تحريفهم للكلم عن مواضعه, لماذا قالوا: إن الله لا يغضب؟ قالوا: لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام ولهذا تجد الرجل إذا غضب يحمر وجهه؛ لأن أوعية الدم تحتقن بسبب غليان الدم ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم "إنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب بني آدم" وبعض الناس تحمر حتى عيناه ترمي بشرر وبعض الناس يتنفش شعره حتى يكون وجهه كوجه الأسد فالحاصل أن الغضب جمرة فيقولون: الغضب غليان دم القلب وهذا ممتنع عن الله, ماذا نقول لهم؟ نقول إن الله ليس كمثله شيء فإذا كان هذا غضب المخلوق فإننا نجزم بأن غضب الخالق ليس كذلك بل هو غضب يليق به ونقول لهم ونحن نخاطب الآن الأشاعرة: ألستم تثبتوب لله إدارة؟ فسيقولون: بلى, نقول: الإرادة أن يميل الإنسان إلى الشيء إما الجلب منفعة وإما لدفع مضرة هم يقولون: الإدارة

بهذا المعنى: هي إرادة المخلوق, نقول: جواب سديد وإرادة الله تختص به وتليق به وليس كمثله شيء, ماذا نقول؟ قولوا هذا في الغضب, قولوا غضب الله عزو جل يليقٍ به, فإذا كنا نعلم جميعًا أن غضب المخلوق هو غليان دم القلب لطلب الانتقام فإننا نعلم أن غضب الخالق ليس كذلك؛ لأن الله يقول: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. إذن نحن نؤمن بأن الله يسخط سخطًا حقيقًا ولكنه لايشبه سخط المخلوق, انظر سخط المخلوق يترتب عليه آثارًا سيئة, ربما يشجج ورق النقود, وربما يكسر الإناء أحيانًا يغضب يأخذ بالشيء فوق ويضرب به على الأرض فيصير هذا خسارة أحيانًا, ألا ترى أنه قد يؤدي به إلى أن يطلق زوجته أحيانًا, أما غضب الخالق فلا يكون فيه سوء تصرف أبدًا؛ لأنه ينتقم بحكمة عز وجل فيكون غضبًا آثاره حميدة بخلاف غضب المخلوق. من فوائد الحديث: أن أمر الجماع راجع إلى الزوج؛ لقوله: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشة". ومن فوائده: أنه ينبغي أن يكني بما يستحيا من ذكره بما يدل عليه حيث قال: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشة"؛ لأن المراد من هذه الدعوة معلوم. ومن فوائد الحديث: أن تخلف المرأة عن إجابة دعوة الزوج إلى فراشه من كبائر الذنوب؛ وذلك لأنه رتب عليه عقوبة وهو لعن الملائكة لها أو سخط الله عليها. ومن فوائد ذلك: أن هذا مشروط بما إذا بات الرجل غضبان, أما إن استرضته فرضي فإن هذه العقوبة تزول يؤخذ هذا من قوله تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ... } [غافر: 7]. وفي السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن توضأ في بيته فأسبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة ثم صلى إذا دخل المسجد ما كتب له ثم جلس ينتظر الصلاة فإن الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه تقول: اللهم صلى عليه, اللهم اغفر له, اللهم ارحمه. ومن فوائد الحديث: إثبات أن الله في السماء لقوله: "كان الذي في السماء" وكون الله في السماء من الصفات الذاتية التي لم يزل ولا يزال متصفًا بها أما استواؤه على العرش فهو من الصفات الفعلية المتعلقة بمشيئة؛ لأنه لو شاء لم يستو على العرش ولو شاء لم يخلق العرش

حكم الوصل والوشم

أصلاً ولهذا يخطئ بعض طلبة العلم الذين يقولون: إن الصفة الفعلية إذا فعلها الله صارت صفة ذاتية فإن هذا خطأ؛ لأن الصفة الفعلية متعلقة بمشيئة إيجادًا وتركا لو اقتضت حكمته أن يتركها كما نقول في النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخر, فإذا طلع الفجر زال النزول. ومن فوائد الحديث: إثبات السخط لله عز وجل لقوله: "كان ساخطًا عليها", والسخط الصفات الفعلية؛ لأن كل صفة لله ذات سبب فهي صفة فعلية؛ ووجه ذلك: أن الصفة المعلقة بسبب لا تكون إلا إذا وجد السبب, إذن فهي متعلقة بمشيئة فتكون من الصفات الفعلية. فإن قال قائل: قلتم: إن شأن الجماع موكول الزوج فما تقولون فيما لو طلبت الزوجة ذلك فأبى عليها وغضبت هل يستحق الزوج هذا الوعيد؟ الجواب: أنه لا يستحق, ولكن يجب على الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف وأن يجامعها حسب ما جاء به العرف وهذا يختلف باختلاف المرأة وباختلاف الرجل وباختلاف حال الإنسان فالإنسان المشغول ليس كالإنسان المتفرغ, والمريض ليس كالصحيح ... وهكذا, نقول: إن للمرأة حقًا في طلب الجماع, ولكن ليس كحق الرجل فهو الذي له الشأن في هذا لكن هي لها حق أيضًا. حكم الوصل والوشم: 980 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة, والواشمة والمستوشمة". متفق عليه. قوله: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم أي: دعا عليها باللعن, وليس هذا بمعنى السب فيما يظهر بل معناه دعا عليها بلعنة الله عز وجل وقوله: "الواصلة" أي: التي تصل شعر النساء, و"المستوصلة": التي تطلب من يصل شعرها فالواصلة هي الفاعلة والمستوصلة هي المفعول بها والواشمة كذلك والمستوشمة التي تطلب من يشيمها فما هي الواصلة؟ الواصلة هي التي تصل شعرها بشعر آخر تطويلاً لشعر الرأس وكان الناس في الجاهلية وفي الإسلام أيضًا يرون أن طول شعر المرأة من محاسنها ومما يرغب فيها فكانت المرأة تحرص على أن يكون شعرها طولاً وتفخر على النساء بطول شعر رأسها, فإذا كان شعرها قصيراً ذهبت تصله بشعر يكون مناسبًا لشعر البشر؛ لأجل أن يظنها من يراها طويلة الشعر. وقوله: "الواصلة" ظاهرة أنها من وصلت شعرها بأي شيء سواء كان شعرًا أم غير شعر

ولكن بعض العلماء يرى أن من وصلته بغير الشعر فليست داخلة في الحديث؛ يعني: لو وصلته بخرز أو بشعر اصطناعي فإنه ليس داخلاً في هذا الحديث ولكن عند الفوائد التفصيل, "الواشمة والمستوشمة الوشم هو: أن تغرز المرأة جلدها بإبرة حتى يبرز الدم ثم تحشو هذا المكان بكحل أو نحوه, فإذا فعلت ذلك ثم تلاءم الجلد عليه بقيت هذه الصبغة دائمة؛ لأنها من تحت الجلد فلا يؤثر فيها الماء ويختلف النساء في الوشم منها من تشمه على صورة النخلة أو على صورة أسد أو على صورة إنسان أو على صورة وشي, يعني: تطريز, المهم أنهن يختلف, والحديث عام, أي وشم يكون. وقوله: "المستوشمة" هي التي تطلب من يشمها فتفعل هذا وإنما لعن النبي صلى الله عليه وسلم هاتين المرأتين لأنهما حاولنا مضادة الله في حكمه القدري حيث أرادتا أن تكملا أنفسهما الأولى تكمل الشعر والثانية تكمل الجلد بهذه النقوش فلهذا استحقت كل واحدة منهما اللعن وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله. يستفاد من هذا الحديث: أن الوصل والوشم من كبائر الذنوب, من أين يؤخذ؟ من لعن البني صلى الله عليه وسلم واللعن لا يكون إلا على كبيرة من الكبائر. ويستفاد منه: أن من حاول أن يجمل نفسه بخلاف خلق الله فإنه داخل فيمن غير خلق الله وهو من أوامر الشيطان. فإن قال قائل: الوصل ذكرتم أن من العلماء من قال بعمومه سواء بشعر أو بغير شعر, ومنهم من قال: بخصوص الشعر فأي القولين أصح؟ نقول: الصحيح أنه إذا وصلته المرأة بشعر فلا شك أنه داخل في الحديث أو بشعر صناعي فهو داخل في الحديث؛ لأن من رآه يظن أنه شعر طبيعي وأما من وصلته بشيء آخر يتبين أنه ليس بشعر فإن هذا لا يدخل في الحديث مثل أن تعقد على شعرها شيئًا يتدلى وينزل فهذا لا بأس به ولا حرج فيه؛ لأنه لا يدخل في الحديث ولا يحصل به التغيير لخلق الله عز وجل والنساء الآن يستعملن مثل هذا على رءوسهن خرقًا وورداء وأشياء كثيرة تتدلى هذه لا تدخل في الحديث. فإن قال قائل: هل الباروكة تدخل في هذا؟ أولاً: يرى بعض علمائنا أنها داخلة في الوصل وأنها حرام ويرى آخرون أنها ليست داخلة

وأنها لم تصل وإنما ليست قبعًا لها شعر يتدلى, ولكن الظاهر لي أنها تدخل في الوصل؛ لأنها إذا لبست هذا على رأسها وتدلى الشعر في هذه الباروكة فإن الناظر عليه يظنه شعراً وأما قول من قال ليست بوصل لأنه لم يتصل بشعر الرأس فيقال العبرة بالمعاني وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم تعرف هذه الباروكة, لكن يعرف الوصل الربط أما الآن فعرفت والذي يراها يقول: إنها رأس حقيقي تمامًا فتدخل في هذا الحديث. ومن فوائد الحديث: وأنه من الكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله, ولكن إذا قال قائل: لو أن المرأة وشمت نفسها على أنه وشم تتبين به لا من أجل الزينة, يعني: مثلاً هذه القبيلة قالت: سنجعل لنا وشمًا كما أننا نضع وشمًا على الإبل والبقر والغنم بالكي نجعل وشمًا بالوشم لأجل إذا رؤيت هذه المرأة أو هذا الولد قيل هذه من القبيلة الفلانية فهل يجوز هذا؟ لا يجوز لأن الحديث عام ثم إن الفرق بين الإنسان والبهيمة ظاهر, البهيمة لو سألت البعير من أنت لا تفيدك إلا رغوًا, البشر لو سألته من أنت؟ قال: أنا من القبيلة الفلانية فهو ليس بحاجة إلى هذا, المهم: أن الوشم من كبائر الذنوب سواء كان للزينة أو للعلامة, أو غيرها. فإن قال قائل: الواشمة لعنها ظاهر لكن المستوشمة كيف تلعن؟ نقول: لأنها طالبة, وبناء على ذلك فإذا وشمت الجارية وهي صغيرة غير مميزة فإنها لا تدخل في اللعن, يوجد الآن نساء يقلن: إن هذا الوشم الذي فينا لم نكن نعلم به ولا طلبناه فهل نستحق اللعنة؟ الجواب: لا, لأنها لم تدخل في المستوشمة. بقي أن يقال: هل يجب عليها إزالته؟ الجواب: الظاهر لي أنه إذا لم يكن عليها ضرر وجبت عليها إزالته, وإن كان عليها ضرر لم تجب, الضرر يكون على البدن عمومًا مثل أن يخشى عليها من سيلان الدم على وجه يضرها أو يخشى أننا إذا نزعنا هذا الوشم صار في الجلد بقعة مشوهة لاسيما إذا كان الوشم في الوجه فإنه لا شك أنه سيؤثر, ففي هذه الحال نقول إنه لا يجب ولكن ربما يأتي في يوم من الأيام دواء يكون سهلاً لإزالته, إذن لماذا وضع المؤلف هذا الحديث في باب عشرة النساء؟ لأن المرأة تحب أن تتزين لزوجها وتعتقد أن الوشم زينة أما الوصل فهو زينة. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للإنسان أن يغير خلق الله بالتجميل؛ لأن الواشمة والواصلة تغير خلق الله زيادة في الجمال, فأما إذا غير خلق الله إزالة للعيب فإن هذا لا بأس به ولا يدخل في النهي مثل لو كان في الإنسان أصبع زائدة فأراد أن يزيلها هل له ذلك؟ نعم؛ لأن هذا عيب

حكم الغيلة والعزل ووسائل منع الحمل

ولا حرج فيه, ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للذي قطع أنفه أن يتخذ أنفًا من ذهب ومن ذلك أيضًا لو كان الإنسان أعلم -يعني: مشقوق الشفة العليا- فأراد أن يجري عملية لضم بعضها إلى بعض فهل يجوز؟ نعم, لأن هذا إزالة عيب, ومن ذلك لو كان الإنسان أحول فأراد أن يعدل النظر يجوز ذلك؛ لأنه إزالة عيب, إذن القاعدة عندنا: أن تغيير خلق الله بالتجميل لا يجوز وتغيير خلق الله إزالة للعيب جائز هذا الضابط, هل يجوز ربط الأسنان لإصلاح صفها؟ فيه تفصيل إذا كان عيبًا فلا بأس يعني: لو فرضنا أن السن طالت فهذا عيب, وعليه فلا بأس أن يصف مع زملائه, وإذا كان ليس عيبًا لكن يريد الإنسان أن تكون أسنانه على وجه أجمل فإن هذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواشرة والمستوشرة والمتفلجات لحسن, المتفلجات: هن اللاتي يفلجن ما بين أسنانهن حيث ينفتح؛ لأنهم كانوا يرون أن الفلج من محاسن المرأة, على كل حال الضابط ما ذكرنا. ومن فوائد الحديث: بيان انقلاب العادات اليوم في الشعر, الشعر كان طوله يعد جمالاً والمرأة بدأت تقصه؛ لأن المرأة الإفرنجية تقص فقالت: نقص هذا أحسن لأجل أن نصنع الطائرات والدبابات والصواريخ وعابرات القارات؛ لأن الأمة هذه ما وصلت إلى ما وصلت إلا بقص الشعر, لم يعملوا أنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا حيث استخدموا قواهم التي أعطاهم الله فيما أمر الله به المسلمين: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال: 60]. {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها} [الملك: 15]. نحن مفرطون لو أننا فعلنا مثل فعلهم في التنقيب عما أودع الله في الأرض من المصالح العظيمة وفي استخدام عقولنا في تصنيع هذه الأشياء لكنا أهدى منهم سبيلاً لأن المتأمل في أحوال البشر يجد أن أصح الناس فطرة وأقواهم ذكاء وأسدهم عقلاً هم العرب ولا شك أن جنس العرب أفضل أجناس بني آدم والدليل على ذلك أن أفضل الخلق منهم ولا يمكن إلا أن يكون من أفضل معادن البشر معدن: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124]. لكن مع الأسف أن العرب الآن تخلفوا كثيرًا عن غيرهم. حكم الغيلة والعزل ووسائل منع الحمل: 981 - وعن جدامة بنت وهب رضي الله عنها قالت: "حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس, وهو يقول: لقد هممت أن أنهي عن الغيلة, فنظرت في الروم وفارس, فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئًا".

ثم سألوه عن العزل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي". رواه مسلم. هذا الحديث فيه أصول عظيمة تتبين فيما بعد, تقول: "حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس", "أناس" هو الأصل لكلمة ناس, لكن حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال فصاروا يقولون الناس وقولها: "في أناس" لم يتبين هل هم في المسجد أو خارج المسجد؟ فهل هذا متوقف عليه فائدة أو لا؟ لا يتوقف, وجملة "وهو يقول" حال من الرسول. وقوله: "هممت" الهم هو حديث النفس وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام .. ". الحديث. فهو حديث النفس؛ يعني: حدث نفسه أن ينهي عن الغيلة؛ أي: أن يأمر الناس بالكف عنها و"الغيلة" هي وطء الحامل على أحد القولين والقول الثاني إرضاع الحامل يعني أن يطأ الإنسان امرأته وهي ترضع أو أن ترضع المرأة ولدها وهي حامل فعلى القول الأول: يكون نهياً عن السبب؛ لأن الرجل إذا جامع زوجته وهي ترضع فربما تحمل ثم ترضع الطفل وهي حامل, وعلى القول الثاني: يكون نهيا عن الغاية وهي أن ترضع المرأة وهي حامل؛ لأنهم يقولون: إن إرضاع المرأة طفلها وهي حامل يضر الطفل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم", "الروم" أمة معروفة تعيش شمال الجزيرة العربية, وفارس أمة معروفة تعيش شرق الجزيرة العربية, فارس ديانتهم المجوسية عباد النار, والروم ديانتهم النصرانية كلهم في ذلك الوقت كفار فنظر الرسول في حالهم فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئًا؛ يعني: فتركت النهي عن الغيلة لماذا؟ لأن الروم وفارس بشر والطبائع البشرية لا تختلف باختلاف الدين؛ لأنها من مقتضى الطبيعة لكن لاشك أن الإيمان قد يزيد الغرائز الطيبة يزيدها قوة, لكن الأصل أن الطبائع البشرية يستوي فيها المسلم والكافر, وهذا سيجرنا إلى أن نقول: {أو نسائهن} [النور: 31]. ليس المراد: نساء المؤمنات, المراد: نساء؛ وذلك لأن المرأة سواء كانت كافرة أو مسلمة لا فرق بينهما بالنسبة للنظر كما هو معروف, ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي", العزل هو أن الرجل إذا جامع زوجته وقرب من الإنزال نزع من أجل أن يكون الإنزال خارجًا حتى لا تحمل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي" الوأد هو دفن الجارية وهي حية وكانوا في الجاهلية يفعلون هذا يئد الرجل ابنته وهي حية إن بعضهم يحفر لها الحفرة فإذا أصاب لحيته شيء من التراب نفضت التراب عن لحيته وهو يدفنها وهي حية هذه طائفة من العرب, طائفة يقتلون أولادهم قتلاً الذكور والإناث أما الأولى التي تئد البنات فإنهم يخافون من العار؛ لأنهم يعيرون بالبنات لهذا جعلوا البنات لله وجعلوا لأنفسهم البنين وأما الثانية فإنما تقتل الأولاد إما خشية الفقر, وإما من الفقر كما في القرآن: {ولا تقتلوا

أولادكم من إملاق} [الأنعام: 151]. {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: 31]. وانظر إلى البلاغة في القرآن لما قال: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} قال: {نحن نرزقكم وإياهم} فبدأ برزق الآباء لأنهم يقتلونهم من إملاق الفقر حاصل ولما قال: {خشية إملاق} قال: {نحن نرزقهم وإياكم}؛ لأنكم الآن أغنياء لكن تخافون الفقر فرزق هؤلاء الأولاد على الله. وقوله: "الوأد الخفي" يعني: الذي بظاهر؛ لأن الوأد نوعان: وأد ظاهر وهو أن يقتل الإنسان ابنته وهي حية ووأد خفي وهو أن يحاول منع الحمل ولكن هل هذا الوأد الخفي حرام أم لا؟ سيأتي -إن شاء الله- في بيان فوائد الحديث. أفادنا صلى الله عليه وسلم بقوله: "ذلك الوأد الخفي": أن الوأد نوعان كما ذكرنا ظاهر وخفي فالظاهر ما كانت الناس تفعله ف الجاهلية وهو: أن يدفن الإنسان ابنته وهي حية خوفًا من العار وذكرنا أن طائفة من العرب تدفن الأولاد الذكور والإناث خوفًا من الفقر وكلا الأمرين باطل منكر وهو يخالف حتى عادة الحيوانات نجد البهيمة ترفع حافرها عن ولدها مخافة أن تصيبه وتدافع عن الولد لو أنك أتيت هرة وهي على أولادها ترضعهم تهاجمك خوفًا على أولادها ثم تسمعها تأمر أولادها بالتردي تحن لهم حنا معينا؛ يعني: اخلوا مساكنكم لأجل ألا يصيبهم أذى هذا الخفي فهذا فسره صلى الله عليه وسلم بالعزل, عزل الرجل عن المرأة وأد خفي؛ لأنه فيه شيء من الحيلولة دون وجود الأولاد؛ لأن العزل من أسباب عدم الولد, وإن كان الله إذا أراد أن يخلقه ما متعه أحد ففيه شبه من الوأد وإن كان ليس كالوأد؛ لأن الوأد يدفنونه وهو حي, أما هذا فيمنع الحياة ففرق بين المنع وبين الرفع, العلماء يقولون: إن المنع أو الدفع أسهل من الرفع. أما هذا الحديث ففيه فوائد منها: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان اجتماعيًا يجتمع إلى الناس ويجتمع بهم ويحدثهم بما يناسب المقام والحال لقولها: "حضرت النبي صلى الله عليه وسلم في أناس". ومن فوائده: أن هذا الدين الإسلامي مداره على منع الضرر وجلب النفع, تؤخذ هذه الفائدة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم هم أن ينهي عن الغيلة مخافة الضرر, فلما رأى الروم وفارس لا يضرهم شيئًا عدل عن هذا لم ينه سواء نظر في الروم وفارس أم لم ينظر, ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين تأخر في صلاة العشاء حتى مر عامة الليل قال: "إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي". ويدل لهذا أيضًا: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة". فهذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشرع أحيانًا عن طريق الوحي وأحيانًا عن طريق

الاجتهاد, ثم إن أقره الله على الاجتهاد فهو من شريعة الله وإن لم يقره ارتفع هذا التشريع, فمثلاً أذن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المنافقين الذين اعتذروا فقال الله له: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة: 43]. وحرم على نفسه العسل إرضاء لزوجته فقال الله له: {لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1]. فإذا أقره الله عز وجل على حكم من الأحكام صار هذا الحكم من حكم الله كما أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقر أحدًا من الصحابة على حكم أو على فعل من الأفعال صار منسوبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى إقراره ويكون مرفوعًا صريحًا. ومن فوائد الحديث: جواز الأخذ بما عليه الكفرة إذا كان نافعًا, فإذا وصفوا لنا دواء مع الثقة بهم أخذنا به وإذا فعلوا أشياء مفيدة أخذنا بها لقوله: "فنظرت في الروم وفارس .. " الخ؛ فلا حرج على الإنسان فيما يفعله الكفار من المنافع ليأخذ بها أو من المضار فيتركها. ومن فوائد الحديث: أن الناس في الطبيعة والجبلة على حد سواء مسلمهم وكافرهم لكن بالنسبة للأخلاق الاختيارية يختلف الناس, فخلق المؤمن خير من خلق الكافر لكن بالنسبة للأمور الطبيعية التي هي من طبيعة البشر لا يختلف فيها المؤمن والكافر تؤخذ من مقارنة حال المسلمين بحال الروم وفارس في أمر طبيعي بمقتضى الطبيعة والجبلة, ولا يقال: إن هذا من باب إتباع الكفار والتشبه بهم, بل يقال: هذا باب الاقتداء بالكفار في أمور جرت عليهم بالتجارب وليست من باب الولاء والبراء يتفرع على اشتراك المؤمن والكافر فيما تقتضيه الطبيعة والجبلة, يتفرع على هذه الفائدة: ترجيح التسهيل في قوله تعالى: {أو نسائهن} [النور: 31]. وقد اختلف المفسرون هل المراد ب {نسائهن} أي: نساء المؤمنات, أو نسائهن؛ يعني: الجنس, يعني: النساء اللاتي من جنسهن والصحيح الثاني؛ وذلك لأن الطبيعة في الكافرة والمسلمة واحدة, فالمراد لا ننظر إلى المرأة كما ينظر الرجل إلى المرأة لا فرق بين المسلمة والكافرة كما أن الرجل لا ينظر إلى الرجل كما ينظر إلى المرأة لا فرق بين الرجل المسلم والرجل الكافر فهذا بمقتضي الطبيعة والجبلة أن المرأة نظرها إلى المرأة ليس كنظر إليها فبهذا يترجح القول بأن النساء هنا للجنس وليس المراد الموافقة في الدين وأما تعليلهم بأن الكافرة ربما تصف هذه المسلمة لغير المسلمين, فيقال: إن هذا المحظور إذا وجد منع من النظر حتى ولو كان بين مسلمة ومسلمة لو كنا يغلب على ظننا أن هذه المرأة المسلمة إذا نظرت إلى هذه المرأة ذهبت تصفها للناس كأنهم ينظرون إليها؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.

ومن فوائد الحديث: أنه يجوز السؤال عما يستحيا منه للتفقه في الدين لقوله: "ثم سألوه عن العزل", وهذا أمر يستحيا منه, لكن لابد من معرفته؛ لأنه يتعلق بأمر ديني وقد كانت النساء يسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء يستحيا منه أكثر من هذا, فإن أم سليم قالت يا رسول الله, المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فهل عليها غسل؟ قال: "نعم إذا رأت الماء" فقالت عائشة: نعم نساء الأنصار لم يمنعه ينبغي للإنسان أن يدع العلم حياء وخجلاً, وقد قال بعض السلف: "لا ينال العلم حيي أو مستكبر". الحيي تجد حياءه يمنعه من السؤال والبحث, والمستكبر كبره يمنعه؛ إذ يجعله الكبر يقول: كيف أسأل؟ إذا سألت قالوا هذا ما يعرف وهذا خطأ. ومن فوائد الحديث: تحريم العزل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه وأدًا, والوأد حرام, وإلى هذا ذهب ابن حزم وجماعة من العلماء وقالوا: إن عزل الإنسان عن امرأته حرام سواء رضيت أم لم ترض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه وأدًا ووصفه بأنه خفي لا يرفع عنه التحريم ولكنه يرفع عنه أن يكون قتل نفس لأن الوأد الظاهر قتل نفس ولاشك في تحريمه, أما هذا فهو وأد خفي يكون حرامًا؛ لأنه وصف بأنه وأد ولا يرتقي إلى درجة الوأد الظاهر الذي هو قتل النفس؛ لأنه وصف بأنه خفي؛ لأن الناس لا يعلمون عنه ويخفى حكمه على كثير من الناس وذلك وأد الظاهر حكمه لكثير من الناس فهو ظاهر من جهة وضوحه للناس وظاهر من جهة معرفة حكمه أما هذا فهو خفي؛ لأنه بين الرجل وبين زوجته؛ ولأنه يخفى حكمه على كثير من الناس ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه ولهذا ذهب كثير من أهل العلم إلى جواز العزل لكن اشترطوا شرطين: الأول: أن يكون باتفاق من الطرفين الزوج والزوجة؛ لأن للزوجة حقًا في الولد قد يرغب أن يعزل لتبقى زوجته شبه بكر ولكن الزوجة لا ترغب ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يعزل؛ لأن الزوجة لها حق في الولد ولهذا إذا تبين أن الزوج عقيم فإن الصحيح من أقوال أهل العلم أن للمرأة الفسخ لأنها يفوتها ما تريده من الأولاد. والشرط الثاني: ألا يكون في ذلك ضرر فإن كان في ذلك ضرر إما على الزوج وإما على الزوجة فإنه يمنع, وهذا الضرر قد لا يمكن الإفصاح عنه ولكن يعرفه الزوج وتعرفه الزوجة؛ لأن النزع قبل استكمال اللذة فيه خطورة على الزوج وعلى الزوجة؛ فإذا انتفى الضرر واتفق

الطرفان على ذلك فإنه جائز عند الجمهور لكن مع ذلك يقولون: إنه غير مرغوب فيه؛ لأنه ضاد ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصده من هذه الأمة حيث قال: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة". فهذا يدل على أن رغبة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة أن يكثر نسلها, لاشك أن كثرة النسل عز للأمة, وأما قول من قال إن كثرة النسل سبب لضائقة اقتصادية؛ لأنه بدل من أن يكون أهل البلد مائة يكونون مائتين, والمائة يكفيهم مثلاً صاع من الرز, وإذا كانوا مائتين يحتاجون إلى مائتي صاع, فهؤلاء مع سوء ظنهم بالله عز وجل قد يبتلون بأن يضيق الله عليهم الرزق ولكن لو أحسنوا الظن بالله وعلموا أنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها, فإذا ولد لك ولد انفتح عليك باب رزق, وقد حدثني شخص أعرفه الآن قبل أن تنفتح عليه الدنيا يقول أنه كان فقيرًا وأشير عليه بالزواج فقال: ما عندي شيء, فقالوا: تزوج يرزقك الله فإن الله يقول: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله} [النور: 33]. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ثلاثة حق على الله عونهم" وذكر منهم المتزوج يريد العفاف, المهم: تزوج يقول: لما تزوجت كثر الذين يعطونني المال أحرج عليه والحراج كان في الزمن الأول حيث كان الرجل يعطي ثوبا مشلاحًا أو يعطي شيئًا يحرج عليه إذا باعه له نسبة مئوية يقول فكثر الناس الذين يعطونني يقول: فولد لي عبد الله فرأيت الأمر يزداد, فولد له الولد الثاني يقول فصرت متوسعًا أكثر فالإنسان إذا اعتمد على الله فهو الذي يتكفل بالرزق, فأنا لا أرزق أولادي الذي يرزقهم هو الله عز وجل لكن أصدق الاعتماد على الله يرزقك. المهم: أن ما ذهب إليه أهل التشاؤم الذين لا يعرفون حق المعرفة الذين يقولون: إن كثرة الأولاد تؤدي إلى ضائقة اقتصادية, ما داموا تعلقوا بالأمور المادية يبتلون بها "من تعلق بشيء وكل إليه". ولو اعتمدوا على الله لوجدوا أن الرزق ينفتح لهم كلما كثر أولادهم. إذن نقول العزل مع قولنا بجوازه غير مرغوب فيه لأنه يضاد ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد من هذه الأمة وهو تكثير النسل, وليعلم أنه يجب علينا الحذر من النصارى الذين يولدون النساء سواء كانوا ذكورًا أم إناثا فإنه بلغنا أنهم يسيئون في التوليد يجذبون الولد بشدة أحيانًا تنخلع يده أو جميع رقبته أو يناله أذى وربما يحاولون أن يضيق الخناق عليه حتى يموت كذلك يحاولون أن

يجعلوا لكل ولادة من أجل أن يبقى بطن المرأة مخرقًا ما يتحمل الحمل؛ لأنهم يجرون العملية في أماكن متعددة فيبقى البطن مخرقًا مع العلم أنهم يمكن أن يجروا الولادة إجراء طبيعيًا لكن لا يريدون. فالمهم: أنه يجب علينا نحن المسلمين أن نحذر منهم وأن نعلم أن النصارى واليهودي أعداء لنا مهما أبدوا من المودة فإنهم يتزلقون إلينا لينالوا مقصودهم وإلا فما الرابطة بيننا وبين النصارى واليهود؟ بل بيننا وبينهم العداء منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6]. وقال: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89]. فليس بيننا وبين النصارى أي مودة وإن تزلفوا لنا فإن ذلك لمصالحهم لا لمصلحتنا نحن وكل شيء يؤدي إلى مصالحهم فهو ضرر علينا؛ لأن صلاحهم ونمو اقتصادهم كله علينا وليس لنا. على كل حال: أنا أقول أنه يجب علينا أن نحذر من هؤلاء وألا نمكن نساءنا من الذهاب إلى مستشفياتهم للولادة إلا عند الضرورة القصوى, أما إذا كانت الولادة طبيعية فلابد من المشقة, كيف يخرج هذا الولد من هذا المكان الضيق إلا بتعب ولولا تسهيل الله عز وجل ذلك لما كانت المرأة تطيق هذه العملية إطلاقًا, فإذا تعذرت للضرورة فلا بأس, أما لغير الضروري فأرى أنه من الخطأ والخطر أن نذهب بنسائنا إلى هذه المستشفيات. ومن فوائد الحديث: أن محاولة منع الولادة ولو بغير العزل وأد خفي, بل قد يكون أشد ضررًا من العزل مثل استعمال الحبوب المانعة من الحمل, هذه الحبوب يقول لنا الأطباء إنها مضرة على الرحم والدم والولد في المستقبل, ولهذا كثرت التشوهات في الأجنة في الوقت الحاضر بسبب تناول هذه العقاقير؛ لأننا نعلم أن الله عز وجل ركب البدن على طبيعة معينة, فإذا أعطي البدن ما يضاد هذه الطبيعة صار فيه ضرر على البدن, دع البدن على طبيعته التي خلق عليها فهذا هو المناسب له, هناك أيضًا محاولة أخرى غير هذه الحبوب وهي ما يعرف باللولب يركب في عنق الرحم بحيث يمنع من نفوذ الماء إلى الرحم -ماء الرجل- هذا أيضًا يشبه العزل بل سمعت بعض الناس يقول إن هذا لا يجوز؛ لأنه قتل للحيوانات المنوية ولكن هذا ليس صحيح؛ لأن الحيوانات المنوية لم تثبت لها الحياة شرعًا وإلا لقلنا إن الرجل إذا احتلم بالليل فقد قتل أنفسًا! ! هذا خطأ لأن هذا الماء ينزل على ملابسه ويذهب فالحيوانات المنوية ليست لها حكم الحياة إطلاقًا وإن سموها حيوانات فإنها ليست في الشرع ذات حياة, وهذا اللولب الذي يمنع دخول الماء للرحم لا يعد قتلاً للحيوانات, وإن كان الأطباء قد سموه قتلاً فليس بقتل شرعًا, حكم اللولب أنه كالعزل وهو أهون من الحبوب, وأخص من العزل؛

لأن المرأة والرجل كلاهما ينالان تمام اللذة؛ الرجل ينال لذته بإنزاله في محل الإنزال وكذلك المرأة, المحاولة الرابعة: أن الإنسان عند إتيان أهله يلبس محل التناسل كيسًا بحيث إذا حصل إنزال يكون في هذا الكيس هذا يجب أن يراجع فيه الأطباء فهل هذا لا يضر؟ فهو لاشك أنه ينقص به كمال اللذة قطعًا؛ لأن هناك فرقًا بين الملامسة والحائل, فهو ناقص؛ لكن لا أدري هل يضر أو لا يضر, فليرجع إلى الأطباء وهم أعلم منا في ذلك. 982 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أن رجلاً قال: يا رسول الله, إن لي جارية, وأنا أعزل عنها, وأنا أكره أن تحمل, وأنا أريد ما يريد الرجال, وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى. قال: كذبت يهود, لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه". رواه أحمد وأبو داود واللفظ له, والنسائي, والطحاوي, ورجاله ثقات. قال: "أن رجلاً" فأبهمه والإبهام لا يضر في مثل هذا؛ لأننا سبق لنا أن قلنا: إن صاحب القضية لا يهمنا الذي يهمنا القضية نفسها هل فيها أحد مبهم حتى يعين, أما صاحب القضية فإنه لا يضر سواء اسمه زيد أو محمد أو بكر لا يهمنا؛ ولهذا يأتي العلماء الشراح ويحرص على أن يعرف المبهم في هذا ولكن أرى أنه لا حاجة إلى ذلك. وقوله: "أن رجلاً قال يا رسول الله إن لي جارية" الظاهر أنها مملوكة وليس المراد الجارية صغيرة السن "وأنا أعزل عنها" الجملة هنا حال وسبق لنا معنى العزل وهو أن الرجل إذا قارب الإنزال نزع من زوجته أو ممن يطأها كالمملوكة, قال: "وأنا أكره أن تحمل" يكره حملها لماذا؟ لأنها إذا حملت ووضعت صارت أم ولد وأم الولد لا تباع أو تباع إذا فقد ولدها وإذا مات سيدها صارت حرة فيكره أن تحمل وأيضًا لو أراد أن يبيعها بعد أن حملت ووضعت صارت قيمتها رخيصة وإذا لم تحمل وتضع صارت أغلى فالمهم إذا قيل لنا ما هو سبب كراهيته؟ نقول: الذي يظهر لنا ما ذكرنا أولاً: أنه يخشى أن تحمل وتضع فترتبط بولدها؛ لأنه لا يجوز التعريف بين الوالدة وولدها, ثانيا: أنها إذا حملت ووضعت عتقت بعد موته ففاتت على الورثة, ثالثًا: أنها إذا حملت ووضعت نقصت قيمتها فيما لو أراد بيعها فلهذه الأسباب ولغيرها مما لا نعلم يكره أن تحمل, "وأنا أريد ما يريده الرجال" كنى عن الجماع بهذه العبارة. "وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى", اليهود أهل كتاب وهم الذين يدعون أنهم يتبعون موسى وسموا يهودًا إما لأن جدهم الذي ينتسبون إليه اسمه يهودًا وإما من قولهم: {إنا هدنا إليك} [الأعراف: 56]. أي: رجعنا إليك, وذلك حينما تابوا من عبادة العجل والظاهر أنه

نسبة إلى أبيهم يهوذا لكن عند التعريب تحول إلى هذا, "تحدث" هذه مضارع, لكن حذفت منه إحدى التاءين كقوله تعالى: {فأنذرتكم نارًا تلظى} [الليل: 14]. أي: "أن العزل الموءودة الصغرى"؛ لأن الموءودة قسمان: صغرى وكبرى, فالكبرى هي أن تؤد الجارية وهي حية بعد أن تولد والصغرى كما زعمت اليهود أن يعزل الإنسان, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كذب هذا فقال: "كذبت اليهود" يعني: ليس موؤدة وعلل ذلك بقوله: "لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه" صدق النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد الله أن يخلقه لخرج الماء من الإنسان قبل أن يعزل وحينئذ لا يستطيع أن يصرفه. هذا الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كذب اليهود في دعواهم أن العزل الموؤدة الصغرى وسبق لنا أنه سماه الوأد الخفي فهل بينهما تعارض؟ لا ما الجمع؟ إذن الرسول كذبهم باعتبار أنه حرام لكنه موءودة لكنها صغرى وأما الأول فقد قال: "إنه وأد خفي"؛ لأن الإنسان يمنع الولد على وجه خفي. أما هذا الحديث ففيه عدة فوائد: أولاً: بيان أن الإنسان إذا تكلم بما يستحيا طلباً للحكم فلا بأس به؛ لقوله: "وأنا أعزل عنها". فيستفاد منه: أن ما سبق لنا "أن من شر الناس منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها" أنه ما لم يكن هناك حاجة؛ لأن هذا فيه نوع من السر. ومن فوائده: أنه يجوز للإنسان أن يكره ما يكون عليه فيه ضرر مالي, ولا يقال إن هذا تكالب على الدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الرجل على قوله: "وأنا أكره أن تحمل". ومن فوائده: أنه يجوز العدول عن تكثير الأولاد إذا كان هناك سبب شرعي؛ لأنه إذا كره من جاريته أن تحمل قل أولاده منها مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحث على كثرة الأولاد فنقول: إذا كان لمصلحة شرعية فلا بأس. ومن فوائده: الكناية عن الشيء الذي يستحيا منه إذا لو تدع الحاجة للتصريح, قوله "وأنا أريد ما يريد الرجال" فهنا لا حاجة للتصريح حيث صرح فيما قبل بأنه كان يجامع ويعزل. ومن فوائده: اعتبار أقوال من عنده علم وإن كان كافرًا لقوله: "إن اليهود تحدث أنه موءودة صغرى" فلولا أن لهذا القول تأثيرًا في نفوسهم ما ذكروه للرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائده: أنه إذا حدثك من تشك في خبره أو في حكمه أو في فتواه فإنه يجب عليك أن تسأل من يزيل الشك, لأن الصحابي لما حدثه اليهود بذلك سأل النبي عن هذا. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى جواز العزل وذلك بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لليهود.

ومن فوائده: بيان أن الله عز وجل إذا أراد شيئًا فإن السبب لمنعه لا يفيد؛ لقوله: "لو أراد الله ... "الخ, وما أكثر الذين يعالجون لإزالة الأمراض ولكن يعجزون, وما أكثر الذين يحاولون أن يرتقوا إلى شيء ولكن يعجزون؛ لأن الله لم يرده, وإرادة الله فوق كل شيء. 983 - وعن جابر رضي الله عنه قال: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل, ولو كان شيء ينهى عنه لنهانا عنه القرآن". متفق عليه. - ولمسلم: "فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا عنه". يقول: "كنا نعزل" وسبق معنى العزل, قوله: "على عهد النبي صلى الله عليه وسلم" على عهده أي: على زمنه وقوله: "والقرآن ينزل" الجملة حالية وهي مؤكدة لما سبق؛ لأنه من المعلوم أنهم إذا كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فإن القرآن ينزل ولكنها مؤكدة لما سبق ولو اقتصر على قوله: "كنا نعزل على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه أكد ذلك؛ يعنى نقول: إن القرآن لم ينقطع بعد حتى يقال: لعله لم ينقل الحكم لانقطاع الوحي وجملة "والقرآن ينزل" حال من الفاعل في قوله: "نعزل". قال: "ولو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن" أي: ولو كان العزل شيئًا فاسم كان مستترًا, وهذه الجملة تسمى عند أهل الحديث في الإصلاح: إدراجاً؛ لأنها ليست من كلام جابر ولكنها من كلام سفيان الذي رواه عن جابر, فتكون هذه الجملة مدرجة وليست من كلام جابر وقوله: "لنهانا عنه القرآن" أضاف النهي إلى القرآن مع أن القرآن كلام ليس ذاتًا تتكلم بل هو صفة فيقال نعم يصح إضافة الفعل إلى القرآن كما قال تعالى: {إن هذا القرءان يقص على بني إسرائيل} [النمل: 76]. مع أن الذي يقص هو الله عز وجل بواسطة القرآن. وفي رواية لمسلم "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينهانا عنه", هذه الرواية تفيد أن الحديث مرفوع صريحًا؛ لأنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم واقره. في هذا الحديث فوائد: أولاً: جواز العزل والطريق للاستدلال به على جواز العزل من وجهين: الوجه الأول: اللفظ الأول الذي تجعل الحديث فيه مرفوعًا حكمًا لأنه مضاف إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصرح بأنه بلغه, والوجه الثاني: أنه مرفوع صريحًا, فتكون فيه الدلالة بوجهين بأنه مرفوع حكمًا على اللفظ الأول, وبأن مرفوع صريحًا على اللفظ الثاني. ومن فوائد الحديث: الاستدلال بإقرار الله عز وجل على الحكم لقوله: "ولو كان شيئًا ينهى عنه لنهى عنه القرآن", وهذه الفائدة تفيد طال العلم فيما يذكره بعض العلماء في العلماء في باب المناظرة إذا قيل فعل هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعله لم يطلع عليه, نقول: افرض أنه لم يطلع عليه لكن

اطلع عليه عز وجل وأقره, والدليل على أن ما خفي على النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقره الله يكون ثابتًا أن الذين يخفون المنكر يفضحهم الله لقوله تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} [النساء: 108]. فدل هذا على أن ما خفي على الناس إذا لم ينكره الله فهو حق ثابت إن كان عبادة وإن كان مباحًا فهو مباح. ومن فوائد الحديث: أن القرآن منزل لقوله: "والقرآن ينزل", وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أنه منزل غير مخلوق, والمعتزلة يقولون إنه منزل مخلوق كقوله: {أنزل من السماء ماء} [الأنعام: 99]. فالماء مخلوق, وكقوله: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6]. والأنعام مخلوقة, وكقوله: {وأنزل الحديد} [الحديد: 25]. والحديد مخلوق, ولكنا نقول الفرق بين الحديد والأنعام والماء وبين الكلام ظاهر جداً؛ الكلام صفة لا يقوم إلا بموصوف والحديد عين بائن منفصلة تقوم بذاتها فتكون مخلوقة وأما ما ذكر إنزاله وهو صفة فلا شك أنه صفة الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: الاستدلال بالطريق الذي أشرنا إليه وهو إقرار القرآن يعتبر دليلاً لكنه كما قلت من كلام سفيان وكلام سفيان ليس بدليل؛ لأن سفيان من التابعين والصحيح أن أقوال التابعين غير حجة والعلماء مختلفون في أقوال الصحابة هل هي حجة أو لا؟ والإمام أحمد يذهب إلى أن قول الصحابي حجة بشرطين الأول ألا يخالف النص, والثاني: ألا يخالفه صحابي آخر فإن خالفه صحابي آخر فإنه يطلب الترجيح, وإن خالف النص فهو مرجوح أما التابعي فلا أعلم أحدًا قال إن قوله حجة ولكننا لاشك نستأنس بقول التابعي لأن التابعين عاصروا الصحابة فهم من أعلم الناس بالأدلة الشرعية وأحكام الله الشرعية. ومن فوائد الحديث: أن أهل العلم-رحمهم الله- إذا علموا بالمرفوع الصريح اغتمنوا فرصة وجود ذلك ولهذا قال: ولمسلم: "فبلغ ... " الخ فأتى بهذه الرواية التي انفرد بها مسلم لما فيها من الفائدة وهي الدلالة على أن الحديث مرفوع صريحًا. ومن فوائد الحديث: الاستدلال بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم وسكوته لقوله: "فلم ينهنا". 984 - وعن أنس بم مالك رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد". أخرجاه, واللفظ لمسلم. "كان يطوف" من المشهور عند أهل العلم أن "كان" تفيد الدوام غالبًا, لكنها لا تستلزم الدوام دائمًا هي دالة على الدوام ولكن لا يلزم منها الدوام, فمثلا: "كان يطوف على نسائه"

هل كان يطوف كل يوم كل ساعة؟ لا لكن ربما طاف وقد لا يفعل ذلك كما ثبت في الحديث أنه كان يقرأ بالجمعة والمنافقين, والحديث الآخر كان يقرأ بسبح والغاشية ولو قلنا إن "كان" على الدوام دائمًا للزم التعارض بين الحديثين لكنها لاشك أنها تشعر بالدوام لكنها لا تستلزمه. وقوله: "يطوف على نسائه" يعني: الجماع فإن الطواف بالمرأة هو جماعها والدليل على هذا قول سليمان -عليه الصلاة والسلام-: "والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله". قوله: "لأطوفن" أي في الجماع, قوله: "بغسل واحد" يعني: لا يغتسل إلا مرة واحدة مع أنه يجامع عدة نساء وقد مات عن تسعة. في هذا الحديث دليل على أمور: الأول: جواز إعادة الجماع بلا غسل ولا وضوء لقوله: "بغسل واحد" فإذا طاف على النساء بغسل واحد من باب أولى أن يكرر الجماع على امرأة واحدة, لكن أقول: بلا وضوء, والحديث لا يدل عليه, هذا فلا يعارضه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء إذا أراد الإنسان أن يجامع مرة أخرى؛ لأن الأفضل إذا أراد الإنسان أن يجامع مرة أخرى أن يتوضأ لما في ذلك استعادة الجسم نشاطه بعد أن كسل بالجماع الأول. ومن فوائد الحديث: جواز تأخير الغسل, وأنه لا تجب المبادرة به؛ لأنه إذا طاف عليهن بغسل واحد فلابد أن يكون هناك فرق في الوقت لأنهن لسن في بيت واحد في بيوت متعددة ومعلوم أن صفية بيتها خارج المسجد, كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءت عنده في اعتكافه خرج يشيعها وهذا دليل على أن بيتها ليس لاصقًا بالمسجد كبقية البيوت بل هو بعيد عنه. ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجب عليه القسم, وجهه: أنه كان يطوف عليهم في ليلة واحدة, ولو كان القسم واجبًا عليه لانفرد بواحدة في جميع الليل, ولكن بعض العلماء قال أن هذا ليس فيه دليل وأخذ منه أنه يجوز للرجل أن يجامع زوجاته ولو في ليلة واحدة لأن الجماع ليس هو المبيت يكون المبيت عند من لها الليلة, وأما الجماع فله أن يطوف عليهن لاسيما إذا كانت المرأة التي هو عندها فيها مانع من الجماع كالحيض والنفاس فحينئذ قد يضطر أو يحتاج حاجة شديدة إلى أن يطوف على نسائه, واستدل به بعض العلماء على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجب عليه القسم كما قلنا أولاً, وبناء على هذا القول لا إشكال في الحديث, وقد استدل من قال: إنه لا يجب على النبي صلى الله عليه وسلم القسم بقوله تعالى: {ترجى من تشاء منهن

3 - باب الصداق

وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ .... } [الأحزاب: 51]. فقالوا: إن الله رخص له قال {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} يعني: اختار {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ} تدعوها، {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} وقلت لا قسم لك ورجعت في القسم لها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ} أي: ما أخبرناه به من هذا الحكم {أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ}؛ لأن الحكم من عند الله {وَلا يَحْزَنَّ ... } الخ ولكن كثرًا من أهل العلم إن لم يكن أكثرهم يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يجب عليه القسم واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». وأن هذا مقتضى العموم «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل»، وألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها النبي ولكن إن وجد دليل على اختصاص يقتضيه ولنا أن نقول: إن القسم واجب عليه ولكن كان يطوف على نسائه بغسل واحد برضاهن، وإذا رضيت النساء أن يفعل هذا فلا حرج ويحتمل أن يكون هذا قبل وجوب القسم، ويحتمل أن يقال: إن القسم بين النساء قد يقسم الإنسان بينهن إلا في الجماع ويكون عماد القسم في الليل وفي النهار الإنسان حرّ قد صح في الحديث نفسه أنه كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وهذا يقتضي أنه يمر على كل واحدة في كل ليلة، والذي يظهر لي - والله أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص الله له في ترك القسم ولكن لكرمه صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه كان يعدل بكل ما يستطيع، وهن كن يرضين منه أن يطوف عليهن بغسل واحد ويكون الاستقرار عند من عندها الليلة، وهذا ليس بضارهن شيئًا، وإنما رخص الله له في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي قوة ثلاثين رجلًا في الجماع، ومثل هذه القوة قد لا تكفيه لواحدة، في الليلة الواحدة فلذلك رخص له بناء على ما أعطاه الله من هذه الخصيصة ولكنه صلى الله عليه وسلم لكرمه يعدل بينهن ما استطاع هذا أقرب ما يقال. * * * * 3 - باب الصداق الصداق اسم مصدر من أَصْدَقَ؛ لأن المصدر من أَصْدَق إِصْدَقًا أَصْدَقَها يصدقها إصداقًا ويعرف علماء النحو اسم المصدر بأنه ما دل على معنى المصدر واشتمل على حروفه الأصلية دون الزائدة، فالكلام مثلًا يدل على التكليم لكنه لا يشتمل على حروف المصدر فيسمى اسم مصدر، السلام كذلك بمعنى التسليم واشتمل على حروفه الأصلية دون الزائدة، الصَّدَاق «بمعنى الإصداق ولكنه لا يشتمل على حروفه».

تعريف الصداق لغة وشرعا

تعريف الصداق لغة وشرعًا: والصَّدَاق «هو العوض الذي يعطى للمرأة بعقد نكاح وما ألحق به»، فقولنا: «بعقد نكاح» خرج به ثمن السرية إذا اشتراها الإنسان من أجل الاستمتاع بها فإن هذا لا يسمى صداقًا لماذا؟ لأنه ليس بعقد نكاح ولكنه عقد بيع وإن كان الغرض منه هو الغرض من النكاح لكنه ليس عقد نكاح وقولنا «وما ألحق به» ليدخل فيه ما إذا وطئ امرأة بشبهة فإنه يجب عليه الصَدَاق مهر مثلها وإن لم يكن عقد نكاح وكذلك أيضًا ما لو زنى بها كرهًا فإن لها مهر المثل على خلاف في هذه المسألة، إذن الصَدَاق هو العوض الذي يعطى للمرأة بعقد نكاح وما ألحق به وسمي صَدَاقًا لأن بذله يدل على صدق طلب الخاطب أو إن شئت فقل: العاقد ووجهه: أن المال محبوب إلى النفوس كما قال الله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]. ولا يبذل المحبوب إلا فيما هو مثله أو أشد فإذا بذله الإنسان دل على صدق رغبته وطلبه لهذه المرأة التي أصدقها ثم إن المهر ليس له حد شرعي على القول الصحيح بل ما طابت به نفس المرأة كفى ولو كان قليلًا لقول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. وهذا يشمل ما لو طابت نفسها عن كل الصَّدَاق إلا درهمًا منه مثلًا فإنه يأكله الإنسان هنيئًا مريئًا ثم إن تفويض الأمر للمرأة يدل على أنه حق محض لها والقاعدة الشرعية أن حق الآدمي محضٌ إذا عفا عنه أو إذا رضي منه بالقليل فإن ذلك جائز لأن الأمر إليه. فإن قال قائل: أفلا يرد على قولكم هذا أن تصححوا النكاح بالهبة؟ قلنا: لا يرد؛ لأن النكاح بالهبة تبرع محض بدون عوض بخلاف المهر القليل فإنه يسمى عوضًا ولهذا لابد أن يكون المهر يصح ثمنًا أو أجرة أي يصح أن يعطى ثمنًا للشيء أو أجرة للشيء في مقابل منفعة فلو قال أنا أصدقها حبة شعير فهي شيء ورضيت بأن قالت يكفيني حبة شعير مهرًا لا يصح لماذا؟ لأنه ليس مالًا؛ حيث إن هذا لا يتمول عادة ولا يصح ثمنًا ولا أجرة، أي إنسان يقول أنا بعت عليك هذا بحية شعير أي إنسان يقول أجرتك هذه الحجرة بحبة الشعير. إذن لابد أن يصح ثمنًا أو أجرة فإن كان لا يمكن أن يكون ثمنًا أو أجرة فإنه لا يصح أن يكون مهرًا فإذا قال قائل هل يشمل هذا المنافع؟ نقول نعم يشمل المنافع فلو قال الزوج: أنا أصدقها بأن أرعى إبلها لمدة سنة فهذا جائز ولا بأس به وقد أصدق موسى صاحب مدين أن يعمل له ثمان سنين وإن أتم عشرًا فمن عنده فيصح مثلًا أن يجعل المهر منفعة تنتفع بها الزوجة إما بدنية أو مالي فالبدنية أن يعمل في بستانها أو يرعى إبلها أو يعمل في ورشتها، والمالية مثل أن يسكنها بيته غير السكنى الواجبة عليه لمدة سنة يقول المهر أن أعطيك الجراج مستودعًا لسيارتك أو لمالك أو ما أشبه ذلك.

جعل العتق صداقا

فإن قال قائل: هل يشمل ذلك الخدمة الخاصة لها أي أن يخدمها الزوج خدمة خاصة بأن يقول المهر أن أخدمها هي شخصيًا لمدة سنة؟ فالجواب: أن هذا مختلف فيه بين العلماء منهم من قال: يصح لأنه منفعة ومنهم من قال: لا يصح، لأنه كيف يصح أن يكون خادمًا وهو القوام نقول له يا ولد اكنس البيت، يا ولد احلب البقرة وهو يدعوها إلى الفراش وتقول احلب البقرة! هذا فيه منافاة فلهذا قال بعض العلماء إنه لا يصح أن يكون المهر خدمة المرأة الخاصة لوجود المنافاة والتناقض. فإن قال قائل: هل يصح أن يكون المهر أن يعلمها شيئًا؟ فالجواب: فيه تفصيل على المذهب يقولون إن كان تعليم قرآن فإنه لا يصح وإن كان غيره فلا بأس ولكن الصحيح أنه يصح أن يكون المهر تعليمًا سواء قرآن أو غيره. جعل العتق صداقا: 985 - عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها». متفقٌ عليه. «أنه» أي: النبي صلى الله عليه وسلم، «أعتق» أي: حررها من الرق، هذا هو العتق تحرير الرقبة من الرق يسمى عتقًا وصفية هذه بنت رئيس بني النضير حيي بن أخطب اليهودي، وهي من ذرية هارون أخو موسى، هذه وقعت في خيبر من جملة من سبي من النساء فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، ولكنه صلى الله عليه وسلم اختارها لنفسه لا لقضاء الوطر أو الشهوة ولكن لجبر ما حصل لقلبها من الكسر لماذا؟ لأنها ابنة سيد القوم فأسرت وهذا من أكبر الإذلال في ذلك العهد حتى إلى عهدنا الآن فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يختارها لنفسه فهذه منة ثم منة أخرى أنه اعتقها وجعلها من أمهات المؤمنين؛ حيث إنه أعتقها وتزوجها وهذه منة أخرى بل منة أخرى تتضمن منتين فهذه ثلاث منن بالنسبة لصفية الأولى أنه اصطفاها والثانية أعتقها والثالثة تزوجها حتى صارت بذلك من أمهات المؤمنين وهذا شأنه صلى الله عليه وسلم في نكاح من تزوجها من النساء أنه يراعي في ذلك المصالح ليست المصالح الذاتية الشخصية بل أهم شيء عنده صلى الله عليه وسلم المصالح العامة أو الخاصة بمن تزوجها.

صداق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

يقول: «وجعل عتقها صَدَاقَها». إذن فعتق المرأة يصح أن يكون صَدَاقًا لكن لها أو لغيرها؟ لها لا لغيرها فلو أن امرأة مثلًا كانت صديقة لسرية، عنده زوج خطب امرأة وله سرية وقالت المخطوبة: مهري أن تعتق سريتك فأعتقتها لأن بينها وبينها صداقة وتحب أن تحررها فهذا لا يصح لأن العتق الآن لغير المتزوجة والذي يصح أن يكون العتق للزوجة «أعتقها وجعل عتقها صداقها» كيف قال؟ قال أعتقتك وجعلت عتقك صداقك. ففي الحديث فوائد منها: بيان حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في اصطفاء صفية ثم عتقها ثم جعلها من أمهات المؤمنين. وفيه من الفوائد: أنه ينبغي للإنسان أن يراعي قلوب الناس فإذا انكسر قلب شخص فليحرص على جبره بما استطاع لأن في هذا فضلًا عظيمًا والإنسان ينبغي له أن يراعي الناس بنفسه بمعنى أن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به، ومعلوم أن الإنسان إذا انكسر قلبه يحب من الناس أن يجبروه فينبغي هو أيضًا أن يجبر قلوب المنكسرة قلوبهم أولًا إشفاقًا عليهم، وثانيًا رجاء لفضل الله - سبحانه وتعالى-. ومن فوائد الحديث: جواز إعتاق المملوكة وأن يكون عتقها صداقها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أنه لا يشترط لعقد النكاح صيغة معينة أي أن النكاح ينعقد بما دل عليه ولا يشترط فيه لفظ الإنكاح ولا التزويج خلافًا لمن قال من أهل العلم إن النكاح لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج وقد مر علينا وقلنا إن الصحيح أن النكاح كغيره فينعقد بما دل عليه بأي لفظ كان. ومن فوائد الحديث: فضيلة صفية رضي الله عنها وذلك بأنها كانت من أمهات المؤمنين. ومن فوائد الحديث: بيان رحمة الله سبحانه وأنه إذا كسر من وجه، جبر من وجه آخر وهذه فائدة عظيمة يستفيد بها الإنسان في سلوكه مع الله عز وجل أنه إذا كسره الله من وجه فلينظر الجبر من وجه آخر ولا ييأس من رحمة الله وربما يأتي الجبر من وجه لم يخطر له على بال. صَدَاق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: 986 - وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه أنه قال: «سألت عائشة رضي الله عنها: كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا. قالت: أتدري ما النش؟ قال: قلت: لا. قالت: نصف أوقيةٍ. فتلك خمسمائة درهم، فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه». رواه مسلم. أبو سلمة بن عبد الرحمن من التابعين، وعائشة من الصحابة، وإذا كان أدرك زمنها فهو

يعتبر من أواسط التابعين سألها: «كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم» ولم يقيد؟ فقالت: «كان صداقه لأزواجه» وهي جمع زوج وهو جمع مضاف والجمع المضاف يفيد العموم لكنه هنا عامٌّ أريد به الخصوص لأن هذا القدر الذي ذكرته عائشة ليس لكل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما مضى وكما سيأتي مهره لصفية عتقها إذن فهو عام أريد به الخاص قالت كانت اثنتي عشرة أوقية ونشا، يقال اثنتي وثنتي كما يقال ثنتان واثنتان وابنتان وبنتان والمعنى واحد ولكن لماذا قالت ثنتي عشرة ولم تقل اثنتا عشرة؟ هذا يدل على أن اللغة هي الحاكم وليست قواعد النحو لأن مثل هذا المثال ما نستطيع أن نجيب عنه جوابًا مقنعًا لأنه إن كان مبنيًا على الجزأين قيل لهم كيف يكون مبنيًا وهو يتغير باختلاف العوامل والمعروف الذي يتغير باختلاف العوامل لا يسمى مبنيًا وإن قالوا معربًا قلنا معربًا أقرب من كونه مبنيًا ولكن ماذا تقولون في عشرة قالوا هذه لا محل لها من الإعراب؛ لأنه لا يصح أن يكون مضافًا ومضاف إليه ولكنها بمنزلة التنوين يقال لهم لماذا لم تقولوا بهذا في ثلاث عشر؟ وتقولوا المركب فهو مبني على فتح الجزأين؟ على كل حال الذي نرى أن نقول كما قال أظنه الكسائي قال: «أي كذا كذا خلق» فنقول هذه اثنتا عشرة نطق بها العرب في حال الرفع بالألف وفي حال النصب والجر بالياء، وقولها: «ونشا» كأن أبا سلمه رحمه الله لا يعرف معنى النش ولهذا قالت له: «أتدري ما النش .... ؟ » الخ النش لغة بمعنى: النصف فإذا قال قائل هذا غير معروف قلنا وليكن غير معروف عندك لكنه معروف عند أم المؤمنين رضي الله عنها التي هي من أفصح النساء فيقال ستة دراهم ونش أي ونصف وهذا لغة عربية صحيحة، «أتدري ما النش؟ » أي أتعلم ما هو؟ قال قلت لا وقالت: «نصف أوقية» فإذا كانت اثنا عشر ونصف أوقية يقول فتلك خمسمائة درهم لأن الأوقية أربعون درهمًا فعشرة في الأربعين بأربعمائة واثنان في أربعين بثمانين والنصف عشرون يكون الجميع خمسمائة درهم فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه خمسمائة درهم فقط الدرهم يساوي عندنا شيئًا زهيدًا إذا جعلنا كل مائتي درهم إسلامي ستة وخمسين ريالًا عربيًّا من الفضة كم تكون خمسمائة؟ مائة وأربعون ريالًا بالريال السعودي ولا شك أن هذا بالنسبة لوقتنا قليل جدًّا لكنه بالنسبة لوقت مضى حتى عندنا يعتبر هذا كثيرًا فيما سبق صداق المرأة عندنا ريال واحد وأحيانًا يكون الصداق - إذا صار قصابا - الكبد كبد الخروف يكون صداقًا، أحيانًا يصدقها خمارًا وذكروا أن شخصًا أصدق امرأته ريالًا فلما كان الضحى دخل عليها بالليل وجلس عندها في الضحى قرع عليه الباب رجل فنزل ليفتح له فلما فتح له تخاصم معه وارتفعت الأصوات وقال لأسجننك إن لم توفيني ففزعت المرأة زوجٌ ما دخل عليها إلا البارحة وهذا يسجنه؟ فهذا

مشكل فقالت ماذا يريد؟ قال يطلبني ريال وإذا الريال الذي عندها قال خذ الريال فخرجت المرأة مجانًا لكن على كل حال طابت نفسها بعد ذلك. من فوائد الحديث: حرص السلف على العلم لسؤال أبي سلمه بن عبد الرحمن ولكننا نسأل هل سؤال أبي سلمه يقصد به مجرد الاطلاع أو يقصد به الاستدلال لحكم شرعي؟ الثاني لا شك وهذه كانت أسئلة السلف لا يسألون عن الشيء إلا من أجل أن يبنوا على هذا السؤال أحكامًا شرعية خلافًا لما يعتاده كثير من الناس اليوم يسألون للاطلاع فقط ولهذا تجد بعض الناس يسأل واحدًا واثنين والثالث والرابع لمجرد أن ينظر ماذا عنده؟ وهذا خلاف هدي السلف. ومن فوائد الحديث: جواز مخاطبة الرجل المرأة إذا كان لمصلحة لأنه خاطب عائشة وسألها. وهل من فوائده جواز تدريس المرأة للرجل؟ قد يقال إن في أخذها - أي: هذه الفائدة - من الحديث نظرًا لأن هناك فرقًا بين أن تنصب المرأة نفسها معلمة للرجال وبين أن تسأل عن حكم شرعي والفرق بينها ظاهر لأن الأول قد يؤدي إلى الاختلاط وكثرة الكلام والمحاباة والمرأة - كما تعرفون - ناقصة العقل سريعة العاطفة لو أن الرجل تملق لها أو ضحك في وجهها لجذبها كما يجذب الخروف إلى المجزرة فلهذا قد يعارض بالاستدلال بهذا الحديث فيقال هناك فرق بين رجل سأل امرأة عن مسألة شرعية هذا لا بأس ولا أحد يقول هذا حرام بخلاف التي تنصب نفسها مدرسة للرجال ثم إن هناك فرقًا بين أمهات المؤمنين اللاتي في قلوب الناس لهن من الاحترام والإجلال ما يمنع أن يكون هناك شبهة ولهذا قال الله لأمهات المؤمنين {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]. يعني لن يطمع إلا من في قلبه مرض أما من قلبه سليم صحيح فإنه لا يطمع. ومن فوائد الحديث: أن صوت المرأة ليس بعورة لأنه لو كان عورة لكانت عائشة تنكر عليه وهذا أمر كالمقطوع به لدلالة القرآن عليه لقوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] فإن النهي عن الخضوع دليل على جواز ما هو أعم منه وهذه قاعدة مفيدة في أصول الفقه أن نفي الأخص يدل على وجود الأعم لأنه لو كان الأعم منتفيًا لكان نفي الأخص نقصًا في البيان أو النهي عن الأخص نقصًا في البيان ولهذا استدل العلماء بقوله تعالى: {لا

صداق فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم

تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]. على أن الله يرى قالوا لأن نفي الإدراك دليل على وجود أصل الرؤية ولو كانت الرؤية ممتنعة في الأصل لكان مقتضى البلاغة والبيان أن تنفي الرؤية أصلًا فيقال لا تراه الأبصار فإذا نهى الله عن الخضوع بالقول دلّ هذا على جواز أصل القول وأن المرأة لا بأس أن تخاطب رجالًا. ومن فوائد الحديث: جواز إطلاق العام وإرادة الخاص ولا يعد هذا من الكذب لفعل عائشة وفعلها حجة فإنها أطلقت العام تريد به الخاص ولكن لاحظوا أنه لا يجوز إطلاق العام وإرادة الخاص مع احتمال أن يراد العموم لأن هذا خلاف البيان بل لابد أن يكون هناك قرينة حالية أو قرينة متصلة أو قرينة منفصلة على أن هذا العموم غير مراد أما أن تخاطب الناس بعام وأنت تريد الخاص بدون أن يكون هناك ما يبين ذلك هذا لا يجوز فهنا ما الذي يبين أن عائشة لا تريد العموم؟ الواقع أن صداق الرسول صلى الله عليه وسلم لجميع زوجاته ليس هكذا فهي لما قالت «لأزواجه» نعلم أنها تعلم أن بعض أزواجه لم يكن هذا صداقهن. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للمفتي إذا تكلم مع المستفتي بشيء يظنه جاهلًا به أن يبينه. ومن فوائد الحديث: أن من طرق تعليم العلم السؤال لأنها سألته «أتدري ما النش؟ » ولم تقل والنش النصف بل سألته؛ لأن الإنسان إذا سئل تأهبت نفسه لقبول ما يكون جاهلًا به بخلاف ما أخبر به رأسًا. صداق فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم: 987 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما تزوج علي فاطمة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيها شيئًا، قال: ما عندي شيءٌ. قال: فأين درعك الحطمية؟ ». رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الحاكم. علي بن أبي طالب ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم وهي سيدة نساء أهل الجنة كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» قال ذلك حينما خلفه على أهله في غزوة تبوك فقال يا رسول الله تجعلني مع النساء والصبيان فقال ذلك تطييبًا لقلبه ولأن هارون خلف موسى في قومه حيث قال: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: 142]. فهذا معنى قوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» لكن لما خاف النبي صلى الله عليه وسلم أن يتشبث متشبث بهذه الكلمة ويقول: علي نبي كهارون فقال غير أنه لا نبي بعدي وهذا مما يدل على شدة حماية النبي صلى الله عليه وسلم لمقام الرسالة كما أنه

شديد الحماية لمقام التوحيد وإلا فمن المعلوم من القرآن والسنة أنه - أي: النبي صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وأنه لا نبي بعده لكن خاف أن يتشبث متشبث بهذا لكن الرافضة قالوا إن عليًّا إمام وادعوا أن الأئمة أفضل من الأنبياء وأنه لأئمتهم مقامًا لا يناله ملك مقرب ولا نبي مرسل. يقول: قال له الرسول: «أعطها شيئًّا» يريد: مهرًا قال: «ما عندي شيء» ابن عم الرسول ليس عنده شيء يصدقه زوجته! قال: «فأين درعك الحطمية؟ » الدرع يحتمل أنه يراد به درع الحرب ويحتمل أن يراد به درع اللباس العادي فإن القميص الذي نلبسه نحن يسمى درعًا والدرع الممرد من الحديد يسمى درعًا أيضًا وأظن بعضكم قد شاهد الدرع الذي يلبس في الحرب عبارة عن حلقات يربط بعضها ببعض منسوجة نسجًا يلبسها الرجل حتى تقيه السهام وهو ثقيل لكن هناك أجسام قوية تتحمل هذا الدرع وقوله «الحطمية» نسبة إلى بطن من عبد قيس يعني من العرب. ففي هذا الحديث: دليل على فضل علي بن أبي طالب وذلك حين أنكحه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فإن هذا لا شك يورث قرابته النسبية - هذه قرابة صهرية - فاجتمع لعلي قرابة النسب وقرابة الصهر وعثمان بن عفان زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه رقية وأم كلثوم وقد جاء رجلان إلى ابن الجوزي رحمه الله يتنازعان في علي وأبي بكر أيهما أفضل؟ فقال ابن الجوزي «أفضلهما من كانت ابنته تحته». فذهب الرجلان يتنازعان من يريد أيريد عليًّا أم يريد أبا بكر، هو تخلص من السؤال لأن أحد الرجلين يريد أن يقول عليّ أفضل والثاني يريد أن يقول أبو بكر أفضل فقال لهما ذلك فالضمير يعود على من؟ ما يدري من كانت ابنة الرسول تحته إذا كان هذا المعنى فعليّ إذا كان المعنى من كانت ابنته تحت الرسول فهو أبو بكر والضمائر غير واضحة. ومن فوائد الحديث: أنه لابد في النكاح من مهر لأنه لما قال أعطها شيئًا قال ما عندي قال أين درعك؟ ويدل لذلك أي لكونه لابد في النكاح من مهر قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]. ولأننا لو أجزنا النكاح دون مهر لكان بمعنى الهِبة والهبة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم بنص القرآن كما قال تعالى: {وَامْرَأَةً} يعني وأحللنا لك امرأة مؤمنة إن أراد ...... إلى قوله الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]. فإذا شرط الزوج أن لا مهر عليه فقد اختلف العلماء في صفة النكاح واتفقوا على فساد الشرط. الشرط فاسد لكن هل النكاح صحيح؟ يرى شيخ

الصداق والحباء والعدة

الإسلام رحمه الله أن النكاح غير صحيح لأن هذا شرط ينافي مقتضى العقد وكل شرط ينافي مقتضى العقد فإنه مبطل للعقد قال لأن الله إنما أحل ما أحل من النساء بشرط المهر: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] أي: تطلبوا النساء بأموالكم، وقال بعض العلماء: النكاح صحيح والشرط فاسد ويجب لها مهر المثل أما إذا زوجه وسكت فالنكاح صحيح ولها مهر المثل. ومن فوائد الحديث: إحاطة النبي صلى الله عليه وسلم بأحوال الصحابة حيث علم ما عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومن فوائد الحديث: أن الخبر المبني على الظن لا يعد كذبًا ولو خالف الواقع لما قال: «ما عندي شيء» يشمل كل شيء فأقره النبي صلى الله عليه وسلم لكن بيَّن له أن عنده شيئًا فإذا أخبر الإنسان بخبر بناء على ظنه وتبين الأمر خلاف ظنه لم يعد كاذبًا ويتفرع على هذه الفائدة أنه لو حلف على شيء بناء على غلبة الظن فإنه لا يحنث ولا فرق بين أن يكون هذا في المستقبل أو في الماضي فإذا قيل لشخص فلان سيقدم غدًا قال: «والله لا يقدم» بناء على غلبة الظن ثم قدم فإنه لا حنث عليه كما تفيد هذه القاعدة التي أخذت من السنة. ومن فوائد الحديث: أن المهر يصح في كل متمول لقوله: «فأين درعك الحطمية؟ ». ومن فوائده: أنه يجوز أن يكون المهر مما لا يصلح للمرأة ولكن تبيعه أو تهديه كيف ذلك؟ لأن الدرع إن كان درع الحديد الذي يتوقى به السهام فإن المرأة لا تلبسه عادة وإن كان الدرع لباس الرجل فالمرأة أيضًا لا تلبسه لأن المرأة لا يجوز أن تتشبه بالرجال، فإذا قال قائل: هل أصدقها عليٌّ هذا الدرع أم ماذا؟ الواقع: أن الحديث ليس فيه ذكر لجواب عليّ؛ يعني: عليّ لم يقل عندي ولم يقل أريد أن أصدقها غيرك، فهو محتمل لكن ربما يقول قائل إن الذي يقرب أنه أصدقها إياه لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم «أين درعك الحطمية؟ » يعني أصدقها إياه فيكون الظاهر أنه أصدقها إياه. الصداق والحباء والعدة: 988 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأةٍ نكحت على صداقٍ، أو حباءٍ، أو عدةٍ قبل عصمة النكاح؛ فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح؛ فهو لمن أعطيه، وأحق ما أكرم الرجل عليه ابنته أو أخته». رواه أحمد، والأربعة إلا الترمذي. قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما» هذه من أسماء الشرط التي تجزم فعلين الأول فعل الشرط والثاني جواب

الشرط وهي مبتدأ و «ما» زائدة لأنها لو حذفت لاستقام الكلام لو قيل أي امرأة نكحت وامرأة مضاف إليها «أي» وقوله: «نكحت» هذا فعل الشرط وجوابه «فهو لها» يقول: «أيما امرأة نكحت على صداق» وسبق معنى الصداق «أو على حباءٍ» وهي ما نسميه نحن بالهدايا التي تبذل لها وهي خارجة عن الصداق لكن لها حكم الصداق يعني الزوج يعطي الصداق ولنقل دراهم أو ثيابًا أو فرشًا ويعطي هدايا كالحلي وشبهه أحيانًا تسبق الهدايا العقد وأحيانًا تكون بعده، وقوله: «أو عدةٍ» مؤنث وعد يعني نكحت على وعدٍ بأن قال الزوج أنا أعدكم أن أعطيكم ألف ريال، قبل عصمة النكاح أي قبل عقده وسمي عقد النكاح عصمة لأن الإنسان يعصم به ما يخشى على نفسه منه من الفساد ولأنه يعصم به الزوجة من أن تتزوج بآخر وقوله: «قبل عصمة النكاح فهو لها» أي للزوجة ولا يعطى لأحد حتى وإن كان الموعود نفس الولي قال: «وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه ما كان من الحباء والعدة فهو لمن أعطيه سواء كان يعطيه الأب أو العم أو الأخ أو الأم أو غير ذلك» وأحق ما أكرم الرجل عليه ابنته أو أخته هذه الجملة علاقتها بالنسبة أنها تعليل يعني أن الإنسان قد يكرم من أجل ابنته أو أخته وهذا حق وليس بباطل. فهذا الحديث فيه فوائد عظيمة: الأولى أن الصداق والهدايا التابعة له والعدات التي يعد بها الزوج إن كانت قبل عقد النكاح فهي للزوجة حتى وإن شرطت لغيرها وبهذا نعرف ظلم أولئك القوم الذين يشترطون لأنفسهم من مهر الزوجة ما قد يكون نصف المهر أو أكثر وخصوصًا في البادية إذا خطب الرجل منهم قالوا نعم نعطيك البنت عشرة آلاف لها وعشرون ألفًا لحليلها ولأبيها سيارة كاديلاك ولأخيها سيارة نقل، فيكون نصف المهر كله طلبات لغيرها هذا حرام إذ ليس يحل لهم أن يشترطوا لأنفسهم شيئًا ولو شرطوا وتحاكموا للمحكمة قضت بأن المشروط للزوجة لا لهم فهم لا يملكون شرعًا ولا حكمًا يعني عند التحاكم، وقال بعض العلماء إن شُرط للأب فله وإن شُرط لغيره فلها أي للزوجة وعللوا ذلك للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء لقول النبي صلى الله عليه وسلم «أنت ومالك لأبيك»، ولكن هذا قياس في مقابلة النص فهو فاسد الاعتبار وهو قياس فاسد من أصله وذلك أن المرأة لا تملك الصداق إلا بالعقد والأب لا يمكن أن يتملك ما لم تملكه البنت فهو قياس فاسد والصحيح أن ما يشترط قبل العقد للمرأة ولو كان الذي اشترطه أبوها لهذا الحديث. ومن فوائد الحديث: جواز شرط الكرامة للأب أو للابن بعد عقد النكاح وأن الزوج لو التزم بذلك ورضي لزمه ولكن هل يعتبر من المهر؟ لا يعتبر يُعتبر كرامة للأب أو للأخ أو للعم

مهر من لم يفرض لها صداق

ما أشبه ذلك وبناء عليه فإذا وجد ما يسقط به المهر أو ما يتنصف فإن الزوج لا يرجع به على من أخذه مثال ذلك رجل تزوج امرأة بمهر قدره عشرة آلاف ريال وعقد له العشرة للزوجة لكن بعد العقد أكرم أباها بخمسة آلاف وأمها بألفين وأخاها بألف ثم قدر أن طلقها قبل الدخول لها فلها نصف المهر ويرجع عليه نصف المهر لكن هل يرجع بما أعطى أباها وأمها وأخاها؟ لا لأن هذا ليس من المهر. ومن فوائد الحديث: أن الرجل قد يكرم من أجل ابنته أو من أجل أخته وأنه إذا أكرم لهذا فليس ذلك من باب الرشوة ولا من باب أكل المال بالباطل لقوله «أحق ما أكرم الرجل عليه ابنته أو أخته». ومن فوائد الحديث: أن الصداق يصح بالقليل والكثير لأن «على صداق» نكرة في سياق الشرط فتكون للعموم أي صداق كان قليلًا كان أو كثيرًا فهو جائز. مهر من لم يفرض لها صداق: 989 - وعن علقمة، عن ابن مسعودٍ رضي الله عنهما: «أنه سُئل عن رجلٍ تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقًا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: لها مثل صداق نسائها، لا وكس، ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشقٍ امرأة منا مثل ما قضيت، ففرح بها ابن مسعودٍ». رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي، وحسنه جماعة. «سُئل عن رجل» والسائل كما قلنا مرارًا لا يهمنا تعيينه لأن المقصود معرفة المسألة وحكمها وقوله: «تزوج امرأة ولو يفرض لها صداقًا» أي لم يقدر لها صداقًا لأن الفرض بمعنى التقدير كما قال الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] يعني: من المهر أي ما قدرتم، ولم يدخل بها حتى مات ولكن النكاح صحيح فقال ابن مسعود: «لها مثل صداق نسائها» بدلًا من عدم تسمية المهر لأنه لو سمي الصداق وفرض لم يكن لها أكثر مما فرض لها لكنه لم يفرض لها مهر نسائها وقوله: «مثل صداق نسائها» ما المراد بالنساء؟ المراد المماثلات لها سنًّا وجمالًا ودينًا وخلقًا وحسبًا ومالًا - ستة أشياء - لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال «تنكح المرأة لأربع لمالها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين»، فنحن نقول هذه مهر نسائها يعني النساء اللاتي يماثلنها في هذه الأمور الستة.

«لا وكس» وهو النقص و «الشطط» الزيادة، المعنى لا ينقص منه ولا يزاد عليه «وعليها العدة» «ال» للعهد الذهني فيكون المراد بها عدة الوفاة لأن المفارقة هنا بالوفاة أي عليها عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشرة في هذه المسألة؛ لأن المرأة لم يدخل بها وليست ذات حمل أما لو كانت ذات حمل فعدتها وضع الحمل حتى لو وضعت قبل أن يتم تغسيل زوجها انتهت عدتها لكن هذه المسألة التي معنا ليست حاملًا. «ولها الميراث» بم أخذ ابن مسعود هذا الفقه من الكتاب والسنة؟ نقول أما بالنسبة لقوله: «لها مثل صداق نسائها» فأخذه من قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وهنا لابد من الابتغاء بالمال والمال لم يعين فيرجع إلى قيمة المثل وقيمة المثل بالنسبة للمرأة هو مهر مثلها وأما قوله عليها العدة فلعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. وأما قوله: «ولها الميراث» فلعموم قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12]. وهي زوجة فتكون داخلة في هذا العموم فقام معقل بن سنان فقال ... الخ يعني لما سمع هذا الكلام قام يؤيد هذا القول بسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله في بروع بنت واثق؛ «بروع» اسم امرأة ولهذا لم ينصرف والمانع له من الصرف العلمية والتأنيث المعنوي، «امرأة منا» هذه عطف بيان وليست نعتًا لأن «امرأة» نكرة ولا تكون النكرة صفة لمعرفة، «امرأة منا» وإنما قال امرأة هنا ليبين أنه على توكيد من هذه المسألة لأن المرأة إذا كانت منهم فسوف يكون أعلم الناس بها، «بمثل ما قضيت» أي بمثل ما حكمت به فالقضاء هنا بمعنى الحكم ونظيره قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]. أي حكم حكمًا شرعيًا ألا تعبدوا إلا إياه «ففرح بها ابن مسعود» لأنها شهدت لكلامه بالحق وأنه موافق للصواب والحديث صححه غير الترمذي وذلك لأن نصوص الشرع تشهد له. فيستفاد من هذا الحديث: أولًا: فضيلة عبد الله بن مسعود حيث وُفِّق للصواب والإنسان إذا اجتهد ووفقه الله للصواب فإن هذا من نعمة الله عليه ولهذا يعد من مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان موفقًا للصواب يقول الشيء ثم ينزل القرآن بتصديقه وهذه من نعمة الله على العبد أن يوفقه للصواب أحيانًا يقول الإنسان الشيء باجتهاده فإذا به يوافق النص. ومن فوائد الحديث: جواز الفرح بإصابة الصواب لأن ابن مسعود رضي الله عنه فرح بها، وقد قالت عائشة رضي الله عنها حين تحدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لسوده ليلة عيد الأضحى أن تدفع من مزدلفة بليل ولو استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سوده كان أحب إلي من مفروح به فإن قال قائل كيف نجمع بين هذا وبين قوله تعالى عن قارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]. فالجواب عن هذا يسير جدًا: الفرح المذموم هو فرح البطر والأشر أما الفرح المحمود فهو

الفرح بنعمة الله وقد أمرنا الله أن نفرح بفضله ورحمته فقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]. فإذا كان الفرح بمعنى البطر والأشر والاستعلاء على الخلق فهذا مذموم وإذا كان الإنسان يفرح بما أنعم الله عليه فهذا محمود ولا يضر. ومن فوائد الحديث: جواز الزواج بدون تسمية مهر لأن ابن مسعود لم ينكر ذلك بل إن القرآن دل على جوازه في قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]. ومن فوائد الحديث: أنه إذا لم يفرض لها مهرًا فلها مهر المثل لقوله هنا «لها مثل صداق نسائها» ولكن متى يكون لها مهر المثل؟ يكون لها مهر المثل إذا وجد ما يتقرر به الصداق، أما إذا طلقها قبل أن يتقرر الصداق فلها المتعة إذا فورقت امرأة لم يسم صداقها فإن كانت المفارقة في حال يتقرر بها المهر فلها مهر نسائها وإن كانت في حال لا يتقرر به المهر كاملًا فلها المتعة ولنضرب لذلك مثلًا رجل تزوج امرأة ولم يسم لها صداقها ثم طلقها قبل الدخول فماذا يكون؟ لها المتعة لا نقول لها نصف صداق المثل لقوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ... } [البقرة: 236]. المثال الثاني: رجل تزوج امرأة ولم يسم لها صداقًا ودخل بها ثم طلقها ما الواجب؟ الواجب مهر المثل لا المتعة فيقال ما مهر مثل هذه المرأة في الأوصاف الستة التي ذكرناها فإذا سماه عشرة آلاف قلنا لها عشرة آلاف فتبين بهذا أن النكاح بدون تسمية الصداق جائز وأن لها مهر المثل إن وجد ما يقرر المهر وإن فارقها قبل وجود ما يقرر المهر فلها المتعة هذا ما لم يكن الفسخ منها فإن كان الفسخ منها قبل الدخول فليس لها شيء لأنها هي التي اختارت الفسخ. ومن فوائد الحديث: أن الموت مقرر للمهر ما معنى مقرر؟ يعني أنه إذا مات الزوج أو الزوجة ولو قبل الدخول ثبت المهر كاملًا للزوجة هذا إذا مات الزوج وإذا ماتت هي يكون المهر لورثتها المهم إذا مات الزوج أو الزوجة ثبت المهر إن كان مسمى فالمسمى وإن لم يكن مسمى فمهر المثل وهذا بلا خلاف بين العلماء أنه إذا مات أحد الزوجين تقرر المهر وهنا يحسن أن نذكر ما يتقرر به المهر سوى الموت يتقرر المهر بالجماع إذا جامعها ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فلها المهر بما استحل من فرجها» فإذا جامع الرجل زوجته ثم طلقها ثبت لها كاملًا بالنص، يتقرر المهر بالخلوة إذا خلا الزوج بامرأته وهي ممن يمكن جماعها فإنه يتقرر المهر إذا فارقها بعد هذه الخلوة وإن لم يحصل جماع - هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله ودليل هذا أن الخلوة مظنة الجماع لاسيما إذا كانا الزوجان شابين فإنه يندر أن

مقدار الصداق

يخلو بها عن أحد ثم يدعها هذا نادر ولهذا نقل إجماع الصحابة على أن الخلوة مقررة للمهر وموجبة للعدة، وأيضًا نقل عن الإمام أحمد رحمه الله وهو أن المهر يتقرر باستباحة كل ما لا يباح إلا بعقد النكاح إذا استباح الرجل من المرأة ما لا يباح إلا بعقد النكاح ثبت المهر قياسًا على الخلوة لأن الخلوة لا تباح إلا لمحرم أو زوج فعلى هذا لو قبلها بحضرة الناس بدون خلوة هل يستقر المهر؟ يستقر المهر قياسًا على الخلوة ولكن هذا خلاف رأي جمهور العلماء لأن العلماء يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لها المهر بما استحل من فرجها» ومعلوم أن استحلال الفرج ليس كاستحلال غيره فليس الجماع في المتعة بالمرأة كالتقبيل ولا يمكن أن يقاس الأدنى على الأعلى ولكن ما ذكره الإمام أحمد باعتبار ما ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - في أن الخلوة مقررة للمهر لا شك أن له وجهًا؛ لأنه إذا استباح منها ما لا يباح إلا بعقد النكاح من تقبيل أو ضم أو غير ذلك فإنه يستقر المهر ويحسن بنا أيضًا أن نتكلم على ما ينتقص به: إذا جاءت الفرقة من قبل الزوج قبل أن يحصل ما يتقرر به المهر فلها نصف المهر لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. إذا جاءت الفرقة من قبلها قبل أن يحصل ما يتقرر به المهر فليس لها شيء مثال ذلك عقد على المرأة وقبل أن يدخل بها تبين أن بها عيبًا يستحق به فسخ النكاح ففسخ نكاحها لعيبها فليس لها شيء لماذا؟ لأن الفرقة جاءت من قبلها، إذا جاءت من قِبل أجنبي ففيه قولان في مذهب الإمام أحمد هل يتنصف المهر ويرجع به الزوج على من أفسده أو لا يتنصف ولا تستحق المرأة شيئًا؟ فيها قولان والظاهر أنه يتنصف وتعطى المرأة النصف ويرجع الزوج به على من تسبب للفراق هذا هو العدل لأن المرأة ليست منها شيء حتى نقول ليس لها مهر وهذا رجل معتدٍ فيعامل بعدوانه. مقدار الصداق: 99 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعطى في صداق امرأةٍ سويقًا أو تمرًا؛ فقد استحل». أخرجه أبو داود، أشار إلى ترجيح وقفه. «من» هذه شرطية وفعل الشرط فيها «أعطى» وجواب الشرط قوله: «فقد استحل» وربط بالفاء لاقترانه بقد والذي يقترن بالفاء إذا كان الجواب واحدًا من سبع جمل مجموعة في قوله: اسميةٌ طلبيهٌ وبجامدٍ ... وبما وقد وبلن وبالتنفيس

فقوله صلى الله عليه وسلم: «من أعطى في صداق امرأة سويقًا» السويق هو الحب المحمص محموص يطحن ويثرد ويؤكل سواء كان من البر أو الشعير أو الذرة أو من أي حب كان، وقوله أو تمرًا معروف وقوله: «سويقًا» نكرة في سياق الشرط فتكون للعموم يعني قليلًا كان أو كثيرًا وقوله: «فقد استحل» أي حل له فرجها ولكن المؤلف أشار إلى ترجيح وقفه على جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وتعلمون أن الموقوف ما كان منتهي سنده الصحابي أي ما أضيف إلى الصحابي ولم يثبت له حكم الرفع وهذا الذي ذكره هل نحكم له بالرفع؟ الجواب: لا؛ لأنه مما للاجتهاد فيه مجال وإذا كان للاجتهاد فيه مجال وهو قول صحابي فلا يحكم له بالرفع؛ لاحتمال أنه قاله تفقهًا أما الشيء الذي لا مجال للاجتهاد فيه ولم يكن الصحابي معروفًا عن الأخذ عن بني إسرائيل فهذا له حكم الرفع. يستفاد من هذا الحديث أو الأثر إن لم يصح رفعه: أن الصداق يصح بكل قليل وكثير، يؤخذ من قوله: «سويقًا» حيث جاءت نكرة في سياق الشرط. ومن فوائده: أن الصداق يصح بالطعام فلا يشترط أن يكون من النقدين الذهب والفضة لقوله: «سويقًا أو تمرًا». ومن فوائده: أن المرأة لا تحل إلا بصداق لقوله: «فقد استحل» ولكن نظرًا إلى أنه ليس الغرض المعاوضة في عقد النكاح فإن النكاح يصح بلا تسمية مهر بخلاف البيع فإنه لا يصح حتى يعلم الثمن والفرق بينهما أن المقصود والغاية من البيع والشراء هو المعاوضة والربح فلابد أن يكون الثمن والمثمن معلومين لئلا يحصل التنازع أما المقصود بالنكاح فهو شيء وراء المال وهو ما يحصل من المصالح العظيمة في النكاح وليس الغرض المعاوضة فلهذا صح بدون تسمية مهر لكن لابد منه فعقد النكاح من وجه أصعب من البيوع والبيوع من وجه أصعب من النكاح، البيوع يصح أن أعطيك الشيء هبة دون أن أبيعه عليك والنكاح لا يصح إلا للنبي صلى الله عليه وسلم من هنا كان النكاح أصعب وأضيق، البيوع لا تصح إلا محررة الثمن والمثمن أي معلومة والنكاح يصح بدون تسمية المهر ويرجع في ذلك إلى مهر المثل وحينئذٍ نقول المهر له ثلاث حالات أن يعين، أن يسكت عنه، أن يشترط نفيه، فإذا عُين فلا إشكال، وإذا سكت عنه وجب مهر المثل وإذا شُرط نفيه فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: أن النكاح لا يصح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول لأننا لو صححنا النكاح مع شرط نفي المهر لكان هذا هو الهبة. والقول الثاني: أن النكاح صحيح والشرط فاسد وحينئذٍ يجب لها مهر المثل ولكن قول شيخ الإسلام أقوى وبناء عليه نقول لابد من تجديد العقد إذا سمي المهر يعني نلزمه بأن يفرض المهر أو يلغوا شرط نفيه ويعيدوا العقد من جديد.

991 - وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز نكاح امرأةٍ على نعلين». أخرجه الترمذي وصححه، وخولف في ذلك. «أجاز» أي حكم بجوازه أو أجاز أي نفذ وكلاهما صحيح لأنه إذا أجاز شرعًا صار نافذًا وقوله: «على نعلين» هنا أطلق النعلين ولكنهما لابد أن يكونا معلومين عند الزوجين أما نحن فلا يهمنا أن يكون النعلان معلومتين أم لا؟ المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز على نعلين، معنى «خولف» أي لم يوافق على التصحيح وعلى كل سواء صح الحديث أم لم يصح فإن النعلين من المال وقد قال الله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وعلى هذا فلو تزوج امرأة على نعلين فالنكاح صحيح ولو تزوجها على خمار فصحيح وعلى درع فصحيح المهم إذا تزوجها على أقل شيء يتمول فالنكاح صحيح. ومن فوائد الحديث: أنه يدل على جواز المهر القليل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجازه. ويستفاد منه أيضًا: أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم حكم يستدل به. 992 - وعن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه قال: «زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا امرأةً بخاتمٍ من حديدٍ». أخرجه الحاكم، وهو طرفٌ من الحديث الطويل المتقدم في أوائل النكاح. سبق هذا في حديث الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن إذا تأملنا الحديثين وجدنا أن بينهما فرقا وهو أنه يقول: «زوجه بخاتم من حديد» والذي في الصحيحين أنه قال له: «التمس ولو خاتمًا من حديد» ولم يجد فزوجه على ما معه من القرآن فإن كانت القصة واحدة كما هو ظاهر كلام ابن حجر صار معنى زوجه أي: أجاز له أن يتزوج على خاتم من حديد لقوله: «التمس ولو خاتمًا» أما عقد النكاح الذي حصل فإنه زوجه على ما معه من القرآن. يستفاد من هذا الحديث: جواز المهر بالقليل لأن الخاتم من الحديد قليل. ويستفاد منه: جواز لبس الحديد لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أجاز أن يكون الخاتم من الحديد مهرًا من أجل أن يلبس ويتحلى به. وفيه أيضًا: الإشارة إلى تضعيف حديث النهي عن التحلي بالحديد وتعليل ذلك بأنه حلية أهل النار ولهذا حكم بعض المحققين على حديث النهي عن التختم بالحديد بالشذوذ لأنه خالف ما هو أرجح.

تقليل الصداق

فإن قال قائل: الذي معنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز الخاتم من حديد وقد يلبس وقد لا يلبس. قلنا: لا يمكن أن يصنع خاتمًا من أجل أن يلقى في الأرض ولا يلبس لابد أن يلبس. 993 - وعن علي رضي الله عنه قال: «لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم». أخرجه الدارقطني موقوفًا، وفي سنده مقالٌ. هذا الحديث موقوف على علي رضي الله عنه، وعليٌّ هو أحد الخلفاء الراشدين الذين يؤخذ بقولهم ويهتدى بهديهم ولكن الحديث لا يصح لأن فيه راويًا يضع الحديث وحديث الوضاعين حكمه مردود وعلى هذا فلا يساوي هذا الحديث فلسًا ولا عبرة به لكن مع ذلك أخذ به بعض العلماء وقال إن المهر لا يصح أقل من عشرة دراهم، ولكنه مردود؛ لأن هذا الأثر لا يصح وبأن عموم قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] يشمل العشرة وما دونها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: «التمس ولو خاتمًا من حديد» وبأنه أجاز نكاح امرأة على نعلين وبأنه بين أن ما أعطى امرأة سويقًا أو تمرًا فقد استحل وهذه الأحاديث ويعضدها عموم الآية. تقليل الصداق: 994 - وعن عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الصداق أيسره». أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم. «الصداق» هو المهر، وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن خيره أيسره، يعني: أسهله وأخفه؛ وذلك لأن فيه إعانة على الزواج فإنه إذا كانت الصدقات يسيرة كثر الزواج، وأيضًا من بركة اليسير: أنه سبب لإحسان العشرة بين الزوجين لأن الرجل إذا أصدق امرأته مهرًا كثيرًا صار كلما تذكر هذا المهر تكدر وشانت نفسه وصار يعاشر المرأة معاشرة سيئة إذا علم أن هذه المرأة [مهرها سهل] فإن نفسه تطيب وتطمئن لها، ومن بركة الصداق الميسر أنه يكون سببًا لفض النزاع بدون مشقة لو حصل نزاع بين الرجل وزوجته وكان المهر يسيرًا سهل عليه أن يطلقها أو يفارقها وسهل على أهله المخالعة إذا طلب الخلع بمهره الذي أعطاها لكن إذا كان المهر كثيرًا - ولنفرض أن المهر أربعون ألفًا - صار كلما همَّ أن يطلقها ويريحها من سوء العشرة تذكر كثرة المهر فأمسكها ثم إن قدر أنه أراد المخالعة وطلب من أهلها أن يعطوه المهر فقد يشق عليهم ولهذا صدق هذا الحديث: «خير الصداق أيسره»، وأيضًا فيه مصلحة اجتماعية

وهي إقبال الناس على الزواج إذا كانت المهور ميسرة؛ ولهذا نجد الآن الناس في حال سيئة بالنسبة للصداق وكثرته تجد الواحد من الناس يذهب إلى بلاد بعيدة من أجل أن يحصل على زوجة ثم تحصل بعد ذلك المشاكل التي لا نهاية لها. 995 - وعن عائشة رضي الله عنها: «أن عمرة بنت الجون تعوذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدخلت عليه - تعني: لما تزوجها - فقال: لقد عذت بمعاذٍ، فطلقها، وأمر أسامة يمتعها بثلاثة أثوابٍ». أخرجه ابن ماجه، وفي إسناده راوٍ متروكٌ. - وأصل القصة في الصحيح من حديث أبي أسيدٍ الساعدي. هكذا ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث عن عائشة وقال: إن فيه راويًا متروكًا، وفي المصطلح أن الراوي المتروك هو من أتهم بالكذب وهو على اسمه متروك لا تقبل روايته، وعجبًا من المؤلف رحمه الله حيث ساق الحديث من هذه الرواية التي ذكر أن فيها راويٍا متروكًا وترك الرواية التي في صحيح البخاري من حديث عائشة، وهو نفسه رحمه الله ذكرها في باب الطلاق، وهذا مما يدل على أن الإنسان مهما بلغ في العلم والحفظ فإنه معرض للنسيان ومعرض للخطأ، والمهم: أن في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسامة فمتعها بثلاثة أثواب وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأخشاكم لله وأتقاكم له»، ولهذا لما استعاذت بالله منه تركها مع أنه تزوجها عن رغبة، لكنه صلى الله عليه وسلم يفضل ما يراه الله عز وجل على رغبة نفسه. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لمن استعاذ منه بالله أحد أن يعيذه، وقد جاء الأمر في ذلك صريحًا «من استعاذكم بالله فأعيذوه». ولكنه يشترط لذلك ألا يستعيذ بالله من أمر واجب عليه يلزم به؛ لأننا نعلم أن من استعاذ بالله من أمر واجب عليه يلزم به أن الله لا يعيذه، فلو أن رجلًا أمرناه بصلاة الجماعة وعزمنا عليه فقال: أعوذ بالله منكم فإننا لا نعيذه لماذا؟ لأننا نعلم أن الله لا يعيذ من ترك واجبًا، ولو رأينا رجلًا يريد أن يشرب خمرًا فمنعناه فقال أعوذ بالله منكم، فإننا لا نعيذه أيضًا؛ لماذا؟ لأننا نعلم أن الله لا يعيذ من أراد أن يفعل محرمًا وهكذا القاعدة لكن من استعاذ بالله في أمر من حقوقنا نحن أو في أمر مباح فإننا نعيذه بذلك لأنه إنما لجأ واضطر إلى الله فينبغي ألا نحول بينه وبين من لجأ إليه وهو الرب العظيم.

ومن فوائد الحديث: أن الطلاق له كنايات؛ لأن قوله هنا: «فطلقها» تعبير عن قوله: «الحقي بأهلك» فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها لما استعاذت منه بالله: «الحقي بأهلك»، وكنايات الطلاق كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره فهو كناية ولا يقع به الطلاق إلا بنية الطلاق فقول الإنسان لأهله: «الحقي بأهلك» يحتمل أنه أراد الطلاق، أو أراد أن تلحق بهم للزيارة أو أراد أن تلحق بهم ليطفئ نار غضبه حتى يهدأ لئلا يقع بينهما ما يكره أو ما أشبه ذلك ويحتمل أنه أراد الطلاق، فنقول: إن نوى الطلاق صار طلاقًا، وإن لم ينوه لم يكن طلاقًا؛ وذلك لأن اللفظ يحتمل الطلاق وغيره، فلا يتعين الطلاق إلا بالنية واختلف العلماء هل ظاهر الحال يعين المعنى أو لا؟ يعني: لو قال هذه الكلمة أو غيرها من الكنايات في حال غضبه، فإن دلالة الحال تدل على أنه أراد الطلاق مع أنه يحتمل أنه لم يرده لكن ظاهر الحال يدل على أنه أراد الطلاق، وكذلك لو قالت: طلقني، فقال: الحقي بأهلك، ولم ينو شيئًا هل يقع الطلاق أو لا؟ نقول: ظاهر الحال أنه أراد الطلاق؛ لأنها سألت الطلاق فقال: «الحقي بأهلك» مع أن فيه احتمالًا أنه لم يرد الطلاق، وأنه قال: فارقي كلمة زجر، وهي عندنا الآن في عرفنا كلمة فارقي كلمة زجر، فيحتمل أنه أراد زجرها ويُحتمل أن قوله: «الحقي بأهلك» يعني: يريد أن تذهب إلى أهلها لتطيب نفسها ويذهب غضبها. أقول: اختلف العلماء فيما إذا كان ظاهر الحال يدل على إرادة الطلاق هل يقع الطلاق؟ في هذا للعلماء قولان: الأول: أنه يقع الطلاق اعتبارًا بظاهر الحال، والقول الثاني: أنه لا يقع إلا بالنية؛ لأن الأصل أن العصمة باقية وأن الزوجة زوجته حتى يقوم دليل بيِّن على إرادة الطلاق، ومن القواعد المقررة أن اليقين لا يزول بالاحتمال، وما هو اليقين هنا؟ العصمة وبقاء النكاح، فلا يزول بالاحتمال، إذن نقول: القول الراجح أنه لا يكون طلاقًا إلا بالنية، وقال بعض العلماء: يكون طلاقًا ما لم ينو غيره يكون طلاقًا عملًا بظاهر الحال إلا أن يريد غيره إن أراد غيره لم يكن طلاقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»، وهذا القول ربما يرجح عند المحاكمة يعني إذا أتوا إلى القاضي فالقاضي يقول أنا ليس لي إلا الظاهر وظاهر الحال يقتضي أنه أراد الطلاق أما إذا كان فيما بين الزوج والزوجة وقال لها: أنا لم أرد الطلاق وصدَّقته في ذلك فلا يقع الطلاق، وسيأتي المزيد في باب الطلاق. ومن فوائد الحديث: أن المطلقة تمتع لقوله: «أمر أسامة» أو «أمر أسيد بن حضير» كما في الرواية الأخرى، على كل حال: المطلقة تمتع، والمتعة نوعان: متعة واجبة ومتعة غير واجبة؛ أي: سنة، فالمتعة الواجبة هي ما وجب بالطلاق قبل الدخول والخلوة إذا لم يسم لها صداقًا؛ لأنه إن سمى لها صداقًا وجب لها نصف الصداق، وإن دخل أو خلا وجب لها مهر المثل وإن

لم يسم صداقًا فإذا طلق ولم يسم صداقًا قبل الدخول والخلوة فالمتعة واجبة، قال الله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. فأوجب حتى على الفقير، هذه نقول: إنها متعة واجبة، المتعة المستحبة ما كانت بالطلاق بعد الدخول أو الخلوة لأنه بالدخول أو الخلوة يجب المهر إما المعين إن كان معينًا وإما مهر المثل إن لم يكن معينًا، فإذا طلقها بعد الدخول أو الخلوة فإنه يشرع أن يمتعها لكن أكثر العلماء على أن هذه المتعة سنة ليست واجبة ويرى بعض العلماء أنها واجبة ودليل هذا قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]. وهذا القول اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما أظن؛ لأن الآية صريحة، والنظر يقتضي وجوب ذلك؛ لماذا؟ لأن طلاق المرأة كسرها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان كسرها فالذي ينبغي للإنسان أن يجبر هذا الكسر بشيء من المال وإن كان بعض النساء لا يفدي، زوجها عندها الدنيا كلها، لكن على كل حال الإنسان إذا اضطر إلى الطلاق وطلق فإنه يجب عليه أن يمتعها حقًّا على المتقين، هذه المتعة التي وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم هل هي من باب الواجب أو من باب المستحب؟ الثاني؛ لأنه بالخلوة استقر المهر، ولكننا ذكرنا فيما سبق أن هذه المسألة فيها خلاف؛ لأن المجمع عليه هو الجماع هو الذي يستقر به المهر، والخلوة واللمس والتقبيل وما أشبهه فيه خلاف، وذكرنا رواية عن أحمد انه إذا استباح منها ما لا يستباح إلا بالعقد وجب المهر؛ وسبق الكلام في هذا، المهم أن نقول: أما على قول من يرى أن المهر لا يستقر إلا بالجماع فإن هذه المتعة من باب الواجب، وأما على قول من يرى أنه يستقر بالخلوة فهذه المتعة من باب المستحب إلا على القول الثاني الذي يقول كل مطلقة يجب لها متعة فيكون من باب الواجب، فالمتعة المستحبة التي بعد الدخول أو الخلوة في رأي لبعض العلماء أنها واجبة، وعلى هذا الرأي تكون المتعة واجبة لكل مطلقة، فإن كانت قبل الدخول أو الخلوة فهي عوض عما تستحق من المهر، وإن كان بعده فهي جبر لخاطرها، والذي يترجح أن المتعة واجبة لكل مطلقة؛ لأن الآية واضحة: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] لكنها ليست كالأولى، الأولى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، والثانية على الموسع ما أراد المتعة التي بعد الدخول والخلوة؛ لأن الله قال: {مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] والمقتر ليس عليه شيء؛ لأنه معسر فلا يلزمه شيء. * * * *

4 - باب الوليمة

4 - باب الوليمة "الوليمة" على وزن فَعيلة, بمعنى: مَفعُولة, من أولم إذا جمع, وأصلها الاجتماع على الشيء, لكنها نُقلت من هذا المعنى العام إلى الاجتماع على الطعام للعُرس وهي ما يُصنع من الطعام أياماً من العرس, وتكون من الزوج وقد تكون من أولياء المرأة وقد تكون منهم جميعاً. حكم الوليمة ووقتها: 996 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صُفرةٍ فقال: ما هذا؟ قال: يا رسول الله, إني تزوجت امرأة على وزن نواةٍ من ذهب. قال: بارك الله لك, أولم ولو بشاةٍ». متفق عليه, واللفظ لمسلم. عبد الرحمن بن عوف من المهاجرين, ولما قدم المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين رجل من الأنصار, وكان الأنصار -رضي الله عنهم- من شدة إيوائهم للمهاجرين يعرض الرجل منهم إحدى زوجتيه على المهاجر الذي جعل أخاً له فعرض عليه الأنصاري إحدى زوجاته فأبى رضي الله عنه, وقال: دُلني على السوق فدله عليه, فباع واشترى وأغناه الله عز وجل, ولهذا كان عبد الرحمن بن عوف من أغنى الصحابة, تزوج فرأى عليه النبي صلى الله عليه وسلم أثر صُفرة, يعني: أثر طيب, والطيب -كما نعلم- يكون أصفر كالزعفران وكدهن العُود وغيره من بعض الأطياب, فقال: «ما هذا؟ » , فقال: كذا وكذا, سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقال: إنه سؤال عما لا يعنيه؛ لأن النبي يعنيه حال أصحابه كلهم, وأيضًا فلعله وقع في قلب النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل تزوج فأراد أن يتأكد, وإلا فمن المعلوم أنك إذا رأيت على الإنسان أثر طيب فإنه ليس من الحسن أن تسأله ما هذا؟ أو لم؟ أو ما أشبه ذلك لأن هذا تدخل فيما لا يعنيك لكن تجيب على هذا بأمرين الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم يعنيه حال أصحابه كلهم, والثاني لعله وقع في قلب النبي صلى الله عليه وسلم أنه تزوج فأراد أن يتأكد أما على الأول فلا يشارك النبي صلى الله عليه وسلم أحد, وأما على الثاني فلا بأس إذا وقع في قلبك شيء من أخيك وأردت أن تتأكد فلا حرج أن تسأل لأن هذا مما يعنيك. فقال: «إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب» ولم يعين المرأة؛ لأنه لا حاجة لذلك, وقوله: «على وزن نواة» النواة هي ما يكون في جوف التمر, ويسمى في لغة أهل القصيم العبس, هذه النواة, وهذا هو ظاهر الحديث, وقال بعض العلماء: إن النواة معيار للذهب كالمثقال وشبهه, ولكن الأول هو الظاهر قال: «فبارك الله لك» دعَا له بأن يبارك له في أهله الذين تزوجهم, «أو لم

ولو بشاة» , «أولم» يعني: وليمة طعاماً تدعو إليه الناس ولو بشاة, يعني: ولو كان بشيء قليل كالشاة, والشاة قليلة بالنسبة للغني, أما بالنسبة للفقير فإنها كثيرة. ففي هذا الحديث: دليل على اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وسؤاله عن أحوالهم, ويؤخذ هذا من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف. ومن فوائد الحديث: جواز ذكر الشيء وإن لم يسأل عنه من أجل إطلاع صاحبك على ما عندك لقوله: «على وزن نواة من ذهب» لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن المهر وإنما سأل عن سبب الصُفرة التي عليه. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للرجل أن يتطيب بالطيب الذي يظهر لونه وأنه لا حرج في ذلك, وقد ذكر أهل العلم أنه ينبغي للرجل من الطيب ما ظهر ريحه لا ما ظهر لونه, وأن المرأة بالعكس تتطيب بما ظهر لونه لا ما ظهر ريحه, لأن المرأة يحصل منها الفتنة إذا ظهر منها رائحة الطيب ولكن اللون يعطيها نوعاً من الجمال, ومعلوم أنها لن تكشف هذا الجمال إلا لزوجها ونسائها ومحارمها. ومن فوائد الحديث: أنه قد جرت العادة بأن المتزوج يتطيب, وذلك لأن الطيب من الأعمال الطيبة ومن الأعمال التي ترغب الرجل في أهله والمرأة في زوجها. ومن فوائد الحديث: جواز تقدير الذهب بما يختلف إذا كان الأمر مقارباً لقوله: «على وزن نواة من ذهب» , ومعلوم أن النواة يختلف لكنه يختلف اختلافاً متقارباً. ومن فوائد الحديث مشروعية الدعاء للمتزوج بالبركة؛ لقوله «بارك الله لك» , والبركة هي الخير الكثير الواسع, مأخوذة من البركة وهي مقر الماء الكثير الكبير. ومن فوائد الحديث: جواز الاقتصار على بعض الدعاء المشروع وهو «بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير» فهنا اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الدعاء ولا بأس بذلك. ومن فوائد الحديث: أن الأمر في هذه الأمور واسع, فلو قال: «بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير» فحسن, ولو قال: «بارك الله لك» فحسن, ولو قال: «الله يبارك لك» فحسن, ولو قال: «مبروك الزواج» فحسن, وإن كان بعض الناس يقول: إن "مبروك" من بركة الناقة, يعني: بُروك البعير لأن بركة الناقة فعل متعد, والفعل المتعدي لا يصاغ منه اسم المفعول إلا بواسطة, ولهذا كان من علامة الفعل المتعدي: صحة صوغ اسم المفعول منه, فـ"جاء" مثلاً لا يمكن أن تصوغ منه اسم المفعول إلا متعديًا بحرف الجر, مثل: "جيء إليه" المهم أن كلمة "مبروك" عند العامة سواء صحت لغة أو لم تصح فإن معناها: الدعاء بحلول البركة فيما حصل له, ولكن الصحيح أن هذه الكلمة "مبروك" لا تصح لغة, وإن كان قد جرى استعمالها على ألسنة العامة,

والخلاصة أن نقول: إن "مبروك" دعاء حسن من حيث أنه دعاء بالبركة عند العامة, ولكنها كلمة لا تصح بالنظر إلى قواعد العربية. ومن فوائد الحديث: مشروعية الوليمة لقوله: "أولم ولو بشاة", وذهب بعض أهل العلم إلى أن الوليمة واجبة, واستدل لذلك بأن الأصل في الأمر الوجوب ولكنها واجبة بقدر يسر المرء وعسره. ومن فوائده: حرص الشرع على إظهار النكاح, لأن الوليمة لاشك أنها سبب لظهور النكاح ومعرفة الناس به ولهذا أمر بها. ومن فوائده: أن أقل الوليمة للغني شاة, ولاسيما إذا كان وسط مجتمع فقير لقوله: "ولو بشاة", وذهب بعض العلماء إلى أن "لو" هنا للتكثير, وأن أكثر ما يكون من الوليمة الشاة, ولكن هذا نظراً لأن هذا خروج بها عن معناها اللغوي ولكن نقول: كل امرئ بحسبه, الغني له حكم, والفقير له حكم, ذكر بعض إخواننا نكتة على هذا وقال: إن الناس أزالوا النقط في قوله: "ولو بشاة" فصارت ولو بشاةٍ, يعني: الشاهي, وكان هذا زمن الناس في فقراء لا يولمون, لا يدرى عن تزوج الرجل إلا إذا تحدث الناس به فيما بعد, فكان بعض الإخوان من طلبة العلم يقول: إن الناس قد حكموا نقط "الشاة" ولو بشاه, لكن انعكست الحال الآن صارت الولائم يسرف فيها إسرافاً كبيراً بالغاً, حتى إن الإنسان ليولم بما يكفي لمائتي نفر ولا يحضر إلا خمسون نفراً فيحصل بهذا فساد للمال وإضاعة له, والناس الآن غالبهم ولله الحمد في غنى عن الطعام, ولهذا ينبغي لنا نحن معشر طلبة العلم أن نبين للناس أن الإسراف في هذا الأمر لا ينبغي وأنه ربما يكون فيه مضرة, أما المضرة المالية فظاهر, وأما المضرة الاجتماعية ربما يكون في هذا إحراج لبعض الناس, فإن بعض الناس -إن لم أقل أكثر الناس- لا يأتون إلى هذه الولائم إلا مجاملة فلو أن الناس اقتصروا على وليمة سهلة يسيرة بقدر أقاربهم القريبين وأصحابهم الخواص لكان أحسن, لكن المشكلة أن الناس إذا جروا على شيء اتهمه ما ينقص عنه بأنه بخيل ثم تصيح المرأة, تصيح أمها, يصيح أقاربها, لماذا؟ بنت فلان لها كذا ونحن ليس لنا شيء لابد أن يكون الذبائح وغيره, ولكن الذي ينبغي أن الناس ينظرون في هذه المسألة نظرة حد ويقللون منها بقدر ما تقتضيه الحال أو ما تقتضيه الحاجة.

شروط إجابة الدعوة إلى الوليمة

شروط إجابة الدعوة إلى الوليمة: 997 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعى أحدكم إلى الوليمة فليأتها». متفق عليه. -ولمسلم: «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب, عُرساً كان أو نحوه». قوله: «إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة» ما هي الوليمة؟ الطعام المصنوع بمناسبة العرس سواء كان ليلة الدخول أو قبلها أو بعدها, وحديث عبد الرحمن بن عوف يدل على أن الوليمة تكون بعد الدخول, فكل ما يصنع أيام العرس يسمى وليمة, وقوله: «فليأتها» اللام هنا للأمر, أي فليأت إلى الوليمة ولا يتأخر, والأصل في الأمر الوجوب, وسيأتي ما يؤكد ذلك. قال: ولمسلم: «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب .... إلخ» , وأخو أحدنا هو المسلم, وأما الدُمي والمعاهد والمستأمن فإنه لا يجب إجابته, بل تكون مكروهة أو محرمة حسب ما تفضي إليه من الشر والفساد. وقوله: «فليجب, عُرساً كان أو نحوه» العُرس معروف, "أو نحوه" أي: مما يسن فيه الوليمة, وأما ما لا يسن فيه الوليمة فإنه يدخل في الدعوات العامة التي تستحب الإجابة إليها, وليعلم أن الدعوات إما أن تكون إلى محرم أو إلى مكروه أو إلى مباح أو إلى مشروع, فإن كانت إلى محرم فالإجابة محرمة, أو إلى مكروه فالإجابة مكروهة, أو إلى مباحة فالإجابة مباحة, لكن تستحب لما يترتب عليها من الإلفة وجبر الخاطر ونحو ذلك, أو إلى مشروع فهي مشروعة وقوله: "إلى الوليمة فليأتها" ظاهر الحديث العموم, ولكنه مقيد كما سيأتي -إن شاء الله- وهي أن تكون في أول مرة, فإن كانت في الثانية أو في الثالثة فإنه لا تجب الإجابة, الثاني: ألا يكون في مكان الدعوة منكر, فإن كان فيه منكر فإن الإجابة لا تجب إلا إذا كان قادراً على تغييره فإن الإجابة تجب لوجهين: الوجه الأول: الدعوة, والثاني: إزالة المنكر, فإن كان لا يقدر على تغييره لكنه سوف يكون في مكان آخر غير الذي فيه المنكر مثل أن يون صاحب الوليمة قد أعد مكانين: مكاناً فيه العزف وآلات اللهو والغناء المحرم, ومكاناً خالياً من ذلك, فهل تجب الإجابة؟ يقول العلماء في هذه المسألة: يخير بين الإجابة وعدمها, وإذا كان كذلك

فيجب أن ينظر إلى المصلحة إن كانت المصلحة في الإجابة أجاب, وإن كانت المصلحة في عدم الإجابة فلا يجب. *إذن نقول شروط إجابة الدعوة: يشترط ألا يكون في مكان الدعوة منكر, فإن كان فيه منكر نظرنا إن كان لا يقدر على تغييره حرمت الإجابة, وإن كان يقدر وجبت الإجابة, من وجهين, أما إذا كان المنكر ليس في المكان الذي دعيت إليه وإنما في مكان آخر وإنما هو مصاحب للوليمة فقد قال العلماء: إنه يخير, وعلى هذا فتقول: انظر ما فيه مصلحة, إن كانت المصلحة في الحضور فاحضر وإلا فلا تحضر. الثاني: يشترط أن يكون الداعي مسلماً, فإن كان غير مسلم لم تجب الإجابة. الثالث: يشترط ألا يكون مبتدع بدعة تلحقه بالفساق أو الكفار, فإن كان مبتدعاً كذلك فإنه لا يجاب لما في ذلك من تعزيز جانبه ورفع معنوياته. الرابع: يشترط ألا يكون المال حراماً, فإن كان المال حراماً فإنه لا يجوز له الإجابة مثل: أنا أعلم أن هذا الرجل الذي دعاني إلى الوليمة قد سرق الغنم التي ذبحها فهنا لا تجوز الإجابة, أما إذا كان مما يتعامل بالحرام فإن الإجابة جائزة وليست بواجبة ولا حراماً, ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب دعوة اليهودي, وأكل من الشاة التي أهدتها له المرأة اليهودية مع أن المعروف عن اليهود أنهم كانوا يأخذون الربا ويأكلون السُحت, ففرق بين أن يكون الشيء محرماً بعينه أو محرماً بكسبه, فالمحرم بعينه لا يجوز لك أن تأكله, مثاله: أنا أعلم أن هذا الرجل سرق الغنم أو سرق الطعام وطبخه فهذا لا يجوز أن أجيبه, لأنني سوف آكل حراماً بعينه, الحرام بكسبه مثل أن يكون الداعي ممكن يتعامل بالربا أو بالغش أو بالكذب فهنا الإجابة جائزة ليست حراماً ولا واجبة, ولكنه إذا كان في عدم إجابته مصلحة بحيث يتوب عما هو عليه فحينئذٍ يتعين عدم الإجابة, لأن لدينا قاعدة في المباح كل مباح يكون مباحاً في حد ذاته, لكن إذا كان وسيلة إلى واجب صار واجباً أو إلى محرم صار محرماً أو مستحباً صار مستحباً أو مكروهاً صار مكروهاً, لأن المباح تتعاوره الأحكام الخمسة بحسب ما يكون وسيلة له. الخامس: أن يكون ذلك في أول مرة, فإن كان قد أولم ثم أعاد الوليمة أو أعاد المرة الثالثة فإن هذا لا تجب إجابته, كما سيأتي في الأحاديث في غير الوليمة. هل إجابة الداعي واجبة؟ في هذا خلاف بين العلماء؛ فالظاهرية يرون أن إجابة الدعوة واجبة إذاً تمت الشروط التي ذكرناها, وغيرهم يرى أنها ليست بواجبة ولكنها مستحبة بخلاف وليمة العُرس.

بقى علينا شرط يمكن أن تجعله شرطاً سادساً وهو ألا يلحق المدعو ضرر, فإن لحقه ضرر فإن الواجب يسقط, لأنه إذا كانت الطهارة بالماء وهي شرط لصحة الصلاة إذا تضرر بها الإنسان سقطت عنه فما بالك بهذه! 998 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شر الطعام الوليمة: يمنعها من يأتيها, ويُدعى إليها من يأباها, ومن لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله». أخرجه مسلم. "شر" مبتدأ, و"طعام الوليمة" خبره, ويجوز العكس أن يكون "طعام الوليمة" مبتدأ, و"شر" خبره مقدم, "يمنعها من يأتيها" أي: يمنع منها من أن يأتيها وهم الفقراء, "ويدعى إليها من يأباها" وهم الأغنياء, "ومن لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله". قوله صلى الله عليه وسلم: «شر الطعام طعام الوليمة» ليس هذا على إطلاقه بل هو مقيد بما ذكره بعده وهو «يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها» أي: الوليمة التي لا يُدعى إليها إلا الأغنياء ويمنع منها الفقراء فهي شر الطعام, وأما الوليمة التي يتمشى فيها الإنسان على ما جاءت بها السنة فهي خير الطعام, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بها, وأقل أحوال الأمر الاستحباب, وما كان مستحباً لا يمكن أن يُوصف بأنه شر, إذن فقوله: «شر الطعام طعام الوليمة» المراد الوليمة التي يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء. في هذا الحديث فوائد منها: وجوب إجابة الدعوة إلى الوليمة, لقوله: «ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله». ومن فوائده: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمر من الله لقوله: «فقد عصى الله ورسوله» ونحن لا نرى في القرآن أن الله أمر بإجابة الدعوة في الوليمة, وإنما الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون أمر الرسول من أمر الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: جواز قرن الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله في الأحكام الشرعية, لقوله: «فقد عصى الله ورسوله» , وأمثلته كثيرة, بخلاف الأمور الكونية المتعلقة بالربوبية فإنه لا يجوز أن يقرن الرسول باسم الله بحرف يدل على الاشتراك, ولذلك لما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله

حكم عدم إجابة الصائم لدعوة الوليمة

وشئت قال: «أجعلتني لله نداً؟ » , أما الأمر الشرعي فهو كثير في القرآن: {وأطيعوا الله والرسول} [آل عمران: 132]. {ومن يعص الله ورسوله} [الجن: 23] حكم عدم إجابة الصائم لدعوة الوليمة: 999 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: «إذا دُعِيَ أحدكم فليُجب: فإن كان صائماً فليصلََّ, وإن كان مفطر فليطعم». أخرجه مسلم أيضًا. قوله: "وعنه" أي: عن أبي هريرة رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دُعِيَ" ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ماذا دُعِيَ إليه, وعلى هذا فيكون مطلقاً, أي: غير مقيد بالدعوة إلى وليمة العُرس, وقوله: "فليُجب" أي: فليجب الداعي, واللام للأمر, وسكنت لأن القاعدة أن لام الأمر إذا جاءت بعد الفاء والواو وثم فإنها تسكن وفيما عدا ذلك تُكسر, أما لام التعليل فإنها تكسر دائماً, حتى لو جاءت بعد الواو وثم والفاء, قال الله تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا} [العنكبوت: 66]. ولا يجوز أن نقول: "وليتمتعوا"؛ لأن اللام في قوله {وليتمتعوا} لو كانت للأمر لسكنت, قال الله تعالى: {فليمدد بسببٍ إلى السماء ثم ليقطع فلينظر} [الحج: 15]. وقال تعالى: {ثم ليقضوا نفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا} [الحج: 29]. وهنا قال: "فليجب" على القاعدة. «فإن كان صائماً» أي: المدعو «فلُيصَلََّ» أي: فليدع, وليس المعنى: فليصل الصلاة المعهودة. فإذا قال قائل: كيف نحملها على الدعاء مع أن الصلاة المطلقة في لسان الشارع تحمل على الصلاة الشرعية. قلنا: لقرينة لفظية ومعنوية, أما اللفظية, فلأن الحديث رواه أبو داود بلفظ: «فإن كان صائما فليدع» , وهذا مفسر لقوله: «فلُيصَلََّ» , ولا يحتمل بعد هذا التفسير النبوي أن يكون المراد بها الصلاة الشرعية. فإن قال قائل: هل لهذا نظير أن تأتي الصلاة في النصوص الشرعية بمعنى الدعاء. قلنا: نعم مثل قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم} [التوبة: 103]. ليس المراد: أن تصلي عليهم صلاة الجنازة بل المراد: أن تدعو لهم, وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فكان إذا أتاه القوم بصدقاتهم, قال: «اللهم صل على آل فلان» والقرينة المعنوية أنه لا

علاقة بين الصلاة الشرعية وبين كون هذا المدعو صائماً, ثم يقول قائل: كيف يؤمر بالصلاة في هذه الحال بحضرة الطعام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة طعام»؛ إذن يتعين أن المراد بالصلاة: الدعاء. «وإن كان مفطراً فليطعم»: فليأكل وليشرب, وقوله: «فليطعم» يشمل الأكل والشرب لأن الشرب يسمى طعاماً, قال الله تعالى: {فمن شرب فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} [البقرة: 249]. وقوله: «فإن كان صائماً» ظاهره الوجوب, لكن قال: 1000 - وله من حديث جابر رضي الله عنه نحوه: وقال: «فإن شاء طعم وإن شاء ترك». لكن من الذي إن شاء طعم وإن شاء ترك؟ الصائم, وإن كان ظاهر كلام المؤلف أنه يريد به المفطر من أجل أن يصرف الأمر في قوله: «فليطعم» إلى الاستحباب لا إلى الوجوب. ففي هذا الحديث لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ما يدعو به, فيدعو بالدعاء المناسب, مثل أن يقول: زادكم الله, أنعم الله عليكم, غفر الله لكم, المهم أن يكون منه دعاء مناسب. فيستفاد من هذا الحديث: أولاً: وجوب إجابة الدعوة, لقوله: «فليجب» , وظاهر الحديث أنه عام لكل دعوة, وبهذا أخذ الظاهرية, وقالوا: إنه يجب على من دُعي أن يجيب بالشروط التي أشرنا إليها من قبل, وجمهور العلماء على أن الإجابة في غير العرس سنة وفي العرس واجبة, ولكن التفريق ليس بظاهر, إنما الظاهر وجوب الإجابة في الدعوة, لاسيما إذا كان يترتب على عدم الإجابة مفسدة مثل أن يكون الداعي من الأقارب أو من الأصدقاء الذين إذا لم تجبهم فسروه بتفاسير أخرى. ومن فوائد الحديث: أن الإجابة واجبة حتى للصائم الذي لا يأكل لقوله: «فإن كان صائماً فليصل ... » إلخ. ومن فوائد الحديث: أنه إذا كان صائماً فلا يأكل بل يدعو, ولكن إذا رأى أن في ترك الأكل مفسدة فالأفضل أن يأكل, وإلا فالأفضل أن يبقى على صومه, ولاسيما إذا كان قال للداعي: إنه صائم, ويمكن أن يحضر الإنسان إذا كان صائماً ويجلس مع الناس ويكون خادماً لهم, كيف يكون خادماً؟ يقرب لهم الطعام, يقطع لهم اللحم, إذا كان الطعام حاراً يروح عليه بالمروحة, يضع يده في الطعام ثم يعها على رأس ركبته, ويتحدث كأن الذي ألهاه عن الأكل الحديث, المهم: أن الإنسان يستطيع أمام الناس أن يخفي صومه. ومن فوائد الحديث: أن المشروع لمن كان مفطراً أن يطعم لقوله: «فليطعم» , وأنه لا ينبغي أن يحضر الناس إلى الدعوة ثم لا يأكلون.

أيام الوليمة

واختلف العلماء في الأمر بالطعم: هل هو للوجوب أو لا؟ فقال بعضهم: إنه للوجوب, لظاهر الأمر, ولأن الرجل إنما صنع الطعام من أجل أن يأكل, ولو أنه دعا عشرين نفراً إلى طعام الوليمة ثم قدمها ثم جلس فقال لهم: تفضلوا, قالوا: ما نبغي, يقول: أنا حضرته لكم, قالوا: لا نأكل نحن أجبنا ويكفي, لعد ذلك نوعاً من السفه, وربما إن كان أحمق يضرب كل واحد سوطاً ويقول: اخرجوا, ثم يتساءل ما معنى أن أدعو الناس للطعام ليأكلوا؟ ولهذا قال بعض العلماء: إن الأمر للوجوب لظاهر الحديث ولأن في ترك الأكل مفسدة, ولو قيل بأن الأكل فرض كفاية, يعني: لا فرض عين إلا أن يكون ترك الأكل سبباً لمفسدة مثل أن يكون بين الداعي وبين تارك الأكل عداوة وقطع صلة فهنا يتعين الأكل. فإن قال قائل: ألا يصرف الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن كان صائماً فليصل» , لأنه لو كان الأكل واجباً لم تعارضه السنة؟ هذا يدل على أن الأمر ليس للوجوب لأنه لو كان واجباً لكان الصائم يجب عليه أن يفطر ليأكل, لكن لا يمنع أن يكون فرض كفاية يحصل الفعل من بعضه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن كان مفطراً فليطعم» يظهر من التقسيم أن يُراد بالصوم صوم النفل, لأن الغالب أن صوم الفرض يشترك فيه الناس كلهم صائمون, وإن كان يوجد أمثلة كثيرة وقرائن كثيرة بأن يكون الصوم واجباً على شخص كفارة مثلاً أو قضاء دون الآخرين. وقوله: «إن شاء طعم وإن شاء ترك» يعني: الصائم, ولكن أيهما أفضل؟ ينبغي مراعاة المصلحة, إذًا كانت المصلحة في الفطر أفطر وإن كانت في البقاء على الصوم بقى على صومه ما لم يكن الصوم واجباً, فإن كان الصوم واجباً فإنه لا يجب أن يأكل بل يجب أن يبقى على صومه؛ لأن القاعدة الشرعية: أن من شرع في عبادة واجبة وجب عليه إتمامها إلا لعذر شرعي يُبيح له قطعها. أيام الوليمة: 1001 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طعام الوليمة أول يوم حق, وطعام الثاني سنة, وطعام يوم الثالث سمعة, ومن سمع سمع الله به». رواه الترمذي واستقربه, ورجاله رجال الصحيح, وله شاهد عن أنس عند ابن ماجه. هذا الحديث -من حيث السند- فيه نظر, وإن كان المؤلف رحمه الله قال إن رجاله رجال

التحذير من مشاركة الرياء للعبادة

الصحيح وقد أشار البخاري في صحيحه إلى ضعفه حيث ذكر الإيلام بثلاثة أيام أو سبعة أو نحو ذلك, لكن على تقدير صحته يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قسم الوليمة إلى ثلاثة أقسام: الأول: وليمة حق, والثاني: وليمة سنة, والثالث: وليمة سمعة, أما وليمة الحق فهي التي تكون في أول اليوم, وظاهره أن المراد بالحق هنا الوجوب فيكون دالاً على ما دل عليه حديث أنس في قصة عبد الرحمن بن عوف: «أولم» , وأما الوليمة في اليوم الثاني فسنة وليست بواجبة, وأما الوليمة في اليوم الثالث فسمعة, وقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم من صنعها سمعة في قوله: «ومن سمع سمع الله به» تنبني هذه الوليمة على حكم إقامة الوليمة, ففي اليوم الأول تجب الإجابة, وفي اليوم الثاني تسن الإجابة, وفي اليوم الثالث تكره أو تحرم الإجابة. وهذا الحديث أيضًا إذا صح فلعله يحمل على الحالة الوسطى من حال الناس؛ لئلا يكلف الإنسان نفسه بما ليس بمشروع, ولأن الغالب أن الذي يفعل ذلك يريد أن يكمل نفسه فتكون في اليوم الثالث سمعة, أما الإنسان الغني فإنه لا يسمع ولا يهمه قد يؤلم أربعة أيام أو خمسة أيام ولا بعد ذلك سمعة في حقه, الذي يعد سمعة في حقه هو الإنسان الفقير وهو الذي يُقال: إنه زاد في هذا من أجل أن يقال: إن فلاناً غني أو ما أشبه ذلك. التحذير من مشاركة الرياء للعبادة: وفي الحديث: «من سمع سمع الله به» , وهذه الجملة ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «ومن راءى راءى الله به» , فيه التحذير من أن يكون الإنسان مُسمعاً بعمله, أي: يقصد بعمله أن يسمعه الناس من أجل أن يمدحوه, لأن هذا نوع من الرياء, والرياء إذا شارك العمل قلبه إلى عمل حرام فاسد لا يُقبل, لقوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً معه فيه غيري تركته وشركه». وقد قسم العلماء -رحمهم الله- مشاركة الرياء للعبادة إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون مصاحباً للعبادة من أولها, ففي هذا القسم لا تصح العبادة, لأنه ليس فيها شيء خالص لله هي من أولها رياء فلا تصح, والقسم الثاني: أن يطرأ على العبادة بعد أن بدأ بها خالصة لله طرأ عليه الرياء, فهذا إن دافعه وأعُرض عنه فالعبادة صحيحة؛ لأن هذا بغير اختياره وبغير إرادته وهو الآن يدافعه كأنما يدافع العدو فصلاته صحيحة ولا يؤثر ذلك في أجره شيئاً لأنه مجاهد وإن

صفة ولائم النبي صلى الله عليه وسلم لبعض زوجاته

استمر فيه بإرادته فإنه ينظر إن كانت العبادة ينبني آخرها على أولها فسدت العبادة كالصلاة, فإذا طرأ عليه الرياء في الركعة الأخيرة ولم يدافعه بل قبله واستلذه فإن الصلاة تبطل؛ لأنه إذا بطل آخرها بطل أولها وإن كانت العبادة لا ينبني آخرها على أولها بل آخرها منفصل عن أولها فإن ما وقع فيه الرياء لا يصح وما كان خالصاً يصح. مثال ذلك: رجل عنده مائة ريال أعدها للصدقة فتصدق بخمسين منها بدون رياء ثم طرأ عليه الرياء في الخمسين الباقية فهنا تكون الخمسون الأولى صحيحة مقبولة, وتكون الخمسون الثانية باطلة؛ لأن المفسد حصل فيها وهي لا تنبني على أولها, بمعنى: أنه يمكن أن يصح الأول دون الآخر والآخر دون الأول. بقى علينا في القسم الأول أنه لو شارك العبادة من أولها نحن ذكرنا أنها تبطل إلا أنه يُستثنى من ذلك ما إذا دافعه وعالج نفسه فإنه لا يضره؛ لأن هذا بغير اختياره ويتعلق بهذا بحث يسأل عنه الناس كثيراً وهي أن بعض الناس يخشى من الرياء في عباداته فيأتيه الشيطان ويقول أنت إذا صليت فقد راءيت, إذا طلبت العلم فقد راءيت, إذا تصدقت فقد راءيت, كثيراً ما يأتي الشيطان للإنسان فما دواء هذا؟ دواء هذا أن تعرض عن ذلك وأن تتناساه وكأن شيئاً لم يكن, لأنك إن أنخذلت أمامه لم يبق عليك الشيطان عبادة إلا أفسدها عليك, ولكن استمر وتعوذ من الشيطان وابق على ما أنت عليه, لأنه في النهاية سيزول عنك الوسواس الذي يلقيه الشيطان عليك. صفة ولائم النبي صلى الله عليه وسلم لبعض زوجاته: 1002 - وعن صَفية بنت شيبة رضي الله عنها قالت: «أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير». أخرجه البخاري. «مُدَّين من شعير» , المُدَّان النبويان نصف صاع, لأن الصاع النبوي أربعة أمداد ثم إن الصاع النبوي بالنسبة إلى الصاع العرفي عندنا ينقص الخمس وخمس الخمس هذا بالنسبة عندنا هنا في القصيم, وعلى هذا فيكون المد النبوي بالنسبة إلى صاعنا خمساً كيف ذلك؟ يقول لنا مشايخنا: إن الصاع النبوي زنته بالبر الجيد ثمانون ريالاً فرنسياً, وصاعنا زنته بالبر الجيد مائة وأربعة, إذا نُسبت الثمانين إلى مائة وأربعة يكون أربعة أخماس ويكون النقص خمسا وربع خمس أربعة من عشرين, وعلى هذا فتقول: إن المدين من الشعير بالنسبة للصاع العُرفي يعتبران خمسي صاع.

فيُستفاد من هذا الحديث: أن الوليمة تصح بأدنى من الشعير, وأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاةٍ» يعني: أكثر ما يُولم وليس أقل كما زعم بعض أهل العلم, حيث ذهبوا إلى أن أدنى الوليمة هي الشاة, نقول: هذا غير صحيح, لأن قوله: «أولم ولو بشاة» يعني: أدنى شيء وليست هي أكثر شي, يستفاد من كونها أدنى شيء ليس على سبيل الوجوب بل يجوز أن يولم الإنسان بما هو أدنى منها ويلاحظ في ذلك حال المولم إن كان غنياً قلنا: أولم ولو بشاة, وإن كان دون ذلك قلنا أولم بما تستطيع وتقدر عليه. ومن فوائد الحديث: مشروعية الإيلام, لكن هل يكون على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ نقول: هذا فعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم, والفعل المجرد محمول على الاستحباب, لكن وجوب الوليمة يؤخذ من أدلة أخرى. 1003 - وعن أنس رضي الله عنه قال: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليالٍ يُبنى عليه بصفية, فدعوت المسلمين إلى وليمته, فما كان فيها من خبز ولا لحم, وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت, فألقي عليها التمر, والأقط, والسمن». متفق عليه, واللفظ للبخاري. قوله: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة» , خيبر اسم لمكان فيه مزارع وبيوت وقلاع لليهود, يبعد عن المدينة نحو مائة ميل من جهة الشمال الغربي, وهو معروف, فتحه النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة, وطلب منه اليهود أن يبقيهم فيه على أن يكون لهم نصف الثمرة وله نصف الثمرة, فأقرهم على ذلك, لكنه أقرهم على ذلك ما شاء الله أو ما شاء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة, وفي خلافة عمر أجلاهم من خيبر؛ لأنهم اعتدوا على عبد الله بن عمر وأساءوا إلى الصحابة فطردهم عمر. وقوله: «يُبنى عليه بصفية» , صفية بنت حيي بن أخطب وهي من ذرية هارون بن عمران فعمها موسى -عليه الصلاة والسلام-, وحيي بن أخطب أبوها من زعماء اليهود, فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه جبراً لقلبها؛ لأن كون أبيها رئيساً لو أنها صارت إلى أحد من الصحابة لكان في هذا كسر لخاطرها, فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجبر قلبها فاصطفاها لنفسه. وقيل: «يبنى عليه بصفية» كيف سُمي هذا بناء وهي مملوكة؟ نقول: لأن النبي صلى الله عليه وسلم عتقها صداقها, إذن فهي زوجة من أمهات المؤمنين, وقوله: «يبنى عليه بها» , البناء: نصب الخيمة ونحوها, وكان النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم قد بُني عليه خيمة يدخلها هو وأهله.

وقوله: «ثلاث ليالٍ» يراد بها: الليالي والأيام, والعرب تطلق الأيام وتريد بها الأيام والليالي, وتطلق الليالي ويراد بها الليالي والأيام, إلا إذا وجد قرينة, مثل: «صم ثلاثة أيام» , فهنا الليل لا يدخل قطعاً, لكن {واذكروا الله في أيامٍ معدودات} [البقرة: 203]. يدخل فيها الليالي. وقوله: «فدعوت المسلمين إلى وليمته» يعني: أنه طلبهم, وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أكرم الناس, فكان أنس يدعو من لقيه هلم إلى وليمة النبي صلى الله عليه وسلم «فما كان فيها من خبز ولا حلم» , يعني أنها وليمة بسيطة, يعني: خفيفة يسيرة ليس فيها خبز ولا لحم, «ومن خبز ولا لحم» أظننا أننا لا نشط في إعرابها أن "مِن" زائدة, وأن «خبز» اسم كان, والأصل: فما كان فيها خبز ولا لحم, «وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع» جمع نطع وهي الجلود, "فبسطت": يوضع عليها الطعام. وقوله: «فألقى عليها التمر والأقطِ والسمن» , ظاهر الحديث: أن كل واحد على حدة, والأقط هو اللبن المجفف, السمن معروف, التمر معروف, هل المعنى: أن الأقط موضوع في إناء, والسمن في إناء, والتمر في إناء أو أنها مخلوطة؟ يُحتمل, لكن الظاهر المعروف عند العرب أنها مخلوطة يُخلط السمن والأقط والتمر ويُوضع على النار حتى يسخن ثو يؤكل, وهو من ألذ الأكلات التمرية, وربما يجعل بدل الأقط الدقيق, وهذا هو المعروف عند الحضر فهم لا يعرفون الأقط, لأنه قليل عندهم, فيجعلون بدل الأقط دقيقاً, ويسمى حَيساً, لأنه يحاسي بعضه مع بعض. على كل حال: هذه وليمة الرسول صلى الله عليه وسلم على زوجته صفية, وفي الأول: «مُدَّين من شعير» , إذن الوليمة تختلف بحسب الحال. يستفاد من هذا الحديث: جواز الدخول على المرأة في السفر لدخول الرسول صلى الله عليه وسلم على صفية بين المدينة وخيبر. ومن فوائده: أنه ينبغي أن يُبنى خيمة خاصة للزوج وأهله, لفعل الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي الحياء أن يبنى للإنسان خيمة خاصة من بين القوم إذا كان ذلك من أجل الزواج, قد يستحيي بعض الناس ويقول كيف أختص وحدة بخيمة؟ فنقول: لست أشد حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومع ذلك بُني له خيمة أمام الناس ولا حرج أن يخبر الإنسان الناس: بأنه قد تزوج, كما لا بأس أن يبنى له خيمة يبني بها بأهله. ومن فوائد الحديث: جواز التوكيل في الدعوة للوليمة لقول أنس: «فدعوت المسلمين إلى وليمته». ومن فوائد الحديث: أن ولائم الرسول صلى الله عليه وسلم ليست ولائم صعبة, بل بحسب الحال, فمرة أولم بمدين من شعير.

حكم الأكل في حالة الاتكاء

ومن فوائد الحديث: إشارة أنس بن مالك إلى أنه لا ينبغي الإسراف في الولائم لقوله: «فما كان فيها من خبز ولا لحم». 1004 - وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتمع داعيان, فأجب أقربهما باباً, فإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق». رواه أبو داود, وسنده ضعيف. "إذا اجتمع داعيان ... إلخ", يعني: إذا دعاك رجلان دعوة واحد فأجب أقربهما باباً؛ لأن أقربهما باباً أقربهما جواراً, فإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق؛ لأنه أحق, ولكن كيف يتصور أن يجتمع داعيان بلا سبق؟ داعيان وكلا رجلاً واحداً فقالا ادع لنا فلاناً, فذهب الرجل الوكيل للرجلين وقال للمدعو إن فلاناً وفلاناً يدعوانك, على كل حال: قد يبدو للإنسان أن تصويرها صعب ولكن ليست بتلك الصعوبة, على كل حال: إذا سبق أحدهما يجاب أقربهما باباً, وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «فإن أقربهما باباً أقربهما جواراً». وحينئذ يشكل علينا إذا اجتمع الداعيان أقربهما باباً قد يكون أبعدهما جواراً, مثاله: جاري الذي ليس بيني وبينه إلا الجدار بابه بعيد بجانب البيت الطريق الذي يبعد عني, ورجل آخر بيني وبينه بيت لكن بابه أقرب, من نجيب؟ إن نظرنا إلى قوله: «أقربهما باباً» قلنا: هذا أقرب باباً؛ وإن نظرنا إلى قوله: «فإن أقربهما باباً أقربهما جواراً» قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لاحظ قرب الجوار, والغالب أن الباب يكون في البيت, فإذا كان البيت أقرب صار الباب أقرب. هذه المسألة تحتاج إلى تحرير إذا كان أحدهما أقرب جواراً وأبعد باباً فهل نعتبر قرب الجوار ولو بعد بابه أو نعتبر قرب الباب؟ حكم الأكل في حالة الاتكاء: 1005 - وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا آكل متكئاً». رواه البخاري. قال: «لا آكل متكئاً» الاتكاء هو الاعتماد, وهو على نوعين: اعتماد على اليد, واعتماد على الظهر, واعتماد على اليد إما اليمنى أو اليسرى يستلزم أن يكون البدن مائلاً إلى أحد الشقين, والاعتماد على الظهر لا يستلزم ذلك, لكنه يدل على أن الإنسان سوف يستريح استراحة

كاملة على الأكل وحينئذٍ يملأ بطنه, وملء البطن من الطعام خلاف ما ينبغي, لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه». هناك صفة ثالثة عند ابن القيم في "زاد المعاد" وهي التربع يقول: إن هذا من الاتكاء لأن فيه شيئاً من الراحة التي توجب أن يأكل كثيراً وهو خلاف السنة إلا في بعض الأحيان لا بأس أن يأكل الإنسان كثيراً. يستفاد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يكره الأكل متكئاً, ولكن هل هذا بمعنى النهي بحيث نقول: أن الاتكاء عند الطعام منهي عنه إما نهي كراهة وإما نهي تحريم؟ الذي يظهر لي أنه لا يقتضي النهي وإنما يقتضي أن يكون ذلك من الآداب التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحاشاها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لو أراد النهي لصرح به, لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك} [المائدة: 67]. فإذا لم يصرح به, لم يقل: لا تأكلوا متكئين, علم أن ذلك من باب الآداب المستحبة ولا يستلزم الكراهة. أما الحكمة من ذلك, فقال العلماء: إن المتكئ على أحدى اليدين لا يسهل نزول الطعام في هذه الحال مع المريء الذي هو مجرى الطعام, لأنه يكون الجسد مائلاً إلى أحد الجانبين, وهل يدخل في ذلك الشرب؟ نقول: إما على قواعد أهل الظاهرية فإنه لا يدخل فيه الشرب, لماذا؟ لأن الحديث خصه بالأكل, والأكل غير الشرب, فيقتضي أن يكون الشرب حال الاتكاء ليس مما يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم, ويحتمل أن يقال: إن الشرب كالأكل, لأن العلة واحدة خصوصاً إذا عللنا الاتكاء على إحدى اليدين, فإن الشارب إذا كان متكئاً على إحدى اليدين اتكاء كبيراً ربما يشرق فيتضرر بذلك, لكن الاحتياط أن نأخذ بالظاهر, ونقول: الأكل متكئاً يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الشرب. وقد يقال: إن الفرق من وجهين: الوجه الأول: أن الأكل متكئاً سوف يكثر من الأكل, ثانياً: أن نزول الطعام مع المريء أشق من نزول الماء؛ لأن الماء أسهل وهذا معنى يقتضي ألا يصح القياس, بقى لنا الصورة الثالثة للاتكاء وهي: التربع, يرى ابن القيم أنها اتكاء, والفقهاء لا يرونها من الاتكاء ويقولون: إن المتربع لم يتكئ بل هو قائم الجسد فهو لم يتكئ فلا يدخل في الحديث, وإذا كان هذا عن التربع لا يقتضيه اللفظ من حيث اللغة ولا من حيث اللفظ فالاحتياط عدم إدخاله, لماذا؟ لأن الأصل في غير العبادات الحل والإباحة حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك.

التسمية عند الطعام

التسمية عند الطعام: 1006 - وعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا غلام, سمَّ الله, وكل بيمينك وكل مما يليك». متفق عليه. عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم: لأنه ابن أم سلمة؛ وقصتها معروفة حين تُوفي أبو سلمة وهو ابن عمها ومن أحب الناس إليها وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: «ومن أصيب بمصيبة فقال: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها, آجره الله واخلف عليه خيراً منها». فلما مات أبو سلمة قالت هذا, وكانت تقول في نفسها: من خير من أبي سلمة؟ لا تقول هذا شكاً, ولكن تتأمل من خير من أبي سلمة أبو بكر, وعمر, عثمان, علي, العباس, ابن مسعود, فلان فلان من؟ ولم يكن يخطر ببالها في ذلك الوقت أن الذي يخلف أبا سلمة عليها هو النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهت العدة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم؟ فكان خيراً لها من أبي سلمة, وربي الله سبحانه وتعالى أولاد أبي سلمة في حجر النبي صلى الله عليه وسلم كان عمر صغيراً فجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم على الطعام فجعلت يده تخبط في الصحفة يميناً وشمالاً؛ لأنه صغير لم يتربَّ فقال له: «ياغلام» , والغلام اسم للذكر الصغير, والأنثى الصغيرة يقال لها: جارية, «يا غلام سمَّ الله» , أي: قل: "باسم الله" وهذا أمر, والأمر يقتضي الوجوب في الأصل عند أكثر الأصوليين, لقول الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63]. فتوعد الذين يخالفون عن أمره ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة». فقوله: "لأمرتهم" يدل على أن الأصل في الأمر الوجوب, لأن الوجوب هو الذي يكون فيه المشقة؛ إذ إن المستحب لا مشقة فيه لجواز تركه, المهم أن قوله: "سمَّ الله" أمر, والأصل في الأمر في الوجوب, فهل هذا الأمر للوجوب؟ قولان لأهل العلم, منهم من قال: إنه للوجوب ومنهم من قال: إنه للاستحباب. فالذين قالوا: إنه للاستحباب نظروا إلى أنه من آداب الأكل, والأصل في الآداب أنها للتهذيب والتربية لا للوجوب والإلزام, ومن قال: إنه للوجوب قال: هذا هو الأصل في الأمر, والقول الثاني أي: أنه للوجوب هو الأصح, أولاً: لأن الأصل في الأمر الوجوب, وثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من لم يسم فإن الشيطان يشاركه في طعامه, ومعلوم أن تمكين الشيطان من

المشاركة في الطعام لا تجوز, وأيضًا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان ذات يوم على طعام هو وأصحابه فجاءت جارية بنت صغيرة كأنما تدفع دفعاً فألقت بيدها إلى الطعام فامسك بها النبي صلى الله عليه وسلم, وأمرها أن تسمى وقال إن الشيطان قد دفعها دفعاً لتأكل بدون تسمية حتى تشاركهم في الطعام, وأخبر أن يدها ويد الشيطان بيد النبي صلى الله عليه وسلم, فهذا يدل على أن الأمر للوجوب, وهو كذلك. فيجب على الإنسان أن يسمي على الأكل وجوباً, فإن لم يفعل فهو آثم وراضٍ بمشاركة الشيطان له في طعامه, فإن نسي سمى حين يذكر يقول: باسم الله أوله وآخره أو "بسم الله" فقط. وقوله: «يا غلام سم الله» يقتضي أنه لا تكفي التسمية من واحد عن الجميع, ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سيكون قد سمى على الطعام ومع ذلك أمر هذا الغلام أن يسمي, وهذا فيما إذا كان الثاني لم يسمع تسمية الأول ظاهرة؛ يعني: بأن جاءوا متتابعين لم يجلسوا على الطعام مرة واحدة, فالثاني: الذي جاء لابد أن يسمي, لكن إذا كان جلوسهم على الطعام واحداً وسمى أحدهم تسمية أسمعها الآخرين فهل يجزي؟ يرى بعض العلماء أن بجزيء؛ لأن هذه التسمية تمنع مشاركة الشيطان فهي عندهم سنة كفاية, والذي يظهر من النصوص: أن لكل إنسان تسمية, ووجهه: هذا الحديث الذي معنا فإن الظاهر أن الغلام كان مع النبي صلى الله عليه وسلم, وإذا قدم الطعام فإنه سيشارك فوراً. وقوله: "سم الله" هل هذا يدل على أنك لا تزيد على قول "باسم الله"؟ يحتمل أن تكتفي بقول: "باسم الله" ولا شك أن هذا كافٍ, لكن هل ننكر على من قال: «بسم الله الرحمن الرحيم؟ » لا, لا ننكر, لأن بسم الله الرحمن الرحيم تسمى تسمية فلا ننكر, لكن بعض أهل العلم قال: إنك لا تقول أو لا تزيد «الرحمن الرحيم» على الذبيحة, لأن الرحمة تقتضي العطف والحنان وأنت الآن تريد أن تذبح فلا مناسبة بين هذا وهذا, وعندي أن في هذا التعليل نظراً, ووجهه: أن من رحمة الله بنا نحن -ونحن أشرف من الحيوان- أن أحل لنا أن نذبح هذه البهيمة لمصالحنا فهو في الحقيقة رحمة وكأنك تشير بقولك: الرحمن الرحيم إلى رحمة الله بنا فإنه لرحمته بنا أحل لنا هذه الذبيحة. وقوله: «كل بيمينك» هذا أمر, والمراد باليمين: اليد اليمنى, فأمره أن يأكل باليمين والأمر هنا هل للوجوب أو للاستحباب؟ فيه الخلاف السابق في قوله: «باسم الله» فمن العلماء

من قال: أن الأكل باليمين سنة وليس بواجب, وأن الإنسان لو أكل بشماله لم يأثم, لأن الأمر ليس للوجوب, ومن العلماء من قال: إن الأمر للوجوب «كل بيمينك» وعلل هذا بأن الأصل في الأمر الوجوب, وبأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل بالشمال فقال: «لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله» , وبأن هذا من إتباع خطوات الشيطان, لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» , وهذا القول أصح من القول بأن الأمر بالأكل باليمين على سبيل الاستحباب, فالصواب وجوب الأكل باليمين, وأنه لا يجوز الأكل باليسار إلا لضرورة, وأقبح من ذلك أن يمنعه الأكل باليمين الكبرياء, فإنه إن فعل ذلك استحق أن يدعى عليه, لأن رجلاً أكل عند النبي صلى الله عليه وسلم بشماله فقال له: «كل بيمينك» , قال: لا استطيع ما منعه إلا الكبر, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا استطعت» فما رفع يده اليمنى إلى فيه بعد ذلك شُلت, ولا يدعو النبي على شخص إلا لأنه فعل إثماً ومعصية, وأقبح من ذلك أيضًا أن يأكل باليسار تشبهاً بالكفار واعتقاداً أن هذا هو المدينة منا يفعله بعض الناس الذين غرتهم أحوال الكفار وظنوا أنهم لم يستطيعوا أن يصنعوا الطائرات والقنابل إلا من أجل أنهم يأكلون بالشمال! ! فظن أن هذا هو التقدم فصار يأكل بشماله تقليداً لهم, وهذا يزيده قبحاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن تشبه بقوم فهو منهم». وقوله: «وكل مما يليك» هو أيضًا أمر, يعني: كل مما يليك إلا الذي يلي صاحبك, هذا الأمر الظاهر أنه للاستحباب كما عليه جمهور العلماء إلا أن يحصل من ذلك أذية ومضايقة على شريكك في الأكل فهنا يتوجه وجوب الأكل مما يليك لأنه من المعلوم أن لو تخطت يده إلى جهة شريكه وأكلت مما يلي الشريك ربما يتقزز من هذا أو يتأذى, فالأصل أن الأمر للاستحباب ما لم يكن بذلك أذى لشريكك فيجب أن تأكل مما يليك. ويستثنى من ذلك إذا كان الطعام أنواعاً مثل أن يكون على الصحفة لحم ولوبيا وبامية فتجاوزت مما يليك إلى هذه الأشياء لتأكل منها ذلك لا بأس به لقول أنس: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدبُاء» , وهو القرع فيأخذها, وهذا لا شك أنه مما لا يمكن الوصول إلى ما تريد إلا بهذا, فإذا كانت اللحم من الجانب الذي يلي صاحبك وقلنا: كل مما يليك ماذا يقول؟ يقول: ما عندي شيء الذي أريده مما يلي صاحبي, فهو في هذه الحال يكون معذوراً ولا حرج عليه, فإن كان صاحبك لا يهتم بأنك تأكل مما يليه بل يرغب في ذلك ليأكل مما يليك فما الحكم؟

آداب الطعام

الظاهر رفع الحرج ما دمت تعلم أن الرجل لا يهتم بهذا الأمر, بل هو يفرح من أجل أن يأكل مما يليك فإن هذا لا بأس به. وقوله: «كل مما يليك» هل يشمل ما إذا كان لك شريك أو لا؟ بمعنى إذا كنت تأكل وحدك فهل تقول: إن الأفضل أن تأكل مما يليك أو لك أن تأكل من الجانب الآخر إذا كنت وحدك؟ أما ظاهر الحديث فالعموم, وأما قرينة الحال فهي لمن له شريك لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب هذا الغلام وهو يأكل معه, فيكون هذا النوع من الأدب إنما هو لمن له شريك, أما من ليس له شريك فليأكل مما شاء إلا ما استثنى مما سيذكره في الحديث الآتي. آداب الطعام: 1007 - وعن ابن عباس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بقصعةٍ من ثريدٍ, فقال: كلوا من جوانبها, ولا تأكلوا من وسطها, فإن البركة تنزل في وسطها». رواه الأربعة, وهذا لفظ النسائي, وسندهُ صحيحٌ. "أتى بقصعةٍ" القصعة هي الصحفة, والثريد هو ما ذكره الناظم في قوله: [الوافر] (إذا ما الخبز تؤدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثََّريد) إذن الثريد هو الخبز المؤدم باللحم, ثم قد يكون مرفقاً, وقد يكون مجففاً, فإذا كان خبزاً يغمس في الإدام, ويؤكل فهو ثريد مجفف, وإذا كان مرقوقاً يعني: طبخ من اللحم وهذا ثريد مرقق, يقول أحد الشعراء: [الرجز]. (جارية لم تأكل المرفقا ... ولم تدق من البقول الفستقا) يعني: أن حالتها رديئة ليس عندها غنى, وقوله: «فقال: كلوا من جوانبه» هذا يتضمن أمرين: الأول: الإباحة الأكل منها, والثاني: أن يكون الأكل من الجوانب, وكل إنسان يأكل من الجانب الذي يليه, «ولا تأكلوا من وسطها» يعني: أعلاها, «فإن البركة ننزل في وسطها». قد يقول قائل: هذا التعليل يناقض الحكم لأنه قال: «لا تأكلوا من وسطها» ثم قال: «فإن البركة تنزل في وسطها» , إذا كانت تنزل في الوسط لماذا لا آكل من الوسط من أجل الحصول على البركة؟

نقول: إذا كانت البركة تنزل في الوسط فأنت إذا أكلت الوسط من أول ما تأكل نزعت البركة راحت, فلهذا يبقى الوصف قائماً ويؤكل من الجوانب, فإن كانوا شرهين واسعي البطون وقضوا على الوسط والجوانب يأكلوا ويجعلوا الوسط في الآخر. في هذا الحديث فوائد عديدة: منها: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم في أكل الصبيان معه. ومنها: أنه ينبغي في الخطاب أن ينادي المخاطب وإن كان قريباً للتنبيه لقوله: «يا غلام» , إذ من الممكن أن النبي صلى الله عليه وسلم ينبه بدون أن يناديه, لكن النداء يوجب تنبه المخاطب ولهذا جاءت بصيغة "يا" التي ينادى بها البعيد, بخلاف "أي" التي ينادى بها القريب, فالقريب نقول: "أي زيد" والبعيد نقول: "يا زيد". ومن فوائد الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث وجد الخطاب إلى هذا الغلام الصغير بياء النداء الدالة على البعد والتفخيم: «يا غلام». ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي بالصبيان في التربية على أخلاق الإسلام وآدابه, بل قد نقول: إنه يجب يربوا على أخلاق الإسلام وآدابه؛ لأن الصغير إذا تربى على الشيء استمر عليه ويصعب إذا كبر أن يربي على شي لم يكن يعرفه من قبل, وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هذا الغلام بما أمره. ومن فوائد الحديث: وجوب التسمية على الأكل لقوله: "سم الله". فإن قال القائل: في الاستنباط نظر؛ لأن الصغير غير ملزم, والواجبات في حق الكبير سنن في حق الصغير؟ فالجواب عن ذلك أن نقول: إنه إذا أمر الصغير بالتسمية وهو غير مكلف فالمكلف من باب أولى, ويؤيد وجوب التسمية على الأكل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من لم يسم شاركه الشيطان في أكله وشربه وهذا تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم من ترك التسمية؛ إذ لا أحد يرضى أن يشاركه الشيطان في غذائه من طعام أو شراب أعدى عدو له. ومن فوائد الحديث: أنه يقتصر على «باسم الله» لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ما زاد عليها ولكن مع ذلك لو قال: «الرحمن الرحيم» فلا حرج ما لم يقتصد في قصور السنة وأنه يريد أن يكملها بزيادة الرحمن الرحيم, فإن اعتقد ذلك كان خاطئاً ومنع من ذلك, لكن لو قالها على سبيل التعبد لله بها لا على أن السنة قاصرة فلا حرج, لأن مثل هذه الأمور مما جرت المسامحة فيه. ومن فوائد الحديث: وجوب الأكل باليمين, لقوله: «كل بيمينك» والأمر للوجوب, ويرد على هذا الأمر ما ورد على الأمر بالتسمية, ويجاب عنه بما أجيب به عن الأمر بالتسمية بأنه إذا كان غير المكلف مأموراً فالمكلف من باب أولى, ويؤيد وجوب الأكل باليمين نهي النبي صلى الله عليه وسلم

عن الأكل بالشمال والشرب بالشمال وإخباره بأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله, وقد ذكرنا في أثناء الشرح أن ذلك ينقسم إلى أقسام: أولاً: أن يخالف هذا الأمر لعذر؛ أي: أن يأكل بشماله لعذر؛ فهذا لا حرج عليه لعموم قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. وقوله: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]. وقول النبي: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». ثانياً: أن يتركها تهاوناً فهذا محرم. ثالثاً: أن يتركها كبراً فهذا من كبائر الذنوب, لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الذي قال: لا استطيع أن آكل باليمين ما منعه إلا الكبر فقال له: «لا استطعت» , فلم يرفعها إلى فيه بعد ذلك. ومن فوائد الحديث: فضيلة اليمين, حيث خصت بالأكل وكذلك بالشرب, وقد ذكر أهل العلم -رحمهم الله- قاعدة فقالوا: الأشياء ثلاثة أقسام: أذى, وخير, وما لا أذى فيه ولا خير, فالأذى تقدم له اليسرى ولذلك يستنثر الإنسان باليسار, ويستنجى باليسار, ويمسك ذكره ليلصقه بالأرض أو يقربه منها إذا كانت صلدة باليسار, ويقدم رجله اليسرى عند الدخول للخلاء, ويقدم اليسرى عند خلع الثياب, وتقدم اليمنى للخير ولما ليس فيه أذى ولا خير, أما تقديمها للخير فهو لمنقيتها لما لا خير فيه ولا أذى فهو لشرفها وفضلها على اليسار. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي الأكل بكلتا اليدين, لقوله: «كل بيمينك» , فلو قال واحد: أنا آكل باليمين لقمة وباليسار لقمة أقل أحواله أنه خلاف السنة, ولكن إذا شرب بكلتا اليدين فهذا إذا كان لحاجة فلا شك في جوازه كما لو كان الإناء ثقيلاً لا يستطيع حمله باليد اليمنى, أما إذا لم يكن هناك حاجة فالأصل أن يشرب باليمين فقط. ومن فوائد الحديث: وجوب الأمل مما يليك, لقوله: «وكل مما يليك» , والأصل في الأمر الوجوب, وقد ذكرنا في الشرح علة في ذلك وهو أنه إذا أكل من غير ما يليه حصل بذلك مضايقة وأذى لشريكه وهذا لا يجوز, ثم إن فيه أيضاً سوء أدب ودلالة على الشره. يستثنى من ذلك إذا كان الطعام أنواعاً فإنه لا بأس أن يأكل من النوع الذي يختاره ولو كان مما يلي صاحبه لدعاء الحاجة لذلك, ولأن النفوس لا تأنف منه ولا يتأذى منه شيء, وقد ذكرنا في هذا دليلاً وهو حديث أنس في تتبع النبي صلى الله عليه وسلم للدباء, لكن من ذكاء أنس رضي الله عنه أنه

لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء بدأ يأخذ الدباء ويضعها أمام النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا من كمال أدبه لأجل أن يكفي النبي صلى الله عليه وسلم المؤنه والتعب. ما قلنا من وجوب التسمية ووجوب الأكل باليمين ووجوب الأكل مما يليه فيه نزاع بين العلماء؛ لأن من العلماء من يرى أن هذه الأمور مستحبة وليست بواجبة بناءً على القاعدة التي ذكرناها سابقاً, وهي أن الأوامر في الأخلاق والآداب للاستحباب بخلاف الأوامر في العبادات الأصل فيها الوجوب, وقلنا: إن هذا الأصل جيد جداً, وإن الإنسان يتخلص به من أمور حرجة يحرج بها, لو قيل: الأمر للوجوب حتى في الأخلاق والآداب, ولكن نحن لم نعتمد على مجرد الأمر في هذا, ولكن اعتمدنا على قرائن تفيد أن الأمر للوجوب: القرينة الأولى في عدم التسمية مشاركة الشيطان, والثانية: الأكل باليمين له قرينة تدل على وجوبه ذلك لأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله, والثالثة: له قرينة تدل على الوجوب وهي تأذي الغير وإحراجه ومضايقته. ومن فوائد حديث ابن عباس: أن الصحابة -رضي الله عنهم- كان من عاداتهم إكرام النبي صلى الله عليه وسلم بإهداء الطعام إليه لقوله: أتي بقصعة, لأن الظاهر أن هذه القصعة أتت من غير أهله, لأن ذلك كان من عادة الصحابة أنهم يهدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم الطعام واللبن. ومن فوائد الحديث: الإشارة بل مشروعية الأكل من جوانب القصعة لقوله: «كلوا من جوانبها» , وهل الأمر للوجوب؟ نقول: ظاهر التعليل أن الأمر للوجوب, لأنه قال «فإن البركة تنزل في وسطها» , فإذا أكلت من الوسط نزعت البركة, ومعلوم أن نزع البركة نوع من العقوبة, فإن كان الإجماع على عدم الوجوب فلا عدول لنا عنه, لأنه لا يمكن أن نخالف الإجماع, وإن كان في المسألة قول: أن الأكل من الجوانب للوجوب, وأن الأكل من وسط الصحفة محرم, فهذا القول هو الذي يقتضيه الحديث. ويستثنى من ذلك ما لو دعت الحاجة إلى الأكل من الأعلى, مثل: أن يكون الجوانب حارة والأعلى بارد, ولا يتمكن الإنسان من أكل الحار, وهذا يكون كثيراً فيما يعرف عندنا بالأكلة المفضلة نحن -أهل القصيم- وهي "الحنينة" وهي عبارة عن تمر مخلوط بالخبز يحمى على النار ثم يوضع فيه دهن. على كل حال: إذا دعت الحاجة إلى الأكل من الأعلى فلا بأس. ومن فوائد الحديث: أن من الأمور التي جاء بها الوحي ما لا تدركه العقول وهو أن البركة تكون في وسط الصحفة, لأن هذا لا ندري عنه لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بذلك لكنا لا نعلم عن هذا شيئاً.

ومن فوائد الحديث: أن للأكل والشرب وإن كانا من مقتضى الطبيعة والجبلة أن لهما آداباً, وهذا قد ذكرناه في أصول الفقه, وأن من الأشياء الطبيعية الجبلية ما يكون له آداب هو بذاته ليس مشروعاً, ولكن له آداب مثل الأكل والنوم, لأن النوم والأكل تقتضيهما الطبيعة ولكن من صفات النوم أن يكون مستحباً النوم على اليمين. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي استجلاب البركة واستبقاؤها؛ وأنه لا ينبغي فعل ما يزيلها, ومن ذلك كيل الطعام عند استنفاقه فإنه مما يزيل البركة, فمثلاً: إذا كان عند الإنسان طعام من تمر أو حب أو غير ذلك, فالأفضل أن يأخذ منه نفقته كل يوم بدون كيل, لأنه إذا كيل نزعت البركة منه كما جاء ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها, أنه كان لها طعام وكانت تأكل منه وتنفق منه قالت: فكلته ذات يوم, يعني: تريد أن تنظر ماذا بقي منه, فقني بسرعة نزعت البركة منه, وجه ذلك ظاهر, لأنك إذا كلته صار نوع اعتماد عليه بأن تقول مثلاً باقي عشرة أصواع فتعتمد عليها بعض الشيء وإذا لم تكله وتنفق فقط صار اعتمادك على الله أكثر فلهذا تنزع البركة منه إذا كيل, لأنه يعتمد عليه الإنسان, وإذا كان يأخذ وينفق يقول: قال الله عز وجل: «يا ابن آدم, أنفق يُنفق عليك». صار ذلك أقوى في الاعتماد والتوكل على الله. 1008 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, طعاماً قط, وكان إذا اشتهى شيئاً أكله, وإن كرهه تركه». متفق عليه. "ما عاب" أي: ما ذكره بعيب مثل أن يقول: هذا مالح, هذا حامض, هذا خانس, أي: قليل الملح, يعني دالع, يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم لا يذكر طعاماً بعيب إطلاقاً سواء كان العيب يعود إلى الصنعة أو يعود إلى نفس الطعام, أحياناً يقدم الإنسان فاكهة منظرها حسن وجميل ومطعمها رديء فتجده يعيبها, هذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: "ما عاب طعاماً" هل يشمل هذا صنعة الطعام أو يختص بالطعام نفسه؟ الظاهر: الثاني؛ وأن الإنسان إذا عاب صنعة الطعام من أجل تقويم أهله في الصنعة مثل أن يقول لأهله اليوم الأشياء المالحة, العشاء حار, تأخرتم في طبخه, الشاي مر وما أشبه ذلك هذا لا بأس به, لأن العيب هنا للصنعة أو للصانع وليس للطعام, ثم بين هذي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كان إذا اشتهى شيئاً أكله» على ما هو عليه, وإن لم يشتهه تركه, ولم يقل شيئاً, وبهذا يستريح الإنسان من الهم والحزن, إذا قدم الطعام إن اشتهيته فكل وإن كرهته فلا تأكل.

يستفاد من الحديث أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ترك عيب الطعام لقوله: «ما عاب طعاماً قط». ثانياً: أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي, وألا يكره نفسه على أكل ما لا يريد لقوله: «إذا اشتهى شيئاً .... إلخ» فأنت عود نفسك ألا تأكل إلا ما تشتهي وما لا تشتهيه اتركه سواء كنت لا تشتهيه لذاته, أو كنت لا تشتهيه لأن بطنك ملئت فالأول مثل ترك النبي صلى الله عليه وسلم لأكل الضب مع أنه حلال, لأنه ليس بأرضه فلم يعتد أكله فيكرهه, فلا تكره نفسك على أكل ما لا تريد, لأن هذا ضرر, إذا اشتهيت شيئاً فكله, ولا تقل: لم يأت وقت الغداء, لأن طلب النفس للشيء يستلزم هضم الشيء وسهولته على المعدة, وذكر صاحب الزاد ابن القيم في كتابه حين تكلم على الرمد -وجع في العيون- وأن الأرمد لا ينبغي أن يأكل التمر؛ لأن التمر يزيد في الرمد قال: إنه إذا قوي طلب النفس له فلا حرج أن يأكل لأن النفس تهضمه ولا يلحقه ضرر, واستدل بما ذكر أن صهيباً رضي الله عنه كان أرمد, فقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تمراً, فلما أراد أن يأكل صهيباً قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: كلاماً معناه: أتأكل وأنت أرمد؟ قال: يا رسول الله, أمضغه مع الجانب الآخر, يعني: الرمد في اليمنى فيمضغه باليسرى, فأقره النبي وتركه يأكل, لأن النفس الآن في شدة الشوق إليه تطلبه, ولهذا الميتة خبيثة نجسة يتقزز الإنسان من رؤيتها فضلاً عن أكلها, ولكن إذا اضطر حتى خاف الموت صارت طيبة حلالاً تشتهيها النفس ولا تضر الإنسان. فالحاصل: أن الإنسان ينبغي له إلا يكره نفسه على الشيء إن اشتهاه فليأكله وإن كرهه فليتركه. ومن فوائد الحديث: أنه لا حرج أن تضاف الكراهة إلى الطعام, فتقول أنا أكره هذا النوع من الطعام, ولا يعد هذا امتهاناً للنعمة أو استكباراً عنها لهذا الحديث: «إن كرهه» , فإن الراوي فهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كره, ولحديث الضٌب: «فأجدني أعافه». 1009 - وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تأكلوا بالشمال: فإن الشيطان يأكل بالشمال» رواه مسلم. وقد مر علينا هذا الحديث, فلا داعي لإعادته هنا. وفيه فوائد منها: أن الشيطان يأكل وأنه جسم يحتاج إلى الغذاء لقوله: «فإن الشيطان يأكل» وفيه دليل على أن خبث الذات يسري إلى خبث العمل كيف ذلك؟ لأنه يأكل بشماله وهذا لاشك أنه بالنسبة للأكل باليمين رديء وخبيث لكنه لما كانت طبيعة الشيطان الخبث صار لا يأكل إلا بالشمال.

فإن قال قائل: وماذا يأكل الشيطان؟ نقول: الشيطان يأكل ما لم يسم فيه, إذا أكلت ولم تسم أكل معك كذلك الجن إذا قلنا إن الشيطان يعم حتى الجن, فالجن يأكلون فضلات بني آدم, يعني: ما يفضل من طعامهم, لأنهم يجدون العظام التي طرحها البشر يجدونها لحماً قد كساها الله لحماً لهم يأكلونه والعذرة تكون علفاً لبهائمهم وهذا الأمر القدري دليل واضح على فضيلة البشر على الجن والأدلة في هذا كثيرة لكن هذا منها. ومن فوائد الحديث: النهي عن مشابهة الشيطان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى وعلل, وإذا كنا منهيين عن مشابهة الشياطين في الأفعال, ففي الإضلال من باب أولى فالحريص على إضلال الناس مشابه للشياطين والذي يضل الناس عن الذكر ذكر الله عز وجل مشابه للشياطين فتجد بعض الناس يهم بأمر ولنقل يهم أن يصلي لولا هذا الذي أضله فكل إنسان يحول بين الشخص وبين طاعة الله عز وجل فإن فيه تشبهاً بالشيطان الذي يضل. ومن فوائد الحديث: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم, لأنه لما ذكر الحكم ذكر علته وقرن الحكم بالتعليل ولاشك أنه من حسن التعليم, لأننا نحن إذا سمعنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول أو قرأنا في كتاب الله ما يقول سنقتنع بالحكم سواء علمنا العلة أو لم نعلم إن شاء الله تعالى, ولكن إذا جاءت العلة ازداد الإنسان إيماناً وقبولاً, والإنسان بشر فهاهو إبراهيم قال: {رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260]. وقد ذكرنا فوائد قرن الحكم بالتعليل, ومنها زيادة الطمأنينة وهذه من أهم ما يكون, ولاسيما في وقتنا الحاضر, الناس الآن مع الأسف أوتوا جدلاً, وأعني بالناس: كثيراً منهم لا كل الناس, ولو ذكرت لهم الحكم الشرعي يحتاج إلى إمداده بالتعليل الذي هو الدليل العقلي, لهذا أنا أحث الطلبة على أن يكون لديهم علم بالتعليل الذي هو الدليل العقلي من أجل إقناع المجادلين وأنتم لا تظنوا أن كل الناس مسلمون لقضاء الله الشرعي, لماذا؟ لأن قضا الله الكوني كل مستسلم له: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرها} [الرعد: 15]. هذا السجود الكوني, فأقول كثير من الناس لا يُسلم لقضاء الله الشرعي أو لا يطمئن على الأقل إلا بما يسنده من الدليل العقلي فأنا أحث طلبة العلم على معرفة أسرار الشريعة وحكمها ليزدادوا إيماناً بها وليقنعوا غيرهم بما تقتضيه أدلتها من الأحكام الشرعية. ومن فوائد الحديث: إثبات أن للشيطان شمالاً وله يميناً, لأن الشمال يقابلها اليمين فله يمين وشمال لكنه يختار الشمال لأنه خبيث. ومن فوائد الحديث: أن الشياطين أجرام, خلافاً لمن قال: إن الشياطين هي قوى الشر

آداب الشراب

والملائكة قوى الخير, وقد قال بذلك من ينتسب للإسلام وقال: إنه لا يوجد طير أبابيل أرسلت على أصحاب الفيل وإنما هو الجدري أصابهم, فهو عبارة عن الفيروس الذي أصابهم حتى أهلكهم هذا -والعياذ بالله- قول ضال, القادر على أن يخلق كل شيء قادر على أن يرسل طيراً أبابيل ترمي بحجارة من سجيل وتضرب الإنسان من أم رأسه حتى تخرج من دبره هكذا جاءت الأخبار والعقل ربما يُحار فيه لكن لا يمنعه. آداب الشراب: 1010 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شرب أحدكم, فلا يتنفس في الإناء ثلاثاً». متفق عليه. "إذا شرب" كلمة شرب تشمل كل شراب من ماء أو لبن أو عصير وغير ذلك, وقوله: "فلا يتنفس" أي: لا يخرج نفسه في الإناء الذي يشرب منه سواء كان ذلك حين مص الشراب أو بعد ذلك, وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا إن كان الإنسان في أثناء الشرب فإن النفس ربما يصطدم بما نزل من الشراب ويحصل بذلك الشرق, وإن كان في غير أثناء الشرب فإنه يلوث هذا الشراب على غيره ويكرهه له, وربما يكون في الإنسان أمراض خفية تنطلق من نفسه حتى تلصق في هذا الإناء أو في هذا الشراب فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. ثم إذا كان التنفس في أثناء الشرب فإنه يشبه الحيوان؛ لأن الحيوان -كثيراً منه- بتنفس وهو يشرب, وبعض الحيوان لا يتنفس وهو يشرب, إذا أراد التنفس رفع رأسه, فمن ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التنفس في الإناء. ولكن نقول: ما الذي يسن للإنسان في حال الشراب, هل يسن أن يكون بنفس واحد ونقول: لا تتنفس في الإناء بل تصبر حتى تروى ثم تتنفس بعد ذلك خارج الإناء؟ نقول: السنة للشارب أن يتنفس ثلاثاً وألا يعب الماء بنفس واحد, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ذلك أهنأ وأبرأ وأمرأ». يعني: التنفس ثلاثاً, وهذا فيما لا تقتضي الحال أن يتنفس فيه أكثر من ثلاثة, لأن بعض الأشربة تتطلب الحال أن يتنفس فيه أكثر من ثلاث مرات مثل الأشربة الحارة وكذلك الباردة الشديدة البرودة فإنه يتطلب أن تتنفس أكثر من ثلاث مرات؛ لأنك تأخذ الجرعة ثم تبقيها في فمك حتى تشبع قليلاً ثم تنزلها, لكن الشراب العادي يتنفس الإنسان فيه ثلاث مرات هذا هو السنة. يستفاد من هذا الحديث: أن الشريعة الإسلامية شاملة كاملة, شاملة لكل شيء ولهذا قال

رجل لسلمان الفارسي: «علمكم نبيكم حتى الخراءة» يعني: آداب الخراءة -التخلي- قال: «أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو عظيم». وقال أبو ذر: «ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وذكر لنا منه علماء». فالشريعة -والحمد لله- شاملة ومع شمولها كاملة تكمل جميع ما يتعلق بها. ومن فوائد الحديث: النهي عن التنفس في الإناء, وهل النهي للكراهة أو للتحريم؟ نقول: هو للكراهة إلا إذا أدى إلى إيذاء الغير كما لو كان هذا الشراب سيشرب من بعدك وأنك لو تنفست فيه لقدرته في نظر غيرك فحينئذ يكون النهي للتحريم من أجل الأذية وإلا فالأصل أنه للكراهة. ومن فوائد الحديث: أن السنة إذا أردت أن تتنفس أن تفصل الإناء عن فمك تبعده ما يكفي أن ترفع رأسك, والتنفس يمكن أن يصل للإناء لا بل افصله. 1011 - ولأبي داود: عن ابن عباس رضي الله عنه نحوه, وزاد: «أو ينفخ فيه» , وصححه الترمذي. أيضاً نهى عن النفخ في الإناء, لأن النفخ في الإناء ربما يصحبه أشياء مستقذرة تقذر هذا الشراب وربنا يصحبه جراثيم مرضية تكون سبباً لمرض من يشرب به من بعده. واختلف العلماء في هذه المسألة هل هو في كل شيء أو هو فيما لا يحتاج إلى نفخ, لأن من الأشربة ما يحتاج إلى نفخ, ككون الشراب حاراً وهو مستعجل لغرض ما أو ما أشبه ذلك, ولكن مع هذا نقول: إذا كان نفخه يوجب أن يستقذره من يشرب بعده فلا ينفخ, فما تقولون في نفخ المرأة لصبيها؟ هذا أيضاً لحاجة, ولكن إذا علم الإنسان من نفسه أن به مرضاً معدياً فإنه لا يضر غيره, والمسألة ليست إلا وقتاً فقط لأن الأشياء الحارة ستبرد فينتظر قليلاً. * * * *

5 - باب القسم بين الزوجات

5 - باب القسم بين الزوجات "القسم": جعل الشيء أقساماً هذا في الأصل تقول: قسمته أقسمه قسماً؛ أي: جعلته أقساماً, والمراد بهذا الباب: قسم الزمن بين الزوجتين فأكثر؛ أي: أن تجعل لهذه يوماً ولهذه يوماً أو لهذه يومين ولهذه يومين حسب ما يتفقان عليه. 1012 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل, ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك, فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». رواه الأربعة, وصححه ابن حبان والحاكم, ولكن رجح الترمذي إرساله. كان يقسم لنسائه؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل لهذه يوماً ولهذه يوماً للصغيرة والكبيرة منهن, فيقسم لسودة ويقسم لعائشة, عائشة صغيرة وسودة كبيرة, ولما أحست سودة بأنه سيطلقها وهبت يومها لعائشة وبقيت رضي الله عنها من أمهات المؤمنين. وقولها: «فيعدل» أي: يعدل بين نسائه في هذا القسم, فلا يميل إلى واحدة منهن, بل يسير سيراً عدلاً ليس فيه ميل لهذه, ويقول مع كونه يعدل: «اللهم هذا قسمي فيما أملك». يعني: من العدل, وهو يملك صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهذه يوماً ولهذه يوماً وكل إنسان يملك هذا, «فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني: لا تلحقني يا رب لوماً تعاقبني به, «فيما تملك ولا أملك» وهو الحب, فإن المحبة لا يملكها الإنسان وإنما الذي يملكها الله عز وجل, فالمحبة لا يمكن للإنسان أن يعدل فيها بين النساء, وذلك أن هذا شي يلقيه الله في قلب الإنسان ولا يمكنه أن يتخلص منه ولا يمكن أن يعدل بين النساء, وقد كان معروفاً عند نسائه وعند الصحابة أنه كان يحب عائشة أكثر من غيرها, حتى إنه سئل عن ذلك: «من أحب الرجال إليك» قال: «أبو بكر» , قيل: ومن النساء؟ قال: "عائشة". فهي أحب زوجاته إليه, وهن قد عرفن ذلك. أسباب المحبة: ولكن هل للمحبة أسباب؟ نعم لها أسباب, وللكراهة أسباب, فمن أسباب المحبة: إفشاء السلام بين المسلمين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا, ولا تؤمنوا حتى تحابوا, أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم».

ومن ذلك: الهدية, فقد جاء في الحديث: «تهادوا تحابوا» , ومن ذلك أيضاً: الإحسان إلى الناس بالمال أو بالجاه فإن هذا يجلب المحبة, ومن ذلك: الزيارات فإنها تجلب المحبة, ومن ذلك: عيادة المريض فإنها تجلب المحبة وهي أشد جلباً من الزيارات المعتادة, لأن المريض يفرح فرحاً عظيماً بمن يعوده فيجد في قلبه محبة له هذه أسباب, ولكن هذه الأسباب قد يكون لها موانع ليس كل سبب يؤثر ويُؤثر مفعوله قد يكون لها موانع, الموانع أما من الإنسان نفسه أو من الله عز وجل, بأن يلقي الله في قلب هذا الرجل عدم المحبة لشخص ولو كان يفشي السلام معه, ولو كان يهدي إليه, ولو كان يزوره, لأن هذا شيء من الله, ولهذا قال: «فيما تملك ولا أملك». هذه المسألة -مسألة المحبة- لا يمكن للإنسان أن يتحكم فيها, ولكن ما يتفرع عن المحبة وهو الجماع, هل يجب على الإنسان أن يعدل بين زوجاته في الجماع؟ يقول العلماء: إنه لا يجب؛ لأن الجماع يتبع المحبة, فإذا كان يحب واحدة أكثر من الأخرى فسوف تكون رغبته في جماعها أكثر من جماع الأخرى لاشك, وربما لا يميل إلى الأخرى من هذه الناحية إطلاقاً, لاسيما إذا كان ضعيف الشهوة, لأنه لا يتحمل أن يعطي هذه وهذه, فتجده يفرط كثيراً في حق الأخرى التي محبتها أقل من محبة الثانية, ولهذا قال العلماء: لا يجب العدل بين النساء في الجماع؛ لأن ذلك يتبع المحبة ولا طاقة للإنسان بالتحكم في المحبة, ولكن الصحيح في هذه المسألة أنه قد يمكن العدل في الجماع مثلاً إذا كان الإنسان يوفر نفسه للثانية ويتصدد ويعرض عن جماع الأولى, لأن بعض الناس يتصدد عن جماع إحدى الزوجتين, لأن الرغبة فيها قليلة ويقول بدلاً من أن أتعب نفسي في جماعها أجعل الجماع للأخرى فهذه لا أجامعها أبداً, وهذه أجامعها في الليلة مرتين, نقول: إذا كان الإنسان يتقصد هذا فإن ذلك حرام ولا يعارض هذا الحديث: «فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» لأن هذا ما يملكه, فإذا كان يوفر شهوته للأخرى فلا يجوز, وهذا الذي ذكره ابن القيم, في "زاد المعاد" هو الصحيح, فأما أن تقول: لا يجب العدل في الجماع على الإطلاق فهذا فيه نظر. في هذا الحديث فوائد منها: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم: حيث كان يقسم لنسائه ويعدل.

وفيه أيضًا أن المعاشرة التي تدوم هي المعاشرة المبنية على العدل, لأن الإنسان إذا جر وظلم وأجنف فإنه سيكون رد فعل من المظلوم الذي جير عليه, ويحصل بذلك النكد بين العائلة. واختلف العلماء هل القسم واجب على النبي صلى الله عليه وسلم أو هو تطوع منه؟ فقال بعضهم: إنه واجب عليه, لعموم الأدلة الدالة على وجوب القسم بين الزوجات, والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم داخل في عموم خطابه, وقال بعض العلماء: لا يجب لقوله تعالى: {ترجى من تشاء منهن وتأوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} [الأحزاب: 51]. فقال: إن الله خيره قال: {ترجى} {تأوي} , {ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح} يعني لا جناح أن ترجع عن الأولى التي عزلتها, والذي يظهر أن الله خيره, لكنه اختار الأكمل وهو القسم, ولهذا كان في مرض موته يتنقل بين زوجاته ويقول: أين أنا غدا؟ ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم جعل القسم في حقه غير واجب لاختار من يختار من نسائه بدون أن ينتظر يومها, ولما علمت نساؤه أنه يريد عائشة أذن له أن يمرض في بيتها, رضي الله عنهن وجزاهن عنه وعنا خيراً, فأذن له فصار صلى الله عليه وسلم عند عائشة ومات في يومها, صادف موته في اليوم الذي هو يومها وفي بيتها وفي حجرها, وآخر ما طعم النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا ريقها رضي الله عنها لأن أخاها عبد الرحمن دخل والنبي صلى الله عليه وسلم في سياق الموت وكان معه سواك فمد النبي صلى الله عليه وسلم إليه بصره, قالت: فعرفت أنه يريد السواك, وكانت قد حضنته على صدرها فقلت: آخذه لك يا رسول الله؟ فأشار برأسه يعني: خذيه, فأخذته وقضمته, يعني: قطعت منه ما كان متلوثاً من قبل حتى طيبته ثم أعطته النبي صلى الله عليه وسلم فأستاك به, قالت: فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم تسوك سواكاً أحسن منه, وهذا من رحمة الله به عز وجل أن خرج من الدنيا وهو على أكمل ما يكون من طيب الرائحة لأن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب, فكانت عائشة تفتخر بنعمة الله علها في هذه المناسبة أن الرسول مات وهو بين حاقنتها وذاقنتها وهي مستندة إلى صدرها ومات في يومها وفي بيتها, وأخر ما طعم من الدنيا ريقها رضي الله عنها. ومن فوائد الحديث: أن ما لا يملكه الإنسان لا يلام عليه, لقوله: «فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» , ولكن ربما ينازعنا منازع في أخذ هذه الفائدة, ويقول أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أن الله لا يلومه ولو كان غير مكلف به ما احتاج إلى الدعاء, ولكننا نقول إنه قال ذلك وإن كان محققاً فإن

تحريم الميل إلي إحدى الزوجتين

المحقق قد يدعي لوجوده لتحقيقه وتثبيته، فها نحن الآن نقول: "اللَّهمَّ صل على محمَّد"، والله يقول في كتابه: {إن الله وملائكته يصلُّون على النبي} [الأحزاب: 56]. إذن فالصلاة عليه محققة، سواء دعونا أم لم ندع، ولكن هذا من باب زيادة التحقيق، فيكون قوله: "لا تلمني فيما تملك ولا أملك" مع أن الإنسان غير ملوم عليه من باب التحقيق، تحقيق ما أثبته الله عز وجل للعبد. ومن فوائد الحديث: أن المحبة لا يمكن للإنسان أن يتحكم فيها؛ لقوله: "فيما تملك ولا أملك". ومن فوائد الحديث: أن ما كان ناشئًا عن المحبة من عدم العدل، فإن الإنسان لا يلام عليه، فمثلاً الإنسان إذا كان يحب إحدى الزوجتين أكثر من الأخرى فإنه لا شك يرتاح للمحبوبة عنده أكثر من الأولي حتى في المخاطبة والمكالمة والمداعبة وغير ذلك؛ ولهذا تجد الأخرى التَّي يبغضها إذا تكلمت كأنما تضربه بالسهام، والأخرى كأنما تلعقه العسل، يرتاح للثانية، هذا من الأشياء الَّتي لا يملكها الإنسان. أما مسألة الجماع فقد عرفتم، وأن المذهب لا يجب العدل بين النساء فيه حتىَّ لو أن الإنسان تعمَّد ألا يجامع هذه في ليلتها ثم جامع الأخرى فلا إثم عليه ولكن الصحيح ما حرره ابن القيم رحمه الله أن الجماع الَّذي بوسعه يجب عليه العدل فيه. تحريم الميل إلي إحدى الزوجتين: 1013 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له امرأتان، فمال إلي إحداهما دون الأخرى، جاء يوم القيامة وشقُّه مائل". رواه أحمد والأربعة، وسنده صحيح. "من" هنا شرطية، وفعل الشرط قوله: "كانت"، وجواب الشرط قوله: "جاء"، وقوله: "جاء يوم القيامة"، "يوم" ظرف، والفاعل مستتر في قوله: "جاء"، وقوله: "شقه مائل" "الشق": الجنب، والجملة هنا حالية من فاعل جاء؛ يعني: جاء والحال أن شقه مائل، وقوله: "امرأتان" أي: زوجتان. ففي هذا الحديث يُحَذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الميل لإحدى الزوجات دون الأخرى فيقول: "من كانت ... إلخ"، وقوله: "مال" يعني: الميل الذي يلام عليه، وليس الميل الذي لا يستطيعه لقول الله تعالي: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل} [النساء: 129].

مسألة: كيف يكون العدل بين الزوجات؟

فقوله: "مال إلي إحداهما" أي: ميلاً يلام عليه، جاء يوم المحشر- محشر الناس- وهو مائل الشق، سيصنع به ذلك عند القيامة. ففي هذا الحديث من الفوائد: التحذير من الميل إلي إحدى النساء؛ لقوله: "فمال إلي إحداهما". ومن فوائده: وجوب العدل بين الزوجتين فأكثر، ووجه الوجوب: الوعيد على تركه؛ لأن من علامات الوجوب الأمر، وإذا توعد على ترك الشيء دل هذا على وجوبه؛ لأنه لا وعيد إلا على فعل محرم. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات البعث لقوله: "جاء يوم القيامة". ومن فوائده: أن الجزاء من جنس العمل؛ لأنه لما مال عن العدل في الدنيا جاء يوم القيامة وشقه مائل جزاء وفاقًا. مسألة: كيف يكون العدل بين الزوجات؟ فإذا قال قائل: بماذا يكون العدل واختلف العلماء- رحمهم الله- في ذلك فمنهم من قال: إن العدل واجب في الواجب، ومنهم من قال: إنه واجب في الواجب والمستحب والمباح؛ فالذين قالوا: إنه واجب في الواجب، قالوا: إنه يجب أن يعدل بين الزوجات في النفقة الواجبة وما زاد علي ذلك فلا يجب فيه العدل، فإذا أعطي كل واحدة منهما كفايتها من مأكل ومشرب وملبس ومسكن فله أن يعطي الأخرى أكثر من ذلك، وبناء على هذا لو أنه أعطي كل واحدة منهما الواجب عليه من النفقة ثم أعطي إحداهما من الحلي والدراهم والأواني والفرش ما لا يعطي الثانية، فهو على هذا القول عادل وليس بآثٍم؛ وذلك لأنه قام بالواجب وما زاد فنفل، والنفل فضل ولا أحد يمنع الفضل. والقول الثاني في المسألة: أن العدل واجب في الواجب والمستحب والمباح في كل شيء كل ما يقدر عليه، وعليه فإنه لا يجوز أن يخص إحدى الزوجتين بزائد عن الأخرى ولو كان قد قام بواجبها في النفقة؛ لأن كل أحد يعرف أن هذا ميل لو كان إحداهما أعطاها ما يلزم من النفقة والأخرى أنزلها في قصر مشيد وأتي إليها بجميع أنواع الذهب والجوهر وأركبها سيارة فخمة، وجاء لها بخادم وخادمة والثانية جعلها في كوخ يصح لمثلها فهو على القول الراجح آثم ومائل بلا شك. ومن العدل على القول الراجح أن يعدل بينهما في المخاطبة، لاسيما إذا كان يخاطبها بحضرة كل واحدة، فلا يجوز أن يخاطب الأولي بعنف والثانية برفق لأن هذا خلاف العدل؛ ولأنه يكسر قلب المفضل عليها، ومن العدل أيضًا بينهما العدل في القسم، كما سيأتي إن شاء الله

القسم للبكر والفرق بينهما وبين الثيب عند الزواج

فإن قال قائل: إذا كانت إحداهما ثخينة وطويلة والأخرى بالعكس، ثوب الأخيرة بعشرة ثوب الأولي بعشرين هل يلزمه أن يعطي الأولي ذات الثوب القصير ما زاد على ثوبها؟ لا، بل وأعطاها كان جائرًا، ولهذا لو قالت صغيرة الجسم: أنت اشتريت لفلانة ثوبًا بخمسين اشتريت لي ثوبًا بثلاثين فأريد منك عشرين، يقول لها: كوني مثلها وأعطيك مثلها هذا هو العدل، إذن العدل في كفاية ما يكفي كل واحدة، وفيما زاد عليها على الكفاية يعطي كل واحدة مثل ما يعطي الأخرى كالدراهم والأواني وشبهها، أما الثياب فمعروف أن كل واحدة على قدرها. ومن فوائد الحديث: أن عدم العدل بين الزوجات من كبائر الذنوب، الدليل أن عليه وعيدًا في الآخرة، وكل ذنب فيه وعيد في الآخرة فإنه من كبائر الذنوب. القسم للبكر والفرق بينهما وبين الثَّيب عند الزواج: 1014 - وعن أنس رضي الله عنه قال: "من السُّنَّة إذا تزوَّج الرَّجل البكر على الثَّيِّب أقام عندها سبعًا ثمَّ قسم، وإذا تزوَّج الثَّيِّب أقام عندها ثلاثًا ثمَّ قسم". متَّفق عليه، واللَّفظ للبخاريِّ. سنة من؟ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قال الصحابي: من السُّنة فإنه يريد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابي لا يقول: "من السنَّة" إلا في مقام الاستدلال على الحكم، ولا دليل في الأحكام إلا قول الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن قال التابعي: "من السنَّة" فهل يراد بذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أو سنة الخليفة الذي جاء به؟ في هذا قولان لأهل العلم؛ فمنهم من قال: إن المراد بقول التابعي: "من السنة" سنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، وعلي هذا القول يكون الحديث مرسلاً؛ لماذا؟ لأن التابعي لم يدرك النَّبي صلى الله عليه وسلم إنما أدرك الصحابة، ومنهم من قال: بل إذا قال التابعي: "من السنَّة" فيعني بذلك سنة من أدركه من الخلفاء، وعلى هذا فيكون قوله موقوفًا. والخلاصة: أنه إذا قال الصحابي: "من السنَّة" فالمراد بها: سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون له حكم الرفع، وإذا قال التابعي: "من السنَّة" فللعلماء في ذلك قولان أحدهما مرفوع حكمًا كقول الصحابي، وعلى هذا يكون هذا الحديث مرسلاً لسقوط الصحابي منه، ومنهم من قال: بل المراد بالسنة: سنة الخليفة الذي كان في عهده، وعلى هذا فيكون موقوفًا، إذن هل يكون حجة؟ نقول: إذا قلنا: إنه في حكم الرفع لم يكن حجة لعدم اتصال السند، وإذا قلنا: إنه موقوف، فإن قلنا: إن قول الصحابي حجة فهو حجة، وإن قلنا: إنه ليس بحجة فليس بحجة،

والحديث الذي معنا "من السنة" القائل صحابي هو أنس، ويقول أبو قلابة: لو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه؛ أي: رفعًا صريحًا، وقوله: "من السنَّة" المراد بـ"السنة": الطريقة، وليس المراد بـ"السنة": ما يقابل الواجب؛ لأن هذا المعنى-أعني: أن السنة ما يقابل الواجب- إنما هو اصطلاح للأصوليين، أما إذا قال الصحابة: من السنة فإنه يشمل الواجب والمستحب، وإذا كان كذلك فلننظر هل هذا القسم الابتدائي واجب أو سنة؟ سيأتينا- إن شاء الله- أنه واجب. وقوله: "إذا تزوج الرجل البكر على الثيِّب أقام سبعًا"، وإن تزوج بكرًا على بكر؟ يمكن أن يعقد على امرأة ولا يدخل عليها وهي بكر ويبقي عندها لا يجامعها ثم يتزوج أخري فيكون قد تزوج بكرًا على بكر، والظاهر أن الحكم واحد، وأن قول الرسول ضلي الله عليه وسلم: "إذا تزوج البكر على الثَّيب"، من باب الأغلب، "أقام عندها سبعًا" لماذا لم نقل سبعة؟ لأن سبعًا لليالي وسبعة للأيام، والعمدة في القسم بين الزوجات هي الليالي إلا لمن معيشته في الليل كالحارس، فالعمدة النهار، وإذا تزوج الثيب على من؟ على ثيب أو على بكر أقام عندها ثلاثًا ثم قسم، وهذا القسم واجب ما لم تسقطه المرأة فإن أسقطته فالحق لها. وإنما فرق النَّبي صلى الله عليه وسلم بين الثيَّب والبكر لوجهين: الوجه الأول: أن رغبة الإنسان بالبكر أقوى من رغبته بالثيِّب، فجعل له النَّبي صلى الله عليه وسلم مهلة أوسع ليتمتع بها ويقضي نهمته منها بخلاف الثيَّب فهي دون ذلك. الثاني: أن هذا أرأف بالمرأة؛ لماذا؟ لأن البكر عادة تستوحش-تخجل- فتحتاج إلي تمرين وإلي مدة أكثر حتَّى تستأنس بالرجل وتميل إليه، وهذا هو الغالب في الأبكار، وإن كان من الأبكار من عندهن من السعة وعدم الخجل أكثر مما عند الثيَّب، لكن الغالب أن البكر تكون ذات خجل وتحتاج إلي من يؤنسها ويطيل البقاء عندها؛ فلهذا جعل النَّبي صلى الله عليه وسلم لها، "سبع ليال"، إذا دخل بالليل، واضح السبع الليال، ينتهي القسم في آخر اليوم السابع، لكن إذا دخل عليها في النهار فهل نقول: إنه في هذه الحال جعل الليل تبعًا وينتهي القسم في صباح الثامن، أو نقول: إن النهار تابع لليل وأن دخوله بها في النهار وهذا هو الأقرب؛ لأن الليل هو محل الأنس وإزالة الوحشة. وإذا تزوج الثيِّب أقام عندها ثلاثًا"، من الثيَّب؟ الثيب هي التَّي قد تزوجت وجامعها زوجها ولو تزوج بكرين علي ثيَّب. إنسان عنده بنت وعنده بنت أخ وعقد على ابنته وبنت أخيه

لشخص واحد في عقد واحد، نقول لكل واحدة نصيبها هذه سبع، وإذا انتهت جاء دور الثانية، وهو أيضًا سبع، ثم عاد إلي القسم، إذا كان العقد واحدًا يقدم بقرعة، وإن كان أحد العقدين سابقًا فهو الأسبق. يستفاد من هذا الحديث: وجوب القسم الابتدائي، وقولنا: الابتدائي؛ احترازًا من الاستمراري؛ لأن الاستمراري يوم فيوم؛ لقوله: "من السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا ثمَّ قسم". فإن قال قائل: إن قول الصحابي: "من السنة" يشمل الواجب والمستحب، فما الذَّي جعلنا نحمله على أن المراد بذلك الواجب؟ الجواب أن نقول: لولا أنه يملك هذا السبع وأنها تجب ما حلت؛ لأن بهذه السبع ميل إلي المرأة الجديدة، والميل حرام، ولا يستباح الحرام إلا بواجب، وإلا هذا الإيراد يرد على أي إنسان، ولهذا قال العلماء: إن الختان واجب، واستدل بأنه لا يمكن أن ينتهك الآدمي ويقطع شيء من جلده إلا لواجب؛ لأن العدوان عليه علي هذا الوجه حرام، ولا يستباح الحرام إلا بواجب. ومن فوائد الحديث: التفريق بين البكر والثيَّب وهو ظاهر. ومن فوائد الحديث: أن الأوصاف لها تأثير في الحكم بحيث ينزل كل إنسان منزلته، وجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق بين البكر والثيَّب فأعطي للبكر سبعًا وأعطي للثيب ثلاثًا. فإن قال قائل: لماذا لم يجعل للبكر أكثر من ذلك؟ نقول: لما في هذا من الإضرار على الأخريات والبعد عنهن ربما يحمله على الجفاء، والأيام السبعة هي أيام الأسبوع، وبها يطيب قلبه وتنتهي نهمته. فإن قال قائل: لماذا لم يجعل خمسة أيام مثلاً. نقول: لأن ما نقص عن السبعة قد لا تحصل به كمال العشرة، فلهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم المدة أسبوعًا كاملاً لتمر أيام الدنيا كلها سبعة أيام. ومن فوائد الحديث: أن من تميز على غيره بوصف أعطي ما يقتضيه ذلك الوصف، ولا

يعد هذا من الجور، وهذا يظهر بالمثال: لو كان لك أولاد، فإنه من المعلوم أنه يجب عليك العدل بينهم في العطية، فإذا كان أحدهم متميزًا بطلب علم أو بكثرة أولاد فلك أن تفضله عليهم مراعاة للوصف المستحق لهذا، ومن ذلك أيضًا إذا كان أحدهم فقيرًا فإنك تعطيه أكثر ما تعطي الغني لدفع حاجته. 1015 - وعن أمِّ سلمه رضي الله عنه، "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا تزوَّجها أقام عندها ثلاثًا، وقال: إنَّه ليس بك علي أهلك هوان، إن شئت سبَّعت لك، وإن سبَّعت لك سبَّعت لنسائي". رواه مسلم. أم سلمه تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي سلمه، وقصتها مشهورة بأنها رضي الله عنها لما توفي زوجها وكان ابن عمها، وكان من أحب الناس إليها، قالت ما أرشد إليه النَّبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهمَّ آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها"، وكانت تقول في نفسها: من خير من أبي سلمه؟ لا تريد بهذا استبعاد ما أخبر به النَّبي صلى الله عليه وسلم، لكن تدور في فكرها من خير منه؟ أبو بكر، عمر، فلان، فلان، فجاء من هو خير من أبي سلمه وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فخطبها وكانت ثيبًا كسائر نسائه، كل نساء النَّبي صلى الله عليه وسلم ثيبات إلا واحدة فقط وهي عائشة رضي الله عنها، فتزوجها وأقام عندها ثلاثًا؛ لأنها ثيَّب، والسنة إذا تزوج الثيَّب أن يقيم عندها ثلاثًا ثم يقسم، ثم قال لها: "إنه ليس بك على أهلك هوان"، "على أهلك" يريد نفسه- عليه الصلاة والسلام-، "هوان" يعني: هونًا ولطفًا، بل أنت عندهم عزيزة غالية، فإذا قسمت بعد الثلاث فليس هذا عن هوان عليك، ولكن لأن هذا هو الحق، ثم قال: "إن شئت سبَّعت لك، وإن سبَّعت لك سبعت لنسائي"، أي: جعلت لك سبعًا، "وإن سبعت لك سبعت لنسائي" جعلت لهن سبعًا، وهذا الحديث واضح المعني. وهذا الحديث زاد على الحديث الأول بمسألة وهي تخيير المرأة أن يبقي عندها سبعًا أو يقسم لنسائه بعد الثلاثة، ففي هذا الحديث من الفوائد ما ساقه المؤلف من أجله وهو إذا أقام عند الثيَّب ثلاثًا خيَّرها. ومن فوائده: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أعتذر لأم سلمه، فينبغي لنا أن نتأسى به إذا عملنا عملاً واجبًا لا يرضى به قبيلنا فالأولى أن نعتذر. ومن فوائده: أن الإنسان لا يحابي أحدًا في أمر الواجب، ولكن يعتذر منه عن نفسه في تطبيق الأمر الواجب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحاب أم سلمه ولكنه بين لها الواجب واعتذر.

ومن فوائد الحديث: أنه كما تكون الزوجة أهلاً فإن الزوج يكون أهلاً، والدليل على أن الزوجة تكون أهلاً قوله- سبحانه وتعالي-: {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلاَّ أمرأتك} [هود: 81]. فالزوجة من الأهل لا شك، وكذلك الزوج أهل لزوجته. ومن فوائد الحديث: أنه إذا اختارت الثيَّب أن يتمم لها سبعة أيام فليسبع لنسائه، فإذا قدرنا أن عنده ثلاث نسوة وتزوج الرابعة واختارت أن يسبع لها فمتى يرجع إليها؟ بعد واحد وعشرين يومًا؛ لأنه إذا سبَّع لها سبَّع لنسائه، وأظن أن المرأة لا تختار مثل هذا، اللهم إلا إذا كانت عادة حيضها قد قربت فهذه ربما تختار السبع من أجل أن يغيب الزوج عنها في أيام حيضها، أما إذا كانت المسألة سليمة فلا أظن امرأة تختار أن يبقي زوجها غائبًا عنها لمدة سبعة أيام من أجل أربعة أيام تكتسبها، لكن على كل حال الأمر إليها. وهنا سؤال: هل هذا التخيير على وجوب أو راجع إلى إرادته؟ الظاهر الثاني، أنه راجع لإرادة الزوج؛ لأن هذا مجرد فعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل في الفعل المجرد عدم الوجوب، وعلى هذا فقد يكون الزوج لا يختار أن يبقى عند هذه الزوجة سبعة أيام ويغيب عند زوجاته الأخريات أربعة أيام مثلاً؛ إذن فالتخيير ليس بواجب. سؤال آخر: إذا قال قائل: في تمديد المدة إلى سبعة أيام إضرار على النساء الأخريات فهل يحتاج إلى مشاورتهن بأن يقول لهن: أنتن لكن القسم من الليلة الرَّابعة ولكن هل تأذن أن أبقي عندها سبعًا ويكون ابتداء القسم من الليلة الثامنة أو لا يجب عليه؟ ظاهر الحديث أنه لا يجب ولكن هذا الهضم من حق النساء جبر بأن أعطين سبعًا كاملة وإلا فمقتضى بادي الرأي أنه إذا سبَّع لها ربَّع لنسائه؛ لماذا؟ لأن ثلاثة أيام من حقها ولكن جبر عدم استئذانهن وبقاؤه عندها سبعة أيام بزيادة أربعة أيام عن الواجب جبر هذا بزيادة حصتهن بأن جعل لكل واحدة سبعة أيام وهذا من العدل؛ لأنه قد يقول قائل: لماذا يسبَّع لنسائه وهو لم يزد الجديدة إلا أربعة أيام أفلا يكون مقتضى العدل أن يجعل للأخريات أربعة أيام نقول هذا هو العدل في بادي الرأي لكن عند التأمل يتبين أن العدل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم كيف؟ لأنه لما هضمهن بعض الحق في تطويل المدة- مدة الغيبة عنهن- جبر ذلك بزيادة القضاء لهن حيث جعلهن على سبعة أيام.

جواز تنازل المرأة عن حقها في القسم لأخرى

خلاصة الحديثين: أن من تزوج بكرًا على ثيِّب أقام عندها سبعًا، ومن تزوج ثيبًا على بكر أو على ثيب أقام عندها ثلاثًا، وأنَّ له أن يخيرها بأن يسبع لها ويسبَّع لنسائه وإلا اقتصرت على الثلاث. وفي هذا الحديث من الفوائد: إخبار الإنسان بالأمر الواقع؛ لأنه قال: "إن سبَّعت لك سبَّعت لنسائي"، فأخبرها بالصراحة ولم يجعل الأمر عائمًا بل بينه ووضحه، وهكذا ينبغي للإنسان في جميع أموره أن يكون بينًا صريحًا، ألم تعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان إن صدقًا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذَّبًا وكتما محقت بركة بيعهما". جواز تنازل المرأة عن حقها في القسم لأخرى: 1016 - وعن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ سوده بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سوده". متفق عليه. سوده بنت زمعة من كبريات نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد خديجة فهي زوجته الثانية، وقيل: تزوج عائشة بعد خديجة ولم يدخل بها إلا في المدينة فتكون سوده الزوجة الثالثة، لكنها هي رضي الله عنها من كبريات النساء لما رأت أنها كبرت سنها فكرت بعقلها الراسخ الكبير أن تتنازل عن حقها من القسم وأن يكون تنازلها لأحب نسائه إليه فوهبته لعائشة رضي الله عنها، فكان النبي صلي الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سوده؛ أي: يكون لعائشة يومان ولبقية النساء يوم، كم يغيب عن عائشة؟ سبعة أيام، وقيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هم بطلاق سوده، فكلمته، وقالت له: أنا يا رسول الله أبقي زوجة لك وأهب يومي لعائشة، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم، وسواء كان الأمر كذلك أو كان الأمر من ذات سوده رضي الله عنها إنما الحكم أنه يجوز للمرأة أن تتنازل عن حقها من القسم لامرأة معينة من نسائه. يستفاد من هذا الحديث فوائد: أولاً: جواز تنازل المرأة عن حقها في القسم، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر سوده على ذلك، ولو كان هذا ممنوعًا لما قبل الرسول صلي الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أن الإبراء يصح بلفظ الهبة، يؤخذ من أنها وهبت يومها، وهذا ليس

هبة في الحقيقة، ولكنه إبراء من واجب القسم، وعلى هذا فلو قلت لمدينك الذَّي تطلبه: قد وهبت لك دينك فإنه يصح ويبرأ بذلك. ومن فوائد الحديث: بيان كمال عقل سوده رضي الله عنها؛ حيث تنازلت عن حقها من القسم لتبقي من أمهات المؤمنين. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أن المرأة إذا طلقها النبَّي صلى الله عليه وسلم لم تكن من أمهات المؤمنين وهو كذلك، فالمرأة التَّي استعاذت من الرسول صلى الله عليه وسلم حين دخل عليها وأعاذها ليست من أمهات المؤمنين؛ لأنها طلِّقت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز أن تتنازل المرأة عن حقها لامرأة معينة، يؤخذ من أن سوده وهبت يومها لعائشة، فهل يصح أن تتنازل عنه لإحدى نسائه مبهمة؟ الظاهر الصحة، وعلى هذا فإذا لم تعيَّن امرأة فللزوج أن يجعله لإحدى نسائه، وللزوج أن يجعله مشاعًا بين نسائه، أما إذا قالت: اجعله لإحدى نسائك، فيحتمل أن يكون كما قلنا أنه مخير، ويحتمل أن يجعله مشاعًا، وعلى هذا فإننا نعود في حكم هذه المسألة فنقول: إذا تنازلت الزوجة لامرأة معينة من الزوجات تعَّين صرفه إليها، وإذا تنازلت لإحدى نسائه فإن له الحق أن يعين من شاء؛ لأنه مبهم وإذا تنازلت عنه مطلقًا فإنه يكون مشاعًا بين الزوجات. الأول واضح مثال ذلك: لو قال زوجته هند: وهبت يومي لضرتي زينب يكون لزينب، ولا يجوز أن يقسمه لغيرها، وقالت زوجته هند: وهبت يومي لإحدى نسائك اختر من شئت، فهنا يجعله لمن يشاء وله أن يجعله مشاعًا. الصورة الثّالثة: أن تتنازل عن حقها لغير أحد فله أن يجعله مشاعًا، بل قد نقول: يتعين أن يجعله مشاعًا، لكن كلمة "مشاعًا" ما معناها؟ مشتركًا، فمثلاً إذا كان عنده أربع نسوة فإن حق كل واحدة ليلة من أربع، فإذا تنازلت عنه لغير معينة ولا مبهمة فإنه يكون مشاعًا، ويكون القسم دائرًا على ثلاثة فيغيب عن كل واحدة من الثلاث ليلتين، وإذا كان لواحدة معينة من الثلاث صار يأتي المعينة مرتين ويأتي الثانية والثالثة على مرة مرة ويغيب عن الثانية والثالثة ثلاث ليال، هذا هو الفرق.

حسن معاشرة الأزواج

حسن معاشرة الأزواج: 1017 - وعن عروة قال: "قالت عائشة رضي الله عنها: يا ابن أختي، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضِّل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كلِّ امرأة من غير مسيس، حتَّى يبلغ التَّي هو يومها فيبيت عندها". رواه أحمد، وأبو داود واللَّفظ له، وصحَّحه الحاكم. قال: "عن عروة رضي الله عنه"، والمعروف في اصطلاح العلماء أن الترضي يكون عن الصحابة- رضي الله عنهم-، أما عن غير الصحابة فيقال: رحمه الله وعروة ليس من الصحابة فهو أحد الفقهاء السبعة الذين أشار إليهم الناظم: إذا قيل من في العلم سبعة أبحٍر ... روايتهم ليست عن العلم قاصرة فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجة سبعة من التابعين اشتهروا بالفقه، وأطلق عليهم لقب الفقهاء السبعة، وهؤلاء المذكورون في ألفية العراقي في المصطلح وشرحه على خلاف بين العلماء في تعيين هؤلاء، لكن أكثرهم متفق عليه، قال: "قالت عائشة: يا ابن أختي ... إلخ" من أختها؟ أسماء بنت أبي بكر- رضى الله عنها وعن أبيها-، تقول: "كان لا يفضِّل بعضنا على بعض في القسم"، وسبق لنا هل القسم واجب عليه أو ليس بواجب، ولكنه لكمال خلقه ألزم نفسه بذلك؟ على قولين. ثم قالت: "كل يوم ... إلخ " أي: يزور نساءه بعد صلاة العصر، وإنما كان يزورهن من أجل إبقاء المودة بينهن؛ لأنه لو لم يزر واحدة منهن إلا في يومها لغاب عنها ثمانية أيام أو سبعة بعد هبة سوده يومها لعائشة، وهذا قد يحدث جفوة بينهن وبين النبي صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم بينهن يحصل به فائدة شرعية من تعليم أو تذكير أو ما أشبه ذلك. وثالثًا: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم يريد أن ينفعهن بقربه منهن، فإن من الكسب العظيم أن يكون النَّبي صلى الله عليه وسلم في بيت امرأة منهن؛ فلأجل هذه الحكم كان النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يدعهن كل يوم بعد صلاة العصر، ولكنها تقول: "من غير مسيس" يعني: من غير جماع، ولكنه يدنو فيقبِّل ويلمس وما أشبه ذلك أما الجماع فلا، "حتى يبلغ التي هي يومها فيبيت عندها"، تكون البيتوتة عند من لها اليوم فيبيت عند عائشة بعد هبة سوده ليلتين ويدور عليهن كل يوم.

ففي هذا الحديث فوائد: منها: حسن خلق النَّبي صلي الله عليه وسلم ومعاملته لأهله، وقد قال صلى الله عليه وسلم حاثًا أمته على أن يكونوا لأهلهم خيرًا: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، ومن تدبر سيرته في معاملته لأهله وجد أن هذا منطبق تمامً على حاله. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا بحيث يكون مع أهله لينًا هينًا أليفًا لا يبعد عنهم. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز لمن له عدة زوجات أن يمر عليهن كل يوم، وأن ذلك لا يعد جورًا في القسم لفعله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقوم الناس عدلاً ومع ذلك كان يدور على نسائه. ومنها: أنه كلما قرب الإنسان من أهله ازدادت المودة بينهم والألفة، وهذا أمر مشاهد، وكلما بعد فإنها قد تحصل الجفوة. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجامع المرأة الَّتي ليس في يومها لقولها: "من غير مسيس"، وكما قلنا: إن المسيس هو الجماع. ومن فوائد الحديث: أن عماد القسم المبيت؛ يعني: الليل لقولها: "حتى يبلغ التي هي يومها فيبيت عندها" وهو كذلك فإن عماد القسم الليل، قال العلماء: ويستثنى من ذلك ما إذا كان معاش الرجل في الليل فإنه يكون عماده النهار مثل من معاشه الليل كالحارس وكالجنود الآن فإنهم يكونون بالنوبات. ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم على كثرة مشاغله وأنه إمام الأمة وسلطانها وحاكمها لا يهمل حق أهله؛ حيث يدور على تسع نسوة أو ثمان نسوة في كل يوم، وهذا لا شك أنه مما يجعله الله- سبحانه وتعالى- من البركة في عمر الإنسان، فإن كثيرًا من الناس يضيع عليه الوقت وإذا حاسب نفسه عند النوم وجد أنه لم يعمل شيئًا، وبعض الناس يبارك الله له في يومه وفي عمره، فإذا حاسب نفسه عند النوم وجد أنه عمل وعمل. فإذا قيل: ما هو السبيل الذي يجعل أوقاتنا مباركة؟ قلنا: ذكر الله ودليل ذلك قول الله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا} [الكهف: 28]. فالإنسان إذا أعرض عن ذكر الله واتبع هواه نزع البركة من عمره- والعياذ بالله- لكنه إذا كان دائمًا متعلقًا بربه دائمًا يذكر الله بقلبه، إن لم يذكره بلسانه ذكره بقلبه، إن لم يذكره بجوارحه ذكره بقلبه، فهذا هو الَّذي يبارك الله له في عمره.

وليعلم أن الإنسان يمكن أن يحول كل أفعاله ذكرًا لله؛ يعني: لا يتكلم إلا وهو يحتسب أجره على الله ولا يكف عن شيء إلا ويحتسب أجره على الله، ولا يعمل شيئًا حتىَّ يحتسب أجره على الله، حتى قال النَّبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتَّى ما تجعله في فم امرأتك"، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا أنفق على نفسه فهو صدقة، فالموفق- وأسال الله أن يجعلني وإياكم منهم- يستطيع أن يحول العادات والشهوات عبادات وحينئذ يكون ذاكرًا لله فإذا أردت أن يبارك الله لك في عمرك وفي زمنك فعليك بذكر الله {الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} [آل عمران: 191]. ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس ذكرًا لله وأكثرهم ذكرًا لله؛ ولهذا بارك الله له في عمره وفي عمله في قوله وفي فعله. 1018 - ولمسلم: عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى العصر دار على نسائه، ثم يدنو منهن". الحديث. "الحديث" بالنصب؛ يعني: أكمل الحديث فهو مفعول لفعل محذوف تقديره: أكمل، أو اقرأ. 1019 - وعن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الَّذي مات فيه: أين أنا غدًا؟ يريد: يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة". متًّفق عليه. وصدقت رضي الله عنها؛ لأننا نعلم من عدل النبي صلى الله عليه وسلم الذي ألزمه الله به أو ألزم به نفسه أنه لن يكون عند عائشة وحدها دون رضا زوجاته؛ ولهذا كان في مرضه يقول: أين أنا غدًا؟ يشير إلى أنه يرغب أن يكون عند عائشة، ولما رأين هواه صلى الله عليه وسلم أذن له أن يكون عند عائشة، فكان عندها ومات في بيتها وفي يومها وفي حجرها، وآخر ما طعم من الدنيا ريقها، وهذه مناقب لعائشة رضي الله عنها؛ لأنه من المصادفات الَّتي أرادها الله عز وجل ليست صدفة في حق الله أنه مات في اليوم الذي هو يومها لا في يوم امرأة أخري، لأنه لو كان في يوم امرأة أخري لاختلف الزمان والمكان بالنسبة لعائشة، لا كان المكان مكانها والزمان ليس لها بل لغيرها، لكن الله عز وجل جعل الزمان والمكان لعائشة رضي الله عنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يكون عند عائشة. ففي هذا الحديث من الفوائد: أولاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر يعتريه ما يعتري البشر، وجهه: أنه مرض، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم أنسي كما تنسون"، وكان يصيبه المرض، ويحتاج إلي النوم والأكل والتدفئة، ويحتاج إلى الدروع التي يتقي بها السهام، فهو بالنسبة للطبيعة البشرية كغيره من البشر: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي} [الكهف: 110].

وفيه: رد على ما يروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه لا ظل له، يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يمشي في النهار في الشمس ولا يكون له ظل، لماذا؟ لأنه نور، وبناء على ذلك يكون في الليل كأنه شمعة يمشي في السوق، ولعمر الله إنه لشمعة لكن ليست شمعة النور المادي الحسي لكنه شمعة النور المعنوي الذي يسعد به الناس في دنياهم وأخراهم، فهذا الحديث الذي يروي باطل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر جسمه كثيف يحجب النور، وليس جسمه مادة نور بل كسائر الأجسام. ومن فوائد الحديث: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مات موتًا حقيقيًا لقولها: "مرضه الَّذي مات فيه" وهذا نص القرآن: {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر: 30]. {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون} [الأنبياء: 34]. {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قيل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمران: 144]. وفي هذا إبطال لما يدعيه بعض الجهال الذين يصنعون المولد في شهر ربيع الأول، ثم يجتمعون على ذكر مشروع وغير مشروع، ثم يقومون قيام رجل واحد يقولون: وعليك السلام مرحبًا بالحضرة النبوية، ويدَّعون أنه حضر، وهذا لا شك أنه من الشيطان إن كانوا يرون شيئًا فهو شيطان. وقد يقول قائل: كيف يتصور الشيطان بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ نقول: خيِّل إليهم أنه النَّبي ولكنه ليس على صفة النَّبي، الشيطان لا يستطيع أن يتصور بصورة النَّبي صلى الله عليه وسلم لا في اليقظة ولا في المنام، لكنهم يخيَّل إليهم هذا فيفعلون ذلك، هذا يتبين به ضلال هؤلاء ضلالهم دينًا وسفههم عقلاً. فإن قال قائل: كيف تقولون إنه ميت والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، والأنبياء أعلى مقامًا من الشهداء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قمة المقام بالنسبة للأنبياء؟ فالجواب أن نقول: إن الحياة حياتان حياة دنيوية مادية، فهذه فقدت بموت النَّبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن مات، وحياة برزخيَّة غير معلومة لنا وهي تخالف الحياة الدُّنيا هي مجهولة، لكن نعلم أنها تخالفها لا يحتاج فيها الإنسان إلى أكل ولا شرب ولا نوم ولا غيره مما يحتاجه الأحياء في الدُّنيا، ولو كان الرسول حيَّا حياة دنيوية لكان الصحابة- والعياذ بالله- من أشد الناس عقوقًا للرسول صلى الله عليه وسلم لماذا؟ لأنهم وأدوه ودفنوه وهو حيُّ بل هو مات صلى الله عليه وسلم موتًا حقيقيًا فارقت روحه جسمه، ثُّم تعود إليه بعد دفنه حياة برزخية غير معلومة الصفة لكننا نعلم أنها تخالف الحياة الدُّنيا، وبهذا نتخلص من قول من يقول: إنه حيُّ يرزق، سبحان الله! هل أنت بعته صاعًا؟ بعته أي شيء؟ كيف حيُّ يرزق؟ هو حيُّ يرزق لكن رزق غير الرزق المادي الذَّي في الدُّنيا: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169]. انتبه للعنديَّة، هذه تخالف جميع الحياة الدُّنيا.

يستفاد من الحديث: حسن معاشرة زوجات النبي للنبي صلى الله عليه وسلم. ويفهم منه أيضًا: أن الإيمان أقوى من الغيرة لموافقة أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم للنبي في تمريضه في بيت عائشة، هل يجوز لغير النَّبي من المرضي أن يفعل مثل ما فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ نعم، هل الدليل على ذلك التأسي به؟ نعم. ومن فوائد الحديث: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بشر تجري عليه أحكام البشرية لقولها: "في مرضه"، فهو يمرض ويجوع ويبرد ويحتر وينسي، كل الطبيعة البشرية تعتريه- عليه الصلاة والسلام-. ومن فوائده: الرد على من قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم نور، وأنه لا ظل له؛ لأن كونه يمرض ويسأل ويتحدث يدل على أنه كغيره من الأجساد، جسم كثيف يحجب الشمس، إذا حال بينها وبين الأرض فيكون له ظل. ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات لقولها: "الَّذي مات فيه"، وهذا الموت حقيقي لكنه موت البدن، وأما البرزخ فهو حي في قبره صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: كمال عدل النَّبي صلى الله عليه وسلم حيث يسأل: أين أنا غدًا؟ مع العلم أنه يحب عائشة أكثر من غيرها، وهذا مشهور عند نسائه. ومن فوائد الحديث: العمل بالقرائن؛ لأن النساء فهمن من ذلك أنه يريد يوم عائشة؛ ولهذا قلن: يريد يوم عائشة، فالعمل بالقرائن ثابت شرعًا، ومنه قصة يوسف حين دعته امرأة العزيز إلى نفسها فأبى ثم اتهمته فشهد شاهد من أهلها: {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين} [يوسف: 26 - 27]. لأنه إذا قد من قبل دل على أنه هو الطالب وأنها مزقت ثوبه عند فرارها منه، وإذا كان قد من دبر من الخلف- دلَّ على أنه هو المطلوب وأنه هارب وهي التَّي لحقته، فهذه قرينة فكانت القرينة تدل على أنها هي الطالبة: {فلما رءا قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} [يوسف: 28]. إذن العمل بالقرائن ثابت شرعًا، وهو من أفضل ما يستعين به القاضي على معرفة المبطل، وإذا أوتي الإنسان فهمًا في هذه الناحية حصل له فوز كبير، أرأيتم قصة المرأتين الصغرى والكبرى خرجتا ذات يوم ومعهما ابناهما فأكل الذئب ابن الكبيرة، فادعت الكبيرة أن الابن الباقي ولدها، فاحتكمتا إلى داود فحكم به للكبيرة، ثم خرجتا من عنده فمرتا بسليمان فلعله رأى من حالهما ما رأى فسألهما فأخبرتاه الخبر، فقال لهما: الحكم عندي فدعا بالسكين ليشقه، فأما الكبرى فوافقت، وأما الصغرى فمانعت، فحكم به للصغرى، كيف حكم به للصغرى؟ لأن

القرعة بين الزوجات في السفر

القرينة تدل على أنه للصغرى فإن الصغرى قالت: "هو لها يا نبي الله" فرحمته وأشفقت عليه، أما الكبرى فقد أكل الذئب ابنها فقالت: كما تلف ابني يتلف هذا، وهذا يدل على أنها ليس في قلبها رحمة لهذا الولد؛ إذن هذا عمل بالقرينة. ومن سنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم في العمل بالقرينة أنه لما فتح خيبر سأل عن مال حيي بن أخطب رئيس بني النضير فسأل عنه فقالوا: يا رسول الله أفنته الحروب، قال: كيف ذلك المال كثير والعهد قريب وإذا كان المال كثيرًا والعهد قريبًا لم تفنه الحروب، ثم قال للزبير: "خذ هذا الرجل فمسه بعذاب" يعني: اضربه، فلما ذاق مس العذاب قال: إنني أرى حييًا يحوم حول خربة هناك في خيبر، فذهبوا إلى الخربة وأخذوا منها ملء جلد ثور ذهبًا مدفونة فهنا عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالقرائن، إذن العمل بالقرائن ثابت شرعًا. ومن فوائد الحديث: حسن معاشرة زوجات النَّبي صلى الله عليه وسلم له؛ حيث أذن له أن يكون عند عائشة مع العلم بأنهن كل واحدة تحب أن يكون عندها، لكنهن قدمن راحة النبي صلى الله عليه وسلم على راحتهن. ومن فوائد الحديث: ما حصل من المنقبة العظيمة لعائشة رضي الله عنها؛ حيث اختار النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مرضه في بيتها، وزيادة على ذلك فإنه مات في حجرها بين حاقنتها وذاقنتها، ومات في يومها وفي بيتها، وآخر ما طعم من الدُّنيا ريقها، كل هذا من مناقبها، وهي من أبغض الناس عند الرافضة؛ لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم يحبها أكثر من غيرها من نسائه. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للرجل ذي الزوجات المتعددة أن يلمح لزوجاته باختيار إحداهن، وأن ذلك لا يعد إحراجًا، الدليل فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإنه جعل يقول: "أين أنا غدًا؟ " حتى أذن له. القرعة بين الزوجات في السفر: 1020 - وعنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهنَّ خرج سهمها؛ خرج بها معه". متَّفق عليه. قولها: "إذا أراد سفرًا"، "السفر" قال العلماء في اللغة: هو مفارقة محل الإقامة، وقال بعض العلماء: السفر ما يرتحل له الإنسان بالزاد والمزاد، ولكن المعنى الأول أصح؛ لأن الإنسان أسفر فيه وتوسع وخرج، ومن ذلك قوله تعالى: {والصبح إذا أسفر} [المدثر: 34]. فالرجل إذا فارق محل إقامته يقال: سافر، وقال بعضهم في تعليل السفر: إنما سمي سفرًا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال؛ أي: يبينها ويوضحها، فإن كثيرًا من الناس لا تتبين أخلاقه إلا

عند السفر، تجد بعض الناس إذا سافر يخدم أصحابه يطبخ لهم، يأتي لهم بالحطب، يصنع كل شيء فيه الراحة، وبعضهم كالزنبيل المتقطعة عراه إذا كان في السفر من حين ما ينزل من السيارة وهو واضع جنبه على الأرض، وأحيانًا يقول: يا فلان، هات كذا، هات كذا، سوي لي شاي، هات تمرًا، هذا ليس ذا أخلاق، يقول بعض العلماء: أظنه نافعًا: "صحبت ابن عمر لأخدمه فكان يخدمني". فالسفر في الحقيقة يسفر عن أخلاق الرجال؛ ولهذا كان عمر إذا زكَّى أحد أحدًا قال له: تعال هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: هل عاملته؟ قال: لا، قال إذن لا تعرفه؛ لأن الإنسان يعرف بالسفر ويعرف بالمعاملة، "إذا أراد سفرًا" ظاهر الحديث أنه لا فرق بين السفر الطويل والقصير وهو كذلك. وقولها: "أقرع بين نسائه"؛ يعني: ضرب بينهن قرعة أيتهن تخرج، وكأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يسافر إلا ومعه إحدى زوجاته، وقد يكون معه أكثر من واحدة، لكن لابد أن يصحب واحدة منهن؛ لأن هناك سننًا خفية لا يطلع عليها إلا النساء الزوجات فيحب صلى الله عليه وسلم أن تأخذ زوجاته منه حتَّى السنن في السفر فيخرج بهن أو بواحدة، فكيف يقرع؟ لم يبين، ولكن طرق القرعة كثيرة؛ أي: طريق يتوصل به إلى القرعة فليسلك سواء بكتابة أوراق أو بوضع أحجار أو وضع أعواد أو وضع خرق، المهم أي شيء تحصل به القرعة فليسلك، "فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه"، والباقيات يبقين. ففي هذا الحديث عدة فوائد أولاً: كمال عدل النَّبي صلى الله عليه وسلم، ووجهه: أنه كان لا يسافر حتَّى يقرع بينهن، وإلا فمن الجائز أن يختار واحدة، ويقول: تخرج معي، ويختار الشابة منهن أو الخفيفة وتخرج معه، لكن لكمال عدله يقرع بينهن. ومنها: أن القرعة طريق شرعي لإثبات المستحق؛ ودليله استعمال النَّبي صلى الله عليه وسلم لها، وقد ثبتت طريقًا لإثبات المستحق في القرآن في موضعين، وفي السنة في ستة مواضع. ففي القرآن في قصة مريم: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} [آل عمران: 44]. وفي قصة يونس: {إذ أبق إلى الفلك المشحون (140) فساهم فكان من المدحضين} [الصافات: 140 - 141]. الفلك المشحون؛ أي: المملوء، وكانوا قد خافوا على أنفسهم، قالوا: إن بقينا

كلنا في الفلك غرقنا جميعًا، وإن نزل بعضنا سلم الباقي، ولا شك أن استباق البعض خير من هلاك الجميع، إذن من ننزله؟ قد يقول قائل: ننزل الثقيل الكبير البدن؛ لأن الثقيل البدن واحد عن عشرة من الصغار، وقال الثاني: بل ننزل كبير السن؛ لأنه أقرب إلى الموت من الشاب، أيامه مدبرة، والشاب في مستقبل العمر، وقال الآخر: ننزل الأحمق حتى نستريح منه ونريح، وكل واحد أتى بعلة، نقول: كل هذا لا يكون؛ لأن قتل النفس يستوي فيه الجاهل والعالم والسفيه والرشيد والمجنون والعاقل، دية المجنون كدية العاقل، إذن لا طريق لنا إلا القرعة؛ ولهذا ضربوا القرعة {فساهم فكان من المدحضين} يعني: ليس وحده؛ {فكان من المدحضين} معه أناس، والقصة مشهورة. وفي السنة في ستة مواضع هذا أحدها: "كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه" إذن القرعة، طريق شرعي لإثبات المستحق، ولكن يشترط التساوي، فإن كان هناك مرجح فلا قرعة بل نأخذ بالراجح؛ لأنه إذا كان مرجحًا صارت المسألة قمارًا، مثال ذلك بيننا طعام مقداره مائة صاع فقسمناه ستين صاعًا وأربعين صاعًا ثم أردنا أن نضرب قرعة فالقرعة هنا حرام؛ لأن أحدنا إما غانم وإما غارم، وهذا لا يجوز؛ لأنه قمار إذا خرجت القرعة لي على ستين صاعًا صرت غانمًا، كم أغنم؟ عشرة، وإن صارت القرعة على الأربعين غرمت عشرة، إذن هذا لا يجوز لكن نقسمه نصفين ثم نضرب القرعة، وهل يقاس على هذه المسألة ما أشبهها من الحقوق؟ الجواب: نعم. وقد ذكر ابن رجب رحمه الله في آخر القواعد الفقهية متى تكون القرعة، وذكر جميع مسائل القرعة التي ذكرها الفقهاء من أول الطهارة إلى آخر الإقرار، فإذا أردتم الاطلاع عليه فهو مفيد. ومن فوائد الحديث: أنه إذا خرج بالقارعة فإنه لا يقضي للمقروعة، هذا هو الصحيح، وهذه هي فائدة القرعة، وليست فائدة القرعة هو أنه يختص بهذه القارعة هذه المدة، ثم يقضي للباقيات؛ لأن هذا قد يكون فيه ضرر على القارعة، فهو إذا خرج بها لا يقضي. وهل تعاد القرعة مرة ثانية لو أراد سفرًا آخر، ونقول: من قرعت في السفر فلا حظ لها في القرعة في السفر الثاني؟ ظاهر الحديث: "إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه" أنه يعيد القرعة بين الجميع وهو مشكل؛ لأنها قد تخرج القرعة في السفر الثاني للقارعة، وبما في الثالثة وفي الرَّابعة، وحينئذ يتكرر السفر بواحدة مع حرمان الباقيات، وهذه مسألة تحتاج إلى نظر وتأمل.

النهي عن الشدة في معاملة الزوجة

فالجواب على هذا أن نقول: إذا خرجت القرعة لواحدة وخرج بها فلا يكون ذلك في كل سفر يكون في هذا السفر فقط، لكن عندما يعيد القرعة في سفر آخر فالظاهر أن الأولى لا تدخل؛ لأنها أخذت حقها من قبل وربما تخرج القرعة لها في المرة الثانية وفي المرة الثالثة، فيكون في هذا إجحاف، وربما يتهم الذي ضرب القرعة إذا خرجت القرعة لواحدة بعينها في كل مرة. فعلى كل حال: نقول: من خرج سهمها أولاً فإنه لا يعاد لها القرعة ثانيًا حتى يتم على الجميع، فكم تعاد القرعة على هذا بناء على أن الإنسان لا يزوج أكثر من أربع؟ ثلاث مرات مع الأولى؛ لماذا؟ لأن الأخيرة الرَّابعة لا تحتاج إلى القرعة. النهي عن الشدة في معاملة الزوجة: 1021 - وعن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبيد". رواه البخاريُّ. "ولا يجلد" إعراب هذه الجملة: "لا" ناهية، و"يجلد" فعل مضارع مجزوم بلا الناهية؛ لأن "لا" الناهية تجزم كما أن لام الأمر تجزم، والجامع بينهما: أن في كل منهما طلبًا، ففي "لا" الناهية طلب الترك وفي لام الأمر طلب الفعل، فلهذا كان عملهما واحدًا وهو الجزم لاشتراكهما في المعنى؛ وقوله: "لا يجلد أحدكم امرأته" يعني: زوجته، وقوله: "جلد العبيد" هذا مصدر مبين للنوع، أين عامله؟ "يجلد" وقلنا: مبينًا للنوع؛ لأنه بينه بالإضافة "جلد العبد". والمراد بالعبد هنا: المملوك، وذلك أن الإنسان له أن يؤدَّب امرأته، وله أن يؤدَّب مملوكه، لكن تأديبه لمملوكه ليس كتأديبه لامرأته؛ إذ إنه سوف يضاجع امرأته في آخر النهار فكيف يؤدَّبها كما يؤدَّب العبد وهو سيكون بينهما اقتران في آخر النهار؛ لأنه إذا ضربها ضرب العبد، ومعلوم أن ضرب العبد يكون أشد فإنه يحصل في قلبها نفرة منه وبغضاء له، وحينئذ لا تتم السعادة بينهما حين الاجتماع وهذا من حكمة النَّبي صلى الله عليه وسلم. فيستفاد من هذا الحديث: أولاً: أن للإنسان أن يجلد امرأته، وجهة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن جلد المرأة مطلقًا، وإنما نهي عن جلد خاص وهو جلد العبد، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة؛ أي: دل على أن الرجل له أن يضرب امرأته، فقال تعالى: {والتي تخافون نشوزهن فيعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهنَّ} [النساء: 34]. وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم عرفة: "ولكم عليكم ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير

6 - باب الخلع

مبرِّح". فأذن في ضربهن؛ ولأن المعنى يقتضي ذلك، فالمرأة ناقصة العقل، وناقصة الدين إذا لم تضرب عند الحاجة فإنها لن تستقيم، فلابد من الضرب إذا كانت لا تستقيم إلا به. وفيه: إشارة إلى أنه ليس من الحكمة أن يمنع الأستاذ من ضرب التلاميذ إذا دعت الحاجة إلي ذلك لاسيما الصغار، الصغير مهما نصحته فإنه لا يستفيد الفائدة المطلوبة؛ فإذا قلنا: لا تضربه؛ فمعناه: أنا فتحنا له الباب أن يركب على رءوسنا وألا يهتم، فالشرع والعقل يدلان على أنه إذا كان الضرب سببًا للاستقامة والتقويم فإنه لا بأس به، لكن الممنوع الضرب المبرح الموجع المؤلم أو الجارح، أو الضرب الذَّي لا يناسب الحال كضرب المرأة ضرب العبد. ومن فوائد الحديث: أن للإنسان السلطة في تأديب امرأته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن له أن يجلدها لكن ليس كجلد العبد. ومن فوائد الحديث: أن له السلطة في جلد عبده. ومن فوائد الحديث: مراعاة الحكمة في الأفعال إيجادًا أو إعدامًا، والشرع كله مبني على الحكمة؛ ولهذا تجدون أن الله إذا ذكر بعض الأحكام ختمها بالحكمة: {إباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا فريضة من الله إن الله كان عليمًا حكيمًا} [النساء: 11]. وفي أصناف الزكاة قال: {فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة: 60]. وفي الحكم في المهاجرات وما يتعلق بذلك قال: {ذالكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم} [الممتحنة: 10]. فالشرع كله مبني على الحكمة، وهي وضع الشيء في موضعه. 6 - باب الخلع ويقال: الخلع، وهو بالفتح مصدر خلع يخلع خلعًا، وبالضم: المعنى، والخلع والخلع في الأصل فسخ الشيء والتخلص منه، ومنه خلع الثوب، خلع النعل، خلع الخف، يعني: تتخلص منه واستعير هذا الاسم لمفارقة الزوجة، استعارة الفقهاء- رحمهم الله- لمفارقة الزوجة، ووجه المناسبة بين المعنى الأصلي والمعنى الجديد: أن المرأة لباس للرجل والرجل لباس للمرأة، كما قال تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهَّن} [البقرة: 187]. فالتفرق بينهما كالتفرق بين الجسم. والثوب يعتبر خلعًا، ولو قلنا: "باب فراق الافتداء" لكان هذا أنسب بالنسبة لتعبير القرآن، قال الله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229]. فسمى الله تعالى هذا الفراق افتداء؛ لأن المرأة تفتدي من الزوج ببذل ما تبذله للتخلص منه؛ ولهذا نقول: الخلع أو فراق الافتداء هو فراق

الزوجة بعوض بألفاظ معلومة، وقولنا: "بعوض" مطلق لم يبين من أين يكون هذا العوض، فقد يكون من الزوجة، وقد يكون من أبيها أو وليها، وقد يكون من رجل أجنبي لا علاقة له بها لكنه رآها متضررة فأحسن إليها ببذل العوض لزوجها ليفارقها، إذن عوض الخلع يكون من الزوجة أو وليها أو رجل أجنبي لكن يشترط إذا كان العوض من غيرها وغير وليها أن يكون المقصود به مصلحة الزوج لا الإضرار بالزوج أو بالزوجة أو لحظ النفس؛ لأن باذل العوض قد يبذله للإضرار بالزوجة، وقد يبذله للإضرار بالزوج وقد يبذله لمصلحة نفسه كل هذا لا يجوز بذله للإضرار بالزوجة ظاهر كأن يأتي إنسان إلى شخص ويقول: طلَّق زوجتك وهذه عشرة آلاف ريال فيغريه بالمال حتَّى يطلِّقها؛ لأن بينه وبين الزوجة عداوة فيريد أن يخلصها من الزوج هذا حرام واعتداء على حق الزوجة، وربما يقصد الإضرار بالزوج، وهنا قد تتساءلون كيف يكون إضرارًا بالزوج والأمر بيد الزوج؟ نقول: نعم؛ لأن بعض الأزواج يكون عنده طمع في المال الكثير، فإذا أغري به نسي كل شيء ثمَّ بعد أن تقع الواقعة يندم، كأن يأتي شخص لشخص يحب زوجته ويقول له: أنا أعطيك عشرة آلاف تبني بيتًا وتشتري سيارة ويغريه فيخلع الزوجة وبعدئذ يندم. لمصلحة الباذل كأن يكون رجل أعجبته زوجة إنسان آخر فأرادها لنفسه فذهب إلى الزوج وأغراه بالمال ليخلعها فيأخذها هذا الباذل هذا أيضًا حرام، وقد استعظم الإمام أحمد هذه المسألة وقال: كيف يكون هذا؟ ! إذن بقي لنا قسم رابع: أن يكون لمصلحة الزوجة أو لمصلحتهما جميعًا، أي: مصلحة الزوج والزوجة؛ فحينئذ يكون بذل العوض من الأجنبي جائزًا؛ بل قد يكون محمودًا إذا أراد أن يخلصهما من المشاقة والمنازعة قد يعلم الرجل أن بين هذين الزوجين من الشقاق والنزاع ما يجعلهما في جحيم فيذهب محسنًا إليهما ويعطي الزوج ما يعطيه من المال من أجل أن يفارقها، هذا رجل محسن وجزاه الله خيرًا؛ إذن العوض يكون مبذولاً ممن؟ من الزوجة أو وليها أو أجنبي، والأجنبي إذا بذل العوض فإنه ينقسم إلى أربعة أقسام: أن يكون لمصلحة الزوج أو الزوجة، أو لمصلحتهما جميعًا، فهذا جائز محمود يؤجر الإنسان عليه ويثاب عليه. الثاني: أن يكون للإضرار بالزوجة أو الإضرار بالزوج أو لمصلحة الباذل، ففي هذه الحال يحرم عليه؛ لأنه عدوان، والأصل في الخلع قوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229]

الخلع ورد ما أخذت الزوجة

وتجدون هذه الآية تبين قوله تعالى: {الطلاق مرتان}. وقوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حَّتى تنكح زوجًا غيره} [البقرة: 230]. وبكونها بين الطلاق المرتين والطلقة الثالثة يتبين أنه- أي: الخلع- ليس من الطلاق؛ لأنه لو كان من الطلاق لكانت الطلقة المذكورة بعده الرَّابعة، وليس الأمر كذلك، والطلقة المذكورة بعده هي الثالثة إذن هو فراق بين طلقتين وثالثة، وحينئذ لا يحسب من الطلاق، وهو كذلك فلو خالع الإنسان امرأته عشر مرات فهو على طلاقها لو خالعها من أول مرة عشر مرات كم يبقى له من الطلاق؟ يبقى له ثلاث طلقات؛ لأن الخلع ليس بطلاق ودليله من القرآن ما عرفتم ودليله من السنة ما سيأتي. الخلع ورد ما أخذت الزوجة: 1022 - عن ابن عباس رضي الله عنها: "أن امرأة ثابت بن قيس أنت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردِّين عليه حديقته؟ فقالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقه". رواه البخاريُّ. وفي رواية له: "وأمره بطلاقها". من ثابت بن قيس؟ هو أحد خطباء النبي صلى الله عليه وسلم، بل ومن الشعراء، وله مقام محمود حينما نزل قول الله تعالى: {يأيها الذين امنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعٍض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2]. وكان رضي الله عنه جهوري الصوت، فاختفى في بيته يبكي خائفًا أن يحبط عمله وهو لا يشعر، فتفقده النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أين ثابت؟ " فقالوا: يا رسول الله ما نزل من بيته منذ نزلت هذه الآية؛ أي: الآية السابقة، فأرسل إليه، وقال له: "إنك لست كذلك إنك تعيش حميدًا وتقتل شهيدًا وتدخل الجنة"، من خاف أمن هذا لما خاف أن يحبط عمله فيكون من أهل النار أمن على يد النَّبي صلي الله عليه وسلم؛ ولهذا مثل به شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية قال: ولا يشهدون بالجنة-يعني: أهل السنة- إلا لمن شهد له النَّبي صلى الله عليه وسلم كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس فهو ممن يشهد له بالجنة عاش حميدًا وقتل شهيدًا في اليمامة مع مسيلمة الكذاب، قتل شهيدًا ومرّ به رجل وهو مقتول فأخذ درعه يعني كالغلول ثمَّ ذهب به إلى رحله في طرف الجيش ووضعه تحت برمة- قدر من الخوف- فرآه أحد أصحابه- رأى ثابت بن قيس- في المنام وأخبره ثابت بالخبر، قال: إنه مرَّ بي رجل وأخذ الدرع ووضعه تحت برمة في طرف الجيش وهو حوله فرس تستن

فاذهب إليها، وأوصاه أيضًا بوصية لا يحضرني الآن نوع هذه الوصية، فلما ذهب الرجل في الصباح وجد الأمر كما وصفة ثابت، سبحان الله! ميت كشف له عن هذه القضية وبلغ أبا بكر رضي الله عنه وصيته فنفَّذها؛ ولهذا يقال: لم تنفذ وصية أحد أوصى بها بعد موته إلا وصية ثابت بن قيس بن شماس؛ لماذا؟ لأنه يوجد قرينة تشهد بأن هذا حق وهي إخباره بأن الدرع قد أخذ ووضع تحت البرمة وحوله فرس تستن، وهذه لا شك أنها من الكرامات لثابت بن قيس بن شماس. ثابت بن قيس مع هذه المرأة شأنه عجيب تكرهه ولا تحبه وهو زوجها، فجاءت إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم تقول له: "يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق ولا دين"، وهذه شهادة منها، "لا تعيب عليه" يعني: لا تصفه بعيب في خلقه ولا بعيب في دينه لكن في خلقته، لم يعجبها، أما في خلقه فهو من أحسن الرجال، وأما في دينه فهو من أحسن الرجال، ويكفيك دليلاً على حسن دينه وصلاحه هذا الخوف العظيم حينما نزلت الآية الكريمة، ويكفيك أيضًا أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، قالت: "ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام" أي: كفر العشير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للنساء: "إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير"؛ أي: تجحدن فضله، فهي تقول: أخشى أن أكفر عشيري في الإسلام فآثم بذلك، وقيل: إن المراد اكره الكفر أي: الردة عن الإسلام إذا بقيت مكرهه معه، ولكن هذا التفسير ضعيف يبعد من امرأة من الصحابة ترتد بمجرد أنها بقيت مع زوج تكرهه، هذا بعيد، ولكن الصحيح أنها تكره كفر العشير، ولا شك أن كفر العشير معصية، وإذا أصرت المرأة عليه صار من الكبائر. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟ " قالت: "نعم"، الحديقة البستان، وكان ثابت قد أصدقها بستانًا فيه نخل وفيه زروع، وسيأتي الكلام على هذه المسألة، قالت: "نعم" يعني: أرد عليه حديقته ... إلخ، الاستفهام هنا في قوله: "أتردين" للاستعلام والاستخبار؛ يعني: يسأل هل تردين عليه الحديقة، وكانت هذه الحديقة مهرًا لها وأضافها إليه- أي: إلى ثابت- مع أنها صارت ملكًا للزوجة باعتبار ما كان، وإلا فإن المهر تملكه المرأة لقوله تعالى: {وأتوا النساء صدقاتهن نحله} [النساء: 4]. فأضاف الصدقات وهي المهور إلى النساء وقال: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئًا} [البقرة: 229]. فبين حكم هذا المال الَّذي دفع إليها مهرًا أنه ملكها ولا يحل أن يأخذ منه شيئًَا؛ إذن فالإضافة هنا باعتبار ما كان "قالت: نعم". وفي رواية: أنها قالت: "نعم وأزيده". مما يدل على شدة كراهتها له، وقوله: "فقالت: نعم"، "نعم" حرف جواب لإثبات المستخبر عنه؛ فإذا قلت: أقام زيد؟ فالجواب: إن كان إثباتًا:

عدة المختلعة

"نعم"، وإن كان نفيًا: "لا"، أما إذا دخلت أداة الاستفهام على ما يفيد النفي فالجواب للإثبات يكون: "بلى"، وللنفي: "نعم"، إذن على خلاف ما إذا دخلت أداة الاستفهام علة مثبت، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنها في قوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 172]. أن ابن عباس قال: لو قالوا: نعم لكفروا؛ لأن المعنى: لست بربنا وهذا كفر، ولكنهم قالوا: بلى، ولكن نعم قد تأتي في محل بلى وهو قليل، ومنه قول الشاعر في معشوقته أم عمرو قال: [الوافر] أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك لنا تداني نعم وترى الهلال كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني فـ"نعم" بمعني: "بلى"، هل يحصل بها الإقرار ويثبت بها الحكم فيما لو قيل للرجل: أطلَّقت امرأتك، قال: نعم؟ نعم يحصل بها الإقرار، ولو قيل: أعتقت عبدك؟ قال: نعم؛ عتق، ولو قيل: وقَّفت بيتك؟ قال: نعم؛ وقف، ولو قيل: أقبلت النكاح؟ قال: نعم؛ تم العقد؛ لأن حرف الجواب يعيد السؤال؛ يعني: كأنه أعاد السؤال برمتَّه، قالت: "نعم"، ما معنى "نعم" هنا؟ أراد عليه حديقته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت: "اقبل الحديقة وطلِّقها تطليقة". وظاهر قوله: "اقبل الحديقة" أن ثابتًا كان حاضرًا؛ لأن خطاب الأمر لا يوجه إلا [محاورة]، "اقبل الحديقة"، "أل" هنا للعهد الذكري، "وطلقها تطليقة" يعني: لا تزد، لا تقل: أنت طالق أنت طالق، أو أنت طالق ثلاثًا، طلَّقها تطليقة واحدة؛ لأن هذا هو السنة. وفي رواية: "أمره بطلاقها". وهذا معنى قوله: "طلقها تطليقة". عدة المختلعة: 1023 - ولأبي داود، والتِّرمذيِّ وحسَّنة: "أنَّ امرأة ثابت بن قيسٍ اختلعت منه، فجعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عدَّتها حيضًة". عدتها حيضة واحدة للاستبراء؛ أي: استبراء رحمها؛ لأن الحامل لا تحيض، فإذا حاضت علم أن رحمها بريء خال من الحمل، وحينئذ تحل للأزواج، وجعل النَّبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة، الحكمة منه: أنه إنما مدَّت عدة المطلقة إلى ثلاث حيض ليمتد له الأجل في التمكن من المراجعة، والمختلعة لا تراجع ولا يمكن أن يرجع زوجها عليها إلا بعقد جديد.

أول خلع في الإسلام

1024 - وفي رواية عمرو بن شعيٍب، عن أبيه، عن جدِّه عند ابن ماجه: "أنَّ ثابت بن قيس كان دميمًا وأنَّ امرأته قالت: لولا مخافة الله إذا دخل عليَّ لبصقت في وجهه". - ولأحمد: من حديث سهل بن أبي حثمة: "وكان ذلك أوَّل خلعٍ في الإسلام". دميمًا في الخلقة لكنه جميل حسن في الخلق رضي الله عنه، وكان فصيحًا خطيبًا مصقعًا وشاعرًا أيضًا، وقوله: "لولا مخافة الله ... الخ" يعني: لشدة كراهتها له، وهي في الحقيقة عاشقة صور حسية وإلا لو كانت عاشقة أخلاق ما يهمها أن يكون دميمًا أو غير دميم، فهي امرأة رأته مع جماعة قد أقبل وإذا هو قصير وأسود ودميم فتعبت نفسها من هذا، كيف زوجها يكون هكذا وقد ذكروا أنها كانت عندها شيء من الجمال فكأنها تقول كيف أكون بهذه المثابة من الجمال عند هذا الرجل الَّذي بهذه المثابة من الدمامة على رأيها، لكن المقصود من هذا الحديث بيان أنها لم تكرهه لخلقه ولا لدينه ولكن لخلقته. أول خلع في الإسلام: - ولأحمد من حديث سهل بن أبي حثمة: "وكان ذلك أول خلع في الإسلام". والخلع كان معروفًا في الجاهلية لكن أول خلع في الإسلام هو هذا. هذا الحديث فيه فوائد: أولاً: أنه أصل في الخلع من السنة، أما من القرآن فالأصل فيه قوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229]. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق إذا كانت لا تطيق البقاء مع الزوج، ودليله: أن المرة بيَّنت أنها لا تطيق البقاء معه وإلا فإنها لا تعيبه في خلق ولا دين، وعلى هذا فيكون الحديث: "من سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة". غير معارض لحديث امرأة ثابت؛ لأن امرأة ثابت سألت الطلاق لبأس. ومن فوائد الحديث: جواز طلب المرأة الطلاق أو الخلع لسوء خلق الزوج لقولها: "ما أعيب عليه من خلق ولا دين"، دل هذا على أنه من المعتاد إذا عيب على الرجل خلقه جاز طلب الطلاق.

ومن الفوائد: جواز طلب المرأة الطلاق إذا لم ترض دين زوجها، مثل: أن تتزوج به على أنه رجل مستقيم ثمَّ يتبين أنه رجل غير مستقيم إما لعدم اهتمامه بالصلاة أو لشربه الخمر أو لغير ذلك، فلها في هذه الحال طلب الطلاق لسوء دينه، ولكن يجب أن نعلم أن في هذا تفصيلاًَ فإنها إذا كرهت دينه إما أن يكون مرتدًا فحينئذ ينفسخ النكاح شاءت أم أبت لحق الله، مثل: أن يترك الصلاة! ! فإذا ترك الصلاة نهائيًا فهنا تحتاج إلى أن تطالب، لماذا؟ لأن النكاح ينفسخ بمجرد ردَّته حَّتى يعود إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، فإن عاد إلى الإسلام بعد انقضاء العدة فقد اختلف العلماء في هذا: هل يعاد العقد من جديد أو هي بالخيار إن شاءت رجعت إليه بلا عقد وهذا هو الصحيح، الصحيح إذا ارتد الزوج فإن النكاح ينفسخ بدون فاسخ، ثم إن رجع إلى الإسلام قبل انقضاء العدة فهي زوجته ولا خيار لها وإن انقضت العدة قبل أن يعود إلى الإسلام فهي بالخيار على القول الصحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب إلى أبي العاص بن الربيع بعد ست سنوات، أما المشهور من المذهب فإنه إذا انقضت العدة فلا رجوع إلا بعقد جديد. ومن فوائد الحديث: أن من الحزم أن يحتاط الإنسان لما يتوقعه من مكروه لقولها: "ولكني أكره الكفر في الإسلام"، فخافت من هذا فاحتاطت واستعدت للوقاية من هذا الشر. ومن فوائد الحديث: صراحة الصحابة رجالاً ونساء؛ لأن امرأة ثابت بن قيس أقدمت على هذا الفعل الذي قد يستحيي منه كثير من النساء. ومن فوائده: أنه لا يلام الإنسان إذا فعل مثل هذا الفعل، وإن كان قد ينتقد، ولكن ما دام الشارع قد جعل له هذا الفعل فإنه لا يلام عليه، إلا أنه ما يخالف المروءة من الأفعال والحركات لا ينبغي للإنسان اللبيب أن يتجرأ عليها. ومن فوائد الحديث: أن المرأة إذا طلبت الفسخ من زوجها لسبب فللزوج أن يطالب بالمهر الذي أعطاها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟ "، ولو كانت تملك الفسخ لمجرد كراهتها لزوجها لم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فدعا بزوجها وفسخ النكاح، لكن لابد أن يعوَّض الزوج عمَّا أخذ منه، أما إذا لم يعوَّض فهذا فيه شيء من الجور. وقوله: "أتردين عليه حديقته؟ " ما ترون لو طلب الزوج زيادة على المهر الَّذي أعطاها؟ هل يملك ذلك أو لا يملك؟ في هذا قولان لأهل العلم القول الأول: أنه يملك ذلك لأن الحق له ولأن زوجته سوف تأخذ من يديه فله أن يمتنع إلا بعوض أكثر مما أعطاها؛ ولأنه ربما يكون قد تزوجها في وقت كانت المهور فيه قليلة، والآن المهور كثيرة، فإذا لم يزد على المهر الذي أعطاها لم يجد زوجة واستدل هؤلاء الجماعة بقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229].

و"ما" هذه اسم موصول، واسم الموصول عام فيشمل القليل والكثير، وذهب بعض العلماء إلا أنه لا يزيد على ما أعطاها؛ لأن المهر الَّذي أعطاها أخذ عوضه في الحقيقة وهو استحلال الفرج واستمتاعه ولهذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "فلها المهر بما استحل من فرجها". ولأن في حديث امرأة ثابت أن الرسول قال: "خذ الحديقة ولا تزدد"، قلنا: هذا فيه خلاف بين العلماء؛ منهم من قال: إنه يجوز أن يطلب زيادة على ما أعطاها، واستدل بقوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به}. و"ما" اسم موصول من صيغ العموم، فيشمل كل ما تفتدي به من قليل وكثير، ومنهم من قال إنه لا يزيد على ما أعطاها، ويقول: إن الآية لا دلالة فيما على ما ذكر، أي: على جواز طلب الزيادة، ووجه ذلك: أن الله قال: {ولا تحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت} أي: مما أتيتموهن، فالآية آخرها معطوف على أولها، فيكون المعنى: فلا جناح عليهما فيما افتدت به مما آتاها، وعلى هذا فيكون أعلى شيء أن يأخذ ما أعطاها فقط، ولا شك أن المروءة تقتضي ألا يطلب الزيادة، ولهذا توسط الإمام أحمد في هذه المسألة فقال: إنه يكره أن يأخذ زيادة على ما أعطاها ولا يحرم، وهذا هو أعدل الأقوال أن نقول: إنه يحرم عليه أن يأخذ أكثر مما أعطى، ولكن يكره له ذلك؛ لأن فيه شيئًا من الظلم والجور، وأما كونه لا يأثم لو أخذ أكثر فلأن الإنسان ربما يتعلق بالمرأة ويحبها ويخشى إن فاتته أن يتأثر بنفسه وبأن المهور قد تكون زادت وقد يكون بلغ السن قدرًا لا يقبله أكثر النساء؛ فلهذا نقول: إن طلب الزيادة لا يصل إلى درجة التحريم، ولكن القول بأنه مكروه لا بأس به، وقد علمتم من القواعد التي قرأتموها أن المكروه تبيحه الحاجة والحاجة دون الضرورة. ومن الفوائد: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم لأنه هو الَّذي عرض على المرأة أن ترد الحديقة، وعرضه عليها أن ترد الحديقة يقتضي أنها إذا ردت حصل لها مطلوبها. ومن فوائد الحديث: وجوب الخلع على الزوج إذا طلبت المرأة ذلك وردت عليها المهر، استدل هؤلاء لهذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة وطلِّقها تطليقه"، قالوا: والأصل في الأمر الوجوب؛ ولأن هذا- أعني: عدم قبوله- يستلزم ضرراً على المرأة، ودفع الضرر عن المسلم أو رفعه واجب، وقد فعل ذلك بعض فقهاء الحنابلة كما نقله عنهم صاحب الفروع قال بعض قضاتنا ألزموا الزوج بالطلاق في هذه الحال، ولاشك أن القول بإلزامه بالطلاق في هذه الحال قول قوي، لا يقال: إن الطلاق لمن أخذ بالساق، فلا يمكن أن نلزمه إذا كانت الأمور جارية على

مجراها الطبيعي، أما إذا خيف أن المرأة تقتل نفسها أو تحرق نفسها أو تجني على أحد أو تكفر بعد الإسلام فلا شك أن هذه الحالات توجب أن يلزم الزوج بأن يطلق ولا خسارة عليه إذا ردّ عليه مهره؛ لأن بعض النساء تقول لأهلها: "أنا إذا أجبرتموني على هذا الرجل سوف أقتل نفسي" وفعلاً وقع، فمثل هذه الحال لا يمكن أن تستقيم حَّتى لو أنها بقيت مع الزوج فهل تعيش معه عيشة سعيدة؟ أبدًا لا هو ولا هي؛ لأنه سيبقى معها في شقاق ومعارضات لا نهاية لها، أما المشهور من المذهب فإنه لا يلزم ويشار عليه ويبين له الأمر فإن أجاز وإلا ترك. ومن فوائد الحديث: أن حرف الجواب يغني عن الجملة لقوله: "أتردين عليه حديقته؟ "، قالت: "نعم"، ولهذا إذا قيل للرجل: أطلَّقت امرأتك؟ قال: "نعم" طلقت، أعتقت عبدك؟ قال: "نعم" عتق، أوقفت بيتك؟ قال: "نعم صار وقفًا، أقبلت البيع؟ قال: "نعم" فقد قبل البيع. ومن فوائد الحديث: مشورة ولي الأمر على أحد الخصمين أو على أحد المتداعيين بما يراه أنه أفضل وأصلح، ولقوله: "اقبل الحديقة وطلِّقها تطليقه"؛ لأن بقاءه معها وهي على هذه الحال لاشك أنه ضرر عليه وعليها، هذا إذا قلنا: إن الأمر هنا للإرشاد، أما إذا قلنا: إنه للإلزام فيستفاد منه إلزام الزوج بالخلع؛ يعني: بالمخالعة إذا كرهت المرأة البقاء معه وأعطته ما دفع إليها، وإلي هذا ذهب بعض أهل العلم وقالوا للقاضي أن يلزم الزوج بالخلع إذا لم تستقم الحال. ومن فوائد الحديث: أنه إذا كان الشقاق من طرف واحد فلا حاجة إلى إقامة الحكمين، والحكمان إنما يكونون فيما إذا كان الشقاق من الطرفين لقوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدًا إصلاحًا يوفق الله بينهما إن الله كان عليمًا خبيرًا} [النساء: 35]. وهنا الشقاق من طرف واحد وهو الزوجة، أما الزوج فهو يريدها. ومن فوائد الحديث: أن الخلع يصح أن يقع بلفظ الطلاق لقوله: "طلِّقها تطليقه"، وإذا وقع بلفظ الطلاق فهل يكون خلعًا؛ يعني: حكمه حكم الخلع فلا يحسب من الطلاق ولا رجعة فيه، أو هو إذا وقع بلفظ الطلاق كان طلاقًا؟ في هذا للعلماء قولان: الأول: أن الخلع فسخ مطلقًا سواء وقع بلفظ الطلاق أو بلفظ الخلع أو بلفظ الافتداء فإنه يكون فسخًا وإذا كان فسخًا؛ فإنه لا ينقص به عدد الطلاق ولا يكمل به عدد الثلاث، فإذا كان طلَّقها مرتين من قبل ثمَّ خالعها فإنها لا تبين منه بينونة كبرى؛ لأن الخلع فسخ وليس بطلاق وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: إن الخلع فسخ سواء وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الافتداء أو الطلاق أو غير ذلك، وأيد كلامه بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عدَّة امرأة ثابت بن قيس حيضه، ولو كان طلاقًا لكانت عدتها ثلاث حيض، وأيد قوله أيضًا بأن العبرة في الألفاظ بمقاصدها، فهو وإن قال: طلَّقها فالمراد المخالعة، والعبرة في الألفاظ بالمقاصد دون الألفاظ وعلل ذلك أيضًا بأن

هذا ما روي عن عبد الله بن عباس الَّذي قال فيه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهمَّ فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل"، فإن ابن عباس قال: "كل ما أجازه المال فهو خلع وليس بطلاق". وذهب بعض العلماء إلى العكس من ذلك، وقالوا: إن الخلع طلاق بأي لفظ كان، حتى لو وقع بلفظ الخلع فإنه طلاق، ولكن هذا القول ضعيف للغاية؛ لأنه لو كان الخلع طلاقًا بكل لفظ لكان الطلاق أربعًا لا ثلاثًا، كيف ذلك؟ لأن الله تعالى قال: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروٍف أو تسريح بإحسانٍ ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229]. فهذا ثالث ثمَّ قال: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حَّتى تنكح زوجًا غيره} [البقرة: 230]. فهذا رابع، فالقول بأن الخلع طلاق بأي لفظ كان قول ضعيف جدًا؛ والقول بأن الخلع فسخ بأي لفظ كان وهو مقابل للقول الَّذي ذكرت أقوى منه. بقي قول ثالث: أنه إن وقع بلفظ الطلاق وإن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الافتداء فهو فسخ، وهذا هو المشهور من المذهب، ويؤيد هذا قوله: "طلِّقها تطليقه"، وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل هذا الفراق طلاقًا ولكنه أمره أن يطلقها: "طلقها تطليقه"، هذا القول قول وسط بين القولين، لكنه يعكر على هذا القول أن النَّبي صلى الله عليه وسلم جعل عدتها حيضه، والطلاق عدته ثلاث حيض لقوله تعالى: {والمطلَّقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228]. ولكن ربما يقول قائل: الطلاق الذي تتربص فيه المرأة ثلاثة قروء هو الطلاق الذي فيه رجعة لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة: 228]. أي: في ذلك الزمن الَّذي هو ثلاثة قروء ولا يكونوا البعول أحق بردهن إلا في الطلاق الرجعي والخلع طلاق بائن ويمكن أن نقول إنما جعل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عدة المختلعة حيضه واحدة؛ لأنه لا رجعة للزوج عليها فلا فائدة من تطويل العدة عليها فلتكن العدة حيضه واحدة، وهذا القول وجيه جدًا أيضًا، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المطلقة ثلاثًا قال: إن المطلقة ثلاثًا عدتها حيضه؛ لأنه لا رجوع لزوجها عليها إلا أنه علق القول بذلك على أن لا يكون خلاف الإجماع، وقد ثبت أنه لا إجماع في المسألة أي لم يجمع العلماء على أن المطلقة طلاقًا بائنًا تعتد بثلاث حيض، وعلى هذا

فيكون قوله: "أن من لا رجعة لزوجها عليها فعدتها حيضه"؛ لأنه يحصل بها المقصود من العلم ببراءة الرحم وينتفي بها المشقة على الزوجة من تطويل العدة. الخلاصة: الخلع إما أن يقع بلفظ الخلع أو الفداء أو الافتداء أو الفسخ فيكون فسخًا، وما معنى قولنا: يكون فسخًا؟ أنه لا يعطى حكم الطلاق فلا يحسب من الطلاق ولا تبين به المرأة بينونة كبرى إذا كان قد طلق قبله مرتين، وإذا وقع بلفظ الطلاق فهل يكون فسخًا؟ في ذلك ثلاثة أقوال: فمن العلماء من يقول: يكون فسخًا؛ لأن العبرة في الألفاظ بمقاصدها، ويؤيده أيضًا أن الرسول جعل عدَّة المختلعة حيضه واحدة، ويؤيده ما روي عن ابن عباس من أن كل ما كان بعوض فهو فسخ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. والقول الثاني: أنه إذا كان بلفظ الطلاق فهو طلاق؛ لأن لفظ الطلاق صريح فيه؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "طلِّقها تطليقه"، وإن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء أو الافتداء فهو فسخ، وهذا هو المشهور من المذهب. القول الثالث: أن الخلع طلاق بكل حال وإن وقع بلفظ الخلع وهذا القول أضعف الأقوال. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لأهل العلم أن يرشدوا العامة إلى الطلاق المشروع؛ حيث قال: "طلِّقها تطليقه"؛ لأن الطلاق السُّني الموافق للسنة ما كان واحدة، فإن طلَّق ثنتين فهو مكروه، وإن طلَّق ثلاثًا فهو حرام؛ يعني: إذا قال لزوجته: أنت طالق هذا طلاق سنة، إذا قال: أنت طالق أنت طالق فهذا مكروه، إذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق فهذا حرام، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية على أن ما زاد على الواحدة فهو حرام، فالثنتان عنده حرام، وقوله: أصح؛ لأنه ليس بعد السُّنة إلا البدعة، وكل بدعة ضلالة، والفقهاء يرون قوله: "أنت طالق أنت طالق" أنه طلاق بدعة، فالاقتصار على الكراهة فيه نظر، والصواب أن الطلاق الزائد على الواحدة حرام، لكن إن كان ثلاثًا فإنه تبين به المرأة على المشهور عند العلماء، وإن كان اثنتين فإنها لا تبين به، والصحيح أنها لا تبين بالثلاث، وأنه إذا طلَّق ثلاثًا بدون أن يتخلل الطلقات رجعة فإنه واحدة؛ يعني: لو قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق فهي واحدة، وإذا قال: أنت طالق أنت طالق فهي واحدة؛ إلا إذا تخللهما رجعة بأن قال: أنت طالق ثم راجعها، وبعد يومين قال: أنت طالق ثم راجعها، وقال بعد يومين أو ثلاثة: أنت طالق فهنا تحسب كل واحدة طلقة منفردة.

ومن فوائد الحديث: أن المختلعة عدَّتها حيضه؛ لقوله: "فجعل النَّبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضه"، ووجه ذلك: أنه لا رجعة للزوج عليها فلا فائدة من تطويل العدَّة، بل تطويل العدة فيه مضرة على الزوجة، فإنه ربما يؤدي إلى أن تبقى في ثلاث حيض سنة كاملة إذا كانت ممن لا يحيض إلا بعد أربعة أشهر فمعنى ذلك أنها تبقى اثني عشر شهرًا. ومن فوائد الحديث: بيان سبب طلب امرأة ثابت بن قيس للخلع؛ لقوله: "كان دميمًا". ومن فوائد: شدة بغض امرأة ثابت له؛ لقولها: "ولبصقت في وجهه". ومن فوائد الحديث: أن الخوف من الله يحمل على محاسن الأخلاق؛ لأن مخافة الله منعتها من البصاق في وجهه. ومن فوائد الحديث: أن البصاق مكروه وعدوان، وهو عند بعض الناس أشد من الضرب، يعني: لو ضربت الرجل كان أهون عليه من البصاق في وجهه، ولهذا نهي النَّبي صلى الله عليه وسلم عن بصاق المصلَّي قبل وجهه؛ لأن هذا ينافي الأدب مع الله الَّذي أنت بين يديه، بل رأى نخامة في جدار المسجد من الإمام فعزل الإمام عن إمامته لقبح فعله. ومن فوائد الحديث: أن هذا الخلع أول خلع وقع في الإسلام، كما أن الظهار الَّذي وقع في صدر سورة "قد سمع" أول ظهار في الإسلام، ولا تنسوا ما قسمناه في أول الباب من أن الخلع من الأجنبي له أقسام أربعة: أن يكون لمصلحة الزوج، أو مصلحة الزوجة، أو مصلحتهما، أو الإضرار بالزوج أو بالزوجة أو بهما أو لمصلحة الباذل للعوض.

7 - باب الطلاق

7 - باب الطلاق تعريف الطلاق لغة وشرعًا: "الطلاق" لغة: اسم مصدر طلق؛ لأن المصدر من طلق تطليق واسم المصدر طلاق، واسم المصدر هو: ما دل على معنى المصدر ولم يتضمن حروفه، وهو كثير، ومنه: سلام من التسليم كلام من التكليم طلاق من التطليق. و"الطلاق" في الاصطلاح: حل قيد النكاح أو بعضه، وكلمة بعضه معطوفة على أي شيء؟ معطوفة على "قيد" فيكون على بعض قيده؛ وذلك لأن الطلاق قد يكون بائنًا تبين به المرأة ولا تحل إلا بعد زوج، وقد تكون غير بائن، يعني: طلاقها يكون دون الثلاث، فهذا حل لبعض القيد وليس حلًّا للقيد؛ وذلك لأن الزوج في هذه الحال يمكنه أن يراجع حكم الطلاق يدل عليه قول الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإنَّ الله غفور رحيم * وإن عزموًا الطلاق فإنَّ الله سميع عليم} [البقرة: 226 - 227]. {فاءوا}: يعني: رجعوا في أيمانهم {فإن الله غفور رحيم}. وهذا حث على الرجوع؛ لأن كل إنسان يطلب المغفرة والرحمة ل {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} وهذا فيه شيء من التهديد، يعني فإنه يسمع ما يعزمون به وهو الطلاق ويعلم أحوالهم، والآية تشير إلى أن الطلاق غير محبوب إلى الله عز وجل، من الذين يؤلون من نسائهم؟ هو الرجل يحلف على زوجته ألا يطأها إما دائمًا أو مدة تزيد على أربعة أشهر، فيقال لهذا الرجل: إما أن ترجع لزوجتك وتكفر عن يمينك وهذا هو الأفضل لقوله: {فإن الله غفور رحيم} وإما أن تطلق وهذا هو المفضول المرجوح لقوله: {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}، أما من السنة فالدليل على أنه غير مرغوب فيه ما رواه في الحديث القادم. 1025 - عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبعض الحلال عند الله الطلاق". رواه أبو داود، وابن ماجه، وصحَّحه الحاكم، ورجَّح أبو حاتم إرساله. والمرسل من قسم الضعيف. هذا الحديث نشرحه على أنه مقبول، قوله: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، "أبغض": اسم تفضيل، والبغض ضد المحبة، والحلال ما أحله الله، والطلاق عرفنا معناه. فالحديث يدل على أن من الحلال ما هو مبغوض إلى الله عز وجل، وأن أبغضه الطلاق وذلك

ذكر المفاسد المترتبة على الطلاق

لما فيه من منافاة الأمر بالنكاح؛ لأن الأمر بالنكاح بإيجاد الزوجات والطلاق حل للزوجات وإبعاد عنهن فهو منافٍ لمقصود الشرع من طلب النكاح. ذكر المفاسد المترتبة على الطلاق: • يترتب على الطلاق مفاسد كثيرة: منها: أنه قد يكون بين الزوجين أولاد فإذا طلقها تشتت الأولاد، واختلفت عليهم الحياة وصاروا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ومنها: أنه ربما تكون المرأة فقيرة وأهلها فقراء ويكون الزوج في حال النكاح كافيًا لها، فإذا طلقها صارت عالة على الناس وضاقت عليها الدنيا بما رحبت. ومنها: أن الزوجة إذا طلقت فإن الرغبة تقل فيها حتى وإن لم يكن معها أولاد فكيف إذا كان معها أولاد وحينئذٍ تبقي عانسًا ليس لها من يتزوجها وهذه مضرة عليها. ومنها: فوات ما يترتب على الإنفاق من الزوجات من الأجر والثواب والخلف العاجل من الله عز وجل، ومفاسده كثيرة لو أردنا أن نتتبعها ولهذا كان مبغوضًا إلى الله عز وجل مع أنه أحله، وإحلاله- سبحانه وتعالى- للطلاق؛ لأن الحاجة قد تدعو إليه. ولكن هذا الحديث في سنده اختلاف بين العلماء: هل هو مرسل أو متصل، وفي معناه أيضًا شيء من النكارة؛ لأن الحلال لا يمكن أن يكون مبغوضًا إلى الله إذ لو أبغضه الله عز وجل بما أحله، من الذي يكره الله عز وجل على أن يشرع للعباد أو يحل للعباد ما يبغضه ولو صح الحديث لكانت هذه العلة في المتن يمكن أن تتلافى، بأن يفهم البغض على عدم المحبة يعني لا يحبه لكن لا يبغضه فيكون إطلاق البغض هنا على انتفاء المحبة، هذا لو صح الحديث وإذا لم يصح فقد كفينا إياه. ولهذا أنا أحب منكم عندما يستدل عليكم مستدلٌّ بالقرآن أن تبحثوا عن المعنى هل هو يؤيد ما ذهب إليه أم لا، أما إذا استدل عليكم بالسنة والآثار فطالبوه أولًا بصحة النقل؛ لأنه إذا عجز عن الصحة بطل دليله، ولا نحتاج أن جادله في المعنى، فإذا صح النقل فحينئذ، جادله في المعنى، وهذا هو دأب أهل العلم في المناظرة والمجادلة، وهو دأب صحيح وطريق سليم، ويذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله كثيرًا في منهاج السنة في الرد على الرافضة، يقول: أول ما نطالبكم به بيان صحة النقل أثبتوا الأصل ثم نتفاهم على الفرع، المعنى أيضًا يقتضي أن الطلاق غير مرغوب فيه للأسباب التي ذكرناها، وأظن ذكرنا أربعة في هذا الحديث، إذا صح دليل على أن الأصل في الطلاق الكراهة. وقد قسم أهل العلم الطلاق إلى خمسة أقسام، وقالوا: إنه من الأشياء التي تجري فيها الأحكام الخمسة وهي الوجوب والتحريم والكراهة والاستحباب

حكم طلاق الحائض

والإباحة، فمتى يجب؟ يجب في الإيلاء إذا آلى الإنسان ألا يجامع زوجته، فإننا نطالبه إما بالطلاق وإما بالفيئة بالرجوع، إذا أبى الفيئة ألزمناه بالطلاق وجب عليه أن يطلق، ويحرم للبدعة، يعني إذا كان في حيض أو في طهر جامع فيه فهو حرام لقوله تعالى: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] أي: طلقوهن في زمن تبدأ فيه العدة، أي: في الوقت الذي تبتدئ فيه العدة طلقوهن، يستحب لتضرر الزوجة بالبقاء مع الزوج، يعني إذا كان لمصلحة الزوجة ودفع الضرر عنها فهو مستحب لما فيه من الإحسان إليها، فيدخل في عموم قوله تعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195]. فإذا رأينا أن الزوجة تتضرر في بقائها مع الزوج وهي تطالبه بالطلاق، قلنا له: جزاك الله خيرًا طلقها أحسن إليها، الرابع: الإباحة إذا دعت الحاجة إليه فهو مباح ودعاء الحاجة إلى الطلاق له أسباب، إما معيشية وإما اجتماعية أو غير ذلك، المهم متى دعت الحاجة إليه فهو مباح، والخامس: الكراهة وهي فيما عدا ذلك؛ لأنها الأصل فما خرج عن الكراهة فلا بد له من سبب. فإذا قال قائل: أنتم قلتم إنه مباح للحاجة هل هذا ينطبق على القاعدة الأصولية؟ فالجواب: نعم، لأن القاعدة الأصولية أن المكروه تبيحه الحاجة، ما هي القاعدة؟ وكلُّ ممنوعٍ فللضَّرورة ... يباح والمكروه عند الحاجة حكم طلاق الحائض 1026 - وعن ابن عمر رضي الله عنه: "أنه طلَّق امرأته وهي حائضٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: مره فليراجعها، ثمَّ ليمسكها حتَّى تطهر، ثمَّ تحيض، ثم تطهر، ثمَّ إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلَّق قبل أن يمسَّ، فتلك العدَّة الَّتي أمر الله أن تطلَّق لها النِّساء". متَّفقٌ عليه. جملة "وهي حائض": في محل نصب على الحال من "امرأة"، والحيض: معروف هذا الدم الطبيعي الذي يعتاد الأنثى في أيام معلومة، قال أهل العلم: وقد خلقه الله تعالى لغذاء الولد ولهذا إذا حملت المرأة انقطع حيضها، "فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك"، يعني: عن طلاقها وهي حائض، وهذا السؤال يحتمل أنها حال غريبة أن يطلق وهي حائض وأنه من العادة عندهم

ألا يطلق الرجل امرأته وهي حائض؛ لأن هذا السؤال لا بد له من سبب وإلا لسكت عمر وأجرى الأمور على ما هي عليه. وإنما قررنا ذلك لئلا يحتج محتج على وقوع الطلاق في زمن الحيض لكون النبي صلى الله عليه وسلم لا يستفصل المطلقين وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم بالمقال، وسيأتي ذلك في بيان حكم طلاق الحائض، فسأل عمر عن ذلك فقال: "مره فليراجعها" يعني: قل له راجعها، واللام في قوله: "فليراجعها" لام الأمر؛ ولهذا جزم الفعل بها وسكنت بعد الفاء، لأن لام الأمر تسكن بعد الفاء وثم والواو {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والأخرة فيمدد بسببٍ إلى السماء ثم ليقطع فلينظر} [الحج: 15]. {ثم ليقضوا تفثهم "مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر"، قوله: "فليراجعها" هل المراد بالمراجعة: المراجعة اللغوية، أو المراجعة الشرعية؟ على قولين للعلماء، فمنهم من قال: مراجعة هنا: المراجعة الشرعية، وهي لا تكون إلا بعد ثبوت الطلاق؛ لأن المراجعة الشرعية إعادة المطلقة على ما كانت عليه قبل الطلاق، ومن العلماء من قال: هي المراجعة اللغوية التي معناها إرجاع المرأة إلى ما كانت عليه أو ردها إلى بيتها وعليه الأول جمهور العلماء وعلى الثاني شيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقه في ذلك. وسيأتي الخلاف في هذه المسألة وهي من أكبر مسائل الخلاف وأخطرها، ولهذا سوف نقرأ زاد المعاد بعدما ننهي شرح الحديث لأنه مهما "ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر"، يردها ويمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، وفي هذه الحال لا يجامع، بل يتركها بدون جماع فعلي، هذا لا بد أن تكمل الحيضة التي وقعت فيها الطلاق ثم الطهر الذي بعدها ثم الحيضة الثانية، فإذا جاء الطهر الثاني فهو بالخيار، ولهذا قال ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق، "أمسك" يعني: أمسكها عنده ولم يطلقها، و"طلق" يعني: طلاقًا جديدًا أو طلق الطلاق الأول، ينبني على الخلاف في المراجعة السابقة إن كانت مراجعة شرعية يعني كانت بعد وقوع الطلاق الأول فالطلاق هذا طلاق ثان، وإلا فالطلاق هو الأول، يعني ثم شاء طلق أي كرر الطلاق، ولكن يقول: قبل أن يمس أي قبل أن يجامع؛ لأنه لو جامعها بعد طهرها من الحيض وجب عليه أن ينتظر حتى تحيض ثم تطهر ثم يطلق، إذ إنه لا يجوز للرجل أن يطلق زوجته في طهر جامعها فيه. يقول: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"، "فتلك" المشار إليه ما سبق من الكلمات أو الحكم "العدة التي .. إلخ"، وهنا يقول: "تلك العدة التي أمر"، وأنث الإشارة باعتبار المشار إليه وهو الخبر، ولهذا قال العلماء: إذا جاء اسم الإشارة بين مذكر ومؤنث فلك الخيار

بين أن تذكره اعتبارًا بما سبق أو تؤنثه لما لحقه، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء في أي آية؟ ، في سورة النساء القصيرة، تسمى عند السلف بسورة النساء القصيرة، وسورة النساء الطويلة التي بعد آل عمران، هذه سورة النساء القصيرة لأن أكثر ما فيها من الأحكام يتعلق بالنساء، المهم أنها سورة الطلاق: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]. وحينئذٍ تكون عدتهن أن يطلقهن في طهر لم يجامعها فيه، إلا أن تكون حاملًا، فإن كانت حاملًا، فليس لطلاقها ستة ولا بدعة كل طلاقها سنة يعني إذا طلق الحامل ولو كان جامعها قبل قليل فالطلاق سني ليس بدعيًّا، ومن قال من العلماء: إنه لا سنة ولا بدعة لحامل المعنى أن البدعة لا تتصور فيها. وإلا فإن طلاقها لا شك طلاق سنة لأنه طلق للعدة. ? ? ? ? - وفي روايةٍ لمسلم: "مره فليراجعها، ثمَّ ليطلِّقها طاهرًا أو حاملًا". الفرق بين هذه الرواية وما سبق أن قوله: "فليطلقها طاهرًا" يدخل فيها ما إذا طلقها بعد طهرها من الحيضة التي وقع الطلاق فيها، يعني: الرواية الأولى المتفق عليها "مره فليراجعها .... إلخ". وهذه الرواية "فليطلقها طاهرًا أو حاملًا": يقتضي أنه إذا طلقها في الطهر الذي عقب حيضها الذي وقع فيه الطلاق فهو طلاق جائز، لأنه يصدق عليها أنه طلقها وهي طاهر وهذه المسألة اختلف فيها العلماء فمنهم من قال: إن قوله "طاهرًا" مطلق فيحمل على ما سبق أي: طاهرًا بعد الحيضة الثانية، ومنهم من قال: إن انتظاره إلى الحيضة الثانية سنة، يعني: إلى الطهر الثاني بعد الحيضة الثانية سنة، وأما انتظاره إلى الطهر الأول بعد الحيضة التي وقعت فيها الطلاق فهو واجب، في حمل اختلاف الروايتين على اختلاف الحكمين، ولو قيل: إن كان عامدًا فإنه يعاقب بتطويل الأمر عليه فلا يؤذن له في الطلاق إلا بعد الحيضة الثانية، وإن كان غير عامد فإنه يرخص له في الطلاق في الطهر الأول. لو قيل بهذا لكان جيدًا لكن هذا القول يمنع من أن قصة ابن عمر واحدة وهو إما هذا وإما هذا يعني ليس هذا حكمًا مستقلًّا غير مبنيٍّ على سبب، لو كان الأمر كذلك لكان الذي قلته هذا وجهًا، لكن القصة واحدة وحينئذ لا بد من الترجيح، فهل نرجح رواية مسلم ونقول: إنه يجوز أن يطلقها في الطهر الذي يعقب الحيضة التي وقعت فيها الطلاق، أم لا بد من طهر ثم حيض ثم طهر. الرواية الأولى متَّفقٌ عليها، وهذه في مسلم وطريق الترجيح أن المتفق عليه مقدم على ما انفرد به أحدهما، أي: البخاري ومسلم، ثم إن في الرواية الأولى زيادة علم وتفصيل يقول: "مره فليراجها، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر"، فالأقرب أن تقول: إنه لا يحل الطلاق إلا بعد الحيضة الثانية على ذكر هذا الحديث.

- وفي روايةٍ أخرى للبخاريِّ: "وحسّبت تطليقة". "حسيب": فعل ماضٍ مبني للمجهول يعني: لا يعرف فاعله "حسبت" من الذي حسبها؟ هل حسبها الرسول صلى الله عليه وسلم أو حسبها ابن عمر أو حسبها من روي عن ابن عمر أم من؟ يقول بعضهم: إن هذه الرواية مدرجة ليست من أصل الحديث، وإنما أدرجها بعض الرواة تفقهًا منه؛ لقوله: "مره فليراجعها ... إلخ" ولهذا جاء في رواية أبي داود بسند صحيح: "ولم يرها شيئًا ردها"، ما معنى: "ولم يرها شيئًا، ؟ يعني: لم يعتبرها، وقال الذين يقولون بوقوع الطلاق في الحيض: وإن قوله: "ولم يرها شيئًا" يعني: لم يرها شيئًا موافقًا للشرع، ولكن لا شك أن هذا خلاف ظاهر اللفظ. 1028 - وفي روايةٍ لمسلمٍ: قال ابن عمر: "أمَّا أنت طلَّقتها واحدةً أو اثنتين؛ فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أراجعها، ثمَّ أمسكها حتَّى تحيض حيضةً أخرى، ثمَّ أمهلها حتَّى تطهر ثمَّ أطلِّقها قبل أن أمسَّها وأمَّا أنت طلَّقتها ثلاثًا، فقد عصيت ربَّك فيما أمرك به من طلاق امرأتك". "يخاطب رجلًا يقول ... إلخ" يعني: إذا كنت طلقتها واحدة أو اثنتين فلك أن تراجعها، "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني .... إلخ"، وذلك لأن المطلق مرة واحدة له أن يراجع والمطلق مرتين له أن يراجع ودليل ذلك قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروفٍ ... } الآية. وظاهر هذه الرواية "أو اثنتين" أن الطلاق الواحدة والثنتين جائز وليس كذلك، فإن الثنتين إما مكروهتان أو محرمتان؛ لأن فيهما استعجال البينونة؛ لأن الرجل إذا طلق مرة بقي له ثنتان وإذا طلق مرتين بقي له واحدة، فيكون مستعجلًا البينونة حارمًا نفسه ما أعطاه الله. يقول: "وأما أنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك .. إلخ"، "ثلاثًا" ليس المراد: الطلقة الثالثة؛ لأن هذا جائز، لكن مراده: طلقتها ثلاثًا فقلت: أنت طالق ثلاثًا، أو قلت: أنت طالق أنت طالق أنت طالق؛ "فإنك قد عصيت ربك ... إلخ"؛ وذلك لأن الطلاق إنما يكون مرة واحدة ثم مرة أخرى ثم مرة ثالثة بعد رجعة أو عقد جديد. في هذا الحديث فوائد: أولًا: أن الأحكام قد تخفى على أهل العلم وذلك لخفاء التحريم الطلاق في الحيض على ابن عمر وعلى عمر. ومنها: أنه يجوز للإنسان أن يسأل عن فعل غيره أي عن حكمه ودليل ذلك أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل ابن عمر ولكن هذا يقيد بما إذا كان يسأل يريد أن ينصح صاحبه، أما إذا كان يريد أن يشمت به فهذا لا يجوز.

ومن فوائد الحديث: جواز الاستنابة في إبلاغ الحكم الشرعي لقوله: "مره فليراجعها"، وعلى هذا فإذا استناب المفتي شخصًا آخر وقال له: قل للجماعة هذا حلال أو هذا حرام؛ فإنه يجوز، ولكن هل يقول المستنيب: قال فلان كذا، أو يجزم بالحكم؟ الثاني: وإن شاء الأول؛ يعني: له أن يجزم بالحكم، وله أن يقول: قال فلان كذا، وعلى هذا فعمر هل قال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني أن آمرك بمراجعتها، أو قال: راجعها؟ يجوز هذا وهذا، لكن الذي يظهر- والله أعلم- أنه الثاني أنه قال: "راجعها". ومن فوائد الحديث: تحريم الطلاق في الحيض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برده. ومن فوائد الحديث: أن المحرم لا ينفذ شرعًا لقوله: "مره فليراجعها" هذا هو الذي يظهر، أي: أن طلاق ابن عمر لم ينفذ في حال الحيض، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بردها؛ ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، فإنا نسأل هل الطلاق في الحيض عليه أمر الله ورسوله؟ وسيكون الجواب: لا؛ فإذا كان لا، قلنا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ... إلخ. فإذا قال قائل: إن قولكم هذا يرده قوله: "فليراجعها"، والمراجعة لا تكون إلا بعد طلاق. قلنا: كلمة "فليراجعها" تحتمل معنيين: أحدهما: ما ذكرت بأنه لا رجعة إلا بعد الطلاق، والثاني: أن المراد بها: المراجعة اللغوية؛ أي: ردها إلى نكاحها وهذا لا يلزم منه الوقوع دليل ذلك- أي: دليل أن المراجعة يراد بها ردها للأول لا أنها مراجعة شرعية قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا} [البقرة: 230]. أي: على الزوجة والزوج الأول أن يتراجعا، ومن المعلوم أن الرجعة هنا غير ممكنة؛ لأنه حال بينها وبين الطلاق نكاح رجل آخر. إذن فالمراجعة لما كانت تحمل معنيين سقط الاستدلال بها على تعيين أحدهما إلا بدليل وإذا رجعنا للدليل قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل ... إلخ" وهذا عمل ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون مردودًا، وأيضًا لو أمرناه أن يراجعها واحتسبنا الطلاق لزم من ذلك أن تضيق على المطلق؛ لأنه سيكون مطلقًا مرتين؛ وأيضًا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستفصل هل هي الطلقة الأولى أو الثانية أو الثالثة بل أمر بالرد مطلقًا ومعلوم أنها لو كانت الثالثة لم تصح المراجعة الشرعية؛ لأنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره ولا سبيل له إلى الرجعة، فلما لم يستفصل وجب أن يحمل على أن المراد: المراجعة اللغوية. ومن فوائد الحديث: أن من طلق زوجته في حيض لزمه أن ينتظر إلى ما بعد الحيضة الثانية. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن يطلق زوجته في طهر جامعها فيه لقوله: "إن شاء طلق قبل أن يمس".

ومن فوائد الحديث: أن السنة تفسر القرآن لقوله: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". فإن قال قائل: ما وجه كون هذه هي العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء. قلنا: وجه ذلك أنه إذا طلقها في حيض فإن الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحسب من العدة فيكون طلق لغير عدة، هذا واضح في الطهر الذي جامعها نقول كذلك هو لم يطلق لعدة متيقنة صحيح أنها تبدأ العدة من حين ما طلق لكنها عدة غير متيقنة كيف ذلك؟ لأنها قد تحمل من هذا الجماع فتكون عدتها بوضع الحمل وقد لا تحمل فتكون عدتها بالإقراء؛ أي: بالحيض، ونحن إلى الآن لم نتبين أنها حامل أو غير حامل يتبين ذلك إذا حاضت أو ينشأ الحمل ويتبين. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للإنسان أن يطلق الحامل ولو جامعها"؛ لأنه إذا طلق الحامل طلق لعدة من حين ما يطلق تبدأ في عدتها، وأما ما اشتهر عند العامة من أن طلاق الحامل لا يقع فهذا لا أصل له ولا صحة له، ولا قال به أحد من أهل العلم. ومن فوائد الحديث: أنه لو طلق من لا تحيض لكونها صغيرة أو آيسة فإنه لا حرج عليه ولو كان قد جامعها لماذا؟ لأنها تبدأ في العدة من حين الطلاق، الصغيرة التي لا تحيض ليس لها عدة بالحيض والآيسة كذلك عدتهما بالأشهر، إذا كانت العدة بالأشهر فإنها تبتدئ من حين الطلاق وعلى هذا دعونا نحصر إذا طلقها حائضًا أو في طهر جامعها فيه ولم يتبين حملها فهذا حرام، إذا طلقها حاملًا أو في طهر لم يجامعها فيه فهذا وهو طلاق سنة، إذا طلق من لا تحيض فهو طلاق سنة ولو كان قد جامعها؛ لأنه من حين يطلق تشرع في العدة وكذلك إذا طلق الآيسة التي بلغت سنًّا لا تحيض معه فهو طلاق سنة وتشرع في العدة من حين الطلاق. حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم طلاق الحائض والنَّفساء والموطوءة في طهرها، وتحريم إيقاع الثلاث جملة. في "الصحيحين": أن ابن عمر رضي الله عنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء يطلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".

- ولمسلم: "مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا". - وفي لفظ: "إن شاء طلقها طاهرًا قبل أن يمس، فذلك الطلاق للعدة كما أمره الله تعالى". - وفي لفظ للبخاري: طمره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل عدتها". - وفي لفظ لأحمد"، وأبي داود، والنسائي، عن ابن عمر رضي الله عنه: قال: طلَّق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرها شيئًا، وقال: "إذا طهرت فليطلق أو ليمسك". وقال ابن عمر رضي الله عنه: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهنَّ} {الطلاق: 1]. في قبل عدتهن. فتضمن هذا الحكم أن الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلال، ووجهان حرام: فالحلالان: أن يطلق امرأته طاهرًا من غير جماع، أو يطلقها حاملًا مستبينًا حملها. والحرامان: أن يطلقها وهي حائض، أو يطلقها في طهر جامعها فيه هذا في طلاق المدخول بها، وأما من لم يدخل بها، فيجوز طلاقها حائضًا وطاهرًا، كما قال تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضةً} [البقرة: 236]. وقال تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدةٍ تعتدونها} [الأحزاب: 49]. وقد دل على هذا قوله تعالى: {فطلقوهنَّ لعدّتهن} [الطلاق: 1]. وهذه لا عدة لها، ونبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"، ولولا هاتان الآيتان اللتان فيهما إباحة الطلاق قبل الدخول، لمنع من طلاق من لا عدة له عليها. وهذا يقتضي أن لا طلاق إلا لعدة والتي لم يدخل بها فليس لها عدة لكنه صرَّح بأنه من لم يدخل بها فإنه يجوز طلاقها. إذن {فطلقوهنّ لعدّتهن} هذا فيمن لها عدة يجب أن تطلق للعدة ومعنى طلَّق للعدة: أن تطلَّق لعدة متيقنة تشرع فيها من حين الطلاق؛ لأن اللام للتوكيد كقوله تعالى: {أقم الصلوة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78]. أي: عند دلوكها، ولا يمكن أن يكون طلاق تشرع فيه عدة متيقنة إلا إذا طلقها وهي طاهر من غير جماع أو إذا طلقها وهي حامل؛ لأنه إذا طلقها وهي حامل شرعت في العدة فورا وإذا طلقها طاهرا من غير مسيس من غير جماع شرعت في العدة في الحال ولهذا إذا كانت آيسًا لا تحيض يجوز أن يطلقها ولو كان قد جامعها لماذا؟ لأنها تشرع في العدة في الحال وعدتها ثلاثة أشهر وكذلك الصغيرة التي لم

تحض بعد والآيسة والحامل ومن طلِّقت في طهر لم تجامع فيه. كل هؤلاء طلاقهن جائز طلاق سنة. وفي سنن النسائي وغيره: من حديث محمود بن لبيد، قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان، فقال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ "، حتى قام رجل، فقال: يا رسول الله، أفلا أقتله. وفي "الصحيحين": عن ابن عمر رضي الله عنه، أنه كان إذا سئل عن الطلاق قال: "أما أنت إن طلقت امرأتك مرة أو مرتين"، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، وإن كنت طلقتها ثلاثًا، فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك، وعصيت الله فيما أمرك من طلاق امرأتك. فتضمنت هذه النصوص أن المطلقة نوعان: مدخول بها، وغير مدخول بها، وكلاهما لا يجوز تطليقها ثلاثًا مجموعة، ويجوز تطليق غير المدخول بها طاهرًا وحائضًا. وأما المدخول بها، فإن كانت حائضًا أو نفساء، حرم طلاقها، وإن كانت طاهرًا، فإن كانت مستبينة الحمل، جاز طلاقها بعد الوطء وقبله، وإن كانت حائلًا لم يجز طلاقها بعد الوطء في طهر الإصابة، ويجوز قبله، هذا الذي شرعه الله على لسان رسوله من الطلاق، وأجمع المسلمون على وقوع الطلاق الذي أذن الله فيه، وأباحه إذا كان من مكلف مختار، عالم بمدلول اللفظ، قاصد له. هذه القيود للمتفق عليه أولًا إذا كان "من مكلف" فإن كان من صغير ففي وقوع الطلاق منه خلاف، والمذهب إذا كان يعقل الطلاق وإذا كان من مجنون لا يقع الطلاق؛ لأنه لا يعقل، الثاني: "مختار" ضده المكره لا يقع منه الطلاق لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في إغلاق"، والثالث: "عالم بمدلول اللفظ"، فإن كان لا يعلم كرجل أعجمي قال لزوجته: أنت طالق وهو لا يعرف معنى طالق، أو رجل عربي قال لزوجته بلغة غير عربية ما معناه: أنت طالق، فإنه لا يقع الطلاق، لماذا؟ لأنه لا يعلم مدلوله ما يدري ما معنى أنت طالق، الرابع: "قاصد له" فإن لم يقصد فإنه لا يقع الطلاق لو قال لزوجته أنت طالق ولم يقصد الطلاق فإنه لا يقع ولكنه يقع حكمًا، يعني: عند التحاكم نلزمه به؛ لأن النية أمر باطن لا يعلم وهنا ينبغي أن يقسم قول القائل: أنت طالق إلى ثلاثة أقسام القسم: الأول: أن ينوي الطلاق فيقع الطلاق ولا إشكال فيه، الثاني: أن ينوي غير الطلاق بأن ينوي بقوله: أنت طالق أي من قيد أي لست مربوطة فهذا لا يقع الطلاق ولا إشكال فيه، الثالث: ألا يقصد هذا ولا هذا يكون كلمة خرجت من لسانه ولا يقع لا هذا ولا هذا

المحرم من الطلاق

أيضًا لا يقع منه الطلاق لكن لو حاكمته المرأة ورجعنا إلى القاضي فإن القاضي يحكم بالطلاق اعتبارًا بظاهر اللفظ لئلا يقع التلاعب من أهل الفسق يطلق ألف مرة ويقول ما أردت الطلاق. فإذا قال قائل: إذا كان الحكم يقع عليه الطلاق وليس لنا إلا الظاهر فهل يجب على المرأة أن تحاكم الزوج لإيقاع الطلاق أو لا يحل لها أن تحاكم الزوج خوفًا من أن يكون صادقًا؟ فالجواب على هذا أن نقول: يجب أن ننظر إلى هذا الزوج إن كان عند الزوج تقوى لله وخشية له وأنه لا يمكن أن يدَّعي أنه لم يرد الطلاق إلا وهو صادق فهنا لا يحل لها أن تحاكمه لأنها إذا حاكمته سوف يفرق بينهما وهي زوجته وإن كان الرجل من المتهاونين الذين لا يبالون وليسر له همٌّ إلا أن يشبع رغبته فيجب عليها أن تحاكمه من أجل أن يحكم القاضي بالطلاق ويفرق بينهما. وقول المؤلف: وأما المدخول بها فإن كانت حائضًا أو نفساء، حرم طلاقها، أما الحائض فلا شك في تحريم الطلاق لما جرى من قصة ابن عمر فإن الرسول تغيظ فيه ورده، لكن إذا كانت نفساء ففي تحريم طلاقها نظر وفي عدم وقوعه أيضًا نظر؛ لأن من طلقها وهي نفساء فقد طلقها للعدة، النبي صلى الله عليه وسلم علَّل التحريم؛ لأنه مخالف للعدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء والنفساء إذا طلقها زوجها فقد طلقها للعدة لأنها تشرع في العدة من حين أن يطلقها كما لو طلق الآيسة والصغيرة التي لا تحيض لأنها تشرع في العدة من حين الطلاق فالظاهر لي أنا أن طلاق النفساء لا يحرم وأنه يقع؛ لأن المطلق قد امتثل أمر الله في قوله: {فطلقوهنّ لعدَّتهن} فهذه النفساء تشرع في العدة من حين الطلاق ويبقى حتى يأتيها الحيض ثلاث مرات بخلاف من طلقها في الحيض، فإذا طلقها في الحيض فإن الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحسب من العدة فيكون قد طلق في غير العدة لأنها لا تحسب من العدة فهذا هو الفرق. المحرم من الطلاق: واختلفوا في وقوع المحرم من ذلك، وفيه مسألتان: المسألة الأولى: الطلاق في الحيض، أو في الطهر الذي واقعها فيه. المسألة الثانية: في جمع الثلاث، ونحن نذكر المسألتين تحريرًا وتقريرًا، كما ذكرناهما تصويرًا، ونذكر حجج الفريقين، ومنتهى أقدام الطائفتين، مع العلم بأن المقلد المتعصب لا يترك من قلده ولو جاءته كل آية، وأن طالب الدليل لا يأتم بسواه، ولا يحكم إلا إيام، ولكل من

الناس مورد لا يتعداه، وسبيل لا يتخطاه، ولقد عذر من حمل ما انتهت إليه قوام، وسعى إلى حيث انتهت إليه خطاه. فأما المسألة الأولى: فإن الخلاف في وقوع الطلاق المحرم لم يزل ثابتًا بين السلف والخلف، وقد وهم من أدعى الإجماع على وقوعه، وقال بمبلغ علمه، وخفي عليه من الخلاف ما اطلع عليه غيره، وقد قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع، فهو كاذب، وما يدريه لعل الناس اختلفوا. كيف والخلاف بين الناس في هذه المسألة معلوم الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين؟ قال محمد بن عبد السلام الخشني: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل طلق امرأته وفي حائض، قال ابن عمر، لا يعتد بذلك، ذكره أبو محمد أبن حزم في "المحلى" بإسناده إليه". وقال عبد الرزاق في "مصنفه": عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه قال: كان لا يرى طلاقًا ما خالف وجه الطلاق، ووجه العدة، وكان يقول: وجه الطلاق: أن يطلقها طاهرًا من غير إجماع وإذا استبان حملها. وقال الخشني: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض: قال: لا يعتد بها قال أبو محمد ابن حزم: والعجب من جرأة من ادعى الإجماع على خلاف هذا، وهو لا يجد فيما يوافق قوله في إمضاء الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه كلمة عن أحد من الصحابة- رضي الله عنهم- غير رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسن منها عن ابن عمر، وروايتين ساقطتين عن عثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنه، إحداهما: رويناها من طريق ابن وهب عن ابن سمعان عن رجل أخبره أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقضي في المرأة التي يطلقها زوجها وهي حائض أنها لا تعتد بحيضتها تلك، وتعتد بعدها بثلاثة قروء، قلت: وابن سمعان هو: عبد الله بن زياد بن سمعان الكذاب، وقد رواه عن مجهول لا يعرف، قال أبو محمد: والأخرى من طريق عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن قيس بن سعد مولى أبي علقمة، عن رجل سماه، عن زيد بن ثابت أنه قال فيمن طلق امرأته وهي حائض: يلزمه الطلاق وتعتد بثلاث حيض سوى تلك الحيضة.

قال أبو محمد: بل نحن أسعد بدعوى الإجماع هاهنا لو استجزنا ما يستجيزون، ونعوذ بالله من ذلك، وذلك أنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم قاطبة، ومن جملتهم جميع المخالفين لنا في ذلك أن الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه بدعة نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة لأمره، فإذا كان لا شك في هذا عندهم، فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التى يقرون أنها بدعة وضلالة، أليس بحكم المشاهدة مجيز البدعة مخالفًا لإجماع القائلين بأنها بدعة؟ قال أبو محمد: وحتى لو لم يبلغنا الخلاف، لكان القاطع على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده، ولا بلغه عن جميعهم كاذبًا على جميعهم. قوله: "لكان القاطع .... إلخ". "القاطع": اسم كان، "وكاذبًا" خبره، معناه: أن الذي يقطع بالإجماع يكون كاذبًا على جميع الناس، والمسألة لم يرو فيها إلا عن عثمان بهذا السند الضعيف وزيد بن ثابت فكيف يدَّعى الإجماع بأنه يقع وابن حزم يقول: نحن أسعد بدعوى الإجماع هاهنا لو استجزنا ما يستجيزون، ما هو الذي يستجيزون؟ دعوى الإجماع. قال المانعون من وقوع الطلاق المحرم: لا يزال النكاح المتيقن إلا بيقين مثله من كتاب، أو سنة، أو إجماع متيقن، فإذا أوجدتمونا واحدًا من هذه الثلاثة رفعنا حكم النكاح به، ولا سبيل إلى رفعه بغير ذلك، قالوا: وكيف والأدلة المتكاثرة تدل على عدم وقوعه، فإن هذا طلاق لم يشرعه الله تعالى ألبتة، ولا أذن فيه، فليس من شرعه، فكيف يقال بنفوذه وصحته؟ قالوا: وإنما يقع من الطلاق ما ملكه الله تعالى للمطلق، ولهذا لا يقع به الرابعة؛ لأنه لم يملكها إياه، ومن المعلوم انه لم يملكه الطلاق المحرم، ولا أذن له فيه، فلا يصح، ولا يقع. قالوا: ولو وكل وكيلًا أن يطلق امرأته طلاقًا جائزًا، فطلق طلاقًا محرمًا، لم يقع؛ لأنه غير مأذون له فيه، فكيف كان؟ ! إذن المخلوق معتبرًا في صحة إيقاع الطلاق دون إذن الشارع، ومن المعلوم أن المكلف إنما يتصرف بالإذن، فما لم يأذن به الله ورسوله لا يكون محلًّا للتصرف ألبتة. قالوا: وأيضًا فالشارع قد حجر على الزوج أن يطلَّق في حال الحيض أو بعد الوطء في الطهر، فلو صح طلاقه لم يكن لحجر الشارع معنى، وكان حجر القاضي على من منعه التصرف أقوى من حجر الشارع حيث يبطل التصرف بحجره. قالوا: وبهذا أبطلنا البيع وقت النداء يوم الجمعة؛ لأنه بيع حجَّر الشارع على بائعه هذا الوقت، فلا يجوز تنفيذه وتصحيحه.

قالوا: ولأنه طلاق محرم منهي عنه، فالنهي يقتضي فساد المنهي عنه، فلو صححناه لكان لا فرق بين المنهي عنه والمأذون فيه من جهة الصحة والفساد. قالوا: وأيضًا فالشارع إنما نهى عنه وحرمه؛ لأنه يبغضه، ولا يحب وقوعه، بل وقوعه مكروه إليه، فحرمه لئلا يقع ما يبغضه ويكرهه، وفي تصحيحه وتنفيذه ضد هذا المقصود. قالوا: وإذا كان النكاح المنهي عنه لا يصح لأجل النهي، فما الفرق بينه وبين الطلاق، وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح، وصححتم ما حرمه ونهى عنه من الطلاق، والنهي يقتضي البطلان في الموضعين؟ قالوا: ويكفينا من هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم العام الذي لا تخصيص فيه برد ما خالف أمره وإبطاله وإلغائه، كما في والصحيح عنه، من حديث عائشة رضي الله عنه: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي رواية: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". وهذا صريح أن هذا الطلاق المحرم الذي ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم مردود باطل، فكيف يقال: إنه صحيح لازم نافذ؟ ! فأين هذا من الحكم برده؟ ! قالوا: وأيضًا فإنه طلاق لم يشرعه الله أبدًا، وكان مردودًا باطلًا كطلاق الأجنبية، ولا ينفعكم الفرق بأن الأجنبية ليست محلًّا للطلاق بخلاف الزوجة، فإن هذه الزوجة ليست محلًّا للطلاق المحرم، ولا هو مما ملكه الشارع إياه. قالوا: وأيضًا فإن الله سبحانه إنما أمر بالتسريح بإحسان، ولا أسوأ من التسريح الذي حرمه الله ورسوله، وموجب عقد النكاح أحد أمرين: إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، والتسريح المحرم أمر ثالث غيرهما، فلا عبرة به ألبتة. قالوا: وقد قال الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" [الطلاق: 1]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم المبين عن الله مراده من كلامه، أن الطلاق المشروع المأذون فيه هو الطلاق في زمن الطهر الذي لم يجامع فيه، أو بعد استبانة الحمل، وما عداهما فليس بطلاق للعدة في حق المدخول بها، فلا يكون طلاقًا، فكيف تحرم المرأة به؟ ! قالوا: وقد قال الله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229]. ومعلوم أنه إنما أراد الطلاق المأذون فيه، وهو الطلاق للعدة، فدل على أن ما عداه ليس من الطلاق، فإنه حصر الطلاق المشروع المأذون فيه الذي يملك به الرجعة في مرتين، فلا يكون ما عداه طلاقًا، قالوا: ولهذا كان الصحابة- رضي الله عنهم- يقولون: إنهم لا طاقة لهم بالفتوى في الطلاق المحرم، كما روى ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، ان ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من طلَّق كما أمره الله

فقد بين الله له، ومن خالف، فإنا لا نطيق خلافه" ولو وقع طلاق المخالف لم يكن الإفتاء به غير مطاق لهم، ولم يكن للتفريق معنى إذ كان النوعان واقعين نافذين. وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا: من أتى الأمر على وجهه فقد بين الله له، وإلا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون. وقال بعض الصحابة- وقد سئل عن الطلاق الثلاث مجموعة-: من طلق كما أمر، فقد بين له، ومن لباس، تركناه وتلبيسه. قالوا: ويكفي من ذلك كله ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت: حدثنا أحمد ابن صالح، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل أبن عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع: كيف ترى في رجل طلق أمرأته حائضًا؟ فقال: طلق ابن عمر امرأته حائضًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، قال عبد الله: فردها علي ولم يرها شيئًا، وقال: "إذا طهرت فليطلق أو ليمسك"، قال ابن عمر: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن} في قبل عدتهن، قالوا: وهذا إسناد في غاية الصحة، فإن أبا الزبير غير مدفوع عن الحفظ والثقة، وإنما يخشى من تدليسه، فإذا قال: سمعت، أو حدثني، زال محذور التدليس، وزالت العلة المتوهمة، وأكثر أهل الحديث يحتجون به إذا قال: "عن" ولم يصرح بالسماع، ومسلم يصحح ذلك من حديثه، فأما إذا صرح بالسماع فقد زال الإشكال، وصح الحديث، وقامت الحجة. قالوا: ولا نعلم في خبر أبي الزبير هذا ما يوجب رده، وإنما رده من رده استبعادًا واعتقادًا أنه خلاف الأحاديث الصحيحة، ونحن نحكي كلام من رده، ونبين أنه ليس فيه ما يوجب الرد. قال أبو داود: والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير. وقال الشافعي: ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا خالفه. وقال الخطابي: حديث يونس بن جبير أثبت من هذا يعني: قوله: "مره فليراجعها"، وقوله: "أرأيت إن عجز واستحمق؟ " قال: "فمه". قال ابن عبد البر: وهذا لم ينقله عنه أحد غير أبي الزبير، وقد رواه عنه جماعة أجلة، فلم يقل ذلك أحد منهم، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بخلاف من هو أثبت منه؟ !

وقال بعض أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا. فهذا جملة ما ردَّ به خبر أبي الزبير، وهو عند التأمل لا يوجب رده ولا بطلانه. أما قول أبي داود: الأحاديث كلها على خلافه، فليس بأيديكم سوى تقليد أبي داود، وأنتم لا ترضون ذلك، وتزعمون أن الحجة من جانبكم، فدعوا التقليد، وأخبرونا أين في الأحاديث الصحيحة ما يخالف حديث أبي الزبير؟ فهل فيها حديث واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتسب عليه تلك الطلقة، وأمره أن يعتد بها، فإن كان ذلك، فنعم والله هذا خلاف صريح لحديث أبي الزبير، ولا تجدون إلى ذلك سبيلًا، وغاية ما بأيديكم "مره فليراجعها"، والرجعة تستلزم وقوع الطلاق، وقول ابن عمر، وقد سئل: أتعتد بتلك التطليقة؟ فقال: "أرأيت إن عجز واستحمق"، وقول نافع أو من دونه: "فحسبت من طلاقها"، وليس وراء ذلك حرف واحد يدل على وقوعها والاعتذاد بها، ولا ريب في صحة هذه الألفاظ ولا مطعن فيها، وإنما الشأن كل الشأن في معارضتها، لقوله: "فردها علي ولم يرها شيئا"، وتقديمها عليه، ومعارضتها لتلك الأدلة المتقدمة التي سقناها، وعند الموازنة يظهر التفاوت، وعدم المقاومة، ونحن نذكر ما في كلمة كلمة منها. أما قوله: "مره فليراجعها"، فالمراجعة قد وقعت في كلام الله ورسوله على ثلاثة معان: أحدها: ابتداء النكاح، كقوله تعالى: {فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة: 230]. ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلق هاهنا: هو الزوج الثاني، وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول، وذلك نكاح مبتدأ. وثانيهما: الرد الحسي إلى الحالة التي كان عليها أولًا، كقوله: لأبي النعمان بن بشير لما نحل ابنه غلامًا خصه به دون ولده: "رده"، فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائزة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جور، وأخبر أنها لا تصلح، وأنها خلاف العدل، كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى. ومن هذا قوله لمن فرق بين جارية وولدها في البيع، فنهاه عن ذلك وردَّ البيع، وليس هذا الرد مستلزمًا لصحة البيع، فإنه بيع باطل، بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا، وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض ألبتة. وأما قوله: "أرأيت إن عجز واستحمق"، فيا سبحان الله! أين البيان في هذا اللفظ بأن تلك الطلقة حسبها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحكام لا تؤخذ بمثل هذا، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حسبها عليه، واعتد عليه بها لم يعدل عن الجواب بفعله وشرعه إلى: أرأيت، وكان ابن عمر أكره ما إليه "أرأيت"، فكيف يعدل للسائل عن صريح السنة إلى لفظة "أرأيت". الدالة على نوع من الرأي سببه عجز المطلق وحمقه عن إيقاع الطلاق على الوجه الذي أذن الله

له فيه، والأظهر فيما هذه صفته أنه لا يعتد به، وأنه ساقط من فعل فاعله، لأنه ليس في دين الله تعالى حكم نافذ سببه العجز والحمق عن امتثال الأمر، إلا أن يكون فعلًا لا يمكن رده بخلاف العقود المحرمة التي من عقدها على الوجه المحرم، فقد عجز واستحمق، وحينئذٍ، فيقال: هذا أدل على الرد منه على الصحة واللزوم، فإنه عقد عاجز أحمق على خلاف أمر الله ورسوله، فيكون مردودًا باطلًا، فهذا الرأي والقياس أدل على بطلان طلاق من عجز وأستحمق منه على صحته واعتباره. وأما قوله: "فحسبت من طلاقها"، ففعل مبني لما لم يسم فاعله، فإذا سمي فاعله ظهر وتبين، هل في حسبانه حجة أو لا؟ وليس في حسبان الفاعل المجهول دليل ألبتة، وسواء كان القائل: "فحسبت" ابن عمر أو نافعًا أو من دونه، وليسري فيه بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حسبها حتى تلزم الحجة به، وتحرم مخالفته، فقد تبين أن سائر الأحاديث لا تخالف حديث أبي الزبير، وأنه صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئًا، وسائر الأحاديث مجملة لا بيان فيها. قال الموقعون: لقد ارتقيتم أيها المانعون مرتقى صعبًا، وأبطلتم أكثر طلاق المطلقين، فإن غالبه طلاق بدعي، وجاهرتم بخلاف الأئمة، ولم تتحاشوا خلاف الجمهور، وشذذتم بهذا القول الذي أفتى جمهور الصحابة ومن بعدهم بخلافه، والقرآن والسنن تدل على بطلانه، قال تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره}، وهذا يعمُّ كل طلاق، وكذلك قوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروءٍ} [البقرة: 238]، ولم يفرق، وكذلك قوله تعالى: {الطلاق مرتان}، وقوله: {وللمطلقات متاع} [البقرة: 241]. وهذه مطلقة وهي عمومات لا يجوز تخصيصها إلا بنص أو إجماع. قالوا: وحديث ابن عمر دليل على وقوع الطلاق المحرم من وجوه: أحدها: الأمر بالمراجعة، وهي لمُّ شعث النكاح، وإنما شعته وقوع الطلاق. الثاني: قول ابن عمر: "فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلقها". وكيف يظن بابن عمر أنه يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسبها من طلاقها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئًا؟ ! الثالث: قول ابن عمر لما قيل له: أيحتسب بتلك التطليقة؟ قال: أرأيت إن عجز واستحمق، أي: عجزه وحمقه لا يكون عذرًا له في عدم احتسابه بها. الرابع: أن ابن عمر قال: وما يمنعني أن أعتاد بها، وهذا إنكار منه لعدم الاعتداد بها، وهذا يبطل تلك اللفظة التي رواها عنه أبو الزبير، إذ كيف يقول ابن عمر: وما يمنعني أن أعتد بها، وهو يرى رسول الله قد ردها عليه ولم يرها شيئا؟ !

الخامس: أن مذهب ابن عمر الاعتداد بالطلاق في الحيض، وهو صاحب القصة، وأعلم الناس بها، وأشدهم اتباعًا للسنن، وتحرجًا من مخالفتها، قالوا: وقد روى ابن وهب في "جامعه"، حدثنا ابن أبي ذئب، أن نافعًا أخبرهم عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ومره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وهي واحدة". هذا لفظ حديثه. قالوا: وروى عبل الرزاق، عن ابن جريج قال: أرسلنا إلى نافع وهو يترجل في دار الندوة ذاهبًا إلى المدينة، ونحن مع عطاء: هل حسبت تطليقة عبد الله بن عمر امرأته حائضًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قالوا: وروى حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلق في بدعة ألزمناه بدعته"، رواه عبد الباقي بن قانع، عن زكريا الساجي حدثنا إسماعيل بن أمية الذارع حدثنا حماد فذكره. قالوا: وقد تقدم مذهب عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت في فتواهما بالوقوع. قالوا: وتحريمه لا يمنع ترتب أثره وحكمه علية كالظهار، فإنه منكر من القول وزور، وهو لا محرم بلا شك، وترتب أثره عليه وهو تحريم الزوجة إلى أن يكفر، فهكذا الطلاق البدعي محرم، ويترتب عليه أثره إلى أن يراجع، ولا فرق بينهما. قالوا: وهذا ابن عمر يقول للمطلق ثلاثًا: حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق أمرأتك، فأوقع عليه الطلاق الذي عصى به المطلق ربه عز وجل. قالوا: وكذلك القذف محرم، وترتب عليه أثره من الحد، ورد الشهادة وغيرهما. قالوا: والفرق بين النكاح المحرم، والطلاق المحرم: أن النكاح عقد يتضمن حل الزوجة وملك بضعها، فلا يكون إلا على الوجه المأذون فيه شرعًا، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم، ولا يباح منها إلا ما أباحه الشارع، بخلاف الطلاق، فإنه إسقاط لحقه، وإزالة لملكه، وذلك لا يتوقف على كون السبب المزيل مأذونًا فيه شرعًا، كما يزول ملكه عن العين بالإتلاف المحرم، وبالإقرار الكاذب، وبالتبرع المحرم كهبتها لمن يعلم أنه يستعين بها على المعاصي والآثام

قالوا: والإيمان أصل العقود وأجلها وأشرفها، يزول بالكلام المحرم إذا كان كفرًا، فكيف لا يزول عقد النكاح بالطلاق المحرم الذي وضع لإزالته؟ ! قالوا: ولو لم يكن معنا في المسألة إلا طلاق الهازل، فإنه يقع مع تحريمه؛ لأنه لا يحل له الهزل بآيات الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يتخذون آيات الله هزوًا: طلقتك راجعتك، طلقتك راجعتك" فإذا وقع طلاق الهازل مع تحريمه، فطلاق الجاد أولى أن يقع مع تحريمه. قالوا: وفرق آخر بين النكاح المحرم، والطلاق المحرم، أن النكاح نعمة، فلا تستباح بالمحرمات، وإزالته وخروج البضع عن ملكه نقمة، فيجوز أن يكون سببها محرمًا. قالوا: وأيضًا فإن الفروج يحتاط لها، والاحتياط يقتضي وقوع الطلاق، وتجديد الرجعة والعقد. قالوا: وقد عهدنا النكاح لا يدخل فيه إلا بالتشديد والتأكيد من الإيجاب والقبول، والولي والشاهدين، ورضا الزوجة المعتبر رضاها، ويخرج منه بأيسر شيء، فلا يحتاج الخروج منه إلى شيء من ذلك، بل يدخل فيه بالعزيمة، ويخرج منه بالشبهة، فأين أحدهما من الآخر حتى يقاس عليه؟ ! قالوا: ولو لم يكن بأيدينا إلا قول حملة الشرع كلهم قديمًا وحديثًا: طلق امرأته وهي حائض، والطلاق نوعان: طلاق سنة، وطلاق بدعة، وقول ابن عباس رضي الله عنه: الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلال، ووجهان حرام، فهذا الإطلاق والتقسيم دليل على أنه عندهم طلاق حقيقة، وشمول اسم الطلاق له كشموله للطلاق الحلال، ولو كان لفظا مجردًا لغوا لم يكن له حقيقة، ولا قيل: طلق امرأته، فإن هذا اللفظ إذا كان لغوًا كان وجوده كعدمه، ومثل هذا لا يقال فيه: طلق، ولا يقسم الطلاق- وهو غير واقع- إليه وإلى الواقع، فإن الألفاظ اللاغية التي ليس لها معان ثابتة لا تكون هي ومعانيها قسمًا من الحقيقة الثابتة لفظًا، فهذا أقصى ما تمسك به الموقعون، وربما ادعى بعضهم الإجماع لعدم علمه بالنزاع. قال المانعون من الوقوع: الكلام معكم في ثلاث مقامات بها يستبين الحق من المسألة: المقام الأول: بطلان ما زعمتم من الإجماع، وأنه لا سبيل لكم إلى إثباته ألبتة، بل العلم بانتفائه معلوم. وقد ذكر رحمه الله من قبل أسماء من خالف في وقوع الطلاق وقالوا: إنه لا يصح. المقام الثاني: أن فتوى الجمهور بالقول لا يدل على صحته، وقول الجمهور ليس بحجة.

من أين يؤخذ؟ من قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ... } [النساء: 59]. ولم يقل- سبحانه وتعالى- فإن تنازعتم في شيء فخذوا بالأكثر قال: {فردوه إلى الله والرسول ... } وعلى هذا لو كان عشرة في المائة وافقوا ما قال الله ورسوله والتسعون في المائة خالفوا فالحق مع العشرة. المقام الثالث: أن الطلاق المحرم لا يدخل تحت نصوص الطلاق المطلقة التي رتب الشارع عليها أحكام الطلاق، فإن ثبتت لنا هذه المقامات الثلاث، كنا أسعد بالصواب منكم في المسألة. وهذا الوصف هذا هو الذي اتفق عليه الفقهاء أن المطلق الشرعي لا يدخل في المجرم؛ ولهذا قالوا: إذا حلف ألا يبيع فباع بيعًا محرمًا كالخمر فإنه لا يحنث مع أن بيع الخمر يسمى بيعًا لغة لكن المطلق ينصرف إلى الشيء الصحيح وكذلك لو باع ميتةً أو خنزيرًا وما أشبه ذلك، أو مجهولًا أو فيه غرزٌ فإنه لا يدخل في قوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275]. وأن المطلق في لسان الشرع يحمل على الصحيح ولا يتناول المحرم فالطلاق الذي أباحه الله عز وجل رتب عليه أحكامًا إنما يحمل على الطلاق الصحيح المباح، أما المحرم فلا تترتب عليه أحكام وهذه القاعدة متَّفقٌ عليها لكن قد يختلف العلماء في بحض مسائلها لاختلاف وجهات النظر. فالطلاق المحرم إذا أجريناه على هذه القاعدة انطبق تمامًا على قول من يرى أنه لا يقع لأن إيقاعنا إياه شبه مضادة لله عز وجل فإن الله لم ينه عنه إلا من أجل أن نتجنبه وألا نعتد به، فإذا نحن اعتدادنا به وقلنا إنه يقع فهل انتهينا؟ ما انتهينا، بل إننا نفذنا خلاف مقصود الشرع بإعدامه وعدم الالتفات إليه، وسيذكر ابن القيم رحمه الله تتمة البحث. فنقول: أما المقام الأول، فقد تقدم من حكاية النزاع ما يعلم معه بطلان دعوى الإجماع، كيف ولو لم يحلم ذلك، لم يكن لكم سبيل إلى إثبات الإجماع الذي تقوم به الحجة، وتنقطع معه المعذرة، وتحرم معه المخالفة، فإن الإجماع الذي ذلك هو الإجماع القطعي المعلوم. الإجماع الذي يوجب ذلك، يعني: يوجب أن يكون حجة وأن تحذروا مخالفته هو ما جمع هذه الألفاظ: القطعي المعلوم وإذا أخذنا بهذا الإنكار نجد مسائل مجمعًا عليها إلا مسائل نادرة يسيرة، ثم إن الإجماع الذي على هذا الشكل أي أنه قطعي معلوم لا بد أن يكون فيه

نصوص فيكون معتمدًا على هذه النصوص لكن أحيانًا يغيب عن المستدل النص أو لا يطلع عليه فيكتفي بالإجماع المعلوم القطعي ويكون هذا دليله. وأما المقام الثاني: وهو أن الجمهور على هذا القول، فأوجدونا في الأدلة الشرعية أن قول الجمهور حجة مضافة إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع أمته. ومن تأمل مذاهب العلماء قديمًا وحديثًا من عهد الصحابة وإلى الآن، واستقرأ أحوالهم وجدهم مجمعين على تسويغ خلاف الجمهور، ووجد لكل منهم أقوالًا عديدة انفرد بها عن الجمهور، ولا يستثنى من ذلك أحد قط، ولكن مستقلٌّ ومستكثر، فمن شئتم سميتموه من الأئمة تتبعوا ما له من الأقوال التي خالف فيها الجمهور، ولو تتبعنا ذلك وعددناه، لطال الكتاب به جدًّا، ونحن نحيلكم على الكتب المتضمنة لمذاهب العلماء واختلافهم، ومن له معرفة بمذاهبهم وطرائقهم يأخذ إجماعهم على ذلك من اختلافهم، ولكن هذا في المسائل التي يسوع فيها الاجتهاد، ولا تدفعها السنة الصحيحة الصريحة، وأما ما كان هذا سبيله، فإنهم كالمتفقين على إنكاره ورده، وهذا هو المعلوم من مذاهبهم في الموضعين. وأما المقام الثالث: وهو دعوكم دخول الطلاق المحرم تحت نصوص الطلاق، وشمولها للنوعين إلى آخر كلامكم، فنسألكم: ما تقولون فيمن ادعى دخول أنواع البيع المحرم، والنكاح المحرم تحت نصوص البيع والنكاح، وقال: شمول الاسم للصحيح من ذلك والفاسد سواء، بل وكذلك سائر العقود المحرمة إذا ادعى دخولها تحت ألفاظ العقود الشرعية، وكذلك العبادات المحرمة المنهي عنها إذا ادعى دخولها تحت الألفاظ الشرعية، وحكم لها بالصحة لشمول الاسم لها. البيوع" مثلنا لها مثل: بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والغرر، أما العبادات فلو صادف يوم العيد يوم الاثنين، وقال شخص: إن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على صوم يوم الإثنين فأصوم فهل يدخل في هذا؟ نقول: إن صمت لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم العيد كذلك الطلاق لو طلقت في الحيض لم يقع لأن الله قال: {فطلقوهن لعدتهن}. هل تكون" دعواه صحيحة أو باطلة؟ فإن قلتم: صحيحة ولا سبيل لكم إلى ذلك، كان قولًا معلوم الفساد بالضرورة من الدين، وإن قلتم: دعواه باطلة تركتم قولكم ورجعتم إلى ما قلناه، وان قلتم: تقيل في مواضع وترد في موضع قيل لكم: ففرقوا بفرقان صحيح مطرد منعكس،

معكم به برهان من الله بين ما يدخل من العقود المحرمة تحت ألفاظ النصوص، فيثبت له حكم الصحة، وبين ما يدخل من تحتها، فيثبت له حكم البطلان، وإن عجزتم عن ذلك، فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى التي يحسن كل أحد مقابلتها بمثلها، أو الاعتماد على من يحتج لقوله لا بقوله. كلمة عظيمة من يحتج لقوله لا بقوله، فإذا قال الإنسان هذا قول الإمام أحمد قلنا الإمام أحمد يحتج لقوله ولا يحتج بقوله ليس أحد من البشر يحتج بقوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أمرنا باتباعه كالخلفاء الراشدين مثلًا. وإذا كشف الغطاء عما قررتموه في هذه الطريق وجد عين محل النزاع فقد جعلتموه مقدمة في الدليل، وذلك عين المصادرة على المطلوب، فهل وقع النزاع إلا في دخول الطلاق المحرم المنهي عنه تحت قوله: {والمطلقات متاع}، وتحت قوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء}، وأمثال ذلك، وهل سلم لكم منازعوكم قط ذلك حتى تجعلوه مقدمة لدليلكم؟ قالوا: وأما استدلالكم بحديث ابن عمر، فهو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب منه إلى أن يكون حجة لكم من وجوه: أحدها: صريح قوله: فردها عليَّ ولم يرها شيئا، وقد تقدم بيان صحته. قالوا: فهذا الصريح الصحيح ليس بأيديكم ما يقاومه في الموضعين، بل جميع تلك الألفاظ إما صحيحة غير صريحة، وإما صريحة غير صحيحة كما ستقفون عليه. الثاني: أنه قد صح عن ابن عمر رضي الله عنه بإسناد كالشمس من رواية عبيد الله، عن نافع عنه، في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال: لا يعتد بذلك وقد تقدم. الثالث: أنه لو كان صريحًا في الاعتداد به، لما عدل به إلى مجرد الرأي، وقوله للسائل: أرأيت؟ الرابع: أن الألفاظ قد اضطربت عن ابن عمر في ذلك اضطرابًا شديدًا، وكلها صحيحة عنه، وهذا يدل على أنه لم يكن عنده نص صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقوع تلك الطلقة والاعتداد بها، وإذا تعارضت تلك الألفاظ نظرنا إلى مذهب ابن عمر، وفتواه، فوجدناه صريحًا في عدم الوقوع، ووجدنا أحد ألفاظ حديثه صريحًا في ذلك، فقد اجتمع صريح روايته وفتواه على عدم الاعتداد، وخالف في ذلك ألفاظ مجملة مضطربة، كما تقدم بيانه.

وأما قول ابن عمر رضي الله عنه: "وما لي لا أعتد بها"، وقوله: "أرأيت إن عجز واستحمق"، فغاية هذا أن يكون رواية صريحة عنه بالوقوع، ويكون عنه روايتان. وقولكم: كيف يفتي بالوقوع وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ردها عليه ولم يعتد عليه بها؟ فليس هذا بأول حديث خالفه راويه، وله بغيره من الأحاديث التي خالفها راويها أسوة حسنة في تقديم رواية الصحابي ومن بعده على رأيه. وهذه قاعدة مضطردة عند العلماء أن العبرة بما روى لا بما رأى وذلك لأن ما رواه خبر عن معصوم وهو ممن يقبل خبره وما رآه فهو رأي قابل للخطأ وقابل للصواب فلذلك كان العبرة بما روى لا بما رأى وأظنه قد ألف بعض العلماء كتابًا سماه: "مخالفة الصحابي فيما رأى لمًا روى". وقد روى ابن عباس حديث بريرة، وأن بيع الأمة ليس بطلاقها، وأفتى بخلافه، فأخذ الناس بروايته، وتركوا رأيه، وهذا هو الصواب، فإن الرواية معصومة عن معصوم، والرأي بخلافها، كيف وأصرح الروايتين عنه- أي: عن ابن عمر- موافقته لما رواه من عدم الوقوع على أن في هذا فقهًا دقيقًا إنما يعرفه من له غور على أقوال الصحابة ومذاهبهم، وفهمهم عن الله ورسوله، واحتياطهم للأمة، ولعلك تراه قريبًا عند الكلام على حكمه صلى الله عليه وسلم في إيقاع الطلاق الثلاث جملة. وأما قوله في حديث ابن وهب عن ابن أبي ذئب في آخره: "وهي واحدة"، فلعمر الله لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدمنا عليها شيئًا، ولصرنا إليها بأول وهلة، ولكن لا ندري أقالها ابن وهب من عنده، أم ابن أبي ذئب، أم نافع؟ ! فلا يجوز أن يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يتيقن أنه من كلامه، ويشهد به عليه، وترتب عليه الأحكام، ويقال: هذا من عند الله بالوهم والاحتمال، والظاهر أنها من قول من دون ابن عمر رضي الله عنه، ومراده بها: أن ابن عمر إنما طلقها طلقة واحدة، ولم يكن ذلك منه ثلاثًا، أي: طلق ابن عمر رضي الله عنه امرأته واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وأما حديث ابن جريج عن عطاء عن نافع، أن تطليقة عبد الله حسبت عليه، فهذا غايته أن يكون من كلام نافع، ولا يعرف من الذي حسبها، أهو عبد الله نفسه، أو أبوه عمر، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولا يجوز أن يشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوهم والحسبان، وكيف يعارض صريح قوله: "ولم يرها شيئًا" بهذا المجمل؟ والله يشهد- وكفى بالله شهيدًا- أنا لو تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حسبها عليه، لم نتعد ذلك، ولم نذهب إلى سواه.

وأما حديث أنس: "من طلق في بدعة ألزمناه بدعته"، فحديث باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نشهد بالله أنه حديث باطل عليه، ولم يروه أحد من الثقات من أصحاب حماد بن زيل، وإنما هو من حديث إسماعيل بن أمية الذارع الكذاب الذي يذرع ويفصل، ثم الراوي له عند عبد الباقي بن قانع، وقد ضعَّفه البرقاني وغيره، وكان قد اختلط في آخر عمره، وقال الدارقطني: يخطئ كثيرًا، ومثل هذا إذا تفرد بحديث لم يكن حديثه حجة. وأما إفتاء عثمان بن عفان وزيد بن ثابت رضي الله عنه بالوقوع، فلو صح ذلك- ولا يصح أبدًا-، فإن أثر عثمان، فيه كذاب عن مجهول لا يعرف عينه ولا حاله، فإنه من رواية ابن سمعان، عن رجل، وأثر زيد: فيه مجهول عن مجهول: قيس بن سعد، عن رجل سمَّاه عن زيد، فيالله العجب، أين هاتان الروايتان من رواية عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن عبيد الله حافظ الأمة، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لا يعتد بها، فلو كان هذا الأثر من قبلكم لصلتم به وجلتم. وأما قولكم: إن تحريمه لا يمنع ترتب أثره عليه، كالظهار فيقال أولًا: هذا قياس يدفعه ما ذكرناه من النص، وسائر تلك الأدلة التي هي أرجح منه، ثم يقال ثانيًا: هذا معارض بمثله سواء معارضة القلب بأن يقال: تحريمه يمنع ترتب أثره عليه كالنكاح، ويقال ثالثًا: ليسر للظهار جهتان: جهة حل وجهة حرمة، بل كله حرام، فإنه منكر من القول وزور، فلا يمكن أن ينقسم إلى حلال جائز، وحرام باطل، بل هو بمنزلة القذف من الأجنبي والرِّدة، فإذا وجد لم يوجد إلا مع مفسدته، فلا يتصور أن يقال: منه حلال صحيح، وحرام باطل، بخلاف النكاح والطلاق والبيع، فالظهار نظير الأفعال المحرمة التي إذا وقعت قارنتها مفاسدها فترتبت عليها أحكامها، وإلحاق الطلاق بالنكاح، والبيع والإجارة والعقود المنقسمة إلى حلال وحرام، وصحيح وباطل أولى. قالوا: إن الطلاق المحرم تترتب عليه آثاره كالظهار، الظهار محرم منكر من القول وزور تترتب عليه أحكامه، قالوا: فالطلاق المحرم تترتب عليه آثاره كالظهار، ابن القيم يقول: المحرم الذي تترتب عليه آثاره ليس له إلا جهة واحدة جهة التحريم، وأما ما له جهتان: جهة حل وجهة حرمة وجهة صحة وجهة فساد؛ فهذا إن وقع على الوجه الذي يكون حلالًا صحيحًا نفذ، وإن وقع على الذي يكون حرامًا باطلًا بطل؛ لأننا لو لم نقل في ترتب أثر الظهار عليه لم يبق له حكم هو جهة واحدة فقط، كالقذف إذا قذف رجلٌ رجلًا بالزنا فحله حل القذف، ولا نقول: هذا حرام ولا يترتب عليه أثره، نقول: ليس فيه جهة حلال حتى نحمل الحلال على الصحة والحرام على البطلان وهذا واضح، ولكن عند المناظرات ولا سيما إذا كان المناظر قويًّا وصرخ في وجه صاحبه فإن الثاني يسقط في يده ويخاف ويعجز أن يأتي بالفروق الدقيقة كهذه.

وأما قولكم: إن النكاح عقد يملك به البضع، والطلاق عقد يخرج به، فنعم، من أين لكم برهان من الله ورسوله بالفرق بين العقدين في اعتبار حكم أحدهما، والإلزام به وتنفيذه، وإلغاء الاخر وإبطاله؟ وأما زوال ملكه عن العين بالإتلاف المحرم، فذلك ملك قد زال حسًّا، ولم يبق له محل، وأما زواله بالإقرار الكاذب، فأبعد وأبعد، فإنا صدقناه ظاهرًا في إقراره، وأزلنا ملكه بالإقرار المصدق فيه وإن كان كاذبا. وأما زوال الإيمان بالكلام الذي هو كفر، فقد تقدم جوابه، وأنه ليس في الكفر حلال وحرام. وأما طلاق الهازل فإنما وقع؛ لأنه صادف محلًّا، وهو طهر لم يجامع فيه فنفذ، وكونه هزل به إرادة منه ألا يترتب أثره عليه، وذلك ليس إليه، بل إلى الشارع، فهو قد أتى بالسبب التام، وأراد ألا يكون مسببه، فلم ينفعه ذلك، بخلاف من طلق في غير زمن الطلاق، فإنه لم يأت بالسبب الذي نصبه الله سبحانه مفضيا إلى وقوع الطلاق، وإنما أتى بسبب من عنده، وجعله هو مفضيًا إلى حكمه، وذلك ليس إليه. وأما قولكم: إن النكاح نعمة، فلا يكون سببه إلا طاعة بخلاف الطلاق فإنه من باب إزالة النعم، فيجوز أن يكون سببه معصية، فيقال: قد يكون الطلاق من أكبر النعم التي يفك بها المطلق الغل من عنقه، والقيل من رجله، فليس كل طلاق نقمة، بل من تمام نعمة الله على عباده أن مكنهم من المفارقة بالطلاق إذا أراد أحدهم استبدال زوج مكان زوج، والتخلص ممن لا يحبها ولا يلائمها، فلم ير للمتاحبين مثل النكاح، ولا للمتباغضين مثل الطلاق، ثم كيف يكون نقمة والله تعالى يقول: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} [البقرة: 236]. ويقول: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]؟ ! وأما قولكم: إن الفروج يحتاط لها، فنعم، وهكذا قلنا سواء، فإنا احتطنا، وأبقينا الزوجين على يقين النكاح حتى يأتي ما يزيله بيقين، فإذا أخطأنا فخطؤنا في جهة واحدة، وإن أصبنا فصوابنا في جهتين: جهة الزوج الأول، وجهة الثاني، وأنتم ترتكبون أمرين: تحريم الفرج على من كان حلالًا له بيقين، وإحلاله لغيره، فإن كان خطأ، فهو خطأ من جهتين، فتبين أنَّا أولى بالاحتياط منكم، وقد قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: في طلاق السكران نظير هذا الاحتياط سواء، فقال: الذي لا يأمر بالطلاق: إنما أتى خصلة واحدة، والذي يأمر بالطلاق أتى خصلتين حرمها عليه، وأحلها لغيره، فهذا خير من هذا.

يعني إذا قلنا: إن الطلاق لا يقع فقد احتطنا من جهتين: من جهة أننا أبقيناها لزوجها الأول والأصل بقاء النكاح، ومن جهة أنِّا حرمناها على غيره، لكن لو أوقعنا احتطنا من جهة واحدة أننا حرمناها على زوجها لكن أحللناها لغيره وهذا انتهاك فرج، ونظير هذا طلاق السكران كان الإمام أحمد يرى أن السكران يقع طلاقه فقال: كنت أقول بوقوع طلاق السكران حتى تبينته يعني تأملته وتبين لي الأمر فرأيت أني إذا قلت بوقوع الطلاق أتيت خصلتين حرمتها على زوجها والثاني أحللتها لغيره وإني إذا قلت بعدم الوقوع أتيت خصلة واحدة وهي إحلالها لزوجها الذي هو الأصل خير من إحلالها لغير الذي هو خلاف الأصل وعلى هذا يكون الإمام أحمد رجع عن القول بوقوع طلاق السكران، ولعلكم تذكرون أننا قلنا: إن المذهب ينسب إلى الإنسان شخصيًّا وينسب إليه اصطلاحًا فما هو مذهب الإمام أحمد الاصطلاحي في هذه المسألة؟ وقوع طلاق السكران هذا هو مذهب الحنابلة لكن مذهبه الشخصي عدم الوقوع وقد صرح بالرجوع لو قال لا يقع وسكت لكان هذه رواية ثانية لكن صرح بالرجوع. وأما قولكم: إن النكاح يدخل فيه بالعزيمة والاحتياط، ويخرج منه بأدنى شيء، قلنا: ولكن لا يخرج منه إلا بما نصبه الله سببَّا يخرج به منه، وأذن فيه: وأما ما ينصبه المؤمن عنده، ويجعله هو سببا للخروج منه، فكلا، فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة الضيقة المعترك، الوعورة، المسلك، التي يتجاذب أعنة أدلتها الفرسان، وتتضاءل لدى صولتها شجاعة الشجعان، وإنما نبهنا على مأخذها وأدلتها ليعلم الغُّر الذي بضاعته من العلم مزجاة، أن هناك شيئًا آخر وراء ما عنده، وأنه إذا كان ممن كثر في العلم باعه، فضعف خلف الدليل، وتقاصر عن جني ثماره ذراعه، فليعذر من شمر عن ساق عزمه، وحام حول آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها، والتحاكم إليها بكل همة، وإن كان غير عاذر لمنازعة في قصوره ورغبته عن هذا الشأن البعيد، فليعذر منازعه في رغبته عما ارتضاه لنفسه من محض التقليد، ولينظر مع نفسه أيهما هو المعذور، وأي السعيين أحق بأن يكون هو السعي المشكور، والله المستعان وعليه التكلان، وهو الموفق للصواب، الفاتح لمن أمِّ بابه طالبًا لمرضاته من الخير كل باب.

ولكن يبقى النظر في مسألة يتلاعب بها الناس الآن: إذا طلق الإنسان زوجته آخر طلقة من الثلاث وجاء يبحث: يقول لعلي طلقتها أول طلقة وهي حائض من أجل أن يلغي الطلقة الأولى ويبقي له طلقة لأجل أن يرجع هذا أنا لا أعتبره ولا أقبله، وأقول: ما دمت طلقت أولًا على أن الطلاق نافذ بدليل أن المرأة التي طلقتها لو انقضت عدتها وتزوجت لم تذهب إلى زوجها وتقول: أرجع لي زوجتي فهذا هو الواقع بين الناس فأنت الآن لما ضاقت بك الأمور جئت تبحث عن الطلاق هل هو في حيض أو في طهر جامعتها؟ وهذا كما قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين مفتي الديار النجدية في وقته قال: إن الإنسان إذا طلَّق ثلاثًا، ثم عجز عن مخارج ذهب يبحث عن عقد النكاح لعله مختل الشروط لعل أحد الشهود يشرب الدخان ولا كذا، ولا كذا لأجل أن يكون غير عدل ويكون النكاح بغير شهود فلا يكون صحيحًا وإذا لم يصح النكاح لم يصح الطلاق؛ لأن الطلاق لا يصح إلا بعد صحة النكاح، وحينئذ تكون الطلقة هذه لاغيه ويتزوجها من جديد يقول: هكذا يفعل بعض الناس يتحايلون فهذا الرجل الذي طلق زوجته قبل عشر سنوات في حيض وانقضت عدتها ثم تزوجها ثانيًا ثم طلقها في حيض أو في طهر جامع فيه، ثم انتهت عدتها ثم تزوجها بعقد جديد يشهدون الناس عليه ويحضر دون محفلًا ثم طلقها تمت الطلقات الثلاث جاء يسأل أنا طلقت الطلقة الأولى قبل عشر سنوات في حيض، طلقتها وانقضت العدة وعقدت عليها، كيف تعقد على امرأة وهي زوجتك؟ إذا كنت صادقا ففي هذه لا نفتي بأن الطلاق الأول لاغ أولًا: لأن قول الجمهور هو هذا، والثاني: أن هذا الرجل ملتزم بهذا القول، كيف الآن لما ضاقت به لحيل جاء يقول: أنا غير ملتزم وهذه من الأمور التي ينبغي للمفتي أن ينتبه لها سياسة الخلق بالحق، وهو أن الإنسان إذا ضاقت عليه الحيل ذهب يتطلب الرخص لعله يتخلص وإلا فشيء التزمت به ونحن نعلم علم اليقين أن زوجتك هذه لو تزوجت بعد انقضاء العدة ما طالبت الزوجة، فأنا على أنني أرى أن الطلاق في الحيض لا يقع إذا جاءني مثل هذه الحال أقول طلاقك نافذ وإذا كانت هذه آخر طلقة فلا رجوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رد زوجة ابن عمر لأنها في عدتها ما انتهت ثم إن زمن التشريع غير الوقت الحاضر زمن الوقت الحاضر ما نعلم هل الشرع حقيقة مع الجمهور أو مع شيخ الإسلام ابن تيمية؟ لكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم الشرع معلوم؛ لأن

اختلاف حكم الطلاق ثلاثة مجموعة في عهد عمر رضي الله عنه

الحاكم هو الرسول صلى الله عليه وسلم أما نحن فلا ندري من الصواب معه! وإن كنا نرجح هذا، لكن لو قيل لك: تشهد أن هذا حكم الله؟ قلت علم اليقين لا أشهد لكن هذا الذي يترجح عندي أما أن أقول هذا هو الشرع علم اليقين لا لأن استدلالي إنما هو بعمومات وتعلمون أن العام دلالته على جميع أفراده ظنية لجواز التخصيص فالمسألة نفهمها نظرية ونقول لا يقع ونفهمها تطبيقيَّا، نقول من طلق ملتزمًا بذلك ومضت مدة فإننا نمضيه لكن لو أن إنسانًا طلق الآن في حيض أو في طهر جامع فيه ثم جاء يسأل، قلنا: لا طلاق عليك ويجب أن تردها؛ لأن الطلاق غير واقع فهي زوجتك وفي عصمتك. 1029 - وفي روايٍة أخرى: قال عبد الله بن عمر: "فردَّها عليَّ، ولم يرها شيئًا، وقال: إذا طهرت فليطلِّق أو ليمسك". قوله: "وفي رواية أخرى" ظاهر سياق المؤلف أنها في مسلم؛ لأنه قال: "وفي رواية لمسلم" ثم قال: "وفي رواية أخرى قال عبد الله: فردها عليَّ ولم يرها شيئًا"، ما معنى "ولم يرها شيئًا"؟ أي: لم يرها طلاقًا شرعيًا ولم يحتسبها طلقة هذا هو ظاهر اللفظ وهو نظير وهو نظير قول أم عطية كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئًا أي: حيضًا معتبرًا وهكذا نقول في هذه المسألة فردها علي ولم يرها شيئًا وكلمة "ولم يرها شيئًا" مرفوعًا صريحًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقوله- فيما سبق- "وحسبت تطليقه" فاعلها مجهول لا ندري من الحاكم؟ ولهذا رجَّح شيخ الإسلام هذه الرواية على الرواية الأولى، قال: لأن الرواية الأولى لا تقاومها لكونها مجهولة، أو لكون الحاسب فيها مجهولًا بخلاف هذا. اختلاف حكم الطلاق ثلاثة مجموعة في عهد عمر رضي الله عنه: 1030 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكٍر، وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثَّلاث واحدةٌ، فقال عمر: إن النَّاس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم". رواه مسلٌم. قوله: "كان الطلاق على عهد رسول الله" هذه الصيغة يعدها علماء المصطلح من المرفوع حكمًا؛ لأنها لم تنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نسبت إلى عهده فهي مرفوعة حكمًا، وخلافة أبي بكر سنتان وأشهر، "وسنتين من خلافة عمر" أضافها إلى خلافة أبي بكر تكون أربع سنوات وأشهرًا، "طلاق الثلاث واحدة" الوجه النحوي أن يقال طلاق الثلاث واحدة، وتكون طلاق الثلاث بدلًا من الطلاق أو عطف بيان، يعني: كان طلاق الثلاث واحدة وما نوع هذا الطلاق

الذي يكون واحدة هل هو قول الرجل: أنت طالق ثلاثا، أو قول الرجل: أنت طالق أنت طالق أنت طالق؟ الظاهر الثاني، يعني: طلاق الثلاث أنه قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق كما لو قال سبح الله ثلاثًا، يعني قال: سبحان الله ثلاثًا أو قال: سبحان الله سبحان الله سبحان الله؟ الثاني، فالظاهر أن الصيغة التي كانت معروفة هي أنت طالق أنت طالق أنت طالق فكان واحدًا وبعد ذلك تتابع الناس في هذا الأمر؛ لأن هذا الأمر كان محرمًا، ووجه التحريم: أن الإنسان إذا قال لزوجته: أنت طالق طلِّقت، فإذا قال: أنت طالق الثانية فقد طلقها لغير عدة كيف ذلك؟ لأنها الآن لم تشرع في عدة جديدة حيث إنها في عدة الطلاق، فإذا قال: أنت طالق الثالثة زاد الطين بلة، فصار متعجلًا لحدود الله؛ حيث قال: {فطلقوهن لعدتهن} وهذا طلقها الثانية لغير العدة ولهذا قال الفقهاء: أنت طالق وبعد أن حاضت حيضة قال: أنت طالق بنت على العدة الأولى ولم تستأنف العدة بالطلقة الثانية وعلى هذا فيكون قد طلقها لغير عدة فيكون عاصيًا لله، كما قال ابن عمر في الحديث السابق للرجل: "أما أنت فقد عصيت ربك ... إلخ"، عمر رضي الله عنه كان حازما وكان يسوس الناس في الغالب بأشد الأمور رأى من حكمته أن يلزم الناس بما التزموا به وإن كان محرما، وله في ذلك إمام أي: إلزام بما التزموا به وإن كان منهيًّا عنه له فيه إمام وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الإمامة؟ الإمامة في الوصال نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم وهو أن يقرن بين يومين فلا يفطر بينهما- نهاهم عن الوصال ولكنهم ظنوا أن نهيه رأفة بهم ورحمة فاستمروا عليه فواصل بهم يومًا ويومًا ويومًا حتى رؤي الهلال فأفطروا فقال لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم مع أن الوصال أصله إما حرام أو مكروه لكنه جعلهم يستمرون إلزامًا لهم بما التزموا به، فعمر رضي الله عنه قال: هؤلاء القوم الذين عصوا الله في الطلاق الثلاث ليلزموا به أنفسهم نحن نعاملهم بما التزموا به عقوبة لهم فمنعهم من استرجاع زوجاتهم إذا طلِّقوا ثلاثًا منعهم وقال ممنوع، إذا علم الإنسان أنه سيمنع من الرجوع إذا طلق الثلاث فهل يطلق؟ لا، فكان إمضاء الطلاق في عهد عمر من باب السياسة وأن الناس إذا أكثروا فينبغي أن يمنعوا من الرجوع أما إذا كانت المسألة نادرة فيمكن لهم. إذن في الحديث كان طلاق الثلاث واحدة فقال عمر "إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة" يعني: تؤدة، وتأخير كيف استعجلوا؟ هو إذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، يعني: من الآن بت الطلاق هذا الذي يريد وكان له في ذلك أناة أن يطلق الآن مرة واحدة فيكون بالخيار إن شاء راجع وإن شاء لم يراجع هل أحد يجبره على أن يراجع؟ لا إذن لماذا يطلق ثلاثًا، يطلق واحدة ثم إن شاء راجع وإن شاء تركها إذا انقضت عدتها ملكت نفسها، فهو إذا طلق الثلاث ضيق على نفسه وكان له في الأمر سعة.

يقول: "فلو أمضيناه فأمضاه" ما معنى "أمضاه" يعني: ألزمهم بمقتضاه بأن تكون الثلاث مبينة للزوجة لا تحل له إلا بعد زوج، وهذه المسألة مما اختلف فيه الأمة، فأكثر الأمة- ومنهم الأئمة- على أن الطلاق الثلاث ثلاث تبين به المرأة، فإذا قال: أنت طالق ثلاثًا بانت به وإذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق بانت به، لماذا؟ قالوا لأن الرجل طلق بنفسه قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق فكيف تقول واحدة، أيضًا عمر له سنة متبوعة: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"، فيتبع في هذا ماذا نصنع بحديث ابن عباس؟ بعضهم طعن في سنده وبعضهم طعن في دلالته فأوله وقال إن الطلاق الثلاث واحدة في غير المدخول بها كيف لأن غير المدخول بها إذا قال: أنت طالق بانت لأنه ليس لها عدة {يأيها الذين أمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب: 49] فإذا لم يدخل عليها ولم يخل بها وقال: أنت طالق- عند آخر القاف- طلَّقت وبانت منه، فإذا قال ثلاثًا ورد على غير زوجة وكذلك إذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق بانت للأولى ولا يلحقها ما بعدها فتكون الطلقة الثانية والثالثة واردة على غير زوجة فلا تحسب فحملوه على غير المدخول بها وسبحان الله أن يكون هذا التأويل لو سألتك أيهما أكثر أن يطلق الناس بعد الدخول أو قبل الدخول؟ بعد الدخول إذن معناه: حملنا الحديث على المسائل النادرة وتركنا المسائل الكثيرة، نقول: هذه الصورة التي زعمتم أنها مدلول الحديث صورة نادرة فكيف تحملون الحديث عليها وما هذا إلا كحديث آخر حمل على النادر وهو حديث عائشة الثابت في الصحيحين "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"؟ ! حمل عن المراد به النذر، يعني: من مات وعليه صيام نذر صام عنه وليه لو سألنا أيهما أكثر أن يكون على الإنسان صوم النذر أو صوم رمضان؟ صوم رمضان؛ لأن النذر متى يكون؟ ! ! ورمضان يتكرر كل سنة فسبحان الله! أن يحمل على النذر وهو الأمر النادر ويترك الأمر الكثير! لكن هذا سببه العلة التي أشرنا إليها فيما سبق وهي أن يعتقد ثم يستدل إذا اعتقد الإنسان ثم استدل فالله يكفيه عن التحريف والتأويل لكن إذا استدل ثم اعتقد هذا هو السليم ولهذا كان القول الصحيح في مسالة الطلاق والقول الصحيح في الصيام عن الميت أنه يكون في الصوم الفريضة الواجب بأصل الشرع والنذر وكذلك في الطلاق الثلاث الصحيح؛ لأنه لا يكون إلا واحدة وأن حمله على غير المدخول بها حمل للحديث على الأمر النادر وترك للأمر الكثير.

ذكرنا أن طلاق الثلاث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم واحدة وأنه لا فرق بين أن يقول: أنت طالق ثلاثًا وأن يقول: أنت طالق أنت طالق أنت طالق وذلك لأن الطلقة الثانية تقع على رجعية فلا تكون طلاقًا للعدة ولهذا لا تستأنف العدة إذا طلقها ثانية بعد الطهر الأول مثلًا تستمر، فلا يكون هذا الطلاق شيئًا فيقع طلاقًا لغير العدة وقد قال الله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} وهي الآن في عدة، فلو فرض أن رجلًا طلق زوجته وحاضت مرتين وبقي عليها حيضة ثم طلقها فإنها لا تستأنف العدة بل إذا حاضت الحيضة الثالثة انتهت عدتها. إذن يكون الطلاق الراجح لطلاق سابق طلاقًا لغير العدة فلا يقع وهذا السر في أن الطلاق الثلاث يحسب واحدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر ومعلوم أن الطلاق لغير العدة حرام فيقع مردودًا؛ ولهذا لما رأى عمر أن الناس لا ينتهون عنه إلا بأن يلزموا به ألزمهم به ومنه الإنسان من الرجوع إلى زوجته إذا طلقها ثلاثًا، وهذا الحديث صريح جدًا في أن الطلاق الثلاث إنما نفذ في عهد عمر، ولهذا قال بعض العلماء لما قيل له: إن القول بأن الطلاق الثلاث واحدة قال: هذا خلاف الإجماع فقيل له: بل الطلاق الثلاث إذا جعل ثلاثًا فهو خلاف الإجماع لأنه ما دام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر كل هذه المدة وطلاق الثلاث واحدة ليس فيه خلاف. إذن فهذا هو الإجماع القديم وهذا هو الذي يجب أن يعتد به، لكن لما اجتهد عمر هذا الاجتهاد تبعه الناس وصار أرباب المذاهب على هذا وبقي الخلاف في هذه المسألة غير معروف بين الناس حتى إن شيخ الإسلام رحمه الله أوذي من جهته إيذاء كبيرًا وحبس هو وتلميذه ابن القيم رحمه الله طيف به على جمل في الأسواق يشهر به لماذا يفتي بما يخالف رأي السلطان، ولكن الحق أحق أن يتَّبع، الجمهور ليس لهم جواب على هذا الحديث جوابًا يغني من الحق شيئًا؛ فمنهم من قال: إن هذا فيمن لم يدخل بها- يقصد حديث ابن عباس- لأنه إذا طلق من لم يدخل بها مرة بانت منه ليس لها عدة لأن الإنسان إذا طلَّق امرأة لم يدخل عليها وإنما عقد عليها ثم طلقها فإنه بمجرد ما يقول هي طالق تطلق وليس لها عدة تبين منه فإذا جاء الكلمة الثانية أنت طالق وردت على أجنبية لأنها بانت منه فقالوا هذا في غير المدخول بها وهذا في الحقيقة حمل مستكره لأننا لو سئلنا أيهما أكثر الطلاق قبل الدخول أو بعد الدخول؟ بعد الدخول كيف نحمل الحديث على المسألة النادرة القليلة ونوع المسألة الكثيرة؟ ! هذا حمل مستكره وهو إلى التحريف أقرب منه إلى التأويل وقال آخرون: بأن هذا الحديث فيما إذا قصد المطلق بالجملة الثانية التأكيد؛ لأنه إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وقال: أردت التوكيد لم يقع إلا واحدًا، فقالوا: إنهم كانوا يريدون بذلك التوكيد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر وسنتين في خلافة عمر فلما ساءت نيات الناس وصاروا يريدون التأسيس

ويدعون أنهم أرادوا التوكيد أمضاه عمر لسوء المقاصد والنيات وهذا أيضًا تأويل مستكره؛ لأن عمر لم يقل: أرى الناس قد فسدت نياتهم فكانوا يدعون التوكيد بما يريدون به التأسيس بل قال: "أراهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة" فيكون هذا التأويل تأويلًا باردًا لا فائدة منه، ونحن وأنتم إلى الآن نقول: إن من أراد توكيد الجملة الأولى بالثانية لم تقع عليه الثانية، لأن المؤكد هو المؤكد، فالجملة واحدة ولا إشكال في هذا، فتبين بهذا أن رد الجمهور لهذا الحديث لا وجه له، وأنه لا يقع الطلاق الثلاث إلا واحدة وأنه لا فرق بين قوله: أنت طالق ثلاثًا وقوله: أنت طالق أنت طالق أنت طالق؛ وذلك لأن الجملة الثانية تقع لغير العدة فتكون مردودة وهذا وجه جعل الثلاث واحدة، لو قال المطلق: أنا أردت الثانية هل تقع عليه الثانية؟ على القول الذي رجعنا لا تقع، أما إذا لم يرد الثانية وإنما قالها توكيدًا أو إحجامًا ظن أن الزوجة لم تسمع فهذا ليس فيه إشكال. يستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: وقوع الطلاق الثلاث يعني: أنه طلاق معتبر لكن هل يعتبر بوصفه أو يعتبر بأصله؟ يعتبر بأصله فيقع الطلاق لكن واحدة وقالت الرافضة: الطلاق الثلاث لا يقع أصلًا وأن الإنسان إذا طلق زوجته وقال: أنت طالق ثلاثًا لم يقع عليه شيء لا واحدة ولا ثلاثًا، وعلَّلوا ذلك بأن هذا الطلاق منهي عنه والمنهي عنه يكون مردودًا، أرأيتم لو باع صاعًا من البرِّ بصاعين من البرِّ هل تقولون ببطلان الزيادة وهي الصاع أو ببطلان البيع كله؟ الثاني قالوا فهذا أيضًا كذلك لا تبطلوا الثلاث فقط أبطلوا الكل؛ لأنه وقع على غير ما أمر الله به ورسوله فيكون مردودًا: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، والتحريم في الوصف وأنتم تجعلون ما عاد على الوصف كالذي عاد على الأصل وحينئذ يلزمكم أن تقولوا بآن الطلاق الثلاث غير واقع أصلًا، الحجة قوية لكن لا حجة تصادم النص، فحديث ابن عباس صريح بأنه يقع واحدة فيلغي الوصف ويبقي الأصل وإذا كان عندنا نص في المسالة بطل القياس فكم تبين لنا الآن من قول؟ ثلاثة أقوال، الرابع: أن هذا في غير المدخول بها الطلاق الثلاث يقع واحدة في غير المدخول بها ويقع ثلاثًا في المدخول بها لكن هذا لا يخرج عن قول الجمهور؛ لأن غير المدخول بها تبين بالأول ويقع ما بعده على أجنبية فهو بمعنى القول الأول وإن كان بعضهم يجعله قولًا، فعلى كل حال: نحن نقول: إن القول الراجح الذي دلت عليه السنة هو اعتبار الأصل وإلغاء الوصف فيعتبر الطلاق أصله ويلغي وصفه وهو الثلاث إذا قال: أنت طالق ثلاثًا أو يلغي ما بعد الجملة الأولى لأنه وقع على غير ما أمر الله به ورسوله فيلغي. ومن فوائد الحديث: أن الطلاق الثلاث يكون واحدة سواء وقع بلفظ: أنت طالق أنت طالق أنت طالق أو بلفظ: أنت طالق ثلاثًا؛ لقوله: كان طلاق الثلاث واحدة.

ومن فوائد الحديث: أن كون الطلاق الثلاث لو ادعى مدعٍ أنه إجماع قديم لكان قوله صحيحًا متوجهًا؛ لأنه مضى عليه عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر. ومن فوائد الحديث: أن لولي الأمر أن يعذر بحرمان الإنسان ما يستحق، كما أن له أن يعذر بإيقاع العقوبة على من يستحق فهنا عذرهم عمر بمنعهم مما يستحقون، والذي يستحقونه المراجعة بالطلاق الثلاث، لكن منعهم لئلا يستعجلوا في أمر فيه أناة. ومن فوائد الحديث: أن إرداف الطلاق بالطلاق سفه واستعجال؛ لقوله: "استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة" والأناة عقل وحلم، وضدها العجلة والسفه، ووجه ذلك: أن الإنسان إذا طلق زوجته واحدة هل يجبر على إرجاعها؟ لا يجبر، بل يتركها حتى تنقضي عدتها، وحينئذ تبين منه ولا تطالبه لا بنفقة ولا بغيرها فأيهما أقرب إلى العقل أن يطلقها طلاقًا يكون له فيه أناة وخيار إن شاء راجع وإن شاء لم يراجع مع أن الأمر إليه أو أن يبت طلاقها حتى يحال بينه وبينها؟ الأول. ومن فوائد الحديث: جواز إضافة الضمير إلى النفس بصيغة التعظيم لقوله: "أمضيناه"، ولم يقل أمضيته وهذا لا بأس به خلافًا لبعض الناس الذي يقول إن الرجل إذا قال رأينا كذا يكون متكبرًا معجبًا برأيه، بل أن يقول: رأي كذا، ورأينا كذا لا سيما إذا كان حاكمًا أو قاضيًا أو ما أشبه ذلك يعني: له كلمة، لكن يشترط شرط لا بد منه وهو: ألا يقول الحامل له على ذلك الإعجاب أو الكبرياء فإن كان الحامل على ذلك الإعجاب أو الكبرياء منع من إطلاق هذا اللفظ من أجل ألا يجره ذلك من الاستمرار على مما هو عليه من الكبرياء والإعجاب، ويقول إذا خاف هذا الشرط يقول رأى كذا لو أمضيت كذا حتى يهين نفسه التي شمخت وعلت لأن الإنسان على نفسه بصيرة وهو مؤتمن عليها وأن يرعاها حق رعايتها وأن يقودها إلى ما فيه الخير وإذا رأى من نفسه أنها تميل إلى شر وإلى فساد وجب عليه أن يكبح جماحها وليعلم أن النفس الأمارة بالسوء عدوة فإذا تغلب عليها فهو كانتصاره على عدوه يكون بعد ذلك له السيطرة التامة عليها يستطيع أن يوجهها التوجيه السليم ويبعدها عن المزالق وهذه المسألة يجب على أرباب السلوك الذين يريدون تهذيب نفوسهم وتطهيرها من سوء الأخلاق أن يكون لهم السيطرة عليها وإذا كانت لهم السيطرة عليها صارت النفوس بأيديهم كالعجينة بيد العاجن من اللين والطواعية، لكن الإنسان نفسه وما هي عليه فإنه في النهاية يعجز عن كبح جماحها؛ لأنها تسيطر عليه.

1031 - وعن محمود بن لبيدٍ رضي الله عنه قال: "أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ طلق امرأته ثلاث تطليقاتٍ جميعًا، فقام غضبان ثمَّ قال: أيلعب بكتاب الله تعالى، وأنا بين أظهركم؟ ! حتَّى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ "، رواه النسائيُّ ورواته موثَّقون. قوله: "أخبر رسول الله" لم يعين المخبر فهو مجهول، ولكن هذا لا يضر لأنه لا يتعلق به حكم، الحكم بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم والذي روى الحكم عن الرسول محمود بن لبيد. وقوله: "عن رجل طلق امرأته" من هذا الرجل؟ غير معلوم، وهل يضرا جهله؟ لا، لأنه لا يتعلق بمعرفته حكم فجهله غير ضار، يوجد بعض الناس من المحدثين وغيرهم من يتعب نفسه في معرفة هؤلاء المبهمين، ولكن هذا لا داعي له؛ لأنه يشغله عما هو أهم، صحيح أن المبهم من الرواة تجب العناية به لماذا؟ لأنه يترتب على علمه قبول الخبر ا, رده، لكن رجل وقعت عليه المسألة فيذكر مبهمًا ليس لنا كبير أهمية في أن نعرف هذا الرجل، وربما يكون الراوي تعهد إبهامه خصوصًا إذا كان الشيء مما ينتقد وينكر فإنهم قد يبهمونه سرًا عليه، يقول: "طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا" لا يكون الطلاق إلا بجملة أنت طالق، فإذا كانت ثلاث فمعناه: أنه لا على أنه قال: أنت طالق ثلاثًا، بل أنا في شك هل هذه الصيغة توجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ أنت طالق ثلاثًا؛ لأنه مثلًا إذا قالوها- أي: هذه الصيغة: "ثلاثًا"- فإنما يقصدون بها المكرر باللفظ نفسه، مثل: "ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور قالها ثلاثًا" هل معناه: أن الرسول قال ألا وشهادة الزور ثلاثًا؟ لا، المعنى: أنه قال ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور هكذا إذا جاءت الصيغة في الحديث طلقها ثلاثا لا شك أنه يراد بها أنه قال أنت طالق أنت طالق أنت طالق؛ لأن الذي يقع به الطلاق هي الجملة التامة لا الصيغة أنت طالق ثلاثا فعلى هذا نقول معنى ثلاث تطليقات جميعًا أنه قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، لكن جمع بعضها إلى بعض "فقام" أي: النبي صلى الله عليه وسلم "غضبان" والغضب وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأدق وصف حيث قال: "إنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم"، والقلب منه يظهر الدم، ولهذا تنتفخ أوداجه، يعني: عروقه المحيطة بالحلقوم، ومن الناس من تحمر

عيناه وتمتلئ دمًا، ومن الناس من [يقف] شعره، ومن الناس من يكفهر وجهه حتى يكاد يتفجر من الغضب؛ لأن هذه الجمرة جعلت الدم يغلي كما يغلي الطعام في القدر، هذا هو الغضب، والغضب صفة كسبية وصفة غريزية، غريزية يعني: أن بعض الناس يخلق سريع الغضب وبعض الناس يتكلف سريعة الغضب يحب أن يغضب؛ ولذلك تجده إذا فعل ما يغضبه أحيانًا يغضب وأحيانًا لا يغضب فهو أحيانًا يغضب ليري الولد الذي أساء معاملته أنه قادر على الانتقام منه فيغضب، وأحيانًا لا يغضب ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: "أوصني"، قال: "لا تغضب"، والنبي صلى الله عليه وسلم يوصي كل إنسان بما يليق بحاله فكأن هذا الرجل معلوم أنه سريع الغضب فلهذا أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بترك الغضب، هل المعنى لا يعتريك الغضب أو لا تنفذ الغضب؟ الثاني؛ لأن الأول قد لا يكون للإنسان فيه حيلة فلا يستطيع، لكن الثاني هو المراد يعني وطن نفسك على ألا تغضب وإذا غضبت فلا تنفذ، بعض الناس يغضب يكسر الأواني ويطلق الزوجات، وربما يحلف أيمان على ألا يفعل شيئًا وهو محتاج إليه ثم إذا أفاق ندم ندامة عظيمة وجاء يسأل: أنا فعلت أنا فعلت ثم يكون نادمًا على ما فعل ولكن ما هو الطريق إلى أن نكف هذا الغضب؟ أولًا: أن يستعيذ بالله من الشيطان، بعض الناس يقول: صل على النبي، أو قل: لا إله إلا الله، كل هذا طيب لكن الكلمة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر له غضب رجل قال: إني أعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من شر الشيطان أحسن، ومنها: أن يتوضأ فالأول دواء معنوي والثاني دواء حسي معنوي لأنك إذا توضأت بردت أعضاؤك وبردت نفسك، ومنها كان قائما فليجلس، وإذا كان جلس فليضطجع؛ لأن تغير الحال توجب زوال الحال الأولى، ومنها مجرب لكنه لم تأت به السنة فيما أعلم أن ينصرف عن المكان؛ لأنه إذا انصرف أفاق ولم ينفذ ما يقتضيه غضبه؛ ولهذا نجد الناس رأوا شخصين يتخاصمان وكل واحد منهما غاضب على الآخر تراهم يمسكون بأحدهما ثم يسحبونه يذهبون به إلى مكان آخر، فعلى كل حال أهم شيء أن الإنسان لا يغض ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يغضب انتقامًا لنفسه وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله؛ ولهذا قام هنا غضبان ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين

أظهركم؟ " الاستفهام هنا للإنكار والتعجب أما الإنكار فإنه ينكر على كل من لعب بكتاب الله، وأما التعجب فالإنسان يتعجب كيف يلعب بكتاب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينزل عليه الوحي بين أظهركم؟ ! هذه حالة غريبة تدعو للعجب وقوله: "بكتاب الله" يعني: القرآن ووجه كونه لعبًا بالقرآن أن الله قال: {الطلاق مرتان} أي: مرة بعد مرة والجملة خبرية لكن معناها الأمر، يعني: طلقوا مرة بعد مرة لا تطلقوا مرات متتابعة، بل مرة ثم إذا نكاح أو رجعة طلقوا مرة ثانية ثم إذا حصل نكاح أو رجعة طلقوا مرة ثالثة فإن طلقها فلا تحل له من بعد فالله عز وجل قال: {الطلاق مرتان} هذا شأنه شرعًا، وهذا ما أمر به الله عز وجل فإذا جاء شخص وقال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق هل جعل الطلاق مرتين؟ لا؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا لعبًا بكتاب الله فقال: "أيلعب ... الخ"، الجملة حالية؛ يعني: والحال أني بين أظهركم فهذا استفهام إنكار وتوبيخ، يعني: إذا كان هذا والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم فكيف إذا مات، يكون أشد ولذلك كانت المخالفة في عهد الصحابة أشد من المخالفة فيمن بعدهم؛ لأنهم شاهدوا الرسول؛ ولأن الشريعة مبنية على امتثاله وعلى انقياده ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين أمرهم أي: أمر الذين أتوا بالحج والعمرة أو أفردوا الحج ولم يسوقوا الهدي أمرهم أن يجعلوها عمرة، ولكنهم تكلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم بشأن ذلك لأنهم كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج حتى غضب صلى الله عليه وسلم فكان واجبًا على الصحابة أن ينفذوا ما أمرهم به من أجل أن تتقرر السنة لأنهم لو لم يمتثلوا- وحاشاهم من ذلك- لكان من بعدهم من باب أولى ألا يمتثل، ولهذا كان واجبًا على الصحابة الذين جابههم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك من أجل أن تثبت السنة، ولهذا سئل أبو ذر هل هي لكم خاصة أو عامة؟ ، قال: بل لنا خاصة، ويحمل كلامه على أن المراد بقوله- بل لنا خاصة يعني: الوجوب لئلا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله سراقة بن مالك: ألعامنا هذا أم لأبد؟ قال: بل لا بد الأبد، وهذا ما ذهب، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أحسن مما ذهب إليه تلميذه ابن القيم بوجوب حج القران أو الإفراد لمن لم يكن معه هدي، فإن كلام شيخ الإسلام أقعد وأقرب للصواب وأجمع بين سنة الرسول وسنة الخلفاء الراشدين من بعده كأبي بكر وعمر، وليس في هذا مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم والموفق من وفقه الله تعالى للفقه في الدين دون أن يأخذ بظواهر الأخبار؛ لأن الشريعة كاملة لها قواعد ومعان عظيمة، ترجع إليها، فإذا وفق

الإنسان للربط بين ظواهر النصوص والمعاني العظيمة الجليلة فإنه يكون على خير كثير؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" هذا في غير ما طريقه الخبر المحض كأسماء الله وصفاته واليوم الآخر فهذا يجب الأخذ بظاهرة؛ لأنه خبر محض كأسماء الله وصفاته واليوم الآخر فهذا يجب الأخذ بظاهرة؛ لأنه خبر محض لا مجال للعقل فيه المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب على هذا الرجل وقال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ " لشدة هذا في عهده؛ لأنه إذا وقع اللعب بكتاب الله في عهده ففيما بعده من باب أولى. "حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ " لما رأى من غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "أيلعب بكتاب الله ... الخ" فإن من لعب بكتاب الله اتخذه هزوًا ولعبًا فهو كافر كما قال الله- تبارك وتعالى-: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءايته ورسوله كنتم تستهزءون* لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 66]. هذا الحديث يدل على فوائد: منها: جواز الإخبار بالأمر المنكر؛ ليتبين الحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الذي أخبره بفعل هذا الرجل. ومن فوائد الحديث: تحريم الطلاق الثلاث في مجلس واحد؛ لقوله: "أيلعب بكتاب الله ... الخ"، واتفق العلماء على جواز الطلقة الواحدة وسموها طلاق سنة، واختلفوا في الطلقتين جميعًا هل هما مكروهتان أم هما محرمتان؟ والصحيح أنهما محرمتان وأنه لا يجوز للإنسان أن يجمع بين طلقتين لزوجته فيقول مثلًا: أنت طالق أنت طالق، كما لا يجوز أن يقول: أنت طالق أنت طالق فهو يريد أن يقع منه طلقتان في آن واحد فلا يبقى له إلا طلقة واحدة وأما الذي يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فقد صرم حبال الوصل بينه وبين زوجته مع استغنائه عن ذلك والصحيح انه حرام أي أنه يحرم على الإنسان أن يقول لزوجته: أنت طالق أنت طالق؛ فإن قال ذلك لم يقع إلا واحدة على القول الصحيح ولا إشكال في هذا بعض الناس قال: كيف نقول لا يقع إلا واحدة؟ الخلاف في الثلاث، نقول إنما لم يحصل خلاف في الثنتين لأن له أن يراجع حتى لو وقع الطلاق طلقتين فله أن يراجع فلذلك لا يوجد خلاف إنما صار الخلاف والأخذ والرد في الطلاق الذي تبين به المرأة. إذن الطلاق ثلاثة أقسام: طلاق سنة وهو الواحدة في طهر لم يجامعها فيه أو في حمل

الحامل طلاقها طلاق سنة، الطاهرة طهرًا لم يجامعها فيه طلاقها طلاق سنة، التي لا تحيض طلاقها طلاق سنة، الصغيرة التي لم يأتها الحيض طلاقها طلاق سنة، التي لم يدخل بها طلاقها طلاق سنة هذه خمس كلها طلاق سنة وكذلك أيضًا النفساء فإن طلاقها طلاق سنة؛ لأنه إذا طلقها فقد طلقها للعدة بخلاف الحائض؛ لأنه لو طلقها لم يطلقها للعدة لأنها تفوت عليها بقية الحيضة لا تحسب لها أما النفساء فإنها تشرع في العدة من حيث الطلاق؛ لأن النفاس لا يعتبر في العدة لا بد أن تحيض ثلاث حيض إذا جاءها الحيض، والغالب في النفساء أنه لا يأتيها الحيض إلا بعدة مدة؛ لأنها ترضع والمرضع لا يأتيها الحيض في الغالب، التي لم يدخل بها لماذا كان طلاقها طلاق سنة" لأنه لا عدة لها، والله يقول: {فطلقوهن لعدتهن} وهذه لا عدة عليها فيطلقها متى شاء، الحامل أيضًا يطلقها متى شاء حتى لو كان لم يغتسل من الجنابة منها فإنه يطلقها؛ لأن عدتها وضع الحمل وتبتدأ فورًا ما تنتظر، الصغيرة التي لم تحض أيضًا يطلقها ولو كان لم يغتسل من الجنابة منها؛ لأن عدتها بالأشهر وهي تبتدأ بالعدة من حين الطلاق، الآيسة من الحيض لكبر أو نقل رحم أو ما أشبه ذلك طلاقها طلاق سنة ولو بعد الجماع مباشرة؛ لأن عدتها بالأشهر وهي تشرع فيها من حين الطلاق، النفساء طلاقها طلاق سنة لأنها تشرع في العدة فورًا كالآية والصغيرة. فإن قال قائل: كيف تجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "مره فليطلقها طاهرًا أو حاملًا؟ ". قلنا: مرداه طاهرًا من الحيض؛ لأن قوله "أو حاملًا" يدل على أنه ليس هذا نفاس، والحديث صريح بأنه طلقها في الحيض وصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ لأنه طلقها لغير العدة والنفساء بالاتفاق تشرع في العدة من حين يطلق. ومن فوائد الحديث: الغضب عند الموعظة لقوله: "فقام صلى الله عليه وسلم غضبان"، ولكن يشترط في الغضب ألا يكون شديدا بحيث لا يتصور ما يقول، فإن غضب غضبًا شديدًا بحيث لا يتصور ما يقول فيجب أن يتريث حتى يهدأ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي الإعلان عن المنكر فور وقوعه بدون تأخير لأنه قال: "فقام"، والفاء على الترتيب والتعقيب وهذا هو الموافق للحكمة؛ لأن الإنسان إذا أخَّر

الشيء فربما ينساه وربما يحول بينه وبينه مانع يمنعه فالمبادرة هي الحكمة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبادر بالشيء الذي يحتاج إلى التخلي منه فإنه لما بال الأعرابي في المسجد ماذا قال؟ "أريقوا على بوله سجلًا من ماء"، فورًا ولما جيء إليه بصبي فبال في حجره دعا بماء فأتبعه إياه ولم ينتظر يقول: ل اغسله إلا إذا أردت الصلاة ولما دعاه عتبان بن مالك إلى بيته ليصلي في مكان يتخذه عتبان مصلى فدخل وقد صنع له عتبان طعامًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين تريد أن أصلي قبل أن يأكل، لماذا؟ لأنه جاء لغرض فينبغي أن يبادر به، وهذا لا شك أنه من الحزم، وذكر عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال في الإنسان إذا وجد سعة فليحج ولا يؤخر فإن للتأخير آفات، وهذا هو الواقع، كل شيء يطلب منك فبادر به؛ لأن التأخير له آفات إما نسيان أو عجز أو مانع آخر. ومن فوائد الحديث: الإنكار الشديد على من طلق ثلاث تطليقات متتابعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيلعب بكتاب الله ... الخ" وكما سمعتم أن التطليقتين أيضًا حرام، لأنه من اللعب بكتاب الله لأن الله يقول: {فطلقوهن لعدتهن} والطلقة الثانية الرادفة للأولى لا تعتبر طلقة للعدة. ومن فوائد الحديث: شدة غيرة الصحابة- رضي الله عنهم- فإنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم غضبان وقال: إن هذا لعب بكتاب الله استأذنوا في قتله؛ لأنهم لا يريدون أحدًا يلعب بكتاب الله أو يغضب رسول الله، ومن ذلك ما جرى لعمر بن الخطاب في قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي كتب لقريش بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيغزوهم وأطلع الله نبيه على ذلك حتى أدرك الكتاب وجيء به إلى المدينة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم حاطبًا قال ما هذا؟ فأخبره بعذره فقام عمر فقال يا رسول الله! ألا أقتله فإنه قد نافق، قال: لا وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وحاطب كان من أهل بدر. ومن فوائد الحديث: نسبة القرآن إلى الله في قوله: "بكتاب الله" والقرآن لا شك أنه كلام الله عز وجل تكلم به حقيقة فسمعه جبريل، ثم ألقاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل به على قلبه. 1032 - وعن ابن عباس رضي الله عنهم قال: "طلق أبو ركانة أم ركانة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم راجع امرأتك، فقال: إنا طلقَّتها ثلاثُا. قال: قد علمت، راجعها". رواه أبو داود.

1033 - وفي لفظ لأحمد: "طلق أبو ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثًا، فحزن عليها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها واحدة". وفي سندهما ابن إسحاق، وفيه مقال. ابن إسحاق صاحب السيرة وهو رحمه الله ممن عرف بالتدليس، والمدلس هو الذي يروي الحديث بلفظ يوهم السماع دون ممن يسمعه ممن نسبه إليه، فيقول مثلًا: عن فلان وهو ممن لم يسمعه منه لكن حدث به عنه فسقط الواسطة التي بينه وبين الشخص، ويقول: عن فلان، وقد ذكر أهل العلم بالحديث أن المدلس لا يقبل حديثه إلا صرح بالتحديث أو كان لا يرسل إلا عن ثقة، أو كان معروفًا بأنه لا يرسل، إلا إذا علم بصحة الواسطة أو بثقة الواسطة، مثل: ما يوجد في البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس كثيرًا، مع أن قتادة كان معروفًا بالتدليس، لكنه في البخاري ومسلم تتبع وجد بأنه ليس فيه ما يوجب الرد والتضعيف، وابن إسحاق في نفسه مقبول الرواية لكن فيما ينسبه إلى غيره إن كان بلفظ التحديث فهو متصل ومقبول، وإن كان بغيره فإنه يخاف منه لكن هذين الحديثين لهما شاهد في صحيح مسلم عن ابن عباس وهو الحديث الأول: "كان الطلاق الثلاث واحدة ... الخ". هنا يقول: "طلق أبو ركانة أم ركانة ... الخ" قوله: "راجع امرأتك" يعني: ردها إلى عصمة النكاح، وقوله: "قد علمت" يعني: علمت أنك طلقتها ثلاثًا في مجلس واحد، ولولا علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لكان استفصل وقال هل هذه الثلاث متفرقات كل واحدة بعد رجعة أو لا؟ لأن لو جاءك رجل يستفتيك يقول طلقت امرأتي ثلاثًا ألي رجعة؟ يجب عليك ولو كنت ترى الثلاث واحدة يجب عليك أن تسأل هل هذه آخر ثلاث تطليقات أو أن طلقتها في مجلس واحد أو بكلمة واحدة؟ إن قال بالأول فهي لا تحل له وإن قال بالثاني فهي على القول الراجح تحل له ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها دون أن يستفصل فقال: "إني طلقتها ثلاثًا قال قد علمت راجعها" واللفظ الثاني في رواية أحمد أنه طلق امرأته في مجلس واحد ثلاثًا يعني قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، هذا هو معنى طلقها ثلاثًا، وليس معناه: أنه فقال أنت طالق ثلاثًا؛ لأن التطليق طلق فعل لا بد أن يستقل كل فعل بنفسه كما لو قلت: سبح الله ثلاثًا فليس معناه أنه: قال سبحان الله ثلاثًا بل معناه قال: سبحان الله سبحان الله سبحان الله، ثم قال: "فحزن عليها" يعني: ظنَّا منه أنها لا تحل له؛ لأنه طلقها ثلاثًا فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال إنها واحدة، وإذا كانت واحدة ارتفع الحزن لأن بإمكانه أن يراجعها.

ففي هذا الحديث فوائد: أنه كان المفتي على علم بالقضية تحتاج إلى تفصيل فإنه لا يجب عليه أن يستفصل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمراجعة وقال: "إني علمت أنك طلقت ثلاثًا". ومن فوائده: أن الطلاق الثلاث يعتبر واحدة فله مراجعة الزوجة لقوله: "راجعها". ومن فوائده: جواز مراجعة المستفتي لمن أفتاه حتى يتبين الأمر جليًا؛ ولهذا قال "إني طلقتها ثلاثًا"؛ لأنه لو أخذ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأول لأخذها على أي صفة كانت أراد أن يستفصل ويتتبع وهذا من أمانة المستفتي أن يتثبت لأن بعض المستفتين إذا كان له هوى واستفتي، ولو كان في استفتائه إجمال يسكت ويأخذ بظاهر الفتوى، والواجب على المستفتي أن يكون أمينًا لأنه يستفتي لدينه فيخبر بكل الواقع على وجه التفصيل ليبقي إفتاء المفتي مبني على أساس. ومن فوائد الحديث: وقوع الطلاق الثلاث لكنه واحدة خلافًا للرافضة الذين يقولون: إن الطلاق الثلاث لا يقع. 1034 - وقد روى أبو داود من وجه آخر أحسن منه: "أن ركانة طلق امرأته سهمية ألبته، فقال: والله ما أردت بها إلا واحدة، فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم". هذا أيضًا يختلف عن الأول: "طلق امرأته ألبته"، كلمة "ألبته" يعني: طلاق القطع الذي ليس بعده صلة؛ لأن معنى ألبته يعني: القطع، فمعنى "ألبته" أي: الطلاق الذي ليس به صلة، وهو طلاق البينونة، وأعلم أن الصحابة يطلقون ألبته على الطلاق الثلاث لماذا؟ لأنها تقطع الصلة بين الزوج وزوجته فقال: والله ما أردت بها إلا واحدة والظاهر أنه فهم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يردها إليه إذا اعتبر الطلاق ثلاث كل واحدة طلقة فحلف أنه لم يرد بها إلا واحدة وكيف يمكن أنه لا يريد إلا واحدة وقد كررها ثلاثًا؟ يكون هذا على وجه التوكيد، فإذا قال لزوجته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق وقال: أنا أقصد التوكيد، ما أردت أن الثانية غير الأولى، فإنه يقبل حتى على المشهور من المذهب وتكون الطلقة واحدة. فإن قال: أنت طالق وأنت طالق ثم أنت طالق وقال أردت التوكيد لا يصح لماذا؟ لوجود حرف العطف فإذا قال: أنت طال ثم أنت طلق ثم أنت طالق وقال أردت التوكيد نقول: أما توكيد الأولى بالثانية فلا يصح لوجود حرف العطف والثانية صورتها غير صورة الأولى والتوكيد

لا بد أن تكون الصورة الثانية هي صورة الأولى وإذا قال: أردت توكيد الثانية بالثالثة يصح لأنها واحدة أنت طالق ثم أنت طالق ثم أنت طالق فتقع طلقتان عن طلقتين وإذا قال: أنت طالق وأنت طالق ثم أنت طالق وقال أردت التوكيد لا يصح بكل الجمل؛ لأن الجملة الثانية تخالف الأولى لوجود الواو والثالثة تخالف لاختلاف حرف العطف، حرف العطف في الثانية الواو، في الثالثة ثم فلا يقبل التوكيد وهذا بناء على أن تكرار صيغة الطلاق يتعدد بها الطلاق أما على القول الصحيح فإنه حتى وإن قال: إني أردت بالثانية جملة جديدة تأسيسية لا توكيدية فإنه لا يقع إلا واحدة على القول الصحيح. التحذير من الهزل بالطلاق: 1035 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ جدُّهنَّ جدّ، وهزالهنَّ جدُّ: النكاح، والطَّلاق، والرَّجعة". رواه الأربعة إلا النَّسائيَّ، وصحَّحه الحاكم. 1036 - وفي روايةٍ لابن عديٍّ من وجهٍ آخر ضعيفٍ: "الطَّلاق، والعتاق، والنّكاح". هذا الحديث بروايتين والحديث الأخير في حكم طلاق الهازل يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن وهزلهن جد" "الجدُّ" بمعنى: الكلام المقصود الذي تكلم به المتكلم قاصدًا الكلام وقاصدًا المعنى، والهزل هو: الذي تكلم به المتكلم قاصدا الكلام ولكنه لم يقصد المعنى، أراد به الهزل أو يقال: تكلم به المتكلم قاصدًا اللفظ والمعنى لكن هزلا وهذه المسألة اختلف فيها العلماء كما سيأتي. يقول: "النكاح" يعني عقده، فإذا قال الرجل لشخص يمزح معه زوجتك بنتي فقال: قبلت وكان عنده حضرة، المهم تمت الشروط فإن النكاح يكون صحيحًا منعقدًا. الثاني: الطلاق وهو: حل قيد النكاح فالنكاح ربطه بعقده، والثاني حل العقد، الطلاق أيضًا هزله جد فلو كان الرجل يهازل زوجته ويمازحها وقال لها: أنت طالق فإنها تطلق؛ لأن هزل الطلاق جد. والثالث: الرجعة وهي: ارتجاع الرجل زوجته في عدتها فإذا طلقها رجعيًا فراجعها يمزح فإن الرجعة تثبت؛ لأن هزلها جد، وإنما كانت هذه الثلاثة هزلها جد لخطرها وعظمها حتى لا يتلاعب أحد بها بخلاف البيع والإجارة والرهن والوقف وما أشبهها، فهذه أمرها أهون، لكن

هذه خطرها عظيم الطلاق والنكاح والرجعة لذلك جعل الشارع الهزل فيها جدًّا حتى لا يتلاعب الناس بها فإذا قال الهازل: أنا لم أقصد أن يقع الطلاق قلنا: لكنك قصدت الطلاق وإذا قال أنا لم أرد أن ينعقد النكاح قلنا: ولكنك أتيت بصيغة وكونه ينعقد أو لا ينعقد ليس إليك إنما هو إلى الله وكذلك الطلاق وأنت الآن أتيت بصيغته ونويته وكونه يقع أو لا يقع ليس إليك إنما هو إلى الله كذلك الرجعة لو راجع زوجته وقال: أنا ما أردت حقيقة الرجعة أنا أمزح، قلنا: ولكنك أردت الرجعة وكونها تحصل أو لا تحصل ليس إليك، وعلى هذا فيكون التفسير الصحيح للهزل أن الإنسان يريد اللفظ والمعنى، ولكنه أريد زوجتك أي: جعلتك صنفًا؛ لأن الزوج صنف كما قال تعالى: {وءاخر من شكله أزواج} [ص: 58]. كذلك الرجعة يقول: أنا ما أردت الرجعة إنما أردت أني رجعت في كلامي ولم أقصد أن ترجع على كل حال، فرق بين من تلفظ بالشيء لا يريد معناه ومن تلفظ به يريد معناه، لكن كان هازلًا فنقول: أنت الآن تكلمت بالطلاق مريدًا به الطلاق فيقع وكونك تقول: أنا لم أقصد الجد وإنما قصدت الهزل هذا ليس إليك. فعلى هذا نقول في هذا الحديث دليل على أمور: أولًا: أن العقود لا تنعقد عن هزل أولًا: أن العقود لا تنعقد عن هزل إلا هذه الثلاثة، فلو باع الإنسان بيته على شخص يمزح فإن البيع لا ينعقد لو كان يمزح قال تبيع بيتك قال بيتي غال عندي قال: أنا أعطيك مليونًا يمزح عليه، قال: بعتك فهذا لا ينعقد به البيع؛ لأنه كان هازلًا، ولكن لو ادعى أحد المتعاقدين أنه هزل وادعى الآخر أنه جد فالقول قول مدعي الجد؛ لأن الأصل في العقود أنها جد إلا إذا قامت البينة على أنه هازل أو كانت القرينة قوية على أنه هازل فحينئذ لا ينعقد البيع. كذلك في الإجارة صار يمزح معه فقال: أجرني بيتك، فقال: أجرته إياه بكذا وكذا، فقال: قبلت وهو يمزح، فإن الإجارة لا تنعقد؛ لأنها هزل ولكن لو اختلف المستأجر والمؤجر هل العقد هزل أو جد؟ فالقول قول من يقول: إنه جد لأنه الأصل إلا ببينة أو قرينة ظاهرة. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يذكر أشياء أحيانا للتقسيم والحصر مثل قوله أربع لا تجوز في الأضاحي وقوله: "ثلاث جدهن" وقوله: "ثلاثة لا يكلمهم الله"، "سبعة يظلهم الله في ظله"، وأمثلة هذا كثيرة يحصرها النبي صلى الله عليه وسلم من أجل التقريب؛ لأن الشيء إذا عدد وحصر سهل حفظه وبعد نسيانه. ومن فوائد الحديث: أن هذه الأمور الثلاثة في الجد والهزل وهي: النكاح والطلاق والرجعة، والحكمة من ذلك ما أشرنا إليه سابقًا وهو عظم هذه العقود وخطرها فجعل فيها الهزل كالجد، وهذا ما ذهب إليه أكثر العلماء.

مسألة: هل يقع الطلاق بحديث النفس أو الوسوسة؟

وقال بعض أهل العلم: لا تنعقد من الهزل إذا ثبت أنه هزل فإنها لا تتعقد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ... " الحديث، وهذا لم ينو إنما قاله على سبيل المزح، وعلى سبيل الهزل، وعكس النظر أو التعليل السابق قال هذه العقود لعظمها وخطرها لا ينبغي أن يلزم الإنسان بحكمها إلا بوجه متيقن، وأنها لخطرها لا تثبت بالهزل، وهذا مذهب الظاهرية وذهب إليه أيضًا بعض الفقهاء وقال: إن الأحاديث الواردة فيها لا تثبت. ولكن الجمهور على أنها تثبت وهذا هو الأحوط وهو الأسلم من التلاعب؛ لأن الناس إذا علموا أنهم إذا هزلوا فيها ألزموا بها توقفوا عن الهزل، وإذا علموا أن الهزل لا يثبتها صاروا يهزلون بها كثيرًا وكثر التلاعب وصار ربما طلق قال أنا هازل وإذا عقد قال أنا قال أنا هازل وإذا راجع قال أنا هازل وهذا يترتب عليه أمور كثيرة من ثبوت النسب والمصاهرة والتحريم بالمصاهرة وغير ذلك مما هو خطير فجعل فيها الهزل كالجد لئلا يتلاعب الناس بذلك. وقوله: "وفي رواية لابن عدي: الطلاق والعتاق والنكاح"، أما الطلاق والنكاح فسبق وجهه، وأما العتاق فلتشوف الشارع إلى العتق؛ ولهذا يحصل العتق بأمور لا يحصل بها غيره قد يحصل العتق كرها على الإنسان مثل العتق للسرايه، لو أعتق الإنسان نصف عبده أعتق كله، ولو عتق شريكًا له في العبد يملك من العبد مثلًا واحدًا من عشرة فأعتق نصيبه عتق العبد كله وألزم بقيمة نصيب شركائه. إذن نزيد أمرا رابعًا على ما سبق وهو العتق. 1037 - وللحارث بن أبي أسامة: من حديث عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه رفعه: "لا يجوز اللعب في ثلاثٍ: الطَّلاق، والنكاح، والعتاق، فمن قالهنَّ فقد وجبن". وسنده ضعيفٌ. قوله: "رفعه" يعني: إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجوز ... الخ" وهذا الحديث يوافق الرواية الأخرى لابن عدي وأسقط في هذين الحديثين ذكر الرجعة "فمن قالهن فقد وجبن" يعني: من قالهن على سيل الجدَّ أو على سبيل الهزل فقد لزمن وثبتن. مسألة: هل يقع الطلاق بحديث النفس أو الوسوسة؟ 1038 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله تجاوز عن أمَّتي ما حدَّثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تكلَّم". متَّفقٌ عليه. قوله: "عن أمتي" المراد بأمته: أمة الإجابة ولها خصائص كثيرة هذه الأمة لها ولله الحمد

خصائص كثيرة منها هذه المسألة حديث النفس، فإن الله- سبحانه وتعالى- تجاوز عن هذه الأمة ما حدثت به أنفسها، وحديث النفس: هو ما يعبر عنه أحيانًا بالتفكير وأحيانًا بالوساوس وسوسته النفس وهو معروف يحدث الإنسان نفسه بالشيء إما على سبيل الإثبات والإقرار أو على سبيل البحث والنظر، حتى إن بعض الناس تسمعه يحدث نفسه يقول: أقول كذا، أفعل كذا ويشير بيده إذا كنت تمشي وراءه تسمعه يتكلم ويشير بيده كأنما يخاطب شخصًا. نقول: هذا حديث نفس. يقول: "ما لم تعمل أو تتكلم" يعني: ما لم تثبت الأمر ليفيد أن الإنسان الذي يحدث نفسه بالطلاق إذا لم يطلق بلسانه أو يعمل بيده فإن زوجته لا تطلق يتكلم بلسانه فيقول: أنت طالق أو يعمل، فيكتب الطلاق بيده أو يشير إشارة يفهم منها الطلاق فإن ذلك معفو عنه، إذا لم يعمل أو يتكلم فإنه معفو عنه. وهل نقول في طلاق الموسوس: إنه من هذا النوع؟ الجواب: نعم، والجامع بينه وبين هذا: أن حديث النفس أمر لا يمكن الفكاك منه والموسوس كذلك الذي يبتلى بالوسواس يعذر من الفكاك منه إلا أن يتداركه الله برحمته ويوجد كثير من الناس يبتلى بالوسواس في طلاق زوجته ويعجز أن يملك نفسه، حتى إنه إذا فتح الكتاب وقرأ تخيل أنه قال: إن قرأت هذا الكتاب فزوجتي طالق، حتى إن الشيطان يوسوس له في كل شيء، إن أكل قال: إني قلت: إن أكلت فزوجتي طالق، إن خرج قال كذلك، إن نام قال كذلك، وأحيانًا يقول: ادفع الشك باليقين، قل: طالق واسترح، فيقول: طالق، فمثل هذا لا يقع طلاق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طلاق في إغلاق"، وهذا من أكب الإغلاق أن يجد الإنسان في نفسه شيئًا يضيق عليه حتى يتكلم بالطلاق وهذا [هو] الموسوس- عافانا الله وإياكم- ولا تستهينوا بهذا الأمر، الإنسان الذي في عافية من الوسواس لا يكاد يصدق ما يقع من الموسوسين يقلق الشيطان حياته ويتعبه ولا ينامون بالليل في مثل هذه الوساوس، هذا الموسوس لو طلق سمعناه يقول: زوجتي طالق وهو [يمسكها] من ثيابها: لأنه مكره عليها نقول: هذا لا طلاق عليه لكن لو طلق بأناة وتؤدة وذهب إلى القاضي أو إلى غيره من الكتاب المعروفين وقال: إني طلقت زوجتي فأثبت الطلاق فهل يقع؟ يقع، لأن هذا ليس في إغلاق لكن كلامنا في الطلاق الذي يقع من الموسوس حال الإغلاق عليه فإنه لا يقع ونحن دائما يأتينا أناس بهذه الكيفية فتجده يذهب إلى عدد من العلماء سألهم ولا يقتنع؛ لأن الشيطان يقول له: إن زوجتك حرام عليك؛ لأنك طلقتها ثلاثًا فتجده يتعب تعبًا عظيمًا لكن هذا الحكم أن طلاقه لا يقع ولو لفظ به ما لم يكن ذلك عن تأن وروية فهذا يقع طلاقه. من فوائد الحديث: هذه المنة الكبيرة التي من الله بها على هذه الأمة وهي أن الله تجاوز عنها ما حدثت بها أنفسها.

حكم الطلاق الخطأ وطلاق المكره

ومن فوائد الحديث: أن حديث النفس لا يؤاخذ به مهما عظم ما يحدث به، لو حدث نفسه في أمور عظيمة تتعلق بالتوحيد أو في جانب الربوبية فإنه لا يؤاخذ بذلك ما دان لم يستقر ويقر ما حدث به النفس فلا عبرة به؛ ولهذا لم شكا الصحابة- رضي الله عنهم- إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يجدون في نفوسهم مثل هذا حتى قالوا إننا يا رسول الله، نحب أن يكون الواحد منا حمة يعني: فحمة محترقًا ولا يتكلم بين لهم أن ذلك لا يضر وأنهم إذا رأوا ذلك فليستعيذوا بالله ولينتهوا يتغافلون عن هذا الشيء فيزول وهذا هو الدواء أن نقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم لا نتكلم أغفل ولا ياستهوينك الشيطان فتكلم بل اقصر لسانك وما حدثت به نفسك فإنه لا يضر. ومن فوائد الحديث: اعتبار القول أن من قال قولًا فإنه يؤاخذ به لقوله: "أو يتكلم" فإذا حدث نفسه بشيء ثم تكلم به مقررًا له فإنه يؤاخذ به. ومن فوائد الحديث: أيضًا إذا عمل الإنسان عملًا فإنه مؤاخذ به؛ لأن حديث النفس يؤدي إما إلى قول وإما إلى عمل، فإذا أدَّى إلى العمل فإنه يؤاخذ بما يقتضيه ذلك العمل. ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا قرن القول بالعمل اختلف المعنى، وأما إذا أطلق العمل وحده فإنه يشمل القول؛ لأن القول عمل اللسان لكن إذا ذكر القول معه صار العمل للجوارح، والقول للسان، وكذلك أيضًا في الفعل، إذا ذكر مع القول فهو فعل الجوارح، وإذا أطلق فإنه يشمل القول. حكم الطلاق الخطأ وطلاق المكره: 1039 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن النَّبيِّ قال: "إنَّ الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ، والنِّسيان وما استكرهُوا عليه". رواه ابن ماجه والحاكم، وقال أبو حاتم: لا يثبت. معنى: "لا يثبت" يعني: عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن معناه صحيح ولنتكلم عليه وضع عن أمتي الخطأ والنسيان "وما استكرهوا عليه" أي: ما أكرهوا عليه، "الخطأ" مجانبة الصواب عن غير قصد، و"النسيان" هو: الذهول عن شيء معلوم والاستكراه هو إجبار الإنسان على الشيء فعلًا أو تركًا أو قولًا وهذا الحديث وإن لم يثبت سندًا فهو ثابت معنى، الخطأ والنسيان معفو عنهما بنص القرآن قال الله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. فقال الله قد فعلت وقال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5]. أم الإكراه فقال الله عز وجل {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان

ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} [النحل: 106]. فإذا كان الإكراه على الكفر وهو أعظم الخطايا معفو عنه فما دونه من باب أولى. ولكن هل يلزم هذا المخطئ أو الناسي أو المكره شيء؟ الجواب: ننظر إن كان المكر عليه أو المنسي أو المخطأ فيه إن كان من قسم المنهيات لم يلزمه شيء وإن كان من قسم المأمورات فإن أمكن إتمامه وإن لم يمكن وله بدل أخذ ببدله وإلا سقط. مثال ذلك: نسي إنسان فصلى ثلاثا في الرباعية وسلم هل تسقط الرابعة بالنسيان؟ لا، لأنه من باب المأمور كمل المأمور يعني أتم الصلاة أربعًا واسجد للسهو، لو نسي فطاف ستًا فهل يسقط السابع؟ لا، لأنه مأمور فيأتيه، لو نسي فلم يرم الجمرات هل تسقط؟ لا، لكن إن كان في وقت الرمي رمى وإن كان قد انتهى وقته وجب عليه البدل وهو عند أهل العلم دم يذبحه في مكة ويوزعه على الفقراء. أما المحذورات فإنها لا أثر لها، لا أثر لفعلها إذا كان صادرًا عن خطأ أو نسيان أو إكراه، الخطأ قلنا: إنه مجانبة الصواب من غير قصد ينقسم إلى قسمين: خطأ في الحكم، وخطأ في الحال، وكلاهما سواء والخطأ في الحكم قد يكون عن اجتهاد وقد يكون عن تفريط فإن كان عن اجتهاد فلا إثم عليه ولو أخطأ فعمله صحيح بمعنى أنه لا بإثم به ولا يلزم بإعادته لأنه فعل ما أمر به وأما إذا لم يكن عن اجتهاد فإنه لا يأثم، ولكن يأتي ببدله إن كان له بدل، ولنضرب لهذا أمثالا: رجل احتجم وهو صائم يظن أن الحجامة لا تفطر هذا خطأ في الحكم، مثال آخر رجل أكل وشرب بعد طلوع الفجر لكنه لم يعلم بالفجر هذا خطأ في الحال؛ لأنه يعلم أن الأكل بعد طلوع الفجر مفطر للصائم لكنه لم يعلم أن الفجر قد طلع فيكون جاهلًا بالحال، رجل ثالث صلى في ثوب نجس وهو لا يعلم بالنجاسة هذا خطأ في الحال، رجل رابع صلى في ثوب وهو يعلم أن فيه نجاسة ولكن لم يظن أن هذه نجاسة هذا خطأ في الحال، خامسًا رجل صلَّى وفي ثوبه نجاسة لكنه لا يظن أن النجاسة تبطل الصلاة هذا خطأ في الحكم ولا فرق بين الخطأ في الحكم والخطأ في الحال. النسيان: ذهول القلب عن الشيء المعلوم، يعني: كان معلوما عنده ولكن ذهب. فإن قال قائل: لماذا جاء المؤلف بهذا الحديث في كتاب الطلاق؟ الجواب: لأنه يتعلق به كثير من أحكام الطلاق فمثلا لو قال الرجل لزوجته: أن فعلت كذا

فأنت طالق يريد الطلاق فعلته ناسية فما الحكم؟ لا طلاق عليها أو قال إن فعلت كذا فأنت طالق ولكنها لم تعلم أنه قال هذا القول ففعلت فلا طلاق عليها أو قال إن دخلت البيت على فلان فأنت طالق فظنت أنه يريد إن دخلت البيت عليه في الليل لا في النهار فدخلت في النهار لم تطلق لأنها جاهلة متأوله وهذا القول الذي جاء المؤلف بهذا الحديث ليشير إليه هو القول الراجح أن الطلاق يعذر فيه بالجهل والنسيان كغيره والمشهور من المذهب أنه لا عذر فيه بجهل ولا نسيان متى وجد الشرط على أي حال ثبت الطلاق أما الإكراه فنعم يرون أن الرجل إذا أكره على الطلاق منه وقد ذكرنا من قبل قصة وقعت في عهد عمر أن رجلًا نزل من الجبل ليشري عسلًا، يعني: يجني عسلًا فأمسكت امرأته بالحبل وقالت: إما أن تطلقني ثلاثًا أو أطلقت الحبل فماذا يصنع؟ طلقها ثلاثًا فبلغ ذلك عمر فقال: هي امرأته لأن الرجل مكره. ومن الإكراه أن تقول المرأة للزوج وقد وقع هذا- تأتي بالسكين وتقول إما أن تطلقني أو أقتل نفسي هذا أيضًا إكراه لأنه لا أحد يريد أن تذبح زوجته نفسها فإذا طلق بناء على هذا فلا طلاق ومن ذلك أن يأتي ظالم فيكرهه على أن يطلق زوجته فيفعل فلا طلاق، وأما الطلاق خوفًا من الغصب فليس بطلاق مكره، بعض الناس مثلًا يأتيه بنو عمه ولاسيما في البادية يقولون هذه المرأة ليست من أكفانك ولا تصلح لك نحن بنو فلان وهذه من بني فلان فيلزمون عليه فيطلق فهذا ليس بإكراه لأنه بإمكانه أن يقول: لا إلا إذا هددوه بالقتل لها أو له أو فعل معه ما يضره فحينئذ يكون مكرهًا. يستفاد من هذا الحديث: أولًا: بيان رحمة الله تعالى بهذه الأمة حيث وضع عنها الآصال والأغلال التي من جملتها أنه لا حكم لما فعلته جاهلة أو ناسية أو مكرهة. ومن فوائد الحديث: إثبات الحكم المطلق لله لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع" ولا يمكن لأحد أن يضع عن الخلق شيء من الأفعال إلا الله وحده أو رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: عموم رحمة الله وفضله على هذه الأمة حيث لم يؤاخذها بما فعلت جاهلة أو ناسية أو مكرهة. ومن فوائد الحديث: أن من طلق ناسيًا أو جاهلًا أو مكرهًا فلا طلاق عليه لأن الحديث عام والطلاق يدخل في هذا العموم.

1040 - وعن ابن عباس رضى الله عنها قال: {إذا حرم امرأته ليس بشيء، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]. رواه البخاري. هذا الحديث موقوف على ابن عباس؛ لأنه لم يرفعه إلي النبي صلى الله عليه وسلم فهو من قوله، وإذا قال الصحابي قولًا فإن كان تفقهًا فهو كغيره، يستنبط الأحكام من الأدلة ويكون كغيره من الناس، لكنه لا شك أقرب إلى الصواب من غيره، وما قاله ابن عباس هنا تفقهًا؛ لأنه استدل له بقوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}، قوله: "إذا حرم الرجل" تحريم المرأة يقع على وجوه: الوجه الأول أن يقصد أنها حرام يقول إن الله حرم الزوجة خبرًا لا إنشاء، فهذا نقول له كذبت وليس بشيء لا يعتبر كلامه شيئًا؛ لأنه أخبر أن الله حرم الزوجة ونحن نعلم أن الله لم يحرم وهل يلزمه شيء؟ لا يلزمه إلا التوبة من الكذب، الوجه الثاني: أن يحرمها على سبيل الامتناع يعني يقصد بقوله لزوجته: أنت علي حرام الامتناع منها وتحريمها على نفسه لا تغيير حكم الله فهذا حكمه على القول الصحيح حكم اليمين، وظاهر حديث ابن عباس أنه ليس بشيء، فيحتمل أن يريد بقوله: "ليس بشيء" أي: ليس بشيء من الظهار، بدليل قوله: {لقد كان لكم ... إلخ}. والنبي صلى الله عليه وسلم لما حرم نساءه وألى منهن، قال الله له {قد فرض الله لكم تحله أيمانكم} [التحريم: 2]. هذا على أحد القولين في الآية ويحتمل أنه قال ليس بشيء؛ لأنه وإن حرم زوجته فإنها لا تحرم فيكون كالذي أخبر عن تحريمها وهي ليس بحرام، الوجه الثالث: أن يريد بقوله: هي حرام إنشاء التحريم الحكمي يعني كالذي يقول الخبز حرام يعني: يريد أن يحرم ما أحل الله فهذا حكمه حكم من حكم بغير ما أنزل الله لأن الله أحلى النساء وهو يريد أن يحرمها تحريمًا حكميًا فهذا حكمه من حرم ما أحل الله يعني: أنه على خطر عظيم قد يؤدي به إلى الكفر، الوجه الرابع: أن ينوي بالتحريم الطلاق لأن الطلاق فيه نوع من التحريم فإنه يحرم على الزوج ما يحرم بالطلاق فيريد بقوله: أنت علي حرام أو زوجتي علي حرام يريد به الطلاق فإذا أراد به الطلاق صار كناية فتطلق المرأة، الوجه الخامس: ألا ينوي شيئًا خرج من لسانه وقال: أنت علي حرام فقيل: إنه ظهار وقيل إنه يمين يعني: حكمه حكم اليمين؛ لأن كل من حرم شيئًا مما أحله الله له يقصد الامتناع منه فحكمه حكم اليمين وهذا القول الثاني أصح من أن نقول إنه ظهار لأن الظهار رخصه الله تعالى بمن ظاهر من زوجته فقال: أنت علي كظهر أمي، وهذا القول أشد من قوله: أنت علي حرام فإذا أطلق قوله: أنت علي حرام لم نصرفه إلى الظهار، بل نقول حكم هذا

حكم اليمين لقوله تعالى: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم (1) قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 1 - 2]. فقوله جل ذكره: {ما أحل الله لك} يشمل الزوجة مما أحل الله له فيكون حكمه حكم اليمين، هذه خمسة أوجه في قول الرجل لامرأته أنت علي حرام، يقول ثم قال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} أسوة يعني: تأسيًا حسنًا يعني: لا زيادة فيه ولا نقص يشير رضى الله عنه إلى تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته على أحد الأقوال أو للعسل على القول الثاني والعسل مما أحل الله له والمرأة مما أحل الله له فإذا حرم زوجته كان كتحريم العسل لكن في هذا إشكال وهو أن الذي حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يمينًا يلزمه كفارة يمين وهذا مما يؤيد التفسير الثاني في قوله: "إذا حرم زوجته فليس بشيء" أي: ليس بشيء من الظهار أو الطلاق. ولمسلم عن ابن عباس رضى الله عنها: "إذا حرم الرجل امرأته فهو يمين يكفرها". وهذا مما يؤيد أن معنى قوله فليس بشيء أي: من الظهار بل تكون يمينًا يكفرها وهذا القول هو الصحيح كما سمعتم في أول البحث على أنه إذا حرم زوجته ولم ينو شيئًا فهو يمين. من فوائد الحديث: حكم هذه المسألة وهي إذا حرم الرجل زوجته فماذا يترتب عليه وقد علمتم الحكم مما فصلنا. ومن فوائد الحديث: أن الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله الأصل التأسي لقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]. ومن فوائد الحديث: أن المرء يجب عليه أن يكون تأسيه بالنبي صلى الله عليه وسلم تأسيًا حسنًا والحسن كما قلنا ألا يزيد ولا ينقص. ومن فوائد هذا الأثر عن ابن عباس أن التحريم تحريم المرأة كتحريم غيرها من الحلال يكون يمينًا. 1042 - وعن عائشة رضى الله عنها: "أن ابنه الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها. قالت: أعوذ بالله منك، فقال: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك". رواه البخاري. هذا المرأة لم يقدر الله لها ما هو خير، فإنها لو بقيت من زوجات الرسول لكانت معه في الجنة، لكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء لما أدخلت عليه، قالت: أعوذ بالله منك" ومعنى أعوذ: أي: اعتصم بالله منك تريد أن يبتعد عنها وقالت ذلك لأنها امرأة مغرورة بنفسها فقالت: أعوذ بالله منك لما قالت هكذا استعاذت بالله فإن المشروع فيمن استعاذ أحد بالله منه المشروع

أن يعيذه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من استعاذ بالله فأعيذوه" فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لقد عذت بعظيم" وهو الله- سبحانه وتعالى- أعظم العظماء وهو يعيذ من استعاذ به الحقي بأهلك يريد الطلاق، يعني: اذهبي لأهلك أنت مطلقة. فيستفاد من هذا الحديث: أولًا: أن الإنسان قد يحرم الخير- والعياذ بالله- بمقالة يقولها؛ لأن هذه المرأة قالت: "أعوذ بالله منك" فحرمت أن تكون من أمهات المؤمنين. ومن فوائده: شدة تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لربه حيث قال: "لقد عذت بعظيم" وأعاذها. ومن فوائده: أن قول الرجل لامرأته الحقي بأهلك بنية الطلاق يعتبر طلاقًا ودليله من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" ... الحديث. فإن قال قائل: لو أخذنا بالعموم لكان الرجل إذا قال: والله لا ألبس الثوب ثم لبس الثوب فقلنا له: حنثت قال أردت بقولي والله لا ألبس الثوب أي لا آكل الخبز قال: "إنما الأعمال بالنيات"، فنقول: نعم، بشرط أن يكون اللفظ محتملًا للنية التي نواها أما إذا كان غير محتمل فلا يصح الحقي بأهلك هل هو محتمل للطلاق؟ نعم؛ لأن الطلاق فراق الزوجة لزوجها إلى أهلها ففيه احتمال للطلاق فلهذا إذا نوى به الطلاق فهو طلاق، أخذ العلماء من هذا أن الطلاق صريحًا وكناية يعني: صيغة صريحة، وصيغة كناية فما هو الصريح؟ الصريح ما لا يحتمل غيره أو ما يتبادر إلى الذهن من اللفظ وإن كان يحتمل غيره، هذا الصريح الكناية على العكس من ذلك ما يتبادر إلى الذهن سوى الطلاق لكن تحتمل النية وعلى هذا، فإذا قال الإنسان لزوجته: أنت طالق فهذا صريح لأنه يحتمل غيره لكن ما الذي يتبادر إلى الذهن؟ الطلاق يحتمل أنت طالق، يعني: غير مقيدة؛ ولهذا لو قال الرجل بعيري طالق المعنى: أنه غير مقيد، فاللفظ هنا مجرد لا شك أنه يحتمل غير الطلاق، لكن لما أضيف إلى المرأة صار المتبادر منه طلاق المرأة فيكون صريحًا، إن الألفاظ في الحقيقة تتقيد بالأعراف نحن عندنا هنا في القصيم إذا قال خلى زوجته أو هي مخلاة فهو طلاق صريح، العامة الآن إذا طلق رجل زوجته ما يقول طلقت يقول مخلاة فعلى هذا يكون صريحًا وعند قوم آخرين لا يعرفون هذه الكلمة فيكون كناية فصارت الكناية الآن ما يتبادر إلى الذهن سوى الطلاق، لكن يحتمل الطلاق وعكسه الصريح ما يتبادر إلى الذهن منه الطلاق ويحتمل غيره لكنه خلاف الظاهر. بقي أن يقال: هل يقع الطلاق بالكناية بمجرد التلفظ بها.

الجواب: لا؛ وذلك لأن اللفظ موضوع لغير الطلاق ولهذا لا يتبادر منه الطلاق فلا يقع الطلاق بالكناية بمجرد التلفظ بها، لو قال لزوجته بدون أي سبب الحقي بأهلك هل يقع الطلاق؟ لا ما دام لا نوى ولا هناك سبب يجعل الظاهر من اللفظ هو الطلاق فالطلاق حينئذ لا يقع لأن مجرد الحقي بأهلك يريد حتى يهدأ غضبه أو حتى تهدأ هي إن كانت هي الغاضبة أو لأن أهلها دعوها فقال الحقي بأهلك المهم أنه بمجرد أن يقول الحقي بأهلك إذا لم ينو الطلاق ولم يكن هناك سبب يوجب حمل اللفظ على الطلاق فإنه ليس بطلاق، الحديث الذي معنا هل هناك سبب يحمل لفظ الحقي بأهلك على الطلاق؟ نعم ما هو؟ استعاذتها بالله من الرسول صلى الله عليه وسلم هذا يقتضي أن يكون المراد باللفظ الطلاق ولهذا قال العلماء يقع الطلاق بالكناية في أحوال ثلاث: أولًا: إذا نوى وهذا ظاهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ... "الحديث. ثانيًا: إذا طلبت الطلاق قالت: "طلقني" فقال: "الحقي بأهلك"، فإن سؤالها الطلاق وبناء الكلام على الجواب على ذلك يقتضي أنه أراد الطلاق لكن لو أراد غيره في هذه الحال وقال: أنا لم أرد بقولي الحقي بأهلك أنها تطلق إنما أردت تفارق عن وجهي حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا فحينئذ لا يقع الثالث إذا كان له سبب وسببه يقتضي الطلاق يعني: ليس جوابًا، سؤال: غاضبته مثلًا فقال: "الحقي بأهلك" هذا سبب عن مغاضبة سبب يقتصي أن يطلقها فقوله: "الحقي بأهلك" له سبب يؤيد أن يكون المراد الطلاق فيعمل بهذا السبب، ودليل هذه المسألة الأخيرة الحديث الحقي بأهلك، لو قالت: يا فلان طلقني طلقني طلقني قال: فارقي ولا يدري ماذا نوى فهل يقع؟ يقع لأن المغاضبة سبب فيقع فارقي طلاق لأن الطلاق فراق، لو قال قائل: كيف تطلق وهو ما نوى؟ قلنا: الكناية يقع به الطلاق في ثلاث أحوال: النية والسبب الذي يقتضي الطلاق وجواب، سؤال، هل النبي صلى الله عليه وسلم لما قال الحقي بأهلك لا شك أنه أراد الطلاق فيما يظهر لنا. فهذا الرجل لما غاضبته غضب وقال: "الحقي بأهلك" أو فارقي، لكن لو قال أنا نويت غير الطلاق أو لم أنو الطلاق فهنا ندينه. يقول الراجز: وكل لفظٍ لفراقٍ احتمل ... فهو كناية بنية حصل هذا تعريف الكناية: كل لفظ يحتمل الفراق فهو كناية، فلو قال: أعطني القهوة وقال: نويت الطلاق، لا تقبل نيته؛ لأن اللفظ لا يحتمل الفراق.

ثبوت الطلاق يترتب على ثبوت النكاح

ثبوت الطلاق يترتب على ثبوت النكاح: 1043 - وعن جابر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك". رواه أبو يعلى، وصححه الحاكم، وهو معلول، وأخرج ابن ماجه: عن المسور بن مخرمة مثله، وإسناده حسن، لكنه معلول أيضًا. يعني: لا يقع الطلاق ولا يعتبر إلا بعد نكاح، ووجه ذلك: أن الطلاق فرع عن النكاح فإذا ثبت النكاح ثبت الطلاق أما أن يطلق قبل أن ينكح فلا، وهذا له صور: الصورة الأولى: أن يقول لامرأة: أنت طالق امرأة. لم يتزوجها فقال لها ذلك فلا يقع الطلاق؛ لأن الطلاق فرع عن النكاح، الصورة الثانية: أن يقول: كل امرأة أتزوجها فهي طالق فهذا أيضًا لا يقع الطلاق لأنه قاله قبل أن يملك الطلاق إذ لا يملك الطلاق إلا بعد العقد، الصورة الثالثة: أن يقول: كل امرأة أتزوجها من بني فلان فهي طالق وهذا أخص من الذي قبله ولا يقع الطلاق أيضًا، والصورة الرابعة: أن يقول لامرأة معينة: إن تزوجتك فأنت طالق أو إن تزوجت فلانة فهي طالق فهذا أيضًا لا يقع لأن الطلاق فرع عن النكاح وهذه المسألة وإن كان الحديث ضعيفًا لكن يؤيده قوله تعالى: {يا أيها الذين امنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [الأحزاب: 49]. فإن قوله: {ثم} يدل على الترتيب وأنه لا طلاق إلا بعد نكاح، وعلى هذا فيكون كل الصور التي ذكرناها كلها لا يقع فيها الطلاق لأنها كانت قبل النكاح، ومع هذا اختلف العلماء فيما إذا علق الطلاق على نكاح امرأة معينة فقال: إن تزوجتك فأنت طالق، أو إن تزوجت فلانة فهي طالق هل تطلق؟ على قولين فمنهم من قال: إن الطلاق يقع اعتبارًا بحال وقوع الشرط؛ لأن الشرط التزوج، فإذا وجد الشرط وهو التزوج، وجد المشروط، فإذا تزوجها فهي طالق ولكن الصحيح أنه لا يصح لأن هذا لا يملك تنجيز الطلاق فلا يملك تعليقه ثم إن تعليق الطلاق بالنكاح تناقض لأن النكاح إمساك والطلاق تخل فيكون جمع بين الشيء ونقيضه في آن واحد والقواعد تأبى ذلك وعلى هذا فلا يقع الطلاق لو قالت امرأة لزوجها: سمعت أنك تريد أن تتزوج فلانة فقال إن تزوجتها فهي طالق أبدًا ثم تزوجها فلا يقع الطلاق، فإن قال: إن كنت قد تزوجتها فهي طالق ثم تزوجها فلا يقع الطلاق، فإن قال إن كنت قد تزوجتها فهي طالق وكان

قد تزوجها فيقع لأن الشرط حصل، وقوله: "ولا عتق إلا بعد ملك" وهذا لا يقع عتق العبد إلا إذا ملكه وهذا له صور: الصورة الأولى: أن يقول لعبد فلان أنت عتيق فلا يعتق لأنه ليس مالكًا له ولا وكيلًا في عتقه، الصورة الثانية: أن يقول أيما عبد أملكه فهو حر، الصورة الثالثة: أن يقول إن ملكت عبد فلان فهو حر، الصورة الرابعة: أن يخاطبه فيقول إن ملكتك فأنت حر وكل هذه الصور يدل الحديث على أن العتق فيها لا يقع وعلى هذا فإذا قال لشخص إن ملكت أحدًا من عبيدك فهو حر ثم اشترى من عبيده عبدًا فإنه لا يعتق لأنه علق عتقه قبل أن يملكه والمعلق كالمنجز فكما أنه لا يقع العتق عليه لو أعتقه وهو ملك غيره فكذلك إذا علق عتقه على ملكه، هذا هو ظاهر الحديث وهو الأقرب ولكن مذهب الإمام أحمد: أن العتق يقع إذا قال: إن ملكت هذا العبد أو إن ملكتك فأنت حر ثم ملكه فإنه يقع وفرق بينه وبين النكاح لأن ملك الرقيق يراد لعتقه بمعنى: إني أنا قد أحرص على ملك العبد لعتقه لا ليخدمني ولا أن يشاركني في عمل التجارة مثلًا اشتريته لأعتقه وهذا واقع لكن لا يوجد أحد يتزوج امرأة ليطلقها أبدًا يعني: لو قال إنسان أريد أن أطبق الطلاق على الواقع فأتزوج من أجل أن أطلق، هذا لا يمكن فهذا لو أنه عقد لقلنا عقد غير صحيح لأنه مجنون يعني يتزوج امرأة من أجل أن يجرب الطلاق، لكن يملك عبد ليعتقه هذا يمكن فالإمام أحمد فرق بينهما قال: إذا علق عتقه بملكه صح وعتق بملكه وإذا علق الطلاق بالنكاح لم يصح، وكأن الإمام أحمد يشك في صحة الحديث أو لا يصح عنده؛ لأن من صحح الحديث لزمه أن يقول بأن تعليق العتق بالملك لا يصح، كما أن تعليق الطلاق بالنكاح لا يصح لأن الحديث واحد والقائل واحد فإما أن نقول بالأمرين وإما أن ننفي القول بالأمرين وأما أن يفرق بناء على علة عللنا بها فهذا نعم إذا لم يصح عندنا الحديث قلنا: أن ترجع إلى العلل أما إذا صح النقل فإنها تبطل العلل، على كل حال الإمام أحمد يفرق بين تعليق الطلاق بالنكاح فيرى أنه غير صحيح وأن المرأة إذا تزوجها لا تطلق، وبين تعليق العتق بالملك فيرى أنه صحيح وأنه إذا ملكه عتق عليه وهذه إحدى الصور التي يعتق فيها العبد بالملك ومن ذلك أيضًا إذا ملك الإنسان ذا رحم محرم منه فإنه يعتق عليه مثل أن يملك أباه أو أمه أو ابنه أو ابنته أو أخاه أو عمه المهم إذا ملك ذا رحم محرم منه فإنه يعتق فلو وجد الإنسان أخاه عبدًا فاشتراه من سيده عتق وإن لم يقل أعتقتك لأنه ذو رحم محرم منه وما ضابط الرحم المحرم؟ ضابطه أنه لو قدر أن أحدهما أنثى لا يتزوجها الأخ ابن الأخ لو ملك ابن عمه لم يعتق لأنه لو كان ابن العم بنتا تزوجها، لو ملك ابن أخيه يعتق لأنه لو كان أنثى لا يصح التزوج بها فيعتق بمجرد الملك لو وهب له هبة عتق، وقوله صححه الحاكم وهو معلول، الحاكم رحمه الله

حكم طلاق الصغير والمجنون والسكران

يتساهل في التصحيح؛ ولهذا يصحح أحيانًا أحاديث ضعيفة ويتعجب منه البخاري ومسلم كيف لم يخرجا هذا الحديث مع قوة تأكد الصحة عنده، ولكن التساهل بالتصحيح ليس بجيد والتساهل بالتضعيف أيضًا ليس بالجيد والواجب الحكم بالقسط والعدل يعطى الحديث حقه بما يليق. 1044 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك". أخرجه أبو داود والترمذي وصححه، ونقل عن البخاري أنه أصح ما ورد فيه. هذه ثلاثة أشياء: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك" سواء علق النذر على ملكه أو أطلق وله صور أن يقول: الله علي نذر أن أعتق هذا العبد والعبد ليس ملكًا له فالنذر لا ينعقد؛ لأنه لا يملك ذلك ولكن عليه كفارة يمين وقال بعض العلماء لا ينعقد ولا شيء عليه؛ لأنه ليس محلًا لنذره حيث إنه ملك غيره فإن قال: إن ملكت هذا فلله على نذر أن أتصرف به إن كان مالا أو أعتقه إن كان عبدًا فهل يصح؟ نعم يصح لقول الله تعالى: {*ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} [التوبة: 75، 76]. فيصح وإذا ملكه فيتصرف به أو أعتقه، الثاني قال: ولا عتق له فيما لا يملك وسبق الكلام عليه ولا طلاق له فيما لا يملك وسبق الكلام عليه أيضًا، لو قال قائل: كل امرأة أتزوجها فهي طالق لا يصح، مناسبة الأحاديث الثلاثة للباب ظاهرة، وهي أنه يشترط لوقوع الطلاق أن يكون بعد النكاح. حكم طلاق الصغير والمجنون والسكران: 1045 - وعن عائشة رضى الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق". رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي، وصححه الحاكم، وأخرجه ابن حبان. هل هو قلم القدر أو قلم التكليف؟ هو قلم التكليف أما القدر فلا يرفع عن أحد، كل

يجري عليه، قلم القدر لكن قلم التكليف، رفع عن ثلاثة والرافع له هو الله عز وجل يقول: "عن النائم حتى يستيقظ"، فيرفع عنه القلم فإذا استيقظ ينظر إن كان صغيرًا دخل في الجملة التي بعدها أو المجنون وإن كان بالغًا عاقلًا فالقلم يجري عليه، قوله: "وعن الصغير حتى يكبر ... إلخ"، الصغير حتى يكبر والمراد بكبره: بلوغه، والمجنون حتى يفيق ويزول عنه الجنون ويرتد إليه عقله فهؤلاء ثلاثة رفع عنهم القلم وذلك أن رحمة الله عز وجل تسبق غضبه وعفوه يسبق عقوبته فلهذا رفع القلم عن هؤلاء الثلاثة أولًا: النائم، وما المراد الذي يرتفع به القلم؟ النوم الذي يفقد فيه الإنسان الإحساس فأما النوم الذي لا يفقد فيه الإحساس فإنه لا يرتفع عنه القلم لكن إذا نام وصار ما يدري فإنه مرفوع عنه القلم أحيانًا لا يستغرق الإنسان في النوم لكن يذهب عنه الإحساس بحيث لو لقنته لتلقن تأتي عند إنسان ينعس تقول جاء فلان فيستيقظ يقول من جاء، لكن قد غلبه النوم وتجده يخبط يذكر كلام غير متناسق هذا تقول: إنه مرفوع عنه القلم؛ لأن العلة في رفع القلم عن النائم هي فقد الإحساس، وعن الصغير حتى يكبر أن يبلغ والبلوغ يحصل بواحد من أمور ثلاثة بالنسبة للذكور أولًا الحلم يعني: بأن يخرج منه المني بشهوة والثاني نبات شعر العانة وهو الشعر الخشن الذي يكون حول القبل، والثالث تمام خمس عشرة سنة فإذا حصل واحد من هذه الثلاثة فالإنسان بالغ سواء كان صغير الجسم أو كبير الجسم وتزيد النساء برابع وهو الحيض فإذا حاضت ولو بدون خمس عشرة سنة فإنها تكون بالغة فهذا الذي يحصل به البلوغ فما دام الإنسان لم يبلغ فقلم التكليف مرفوع عنه لا تجب عليه الفرائض ولا يعاقب على المحرمات لأنه صغير مرفوع عنه القلم، والثالث المجنون حتى يفيق أو حتى يعقل، المجنون: فاقد العقل سواء فقد عقله بجنون أو فقد عقله بإغماء، فقد عقله بحادث فصار يهذي أو فقد عقله بكبر صار يهذي، المهم كل من فقد عقله فإنه مرفوع عنه القلم. يستفاد من الحديث فوائد: أولًا: أنه لا عقاب على الصبي في فعل المحذور؛ لقوله: "رفع القلم عن ثلاثة". ومن فوائده: أن الصغير لو حنث في يمين وقلنا إنها تنعقد فلا كفارة عليه؛ لأنه رفع عنه القلم. ومن فوائده: أن الصغير لو فعل محذورًا في الحج فلا فدية عليه لأنه رفع عنه القلم ومن فوائده أن الصغير لو ترك واجبًا في الحج فلا فدية عليه فلو ترك الطواف أو السعي أو لبس

الثوب أو ما أشبه ذلك فلا شيء عليه وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ومال إليه صاحب الفروع وهو ابن مفلح أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية البارزين الذين قالوا: إنه أعلم الناس باختيارات شيخ الإسلام الفقهية حتى كان ابن القيم رحمه الله يراجع ابن مقلح فيها وقد قال له شيخ الإسلام ابن تيمية: ما أنت ابن مفلح بل أنت مفلح وهذه بشارة طيبة من شيخ الإسلام إن ابن مفلح يميل إلى مذهب أبي حنيفة في أن الصبي لا يلزمه إتمام النسك ولا يلزمه فدية في فعل المحذورات وهو قول قوي لأنه قد رفع عنه القلم وعلى هذا فلو أن الصبي أحرم ثم استضاق من الإحرام وقال رجعت مثل ما يفعل بعض الصبيان إذا ألبسوه الرداء والإزار ثم فارق المألوف لأن المألوف قميص يركض ويأتي ويذهب وهذا مقيده فراح يصيح قالوا: اخلعوا عني هذا الشيء، فعلى هذا القول نخلعه ونقول حللت من إحرامك ولا شيء عليك وفي زمننا هذا وفي زمن المضايقات التي تحدث بعد الإحرام لو أفتى به أحد لكان له وجه لأنه أحيانًا يحرص الآباء على أن يحرم الأبناء الصغار ثم يتضايقون مع الزحام فيتركونه، فلو أفتى بهذا المذهب لكان له وجه وفيه تيسير على الأمة. ومن فوائد الحديث: أن الصبي لا يقع طلاقه لأنه رفع عنه القلم وهذا أحد القولين في المسألة أن الصبي لو طلق زوجته لم يقع طلاقه وعللوا ذلك بأنه مرفوع عنه القلم وبأن والده هو الذي يعقد له النكاح فكان الأمر إلى والده وبأنه لا ينفذ تصرفه في ماله فتصرفه في أهله من باب أولى لأنه أعظم خطرًا وعلى هذا لو جاء الصبي الذي زوجه أبوه منذ عشر سنوات وأغضبته زوجته التي عمرها خمس عشرة سنة فقال لها: أنت طالق فهل يقع؟ لا يقع لكن المشهور من مذهب الحنابلة أنه يقع إذا كان يعقل الطلاق ويعرف معناه لأنه مميز ولعموم الحديث إنما الطلاق لمن أخذ بالساق فقالوا: هذا أخذ بالساق فله الطلاق. ومن فوائد الحديث: أن جميع ما يسقط بالجهل والنسيان عن المكلف يسقط عن الصغير لأنه غير مكلف وكذلك الجاهل والناسي من المكلفين غير مكلف، فإن قال قائل: لو جنى

صبي على إنسان خطأ ومات مثل أن يكون يقود السيارة فدعس شخصًا فهل عليه الكفارة؟ في هذا خلاف بين العلماء فالمشهور من المذهب أن عليه الكفارة؛ وذلك لأن القتل لا فرق فيه بين العمد والخطأ فالمكلف إذا قتل خطأ لزمته الكفارة وعمد الصبي كخطأ المكلف فتلزمه الكفارة والقول الثاني في المسألة أنه لا كفارة عليه لأنه ليس أهلًا للتكليف بخلاف المكلف الذي أخطأ فإنه أهل للتكليف لكن وجد فيه مانع وفرق بين فوات الشرط وبين وجود المانع فالصبي فقد منه شرط التكليف والمكلف المخطئ وجد فيه مانع التكليف وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس أنه لو دعس وهو لم يبلغ فليس عليه كفارة؛ لأنه ليس أهلًا للتكليف بخلاف البالغ إذا دعس خطأ فعليه الكفارة، وقوله: وعن النائم حتى يستيقظ وهل النائم كالصغير فات منه شرط التكليف أو وجد فيه مانع التكليف؟ الثاني: ولهذا لو انقلب نائم على صبي ومات فعليه الكفارة ويفرق بينه وبين الصبي بأن الصبي رفع عنه ذلك لفوات الشرط وهذا لوجود المانع. ومن فوائد الحديث: أن النائم لو طلق زوجته وهو نائم وسمعناه يقول: زوجتي طالق فإنها لا تطلق حتى لو فرض أن الإنسان خاطب روحه وقال: طلقت زوجتي قال: نعم فإنه لا طلاق عليه؛ لأن بعض النوم تخاطبب روحه وتعطي جميع ما عنده، حدثني الثقات أن من الناس من يجلس إلى جنب النائم يقول سلام عليكم يرد عليه السلام ثم يبدأ يحدثه ماذا فعلت اليوم فالنائم يقول فعلت كذا وكذا يمكن بقوله طلقت زوجتك يقول نعم لو قال هذا وهو نائم لا يقع الطلاق وهذا الذي قلته لكم حقيقة؛ لأن الذي حدثني إنسان ثقة لكن ما أظن جميع الناس يستطيع الإنسان أن يأخذ ما عندهم وهم نوم لكن هذا نائم يقول إذا نام سلمنا ونفتح معه الحديث نسأل الله السلامة وألا يجعلكم كذلك، لو طلق زوجته وهو نائم لا يقع الطلاق لأنه نائم حتى لو سمع يتكلم يقول زوجتي فلانة طالق فلا يقع الطلاق. ومن فوائد الحديث: أن النائم لا ينسب إليه فعل فلا يأثم بما وقع منه من خطأ، والدليل على أن النائم كذلك لا ينسب إليه فعل أن الله قال في أصحاب الكهف: {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} [الكهف: 18]. هم يتقلبون فأضاف الله فعلهم إلى نفسه لأن النائم لا ينسب إليه فعلي، وقوله: "حتى يستيقظ" أي: "يستيقظ" ويعي ما يقول لأن بعض النوم إذا كان نومه ثقيلًا أو كان قريب النوم يستيقظ ويحدثك ويقوم، لكنه ليس معه وعي! وهذا شيء مشاهد يستيقظ ويقوم يصلي ثم يقف وتكون الدرجة عن الشمال ثم يذهب هو إلى جهة اليمين، فهذا الذي استيقظ من النوم لكنه لا يدري ما يقول أيضًا مرفوع عنه القلم لو تحدث بطلاق زوجته فإنها لا تطلق، الثالث: وعن المجنون حتى يفيق أو يعقل أيضًا المجنون مرفوع عنه القلم حتى يفيق أو

يعقل فلو أن شخصًا مجنونًا حدث بإقرار أو إنشاء أو طلاق أو فسخ أو غير ذلك فإنه لا يقع منه شيء، لو قال: طلقت نسائي، أعتقت عبيدي، أوقفت بيوتي، لا يقع منه شيء؛ لأنه مجنون وسواء كان الجنون دائمًا أو كان أحيانًا كالذي يصرع فإنه في حال جنونه لا يترتب على قوله شيء، ولكن الفعل هل يترتب عليه شيء؟ نقول: لا يترتب عليه شيء إلا ما يعلق بالخلق، ولاحظوا هذه- في الخلق- فإنه يترتب عليه أثره سواء في الصغير أو في المجنون أو في النائم فلو أتلف الصغير شيئًا لزمه ضمانه ولو أتلف المجنون شيئًا لزمه الضمان ولو أتلف النائم شيئًا لزمه ضمانه لكن هذا فيما بينه وبين الله؛ لأن حقوق الله مبنية على المسامحة فإذا قال قائل: ما هي العلة في عدم وقوع الطلاق من هؤلاء؟ العلة عدم العقل وعدم الاختيار، عدم العقل في المجنون والنائم وعدم الاختيار الصحيح في الصغير، وبناء على ذلك نأخذ من هذا قاعدة أن كل شخص يقع الطلاق منه بغير اختيار حقيقي فليس عليه طلاق ويدخل في هذا أشياء: الأول: الغضب الشديد الذي يغلق على صاحبه لا يقع فيه الطلاق وقد قسم العلماء الغضب إلى ثلاثة أقسام: أول وأخر وأوسط يعني: مبتدأ وغاية ووسط؛ فالغاية هي ألا يدي الإنسان ما يقول إطلاقًا ولا يدري هل هو في الأرض أو في السماء شبه المغمى عليه فهذا لا يقع طلاقه بالاتفاق وهو يقع من بعض الناس الذين يطلق عليهم اسم عصبي يجن هذا إذا طلق زوجته لا يقع الطلاق بالاتفاق، الثاني: ابتدائي غضب عادي فهذا يقع طلاقه بالاتفاق ولا إشكال في هذا، الثالث: الوسط يعي لما يقول لكن لشدة الغضب يجد نفسه قد أجبر على هذا كالمجبر من شدة الغضب يعني يدري ما يقول لكن لا يملك نفسه ففي هذا خلاف هل يقع أو لا يقع والصحيح أنه لا يقع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في إغلاق" ولأن الأصل بقاء النكاح- هذا تعليل- فلا يزول إلا بإرادة الزوال وهذا لم يرد ولذلك تجده يندم من حين يقع الطلاق تعود عليه طبيعته ثم يندم نقول: هذا لا طلاق عليه على القول الراجح ولابن القيم كتاب جيد في هذا الموضوع سماه: "إغاثة اللهفان في عدم وقوع طلاق الغضبان"، غير "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"، ومن هذا أيضًا: إذا كان الإنسان موسوسًا في الطلاق فإنه لا يقع طلاقه، وهذا يحدث كثيرًا بين الناس يتسلط عليه الشيطان ويرى أنه قد طلق ويضيق عليه حتى يقول أطلق

وأستريح فيطلق فنقول: هذا لا طلاق عنه؛ لأنه في إغلاق من أشد ما يكون من الإغلاق فإذا جاء يستفتي فإننا نقول لا طلاق عليك قال: أنا قلت: زوجتي طالق قلنا لا طلاق عليك إلا طلقت بإرادة جازمة تامة وذهبت للمأذون وقلت: أكتب الطلاق وهذا لا يقع منهم؛ لأنهم من هذا يفرون ولا يريدون الطلاق لكن غصبًا عنهم مثل ما يفعل بعض الناس يشك في الحدث وهو على طهارة ثم يحدث يقول لنفسه اضرط وتوضأ وإلا مس الذكر وتوضأ واذهب للحمام وبل أو تغوط لأجل أن يستريح من هذه الضائقة التي اتبعته، كل هذا من الشيطان؛ لأن دواء هذا ليس أن تستسلم للشيطان وتعطيه ما أراد دواء هذا ذكره الطبيب- عليه الصلاة والسلام- قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"، هذا الدواء أن تدع هذا الشيطان ووساوسه، وقال في الوساوس العقيدية التي تصيب الإنسان في القلب ويقول في الله ما لا يليق به أمر أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وينتهي، هذا هو الدواء. ومن ذلك أيضًا: طلاق السكران فهو لاشك أنه ليس بعاقل لا يعلم ما يقول لقول الله تعالى: {يا أيها الذين امنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري حتى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43]. ومر ناضحان لعلي بن أبي طالب بحمزة بن عبد المطلب عم علي وعم الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد سكر حمزة وعنده جاريتان تغنيان فلما أقبل الناضحان كانت من جملة غنائهما ألا يا حمز للشرف النواء يهيجنه على أن يذبح البعيرين فقام رضى الله عنه وجب أسنمتهما وأطنه بقر بطونهما فجاء علي بن أبي طالب يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم عمك فعل كذا وكذا فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليه ومعه أصحابه فلما وقف عليه وإذا الرجل قد ثمل يعني تأثر بالخمر فلما كلمه قال له حمزة: هل أنتم إلا عبيد أبي يقوله للنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف إنسان عنده ويجله إجلالًا عظيمًا ويقول هل أنتم إلا عبيد أبي فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال تأخر وتركه هل هو آخذه على ذلك؟ لا؛ لأنه لو أخذه لكان ردة لم يؤاخذه لأنه سكران والسكران لا يعلم ما يقول، فإذا طلق السكران زوجته فإنه لا يقع طلاقه لأنه لا يعلم ما يقول فضلًا عن أن ينوي ما يقول وهذا القول هو الصحيح الذي روي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعن جماعة من الصحابة وهو القياس الصحيح والمشهور من المذهب أن طلاق السكران يقع، وعللوا ذلك بتعليل عليل، قالوا: لأن هذا السكر نشأ عن فعل محرم فلا ينبغي أن يكون محلًا للرخصة، ولهذا لو شرب سكرًا جاهلًا به ثم سكر وطلق فليس عليه طلاق ولكن الصحيح أنه لا طلاق عليه؛ لأن عقوبة شارب الخمر

لا تتعدى إلى غيره وهذا الرجل إذا أوقعنا عليه الطلاق تعدى الضرر لغيره لزوجته وربما يكون له أولاد منها وأيضًا مناط التصرف هو التكليف والعقل وهذا غير عاقل ثم إن الخمر له عقوبة خاصة، وهي الجلد أربعين مرة خمسين مرة ستين مرة سبعين مرة ثمانين مرة تسعين مرة مائة مرة لأن عقوبة الخمر ليست حدًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه أتي إليه بشارب فقال: اضربوه، فقام الصحابة الذي يضرب باليد والذي يضرب بالنعل والذي يضرب بطرف الثوب والذي يضرب بالجريدة مع كل يضرب بما حوله نحو أربعين جلدة بدون تحديد لا عدد ولا حدد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عين ما يضرب به كل يضرب بما تهيأ له وفي عهد أبي بكر كذلك نحو أربعين في عهد عمر كثر الشراب؛ لأنكم كما تعرفون انتشرت الرقعة الإسلامية ودخل في الإسلام من إيمانه ضعيف وكثر الشرب وكان من سياسة أمير المؤمنين عمر الحزم وحمل الناس على الطاعة والدين فاستشار الناس ماذا نعمل؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون وهو حد القذف إذن ليس هناك حد دون الثمانين قاله عبد الرحمن بن عوف بحضرة عمر والصحابة لم يقل: واحد منهم بل أخف الحدود أربعون أبدًا، فجعله عمر كأخف الحدود ثمانين. وهل تظنون أن عمر سيخالف حدًا حده الرسول؟ أبدًا، لو كثر الزنا في الناس هل يمكن لعمر أو غير عمر أن يرفع حد الزاني إلى مائتين؟ لا يمكن، فلما قال عبد الرحمن: "أخف الحدود ثمانون"، وأقره عمر والصحابة وعلمنا أيضًا من حال عمر الذي هو قاض على حدود الله أنه لا يمكن أن يزيد على حد حده الرسول صلى الله عليه وسلم عرفنا أن العقوبة ليست حدًا إنما هي اجتهاد لو دعت الضرورة أو الحاجة إلى أن تزاد من ثمانين إلى مائة زدناها. على كل حال: أنا قصدي أنه لا ينبغي أن يعاقب السكران بأمر يتعدى ضرره إلى غيره وللسكران عقوبة معينة في النوع وهي الجلد، فالصحيح: أن طلاق السكران لا يقع، وأن أفعاله لا يترتب عليها حكم العمد، فلو قتل السكران شخصًا بالسكين حتى هلك فإنه لا يجب عليه القود؛ لأنه سكران لا يعقل، وبعض العلماء يفرق بين أقواله وأفعاله، فيقول: فإنه يؤاخذ على أفعاله دون أقواله؛ لأن الأقوال مبناها على العقل والأفعال مبناها على الفعل، ولكن الصحيح: أنه لا فرق؛ لأن الأفعال مبنية على الإرادة، والإرادة من السكران مفقودة، نعم يقول ابن القيم وأنا به أقول لو شرب ليفعل فهذا يؤاخذ؛ لأنه جعل الفعل وسيلة، لو أراد أن يقتل شخصًا أو يتلف ماله وقال في نفسه: إن أتلفته أو قتلته وأنا صائل اقتصوا مني، لكن أسكر من أجل أن أتلفه وأنا سكران فيسقطون عني القصاص؛ فهذا لا

شك أننا نؤاخذه؛ لأنه جعل السكر ذريعة ووسيلة إلى فعل محرم ولو فتح الباب وقلنا حتى ولو سكر لفعل محرم لا يؤاخذ به لكان فساد في الأرض كبير. إذن الموسوس لا يقع طلاقه والسكران لا يقع طلاقه، الغضبان غضبًا شديدًا بحيث يغلق عليه حتى يتكلم بالطلاق لا يقع طلاقه، هل يمكن أن نأخذ من هذا أنه يشترط للطلاق نية بمعنى: لو أن الإنسان أرسل لفظ الطلاق بدون نية فلا طلاق عليه، فيه خلاف بين العلماء ولكن الصحيح أنه يدين يعني: يرجع إلى نيته فيما بينه وبين الله وأما إذا وصل الأمر إلى الحاكم فالواجب على الحاكم أن يعامله بظاهر لفظه وفي هذا الحال هل يجب على الزوجة أن تحاكمه من أجل ثبوت الطلاق؟ في هذا تفصيل إن كانت تعلم أن هذا الرجل عنده من تقوى الله ما يمنعه أن يدعي أنه غير مريد وهو قد أراد فلا يحل لها أن تحاكمه وإن كان الأمر بالعكس وجب عليها أن تحاكمه وإن شكت فالأولى ألا تحاكمه؛ لأن الأصل بقاء النكاح أنا ذكرت لكم قبل قليل أن مذهب الإمام أحمد أن طلاق السكران يقع وهذا مذهبه الاصطلاحي، أما مذهبه الشخصي فإنه لا يقع طلاق السكران؛ لأنه رحمه الله صرح بذلم فقال كنت أقول بوقوع طلاق السكران حتى تبينته، يعني: فرأيت ألا يقع؛ لأنني إذا قلت: إنه يقع أثبت خصلتين: منعتها من زوجها، وأحللتها لغيره، وإذا لم أقل به أتيت خصلة واحدة وهي أني أحللتها لزوجها الذي كان قد طلقها ومعلوم أن ارتكاب مفسدة واحدة أخف من ارتكاب مفسدتين، هذا إذا قلنا: إنها مفسدة، أما إذا قلنا: إنه لا عبرة بقوله إطلاقًا فالأمر واضح والإمام أحمد رحمه الله أحيانًا يصرح بالرجوع ومع ذلك يكون مذهبه عند المتأخرين يكون مذهبه خلافه كهذه المسألة ومن المسائل التي صرح بالرجوع عنها والمذهب خلافها إذا مسح الإنسان على خفه في الحضر ثم سافر قبل أن انتهاء مدة الحضر وهي يوم وليلة فهل يتم على مسح الحضر أو على مسح السفر؟ المذهب على مسح الحضر؛ لأنه اجتمع مبيح وحاظر فغلب جانب الحظر، اجتمع مبيح للزيادة على يوم وليلة وهو السفر وحاظر، أي: مانع للزيادة، وهو الإقامة فغلب جانب الحظر وهو الإقامة، ولكن الإمام أحمد صرح بأنه رجع عن ذلك وقال: إنه يتم مسح مسافر، وهو الصحيح هذا ما لم تتم مدة الإقامة، فإذا تمت مدة مسح الإقامة فقد تمت ووجب عليه الاستئناف.

كتاب الرجعة

كتاب الرجعة ويشمل علي: 1 - باب الإيلاء والظهار والكفارة. 2 - باب اللعان. 3 - باب العدة والإحداد. 4 - باب الرضاع. 5 - باب النفقات. 6 - باب الحضانة.

كتاب الرجعة "الرجعة" فعّلة من رجع يرجع إذا ردَّ، والمراد بها في الاصطلاح: إعادة مطلقة غير بائن إلى نكاحها وللرجعة شروط: الشرط الأول: أن يكون الفراق من طلاق، فإن كان بفسخ فلا رجعة، مثاله: إذا فسخ الزوجة لعيب فيها فإنه لا رجعة، وكذلك إذا فسخت هي نكاحها من الرجل لعيب فيه فلا رجعة إذ لا بد في الرجعة أن يكون الفراق بطلاق. الشرط الثاني: أن يكون من زوجة مدخول بها أو مخلوِّ بها؛ وذلك لأن من طلِّقت بلا خلوة ولا دخول فليس عليها عدة، والرجعة فرع عن ثبوت العدة. الشرط الثالث: أن يكون النكاح صحيحًا فلا رجعة في نكاح فاسد؛ لأن المبني على الفاسد فاسد، فلو تزوج امرأة بلا ولي فإن النكاح فاسد ويؤمر الزوج بطلاقها، فإذا طلقها فلا رجعة؛ لأن هذا الطلاق مبني على نكاح فاسد. الشرط الرابع: ألا يكون الطلاق على عوض فإن كان الطلاق على عوض ولو يسيرًا فلا رجعة، والعوض هو ما يعطاه الزوج عن طلاقه لهذه المرأة، سواء كان من الزوجة أو وليها أو أجنبي، فإذا قالت الزوجة لزوجها: خذ مائة درهم وطلقني فقال: طلقتك على هذه المائة فإنه لا رجعة؛ لأن هذا العوض بمنزلة الفداء، حيث إنها تكون قد افتدت نفسها بهذا العوض كما قال تعالى: {فلا جناح عليهما فيما اقتدت به} [البقرة: 229]. الشرط الخامس: أن يكون الطلاق قبل استكمال العدد المحرم بأن يكون قبل الطلاق الثلاث، يعني: في الطلقة الأولى، وفي الطلقة الثانية، أما في الثالثة فلا رجعة، فإذا اختلَّت الشروط الأربعة الأولى فلا رجعة، لكن له أن يعقد عليها عقدًا جديدًا، وإذا اختل الشرط الخامس فلا رجعة، ولا تحل له إلا بعد زوج، فالشروط إذن أربعة، قلنا: إذا اختلت الشروط ما عدا الشرط الخامس الذي قل استكمال العدد فإنها تحل له لكن بعقد، فإذا فسخ النكاح لعيبها ثم أراد أن يتزوجها فلا بأس، وهناك شرط سادس لكنه بيان للواقع، وهو أن تكون المراجعة في العدة، فإذا استكملت العدة فلا رجوع؛ لأنها بانت منه هذا شرط ينبغي أن يضاف للتوضيح، وإلا

حكم الإشهاد في الطلاق والرجعة

فمعلوم أن المراجعة إنما تكون في العدة، وهل يشترط أن يريد الزوج بالمراجعة الإصلاح أو ألا يريد المضارة أو ليس ذلك بشرط؟ في هذا قولان للعلماء: فمنهم من قال: لا بد أن يكون الزوج مريدًا للإصلاح، لقوله تعالى: {وبعولتهنَّ أحقُّ بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} [البقرة: 228]. فعلم منه أنه لا حق له في الرجعة إذا لم يرد الإصلاح بأن أراد المضارة، فإنه إذا أراد المضارة منه؛ لقوله تعالى: {ولا تمسكوهنَّ ضرارًا لتعتدوا} [البقرة: 231]. ولكن المشهور من المذهب أنه ليس شرط وأنه يأثم إن أراد الإضرار، ولكن الرجعة تثبت، وظاهر الآية الكريمة: أنه لا بد من إرادة الإصلاح وهو الالتئام بين الزوجين، فإن أراد المضارة بها فلا رجوع لها، ويظهر أثر الخلاف فيما لو طلق المرأة وفي أثناء الحيضة الثالثة راجعها ليطيل عليها العدة؛ لأنه إذا راجعها ابتدأت عدة جديدة، ثم عند شروعها في الحيضة الثالثة بعد المراجعة يراجعها ثم يطلقها من أجل أن يطيل عليها العدة، فتكون العدة على هذا تسع حيض، فإن هذا- لا شك- إضرار، "ومن ضار ضار الله به"، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ أي: أنه لاحق له في الرجعة إذا أراد بها الإضرار، وهو قول قوي لا شك. حكم الإشهاد في الطلاق والرجعة: 1046 - عن عمران بن حصينٍ رضي الله عنهما: "أنَّه سئل عن الرَّجل يطلِّق، ثمَّ يراجع ولا يشهد؟ فقال: أشهد على طلاقها، وعلى رجعتها". رواه أبو داود هكذا موقوفًا، وسنده صحيحٌ. هذا الحديث فيه ثلاثة أمور تتعلق بأحكام النكاح: عقد، وطلاق، ورجعة، أما العقد فأكثر العلماء على أن الإشهاد فيه شرط للصحة وأنه إذا لم يشهد على عقد النكاح فالنكاح باطل، وأما الطلاق فالإشهاد فيه سنة وليس بشرط، فإذا طلق بلا إشهاد وقع الطلاق لكن الأفضل أن يشهد؛ ودليل ذلك- أي: كونه ليس بشرط- أن ابن عمر رضي الله عنهما طلق زوجته ولم يسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم هل أشهد أو لا؟ ولو كان الإشهاد شرطًا لسأل، الثالثة من الأمور التي جمعها الحديث: الرجعة، وهي أيضًا يسن فيها الإشهاد ولا يجب، هذا هو المشهور عند أهل العلم وعليه أكثر العلماء، وقيل: إن الإشهاد على الرجعة واجب؛ لأنه إعادة للمرأة إلى النكاح فأشبه الابتداء، ولكن الذي يظهر أنه سنة مؤكدة، والدليل على ذلك- على أنه سنة مأمور بها- قوله تعالى في سورة الطلاق: {فإذا بلغن أجلهنَّ فأمسكوهنَّ بمعروفٍ أو فارقوهنَّ بمعروفٍ وأشهدوا ذوى عدلٍ مِّنكم} [الطلاق: 2]. فأمر

بالإشهاد، فالإشهاد على الرجعة سنة مؤكدة؛ لأنه يترتب على هذا إما إنكار المرأة للمراجعة، آخر ويترتب على ذلك الميراث، ويترتب على ذلك الأنساب فلذلك كان الإشهاد على الرجعة مؤكدًا جدًا. 1047 - وأخرجه البيهقيُّ بلفظ. أنَّ عمران بن حصينٍ رضي الله عنه سئل عمَّن راجع امرأته، فقال: في غير سنَّةٍ؟ فليشهد الآن. قوله: "في غير سنة" يعني: عمله هذا على غير السنة؛ لأن الله أمر بالإشهاد في المراجعة، فإذا لم يشهد كان عمله على غير السنة، وقوله: "فليشهد الآن" أي: يشهد على الرجعة الآن، يعني: أنه لا يشترط لكون الإشهاد سنة في الرجعة أن يكون حين الرجعة، بل لو أشهد فيما بعد حصل بذلك المقصود. - وزاد الطَّبرانيُّ في روايةٍ: ويستغفر الله. أي: يسأله المغفرة، وهذا يدل على أن عمران بن حصين رضي الله عنه يرى أن الإشهاد على الرجعة واجب يأثم الإنسان بتركه؛ ولهذا قال: "وليستغفر الله"، والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، يدل على ذلك اشتقاقها من المغفر، وهو ما يلبس على الرأس في أيام القتال ليتَّقى به السهام، فإنه جامع بين الستر والوقاية، ومن ثمَّ كان المراد بالمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه باعتبار معنى اللفظ المشتق منه. 1048 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنَّه لمَّا طلَّق امرأته، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعمر: مره فليراجعها". متَّفقٌ عليه. أتى المؤلف بهذا الحديث ليستدل على أن الإشهاد على المراجعة ليس بواجب، وجه الدلالة أنه لم يقل وليشهد. ولكن هذا ينبني على أن هذه المراجعة إعادة مطلقة، أما على القول بأن الطلاق لا يقع في الحيض فهذا إرجاع زوجة، أو على الأصح رجوع في الطلاق وليس إعادة مطلقة، فعلى هذا القول الثاني لا يكون في الحديث دليل على أن الإشهاد على الرجعة غير واجب، لكن على ما ذهب إليه الجمهور من أن الطلاق في الحيض واقع تكون هذه المراجعة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم إعادة مطلقة، ولما لم يأمر بالإشهاد عليها دل هذا على أن الإشهاد ليس بواجب. من فوائد الحديث: أنه يشرع الإشهاد على الطلاق وعلى الرجعة.

1 - باب الإيلاء والظهار والكفارة

ومن فوائده: أثر عمران أن الإشهاد على الرجعة واجب، لقوله: "وليستغفر الله". ومن فوائده: أن الشيء إذا فات وأمكن تلافيه فإنه يتلافى؛ لقوله: "فليشهد الآن". ومن فوائد حديث ابن عمر: جواز التوكيل في إبلاغ العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "مره فليراجعها" وكما يجوز التوكيل في الاستفتاء فإنه يجوز التوكيل في إبلاغ العلم. 1 - باب الإيلاء والظهار والكفارة "الإيلاء": مصدر آلى يؤلي، أي: حلف، قال الله تعالى: {للَّذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهرٍ} [البقرة: 226]. و"الظهار": مأخوذ من الظَّهر، وهو أن يقول الزوج لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي. و"الكفارة": أي كفارة الظهار. فما معنى الإيلاء؟ قال العلماء: معناه اصطلاحًا: أن يحلف الرجل على ألا يجامع زوجته إما على سبيل الإطلاق أو مقيدًا بمدة تزيد على أربعة أشهر، مثال الصورة الأولى: أن يقول الرجل لزوجته: والله لا أجامعك، فهذا إيلاء مطلق، ومثال الثاني: أن يقول: والله لا أجامعك إلا بعد خمسة أشهر فهذا إيلاء مقيد فإن كان دون ذلك دون أربعة فهو إيلاء لغة وليس إيلاء اصطلاحًا، ولو قال والله لا أجامعك شهرًا فهذا في اللغة إيلاء، لكنه في الاصطلاح ليس بإيلاء. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألى من نسائه شهرًا كاملًا. أما الظهار فهو مشتق من الظَّهر، والمراد به اصطلاحًا: أن يشبه الرجل زوجته بمن تحرم عليه على التأبيد يريد بذلك التحريم، مثاله: أن يقول لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي؛ أنت عليَّ كظهر أختي، أنت عليَّ كظهر أمك؛ لأن أمها تحرم عليه على التأبيد، أما قوله لزوجته: أنت عليَّ كظهر أختك فهذا ليس بظهار على القول الصحيح، وبعض العلماء يقول: حتى ولو شبهها بمن تحرم عليه إلى أمد فهو ظهار، لكن هذا القول غير صحيح، والصحيح أن تشبيهها بمن تحرم عليه على التأبيد يريد بذلك التحريم، وإنما زدنا [يريد بذلك التحريم] احترازًا ما لو أراد بذلك التكريم، مثل أن يقول لزوجته: أنت عندي مثل أمي، يعني: في الإكرام والاحترام، أو أنت عليَّ مثل أختي في الشفقة والحنو والعطف، فإذا قال: أنت عليَّ كظهر وهو يريد التحريم فهذا هو الظهار، لو قال أنت عليَّ كيدي أمي فهو ظهار يقولون لأن هذا عضو لا ينفصل اليد والرجل والعين فهي كالظهر، ولو قال: أنت علي كشعر أمي فإنه ليس بظهار؛ لأنه ينفصل، فلابد أن يضيف التحريم إلى عضو لا ينفصل.

حكم الإيلاء

أما الكفارة فهي: مأخوذة من الكفر وهو- لغة-: الستر، وهو- في الشرع-: الفداء الذي يفدي به الإنسان نفسه من مغبة المعصية، سواء في الظهار أو في كفارة اليمين أو ما أشبه ذلك، إنما هي في مقابل الذنب يريد الإنسان بها أن يستر الله عليه ما فعل. حكم الإيلاء: حكم الإيلاء أنه: محرم؛ لأنه حلف على انتهاك حق، فإن الزوجة يجب على زوجها أن يجامعها بالمعروف، وكذلك الظهار حرام قال الله تعالى: {وإنَّهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا} [المجادلة: 2]. أما الكفارة فهي واجبة إذا وجد سببها. 1049 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرَّم، فجعل الحلال حرامًا، وجعل لليمين كفَّارة". رواه التِّرمذيُّ، ورواته ثقاتٌ. قولها رضي الله عنها: "آلى من نسائه" كم آلى؟ ألى شهرًا من نسائه صلى الله عليه وسلم وفي آخر الشهر نزل، وقال: "إن الشهر تسعة وعشرون يومًا"، حرم- على القول الصحيح- العسل قال الله تعالى: {يأيُّها النَّبيُّ لم تحرِّم ما أحل الله لك} [التحريم: 1]؟ وقيل: إنه حرم مارية وه ضعيف، والصواب: أنه العسل، "فجعل الحرام حلالًا، وجعل لليمين كفارة" يعني: استحل ما حرمه وكفر عن يمينه استرشادًا بإرشاد الله عز وجل حيث قال له: {يأيُّها النَّبيُّ لم تحرم ما أحلَّ الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفورٌ رحيمٌ (1) قد فرض الله لكم تحلَّه أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم} ففي هذا الحديث جواز الإيلاء، ولكن بشرط ألا يزيد على أربعة أشهر، ولكن هل هذا جائز بدون سبب؟ لا، لا يجوز بدون سبب؛ وذلك لأن المرأة لها حق في الجماع، فكما أن الرجل له حق في الجماع، وإذا دعا زوجته فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح فكذلك هي، قال الله تعالى: } ولهنَّ مثل الَّذي عليهنَّ بالمعروف} [البقرة: 228]. لكن له أن يولي شهرًا أو أسبوعًا أو شهرين من باب التعزير كما إذا كانت الزوج قد قصرت في الواجب أو طالبت بما لا تستحقه، فإن له أن يعزرها بذلك، أما الإيلاء بدون سبب فإنه لا يجوز، لأنه- أي: الجماع- حق لها. من فوائد الحديث: أن تحريم الشيء يقصد الامتناع منه يكون يمينًا، يعني: حكمه حكم اليمين، وإذا جعلنا حكمه حكم اليمين فهل يحرم ذلك الشيء؟ لا؛ لأنك لو قلت: والله لا آكل الخبز ما حرم الخبز عليه، لكنه إن فعلته وجب عليك الكفارة وقولنا: يقصد الامتناع احترازًا مما لو قصد الخبر، فإذا قصد الخبر لم يكن يمينًا، ولكنه يكون كاذبًا مثل: أن يقول: الخبز عليَّ حرام يريد الخبر ماذا نقول له؟ كذبت ليس حرامًا، واحترازًا أيضًا من أن يريد بذلك إنشاء التحريم، أي: إثبات حكم شرعي يخالف حكم الله فهذا أخطر؛ لأن الله يقول: {ولا تقولوا لما

نصف ألسنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لافتروا على الله الكذب إنَّ الَّذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (116) متاعٌ قليلٌ ولهم عذابٌ أليمٌ} [النحل: 116، 117]. فصار إضافة التحريم إلى الشيء على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن يريد الخبر فما الذي يترتب عليه من حكم؟ لا يترتب عليه شيء، بل يقال: إن الرجل كاذب، عليه أن يتوب مما قال. الثاني: أن يقصد الامتناع منه فحكمه حكم اليمين، أي: أنه يكفر- إذا استحله- كفارة يمين. الثالث: أن يقصد إنشاء الحكم المخالف للشرع، فهذا خطر عظيم قد يؤدي إلى الكفر، حيث شرع ما لم يشرعه الله عز وجل. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في قوله تعالى: {اتَّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} [التوبة: 31]. عندما قال يا رسول الله، لسنا نعبدهم، قال: "أليسوا يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ " قال: نعم، قال: "قتلك عبادتهم". ومن فوائد الحديث: أن من حرم شيئًا يريد الامتناع منه فإنه يلزمه الكفارة؛ لقوله: "وجعل لليمين كفارة" فسمى ذلك يمينًا وأثبت أن فيه الكفارة، وهل يلحق بذلك الطلاق والنذر والعتق وما أشبهها؟ يعني: إذا قالها يريد الامتناع، مثل: أن يقول: إن فعلت كذا فامرأتي طالق لا يريد الطلاق لكنه يريد الامتناع من ذلك؟ الجواب: نعم على القول الراجح، وكذلك لو قال: إن فعلت كذا فعبدي حر نقول أيضًا: حكمه على القول الراجح حكم اليمين إذا قصد الامتناع، وكذلك لو قال إن فعلت كذا فلله عليَّ نذر أن أصوم سنة يقصد الامتناع من هذا الشيء ثم فعله فهل يلزمه أن يصوم سنة؟ لا وإنما يلزمه كفارة يمين؛ لأن الإنسان الذي قال هذا النذر ما قصد أن يتطوع لله بالنذر، قصد أن يمنع نفسه، وهذه القاعدة هي التي مشى عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكن جمهور العلماء على خلاف ذلك أي أنهم يغلبون جانب التعليق فيقولون: إن فعلت كذا فزوجتي طالق ثم فعله فإن الزوجة تطلق ولو نوى الامتناع، وإذا قال: إن فعلت كذا فعبدي حر فإنه يعتق العبد، ولو كان أراد الامتناع، أما النذر فالمشهور من المذهب أنه إذا أراد الامتناع فهو يمين وهذا القول أعني أنهم يجعلون النذر إذا أريد به الامتناع في حكم اليمين مما احتج به شيخ الإسلام، وقال: إذا كنتم لا توجبون عليه أن يوفِّي بالنذر مع أنه طاعة فكيف تلزمونه بالطلاق مع أنه غير طاعة والمعنى واحد؛ لأن الذي قال: إن فعلت كذا فزوجتي طالق إنما أراد الامتناع، كالذي قال: إن فعلت كذا فلله عليَّ نذر أن أصوم سنة كلاهما أراد بذلك الامتناع فكيف تقولون: في الطلاق بالإلزام وفي النذر بأنه يمين مع أنه كان المتوقع أن يكون الأمر بالعكس؟ ّ لأن الطلاق يكرهه الشرع والوفاء بالنذر- نذر الطاعة- يحبه الشرع،

مدة الإيلاء

ويقول شيخ الإسلام رحمه الله. إن الصحابة قالوا في النذر: إذا أراد به المنع إنه حكمه حكم اليمين ولم يقولوا ذلك في الطلاق لأنه لم يعرف الحلف بالطلاق في عهد الصحابة، لم يعرف الحلف بالطلاق إلا في زمن متأخر فإذا كان الصحابة حكموا بأن النذر حكمه حكم اليمين إذا قصد به المنع فكذلك الطلاق. مدة الإيلاء: 1050 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إذا مضت أربعة أشهرٍ وقف المولي حتَّى يطلٍّق، ولا يقع عليه الطَّلاق حتَّى يطلٍّق". أخرجه البخاريُّ. "وقف" يعني: قيل له: قف طلق، فإن أبى أن يطلق نقول: لا يقع عليه الطلاق حتى يطلق؛ وإنما كانوا يحكمون بذلك لئلا يقال إنه إذا مضت أربعة أشهر وقع الطلاق بمضي الأربعة بدون أن نرجع إلى الزوج؛ قال الله تعالى: {للَّذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهرٍ فإن فاءو فإنَّ الله غفورٌ رحيمٌ (226) وإن عزموا الطلاق فإنَّ الله سميعٌ عليمٌ} [البقرة: 226 - 227]. والصواب: أنه لا تطلق حتى يطلق، حتى لو مضى أربعة أو خمسة أو ستة فإنها لا تطلق حتى يطلق للآية المذكورة، ولا تطلق بمجرد تمام الأربعة أشهر، فإن أبى أن يطلق وأبى أن يرجع وطالبت الزوجة بحقها فإننا نلزمه بأن يرجع أو يطلق فإن أبى فإن الحاكم يطلق عليه دفعًا لضرر الزوجة. ولهذا قال العلماء: إن الطلاق يجب للإيلاء وأظنه مر علينا أن الطلاق خمسة أقسام واجب حرام مكروه سنة مباح، فالواجب إذا تمت المدة في الإيلاء قلنا: إما أن ترجع وإما أن تطلق وجوبًا فإن أبيت طلقنا عليك. في هذا الأثر دليل على: أنه لا يجبر الزوج على الطلاق قبل تمام الأربعة أشهر؛ لقوله: "إذا مضت أربعة أشهر". وفيه أيضًا: أنه لا تطلق المرأة بمجرد تمام الأشهر الأربعة؛ لقول ابن عمر: "ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق". 1051 - وعن سليمان بن يسار رضي الله عنه قال: "أدركت بضعة عشر رجلًا من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كلُّهم يقفون المولي". رواه الشَّافعيُّ. أي: يقولون له: إما أن تطلق وإما أن ترجع، قوله: "بضعة عشر" أي: ما بين الثلاثة إلى التسعة، فبضعة عشر رجلًا يحتمل ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر وتسعة عشر.

فإن قال قائل: الفرق ما بين ثلاثة عشر إلى تسعة عشر كبير، وهذا فيه إبهام. فالجواب: أن العرب يتوسعون في مثل هذه الأمور، ثم إن دلت القرينة على أن المراد أقل ما يكون فهو ثلاثة عشر أو أعلى ما يكون فهو تسعة عشر وإلا فإن الأمر واسع. 1052 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: "كان إيلاء الجاهليَّة السَّنة والسَّنتين، فوقَّت الله أربعة أشهرٍ، فإن كان أقلَّ من أربعة أشهرٍ، فليس بإيلاءٍ". أخرجه البيهقيُّ. يعني: أن الرجل في الجاهلية يؤلي من زوجته سنة أو سنتين إضرارًا بها، كما أنه في الجاهلية يطلق الرجل ثلاث مرات أو أربع مرات، أو خمس مرات، كلما شارفت المرأاة على العدة راجعها ثم طلقها، فإذا شارفت على العدة من الطلاق الثاني راجعها ثم طلقها! فإذا شارفت من الطلاق الثالث راجعها ثم طلقها وهكذا! ! فوقَّت الله ذلك بثلاث مرات فقال: {الطَّلاق مرَّتان فإمساك بمعروفٍ أو تسريح بإحسانٍ ولا يحلُّ لكم أن تأخذوا ممَّا ءاتيتموهن شيئًا إلَّا أن يخافا ألَّا يقيما حدود الله فإن خفتم ألَّا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدَّ حدود الله فأولئك هم الظالمون (229) فإن طلَّقها فلا تحلُّ له من بعد حتَّى تنكح زوجًا غيره} [البقرة: 229، 230]. فوقت الله أربعة أشهر فقال: {للَّذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهرٍ} أي: انتظار أربعة أشهر {فإن فاءو} أي: إلى زوجاتهم فذلك المطلوب وإلا أمروا بالطلاق فإن أبوا طلق عليهم الحاكم دفعًا لإضرار المرأة، وقوله: "ليس بإيلاء" يعني: ليس بإيلاء شرعًا، أما لغة فهو إيلاء بلا شك؛ لأنه حلف، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرًا. يستفاد من هذا الأثر: عناية الله- سبحانه وتعالى- بالنساء وأن الدين الإسلامي قد أعطى المرأة ما تستحقه من الأحكام الشرعية، وما كان لائقًا بها وما حصل من الفرق بينها وبين الرجال في بعض الأحكام فإنما ذلك من أجل الحكمة التي اقتضت ذلك، ولهذا نجد أن الرجل والمرأة يشتركان في الأحكام التي لا تقتضي الحكمة التفريق بينهما، ويختلفان في الأحكام التي تقتضي الحكمة التفريق بينهما. ومن فوائد هذا الأثر: بيان ما كان عليه أهل الجاهلية من التعسف في معاملة النساء، فقد كانوا يعاملونهن أشد المعاملة ويحرمونهن من المواريث، وإذا مات الإنسان عن زوجته ألزم بأن تبقى في حوش بيته من بيتها، يعني: في بيت صغير ضيق تبقى سنة كاملة، لا تمس الماء ولا تنظف ولا تزيل شيئًا مما ينبغي إزالته، ولا تطهر من الحيض والدماء عليها والرائحة الكريهة عليها تبقى سنة كاملة، حتى إنها لو افتضت بعصفور أو حمامة أو شيء مات، ثم إذا مضت السنة خرجت

حكم المجامع في رمضان

من بيته وأخذت بعرة من روث البعير ثم رمت بها إشارة إلى أن هذا العذاب والجحيم لا يساوي عندها رمية هذه البعرة، لكن جاء الإسلام- ولله الحمد- بخلاف ذلك. ومن فوائد الأثر: أن الله عز وجل وقَّت للرجال في الإيلاء أربعة أشهر ثلث الحول، والثلث معتبر في عدة أحكام في الشريعة، منها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الوصية: "الثلث والثلث كثير"، ومنها: عدة المتوفى عنها زوجها إن لم تكن حاملًا، فإن عدتها أربعة أشهر- ثلث الحول- وعشرة أيام- ثلث الشهر- فأعطيت المرأة في الإسلام تيسيرًا كبيرًا في الأحكام الشرعية. ومن فوائد الأثر: أن المصطلحات الشرعية قد تخالف المصطلحات اللغوية، يعني: أن هناك حقائق شرعية وحقائق لغوية، وهناك قسم ثالث: حقائق عرفية، فالحقائق ثلاثة، فإذا جاءت الكلمة ولها مدلولان: شرعي ولغوي وهي مكتوبة بلغة العرب فإنه تحمل على المدلول اللغوي، وإن كانت في لسان الشرع تحمل على المدلول الشرعي، أما الحقيقة العرفية فهي ما يتعارفه الناس فيما بينهم، فلتحمل ألفاظهم على حقائقها العرفية وإن خالفت الحقائق الشرعية أو حقائق اللغة العربية، فمثلًا الشاة في اللغة العربية تطلق على الأنثى من الضأن والمعز، بل وعلى الذكور أيضًا، في أربعين شاة شاة ولو كانت ذكورًا، ولكن قد جرى العرف عندنا هنا على أن الشاة تطلق على الأنثى من الضأن، فإذا أقر شخص لآخر بشاة وأعطاه أنثى من المعز فقال المقر له: لا، أنا أريد أنثى من الضأن، فقال المقر: الأنثى في اللغة تطلق على هذا وعلى هذا، قلنا: المعتبر العرف، أي: أنثى من الضأن. حكم المجامع في رمضان: 1053 - وعنه رضي الله عنه: "أنَّ رجلًا ظاهر من امرأته، ثمَّ وقع عليها، فأتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي وقعت عليها قبل أن أكفِّر، قال: فلا تقربها حتَّى تفعل ما أمرك الله تعالى به". رواه الأربعة وصحَّحه التِّرمذيُّ، ورجَّح النَّسائيُّ إرساله. - ورواه البزَّار: من وجهٍ آخر، عن ابن عبَّاسٍ وزاد فيه: "كفِّر ولا تعد". هذا الحديث في الظهار، وقد سبق لنا أن الظهار: أن يشبِّه الرجل زوجته بمن تحرم عليه

تحريمًا مؤبدًا بنسب أو سبب مباح، النسب القرابة والسبب المباح هو المصاهرة والرضاع، فإذا قال لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي فهذا ظهار، أنت عليَّ كظهر أمك ظهار؛ لأن أم الزوجة حرام على الزوج، أنت عليَّ كظهر من أرضعتني ظهار؛ لأن من أرضعته تحرم عليه، وسبق لنا أيضًا أن الظهار محرم، وأن الله وصفه بوصفين قبيحين: المنكر والزور، فقال سبحانه: {وإنَّهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا}. مسألة مهمة: هل يجوز للمظاهر الاستمتاع بامرأته؟ إذا ظاهر من امرأته فإنه يجب عليه أن يتجنب جماعها ولا يجامعها حتى يكفر، والكفارة بينها الله عز وجل في كتابه وكذلك السنة بينتها، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، فلا يجوز أن يجامع زوجته حتى يكفر، أما في الرقبة وفي الصيام فمنصوص عليه، وأما في الإطعام فبالقياس ومختلف فيه، وهذا الحديث الذي معنا. "أن رجلًا ظاهر ... إلخ"، وكأن هذا الرجل عنده علم بأنه لا يجوز له أن يقع عليها إلا بالتكفير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به"، والذي أمر الله به هو عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا حسب الترتيب الذي في الآية، وقوله: "لا تقربها" يحتمل أن يكون المراد: لا تقربها بأي اسمتاع، سواء بالجماع أو بالتقبيل أو بالضم أو بغير ذلك من أنواع الاستمتاع، ويحتمل أن يراد به: أي قربان الجماع فقط، بدليل قوله- في الرواية الأخرى-: "ولا تعد" أي: لا تعد إلى ما فعلت وهو الجماع، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فمنهم من يقول: إنه لا يجوز أن يقرب المظاهر منها لا بجماع ولا بغيره من أنواع الاستمتاع حتى يكفر ومنهم من يقول بل إنه يستمتع منها بما عدا الجماع لقوله تعالى: {من قبل أن يتماسَّا}، والمماسة هي: الجماع، فالآية تدل على أن الممنوع هو الجماع، وهذا الحديث ليس نصًا في الموضوع؛ لأن الرواية الأخرى تقيد القربان بما فعله هذا الرجل، والرجل قد وقع عليها، فيكون المراد: لا تقربها قرب جماع، والقول الراجح: أن الممنوع هو الجماع أخذا بظاهر الآية، فإن الواجب إجراء النصوص على ظاهرها ما لم يوجد قرينة لكن الذين قالوا: إن المحرم كل استمتاع ولو بغير جماع استدلوا بظاهر اللفظ الأول وهو قوله: "لا تقربها"، واستدلوا أيضًا بأنه إذا حرم الجماع حرمت ذرائعه التي توصل إليه بدليل المحرم يحرم عليه الجماع، وكذلك مقدمات الجماع كالتقبيل واللمس، ولكن هذا القياس فيه نظر؛ لأنه معارض بقياس

كفارة الظهار

ضده، فالحائض مثلًا يحرم جماعها وما عدا الجماع جائز، وإلحاق المظاهر منها بالحائض أقرب من إلحاق المحرمة؛ لأن المحرمة متلبِّسة بعبادة بناء على جواز الاستمتاع، ثم إن المحرمة أيضًا قد ورد ما يدل على تحريم الاستمتاع بها، فقد حرم الرسول صلى الله عليه وسلم على المحرم أن يخطب الخطبة التي قد تكون ذريعة لعقد النكاح، وقد لا تكون، وحرم عليه أيضًا أن يعقد النكاح، فيكون الاستمتاع من باب أولى، وعلى كل حال: ففي مسألة الظهار الذي يظهر أن المحرَّم هو الجماع، وأن ما سواه لا بأس به. يستفاد من هذا الحديث: صراحة الصحابة- رضي الله عنهم- في طلب الوصول إلى الحق لأنه جاء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالواقع ولم يستحي. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يستحيي من الحق؛ كما هي عادة الصحابة وهم أقوى منا إيمانًا وأقوى منا حياء؛ لأن الحياء من الإيمان ومع ذلك يصرحون بما تقتضي المصلحة التصريح به. ومن فوائد الحديث: أن من ظاهر ثم جامع قبل التكفير فإنه لا تلزمه كفارتان بل كفارة واحدة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "حتى تفعل ما أمرك الله به"، وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا ظاهر ثم جامع قبل التكفير لزمته كفارتان ولكن لا وجه لهذا مع وجود هذا النص. ومن فوائد الحديث: تحريم الجماع قبل أن يكفِّر لقوله: "كفِّر ولا تعد". كفارة الظهار: 1054 - وعن سلمة بن صخرٍ رضي الله عنه قال: "دخل رمضان، فخفت أن أصيب امرأتي، فظاهرت منها، فانكشف لي شيء منها ليلةً، فوقعت عليها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرِّر رقبةً. قلت: ما أملك إلا رقبتي. قال: فصم شهرين متتابعين، قلت: وهل أصبت الَّذي أصبت إلا من الصِّيام؟ قال: أطعم فرقًا من تمرٍ بين ستِّين مسكينًا". أخرجه أحمد، والأربعة إلا النَّسائيَّ، وصحَّحه ابن خزيمة، وابن الجارود. رحم الله المؤلف، لو ذكر الأحاديث الواردة التي هي أصرح من هذا في مسألة الظهار لكان أولى من ذكر هذا الحديث، ولكن على كل حال نشرحه، قوله: "دخل رمضان فخفت أن أصيب امرأتي فظاهرت منها" يريد بذلك منع نفسه من أن يجامع امرأته، وكان في أول الأمر إذا أراد الرجل الصوم في رمضان فإنه لا يقرب أهله بعد صلاة العشاء أو بعد نوم ولو قبل العشاء، يعني: امتنع إتيان النساء في رمضان ليلًا، إذا نام ولو قبل صلاة العشاء أو إذا صلى العشاء وشق

ذلك على الناس فنسخ الله هذا الحكم وقال: {أحلَّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هنَّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنُّ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم} [البقرة: 187]. ومعنى "تختانون": تخدعونها بحيث لا تصبرون على هذا التكليف، {فالآن باشروهنَّ وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتَّى ... } الآية. سلمة بن صخر أراد أن يمنع نفسه من أهله فظاهر منها، ولكنه انكشف له شيء منها ليلة فعجز عن نفسه فوقع عليها، إذن وقع عليها بعد أن ظاهر، وماذا يجب عليه؟ يجب عليه أن يكفرِّ بل إن الكفارة تجب في العزم على الجماع قبل أن يجامع لقوله تعالى: } من قبل أن يتماسَّا ... } يقول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرر رقبة" يعني: أعتق، ورقبة لفظ مطلق يتناول الذكر والأنثى والعدل والفاسق، والمؤمن والكافر، وهذا الإطلاق هو الذي في القرآن، قال الله تعالى: {والَّذين يظاهرون من نِّسائهم ثمَّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبةٍ من قبل أن يتماسَّا} [المجادلة: 3]. رقبة مطلقة ولم يقيد الله تعالى الرقبة بالإيمان إلا في كفارة واحدة وهي كفارة القتل ففي الأيمان قال: {فكفَّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ} [المائدة: 89]. ولم يقيدها بالإيمان، وهنا قال: {فتحرير رقبةٍ من قبل أن يتماسَّا}، قلنا: إن هذا مطلق يتناول الذكر والأنثى، والعدل والفاسق، والمؤمن والكافر، والصغير والكبير، والمعيب والسليم، لأن المطلق على اسمه مطلق غير مقيد بوصف، فأما كونه ذكرًا أو أنثى فهذا محل إجماع، يعني: أن العلماء أجمعوا- فيما أعلم- أنه لا فرق بين الذكر والأنثى، وأما الصغير والكبير فكذلك، إذ لم يفرق العلماء بينهما، وأما العدل والفاسق فكذلك لم يفرقوا بينهما. هذه ثلاثة أشياء، بقي السليم والمعيب، الكافر والمؤمن اختلفوا فيه، اتفقوا على تقييد ما قيده الله، وذلك في كفارة القتل واختلفوا فيما أطلقه الله، فمنهم من قال: ما قيده الله وجب علينا أن نقيده وما أطلقه يجب علينا أن نطلقه، فإذا كان الله عز وجل قال في كتابه: {ونزَّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيءٍ} [النحل: 89]. فإن المطلق إذا لم يقيد بيانه أن يبقى على إطلاقه والمبين مبين، لكن الجمهور على أنه لا بد من الإيمان، واستدلوا لذلك بأن الله تعالى يطلق أشياء وهي مقيدة بأوصاف إما في القرآن أو في السنة، مثلًا: العمل الصالح الحسن وما أشبه ذلك، فهناك أعمال كثيرة مطلقة نحو: من صلى ركعتين فله كذا "من صلى البردين دخل الجنة" هذه كلها مطلقات، وكلها مقيدة بابتغاء وجه الله، كما قال تعالى: {محمدٌ رسول الله والَّذين معه أشداء على الكفَّار رحماء بينهم تراهم ركَّعًا سجَّدًا يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا} [الفتح: 29]. وقال الله تعالى: {لَّا خير في كثيرٍ من نَّجواهم إلَّا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين النَّاس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله} [النساء: 114]. فكل الأعمال المطلقة مقيدة بهذا القيد بالاتفاق، إذن تحرير الرقبة كفارة لما فعل الإنسان من الذنب، عمل صالح وإذا كان عملًا صالحًا فإنه يحمل المطلق فيه على المقيد، ويوضح ذلك وضوحًا كاملًا حديث معاوية: بن الحكم أنه ذكر أن له جارية ترعى غنمًا حول المدينة وأنه اطلع عليها ذات يوم فرأى الذئب عدا على شاة منها وهي جارية مملوكة، يقول: فلطمها- صكها صكة عظيمة- ثم جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: فعلت كذا وكذا أفلا أعتقها، ماذا يريد من إعتاقها؟ أن يكون كفارة له على صكها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائتي بها"، فجاء بها، فقال: "أين الله؟ " قالت: في السماء، قال: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله، قال: "أعتقها فإنها مؤمنة"، مع أن هذه ليست كفارة، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم علَّل الإعتاق بالإيمان في غير الكفارة ففي الكفارة من باب أولى، أيضًا الإعتاق تحرير العبد من الرق يكون محررًا يستطيع أن يعبد الله تعالى على حريته يصل رحمه، يتصدق، يبيع ويشتري، تيسر له الأمور بالحرية وهذا كله إنما يناسب المؤمن وليس الكافر، الكافر بقاؤه في الرق قد يكون أقرب إلى إسلامه، لأننا لو حررناه تحرر وذهب إلى بلاد الكفر أو عثى في الأرض فسادًا، فهذا القول هو الصحيح بمعنى: أنه لا بد من الإيمان في إعتاق الرقبة. السليم والمعيب: السليم لا أعلم أحدًا نازع في جواز عتقه إذا كانت رقبة مؤمنة ولكن المعيب ينقسم إلى قسمين: عيب لا يخل بالعمل، وعيب يخل بالعمل. فأما العيب الذي لا يخل بالعمل فلا شك في إجزاء العبد إذا كان فيه عيب لا يخل بالعمل، مثال ذلك: أن يكون العبد أعور، أو أن يكون مقطوع الخنصر من اليد أو من الرجل، أو أن يكون فيه برص، أو أن يكون فيه عرج لا يمنعه من مزاولة العمل وما أشبه ذلك هذا لا شك في أنه يجوز أن يعتق بالكفارة، لكن إذا كان به عيب يمنع العمل كالشلل وكقطع اليد أو الرجل أو قطع الإبهام من اليد فقد اختلف العلماء في إجزائه، فمنهم من قال: إنه يجزئ ومنهم من قال: إنه لا يجزئ، وظاهر النصوص أنه يجزئ، لأن الله تعالى لم يشترط إلا الإيمان، وكونه لا يستطيع العمل يكون كغيره من المسلمين يجعل له شيء من بيت المال أو يلزم السيد إذا قلنا بإلزامه

بالاتفاق عليه؛ لأن السيد يرثه إذا مات ولم يكن له عصبة أو ذو فرض يستغرق، على كل حال: الذي يترجح عندي أنه لا يلزم أن يكون سليمًا من العيوب. المستحق للقتل هل يجزئ يعني كما لو كان العبد قاتلًا لأحد قتل عمد هل يجزئ أن يكفَّر به؟ وهو لا يوجد غيره وه مؤمن فيجوز أن يعتق بالكفارة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "حرر رقبة" هذه الجملة فيها حذف، أو كما يقول البلاغيون: إيجاز بالحذف والإيجاز عند البلاغيين

ينقسم إلى قسمين إيجاز قصر وإيجاز حذف، أما إيجاز القصر فمعناه: أن تشتمل الجملة على معنى كثير بدون حذف، وأما إيجاز الحذف فمعناه: أن يحذف من الجمل ما يدل عليه الباقي، ومعلوم أنه إذا حذف من الجملة ما تحتاج إليه ولكن يدل عليه الباقي فإن ذلك إيجاز، والإيجاز بالحذف كثير في القرآن، وكذلك الإيجاز بالقصر- يعني: قصر العبارة- فقوله تعالى: {وجزاؤا سيئةٍ سيئةٌ مثلها} [الشورى: 40]. هذا إيجاز بالقصر، لو تكتب على هذه الآية مجلدات ما استوعبت صورها وقوله سبحانه وتعالى: {ولكم في القصاص حيوةٌ} [البقرة: 179]. هذا أيضًا إيجاز قصر، هذه الجملة لها معان كثيرة، وقد حاول بعض الناس أن يقارن بينها وبين كلمة مشهورة عند العرب يكتبونها بالذهب وهي: القتل أنفى للقتل فبين أن ما في القرآن أبلغ بكثير وذكر نحو عشرة أوجه على أنني لا أحبذ أن يقارن بين كلام الله وكلام الخلق؛ لأنه أجل وأعظم، لكن قد يجوز ذلك إذا كان الدافع عليه هو من باب أن يبين المقارن أن هذه الكلمة بل هذه الجملة اشتملت على معانٍ عظيمة. الإيجاز بالحذف كثير في القرآن ومنه قصة موسى- عليه الصلاة والسلام- حينما قتل القبطي ثم خرج إلى مدين: {ولمَّا توجَّه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السَّبيل (22) ولمَّا ورد ماء مدين وجد عليه أمةً من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتَّى يصدر الرَّعاء وأبونا شيخٌ كبيرٌ (23) فسقى لهما ثمَّ تولَّى إلى الظِّلِّ فقال رب إنِّي لما أنزلت إليَّ من خيرٍ فقيرٌ (24) فجاءته إحداهما تمشي على استحياءٍ} [القصص: 22 - 25]. في هذا المكان حذف جمل، ما الذي حذف؟ حذف: فذهبت المرأتان إلى أبيهما وأخبرتاه الخبر فأرسل إحداهما إلى موسى فجاءته إحداهما تمشي على استحياء، هذا إيجاز بالحذف. وكذلك الحال في الحديث الذي معنا، فيه إيجاز بالحذف، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "حرر رقبة"؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده حين فعل ما فعل، ولكن في الكلام شيء محذوفٌ تقديره فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "حرر رقبة" وقوله: "حرر" بمعنى: أعتق رقبة والرقبة هي المملوك من ذكر وأنثى وصغير وكبير ومؤمن وكافر وسليم ومعيب وعدل وفاسق وتقدم الكلام عليه. "فقلت: ما أملك إلا رقبتي" المعنى: ليس عندي شيء لا دراهم ولا متاع ليس عندي إلا رقبتي،

وليس هذا يعني أن الإنسان مالك لرقبته ملكًا يتصرف فيها كما يشاء، ولكن المعنى ليس عندي شيء وهذا كقول موسى: {رب إني لا أملك إلَّا نفسي} [المائدة: 25]. ومعلوم أنه لا يملك نفسه ملك العبد، قال: "فصم شهرين متتابعين" أي: بدون إفطار بينهما، والفاء هنا- "فصم"- يسمونها فاء التفريع، أي: أن ما بعدها مفرع على ما قبلها، والمعنى: فإذا لم تجد شيئًا فصم شهرين متتابعين، قلت: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام رضي الله عنه، يعني: كيف يستطيع صيام شهرين وقد عجز عن صيام شهر واحد؟ ! ، فقال: "أطعم فرقًا من تمر ... إلخ" الفرق بفتح الفاء والراء هو ما يسمى عندنا بالزنبيل ويسمى المكتل أيضًا يكون كبيرًا ويكون صغيرًا لكن لا شك أن الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أنه فرق يحتمل أو يسع إطعام ستين مسكينًا. في هذا الحديث عدة فوائد منها: شدة ورع الصحابة- رضي الله عنهم-، حيث إن سلمة لما خاف على نفسه من الوقوع في المحذور ذهب يظاهر؛ ليحمل نفسه على ترك جماع أهله، وذلك لأن الظهار كفارته مغلظة فالإنسان يخاف إذا حنث فيه أن يلزم بهذه الكفارة المغلظة. ومنها: جواز الظهار الموقت، يعني: أن يظاهر الرجل امرأته لمدة شهر أو شهرين وما أشبه ذلك؛ لأن سلمة إنما ظاهر من امرأته شهر رمضان فقط ففيه جواز الظهار الموقت. ومن فوائد الحديث: أن الظهار لا يجري مجرى اليمين؛ لأن هذا الظهار أراد به الامتناع هذه المدة ولكنه شبه امرأته بأمه فلا يجري مجرى اليمين أو مجرى تحريم المرأة؛ لأن الصحيح أن تحريم المرأة بلفظ: أنت عليَّ حرام حكمه حكم اليمين كما سبق. ومن فوائد الحديث: أن من ظاهر من امرأته ثم عاد في ذلك وجامع فإنه تلزمه الكفارة. ومن فوائده: أنه إذا جامع قبل أن يكفر لم يلزمه إلا كفارة واحدة، خلافًا لمن قال: إنه إذا جامع قبل أن يكفر لزمه كفارتان، والصواب أنه يلزمه كفارة واحدة حتى ولو تكرر. ومن فوائد الحديث: أن الرقبة تجزئ ولو كانت غير مؤمنة يؤخذ ذلك من الإطلاق، ولكن سبق لنا أن القول الراجح أن الإطلاق مقيد، وله نظائر كثيرة في القرآن حيث تأتي آيات مطلقة فتحمل على المقيد؛ لأن الوحي شيء واحد المشرع له واحد وهو الله عز وجل، فيحمل مطلقه على مقيده. ومن فوائد هذا الحديث: أن كفارة الظهار مرتبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الخصال الثلاث كل واحدة على الأخرى. ومن فوائد الحديث: أنه يجب إذا لم يجد رقبة أن يصوم شهرين متتابعين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فصم شهرين متتابعين"، والتتابع التوالي، وهنا سؤلان: الأول: هل تعتبر الأشهر بالأهلة أو بالأيام؟ قال بعض العلماء: بالأيام، وعلى هذا فيصوم ستين يومًا، وقال آخرون: بل بالأهلة،

وهذا هو الصحيح، سواء ابتدأ الصوم من أول ليلة من الهلال أو في أثناء الشهر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسعة وعشرون" وقال: الشهر هكذا وهكذا مرة ثلاثون ومرة قبض إبهامه أي أنه يكون تسعة وعشرين وهذا هو الواقع، فإذا كان ذلك فكيف نلزمه بستين يومًا مع احتمال أن يكون أحد الشهرين تسعة وعشرين، أو الشهران جميعًا، وعلى هذا فالمعتبر الأهلَّة ولو نقصت عن ستين يومًا سواء ابتدأ من أول الشهر أو في أثنائه، فإذا ابتدأ في اليوم الخامس عشر من محرم مثلًا فمتى ينتهي؟ في اليوم الرابع عشر من ربيع الأول، لا نقول: صم ستين يومًا قد يرى هلال صفر ويكون تسعة وعشرين يومًا، وكذلك المحرم فلا يهمنا، المهم أن يصوم شهرين متتابعين. السؤال الثاني: هل إذا حصل عذر يبيح الفطر كالمرض والسفر هل يقطع التتابع؟ الصحيح ألا يقطعه؛ لأنه إذا كان يباح للإنسان أن يفطر يومًا من رمضان للعذر فكيف لا يفطر بما وجب التتابع فيه، وعلى هذا فلو سافر الإنسان في أثناء الشهرين وأفطر مدة سفره فإنه يبني على ما مضى، فلو صام شهرًا ثم سافر عشرة أيام ثم عاد إلى بلده يصوم شهرًا ثانيًا فقط؛ لأن هذا عذر، لكن لو سافر ليفطر حرم السفر وحرم الفطر؛ يعني: فيلزم بأن يصوم، فإن أفطر انقطع التتابع؛ وذلك لأنه إذا نوى بالسفر التحايل على إسقاط الواجب فإنه لا يسقط، الواجبات لا تسقط بالتحايل عليها والمحرمات لا تحل بالتحايل عليها. ومن فوائد الحديث: صراحة الصحابة- رضي الله عنهم-؛ لأنهم لا يستحيون من الحق؛ لقوله: "وهل أصبت ... إلخ". ومن فوائده: أن الواجب إطعام ستين مسكينًا لإطعام ستين مسكينًا فبينهما فرق، إذا قلنا: إطعام ستين مسكينًا فلابد من هذا العدد، وإذا قلنا طعام ستين مسكينًا فإنه يجوز أن تعطيه واحدًا، إذا كان طعام ستين مسكينًا فالواجب إطعام ستين مسكينًا، ولكن هل الإطعام مقدر أو غير مقدر؟ الصحيح أنه غير مقدر. وسؤال آخر: هل يعتبر فيه التمليك أو لا يعتبر؟ الصحيح: أنه لا يعتبر فيه التمليك؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- أطلق قال: {فمن لَّم يستطع فإطعام ستين مسكينًا} [المجادلة: 4]، وقال في كفارة اليمين: {فكفَّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم} [المائدة: 89]. فأطلق الله الإطعام، وعلى هذا فنقول: الواجب الإطعام أن تطعم ستين مسكينًا لا أن تملك الستين مسكينًا فلو غدَّى المساكين أو عشاهم فإنه يجزئه؛ لأنه يصدق عليه أنه أطعم ستين مسكينًا، أما ما قدره الشرع فإنه لا بد فيه من التمليك، ولابد فيه من التقدير الذي قدره الشرع، مثاله: صدقة الفطر، وفدية الأذى قال الله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذىً من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ} [البقرة: 196]. ما قال: أو إطعام، بل قال: {صدقةٍ}، والصدقة

لابد فيها من تمليك، ولهذا قدرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، والفرق بين قوله تعالى: {فإطعام ستين مسكينًا} وبين قوله: {صدقةٍ} الفرق بينهما ظاهر لأن صدقة فيها تمليك إلا أنها كانت مجملة في الآية وبينها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع" صدقة الفطر قدَّرها النبي صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام وقال: "إنها طعمة للمساكين". وإذا كان صاعًا من طعام علمنا أنه لا يكفي إطعامهم، بل لا بد من صاع، والصاع يملك، وعند التأمل يتبين لك أن الكفارات ونحوها ترد على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: ما قدر فيه المعطي والآخذ. والثاني: ما قدر فيه المعطي دون الآخذ. والثالث: ما قدر فيه الآخذ دون المعطي، أما ما قدر فيه المعطي والآخذ فهي فدية الأذى المعطي ثلاثة آصع والآخذ ستة مساكين، وما قدر فيه المعطى دون الآخذ، صدقة الفطر صاع من طعام، ولهذا يجوز أن تعطي الصاعين والثلاثة لواحد وأن تفر الصاع الواحد بين اثنين فأكثر؛ لأن المقدر فيها المعطي دون الآخذ، وما قدر فيه الآخذ دون المعطي كفارة الظهار، وكفارة اليمين كفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، وفي الظهار قال الله تعالى: {فمن لَّم يستطع فإطعام ستين مسكينًا}. ومن فوائد الحديث: أن الفقير والمسكين يتعاوران بمعنى أن أحدهما يكون بدل الآخر، وذلك عند انفراد أحدهما عن صاحبه فقوله تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} [النور: 32]. يشمل الفقير والمسكين، وقوله تعالى: {للفقراء المهاجرين} [الحشر: 8]. يشمل الفقير والمسكين، وقوله: {فإطعام ستين مسكينًا} يشمل المسكين والفقير، وقوله: {إنَّما الصَّدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60]. يختلفان، الفقراء أشد حاجة من المساكين وهذا له نظائر أن تكون كلمتان عند الاجتماع مختلفتين وعند الانفراد متفقتين. ليس في هذا الحديث بيان أنه يمسك عن الجماع مرة ثانية حتى يكفر، لكنه يؤخذ مما سبق أنه لو جامع قبل أن يكفر تمنعه من أن يعود مرة ثانية حتى يكفر، فيما لو جامع في أثناء الكفارة، مثلًا: جامع المظاهر منها بعد أن صام شهرين فهل يلزمه أن يعود أو يبني على ما مضى؟ نقول: إن جامعها بالنهار فلا شك أنه يعيد من جديد؛ لماذا؟ لانقطاع التتابع وإن جامعها ليلًا ففيه خلاف بين العلماء، وهل يستأنف أو يبني؛ لأنه لو صام من الغد فهل يكون

2 - باب اللعان

الصوم متتابعًا؟ نعم متتابع والمشهور من المذهب أنه ينقطع؛ لأن الله قال: {فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسَّا} [المجادلة: 4]. فجعل الله هذين الشهرين موصوفين بالتتابع قبل المسيس، فإذا مس قبل صيام شهرين متتابعين ثم تابع فإنه لا يصدق عليه أن صام شهرين متتابعين من قبل المماسة، وهذا أحوط، ولكن في النفس منه شيء، لكن إن كان ذلك عن جهل منه فلا شك أنه يبني على ما مضى لأنه فعل محظورًا جاهلًا، وفعل المحظور جهلًا لا يترتب عليه أثره. ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم نعنفه حين سأل، وهذه الفائدة لها نظائر وهو من جاء تائبًا فإننا لا نعنفه بل نشكره تشجيعًا له؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعنف الذي جامع مع امرأته في نهار رمضان وهو صائم؛ لأنه جاء تائبًا يريد الخلاص، وهناك فرق بين من جاء تائبًا يريد الخلاص ومن أعرض ولم يهتم بالأمر. 2 - باب اللعان تعريف اللعان: "اللعان": مصدر لاعن، ولهذا الوزن من الأفعال مصدر آخر وهو الملاعنة، كما يقال: قاتل مقاتلة وقتالًا، وجاهد مجهادة وجهادًا، واللعان مأخوذ من اللعن، وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ومن الآدمي السب فإذا قيل: تلاعن الرجلان، فمعناه: سب أحدهما الآخر، أو دعا كل واحد منهما على الآخر باللعنة، وهو- أي: اللعان- أيمان مكررة مؤكدة بشهادة تكون من كلِّ من الزوج والزوجة، لكنه من الزوجة بلفظ الغضب ومن الزوج بلفظ اللعن، فغلَّب جانب الزوج وهو اللعن وله سبب وهو: رمي الزوج زوجته بالزنا- والعياذ بالله-، يعني: أن يقول الزوج لزوجته: أنت زانية أو زنيت! وهو أمر عظيم، فلو وقع القذف من غير الزوج لم يكن لعانًا، وإنما يقال للقاذف: عليك أن تقدم البيِّنة أو حدٌّ في ظهرك، فلو قال زيد لعمرو أنت زانٍ قلنا: هات أربعة شهود يشهدون وإلا جلدناك ثمانين جلدة ولا يوجد طريق غير هذا إلا أن يقر المقذوف، إذا أقر ثبت زناه بإقراره، أما إذا صدر من الزوج فإنه من المعلوم أنه من البعيد جدًا أن يقذف الرجل زوجته بالزنا؛ لماذا؟ لأن ذلك تدنيس لفراشه وتشكيك في نسب أولاده ولا يمكن أن يقع هذا من الزوج إلا عن يقين، إلا أن يكون زوجًا عصبيًا غضوبًا فقد يتكلم، لكن زوج متأنٍّ مطمئن يمكن أن يقذف زوجته بالزنا، فهذا بعيد جدًّا ولا يمكن أن يقدم الزوج إلا عن يقين ولما نزلت قوله تعالى: {والَّذين يرمون المحصنات ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبدًا وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4].

قال سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أتركه على أهلي أو أترك لكع ابن لكع على أهلي حتى أتي بأربعة شهداء، والله لأضربنه بالسيف غير مصفح، يعني: أضربه وليس بصفحته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تعجبون من غيرة سعد، والله لإني أغير من سعد والله أغير مني"، ولهذا أنزل الله تعالى هذا الفرج للأزواج بأنه إذا رمى زوجته بالزنا فإنه يلاعن وإن لم يقم بينة قال تعالى: {والَّذين يرمون أزواجهم ولم يكن لَّهم شهداء إلَّا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنَّه لمن الصَّادقين (1) والخمسة أنَّ لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين} [النور: 6، 7]. إذن سبب اللعان أن يرمي الزوج زوجته بالزنا، وسمي لعانًا، لأن الزوج يقول: وأنَّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ففيه تغليب. 1055 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "سأل فلاٌ فقال: يا رسول الله، أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشةٍ، كيف يصنع؟ إن تكلَّم تكلّم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، فم يجبه، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الَّذي سألتك عنه قد ابتليت به، فأنزل الله الآيات في سورة النُّور، فتلاهنَّ عليه ووعظه وذكَّره، وأخبره أنَّ عذاب الدُّنيا أهون من عذاب الآخرة. قال: لا، والَّذي بعثك بالحقِّ ما كذبت عليها، ثمَّ دعاها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فوعظها كذلك، قالت: لا، والَّذي بعثك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ، فبدأ بالرَّجل، فشهد أربع شهاداتٍ بالله، ثمَّ ثنَّى بالمرأة، ثمَّ فرَّق بينهما". رواه مسلم. قوله: "سألة فلان" لم يذكر اسمه سنرًا عليه، وإلا فالظاهر أن ابن عمر كان يعرفه؛ لأن القصة مشهورة ولكنه أبهمه سترًا عليه؛ لأن تعيينه لا يتوقف عليه فهم المعنى، المقصود القصة والقضية، ذكرنا باب اللعان وأن اللعان مصدر لاعن يلاعن، وأن اللعن يصدر من الزوج ولكنه ذكر من باب التغليب، فإذا رمى الرجل زوجته بالزنا، وقال: إنها زنت فإما أن يأتي ببينة فتحد ولا يحد، وإما أن تقر فتحد ولا يحد وإما أن تنكر، وحينئذ نقول: إما أن تلاعن أو أقمنا عليك الحد، إذا لاعن ولاعنت ثبت بذلك أحكام تأتي إن شاء الله، وإن لاعن ولم تلاعن فقيل: إنها تحبس حتى تموت أو تلاعن، وقيل: بل يقام عليها الحد، وهذا هو الصحيح، لأن ملاعنته بمنزلة البينة لقول الله تعالى: {ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد}، و"أل" في قوله: {العذاب} لعهد الذهني الذي هو حد الزنا كما قال تعالى: {الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدةٍ ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} فقوله: {ويدرؤا عنها العذاب} أي: العذاب المعهود وهو حد الزاني، وهذا القول هو الصحيح، قوله: "أرأيت" بمعنى:

أخبرني، و"أن" مصدرية، ويحتمل أن تكون مخففة، وقوله: "كيف يصنع"، الجملة هذه متصلة بقوله: "أرأيت" وهي بمحل الاستفهام يعني: "أخبرني كيف يصنع من وجد امرأته على فاحشة إن تكلم تكلم بأمر عظيم"، ووجه عظمه أنه يدنس فراشه وأهله، "وإن سكت سكت على أمر عظيم" وهو إقرار زوجته على الفاحشة، فيكون بذلك ديُّونًا، والديوث هو الذي يقر أهله على الفاحشة، فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل يقول أرأيت؟ والمسألة ساقها مساق الأمر المفروض لا الأمر الواقع فلم يجبه؛ لأن السؤال عن أمر لم يقع يكون للإنسان سعة في ألَّا يجيب عليه، ولهذا كان بعض السلف إذا سأله سائل عن مسألة قال هل وقعت؟ قال: لا، قال: إذن لا أجيبك نحن في عافية حتى إذا وقعت وبلينا بها أجبنا: قال: "فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به" يحتمل أن يكون هذا خبرًا عن شيء مضى، كأنه يقول: إني سألتك عن شيء قد ابتليت به وليس فرضًا بل واقع ويحتمل أن يكون هذا أمرًا جديدًا حادثًا بعد السؤال، وأنه سأل أولًا ثم ابتلي بذلك ثانيًا، وعلى هذا قول الشاعر: [الكامل] احذر لسانك أن تقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق وقد روي في ذلك حديث: "إن البلاء موكل بالمنطق"، لكنه ضعيف، إذن قوله: "إن الذي سألتك عنه قد ابتليت" يحتمل خبر عن السؤال الأول، يعني: أنني قد سألتك عن شيء ليس مفروضًا ولكنه واقع، وكأنه في الأول يعرف ثم صرح الآن، ويحتمل أن تكون هذه البلوى بعد سؤاله مقدمة لأمر توقعه فوقع. يقول: "فأنزل الله الآيات في سورة النور" هي قوله: {والَّذين يرمون أزواجهم ولم يكن لَّهم شهداء إلَّا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنَّه لمن الصَّادقين} [النور: 6]. فهي آية التلاعن، فقال: "قتلاهن عليه"، الفاعل في "تلاهن" رسول الله صلى الله عليه وسلم، و"وعظه" أي: ذكَّره بما فيه التخويف؛ لأن التذكير المقرون بالتخويف أو الترغيب يسمى وعظًا وموعظة، "وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة"، عذاب الدنيا وذلك بالعقوبة سواء كان حد الزنا على المرأة أو حد القذف على الرجل أهون من جهة الكيفية والشدة وأهون من جهة الزمن، لأن عذاب الدنيا ينقطع إما أن يكون مهلكًا فينقطع بالموت الذي لا بد منه، وإما أن يكون موجعًا فينقطع بانتهائه ثم بعد ذلك ينسى، لكن عذاب الآخرة أعظم وأشد، قال: "لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها"، "لا" هذه زائدة للتوكيد وذلك لأن المقسم عليه منفي

فأكدت بنفي القسم ولا يمكن أن تكون "لا" هنا نافية لأنه لو كانت نافية ما صح القسم، وقوله: "والذي بعثك بالحق" أي: أرسلك به وهو الله عز وجل وقوله: "بالحق" لها معنيان الأول: أن بعثته حق، والمعنى الثاني: أن ما بعث به حق وكلاهما صحيح، وقوله: "بالحق" الحق في اللغة الشيء الثابت وضده الزائل، ولهذا يقال الباطل زائل، فالثابت هو الحق والزائل هو الباطل، وقوله: "لا والذي بعثك بالحق" اختار القسم بهذا الوصف لله عز وجل، لأنه يريد أن يقسم على أن ما قاله حق فيتناسب المقسم به والمقسم عليه وهذا من البلاغة، بمعنى: أن يأتي الإنسان بقسم مناسب لما يقسم عليه، ولو تأملت الأقسام الواردة في القرآن لوجدت بين المقسم به والمقسم عليه تناسبًا، وما أحسن من استعان على هذا بكتاب ابن القيم رحمه الله التبيان في أقسام القرآن، فإنه ذكر فيه فوائد جمة في هذا الموضوع، ونبه على نكت لا تكاد تجدها عند غيره. "ما كذبت عليها" أي: ما أخبرت عنها بكذب، وإذا انتفى الكذب وكان المقام مقام تصديق لزم من ذلك ثبوت الصدق، فهو لم يحتج أن يقول: وإنما أنا صادق؛ لأنه إذا نفى الكذب في مقام الدفاع عما أخبر به كان من لازم ذلك الصدق، وإنما قيدنا هذا بقولنا: في مقام الدفاع عن النفس؛ لأنه قد يكون الكلام لا صدقًا ولا كذبًا مشكوكًا فيه، لكن إذا نفى الإنسان الكذب في مقام الدفاع عن نفسه فإنما يريد بذلك إثبات الصدق، "ثم دعاها فوعظها" أي: ذكَّرها بما فيه التخويف والترهيب، قالت: "لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب" هذا تناقض هو يقول: لم يكذب وهي تقول: إنه كاذب وأتت بقسم مقابل لقسمه تمامًا، يعني: مماثل له والجملة التي أتت بها مؤكدة بثلاثة مؤكدات، القسم وإن واللام، فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات لما كان كل واحد منهما لم يقر أجرى اللعان صلى الله عليه وسلم فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله، ثم ثنِّى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله، لكن لا بد من شهادة خامسة يقول فيها الرجل: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وتقول المرأة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما بفسخ وليس بطلاق؛ لأنه لو كان طلاقًا لقال: أمر أن يطلقها أو كلمة نحوها، بل هذا فراق وقوله: "ثم فرق" يحتمل معنيين، المعنى الأول: حكم بالفرقة، والمعنى الثاني أنشأ الفرقة فقال مثلًا: فرقت بينهما على المعنى الأول: حكم بالفرقة بمجرد اللعان وهذا هو المفهوم لأنه إذا تم اللعان حصلت الفرقة سواء، قال القاضي: فرقت بينكما أم لم يقل. في هذا الحديث فوائد كثيرة: أولًا: إن كان السائل سأل عما لا يقع ولكنه عنده متوقع فهو شاهد، لما أنشدناكموه من قول الشاعر:

احذر لسانك أن تقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق وإن كان الأمر بعد أن وقع ولكنه عرض ولم يصرح ففيه أدب، بأن يعرض الإنسان في مثل هذه الأمور العظيمة دون أن يصرح. ومن فوائد الحديث: بيان غيرة الصحابة- رضي الله عنهم- على محارمهم، والغيرة من شيم الرجال ومن خصال الإيمان، ولا خير فيمن لا غيرة فيه، وإذا قارنت بين غيرة الصحابة وما عليه المتفرنجون والإفرنج وأشباههم وجدت الفرق العظيم تجد أحد هؤلاء المتفرنجة والإفرنج لا يبالي بزوجته بل يتركها تكلم الرجال وتكو معهم وتكشف وتفعل ما شاءت لا يهمه، ولا يقشعر جلده لذلك، ولا يقف شعره، ولكن الإيمان والفطرة السليمة تقتضي خلاف ذلك. ومن فوائد الحديث: جواز امتناع المستفتي عن الفتيا إذا رأى المصلحة في ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبه، وفي حديث آخر في قصة عويمر العجلاني أن الرسول كره هذه المسائل وعابها وأحب أن يبتعد الناس عنها وعن فرضها. ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان قد يبتلى بما يتحدث به لقوله: "إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به" هذا على أحد الوجهين. ومن فوائد الحديث: أن القرآن كلام الله؛ لقوله: "فأنزل الله الآيات" وجهه: أن هذا الإنزال لوصف لا يقوم بنفسه، فإذا كان وصفًا لا يقوم بنفسه لزم أن يكون من القائم، أي: من منزِّله وهو الله، وإنما قلنا: وصف لا يقوم بنفسه؛ لئلا يرد علينا قوله الله تعالى: {أنزل من السَّماء ماءً} {وأنزل لكم مِّن الأنعام ثمانية أزواجٍ} {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ} فهذا لا يكون منزل كلام الله؛ لأنه عين قائم بنفسه، بخلاف الكلام فإنه وصف لا بد له من متكلم. ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات العلو لله؛ لقوله: "فأنزل" والإنزال لا يكون إلا من أعلى، والأدلة على علو الله ذاتًا وصفة كثيرة الأنواع، وأجناسها خمسة هي: الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، كل هذه الخمسة متضافرة ومتظاهرة على أن الله تعالى علي بذاته كما أنه عليُّ بصفاته ولا أظن أن هذا يحتاج إلى كبير عناء للاستدلال له لأنه واضح، كل واحد من الناس إذا دعا ربه أين يذهب قلبه؟ إلى فوق بدون دراسة وبدون أي شيء، إذن الله- سبحانه- عليُّ فوق. وقد وردت في هذا قصة مع رجلين عالمين وهما أبو المعالي الجويني والهمداني، وكان ينكر الجويني العلوَّ فقال له الهمداني: يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش، ولكن أخبرنا عن هذه

الفطرة ما قال عارف قط بالله إلا وجد من نفسه ضرورة بطلب العلو، فجعل يضرب على رأسه ويقول: حيَّرني الهمداني؛ لأن هذا أمر فطري حتى العجائز يعرفنه. ومن فوائد الحديث: أن أعظم واعظ يوعظ به القرآن لقوله: "فتلاهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومن فوائده: استدلال النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وهذا له عدة شواهد أنه يستدل بالقرآن ومن ذلك أنه كان يخطب مرة فجاء الحسن والحسين عليهما ثياب يعثران بهما فنزل من المنبر وأخذهما وقال صدق الله: {أنَّما أموالكم وأولادكم فتنةٌ} [الأنفال: 28]. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لحاكم عند إجراء الملاعنة بين الزوجين أن يعظهما ويذكرهما؛ لأنه ربما يكون الإنسان متهمًا لزوجته اتهامًا لا أساس له فإذا وعظ وخوف رجع، فينبغي للحاكم قبل إجراء اللعان أن يعظهما، ولا أحسن مما وعظ الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: إثبات العذاب في الآخرة لقوله: "عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة". ومن فوائده: أن الإنسان إذا ابتلي في الدنيا ببلاء فإنه من العذاب، وهو أهون من عذاب الآخرة، ولهذا جاء في الحديث: "أن من يرد الله به خيرًا يعجل له العقوبة في الدنيا، ومن لا يريد به خيرًا فإنه لا يعذبه حتى يوافيه يوم القيامة". ومن فوائد الحديث: جواز القسم وإن لم يستقسم لكن لتوكيد الخبر، لقوله: "لا والذي بعثك بالحق" حيث أقسم الرجل دون أن يستقسمه الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: كمال بلاغة الصحابة؛ حيث اختار للقسم ما يطبق المقسم عليه؛ لقوله: "لا والذي بعثك بالحق". ومن فوائد الحديث: إثبات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق؛ لقوله: "لا والذي بعثك بالحق"، ووجه الدلالة: أن الصحابي قال ذلك فأقره النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أنه قد يحلف الإنسان على شيء وهو كاذب؛ وذلك لأننا نعلم أن أحد الشخصين كاذب إما الرجل وإما المرأة، ولكن الأحاديث دلت على أن المرأة هي الكاذبة، ففي أحاديث أخرى قالت: "والله لا أفضح قومي سائر اليوم". ومن فوائد الحديث: أنه يجب في اللعان أن يبدأ بالرجل لقوله: "فبدأ بالرجل" وهذا اتباع لأمر الله عز وجل حيث قال: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنَّه لمن الصَّادقين} ولأن هذا هو المطابق للقاعدة في الدعاوى، إذ إن الذي يتكلم في الدعوى أولًا هو المدعي وهو الزوج في هذه

المسألة، فلذلك كانت البداءة بالزوج، فلو بدأت الزوجة قبله ألغي لعانها وألزمت بإعادته بعد لعان الزوج. ومن فوائد الحديث: أنه لا بد من شهادات أربع لقوله: "فشهد أربع شهادات"؛ اتباعًا لقوله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات}. فإذا قال قائل: وماذا بعد الأربع؟ هل يشهد خامسة ويقول: وأن لعنة الله عليه أو يكتفى بقوله: وأن لعنة الله عليه؟ نظر فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، "والخامسة" يعني: الشهادة الخامسة، فما الذي جعله الله خامسة؟ أن يشهد أنها زنت أو أن يقول وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، بعض العلماء يقول: لا بد أن يشهد خامسة فيقول: أشهد بالله إنها زانية، ثم يقول: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وبعضهم قال: الشهادة أربعة كعدد الشهود في إثبات الزنا، وأما هذه فهي دعاء على نفسه بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم هل يقول لعنة الله عليه أو يأتي بضمير النفس بدلًا عن ضمير الغيبة؟ يأتي بضمير النفس بدلًا عن ضمير الغيبة، لكن إذا كنا نتحدث عن ماذا نفعل فإننا نقول ذلك بضمير الغيبة. ومن فوائد الحديث: دليل على أنه لا بد أن يتقدم الزوج باللعان، فإن سبقته هي لم يصح لعانها لقوله: "ثم ثنى بالمرأة" وهذا هو ما دلت عليه الآية؛ لأن الله تعالى قال: {ويدرؤا عنها العذاب} أي: حد الزنا وهذا لا يثبت إلا بعد لعان الزوج. ومن فوائد هذا الحديث: بيان أنه قد يقع بين الزوجين من الخصومة ما يصل إلى هذا الحد يدعي عليها الزنا وهو أقرب للصدق منها وتكذبه عيانًا، فتقول: إنه لكاذب. ومن فوائد الحديث: ثبوت التفرقة بين الزوجين في اللعان، فإما أن يكون ذلك بمجرد تمام اللعان وإما أن يكون ذلك بتفريق الحاكم على قولين للعلماء، ولكن لو أردنا أن نسلك طريق الاحتياط قلنا: الأولى أن يفرق بينهما احتياطًا، وهو إذا فرق بينهما لم ينتقض التفريق باللعان. 1056 - وعنه رضي الله عنهما: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: حسابكما على الله تعالى، أحدكما كاذبٌ، لا سبيل لك عليها قال: يا رسول الله، مالي؟ قال: إن كنت صدقت عليها، فهو بما استحلك من فرجها، وإن كنت كذبت عليها، فذاك أبعد لك منها". متَّفقٌ عليه. "حسابكما" أي: حساب من أثمن منكما، فإن كان الزوج كاذبًا حوسب على ذلك، وإن كانت هي الكاذبة حوسبت على ذلك، فحسابهما على الله حتى الصادق يحاسب، ولكن يقرَّر

ولا يآثم، "أحدكما كاذب" وهذا متعين، لأنه إما الكاذب الزوج أو الزوجة، أي: إما الزوج بدعواه أنها زنت، وإما الزوجة في إنكارها ذلك، والكذب هو الإخبار بخلاف الواقع، قوله: "لا سبيل لك عليها" أي: لا طريق لك عليها برجعة أو عقد؛ لأن التحريم بينهما- بعد الملاعنة- يكون مؤبَّدًا، "فقال: يا رسول اله، مالي"، يريد بذلك المهر الذي أمهرها فقال: "إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت ... إلخ"، إن كنت صدقت فقد استحقته بما استحللت من فرجها؛ لأن المهر يثبت كاملًا بالوطء "وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها"، لأنها بعدت عنك الآن بعدًا تامًا ولأنك ظلمتها فلا يمكن أن تظلمها، مرتين فتأخذ المهر مع رميك إياها بالزنا. من فوائد الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لقوله: "حسابكما على الله وأحدكما كاذب"، ولو كان يعلم الغيب لحاسب من يقتضي الواقع حسابه حساب الدنيا وهو العذاب بالحد. ومن فوائد الحديث: أنه إذا انتفى أحد النقيضين ثبت الآخر، يؤخذ ذلك من قوله: "أحدكما كاذب"، فإن انتفى الكذب في حق الزوج تعيَّن في حق الزوجة وإن انتفى في حقها تعين في حق الزوج، وهذا هو حكم المتناقضين، ولعلنا نستعيد ذاكرتنا بذكر النسبة بين الأشياء حيث ذكرنا فيما سبق أنها أربعة أقسام: التماثل والتضاد والتناقض والتخالف، هذه النسبة بين الألفاظ ومعانيها، فالتماثل: أن يكون كل لفظ بمعنى الآخر مثل الكذب والمين، والإنسان والبشر، التضاد: مثل لا يجتمعان ويرتفعان مثل السود والبياض، النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان مثل الحركة والسكون، بقي الخلافان يختلفان ولكنهما يجتمعان ويرتفعان كالسواد والقيام يكون الشيء أسود قائمًا ويمكن أن يرتفع فيكون أبيض قاعدًا. ومن فوائد الحديث: أن العلاقات بين الزوجين تنقطع وتحرم المرأة تحريمًا مؤبدًا لقوله: "لا سبيل لك عليها". ومن فوائده: أنه لا يريد المهر إلى الزوج ولو كان يعتقد أنها زانية؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: مالي قال: "إن كنت صدقت ... إلخ"، وفي لفظ أنه قال: "لا مال لك". ومن فوائد الحديث: حسن إقناع الرسول صلى الله عليه وسلم بإقرار الأحكام في قلوب العباد؛ لقوله: "إن كنت صدقت عليها ... إلخ" فإنه إذا كان قال هذا الكلام اطمأنَّ الإنسان أكثر. ومن فوائد الحديث: أن المهر إذا استقر لم يسقطه زنا المرأة، لقوله: "فهو بما استحللت من فرجها". ومن فوائده: أن المهر لا يستقر بالخلوة لقوله: "بما استحللت من فرجها"؛ ولقوله تعالى: {وقد فرضتم لهنَّ فريضةً فنصف ما فرضتم إلَّا أن يعفون} [البقرة: 237]. الشاهد قوله: "من قبل أن

تمسوهن"، ولكنه قد ورد عن الصحابة والخلفاء الراشدين أن الخلوة تقرر المهر، فتكون الحجة قول الخلفاء الراشدين. ومن فوائد الحديث: أنه إذا اجتمعت علتان موجبتان للحكم كان ثبوت الحكم بهما أقوى من العلة الواحدة؛ لقوله: "وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها"؛ لأنه إذا كان لا يستحق إرجاع المهر وهو صادق، فعدم إرجاعه عليه وهو كاذب من باب أولى؛ لأنه بهتها وكذب عليها. 1057 - وعن أنس رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أبصروها، فإن جاءت به أبيض سبطًا فهو لزوجها، وإن جاءت به أكحل جعدًا، فهو للَّذي رماها به". متَّفقٌ عليه. "أبصروها" يعني: انظروها ماذا يكون من الولد الذي يأتي من هذه المرأة التي حملت، وقوله: "سبطًا"، السبط هو الكامل من الأطفال، وهو الذي يولد كاملًا، أما السبط فهو الشعر اللين وضده الشَّعر الجعد، والذي عندنا بسكون الباء، وقد فسره الشارح بأنه: الكامل في الخلقة، يعني: أتت بالولد كاملًا ليس فيه نقص، يقول: "جاءت به أبيض" هذا في اللون، "سبطًا" في الخلقة "فهو لزوجها"، وذلك لأن الزوج كذلك أبيض كامل الخلقة مكتملًا، والغالب أن الجنين يأتي مشبهًا لأبيه. "وإن جاءت به أكحل جعدًا فهو للذي رماها به"، "أكحل" يعني: أنه شديد سواد منابت الجفن، وهو خلقةٌ يكون فيها أصول شعر الجفن سوداء فترى العين وكأنها مكحولة، وقوله: "جعدًا" هو سبطًا، فإذا قلنا: إن سبطًا بمعنى متكامل الخلقة يكون الجعد فيه نقص هزيل ضعيف، وجاءت به على النعت المكروه ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم عليها الحد؛ لأن البينة كملت باللعان وانتهت العلاقة بينها وبين الزوج فلم يقم الحد عليها. في هذا الحديث: دليل على مشروعية التحقق في الأمر لقوله: "أبصروها". وفيه أيضًا من الفوائد: العمل بالشبه؛ لقوله: "جاءت به ... إلخ"، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه وجعله محاصرًا للنسب ومزاحمًا له، وذلك في قصة عبد بن زمعة مع منازعته سعد بن أبي وقاص في الغلام الذي قال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، إن هذا لأخي عتبة بن أبي وقاص عهد به إلىَّ وكان من وليدة زمعة، وزمعة اسم رجل، فقال عبد بن زمعة: يا رسول الله، هذا لأبي ولد على فراشي، فكيف يكون لعتبة بن أبي وقاص؟ فقال سعد: يا رسول الله أنظر إلى

شبهه فنظر إليه هو شبيه بعتبة بن أبي وقاص، ثم قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، وألحقه بزمعة، وقال: "هو لك يا عبد بن زمعة" ثم قال لسودة بنت زمعة: "احتجبي منه" مع أنه حكم بأنه أخوها شرعًا يرثها وترثه ويصلها وتصله وقال: "احتجبي عنه" فانتزع هذا الحكم من أحكام النسب من أجل الشبه البين بعتبة فالعمل بالقرائن أمر ثابت في شريعتنا وهي شريعة من قبلنا. في شريعة من قبلنا قصة يوسف فإن الحاكم الذي حكم قال: {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكذابين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رءا قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} [يوسف: 26 - 28]. وفي قصة سليمان مع المرأتين اللتين أكل ابن إحداهما الذئب فطلب سكينًا يشق الباقي من الولدين نصفين، أما الكبرى فوافقت وأما الصغرى فأبت، فقضى به للصغرى بالقرينة وهي الشفقة والرحمة، المهم أن القرائن يعمل بها ولكن هل القرائن تغير الأحكام الشرعية؟ الجواب: لا، لكن يعمل بها عند فقد الحكم الشرعي، فمثلًا لو جاءنا مدع ومدعي عليه وكان بيد المدعى عليه آلة حدادة وهو من الحدادين، وكان عند المدعي بينة أن هذه الآلة له، فهنا قرينة وهنا شرعية بأيهما نعمل؟ بالبينة، فالقرائن عند عدم وجود البينات لا شك أن لها أثرها، فإن قال قائل: لماذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإبصارها حتى ينظر ولدها أليس الستر أولى؟ الجواب أن يقال: نعم الستر أولى لكن هنا تعلق حق طرف آخر وهو الزوج وذلك من أجل أن يظهر للناس أن الزوج أصدق منها إن جاءت به على النعت المكروه أو أنها هي أصدق منه إن جاءت به على الوصف المطلوب، وإلا فلا شك أن الستر أولى، لكن لما تعلق الغير أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل ويبحث. 1058 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنها: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا أن يضع يده عند الخامسة على فيه، وقال: إنَّها موجبةٌ". رواه أبو داود والنَّسائيُّ، ورجاله ثقاتٌ. قوله: "أمر رجلًا يضع يده"، الرجل هذا لا نعلمه، وليس من الضروري أن يعلم؛ لأنه لا يختلف به الحكم سواء علم أم لم يعلم، المهم أنه أمر هذا الرجل أن يضع يده عند الخامسة على فيه، أي على في الزوج لعله يمسك، وقال: "إنها موجبة"، "إنها" أي: الخامسة، "موجبة" لأي شيء؟ قيل: إنها موجبة للعنة؛ لأنه سيقول وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وقيل موجبة للحد على المرأة لقوله تعالى: {ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهدات بالله} فثبوت

العذاب عليها ثبت بشهادة الزوج، لكن الأقرب- والله أعلم- أن الحديث عام، لأنه صالح للمعنيين لوجوب اللعنة على من دعا على نفسه بها، وكذلك وجوب الحد على المرأة يعني كأنه قال، إنك إن فعلت فستحد المرأة إلا أنه يرد على هذا يعارض هذا أنه لو شاءت المرأة لرفعت الحد فلا يكون قوله موجبًا، لكنه سبب للإيجاب، لأنه قد يعارض بمانع وهو أن المرأة تلاعن وينتفي عنها الحد وعليه فيكون المقطوع به أن كلمة "موجبة" يعني: موجبة للعن، أما كونها موجبة للحد ففيها احتمال. يستفاد من هذا الحديث: جواز التوكيل بما يتعلق بالحدود؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرجل أن يضع يده على فيه عند الخامسة، وهذا شيء ثابت، وقد مر علينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أنيس أن يغدو إلى امرأة الرجل فإذا اعترفت رجمها. ومن فوائد الحديث: مشروعية وضع اليد على فيَّ الزوج عند الخامسة لعله يتراجع؛ لأنه إذا رجع فسوف يقام عليه حد القذف وهو أهون من عذاب الآخرة. ومن فوائد الحديث: أن من دعا على نفسه بما يعلم أنه كاذب فيه فإنه جدير بأن يحق عليه هذا الدعاء لقوله: "إنها موجبة"، فليحذر الإنسان من هذه المسألة التي قد يتهاون بها بعض الناس، فيقول: هو يهودي إن كان قال كذا هو نصراني، إن كان قال كذا وهو يعلم أنه قاله؛ لأن هذا ربما يعاقب فينسلخ من دين الإسلام بناء على الحلف. 1059 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه- في قصة المتلاعنين- قال: "فلمَّا فرغا من تلاعنهما قال: كذبت عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم". متَّفقٌ عليه. إذا انتهى اللعان بين الزوجين ثبتت الفرقة، وهي بينونة الطلاق الثلاث؛ فإنها تحل بعد الزواج، نقول: إذا انتهى اللعان ثبتت الفرقة بتفريق الحاكم أو بمجرد انتهاء اللعان؟ الصحيح أنه بمجرد انتهاء اللعان تثبت الفرقة، يعني: إذا لاعن الزوج ثم لاعنت الزوجة ثبتت الفرقة بينهما، فطلاقهما ثلاثًا إنما هو من باب توكيد هذه الفرقة وليس طلاقًا واقعًا على محل؛ لأن الزوجة قد بانت منه، وعلى هذا فلا يكون في الحديث دليل على جواز طلاق الثلاث جملة واحدة كما استدل به بعضهم وسيأتي تقرير ذلك- إن شاء الله تعالى. فيؤخذ من هذا الحديث: أن طلاق الثلاث بعد اللعان جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الزوج على هذا ولم ينكر عليه ولو كان محرمًا لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا استدل به بعض العلماء،

وقال: إن الرجل إذا قال لزوجته: أنت طالق ثلاثًا، أو قال: أنت طالق أنت طالق؛ فإنه حلال. ووجه الاستدلال من هذا الحديث: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للزوج على ذلك، ولكن الصحيح خلاف هذا القول، وأن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة أو بكلمات متعاقبات حرام؛ لأنه ثبت من حديث محمود بن لبيد أن رجلًا طلق زوجته ثلاثًا بكلمات أو بكلمة فقام النبي صلى الله عليه وسلم غضبان وخطب الناس وقال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ ! "، وهذا إنكار بيَّن واضح، ويدل لذلك أيضًا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى الناس قد تتايعوا في هذا الأمر وكثر فيهم الطلاق الثلاث ألزمهم به فقال: إن الناس قد تعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، وهذا يدل على أنه حرام، وإلا لما عاقبه عمر على ذلك. فإذا قال قائلٌ: إذن ما الجواب عن هذا الحديث؟ قلنا الجواب: ما قال العلماء الآخرون الذين قالوا بالتحريم وهو أن هذا الطلاق إنما هو من باب توكيد البينونة فقط وإلا فإنه طلاق وارد على غير مورده؛ لأن المرأة بمجرد تمام اللعان وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يحل طلاق الثلاث بكلمة واحدة أو بكلمات بدون رجعة. مسألة: هل يلحق الولد الزاني أو يلحق الزوج هذا الحديث الذي مر علينا؟ حديث أنس قد يدل على أنه إذا جاء مشبهًا للأب- أي: الزوج- فهو أبوه، وإن جاء مشبهًا للزاني فهو له لكن أكثر العلماء لا يرون أن الولد ينتفي عن أبيه ولا يلتحق بالزاني لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، الفراش انتفى الآن بقي نصيب العاهر وهو الزاني الحجر، ولهذا كان يدعى لأمه لا يدعي للزاني. ولكن العلماء اختلفوا فيما لو زنى رجل بامرأة ليست فراشًا ثم أراد أن يستلحقه فهل يلحقه به أم لا؟ أكثر العلماء يقولون: لا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وللعاهر الحجر"، وقال بعض العلماء: إذا استلحقه وليس له معارض فإنه يلحقه؛ لأنه ولده كونًا، وليس هناك ما يمنع إلحاقه به شرعًا، بخلاف ما لو تنازع الزوج والزاني فهنا يكون الولد للفراش للزوج. ثم هاهنا مسألة: هل ينتفي الولد باللعان بدون نفيه أو لا بد من نفيه؟ الجمهور على أنه لا بد من نفيه والصحيح أنه يصح نفيه ولو كان حملًا قبل أن يوضع، ولكن على هذا الرأي إذا

قلنا لا بد من نفيه فهل يجوز للزوج أن ينفيه؟ هذا محل تفصيل: إذا كان الحمل قبل اتهامها بالزنا فإنه لا يجوز أن ينفيه لأنها نشأت به قبل الزنا فهو لزوجها ولا يجوز أن ينفيه وإن كان بعد الزنا ووضعته لأقل من ستة أشهر من الزنا وعاش فلا يصح نفيه أيضًا؛ لأنها لما وضعته لأقل من ستة أشهر وعاش علمنا أنه كان قبل الزنا؛ لأن أقل مدة الحمل الذي يمكن أن يعيش ستة أشهر، إذن في هذين الحالين يلحق الولد الزوج ولا يصح أن ينفيه، أما إذا أتت به لأكثر من ستة أشهر في وقت يمكن أن يكون نشأ من الزاني أو يحتمل أن يكون من الزوج، نظرنا إن كان الرجل قد استبرأها قبل أن يتهمها بالزنا؛ فليس الولد له، ومعنى استبرأها: أنها حاضت قبل أن تتهم بالزنا لأن من علامات عدم الحمل الحيض وحينئذٍ لا يكون الولد له، وكذلك لو فرض أنها وضعته لأكثر من أربع سنين منذ جامعها الزوج ودون أربع سنين منذ جامعها الزاني فلا يلحق بالزوج على القول بأن أكثر مدة الحمل أربع سنين، فالمسألة تحتاج إلى تفصيل. من فوائد الحديث: جواز الوصف بالتغليب لقوله: "في قصة المتلاعنين" مع أن اللعان إنما يكون من الزوج، والوصف بالتغليب كثير في اللغة وفي الشرع، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة"، والمراد بهما الأذان والإقامة، على أنه يمكن أن نقول إن الإقامة أذان؛ لأنها إعلام بالقيام بالصلاة، لكن المعروف أن الأذان غير الإقامة كما في حديث أنس بن مالك أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة"، ومن ذلك أيضًا أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمؤذن أن يقول في الأذان الأول لصلاة الصبح "الصلاة خير من النوم" بعد حي على الصلاة حي على الفلاح، والمراد بالأذان الأول: الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت؛ ووصفه بالأول؛ لأن هناك أذانًا ثانيًا وهو الإقامة، وهذا متعين لمعنى الحديث، وأما ما ذهب بعض الناس من أن المراد به: الأذان الذي يكون في آخر الليل فهذا من الأوهام التي لا يثبت بها الحكم؛ لأنها لا تقوم على دليل صحيح أو قياس سليم؛ لأن الأذان الذي يكون في آخر الليل ليس للفجر إذ إن الفجر بالإجماع لا يدخل إلا بعد طلوع الفجر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم"، فأذان الفجر إنما يكون بعد طلوع الفجر وإذا كان كذلك فإن الإذان الذي يكون في آخر الليل بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم الغرض منه فقال: "إن بلالًا يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم" فليس أذانًا للصلاة لكنه أذان للاستعداد للسحور، وعلى هذا فمن بدَّع المؤذنين اليوم- أي: نسبهم إلى البدعة- وقال: إن قولهم الصلاة خير من النوم في أذان الفجر بدعة فهو المبتدع؛ لأن تبديع ما دلت السنة على أنه

صواب يكون بدعة؛ لأنه إنكار سنة، فالمتعين أن قول المؤذن: الصلاة خير من النوم إنما هو في الأذان الذي يكون بعد طلوع الفجر ولا شك، لكنه سمِّي أولًا باعتبار الإقامة وأظن في صحيح مسلم أن عائشة ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الأذان الأول قام فصلى ركعتين، يعني: سنة الفجر فوصفت الأذان بأنه الأول، وقد كتبت في هذا جوابًا لبعض الإخوة الذي جاء ترتعد فرائصه يقول كنا وآباؤنا ضالين نعمل بدعة نعلنها على المنابر، فيسر الله عز وجل جوابًا شافيًا أعطيناه إياه في هذه المسألة. ومن فوائده الحديث: أن فراق المتلاعنين فراق بائن؛ لقوله: "كذبت عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره"؛ لأن مراده بالطلاق الثلاث هنا البائن، ولكنه كما علمتهم من قبل قلنا: إن البينونة حصلت باللعان، أما الطلاق الثلاث فلا بينونة فيه؛ لأن ابن عباس روى كما في صحيح مسلم- أن الطلاق الثلاث في عهد النبي وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة فليس فيه بينونة. 1060 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنها: "أنَّ رجلًا جاء إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ امرأتي لا تردُّ يد لامس. قال: غرِّبها. قال: أخاف أن تتبعها نفسي. قال فاستمتع بها". رواه أبو داود والتِّرمذي، والبزًّار، ورجاله ثقلتٌ. - من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ: "قال: طلِّقها. قال: لا أصبر عنها. قال: فأمسكها". "أن رجلًا جاء" من هذا الرجل؟ لا يعنيها اسمه؛ لأن تعيين الاسم ليس بلازم ما لم يتوقف عليه فهم المعنى، وهنا لا يتوقف عليه المعنى، قال: "إن امرأتي لا ترديد لامس"، لامس أي شيء؟ لامس لها جسمها، المعنى: أنها تتهاون في ملامسة الرجال، وليس المراد كما زعمه بعضهم أنها لا ترد يد لامس أي ملتمس للعطاء، فقال الرسول: "غربها أو طلقها"؛ لأن النبي

صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقول للرجل طلق زوجتك لأنها كريمة لا ترد يد ملتمس، بل الظاهر أن المراد لا ترد يد لامس أنها تتساهل في ملامسة الرجال في مصافحتهم مثلًا وما أشبه ذلك، فقال: "غربها" يعني: سافر بها إلى بلد تكون فيه غريبة لتبتعد عن ملامسة الرجال؛ لأن الغريب ليس كالمستوطن، المستوطن يكون منشرحًا متسع الصدر، لكن الغريب ينطوي على نفسه وينقبض ولا يلتفت لمثل هذه الأمور، وقوله: "غربها" قلنا: أي: سافر بها إلى بلد الغربة، لكن لا يلزم من ذلك أن يبقى معها يغربها ويرجع أو يغربها مع أحد أقاربها وما أشبه ذلك، قال: "إني أخاف أن تتبعها نفسي" يعني: أن تتعلق بها نفسي فقال: "فاستمتع بها" يعني: أبقها عندك واستمتع بها كما تستمع بها في العادة، وفي لفظ: "طلقها" أمره بطلاقها لأن ذلك أبعد عن الشبهة- شبهة الولد- أو لأنها- أي: هذه المرأة- لسعتها يخشى من تصرفها الفتنة، قال: "لا أصبر عنها"؛ لأن نفسه متعلقة بها قال: "فأمسكها". المسألة الآن واضحة وهي: أن هذه المرأة ليس عندها شيء من التحفظ التام بل هي متساهلة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها أو أن يغربها، ثم لما رأى أن نفسه لا تصبر عنها أذن له في إمساكها. فإن قال قائل: هل يصح أن نحمل قوله لا ترد يد لامس على كونه كناية عن الجماع؟ فالجواب: أن هذا لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو أذن له وهي على هذه الحال لكان أذن له بالدياثة أن يبقى زوجته وهي تزني وهذا شيء مستحيل. في هذا الحديث فوائد منها: صراحة الصحابة- رضي الله عنهم- في معرفة الحق؛ لقوله: "إن امرأتي لا ترد يد لامس". ومنها: أن ذكر الإنسان بما يكره للاستفتاء ونحوه لا بأس به، ولا يكون من الغيبة؛ وذلك للمصلحة الراجحة التي تربو على ذكره بما يكره، ومثل ذلك: ذكر الإنسان بما يكره في باب النصيحة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فاطمة بنت قيس جاءت تستشيره في ثلاثة من الصحابة خطبوها وهم معاوية وأسامة بن زيد وأبو جهم فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فضراب للنساء" ثم قال: "أنكحي أسامة". ومن فوائد الحديث: أن من النساء وإن كن نساء من السلف الصالح من يتهاون في ملامسة الرجال أو مصافحتهم؛ لقوله: "إن امرأتي لا ترد يد لامس". ومن فوائد الحديث: البناء على يد المدعي في باب الفتوى بخلاف الحكم، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: هات الشهود أو يأتي يطلب المرأة لتقر أو تنكر، ونظير ذلك قول هند بنت

عتبة: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال "خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف"، ولم يقل: أقيمي البينة؛ لأن باب الفتوى أوسع من باب الحكم، فالمفتي يفتي والمسئولية على المستفتي، لكن في باب الحكم تكون المسألة مبنية على المشاحة فلا يجوز للقاضي أن يحكم على غائب، وقد قيل إن داود- عليه الصلاة والسلام- إنما فتن بكونه حكم على الخصم دون أن يسأله؛ لأنه تسوروا عليه المحراب وقالوا خصمان بغى بعضنا على بعض، ثم قال أحد الخصمين: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال: أكفلنيها وعزَّني في الخطاب، قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه دون أن يسأل الخصم الثاني، وهذا نقص في الحكم؛ ولهذا قال الله تعالى: {وظن داود أنَّما فتنه فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب} [ص: 24]. وهذه القصة فيها: أولًا: أن داود احتجب عن الناس في محرابه مع أنه من حكم بين الناس لا بد أن يكون بارزًا لهم ليسهل عليهم مراجعته، وهو لم يفعل. وثانيًا: أنه حكم للخصم دون أن يسأل المحكوم عليه وهذا أيضًا نقص في الحكم، وأما دعوى من يقول: إنه عشق امرأة أحد جنوده وإنه تحيَّل ومكر به وأخرجه مع الغزاة لعله يقتل فيأخذ امرأته فلا شك أن هذا من دسائس اليهود، وأنه لا يليق برجل عاقل فضلًا عن نبي من الأنبياء، ولا يحل لإنسان يعرف فضل الأنبياء أن يتهم داود- عليه الصلاة والسلام- بمثل هذه التهمة أبدًا والقرآن لم يشر إلى هذا إطلاقًا. ومن فوائد الحديث: صراحة الصحابة- رضي الله عنهم- في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لقول الرجل عن زوجته: "إنها لا ترد يد لامس". ومنها: عفة الصحابة وبعدهم عن الخنا؛ لأن هذا الرجل لم يصبر على ما كانت عليه زوجته من التساهل في أيدي اللامسين وإلا لغض الطرف وسكت. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا رأى من أهله مثل ذلك ولم يتمكن من حفظهم فإن الأولى أن يطلق لئلا يكون ديونًا، فإن تمكن من حفظهم وجب عليه ذلك أن يحفظهم؛ لأن طلاقها ليس حلًّا للمشكلة؛ إذ قد يطلقها إلى زوج آخر أو تنفرد عن الأزواج وتكون حالها أسوأ. ومن فوائد الحديث: مراعاة رجحان المفاسد بعضها على بعض، ووجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع مفسدة فراقها وتعلق بها وأنه لا ويصبر وربما يضيع بذلك حقوق لقوة تعلق قلبه بها فأمره بإمساكها. ومن فوائد الحديث: أن الأمر في مقام الإذن لا يدل على الوجوب، بل ولا على الاستحباب لقوله: "فاستمتع بها فأمسكها"؛ لأن المعنى": فلك أن تستمتع بها ولك أن تمسكها،

وهذه قاعدة في أصول الفقه، بمعنى أن الأمر بعد النهي أو الأمر بعد الاستئذان يفيد الإباحة، فإذا استأذنني شخص في الدخول إلى البيت فقلت: ادخل، فليس هذا بأمر وإنما هو إذن وإباحة. ومن فوائد الحديث: أنه قد يسكت عن البيان إلى وقت آخر؛ لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإمساكها ليس يعني أن يمسكها على ما هي عليه قطعًا، فالإمساك هنا مطلق، ولكن لا بد أن يضاف إليه قيد وهو أمسكها مع إصلاحها ومحاولة منعها مما هي عليه. 1061 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية المتلاعنين-: أيُّما امرأةٍ أدخلت على قومٍ من ليس منهم؛ فليست من الله في شيءٍ، ولن يدخلها الله جنَّته، وأيُّما رجلٍ جحد ولده وهو ينظر إليه؛ احتجب الله عنه، وفضحه الله على رءوس الأوَّلين والآخرين". أخرجه أبو داود، والنَّسائيُّ، وابن ماجه، وصحَّحه ابن حبَّان. "أيما امرأة" هذه اسم شرط جازم "أي" و"ما" زائدة، وتزداد "ما" كثيرًا في أسماء الشرط مثل: {أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الأسراء: 110]. وقوله: "أدخلت" هذا فعل الشرط، وقوله: "فليست من الله في شيء" هذا جواب الشرط أي: أن الله تعالى بريء منها وليست منه في أمان أي من عذابه بل هي معرضة للعقوبة، وقوله: "على قوم من ليس منهم" يعني: بحيث يكون من ولد زنا، فإن الزاني إذا زنى بامرأة متزوجة أو غير متزوجة ثم تزوجت في الحال، فإن هذا الولد من الزاني ينسب إلى الزوج فتكون أدخلت على هؤلاء القوم من ليس منهم، "ولم يدخلها الله جنته" فبين أن العقوبة أن الله سبحانه يتبرأ منها، براءة الله منها وحرمانها دخول الجنة وقوله: "جنته" من باب إضافة المخلوق إلى خالقه وليست من باب المسكون للساكن؛ لأن الله تعالى فوق العرض، لكنها من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، كإضافة البيت إلى الله وإضافة الناقة إلى الله، قال: "وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه على رءوس الأولين والآخرين" هذا وعيد ضد الأول رجل جحد ولده وهو ينظر إليه؛ يعني: أنه قد تأكد أنه منه ولكنه يجحده لتهمة حصلت لامرأته، مثلًا أو شك وقع في قلبه فيتبرأ منه فهذا الذي يفعل يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "احتجب الله عنه" يعني: يوم القيامة ولم ينظر إليه، والثاني: "فضحه على رءوس الأولين والآخرين" أي: كشف ستره وبين خطأه وذلك يوم القيامة.

1062 - وعن عمر رضي الله عنه قال: "من أقرَّ بولده طرفة عين؛ فليس له أن ينفيه". أخرجه البيهقي، وهو حسنٌ موقوفٌ. • في هذا الحديث والأثر فوائد: أولًا: إن إدخال المرأة أحدًا على قوم وهو ليس منهم من كبائر الذنوب، وجهه الوعيد؛ لأن كل ذنب توعد عليه فهو كبيرة من الكبائر، ووجه ذلك أن إدخال الولد وليس من القوم على القوم يترتب عليه أمور كبيرة عظيمة منها المحرمية أنه يكون من محارمها، ومنها الإرث والنفقات وتحمل الديات ... إلى غير ذلك مما يترتب على النسب، فيترتب عليه أمور عظيمة لذلك كان إدخال شخص على قوم ليس منهم من كبائر الذنوب. ومن فوائد الحديث: أن من عقوبات الذنوب أن يتبرأ الله من فاعلها؛ لقوله: "فليست من الله في شيء". فإن قلت: هل يصح أن نصف الله بالتبرأ؟ قلنا: نعم يصح في القرآن قال الله تعالى: {براءة من الله ورسوله} [التوبة: 1]. {أن الله بريء من المشركين ورسوله} [التوبة: 3]. ومن فوائد الحديث: إثبات الجنة، وهذا أمر معلوم بالضرورة من الدين، لكن أريد ما يتفرع على ذلك وأنها جنة عظيمة؛ لأن الله أضافها إلى نفسه، ولا يضيف شيئًا إلى نفسه من المخلوقات على وجه الخصوص إلا لمزية هنا أن هذه الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومثلها ناقة الله؛ لأنها آيته، ومنها بيت الله؛ لأنه محل تعظيمه وشعائره، المهم لا بد أن يكون له مزية ولهذا لا يضاف إلى الله على سبيل الخصوص من المخلوقات إلا ما له العظيم حتى إن العلماء نهوا أن يضاف إلى الله شيء على وجه الخصوص من مخلوقاته وهو قبيح، فقالوا: أنه ينهي أن تقول إن الله رب الكلب أو رب الحمار على سبيل الخصوص لأن فيه سوء أدب مع الله لكن قل إن الله رب كل شيء يعم هذا وهذا، لكن لو قلت: إن الله رب الصالحين رب المؤمنين وما أشبهها فهذا لا بأس به. ومن فوائد الحديث: أن تبرؤ الإنسان من ولده من كبائر الذنوب لترتب العقوبة على ذلك. ومن فوائد الحديث: أن ظاهره أن تبرؤ الإنسان من ولده إذا لم يكن عنده يقين أنه منه فإنه لا يترتب عليه هذه العقوبة؛ لأن هذا هو فائدة قوله: "وهو ينظر إليه"، ولكن هل له أن ينفيه لمجرد الاحتمال؟ سيأتي في الحديث القادم. ومن فوائد أثر عمر. لا خيار للمرء يعد أن يستلحق الولد فإنه يثبت أنه ابنه؛ لقوله: "من أقر بولده طرفة عين فليس له أن ينفيه"، وهذا العلة فيه واضحة؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتلاعب

الناس بالأنساب وصار الوالد يقر بالولد وينكره غدًا، فمن أقر بأن هذا ولده ولو طرفة عين فليس له أن ينفيه، لو جاءه وقال له: إن امرأتك زنت وهذا الولد من الزاني فهل له أن ينفيه؛ بعد اعترافه به؟ لا، ليس له، حتى لو فرض أن الشبه للزاني أكثر منه للزوج فإنه لا يمكن أن ينفيه؛ بعد اعترافه به؟ لا، ليس له، حتى لو فرض أن الشبه للزاني أكثر منه للزوج فإنه لا يمكن أن ينفيه؛ لأنه ثبت النسب واستقر، والنسب لا يمكن رفعه بعد استقراره. 1063 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه "أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، إنَّ مرأتي ولدت غلامًا أسود؟ قال: هل لك من إبلٍ؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمرٌ. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنَّي ذلك؟ قال: لعلَّه نزعه عرقٌ. قال: فلعلَّ ابنك هذا نزعه عرقٌ". متَّفقٌ عليه. - وفي روايةٍ لمسلمٍ: "وهو يعرِّض بأن ينفيه" وقال في آخره: "ولم يرخِّص له في الانتفاء منه". وهذا الرجل أعرابي من البادية صاحب إبل جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال الغريب قال: "إن امرأتي ولدت غلامًا أسود" يعني: وأنا أبيض وأمه بيضاء، فمن أين جاءه السواد، هذا محل إشكال، يعني: تشكل على كثير من الناس أن يأتيه أولاد سود وهو وأمه أبيضان، هذا مشكل كما أنه كان شبهه في التخطيط يخالف شبه أبويه لصار ذلك أيضًا محل إشكال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك من إبل؟ " الجملة هذه كلها ليس فيها إلا جار ومجرور، والمعروف أن الجمل لا بد لها من عمدة مبتدأ وخبر فعل وفاعل فعل ونائب فاعل وهنا لا يوجد إلا جار ومجرور في كلمتين هل لك "لك" جار ومجرور "من إبل" جار ومجرور، فكيف نخرج هذا على القاعدة؟ لأن من زائدة والتقدير هل لك إبل و"من" تأتي زائدة بعد النفي والاستفهام كثيرًا، هنا قال: "هل لك من إبل" يعني: هل لك إبل لكن كيف أعرب إبلًا؟ نقول: إنها مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، قال: نعم قال: "فما ألوانها" قال: "حمر قال ... إلخ" الحمر بسكون الميم، والحمر: جمع حمار؛ ولذلك بعض الناس يغلط إذ يقول: خير لك من حمر النعم- بضم الميم- فهل النعم لها حمر؟ فالصواب: حمر النعم بالسكون جمع أحمر وحمراء. قال: "هل فيها من أورق؟ " نقول في هذه الجملة كما قلنا في جملة: "هل لك من إبل؟ " قال: "هل فيها من أورق؟ " و"الأورق" الذي لونه لون الورق؛ أي: الفضة وهو بين البياض والسواد يعني: أشهب قال: نعم، قال: "فأنى ذلك؟ " يعني: من أين جاء هذا الأورق وألوانها

حمر؟ ! قال: "لعله نزعه عرق" "نزعه" يعني: جذبه عرق من آبائه أو أمهاته أو أجداده أو جداته فالأعرابي فاهم هذا أنه ربما يكون عرق سابق ينتزع ويجذب هذا الذي حصل من هذه الناقة الحمراء. قال: "فلعل ابنك هذا نزعه عرق" أي: كان أحدٌ من جداته أو أجداده من قبل أبيه أو أمه أسود فنزعه هذا العرق و"لعل" هنا للتوقع، يعني: كما أنك تتوقع أنه نزعه عرق، أي: الجمل الأورق فكذلك هذا الولد يتوقع أنه نزعه عرق، يقول وفي رواية لمسلم "وهو يعرض بأن ينفيه ... إلخ". في هذا الحديث فوائد منها: أنه لا حرج على الإنسان في الشك إذا وجدت أسبابه، وجه الدلالة: أن هذا الرجل شك في كون الولد منه؛ لأنه يعرض بنفيه لما قال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود هو يريد- أن ينفيه فإذا وجدت قرائن تكون سببًا للشك فلا حرج على الإنسان فيه- أي في هذا الشك- لا يقال: إن هذا من باب الظن نقول: حتى لو قلنا: إنه من باب بالظن فقد قال الله تعالى: {اجتنبوا كثيرًا من الظن}، ولم يقل كل الظن، وقال: {إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12]. ولم يقل كل الظن فالظن المبني على القرائن لا بأس به. ومن فوائد الحديث: أن خلاف اللون من أسباب الشك والتهمة؛ لأن الأصل عدم مخالفة الولد لأبيه وأمه في اللون وكذلك في الأشباه لكن لعله نزعه عرق. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله: "هل لك من إبل؟ " حتى أستدرجه واعترف هو نفسه بأن هذا الولد ربما يكون نزعه عرق. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للمفتي أن يراعي حال المستفتي فمثلًا إذا كان صاحب إبل ذكر له شيئًا يتعلق بالإبل وطبائعها، إذا كان صاحب غنم فكذلك، إذا كان صاحب تجارة فكذلك إذا كان صاحب نسب أو غير ذلك فهو هكذا، ولهذا لما جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسلم إلا أنه قال: اشترط أن يرخص له في الزنا، هذا الرجل الذي يريد أن يسلم قال: أنا أسلم لكن رخص لي في الزنا؛ لأني لا أصبر، قال: هل لك أم؟ هل لك بنت؟ هل لك أخت؟ قال: هل ترضى أن يزني أحد بأمك أو أختك أو بنتك؟ قال: لا قال: كيف ترضى أن تزني بنساء الناس ولا ترضى أن يزني الناس ولا ترضى أن يزني الناس بنسائك؟ ! فتوقف الرجل عرف أنه مخطئ فكون المفتي يضرب الأمثال للشخص بما يناسب حاله هذا يعتبر من البلاغة ومن حسن التعليم. ومن فوائد الحديث: أن الإجابة بـ"نعم" كافية دون إعادة السؤال لقوله: "نعم" واعتبر مجيبًا للرسول صلى الله عليه وسلم وهذه المسألة لها شواهد كثيرة قد تكون الإجابة بـ"نعم" لفظا وقد تكون الإجابة بنعم إشارة، فقول عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم حينما نظر إلى السواك مع عبد الرحمن بن أبي

بكر آخذه لك؟ قال: أشار برأسه نعم والجارية الأنصارية التي عرض عليها من رض رأسها فلان فلان فلان حتى ذكروا يهوديًّا فأشارت برأسها، هذا أيضًا يدل على أن الإجابة بنعم أو ما يقوم مقامها إجابة صريحة. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يزيل الشك باليقين وألا يكون مترددًا في الأمور بل يورد على نفسه، يوجب طرد هذا الشك وجه ذلك: أن هذا الأعرابي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وأجابه بجواب يزيل منه الشبهة وهذا أمر ينبغي للإنسان أن يستعمله في جميع مجريات حياته من أجل أن يطمئن وتستريح نفسه ولا يبقي كأنه في زجاجة يعني: أنه يطرد الشك وأسبابه بما يتبين له ولكن هل معنى ذلك أن الإنسان يبحث أو يعرض؟ هذا حسب ما تقتضيه الحال قد يكون من أسباب إزالة الشك أن تبحث حتى تصل إلى اليقين وقد يكون من أسباب الشك أن تعرض ولا تلتفت إليه ومن الإعراض أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما شكا إليه الصحابة ما يجدون في نفوسهم قال: "إذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته" يعني: يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويعرض ولا يلتفت إليه وبهذا تكون الراحة؛ وإلا فإن الشيطان يريد من بني آدم أن يكونوا دائما على قلق وعلى حزن {إنما النجوى من الشيطن ليحزن الذين ءامنوا وليس بضآرهم شيئًا إلا بإذن الله} [المجادلة: 10]. ومن فوائد الحديث: في رواية مسلم أن الرجل لا يعرض بزنا امرأته وإنما يعرض بانتفاء الولد فقط ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرخص له في الانتفاء منه وبيَّن السبب في ذلك أنه ربما يكون نزعه عرق وليس من رجل أجنبي. ويستفاد من هذا الحديث: أنه يجوز للإنسان أن ينتفي مما ولدت زوجته، ولكن هذا ليس بجائز على الإطلاق بل إنما يجوز إذا رآها تزني وولدت من يمكن كونه من الزاني، وأما إذا رآها تزني وولدت من لا يمكن أن يكون من الزوج فإنه يجب عليه أن ينفي الولد، إذا كان لا يمكن أن يكون من الزوج وذلك بأن تأتي به وزوجها غائب ليس حاضرًا، فإذا أتت به لأكثر من ستة أشهر من غيبة زوجها بل لأكثر من أربع سنين لغيبة زوجها فالولد من الزوج، ولا يحتمل أن يكون من الزاني فهنا لا يجوز أن ينتفي منه، مثل: أن تأتي به لأقل من ستة أشهر من الزنا فهنا فلا يكون من الزاني؛ لأن أقل الحمل ستة أشهر، وهذا الولد ولد لأقل من ستة أشهر من الزنا فلا يكون من الزاني ولا يجوز أن ينتفي منه، والثاني أن يحتمل أن يكون من الزوج ومن الزاني، ففي هذه الحال إن غلب على ظنه أنه من الزاني فله أن يلاعن، ولا

3 - باب العدة والإحداد والاستبراء وغير ذلك

يجب؛ لأن قوة الفراش تغلب على غلبة الظن الذي عنده، الحالة الثالثة ألا يمكن كونه من الزوج لكونه غائبًا لم يتصل بها ويتبين حملها في غيبة الزوج بأن يكون قد استبرأها من قبل ففي هذا الحال يجب أن ينفيه؛ لأنه ليس ولدًا له ولا يجوز أن يكفله مع أولاده، وهو في هذه الحال ليس من الأولاد قطعًا فهذه ثلاثة أقسام أما مجرد اللون واختلاف الشبه فإن ذلك لا يجوز للإنسان أن ينتفي من ولده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعله نزعه عرق. * * * * 3 - باب العدة والإحداد والاستبراء وغير ذلك هذا الباب تضمن أربعة أشياء: العدة، والإحداد، والاستبراء وغير ذلك، العدة: مأخوذة من العدد لأنها تعدُّ إما بالأشهر وإما بالحيض؛ فلذلك سميِّت عدة، بمعنى: معدودة، وهي شرعًا: تربص محدود شرعًا بسبب فرقة نكاح وما ألحق بها أي: بفرقة النكاح، كالذي يحصل بوطء الشبهة فإن وطء الشبهة يوجب العدة والتفريق بين الواطئ والموطوءة، ويلزمها العدة، فقولنا: تربص محدود شرعًا يخرج به ما لا يحد شرعا من التربصات، كالذي يمنع زوجته من أشياء معينة في وقت معين، وكالإيلاء، وقولنا: "بسبب فرقة نكاح" يخرج به التربص المحدود لغير فرقة النكاح، كالتربص بالإحداد على غير الزوج لمدة ثلاثة أيام، وكذلك ما أشبهه، وقولنا: "بسبب فرقة نكاح" خرج به ما ذكرنا وما ألحق به يعني: الوطء بالشبهة، فإن الرجل إذا وطئ امرأة بشبهة لزمها أن تعتد إن حملت منه فيوضع الحمل وإلا فبالأقراء أو بالاستبراء على خلاف في هذا. وأما الإحداد فهو في اللغة: الامتناع، وفي الاصطلاح: امتناع من توفي عنها زوجها من كل ما يدعو إلى جماعها والرغبة فيها من الزينة والطِّيب وما أشبه ذلك. والاستبراء: مأخوذ من البراءة وهو انتظار يعلم به الرحم من الحمل بسبب النكاح أو غيره وقوله: "غير ذلك" أي: مما سيذكره المؤلف في هذا الباب واعلم أن العدة يشترط لها شروط: الشرط الأول: أن يكون عقد النكاح غير باطل فشمل الصحيح والفاسد فإن كان باطلًا فلا عدة فيه والفرق بين الباطل والفاسد هنا أن الباطل ما أجمع العلماء على فساده، والفاسد ما اختلفوا فيه فالأول كنكاح ذوات المحارم مثل أن يتزوج مثل أن يتزوج أخته من الرضاع جاهلًا والثاني كالنكاح بلا ولي فإن العلماء مختلفون فيه، فتجب العدة في كل نكاح غير باطل فشمل الفاسد، تجب فيه العدة هذا شرط يشمل عدة الوفاة وعدة الحياة ويشترط في غير

عدة الوفاة

عدة الوفاة أن يحصل وطء أو خلوة ممن يولد لمثله فالذي يولد لمثله من الذكور من تمَّ له عشر سنوات، ومن الإناث من تمَّ لها تسع سنوات، فلو خلا بمن دون ذلك فلا عدة ولو كان الزوج دون العشر فخلا بالزوجة فلا عدة فصارت الشروط شرطًا واحدًا شاملًا وهو أن يكون عقد النكاح غير باطل. هذا الشرط شامل للعدة من الحياة والوفاة. الشرط الثاني: أن يحصل وطء أو خلوة ممن لم يولد لمثله وهذا الشرط خاصٌ بالمفارقة في الحياة بناء على ذلك، لو تزوج رجل امرأة وهي صغيرة ثم مات عنها فعليها العدة؛ لأنه لا يشترط في عدة الوفاة إلا شرط واحد أن يكون النكاح غير باطل ولو تزوَّج امرأة وطلقها قبل الدخول والخلوة فليس عليها عدة ولو تزوج امرأة دون التسع وخلا بها ثم طلقها فليس عليها عدة؛ لأنها ممن لا يولد لمثله وأهم شيء في العدة هو العلم ببراءة الرحم وهذه لا يمكن أن يشتغل رحمها بشيء؛ لأنه لا يولد لمثلها. فإذا قال قائل: إذا كان النكاح فاسدًا وفارق فيه من يعتقد فساده فهل فيه عدة وهو يعتقد أنه فاسد؟ الجواب: نعم فيه عدة احتياطًا لمن يرى أن النكاح صحيح؛ يعني: فرض أني أرى أن النكاح بلا ولي غير صحيح، فتزوجت امرأة بلا ولي ثم ندمت وطلقتها قبل الدخول فهل عليها عدة؟ عليها عدة كيف يكون عليها عدة كيف يكون عليها عدة وأنا أعتقد أن النكاح غير صحيح احتياطًا لمن يرى أن النكاح صحيح كالحنفية مثلًا؛ لأني لو لم أطلقها لامتنع نكاحها عند من يرى أن العقد صحيح وحينئذٍ مشكل تبقى المرأة هذه لا يتزوجها فلذلك أوجبنا العدة عليها احتياطًا، وإن كان الإنسان يرى أنه فاسد إذا كان أحد من العلماء يرى أنه صحيح أما من يرى أن النكاح المختلف صحيح فالمسألة فيه واضحة أن عليها العدة، سيأتينا- إن شاء الله- أن العدد أقسام عدة الوفاة: 1064 - عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه: "أنَّ سبيعة الأسلميَّة رضي الله عنها نفست بعد وفاة زوجها بليالٍ، فجاءت إلى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فاستأذنته أن تنكح، فأذن لها، فنكحت". رواه البخاريُّ. - وأصله في الصحيحين. هذه عدة الوفاة "سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها" "نفست" أي: وضعت الحمل، "بعد وفاة زوجها بليال" معدودة عشرون ليلة أو نحوها، "فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنته" أي: طلبت منه الإذن أو استفتته؛ وذلك لأن أبا السنابل بن بعكك رآها متجملة للخطاب لما وضعت

الحمل فمر بها قال: ما شأنك كيف تتجملين؟ والله لن تنكحي حتى يمضي عليك أربعة أشهر وعشر فلفت عليها ثيابها، ثم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستفتيه وأخبرت أن أبا السنابل قال لها: كذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو السنابل" يعني: أخطأ، لأن الكذب- في لغة الحجازيين- يطلق على الخطأ، ويطلق على تعمد الخطأ، وأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج، يقول: "فنكحت قبل أن يمضي عليها أربعة أشهر وعشر". فيستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: حرص الصحابة على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وليعلم أن سؤال الصحابة سؤال للعمل لا للنظر، أي: أنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ليعلموا بما قال لا لينظروا ماذا يقول خلافًا، لبعض الناس اليوم، حيث يسألون لينظروا، وتجده يقابل الجواب بفتور! ! أما الصحابة- رضي الله عنهم- فيسألو ليعلموا ولهذا تجدهم يقابلو الجواب بالقوة والعمل والقبول، وفرق كبير بين الحالين. ومن فوائد الحديث: جواز مخاطبة المرأة للرجال لأن أبا السنابل خاطب سبيعة الأسلمية وخاطبته، وهو كذلك، فيجوز للرجل أن يخاطب المرأة، ويجوز للمرأة أن تخاطب الرجل، إلا إذا كان هناك فتنة أو أسباب فتنة؛ ودليل هذا في كتاب الله قال تعالى مخاطبًا أمهات المؤمنين: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الَّذي في قلبه مرضٌ وقلن قولًا معروفًا} [الأحزاب: 32]. فالنهي عن الأخص دليل على جواز الأعم فلما نهين عن الخضوع بالقول دل ذلك على أن مطلق القول جائز وهو كذلك لكن إذا خشيت الفتنة فإنه لا يجوز؛ لأن درء المفاسد واجب فإذا خيف من الفتنة فإنه لا يجوز أن يخاطب الرجل المرأة ولا المرأة الرجل حتى بالسلام. ومن فوائد الحديث: أن الحامل إذا توفي عنها زوجها فقد انتهت عدتها ودليله أن سبيعة نفست بعد وفاة زوجها بليال فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح وهذا دليل على انقضاء العدة وأن قوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النِّكاح حتَّى يبلغ الكتاب أجله} [البقرة: 235]. يعني: تمام العدة بوضع الحمل أو بأربعة أشهر وعشر. ومن فوائد الحديث: أن الحمل أم العدد وأن الحامل أم المعتدات؛ لأن الحمل يقضي على كل عدة وقد اختلف العلماء- رحمهم الله- فيما إذا ولدت المتوفى عنها زوجها قبل أربعة أشهر وعشرٍ، أو تأخر حملها عن أربعة أشهر وعشر، فعن علي بن أبي طالب وابن عباس- رضي الله عنهم- أنها تعتد بأطول الأجلين فإن كانت أربعة أشهر وعشر أطول اعتدت بها وإن كان الحمل أطول اعتدت به فإذا وضعت لثلاثة أشهر، قلنا على هذا القول أتمي أربعة

أشهر وعشرًا وإن مضت أربعة أشهر وعشر ولم تضع قلنا: انتظري حتى تضعي وهذا القول مخالف للسنة؛ لأن حديث سبيعة صريح في أن الحمل يقضي على كل عدة وعلى هذا فنقول تعتد بوضع الحمل سواء وضعت قبل أربعة أشهر وعشر أو بعد أربعة أشهر وعشر تنتظر الحمل، إلى متى تنتظر الحمل؟ إلى أن تضع فلو بقيت سنة لم تضع تنتظر بقيت سنتين أو ثلاثًا أو أربع تنتظر بقيت خمسًا لا تنتظر؛ لأن أكثر مدة الحمل أربع سنوات لكن هذا هو المذهب والصحيح خلاف ذلك أنه ما دام الحمل في بطنها فإنها لا تنتهي عدتها إلا بوضعه لأن الله تعالى قال: {وأولئك الأحمال أجلهنَّ أن يضعن حملهنَّ} [الطلاق: 4]. فما دامت هذه المرأة لم يأتها رجل والحمل في بطنها منذ مات زوجها وهي امرأة أمينة وترقب الحمل، وقد بقي الحمل في بطنها إلى خمس سنوات، نقول: الصواب أنها تبقى حتى تضع الحمل ولو زاد على أربع سنوات، ويمكن أن تصل المدة إلى خمس أو ست أو سبع، وهو إذا وجد سبع سنوات خرج وله أسنان، على كل حال كيف يمكن أن نقول: انقضت عدتها وحملها في بطنها لا يمكن والله يقول: {وأولات الأحمال أجلهنَّ أن يضعن حملهنَّ} وما هو الحمل الذي تنقضي به العدة- كل هذا متفرع على قولنا: إن الحمل هو أم العدات؟ الحمل الذي تنقضي به العدة قالوا: إنه ما يتبين فيه خلق الإنسان فإن كان علقة لم تنقض به العدة وإن كان مضغة غير مخلقة لم تنقض به العدة، لا تنقض العدة إلا بما تبين فيه خلق الإنسان فإن شككنا لم تنقض العدة إذا لم تنقض نرجع إلى الأشهر، أربعة أشهر وعشرة أيام نكمل أربعة أشهر وعشرة أيام، امرأة توفي عنها زوجها ووضعت قبل أن يدفن الزوج انقضت عدتها وإحدادها أيضًا؛ لأن الإحداد تابع للعدة وإذا رجل يرتقب انقضاء العدة فتزوجها ودخل بها قبل أن يدفن زوجها يجوز، في هذه الحال هل تغسل زوجها؛ لأن المرأة يجوز أن تغسل زوجها؟ لا تغسله لأن العدة انقضت. ومن فوائد الحديث: أنه إذا تعارض عامَّان فإنه يؤخذ بما دل الدليل على أن أحد العمومين مقدم على الآخر فإن لم يدل الدليل أخذنا بما يجمع العمومين، يوجد عمومان الآن {والَّذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربَّصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشرًا} [البقرة: 234]. هذا عامٌّ في الحوامل وغير الحوامل {وأولات الأحمال أجلهنَّ أن يضعن حملهنَّ} [الطلاق: 4]. عامة في

عدة الطلاق وفسخ النكاح

المفارقات بالحياة والمفارقات بالموت فبأي العمومين نأخذ؟ نقول إذا لم يوجد دليل على تغليب أحد العمومين أخذنا بما يجمع بينهما كرأي علي وابن عباس؛ لأننا إذا أخذنا بأطول الأجلين فقد أخذنا بالعمومين، أما إذا وجد دليل على أن أحد العمومين أقوى من الآخر فإننا نعمل به وهنا وجد دليل على أن أحد العمومين أقوى من العموم الآخر، ما هو الدليل؟ حديث سبيعة فإنه يدل على أن الحامل إذا وضعت الحمل وإن لم يأت عليها أربعة أشهر وعشر تنقضي عدتها. - وفي لفظٍ: "أنَّها وضعت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلةً". - وفي لفظٍ لمسلم، قال الزُّهريُّ: "ولا أرى بأسًا أن تزوَّج وهي في دمها، غير أنَّه لا يقربها زوجها حتَّى تطهر". ما قاله الزهري صحيح، لأنه لا بأس أن يتزوجها بعد نفاسها ولو كانت في دمها لم تطهر من النفاس؛ لكي لا يقربها حتى تطهر وكذلك الحائض لا بأس أن يتزوجها الإنسان وهي حائض، لكن لا يقربها حتى تطهر، ولكن هل ندخله عليها وهي حائض؟ يعني: لو عقد الإنسان على امرأة بكر حائض فالعقد صحيح، ولكن هل ندخله عليها وهي حائض؟ فيه تفصيل: إذا كان الرجل صاحب دين وعقل فإننا ندخله ولا بأس؛ لأنه يعرف أن هذا حرام، أما إذا كان شابًا يظهر عليه التهاون وقلة الدين فإننا لا ندخله لأنه لا يملك نفسه في هذه الحال نقول انتظر حتى تطهر. عدة الطلاق وفسخ النكاح: 1065 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرت بريرة أن تعتدَّ بثلاث حيضٍ". رواه ابن ماجه، ورواته ثقاتٌ، لكنَّه معلولٌ. "بريرة" هي أمة لناس من الأنصار كاتبها أهلها على تسع أواقٍ من الفضة فجاءت تستعين بعائشة رضي الله عنها فقالت عائشة: "إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي ففعلت، فذهبت إلى أهلها فقالت لهم ذلك فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم" يعني: أن المعتق عائشة والولاء لغيرها فجاءت بريرة وأخبرت عائشة بأنهم أبوا إلا أن يكون لهم الولاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "خذيها

واشترطي لهم الولاء فأخذتها واشترطت لهم الولاء" فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا في الناس وقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق"، فأبطل الشرط وأخذتها عائشة وأعتقها، وكان لها زوج يسمَّى مغيثًا فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين أن تبقى معه أو أن تفسخ النكاح فاختارت فسخ النكاح وكانت تبغض زوجها وهو يحبها حبًّا شديدًا ويمشي وراءها في أسواق المدينة يطلب منها ألا تفسخ ولكنها تأبى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا تعجبون من حب مغبث لبريرة وبغض بريرة لمغيث؟ " يقولون: بلى، لأن العادة أن الحب متبادل والبغض متبادل، لكن هذا خلاف العادة، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم على بريرة أن تبقى بعد أن بين لها الحكم الشرعي فقالت: يا رسول الله، إن كنت تأمرني فسمعًا وطاعةً وإن كنت تشير علي فلا رغبة لي فيه، تقدم ما يحبه الله ورسوله على ما تحبه فسخ النكاح، هذا الفسخ هل يوجب عدة الطلاق؟ في هذا خلاف بين العلماء بناء على هذا الحديث، فمن صحح هذا الحديث قال: إنه يجب أن تعتد بثلاث حيض؛ لأن هذا فراق من حياة فوجب أن تعتد به ثلاث حيض كالفراق في الطلاق، وقال آخرون: لا يجب أن تعتد بثلاث حيض؛ لأن هذا فسخ لا رجعة فيه، والقرآن يدل على أن الاعتداد بثلاث حيض لمن يمكن رجعتها؛ لقوله تعالى: {والمطلَّقات يتربَّصن بأنفسهنَّ ثلاثة قروءٍ ولا يحلُّ لهنَّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنَّ إن كنَّ يؤمن بالله واليوم الأخر وبعولتهنَّ أحقُّ بردهن ... } [البقرة: 228]. ومعلوم أن المفسوخة لا حق لبعلها في الرجوع إليها وعلى هذا فيكون عدتها استبراء بحيضة واحدة، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن جميع الفسوخ ليس لها إلا حيضة واحدة استبراء، ولكن هذا الحديث له طرق تشهد بصحته، وإذا اجتمعت الطرق ترقى الحديث وإن كان ضعيفًا إلى الحسن، ووجب العمل به ويكون مقدمًا على القياس، ويجاب عن الآية: بأن عود الحكم إلى بعض أفراد العموم لا يقتضي التخصيص بدليل حديث جابر قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، فإننا لو نظرنا إلى أول الحديث لوجدناه عامًّا في كل مشترك، وإذا نظرنا إلى آخره رأينا أنه خاصٌّ بالأرض، إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، ومن ثمَّ اختلف العلماء هل تجب الشفعة في غير الأرض أو لا تجب إلا في الأرض؟ فمنهم من يرى العموم ومنهم يرى الخصوص وفي هذه الحال إذا وجد دليل يرجح هذا القول وجب الأخذ به وعليه فنقول إذا صح هذا الحديث حديث عائشة وجب العمل به، وإلا فالقياس لا يعمل به.

حكم السكنى والنفقة للمطلقة البائنة وعدتها

من فوائد الحديث: وجوب الاعتداد بثلاث حيض على من فسخ نكاحها لكونها عتقت تحت زوج عبد هذا إن صح الحديث. ومن فوائده: جواز حبس الفاعل للعلم به لقولها: "أمرت بريرة"، والآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائده: أن المباشر للقصة يكون أعلم بها من غيره، فإن عائشة رضي الله عنها مباشرة للقصة، لأنها اشترت بريرة وأعتقتها. حكم السكنى والنفقة للمطلقة البائنة وعدتها: 1066 - وعن الشَّعبيِّ، عن فاطمة بنت قيسٍ رضي الله عنها، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في المطلَّقة ثلاثًا: "ليس لها سكنى ولا نفقةٌ". رواه مسلم المطلقة إما أن تكون مطلقة بواحدة أو اثنتين، فهذا لها نفقة ولها سكنى، يعني: يجب على الزوج أن ينفق عليها وأن يسكنها، بل يجب أن تبقى في بيت زوجها؛ لقول الله تعالى: {لا تخرجوهنَّ من بيوتهنَّ ولا يخرجن إلَّا أن يأتين بفاحشةٍ مُّبينةٍ وتلك حدود الله ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق: 1]. فيجب عليه أن تبقى في البيت نأكل مما يأكل زوجها وتسكن مما يسكن فيه، وإما أن تكون مطلقة آخر ثلاث تطليقات فهذه تبين من زوجها وتحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيره، ولا يحل لها الكشف له، ولا أن يخلو بها في العدة؛ لأنها صارت بائنة منه بينونة كبرى لا تحل له إلا بعد الزواج، وعلى هذا فليس لها نفقة وليس لها كسوة، كما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها ليست في حكم الزوجة، بل هي بائن منه، هكذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم: وقوله: "في المطلقة ثلاثًا" قد يفهم منه بعض الناس أن فاطمة بنت قيس طلِّقت ثلاثًا في مجلس واحد وليس كذلك، وقد جاء التصريح في صحيح مسلم أنها طلِّقت آخر ثلاث تطليقات، يعني: أن زوجها طلقها ثم راجعها ثم طلقها ثم راجعها ثم طلقها ثالثًا، وكان في اليمن وأمر وكيله أن يأتيها بشيء من شعير حين طلقها متاعًا لها، فجاء به إليها فسخطته وقالت: لا أريده، يعني: كأنها تريد نفقة أحسن من هذا، فقال: ليس لك إلا ذلك، يعني: أنه وكيل ولم يوكل إلا بإعطاء الشعير، فرفع شأنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: "ليس لك نفقة ولا سكنى"، وعلى هذا فيكون الشعير الذي أمر وكيله أن يأتيها إياه يكون على سبيل التبرع والصدقة وليس على سبيل الوجوب هكذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعض العلماء: إن المطلقة ثلاثًا تجب لها النفقة والسكنى؛ لأنها محبوسة من أجل حق زوجها فهي كالرجعية ولهذا لا يجوز أن تتزوج ما

دامت في العدة فإذا كانت محبوسة بحق زوجها وجب لها النفقة والسكنى؛ والنفقة هي الطعام والشراب، والكسوة ولكن هذا القول قياس في مقابلة النص فيكون فاسد الاعتبار لا عبرة به. القول الثالث: أن لها السكنى دون النفقة؛ لأنها محبوسة لحق زوجها فوجب عليه أن يسكنها وأما النفقة فلا لأنه لا يملك الرجوع إليها والصحيح القول الأول: أنه ليس لها نفقة ولا سكنى إلا إذا كانت حاملًا فلها النفقة لعموم قوله تعالى: {وإن كنَّ أولات حملٍ فأنفقوا عليهنَّ حتَّى يضعن حملهنَّ} [الطلاق: 6]. فإذا كانت حاملًا فإنه ينفق عليها لكن النفقة لها أو للحمل؟ لها من أجل الحمل لا من أجل العدة فتبين الآن أن المطلقات ثلاثة أقسام: قسم حامل فهذه لها النفقة والسكنى بكل حال، وقسم غير حامل لكنها رجعية فهذه كذلك لها النفقة والسكنى، وقسم ثالث حائل بائن فهذه ليس لها نفقة ولا سكنى، لأنها بانت من زوجها، وهل مثل ذلك المفسوخة؟ الجواب: نعم؛ لأن الفسخ لا رجعة فيه للفاسخ، وإنما المراجعة في الطلاق، وعلى هذا فالمفسوخة ليس لهها نفقة ولا كسوة ولا شراب ولا طعام ولا سكنى ما لم تكن حاملًا. من فوائد الحديث: ما ساقه المؤلف من أجله وهو أن المعتدة البائنة بالثلاث ليس لها نفقة ولا سكنى. ومن فوائده: جواز الطلاق ثلاثًا؛ يعني: يجوز أن تطلق آخر ثلاث تطليقات التي بها البينونة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ ذلك، وقد دل عليه القرآن، قال الله تعالى: {الطَّلاق مرَّتان ... } ثم قال: {فإن طلَّقها فلا تحلُّ له من بعد حتَّى تنكح زوجًا غيره} [البقرة: 230]. النهي عن الإحداد على الميت فوق ثلاث إلا الزوج: 1067 - وعن أمِّ عطيَّة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحدُّ امرأةٌ على ميِّتٍ فوق ثلاثٍ إلا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمسَّ طيبًا، إلَّا إذا طهرت نبذةً من قسطٍ أو أظفارٍ". متَّفقٌ عليه، وهذا لفظ مسلمٍ، ولأبي داود، والنَّسائيِّ من الزِّيادة: "ولا تختضب"، وللنَّسائيِّ: "ولا تمتشط". "لا تحدُّ" بالضم ويجوز الجزم، والفرق بينهما: أن الجزم على تقدير "لا" ناهية، لكنه حرك بالفتح لالتقاء الساكنين، وأما الضم فعلى أنها نافية، فأما على كونها ناهية فالأمر ظاهر، وأما على كونها نافية فالجملة خبرية لكنها بمعنى الطلبية؛ أي: أنها خبر بمعنى النهي، ودائمًا يأتي الخبر بمعنى النهي أو بمعنى الأمر، فمن الثاني قوله تعالى: {والمطلَّقات يتربَّصن بأنفسهن {

فالجملة خبرية لكنها بمعنى الأمر وكذلك: {والَّذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربَّصن بأنفسهنَّ أربعة أشهرٍ وعشرًا {. قال أهل العلم: وفائدة إتيان الخبر في مكان الطلب الإشارة إلى تأكده، وكأنه أمر ثابت يخبر عنه، والعكس يأتي أحيانًا، أي: يأتي الطلب والمراد به الخبر، مثل قوله تعالى: {وقال الَّذين كفروا للَّذين ءامنوا اتَّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت: 12]. فاللام هنا للأمر لكنه بمعنى الخبر يعني وحن نحمل خطاياكم لكنهم أتوا به بضيغة الأمر من شدة التزامهم به كأنهم يقولون: ونحن نلزم أنفسنا بذلك، وقوله: "امرأة" نكرة في سياق النهي أو النفي فتكون للعموم، أيُّ امرأة سواء كانت أمَّا أم بنتًا أم أختًا أم عمة أم هالة، قوله: "على ميت فوق ثلاث" أي: ثلاث ليال، وإنما جاء الحديث بلفظ ثلاث دون ثلاثة كأنه- والله أعلم- موافقة للآية {والَّذين يتوفَّون منكم ويذرون أزواجًا يتربَّصن بأنفسهنَّ أربعة أشهرٍ وعشرًا} أي: عشر ليال، وهنا "فوق ثلاث" أي: ثلاث ليال، "إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" يعني: إلا تحد على زوج أربعة أشهر وعشرًا؛ أي: عشر ليال. وقوله: "أربعة أشهر" المراد بها: الهلالية لأنها هي الأشهر الشرعية الكونية أما كونها شرعية فلقوله تعالى: {شهر رمضان الَّذي أنزل فيه القرءان} [البقرة: 185]. وقد أجمع المسلمون على أن شهر رمضان هنا ما بين الهلالين لا ثلاثين يومًا وأما الكونية فقوله تعالى: {يسئلونك عن الأهلَّة قل هي مواقيت للنَّاس} [البقة: 189]. للناس عمومًا وقوله تعالى: {إنَّ عدَّة الشُّهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ} [التوبة: 36]. وهذا توقيت لجميع الخلق والتوقيت الذي يعمل به الكفار اليوم وتبعهم عليه المستعمرون من المسلمون توقيت لا أصل له؛ ولهذا لم يعرف هذا التاريخ في كتب المسلمين إلا بعد أن تولى المستعمرون على بلادهم، صحيح أنهم يعرفون هذا عن العجم، وربما يشيرون إليه في بعض الكتب، لكن كونه هو تاريخ البلاد الذي تتحدد فيه الآجال وغيرها هذا غير معروف عند المسلمين، ولكن على القاعدة المعروفة أن الضعيف يقلد القوي، صار الناس الآن يقلدون الأقوياء وإن كانوا على باطل إلا من عصم الله، قال: "ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب" الثياب المصبوغة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثياب الزينة فلهذا نهى أن تلبس ثوبًا مصبوغًا فليبقى على ما هو عليه على ما نسج عليه إن كان من صوف أسود فهو أسود، وإن كان من وبر أحمر فهو أحمر، على ما هو عليه. يقول "إلا ثوب عصب" وهذا ثياب معروفة عندهم تكون خيوطها من الأصل مصبوغة،

حكم التطيب والحناء في الحداد

يعني: لا يرد عليها الصبغ بل الخيوط مصبوغة من الأصل وهذه الثياب كأنها- والله أعلم- ثياب بذلة لا ثياب زينة فلهذا استثناها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولا تكتحل" والكحل يكون في العين وظاهر النهي لا تكتحل لا في الليل ولا في النهار ولا للزينة ولا للدواء لا تكتحل، وقوله: "ولا تمس طيبًا" أي: لا تمسه استعمالًا: لا تستعمله سواء مسته أو عن طريق الميل جعلته في ثيابها مثلًا المهم ألا تستعمله؛ لأن كلمة "طيبًا" تعم كل طيب، لكن النهي عن مسه يتناول كل شيء "إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار"، والقسط نوع من الطيب قيل: إنه البخور تتبخر به إذا طهرت، وقوله: "نبذة" وهي الشيء القليل، وذلك لحاجتها الماسة إلى استعمال هذا الطيب، فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الحاجة والضرورة؛ ولأنه يزول لأنه دخان يتبخر. ولأبي داود والنسائي من الزيادة: "ولا تختصب" أي: تنقش يديها أو رجليها بالخضاب حنة أو غيرها، وللنسائي "ولا تمتشط" أي: ترجل شعرها بالمشط، لماذا؟ لأن هذا كله من التجمل. حكم التطيب والحناء في الحداد: 1068 - وعن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: "جعلت على عيني صبرًا، بعد أن توفِّي أبو سلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّه يشب الوجه، فلا تجعليه إلا باللَّيل، وانزعيه بالنَّهار، ولا تمتشطي بالطِّيب ولا بالحنَّاء، فإنَّه خضابٌ. قلت: بأيِّ شيءٍ أمتشط؟ قال: بالسِّدر". رواه أبو داود، والنَّسائيُّ، وإسناده حسنٌ. أبو سلمة رضي الله عنه كان ابن عم أم سلمة وكانت تحبه ويحبها ولما توفي كانت قد سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة فقال: "اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها" أن الله يأجره على مصيبته ويخلف له خيرًا منها، فقالت ذلك عند موت أبي سلمة ولكنها تقول في نفسها: من خير من أبي سلمة؟ ! ليست تنكر أنها تجد خيرًا لا، لأنها موقنة لكنها تفكر من سيكون خيرًا من أبي سلمة، وما انقضت عدتها حتى خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فكان خيرًا من أبي سلمة، ثم إن أبي سلمة رضي الله عنه دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقد شخص بصره أي: قد توفي وانفتح فأغمضه وقال: "اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأفسخ له في قبره، ونوِّر له فيه، واخلفه في عقبه"، خمس دعوات تزن الدنيا كلها، فلما كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ضج ناس من أهله وعرفوا أنه مات، وجدنا من هذه الخمس شيئًا وقع وهو أن الله خلفه في عقبه حيث جعل عقبه يتربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم والبقية إلى الله لكن نرجو أن الله أجابها- سبحانه وتعالى- تقول

حكم الكحل في الحداد

رضي الله عنها: جعلت على عيني صبرًا بعد أن توفي أبو سلمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه يشب الوجه" يعني: يحسنه ويضيؤه، وأصله من شبت النار إذا لمعت وأضاء لهبها، قال: "فلا تجعليه إلا بالليل وانزعيه بالنهار" الباء هنا بمعنى "في" فهي للظرفية والباء تأتي للظرفية كثيرًا كما في قوله تعالى: {وإنَّكم لتمرون عليهم مُّصبحين (137) وبالَّليل} [الصافات: 137، 138]. أي: وفي الليل، "ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب" يعني: لا تمتشطي بالشيء المطيب أو بالطيب نفسه كالورس؛ لأن النساء يتمشطن بالورس يكتسب الرأس من الورس لونًا ورائحة ولا بالحنَّاء؛ لأن يجمل الرأس، فإنه خضاب، "قلت: بأي شيء أمتشط؟ قال: بالسدر". حكم الكحل في الحداد: 1069 - وعنها رضي الله عنها: "أنَّ امرأةً قالت: يا رسول الله، إنَّ ابنتي مات عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفتكحلها؟ قال: لا". متَّفقٌ عليه. وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكحل فهذه الأحاديث الثلاثة تدل على حكم الإحداد وعلى ما يتجنب في الإحداد فلنبدأ أولًا بحديث أم عطية: ففيه دليل على فوائد: أولًا: تحريم الإحداد فوق ثلاثة أيام على المرأة إلَّا على الزوج فلا تحد على أبيها ولا على أمها ولا على أخيها ولا على أحد من أقاربها أكثر من ثلاثة أيام وهل يلحق بالزوجة وهي أنثى الرجال؟ الجواب: نعم، يلحق بها الرجال، فيجوز للرجل وللمرأة أن تحد على غير الزوج ثلاثة أيام والحكمة من ذلك أن هذا من تيسير الشريعة؛ لأن الإنسان ربما يتألم من المصيبة ألمًا كبيرًا لا ينشرح صدره للزينة والرفاهية يعزب أن يملك نفسه للتزين والتطيب والتجمل فرخص له الشرع بثلاثة أيام لإعطاء النفس حظها وهذا من باب التربية النفسية؛ لأنك إذا أعطيت النفس حظها فهو خير من كتمها إذ إنها إذا كتمت ربما تنفجر؛ ولهذا يحسن بنا إذا رأينا الصبي يبكي أن ندعه يبكي؛ لأنه إذا بكى طابت نفسه، وذهب ما في صدره لكن إذا منعته وزجرته وسكت على إغماص، فإن ذلك يبقى في صدره ضيقًا، إذن يجوز الإحداد في ثلاثة أيام فأقل على كل ميت وهل يجوز أن يتكرر هذا الإحداد؟ لا يجوز؛ لأنه لو تكرر وصار كلما مر أسبوع أو أربعون يومًا أو غيرها أعدناه صار الإحداد فوق ثلاثة أيام. فإذا قال قائل: ما نوع هذا الإحداد الجائز؟ هل معناه تنكيس الإعلام وما أشبه ذلك مما يفعله بعض الناس؟ الجواب: لا، وإنما الإحداد يتعلق بنفس الشخص، يعني: لا يلبس الثياب الجميلة لا يتطيب، لا يخرج للنزهة وما أشبه ذلك، أما أن يكون ذلك شيئًا يعمل منفصلًا عن الرجل فهذا يشبه أن يكون من باب التسخط على قضاء الله.

ومن فوائد الحديث: تيسير الشرع بإعطاء النفوس حظها في أمر الأصل فيه التحريم مثل جواز الإحداد ثلاثة أيام فأقل، ومن ذلك أنه أعطى النفوس حظها من اللهو في أيام العرس وأيام الأعياد وقدوم الغائب الكبير؛ لأن النفوس تحتاج إلى سعة لو أبقيتها دائمًا بجد تعبت، فرخص لها في المناسبات التي تدعو الحاجة إلى الانطلاق بعض الشيء. ومن فوائد الحديث: اعتبار الثلاث أي العدد الثلاث وهذا معتبر كثير في عدة أمور حتى في الأحاديث تجد مثلًا أحاديث كثيرة ثلاثة لهم كذا وكذا، ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن، المهم أنه كثير اعتبار الثلاث وهل هو أكثر من اعتبار السبع؟ نعم، وهل هو أكثر من اعتبار الخمس؟ نعم، لكن في شك مع اعتبار السبع مع الثلاث أيهما أكثر. ومن فوائد الحديث: وجوب الإحداد مدة عدة الوفاة لقوله: "إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" فإن قال قائل: نحن ننازع في هذه الفائدة من وجهين: أولًا: قولنا: وجوب الإحداد مع أن الاستثناء من شيء محرم فيقتضي أن يكون هذا الاستثناء للإباحة. ثانيًا: أنه من قال أن المراد: "على زوج فارقها بالموت" ألا يشمل من فارقها في الحياة. فالجواب: أما عن الأول فإنا نقول بوجوب الإحداد من وجهين: الوجه الأول: أن نهيه عن الإحداد أكثر من ثلاث يدل على أن الأصل التحريم والغالب أن المحرم لا يباح إلا بما هو أقوى منه وهو الواجب، وهذا وجه فيه ضعف. الثاني: أن نقول: إن آخر الحديث يدل على أن الإحداد على سبيل الوجوب لأنه قال: "لا تلبس ثوبًا مصبوغًا ولا ... ولا تكتحل، ولا تمس طيبًا ... " فذكر مناهي، فدل هذا على أن الإحداد واجب، وأما الثاني- وهو أنه ما الذي أعلمنا أن المراد عدة الوفاة دون عدة الفراق في الحياة- فالجواب تحديدها بأربعة أشهر وعشر، وليس هناك شيء يحدد بأربعة أشهر وعشر من العدد إلا عدة الوفاة فتعين الآن أن المراد بقوله: "على زوج" يعني: إذا مات بأنها تحد بأربعة أشهر وعشر. فإن قال قائل: هل يستثنى من ذلك الحامل؟ قلنا: نعم يستثنى من ذلك الحامل؛ لأنها لا تحد إلا على قدر العدة وعدة الحامل؛ سبق أنها وضع الحمل، وعلى هذا إذا وضعت لشهر واحد صار إحدادها شهرًا واحدًا وإن وضعت لعشرة أشهر صار إحدادها عشرة أشهر، المهم أنه يستثنى من قولها: "أربعة أشهر وعشرًا"، الحامل فإحدادها إلى انتهاء عدتها. ومن فوائد الحديث: بيان عظم حق الزوج على زوجته وذلك لإيجاب الإحداد عليه بعد وفاته، حتى لا يطمع أحد في خطبتها فينتهك حرمة الزوج؛ ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة تحريمًا مؤبدًا لأن حق الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من كل حق سوى حق الله- سبحانه وتعالى-.

ومن فوائد الحديث: أنه يحرم على المحادة أن تلبس ثياب زينة، لقوله: "ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، ويلحق بثياب الزينة ما يتزين به من الحلي فيحرم عليها لباس الحلي في يديها أو رجليها أو أذنيها أو أنفها أو رأسها أو صدرها أو رقبتها أو في أي مكان يحرم عليها أن تتحلى، فإن قال قائل: إذا مات وعليها حلي فماذا تصنع؟ يجب أن تخلعه وجوبًا ولا يحل لها إبقاؤه، فإذا كان لا يخرج إلا بقطعه نقول يقطع الحلي؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومن فوائد الحديث: أن المرأة لا تكتحل حتى وإن أوجعتها عينها. قال ابن حزم: لا تكتحل ولو عميت. فإن قال قائل: ما الجمع بين هذا وبين حديث أم سلمة حيث أباح لها الصير؟ نقول: الكحل يعطي العين جمالًا بالسواد والصبر لا يعطيها؛ إذن لا يجوز أن تكتحل بما يبدو لونه سواء كان بالكحل المعروف أو بالكحل ألحديث الذي يسمَّى القلم أو غير ذلك، ومثل الكحل تزيين الوجه بالمكياج أو بالتحمير، ومثل ذلك أيضًا تجميل العين بعيون القطط أو غيرها؛ لأن النساء بدأن الآن يتجملن بهذا، بعض النساء تختار أن تكون عينها خضراء، وبعضها تختار أن تكون عينها حمراء وما أشبه ذلك، يمكن أن يهرب منها زوجها أو أي واحد من اقاربها فيما أظن، والعلم عند الله، إذن يقاس على الكحل التزيين، كل ما فيه تزيين من تحمير الوجه أو الشفتين أو العينين أو غير ذلك، قال: "ولا تمس طيبًا .... إلخ". ومن فوائد الحديث: تحريم التطيب على المرأة المحادة بأي نوع من الطيب، لعموم قوله: "طيبًا" فهو نكرة في سياق النهي فيفيد العموم، هناك شيء يشكل علينا هل هو من الطيب كبعض الصابون فهل يلحق بالطيب؟ إذا كان له رائحة طيب فإنه يلحق، أما إذا كان مجرد نكهة طيبة فهذه لا تضر؛ لأن هذه تشبه النعناع والتفاح وغيرها من ذوات الرائحة الطيبة. ومن فوائد الحديث: جواز استعمال النبذة وهي الشيء القليل من القسط والأظفار للحاجة لقوله: "إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار"، وقد عرفتم أن القسط والأظفار نوع من الطيب، قيل: إنه البخور. ومن فوائد الحديث: تحريم الخضاب على المرأة المحادة؛ لقوله: "ولا تختضب"، وتحريم الامتشاط بالطيب أو الحناء أما الطيب فلأنه استعمال طيب وأما الحناء فلأنها خضاب. ومن فوائد الحديث: جواز استعمال الصبر للحاجة، لكن في الليل لا في النهار والفرق بينهما أن الليل محل اختفاء لا ينظر إليه الناس بخلاف النهار. ومن فوائد الحديث: جواز امتشاط المرأة المحادة بالسدر؛ لحديث أم سلمة، ومثل ذلك

هذه الأدهان الجديدة تسمَّى الشامبو ما أعرفها أنا، هذه الأدهان التي ليس فيها طيب مثل الامتشاط بالسدر. ومن فوائد الحديث الثالث: أنه لا يجوز كحل عين المحادة ولو كانت موجعة؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منع من ذلك. فإن قال قائل: هذا على خلاف ما نعهد في الشريعة. قلنا: لا ليس على خلاف ما تعهد الشريعة، بل هو على وفاق ما تعهد في الشريعة؛ لأن الشريعة تحرم التداوي بالمحرم ولا ضرورة إليه في الواقع لوجهين: الوجه الأول: أننا لا نتيقن زوال الضرورة به إذ قد يتداوى الإنسان ولا يبرأ، والثاني: أن الضرورة قد تزول بدونه قد يبرأ الإنسان من الله بدون أي سبب وقد يبرأ بسبب آخر مباح وعلى هذا فيكون ظاهر الحديث موافقًا لقاعدة الشريعة لا مخالفًا لها. فإن قال قائل: أليس يجوز للمضطر أن يأكل الخنزير؟ قلنا: بلى، لكنه إذا أكل لحم الخنزير اندفعت ضرورته يبقى حيًّا ولهذا أباح الله لمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم أن يأكل لحم الخنزير. ومن فوائد حديث أم سلمة: جواز الاكتحال بالصبر عند الحاجة ويزال بالنهار لقوله: "إنه يشب الوجه .... إلخ". ومن فوائده أيضًا: أن من عادة النساء الامتشاط بالطيب لقوله: "لا تمتشطي بالطيب" لأنه لا ينهى عن شيء لا يكون معروفًا معهودًا؛ ومن ثمَّ استدللنا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتقب المراة"، يعني: إذا أحرمت على أن النساء كان من عادتهن لباس القفازين والنقاب؛ لأنه قال: "لا تنتقب ولا تبس القفازين" هنا أيضًا مثله. ومن فوائده أيضًا: أن من عادة النساء الامتشاط بالحناء؛ لأنه يزيل بياض الشيب العجوز ويحمر سواد الشعر بالنسبة للشابة فهن يستعملهن لأجل لونه. ومن فوائد الحديث: تحريم الخضاب على المرأة المحادة سواء باليد أو بالرِّجل، لقوله: "فإنه خضاب" فعلَّل التحريم بكونه خضابًا فيستفاد منه تحريم الخضاب؛ وعلى قياس تحمير الشفاه ومكيجة الخدين. ومن فوائد الحديث: جواز الامتشاط بالسدر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حين سألته بأي شيء تمتشط؟ قال: "بالسدر". ومن فوائده: جواز غسل المحادة رأسها؛ لأنه إذا جاز الامتشاط فجواز غسله من باب أولى.

حكم خروج المعتدة المطلقة

ويؤخذ منه أيضًا: جواز اغتسالها للتبرد والنظافة قياسًا على جواز السدر؛ لأن السدر فيه نوع من الترفه والتجمل لكنه، ليس كالامتشاط بالطيب والحناء. ومن فوائد حديث أم سلمة الثاني: تحريم التداوي بالمحرم لقوله: "لا" حين استأذنته أن تكتحل مع أنها موجعة وقد صرح بذلك أهل العلم، وقالوا: إن التداوي بالمحرم حرام. فإن قال قائل: إذا اضطر الإنسان إلى الدواء فلماذا لا تجيزونه لقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام: 119]؟ فالجواب: أن المحرم يجوز دفع الضرورة به لأنه تندفع به فيستفيد منه أما الدواء المحرم فلا فائدة منه وذلك لأن الله لو علم فيه فائدة ما حرمه على العباد ولا أباحة لهم، ثانيًا أنه لا ضرورة إليه في الواقع؛ لأن الشفاء قد يحصل بغيره بدواء آخر مباح، وقد يحصل بفضل الله ومنته عز وجل وكم من أناس صار عندهم من قوة التوكل ما جعلهم يشفون به، فتبين أنه لا يصح لوجهين: الأول: أن الضرورة لا تندفع به. والوجه الثاني: أنها قد تندفع بغيره بخلاف أكل الميتة للمضطر فإن الضرورة لا تندفع إلا به لا يوجد غيره وتندفع به إذا أكل سليم من الموت، ومن ثم أجاز العلماء- رحمهم الله- لمن غصَّى بلقمة أن يشرب عليها خمرًا يدفع اللقمة به؛ لأنه هنا استفاد. حكم خروج المعتدة المطلقة: 1070 - وعن جابر رضي الله عنه قال: "طلِّقت خالتي، فأرادت أن تجدَّ نخلها، فزجرها رجلٌ أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بل جذِّي نخلك، فإنَّك عسى أن تصدَّقي، أو تفعلي معروفًا". رواه مسلم. هذا بالنسبة لخروج المعتدة، المطلقة قال الله تعالى فيها: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق: 1]. فنهى الله- سبحانه وتعالى- أن نخرجهن ونهاهن أن يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، قال العلماء: الفاحشة المبينة مثل بذاءة اللسان وما أشبه ذلك، وعلى هذا فنقول: المطلقة لا تخرج من بيتها، ولكنها ليست كالمحادة لا تخرج أبدًا بل هي تخرج وترجع إلى بيتها، لأنها إذا

حكم خروج المعتدة بعد وفاة زوجها من بيتها

كانت رجعية في حكم الزوجات يدخلان ويخرجن، لكنهن في بيوت أزواجهن فكذلك المعتدة من طلاق رجعي تبقى في بيت زوجها، لكنها تخرج كما تخرج الزوجة وترجع كما ترجع الزوجة وتتزين وتتجمل وتتطيب حكمها حكم الزوجة، لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة: 228]. إذن نقول المطلقة تخرج وتدخل ولا حرج عليها في ذلك لكن تبقى سكناها في بيت زوجها وليس عليها إحداد، يعني: لا يلزمها أن تتجنب الطيب أو أن تتجنب الزينة أو الحلي، بل ربما تؤمر بهذا لعل زوجها يرجع إليها ودليله هذا الحديث أنها أرادت أن تخرج فزجرها رجل أن تخرج لعله ظنًّا منه أن قوله تعالى: {لا تخرجوهن} {ولا يخرجن} يعني: أنها لا تخرج مطلقًا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلى يعني: تخرج وتجد نخلها وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم المصلحة من ذلك وهي أن تتصدق على الفقراء أو تفعل معروفًا بالنسبة للأغنياء. يستفاد من هذا الحديث فوائد: أولًا: أنه من المعروف عن الصحابة- رضي الله عنهم- أن المرأة المطلقة لا تخرج من بيتها لأن الرجل زجرها أن تخرج. ومن فوائده: أنه قد يخفى على بعض الصحابة ما يخفى من أحكام الله فإن هذا الرجل خفي عليه خروج هذه المرأة لجذ نخلها ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أن ذلك لا بأس به. ومن فوائد الحديث: جواز مباشرة المرأة لجذ نخلها إن كان المراد بقوله: "جذي نخلك" يعني: أن تباشر ذلك بنفسها، وإن كان المراد: أن تحضر عند من يجذه- وهو محتمل في الحديث- فهو دليل على أن المرأة لها أن تخرج لتنظر وتراقب من يتولى الأعمال عنها. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أنه ينبغي عند جذ النخل بأن يفعل الإنسان معروفًا أو يتصدق، لقوله: "أن تصدقي أو تفعلي معروفًا". ومن فوائد الحديث: الفرق بين الصدقة وفعل المعروف، إن الصدقة تكون على الفقير المحتاج ولا يجوز أن تكون على الغني، لكنها على الغني تكون هدية من باب المعروف. ومن فوائد الحديث: أن الصدقة ليست بواجبة لقوله: "فإنك عسى أن تصدقي" وهو كذلك لكن الزكاة واجبة ولا بد منها. حكم خروج المعتدة بعد وفاة زوجها من بيتها: 1071 - وعن فريعة بنت مالك رضي الله عنه: "أن زوجها خرج في طلب أعبدٍ له فقتلوه. قالت: فسألت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي؛ فإنَّ زوجي لم يترك لي مسكنًا يملكه ولا نفقةً، فقال:

نعم. فلمَّا كنت في الحجرة ناداني، فقال: امكثي في بيتك حتَّى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهرٍ وعشرًا، قالت: فقضى به بعد ذلك عثمان". أخرجه أحمد، والأربعة، وصححه التِّرمذيُّ، والذُّهليُّ، وابن حبَّان، والحاكم وغيرهم. فريعة بنت مالك إحدى الصحابيات تقول: "إن زوجها خرج في طلب أعبد له لعلهم أبقوا منه أو ضاعوا" والظاهر أنهم أبقوا منه هربوا منه، وأنها جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل تنتقل إلى أهلها بدلًا عن البيت الذي كانت ساكنة فيه حين موت زوجها، لأنه لم يترك بيتًا يملكه ولا نفقة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص لها بل أمرها أن تبقى في البيت حتى يبلغ الكتاب أجله يعني: حتين يبلغ المكتوب؛ أي: المفروض وهي العدة أجلها أي: منتهى أمدها، قالت: "فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا ... إلخ"، قولها: "أربعة أشهر وعشرًا" هذا هو عدة المتوفى عنها زوجها إذا لم تكن حاملًا، أما إذا كانت حاملًا فعدتها بوضع الحمل، طالت المدة أو قصرت، قالت "فقضى به بعد ذلك عثمان" قضى بماذا؟ قضى بأن تبقى المتوفى عنها زوجها في بيت الزوج حتى يبلغ الكتاب أجله. ففي هذا الحديث فوائد منها: أنه ينبغي للإنسان أن يتوقى الخطر وألا يخاطر بنفسه؛ وذلك لأن هذا الرجل لما خرج في طلب الأعبد وهو وحده وهم جمع فإنه يعتبر مخاطرًا بنفسه؛ لأن الظاهر أنهم خرجوا مغاضبين له وأنهم خرجوا منه، ومثل هذا يخشى على نفس الإنسان منه، فلا ينبغي للإنسان أن يخاطر بنفسه في مواضيع الهلاك. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج عن البيت الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه بل تبقى إلى أن تنتهى العدة، ولكن هذا مشروط بما إذا لم تخف على نفسها، فإن خافت على نفسها إما من أحد يعتدي أو خافت على عقلها لكونها خوافة فلا حرج بأن تنتقل لأن القاعدة الشرعية أن الواجبات تسقط بالعجز عنها لقول الله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}، وقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}. ومن فوائد الحديث: أنه لا نفقة للمتوفى عنها زوجها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سكت عن النفقة ولم يتعرض لها، وهو كذلك فالمتوفى عنها زوجها ليس لها نفقة، وإنما نفقتها على نفسها، فإن كان عندها مال قبل موت زوجها أنفقت منه وإن لم يكن عندها مال أنفقت من حصتها من مال زوجها إن كان قد خلف مالا وإلا وجب الإنفاق عليها على من تجب عليه نفقتها من الأقارب.

ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالاجتهاد وليس كل ما يحكم به يكون وحيًا؛ بدليل أنه أذن لها في الأول أن تخرج من البيت ثم بعد ذلك ناداها وقال "امكثي في بيتك" وحكم النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون باجتهاد منه فحينئذٍ يكون من وحي الله لكن ليس الوحى المباشر بل هو من وحيه باعتبار أن الله أقره وإقرار الله له رضًا به. والقسم الثاني: أن يكون بوحي خاص يوحى إليه به إما أن ينزل القرآن بذلك، وإما أن يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحيًا عن طريق جبريل به دون أن يكون قرآنا فمن الأول ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عنه كثيرًا: يسألونك عن كذا، يسألونك عن كذا، فيأتي القرآن مجيبًا له، ومن الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشهادة تكفر كل شيء ثم قال إلا الدَّين أخبرني بذلك جبريل آنفا، فعلى هذا تكون الأحكام الصادرة من الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما حكم به فأقره الله. والقسم الثاني: ما توقف فيه حتى يأتيه القرآن. والقسم الثالث: ما تقدم له حكم به ثم يأتيه الوحي أحيانًا عن طريق جبريل لتقييده أو استثنائه منه أو ما أشبه ذلك ومن هذا- أي: مما ينبهه الله عليه- قوله تعالى: {عفا الله عنك لم استثنائه أذنت لهم ... } فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن للمتخلفين عن الغزو دون أن يستثبت في أمرهم ثم قال الله له: {عفا الله عنك ... }. ومن فوائد الحديث: قبول قول المرأة في الأحكام الشرعية؛ لأن فريعة حدَّثت به فقضى به عثمان رضي الله عنه وهو أحد الخلفاء الراشدين فدل هذا على قبول قول المرأة في الأحكام الدينية، كالأحاديث والفتيا أما الأموال فقد ذكر الله عز وجل أنه إن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء. ومن فوائد الحديث: أنه يجب على المرأة أن تبقى في بيت الزوج الذي يسكنه ولو كان بالأجرة، لقولها: "لم يترك لي مسكنًا يملكه" فدل هذا على أن المرأة تبقى في بيت الزوج الذي كان يسكنه ولو بالأجرة، ولكن لو فرض أن المدة تمت وأن صاحب البيت طلب خروجها فالحق له وإذا أخرجها في هذه الحال فإنها تسكن حيث شاءت عند أهلها أو عند غيرهم. 1072 - وعن فاطمة بنت قيس صلى الله عليه وسلم قالت: "يا رسول الله، إنَّ زوجي طلَّقني ثلاثًا، وأخاف أن يقتحم عليَّ، فأمرها، فتحوَّلت". رواه مسلمٌ.

قولها: "إن زوجي طلقني ثلاثًا" يعني: آخر ثلاث تطليقات، وليس المعنى: أنه قال أنت طالق أنت طالق أنت طالق كما جاء ذلك مصرحًا به في صحيح مسلم وقولها: "أخاف أن يقتحم عليَّ" أي: أن يقتحم أحد علي بيتي، يعني: يتسلق الجدران ويعتدي عليها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم فتحولت. هذا الحديث فيه: أن فاطمة كان طلاقها طلاقًا بائنًا، والمرأة المطلقة طلاقًا بائنًا ليست في حكم الزوجات، وليس لها نفقة ولا سكنى ما لم تكن حاملًا فان لها النفقة والسكنى على زوجها وهذه ليست حاملًا فليس لها نفقة وليس لها سكنى، ولكن هل يلزمها أن تسكن في بيت الزوج؟ في هذا خلاف بين أهل العلم منهم من قال: إنه يلزمها أن تسكن واستدل بهذا الحديث أنها استأذنت وبينت السبب واستدل أيضًا بأنها في عدة من فراق بينونة فأشبهت المتوفى عنها زوجها فيلزمها الإحداد ولأنها ربما يطمع أحد في خطبتها لأنها بائن وتجملها يوجب إغراء الناس بها وكذلك خروجها من البيت فلزمها أن تحد ولكن المشهور من المذهب أنها ليست كالمتوفى عنها زوجها وأنه لا يلزمها الإحداد ولا لزوم المسكن، ولكن الأفضل أن تبقى في المسكن حفاظًا على حق زوجها وصوتًا لمائه إن كانت حاملًا وما أشبه ذلك من العلل التي عللوا بها ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب وهذا هو الصحيح، فإذا كانت حاملًا فلها النفقة والسكن، لقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق: 6]. وتكون النفقة على زوجها والد الجنين أما إذا كانت متوفى عنها زوجها وهي حامل فإن النفقة تكون في مال الجنين الذي يرثه من أبيه وليس على أبيه لأن أباه قد مات وانتقل المال عنه فهنا يفرق بين نفقة الحمل إذا كانت بائنًا من وفاة وإذا كانت بائنًا من حياة، إذا كانت بائنًا من حياة النفقة على أب الحمل وإذا كانت بائنًا من وفاة فالنفقة في نصيب الحمل من الميراث. من فوائد الحديث: أن الأفضل في المطلقة ثلاثًا أن تبقى في بيت زوجها لأن كونها تستأذن من الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذا هو المتقرر عندهم. ومن فوائده: أن الشر يوجد في كل زمن حتى في زمن الصحابة لأن قولها: "أخاف أن يقتحم عليَّ" ليس مجرد وهم إلا أن الشرَّ في زمن الصحابة أقل منه في غيره؛ لأنهم خير القرون وأفضلها. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب أسباب الشر لقولها: "فأمرها فتحولت"، وهكذا ينبغي للإنسان أن يتقي الشر قبل أن يقع؛ لأن رفع الشيء بعد وقوعه أصعب من توقيه قبل وقوعه. ومن فوائده: أنه إذا تحولت المعتدة لعذر فإنه لا يلزم أن تتحول إلى مكان قريب من مكانها

الأول بل لها أن تتحول إلى مكان بعيد؛ لقولها: "فتحولت" وهذا مطلق، وهو كذلك فإذا جاز للمرأة المتوفى عنها زوجها أن تخرج من بيتها لعذر شرعي فلها أن تتحول إلى أي بيت شاءت، ولا يلزم أن يكون قريبًا من الأول؛ وذلك لأنه لما سقط لزوم المسكن فبقية المساكن سواء. 1073 - وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "لا تلبسوا علينا سنَّة نبيِّنا، عدَّة أمِّ الولد إذا توفِّي عنها سيِّدها أربعة أشهرٍ وعشرًا". رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصحَّحه الحاكم، وأعلَّه الدَّارقطنيُّ بالانقطاع. • هذا الحديث فيه علتان: العلة الأولى: الانقطاع وهو عدم اتصال السند، ومعلوم أن الحديث لا يكون مقبولًا إلا إذا اتصل سنده، فانقطاع السند علة موجبة لرد الحديث. الثانية: أن يقال ما هي السنة التي ذكرها؟ لم يبينها، والقرآن يشهد على خلاف ما روي؛ لأن التي يلزمها العدة إذا توفي عنها هي المرأة قال الله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة: 234]. أما الأمة فإن الواجب استبراؤها فقط بحيضة، فإذا استبرئت بحيضة وعلم أن رحمها خال من الولد جاز أن تتزوج ولم يلزمها أن تعتد أربعة أشهر وعشرًا، فهذا الحديث لا يعول عليه لما ذكرنا، إذن ما الواجب؟ الواجب الاستبراء بحيضة، وتحل بعد ذلك للأزواج أو لمالكها. * * *

طلاق الأمة وعدتها

1074 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إنما الأقراء؛ الأطهار". أخرجه مالكٌ في قصَّةٍ بسندٍ صحيح. تريد بذلك قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأرنفسهن ثلاثة قروء}. والقروء: جمع قرء، وقد اختلف فيه العلماء، فقال بعضهم: إنه الحيض، وعلى هذا يكون معنى قوله: {ثلاثة قروء} أي: ثلاث حيض. وقال بعضهم: إنه الطهر وعلى هذا فيكون قوله: {ثلاثة قروء} أي: ثلاثة أطهار، ولكن الصحيح أن المراد بالقروء: الحيض، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة "اتركي الصلاة قدر ما تحبسك أقراؤك"، وهذا صريح في أن المراد به الحيض. وقد أطال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" الكلام على هذه المسألة، وتكلم بما تتعين مراجعته، لأنه مفيد وعلى هذا فإذا طلَّق الإنسان في أثناء الحيضة وقلنا بوقوع الطلاق فإن بقية الحيضة التي طلَّقها لا يعتد بها لأن الله يقول: {ثلاثة قروء} وهنا لو اعتدت بها لكانت قرأين ونصفًا أو قرأين ونصف الثالثة مع نصف التي وقع فيها الطلاق ومعلوم أن الحيض لا يتبعض أما إذا قلنا: بأنه هي الأطهار فإنها إذا شرعت في الحيضة الرابعة انتهت من العدة؛ لأن الأطهار ثلاثة بين كل حيضتين قرء، فإذا طلقها في أثناء الحيضة وقلنا بوقوع الطلاق فإننا نحسب الطهر الذي بعدها والطهر الذي بعد الثانية، والطهر الذي بعد الثالثة فإذا شرعت في الرابعة انتهت العدة، ولكن القول الصواب هو أن المراد بالإقراء: الحيض. طلاق الأمة وعدتها: 1075 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "طلاق الأمة تطليقتان، وعدَّتها حيضتان" رواه الدارقطنُّي وأخرجه مرفوعًا وضعَّفه، وأخرجه أبو داود، والتِّرمذيُّ، وابن ماجة: من حديث عائشة، وصحَّحه الحاكم، وخالفوه، فاتَّفقوا على ضعفه". الحديث- كما ترون- موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنه "طلاق الأمة تطليقتان"، يعنى: أنها ليست ثلاثًا كالحرة فالحرة تطلق ثلاثًا وتبين بعد الثالثة والأمة تطلق مرتين وتبين بعد الثانية هذا معنى قوله: "طلاق الأمة تطليقتان" وعلى هذا فإذا طلقها زوجها مرتين تحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وعدتها حيضتان على النصف من الحرة، والحرة ثلاث حيض ولم يقل العلماء بحيضة ونصف؛ لأن الحيضة لا تتبعض فلذلك جبروا الكسر وقالوا: عدتها حيضتان.

في هذا الأثر عن ابن عمر ما يدل على أن المعتبر في الطلاق الزوجة دون الزوج، وهذا موضع خلاف بين العلماء هل المعتبر في الطلاق الزوجة أو المعتبر الزوج؟ ويظهر أثر الخلاف فيما إذا كان الزوج حرًّا والزوجة أمة فهل يملك الزوج هنا ثلاث تطليقات أو طلقتين؟ إذا قلنا المعتبر الزوجة لم يملك إلا تطليقتين وإذا قلنا المعتبر الزوج ملك ثلاثًا وبالعكس لو كان الزوج رقيقًا والزوجة حرة فهل يملك ثلاث تطليقات أو يملك تطليقتين؟ إن قلنا: المعتبر الزوجة ملك ثلاث تطليقات وإن قلنا المعتبر الزوج لم يملك إلا تطليقتين بناء على المشهور عند جمهور العلماء من تنصف ما يملك الزوج باعتبار الحرية والرِّق، أما الظاهرية فلا يعتبرون هذا إطلاقًا، ويقولون: الزوج يملك ثلاث تطليقات حرًّا كان أو عبدًا والمشهور عند أكثر أهل العلم أن الطلاق معتبر بمن بيده الطلاق ومن الذي بينه الطلاق؟ الزوج وعلى هذا فإذا كان الزوج حرًّا وزوجته مملوكة فإنه يملك ثلاث تطليقات، وإن كان رقيقًا وزوجته حرة لم يملك إلا طلقتين وهذا هو الصحيح؛ لأن حكم الطلاق يتعلق بمن له الطلاق، أما من ليس بيده الطلاق وهي الزوجة فلا عبرة به. فإن قال قائل: وهل يجوز للحرِّ أن يتزوج أمة؟ قلنا: نعم بشروط بيِّنها الله في قوله: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن مَّا ملكك أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25]. إذن ذكر الله شرطين: الشرط الأول: من لم يستطع منا طولا؛ أي: مهرًا يتزوج به الحرائر فلينكح الإماء {فمن ما ملكت أيمانكم} هذا شرط. الشرط الثاني: {من فتياتكم المؤمنات} فالكتابية الأمة لا تحل. الشرط الثالث: {ذلك لمن حشى العنت منكم} "العنت": المشقة بترك النكاح، فإذا تمت الشروط الثلاثة جاز للحرِّ أن يتزوج الأمة، وإنما منع الحرُّ من تزوج الأمة، لأنه كما قال الإمام أحمد: إذا تزوج الحر أمة رق نصفه، يعني: صار نصفه رقيقًا كيف ذلك؟ لأن الأولاد بضعة منه وأولاده يكونون أرقاء، ولهذا ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أنه إذا اشترط الحر على مالك الأمة أن يكون أولاده أحرارا فلا بأس أن يتزوجها بدون شرط؛ لأن شيخ الإسلام في وقته ابتلي الناس بالإماء اللائي هن أحسن وأجمل من الحرائر؛ لأنهن مسببات من الكفار وجميلات والناس ينصبون عليهن، فرأى رحمه الله أنه إذا اشترط الزوج على مالك الأمة أن أولاده أحرار فإن العلة قد زالت فله أن يتزوج لكن الذي ينبغي أن يمشى على ظاهر الآية لأن العلة التي ذكرها الإمام أحمد علة مستنبطة، والعلة المستنبطة لا ينبغي أن يخصص بها عموم النص؛ لأنها قد تكون العلة غيرها وقد تكون العلة مركبة من هذا ومن غيرها، أما إذا جاء النص على العلة فهنا لا بأس أن يخصص مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه"، فهنا إذا كان الثالث لا يحزن إذا تناجى اثنان عنده فلا نهي الآن فهمنا أن القول الراجح

الاستبراء وأحكامه

في مسألة الطلاق أن المعتبر الزوج، لأنه هو الذي بيده الطلاق وأنه إذا كان حرًّا والزوجة أمة فله ثلاث تطليقات وإذا كان رقيقًا والزوجة حرة فله طلقتان خلافًا للظاهرية فهم يقولون للزوج ثلاث تطليقات مطلقًا لأن الله عز وجل يقول: {الطلاق مرتان ... }، ثم قال: {فإن طلقها} ولم يفرق. المسألة الثانية قال: "وعدتها حيضتان" هنا بين رضي الله عنه أن عدتها حيضتان وعدة الحرة ثلاث حيض وإذا كانت ممن لا تحيض، أي: الأمة فعدتها شهر ونصف لا شهران، لماذا؟ لأن الأشهر تتبعض وقيل: بل شهران بناء على أن عدتها بالأشهر بدل عن عدتها بالحيض والبدل له حكم المبدل ولكن الأول أصح. في هذا الأثر فوائد منها: أن الطلاق يختلف باعتبار الحرية والرِّق وهذا رأي الجمهور لكن الذي يعتبر الزوج وهو الصواب. الفائدة الثانية: أن العدة تختلف باعتبار الحرية والرق فتكون عدة الأمة حيضتين لا حيضة ونصفا لأنها لا تتبعض. وقوله: "أخرجه أبو داود والترمذي ... إلخ". فقال: "واتفقوا على ضعفه" أي: حديث عائشة. الاستبراء وأحكامه: 1076 - وعن رويفع بن ثابتٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلُّ لأمرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره". أخرجه أبو داود، والتِّرمذيُّ، وصحَّحه ابن حبَّان، وحسنه البزَّار. قوله: "لا يحل" أي: لا يجوز وإذا انتفى الجواز ثبت التحريم. هذه القاعدة في النصوص أنه إذا انتفى الحل فمقابله التحريم دليل ذلك قوله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} [النحل: 116] فجعل الله الحلال مقابلًا للحرام وكذلك قوله تعالى: {ولا تحلّ لكم أن تأخذوا مما ءاتيتموهنّ شيئا إلا أن يخاقًا ألا يقيما حدود الله فإنّ خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما} [البقرة: 229]. فعلم من ذلك أن نفي الحل يعني: الحرمة.

وقوله: "يؤمن بالله واليوم الآخر" هذا وصف يراد به التهييج والإغراء كما تقول لا ينبغي لرجل كريم أن يبخل على ضيفه فكلمة "كريم" يراد بها الإغراء والتهييج يعني أنه لإيمانه بالله واليوم الآخر بلا يليق به هذا الشيء ولا يعني أن هذا الوصف قيد فيكون الكافر يحل له ذلك وقوله: "بالله واليوم والآخر" الإيمان بالله يتضمن الإيمان بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ويستلزم هذا الإيمان الإيمان بوجوده وعلى هذا فلا حاجة لذكر الوجود لأن الإيمان بهذه الثلاثة يستلزم وجوده والإيمان بالله عز وجل له مقتضيات كثيرة من الأعمال الصالحة ومنها هذا وقوله: "اليوم الآخر" هو الذي يبعث فيه الناس: يوم القيامة- أعاننا الله وإياكم عليه- وسمِّى الآخر؛ لأنه نهاية مراحل بني آدم، فالدور أربعة داره في بطن أمه، وداره في الدنيا، وداره في البرزخ، وداره الأخيرة إما الجنة وإما النار ولهذا يقال اليوم الآخر؛ لأنه لا يوجد مرحلة خامسة هي آخر المراحل فسمِّي اليوم الآخر. يقول: "أن يسقي ماءه زرع غيره"، لو أخذنا بظاهر الحديث لكان فيه منع للإحسان لأن سقي الإنسان ماءه زرع غيره إحسان بل قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء وأن الإنسان إذا كان عنده فضل ماء فليمكِّن الناس منه لكن السياق يدل على أن المراد بالماء: ماء النطفة وبالزرع: الحمل والدليل على أن المراد بالزرع الحمل قوله تعالى: {نسآؤكم حرث لكم} والحرث موضع الزرع. إذن لا يحل لإنسان أن يجامع امرأة فيها حمل لغيره حتى وإن كانت زوجته فإنه لا يحل له أن يجامعها وفيه حمل لغيره. توضيح: لو أن شخصًا وطئت زوجته بشبهة وحملت من الواطئ فالولد للواطئ وعليه فيجب على زوجها أن يتجنبه حتى تضع ولكنه يتجنب الوطء الذي يكون به السقي، أما المباشرة والنوم والتقبيل فلا يلزمه تجنبه، ويكون أيضًا الولد لغيره فيما لو تزوج امرأة مطلقة من غيره على أن عدتها انتهت ثم يتبين فيها حمل للزوج الأول فهنا يلزم الزوج الثاني أن يتجنبها لكن العقد هنا غير صحيح؛ لأن العدة لم تتم. إذن نقول: انتظر حتى تضع ثم اعقد عليها؛ لأن العقد الأول غير صحيح، وقوله: "زرع غيره"، هل المراد بالغير هنا من يملك هذا الزرع أو عامًّا؟ يعني: هل المراد زرع غيره أن يكون الحمل ملكا للغير يعني: يلحق به وذلك في وطاء الشبهة هنا واضح أنه لا يجوز أن يجامع، لكن إذا حملت من زنا فهل يجوز أن يطأها الزوج أو لا؟ الولد الآن ليس للزاني الولد للفراش وللعاهر الحجر، فإن كان الزوج يعتقد أن هذا الولد ولده ويريد أن يستلحقه فهو ولده؛ لأن الواطئ لا يملك ولذلك كان القول الراجح أنه إذا زنت المرأة لا يجب على زوجها تجنبها ولا استبراؤها، بل له أن يجامعها فورًا وهذا قد يكون أولى أن يجامعها فورًا؛ لئلا يقع اشتباه في

أحكام امرأة المفقود في العدة وغيرها

الولد الذي ربما يخلق من الزاني، وذلك لأن الولد للفراش وللعاهر الحجر، فالقول الراجح أن من زنت امرأته لا يلزمه أن يتجنبها وأما من وطئت بشبهة فيلزمه أن يتجنبها ألا يطأها، والفرق. ظاهر؛ لأن الحمل المخلوق من الشبهة يلحق الواطئ، وحمل الزنا لا يلحق الزاني إما مطلقا على رأي الجمهور أو ما يستلحقه ولا فراش على رأي بعض العلماء. من فوائد الحديث: تحريم وطء الحامل إذا كان حملها لغير الواطئ؛ لقوله: "فلا يسقي ماءه زرع غيره"؟ ومن فوائده: أن من أسلوب البلاغة أن يذكر المتكلم ما يكون فيه التهييج والإغراء لقبول الكلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرئ لا يؤمن بالله واليوم الآخر". ومن فوائده: إثبات اليوم الآخر والإيمان به شرط لصحة العقيدة. ومن فوائده: أن النصوص تذكر دائمًا الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله يوجب الرغبة والرهبة وكذلك الإيمان بالله واليوم الآخر يوجب الرغبة والرهبة؛ لأن المآل إليه فيقرن الله تعالى بينهما دائمًا، وكذلك السُّنة تأتي بهما مقرونين دائمًا. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أن الجماع يزيد في الحمل؛ لقوله: "يسقي ماءه زرع غيره"، ومعلوم أن الماء إذا سقي به الزرع فإن الزرع ينمو ويزداد، وقل قال الإمام أحمد: إن الجماع يزيد في الحمل في سمعه وبصره ونموه، وهذا على كل حال ينظر فيه إلى ما يقرره الطب هل هو يزيد أو لا يزيد؟ فإذا قلنا: إنه يزيد في الحمل قوة ونشاطا فهل نرغب في وطء الحامل من أجل هذه الفائدة؟ الجواب: نعم نرغب، إلا أنه في الأشهر الأخيرة فإنه ينبغي للإنسان أن يتجنب الجماع فيها، لأنه ربما يضر المرأة ويشق عليها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقق عليه". ومن فوائد الحديث: جواز وطء الحامل إذا كان الحمل له مثل أن يطئ امرأة بشبهة، فتحمل منه ثم يتزوجها، فان النكاح صحيح وله أن يجامعها؛ وذلك لأن الولد له فقد سقى ماءه زرعه أي: زرع نفسه فجاز. أحكام امرأة المفقود في العدة وغيرها: 1077 - وعن عمر رضي الله عنه في امرأة المفقود: "تربص أربع سنين، ثمَّ تعتدُّ أربعة أشهرٍ وعشرًا". أخرجه مالكٌ والشَّافعيُّ. عمر هو ابن الخطاب الخليفة الثاني للأمة الإسلامية رضي الله عنه وهو ممن يوفق للصواب دائمًا

حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن يكن فيكم محدَّثون فعمر"؛ أي: ملهمون موفقون للصواب، وهو أحد الخلفاء الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعهم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين" بل قد نص عليه وعلى أبي بكر فقال: "اهتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر"، وقال: إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا". وإنما قدمنا هذه المقدمات لبيان فضله رضي الله عنه والرد على الرافضة في إنكار فضله وكراهتهم له، ولشيء آخر وهو أن له سنة متبعة وأن قوله حجة ما لم يعارضه نصُّ. أما قوله: "في امرأة المفقود" فالمراد بالمرأة هنا: الزوجة، والمفقود هو الذي انقطع خبره فلم يعلم له حياة ولا موت مثل أن يسافر ثم تنقطع أخباره، مشارك في جهاد ثم تنقطع أخباره يخرج في إغاثة أحد ثم تنقطع أخباره المهم أنه هو الذي أنقطع خبره فلم يعلم له حياة ولا موت، قال: "تربص أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا"، "تربص": تنتظر "أربع سنين ثم تعتد" وهذه العدة التي ذكرها رضي الله عنه هي عدة المتوفى عنها زوجها، وعلى هذا فتتربص أربع سنين ثم يحكم بموته فتعتد زوجته عدة الوفاة ويقسم ماله ويكون ميتًا هذا معنى الأثر عن عمر. وهل هذه المدة في الشرع أو اجتهاد؟ الصحيح أنها اجتهاد ثم هل هذه المدة فيمن يغلب على الظن سلامته أو فيمن يغلب على الظن هلاكه؟ الفقهاء يقولون: هذه فيمن يغلب على الظن هلاكه كرجل خرج في جهاد أو في مفازة وهي الأراضي الواسعة المهلكة أو خطف من بين أهله فهذا ينتظر أربع سنين تشريعًا، ولكن الراجح أن هذا من باب الاجتهاد، والحكم في كل قضية بعينها وأن الحاكم يضرب المدة التي يغلب على الظن بها موته أو يتيقن؛ وذلك لأن الناس يختلفون والفقدان يختلف فمن الناس من هو مشهور إذا فقد أمكننا أن يغلب على ظننا موته في خلال أشهر لا سنوات، ومن الناس من هو مغمور لا يعرف من عامة الناس لو فقدّ لم يلتفت له ولم يحتفل له فهذا تضرب له مدة أطول كذلك أيضًا الفقدان يختلف قد يكون فقد في حال يغلب على الظن أنه لو كان حيًّا لبان وقد يفقد في حال يكون بالعكس فإذا كان الأمر كذلك صار الحكم أن ننظر كل قضية يعيبها ونحكم لها بما يناسبها ثم بعد ذلك نحكم بموته هذا هو الصحيح، وذلك من أجل إزالة الضرر عمن يتعلقون بهذا المفقود، وإلا لكان الوجه أن نذهب إلى ما ذهب إليه بعض العلماء من أن المفقود لا يحكم بموته إلا باليقين؛ لأن حياته

متيقنة واليقين لا يزال إلا بيقين فيبقى إلى تسعين سنة وبعضهم قال: إلى مائة وعشرين، وبعضهم قال: ينظر إلى أطول الأعمار من هذه القبيلة، بعض القبائل يكون إلى مائة وخمسين ومائة وستين، فننتظر مائة وستين سنة ثم نحكم بعد ذلك بموته، ولكن هذا قول ضعيف لا شك فيه، لأننا إذا حكمنا بهلا ضررنا بأناس كثيرين من، الورثة سواء كان المفقود وارثا أو موروثًا، فالصواب: أن الحاكم يضرب له مدة إنا غلب على الظن أنه هالك حكمنا بهلاكه، لو حكمنا بهلاكه ثم جاء بعد ذلك فماذا نصنع؟ نرد الأحكام حتى تنطبق مع أحكام كونه حيًّا، فمثلًا إذا كان قد ورث أخذنا المال من الذين ورثوه وإذا كان قد حرم من الميراث وأعطي شخصا آخر كما لو كان هو أخا شقيقا ومن أجل الحكم بموته أعطيناه العم الشقيق فإنه يؤخذ من العم الشقيق ويرد إليه؛ لأنه تبين أن مستحقه موجود فيرد إليه، الزوجة إن كانت لم تتزوج فالأمر سهل يستردها وإن كانت قد تزوجت فاختلف العلماء هل يفرق بين الدخول عليها أو عدمه أو الحكم سواء؟ في أن الزوج المفقود يخير بين أخذ زوجته أو إبقائها مع الزوج الذي أخذها فإن أخذ زوجته فالأمر ظاهر وإن أبقاها معه أخذ منه مقدار الصَّداق الذي أعطاها؛ لأن هذا الرجل لما تزوَّجها صار بمنزلة المتلف لها فيضمن للزوج الأول مهره، والصحيح أنه لا فرق بين الدخول وعدمه وأن المفقود يخير بين أخذ زوجته وعدمه إما أن يبقيها وإما أن يأخذها، إذا أخذها وقال الثاني: أعطني المهر نقول لا شيء لك لأنك قد دخلت على بصيرة فأنت تعلم أن هذه امرأة مفقود، في احتمال أنه يوجد ثم إنك استحللت فرجها فلها المهر بما استحللت من فرجها ولا شيء لك. 1078 - وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان"، أخرجه الدَّارقطنيُّ بإسناد ضعيف. هذا الحديث لو صح لكان فاصلًا للنزاع، لأنها تبقى حتى يأتيها البيان لكن هذا الحديث ضعيف سندا وشاذٌّ متنًا؛ وذلك لأننا لو ألزمنا امرأة المفقود بأن تبقى حتى يتبين صار في هذا ضرر عظيم عليها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، بل قال الله تعالى للمطلقين: {ولا تمسكوهنَّ ضرارًا لتعتدوا} فنفى الضرار عن المرأة وعلى هذا فالحديث لا حجة فيه والعمل على الأثر الذي صح عن عمر رضي الله عنه أنه يضرب مدة حتى يغلب على الظن أو يتبين أن المفقود قد مات ونحكم بذلك.

1079 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "لا يبيتنَّ رجلٌ عند امرأةٍ، إلا يكون ناكحًا، أو ذا محرمٍ". أخرجه مسلمٌ. "لا" ناهية، والفعل هنا ليس مجزومًا ولا الناهية عملها الجزم فلماذا لم نر الجزم هنا؟ الجواب: أن هذا الفعل متصل بنون التوكيد، والفعل المضارع إذا اتصل بنون التوكيد أو بنون النسوة صار مبنيًّا لا معربًا فلا يتغير باختلاف العوامل، فهو مع نون التوكيد يبني على الفتح، ومع نون النسوة يبنى على السكون قال الله تعالى: {كلا ليبدنَّ في الحطمة} [الهمزة: 4]. وقال تعالى: {والمطلقات يتربصن}. إذن "لا" ناهية والفعل مبني على الفتح في محل جزم، وقوله: "لا يبيتن رجل"، "رجل" نكرة في سياق النهي تشمل أيَّ رجل، سواء كان من أقارب المرأة أو من الأباعد، وسواء كان ممن يثق بنفسه أو لا يثق، وسواء كان شابًّا أو شيخًا كبيرًا لا حراك به؛ لأن مقتضى النكرة هكذا، وقوله: "رجل" المعروف في اللغة العربية أن لفظ رجل يراد به البالغ ولكن إذا نظرنا إلى قوله تعالى: "أو الطفل الذين لم يظهروا عل عورات النساء} [النور: 31]. تبين أن الطفل الذي ظهر على عورات النساء حكمه حكم البالغ فإن من الأطفال من يكون ظاهرا على عورات النساء له شغف بهن وله تصور فهذا وإن لم يكن بالغًا لكنه يخشى إن لم يعبث غيث به لا سيما إن كان كبير الجسم، إذن فنقول كلمة رجل وإن كانت للأصل للبالغ، فإنها هنا يراد بها: البالغ ومن دونه إذا كان من الأطفال الذين ظهروا على عورات النساء وهل يشمل العاقل والمجنون أو العاقل فقط؟ يشمل العاقل والمجنون بل وفي المجنون أولى فلا يمكن المجنون من أن يبيت عند امرأة وقوله: "عند امرأة" نقول فيها ما قلنا في رجل، الأصل أن كلمة امرأة للبالغ لكن الظاهر هنا أنه يشمل من تتعلق بها الرغبة وإن لم تكن بالغة أما الصغيرة الطفلة فلا تدخل في الحديث قطعا. وقوله: "إلا أن يكون ناكحا" هو الزوج والناكح، هنا: المعقود له النكاح وإن لم يدخل بها أو ذا محرم، أي: صاحب محرم أي حرمة، وذو المحرم كل من تحرم عليه المرأة ينسب أو رضاع أو مصاهرة، فالمحرمات بالنسب سبع ولم نكن بعيدين عهدا بهن والمحرمات بالرضاع مثلهن سبع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" والمحرمات بالصهر أربعًا: أصول الزوج، وفروعه، وأصول الزوجة، وفروعها حسب الشروط المعروفة في ذلك فخرج بقوله: "ذا محرم" من ليس بذي محرم كالقريب الذي لا تحرم عليه المرأة أي لا يحرم عليه نكاحها فهذا ليس بمحرم ولو كان من أقرب الناس إليها كابن العم وابن الخال، قد يقول قائل:

ما مناسبة هذا الحديث لباب العدة والاستبراء؟ لأنه لا يظهر لنا وجه في ذكره في هذا الباب؟ فيقال: لعل المؤلف ذكره في هذا الباب اعتبارًا بأن المعتدات قد يحتجن إلى من يبيت عندهن إذا مات أزواجهن وانفردن بالبيت، فأراد المؤلف أن يبين إلى أن المرأة لو احتاجت إلى من يبيت عندها فإنه لا يبيت عندها إلا محرم أو زوج. في هذا الحديث دليل على فوائد منها: خطورة اجتماع الرجل والمرأة إذا لم تكن ذا محرم منه أو زوج، وجه الخطورة النهي عن ذلك؛ لأن الشرع لا ينهى عن شيء إلا وفيه مفسدة إما راجحة وإما خالصة. ومن فوائده أيضًا: تحريم خلو الرجل بالمرأة إلا أن يكون ناكحًا أو ذا محرمٍ، ويكون ذكر المبيت على سبيل المثال، وإن كان قد يعارض معارضٌ فيقول: المبيت أخطر من مجرد الانفراد والخلوة؛ لأن المبيت سوف يبقى عندها ليلة كاملة بخلاف من انفرد بها ساعة أو ساعتين ولكن يقال: إن العلة واحدة وهي الخوف على المرأة ويؤيد هذا الحديث الذي بعده. ومن فوائد الحديث: عناية الشرع بالأخلاق؛ لأن مثل هذه الحال سبب للفاحشة المنافية للأخلاق. ومن فوائد الحديث: جواز بيتوتة المحرم مع ذات المحرم منه وظاهر الحديث الإطلاق؛ يعنى: سواء كان مأمونًا أو غير مأمون. لكن هنا غير مراد، المراد "ذي المحرم": المأمون، أما من ليس بمأمون فإن كغيره بل قد يكون أوجب، بل قد يكون الحظر منه أوجب من غيره. فإن قلت: وهل يمكن الذي محرم أن يفعل الفاحشة بمحرمه؟ فالجواب: نعم يمكن، وهذا وقع- والعياذ بالله- من زنى ببناته، ووقع من زنى ببنات أخيه كما أخبرنا عن ذلك الثقات، والشيطان إذا بعد الإنسان من الإيمان لعب به وبعقله ومروعته، وإلا فلا يمكن الذي مروءة أن يزني بمحارمه أبدًا لكن الشيطان إذا استولى على قلب الإنسان واستحوذ عليه أنساه ذكر الله وصار كأنه بهيمة، المهم: أن الحديث ليس على إطلاقه بجواز بيات ذي المحرم مع ذات المحرم منه، بل يشترط أن يكون أمينًا، وهل يشترط العلم بالأمانة أو الأصل هي الأمانة؟ الأصل في ذوي المحارم أن يكونوا أمناء، لكن إذا علمنا أنه ليس بأمين فحينئذٍ نقول: لا تبت ولا نأمنه عليها. * * *

التحذير من الحلوة بالأجنبية

التحذير من الحلوة بالأجنبية: 1080 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه، عن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخلونَّ رجل بامرأةٍ، إلاَّ مع ذي محرمٍ". أخرجه البخاريُّ. هذا الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس إبان سفره في حجة الوداع قال: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، ولا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم"، فقوله: "لا يخلون رجل بامرأة" نقول فيه من حيث العموم ما قلنا في: "لا يبيتن رجل عند امرأة" أي: أنه يشمل كل رجل صغيرًا كان أم كبيرًا، أمينًا أم غير أمين أي رجل يكون، وقوله: "لا يخلون رجل" بماذا نفسر الخلوة؟ الخلوة تزول بوجود ثالث معهما؛ لقوله في الحديث الآخر "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" فإذا وجد ثالث معهما زالت الخلوة ولكن لا بد من كون هذا الثالث معهما أن يكون عنده إحساس وفطنة لئلًا يحصل الشر وهو لا يدري فلو كان الثالث معهما طفلًا فإن ذلك لا يجزئ لو كان مميزًا بأن له سبع سنوات فإن ذلك لا يجزئ في الخلوة، اللهم إلا أن يكون ذا فطنة شديدة، وإلا فمن له سبع سنوات لا يقيد إذ قد يدلِّهه الرجل بشيء ما ويتكلم بما شاء أو يفعل ما شاء، فلابد من ثالث يؤمن مع وجوده وقوع الفتنة، من له عشر سنوات هل تزول به الخلوة؟ الظاهر أن الأصل أنها تزول بالعشر سنوات؛ لأن عنده فطنة لكن ربما لا تزول لأن بعض الصبيان ليس عند أي فهم، على كل حال/ لا بد من وجود ثالث يرتفع به خوف الفتنة. وقوله: "إلا مع ذي محرم" إذا قال قائل: كيف تكون الخلوة، مع ذي محرم؟ نقول: نعم إلا مع ذي محرم لولا عدمه لكان خلوة وذو المحرم هو ما ذكرناه آنفًا: كل من تحرم عليه المرأة ينسب أو رضاع أو مصاهرة. من فوائد الحديث: ما سبق في الحديث الذي قبله فنحيل القارئ أو السامع على ما سبق إلا أنه في هذا الحديث لم يذكر ناكحًا لأن الزوج له أن يفعل ما شاء في الزوجة من حيث الاستمتاع واصل منع الخلوة خوفًا من الاستمتاع والفتنة. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز للرجل أن يجلو بالمرأة ولو في هودج أو سيارة أو مصعد، في بعض العمائر الطويلة يكون مصعد فيأتي الإنسان وتأتي امرأة عند باب المصعد فيدخلان جميعًا هذه خلوة- لاشك- عظيمة وخطيرة فلا يجوز حتى في المصعد، ماذا يصنع

أحكام السبايا في الاستبراء

هل يقول انتظري أو يقول: أنا أنتظر أيهما أولى؟ الثاني. أولى؛ لأنها إذا انتظرت ثم نزل المصعد ربما يخلو بها رجل آخر فإذا انتظر هو أمنًا من أن تنفرد برجل آخر. أحكام السبايا في الاستبراء: 1081 - وعن أبي يعيدٍ رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أو طاسٍ: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حملٍ حتى تحيض حيضةً". أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم، وله شاهد عن ابن عباسٍ رضي الله عنه في الدارقطنيِّ. قوله: "في سبايا" جمع سبية، كعطايا جمع عطية، والسبايا هن: النساء اللاتي سبين بقتال الأعداء وهن يقعن ملكا للمسلمين بمجرد السبي، تكون رقيقة مملوكة وكذلك الذرية، أما الكبار والرجال المقاتلون فإنه يخير الإمام فيهم بين أربعة أشياء: حسب ما تقتضيه المصلحة وهي القتل والمنُّ بلا شيء، والمن بفداء، والاسترقاق هكذا قال أصحابنا- رحمهم الله-، ويجب على الإمام أن يفعل ما هو أصلح للمسلمين من هذه الأشياء الأربعة وقوله: "أوطاس" هي: اسم للوادي وادي ثقيف وهو وادي حنين وقيل: إنه غيره أي شعبة منه، وعلى كل حال فالوادي معروف ولا يزال في طريق الطائف ومتى كانت هذه الغزوة؟ في السنة الثامنة بعد غزوة الفتح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة في رمضان ثم بقى تسعة عشر يومًا ثم سافر إلى ثقيف وقاتلهم والغزوة مشهورة معروف كانت الغلبة فيها للكفار لولا أن الله- سبحانه وتعالى- من على المؤمنين وأنزل عليهم السكينة فصارت في النهاية لهم- والله الحمد-، قال في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع الحامل إذا سبيت"، لا يمكن أن توطأ حتى تضع لأن الولد الذي فيها ليس للواطئ فيكون قد سقى ماءه زرع غيره وهذا لا يحل، وقوله: "حتى تضع" ظاهر أنها بمجرد الوضع توطأ وليس كذلك بمجرد الوضع تكون قابلة؛ لأن توطأ ولكنها لا توطأ حتى تطهر من نفسها؛ لأن النفاس كالحيض في تحريم الوطء فإنه يدخل في عموم قوله: {قل هو أذى} {ولا تقربوهنَّ حتَّى يطهرن}. وقوله: "ولا غير ذلت حمل حتى تحيض" يعني: التي ليس فيها حمل لا توطأ حتى

تحيض حيضة؛ وذلك لأننا لا نعلم براءة رحمها إلا بالحيض فإذا حاضت علمنا أن رحمها خالٍ من الولد فحل وطؤها؛ لأن الحامل لا تحيض، وقد ثبت طبيًا بأنه لا يمكن للحامل أن تحيض. وقال بعض أهل العلم بالفقه: إن الحامل قد تحيض لكن بشرط أن يكون حيضها مطردًا كما هو قبل الحمل، أما لو انقطع ثم عاد فليس بحيض، لكن الأطباء الذين كلهم مصرُّون على القول بأنه لا يمكن الحيض مع الحمل أبدًا، وقال الإمام أحمد: إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الحيض؛ لأنه لا حيض مع حمل وحيض الحامل نادر جدًا، ولهذا ألغى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ففي هذا الحديث فوائد منها: الإشارة إلى عظم السب وأنه ليس بالأمر الهين، ويتفرع على هذه الفائدة بيان جهالة القوم الذين ينتسبون إلى غير آبائهم من اجل الحصول على البطاقة، كما وجد هذا في كثير من الذين ذهبوا إلى الكويت منذ زمن فصاروا ينتسبون إلى غير آبائهم: إلى أعمامهم أو إخوانهم! وهذا من كبائر الذنوب، ومن كان كذلك فالواجب عليه الآن أن يحول نسبة إلى النسب الصحيح، يقول أحدهم: إذا فعلت ذلك حصل عليَّ ضرر كأن أسجن أو يؤخذ مالي فنقول: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وأنت إذا انتسبت إلى من لست منه حصل بهذا ضرر عظيم؛ إذ يلزم من هذا أن تكون أخًا لأبنائه وبناته أي: تكون وارثًا له وهو وارثًا لك، أبناؤه وبناته يصبحون وارثين لك أيضًا، فالمسألة خطيرة جدًا؛ ولهذا اعتنى بها الشرع عناية عظيمة. ومن فوائد الحديث: أن الحامل لا تحيض؛ لأنه علَّق الحكم بوضع الحمل، لا بالحيض وجعل ذات الحيض مقابلة للحامل. ومن فوائد الحديث: أن الحيضة الواحدة تحصل بها براءة الرحم حتى وإن قلنا: إن الحامل تحيض فإن الأصل أنها لا تحيض، وأن الحيض دليل على أنها ليست بحامل، وإذا كان المقصود مجرد براءة الرحم فإن الحيضة الواحدة كافية فيكون هذا الحديث يدل على أن براءة الرحم تحصل بحيضة واحدة، عموم الحديث يتناول البكر وغير البكر لقوله: "ولا غير ذات حمل" فهل هذا العموم مراد أو ليس بمراد؟ المشهور من المذهب أنه مراد وأنها لا توطأ المسبية ولو كانت بكرًا تحيض حيضة مع أننا نعلم أنها بريئة الرحم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن البكر لا يجب استبراؤها والصحيح أنه لا بد من استبرائها حتى وإن كانت بكرًا؛ لأن البكر- وإن لم توطأ- يخشى أن تكون تحملت لماء الرجل يعني: أخذت النطفة فتحملت بها فحملت.

ومن فوائد الحديث أيضًا: أن الحامل من النساء يجوز وطؤها، لكنه مقيد بما إذا لم يكن عليها ضرر فإن كان عليها ضرر؛ لكون الحمل ثقيلًا عليها والجماع يضرها فإنه لا يجوز له أن يجامعها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار". ومن فوائد الحديث: جواز وطء المسبية حتى في دار الحرب لعموم قوله: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا ذات حمل حتى تحيض"، وقوله: "وله شاهد عن ابن عباس .... إلخ" الشاهد والمتابع نحتاج إليهما إذا كان الحديث ضعيفًا، أما إذا كان قويًا لسنا بحاجة إلى الشاهد، والفرق بين الشاهد والمتابع أن الشاهد أن يأتي حديث من طريق صحابي آخر يؤكد الحديث الآخر، مثل: أن يروى عن ابن عباس حديث ضعيف السند فيروى عن ابن عمر حديث بمعناه ضعيف السند، فهما نقول: الثاني شاهد للأول وكذلك لا مانع أن يكون الشاهد أقوى من المشهود له، أما المتابع فإنما يكون في السند بأن يتابع الرجل الضعيف رجلًا قويًا في الأخذ عن شيخه الذي حدثه وبهذه المتابعة يزول انفراد الضعيف بالرواية ويكون الحديث قويًا، ثم إن كانت المتابعة في شيخ الراوي فهي تامة، وإن كانت فيمن فوقه فهي ناقصة. مثال ذلك قال الراوي: الضعيف حدثني "رقم 1" عن "رقم 2" عن "رقم 3" عن "رقم 4" ثم يأتي رجل آخر يقول: حدثني "رقم 1" عن "رقم 2" عن "رقم 3" عن "رقم 4" هذه متابعة تامة، فإن قال المتابع: حدثني "رقم صفر" عن "رقم 2" يعني: أبدل شيخ المتابع بشيخ آخر وروى عن شيخ شيخه فهذه متابعة ناقصة، وكلما ارتفعت نقصت أكثر، فإذا وافق هذا الضعيف في شيخ شيخه فهي أنقص من شيخه، وفي شيخ شيخ شيخه أنقص من شيخ شيخه، وهلمَّ جرًّا، ووجه ذلك: أن المتابعة التامة إذا روى عن شيخه صار موافقًا في السند والمتن، فصارت المتابعة تامة، وإذا روى عمن فوقه صار متابعًا له في المتن وفي بعض السند؛ فلهذا سمِّيت ناقصة، وعلى كل حال: فإننا لا نحتاج للشاهد والمتابع إلا إذا كان الحديث ضعيفًا يحتاج إلى من يقويه وأما إذا كان صحيحًا فلا حاجة لكن لا شك أنه كلما كثر عدد الطرق كان أقوى ولهذا نقول: إن المتواتر ليس كخبر الآحاد. * * *

1082 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر". متَّفقٌ عليه من حديثه، ومن حديث عائشة في قصَّةٍ، وعن ابن مسعودٍ عند النَّسائيَّ، وعن عثمان عند أبي داود. قوله: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ما الفراش؟ الفراش هو: ما يفرشه الإنسان من قطن أو كتان أو صوف أو غير ذلك حتى الأرض تسمَّى فراشًا، ولهذا لو قال شخص: والله لا أنام الليلة إلا على فراش تحت السقف ثم ذهب إلى البرِّ ونام على ظهر الأرض نقول حنثت الآن؛ لأنك لم تنم على فراش ولم تنم تحت السقف فقال: أنا نويت بالفراش الأرض؛ لأن الله قال: {الَّذي جعل لكم الأرض فراشًا} [البقرة: 22]. ونويت بالسقف السماء لأن الله تعالى قال: {وجعلنا السماء سقفًا مَّحفوظًا} [الأنبياء: 32]. فهل نقول: الآن حنث ويلزمه الكفارة؟ لا، إذن الفراش: ما يفرش، والمراد بالفراش في الحديث: ما يفترش، وهو يكون للزوجة ويكون للمملوكة، لكن الزوجة تكون فراشًا بالعقد مع إمكان الجماع والأمة المملوكة لا تكون فراشًا بالجماع، والفرق أن الأمة تشتري لغير الجماع يشتريها ليعتقها في كفارة أو للخدمة أو لأي غرض آخر، فلا تكون لك فراشًا إلا بالجماع، وأما الزوجة فتكون فراشًا بإمكان الجماع مع العقد، وقيل: تكون فراشًا بمجرد العقد وإن لم يمكن الجماع، وقيل: لا تكون فراشًا إلا بالجماع، والمذهب أنها تكون فراشًا بالعقد مع إمكان الجماع، وإن علمنا أنهما لم يجتمعا، ويظهر ذلك بالمثال رجل عقد على امرأة وهو في المشرق وهي في المغرب هل تكون فراشًا؟ على أحد الأقوال تكون فراشًا، وإن كنا نعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يجتمع بها. إذن تكون فراشًا على قول، وتكون غير فراش على قولين، عقد على امرأة وهما في بلد واحد لكن لم يدخل بها حتى الآن وقد تواعد الزوج وأهل المرة على أن يكون الدخول بعد أسبوع فهل تكون فراشًا؟ تكون فراشًا على قولين دون القول الواحد والقولان من يقول: تكون فراشًا بمجرد العقد، ومن يقول: تكون فراشًا بالعقد مع إمكان الجماع؛ لأن هذا الرجل وإن لم يحصل الدخول المقرر ربما يجتمع بها، رجل عقد على امرأة ودخل عليها وجامعها تكون فراشًا على كل الأقوال فإذا جاء ولد من امرأة ذات فراش فالولد لصاحب الفراش والزاني ليس له شيء له الحجر. وقوله صلى الله عليه وسلم: "للعاهر"؛ أي: للزاني، "الحجر" يعني: أنه يلقم حجرًا في دعواه، وقيل: للزاني

الحجر أي: حجر الرجم وهذا القول الثاني لا يصح؛ لأنه ليس كل زانٍ يرجم، وعلى هذا فالمعنى الأول أصح؛ ولهذا يقال في الرجل إذا قطعت حجته: ألقمه حجرًا فالمعنى: أن الزاني ترفض دعواه ويلقم حجرًا وهذا ظاهر فيما إذا تنازع الزاني وصاحب الفراش أن الولد للفراش والزاني ليس له شيء حتى وإن وجد شبه يؤيد دعوى الزاني فإنه لا يلحق به، بدليل قصة عبد بن زمعة في غلام تنازع فيه مع سعد بن أبي وقاص حيث قال سعد: إن هذا الغلام لأخي أوصى إلي به، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي ولد من وليدة أبي على فراشه، أما سعد فأدلى بحجة وقال: انظر إلى شبهه فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى شبهه فوجد شبهًا بيِّنًا بعتبه بن أبي وقاص أخي سعد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى هذا الشبه وقال: "هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر". فإذا قال قائل: ما فائدة ذكر المؤلف لهذا الحديث في باب العدد والاستبراء؟ نقول: ذكره واضح، وهو أن المرأة حملت ووضعت ولو من زنا ولكنها وضعت طلاق زوجها فإن عدتها تنقضي؛ لأن الولد للزوج صاحب الفراش، فإذا وضعته انقضت عدتها منه، هذه هي المناسبة في هذا الحديث للباب. يستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: أنه إذا تنازع صاحب الفراش من زوج أو مالك سيد مع آخر زانٍ فإن الفراش مقدم على دعوى الزاني لقوله: "الولد للفراش". ومن فوائد الحديث: أن الاعتماد بالبينات عند التعارض بين الحكم الكوني والشرعي على الحكم الشرعي ما هو الحكم الكوني؟ أن يكون الولد الذي فيه النزاع مشابهًا للزاني هذا حكم كوني يدل على أن الله خلقه من مائه، لكن الحكم الشرعي مقدمٌ على الحكم الكوني لأن الشرعي هو الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وعلى هذا فنقول: إن تعارض حكمان: شرعي، كوني، أخذ بالشرعي، وألغي الكوني. ومن فوائد الحديث: أنه لو ادعى الزاني أو لو استلحق الزاني الولد والمرأة ليست ذات فراش، فإن الولد يكون للزاني؛ لأن فحوى الخطاب تدل على أن هذه لمسألة فيما إذا تنازع صاحب الفراش والعاهر وأما مع عدم النزاع فالولد للزاني وذلك لأن الحكم الكوني الآن لا يعارضه حكم شرعي فكيف نلغي هذا الحكم الكوني مع أننا نعلم أن هذا الولد خلق من ماء هذا الرجل؟ فإذا استلحقه، وقال: هو ولده فإنه له وهذا لا شك أولى من إضاعة نسب هذا الولد لأننا إذا قلنا: إنه لأمه ولا ينسب للزاني بأي حال من الأحوال صار هذا الولد ليس له نسب من قبل أبيه، وإنما نسبه من قبل أمه وفي هذا ضاع له وينبني على هذا القول لو أن رجلًا زنى

بامرأة وحملت منه فهل يجوز أن يعقد عليها النكاح؟ إن قلنا بأن الزاني ليس له إلا الحجر مطلقًا ولو مع عدم منازع فإنه ليس له أن يعقد عليها النكاح؛ لأن الولد ليس له ولا يجوز للإنسان أن يتزوج حاملًا بولد ليس له، وإذا قلنا بأنه إذا استلحقه الزاني وليس هناك فراش فإنه يلحقه فإنه يجوز أن يتزوج هذه الحامل؛ لأن الولد له فيجوز أن يتزوجها. فإذا قال قائل: لو أن هذه المسألة وقعت فهل الأولى أن نفتي بهذا القول الثاني أو بقول الجمهور وهو القول الأول؟ نقول: يتعارض عندنا في هذه الحال مصلحة ومفسدة أما المصلحة فهي حفظ نسب الولد وعدم ضياعه على المرأة وكلاهما أمر مطلوب للشرع وأما المفسدة فهي أن يتجرأ الناس على هذه الفعلة الشنيعة فإذا اشتهى امرأة زنى بها حتى تحمل ثم في هذه الحال سوف تضطر إذا خطبها لقبول الخطبة والنكاح ويتلاعب الناس ويكون كل من أراد امرأة ذهب يزني بها ومعلوم أن الناس يريدون الستر، فإذا زنى بها وحملت اضطر أهلها- وهي أيضًا- إلى أن يزوجوها، وهذه المفسدة كبيرة فهل نغلب جانب المصلحة أو نغلب درء المفسدة؟ نحن إذا نظرنا إل أنه فيه مصلحة قلنا: إذا تاب إلى الله وندم على ما فعل وأراد أن ييسر لله عليها نزوجه منها، ويستلحق الولد ويكون الولد له، لكن جانب المفسدة هو الذي يكسر الظهر، نقول: إذا كان اشتهر أن هذا الرجل زنى بهذه المرأة فهنا نغلب جانب درء المفسدة لأنه مشتهر، فإذا زوَّجناه وقد اشتهر انفتح الباب، أما إذا كانت المسألة سرًّا ولم يطلع عليها أحد فهنا نغلب جانب المصلحة؛ لأنه المفسدة هنا قد تكون بعيدة حتى هو لا يريد أن يفضح نفسه ويقول: إنه زنى بها ثم تزوَّجها. [مسألة]: العلماء اختلفوا هل حق الاستلحاق للأب خاصة أو له ولغيره من الأقارب؟ فمن العلماء من قال إن حق الاستلحاق للأب خاص وليس أن يستلحق أحدًا فالأخ مثلًا لا يمكن أن يقول: هذا فيستلحقه؛ لأنه لو فعل ذلك صار في ذلك إثبات حق على غيره على الأب وعلى الأم وليس له الحق، فهنا إذا قلنا: بأن الحق يستلحق معناه أن الأصل بني على الفرع والعكس هو الصحيح أما إذا استلحقه الأب فإنه يثبت النسب ويثبت لأولاده من بعده فيكون هذا أخًا لهم. وقال بعض العلماء: بل لكل وارث حق الاستلحاق، الأب معروف وغيره، كل وارث له

حق الاستلحاق، فلو هلك هالك عن أبناء ثلاثة مثًلا فقال أحدهم: هذا أخ لنا فنكون أربعًا فله الحق أن يستلحقه، ثم إن أقر به الثلاثة الآخرون ثبت نسبة لهم وللأب وإن أنكروه فإنه يثبت من مقرٍّ فقط دون الآخرين. واستدل هؤلاء الذين قالوا: إنه يصح الاستلحاق من الأب وغيره بقول المؤلف: "ومن حديث عائشة في قصة"، القصة هو أنه اختصم عبد بن زعمة أخو سودة بنت زمعة وسعد بن أبي وقاص في غلام فقال سعد: هذا غلام أخي ابنه، وقال عبد بن زمعة هذا أخي ولد على فراش أبي من وليدته، أما سعد بن أبي وقاص بحجةٍ قال: انظر إلى شبهة فنظر النبي صلى الله عليه وسلم: إلى الغلام فإذا به شبه بينٌ بعتبة بن أبي وقاص، وأدلى عبد بن زمعة بحجة، وهي أنه ولد على فراش أبيه من أمته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر" قالوا: فأقرُّ النبي صلى الله عليه وسلم استلحق عبد بن زمعة لهذا الغلام وقال: "هو لك"، ولكنه قال لسودة: "احتجبي منه يا سودة" مع أنه حكم بأنه أخوها، لكنه أمرها بالاحتجاب، وسيأتي الكلام عليه. الشاهد من الحديث: أن عبد بن زمعة قضى له النبي صلى الله عليه وسلم بالغلام وجعله أخًا له فقال: "هو لك يا عبد بن زمعة"، ولكن يشكل على هذا الحديث أن سودة لم تقر بذلك ولم تنكر ونحن نقول: لا يثبت نسبه للأب إلا إذا أقر به جميع الورثة، وهنا لم يقر به جميع الورثة فأجابوا عن هذا الإشكال بأن سكوت سودة عن ذلك يدل على أنها موافقة لدعوى أخيها عبد بن زمعة، وأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الولد بأنه لعبد بن زمعة كافٍ في ثبوته، ولكن المسألة فيها شيء من الإشكال، إذا غير الأب إلا إذا نسبه للأب قال: هذا ولد أبي مثلًا على فراشه كما قال عبد بن زمعة فهنا أراد عبد بن زمعة أن يثبت الأصل قبل أن يثبت الفرع؛ لأنه قال: هذا ولد على فراش أبي فيكون كاستلحاق الأب ويكون الولد هنا بمنزلة الشاهد لا بمنزلة المدعي والمسألة تحتاج إلى بحث؛ لأن فيها إشكال إلا أن حديث عبد بن زمعة واضح في أن عبد بن

زمعة لا يريد الأخوة فقط إنما يريد إثبات أن هذا الغلام لزمعة فهو لا يريد أن يضيفه إلى نفسه فحسب، بل إلى الأصل ثم يثبت بعد ذلك الفرع والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله هو أن الأب إذا استلحقه لحقه وصار أخًا لجميع أولاد هذا المستلحق، وأما غير الأب فإن اتفق الورثة على استلحاقه ثبت نسبه، وإن اختلفوا ثبت نسبه من المقرِّ به فقط، وعلى هذا فإذا كان هناك زيد وعمرو أخوين فأقرَّ زيد بأن بكرًا أخ لهما ولكن عمرًا أنكر فيكون بكرًا أخًا لزيدٍ وليس أخًا لعمرو ويتزوج من بنات عمرو، ولا يتزوج من بنات زيد؛ لأن بنات زيد هو عمهن بإقرار أبيهن، أما بنات عمرو فإن أباهن قد أنكر وهذه من غرائب العلم، أن يكون رجل بين أخوين يتزوج من بنات أحدهما ولا يتزوج من بناته الآخر. وقوله: "عن ابن مسعود عند النسائي، وعن عثمان أبي داود" يعني: أن الحديث رواه عدد من الصحابة "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، وقد بحثنا فيما سبق ما إذا كان الزاني الذي ادعى الولد لا يعارضه فراش صحيح هل يلحق بالزاني؟ وبينَّا أن في المسألة قولين للعلماء، فالجمهور لا يلحقونه بالزاني؛ لعموم قوله: "وللعاهر الحجر"، وشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من العلماء يلحقونه ويقولون: إن هذا الولد ثبت كونه للزاني قدرًا ولم يعارضه حكم شرعي فلا نهمل الحكم القدري بدون معارض، أما لو عارضه حكم شرعي فمعلوم أن الحكم الشرعي مقدم على الحكم القدري، وقول شيخ الإسلام وجيه جدًّا لكنه لا ينبغي إظهار الفتوى به؛ لأنه يترتب عليه مفسدة وهي أن الشخص إذا أراد أن يتزوج امرأة وأبوا عليه خادعها حتى يزني بها فإذا زنى بها وحملت حينئذٍ اضطروا إلى أن يزوجوه فيكثر الشر والفساد، لكن لو وقعت مسألة وابتلى الإنسان بها والسؤال عنها، فقول شيخ الإسلام لا شك أنه قوي. ومن فوائد الحديث: أن الشبه لا يعارض به الحكم الشرعي، يؤخذ هذا من حديث عائشة. ومن فوائده: أنه لو اجتمعت البينة الشرعية والقيافة فإنها تقدم البينة الشرعية؛ لأن اعتماد القيافة على الشبه، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ألغى الشبه مع وجود البينة الشرعية- وهي الفراش- دل هذا على أن القيافة لا يرجع إليها مع وجود البينة الشرعية، وإنما يرجع إليها عند الاشتباه. ومن فوائد الحديث: إطلاق اسم العاهر على الزاني لأن العهر هو الزنا. ومن فوائد الحديث: استعمال الكنايات وأنه إذا دل الدليل على المعنى المقصود صار استعماله في هذا المعنى حقيقة لقوله: "وللعاهر الحجر" فإننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن تأخذ حجرًا وتعطيه هذا العاهر، وإنما أراد أن تلقمه حجرًا بإبطال دعواه، وإذا دلَّت القرينة على أن

4 - باب الرضاع

هذا هو المراد صار حقيقة في موضعه، وهذا هو الذي جعل شيخ الإسلام ينكر وجود المجاز في اللغة قال: لأن دلالة القرينة على المعنى المراد في السياق المعين تمنع إرادة المعنى الأصلي ويكون استعمال هذا اللفظ في موضعه حقيقة لا مجازًا، ولهذا لما أنكر عليه، قيل: كيف تنكر المجاز في اللغة وهو موجود؟ ! فيقال: فلان كثير الرماد كناية عن كرمه، ويقال: فلان طويل، عماد البيت كناية عن سيادته؛ لأن السيد في العادة يكون له البيت الرفيع العماد، قال: نعم، لكن هذا اللفظ في هذا السياق يعين المعنى ولو أردت المعنى الحقيقي ما استطعت، فيكون هذا استعماله في هذا المعنى حقيقة، وعلى أن الكناية وإن كان المعنى المراد بها خلاف ما يظهر من اللفظ لكن اللفظ الذي استعملت فيه حقيقة هو كثير الرماد وطويل العماد، لكن هو يدل على المعنى اللازم. * * * 4 - باب الرضاع تعريف الرضاع: الرضاع مصدر أو اسم مصدر؟ ننظر يقال: رضع يرضع رضعًا. إذن فالرضاع اسم مصدر؛ لأنه إذا دلت الكلمة على معنى المصدر واحتوت على حروفه الأصلية دون الزائدة فهي اسم مصدر، فالكلام مثلًا يعتبر اسم مصدر؛ لأنك تقول: كلَّم يكلم تكليمًا؛ إذن الكلام بمعنى التكليم لكن ليس على حروفه فيكون اسم مصدر، السلام كذلك اسم مصدر؛ لأن المصدر من سلَّم تسليمًا، لكن سلام يدل على التسليم، ولكن ليس فيه حروفه الزائدة فيكون اسم مصدر، إذن الرضاع اسم مصدر وهو في الأصل: مصُّ الطفل اللّبن من الثدي أي ثدي حتى لو التقم ثدي شاة فهو رضاع لكن لا يؤثر إذن فالرضاع مصُّ الطفل اللبن من الثدي هذا في الأصل وعلى هذا فلو أن المرأة حلبت اللبن في إناء وشربه فإنه لا يعدُّ رضاعًا لغة وهل يعدُّ رضاعًا شرعًا؟ فيه خلاف، أما الظاهرية فيقولون: إن هذا ليس برضاع وأنك لو أسقيت لطفل خمسة فناجيل لم يكن شيئًا لأنه ليس رضاعًا لغةٍ ولكنه لغة شرب فلا يؤثر، لكن سيأتينا أن قول الجمهور: هو عدم الفرق بين مصِّ اللبن من الثدي أو شربه ونحوه؛ بدلالة السنةُّ على ذلك، الرضاع محرم يثبت به من أحكام النسب أربعة أحكام: تحريم النكاح، إباحة النظر والخلوة، المحرمة، إباحة السفر، وكل هذه فرع عن المحرمة لكن لا مانع من التفصيل، ولا يثبت به بقية أحكام النسب، كل أحكام النسب لا تثبت به إلا هذه الأربعة فقط: النفقة لا تثبت، تحمل الدِّية لا يثبت، الإرث لا يثبت، لكن لثبوت أحكام الرضاع شروط بينتها السنة، أما في القرآن فالرضاع مطلق؛ لقوله تعالى: {وأمهاتكم الَّتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} [النساء: 23]. بدون شروط، لكن السُّنة بينت ذلك، منها قول المؤلف فيما نقله:

1083 - عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرِّم المصَّة والمصَّتان". أخرجه مسلمٌ. "لا" نافية، "تحرم" فعل مضارع منفي، أي: لا يثبت التحريم بالمصة والمصتين، والمصُّ معروف، وهو: أن الطفل إذا التقم الثدي جذب اللبن منه بهذا المص، فالمصة الواحدة لا تحرم، والمصتان لا تحرمان، وهل هما رضاع؟ لغة رضاع لكن شرعًا لا أثر له؛ لأنه لم تتم به الشروط، والثلاث نقول منطوق الحديث أن المصة والمصتين لا تحرمان مفهومه أن ما زاد عليهما مؤثر وهو الثلاث فأكثر وبهذا أخذ بعض العلماء وقال: إن الرضاع المحرَّم ما بلغ ثلاث رضعات وما دونها لا يحرم بناء على المفهوم من هذا الحديث: "لا تحرم المصة والمصتان". 1084 - وعنها رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظرن من إخوانكنَّ، فإنَّما الرَّضاعة من المجاعة". متَّفقٌ عليه. "انظرن": فعل أمر، والخطاب للنساء، والموجه إليه الخطاب عائشة رضي الله عنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها ذات يوم وعندها رجل فتأثر فبينت له أنه أخوها من الرضاع، فقال: "انظرن من إخوانكن؟ " خطاب للنسوة، لكنه موجه لعائشة، وهذا من ملاطفة عائشة رضي الله عنها أنه لم يواجهها بالخطاب، بل قال: "انظرن" جعله خطابًا عامًّا، وقوله: "من إخوانكن" الجملة استفهامية؛ أي: من الذي يكون أخًا أو ليس بأخ؟ لأنها قالت: إنه أخي. ثم قال: "فإنما الرضاعة من المجاعة" المعنى: إنما الرضاعة المؤثرة ما تغني من المجاعة وعلى هذا فيكون المعنى: أن الطفل يتغذى باللبن؛ لأنه لا يغني من المجاعة إلا إذا كان يتغذى به، أما إذا كان يتغذى بالطعام فيغنيه من المجاعة الطعام، وهذا يدل على أنه لا بد من شرط في الرضاع غير العدد، الشرط أن يكون في الزمن الذي يتغذي فيه الطفل باللبن فإن فطم فلا أثر للرضاع لماذا؟ لأنه إذا فطم لا يدفع جوعته اللبن وإنما يدفعها الطعام؛ وبناء على هذا نقول: يشترط للرضاع أن يكون قبل الفطام، وهذا كما أنه مقتضى الدليل السمعي فهو مقتضى الدليل العقلي أيضًا لأنه إذا كان بعد الفطام فإن تغذي الطفل به ضعيفٌ إذ إنه يتغذى بالمأكول والمشروب وغذاؤه باللبن ضعيف، لكن إذا كان لم يفطم فهو محتاج إلى اللبن يتغذى به وينمو به جسمه وهذا الذي دل عليه الحديث هو القول الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه

يشترط للرضاع أن يكون قبل الفطام لأنه هو الذي تندفع به المجاعة. إذن عندنا شرطان: الأول: عدد يزيد على الثنتين لقوله: "لا تحرم المصة والمصتان"، الشرط الثاني: أن يكون قبل الفطام في زمن تندفع به المجاعة وهذا هو القول الراجح وذهب بعض العلماء إلى أن المعتبر السن فما كان في الحولين فهو محرم وما كان بعدهما فليس بمحرم سواء فطم أم لم يفطم واستدلوا بقوله تعالى: {? والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة: 233]. فبين الله تعالى أن تمام الرضاعة يكون بتمام الحولين قالوا ولأن الحولين زمن يمكن الإحاطة به لأنه معلوم لكن الفطام أمر تختلف فيه الأفهام فلا ندري هل هذا فطم أم لم يفطم؟ نحن نراه إذا بكي ثم القمناه التدي سكت ولذا بكى ثم أعطيناه ثمرة سكت. إذن هو مفطوم أو غير مفطوم؟ لا ينضبط فقالوا: إن الفطام لا ينضبط وإذا كان أمر لا ينضبط فالسنتان أمر منضبط فليكن الرجوع إليها حتى لا يحصل الشك أو التشكك ولكن يقال في الجواب عن ذلك إن الفطام أمر معلوم في العرف؛ فرق بين الطفل نأتي له بالطعام والشراب مع الناس يتغدى ويتعشى ويفطر، أو نعطيه الحلوى أو الكعك ويستغنى به، وطفل لا يمكن أن يأكل من هذا شيئًا إلا نادرًا في اليوم والليلة ويحتاج إلى اللبن وذهب بعض العلماء إلى أن المعتبر الأكثر، يعني: إن فطم قبل الحولين فالمعتبر الحولان، وإن تم الحولان قبل الفطام فالمعتبر الفطام، وكأن هذا القول أراد به قائله أن يجمع بين الدليلين فيقول تعتبر بالأكثر، لكن الذي يظهر لي من الأدلة أن المعتبر الفطام؛ لأنه هو الذي يتضمن العلة المعقولة وهي تغذي الطفل باللبن ولا يمنع أن يكون غير مفطوم إذا أكل ثمرة أو ثمرتين أو قرصنا أو قرصين هذا لا يمنع هو لم يفطم ولو أكل مثل هذا الشيء لأنه شيء يسير جرت به العادة إذن نأخذ شرطين: الشرط الأول: هذا، والشرط الثاني: ألا يكون أقل من مصتين. من فوائد حديث عائشة الأول: أن للرضاع تأثيرًا في الأحكام الشرعية؛ لقوله: "لا تحرم المصة والمصتان".

ومن فوائده: أنه لا يحرم من الرضاع ما دون الثلاث، وهذه الفائدة تؤخذ من مفهوم الحديث. ومن فوائد الحديث: أن المعتبر هو المصة، لكن ذكرنا أنه يراد بالمصة: الرَّضعة بناء على الأحاديث الآتية. ومن فوائد الحديث الثاني: وجوب الاحتياط في الخلوة وغيرها من المسائل التي الأصل فيها التحريم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "انظرن من إخوانكن". ومن فوائده: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية بيته؛ لأنه قال ذلك حينما وجد عند عائشة رجلًا وقالت: إنه أخوها من الرضاع. ومن فوائده: أنه يجب علينا أن نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا وأن ننظر من يأتي إلى أهلنا حتى لو فرض أنها من النساء التي يخشى منها فإن علينا أن نتبه؛ وذلك لأن أهلك يحتاجون إلى رعايتك وأنت مسئول عنهم. ومنها: ثبوت لقب الأخوة بالرضاع وكذلك الأمومة والأبوة، ففي القرآن: "وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرَّضاعة [النساء: 23]. ولم يأت في القرآن آباؤكم، لكن أتى بعموم السُّنة، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". ومن فوائد الحديث: أن الرضاع لا يؤثر إلا إذا كان نافعًا من المجاعة، وهذا كناية عن كون الطفل لم يفطم، لقوله: "إنما الرضاعة من المجاعة". ومن فوائده: أن السنة تخصص القرآن، وذلك من وجهين: الوجه الأول هنا: أن زمن الرضاعة محدود، والوجه الثاني: العدد في الحديث الأول، فإن السُّنة بينت أن ما دون الثلاث لا يؤثر مع أن ظاهر القرآن: {وأمهاتكم الاتي أرضعنكم} ظاهره الإطلاق، وأنه يحصل التحريم برضعة واحدة، لكن السُّنة تقيد مطلق القرآن وتخصص عامه. ومن فوائد الحديث: الرد على من قال: إن رضاع الكبير محرم، لقوله: "إنما الرضاعة من المجاعة". ومن فوائده: أنه يدل على أن العبرة في زمن الرضاعة بالعظام لا بالسن، وحينئذٍ نحتاج إلى الجمع بينه وبين قوله: {? والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}، وقد ذكرنا الجمع فيما سبق. * * *

مسألة إرضاع الكبير وأحكامها

مسألة إرضاع الكبير وأحكامها: 1085 - وعنها رضي الله عنه قالت: "جاءت سهلة بنت سهيل. فقالت: يا رسول الله، إنَّ سالمًا مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا، وقد بلغ ما يبلغ الرِّجال. فقال: أرضعيه، تحرمي عليه". رواه مسلم. قولها رضي الله عنها: "سهلة بنت سهيل" هي زوجة أبي حذيفة بن اليمان، وكان له مولى يقال له: سالم تبناه، أي: وجعله أبنا له، وكانوا في الجاهلية يتبنى الواحد منهم من ليس له أحد من الموالي، بأن يتخذه ابنًا له كابنه من النسب، فنسخ الله عز وجل ذلك بقوله: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم}، وقال: {ادعوهم لأباءهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا أباءهم فإخوانكم في الدين وموليكم} [الأحزاب: 5]. فلا يجوز في الإسلام أن يتبنى أحد أحدا من الناس، وكانوا قال جعلوا هذا الرجل بمنزلة الابن يدخل عليهم ويخرج ويقضي حوائجهم، فلما تبين في الشرع أن الرضاعة لا تكون إلا بزمن معين جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "إنه معنا في بيتنا وقد بلغ ما يبلغ الرجال"، فكأنها تقول: ما الحل لهذه المشكلة؟ فقال: "أرضعيه تحرمي عليه"، أي: تحرمي عليه نكاحا فتكوني من محارمه، وفي قوله: "تحرمي عليه" من حيث الاعراب نقول: إنه حذفت النون؛ لأنها مجزومة على أنها جواب الأمر في قوله: "أرضعيه". ففي هذا الحديث: دليل على أن الرضاع محرم حتى الكبار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أرضعيه تحرمي عليه"، وقد أخذ بذلك الظاهرية وقالوا: إن الرضاع محرم بلا عدد ولا زمن لإطلاقه في الآية: {وأمهاتكم الاتي أرضعنكم}، ولحديث سالم مولى أبي حذيفة، وكانت عائشة إذا أرادت من أحد أن يدخل عليها تأمر أختها أسماء بنت أبي بكر أن ترضعه من أجل أن تكون عائشة خالة له فلا يجب عليها الحجاب عنه ولكن جمهور العلماء ومنهم أمهات المؤمنين سوى عائشة يقولون: إن هذا خاصٌّ بسالم مولى أبي حذيفة، ومنهم من يرى أنه منسوخ، ولكن تعلمون أن هاتين الدعويين تحتاجان إلى دليل، أما الخصوصية فالأصل تساوي الناس في الأحكام الشرعية ولا تقبل دعوى الخصوصية إلا بدليل فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم- وهو النبي- لا يقبل دعوى الخصوصية فيه في أي حكم من الأحكام إلا بدليل فما بالك بمن سواه؟ ! والنسخ كذلك يحتاج إلى دليل، لأنه لا بد أن نعلم أن هذا الحديث الناسخ متأخر، ومن يقول: إن قوله:

"إنما الرضاعة من المجاعة" متأخر عن قوله: "أرضعيه تحرمي عليه"؟ ومن يقول: إنه قال: "لا تحرم المصة والمصتان" بعد قوله: "أرضعيه تحرمي عليه"؟ حتى نقول: إن هذا الحديث يدل على أنه لا يشترط عدد ولا زمن ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أنه خاصٌّ بمولى أبي حذيفة على وجه دقيق وقال: إنه إذا وجد من حاله كحال هذا الرجل فإن حكم هذا الرجل يثبت له؛ لأن الأحكام الشرعية لا يمكن أن تخصص لأحد بعينه إلا بسبب، فإذا وجد هذا السبب في غيره ثبت للغير حكم التخصيص وقالوا: إن الحاجة تبيح إرضاع الكبير ليكون محرمًا، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله في موضع من كلامه، وقال: إن المرأة إذا احتاج الرجل إلى الدخول عليها دائمًا فإنها ترضعه ويكون ولذا لها؛ لأن سهلة بنت سهيل شكت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحاجة وقال في موضع من كلامه إنه إذا وجدت حالة مثل حالة سالم من كل وجه ثبت الحكم وإلا فلا وهذا الأخير هو الصحيح وقوله: الأول أنه مطلق الحاجة مردود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والدخول على النساء" قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت"، ولو كان الإرضاع المطلق الحاجة مثبتًا للمحرمية لقال: الحمو ترضعه زوجة قريبه ويزول المحذور فلما لم يقل ذلك مع دعاء الحاجة إليه علم أن مطلق الحاجة لا يثبت به حكم الرضاع إذا أخذنا بالقول الثاني من قولي شيخ الإسلام رحمه الله، فإن الحالة التي صارت لسالم لا يمكن أن توجد؛ لأن سالمًا كان متبنَّى ومتخذًا ابنا كابن النسب لا يحتشمون عنه بأي شيء من الأشياء وكان قد داخلهم مداخلة كاملة ففي هذه الحال يكون من الصعب جدًّا أن يحرم من الدخول إلى البيت والخلوة بالمرأة وما أشبه ذلك، فمن أجل هذه الحاجة الشديدة ووجود السبب المقتضي لها قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه تحرمي عليه" وبهذا تجتمع الأدلة ونسلم من القول بأن إرضاع الكبير لمطلق الحاجة جائز ومثبت للحكم. ومن فوائد هذا الحديث: أولًا أنه قد تقرر عندهم أن إرضاع الكبير لا أثر له، وجه الدلالة: أنها جاءت تشتكي الحال التي هي عليها، ولو كان مقررًا عندهم أن رضاع الكبير كرضاع الصغير ما سألت. ومن فوائد الحديث: جواز مخاطبة المرأة وأن كلامها مع الرجل ليس بمحرم، لأن سهلة

خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم وخاطبها لكن هذا مشروط بما لم تكن فتنة فإن كان فتنة فإن الأدلة الأخرى تدل على منع ذلك وإذا قلنا بجواز مخاطبة المرأة للرجل فهل هو على إطلاقه؟ لا بل عند الحاجة، وشرط آخر ألا تخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، أما مع عدم الحاجة فإن المخاطبة سبب للفتنة فتجتنب وأما الخضوع فإنه محرم لأنه وسيلة لطمع من في قلبه مرض. ومن فوائد الحديث: حرص الصحابة- رضي الله عنهم- على تعلم العلم رجالا ونساءً وجه ذلك أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه القضية. ومن فوائد الحديث: أن صوت المرأة ليس بعورة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهها عن ذلك. ومن فوائد الحديث: جواز إرضاع الكبير وأنه، مؤثر لقوله: "أرضعيه تحرمي عليه". ومن فوائد الحديث: أن ارتكاب المحرم لغيره إذا دعت الحاجة إليه فلا بأس لقوله: "أرضعيه" فإنه قبل أن يكون ولدًا لها لا يحل له أن يمس ثديها مثلًا، وهنا إذا أرادت الرضاعة فلا بد أن يمس ثديها ويرضع منه لكن للحاجة جاز فهذا وسيلة لأمر يحتاج إليه وأصل تحريم مس المرأة أنه وسيلة إلى الفاحشة والزنا وما حرِّم تحريم الوسائل فإن القاعدة عند أهل العلم أنه يباح للحاجة ونظير ذلك من بعض الوجوه: إذا أصاب المخرم طيبًا فلا حرج عليه أن يمسه من أجل إزالته، ومن ذلك أيضًا أن الإنسان يمس الخبث في الاستنجاء بيده من أجل إزالته، ومن ذلك أيضًا أن الغاصب يخرج من الأرض المغصوبة فيمشي فيها من وسطها إلى طرفها وهو مشي محرم لأنه في غير ملكه لكن من أجل التخلص من هذا فالتخلص من الشيء المحرم إذا سار الإنسان فيه فإنه لا يعتبر محرمًا؛ لأنه للخلاص منه، وكذلك ما حرِّم تحريم الوسائل فإنه تبيحه الحاجة. ومن فوائد الحديث: أن إرضاع الكبير مؤثر لقوله صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه تحرمي عليه" وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لا عبرة برضاع الكبير، والقول الثاني: أنه معتبر والقول الثالث: أنه معتبر عند الحاجة إليه لا إذا لم يكن هناك حاجة، أما الذين قالوا: إنه مؤثر فاحتجُّوا بهذا الحديث: "أرضعيه تحرمي عليه" مع أنها تقول: إنه بلغ ما يبلغ الرجال واستدلوا أيضًا بعموم قوله تعالى: {وأمهاتكم الاتي أرضعناكم} وهذا مطلق لم يقيد بزمن ولا بحال فيكون الإرضاع مؤثرًا مطلقًا وأما القائلون بأنه لا يؤثر ولا عبرة به فاستدلوا بأدلة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم، "إنما الرضاعة من المجاعة" وسبق معنى الحديث، ومنها الأحاديث الآتية: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم"، وكان قبل الفطام ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول

على النساء"، قالوا: أرأيت يا رسول الله الحمو؟ قال: "الحمو الموت"، ولم يقال: الحمو ترضعه المرأة حتى يكون محرمًا لها مع أن الحاجة داعية إلى أن ترضعه ليدخل البيت ويسلم من الشر، وحينئذٍ تثبت دعواهم أنه لا يؤثر رضاع الكبير، لكن يحتاجون إلى الجواب عن أدلة القائلين بأنه مؤثر فأجابوا عن إطلاق الآية بأن هذه ليست أول آية أطلقت ثم قيدت بالسُّنة فقوله تعالى: {وءاتوا حقه يوم حصاده} مقيد بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقته"، والأمثلة على هذا كثيرة والسُّنة تبين القرآن وتفسره وتقيد مطلقه وتخصص عامه، وليس هذا بغريب فالآية مطلقة ويكون المراد: أرضعنكم، أي: إرضاعًا محرمًا حسب ما تقتضيه السُّنة وأما حديث سالم فأجابوا عنه بأنه خاصٌّ بسالم وهذا مبني على جواز تخصيص الشخص لعينه قالوا: فهو خاص به فلا يلحق به غيره وأجاب بعضهم بأنه منسوخ بالأحاديث الدالة على أنه لا بد أن يكون الرضاع بالحولين أو في زمن المجاعة أو قيل أن يفطم، فقالوا: إن هذا منسوخ بها، وأما الذين قالوا: إنه جائز للحاجة فجمعوا بين الأدلة وقالوا: إن قضية سالم حاجة للضرورة فلهذا أرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ترضعه ولم يرشد غيرها إلى ذلك؛ لأنه لا يوجد فيه مثل حاجة هذا الرجل إذ إن هذا كان كالابن لهم تمامًا قد تبناه أبو حذيفة وصار عندهم بمنزلة الولد ويشقُّ عليهم كثيرًا أن يحتجبوا منه، فلهذا أذن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أكثر الأحكام التي تثبت عند الحاجة التي تشيه الضرورة لقوم وتمنع من قوم آخرين لم يتحقق لهم مثل ذلك، وهذا الأخير اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وبه تجتمع الأدلة ونجيب عن دعوى التخصيص بأنه ليس هناك حكم يخص به أحد لعينه؛ لأن الناس عند الله سواء فلا يمكن أن يخص زيدًا دون عمرو لغير سبب معنوي يقتضي التخصيص. ولو تأملت هذا لوجدته لا يوجد في الشريعة من خصَّ بالحكم لعينه أي: لأنه فلان ابن فلان حتى الرجل الذي ضحى قبل الصلاة وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "شاتك شاة لحم"، قال: إن عندي عناقًا- يعني: ماعزا لها- أربعة أشهر أو نحو ذلك هي أحب إلينا من شاتين فأذن له أن يضحى بها وقال: "إنها لن تجزئ عن أحد بعدك"، والحديث في الصحيحين، وهذا يدل على أن الر جل خص بذلك بعينه، ولكن شيخ الإسلام أبى ذلك وقال هذا الرجل لا يخص بعينه بل يقال من كانت حاله مثل حاله فحكمه حكمه، فلو وجد رجل جاهل ضحى بأضحيته قبل الصلاة ولم يكن عنده ما يضحي إلا مثل هذه العناق قلنا إنها تجزئ عنك ولو كانت لم تبلغ السن أي: لم تكن ثنية، وهذا الذي قاله هو المتعين، حتى خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخصص بها لأنه محمد بن عبد الله لكنه خص بها لأنه رسول الله، فلو وصف لا يكون لغيره فلهذا خص بما يقتضيه هذا الوصف، وما قاله رحمه الله هو الراجح بمعنى: أنه لا تخصيص لأحد بعينه في حكم من أحكام الشريعة لأن الشريعة معلقة بالحكم والأسرار والمعاني والعلل لا بالأشخاص. وعلى هذا فنقول القول الراجح في هذا ما قاله شيخ الإسلام.

بقينا في الجواب عن دعوى النسخ دعوى النسخ لا تقبل إلا بشرطين الشرط الأول: عدم إمكان الجمع، والشرط الثاني: العلم بالتاريخ، فإذا أمكن الجمع فلا نسخ؛ لأن النسخ يستلزم إبطال أحد النصين، وإبطال النص ورد النص ليس بالأمر الهيِّن، يعني: كثير من العلماء- عفا الله عنهم- إذا عجزوا عن الجمع بين النصين قالوا: منسوخ، هذا لا يجوز؛ لأن حكمك بأن هذا الحكم منسوخ، يعني: رده وعدم اعتداده من الشرع فليس بالأمر الهين فلا يجوز أن يتساهل في ادعاء النسخ، نقول: النسخ لا يمكن دعوى قبوله إلا بشرطين أولًا: تعذر الجمع، والثاني: العلم بالمتأخر؛ لأن الناسخ هو المتأخر، فإذا أمكن الجمع حرم العدول عنه وإذا تعذر الجمع نظرنا إذا علمنا التاريخ قلنا المتأخر الناسخ، وإذا لم نعلم وجب علينا أن نتوقف، فنأخذ الحكم الذي لا يتعارض فيه النَّصَّان، وندع ما تعارض فيه النصان هذا هو الواجب اتباعه في نصوص الشرع وعلى هذا فتكون دعوى النسخ في حديث سالم مردودة غير مقبولة فيبقى عندنا يصح دعوى التخصيص لكن لا بشخصه لكن بحاله تخصيص بالحال لا بالشخص، فمن كانت حاله مثل حال هذه الرجل فإننا نفتيه بما أفتى به النبى صلى الله عليه وسلم بما أفتى به سهلة. ومن فوائد الحديث: التكنية عن الشيء بلازمه؛ لقولها: "وقد بلغ ما يبلغ الرجال"، لم تقل: إنه بلغ أن ينظر للمرأة بشهوة، تكنية طيبة وتفيد المعنى. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للمستفتي أن يذكر جميع أوصاف القضية من أجل أن يفتيه المفتي على بصيرة، مثل قولها: "معنا في بيتنا"؛ لأن هذا وصف يقتضي ترتب الحكم عليه، فلا ينبغي للمستفتي أن يأتي بالشيء المجمل، بل يأتي بالشيء البيَّن حتى يكون المفتي على بصيرة، ومن ذلك لو قال لك قائل: هلك هالك عن بنت وأخ وعم شقيق فهنا لا يجب عليك أن تسأل عن البنت لكن يجب أن تسأل عن الأخ إن قال لك لأم فما بقي بعد البنت للعام؟ لأن الأخ من الأم يسقط بالفرع الوارث، وإن قال: أخ لأب أو شقيق يأخذ الباقي ويسقط العام. وهنا نسأل: هل يجب على المفتي أن يسأل عن الموانع؟ لا، يجب فلا يجب عليه أن يقول: هل البنت موافقة لأبيها في الدين هل يجب عليه أن يقول هل البنت رقيقة وأبوها حر؟ لا يجب لأن الأصل عدم المانع وكذلك لو جاء رجل يقول: إنه طلق زوجته هل يجب أن نقول بأي شرط ثبت أنها زوجته هل أنت تزوجتها بشهود وبولي وبرضا وبتعيين أولا يجب؟ لا يجب؛ لأن الأصل الصحة وثبوته على وجه شرعي، هل يجب أن يقول هل هي حائض أو لا؟ لا يجب؛ لأن هذا سؤال عن مانع اللهم إلا أن يكون المانع خفيًّا على الناس فهنا ربما نقول: نسأل هل هي حائض؟ هل طلقتها في طهر جامعتها فيه؟ لكن الأصل أنه يسأل عن المانع.

ومن فوائد الحديث: أن الرضاع لا يشترط له عدد لقوله: "أرضعيه" ولم يحدد، فلا يشترط له عدد، ولا يشترط له كيفية، بمعنى: أنه لا يشترط أن يروي فلا كمية ولا كيفية لقوله: "أرضعيه"، ولكن يقال: إن هذا الإطلاق مقيد بالأحاديث الأخرى الدالة على أنه لا بد من عدد، ففي الحديث الذي روته عائشة في أول الباب: "لا تحرم المصة والمصتان" فيكون هذا المطلق محمولا على المقيد. فإن قال قائل: أفلا يمكن أن يكون مثل هذه الحال يكفي فيها رضاع واحد؟ قلنا: لا؛ لأن السنة يقيد بعضها بعضًا فلا بد من العدد المشترط. ومن فوائد الحديث: أن من حرمت عليه المرأة فله أن ينظر إليها وأن إباحة النظر وتحريم النكاح متلازمان لقوله: "أرضعيه تحرمي عليه" ولم يقل أرضعيه يحل له النظر إليك، مع أن المشكلة ليس في أنها تحرم عليه لأنه لا يمكن أن يتزوجها وهي مع زوج المشكلة في النظر والخلوة، لكن لما كان تحريم النكاح يلزم منه إباحة النظر والخلوة قال: "أرضعيه تحرمي عليه" وكأن النبي صلى الله عليه وسلم عدل إلى هذا الحكم لأنه موافق للقرآن، قال الله تعالى: {حرمت عليّكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم الاتي أرضعناكم} [النساء: 23]. فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذاك إلى هذا؛ لأنه موافق لكتاب الله عز وجل. 1086 - وعنها رضي الله عنه: "أن أفلح أخا أبي المقعيس جاء يستأذن عليها بعد الحجّاب. قالت: فأبيت أن أذن له، فلمَّا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعته، فأمرني أن آذن له عليّ. قوله: "أن أفلح أخا أبي القعيس" نريد إعراب أخا؟ هي أسم إن فهل نقول صفة، تدخل في إشكال لأن الصفة لا بد أن تكون مشتقة قال ابن مالك: وانعت بمشقٍّ كصعبٍ وذرب ... وشبهه كذا وذي والمنتسب نقول: يكون بدلًا أو عطف بيان، قالت: "جاء يستأذن علي بعد الحجاب" وكان أخا لأبيها من الرضاع، وقولها: "بعد الحجاب"؛ لأن الحجاب في الشريعة الإسلامية له حالان، الحال الأولى: في أول الإسلام أو في أول الهجرة على الأصح كانت النساء لا تحتجب عن الرجال تكشف وجهها ويديها وقدميها وربما يرتفع الثوب إلى الساقين، المهم أنه ليس فيه حجاب ثم بعد ذلك أنزل الله الحجاب وفرضه على النساء، وبهذا نعلم أن كثيرا من الأحاديث التي ظاهرها

جواز كشف المرأة عين وجهها وكفيها واختلاطها بالرجال تكون محمولة على ما قبل الحجاب؛ لأن ما قبل الحجاب ست سنوات كلها قبل الحجاب، فالناس لا بد أن يعملوا أعمالًا في هذه المدة الطويلة، ولا بد أن تكون النساء مع الرجال، وأن تكون النساء غير محجبات، ثم بعد ذلك نزل الحجاب، ولكن هنا سؤال هل حجاب أمهات المؤمنين أخص من حجاب عموم النساء؟ الظاهر هذا أن حجابهن أخص، وأنهن يلزمن أن يحتجبن حتى بأشخاصهنَّ، ولهذا كنَّ إذا حججن يكنَّ في الهوادج، يعني: شيء مثل البيت يعمل من الخشب ويكسى بالثياب حتى لا ترى المرأة، وسيأتي مزيد بحث لهذه المسالة. وقولها "يستأذن، أي: يطلب الإذن بالدخول بعد الحجاب، أي: بعد أن فرض الله الحجاب على أمهات المؤمنين في قوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعا فسئلوهن من وراء حجاب} [الأحزاب: 53]. قالت: "فأبيت أن آذن له"، أبت يحتمل أن إباءها هذا لجهلها بالحال أو لجهلها بالحكم، لجهلها بالحال، يعني: لم تعلم أن أفلح أخا لأبيها أو لجهلها بالحكم لم تعلم أن الرضاع يحرم ما تحرمه الولادة، وأيا كان الاحتمالان فإنها معذورة بمنعه؛ لأن الأصل عدم الحل حتى يوجد الدليل على الحل، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعته، يعني: قالت إنه استأذن عليَّ وإني أبيت عليه، "وأمرني أن آذن له"، الأمر هنا ليس للاستحباب ولا للوجوب، ولكنه للإباحة لأن إخبارها إياه بما صنعت كأنها تستأذنه والأمر بعد الاستئذان للإباحة وليس للوجوب ولا للاستحباب كما لو قلت لشخص: جئت إلى بيته أأدخل؟ قال: نعم، أو قال: ادخل، فهنا ليس أمرًا على سبيل الإلزام ولا على سبيل الاختيار ولكنه أمر إباحة فأمرني أن آذن له، يعني: في الدخول عليها، وقال: "إنه عمك"، هذا تعليل للحكم، الحكم الإذن لها بالإذن له والتعليل "إنه عمك من الرضاع". يستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا. أنه لا دخول على بيت أحد إلا باستئذان لأن هذا هو عهد الصحابة لقولها جاء يستأذن، والاستئذان للدخول واجب لقول الله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتَّى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خبرٌ لكم لعلكم تذكرون} [النور: 27]. وقوله: {حتى تستأنسوا} أخص من قوله: حتى تستأذنوا، من وجه وأعم من وجه آخر فإن قوله: "حتى تستأنسوا} أي: يحصل لكم الأنس وعدم الوحشة، وهذا يقتضي أنك إذا أتيت إلى بيت قد دعاك صاحبه فوجدته مفتوحًا فادخل لأن دعوته إياك في هذا الوقت وفتح الباب يدل على الإذن، لكن دلالة حالية يستفاد من قوله: {حتى تستأنسوا} وفها قراءة {حتى تستأذنوا} فيكون ذكر الاستئذان أخص من الاستئناس؛ لأن الاستئناس قد يكون باستئذان وبغيره.

ومن فوائد الحديث: حزم عائشة رضي الله عنها وقوتها وعدم مبالاتها بما ترى أنه حق؛ لأنها أبت أن تخله ولم تستحي منه، والله لا يستحي من الحق. ومن فوائد هذا الحديث: حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهله وتحثه إليهم وإخبارهم بما صنعوا بعده على سبيل التبسط والأنس. وهكذا ينبغي للإنسان مع أهله أن يكون خيَّرًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، لا ينبغي للإنسان أن يكون عند أهله كالخشبة لا يتكلَّم ولا يكلَّم، وإنما ينبغي أن يستأنس معهم حتى لو فرض أنهم لم يتكلموا هيبة له أو لسبب من الأسباب فليفتحهم بالكلام من أجل إدخال السرور عليهم والأنس. ومن فوائد الحديث: حرص عائشة رضي الله عنها على الفقه في الدين؛ لأن الذي يظهر أنها أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعت من أجل أن تستلهمه الصواب في الحكم. ومن فوائد الحديث/ حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قرن الحكم بالحكمة، فأمرها أن تأذن له وقال: "إنه عمك". ومن فوائد الحديث: أن الرضاع تثبت به محرمية كمحرمية النسب، ولكن لا شك أن محرمية النسب أقوى؛ وذلك لأن محرمية النسب فيها التحريم وفيها الشفقة والحنان والعطف والغيرة، وهذا لا يوجد في الرضاع فإن كل أحد يعرف الفرق بين الأخ من الرضاع والأخ من النسب والأب من الرضاع والأب من النسب، وبناء على ذلك أو يتفرع على هذا النوع من الفائدة أننا لو لم نثق بالمحرم من الرضاع فللمرأة أن تمتنع منه؛ لأنه قد يوجد بعض الناس الذين بينهم وبين المرأة محرمية بالرضاع قد يوجد منه فتنة لا سيما إذا كان عنده إيمان ضعيف وفي المرأة داع قوي للفتنة كالجمال والتجمل فإن ذلك يخشى منه الشر فلو امتنعت فإنه لا حرج في هذه الحال. عدد الرضعات التي يثبت بها التحريم: 1087 - وعنها رضي الله عنها قالت "كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يحرِّمن، ثمَّ نسخن بخمسٍ معلوماتٍ، فتوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن". رواه مسلمٌ. قولها: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات"، "أنزل" من المنزل؟ الله، ولا مانع أن نبني الإنزال للمجهول وذلك للعلم بالفاعل، وقد قال الله تعالى في التاب العزيز: {شهر رمضان الَّذي أنزل فيه القرءان} (البقرة: 85). وقال: {إنَّا أنزلنه في ليلة القدر} (القدر: 1). فالذي أنزل

القرآن هو الله عز وجل {كتبٌ أنزلنه إليك مبركٌ} (ص: 29). والذي نزل به "جبريل" أفضل الملائكة وأقواهم وأشدهم أمانة وكلهم أمناء وأقوياء، لكن الخلق يتفاوتون نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: "عشر رضعات معلومات يحرمن هل حسَّا أو حكما، بمعنى: أنه لابد أن نعلم أن العشر حصلت أو معلومات بالشرع؟ الاثنان بالشرع وبالحس، الشرع معلوم بما جاءت به السنة، ثم نسخن بخمس معلومات يعني: رفع حكمهن، بل ولفظهن أيضًا؛ لأننا لا نجد في القرآن شيئا في ذلك، فنسخ اللفظ ونسخ الحكم، "بخمس معلومات" يعني: يحرمن، "فتوفي رسول الله. إلخ". "توفي" أي: قبض، والذي توفاه الله عز وجل وحذف الفاعل للعلم به، ويقال: توفي ولا يقال توفى كما قال تعالى: {الله يتوفَّى الأنفس حين موتها} (الزمر: 42) {قل يتوفَّكم مَّلك الموت} (السجدة: 11). {حتَّى إذا جاء أحدكم الموت توفَّته رسلنا} (الأنعام: 61). فالإنسان متوفَّى وأما قول بعض الناس: توفى فلان، فهو ليس بصحيح وإن كان له وجه بعيد على أنه توفى بمعنى: استوفى أجله ورزقه، كما قال صلى الله عليه وسلم "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها" لكن هذا بعيد. قالت: توفي رسول الله وهي - أي: الخمس - فيما يقرأ من القرآن"، أي: أن الناس يقرءونها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث كما علمتهم خبر آحاد انفرد به مسلم عن البخاري، وفيه نوع من الغرابة أو النكارة في متنه، ولهذا طعن فيه كثير من المتأخرين وقالوا: هذا الحديث لا يصح، كيف ذلك؟ قالوا: كيف يثبت أنها من القرآن بعد وفاة الرسول ثم تنسخ ولا نسخ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ! وكون مدلول الحديث هذا يطعن في صحته علة معللة؛ لأنه كيف يموت الرسول صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن وقد قال الله تعالى: {إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحفظون} (الحجر: 9). والآن ابحث في القرآن من أوله إلى آخره فلا تجد شيئا، إذن فالحديث منكر؛ لأنه مخالف لما يعلم بالضرورة من الدين، القرآن محفوظ وهذا الحديث مدلوله أن هذا الحكم باق وهي قراءتها في الكتاب العزيز حتى توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذا علةٌ معلَّلةٌ مؤثرة، ولكن جمهور العلماء أجابوا عنها فقالوا: إن معنى قولها: "توفي وهي فيما يقرأ" بمعنى: الجملة حال إما أن النسخ كان متأخرًا ولم يعلم به كثير من الناس فصاروا يقرءون القرآن على أنها محكمة ثابتة فيه ولم يعلموا بالنسخ ثم بعد ذلك علم الناس، وعند جمع المصحف في عهد أبي بكر ثم في عهد عثمان أزيلت؛ لأنها منسوخة لفظا. فإن قال قائل نسخ اللفظ مشكل؛ لأن الله يقول: {إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحفظون} فكيف ينسخ اللفظ؟ والجواب: أنه ينسخ اللفظ لأن الله قال: {وإنَّا له لحفظون} فحافظه هو الذي نسخه، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه أنه قال معلنا على المنبر: كان فيما أنزل الله من القرآن آية الرجم فقرآناها ووعيناها

وحفظناها ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده وهذا متفق عليه ولا إشكال فيه، فالذي قال: {إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحفظون} هو الذي ينسخ ما يشاء {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} (الرعد: 39). وحينئذٍ لا إشكال في نسخ اللفظ لن الخبر الذي معنا فيه أنها قالت: "توفي وهي فيما يقرأ من القرآن". وأما نسخ اللفظ فمعهود، والجواب عند الجمهور كما قلنا هو: ان النسخ كان متأخرًا ولم يعلم به كثير من الناس، فكانوا يتلون الآية على أنها محكمة باقية ثم تبيَّن بعد ذلك أنها منسوخة. في هذا الحديث فوائد منها: أولاً: إثبات نزول القرآن والنزول لا يون إلا من اعلى والقرآن نزل من عند الله فيدل ذلك على علو الله - سبحانه وتعالى - علو مكان ومكانة، ولهذا نقول: أن أقسام علو الله اثنان علو ذات وعلو صفة، أما علو الصفة فقد اتفق المسلمون الذين يستقبلون قبلتنا على ثبوته، وأما علو المكان فقد خالف فيه أهل البدع من الحلولية والمعطلة، فمنهم من قال: إن الله - سبحانه وتعالى - بذاته في كل مكان وليس بعال على الخلق، ومنهم من قال: إن الله لا يوصف بالعلو، بل قالوا: يجب أن تعتقد أنه - سبحانه - لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا متصل ولا منفصل، ولا مباين ولا مداخل، فهؤلاء معطلون والآخرون ممثلون؛ لأنهم جعلوا الله مثل الخلق في كل مكان، أما أهل السنة والجماعة فيقولون: "إن الله فوق عرشه عال على كل شيء بائن من خلقه" ويقولون: إن دليلنا على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، ويقولون: إنه حتى العجائز إذا دعون الله يرفعن أيديهن إلى السماء ولا نزاع في ذلك ولا يخالف في هذا إلا مهوِّس غير عاقل، أما علوُّ المكانة وهو علوُّ الصفة فهذا متفق عليه. ومن فوائد بنفسها حتى نقول إنه كقوله تعالى: {وأنزلنا من السَّماء ماء} (المؤمنون: 18). او كقوله تعالى: {وأنزل لم من الأنعم ثمنية أزوج} (الزمر: 6). أو كقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديدٌ} (الحديد: 25). لأن هذه الأشياء أعيان قائمة بنفسها مخلوقة، أما القرآن فإنه كلام صفة للمتكلم به وعلى هذا فإذا قيل نزل من عند الله لزم أن يكون كلامه وأنه صفة من صفاته غير مخلوق. من فوائد الحديث: إثبات النسخ، والعلماء مجمعون على ثبوته من حيث الحقيقة والمعنى، لكنهم شذ منهم من قال: إنه لا نسخ في القرآن كأبي مسلم الأصبهاني فإنه قد قال: ليس في القرآن نسخ، وما جاء نسخا في القرآن فهو تخصيص ولا يصلح أن نسميه نسخًا؛ لأن النسخ إبطال لأي الحكمين؟ الأول والله عز وجل يقول: {لَّا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصّلت: 42) فلا نسخ في القرآن وهذا الذي ادعيتم أنه نسخ مثل قوله: {الئن خفَّف الله عنكم ... } (الأنفال: 66). الآية.

هذا ليس بنسخ هذا تخصيص؛ لأن الحكم الأول ممتد إلى القيامة لو بقي، فإذا نسخ حكم فمعناه أننا خصصنا الزمن الذي بعد النسخ أخرجناه من الحم العام الأول فيكون هذا تخصيصًا لكنه يقر بالمعنى، يقر بأن الحكم قد يرفع بعد ثبوته فنقول له: لقد اتفقنا نحن وإياك على المعنى، والحقيقة أنت إن شئت سمه تخصيصًا ونحن نسميه نسخًا فالخلاف الآن في التسمية، ولذلك أجمع المسلمون على ثبوت النسخ من حيث المعنى والحكم لكن الصحيح ثبوت النسخ وأننا نسميه نسخًا لأن الله قال في الكتاب: {ما ننسخ من ءايةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها} (البقرة: 106). وهذا صريح في أن النسخ جائز وإلا لم يكن للكلام فائدة، وأما استدلال أبي مسلم يقول: {لَّا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه} فنقول: لا يأتيه ما يبطله ومعلوم أن النسخ ليس إبطالاً، لكنه انتقال من حكم إلى حكم، حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة كما سنبين إن شاء الله. ومن فوائد الحديث: أن النسخ يكون باللفظ والحكم ويكون باللفظ فقط دون الحكم، فبالنسبة لعشر رضعات معلومات النسخ في اللفظ والحكم، وبالنسبة للخمس النسخ في اللفظ فقط أما الحكم فباق وقد يكون النسخ في الحكم دون اللفظ فمثلًا قوله تعالى: {يأيُّها النَّبيُّ حرِّض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صبرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الَّذين كفروا بأنَّهم قومٌ لا يفقهون} (الأنفال: 65). في هذه الآية أنه لا يتحقق الصبر إلا إذا ثبت الواحد لعشرة {إن يكن منكم عشرون صبرون يغلبوا مائتين} وأن من فر من تسعة وهو واحد فليس من الصابرين لكن الله قال: {الئن خفَّف الله عنكم وعلم أنَّ فيكم ضعفًا ... ْ} الآية. فتبين الآن أن الآية الأولى نسخت حكمًا وبقي اللفظ. ق يقول قائل: ما الفائدة من بقاء اللفظ وقد نسخ الحكم؟ نقول: له فوائد كثيرة منها: التعبد لله بتلاوة هذه الآية المنسوخة وزيادة الأجر بتلاوتها. ومنها: التذكير بنعمة الله حيث خفف عن عباده وهذه توجب للإنسان كلما تلاها أن يشكر الله وبحمده على هذا، يوجد نسخ اللفظ دون الحكم مثل آية الرجم، وهذا الحديث ما فائدة نسخ اللفظ وبقاء الحكم؟ الفائدة التي هي من أهم ما يكون بيان فضل هذه الأمة وشدة امتثالها لأمر الله، ففي آية الرجم يحكم آخر الأمة بالرجم مع أنهم لا يجدون شيئا بين أيديهم في كتاب الله، واليهود رفعوا الحكم بالرجم مع أنه موجود في التوراة؛ ليتبين فضيلة هذه الأمة حيث إنها امتثلت لأمر لا تشاهده في كتابها، لكن ورثته من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي بينت أن هذه الآية منسوخة، وهنا تنبيه وهو أنكم ربما تجدون في عبارات السلف كلمة نسخ مثل: هذه الآية نسخت الآية وهم يريدون بذلك التخصيص، مثل قول بعضهم في قوله تعالى: {إلَّا على

يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

أزواجهم أو ما ملكت أيمنهم} (المؤمنون: 6). إنها تحل الجمع بين الأختين، فقالوا: هذه الآية نسختها قوله: {وأن تجمعوا بين الأختين} (النساء: 23). المهم: تأتي كلمة النسخ في كلام السابقين ومرادهم به التخصيص، فيكون مرادهم بالنسخ: نسخ العموم الشامل لجميع أفراد العام لا رفع الحكم من أصله، فحتى لا يغتر أحد بمثل هذا يجب أن يعرف أن النسخ في عرف السابقين قد يطلق على التخصيص، فما وجه تسميته نسخًا؟ وجه ذلك أن فيه رفعَا لعموم الحكم، وهذا نوع من النسخ يظهر بالمثال لو قلت لك: أكرم الطلبة فسوف يكون الحكم إكرام الطلبة المجتهد منهم وغيره، فإذا قلت: أكرم المجتهد معناه أنه نسخ الحكم باعتبار غير المجتهد. فوائد: لو رضع صبي من عجوز أو بكر والتي وقفت عن الولادة فالصحيح أنه يحرم، ولو رضع صبي من رجل فلا يحرم بالإجماع لأنه قال: {وأمَّهتكم} والرجل ما يسمى أمَّا، ولهذا لو رضع شخص من شاة ورضع معه آخر لم يكونا أخوين، نقول: الرضاع يكون من جهة الأم أو من جهة الأب أو من جهتهما جميعًا، إن رضع من زوجتي رجل من كل واحدة ثلاث رضعات صار الزوج أبًا له والمرضعات ليس أمهاته، وإن رضع من امرأة ثلاث رضعات وهي في ذمة زوج وثلاث رضعات وهي في ذمة زوج وثلاث رضعات وهي في ذمة زوج آخر صارت امَّا له وليس له أب، وكذلك لو زنى بامرأة وولدت فهذا له أم وليس له أب من الرضاع ويكون من الأم والأب كما لو أرضعت امرأة ذات زوج طفلًا فيكون ولدًا لهما. ومن فوائد الحديث: اشتراط العلم بالعدد لقولها: "عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات"، وهذه الفائدة تدل عليها أصول الشريعة بأن ما كان مشكوكًا فيه فالأصل عدمه. ومن فوائد هذا الحديث أن النسخ قد يخفي على بعض الناس لقولها: "فتوفي وهي فيما يقرأ من القرآن". ومن فوائد الحديث: ثبوت نسخ القرآن، بالقرآن فهنا في هذا الحديث فيه نسخان نسخ لفظي حكمي، ونسخ لفظي لا حكمي، أيهما اللفظي الحكمي؟ العشر، والخمس لفظي لا حكمي. ومن فوائد الحديث: جواز نسخ القرآن لفظًا، ولا يعد هذا من النقص في الحفظ؛ لأن نسخه لفظًا، يعني: إزالته؛ وذلك لأن الذي نسخه لفظًا هو الذي أنزله فله أن يفعل ما شاء. يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب: 1088 - وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه، "أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة، فقال: إنَّها لا تحلُّ لي؛ إنَّها ابنة أخي من الرَّضاعة، ويحرم من الرَّضاعة ما يحرم من النَّسب". متَّفقٌ عليه. قوله: "أريد" أي: طلب منه أن يتزوجها، فقال: "إنها لا تحل لي" ثم علل مبينا الحكم فقال:

"إنها ابنة اخي من الرضاعة" حمزة بن عبد المطلب أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فإذا كان من الرضاعة كانت بنته بنت أخيه وهو عمها يقول: "إنها ابنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" هذه القاعدة فإذا كان العم من النسب يحرم ان يأخذ ابنة أخيه، فكذلك أنا عمها من الرضاعة فيحرم علىَّ أن أتزوجها، والذي يحرم من النسب سبع مذكورة في قوله تعالى: {حرِمت عليكم امَّهتكم وبناتكم وأخواتكم وعمَّتكم وخلتكم وبنات الأخ وبنات الأخت} (النساء: 23). هذه سبع محرمات بالنسب وضبطها بعض الفقهاء بقولهم: الأصول وإن علوا والفروع وإن نزلوا، وفروع الأب الأدنى وإن نزلوا، وفروع الأب الأعلى لصلبهم خاصة، الأصول وإن علوا الأمهات والجدات وإن علون، الفروع البنات وبنات الأبناء وإن نزلوا فروع الأصل الأدنى الأخوات وابنائهم وبنات الإخوة وإن نزلوا، وفروع الأصل الأعلى لصلبهم خاصة الأعمام والعمات دون فروعهن وبنات الأعمام ليسوا بحرام لأنا قيدنا قلنا: لصلبهم خاصة، فإذا كان المحرمات من النسب سبعًا، كان المحرمات من الرضاع سبعًا وفهم منه أن ما يحرم بغير النسب لا يحرم بالرضاع فأم الزوجة حرام على زوج ابنتها ولكن لا من أجل النسب لأنه ليس بينها وبينه نسب؛ لأن النسب هو القرابة، وغذا لم يكن بينه وبينها نسل فلا تحريم، بنت الزوجة وهي الربيبة حرام على الزوج ليس بالنسب، النسب بينها وبين الواسطة لا بينها وبين من تعلق به التحريم، والحديث "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" بين الطرفين مباشرة أما بواسطة فلا، ولهذا لو سألت سائلًا هل بنت زوجتك حرام عليك بالنسب لقال: لا ليس بيني وبينها نسب هي من آل فلان، وأنا من آل فلان إذن مفهوم الحديث أنها لا تحرم وبهذا استدل شيخ الإسلام رحمه الله على أن الصهر لا أثر له في الرضاع؛ لأن الحديث يقول: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" لا من الصهر، والعجيب أن هذا الحديث استدل به الجمهور الذين يقولون: إن الصهر له أثر في الرضاع وإن بنت الزوجة من الرضاع كبنتها من النسب، وإن أم الزوجة من الرضاع كأمها من النسب، فاستدل به اثنان على أمرين كل واحد منهما ضد الآخر ولكن عند التأمل يتبين أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الأصح وذلك لان التحريم بالنسب في مسألة الصهر ليس من باب النسب المباشر. النسب بين المحرم وبين الواسطة واسطة التحريم بنت الزوجة ما هي الواسطة بينك وبينها في التحريم؟ الزوجة، النسب ثابت لبنت الزوجة مع الزوج وليس لم أنت مع بنت الزوجة، والخطاب إنما هو يحرم من الرضاع على من تعلق به التحريم ما يحرم بالنسب، قوله: "ما يحرم

من النسب" "ما" موصولة، ومحلها من الإعراب فاعل "يحرم"، قوله "من النسب" أي: القرابة سواء كان من جهة الأب أو من جهة الأم في هذه المسألة لان باب النكاح يتساوى فيه قرابة الأم وقرابة الأب، بخلاف باب الإرث، فإنه يختلف قرابة الأم عن قرابة الأب، فالخال لا يرث وهو أخو الأم والعم يرث وهو أخو الأب، لكن في باب النكاح يتساوى القرابتان قرابة الأم وقرابة الأب فالجدة أم أب، الأم في الميراث ليس لها شيء في تحريم النكاح يثبت التحريم في حقها، فيحرم على الإنسان أن يتزوج أم جده من قبل الأم مع أنه لا علاقة بينهما في الميراث، ما اشتهر عند العامة الآن من أن النسب هو المصاهرة نقول: هذه لغة عامية والذي ينبغي في اللغات العامية إذا خالف مدلولها مدلول الاصطلاح الشرعي أن تغير فقول العامة اليوم: نسيبي فلان - بمعنى قريب زوجتي - ليس بصحيح؛ لأن الله جعل النسب قسيم الصهر فقال: {وهو الَّذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا} (الفرقان: 54). فكيف نجعل الصهر نسبًا؟ ! لا شك أن هذا غير مستقيم. ومن فوائد الحديث شدة محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنهم يعرضون عليه بناتهم. ومن فوائد الحديث: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في أنه إذا أراد الأمر يبين السبب؛ لأن في ذلك سكنًا لصاحبه وتطييبًا لخاطره، وهذه قاعدة النبي صلى الله عليه وسلم، لما أهدى إليه الصعب بن جثامة حماره الوحشي رده عليه فلما عرف ما في وجهه قال: "إنا لم نرده إلا أنا حرم"، وهذا من الآداب العالية، فإنك إذا ردت شيئًا لسبب ما ينبغي لك أن تبين السبب من أجل أن يطيب قلب صاحبك. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرن الحكم بالعلة لقوله: "إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة". ومن فوائده: القاعدة العظيمة في التحريم من الرضاع، وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وعرفنا في الشرح أن المحرمات بالنسب سبع، فيكون المحرمات في الرضاع سبع، وما عداهن فالأصل الحل، وبناء على ذلك نقول: يحرم على الإنسان أمه التي أرضعته، وبنته التي رضعت من لبنه، وأخته، وعمته، وخالته، وبنت أخيه، وبنت اخته من الرضاع، وهل يحرم عليه أم زوجته من الرضاع؟ لا، ولا زوجة ابنه من الرضاع، هذا هو الذي يدل عليه النص، وليس هناك دليل على التحريم بالمصاهرة إلا هذا الحديث، وهذا الحديث دلالته ظاهرة في أنه لا أثر للرضاع في تحريم المصاهرة. فإن قال قائل: على هذا التقرير يجوز للإنسان أن يتزوج أم زوجته من الرضاع؟

صفة الرضاع الذي يثبت به التحريم

قلنا: نعم يجوز؛ لأنه إذا كان الرضاع في حقها لا يؤثر فقد قال الله تعالى: {وأحلَّ لكم مَّا وراء ذلكم} (النساء: 24). ولكن هل يجوز ان يجمع بينها وبين بنتها من الرضاع؟ نقول: لا يجوز؛ لأنه إذا حرم الجمع بين الأختين فالجمع بين الأم وبنتها من باب أولى. هذا ما يقتضيه تقريرنا وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن من حيث الفتوى لا نفتي بالجواز؛ وذلك لأن جمهور العلماء - ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة - على أن الرضاع له أثر في الصهر فلا نفتي بذلك لئلا يحصل ارتباك في مسألة القضاء لو ترافعوا للقضاة، فالقضاة سيحكمون بما عليه الجمهور وحينئذ يحكمون بفساد العقد، وإذا فسد العقد فسد ما يترتب عليه فنقول النساء كثير ولا تتزوجها، نعم لو لم يبق من بنات آدم إلا بنت زوجتك من الرضاع فلك أن تتزوجها؛ لان المسألة ليس فيها نص يدل على التحريم، ولا غرابة في ذلك أن نقول: لا تتزوجها وأنت لست محرمًا لها، فإن قضية سودة بنت زمعة مع الغلام الذي ادعاه سعد بن أبي وقاص وقال: إنه ابن اخي عتبة وعارضه فيه عبد بن زمعة قد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة ومع ذلك قال لسودة وهي أخته: "احتجبي منه يا سودة"؛ لأنه رأى شبها بيَّنا بعتبة بن أبي وقاص، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الاحتياط وإثبات الحكم. ومن فوائد الحديث: أن للتغذية أثرًا في التقارب بين الناس وفي غيرها؛ لان هذا الطفل لما تغذى باللبن صار كأنه منى أهل اللبن في مسالة النكاح والاحتياط له، ولا شك أن الإنسان يتأثر لما يتغذى به؛ ولهذا نص العلماء في باب الرضاع على أنه يكره استرضاع المرأة الحمقاء وسيئة الخلق؛ لأن ذلك يؤثر في طباع الصبي؛ ولذلك أيضًا حرم ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير؛ لان هذه حيوانات عادية فيخشى على من تغذى بها أن يكتسب من طباعها، والمسالة معروفة طبيًا بوضوح أن التغذية لها تأثير حتى في الصحة. صفة الرضاع الذي يثبت به التحريم: 1089 - وعن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحرِّم من الرَّضاعة إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام". رواه التِّرمذيُّ، وصحَّحه هو والحاكم. قوله: "لا يحرم من الرضاع إلا" هذه الجملة فيها حصر على طريقة النفي والاستثناء؛ لان الحصر له طرق متعددة أقواها النفي والاستثناء، ما في مثل قولنا: لا إله إلا الله، والطريقة الثانية من حيث

الرتبة في الحصر أن يكون بلفظ "إنما" مثل قوله تعالى: {إنَّما الله إلهٌ واحدٌ} ومن طرق الحصر أيضًا: تقديم ما حقه التأخير مثل: {ولله ملك السَّموات والأرض} ومنها: الحصر بضمير الفصل الحصر مثل: زيد هو الفاضل، يعني: لا غيره، ومن طرق الحصر كذلك: تعريف زكني الجملة المكونة من مبتدأ وخبر، فهو يفيد الحصر عند الجمهور، مثل: القائم زيد. فالمهم: أن الحصر له طرق بعضها أقوى من بعض، هذا الذي معنا "لا يحرم من الرضاع إلا" أقواها. وقوله: "إلا ما فتق الأمعاء" لو أخذنا بهذه الجملة لكان الذي يحرم من الرضاع هو ما يرضعه، لأنه هو الذي يفتق الأمعاء، إذ إن أمعاء الطفل حين الولادة غير منفتقة؛ لأنه يتغذى في بطن أمه بواسطة الصرة هذه الصرة - بإذن الله - كعرق النخلة في الأرض يمتص من الدم ما به يحيا وينمو حتى يأذن الله له بالخروج وحينئذ يرتضع من أمه بطريق أخرى، وهما الثديان اللذان ركبهما الله عز وجل على الصدر ليكون الطفل حين رضاعه في حضن أمه فيكون هذا أقوى للحنان من أمه عليه ويكون أريح له أيضا؛ لأنه سيبقى مضجعًا على فخذيها وتذلي عليه هذه الثدي، والله سبحانه عليم حكيم، المهم أن ظاهر الحديث أنه لا يحرم إلا ما كان أول رضعة لأنه هو الذي بها تنفتق الأمعاء ولكنه قال: "وكان قبل الفطام" فأشار بقوله هذا إلا أن العلة هي الفطام؛ وعلى هذا فيكون فتق الأمعاء في اول رضعة فتقا حقيقيًا وفتقها فيما بعد فتقا حكيمًا؛ لأنها عند الجوع تنسفط فإذا جاءها الغذاء باللبن انفتقت وكان قبل الفطام ومتى يكون الفطام؟ الفطام في الأصل يكون عند تمام الحولين لقوله تعالى: {وحمله وفصله ثلاثون شهرًا} (الأحقاف: 15). وقال: {وفصاله في عامين} (لقمان: 14). وقال: {والولدت يرضعن أولدهنَّ حولين كاملين} (البقرة: 233). هذا هو الأصل، لكن من الأطفال من ينمو سريعًا ولا يحتاج إلى الرضاع إلا لمدة أقل من الحولين، فإذا فطم لأقل من حولين تم الفطام ومن الأطفال من يكون نموه ضعيفًا، إما لوراثة وإما لمرض، وإما لقلة لبنٍ، أو لغير ذلك المهم هذا يحتاج إلى زيادة عن الحولين، والحكم يدور مع علته، ولهذا لما قال: {والوالدات يرضعن أولدهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف لا تكلَّف نفسٌ إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أراد فصالًا} (البقرة: 233). الضمير يعود على الأم والأب {فصالًا عن تراض منهما وتشاور} فذكر القيود: {تراضٍ} و {وتشاورٍ}، فالمسألة ليست بالهينة، وهذا يدل على كمال رعاية الله للأطفال، وأن رعايته لهم أشد من رعاية الوالدين، المهم أن قوله: "وكان قبل الفطام". لو قال قائل: الفطام قبل الحولين أو بعدهما أو معهما؟

قلنا: ذلك يختلف باختلاف حال الطفل. في هذا الحديث: إثبات تحريم الرضاع، يعني: انه يحرم لا أنه محرَّم، لقوله: "لا تحرم من الرضاع إلا ما فتق" فأثبت أن للرضاع تحريمًا. ومن فوائد الحديث: أنه يشترط لكون الرضاع محرمًا أن يكون قبل الفطام، وهذا الحكم اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: إن هذا هو المعتبر، أي: ان الفطام هو المعتبر في تأثير الرضاع أو عدم تأثيره، استنادًا إلى هذا الحديث واستنادًا إلى المعنى أيضًا، فالمعنى: أنه إذا كان غذاء الطفل باللبن كان له أثر في نموه بل وفي عقله أيضًا، وغذا كان غذاؤه بغير اللبن لم يكن له ذلك الأثر، وغن كان يؤثر، لكنه لا يكون له ذلك الأثر وغلا فقد كان من المعلوم أن الإنسان لا يكون له أربعون سنة ويشرب لبنا من لبن الأنثى تأثر به وتغذى به، لكن ليس له الغذاء الرئيسي إذا فطم فإذن هذا الرأي استند قائله إلى أمرين أثر ونظر. وقال بعض العلماء: لا يعتبر الفطام المعتبر الحولان فمتى رضعه قبل تمام الحولين فالرضاع محرم ومتى رضع بعدهما فالرضاع غير محرم سواء فطم قبل الحولين أو لم يفطم بعدهما، القائلون بان العبرة بالحولين استندوا إلى قوله تعالى: {والوالدت يرضعن أولدهن حولين كاملين}، ولكن ليس في الآية دليل على هذا، إنما بين الله أن من أراد أن يتم الرضاعة أرضعه إلى الحولين ومن لم يتمها هل يأثم أو لا يأثم؟ ينبني على حالة الطفل، إن كان يحتاج أثم إن رأى فطمه وإلا فلا، هذا القول يفضل القول الأول بشيء واحد وهو أنه محدد ليس فيه إشكال والشيء المحدد لا يكون فيه إشكال يرضع الطفل أول النهار ولا يعتبر رضاعه شيئا ويعتبر رضاعه محرمًا ويرضع في آخر النهار ولا يعتبر رضاعه شيئًا؛ لأنه يبلغ حولين عند زوال الشمس، ففي الضحى هو في الحولين رضاعه محرم وبعد الظهر خارج الحولين فرضاعه لا يؤثر شيئا فهو محدد فمن هنا يكون العمل به أيسر على المكلف لكن إذا كان في الفطام يأتي الإشكال هل هذا الطفل فطم أو لم يفطم فتحديده بالزمن أدق، وهذا هو المشهور من المذهب أن المعتبر الحولان وهذا له نظائر منها السفر الذي يقصر فيه هل هو محدد بالمسافة أو محدد بالمعنى؟ فيه خلاف، من العلماء من حدد بالمسافة على اختلاف فيما بينهم هل هي يومان أو فرسخ أو ثلاثة أميال، ومنهم من حده بالمعنى وقال: ما عده الناس سفرًا فهو سفر، وما لا فلا، ومعلوم أن المحدد بالمسافة أدق وأيسر عملًا، لكن يشكل عليه ظواهر النصوص التي لم تحدد والتحديد إلى توفيق ما الذي يدلنا على أن الحد كذا؟ على كل حال: لو ذهب ذاهب فقال: إنه يعتبر أبعدهما بمعنى: انه لو فطم قبل الحولين فالعبرة بالحولين ولو تم الحولان قبل أن يفطم فالعبرة بالفطام؛ يعني: لو قال قائل بهذا القول لم يكن بعيدًا من أجل أن نجمع بين القولين.

ومن فوائد الحديث: حسن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يأتي كلامه واضحًا بينًا وهو أفصح الخلق صلى الله عليه وسلم، والذين يمارسون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرًا يعرفون الحديث الضعيف من غيره بمجرد أن يسمعوا الكلام؛ لأنهم مارسوا لام الرسول وعرفوه، كيف كلماته وكيف أسلوبه الآن لو أن أحدًا أكثر مطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ثم عرض عليه كلام ولم يعلم لمن هو ووجد أن الأسلوب أسلوب الشيخ، عرف أن هذا الكلام كلام الشيخ كذلك كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل أبلغ من هذا ان كلام النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر في النفس أكثر مما يؤثر كلام غيره، ويذكر عن شيخ الإسلام رحمه الله أنه بمجرد أن يسمع الكلام المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا لا يصح، او هذا صحيح دون ان يذكر سنده او مخرجه، فإذا رجع إلى الأصول وجد أن الأمر كما قال، وهذا شيء مجرب. 1090 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: "لا رضاع إلا في الحولين". رواه الدَّارقطنيُّ وابن عديٍّ مرفوعًا وموقوفًا، ورجَّحا الموقوف. هذا رأي ابن عباس رضي الله عنهما وهو كغيره من اهل العلم له اجتهاده "لا رضاع إلا في الحولين" أي: لا رضاع محرم إلا ما كان في الحولين، هذا الحديث لا حاجة للكلام عليه؛ لأنه سبق الإشارة إليه، لكن بقي لنا المرفوع والموقوف، المرفوع ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والموقوف إلى الصحابي، والمقطوع إلى التابعي، والمنقطع من مباحث السند والمقطوع من مباحث المتن، بقينا لو تعارض الموقوف والمرفوع فهل نقدم المرفوع أو نقدم الموقوف؟ على كل حال: إذا كان أحد الرواة في هذا أو هذا أرجح اخذنا بالأرجح، لكن إذا تساووا فرواه فلان وهو ثقة مرفوعًا ورواه فلان وهو ثقة موقوفًا فهل نأخذ بالمرفوع؛ لان معه زيادة علم أو نأخذ بالموقوف؛ لان الأصل عدم الرفع؟ نأخذ بالمرفوع؛ لان معه زيادة علم، مثال ذلك: روى أحد الراويين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، والثاني روى عن ابن عباس أنه قال كذا، الأول فيه زيادة وهي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: فمعه زيادة علم تؤخذ، مرجح آخر أن الراوي للمرفوع أحيانًا يحدث بالحديث من نفسه لثبوته عنده دون ان ينسبه للرسول مثل أن يحدث به استدلالا لا إخبارًا، يعني: مثلا يقول: إنما الأعمال بالنيات هو يرويه هكذا ثم يقوله في أثناء كلامه يقصد به إثبات الحكم، لأنه ثابت عنده وأحيانا يحدث به إذا أراد الإخبار حدث به إلى منتهى السند فهذا أيضًا مما يؤيد ترجيح الرفع.

1091 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا ما انشز العظم، وأنبت اللَّحم". رواه أبو داود. هذا الحديث يشبه الحديث الأول: " لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء" وكان قبل الفطام، يقول: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم"، العظم ينشز بواسطة الأعصاب، والأعصاب حبال تشد بعض العضلات إلى بعض قال الله عز وجل: {قال كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يومٍ}، وهو قد بقي مائة سنة قال: {بل لبثت مائة عامٍ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك اية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمَّ نكسوها لحمًا} (البقرة: 259). هذه من آيات الله طعامه وشرابه لم يتغيرا، وقد ذكروا أن شرابه ماء وان طعامه العنب، العنب يبقى مائة سنة لا يتغير والماء يبقى مائة سنة ولا يتبخر ولا يتغير، والحمار يموت ويفنى ويبقى عظامه تلوح وكان مقتضى العادة أن الطعام يخرب قبل أن يموت الحمار، لكن هذه من آيات الله قادر على حفظ ما يتغير فلا يتغير، وعلى الثاني يغيره وغن كان تغيير الحمار قد يكون طبيعيًا. على كل حال قال: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} نداخل بعضها ببعض ونشدها بالعصب، {وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمَّ نكسوها لحمًا}، فصار ينظر إلى حماره تقوم العظام بعضها إلى بعض وتنشز بالعصب وتكسى اللحم، يعني: كأن أحدًا أمامه يفعل هذا الشيء بكلمة الله عز وجل {فلمَّا تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قديرٌ}، وقوله: "وأنبت اللحم" مثل الأول، والمراد أنه يتغذى به الإنسان ويتأثر به نموًا فهذا هو الرضاع، وعليه فيكون هذا الحديث شاهدًا للحديث الأول فيقوى به. ما الفرق بين الشاهد والمتابع؟ ما جاء من طريق صحابي آخر فهو شاهد. والمتابع أي في شيخهما، وفائدته تقوية المتابع، يروي زيد عن عمرو حديثًا وزيد فيه بعض الشيء فيأتي بكر فيروي عن عمرو، بكر يسمى متابعًا والمتابعة كما عرفنا تامة وناقصة. 1092 - وعن عقبة بن الحارث: "أنَّه تزوَّج أمَّ يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة فقالت: قد أرضعتكما، فسأل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف وقد قيل؟ ففارقها عقبة، فنكحت زوجًا غيره" أخرجه البخاريُّ. قوله: "فجاءت امرأة" نكرة لم تعين، ولا حاجة لنا إلى تعيينها؛ لأنها صحابية، ولا يتعلق تعيينها بالحكم والصحابة كلهم عدول إلا من ثبت أنه ليس بعدل، ولكن من أتى جرمًا من الصحابة فإن الله قد قيد له من السوابق والفضائل ما يقتضي مغفرة ما صدر منه، وإلا فليس معصومين من الإثم

والخطأ قد يخطأون وقد يأثمون وفيهم من سرق، وفيهم من زنى، وفيهم من لاعن امراته، وفيهم من شرب الخمر ليسوا بمعصومين من كبائر الإثم وصغائرها لكن لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهم، وقد قال فيهم: {وكلَّا وعد الله الحسنى} (الحديد: 10). فلذلك قال العلماء - علماء الحديث -: إن جهالة الصحابي لا تقدح في صحة الحديث؛ فلو قال التابعي عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم فهل يلزمنا أن نبحث عن هذا الرجل؟ لا، لأن الأصل فيهم العدالة، "فجاءت امرأة فقالت: لقد أرضعتكما"، هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: "اللام، وقد" وهما بارزان، والقسم وهو محذوف، والتقدير: "والله لقد" وهو كثير في اللغة العربية وفي القرآن الكريم، والضمير المفعول به يعود على عقبة وزوجته، يقول: فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف وقد قيل"، سأله يقول هل أمسكها أو أفارقها؟ فقال: "كيف" أي: كيف تمسكها وقد قيل: إن بينكما رضاعا وكيف هنا للاستفهام الإنكاري يعني: ينكر عليه إن يحاول إمساكها، وقد قيل: إنها أخته من الرضاع او ما يفيد ذلك، ففارقها رضي الله عنه ونكحت زوجًا غيره. هذا الحديث فيه فوائد منها: ان الإنسان إذا تزوج محرمًا له من الرضاع او محرمًا له من النسب، ثم تبين بعد ذلك وجب الفراق لقوله: "كيف وقد قيل"، خفاء أخته من الرضاع لا غرابة فيه لكن خفاء أخته من النسب كيف؟ نعم يمكن أن تضيع في موسم الحج مثلًا ولم تحصل على خير من جهتها ثم كبرت وتزوجها اخوها وبعد هذا ثبت أن هذه أخته من النسب فيجب الفراق؛ لان النكاح تبين بطلانه، أما الأخت من الرضاع فكثير. ومن فوائد الحديث: أنه لا يشترط السؤال عمن عرفت حاله بعدالة أو فسق، فالمعروف بالعدالة لا تحتاج إذا شهد هات من يزكيك والمعروف بالفسق نرد شهادته بقينا بالمجهول هل يجب على الحاكم أن يسال عنه أو يحكم بشهادته؟ فإن جرحها المحكوم عليه عمل ما يلزم بقول الفقهاء من جهلت عدالته سأل عنه لأن الله قال: {وأشدهوا ذوي عدلٍ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شهد شاهدان عدلان فصوموا وأفطروا"، والعدالة شرط لابد من تحققه فمن جهلت عدالته يسأل عنه فتكون أحوال الرواة ثلاثًا من علمت عدالته فلا يسأل عنه ودليله هذا الحديث ومن علم فسقه ردت شهادته ومن جهل يسأل عنه. ومن فوائد الحديث: قبول شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، فإن قال قائل: كيف نقبل شهادة امرأة واحدة في الرضاع، والله يقول في الأموال {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان} (البقرة: 282). قلنا: لان الرضاع لا يطلع عليه غالبَا إلا النساء.

النهي عن استرضاع الحمقى

فإن قال قائل: لماذا لا يجب التعدد كما وجب التعدد في الرجال في البيع والشراء والمداينة مع أنه لا يطلع عليه غالبا إلا الرجال؟ نقول: قد قيل به أي قيل لابد من شهادة امرأتين، قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بشهادة هذه المرأة بتًّا بل من باب الاحتياط، ولهدا قال: "كيف وقد قيل" ولم يقل: كيف وقد ثبت أنها اختك، فيكون قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لشهادة المرأة الواحدة من باب الاحتياط لا من باب البت لكن المشهور عند الحنابلة ان المرأة تقبل وأن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "كيف وقد قيل" التنبيه على أنه لا ينبغي للإنسان أن يتهاون في هذا الأمر بل يثبت أحوط ما يكون ولو ان قد قيل. ومن فوائد الحديث: شدة امتثال الصحابة الشرعي؛ لان عقبة رضي الله عنه فارقها، وهذا - والحمد لله - واقع حتى في زمننا. النهي عن استرضاع الحمقى: 1093 - وعن زياد السَّهميِّ رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسترضع الحمقى" أخرجه أبو داود وهو مرسلٌ، وليست لزيادٍ صحبةٌ. يعني: ان نطلب أن ترضع أولادنا والحمقى ناقصة العقل، يقال: فلان أحمق، أي: ناقص العقل، سيئ التصرف، وذلك أن إرضاعها قد يؤثر في الرضيع، لأنه إذا تغذى البدن على شيء، فإنه يتأثر به ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير لأن الإنسان إذا تغذى بهما لاستفاد منهما السبعية ومحبة العدوان فلهذا نهى عن كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من السباع كذل المرأة الحمقى لا ينبغي أن نسترضعها لأولادنا لأن الرضيع يكسب من أخلاقها. لكن المؤلف يقول: "مرسل"، وهو ما رفعه التابعي او الصحابي الذي لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمرسل نوعان إما مرفوع تابعي، وهذا نعلم أنه لم يجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم او صحابي، لم يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم مثل رواية محمد بن أبي بكر فإنه صحابي لكنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ إنه ولد في حجة الوداع، وكذلك عبد الله بن أبي طلحة فإنه ولد وحنكه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ أن يتحمل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون ما رواه مرسلًا، ولكن هل يقبل المرسل؟ في هذا تفصيل أما مرسل الصحابي فهو مقبول وأما مرسل التابعي فإن علم أنه لا يرسل إلا عن ثقة أو عن صحابي فهو مقبول وغلا فهو متوقف فيه حتى يعلم حال الساقط من السند، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم - إذا صح الحديث - قد نهى عن استرضاع الحمقاء وعيبها امر معنوي فكذلك لا

5 - باب النفقات

ينبغي ان نسترضع من بها عيب خلقي يمكن أن يؤثر على الطفل مثل ان تكون برصاء او يكون فيها تشويه في خلقتها من التشويهات التي قد تؤثر، فإنه لا ينبغي أن نسترضعها لأولادنا. * * * 5 - باب النفقات هي جمع نفقة، وهي كفاية من يمونه طعامًا وشرابًا وكسوة ومسكنًا وعفافًا، هذه خمسة أشياء، وحكما أنها واجبة، ولكن لابد فيها من شروط: الشرط الأول: عجز المنفق عليه بان يكون معدمًا عاجزًا عن التكسب، فإن كان غنيًا فإن نفقته لا تجب لكن صلته واجبة إذا كان من الأقارب وإن كان معدمًا لكنه قادر على التكسب ويمكن أن يتكسب، فإنه لا نفقة لا لإمكان استغنائه بكسبه عن غيره، وكم يستعف يعفه الله. الشرط الثاني: غنى المنفق: ان يكون المنفق غنيًا فإن كان فقيرًا فإنه لا يلزمه الإنفاق، وهل يلزمه أن يتكسبه لينفق؟ الجواب: لا، كما لا يلزمه أن يحصل المال من أجل وجوب الزكاة؛ وذلك لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب. الشرط الثالث: اتفاق الدين بين المنفق والمنفق عليه، فإن كانا مختلفين فلا نفقة، كما لا إرث بينهما، ودليل الإرث قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم". الشرط الرابع: ان يكون المنفق وارثًا للمنفق عليه بفرض او تعصيب إلا في عمودي النسب لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} وهما الأصول والفروع، فإن هذا الشرط الرابع لا يشترط هذه الشروط، ولكن اشتراط أن يكون موافقًا له في الدين في النفس منه شيء بالنسبة للأصول والفروع؛ لان الله قال في الوالدين: {وإن جهداك على ان تشرك بي ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما وصاحبهما في الدُّنيا معروفًا} (لقمان: 15). ولكن قد يقال: إنه يصاحبهما في الدنيا معروفا بدون التزام الإنفاق، يعني: يعطيهما ما تيسر، أما أسباب النفقة فثلاثة: الزوجية، والقرابة، والولاء. أسئلة ومناقشة: س: هل يستثنى في النفقات من كونه وارثًا؟ ج: نعم يستثنى إلا في عمودي النسب.

س: وهل يستثنى من اتفاق الدين؟ ج: نعم الزوجة فإنها تجب لها النفقة على زوجها وإن كانت مخالفة له في الدين. س: هل يجب على الإنسان ان ينفق على أبي أمه؟ ج: تجب النفقة؛ لأنه من عمودي النسب وعلى هذا فيجب على ابن البنت أن ينفق على أبي امه. س: عل ينفق ابن الأخت على خاله؟ ج: لا يجب لأنه لا يرثه إلا بالرحم والشرط أن يرثه بفرض أو تعصيب إلا في عمودي النسب. س: هل يجب على ابن الأخ الشقيق أن ينفق على عمه؟ ج: يجب عليه لأنه يرثه. س: عم غني وأخ فقير هل يجب الإنفاق على الأخ الثالث الفقير، يعني: أخوان فقيران لهما عن غني هل يجب عليه أن ينفق عليهما؟ ج: لا يجب لوجود الأخ فإن العم لا يرث أحدهما لوجود الآخر فهو لا يجب عليه؛ لأنه لا يرثهما وأحدهما على الآخر لا يجب لأنه فقير، لكن بعض العلماء قال: يجب على العم الصلة؛ لأنه ليس من صلة الرحم أن يشبع العم وابن أخيه فقير لا يجد طعامًا فمن باب الصلة يصله بما جرت يه العادة. س: رجل له أخوان شقيقان غنيان وهو فقير على من تجب النفقة؟ ج: تجب النفقة عليهما أنصافًا فإن العلة الإرث والحكم يدور مع علته نقول لكل واحد من الأخوين أنتما ترثانه أنصافًا عليكما النفقة انصافًا. س: أم لها ولدان هي غنية وأحد ولديها غني والثاني فقير على من تجب النفقة؟ ج: على الأم الثلث وعلى الأخ الثلثان. س: أم وأب لهما ولد فقير وهما غنيان على من تجب النفقة؟ ج: على الأب كل النفقة لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف} ولقوله: {فإن أرضعن لكم فأتوهنَّ أجورهنَّ} فهذه مستثنى الأب مع غيره لا تكون النفقة على قدر الميراث بل تكون على الأب وحده. س: إذا كانت الزوجة غنية والزوج فقير؟ ج: لزم الزوجة أن تنفق على زوجها لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} وهذا قول ابن حزم وقد خالف جماهير الأمة في ذلك، والصحيح لا يجب بل لها أن تتصدق عليه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لزوجة ابن مسعود: "زوجك وولدك أحق من تصدقي عليه".

فالشروط إذن أربعة: غنى المنفق، وحاجة المنفق عليه يعني: عجزه، والثالث: اتفاق الدين إلا في الزوجة، والرابع: ان يكون المنفق وارثًا للمنفق عليه بفرض أو تعصيب إلا في عمودي النسب، هذا هو المشهور عند الفقهاء الحنابلة - رحمهم الله -. ويرى بعض العلماء: أن الواجب على القريب الإنفاق مطلقًا لعموم الأدلة الدالة على الصلة، وقد قال الله تعالى: {وءات ذا القربى حقَّه والمسكين وابن السَّبيل} (الإسراء: 26). وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم وحذر من القطيعة، قالوا: وليس من الصلة أن يكون الإنسان غنيَّا يأكل ما شاء ويلبس ما شاء يسكن ما شاء وله بنت أخ فقيرة ولكن لا يصلح هذا المثال لأنه عمها، ولكن لو كانت البنت هي الغنية والعم هو الفقير فإنه لا يجب عليها الإنفاق؛ لأنها لا ترثه لو مات، يقولون: ليس هذا من الصلة أن تكون بنت أخ غنية جدًا وعمها فقير ثم لا نلزمها بالنفقة، وهذا القول قويٌّ لا شك لكن قد يقال إن قوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} يخصصه فيكون الصلة على غير من يرث حسب العرف وليست نفقة بل ما عد صلة فإنه يوصل. أسباب النفقة وضوابطها: أسباب النفقة ثلاثة: أولًا: الزوجية. والثاني: القرابة. والثالث: الملك، ومنه الولاء، لأن الولاء متفرع على الملك، الزوجية تجب من جانب واحد للزوجة على زوجها، ولا تجب للزوج على زوجته إلا إذا كان فقيرًا وهي غنية على رأي أبي محمد ابن حزم رحمه الله فإنه يقول: إذا كانت الزوجة غنية والزوج فقير وجب عليها أن تنفق عليه لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} لكنه خالف بذلك أهل العلم، والصواب: أنها لا تجب للزوج على زوجته مطلقًا، ومتى تجب النفقة للزوجية هل هو بالعقد أو بالتسليم أو بماذا؟ نقول: إنما تجب بالتسليم إذا سلمت إليه وجبت نفقته سواء كانت ممن يوطأ مثلها أم كانت صغيرة؛ لأنه إن كانت صغيرة قد يستمتع منها بما دون الجماع، فإذن يشترط لوجوب النفقة التسليم، يعني: أن تسلم إليه فإن أبوا أن يسلموها إليه فلا نفقة، وإن أبي ان يتسلمها فعليه النفقة؛ لأنه ربما يطلب منهم الدخول بعد العقد. يقول: أريد أن أدخل هذا الأسبوع فيقولون: لا، فهنا ليس لها النفقة، أما إذا طلبوا أن يمهلوا الإمهال الذي جرت به العادة، فإن ذلك لا يسقط النفقة وربما تعرض عليه ولا يقبل، يقال له: ادخل فيقول أكمل الدراسة، ففي هذه الحال تلزمه النفقة؛ لأن الامتناع من قبله وهي قد بذلت نفسها واستعدت، إذن سببها الزوجية وشرطها التسليم وهناك تفصيلات كثيرة للفقهاء فيما يسقط النفقة كالنشوز وغيره ليس هذا موضع ذكره.

السبب الثاني: القرابة يشترط لها شروطًا: الأول: غنى المنفق. والشرط الثاني: حاجة المنفق عليه بأن يكون فقيرًا عاجزًا عن التكسب؛ أي: فقيرًا في المال وفقيرًا في البدن، فإن كان ليس عنده مال لكن يستطيع أن يكتسب فإنه لا تجب النفقة له، لأنه يمكن أن يستغني بالسب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة "لا تحل لغني ولا لقوي مكتسب". الشرط الثالث: اتفاق الدين، فلا تجب النفقة لكافر على مسلم ولا مسلم على كافر، وذلك لانقطاع الولاية والنصرة بين المسلم والكافر ولكن هذا فيه نظر؛ وذلك لأن القرابات لهم حق، وإن لم يكونوا موافقين في الدين؛ لقوله تعالى: {ووصَّينا الإنسان بوالديه حملته أمُّه وهنًا على وهنٍ وفصله في عامين أن اشكر لي ولولديك إليَّ المصير، وإن جهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما وصاحبهما في الدُّنيا معروفًا} (لقمان: 14، 15) هذا الشاهد، فالقرابة لهم حق وإن كانوا مخالفين في الدين. الشرط الرابع: في غير عمودي النسب أن يكون المنفق وارثا للمنفق عليه بفرض أو تعصيب فإن كان قريبًا غير وارث أو وارثًا برحم فلا نفقة عليه إلا في عمودي النسب، يعني: الأصول والفروع لقول الله تبارك وتعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} والصحيح أنه متى ثبت الإرث وجبت النفقة سواء كان الميراث بفرض أو تعصيب أو رحم فإنه يجب لعموم قوله: {وعلى الوارث مثل ذلك} أما إذا لم يكن توارثًا فإن الواجب أدنى ما يسمى صلة، يعني: لو فرض أن شخصًَا له أخ فقير وهذا الأخ الفقير له أبناء ففي هذه الحال الأخ لا يرث أخاه الفقير؛ لأن الأبناء يحجبونه، ففي هذه الحال لا تجب نفقته لأنه ليس بوارث، لكن يجب عليه أدني ما يسمى صلة؛ لأن الله تعالى أمر بصلة الأرحام، فلابد أن يأتي بما يكون صلة لأخيه. اما في عمودي النسب فلا يشترط التوارث فيجب على ابن البنت أن ينفق على ابن أمه، وإن كان أبوه من ذوي الأرحام وهو أيضًا من ذوي الأرحام، هل تجب النفقة بين العمة وابن أخيها؟ إن كان ابن الأخ هو الغني والعمة فقيرة وجب عليه أن ينفق وإن كان العكس فلا يجب، لأنه إذا كان ابن الأخ هو الغني فهو وارث لعمته فيجب عليه الإنفاق وإن كان العكس هو الفقير، والعمة هي الغنية العمة هنا وارثة بالرحم لا بالفرض ولا بالتعصيب فلا تجب نفقة اين أخيها عليها لأنها وارثة بالرحم، وعلى القول الذي رجحناه تجب عليها النفقة؛ لعموم قوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك}. السبب الثالث: الملك فيجب على المالك أن ينفق على مملوكه من آدمي أو بهيمة لقول

النفقة على الزوجة والأولاد وأحكامها

النبي صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت"، وقوله: "للملوك طعامه وكسوته لا يكلَّف من العمل إلا ما يطيق"، وقوله: "دخلت النار امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"، فيجب على المالك أن ينفق على مملوكه من آدمي أو بهيمة، فإن عجز عن الإنفاق عليه أجبر على إزالة ملكه على أن يبيع العبد أو يبيع البهيمة أو يذبحها إن كانت تؤكل، وإذا كانت لا تؤكل ولا تشترى وهو عاجز عن الإنفاق ففي هذه الحال نخرجها إلى البر لحديث جابر أنه كان على جمل يسير فأعيا فأراد أن يسيبه أي يتركه، وإن كانت مما لا يمكن تسييبه ولا يمكن بيعه وصاحبه قادر على الإنفاق كحمار انكسر الحمار إذا انكسر لا يمن جبر كسره أبدا فماذا يصنع؟ إن باعه لم يقبل وإن سيبه لا يمكن أن يتسيب وإن أبقاه عنده أكله بالنفقة فما العمل؟ يقتله لأن قتله أهون من بقائه معذَّبا والإنفاق عليه إضاعة للمال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال وإذا كان يجوز لنا أن نتلف نفوس الحيوان للتفكه جاز أن نتلف نفوس الحيوان للتخلص منها أليس الإنسان يجوز ان يذبح الشاة أو الأرنب أو الدجاجة أو الحمامة من أجل التفكه فإذا كان ذلك فجواز قتل هذا الحيوان من أجل التخلص منه وحماية ماله منه من باب أولى اسلك أسهل الطرق في قتله وأسرعها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة"، إذن أسباب النفقة ثلاثة منها الملك وهو الأخير، فيما إذا أبي من وجبت عليه النفقة إذا أبي أن ينفق ماذا نعامله ذكر المؤلف فقال: النفقة على الزوجة والأولاد وأحكامها: 1094 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخلت هند بنت عتبة - امرأة أبي سفيان - على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ لا يعطيني من النَّفقة ما يكفيني ويكفي بنيَّ، إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك من جناحٍ؟ فقال: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك". متَّفقٌ عليه. "هند" المؤنث الثلاثي الوسط يجوز فيه وجهان، لكن ابن مالك يقول: وعجمةً كهند والمنع أحق يعني: الأحسن أن يكون ممنوعًا من الصرف، فعلى هذا نقول: "دخلت هند بنت عتبة" وقولها: "رجل شحيح" أي: بخيل حريص على المال لا يعطي ما يجب عليه فيه، ولهذا قالت

مبيَّنة شيئًا من شحه فقالت: "لا يعطيني من النفقة ... إلخ" قولها: "إلا ما أخذت" "إلا" هذه استثناء منقطع؛ لأنه لا يدخل في المستثنى منه وقاعدته أن يكون ما بعد "إلا" داخلا فيما قبلها فيكون الاستثناء منقطعًا، وقالوا: إن "إلا" الاستثنائية تكون بمعنى لكن لأنها كالاستدراك لما سبق أي لكن ما أخذت من ماله بغير علمه فإنني أنتفع به فهل علىَّ في ذبك من جناح، من هنا زائدة إعرابًا، وليست زائدة في المعنى؛ لأن المقصود منها التوكيد وجناح محله من الإعراب الرفع؛ لأنه مبتدأ أو خبره: "علي" مقدمًا "فهل عليَّ في ذلك من جناح"، أي: من إثم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي من ماله" الجملة أمر خذي، ولكنه ليس المراد به الإلزام، ولا الاستحباب، بل المراد به: الإباحة؛ لأن جواب الأمر يكون للإباحة؛ لأن جواب السؤال يكون للإباحة، فإن السؤال استفهام والأمر إذن ما لو قرعت الباب على شخص فقال ادخل فهذا ليس بأمر، ولهذا لو انصرف لم يعد عاصيًا، ولكنه إذن فالمراد بقوله: "خذي" الإباحة، وقوله: "بالمعروف" الباء هنا للمصاحبة، أي أخذا مصحوبا بالمعروف أي: بالعرف بما جرت به العادة ما يكفيك وما يكفي بنيك، فإذا كان الذي يكفيها عشرة مثلًا فلا تأخذ إحدى عشرة وإذا كان الذي يكفيها عشرة فأخذت تسعة فهذا يجوز وتصبر، لكن ما زاد لا تأخذ. من فوائد الحديث: جواز الدخول على المفتي في بيته، لقول عائشة "دخلت امرأة أبي سفيان" لكن يشترط لذلك ألا يخلو بها وأن يأمن الفتنة فإن خلا بها حرم عليها الدخول، وغن لم تؤمن الفتنة حرم الدخول وهذان الشرطان متوفران في هذه القصية؛ لأن هندًا دخلت في حضور عائشة والفتنة قطعًا مأمونة. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز تعيين الشخص باسمه منسوبًا إلى أبيه وإلى من له علاقة به لقوله بنت عتبة نسبة إلى الأب امرأة أبي سفيان نسبة إلى من لها علاقة كما لو قلت: أبو بكر ابن أبي قحافة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعين الشخص بأمرين، وفائدة التعيين هنا متعين. ومن فوائد الحديث: جواز ذكر الغير بما يكره للحاجة؛ لقولها: "إن أبا سفيان رجل شحيح" وهذه حاجة أن تبين حاله؛ لأن حاله تنبني عليها الفتوى، ولو لم تذكر هذه الحال لم تمكن الفتوى فإذا دعت الحاجة إلى ذكر الغير بما يكره ان ذلك جائزًا ويؤخذ من هذه المسألة الفردية أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد وكانت المصالح أبر جاز ارتكاب المفاسد، هنا لا يمكن أن تتحقق المصلحة إلا بارتكاب هذه المفسدة وهي ذكر أبي سفيان بما يره لأنا نعلم علم اليقين أن أبا سفيان يكره أن يذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، ولكن الحاجة داعية إلى ذلك ومر علينا إذا تعارضت المصالح والمفاسد، فإن ترجحت المصالح انغمرت المفاسد

فيها، وإن ترجحت المفاسد انغمرت المصالح فيها، وإن تساوى الأمران يقدم دفع المفسدة، وعلى هذا يتنزل قول الأصوليين درء المفاسد أولى من جلب المصالح. ومن فوائد الحديث: انه يجوز للمرأة أن تصف زوجها بالعيب عند الحاجة مثل ان تصفه بأنه شحيح بأنه سريع الغضب بأنه يهجرها وما أشبه ذلك لان هذا امر لابد منه ولكن لا شك أن الصبر خير إلا أن هندًا رضي الله عنها لها من يتعلق بها وهم الأبناء. ومن فوائد الحيث: ذكر التفصيل بعد الإجمال، وان الإجمال لا يفيد إذا لم يبين؛ لقولها: "لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيَّ"؛ لأنه مطلق؛ حيث ذكرت انه رجل شحيح، ما يكفي لابد أن تعرف؛ لأن الشح قد يكون شحًا في نظر رجل وليس شحًا في نظر آخر، ربما تقول المرأة: إن هذا الرجل شحيح، لأنه لم يأت لها بحلي كثير وغرفة نوم تساوي عشرة آلاف، لكن عندما نرجع الى الواقع نجد ان هذا الرجل الذي أعطاها ما يناسب حالها نجد أنه غير شحيح فلابد أن يذكر ان يبين المجمل حتى ينبني الحكم عليه. ومن فوائد الحديث: أن للمرأة ولاية على أبنائها يؤخذ من قولها: "ما يكفيني ويكفي بنيَّ"، ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقلب لها: أنت غير مكلفة ببنيك بل الأمر إلى أبيهم بل شرع لها ما تحصل به الكفاية لها ولبنيها. ومن فوائد الحديث: صدق الصحابة - رضي الله عنهم - وصراحتهم وبيانهم للواقع وإن كان على رءوسهم لقولها: "إلا ما أخذت من ماله"، فهي لم تكتم هذا الفعل حتى تسأل عنه، بل أخبرت به وستعمل ما يوجهها إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: بإمكانها أن تقول: هل يجوز أن آخذ ما يكفيني وبنيَّ دون أن تقول إلا ما أخذت بغير علم، لكن الصحابة رجالًا ونساء هم أطهر الناس قلوبًا وأصرحهم وأبينهم للواقع. ومن فوائد الحديث: حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على معرفة الحق للعمل به وليس لمجرد العلم به، والشواهد في هذا كثيرة جدّا حتى إنهم يستسلمون أحيانًا لأمر الله ورسوله وإن لم يعرفوا وجهه، لان ذلك هو تمام العبودية يؤخذ من سؤالها عن هذا الحكم الذي قامت به وفعلته. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها بغير عمله ما تحتاج إليه من النفقة، وجه الدلالة من قوله: "خذي من ماله بالمعروف" ولكن هل تأخذ من جيبه أو تأخذ من حقيبة دراهمه او تأخذ من صندوقه أو من الرف الذي يضع فيه النفقة أو من أين؟ الأسهل والأخفى أيضًا؛ لأنه مثلًا إذا وضع على الرف عشرة دراهم ثم أخذت منها شيئًا انتبه، لكن إذا كان عنده في الصندوق مليون وأخذت عشرة ريالات فلا يتبين إذن الأسهل والأخفى.

ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للمرأة إذا أذن لها في الأخذ من مال زوجها للنفقة أن تأخذ ما خرج عن العادة والعرف لقوله بالمعروف. ومن فوائد الحديث: جواز القضاء على الغائب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على أبي سفيان وهو غائب هكذا قال بعض العلماء واستدل بهذا الحديث ولكنه عند التأمل لا يدل على ما ذهب إليه، لأنه الحديث ليس من باب المحاكمة ولكنه من باب الاستفتاء، ولو كان من باب المحاكمة لقال الرسول صلى الله عليه وسلم هل عندك بينة لأن القاعدة الشرعية أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وعلى هذا فلا يكون في الحديث دليل على القضاء على الغائب وهل هذه المسألة القضاء على الغائب جائزة أو لا؟ نقول: هي جائزة إذا دعت الحاجة إليها ويكون الغائب على حجته إذا حضر، وفي حال ما إذا جاء القضاء على الغائب لا يمكن المقضي له من السيطرة على المال إلا برهن يحرز أو ضامن مليء خوفًا من أن تكون دعواه باطلة فيضيع حق الغائب. ومن فوائد الحديث: جواز مخاطبة الرجل الأجنبي عند الحاجة وجهه ان هندًا خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم وكلمته فلو قال قائل هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم؟ لأن المحذور من المخاطبة في حقة بعيد أم ممتنع فالجواب على هذا أن نقول الأصل عدم الخصوصية وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذه الأمور له خصائص لم تكن لغيره فيجوز له أن يخلو بالمرأة الأجنبية وان تكشف له وجهها ويجوز أن يتزوج بلا ولي ويجوز أن يتزوج أكثر من أربع لكن هذه الأشياء التي ذكرت الآن قام الدليل على الاختصاص بها، أما المخاطبة فلم يقم دليل على اختصاصه بها، بل إن الدليل قام على أنها ليست خاصة به بدليل أن النساء كن يتكلمن بحضرة الرجال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينههن عن ذلك، بل إن القرآن يدل على جواز مخاطبة المرأة للرجل الأجنبي لقوله تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الَّذي في قلبه مرضٌ} (الأحزاب: 32). فقوله: {فلا تخضعن بالقول} نهي عن الأخص، والنهي عن الأخص يدل على جواز الأعم وهو مطلق القول ولكن يجب ألا نغفل قاعدة معروفة وهي أنه إذا ترتب على المأذون محذور منع فلو كانت في مخاطبة المرأة للرجل الأجنبي محذور فإنه يمنع وإن كان في الأصل جائزًا، لأن المباح من خصائصه أنه تتعلق به الأحكام الخمسة ومعنى ذلك أنه يمكن أن يكون هذا المباح حرامًا ويمكن أن يكون واجبًا ويمكن أن يكون مستحبًا ويمكن أن يكون مكروهًا. ونضرب مثلًا بالبيع وهو حلال بنص القرآن: {وأحل الله البيع} قد يكون حرامًا {يأيها الَّذين امنوا إذا نودي

للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) [الجمعة: 9]. وقد يكون واجبًا: (يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم) [المائدة: 6]. فإذا كان لا يمكن غسل الوجه إلا بشراء الماء كان الشراء واجبًا، وإذا اشترى الإنسان بصلًا ليأكله عند قرب الصلاة فيكون مكروهًا، فإن قصد ألا يصلي مع الجماعة صار حرامًا. ومن فوائد الحديث: ما يسمى عند العلماء بمسألة الظفر يعني: من له حق على شخص فكتمه ذلك الشخص، إما عدوانًا وإما نسيانًا، فهل لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه؟ من العلماء من قال: له ذلك؛ لأنه في هذه الحال مقتص لنفسه وليس بمعتد، وقد قال الله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) [البقرة: 194]. وقال بعض أهل العلم: لا يأخذ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". فالذين قالوا: إنه يأخذ استدلوا بما سمعتم من العلة واستدلوا أيضًا بحديث هند حيث أذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأخذ من مال أبي سفيان بغير علمه ما يكفيها ويكفي بنيها، والذين منعوا ذلك استدلوا بحديث: "أد الأمانة .. الحديث"، وحقك لن يضيع، إن ضاع في الدنيا فإنه لن يضيع في الآخرة، وربما يكون انتفاعك به في الآخرة خير لك من انتفاعك به في الدنيا، والصحيح في هذه المسألة أن يقال: إذا كان سبب الحق ظاهرًا فلصاحب الحق أن يأخذ حقه بغير علم المحقوق مثل النفقة فإن سبب النفقة كل يعرف أن هذه زوجة فلان، وأن على الزوج أن ينفق على زوجته نفقة القريب سببها ظاهر وهو القرابة كل يعرف أن هذا قريب فلان وأن فلانا فقير وفلانًا غني، فللفقير الذي تجب نفقته على الغني أن يأخذ من مال الغني بغير علمه ما يكفيه، الضيف إذا نزل بقوم ولم يضيفوه فله أن يأخذ من مالهم بغير علمهم ما يكفي لضيافته؛ لأن سبب الضيافة معلوم وهو نزول هذا الضيف وهذا القول هو الذي يدل عليه حديث عائشة في قصة هند وبه تجتمع الأدلة، كما أننا لو أجزنا لمن له حق على شخص وكتمه المحقوق، لو أجزنا أن يأخذ من ماله بغير علم، حصل بذلك فوضى وافتراء؛ لأنه يقتضي أن يعطى المدعي بدعواه بغير بينة؛ إذ لو كان لهذا المدعي بينة لكانت البينة تثبت حقه ثم يأخذه منه في

المستقبل، ولو فتح الباب للناس لحصل في هذا فوضى ومفاسد كبيرة، وهذا القول هو القول الراجح أي: أنه إذا كان سبب الحق ظاهرًا فلصاحبه أن يأخذ من مال المحقوق بغير علمه بقدر ما يكفيه. ومن فوائد الحديث: الرجوع إلى العرف واعتباره لقوله بالمعروف وما هو المعروف؟ المعروف هو: العرف المضطرد الذي اعتاده الناس فإن اختلف الناس في العرف فالمرجع إلى الأكثر والأغلب؛ لأن الرجوع إلى الأكثر والأغلب في مسائل كثيرة في الدين، فكذلك في العرف وهل يقدم العرف على اللغة وعلى الشرع؟ الجواب الشرع مقدم على العرف، والعرف مقدم على اللغة، ويظهر ذلك في باب الأيمان، فمن حلف ألا يتوضأ فاستنجى فإننا إذا رجعنا إلى العرف قلنا: إن هذا الرجل حدث؛ لأن العرف الشائع بين العامة أن الوضوء هو الاستنجاء غسل الفرج، ولو رجعنا إلى اللغة قلنا أيضًا: يمكن أن يكون هذا من باب الوضوء وأنه حنث؛ لأن الوضوء في اللغة النظافة، وإن رجعنا إلى الشرع، قلنا: لا يحنث؛ لأن الاستنجاء لا يسمى وضوءًا في الشرع، إذن نغلب جانب الشرع، كذلك لو حلف رجلًا ألا يشتري شاة فاشترى ماعزًا فإن رجعنا إلى العرف قلنا: لا حنث عليه؛ لأن العرف أن الشاة هي الأنثى من الضأن، وأما الأنثى من الماعز فتسمى عنزة وإن رجعنا إلى اللغة قلنا: إنه يحنث؛ لأن اللغة أعم وأشمل من العرف. إذن ما كان له حقيقة شرعية وعرفية ولغوية يرجع في ذلك إلى الشرع، ثم يقدم العرف على اللغة؛ لأن اللغة عرف قوم بادوا وذهبوا وجاءت لغة جديدة حلت محل اللغة الأولى وتعارف الناس عليها فيعمل بها، فالولد مثلًا في اللغة يشمل الذكر والأنثى، وفي العرف خاص بالذكر، إذا حلف شخص قال: والله لأعطين ولد فلان كذا فأعطى بنت فلان فإنه إذا اعتبرنا اللغة يحنث؛ لأن البنت تسمى ولدًا، وإن اعتبرنا العرف لم يحنث؛ لأن العرف أن الولد خاص بالابن، فنقدم الحقيقة العرفية ونقول هذا الرجل لا يحنث، على كل حال: العرف معتبر شرعًا في مواطن كثيرة، ولكن إذا تعارضت الحقائق العرفية والحقائق الشرعية قدمت الحقائق الشرعية ثم العرفية ثم اللغوية. ومن فوائد الحديث: أن المعتبر في النفقات الكفاية، وأن ما زاد عليها فليس بواجب؛ لقوله: "ما يكفيك وما يكفي بنيك"، وما زاد على الكفاية فليس بواجب، والحكمة من ذلك: أننا لو اعتبرنا ما زاد على الكفاية واتبعنا الهوى في ذلك لم يكن لهذا حد ولاسيما فيما يتعلق بالنساء وحاجتهن فإننا لو أطلقنا العنان للنساء لكانت المرأة كلما صنع ثوب جديد قالت: اشتره لي، حتى لو تتغير الموضة بين عشية وضحاها طالبت بما حدث في العشاء وألغت ما حدث في الصباح، فيقال: الواجب هو الكفاية.

1095 - وعن طارق المحاربي رضي الله عنه قال: "قدمنا المدينة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس ويقول: يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك". رواه النسائي، وصححه ابن حبان، والدارقطني. "أل" في "المدينة" للعهد الذهني؛ إذ لا ينصرف الذهن إلا إلى مدينة معهودة، وهي مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم واسمها طيبة، وكان اسمها في الجاهلية يثرب، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى عدم رغبته بتسميتها بهذا الاسم فقال: "يقولون يثرب وهي طيبة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد"، فلا ينبغي أن تسمى يثرب وأما قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم) [الأحزاب: 13]. فهو حكاية قول المنافقين وحكاية قول الغير قد يكون إقرارًا وقد لا يكون إقرارًا وتسمى المدينة بدون أن يلحق إليها وصف آخر، وكفى بها فخرًا ألا يفهم من المدينة عند الإطلاق إلا مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما زيادة المنورة فهي حادثة ما علمتها في عبارات السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ولهذا نرى حذفها أولى، وإذا كان لابد من وصفها بشيء فلتوصف بالنبوية نسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: "قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم" "إذا" تسمى عند النحويين فجائية لدلالتها على المفاجأة يعني: ففاجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "قائم على المنبر بخطب الناس"، والذي يظهر أن هذا كان في يوم الجمعة؛ لأن الغالب أن خطبته على المنبر تكون في يوم الجمعة، و"المنبر" مفعل من النبر وهو الارتفاع، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة يخطب إلى جدع نخلة ثم صنع له منبر من خشب من الأئل، فلما قام عليه أول جمعة بدأ الجدع يصيح ويسمع له خوار كخوار البعير لفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم! ! حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر، فجعل يسكته حتى سكت كما تسكت الأم صبيها وهذا من آيات الله فإذا كان جدع جماد يبكي لفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلا يجدر بالمسلمين أن يبكوا لفقد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من البلاد الإسلامية اليوم، والله إنه لجدير بنا ولكن القلوب قاسية ويقول: "يد المعطي العليا"، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى" واليد العليا هي يد المعطي والسفلى يد الآخذ؛ لأن منزلة المعطي فوق منزلة الآخذ ومنزلة الآخذ دون منزلة المعطي ولهذا لا ينبغي

للإنسان أن يدل لأحد بسؤال أو استشراف نفس إلا عند الضرورة فلها أحكام، وأما ما دمت في غنى عن سؤال الناس فلا تسأل الناس فإن الناس وإن جادوا وإن كانوا كرماء فإن طبيعة النفوس تشعر بالمنة من المعطي على الآخذ وإن كان الرجل المؤمن لا يمن على الناس ولا يظهر أن له منه عليهم، لكن النفوس تأبى إلا أن تشعر بذلك، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم يد المعطي هي اليد العليا ولكن بمن نبدأ هل نعطي الأجانب أم من نعول؟ قال: "وابدأ بمن تعول" وأول من يجب عليك عونه نفسك، ولهذا جاء في حديث آخر: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"، فالإنسان يبدأ بنفسه، ولكن لا حرج من الإيثار كما هو معروف. قال: "أمك وأباك" وكان مقتضى السياق أن يقول: أمك وأبيك بدلًا من "من" بدل بعض من كل؛ لأن "من" اسم موصول للعموم، وما بعده تفصيل له، لكنه عدل عن ذلك وقال أمك وأباك لأن العدول بالأسلوب عما يتوقع بوجب الانتباه: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلوة والمؤتون الزكوة والمؤمنون) [النساء: 162]. هنا (والمقيمين) جاءت منصوبة بين مرفوعين إذا قرأها الإنسان سيقول ما الذي أوجب خروج هذه الكلمة من طريق جاراتها وكذلك الالتفات: (ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسراءيل .. ) [المائدة: 12]. ولم يقل وبعث، فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إذا كان هذا لفظه عدل عما يتوقع من البدلية إلى النصب حتى ينتبه السامع ويقول ما الذي أوجب نصب هذا، نقول: هذا منصوب بفعل محذوف، التقدير: أعط أمك وأباك وأختك وأخاك، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بجانب الأنوثة؛ لأن الإناث في الغالب أحوج من الرجال، أما بين الأم والأب فهناك أمر ثان غير حاجة النساء وهي أن الأم أحق بالبر من الأب، لأن المشقة التي حصلت للأم أعظم بكثير مما يحصل للأب؛ لأن مشقة الأم اضطرارية ومشقة الأب اختيارية. أما بالنسبة لخروج الولد من هذا ومن هذا فالفرق كبير جدًا، الولد خرج من أبيه شهوة، لكن خرج من أمه كرهًا ووهنًا على وهن، أما بالنسبة للمشقات الأخرى كالإنفاق وغيره، فالإنفاق إنما يسعى لولد باختياره، لكن مشقة الأم عند الحمل، والوضع والحضانة أمر اضطراري فلهذا كانت الأم أحق بالبر، أما الأخت فقدمها لأنها في الغالب أحوج من الأخ. "وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك"، أدنى هنا بمعنى أقرب فهي من دون القرب وليست من دون المنزلة؛ لأن كلمة "دون" تكون في المنازل وتكون في القرب فهنا أدنى يعني: الأقرب فالأقرب،

فإن تساووا في القرب فإن اتسع المال للنفقة فعم الجميع، وإن لم يتسع فأعط البعض لهذا والبعض لهذا بحسب الحاجة. يستفاد من هذا الحديث: مشروعية القيام على المنبر عند الخطبة لقوله: "وهو قائم على المنبر". ومن فوائده: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ما يناسب المقام فقد تكون خطبه مواعظ وقد تكون أحكامًا يعني ليست خطبه مواعظ دائمًا، قد تكون أحكامًا كما هنا. ومنها: فضل المعطي على الآخذ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يد المعطي العليا". ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب السؤال والأخذ بقدر الإمكان، وجهه أنه إذا كانت يد المعطي هي العليا فيد الآخذ هي السفلى، ولا أحد يرضى أن تكون يده هي السفلى. فإن قال قائل: هل هذا يدل على أن الأولى عدم قبول الهدية؟ قلنا: لا، الهدية شيء والسؤال شيء آخر بل قبول الهدية سنة بشرط أن تعلم أنه لم يهد إليك خجلًا، فإن علمت أن أهدى إليك خجلًا حرم الآخذ، فإن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبل الهدية ويثيب عليها، ولكن هل يجب قبول الهدية أو لا يجب؟ يرى بعض العلماء أنه لو أهدى إليك شخص هدية بدون أن تستشرف نفسك لها فإنه يجب عليك القبول مستدلًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر: "ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه". والأمر للوجوب، ولكن الصحيح أنه لا يجب قبول الهدية مطلقًا إلا إذا خاف الإنسان من ردها مفسدة فهنا يجب درءًا للمفسدة، لو كان هذا الذي أهدى إليك لو رددت هديته لحصل بذلك قطيعة رحم لأنه قريبك ويجب أن تقبل هديته ولو رددتها صار قطيعة رحم فهنا يجب القبول، لا لذات الهدية ولكن لما يترتب على الرد من المفاسد، كما أن لو علمت أن هذا الرجل إذا قبلت هديته فسوف يجعلها دبوسًا معلقًا عليك، كلما حصل مناسبة يذكرك ويقول هذا جزاء الذي يحسن إليك ففي هذا الحال لا تقبلها؛ لأن هذا ضرر عليك، والله -سبحانه- نهى عن الإضرار بالنفس، وهذا يوجد كثيرًا من بعض العلماء، حيث يحصي الإنسان بقلبه أو بقلمه ما أعطى غيره فإذا حصل أدنى مناسبة قال: أنا فعلت وأنا تركت، فمثل هؤلاء لا تقبل هديتهم ردها؛ لأن هذا في الحقيقة يوجب عليك الذل والمهانة كما أن منه بالهدية حرام؛ لقوله تعالى: (يأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) [البقرة: 264]. الحالة الثالثة: أنه إذا علمت أنه إنما أهدى إليك خجلًا فهنا لا يجوز القبول، وكيف أعلم

ذلك؟ بقرائن وإلا ما يعلم في القلب إلا الله، ولكن بقرائن مثل أن يكون معه قلم جيد أو ساعة جيدة فآخذها وأقلبها وأقول ما أحسن هذه فيهديها إلي، فهنا يظهر أنه أهداها خجلًا فهنا لا أقبل أو أعرف أنه قد دس شيئًا. يوجد بعض الناس يقتضي حوائج معينة ويدسها ولا يحب أن يطلع عليه أحد فإذا اطلعت عليها خجل، وقال تفضل هذا أيضًا لا يجوز أن أقبل وبالمناسبة لو وجدت الشخص عند بابه فقال تفضل فهل تدخل؟ ينظر لقرائن الأحوال إن علمت أن الوقت غير مناسب للدخول معه وليس بينك وبينه صلة بيِّنة فلا تدخل، وإن علمت أن الرجل صادق في عرضه بدخولك فالقبول خير ما لم يصدك عما هو أهم، ونرجع للفوائد فنقول قال بعض العلماء: من له أخذ شيء فله سؤاله وعلى هذا فالغريم وإن كان غنيًا في أكله وشربه وكسوته وسكنه له أن يقول للناس: أعطوني لأقضي ديني؛ لأن من له أخذ شيء فله سؤاله، ولكن هذا فيه نظر، والصواب أنه لا يسأل إلا عند الضرورة نعم أن للإنسان أن يبين حاله للناس أما أن يسأل فالسؤال ذل، وذكرنا فيما سب أنه إذا تزاحمت الحقوق فإنه يبدأ بمن يعوله؛ أي: بعياله وذكرنا أن الأم مقدمة على الأب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بها. قال العلماء: ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم؛ ولهذا استدلوا على أن الفقراء أشد حاجة من المساكين لأن اله بدأ بهم؛ ولأن الأم أشد عناء من الأب بالنسبة لولدها ولأن الأم أقل تحصيلًا للكسب من الأب فكانت أولى بالتقديم. وكذلك يقال في الأخ والأخت أن الأخت مقدمة على الأخ ولكننا إذا قلنا بالتقديم في هذه الأمور فهذا مع التساوي في الحاجة أما لو قدر أن الأب أشد ضرورة من الأم فهنا نقدم الأب لدفع الضرورة لكن إذا كانوا متساويين فالأم أولى، وكذلك في الأخ والأخت. ومن فوائد الحديث: تقديم الأقرب فالأقرب في الصلة لقوله: "أدناك فأدناك". ومن فوائده: جواز استعمال السجع إذا كان بحسب الطبيعة والفطرة، يعني: بدون عناء وبدون مشقة، ومن الناس من شاهدناهم قد يسر لهم السجع حتى إنه إذا كان يكلمك كلامًا عاديًا تمكن أن يكلمك سجعًا من أول الكلام إلى آخره، وإذا كاتبونا كتابًا وجدناه سجعًا من أوله إلى آخره فهذا يأتي طبيعيًا لا بأس به، أما إذا كان متكلفًا فينظر إن كان يؤدي إلى إخلال بالمعنى فلا شك أنه خطأ؛ لأن هذا كالذي يعتني بالقشور ويدع اللب، يعني: مثلًا لو كان هذا السجع يؤدي إلى إخلال بالمعنى بحيث لا يفهم المعنى بهذه الكلمة التي جاء بها من أجل سجعه إلا من بعيد، فهنا نقول: السجع لا ينبغي؛ لأن هذا خلاف المقصود؛ لأن المقصود من الألفاظ المعاني فإذا أتيت بألفاظ تبعد بها المعاني فهذا خطأ، القسم الثالث من السجع: أن يقصد به إبطال الحق أو إحقاق

النفقة على المملوك وأحكامها

الباطل وهذا منهي عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حمل ابن النابغة قال: يا رسول الله، كيف أغرم -يعني: الجنين الذي قتل- من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثال ذلك يطل هذا سجع فقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما هو من إخوان الكهان"؛ لأن الكهان هم الذين يسجعون في كلامهم من أجل إبطال الحق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء السجع في كلامه كثيرًا كما هنا، ومثله: "قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق". النفقة على المملوك وأحكامها: 1096 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله رضي الله عنه: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". رواه مسلم. "للمملوك" يعني: بذلك: الرقيق من ذكر أو أنثى "طعامه وكسوته"؛ "طعامه" يشمل الشراب؛ لأن الشراب يسمى طعامًا قال الله تعالى: (فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى) [البقرة: 249]. وتسمية الشراب طعامًا واضحة؛ لأنه يطعم ويذاق، لكن إذا قيل: طعام وشراب اختلف المعنى، فيصير الشراب للمائع والطعام لغير المائع. إذن "طعامه" يشمل الأكل والشرب، وقوله: "للمملوك طعامه" لا يخفى أنها جملة خبرية وأن الخبر فيها مقدم، وهنا لا يراد به الحصر؛ لأن التحدث عن المملوك وليس هناك شيء آخر يحترز به منه، وكسوته يعني: لباسه لأن الإنسان محتاج إلى اللباس؛ لستر العورة ودفع الحر ودفع البرد قال الله تعالى: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) [النحل: 81]. وهذا شيء مشاهد؛ لأن الجسم لو بقي عاريًا في أيام الحر أكله السموم وتأثر به، لكن اللباس بقي الحر ففيه فائدتان: الأولى: ستر العورة، والثانية: الوقاية من الحر والبرد كما أن فيه إشارة معنوية عظيمة إلى أن الإنسان لابد أن يستر عورته المعنوية فهو مضطر إلى ستر عورته الحسية ومضطر إلى ستر عورته المعنوية وهي الذنوب والمعاصي كما قال الله تعالى: (ولباس التقوى ذلك خير) [الأعراف: 26]. فأنت مفتقر إلى أن تكسو عورتك المعنوية كما أنك مفتقر إلى أن تكسو عورتك الحسية وهذا من حكمة الله، فالبهائم حيث إنها لم تكلف ليس لها من اللباس إلا ما قد ألبسها الله -تعالى- مما يليق بحالها، لكن بنو آدم أراهم الله عز وجل أنهم مضطرون للباس الحسي وهم كذلك مضطرون للباس المعنوي؛ قال: ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق، لا يكلف أي لا يلزم لأن التكليف في اللغة: إلزام ما فيه مشقة وقيل إنه مجرد الإلزام والمعنى أنه لا يلزم من العمل إلا ما يطيق أي: ما يدخل تحت طاقته وقدرته فإذا كان صغيرًا وقلنا له: أحمل هذه الصخرة الكبيرة فهذا

حرام لا يجوز؛ لأنه لا يطيق، أو قيل له: اعمل ليلًا ونهارًا ولا تنم إلا ساعتين، هذا أيضًا لا يجوز وإن كان العمل خفيفًا لكن هنا إرهاق للبدن، إذن لا يكلف من العمل ما لا يطيق قدرًا وزمنًا. يستفاد من هذا الحديث: أولًا: إثبات الملكية في البشر من قوله: "للمملوك" وترتيبه على هذا الملك هذه الأحكام الطعام والشراب والكسوة وألا يكلف من العمل إلا ما يطيق وقد دل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ثبوت ملكية الإنسان للإنسان، وهذا لا ينافي العدل ولا ينافي الرحمة؛ لأن سبب الملكية أن الإنسان لما أرق نفسه للشيطان صار من الحكمة أن يرق نفسه للإنسان الذي قد ينفعه ويعينه على الطاعة ما هو رق الشيطان؟ الكفر؛ لأن سبب الرق هو الكفر، لا يوجد رق في الإسلام إلا بسبب الكفر أو التوالد فيما بعد، أما أن يؤخذ من أهله ويباع ويشتري فهذا لا يمكن أن يوجد في الإسلام، ومعلوم أننا إذا رققناه يملك الإنسان فهو خير من رق الشيطان قال ابن القيم -بالمناسبة-: هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان إذن إثبات الملكية ثابت بالنص والإجماع، ولا يمكن لأحد أن يلغي هذا الحكم إلا إذا كان يستطيع أن يلغي فرضية الصلوات الخمس، صحيح أنه يجب التحري ما سبب رق هؤلاء البشر؟ يعني: لو جاء إنسان وقال هذا عبدي لابد أن نتحرى؛ لأن المسلمين اليوم إلا من شاء الله لا يسترقون البشر، هم مغلبون على أنفسهم فكيف يغلبون غيرهم؟ ! لكن إذا فرض أن وجد فلابد من التحري، فإذا لم نعلم سبب الرق فحينئذ لنا أن نقول: الأصل في بني آدم الحرية حتى يثبت أن هذا رقيق بطريق شرعي. ومن فوائد الحديث: وجوب إطعام المملوك وكسوته لقوله: "للمملوك"، واللام هنا للاستحقاق، يعني: أنه يستحق على سيده أن يطعمه ويكسوه. ومن فوائد الحديث: جواز استعمال العبد واستخدامه فيما يطيق؛ لقوله: "ولا يكلف من العمل ... إلخ". ومن فوائده: تحريم تكليف العبد بما لا يطيق؛ لأن قوله: "لا يكلف" نفي بمعنى النهي، والنفي يأتي بمعنى النهي كثيرًا كما أن الخبر يأتي بمعنى الأمر كثيرًا وكما أن الأمر يأتي بمعنى: الخبر ويتضح بالمثال يتربصن هذا خبر ومعناه: الأمر، "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم" خبر، لكن معناه: النهي، قد يأتي الأمر بمعنى الخبر مثل قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم) [العنكبوت: 12]. اللام: لام الأمر ولهذا جزمت الفعل لكن هل هذا أمر أم خبر يفيد إلزام أنفسهم بذلك؟ الثاني.

ومن فوائد الحديث: عناية الشرع بالمملوك والمالك ووجهه تعيين ما للمملوك وللمالك وهذا يدل على عناية الشرع بهما وأن الشرع بهما وأن الشرع منظم للحياة كلها. 1097 - وعن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه رضي الله عنها قال: "قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت ... ". الحديث. وتقدم في عشرة النساء. الشاهد من هذا الحديث قوله: "أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت". فيه فوائد: وقد سبق الكلام على الحديث ونريد تحقيق كلمة "زوجة" في الحديث؛ لأن اللغة الفصحى عدم تأنيث اللفظ فيقال: للمرأة زوج، ولا يقال: زوجة إلا في لغة ضعيفة، أما الفرضيين فقد التزموا أن يجعلوا الزوجة الأنثى بالتاء والزوج بدو تاء للتمييز؛ حتى لا تختلط المسائل. في هذا الحديث: حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على فهم ما يلزمهم لأهلهم لقوله: "ما حق زوجة أحدنا عليه؟ " وهنا نسأل: هل الصحابة إذا سألوا عن الأحكام هم يريدون الوصول إلى معرفة الحكم فقط أو إلى هذا والتطبيق؟ الثاني بلا شك، لكننا نحن في عصرنا كثير منا يسأل عن الحكم ثم لا يطبق أحيانًا يسأل عن الحكم يسأل شخصًا يثق بدينه وعلمه، فإذا أفتاه بما لا ترضاه نفسه الجاهلة تردد في الأمر، ثم ذهب إلى عالم آخر فإذا أفتاه بفتوى الأول ذهب إلى ثالث ورابع! ! حتى إننا نسمع أن بعض الناس إذا قلت له هذا الحكم كذا وكذا قال: والله أنا ما أظن هذا! فيقال له: يا هذا من قال: إن الأحكام الشرعية مبنية على ظنك! فهذه مسألة خطيرة، أقول: إن الأنبياء ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن ورث محمدًا صلى الله عليه وسلم؟ العلماء، فأنت إذا استفتيت عالمًا ترضاه لدينك وترى أن ما قاله أقرب إلى الصواب من غيره فالواجب عليك الأخذ بقوله؛ ولهذا قال العلماء: إنه يحرم على المستفتي إذا استفتى من التزم بقوله: أن يسأل غيره بالإجماع؛ لأن هذا يؤدي إلى التلاعب وتتبع الرخص، نعم لو فرضنا أنك استفتيت عالمًا تثق بقوله وأفتاك بما يرى ثم جلست مجلسًا مع عالم آخر وتحدث عن حكم المسألة التي سألت عنها الأول وأتى بحكم يخالف الأول مستندًا إلى القرآن والسنة فهنا لك أن تتحول، بل يجب عليك إلى ما قال الآخر؛ لأنه أتى بدليل ينقض حكم الأول أما أن تذهب تسأل بعدما سألت من تعتمد على قوله فهذا تلاعب في دين الله. ومن فوائد الحديث: أنه يجب على المرء لزوجته أن يطعمها إذا أطعم ويكسوها إذا اكتسى وهل المراد أنك إذا أفطرت على خبز يلزمك أن تفطرها على خبز، أو إذا كنت تفطر

وهي لا تشتهي الفطور يلزمك أن تعطيها الفطور، المراد جنس الطعام لا أن تقول كلما أكلت ولو تمرًا على المطبخ وأخذت واحدة فتقول لها: تعالى فخذي تمرة لا ولكن المعنى: الجنس يعني: أن تطعمها إذا طعمت فإن لم تطعم لكونك فقيرًا فإنه لا يلزمك أن تطعمها (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) ولكن اختلف العلماء إذا حدث للزوج فقر بعد غنى فهل للزوجة أن تطالب بالفسخ؟ قال بعض أهل العلم: إن لها أن تطالب بالفسخ وقال آخرون: لا ولكن الأقرب أن لها أن تطالب؛ لأن من استدل على عدم المطالبة بأن الصحابة -رضي الله عنهم- افتقروا ولم تفسخ أنكحتهم يجاب عنه بأنه لا نعلم أن هؤلاء الزوجات طالبن بالفسخ، وأما أن يستمتع الرجل بها ولا ينفق عليها فهذا لا شك أنه إضرار بها فلها أن تفسخ، لكن لو تزوجته عالمة بعسرته فهل لها أن تفسخ؟ الصحيح: لا، وقال بعض العلماء: لها أن تفسخ لأن النفقة تجدد، فكل يوم له نفقة، وهي إذا رضيت اليوم قد لا ترضى غدًا لكن الصواب أنها إذا تزوجته عالمة بعسرته فإنها ليست لها حق الفسخ؛ لأنه يقال: لماذا لم ترفضي من الأصل؟ أما أن تتزوجيه عالمة بعسرته ثم بعد ذلك تطالبين بالفسخ، فليس لك الحق في هذا، وقوله: "تكسوها إذا اكتسيت" نقول فيه مثل ما قلنا في "تطعمها إذا طعمت" يعني: المعنى الجنس. 1098 - وعن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الحج بطوله قال في ذكر النساء: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". أخرجه مسلم. حديث الحج رواه مسلم عن جابر، وهو أجمع ما روي في الحج، يعتبر منسكًا، ولهذا جعله الألباني رحمه الله الأصل كتاب في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جدير بأن يكون أصلًا؛ لأن جابرًا رضي الله عنه ذكر الحديث من قبل أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى يوم العيد سياقًا تامًا، قال: "لهن عليكم رزقهن" الرزق: العطاء، والمراد به هنا: الأكل والشرب و"كسوتهن" معروفة، فهي: الثياب ونحوها لكنه قيدها بقوله: "بالمعروف" أي: بما عرفه الناس، فلو طلبت منه ما يخالف العرف فله أن يمنع ذلك، مثلًا لو كانت حال الزوج متوسطة فطلبت منه نفقة غني فإنه لا يلزمه؛ لقول الله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما ءاتاه الله لا يكلف الله نفسًا إلا ما ءاتاها) [الطلاق: 7]. في هذا الحديث دليل على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء؛ لأنه ذكر هذا في خطبته يوم عرفة أكبر مجمع للمسلمين. وفيه أيضًا: دليل على وجوب نفقة المرأة على زوجها طعامًا وشرابًا وكسوة وسكنًا وفيه

دليل على أن هذا مقيد بالعرف وفيه أيضا الرجوع إلى العرف والرجوع إلى العرف إنما يكون حين لا يكون له حد شرعي أما إذا كان له حد شرعي, فالواجب إتباع الشرع, ولهذا قيل: وكل ما أتى ولم يحدد ... بالشرع كالحرز فبالعرف احدد "الحرز" هو: حرز الأموال الذي تحفظ فيه, وفائدة معرفة ذلك: أن السارق من غير حرز لا تقطع يده, وأن المودع إذا وضع الوديعة في غير حرز كان ضامنا. كيفية النفقة: قال الشيخ ثلاثة أقوال: القول الأول: المعتبر حال الزوج. والثاني: المعتبر حال الزوجة. والثالث: المعتبر حالهما؛ فإذا غنيين فلا إشكال تجب نفقة غنى , وإن كانا فقيرين فلا إشكال تجب نفقة فقير, وإذا الزوج غنيا وهي فقيرة فمن قال: يعتبر حال الزوجة, قال: ليس لها إلا نفقة فقيرة, ومن قال: المعتبر حال الزوج, قال: يجب عليه نفقة غني وبالعكس إذا كانت الزوجة غنية والزوج فقيرا, من قال: المعتبر حال الزوجة, قال: يجب على الزوج الفقير أن ينفق عليها نفقة غني, ويجب على الزوج إذا كان الزوجة فقيرة وهو غني أن ينفق عليها نفقة فقير, والثالث يعتبر حال الزوجين معا, وهذا لا يخالف القولين إلا فيما إذا اختلف حال الزوجين غني والزوجة فقيرة الذي يجب لها نفقة حسب الخلاف الذي يقول يجب عليه نفقة متوسط لاغني ولا فقير وهذا الأخير هو المشهور من مذهب الإمام أحمد, والقول باعتبار حال الزوج مذهب الشافعي وهو الصحيح؛ لأن الله قال: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله) الطلاق 1099 - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إنما أن يضيع من يقوت". رواه النسائي. "كفى" بمعنى: وسعه و "إثما" هذه تمييز محول عن الفاعل؛ لأن التمييز اسم بمعنى "من" مبين لما كان مبهما مجهولا من الذوات والحال تبين ما كان مبهما مجهولا من الصفات وهنا

"إثما" مبين لما كان مبهما مما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يكفي فما هو الذي يكفي؟ بينه بقوله: "إثما" فهو إذن تمييز محول عن الفاعل وله نظائر في القرآن (وكفى بالله شهيدا) وقوله: "أن يضيع من يقوت" هذا فاعل كفى يعني: كفى به إثما تضيعه من يقوت أي من ينفق عليه بالقوت فإنه إذا ضيعه فهذا إثم عظيم يسعه ويحيط به. وهو عند مسلم بلفظ: "أن يحبس عمن يملك قوته". فبينه وبين اللفظين اختلاف يتبين بالشرح, هذا الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: "إن الإنسان يأثم إثما يحيط به إذا ضيع من يقوت" يعني: أهمله ولم يقم بما يجب له, وهذا يشمل ما كان إنسانا وما كان حيوانا والإنسان يقوت الإنسان ويقوت الحيوان فالمملوك له القوت على سيده والزوجة لها القوت على زوجها, والقريب له القوت على قريبه بالشروط المعروفة فإذا ضيعه وأهمله فإنه آثم, وأما لفظ مسلم: "أن يحبس عمن يملك قوته" وهو أعظم وأبلغ من التضييع, لأن التضييع عدم المبالاة, أما هذا فإنه منع القوت ففرق بين الذي يضيع إهمالا وتفريطا وبين الذي يعتمد الإساءة, فحديث مسلم فيمن يتعمد الإساءة فيحبس القوت عمن يملكه, ورواية النسائي تدل على أن مجرد التضييع والإهمال إثم فأيهما التي يدخل فيها اللفظ الثاني؟ الأولى, لأنه إذا كان عليه هذا الإثم في الإضاعة فإنه يكون عليه من باب أولى في الإساءة؛ لأن الذي يمنع القوت عمن يملكه أشد إثما. ففي هذا الحديث: وعيد على من ضيع من يقوت وأنه آثم والقاعدة عند أهل العلم: أن كل ذنب توعد عليه فإنه يكون من كبائر الذنوب فيؤخذ من هذا أن إضاعة من يقوت من كبائر الذنوب. ومن فوائده: أنه إذا أضاعه فقد اكتسب هذا الإثم طالبه أم لم يطالبه لأنه إذا كان يجب عليه أن يقيته ولم يفعل لحقه هذا الإثم حتى وإن لم يطالبه ما لم يسقط حقه فالمقامات ثلاثة أن يطالبه وله الحق في المطالبة, أن يسقط عنه الحق فله الحق أن يسقط الثالث أن يسكت فمتى يكون آثما؟ يكون آثما فيما إذا طالبه ومنعه حقه أو فيما إذا سكت لأن الأصل أن الحق واجب فيجب إيصاله إليه سواء طالبه أو لم يطالبه إذا أسقطه فالحق له ويسقط عما يجب عليه, هل له أن يطالب أباه بالنفقة؟ يعني: لو أن أباه منعه النفقة الواجبة عليه فهل له أن يطالبه؟ قال العلماء نعم له أن يطالب أباه ولكن ليس له أن يطالب أباه بدين ثابت على أبيه والفرق بينهما أن مطالبة أباه بالنفقة مطالبة لحفظ نفسه؛ لأنه لا يمكن أن يبقى لا يأكل ولا يشرب ولا يكتسي ومطالبته بالدين ليست لحفظ نفسه ولكن لحفظ ماله فلا يحق له أن يطالب أباه في

حكم النفقة على الحامل المتوفى عنها زوجها

الدين, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنت ومالك لأبيك", بخلاف مطالبته بالنفقة فإنها حاجة حاضرة لحفظ النفس وحمايتها من الهلاك. ومن فوائد الحديث: أنه يجب على الإنسان أن يكون نبيها فيما حمل من الواجبات؛ لقوله: "كفى به إثما أن يضيع من يقوت", والواجب عليه أن يتنبه لكل ما يجب عليه سواء من أقاربه أو من مملوكاته, ولكن هل يشمل هذا المزارع وشبهها, ونقول: إن الإنسان يأثم إذا لم يقم على مزرعته بالسقي والحرث؟ الجواب لا حتى لو كانت حية لأنها ليس لها قوت صحيح, فإنها تسقى بالماء وتحرس لكن ليس لها قوت, فالمراد: ما يحيا بالقوت, وهو الآدمي أو الحيوان أو الرقيق. ومن فوائد الحديث: عناية الشرع بذوي الحقوق وأن النبي صلى الله عليه وسلم مدافع عنهم ومطالب لهم, ولهذا توعد من أضاع حقوقهم فدل ذلك على عناية الشرع بذوي الحقوق, وهذا له نظائر منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم" فإن هذا حماية للدائن الذي له على أخيه وهو غني فإن مطله به يكون ظلما. حكم النفقة على الحامل المتوفى عنها زوجها: 1100 - وعن جابر رضي الله عنه يرفعه, في الحامل المتوفى عنها زوجها قال: "لا نفقة لها" أخرجه البيهقي, ورجاله ثقات, لكن قال: المحفوظ وفقه, وثبت نفي النفقة في حديث فاطمة بنت قيس كما تقدم. رواه مسلم. قوله: "يرفعه" أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وقوله: "المحفوظ" ضده الشاذ فالرواة رووا هذا الحديث على وجهين: الأول: على أنه مرفوع, والثاني: موقف, فعلى الوجه الأول: يكون هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الثاني: يكون من كلام جابر, أيهما المحفوظ وأيهما الشاذ؟ الموقوف محفوظ والمرفوع شاذ. يقول: "في الحامل المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها", وهذا الحديث مطابق للحكم حتى وإن لم يصح مرفوعا حتى وإن صح من قول جابر؛ لأن جابر صحابي؛ وقول الصحابي على القول

الراجح حجة أي أن يعارضه حديث مرفوع أو قول صحابي آخر فإن خالفه حديث مرفوع فالعمل بالحديث ويلغى قول الصحابي وإن خالفه صحابي آخر وجب النظر في الترجيح ووجوه الترجيح كثيرة ذكرها أهل الأصول, إذن هذا الحديث موافق للقواعد فالحامل المتوفى عنها زوجها انقطعت علاقتها مع زوجها انقطاعا كليا فإذا انقطعت انقطاعا كليا فليس لها نفقة على الزوج لكن هي حامل؟ نقول: نعم, والنفقة لها في نصيب الحمل لأن النفقة على الحامل من أجل حملها فيكون النفقة للحمل وتؤخذ من نصيبه ولا تؤخذ من مال الزوج والفرق بين القولين ظاهر, إذا قلنا: إنها تؤخذ من مال الزوج ووجب أخذها من التركة قبل أن تقسم بين الورثة وإذا قلنا: إنها تؤخذ من نصيب الحمل فإنما نأخذها من نصيب الحمل بعد قسم التركة فتقسم التركة, وننتظر ماذا يكون للحمل؟ ثم نأخذ من نصيبه من التركة ما ينفق به على أمه وإن لم تكن حاملا وهي متوفى عنها فنفقتها على نفسها ليس لها نفقة في نصيب أحد من الورثة بل نفقتها تكون على نفسها. والحديث فيه فائدة واحدة وهي: أن المرأة المتوفى عنها زوجها ليس لها نفقة في العدة سواء كانت حاملا أم غير حامل لكن إن كانت حاملا فلها النفقة في نصيب الحمل وقوله: "وثبت نفي النفقة في حديث فاطمة بنت قيس ... الخ". لكن حديث فاطمة بنت قيس في المطلقة ثلاث لأن زوجها طلقها ثلاثا وكان غائبا, فأرسل إلى وكيله أن يعطيها من النفقة من الشعير فسخطت النفقة وقالت: لا يمكن أن تكون من الشعير, فرفع الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: و"ليس لك نفقة عليه" لأنها بائن منه, والبائن بالطلاق إذ لم يكن لها نفقة فالبائن بالموت من باب أولى, لأن البائن بالموت لا يمكن أن يرجع عليها زوجها البائن بالطلاق يمكن إذا تزوجت رجلا آخر وجامعها وطلقها حلت للزوج الأول ولعلنا هنا نذكر نفقة المعتدات, الرجعية تجب لها النفقة بكل حال ما لم تكن ناشزا فإن كانت ناشزا فليس لها نفقة أن الناشز تسقط نفقتها ولو لم تطلق, البائن يفسخ أو طلاق ليس لها نفقة إلا أن تكون حاملا فتجب النفقة على أب الحمل, البائن بالموت ليس لها نفقة ولو كانت حاملا أي: ليس لها نفقة على زوجها ولو كانت حاملا ولكنها إذا كانت حاملا تكون نفقتها في نصيب الحمل فتبين بهذا أن المعتدات ثلاث أقسام في كلام المؤلف, وثبت

مسألة طلب المرأة الطلاق عند عجز زوجها عن النفقة

نفي النفقة في حديث فاطمة .. الخ في سياق المؤلف لهذا إيهام بأن حديث فاطمة في البينونة في الموت وليس كذلك. مسألة طلب المرأة الطلاق عند عجز زوجها عن النفقة: 1101 - وعن أبي هريرة رضي الله ع نه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خبر من اليد السفلى، ويبدأ أحدكم بمن يعول. تقول المرأة: أطعمني، أو طلقني". رواه الدارقطني، وإسناده حسن. وما هي "اليد العليا"؟ يد المعطي، و"اليد السفلى" يد الآخذ، و"يبدأ أحدكم بمن يعول" أي: بعياله الذين يجب عليه إعالتهم، ثم ضرب مثلا يقول: "تقول المرأة أطعمني أو طلقني"، والمرأة ممن يعولها، وعول المرأة أوكد أنواع العول، لأن عولها معاوضة عن عوض والرجل قد أخذ عوضا -عوض هذا الإنفاق- فلا يمكن أن يهمله عوض الإنفاق، هو يستمتع بالزوجة من جماع وغير جماع فإذا كان يستوفيه ومنعها حقها صار أبلغ من منع نفقة الأقارب لأن نفقة الأقارب واجبة للصلة والمواساة لكن نفقة الزوجة واجبة معاوضة فتقول المرأة: "أطعمني" يعني: أنفق عليّ "أو طلقني" والقريب يقول أطعمني وإلا فعليك الإثم. فيستفاد من هذا الحديث فوائد: أولا: فضل اليد العليا على اليد السفلى وسبق الكلام فيه وما يترتب على هذه الأفضلية، وأنها تدل على أن السؤال ذل وانحطاط رتبة. ومن فوائد الحديث: وجوب البدء بمن يعول لقوله: "يبدأ أحدكم بمن يعول". ومن فوائد الحديث: أن أعظم من يعوله الإنسان الزوجة، لأنها تهدد بهذا القول. ومن فوائده: أن المرأة أن تطالب بالطلاق إذا لم ينفق عليها الزوج، وهذا واضح إذا كان قادرا على الإنفاق، لأنه لا عذر له ولكن إذا كان غير قادر على الإنفاق فهل لها أن تقول أطعمني أو طلقني؟ ظاهر الحديث أن لها ذلك، وهذا هو الذي ذهب إليه أكثر العلماء، لأن نفقة الزوجة معاوضة فإذا لم تحصل لها ولو بعذر فإن لها أن تطالب بالطلاب أو الفسخ، ولو لم يثبت هذا لقلنا: إنه يجب أن يحمل الحديث على ما إذا قالته لشخص قادر على الإطعام تقول: أطعمني أو طلقني.

من فوائد الحديث: جواز سؤال المرأة الطلاق إذا كان له سبب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على هذا القول ولو لم يكن لها أن تقول هذا القول لم يقرها الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك. 1102 - وعن سعيد بن المسيب في الرجل لا يحد ما ينفق على أهله قال: "يفرق بينهما". أخرجه سعيد بن منصور: عن سفيان، عن أبي الزناد قال: "فقلت لسعيد بن المسيب: سنة؟ فقال: سنة". وهذا مرسل قوي. يقال: المسيب والمسيب، المسيب لغيره، والمسيب من غيره، المسيب من غيره معناه: أنه لا قيمة له منبوذ؛ ولهذا يشهر عن سعيد أنه يقول: أنا ابن المسيب وسيب الله من سيبني، يعني: من قال: ابن المسيب، لكن المعروف عند العلماء جواز الوجهين، سئل سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على أهله قال: يفرق بينهما، ومعلوم أن هذا ليس على سبيل الوجوب بل يفرق بينهما بطلب من المرأة، أما لو أن المرأة رضيت بحال زوجها ولم تطالب وصبرت فلا شك أن أعظم لأجرها وأولى لها وأفضل لوجهين: الأول: أن في ذلك إحسانا إلى زوجها، وإحسانا إلى أولادها إن كانت ذات أولاد. وثانيا: إن لها أجرا بالصبر على اللأوى والجوع والكسوة وغير ذلك فالأفضل ألا تطالب ولو كان زوجها فقيراً لكن لو أنها أصرت على المطالبة وقالت أنا لا يمكن أن أبقى في بيت أجد ما آكل ولا ما أكتسي فلها الحق وحينئذ يجب أن يفرق بينهما يطلبها يقول سئل سعيد هل هذا سنة؟ فقال: إنه سنة لكن سنة من؟ هذه المسألة عند أهل الاصطلاح إن قالها الصحابي فهي من قسم المرفوع مثل قول أنس بن مالك: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أن يقيم عندها سبعا"، ومثل قول ابن عباس في قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة حين جهر بها قال: ليعلموا أنها سنة فالصحابي إذا قال: هذا من السنة أو هذا سنة فهو في حكم المرفوع، لأنه لا يريد بالسنة إلا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما التابعي إذا قال: هذا سنة فقد اختلف أهل العلم في الاصطلاح هل يكون موقوفا أو يكون مرفوعا مرسلا ووجه ذلك أن التابعي لم يدرك من الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا قدرنا أن قوله من السنة مرفوع فالتابعي حينئذ رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم

يدرك زمانه ومعلوم أن التابعي إذا أضاف حديثا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مرسل؛ لأنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء من فقال: هو غير مرسل، لكنه موقوف؛ لأن التابعي لا يعني بالسنة إلا سنة الصحابة الذين أدركهم، فيكون هذا من باب الموقوف أي: يكون موقوفا متصلا؛ لأنه أدرك الصحابة، وظاهر صنيع ابن حجر في قوله: "وهذا مرسل قوي" أنه يختار القول بأن قول التابعي من السنة مرفوع مرسل، ولهذا قال: هذا مرسل قوي، والمرسل: ما رفعه التابعي أو الصحابي الذي لم يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، والراجح أنه ينظر إلى السنة في هذا إذا وجد له شواهد تدل على أنه مرفوع فهو مرفوع وإلا فالأقرب أن قول التابعي: "من السنة" أي: سنة الخلفاء الذين أدركهم. 1103 - وعن عمر رضي الله عنه: "أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم: أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا". أخرجه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن. "الأمراء": جمع أمير، و"الأجناد" جمع جند، وهم الذين يبعثون للقتال في سبيل الله عز وجل فتركوا نساءهم بلا نفقة، كتب عمر رضي الله عنه أن يأخذوا هؤلاء الأزواج بأن ينفقوا أو يطلقوا وهذا "أو" لأحد الشيئين يعني: إما الإنفاق وإما الطلاق فإذا أنفقوا لم يلزموا بالطلاق، وإن لم ينفقوا ألزموا بالطلاق فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا أي: بالنفقة التي حبسوها يبعثون بها إلى أزواجهم. هذا الأثر أخرجه الشافعي والبيهقي يقول: "بإسناد حسن" فيكون حجة، وهو من سنة أحد الخلفاء الراشدين وهو عمر رضي الله عنه فيكون حجة يعمل بها. فيستفاد من هذا الأثر فوائد: منها: مراسلة الإمام أمراءه بالأمر الذي يقتضي المراسلة، لأن عمر كتب إلى أمراء الأجناد. ومن فوائد الحديث: حماية عمر بن الخطاب للرعية حيث كان يتفقد أحوال الرعية إلى أن يتفقد النساء رضي الله عنه. ومن فوائده: أن الإنسان يطالب بالنفقة فإن أبى ألزم بالطلاق؛ لقوله: "يأخذوهم"، يعني: بأن ينفقوا أو يطلقوا، وهو كذلك على القول الراجح، وقد علمتم الخلاف، لكن القول الراجح أن للزوجة أن تطلب الفسخ.

ومن فوائد الحديث: أن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان؛ لقوله: "فإن طلقوا بعثوا بنفقة من حبسوا"، ووجه ذلك: أن الإنفاق على الزوجة معاوضة عن الاستمتاع بها فإذا كان معاوضة فإنه يجب على الزواج أن يدفع نفقة ما مضى، لأنها تثبت في ذمته فإن قال قائل: كيف يدفع نفقة ما مضى وهو لم يستمتع بها؟ نقول: لأن هذا نم قبله هو فهو الذي سافر، أما لو كانت هي التي نشزت وسافرت فليس لها شيء وهل القريب مثلها يطالب بنفقة ما مضى مثل أن يغيب عنه قريبه وينفق هذا على نفسه بالاستدانة من الناس فهل على القريب أن يقضي هذا الدين الذي كان بسبب النفقة؟ يقول العلماء: لا يلزمه نفقة ما مضى بالنسبة للقريب لأن هذا مجرد إحسان يفوت بفوات وقته، نعم لو فرض أن هذا القريب استدان على ما تجب عليه النفقة بني الرجوع يرجع أنه قضى عنه شيئا واجبا. 1104 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، عندي دينار؟ قال: أنفقه على نفسك. قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على ولدك. قال: عندي آخر؟ قال أنفقه على أهلك. قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على خادمك. قال عندي آخر، قال: أنت أعلم". أخرجه الشافعي، وأبو داود واللفظ له، وأخرجه النسائي والحاكم بتقديم الزوجة على الولد. يقول: "جاء رجل" من هو الرجل؟ لا تعلم عينه ولا يهمنا أن نبحث عن عينه من هو لأن المقصود هو الحكم إلا إذا كان يترتب على معرفة عينه حكم لا يترتب على إبهامه فحينئذ يتعين طلب التعيين أما إذا كان الحكم لا يختلف فلا حاجة إلى أن نضيع الأوقات الكثيرة في الوصول إلى تعيين هذا الشخص، لأن العبرة بالحكم لا بالشخص، نعم لو فرض أننا نحتاج إلى معرفة عينه لتغير الحكم بكونه مبهما أو معينا، كما لو جاء رجل يسأل الزكاة ونحن لا نعلم هو من أهل البيت أو لا؟ فحينئذ يتعين البحث عنه لأنه يختلف به الحكم، قال: "يا رسول الله، عندي دينار"، الدينار: هو قطعة النقد من الذهب وزنته مثقال قال: "أنفقه على نفسك" والدرهم في عهد الرسول أصغر من الدينار بخلاف عهدنا الآن، قال: "عندي آخر" قال: أنفقه على ولدك"، المراد بالنفس نفقته التي يحتاج إليها من طعام وشراب ولباس قال: "عندي آخر" قال: "أنفقه على ولدك قال: عندي آخر ... الخ" كلمة "أهل" ظاهر كلام ابن حجر أنه يراد بها: الزوجة، ولكن يحتمل أن يراد بها ما هو أعم؛ لأنه إذا سكت عما هو أعم صار ذكر الولد والزوجة

النفقة على الوالدين وأحكامها

والخادم، ولم يذكر الأب والأم، فالذي يظهر لي أن قوله: "أنفقته على أهلك" المراد بهم: الزوجة والعائلة كالأب والأم والأخ وما أشبه ذلك، وقوله: "أنت أعلم به اصرفه حيث شئت"، وسياق النسائي والحاكم هو الأليق بالقواعد؛ إذ فيه أن الزوجة مقدمة على الولد، لأن الإنفاق على الزوجة هو في الحقيقة إنفاق على النفس فإن الزوجة من حاجات الإنسان وإن لم ينفق عليها فسوف تقول: أنفق أو طلق فالصواب أنه يبدأ بنفسه ثم الزوجة ثم بالولد ثم بالوالدين، ثم بقية الأقارب والخادم مدم على بقية الأقارب؛ وذلك لأن الخادم يحتاج الإنسان إليه بنفسه فهو من حاجات النفس فالإنفاق عليه إنفاق على النفس. في هذا الحديث: دليل على أنه تزاحم المستحقون للإنفاق فإنهم يقدمون بالأولى فالأولى. فإن قال قائل: أفلا يمكن أن نقرع بينهم؟ قلنا: لا، الإقراع إنما يستعمل عن التساوي فأما إاذ كان أحدهم أحق فلا حاجة للقرعة. فإن قال قائل: أفلا يمكن أن نجعل الغداء لبعض والعشاء لبعض. قلنا: هذا فيه أيضا إضرار بالمنفق عليه يعني: ربما لا تكفيه المرة الواحدة في اليوم والليلة يحتاج إلى غداء وإلى عشاء. ومن فوائد الحديث: اعتبار الأحق فالأحق لترتيب النبي صلى الله عليه وسلم الإنفاق على حسب السؤال. ومن فوائد الحديث: اعتبار الأحق فالأحق لترتيب النبي صلى الله عليه وسلم الإنفاق على حسب السؤال. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا قام بالواجب من الإنفاق صار تصرفه في المال بعد ذلك على ما يشاء لقوله: "أنت أعلم به". النفقة على الوالدين وأحكامها: 1105 - وعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: "قلت: يا رسول الله، من أبر؟ قال: أمك. قلت: ثم من؟ قال: أمك. قلت: ثم من؟ قال: أمك. قلت: ثم من؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب". أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه. قله: "أبر" هل هي اسم تفضيل أو فعل مضارع؟ فعل مضارع فيقال بر يبر وعليه فإذا أمرت شخصا أن يبر والديه ماذا تقول؟ بر بالفتح إذن من اسم استفهام، وأبر فعل مضارع يعني من أبر من الناس قال: "أمك .. الخ"، هذا الحديث في البر نم أحق الناس ببرك؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم أحق الناس من القرابات بالبر الأم وذلك لعظم مشقتها فإن الأم تلحقها المشقة في العمل

6 - باب الحضانة

وتلحقها المشقة عند الوضع وعند الحضانة، أما الأب فلا يلحقه من ذلك مشقة، فلذلك قدمت الأم في البر وكرر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، وفي الرابعة قال: "ثم أباك" لأنه أقرب الناس إليك بعد الأمر، وبعد ذلك يقول: "ثم الأقرب فالأقرب" يعني: الأولاد أقرب؛ لأنهم بضعة منك، ولهذا يجب على الإنسان أن يصل رحمه وأولاهم بالصلة الأبناء أما الأم والأب فإنه لا يقال في الإحسان إليهما صلة، بل يقال: إنه بر وهو أخص من الصلة، هذا الحديث يقال فيه ما قيل فيما سبق أن الترتيب بالأولويات وأن الناس يختلفون بالأولوية، فكل ما كان أقرب إلى الإنسان فهو أحق ببره ووجه دخول هذا الحديث في باب النفقات ظاهر؛ لأنه النفقة من البر. **** 6 - باب الحضانة تعريف الحضانة: "الحضانة": مأخوذة من الحضن وهو الحجر حجر الإنسان، يقال احتضن الرجل إذا وضعه في حضنه والتزمه، وهي حفظ الصغير والسفيه والمجنون عما يضره والقيام بمصالحه هذه الحضانة اصطلاحا يعني: حفظ القاصر وحمايته بما يضره والقيام بمصالحه وهي واجبة ولكنها هل هي واجبة للحاضن أو واجبة عليه؟ نقول: أما عند التزاحم فهي واجبة للحاضن وأما عند التخاذل فهي واجبة فرض كفاية على الأقارب أن يحضنوا هؤلاء من أقاربهم يعني الصغير والمجنون والسفيه، والسفيه هو المعتوه الذي لا يحسن التصرف، حكمها أنها فرض كفاية إذا قام بها نم يكفي سقوط عن الباقين، وقد علمتم أنه إذا كان هناك تزاحم فهي حق للمحضون وإذا كان هناك تخاذل فهي حق على المحضون تكون فرض كفاية على الأقارب. 1106 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن امرأة قالت: "يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وجري له حواء، وإن أباه طلقني، أراد أن ينتزعه مني. فقال: لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أحق به، ما لم تنكحي". رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم. في هذا الحديث أن هذه المرأة شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها حين طلقها وأراد أن يأخذ ابنها منها وجاءت بمبررات على سبيل السجع، فقالت: إن ابني كان بطني له وعاء بمنزلة

الوعاء الذي يوضع فيه الطعام وهذا وصف مطابق تماما، وكان ثديي له سقاء"، لأنه يشرب منه اللبن فهو بمنزلة السقاء الذي يشرب منه الإنسان الماء واللبن، وكان حجري له حواء يعني تضعه في حجرها فتحويه وتحضنه إلى صدرها، "وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني" كما تجيء به العادة كثيرا إذا طلق الرجل زوجته ساءت العلاقة بينه وبينها فيريد أن يأخذ الولد أحيانا يريد أن يأخذه شفقة عليه وأحيانا يريد أن يأخذ حباله وأحيانا يريد أن يأخذه إضرارا بأمه، المهم أن الناس تختلف نياتهم وإرادتهم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي" يعني: أنت أحق به في الحضانة وهو لك ما لم تنكحي فإذا نكحت فلا تكوني أحق به منه بل يكون هو أحق، ووجه ذلك: أن المرأة إذا تزوجت وبقي ابنها معها صار تحت حجر هذا الزوج الجديد يمن عليه ويتعلق به الطفل أكثر مما يتعلق بأبيه وربما يستخدمه زوج أمه استخداما سيئا إذا أمكن أن يستخدمه، فالمهم أنها إذا نكحت فإن حقها من الحضانة يسقط ويكون لأبيه ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم هنا بين أن يحدث لها سفر أو لا يحدث، يعني: لم يقل ما لم تنكحي أو تسافري وعلى هذا فيكون فيه دليل على أن السفر لا يسقط الحضانة كما سنبينه. في هذا الحديث فوائد: أولا: جواز السجع لقولها: "أقرها. فإن قال قائل: كيف يقرها ولم يقر حمل ابن النابغة حين قال: كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل؟ قلنا: الفرق أن هذه سجعت هذا السجع لتطلب بحق وأما حمل بن النابغة فسجع السجع لأجل إبطال الحق وبينهما فرق ولهذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المرأة. ون فوائده: أن حضانة الأم لا تسط بالطلاق لقوله: "أنت أحق به"، وقد قالت: إنه طلقتها، فتكون الحضانة لها لا لأبيه. ومن فوائد الحديث: أن الحضانة حق للحاضن لقوله: "أنت أحق به" وهو كذلك حق للحاضن إذا طلبها فإنه يعطى إياها ولكن لا بد من شروط الشرط الذي ذكره الرسول ما لم تنكحي فيستفاد منه: أن الأم إذا تزوجت فإن حقها من الحضانة يسقط وظاهر الحديث العموم يعني سواء نكحت قريبا للمحضون أو بعيدا ولكن سيأتي -إن شاء الله- حديث تخاصم جعفر بن أبي طالب وزيد في بنت حمزة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنها لخالتها" مع أنها قد تزوجت، وقال: "الخالة بمنزلة الأم" فيجمع بينهما بأنها تزوجت قريبا للمحضون وإذا تزوجت قريبا للمحضون فإن حضانتها لا تسقط، وليعلم أن يشترط في الحضانة أن يتحقق المقصود بها وهو حفظ المحضون عما يضره والقيام بمصالحه فإن قدر أن الحاضن لا يهتم بهذا المحضون يضيع أو

يهتدي يسفه أو يرشد ما يهمه فإن حضانته تسقط، لأن الحضانة إنما ثبتت لحفظ المحضون، فإذا لم يكن للمحضون حق فيها فإنها تسقط، وقوله: "ما لم تنكحي"، هنا يسميها العلماء مصدرية؛ أي: مدة دوام عدم نكاحك، يعني: ما دمت لم تنكحي أحد. فيستفاد من هذا الحديث: أولاً: ذكر الخصم ما يبرر خصومته ويرجح جانبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها. ومن فوائده: أن لا يذم السجع إذا كان بحق، لأن هذه المرأة سجعت: "وعاء" "سقاء" "حواء" ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكر على حمل بن النباغة حين قال: كيف أغرم من لا شرب، ولا أكل، ولا نطق، ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا من إخوان الكهان" من أجل سجعه، وهنا لم يقل هذه المرأة من إخوان الكهان، والفرق ظاهر، لأن المرأة تطالبه بحق وذاك يريد أن يبطل حقا؛ فلذلك لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم فدل هذا على جواز السجع إذا لم يتوصل به إلى إبطال حق أو إحقاق باطل. ومن فوائد هذا الحديث: جواز مخاصمة الزوجين بعضهما لبعض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على هذه المرأة هذا إذا كانت المسألة من باب الخصومة، أما إذا كانت من باب الاستفتاء كما استفتت هند بنت عتبة في شأنها مع زوجها أبي سفيان فإنه لا يدل على ذلك ولكن لو سئلنا هل يجوز للمرأة أن تطالب زوجها أو الزوجة أن يطالب امرأته بحق؟ فالجواب نعم يجوز ذلك؛ لأنه لا يمنع أحد من طلب الحق إنما الذي يمنع مطالبة الابن أو البنت أباهما فإنه لا يجوز لهما مطالبته؛ لأن له أن يمتلك من مالهما ما شاء إلا في حال واحدة استثناها العلماء وهي النفقة الواجبة فإن النفقة الواجبة للولد ذكرا كان أو أنثى أن يطالب أباها بها؛ لأن هذه لحفظ النفس وحفظ النفس ضرورة. ومن فوائد الحديث: أن الأم مقدمة على الأب في الحضانة إلا إذا تزوجت لقوله: "أنت أحق به ما لم تنكحي". ومن فوئد الحديث: الإشارة إلى أن أهم مقصود في الحضانة هي رعاية الطفل لقوله: "ما لم تنكحي" لأن الحكمة من سقوط حضانتها بنكاحها انشغالها بالزوج وضيق الزوج ذرعا بالولد. ومن فوائد الحديث: أن الحضانة تسقط ولو رضي الزوج بذلك أي بحضانتها بأن شرط عليه بأن تبقى حضانتها لولدها من الزوج السابق فرضي فإنها ليست أحق به، لعموم قوله: "ما لم تنكحي" ولأن الزوج ربما يرضى عن إكراه في أول الأمر ثم تختلف الحال.

ومن فوائد الحديث: أن ظاهره أنه لا فرق بين أن تتزوج بزوج قريب من المحضون أو بعيد منه، ووجه العموم "ما لم تنكحي" لكن سيأتينا في حديث البراء بن عازب ما يخالف ذلك. فإذا قال قائل: هل من ضابط يضبط من يقدم في الحضانة؟ نقول: نعم ذكر العلماء ضوابط، لكن اختلفوا واضطربوا فيها اضطرابا كثيرا، وذلك لأنه ليس هناك دليل يفصل تفصيلا واضحا، وأحسن ما ذكر في هذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ورأيته يتلخص في البيتين الآتيين: وقد الأقرب ثم الأنثى ... وإن يكونا ذكرا وأنثى فأقرعن في جهة وقدم ... أبوة إن لجهات تنتمي قوله: "وقدم الأقرب" يعني: لو اجتمعت جدة وأب فهنا يقدم الأب لأنه أقرب، أم وجدة الأم، تقدم الأم، لأنها أقرب، "ثم الأنثى" إذا كانا سواء في القرب فقدم الأنثى فأم وأب الأم، جد وجدة الجدة، خال وخالة الخالة، عم وعمة العمة وهلم جرا، ووجه ذلك القياس على الأب والأم حيث قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأنه للأم مع نزاع الأب لأنهما في القرب سواء فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الأنثى ولأن الأنثى في الغالب أشد شفقة وحنانا من الذكر وإن يكونا ذكرا أو أنثى يعني: أن يكون اثنين ذكور اثنين إناث فأقرعن في جهة: أقرع بين الذكرين، أو بين الأنثيين إذا كانا في جهة، مثاله: عمان تنازعا في الحضانة ابن أخيهما فمن يقدم، يقرع بينهما، عمتان تنازعتا في الحضانة ابن أخيهما ما نعمل؟ نقرع لأنه لا فضل لواحد على الآخر والقرعة تعين المبهم. فإن قال قائل: القرعة مبنية على الحظ والنصيب وهذا غرر -ميسر- فكيف تجوز القرعة؟ قلنا: تجوز بالأثر والنظر ففي كتاب الله قصتان أقرع فيهما القصة الأولى: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلمهم أيهم يكفل مريم) [آل عمران: 44]. تنازعوا في كفالة مريم واقترعوا، والقصة الثانية يونس (فساهم فكان من المدحضين) [الصافات: 41]. أما في السنة فوردت في عدة أشياء منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" ومنها النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها وأما النظر فلأن الذين أقرع بينهم قد تساووا في الحقوق بدون مرجح ولا يمكن الجمع لأنه لا

يمكن إلا أن يكون إلا لواحد منهم فاستعمال القرعة خير من كون الشيء معلقا فيكون القرعة قد دل عليها الأثر والنظر. إذن إذا اجتمع حاضنان أو أوليان في الحضانة وتنازعا فإنه يقرع بينهما إذا كانا في جهة واحدة وكانا من جنس واحد إما ذكرين وإما أنثيين، وقدم أبوة إن لجهات تنتمي، يعني: إذا تساووا وهم في جهات فقدم جهة الأب، لأن الأصل أن الانتماء للأب مثال ذلك عمة وخالة في جهتين وكلتاهما أنثى فمن نقدم الخالة أم العمة؟ نقدم العمة لأنها من جهة الأب وهذا الضابط هو أحسن نم قيل في ضوابط الحضانة ولكن لا بد أن تلاحظ شرطا مهما وهو مراعاة المحضون فلو كان الأحق يضيع المحضون والمحقوق أشد مراعاة وتربية من الأحق فإننا نقدم المحقوق، لأن المقصود بذلك رعاية الطفل. يستفاد من هذا الحديث: أنها إذا نكحت انتقلت الحضانة إلى الأب، ولكن هذا ما لم يكن انتقال الحضانة سببا لإضاعة الطفل مثل أن يجعله الأب عند ضرة أمه التي تزوجت، ومعروف ما بين الضرتين من الغيرة التي قد تؤدي إلى البغضاء وحينئذ لا تقوم زوجة أبيه بمصالحة فمثل هذا لا يجوز أن نعطيه الأب حتى وإن تزوجت الأم بل تكون الأم أحق فإن خفنا أن نضيعه أيضا انتقلت الحضانة إلى ما بعدهما لأنه لا يجوز إقرار المحضون بيد من لا يصونه ويصلحه فنحن نقول: إذا كان يلزم من رده إلى أبيه بنكاح أمه أن يضيع الولد وألا يتربى فإنه تنتقل الحضانة من الأب إلى الأم إذا كان يمكن أن تقوم بواجب الحضانة أو إلى من سواها. 1107 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة قالت: "يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فجاء زوجها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام، هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به". رواه أحمد، والأربعة، وصححه الترمذي. قولها: "إن زوجي يريد أن يذهب بابني" ظاهر الحال أن زوجها طلقها، لأنه لو لم يطلقها لكان ذهابه بابنها إلى بيتها فالظاهر أنه طلقها "وقد نفعني" الفاعل الابن "وسقاني من بئر أبي عنبة" وهي بئر مشهورة في المدينة يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم، "فجاء زوجها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ... إلخ". في هذا الحديث: دليل على ما سبق من أن المدعي يمكن من إبداء الأسباب الموجبة لكون محقا.

ومن فوائده: أن الغلام إذا بلغ سنا يعرف به مصالح نفسه فإنه يخير بين أبيه وأمه فإن اختار أبوه أخذه أبوه وإن اختار أمه أخذته أمه ولكن هل يلزم من ذلك أن يهجر الآخر؟ لا، نقول إذا اختار أباه صار عنده ولكن لا يمنعه من زيادة أمه ولا من زيارة أمه له إلا أن يخشى من ذلك ضررا فهو أعلم وأما بلا ضرر فالواجب أن يمكنه من زيارة أمه ومن زيارة أمه له بلا ضرر. ومن فوائد الحديث: أن التمييز بها يشترط له سن لأنه هنا علق بفهم الطفل واختياره من يراه أنه أصلح له ولم يعلق بسن معين وهذا موضع اختلف فيه العلماء فمنهم من قال: "إن التمييز يعتبر بالسن وهو بلوغ سبع سنوات، وقال: إذا بلغ الطفل سبع سنوات فهو مميز وما دون ذلك فليس بمميز وذهب بعض العلماء إلى أن التمييز معتبر بالوصف فمن كان ذا تمييز وما دون ذلك فليس بمميز وذهب بعض العلماء إلى أن التمييز معتبر بالوصف فمن كان ذا تمييز فهو مميز وإن كان دون السبع ومن لم يكن ذا تمييز فليس بمميز وإن جاوز السبع وأن ذكر السبع في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع" بناء على الأغلب أن من بلغ سبعا صار مميزا. فإن قال قائل: إذا اعتبرتم التمييز بالوصف فما هو الوصف؟ قال العلماء: هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب وليس يفهم ولا يرد لأن الذي لا يفهم ولا يدر يكون بثلاث سنوات أو أقل، طفل يفهم هذه أمك وغير ذلك لكن الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب هذا ميز، الحديث في المحضون ذكر فهل الأنثى كذلك، يعني: أنها إذا بلغت سبعا تخير بين أبيها وأمها أم ماذا؟ هذا موضع خلاف بين العلماء. منهم من قال: إنها تخبر، كالابن. ومنهم من قال: يأخذها الأب، لأن بقاءها وهي بنت شابة عند أمها يخشى عليها إذ إن الأم لا يمكن أن تدافع لو سطا عليها رجل غاشم. ومنهم قال: بل تبقى عند أمها حتى تبلغ المذهب الأول، أي: أن أباها يأخذها عنده، ولكن القول الثاني أصح، أي: أنها تبقى عند أمها؛ لأن أمها أرحم بها من غيرها، ولأن تعلق البنت أكثر من تعلق الطفل، ولأن عناية الأم ببنتها في تعليم البنت حوائج البيت من طبخ وغيره أكثر بكثيرة من عناية زوجة أبيها أو جدتها من قبل أبيها فالصواب أنها تبقى عند أمها حتى تتزوج إلا إذا خفنا من ذلك ضررا بأن تكون الأم في بيت غير مصون ويكثر الفساق الذين يتسورون البيوت ففي هذه الحال لا بد أن تكون عند أبيها الذي يحميها.

1108 - وعن رافع بن سنان رضي الله عنه: "أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فأقعد النبي صلى الله عليه وسلم الأم ناحية، والأب ناحية، وأقعد الصبي بينهما، فما إلى أمه، فقال: اللهم اهده، فمال إله أبيه، فأخذه". أخرجه أبو داود، والنسائي، والحاكم. هذا أيضا شبيه بالحديث الأول، أن نافع بن سنان أسلم "وأبت المرأة أن تسلم" ولم يذكر في الحديث ماذا يكون الحكم إذا أسلم الرجل ولم تسلم المرأة؟ والحكم فيه كما يلي إن كانت المرأة يهودية أو نصرانية فالنكاح بحاله لا ينفسخ؛ لأن المسلم يجوز له أن يتزوج اليهودية والنصرانية ابتداء، والاستدامة أقوى من الابتداء، فإذا جاز للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية ابتداء فاستدامة النكاح من باب أولى وإذا لم تكن يهودية أو نصرانية بل مشركة فإننا ننتظر حتى تنتهي العدة ولم تسلم تبينا أن النكاح انفسخ منذ أسلم زوجها، وإن أسلمت فالنكاح بحاله -هذا هو المذهب- أننا ننتظر العدة ثلاثة قروء إن أسلمت فيها فهي زوجته وإن لم تسلم فإنه يتبين أن النكاح انفسخ في حين إسلامه لا من انقضاء العدة، وقال بعض العلماء: بل ينفسخ النكاح من حين إسلامه وإبائها لأنها صارت ممن لا يحر له فينفسخ النكاح بمجرد الإسلام إذا أسلم ولم تسلم صار هو مسلما وهي مشركة والمشركة لا يمكن أن تبقى في حبال المسلم لكن المذهب الأول أوسع للناس لأنه ربما يحاول إذا أسلم أن يدعوها للإسلام وربما يهديها اللهع عز وجل. في هذا الحديث: أن الابن لا يقر عند أبيه إذا كان كافرا ولو اختاره ولا عند أمه إذا كانت كافرة ولو اختارها؛ لأن هذا الصبي مال إلى أمه وهي مشركة وكافرة ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم دعاء الله أن يهديه فمال إلى أبيه وكان الطفل في أول الأمر قد مال إلى أمه فإن قال قائل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع الطفل من الميل إلى أمه وإنما دعا الله له وأنتم تقولون إنه لا حضانة لكافر على مسلم؟ قلنا: إن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له مقبول وسيكون بمنزلة المنع ولهذا لو وقعت القصة عند حاكم اليوم أسلم الزوج وأبت المرأة أن تسلم ومال الصبي إلى أمه فهل ندعو الله أن يهديه وإذا لم يرجع إلى أبيه نتركه أو نمنع ميله إلى أمه؟ الثاني لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كغيره إذا دعا استجيب له، وفي دعائه إلى أن يهديه الله دليل على أنه إذا اختار أمه وهي كافرة على أن ذلك ليس يهدي ولكنه ضلال وغير فلهذا يتعين ألا يمكن من الميل إلى أمه إذا كانت كافرة وأبوه مسلما.

نأخذ من هذا أنه يشترط أن يكون الحاضن مسلما إذا كان المحضون مسلما، أما إذا كان المحضون كافرا وأبوه كافر فإننا لا نتعرض له؛ لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، فالكافر له ولاية على ولده الكافر من ذكور أو إناث لكن الكافر ليس له ولاية على المسلم. وفي هذا الحديث: إشارة إلى أن أهم شيء في الحضانة أن يهتدي المحضون، لقوله: "اللهم اهده" فهذا أهم شيء، وبناء عليه إذا كان الحاضن يهمل المحضون لا يأمره بالصلوات ولا يأمره بآداب ولا يقوم بواجبه التربوي، فإن حضانته تسقط وتكون الحضانة لمن يليه. 1109 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ابنة حمزة لخالتها، وقال الخالة بمنزلة الأم". أخرجه البخاري، وأخرجه أحمد: من حديث علي رضي الله عنه فقال: "والجارية عند خالتها، فإن الخالة والدة". حمزة هو عم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب قتل شهيدا في أحد، وهو سيد الشهداء وأفضل الشهداء، اللهم إلا من قتل بغير معركة كعمر بن الخطاب فهو أفضل منه، من حيث قيامه بالإسلام والدين ونفع المسلمين به وإن كان حمزة أفضل منه نسبا. هذه البنت قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم" وذلك أنه تنازع فيها ثلاث: علي بن أبي طالب وأخوه جعفر بن أبي طالب وهو زوج خالتها، والثالث زيد بن حارثة، وقال: إنها ابنة أخي يعني من الرضاع أول لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخي بينه وبين حمزة تنازع فيها الثلاث فقضي به النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وأعطاها جعفر بن أبي طالب قال: "الخالة بمنزلة الأم". فيستفاد من هذا الحديث: أنه إذا تنازل ثلاثة في طفل سواء كان غلاما أو أمه فإنه يقدم هو أحق ولكن يشكل على هذا أن الخالة الآن متزوجة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأم وهي أدنى من الخالة واقرب إلى المحضون "أنت أحق به ما لم تنكحي" فكيف الجواب؟ الجواب: أن هذا ليس فيه منازع وذلك لأن علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة ليسا معهما امرأة تقوم مقام الأم وإلا فإن عليا وجعفر متساويان في القرب من هذه البنت فلما كان جانب هذا أرجح وليس بالجانب الآخر ما يرجحه قضى به لذلك وقيل: بل العلة شيء آخر وهي أنه إذا كان الزوج أجنبيا من المحضون فإن حضانة أمه تسقط وأما إذا كان قريبا فإنها لا تسقط ومن المعلوم أن جعفر ابن أبي طالب قريب من بنت حمزة بن عبد المطلب وهذا هو الذي مشى عليه

فقهاؤنا -رحمهم الله- وقالوا: إن نكاح الأم أو الأنثى التي لها حق الحضانة لا يثبت حضانتها إذا كان الزوج من أقارب المحضون، وقال بعض أهل العلم عن العلة في النكاح ليس مجرد النكاح بل عدم رضا الزوج الذي تزوج الأم، أو بعبارة أعم الذي تزوج الحاضنة فإذا كان الزوج راضيا بذلك بل مطالبا به فإن حق الأمر أو المرأة أو بعبارة أعم فإن حق المرأة التي لها الحضانة لا يسقط وعى هذا يكون المراعى حق الزوج فإذا رضي بذلك فلا بأس وعلى الوجه الثاني يكون المراعى حق المحضون إن كان الزوج قريبا منه فالحضانة باقية وإن كان غير قريب فإن الحضانة تسقط، والقولان الأخيران كلاهما في الميزان سواء وذلك أن الزج الجديد إذا رضي بأن تبقى بنت زوجته التي لها حضانتها إذا رضي أن تبقى، وعلم أن الرجل ثقة وأمين فينبغي ألا يسقط حق الأم لأن بقاء الطفلة مع أمه في هذه الحال أقرب إلى مصلحته مما لو كان عند أبيه وجعله الأب عند ضرة أمه التي فارقها، فإن الأمر يكون صعبا وعلى هذا فنختار أحد الوجهين: إما أن نقول: إذا تزوجت من لها الحضانة بزوج أجنبي من المحضون سقطت حضانتها وإن تزوجت بقريب فإنها لا تسقط أو نقول إذا تزوجت من لها الحضانة بزوج لا يختار مع زوجته أحدا فإن الحضانة تسقط، وإن اختار ورضي بل طالب، فإن الحضانة لا تسقط؛ لأنه في هذه الحال لن يضيع المحضون وعلى كل قول من هذين القولين مشى طائفة من العلماء، وأما القول بتقديم حديث البراء بن عازب على ما سبق لأنه في الصحيحين بل أخرجه البخاري فيكون أصح فنقول: لا، لا صحة لهذا القول لأنه من العلماء من قال: إن حقها لا يسقط بالنكاح مطلقا واستدل بحديث البراء ولكننا نقول: لا نعدل إلى التصريح إلا إذا تعذر الجمع، أما إذا أمكن الجمع بأحد الوجهين السابقين فإنه لا حجة إلى الترجيح. في هذا الحديث فوائد منها: عدل النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فمن المعلوم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أفضل الثلاثة، لكن لعدله صلى الله عليه وسلم قضى بما يقتضيه العدل. ومن فوائد الحديث: تقديم الأنثى على الذكر في الحضانة إذا كانا في منزلة واحدة وقد سبق لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رجح جانب جعفر لكون خالتها معه ولم يراع الأفضلية ولم يقرع بين علي وجعفر لتساويهما في القرابة بل رجح جانب الخالة. ومن فوائد الحديث: أن الخالة بمنزلة الأم فهل هذا عام في كل شيء أو هو عام أريد به الخاص أي: أن الخالة بمنزلة الأم في الحضانة فقط؟ الثاني هو المتفق عليه والأول فيه نزاع، فمن يرى أن ذوي الأرحام يرثون قال: الخالة بمنزلة الأم في الحضانة والميراث، ومن رأى أنهم لا يرثون قال الخالة بمنزلة الأم في الحضانة فقط. قال: وأخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه فقال: والجارية عند خالتها فإن الخالة والدة".

الشاهد قوله: "فإن الخالة والدة" وهي بمعنى قوله: في الحديث الأول "بمنزلة الأم" لكن الحديث الثاني فيه ما يسمى عند البلاغيين: بالتشبيه البليغ وهو الذي حذفت فيه الأداة ووجه الشبه فهذا يسمى تشبيها بليغا وإن حذفت الأداة وحدها سمي مرسلا، وإن حذف وجه الشبه سمي مجملا. 1110 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين". متفق عليه واللفظ للبخاري. لماذا صار الذي يلي الفعل منصوبا والآخر مرفوعا؟ لأن من باب تقديم المفعول على الفاعل وتقديم المفعول على الفاعل جائز ومنه قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمت) [البقرة: 124]. وقوله: "وإذا أتى أحدكم خادمه بطعام". أي بطعام السيد "فإذا لم يجلسه فليناوله لقمة أو لقمتين"، يعني: فالأفضل أن يجلسه معه؛ لأن في ذلك فائدتين الفائدة الأولى: التواضع حيث يجعل الخادم يأكل معه. والفائدة الثانية: جبر خاطر الخادم لأنه إذا أجلسه تفضل فإنه يجبر خاطره ولكن لو لم يفعل فلا حرج عليه لأن الخادم نفسه أيضا لا يكون في قلبه شيء على سيده إذا لم يجلسه معه لأنه يعرف نفسه أنه خادم ولكن يقول: بل يناوله لقمة أو لقمتين يعني: يعطه بعض الشيء، وهنا نسأل ما وجه مناسبة هذا الحديث لباب الحضانة؟ . المناسبة لها عدة أوجه: منها: إذا كان الإنسان يلاطف الخادم هذه الملاطفة فملاطفته للمحضون من باب أولى، لأنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا وأرشدنا أن نلاطف الخدم وهم خدم فما بالك بالمحضون؟ ! فإذا جاء المحضون بالطعام فنقول: أجلسه معك أو ناوله لقمة وهذا أقرب ما يكون من المناسبة ومنها أنه إذا كان يجب علينا تغذية الأبدان فيمن ولانا الله عليه فتغذية الأرواح من باب أولى. يستفاد من هذا الحديث فوائد: منها جواز استخدام الغير لقوله: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعام"، ويتفرع على هذه الفائدة أن ذلك ليس من باب الترف ولكن هل الأفضل أن يستخدم الغير، أو أن يخدم نفسه إلا لحاجة؟ الأحسن أن يخدم نفسه إلا لحاجة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غالب أحواله أنه يكون في مهنة أهله في البيت مع أن له خدما لكنه كان يباشر ذلك بنفسه. ومن فوائد الحديث: أن الخادم مؤتمن على طعام السيد لقوله: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعام"، ولكن هل نأتمن الخدم على الطعام مطلقا؟ أو نقول: الأصل الائتمان ما لم يوجد سبب يغير هذا الأصل؟ الثاني، وبناء على ذلك نقول: لا يكن في قلبك شك مما يقدم إليك

الخادم, ولكن إذا حصل ريب فلا حرج أن تحتاط ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قدمت له الشاه المسمومة في خيبر كان لا يأكل من طعام الرجل إلا إذا أكل الرجل منه قبله وهذا يستعمله كثير من الناس اللذين يخافون على أنفسهم, إذا قدم إليهم الطعام أو الشراب قالوا للذي جاء به: كل منه أو اشرب منه؛ من أجل إن كان فيه ما يحذر يكون هذا الذي أكل هو أول فريسة. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يكون متواضعا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "فإن لم يجلسه معه فليناوله". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يجبر خاطر من خدمه بالجبر الأعلى أو بالجبر الأدنى, الأعلى أن يجعله مساويا له والأدنى دون ذلك. 1111 - وعن أبي عمر رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت النار فيها, لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها, تأكل من خشاش الأرض, متفق عليه. قوله: "امرأة" نكرة ولم يعين اسمها. لأن المقصود هو الحكم وقوله: "في هرة سجنتها" "في" هنا للسببية أي: سببها. وقوله: "سجنتها" يعني: حبستها, "حتى ماتت فدخلت النار فيها", أي: بسببها "لا هي أطعمتها ... الخ", "خشاش الأرض" ما فيها من الحشرات لأن الهرة تأكل حشرات الأرض, ولكن هذا العذاب عذاب مستمر؟ لا؛ لأن العذاب الذي على المعاصي دون الكفر لا يستوجب الخلود في النار. فإن قال قائل: ما وجه مناسبة هذا الحديث لباب الحضانة؟ يعني: الإنسان إذا أهمل ما تحت يديه من غير البشر وعذب بذلك فتعذيبه من أجل البشر من باب أولى. يستفاد من هذا الحديث: إثبات العذاب في النار وكيف أطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؟ في صلاة الكسوف حيث عرضت له النار فرأى فيها عمرو بن لحي الخزاعي الذي هو أول من أدخل الضلالة والشرك على العرب ورأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم صاحب المحجن الذي يسرق الحجاج بمحجنه والمحجن هو: العصا المحنية الرأس فإذا مر بالحاج أخذه بهذا المحجن إن تفطن له قال: هذا من المحجن, وإن لم يتفطن له أخذه ومشى! ورأى فيها صاحبة الهرة تعذب بالنار بسبب هذه الهرة. يستفاد من ذلك: تحريم حبس البهائم في محل تهلك فيه سواء كان ذلك للجوع أو

العطش أو الحر الشديد أو البرد الشديد؛ لأن الحيوان قد يموت بغير الجوع والعطش فيحرم حبسه بما يكون سببا لهلاكه. ومن فوائد الحديث: جواز حبس الحيوان إذا قام الإنسان بواجب الأكل والشرب والتغذية والتبريد، الدليل قوله: "لا هي أطعمتها وسقتها" ويتفرع من هذه الفائدة: ما يفعله كثير من الناس اليوم يحبس الطيور في الأقفاس لكن يقومون بواجبها من الأكل والشرب، فإنهم لا يعذبون بذلك لكن هل يجوز أن تبذل الدراهم لشراء هذه الطيور مع أننا سمعنا أنها تباع بثمن غال؟ الجواب: نقول إذا كانت فيها فائدة لا بأس بشرائها؛ لأن بعض هذه الطيور فيها فائدة، وهي: أنه إذا دخل رجل غريب البيت صار يصرخ حتى ينتبه أهل البيت، وبعضها يعرب ويفصح بلسانه ويسمى هذا الببغاء وهو معروف، ومن ذلك أيضا إذا كان الإنسان يحبس الصقور التي يصطاد بها في الأقفاص ولكنه يقوم بطعامها وشرابها فلا بأس بذلك. فإن قال قائل: وماذا تقولون في الطيور المحنطة، أولا: هل يجوز شراؤها بالثمن مع أنه لا فائدة منها، وثانيا: هل هي نجسة أو طاهرة؟ أما الأولى، فنقول: إن اشتراها لمنفعة كالاطلاع على هذه الأنواع التي خلقها الله عز وجل والاستدلال بها على كمال قدرة الله عز وجل وحكمته فهذا لا بأس به، أما لمجرد أن يجعلها زينة فإن هذا في جوازه نظر، أما إذا جعلها عند المدخل من أجل حماية البيت من الشياطين فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا سبب غير شرعي، وإذا كان سببا غير شرعي فإنه يكون نوعا من الشرك، وأما النجاسة فإن كانت مذكاة وهي مما يباح في الذكاة فليست نجسة، وأما إذا حنقت خنقًا فهي نجسة سواء كانت مما يحل بالذكاة أو لا، إلا إذا كانت مما لا نفس له سائلة، أو كانت مما تحل ميتته، مثال الأول: العقرب والجُعل هذا ميتته طاهرة، ومثال الثاني السمك والجراد ونحو ذلك فإن ميتته طاهرة وليست بنجسة. ***

كتاب الجنايات ويشتمل على: 1 - باب الديات 2 - باب دعوى الدم والقسامة 3 - باب قتال أهل البغي 4 - باب قتال الجاني وقتل المرتد

كتاب الجنايات

كتاب الجنايات تعريف الجنايات لغة وشرعًا: "الجنايات": جمع جناية، وهي: التعدي على النفس أو البدن أو المال، والمراد هنا: التعدي على البدن بما يوجب قصاصًا أو مالًا، فهي أخص من المعنى اللُغوي، وهذا هو الغالب في الحدود، أي: أن تكون أخص من الاصطلاح منها في اللغة، إلا في مواضع يسيرة مثل: الإيمان في اللغة: التصديق، وفي الشرع: تصديق وقول وعمل، فهو أعم من المعنى اللغوي. وذكر المؤلف وغيره الجنايات بعد أن ذكر ما يتعلق بكمال النفس فالعبادات قبل كل شيء وبعدها المعاملات لأن الإنسان يحتاج إليها، ثم الأنكحة وما يتعلق بها والعدد ثم النفقات لاحتياج البدن إليها، وما يتبعها من الرضاع والحضانة ونحو ذلك ثم العدوان، وذلك لأن الاعتداء يكون في الغالب عند تمام النعم، حيث يكون الأشر والبطر إذا تمت النعمة حصل من بني آدم أشر وبطر وجناية وعدوان، ولهذا نجد أن الفقراء تلحقهم الذلة والمسكنة، ولهذا يسمون مساكين. حكم الجنايات بجميع أنواعها التحريم: والجنايات محرمة مطلقًا سواء على البدن أو على المال أو على العرض لقول النبي صلي الله عليه وسلم في حجة الواداع وهو يخطب الناس "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" ولقوله تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا". مراتب الجنايات وأقسامها" وأعظم الجنايات الجناية على النفس لقوله تعالى: ? ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنُون? [الفرقان: 68]. فبدأ بقتل النفس قبل العرض وهو الزنا لأنه أعظم ما يكون من الذنوب بعد الشرك بالله عز وجل وقد قسم العلماء الجنايات إلى أقسام ثلاثة: العمد، وشبه العمد، والخطأ، فالعمد أن يتعمد الجناية فيما يقتل غالبًا على معصوم، مثل أن يرى

حرمة دماء المسلمين وتعظيمها

فلانًا ويعرف أنه معصوم مسلم أو ذمي فيتعمد قتله بسيف أو خنجر أو سكين أو رصاص، فهذا عمد عدوان لأنه ليس فيه أدنى شبهة، وأما شبه العمد فأن يتعمد الجناية على معصوم بما لا يقتل في الغالب كالعصا والسوط العادي فإنه إذا ضرب إنسانًا في غير مقتل لم يقتله في الغالب لكن لو فرض أن الضربة ازدادت وتُرك حتى مات فإنه شبه عمد وليس بعمد، والخطأ ألا يقصد الجناية أصلًا مثل أن يرمي صيدًا فيصيب أدميًا، فهذه أقسام الجنايات عند العلماء والذي فيه القصاص هو الأول العمد العدوان وأما شبه العمد والخطأ فليس فيه قصاص وإنما فيه الدية والكفارة، والعمد فيه قصاص وليس فيه دية ولا كفارة إل إذا اختار أولياء المقتول الدية فإنهم يأخذونها. حرمة دماء المسلمين وتعظيمها: 1112 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لا يحلُّ دمُ أمريء مُسلم بشهدُ أن لا إله إلا الله، وأنًي رسول الله، إلا بإحدى ثلاثٍ: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، والمفارق للجماعة". متفق عليه. "دمه" أي: يقتله حتى يسفك دمه، وهذا بناء على الغالب، وإلا قد يقتل بغير سفك الدم، وحديث عائشة الذي بعده أعم منه حيث قال: "لا يحل قتل مسلم" فهو أعم من أن يكون دمًا لأنه قد يقتله بخنق أو وطء على بطنه أو عصر لخصيتيه. وقوله: "مسلم يشهد" هذه الجملة تفسير لما قبلها، لأن المسلم هو الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ومعنى "يشهد" أي: يعتقد بقلبه ناطقًا بلسانه أن لا إله إلا الله وجملة "لا إله إلا الله" تشتمل على نفي وإثبات أي: أنها تشتمل على نفي لكل معبود وإثبات لمعبود واحد هو الله عز وجل، وقد اختلف المعربون في إعرابها على نحو ستة أوجه، واختلف المقدرون في تقديرها، فمنهم من قال: التقدير: لا إله موجود إلا الله، وهذا خطأ وليس بصحيح، لأنه توجد آلهة تعبد من دون الله، ومنهم من قال: المقدر محذوف تقديره: حق أي: لا إله حق إلا الله، وهذا هو الصواب، بل هو المتعين، لأنه مطابق تمامًا لقوله تعالى: ? ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل? [الحج: 62]. فيكون الخبر محذوفًا تقديره حق ويكون ما بعد إلا بدلًا منه. "يشهد أن لا إله إلا الله" أي: لا معبود حق إلا الله و"أني رسول الله" يعني: أن محمدًا رسول الله صلي الله عليه وسلم أرسله الله? سبحانه وتعالى- ولكن لابد أن تكون الشهادة بالرسالة على الوصف الذي أرسل به، يعني: لا يكفي أن يقول: إنه رسول، لأن النصارى يقولون: إن محمدًا رسول، لكن

إلى العرب، بل لابد أن تكون شهادته بالرسالة مطابقة لما أرسل به الرسول صلي الله عليه وسلم بأن يؤمن بأنه رسول إلى العالمين? تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا? [الفرقان: 1]. يقول: "لا يحل دمه إلا بإحدى ثلاث ... " إلخ. "الثيب" بالجر بدلًا من إحدى ثلاث، ويجوز الرفع على أنه مستأنف خبر من المحذوف تقديره هو الثيب الزاني .. إلخ، قال العلماء: الثيب هو الذي جامع زوجته بنكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، فلابد من نكاح صحيح وجماع من بلوغ الزوجية وحريتهما وعقلهما، فالشروط للإحصان خمسة، فهذا يرجم حتى يموت كما ثبت ذلك عن النبي صلي الله عليه وسلم وهل يجمع له من الرجم جلد؟ على قولين للعلماء والصحيح أنه لا يجمع لأن جميع الذين رجعوا في عهد النبي صلي الله عليه وسلم لم يجمع لهم بين الجلد والرجم، وإن كان روي عن علي أنه جمع بينهما وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله، الثاني "النفس بالنفس" وهذا القصاص إذا قتل أحد شخصًا قتل به؟ وهو من تمام العدل، ? فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم? [البقرة: 194]. فمن قتل بها بالشروط المعروفة، ولكن هل يقتل القاتل بالسيف أو ما قتل به؟ في هذا للعلماء قولان: أحدهما: أنه يقتل بالسيف واستدلوا بحديث رواه ابن ماجه بسند ضعيف أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا قود إلا بالسيف"، لا قود، يعني: لا قصاص ولأن السيف أسهل في الغالب، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة"، وقال بعض العلماء: بل يقتل القاتل، أي: الجاني بما قتل به إن قتل بالسيف قتل به وإن قتل بالرصاص قتلناه بالرصاص، وإن قتل بالسم قتلناه بالسم، واستدلوا لهذا الكتاب والسنة والقياس الصحيح، أما الكتاب فقوله تعالى: ? ولكم في القصاص حياة? [البقرة: 179]. ولا يتم القصاص إلا إذا قتل الجاني بما قتل به ويقول تعالى"? فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم? هذا اعتدى على هذا بالسيف نعتدي عليه بالسيف، وأما بالسنة فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلي الله عليه وسلم رض رأس رجل يهودي رض

المعتدي جان يفعل به كما فعل

رأس جارية للأنصار وأخذ ما معها من الأوضاح? الحلي- فجيء للمرأة وهي في آخر رمق وقيل: من قتلك؟ فلان، فلان، حتى وصلوا إلى اليهودي فأومات أن نعم فأخذ اليهودي فأقر فأمر النبي صلي الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين. هذا من الكتاب والسنة. المعتدي جان يفعل به كما فعل: القياس الصحيح أن المعتدي جانٍ وتمام العدل في معاملته أن تفعل به كما فعل، وهذا القول هو الصحيح بل هو المتعين، فعلى هذا نقول: قوله صلي الله عليه وسلم: "النفس بالنفس" يعني: أنه يفعل بالجاني كما فعل بالمجني عليه، والزاني ماذا يفعل به? الزاني المحصن- يرجم، وقوله صلي الله عليه وسلم "النفس بالنفس" هو كقوله تعالى في سورة المائدة: ? وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس? وكما تشاهدون الحديث عام فهل خصص منه شيء؟ أولًا ننظر في عمومه قتل رجل بالغ رجلًا بالغًا يقتل به، رجل عاقل رجلًا مجنونًا يقتل به، امرأة قتلت رجلًا تقتل به، رجل قتل امرأة يقتل بها، حر قتل عبدًا يقتل به، عبد قتل حرًا يقتل به، أب قتل أبنًا يقتل به، أم قتلت بنتها تقتل بها، ابن قتل أباه يقتل به، مسلم قتل كافرًا يقتل به للعموم كافر قتل مسلمًا يقتل به، هذا هو العموم ولنا أن نأخذ بالعموم حتى يثبت المخصص لأننا مأمورون بالأخذ بالنصوص على عمومها حتى يثبت المخصص فهل هناك مخصص؟ مسألة: هل يجوز قتل المسلم بالكافر؟ أولًا: يقتل الكافر بالمسلم، يعني: لو قتل كافر مسلمًا فإننا نقتله والدليل على ذلك: النفس بالنفس، لا يقتل المسلم بالكافر يحتاج إلى دليل ما هو الدليل؟ ما ثبت في الصحيحين من حديث على بن أبي طالب ألا يقتل مسلم بكافر فإن الكافر حربيًا فإنه يقتل به بالإجماع لأن الحربي دمه هدر، وإن كان ذميًا فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال الأول لا يقتل المسلم بالذمي لعموم حديث علي لا يقتل مسلم بكافر. والثاني: يقتل لأن النبي صلي الله عليه وسلم قتل مسلمًا بذمي وقال: "أنا أولى من أوفى بذمته"، ولأن الذمي معصوم الدم والمال فهو كالمسلم، والدين يختص بنفسه لكن حفظ الأمن العام هو للعموم. القول الثالث: إن قتله غيلة? إن قتل المسلم الكافر غيلة- فإنه يقتل به، وإن كان عن قصد فإنه لا يقتل به، الغيلة: هو أن يتحرى القاتل غفلة الإنسان فيقتله، فإن المسلم يقتل بالكافر وعليه

يحمل ما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قتل مسلمًا بكافر في غزوة خيبر، ولأن قتل الغيلة مخل بالأمن على سبيل العموم فيقتل القاتل حفظًا للأمن لأن القاتل غيلة لا يمكن التحرز منه إذ هو يأتي في غفلة وغرة بخلاف الذي يشابك باليد ويقاتل فهذا قد أتى عن قصد، والقول بأنه يقتل به مطلقًا ضعيف والقول بأنه يقتل إذا كان القتل غيلة قوي والقول بأنه لا يقتل به مطلقًا أيضًا قوي فالترجيح الآن دائر بين القولين أنه إذا قتل المسلم الكافر غيلة قتل به أو أنه لا يقتل به مطلقًا؟ جمهور العلماء على أن المسلم لا يقتل بالكافر مطلقًا لعموم قول النبي صلي الله عليه وسلم "لا يقتل مسلم بكافر" وأما ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم في قتل مسلم بذمي فهذا إن صح فهو قضية عين قد تكون فيها ملابسات أوجبت قتل الرجل، وقال بعض العلماء إن قتل الرسول صلي الله عليه وسلم المسلم بالذمي من باب التعذير وأن النبي صلي الله عليه وسلم وحده له أن يعذر بالقتل لأنه معصوم من إرادة قتل النفس، وأما غيره فلا يعذر بالقتل لأنه قد يكون له هوى وهذا ينبغي أن يضم إلى الأقوال الثلاثة، وهو عبارة عن جواب من استدل بفعل الرسول صلي لله عليه وسلم على قتل المسلم بالذمي فيقال ما ذكرنا. مسألة: هل يقتل الرجل المرأة؟ هل يقتل الرجل المرأة؟ نعم، الدليل: "النفس بالنفس" وهذا رآه جمهور العلماء بل حكاه بعض العلماء، وقيل: لا يقتل الرجل بالمرأة، وقيل: يقتل بها ويدفع أهلها نصف الدية وجه هذا القول أنه يدفع نصف الدية لأن دية المرأة نصف دية الرجل فإذا قتلنا الرجل فإنه يدفع أهلها نصف الدية الرجل من مالها أما من أموالهم فلا يلزمهم لأن الله يقول: ? ولا تزر وازرة وزر أخرى? [الإسراء: 15]. ولكن الصحيح المتعين أنه يقتل الرجل بالمرأة ودليل هذا أن النبي صلي الله عليه وسلم قتل اليهودي بالجارية وهذا قتل رجل بامرأة ولعموم قول النبي صلي الله عليه وسلم "المؤمنون تتكافيء دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم" فإن قيل: ما الجواب عن قوله: ? والأنثى بالأنثى? فالجواب أن الآية صريحة في أن الأنثى تقتل بالأنثى ولها مفهومان الأول أن الرجل لا يقتل بالأنثى والثاني أن الأنثى لا تقتل بالرجل لكن المفهوم يقال فيه أن الأنثى تقتل بالرجل من باب أولى، وأما الثاني هل يقتل الرجل بالمرأة فإن دلالة آية البقرة على امتناعه بالمفهوم والسنة اثبتت قتل الرجل بالأنثى وفي قوة المنطوق فيكون مقدمًا على المفهوم إذن الأنثى تقتل بالرجل من باب أولى، يعني: إذا كانت تقتل بالأنثى فالرجل من باب أولى وهل يقتل الرجل بالأنثى قلنا: جمهور

العلماء- وحكي إجماعًا- على أن الرجل يقتل بالأنثى، وقال بعض العلماء: إنه إذا قتل فلابد من أن يسلم لأوليائه نصف الدية ثم أوردنا إشكالًا بالنسبة للآية وقلنا: الآية منطوقها أن الأنثى تقتل بالأنثى، مفهومها أن الرجل لا يقتل بالأنثى ولا الأنثى بالرجل، ولكن قتل الأنثى بالرجل من باب أولى فتكون دلالة الآية على انتفائه دلالة مفهوم ودلالة السُّنة على ثبوته دلالة في قوة المنطوق فتكون أولى ثم عموم قوله المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وعموم النفس بالتنفس يدل على ثبوت القصاص، إذا قتل أب ابنه أيقتل به؟ قلنا: نعم، يقتل على العموم لكن جمهور العلماء على أن الوالد من أب أو أم لا يقتل بولده واستدلوا لذلك بحديث فيه مقال لا يقتل والد بولده وهو يعم الأنثى بالنسبة لأولادها والأب بالنسبة لأولادها والأب بالنسبة لأولاده أيضًا هذا دليل من الأثر: ودليلهم من النظر أن الوالد هو السبب في وجود الولد فلا ينبغي أن يكون الولد سببًا في إعدامه فهو السبب في إيجاده، وعلى هذا فيكون قتل الوالد بولده مستثنى من قوله صلى الله عليه وسلم: (النفس بالنفس). مسألة: هل يقتل الوالد بولده؟ وذهب بعض أهل العلم إلى أن الوالد يقتل بالولد واستدلوا بالأثر فقالوا: لدينا عموم الحديث النفس بالنفس وعموم الآية {أن النفس بالنفس} وعموم قوله تعالى: {فمن آعتدى عليكُم فآعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكُم} والنظر أن قتل الولد أعظم جناية من قتل الأجنبي فكيف يسقط القصاص في قتل الولد مع أنه أعظم جناية من قتل الأجنبي، وكان الأولى أن يقال: إذا ثبت القصاص في الأجنبي فليثبت في قتل الولد، وأما ما استدل به القائلون بمنع قتل الوالد بالولد فهو أثر ضعيف لا يقاوم عموم قوله: (النفس بالنفس) والنظر الذي استدلوا به أيضًا ضعيف، علة معلولة، لأن الولد لما قّتل لم يكن سببًا في إعدام أبية من السبب؟ الأب هو السبب هو الذي فعل سببًا يقتضي إعدامه فجنى على تقدير صحته إنما نفى قتل الوالد بالولد لأن الغالب أن قتل الوالد لولده لا يكون إلا عن خطأ، فإن أرحم الناس بالناس

هوالوالد بالولد فكونه يتعمد قتله أمر بعيد فلذلك قال: (لا يقتل والد بولده) أي: لا يمكن أن يقتل والده عمدًا عدوانًا فإذا انتفى العمد العدوان وهو علة القتل انتفى القتل، ولهذا قال الإمام مالك إن تعمد قتل ولده تعمدًا لا شك فيه بأن أمسكه فأضجعه فذبحه قتل به، لأنه ليس هناك شبهة تقتضي رفع القتل عنه، وإن قتله عمدًا كسائر الناس فلا يقتل لاحتمال وجود الشبة، وهي الخطأ وعدم إرادة القتل. وقال بعض العلماء- وهم قلة-: يقتل الوالده بكل حال، والقول بالتفصيل وهو إن تعمد قتله عمدًا لا شبية فيه قتل به وإلا فلا، وهذا القول هو الصحيح إن لم نقل بأن القول الصحيح أنه يقتل به مطلقًا، لعموم الأدلة، ولأن النزاع يقع كثيرًا بين الوالد وولده فيغضب الوالد فيقوم ويقتل ولده! ! صحيح أن الغالب أن الوالد يحب ولده ولا يحب أن يناله أحد بسوء ويبعد كل البعد أن يتعمد قتله، ولكن قد يقع، قتل عبد حرًا يقتل به للعموم، لو دعست البعير شخصًا هل تقتل؟ لا، على كل حال: العبد إذا قتل حراً لا إشكال فيه أنه يقتل به. مسألة: هل يقتل الحر بالعبد؟ لكن إذا قتل حر عبدًا هل يقتل به؟ يقتل لعموم النفس بالنفس وقيل: لا يقتل به لحديث لا يقتل حر بعبد وللنظر وهو أن العبد متقوم فسبيله سبيل البهائهم والقياس هو أن أطراف الحر لا تقطع بأطراف العبد بالإجماع فكذلك لا يقتل به. وقال بعض العلماء: بل الحر يقتل بالعبد لعموم قوله النفس بالنفس ولأنها نفس محترمة ففارقت البهائم، ولان في قتله خطأ كفارة ففارق البهائم، يعني: لو قتلت بعيرًا خطأ فعليك ضمانها، ولكن ليس عليك كفارة ولو قتلت عبدًا خطأ فعليك ضمانه والكفارة فلم يكن سبيله سبيل الأموال، وأما الأطراف فالرق أن الأطراف تقدر بالنسبة للعبد بالقيمة لا بالدية وأطراف الحر تقدر بالدية، يعني: لو قطع اليد اليسرى من الحر وقطع آخر من حر آخر اليد قطع اليمنى كم دية اليسرى، يعنى: حران قطع يد أحدهما اليمنى رجل وقطع يد أحداهما اليسرى رجل آخر كم يضمن كل رجل دية يد، ولو كان عندنا عبدان فقطع يد أحدهما اليمنى رجل وقطع يد أحدهما اليسرى رجل آخر فكم على كل واحد من الرجلين؟ التقويم اليد اليمنى في العبد تساوي ثلثي القيمة أو ثلاثة أرباع القيمة واليد اليسرى مثلها فكانت الأجزاء من العبد مقومة بالقيمة مقدرة بالقيمة ومن الحر مقدرة بالنسبة إلى الدية فهذا هو الفرق ولذلك لا تُقطع يد الحر إذا قطع يد العبد بالإجماع فهذان قولان متقابلان: القول الأول لا يقتل الحر العبد، والقول الثاني يقتل الحر بالعبد بكل حال، والقول الثالث وسط، وهو أنه إن قتل عبد غيره قتل وإن قتل عبده لم يقتل، ما الفرق؟ قالوا: إذا قتل عبد نفسه فإنه يفضُل هذا العبد بالملكية،

لأنه يملكه وإذا قتل عبد غيره فإنه لا يفضله في ذلك ولأن العبد- عبد الإنسان- قد يخطأ خطأ يوجب لسيده أن يكون له شبية في قتله فيرفع القتل عنه، ولكن يرد على هذا أنه قد روي في السنن من حديث سمرة (من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه)، يعني: من قطع أنفه وهذا يقتضي أن يقتل السيد بعبده وإذا قتل السيد بعبده فغير السيد من باب أولى، ولهذا نقول القول الراجح في هذه المسألة أن الحر يقتل بالعبد كما قلنا إن القول الراجح أن الأب يقتل بابنه ما لم يكن هناك شبهة ولدينا عمومات (النفس بالنفس) (والمؤمنون تتكافأ دماؤهم)، ولأننا إذا قلنا بعدم القتل أوجب التهاون بقتل العبيد فحصل بذلك شر بين العبيد مع الجناة وبين أسياد العبيد مع الجناة، والتفريق بين قتل الرجل عبده وقتله عبد غيره فيه نظر للحديث الذي ذكرنا أن من قتل عبده قتلناه، وثانيًا: إذا قلنا: إن الحر لا يقتل بالعبد إذا كان هو سيده ويقتل إذا كان العبد لغيره يؤدي إلى أن الأنسان إذا أراد أن يقتل عبدًا ذهب واشتراه من سيده وأغرى سيده بالمال حتى يملكه ثم بعد ذلك يقتله هذه أربعة أشياء. وقوله صلى الله عليه وسلم: (النفس بالنفس) يشمل ما إذا قتل عاقل مجنونًا أو عالم جاهلًا أو شاب طفلًا في المهد أو شاب كبيرًا مخرفًا، وذلك لأن الأنفس ليست مقومة بالمال حتى نقول: إن الشاب الجلد العالم العاقل الذكي لا يقتل بشيخ هرم مخرف لا يمسك بولا ولا غائطّا ولا يقوم من فراشه ولا يعرف أمه من بنته وهذا الرجل الجلد القوي العالم الغني الكريم الشجاع يقتل به إذا قتله؟ نعم، لعموم النفس بالنفس ومسألة القتل ليست مبنية على القيمة، لو كان القاتل أميرًا قتل بغير حق عمدًا عدوانًا هل يقتل الامير؟ العموم يقتل النفس بالنفس، وقال بعض العلماء- ويحتاج أن نحرره-: إنه إذا إقتضى قتله فتنة وشرًا كبيرًا فإنه يمنع من القتل كما قلنا: إن قتل الغيلة يوجب القصاص بكل حال حفظًا لأمن فهذا يمنع فيه من القصاص حفظً للأمن أظن بعض العلماء قال ذلك وقيل: أنه إذا خيف من قتل هذا فتنة كبيرة كما قلنا في قتل الغيلة أنه يوجب القتل ولو اختار أولياء المقتول الدية لحفظ الأمن عموم قوله صلى الله عليه وسلم النفس بالنفس يشمل القتل مباشرة أو سبب القتل مباشرة واضح يأخذ السيف ويقتله، القتل بسبب يحفر في طريقه حفرة فيسقط فيها ويموت هذا سبب ولكن إذا اجتمع مباشر ومتسبب فهل يشتركان أو الضمان على المباشر؟ فيه تفصيل: إذا كان المباشر يمكن إحالة الضمان عليه فعلى المباشر، وإن

كان لا يمكن فعلى المتسبب فلو أن رجلًا رأى أسدًا يريد أحدًا يأكله فأخذ بهذا الطفل ورمى به بين يدى الأسد وأكله فهل الضمان على الأسد؟ لا، لأن هذا المباشر لا يمكن إحالة الضمان عليه إذن الضمان على المتسبب، أما إذا أمكن إحالة الضمان عليه فالضمان على المباشر، مثاله حفر حفرة في طريق إنسان ليسقط فيها فجاء إنسان يمشي فوقف على الحفرة فجاء آخر فدفعه في الحفرة حتى مات على من الضمان؟ على المباشر لأن إحالة الضمان عليه ممكنة اشترك جماعة في قتل إنسان فهل يقتلون به؟ الصحيح أن الجماعة تقتل بالواحد لأنهم مشتركون في القتال، ولأن بعضهم قوة لبعض ربما لو كان واحدًا ما قتل لكن لما كان معه جماعة قتلوا، ولهذا قتل عمر رضى الله عنه جماعة من أهل صنعاء في اليمن اشتركوا في قتل إنسان وقال: لو اجتمع عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، وسنة متبعة لكن هم عشرة الآن وقتلوا نفسًا واحدة أفلا نقتل كل واحد منهم عُشر قتله؟ لا يمكن ولو أن أولياء المقتول اختاروا الدية يعطون كل واحد عليه عُشر الدية، يعني: عشرًا من الأبل لماذا اختلف الآن القصاص؟ لأن الدية يمكن تجزئتها والقصاص لا يمكن تجزئته، فلو أن واحدًا قتل عشرة لا نقتله عشر مرات بل مرة واحدة لكن نقول من الذي يتولى قتله؟ كل واحد من أولياء المقتولين يقول: أنا الذي أقتله فماذا نصنع؟ إن عين الإمام أحدًا لا بأس، وإلا يؤخذ بالأول فإن كان قتلهم جميعًا فيقرع بينهم ويثبت للباقين دية إن قتل أولصا، يعني: الذي قتل الأول هو الذي له الحق لأنه صار دمه هدرًا يقتل الأول، إذا كان قتلهم جميعًا برشاش أو غيره فهنا يقرع بينهم لأن القرعة ثابتة في كل مالا يتميز فالمهم أن هذا الباب عظيم ينبغي لطالب العلم أن يحرره ويحققه لأنه ينبني عليه ليس إتلاف مال، المال إذا تلف يأتي ما يخلفه لكن الأنفس، ولهذا يجب أن يتحرز الإنسان كل التحرز فصار هذا العموم النفس بالنفس فيه مستثنيات. مسألة: لو زنا الرجل بابنته يرجم مع أنه السبب في إيجادها وكان زناه بها هو السبب في إعدامه، فيقال ليس هي السبب في إعدامه بل فعله بها هو السبب في إعدامه. أما الثالث فقال التارك لدينه المفارق للجماعة، يعني: الذي ترك دينه وهو مرتد فإنه يقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) ولكن هل يقتل بمجرد الردة أو يجب أن يستتاب ثلاثة أيام أو يفرق بين أنواع الردة فمنها مالا يستتاب فيه ومنها ما يستتاب فيه؟ هذه ثلاثة احتمالات

هل يقتل بمجرد الردة أو لا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام فيقال له تُب وإلا قتلنا أو يفرق بين أنواع الردة فيستتاب في بعضها ولا يستتاب في بعض الآخر؟ قال بعض العلماء: إنه لا يستتاب لعموم قول صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) وهذا عام والشرط يتلوه المشروط بمجرد وجوده فإذا قلت لك إذا قام زيد فقم متى تقوم؟ إذا قام زيد فورًا (من بدل دينه فاقتلوه) من شرطية فإذا وجد التبديل ثبت القتل مباشرة ولا يستتاب في أي ذنب لأن ذلك أنكى وأروع لغيره من الردة وإلى هذا ذهب بعض العلماء وقال لا استتابة في أي ذنب من الكفر. وقال بعض العلماء: بل يستتاب ثلاثة في كل ذنب لعله يرجع ويؤوب إلى رشده، والرأفه خير من العقوبة، وهو إذا مات بعد أن رجع ربح الدنيا والآخرة، وإن قتل على ردته خسر الدنيا والآخرة. وقال بعض العلماء: في ذلك تفصيل فالكفر الذي تقبل توبة المرتد فيه يستتاب والذي لا تقبل توبة المرتد فيه لا يستتاب لأنه لا فائدة حتى ولو تاب فإنه لا فائدة من ذلك، وعلى هذا تنوع الردة إلى نوعين نوع لا تقبل فيه التوبة ونوع تقبل فمن الذي لا تقبل فيه التوبة الكفر بالسحر، فمن كفر بالسحر فإنه يقتل فورًا وهو الذي يستعين في سحره بالشياطين فهذا يقتل فورًا لما يترتب على بقائه من الأذية ولانه لا يؤمن أن يرجع ومن ذلك أي: ممن لا تُقبل فيه توبته من سب الله فإن توبته لا تقبل وعلل ذلك بأن سب الله ذنب عظيم لا يُغفر فلا تُقبل فيه لتوبه من سب الله فإن توبته لا تقبل وعلل ذلك بأن سب الله ذنب عظيم لا يغفر فلا تقبل فيه التوبة ولا يستتاب يقتل بكل حال وكذلك من سب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يقتل بكل حال ولا يستتاب ولو تاب لم تقبل توبته وإذا رجع إلى ربه فالله عز وجل يحاسبه بما شاء حتى لو تاب لعظم ذنبه ومن ذلك المنافق لا تقبل توبته لأن المنافق من الأصل يدعي أنه مسلم فلا فائدة لقبول توبته فيقتل ومن ذلك الزنديق الداعي للزندقة والكفر وذلك لعظيم جرمه وفساده في الأرض فلا تقبل توبته وهؤلاء لا يستتابون لأنه لا فائدة من التوبة والصحيح في كل هؤلاء أن توبتهم مقبولة لعموم قول الله تعالى: {قل يعبادى الذين أسرفوا على أنفُسهم .... } الآية، ولقوله تعالى: {والذين لا يدعُون مع الله إلها أخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا (68) يضعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تابوءامن وعمل عملًا صلحًا فأولئك يُبدل الله سيئاتهم حسنت وكان الله غفوراً رحيمًا} وهذا القول أصح لكن من شككنا في أمره فإنه تجب مراقبته فإن دلت القرينة على صحة توبته وإلا لم نقبل منه كالمنافق مثلًا فهو يحتاج إلى أن نراقبه هل توبته صحيحة أو لا، فإن تبين أن توبته صحيحة ورأيناه يخشى الله في السر والعلن قبلنا لقوله تعالى: {إن المنفقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرًا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم لله} [النساء: 145 - 146].

وهذا القول هو الصحيح، وإذا قبلنا توبته رفعنا القتل عنه عنه إلا ساب النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نقتله ولو تاب بخلاف من سب الله إذا تاب أفليس سب الله أعظم من سب الرسول؟ الجواب: بلى، أعظم بكثير لكن الله أخبر عن عفوه عن حقه إذا تاب الإنسان، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يخبرنا عن سقوط حقه إذا تاب الإنسان وسب الرسول صلى الله عليه وسلم تعلق به أمران حق لله وحق للرسول، أما حق الله فنقبل منه التوبة وحق الرسول نقول الآن نت مسلم ولكن القتل لابد أن نقتلك وإذا قتلناه بعد التوبة فإنه مؤمن فإنه مسلم مؤمن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدعى له بالرحمة ويدفن مع المسلمين هذا هو القول الصحيح فكل كافر فإن توبته مقبولة، لكن من شككنا في أمره فلابد من مراقبته ومتابعته فإن دلت القرينة على أنه يلعب علينا لم نقبل منه، بقي لنا أن نقول هل يستتاب إذا قلنا بقول التوبة لكل كافر هل يستتاب أو لا؟ الصحيح أن الاستتابة راجعة إلى اجتهاد الإمام إن رأى في استتابته مصلحة استتاب أو لا؟ الصحيح أن الاستتابة راجعة إلى اجتهاد الإمام إن رأى في رأى في استتابه مصلحة استتابه وإلا فلا فالإمام قد لا يرى الاستتابة في حقه لعظم جرمه لكونه لكونه يضل الناس ويمشي بينهم بالفساد هذا لا ينبغي أنيستتاب وقد يكون الكافر الذي ارتد قد يكون مسالمًا لا يدعو إلى ما هو عليه، ولكن معه صنعة تنفع المسلمين وإذا قتلناه خسرنا هذه الصنعة فهنا الأولى الاستتابة فيرجع في ذلك إلى رأي الإمام، المفارق للجماعة هل هذا قيد، يعني: أنه يشترط لردته أن يظهر مفارقته للجماعة وأنه لو ارتد خُفية لم يحل دمه أو أن هذا صفقة كاشفة لأن المرتد عن الأسلام مفارق للجماعة، فارق المسلمين أيهما؟ الثاني: أنها صفة كاشفة أي: مبينة بأن المرتد مُفارق للجماعة وعلى هذا تكون الصفتان لموصوف واحد ولا تباين إحدهما الاخرى وهل يشتمل قوله التارك لدينه هل يشتمل المرأة؟ نعم، وهذا محل خلاف فقيل إن المرأة إذا ارتدت لاتقتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء وقيل: بل تقتل لعموم الحديث (من بدل دينه فاقتلوه)، وهذا الصواب بل المتعين، وأما النهي عن قتل النساء فذاك الكفار عند القتال فإن النساء لا يقتلن لأنهن لو قتلن لفاتت ماليتهن على المسلمين إذا إن نساء الكفار إذا ظهر المسلمون عليهم صرن رقيقات بمجرد السبي، ولهذا لا يجوز أن تُقتل المرأة في جهاد الكفار بل تبقى. في هذا الحديث عدة فوائد منها: احترام المسلم لقوله: (لا يحل دم امرئ مسلم). ومنها: فضلية الإسلام وأنه سبب لحقن الدماء وجه الدلالة قوله•امرئ مسلم).

ومن فوائد: بيان أن الإسلام هو شهادة أن لا إله الله وان محمدًا رسول الله، وأن الإنسان إذا أتى بها فهو مسلم. ماحكم تارك الصلاة؟ ومن فوائده: أن تارك الصلاة والزكاة الصوم والحج مسلم لقوله: (يشهد ان لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وهذاه المسألة محل خلاف فمن العلماء من يقول: إن الإنسان يكفر بترك أي ركن من أركان الإسلام الخمسة، وهذه إحدى الروايات عن الإمام احمد لأن الأركان الخمسة أركان والبيت لا يقوم إلا بأركانه فإذا سقط ركن واحد سقط البيت كله. ومنهم من قال: يكفر بترك الصلاة والزكاة فقط دون الصيام والحج، وهذه أيضًا رواية عن الإمام أحمد، لأن الله جعل الزكاة قرينة الصلاة في كتابه العظيم، ولأن الله قال: {وويل للمشتركين (6) الذين لا يؤتون الزكوة} ومنهم من قال: لا يكفر إلا بترك الصلاة، لقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة فإخونكم في الدين} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة). وقوله: (العهد الذين بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وأما الزكاة فلا يكفر بتركها لقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة في قصة من يمنع زكاة الذهب والفضة أنها تحمى عليها في نار جهنم ويعذب بها ثم يرى سبيله إما إلى الجنه، وإما إلى النار، وإذا كان يمكن أن يرى سبيله إلى الجنة فليس بكافر وهذا أصبح الأقوال، وعلى هذا فكيف نجمع بينه وبين هذا الحديث؟ نقول إن هذا الحديث يدل على أن الإنسان إذا شهد أن لا إله الا الله، وأن محمدًا رسول الله عصم دمه ثم يطالب بعد ذلك بالصلاة فإن صلى فذاك وإن لم يصل فالقرآن والسنة يدلان على أنه كافر فيكون مرتدا لقوله: التارك المفارق للجماعة. ومن فوائد الحديث: انحصار جواز قتل المسلم في هذه الثلاثة الزنا بعد الإحصان والثاني النفس بالنفس والثالث الردة لكن يشكل على هذا أن المرتد حين قتله ليس بمسلم والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل دم امرئ مسلم) وهو حين القتل ليس بمسلم؟ فيقال: الجواب عن هذا سهل، وهو أنه مسلم باعتبار ما كان فقرن مع صاحبيه الذين يقتلان وهما على الإسلام. ومن فوائد الحديث: مشروعية الرجم، لقوله: الثيب الزني وهل هذه المشروعية على

سبيل الوجوب؟ نعم، الدليل أنه حد من حدود الله، وقد صرح أمير المؤمنين عمر أنه فريضة حين خطب الناس وبين أن الرجم كان آية من كتاب الله، ثم قال: وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقولوا لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. ومن فوائده: جواز قتل النفس بالنفس وهل هذا على سبيل الوجوب؟ نقول: ليس على سبيل الوجوب بل هو على سبيل الجواز لأنه قال: "لا يحل" إلا بكذا، أي فيحل، والدليل على أن القصاص ليس بواجب قوله تعالى: } يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفى له من أخيه شئ فإتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان {[البقرة: 178]. قال: فمن عفي له ولو كان القصاص واجبًا لم يكن للعفو محل بل يقال حتى لو عفا فالقصاص واجب. فإن قال قائل: إذن ما الفائدة من قوله: "كتب عليك القصاص"؟ نقول: أجاب بعض العلماء بأن هذا بالنسبة للقاتل، يعني: القاتل يجب عليه أن يستسلم للقصاص وألا يعارض، أما بالنسبة لمن له الحق فهو بالخيار إن شاء أخذ به، وإن شاء عفا عنه كما يدل عليه آخر الآية وكما هو صريح في قول الرسول صلى الله عليه وسلم "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين" إلا أن العلماء اختلفوا في مسألة وهي قتل الغيلة هل يجب فيه القصاص أو لا؟ فذهب الإمام مالك رحمه الله إلى وجوب القتل قصاصًا في الغيلة والغيلة معناه أن يقتله على غرة مثل أن يأتيه وهو نائم أو يلحقه في السوق ويقتله فإن المقتول هنا ليس بمستعد ليدافع عن نفسه فيكون القتل غيلة مما لا يمكن التحرز منه وما لا يمكن التحرز منه فإنه يجب التحرز منه أكثر فإذا قتل وجوبًا خصص قتل الغيلة، وعلى هذا فيكون الحق في قتل الغيلة للإمام لا لأولياء المقتول ويجب على الإمام أن يقتله لما في ذلك من حفظ الأمن، وهذا مذهب مالك، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حفاظًا على الحق - الحق العام - لئلا تحصل الفوضى. ومن فوائد الحديث: جواز قتل المرتد لقوله: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" يعني: أنه يحل، ولكنه ليس على ظاهره بالنسبة للمرتد بل قتل المرتد واجب وهل هو حد؟ القصاص فهمنا أنه ليس بحد على غير قتلة الغيلة الذي فيه الخلاف لأن القصاص حق لأولياء المقتول إن شاءوا عفواً فليس بحد لكن قتل المرتد هل هو حد؟ ليس بحد لأنه يمكنه أن يتوب فيرتفع عنه القتل والحد لا يرتفع بالتوبة لو ثبت على الزاني الزنا عند القاضي وقال إنه تاب

فهل ترفع التوبة عنه الحد؟ لا، } إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم {[المائدة: 34]. إذن القصاص ليس بحد والقتل بالردة ليس بحدد ووجه ذلك إمكان رفعهما أما القصاص فيمكن رفعه بعفو أولياء المقتول، وأما الردة فيمكن رفع القتل فيها بالتوبة، نعم على القول بأن بعض الردات لا تقبل فيه التوبة ربما يكون في هذا حد. ومن فوائد الحديث: أن المرتد مفارق للجماعة لقوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة" فإذا حصلت مفارقة الجماعة بلا ردة كالخارجين على الإمام فهل يجوز قتله - الخارج على الإمام -؟ نعم؟ يجوز لكن بدليل آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتاكم وأمركم جميع تريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه"، وقال في البيعة لإمامين "إذا بويع للإمام الأول فأتى إنسان يدعو إلى البيعة فإنه يقتل" لكن قد يقال إن هؤلاء يقتلون لا لمجرد مفارقة الجماعة، ولكن للإفساد في الأرض أما الذي يبايع بعد بيعة الأول فواضح أنه مفسد في الأرض لأنه إذا بويع حصل القتال بين المسلمين، وأما الثاني الذي أبى أن يبايع ولم يدع للبيعة لنفسه فهذا يقتل لما يخشى من شره بأن يلم حوله أحد من الناس فلا يبايعون فيخشى من شره وفساده، ومسألة الخروج على الولاة من أخطر وأعظم مما يكون، ولم تفسد الأمة الإسلامية إلا بالخروج على الإمام من حيث أن قتل عمر رضى الله عنه بدأت الفتن خرجوا على عثمان وخرجوا على عليّ وخرجوا على معاوية لما كثر الخروج على الإمام حصلت الفتن والشرور والبلى. ومن فوائد الحديث: الحث التام على الالتئام، يؤخذ من كون مفارقة الجماعة سبباً للقتل، ولاشك أن التئام الأمة واجتماع كلمتها يوجب التآلف في القلوب والاتحاد، ويوجب الهيبة في قلوب الأعداء، وإذا تقلقل التفرق بين الأمة اختلت الأمة ونزعت هيبتها من الأمم ولم تساوي فلساً، ولهذا نرى أن أولئك القوم الذين يذهبون يركضون يميناً وشمالاً في القيل والقال وإضاعة الأوقات وإضاعة الأموال نرى أنهم على خطأ فاحش، وعلى خطر عظيم، وأن الواجب على الإنسان أن يكف لسانه، وأن يقبل الحق من أي شخص كان، وأن يرد الباطل من أي شخص كان، وألا يفرق الأمة بالتحزب إلى فلان وإلى فلان، الواجب لمُّ الشعث ورأب الصدع ما أمكن سواء كان بين الدعاة أو بين العلماء أو بين الشعب وولاة الأمور المهم أنه

يجب على الإنسان أن يسعى في الائتلاف بقدر ما أمكن وأن ينصح من يراهم ليس لهم هم إلا الركض يمينًا وشمالًا، وما تقول في فلان وما تقول في أشرطة فلان وما تقول في رسائل فلان؟ ! ! وما أشبه ذلك من الأشياء التي لا تنفع بل هي تضر، تفرق الأمة وتشتت الشمل وتولد الضغائن في القلوب ويحصل بها شر كثير دع نفسك وهواها وكن مسالماً للناس تسعى في السلامة منهم وتسعى في سلامتهم منك لا تعتد ولا تجرئ الناس على نفسك بل كن مسالمًا حتى تبقى هيبة الأمة الإسلامية ولا تتفرق ونحن وغيرنا ممن نراهم مخلصين يسؤهم أن يروا هذا التفرق بين الشباب والدعاة والعلماء والناس وأمرائهم يسؤونا جدًّا، والواجب النصيحة، نحن لا نقول: إن كل أحد معصوم وكل أحد لا يخطئ "كل ابن آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوابون" الذين يرجعون عن الخطأ فالواجب النصيحة، وإذا سمعنا عن شخص قولًا ألا نأخذ بمجرد السماع، لأن هذا هو الذي نهى عنه الرسول قيل وقال، ولكن نتبين ونتثبت فإذا ثبت لدينا الأمر وصار القول خطأ فالواجب أن ننصح القائل؛ لأننا إذا نصحنا القائل ورجع هو بنفسه أزال هذا الخطأ، لكن لو أنا رددنا عليه بالتشهير به والسب ربما تأخذه العزة بالإثم فلا يرجع ويفتح له الشيطان باب التأويل وباب المعاندة، لكن إذا نصح بإخلاص وبين له الحق فإنه ربما يرجع ولا يحصل في هذا تفرق ولا تشتيت شمل، أما أن نتبع عورات الناس ونتنظر متى يخطئ ونفرح بالخطأ دون أن نفرح بالصواب، فهذا خلاف الإيمان وخلاف ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم حين ذكر الفتن وأنها كقطع الليل المظلم وذكر الفتن، وأنها فتن يرقق بعضها بعضًا فتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، ثم تجيء الثانية فيقول: هذه هذه، يعني: هذه هي البلاء ثم قال صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" هل أحد من الناس يجب أن ينتقده الناس؟ لا، هل أحد من الناس يحب أن تتسلط الألسن عليه؟ لا، إذن لماذا تشهر بأخيك وتسلط لسانك عليه، هذا مما يوجب ألا يزحزح الإنسان عن النار وألا يدخل الجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" والسباب والغيبة تختلف باختلاف من وجهت إليه لو سببت واحدًا من عامة الناس هل يؤثر شيئًا نعم يؤثر لكن هل يؤثر على سبيل العامة؟ لا، لكن لو سببت عالمًا أو اغتبت عالمًا فهذا يؤثر ليس في شخصية العالم بل على شخصية العالم وعلى علمه الذي يكون مقبولًا عند الناس يكون محل شك وتردد

حالات إباحة قتل المسلم

وحينئذ تحمل الناس على أن يشكوا في الشريعة التي تخرج من هذا العالم فتكون جنيت على الشريعة لهذا يجب أن ندع ما نسمعه بين بعض الإخوان من المناقشات ومن التشهير ومن السب حتى نكون يدًا واحدة ولا يجوز أبدًا في حال من الأحوال أن يحملنا ما قد يكون في قلوب بعض الناس من الحسد على الجناية؛ ولهذا جاء في الحديث "إذا حسدت فلا تبغ"، يعني: لا تعتدي على المحسود واعلم أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وقد أشار الله عز وجل إلى أنه إذا وقع في قلب الإنسان مثل هذا فليسأل الله من فضله وليعرض عن هذا} ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله {[النساء: 32]. هذا هو السير الصحيح والمنهاج السليم. حالات إباحة قتل المسلم: 1113 - وعن عائشة رضى الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل قتل مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: زانٍ محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلمًا متعمِّدًا فيقتل، ورجلٌ يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله، فيقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض". رواه أبو داود، والنسائيُّ وصحَّحه الحاكم. قوله: "زان محصن فيرجم" هذا كقوله: "الثيب الزاني" وقوله: "ورجل يقتل مسلمًا متعمدًا فيقتل" وهذا معنى قوله: "النفس بالنفس"، وهنا اشترط متعمدًا لأنه لا يمكن ثبوت القصاص إلا إذا كان القتل عمدًا وتعريف العمد هو أن يقتل من يعلمه آدميًا معصومًا فيقتله بما يغلب على الظن ما يقتله به ولابد من شروط زائدة على العمد، وهي تكليف القاتل بأنه بالغًا عاقلًا فلو تعمد الصبي قتل إنسان فإنه لا يقتل ولو تعمد المجنون قتل إنسان فإنه لا يقتل لأنه مرفوع عنهما القلم فعمدهما خطأ يثبت فيه ما يثبت بقتل العاقل البالغ خطأ وهو الدية على العاقلة وأما الكفارة فلا تجب عليهما أيضًا، لأن الصغير ليس من أهل التكليف والمجنون كذلك فلا

كفارة على من لم يبلغ إذا قتل خطأ وإذا قتل عمدًا فكذلك لأن عمد الصغير والمجنون خطأ يشترط أيضًا في القتل عصمة المقتول فإن لم يكن معصوم الدم فلا قصاص، فالحربي إذا قتله الإنسان فلا قصاص، والزاني المحصن إذا قتله الإنسان فلا قصاص لكن بشرط أن يحكم برجمه أما قبل ثبوته عند الحاكم فهو باقٍ على عصمته والشرط الثالث ألا يفضل القاتل المقتول في الدين والحرية والملك فلا يقتل المسلم بالكافر ولو تعمد ولو كان الكافر معصومًا كالذمي لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يقتل مسلم بكافر الحرية أيضًا سبق الكلام فيها لا يقتل حر بعبد وسبق الكلام فيها والملك أيضًا بأن لا يكون القاتل مالكًا لمقتول فإن كان مالكًا للمقتول فإنه لا يقتل به ولو كان المالك عبدًا إذا كان مكاتبًا وهو الذي اشترى نفسه من سيده وهو جائز التصرف - يبيع ويشتري ويملك - لكنه ليس جائز التبرع، فإذا اشترك المكاتب عبدًا ليتَّجر به حتى يوفي الدّين الذي في كتابته ثم إن هذا المكاتب قتله فكلاهما عبد، لكن هذا المكاتب يفضله بأنه سيده مالكه فلا يقتل به وعلى القول الراجح الذي رجحنا أنه يقتل الحر بالعبد يقتل به من باب أولى، الشرط الرابع: انتفاء الولادة فلا يقتل الأصل بالفرع، يعني: لا يقتل الأب بابنه ولا الأم بابنها أو بنتها وسبق لنا ذكر الخلاف فيه أنه يقتل به. إذن نضيف إلى قوله صلى الله عليه وسلم يقتل مسلمًا متعمدًا نضيف بقية الشروط حتى يتمكن الإنسان من تطبيق كل مسألة جزئية على هذه الشروط فإن تمت الشروط ثبت القصاص، وإن لم تتم لم يثبت القصاص، قال ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله ... إلخ. هنا يقول رجل يخرج من الإسلام هل المراد يكفر فيحارب بين الكفر والحرابة أو المعنى أنه بخروجه من الإسلام حارب الله ورسوله؟ يحتمل الحديث المعنيين، لكن المعروف أن من كفر بدون حرابة فإنه لا يثبت في حقه الصًّلب أو النفي من الأرض ويكون المعنى يخرج من الإسلام بالكفر فيقتل أو يحار بالله ورسوله ولو كان باقيًا على الإسلام فيستعمل في حقه ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، وهذا مأخوذ من الآية وهي قوله تعالى: } إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفقوا من الأرض {[المائدة: 33]. هؤلاء هم المحاربون لله ورسوله، وآكل الربا له قسط منهم لقول الله تعالى: } فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله {[البقرة: 279]. فالمراد بالمحاربة هنا: قال العلماء المراد قطع الطريق بأن يتصدى قوم أو واحد من الناس للناس في طريقهم فيسلبهم المال أو يقتل أنفسهم بالسلاح فهذا قاطع طريق ويجب أن يقتل أو يصلب أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض وهل "أو" للتنويع أو للتخيير؟ اختلف في ذلك المفسرون والفقهاء، فقيل: للتنويع، وقيل: للتخيير،

والفرق بين القولين: أنه إذا قيل: إنها للتخيير صار الإمام مخيرًا بين هذه الأربعة وهي القتل والصلب وتقطيع الأيدي والأرجل من خلال والنفي من الأرض، وإذا قيل: إنها للتنويع صارت هذه العقوبات منزلة على قدر الجريمة، فتختص كل عقوبة بجريمتها ولا يخير الإمام، فيقال: من فعل كذا فعل به كذا، فعلى هذا القول يقولون إن قطاع الطريق إذا قتلوا فقط، وإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإن أخذوا المال بدون قتل قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن أخافوا الطريق دون أن يعتدوا على أحد في مال أو دم فإنهم ينفون من الأرض فتكون هذه العقوبات مرتبة على قدر الجريمة فيكون الفرق بين القولين أن هذا القول مقيد للإمام بعقوبة معينة، وأما القول الأول فيخير الإمام ولكن هل معنى التخيير أنه تخير تشهِ بفعل ما يشاء أو هو تخيير مصلحة؟ الثاني، وهذه قاعدة: كل من تصرف لغيره وخيِّر فهو تخيير مصلحة، الوكيل والولي وناظر الوقف والوصي وولى الأمر من أمير أو قاضٍ أو غيره إذا خيِّر بين شيئين فتخييره تخيير مصلحة أما من خير بين شيئين في أمر يتعلق به بنفسه ويقصد به التسهيل عليه فتخييره هنا تخيير تشهِ ومتى يصلب وكيف يصلب؟ إذا رأى الإمام أن يقتل ويصلب أو كانت الجريمة على القول الثاني تقتضي القتل أو الصلب فمتى؟ قيل: إنه يصلب وهو حي وقيل: يقتل ثم يصلب وأيهما أنكى؟ الأول لاشك فإذا رأى ولي الأمر أن الأنكى أن يصلب قبل أن يقتل فليفعل لأنه إذا صلب بعد القتل فإنه هو بنفسه لا يتعب وما يضر الشاة سلخها بعد موتها وكيف يصلب؟ يصلب بأن يربط على خشبة لها يدان فتمد يداه على يدي الخشبة ويبقى قائماً إلى أن يشتهر فإذا اشتهر نزِّل وقتل إن قلنا بصلبه قبل القتل أو نزل وغسل وكفن وصلى عليه ودفن مع الناس، وأما التقطيع فلم يذكر في الحديث لكن في الآية تقطع اليد اليمنى والرِّجل اليسرى تقطع اليد اليمنى من مفصل الكف وتقطع الرجل اليسرى من مفصل العقب ولا يقطع العقب يبقى لأجل أن يمشي عليه لأنه لو قطع لاختلت الرِّجل ولا استطاع أن يمشي، وقوله: أو ينفى من الأرض إلى أي أرض؟ قال بعض العلماء يطرد إلى أرض غير أرضه، ولكن هذا القول اعترض بأنه ربما يفسد في الأرض الثانية فإذا خفنا من ذلك فإن النفي من الأرض يكون بالحبس حتى تظهر عليه علامة التوبة النصوح فإذا ظهرت أطلق. إذن هذا الحديث يختلف عن الأول في كيفية العقوبة فيمن خرج عن الإسلام، وقد قلنا: إنه إذا خرج عن الإسلام فجمع بين الكفر والحرابة فهذا جزاؤه وإن لم يحارب فإنه يقتل بالسيف.

يؤخذ من هذا الحديث فوائد: أولًا: احترام الدين الإسلامي لقتل النفس المعصومة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل قتل". ومن الفوائد: أن نفي الحلِّ، يعني: التحريم لأن نفي الشيء إثبات لضده وعليه فكلمة "ولا يحل" توازي كلمة: يحرم، وهذا في كلام الله ورسوله واضح، فقوله تعالى: {ولا يحلُّ لكم أن تأخذوا ممَّا ءاتيتموهنَّ شيئًا} [البقرة: 229]. {يأيُّها الذين ءامنوا لا يحلُّ لكم أن ترثوا النساء كرهًا} [المائدة: 19]. فهذا معناه يحرم لكن في كلام الفقهاء إذا قالوا لا يجوز فقد لا يريدون به التحريم قد يريدون به ما دون التحريم وهو الكراهة لكن في كتاب الله وسنة رسوله ففي الحلِّ إثبات للتحريم. ومن فوائد الحديث: أن من أسباب إباحة القتل هذه الثلاث خصال. ومن فوائد الحديث: جواز رجم الزاني المحصن، ولكن قال بعض العلماء: إن هذا يدل على الوجوب أي: وجوب الرجم- لأن المستثنى من الحرام واجب إذ لا ينتهك الحرام إلا بواجب لكن هذا فيه نظر لأن نفي الجواز إذا استثنى ما لا يدل على الوجوب {ولا يحلُّ لكم أن تأخذوا ممَّا ءاتيتموهنَّ شيئًا إلَّا أن يخافا ألَّا يقيما حدود الله فإن خفتم ألَّا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما}، ونفي الجناح لا يدل على الوجوب، وهذه القاعدة أن المستثنى من المحرم واجب بنى عليها بعض العلماء وجوب الختان قال: لأن الأصل تحريم قطع العضو من الإنسان فإذا أبيح في الختان دلَّ ذلك على وجوبه لأن الحرام لا ينتهك إلا بواجب، على كل حال: الحكم من حيث هو الحكم لا شك أن رجم الزاني واجب وأنه فريضة من فرائض الله كما أعلن ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. ومن فوائد الحديث: أن الزاني المحصن لابد أن يرجم رجمًا وذلك بالحجارة التي ليست بكبيرة ولا صغيرة مع اتقاء المقاتل، يعني: لا يقصد مقتله فيموت بسرعة. فإن قال قائل: ما الجمع بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم "وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة"؟ الجمع بأحد وجهين إما أن نقول: إن هذا مستثنى أو نقول إن معنى إحسان القتلة أن يقتل على حسب ما تقتضيه الشريعة. ومن فوائد الحديث: أنه يشترط للقصاص أن يكون القتل عمدًا لقوله: "متعمدًا"، هل يؤخذ من هذا الحديث اشتراط أن يكون القاتل بالغًا عاقلًا؟ نقول أما من جهة اشتراط أن يكون عاقلًا فلاشك أنه يؤخذ من هذا الحديث لأن المجنون ليس له قصد، وأما غير البالغ فلا يؤخذ لأن له قصدًا لكن يقال إن قصد غير البالغ لا حكم له لرفع القلم عنه أو يؤخذ من قوله: "رجل" لأنه لا يوجب القصاص على غير البالغ لأنه لا يسمى رجلًا.

حرمة الدماء

ومن فوائد الحديث: أن من خرج عن الإسلام فإن قتله مباح مهدر الدم لقوله ورجل يخرج من الإسلام. ومن فوائد الحديث: أن المحارب لله ورسوله ينكل بهذا النكال القتل والصَّلب والنفي من الأرض وبقي عقوبة رابعة لم تذكر في الحديث ولكنها ذكرت في الآية {أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ}. حرمة الدماء: 1114 - وعن عبد الله بن مسعوٍد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوَّل ما يقضى بين النَّاس يوم القيامة في الدِّماء". متَّفق عليه. تقدير الكلام أول ما يقضى بين الناس القضاء في الدماء والدماء جمع دم والمراد به القتل، وذلك أن الناس يوم القيامة يقضي الله- سبحانه وتعالى- بينهم ويفصل بينهم حتى بين المؤمنين والكافرين كما قال الله تعالى: {فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} [النساء: 141]. فيقضي الله بين الناس في كل شيء؛ الظالم ينتقم منه بظلمه ممن ظلمه في ماله أو غيره لكن ما أول ما يقضي بين الناس؟ الدماء لأنها أعظم الجنايات فإذا وقف الناس بين يدي الله يوم القيامة فأول ما يقضى بينهم في الدماء. فيؤخذ من هذا الحديث فوائد: منها: إثبات الحكم والقضاء بين الناس ووجه ذلك قوله: "أول ما يقضى ... إلخ". ومن فوائد الحديث: أن القضاء بين الناس يكون في الدماء وغيره لقوله: "أول" لأن لكل أوٍل آخرًا. ومن فوائد الحديث: تعظيم الدماء حيث كانت أول ما يقضى بين الناس. ومن فوائد الحديث: إثبات عدل الله عز وجل لكونه يقضي بين العباد حتى يعطي كل ذي حقٍّ حقه. ومن فوائد الحديث: أن من لم يؤخذ منه الحق في الدنيا أخذ في الآخرة ويكون أشد وأعظم لأن الإنسان يخزى به بين الناس، أنت إذا اقتصَّ منك في الدنيا لم يعلم بك إلا من شاهد أو بلغه وكل من سبقك لا يعلم بك ومن بعدك قد يندثر العلم وتنسى لكن في الآخرة كل الناس يشاهدونك فتكون المقاضاة في الآخرة أعظم من المقاضاة في الدنيا ويتفرع على

القصاص من الحر للعبد

هذه القاعدة أنه ينبغي للإنسان أن يعجل بالتحلل من حقوق الناس حتى لا يفضح بها في القيامة، ولا ننسى أن يوم القيامة سمِّي بذلك لأنه يقوم فيه الناس من قبورهم لله ويقام فيه العدل ويقوم فيه الأشهاد. القصاص من الحر للعبد: 1115 - وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه". رواه أحمد، والأربعة، وحسَّنه التِّرمذيُّ، وهو رواية الحسن البصريِّ عن سمرة، وقد اختلف في سماعه منه. - وفي روايٍة لأبي داود، والنَّسائيِّ بزيادة: "ومن خصى عبده خصيناه". وصحَّح الحاكم هذه الزِّيادة. هذا الحديث كما قال المؤلف من رواية الحسن البصري عن سمرة، وقد أعلَّ بالانقطاع وأن الحسن لم يسمع من سمرة، وإذا لم يسمع منه صار بينه وبينه رجل وهذا الرجل مجهول لا يعلم من هو؟ فيكون الحديث ضعيفًا بهذا الاعتبار ولكن صحح كثير من العلماء سماعه منه ومنهم من قال أنه سمع منه حديث العقيقة فقط والصحيح أن ما رواه عنه يحمل على السماع لأن الحسن وإن كان فيه شيء من التدليس لكن تدليسه محتمل وروايته عن سمرة كثيرة فالصواب أنه متصل، ولكن يبقى الواسطة الذي بين الحسن وبين المخرجين من الأئمة ينظر فيهم وقد صحح الحاكم هذا الحديث وحسنه الترمذي وفيه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من قتل عبده قتلناه" قوله: "عبده" يعني: الذي يملكه، وهذا يقتضي أن يكون القاتل حرًا والمقتول عبدًا، ومن جدع عبده جدعناه، أي: من قطع أنفه قطعنا أنفه، وهذا يقتضي أن يكون السيد هو الذي جدع الأنف والعبد هو الذي جدع أنفه، وزيادة النسائي: "ومن خصى عبده خصيناه"يقتضي أن يكون الخاصي حرًا والمخصي عبدًا، وقد سبق لنا شرح هذا وأن العلماء اختلفوا هل يقتل الحرُّ بالعبد أو لا يقتل؟ وأن الصحيح أنه يقتل سواء قتل عبده أو قتل غيره لأنه إذا قتل بعبده فقتله بعبد غيره من باب أولى. ومن فوائد الحديث: أن العبد يقتص له من الحر في الأطراف لقوله: "من جدع عبده

حكم قود الوالد بولده

جدعناه ... إلخ"، وقد سبق أن بعض العلماء حكى الإجماع على أنه لا قصاص بين الحر والعبد فيما عدا القتل، ولكن الصحيح أن بينهما قصاصًا وأنه إذا اقتص من الحر بالعبد في النفس فما دونها من باب أولى. حكم قود الوالد بولده: 1116 - وعن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد الوالد بالولد". رواه أحمد، والتِّرمذيُّ، وابن ماجه، وصحَّحه ابن الجارود، والبيهقيُّ، وقال التِّرمذيُّ: إنَّه مضطرٌب. وهذا الحديث أيضًا سبق الكلام عليه وبيَّنا أن هذا الحديث ضعيف وأنه لا تقوم به حجة وأن العلماء اختلفوا في قتل الوالد بالولد، فقيل: لا يقتل به واستدل هؤلاء بهذا الحديث لكنه ضعيف وعلَّلوا أيضًا بأنه سبب وجوده فلا ينبغي أن يكون الولد سبب إعدامه وبيَّنا أن هذه العلة عليلة ساقطة ونقضناها بمن زنى بابنته وهو محصن فإنه يرجم لزناه، وقلنا إن هذا النقض فيه نظر؛ لأن رجم الزاني ليس قصاصًا بل هو يرجم لحق الله، لكن نقض العلة بأن نقول: إن الولد إذا قتله أبوه فإنه ليس السبب في إعدام الأب، بل السبب في إعدام الأب، فعل الأب والحديث يشمل انتفاء القود في النفس فما دونه، ولكنا إذا قلنا: إنه يقاد به النفس فما دونها من باب أولى، وهو الصحيح كما سبق. حكم قتل المسلم بكافر: 1117 - وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: "قلت لعليٍّ: هل عندكم شيٌء من الوحي غير القرآن؟ قال: لا والَّذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة، إلا فهٌم يعطيه الله رجلًا في القرآن وما في هذه الصَّحيفة. قلت: وما في هذه الصَّحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلٌم بكافٍر". رواه البخاريُّ. سبب سؤال أبو جحيفة أن الشيعة ادَّعوا أن لآل البيت مصحفًا غير المصحف الذي يتداوله المسلمون فسأل عليًّا عن ذلك فقال: "لا والذي فلق الحبة ... إلخ" فأقسم رضي الله عنه أنه ليس عندهم شيء وادِّعاء أن عند آل البيت شيء زائد عن مصحف المسلمين يستلزم القدح في آل البيت؛ لأن علي بن أبي طالب يكون على هذا كذابًا حالفًا على الكذب، وإذا قدر أنه يجهل ما

عند آل البيت فيقال: كيف يكون أفضل البيت جاهلًا ما عند أهل البيت في هذا الأمر الخطير العظيم، يقول هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن غير صفة لشيء، ولهذا جاءت مرفوعة قال: "لا والذي فلق الحبة" كلمة "لا" تقال دائمًا أمام لقسم فهل تدل على نفي القسم؟ لا، ولكنه يؤتى بها للتوكيد كقوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد} المعنى: أقسم بهذا البلد لكن "لا" جيء بها للتنبيه حتى ينتبه المخاطب لذلك وقوله والذي فلق الحبة المراد به الجنس وهي كقوله تعالى: {إنَّ الله فالق الحبّ والنوى}، فالحب كل الحبوب يفلقها الله عز وجل وتنفتح في باطن الأرض وتخرج منها عروق الشجرة أو عروق الزرع حتى تكون الشجرة نامية إلى أن يأذن الله تعالى بانتهائها، وبرأ النسمة أي: الروح فالله تعالى هو بارئ النسم فذكر رضي الله عنه فلق الحبة وبرأ النسمة وهذا أجمع ما يكون من القسم إلا فهمًا وفي لفظ إلا فهٌم فعلى قراءة النصب يكون مستثنى وعلى قراءة الرفع يكون بدلًا من قوله: "شيء" يعني: إلا شيء هو الفهم الذي يعطيه الله تعالى من شاء من عباده وقوله: "يعطيه الله رجلًا في القرآن" إنما قال في القرآن مع أن الفهم يكون في السُّنة أيضًا لأنه سأل: "هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن؟ " فلهذا قال: "إلا فهما يعطيه الله تعالى رجلًا في القرآن" فإنه يكون عندنا الفهم زائدًا على القرآن وكم من إنسان عالم أعطاه الله تعالى فهما زائدًا على ما في القرآن فصار عنده زيادة على ما في القرآن لكن ليست زيادة خارجة عن القرآن بل هي زيادة فهم في القرآن من ذلك مثلًا استدلال على بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله تعالى: {وفصاله في عامين} وقوله: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} على أن أقل الحمل ستة أشهر لأنك إذا أخذت من الثلاثين شهرًا عامين بقي ستة أشهر هذا من الفهم الذي يؤتيه الله تعالى من شاء في القرآن وتجد بعض العلماء يستنبط من آية واحدة عشرات الفوائد وآخر لا يستطيع أن يستنبط خمسة أو أقل قال: "وما في هذه الصحيفة" هي: صحيفة أحاديث مكتوبة عند علي بن أبي طالب، قال: "وما في هذه الصحيفة؟ " قال: العقل، يعني: الدية التي تتحملها العاقلة وسميت عقلًا لأن الغارم لها يأتي بها ويعقلها عند مستحقها فلهذا سميت عقلًا من العقال ومتى يكون العقل؟ العقل فيما إذا كان القتل خطأ أو شبه عمد فإن العاقلة وهم العصبة يتحملون عن القاتل .. كما سيأتي إن شاء الله في الحديث الذي بعده- الثاني فكاك الأسير فالأسير المسلم يجب على المسلمين فك أسره بحسب ما يستطيعون إما بفدية مال أو أسير كافر نبادلهم الأسرى أو غير ذلك مما يفك به الأسير سواء كان الأسير أسير حرب أو أسير اختطاف فإن الواجب على المسلمين فك هذا الأسير، الثالث "ألا يقتل مسلم بكافر"؛ "مسلم"

نكرة في سياق النفي فتعمُّ كل مسلم ولو كان فاسقًا فلا يقتل بكافر، أي: كان كفره سواء كان يهوديًّا أو نصرانيًّا أو وثنيًّا أو شيوعيًّا وسواء كان معاهدًا أو مستأمنًا أو ذا ذمة لا يقتل المسلم بالكافر بكل حال. الشاهد من هذا الحديث قوله: "وألا يقتل مسلم بكافر" لأنه هو المناسب لكتاب الجنايات. في هذا الحديث فوائد كثيرة: منها ما امتن الله به على أهل السُّنة من ظهور كذب الشيعة في دعواهم أن عند آل البيت قرآنًا سوى هذا المصحف وذلك بسؤال أبي جحيفة. ومن فوائد الحديث: جواز الإقسام بلا قسم إذا كان الأمر مهمًّا واقتضت المصلحة ذلك وجهه: أن عليًّا رضي الله عنه أقسم دون أن يستقسم. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي أن تكون صيغة القسم مناسبة للمقسم عليه حيث اختار عليّ رضي الله عنه القسم بالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ووجه المناسبة أن في فلق الحبة وبرء النسمة إنشاء حياة وفي الوحي الذي هو القرآن حياة ولهذا سماه الله تعالى روحًا {كذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا}، فذكر رضي الله عنه الإحياء الكوني لمناسبته الإحياء الشرعي ففي الوحي إحياء شرعي وفي فلق الحبة وبرأ النسمة إحياء كوني هذا وجه المناسبة. ومن فوائد الحديث: أن الله سبحانه يمنُّ على من يشاء من عباده بالفهم لقوله: "إلا فهمًا يعطيه الله"، وهذا أمر مشاهد مجرب أن الناس يختلفون في الفهم وأمثلته كثيرة ارجع إلى كلام المفسرين، أو كلا المحدِّثين تجد المفسر يأخذ من الآية عدة فوائد لا يأخذها غيره، وتجد بعض شراح الحديث يستنبط من الأحاديث فوائد كثيرة لا يستطيعها غيره كما يذكر عن الشافعي رحمه الله أنه استنبط من حديث "يا أبا عمير ما فعل النغّير؟ " منهم من قال: ألف فائدة، ومنهم من قال: أربعمائة وكان رحمه الله قد نزل ضيفًا على الإمام أحمد والإمام أحمد يجلُّه ويذكره عند أهله بالخير فبات عندهم تلك الليلة، فلما قدَّموا له العشاء أكل العشاء كله ولما نام لم يقم بالليل يتهجد ولما خرج لصلاة الصبح لم يتوضأ فاستغرب أهل البيت هذا العمل وسألوا الإمام أحمد وقالوا: هذا الشافعي الذي تقول فيه وتقول، كيف فعل هذا فسأل الإمام أحمد الإمام الشافعي فقال: إنما أكلت العشاء كله لأني لا أجد في هذا البلد أحل من طعام الإمام أحمد فأردت أن أملأ بطني منه، ومعلوم أن ملأ البطن أحيانًا لا بأس به كما فعل أبو هريرة أمام النبي صلى الله عليه وسلم وأما كوني لم أتهجد فإن العلم أفضل من التهجد وجعلت أفكر في حديث أبي عمير ما فعل النُّغير؟ وأستنبط منه فوائد وأما كوني خرجت بلا وضوء فلأني وضوئي لم

ينتقض لأنني لم أن فأخبر الإمام أحمد أهله بذلك فزال عنهم الاستغراب والشاهد أن الله تعالى يمنَّ على بعض الناس بالفهم يستطيع أن يستنبط من النص فوائد كثيرة لا يصل إليها غيره. ومن فوائد الحديث: احتفاظ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالسُّنة وعنايته بها وكتابته لها لقوله: "وما في هذه الصحيفة". ومن فوائد الحديث: الرد على من غمز بعض الرواة لكونه يروي من صحيفة كما في غمز بعضهم عمرو بن حزم الذي يروي من الصحيفة، فإن هذا الغمز أحقُّ بالغمز لأن الرواية من الصحيفة قد تكون أضبط وأحفظ من الرواية من الصدر، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اكتبوا لأبي شاة" حينما طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب له وثبت أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو هريرة: "لا أعلم أحدًا أكثر مني حديثًا إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب". ومن فوائد هذا الحديث: حرص أبي جحيفة على السؤال حيث قال: وما في هذه الصحيفة؟ فإنه رضي الله عنه خاف أن يكون فيها شيء من القرآن فقال: "وما فيها؟ ". ومن فوائد الحديث: ثبوت العقل، يعني: كون الدية على العاقل وهذه المسألة اختلف فيها العلماء فمنهم من قال: إنه لا شيء على العاقلة إلا على سبيل المساعدة تبرعًا وتطوعًا لما سيأتي في الأحاديث التي ذكرها المؤلف ولقوله تعالى: {ولا تزر وازرٌة وزر أخرى}، ومنهم من قال بل تحمل العاقلة ما زاد على الثلث دون ما كان من الثلث فأقل ومنهم من قال تحمل العاقلة عن القاتل إذا كان فقيرًا فيكون تحملها ليس عل سبيل الأصالة ولكنه فرع عن تحمله القاتل- وسيأتي بيان التحقيق في المسألة. ومن فوائد الحديث: وجوب فك الأسير المسلم لقوله: "وفكاك الأسير" ولم يذكر في الحديث طريق فكه فيرجع في ذلك إلى ما يحصل به الفك بأي وسيلة كان. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن يقتل مسلم بكافر وهذا هو الشاهد لقوله: "وألا يقتل مسلم بكافر". ومن فوائد الحديث: كذب الشيعة في دعواهم أن عند آل البيت مصحفًا يخالف المصحف الذي في أيدي المسلمين، وأنه إذا كان إمام أهل البيت علي بن أبي طالب يقسم بأنه ليس عندهم شيء فإن أي دعوى في ذلك تعتبر تكذيبًا لعلي بن أبي طالب وهو إمام أهل البيت وطعنًا فيه!

حكم قتل المؤمن بمعاهد

حكم قتل المؤمن بمعاهد: 1118 - وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنَّسائيُّ من وجٍه آخر عن عليٍّ، وقال فيه: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، وهم يٌد عل من سواهم، ولا يقتل مؤمٌن بكافٍر، ولا ذو عهٍد في عهده" وصحَّحه الحاكم. "المؤمنون عامة تتكافأ دماؤهم" أي: بعضها يكافئ البعض الآخر فيقتصُّ من كل مؤمن بقتل كل مؤمن وقوله: "ويسعى بذمتهم أدناهم" أي: يسعى بعهدهم أدناهم، أي: أن الواحد منهم إذا عاهد أحدًا أو أمنه فإن عهده نافذ على جميع المؤمنين، يعني: لو أن شخصًا من المسلمين أمَّن كافرًا حربيًّا أو عاهده فإن هذه المعاهدة وهذا التأمين نافذ على جميع المسلمين الثالث قال "وهم يد على من سواهم" أي: المؤمنون يد على من سواهم من سوى المؤمنين؟ الكفار ومعنى يد أي قوة على من سواهم أو يد أي: أنه يجب أن تتكاتف أيديهم على من سواهم والمعنى واحد وهو أن يجب على المسلمين أن يكونوا يٌد واحدة على من سواهم قال: "ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده"، "ذو عهد"، أي: صاحب عهد في عهده، وهذا كالتوكيد لقوله: "ويسعى بذمتهم أدناهم" فإن ذا العهد لا يجوز أن يقتل في عهده؛ لأنه معصوم فإن قتل فهل يقتل قاتله؟ إن كان قاتله كافرًا قتل وإن كان قاتله مسلمًا فإنه لا يقتل لما سبق. في هذا الحديث من الفوائد: أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم أي: تتساوى ويكافئ بعضها بعضًا، وعلى هذا فيقتل المؤمن العدل بالمؤمن الفاسق والعالم بالجاهل والعاقل بالمجنون والكبير بالصغير والذكر بالأنثى والعكس بالعكس لعموم قوله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" يستثنى من ذلك الرقيق على بعض قول العلماء والوالد على قول بعض العلماء، وقد سبق الكلام على ذلك. ومن فوائد الحديث: أنه إذا عقد أحد من المسلمين الذمة لشخص وجب إنفاذ هذا العقد واحترام من هو في هذا العهد لقوله: "ويسعى بذمتهم" أي في عهدهم أدناهم. ومن فوائد الحديث: وجوب إجماع الأمة الإسلامية على عدوها المشترك لقوله: "وهم يد على من سواهم". ومن فوائده: أن من انفصل عن هذه اليد من المسلمين فإنه ليس منهم لأن الرسول أخبر بأنهم هم جميعًا يد على من سواهم فمن انفصل ولم يساعد إخوانه من المسلمين ولم يهتم بأمورهم فإنه ليس من منهم.

الجناية على النفس

ومن فوائد الحديث: علو الإيمان والإسلام على غيره ويتفرع منه ألا يقتل مسلم بكافر. ومن فوائد هذا الحديث: أن من له عهد فهو معصوم لا يجوز أن يقتل في عهده ويستثنى من ذلك ما إذا نقض العهد أو يقال إنه لا استثناء ولكن مفهومه أنه إذا نقض العهد فإنه يقتل وهو كذلك، وعلى هذا فلا حاجة إلى أن نقول إنه مستثنى بل نقول إن مفهوم قوله "ولا ذو عهد في عهده" أنه إذا انتفض عهده فإنه يقتل وهكذا قال أهل العلم أنه إذا نقض المعاهد عهده بأي ناقض فإنه يحلُّ دمه وماله فلو أنه اعتدى على مسلم بأن زنى بامرأة مسلمة أو تلَّوط بغلام أو شرب الخمر علنًا أو ما أشبه ذلك، فإنه ينتقض عهده ويحلُّ دمه وماله. ومن فوائد الحديث: أن العصمة تكون لغير المسلم؛ "ولا ذو عهد في عهده"، ففي أي شيء تكون العصمة؟ المعصومون أربعة المسلم والذمي والمعاهد والمستأمن وحينئٍذ نحتاج إلى معرفة الفرق بين هؤلاء، أما الفرق بين المسلم وغيره فظاهر، وأما الفرق بين ذي الذمة والمعاهد فذو الذمة تحت حمايتنا نحوطه ونكفُّ عنه الأذى ولا نعتدي عليه وهو من مسئوليتنا ولنا عليه الجزية نأخذها منه، وأما المعاهد فهو منفصل عنا هو في بلده لكنه لا يعتدي علينا ولا نعتدي عليه. بقي الفرق بين المعاهد والمستأمن؛ الفرق أن العهد عقد بين طائفتين بين الأمة الإسلامية والأمة الكافرة فهو عقد عام لا يعتدي فيه أحد على أحد، وأما المستأمن فهو خاصُّ بفرد معين نعطيه الأمان حتى يبيع سلعته إن كان تاجرًا وحتى يسمع كلام الله إن كان يريد الإسلام وما أشبه ذلك لقوله تعالى: {وإن أحٌد من المشركين استجارك فأجره حتَّى يسمع كلام الله ثمَّ أبلغه مأمنه} [التوبة: 6]. وكل هؤلاء الأربعة معصومون وعلى هذا فنقول لا يجوز قتل المعاهد ولا المستأمن ولا ذي الذمة لأن الكل منهم معصوم. الجناية على النفس: 1119 - وعن أنس بن مالٍك رضي الله عنه: "أنَّ جاريًة وجد رأسها قد رضَّ بين حجرين، فسألوها: من صنع بك هذا؟ فلاٌن. فلاٌن، حتَّى ذكروا يهوديًّا، فاومأت برأسها، فأخذ اليهوديُّ، فأقرَّ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرضَّ رأسه بين حجرين". متفٌق عليه، واللَّفظ لمسلٍم. "الجارية" هي الأنثى، وتطلق على الصغيرة وربما تطلق على الكبيرة، وقوله: "وجد رأسها

قد رضَّ بين حجرين" أي جعل بين حجرين ورضَّ بالحجر الأعلى وهي في آخر رمق، فسألوها من صنع بك؟ هذا فلان فلان حتى ذكروا ... إلخ. "سألوها" أي: سألها أهلها أو من عثر عليها من صنع بك هذا وعينوا أناسًا ولا شك أنهم لن يعينوا إلا من كان قريبًا منها وفيه شبهة، وأما من كان بعيدًا وليس فيه شبهة فلن يذكروه لها "حتى ذكروا يهوديًّا فاومأت برأسها" يعني: أنه هو الذي فعل ذلك، وهذا من نعمة الله- سبحانه وتعالى- وفضله أن أبقى حياة هذه الجارية حتى أخذوا إقرارها بأن الذي فعل بها ذلك رجل من اليهود "فأخذ اليهودي فأقرَّ" بأنه الفاعل ولو لم يقر لكان نكبة لأنه لو لم يقر لبرئ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم"، فأقر فأمر رسول الله ... إلخ، "أمر أن يرضَّ رأسه بين حجرين" وهذه حالة قد تصعب على النفوس أن يرض الإنسان رأس رجل بين حجرين ولكن يهون ذلك أن يكون عند التنفيذ يستشعر أن هذا المجرم فعل بالمعتدي عليه هذا الفعل فيهون عليه، يعني: يعتبر هذا قصاصًا. هذا الحديث فيه فوائد: أولًا: جواز بقاء اليهود في المدينة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطرد هذا الرجل ولا غيره بل ومات ودرعه مرهونة عند يهودي، ولكن هذا كان قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم "لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا" ولكنه صلى الله عليه سلم مات قبل ذلك إلا أن أوصى أمته فقال أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب. ومن فوائد هذا الحديث: أن حرم المدينة ليست حرم مكة في منع الكفار من دخولها وجه ذلك إقرار النبي صلى الله عليه وسلم اليهود على البقاء في المدينة أما مكة فقال الله تعالى: {يأيها الذَّين ءامنوا إنَّما المشركون نجٌس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}. ومن فوائد هذا الحديث: محبة اليهود للمال وأنه لا يهمهم أن يرتكبوا أبشع جريمة من أجل الوصول إلى المال لأن هذا اليهودي إنما رضَّ رأس الجارية من أجل حلي كان عليها فأخذه. ومن فوائد هذا الحديث: اعتبار قول المحتضر أو بعبارة أخرى اعتبار قول من أصابه سبب الموت ما دام ذهنه باقيًا تؤخذ من اعتبارهم إشارة الجارية. ومن فوائد الحديث: أن الإشارة تقوم مقام العبارة فإذا كان هذا مع تعذر العبارة شرعًا أو حسًّا فلا شك أن الإشارة تقوم مقام العبارة، وإن كان مع القدرة ففيه خلاف بين العلماء، ففي هذه القصة قامت الإشارة مقام العبارة لتعذر العبارة في هذا الحال، وفي إشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين صلًّى بهم جالسًا فصلوا قيامًا فأشار إليهم أن اجلسوا هذا فيه تعذر العبارة شرعًا. إذن الإشارة تقوم مقام العبارة عند تعذر العبارة شرعًا أو حسًّا فأما مع القدرة على ذلك فما يصح بالكناية يصح بالإشارة وما لا يصح بالكناية لا يصح بالإشارة فالنكاح مثلًا هل ينعقد

بالإشارة من قادر على النطق؟ الجواب: لا لماذا؟ لأنه لا ينعقد بالكناية ولابد من الإشهاد عليه فلو قيل مثلًا للولي يشير إلى الزوج وإلى الزوجة، يعني: عقدنا فقال برأسه هل يكفي؟ لا يكفي لأن الكناية فيه لا تقوم مقام الصريح ولو قيل له: أطلقت امرأتك فقال برأسه فهذه محل خلاف بعضهم قال تطلق وبعضهم قال: لا تطلق والصحيح أنها تطلق لأن هذا كالصريح في قوله نعم. ومن فوائد الحديث: قلنا: اعتبار قول من حضره الأجل ولكن بشرط ألا يكون قد تغير فكره، يعني: لو تغير فكره فإنه لا يعتبر قوله، وعليه لو أوصى الإنسان وهو محتضر ينازع نفسه فهل تعتبر هذه الوصية؟ الجواب: تعتبر بشرط ألا يكون قد تغير فكره فإن كان قد تغير وعرفنا أنه يهذي ولا يضبط قوله فإنه لا عبرة به. ومن فوائد الحديث: جواز أخذ المتهم بالتهمة يؤخذ من أخذ اليهودي ولكن هل كل مدعى عليه يؤخذ بالدعوى أو ينظر للقرينة؟ الواجب أن ينظر للقرينة إن كان يمكن صدق الدعوى أخذنا المدعي عليه، وإن كان لا يمكن فذهب مالك وجماعة من أهل العلم إلى أن المدعي هو الذي يؤدب فلو أن بقالًا قال أنا أدعي أن الملك اشترى مني عشرة حزم بقالة ولم يعطني حقي وأنا أطلب حقي هل تقبل هذه الدعوى؟ لا، لأن الملك لا يمكن أن يقوم بشرائها بنفسه هذا مستحيل فقال الإمام مالك: إن هذا يؤدي لأن متلاعب ولا يؤخذ المدعي عليه في هذه الحال، أما إذا أمكن أن تكون الدعوى صحيحة فإن المدعى عليه يؤخذ لاحتمال صدق المدعي ولكن هل يحكم بما ادعاه المدعي عليه؟ الجواب: لا حتى يقر. ومن فوائد الحديث: أن الله- سبحانه وتعالى- يقيد من يقتل القاتل ولو قتل اختفاء كيف ذلك؟ لأن الله تعالى أبقى حياة هذه الجارية حتى سألوها ولو يستطع المدعى عليه المجرم أن ينكر وإلا لو ماتت هذه الجارية لذهب الحق ولو أنكر المجرم لذهب الحق، ولكن القاتل مقتول قال الله تعالى: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل إنَّه كان منصورًا} [الإسراء: 33]. سلطانًا كونيًّا قدريًّا وسلطانًا شرعيًّا أما السلطان الشرعي فلولي المقتول أن يقتصَّ شرعًا، وأما السلطان القدري فإن الله تعالى لابد أن يطلع على القاتل طال الزمن أو قصر، ولهذا قال: {فقد جعلنا لوليّه سلطانًا فلا يسرف في القتل} يعني: كأن القاتل بين يديك ولكن لا يسرف، يعني: لا تأخذه الغيرة على أن يمثِّل بالقاتل أو يقتله بأشد مما قتل به ثم قال: "إنه" أي: الولي "كان منصورًا" أي: كان منصورًا في علم الله ولابد أن يعثر على قاتل وليه. ومن فوائد الحديث: أنه يفعل بالجاني كما فعل إن قتل برصاص قتلناه برصاص، وإن قتل بسيف قتلناه بسيف، وإن قتل بخنجر قتلناه بخنجر، وإن قتل بحجر قتلناه بحجر وإن قتل بتقطيع الأعضاء والتمثيل قتلناه كذلك ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يرض رأس اليهودي

جناية الصغير والمجنون

بحجرين كما فعل بالجارية وهو نصٌّ صريح في الموضوع ودليل آخر أن الله سبحانه سمى قتل القاتل قصاصًا والقصاص لابد أن يكون مماثلًا لما اقتص به فيه؛ لأنه قصاص، وأصله من قصَّ الأثر إذا تتبعه وإذا كان كذلك فإن تمام القصاص أن يفعل بالجاني كما فعل وأما قول من قال إنه يقتل بالسيف لحديث ورد في ذلك- لا قود إلا بسيف- فإنه لو صح الحديث لقلنا به ولكنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فيفعل بالجاني كما فعل إلا إذا كان الأداة التي قتل بها محرمة لعينها فإنها لا تستعمل كما لو قتله بإسقائه الخمر فإننا لا نقتله بإسقاء الخمر، ولكن هل نقتله بالسيف أو نقتله بشراب يتأذى به حتى يموت وليس بخمر؟ الثاني أقرب إلى القصاص والأول له وجهة نظر لأنه لما تعذر القصاص شرعًا عدلنا إلى الأسهل وهو القتل بالسيف وكذلك لو قتله بفعل الفاحشة تلوط بغلام صغير حتى أهلكه عمدًا وهو يعرف أن هذا العمل يهلكه فهنا لا نقتله بمثل ما قتل لأن هذا محرم لعينه. ومن فوائد الحديث: أن الرجل يقتل بالمرأة وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي وهو رجل بالجارية وهي امرأة. جناية الصغير والمجنون: 1120 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: "أنَّ غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلاٍم لأناٍس أغنياء، فأتوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لهم شيئًا". رواه أحمد والثَّلاثة بإسناٍد صحيٍح. الغلام يطلق على الصغير الذي لم يبلغ "لأناس فقراء" أي: معوذين والفقراء جمع فقير والفقير هو خالي اليد من المال، وسمِّي بذلك لموافقته للاشتقاق الأكبر للقفر وهي الأرض الخالية من النبات فالفقير أو الفقر هو الخلو وقوله: "قطع أذن غلام لأناس أغنياء" نقول في الغلام كما قلنا في الغلام الأول وقوله: "قطع" ظاهره أن القطع كان عمدًا لأنه لم يقيد والأصل في الأفعال إذا لم تقيد أن تكون صادرة عن قصد وإرادة، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لهم شيئًا لم يجعل للأغنياء شيئًا على الفقراء ولم يبن في الحديث سبب هذا الحكم أنه لم يجعل للأغنياء شيئًا فقيل لأن هذا الصبي كان يدافع عن نفسه، والمدافع عن نفسه لا يلزمه شيء، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل لهؤلاء الأغنياء شيئًا لأن الدية في هذه الصورة تجب على العاقلة فإن العاقلة تحمل ما زاد عن ثلث الدية والدية هنا على العاقلة لتعذر القصاص من الغلام لكونه غير بالغ فإذا تعذر القصاص وجبت الدية إذا وجبت الدية فإنه يكون مجراها مجرى الخطأ تجب على العاقلة والعاقلة الآن فقراء لذلك أسقط النبي صلى الله عليه وسلم عنهم الدية وهل تسقط

الدية عن العاقلة إذا كانوا فقراء مطلقًا أو تجب في بيت المال؟ الحديث هذا لم يبين ومن ثمَّ اختلف العلماء في تخريجه وهو لا يخلو إما من باب الدفاع عن النفس وإما أن يكون من باب تحميل العاقلة لهذه الجناية وإذا كانت العاقلة فقراء فإنه يسقط ما يجب عليهم لأنه يشترط في تحمل العاقلة أن يكون العقل غنيًّا. من فوائد الحديث: أنه لا قصاص على الغلمان وذلك لعدم التكليف وقد مر علينا أن من شرط القصاص أن يكون الجاني بالغًا عاقلًا. ومن فوائده: على أحد الاحتمالين أن العاقلة تحمل عمد الصبي. ومن فوائده: إذا كانت العاقلة فقراء فإنه لا شيء عليهم أما على الاحتمال الثاني أنه قطع أذنه دفعًا لصوله أنه يفيد أن من قطع أذن شخص أو قتله دفاعًا عن نفسه فإنه لا شيء عليه وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن جاء يطلب مال الشخص قال: "لا تعطه" قال: أرأيت إن قاتلني، قال: "قاتله"، قال: أرأيت إن قتلني، قال: "فأنت شهيد". قال: أرأيت إن قتلته. قال: "هو في النار". وهذا يدل على أن دمه هدر؛ أي: دم المقتول، ولكن يجب أن نعلم أنه لا يجوز أن يرتقي إلى شيء وهو يتمكن من الدفاع بما هو أسهل فإذا كان يمكن الدفاع بالضرب على الأشياء التي تجعله يغمى عليه فإنه لا يجوز قتله وإذا أمكن دفع شره بوثاقه فإنه لا يجوز قتله وإذا أمكن دفع شره بحبسه في حجرة أو غيرها فلا يجوز قتله المهم أن يستعمل في حقه الأسهل فالأسهل فإذا لم يندفع إلا بالقتل فإنه يقتل ولكن إذا خاف أن يبدره بالقتل أي أن المصول عليه خاف أن الصائلة يبادره بالقتل فحينئٍذ له أن يبدأ بالقتل لأنه في هذه الحال لا يمكن دفع شره إلا بمبادرة القتل. فإن قال قائل: كيف تجيبون عما إذا رأى الرجل شخصًا يزني بأهله فإنه يجوز أن يقتله بدون إنذار؟ قلنا: إن هذا ليس من باب دفع الصائل ولكنه من باب عقوبة المعتدي ونظيره أن من اطلع عليك من شقوق الباب فإنه يجوز أن تفقأ عينه بدون إنذار لأن هذا من باب عقوبة المعتدي وليس من باب دفع الصائل فإن قيل: إذا نفي أولياء المقتول أن قتيلهم قد صال على القاتل وقالوا إنه لم يصل عليه فهل تقبل قول القاتل إنه قتله دفاعًا عن نفسه؟ الجواب: لا، لأن القتل ثبت ودعوى أنه كان دفاعًا عن النفس يعتبر دعوى جديدة والبينة على المدعي واليمين على من أنكر ولو أننا قبلنا مثل هذه الدعوى لكان كل من أراد أن يقتل شخصًا 1 ذهب فقتله ثم قال: إنني قتلته دفاعًا عن النفس وهذا هو المشهور من المذهب وعلى هذا فإذا قتل القاتل المدافع عن نفسه الذي ليس عنده بينة فإنه يكون في هذه الحال مأجورًا على ما حصل من قتله ومئابًا

ترك القصاص في الجروح قبل البرء

عند الله وقال بعض العلماء بل ينظر للقرائن فإذا كان المقتول معروفًا بالشر والفساد أو قد سبق منه تهديد للقاتل فإن دعوى القاتل أنه مدافع دعوى صحيحة لأن كونه يتهدده، بالقتل أو يتحدث إلى الناس بأنه سيقتل فلانًا يدل دلالة واضحة على أنه هو القاتل وكذلك إذا عرف أن القاتل رجل مستقيم الدين بعيد عن العدوان، وأن هذا صاحب شرٍّ معروف بالعدوان ولاسيما إن قتله في بيته -بيت القاتل- فهذه قرينة واضحة تدل على صدقه فيحكم ببراءته وأنه لا شيء عليه وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الأصح. ترك القصاص في الجروح قبل البرء: 1121 - وعن عمرو بن شعيٍب، عن أبيه، عن جدِّه رضي الله عنه: "أنَّ رجلًا طعن رجلًا بقرٍن في ركبته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني. فقال: حتَّى تبرأ. ثمَّ جاء إليه. فقال: أقدني، فأقاده، ثمَّ جاء إليه. فقال: يا رسول الله، عرجت، فقال: قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتصَّ من جرٍح حتَّى يبرأ صاحبه". رواه أحمد، والدَّارقطنيُّ، وأعلَّ بالإرسال. القرن معروف قرن الماعز أو غيره، طعنه أي ضربه بهذا القرن في الركبة ومعروف أن الركبة في بعض مواضعها طعنها يكون سبب لعرج الركبة، ومعنى أقدني، يعني: خذ لي القود من هذا الذي ضربني فقال النبي صلى الله عليه وسلم حتى تبرأ، يعني: انتظر حتى تبرأ من أثر هذه الطعنة ثم جاء إليه فقال ... إلخ. وقوله: "فأقاده" يعني: اقتص له من الذي طعنه وبماذا اقتص؟ اقتص بقول الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} أي: أنه طعن هذا الطاعن رجلًا بقرن أو ما يقوم. مقامه في ركبته ثم جاء المطعون فقال يا رسول الله عرجت؛ أي: من طعن هذا الرجل؟ فقال: "قد نهيتك فعصيتني" أين النهي؟ قوله: "حتى تبرأ" لأن تقدير الحديث: لا أقيدك حتى تبرأ فأبعدك الله يحتمل أن يكون خبًا ويحتمل أن يكون دعًاء فإن كان دعًاء فإنه مشكل حيث يدعو عليه النبي صلى الله عليه سلم بهذا الدعاء مع أنه أجابه إلى طلبه فأقاده وإن كان خبرًا فالمعنى أن الله أبعدك أي أبعدك حكمًا أي أنك لا تدرك على هذا الجاني شيئًا الآن لأنك استقدت قبل أن تبرأ وبطل عرجك أي بطل قود عرجك ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح، يعني: أن يجرح الجارح حتى يبرأ المجروح لماذا لأجل أن تعرف الغاية وهل تسري الجناية أو لا تسري وحين يستقر الواجب إما بدية أو قصاص؟

فيستفاد من هذا الحديث: جواز القصاص فيما دون النفس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد هذا الرجل لكن اشترط العلماء لجواز القصاص فيما دون النفس أن يكون المقتص منه فيما دون النفس يقتص منه في النفس وعلى هذا فالشروط السابقة في القصاص لابد أن تتوافر في القصاص فيما دون النفس، فلا يقتص من مسلم لكافر ولا من حر لعبد ولا من والد لولده ولا من صغير، يشترط أيضًا زيادة على ما سبق أن يمكن الاستيفاء فإن كان لا يمكن بأن جرحه في موضعه لا يمكن في القصاص، فإنه لا قصاص مثل الجرح في البطن فإن هذا الجرح لا ينتهي إلى عظم وليس له مفصل يمكن أن يقتص منه، ومثل قطع اليد من نصف الذراع فإنه لا يمكن القصاص لأنه لو قدرناه بمساحة، فقد تكون ذراع الجاني أطول أو بالعكس فلا يمكن القصاص، وما ذكره الأصحاب في مثل هذه الأمور واقع في زمنهم، أما في زماننا اليوم فإنه يمكن القصاص تمامًا حتى فيما إذا كان في غير مفصل أو إذا كان الجرح ينتهي إلى عظم، وعلى فهذا فيقاس الجرح الذي في البطن ويقتص من بطن الجاني بمثل ما جنى على هذا الذي جنى عليه، وكذلك إذا كان القطع من نصف الذراع فإنه يمكن القصاص فيه بماذا؟ بالنسبة وليس بالمساحة؛ لأن ذراع الجاني قد تكون قصيرة فإذا اعتبرناها بالمساحة وكان نصف ذراع المجني عليه يساوي ثلثي ذراع الجاني فنكون زدنا، فيعتبر ذلك بالنسبة ويشترط أيضًا للاستيفاء فيما دون النفس ألا يتعدى غير الجاني مثل أن يكون على حامل أو يخشى أن هذا يموت إذا اقتص منه فحينئٍذ لا يمكن القصاص. ومن فوائد الحديث: أنه يجب الانتظار حتى يبرأ جرح المجني عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. ومن فوائده: أن سراية الجناية إذا كان القصاص قبل البرء غير مضمونه دليله قول النبي صلى الله عليه وسلم بطل عرجك، فإن سرت الجناية قبل أن يقتص فإنها مضمونة، مثاله: رجل جرح شخصًا في ركبته ثم سرى الجرح حتى صار الرجل أعرج فإنه تضمن هذه السراية إلا أن يقتص قبل البرء فإنها لا تضمن. مثال آخر: رجل قطع أصبع رجل ثم إن الجرح تعفن وسرى إلى اليد ثم سرى إلى النفس فمات فهل يقتص من الجاني بالموت يقتل أو نقول يقطع أصبعه فقط؟ الجواب: الأول لأن سراية الجناية في النفس فما دونها مضمونة بشرط ألا يقتص قبل البرء فإن اقتص قبل البرء بطلت السراية، وهاهنا قاعدة هي سراية الجناية مضمونة؛ والعلة في ذلك أن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، يعني: لو أننا انتظرنا فيمن قطع أصبعه حتى برأ الأصبع ثم اقتصصنا من الجاني فسرت الجناية

الجناية على الحمل

إلى النفس ومات الجاني فإنه لا ضمان على المجني منه وذلك لأن اقتصاص فعل جائز شرعًا وما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وهذه قاعدة مفيدة إلا في هذه المسألة وهي ما إذا اقتص قبل البرء فإن سراية الجناية لا تكون مضمونة. ومن فوائد الحديث: بيان الآثار السيئة التي تترتب على معصية الشرع وذلك أن هذا الرجل تعجل وعصى النبي صلى الله عليه وسلم فكانت آثار معصيته سيئة حيث إنه بطل عرجه، ولو أنه انتظر حتى يبرأ لكان أسلم له لأنه إذا برأ عرف منتهى هذه الجناية واقتص منه بحسبها. ومن فوائد الحديث: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في تأخير القصاص حتى يبرأ وما هي الحكمة؟ هي أننا ننظر هل تسري هذه الجناية؟ لأنها قبل البرء مجهولة قد تسري وقد لا تسري فهذا كان من الحكمة أن يؤجل حتى يبرأ أو حتى تسري الجناية ويؤخذ بحسبها. الجناية على الحمل: 1122 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "اقتتلت امرأتان من هذيٍل، فرمت إحداهما الأخرى بحجٍر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ دية جنينها. غرَّةٌ؛ عبٌد أو وليدٌة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورَّثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النَّابغة الهذليُّ: يا رسول الله، كيف يغرم من لا شرب، ولا أكل، ولا نطق، ولا استهلَّ، فمثل ذلك يطلُّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهَّان؛ من أجل سجعه الَّذي سجع". متَّفٌق عليه. قوله: "اقتتلت" مأخوذ من الاقتتال وهو المضاربة وما أشبه ذلك، "فقتلت المرأة" المضروبة "وما في بطنها" فإن الجنين خرج ميتًا فرفعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الخصومة في هذه القضية لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الحاكم بشريعة الله- سبحانه وتعالى-، والجنين هو الحمل وسمِّي بذلك لأنه مجتٍن أي مستتر في بطن أمه فلذلك سمِّي جنينا قال الله تعالى: {وإذ أنتم أجنٌة في بطون أمهاتكم}، أي جمع جنين وكل شيء مستتر فإنه يسمى بهذا الاسم أجنة والجن مستترون والجنة: البستان الكثير الأشجار لأنه يستر من فيه والجنة التي يتترس بها المقاتل عند القتال لأنها تسترها يقول: "إن دية الجنين غرة عبد أو وليدة"، "عبد" عطف بيان لغرة، والغرة في الأصل هي البياض في مقدم الفرس وتطلق الغرة على العبيد والإماء لأنهما غرة المال وأفضل المال فهم أفضل من الإبل

والمواشي والدراهم والدنانير، ولهذا سمِّي العبيد والإيماء غررًا وقوله: "عبد" ووليدة تفسير لقوله: "غرة" و"أو" هنا الظاهر أنها للتخيير وليست للشك، فيخير من عليه الغرة بين هذا وهذا، وقضى بدية المرأة على عاقلتها قضى بدية المرأة المقتولة على عاقلة المرأة القاتلة، والدية هي ما يجب بإزهاق النفس المحترمة وهي مائة من الإبل، هذا هو الأصل، أو ما يقوم مقامها من البقر والغنم والدراهم والدنانير وقد سبق بيان ذلك وقوله "على عاقلتها" جمع عاقل، وهم ذكور العصبة من ولاء أو نسب وسمّوا عاقلة لأنهم يأتون الإبل التي هي الدية ويعقلونها عند باب أهل القتيل هذه عادتهم في الجاهلية فسموا عاقلة من عقل الإبل وورثها ولدها ومن معهم ورثها؛ أي: ورث الدية ولدها أي ولد المقتولة ومن معهم وهو زوجها لأن الدية عوض عن النفس فإذا كانت عوضًا عن النفس فإنها تنتقل مع مال المقتول كما أن مال المقتول يرثه ورثته، فكذلك الدية تعتبر من المال فقال: "حمل ابن النابغة الهذلي كيف يغرم من لا يشرب ولا أكل؟ ! " يشير إلى الجنين لأن الجنين الذي سقط ميتًا فيقول: "كيف يغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق؟ " يعني: بلسانه، "ولا استهلَّ"، أي: لم يبك "فمثل ذلك يطل" أي: يهدر ولا يكون له قيمة، لأنه ليس بحي؛ حيث إنه لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فلا يكون له قيمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا" المشار إليه حمل ابن النابغة من إخوان الكهان أي من نظرائه كما قال تعالى: {إنَّ المبذّرين كانوا إخوان الشياطين}، ليس معناه كانوا إخوان الشياطين في النسب؛ لأنهم ليس بينهم وبين الشياطين نسب لكنهم من أشباه الشياطين، فقوله: "من إخوان الكهان"، أي: من نظرائهم وأشباههم، لأن الكهان يستعملون السجع في تذييل كلامهم ليموهوا به على الناس، والكهان جمع كاهن وهو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وكان الكهان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كثيرين تنزل عليهم الشياطين بخبر السماء فيصدقون خبرًا واحدًا صادقًا ويكذبون معه مائة كذبة ثم إذا جاء الخبر الصادق من هذه المائة كذبة اعتبرهم الناس من علماء الغيب فصاروا يرجعون إليهم، فكانوا إذا كلموا الناس يكلمونهم بالسجع تذييلًا للكلام لأنه لا شك أن السجع يزين الكلام ويعطيه حلاوة وطلاوة، هنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن دية الجنين غرة وأما دية المقتولة فهي دية كاملة دية الحر المسلم مائة من الإبل ودية المرأة الحرة المسلمة خمسون من الإبل. ففي هذا الحديث فوائد: منها: بيان ما يكون بين الضرتين من العداوة والبغضاء وإيغار الصدور؛ لأن هاتين المرأتين كانتا تحت رجل واحد زوجتين له، وهذا أمر معلوم فطري أنه يكون بين الزوجتين من العداوة والبغضاء وإغارة الصدور ما هو معلوم حتى إن كمل النساء لم يسلمن منه- زوجات النبي صلى الله عليه وسلم- ومنها أن الغيرة قد تؤدي إلى القتل كما هنا.

ومن فوائد الحديث: أن القتل بالمثقل لا يوجب القصاص لأن الذي يوجب القصاص هو الذي يكون جارحًا أما ما قتل بثقله فإنه لا يوجب القصاص وإلى هذا ذهب أبو حنيفة رحمه الله وقال إن الآلة إذا كانت لا تجرح فليس فيها قصاص ولو كانت ثقيلة ولو كانت تقتل وأنه يشترط في القصاص أن يكون بجارح ولكن جمهور العلماء على خلافه على أن القتل يكون بكل آلة تقتل غالبًا ولا فرق بين الجارح وبين المثقل. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأن الحجر الذي أرسلته على هذه المرأة حجر ثقيل لا يقتل غالبًا لكنه أصاب بطنها فأجهضت وماتت بسبب الإجهاض في غير وقته وما ذهب إليه الجمهور أقرب إلى الصواب، لأن العلة واحدة وهي أن الآلة تقتل غالبًا سواء كانت جارحة أو غير جارحة. ومن فوائد الحديث: أن دية الجنين غرة عبد أو وليدة والمخير في ذلك من يغرم وهو القاضي فإذا أتى بعبد لزم أولياء الجنين قبوله وإذا أتى بأمة لزمهم قبوله ولكن إذا لم توجد الأمة أو العبد فإنه يرجع إلى خمس من الإبل يعطي أولياء الجنين خمسًا من الإبل عشر دية الأم، فإن لم يوجد إبل فإنهم يعطون قيمة الإبل إن قلنا: إن الإبل هي الأصل في الديات وإلا يعطون عشر دية الأم من البقر ومن الغنم ومن الدراهم والدنانير، وقد سبق أنها من البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة فيكون من البقر دية الجنين عشرة وتكون من الغنم مائة وهنا ينبغي أن نبين الأقسام الجنين الذي يموت بجناية على أمه ينقسم إلى أقسام: الأول: أن يموت معها أي تموت وهي وولدها قبل أن يخرج فهذا لا شيء فيه، وإنما الدية في الأم أما هو فلا دية له لأنه كعضو من أعضائها. الثاني: أن يخرج حيًّا فيستهل ويعطس ويشرب ثم يموت متأثرًا بالجناية ففيه دية كاملة إن خرج بوقت يعيش لمثله هو ما بعد ستة أشهر، يعني: إنسان دفع امرأة حاملًا ولجنينها سبعة أشهر فسقط الجنين حيًّا حياة مستقرة ثم مات فعليه دية كاملة لأنه قتل نفسًا فيلزم الجاني دية كاملة. الثالث: أن يخرج ميتًا. الرابع: أن يخرج حيًّا في وقت لا يعيش في مثله ويموت ففي هذه الحال يكون فيه غرة وكل هذا في جنين نفخت فيه الروح. فالأقسام أربعة أما إذا خرج قبل نفخ الروح فيه، فإن كان قد تبين فيه خلق الإنسان ففيه غرة، إذا خرج وإن ماتت الأم فلا شيء كما هو الحال فيما إذا كانت قد نفخ فيه الروح وإذا خرج قطعة لحم ولم يتبين فيه خلق الإنسان فليس فيه شيء، لأننا لا نتيقن أنه بدأ خلق آدمي،

وإذا لم نتيقن أنه بدأ خلق آدمي فالأصل براءة الذمة ولا يجوز فيه شيء، فصارت الأقسام أربعة بعد نفخ الروح وقسمان قبل نفخ الروح فيه بقي علينا الكفارة في الأقسام الأربعة التي حصل فيها الموت بعد نفخ الروح فيه إلا إذا مات مع أمه فإنه لا كفارة فيه ولا دية؛ لأنه صار جزءًا من أجزائها ولا تجب الكفارة في القسمين الآخرين وهي ما إذا خرج قبل نفخ الروح فيه لأن الكفارة إنما تجب في القتل وهنا لم يحصل قتل لأن القتل أزهاق الروح وهذا لم ينفخ فيه الروح حتى يتحقق فيه القتل فإذا سألنا سائل وقال خرج الجنين حيًّا حياة مستقرة لوقت يعيش بمثله وبقي زمنًا غير متألم صحيحًا شحيحًا ثم مات فهل يضمن؟ الجواب: لا يضمن لأننا لم نتحقق أن موته بسبب الجناية والأصل براءة الذمة، وكما لو علمنا أنه مات بسبب آخر فإنه بالاتفاق ليس فيه ضمان مثل أن يدعس هذا الجنين أو يوطأ فيموت بالسبب الثاني فإنه ليس في الأول ضمان لأنا تيقنا أنه مات بهذا السبب الثاني- هذه هي أقسام الجنين. ومن فوائد الحديث: وجوب الدية على العاقلة، ولكن ما هي الدية التي تجب على العاقلة هي دية الخطأ وشبه العمد، أما العمد فتجب الدية فيه على القاتل، فإذا قتل رجل آخر قتلًا عمدًا ثم عفى أولياء المقتول عن القصاص وجبت الدية على القاتل لا على عاقلته، وإذا قتل خطأ أو شبه عمد فالدية على العاقلة والفرق هو أن المتعمد ليس أهلًا للمساعدة ولا للإعانة فلزمته الدية، أما الخطأ وشبه العمد فإنه يقع كثيرًا، والإنسان لم يتعمد القتل فكان أهلًا للمساعدة والإعانة فكانت الدية فيه على العاقلة، ولكن كيف تحمل العاقلة؟ نحملهم بقدر حالهم فالغني الكبير يحمل أكثر من الغني الذي دونه والفقير لا يحمل شيئًا فيحمل كل إنسان ما يليق بحاله ومن الذي يقدر أحوال الناس ويقدر ما يحملونه؟ هو الحاكم الشرعي فهو الذي يقدر أحوال الناس ويقدر ما يحمله كل واحد وليست المسألة فوضى. ومن فوائد الحديث: حسن أحكام الشريعة حيث تنزل كل إنسان منزلته وجه ذلك كون العمد يحمله القاتل والخطأ وشبه العمد تحمله العاقلة. ومن فوائد الحديث: أن الدية مال موروث يرثه أولياء المقتول حسب الميراث الشرعي، وإذا جعلناها مالًا موروثًا فإن الثلث بحسب منها فإذا أوصى شخص بوصية ووجدنا عنده من

المال ثلاثمائة ألف وهو قد أوصى بالثلث فكم يكون ثلثه؟ مائة ألف، فإذا انضافت الدية إليه وهي مائة ألف صار الثلث مائة وثلاثًا وثلاثين ألفًا وثلثًا، المهم انه يضاف ما يؤخذ من الدية إلى مال الميت المقتول وتؤخذ منه الوصية وكذلك توزع بين الورثة. السجع نوعان: جائز ومحرم: ومن فوائد الحديث: ذمُّ السجع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هو من إخوان الكهان" ولكن السجع الذي يذم هو الذي يأتي بتكلف أو يقصد به إثبات باطل أو إبطال حق والأول مذموم والثاني محرم لأن إثبات الباطل حرام وإبطال الحق حرام وما كان وسيلة لذلك فللوسائل أحكام المقاصد، أما إذا كان السجع يأتي عفوًا وبدون تكلف ولا يراد به إبطال حق ولا إثبات باطل فإنه حسن وهو من الفصاحة والبلاغة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسجع في أحاديثه أحيانًا مثل قوله صلى الله عليه وسلم "قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق" وكذلك يوجد السجع في القرآن كثيرًا. قال الله - تبارك وتعالى -: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان}، فتجد أنه لما قال: {والأرض وضعها للأنام} وكان آخر الآية الميم قال بعدها: {والنخل ذات الأكمام} بالميم لتناسب الآية ما قبلها فالسجع لا شك أنه يعطي الكلام حلاوة وطلاوة ويجب الاستمتاع إليه، فإذا جاء من غير تكلف فلا بأس به. ومن فوائد الحديث: جواز توبيخ من عارض الحق لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هو من إخوان الكهان". ومن فوائد الحديث: أن الكهان يأتون بزخرف القول غرورًا من اجل أن يقبل الناس كلامهم ويستمعون إليه حينما يأتون بالسجع. وهل يؤخذ من الحديث أنه إذا سقط ميتًا فإنه لا يضمن لقوله: "من لا شرب ولا أكل ... ز الخ؟ " لا يؤخذ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رده ولم يقره على ذلك فدل ذلك على أن الجنين يضمن بالغرة وإن لم ينطق ولم يستهل ولم يشرب ولم يأكل. * * *

العفو عن الجناية

1123 - وأخرجه أبو داود، والنسائي: من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن عمر رضي الله عنه سأل من شهد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين؟ قال: فقام حمل ابن النابغة فقال: كنت بين يدي امرأتين فضربت إحداهما الأخرى ...... ". فذكره مختصرًا وصححه ابن حبان، والحاكم. ما الذي يتعلق بالجنايات من هذا الحديث؟ يتعلق به ضمان الجنين وأن ديته غرة ويتعلق به أيضًا أن دية شبه العمد أو الخطأ تكون على العاقلة. العفو عن الجناية: 1124 - وعن أنس رضي الله عنه: "أن الربيع بنت النضر- عمته - كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو، فأبوا، فعرضوا الأرش، فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس، كتاب الله: القصاص، فرضي القوم، فعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره". متفق عليه، والفظ للبخاري. "عمته" هنا عطف بيان صلة هذه المرأة بأنس، والعمة هي أخت الأب وقوله: "جارية"، يعني: شابه، هي لما كسرت ثنية الجارية طلبوا من أهلها أن يعفوا، ولكن أبوا قالوا: فالأرش، يعني: قيمة السن فأبوا إلا القصاص والقصاص أن يكسر سن الربيع {والسن بالسن} كما قال الله عز وجل فقام أنس بن النضر فقال: "أتكسر ثنية الربيع؟ " استفهام استعظام، يعني: كسر ثنيتها عظيم؛ لأنها أخته وهي غالية عنده، فقال: "لا والذي بعثك بالحق لا تكسر" فأقسم ألا تكسر وليس مراده الاعتراض على حكم النبي صلى الله عليه وسلم لكنه أراد التفاؤل وأحسن الظن بالله، حيث ظن أن الله تعالى سيجعل لها فرجًا ومخرجًا، وإلا من المعلوم أنه لو كان قصده الامتناع والاعتراض والإباء عن تنفيذ حكم الله ورسوله لكان على خطر عظيم ولما أبره الله عز وجل لكن مراده التفاؤل وإحسان الظن بالله ع وجل والثنية هي أحد السنين المتلاصقين في وسط الأسنان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس كتاب الله القصاص"، يعني: أن الله تعالى كتب القصاص {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن}، يعني: أن الله تعالى كتب القصاص فإذا طلبه من له الحق وجب تنفيذه ولما قال له هذا اقتنع واستسلم فيسر له عز وجل فعفا أولئك القوم، وهذا يأتي دائمًا أن الله سبحانه ينزل الفرج عند الشدة كما أنزل

الفرج عند الشدة في قصة الذبيح إسماعيل بن إبراهيم - عليهما الصلاة والسلام -، يعني: لما لم يبق إلا التنفيذ جعل الله في قلوبهم الرأفة والرحمة فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد .. الخ"، "عباد الله" جمع عبد، والمراد بالعبودية: العبودية الخاصة وهي عبودية الشرع؛ وذلك أن العبودية تنقسم إلى قسمين: عبودية الكون- القدر- وهذه عامة لكل أحد ومنها قوله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا أتي الرحمن عبدًا} [مريم 93]. وهذا يشمل الكافر والمؤمن وعبودية خاصة وهي عبودية الشرع التي يخضع فيها الإنسان لشرع الله عز وجل مثل قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا} [الفرقان: 63] وهذه تنقسم إلى ما هو أخص من الخاصة وما هو خاص على سبيل العموم فالرسل - عليهم الصلاة والسلام- عبوديتهم لله هي أخص العبادات أو أخص التعبد قال الله- تبارك وتعالى- في نوح- عليه الصلاة والسلام-: {إنه كان عبدًا شكورًًا} [الإسراء: 3]. وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] يقول: "إن من عباد الله" هذه من الخاصة، وقوله: "من لو أقسم"، "من" هذه اسم إن؛ يعني: الذي، وخبرها مقدم، ومعنى "من لو أقسم على الله"؛ أي: حلف على الله أو ألا يكون هذا الشيء، "لأبره"؛ أي: لو في له - سبحانه وتعالى - بالقسم، وقوله: "إن من عباد الله" لا يشمل جميع العباد، بل منهم هذا الحديث ومناسبته لكتاب الجنايات القصاص في السن. وفيه فوائد منها: ما يجري بين الصبيان والصغار من المناوشات التي قد تؤدي إلى مثل هذه الحال إلى الكسر، كسر السن، كسر الذراع كسر الأصبع، وهذا مما يوجب لفت النظر لأولياء الصغار بحيث يحذرونهم من هذه الأعمال ويدرسونهم إذا جلسوا معهم على العشاء وغيره يحذرونهم من هذه الأشياء. ومن فوائد الحديث: أن الخيار في القصاص أو الدية أو العفو لمن وقعت عليه الجناية لا لمن وقعت منه، وجه ذلك: أنهم طلبوا منهم العفو والأرش وأبوا إلا القصاص فالخيار إذن للمعتدي عليه لا للمعتدي. ومن فوائد الحديث: جواز طلب العفو من المجني عليه وأن هذا لا يدخل في المسألة المكروهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر هؤلاء حين طلبوا العفو. ومن فوائد الحديث: أن الحق لولي الصغير وجه ذلك قوله فطلبوا إليهم العفو فأبوا فعرضوا الأرش فأبوا وهذا الذي يدل على أن الذي يتكلم هم أولياء هذه الصغيرة، وهذا أحد القولين في هذه المسألة أنه إذا وجب القصاص لصبي فإن المرجع في ذلك إلى أوليائه لما في هذا من تعجيل الحق وأخذ الحق، وقال بعض العلماء: إذا وجب القصاص لصغير فإنه ينتظر إلى أن يبلغ لأنه هو المجني عليه فينتظر إلى أن يبلغ ثم إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا، لكن هذا الحديث يدل على أن الأولياء لهم الحق في ذلك.

هل يجوز للإنسان أن يحلف على الله ألا يفعل شيئًا؟ ومن فوائد الحديث: جواز إقسام الإنسان على الله إذا كان الحامل له على ذلك التفاؤل وإحسان الظن بالله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أنس بن النضر وأما إذا كان الحمل له التألي على الله أو تحجر رحمته فإن ذلك لا يجوز ويدل على هذا قصة الرجل العابد الذي كان يمر برجل عاص فينهاه عن المعصية كلما مر به وهو على المعصية نهاه ولكنه مستمر في معصيته فقال الرجل العابد والله لا يغفر الله لفلان قال ذلك إعجابًا بعمله هو وتأليًا على الله وتحجرًا لرحمته فقال الله عز وجل من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان قد غفرت له وأحبطت عمله وهنا نعرف الفرق بين إنسان يحمله حسن الظن بالله والتفاؤل على الإقسام على الله وبين شخص يريد أن يتألى على الله وأنه فوق الله وأنه يريد أن يتحجر رحمه الله وأنه معجب بعمله فهذا لا يستحق أن الله يبر بقسمه. ومن فوائد الحديث: جواز القسم بمثل هذه الصيغة - والذي بعثك بالحق - وذلك لأن الذي بعثه بالحق هو الله وهذا قسم بصفة من صفات الله عز وجل أو قسم بفعل من أفعال الله والقسم بصفة من صفات الله أو فعل من أفعاله جائز، وأما القسم بغير الله فإنه لا يجوز، فإن أقسم بغير الله هل ينعقد اليمين؟ لا تنعقد بل يكون آثمًا وعليه التوبة فلو قال مثلًا والنبي لا أفعل ذا ففعل فإنه لا كفارة عليه ولكن عليه أن يتوب وإنما قلنا لا كفارة عليه لأن الفعل المنهي عنه لا يترتب عليه أثره لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" أي: مردود عليه. ومن فوائد الحديث: أن ما كان شرعًا لغيرنا فهو شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" فنحن لا نرى في القرآن الكريم شيئًا من القصاص في السن وشبهه وإنما في {والجروح قصاص} لكن السن إنما ذكر فيما كتب على بني إسرائيل {والسن بالسن}. ومن فوائد الحديث: إثبات القصاص في السن، وهذا إذا خلع فالأمر فيه واضح والمكافأة فيه واضحة، فإذا خلعت الثنية وخلع من الآخر الثنية فإنه واضح أننا أخذنا ثنية بثنية، ولكن إذا كسرت الثنية كسرًا فهل في هذه الحال يجوز القصاص أو لا؟ المشهور عند الفقهاء أنه لا يجوز القصاص وذلك لأنه لا يمكن القصاص في هذه الحال فمن الذي يضبط محل الكسر مقدار الكسر نسبة الكسر ولكن الصحيح أنه إذا أمكن فإنه يجوز القصاص ويكون بالنسبة لا

بالحجم، وهل يقاس على السن ما سواه من العظام؟ الجواب: نعم على القول الراجح يقاس إذا أمكن القصاص وإذا لم يمكن فلا. ومن فوائد الحديث: أن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره وهذا محمول على ما إذا كان الحامل له على القسم حسن الظن بالله عز وجل والتفاؤل. ومن فوائد الحديث: أن من عباد الله من يقسم على الله ولا يبره لقوله من عباد الله و "من" للتبعيض. ومن فوائد الحديث: إثبات سمع الله عز وجل لأنه لم يبره إلا إذا سمع قسمه. ومن فوائد الحديث: أن الله سبحانه عند حسن ظن عبده به فإذا أقسم الإنسان على ربه محسنًا الظن به فإن الله سبحانه قد يعطيه ما ظنه به. وهل يؤخذ من الحديث الحث على الإقسام على الله؟ لا، لا يؤخذ لأن قوله: "إن من عباد الله" تدل على التبعيض، فلا يعلم هل هذا الذي أقسم على الله من هؤلاء الذين أراد الله أن يبر قسمهم أو لا، وعلى هذا فلا ينبغي للإنسان أن يقسم على الله إلا إذا قرنه بالمشيئة. ومن فوائد الحديث: أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله، وجه ذلك: أن أهل الجارية كانوا مصممين على القصاص، فلما أقسم هذا الرجل الصالح أبره الله عز وجل فصرف قلوبهم فرضي القوم وعفوا. ففيه دليل على أن القلوب بيد الله عز وجل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل قلب من قلوب بني آدم فهو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء. ومن فوائد الحديث: إثبات القدرة لله عز وجل لقوله: "لأبره"، غير الله عز وجل إذا اقسم عليه الإنسان هل من حقه أن يبره؟ نعم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من حق المسلم على أخيه أن يبر قسمه إلا كان في ذلك ضرر على المقسم أو المقسم عليه فإنه لا يلزم بل إذا كان فيه ضرر على المقسم فإنه يمتنع أو يحرم عليه أن يجيبه، فلو قال شارب الدخان لشخص: أقسم بالله عليك أن تعطيني عشرة دراهم أشتري بها عبوة دخان، هل من حقه أن يبر قسمه؟ لا؛ لأنه يعينه على الإثم والعدوان كذلك لو أقسم على شخص في شيء يضره الإخبار عنه، مثل أن يقول له: والله لتخبرني ماذا تفعل في بيتك مما يكون بينك وبين أهلك؟ أو: والله لتخبرني ما مدى صلتك بأبيك أو ما مدى محبة أبيك لك أو ما أشبه هذا؟ فإنه لا يلزمه أن يبر بقسمه، بل في مثل هذه

الجناية على النفس وأنواعها

الحال أن ينصح المقسم ويقول إن هذا يدل على عدم حين إسلامك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". الجناية على النفس وأنواعها: 1125 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل في عميًّا أو رميًّا بحجر، أو سوط، أو عصًا، فعقله عقل الخطأ، ومن قتل عمدًا فهو قود، ومن حال دونه فعليه لعنة الله". أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه بإسناد قوي. قوله: "من قتل في عميًّا"، العمي مأخوذ من العمى وهو أن يحصل قتال بين الناس ولا يدري ما وجهه القاتل لا يدري فيما قتل والمقتول لا يدري فيما قتل هذه قتل العمية، والرمي يعني: أناس تراموا لا بقصد أن يقتل بعضهم، ولكن وقعت رميات فقتل احدهم وقوله "أو سوط"، والسوط عبارة عن جلد مفتول يضرب به ويشبه ذيل البقرة، لكنه أدق "أو عصا" معروفة، "فعقله عقل الخطأ عقله"، يعني: ديته دية خطأ وليس فيه قود أما العمية والرمية فلعدم قصد القتل، وأما العصا والسوط فلأن الآلة لا تقتل فيكون حكمه حكم الخطأ وديته دية الخطأ وهي على المشهور من المذهب أخماس: عشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون من بني مخاض، يعني: ذكورًا ولكن مع ذلك الفقهاء - رحمهم الله - يفرقون في الدية بين شبه العمد والخطأ فيرون أن الدية في شبه العمد أرباعًا خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس عشرون بنات لبون، وخمس عشرون حقة، وخمس عشرون جذعة. في شبه العمد وفي الخطأ أخماسًا وفي العمد أرباعًا؛ وذلك أنهم يلينون هذا الحديث ولا يستدلون ب هاو يحملونه على أن المراد به بيان أن قتل شبه العمد ليس فيه قود فقط فيكون معنى ديته دية الخطأ: ضمانه ضمان الخطأ: بقطع النظر عن تغليظ الدية وعدم تغليظها، والدية ستأتي أنها أرباعًا في شبه العمد وأخماسًا في الخطأ على المشهور من مذهب الحنابلة وفيها خلاف سيأتي "ومن قتل عمدًا فهو قود عمدًا" بماذا؟ بآلة تقت ل غالبًا وإنما أضفنا هذا القيد لقوله: "إن من قتل بسوط أو عصا فعقله عقل الخطأ"، والسوط والعصا لا يقتل غالبًا، وعلى هذا فيكون معنى قوله: "من قتل عمدًا"؛ أي: بما يقتل غالبًا واختلف العلماء هل يشترط الجرح في هذا الذي يقتل غالبًا أولا؟ فمذهب أبي حنيفة أنه لابد أن يجرح وأن القتل بالمثقل لا يوجب القصاص، والجمهور على خلاف ذلك وأن القتل بالمثقل يوجب القصاص واستدلوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت القصاص في قصة اليهودي الذي رض الجارية

بين حجرين ولم يقتلها بجارحة وقوله: "فهو قود"؛ يعني: هذا الأصل ولأولياء القود أن يتحولوا إلى الدية، وهل لهم أن يصالحوا عنها بأكثر؟ في هذا قولان للعلماء فمنهم من قال: ليس لهم أن يصالحوا عنها بأكثر، بل يقال لهم: إما أن تقتلوا قصاصًا، وإما أن تأخذوا الدية، وقال بعض العلماء: لهم أن يصالحوا عن ذلك بأكثر؛ لأن الحق لأولياء المقتول، فإذا قالوا: لا نسقط القود إلا إذا أعطيتمونا عشر ديات وإلا فسنقتل، وهذا القول هو مذهب الإمام أحمد وهو أن الحق لأولياء المقتول، فإذا قالوا: لن نرضى إلا بدية مضاعفة مرتين أو ثلاثًا أو أربعًا فالحق لهم، "ومن حال دونه"؛ أي: دون القود. "فعليه لعنة الله"؛ يعني: من منع إجراء القصاص فيما يجب فيه القصاص فعليه لعنة الله، وهذه الجملة "فعليه لعنة الله" تحتمل أن تكون خبرًا وتحتمل أن تكون دعاء، فإن كانت دعاء فإن الذي يظهر أنه دعاء مقبول لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا به على ظالم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المشرع وهذا الظالم يريد أن يبطل شريعته فيكون بمنزلة المظلوم ودعاء المظلوم مستجاب ويقال أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع إلا وقد أذن له في ذلك، وإذا أذن الله في ذلك فإنه يستجيب له لقوله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60]. أما إذا كان خبرًا فالأمر واضح، يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن هذا عليه لعنة الله واللعنة هي الطرد، والإبعاد عن رحمة الله. في هذا الحديث فوائد منها: أن منق تل في عمية أو رمية فإن ديته دية الخطأ وذلك لأن هذا القتل لا يدري القاتل فيما قتل وربما لا تعلم عين القاتل أيضًا المسألة معماة قوم صار بينهم نزاع وتقاتلوا ووجد بينهم القتيل. ومن فوائد الحديث: أن القتل بما لا يقتل غالبًا لا قود فيه لقوله ومن قتل عمدًا فهو قود. ومن فوائده: إثبات القصاص في القتل وقد قال الله - تبارك وتعالى -: {يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة: 178]. وقال: {ولكم في القصاص حياة}، وقال المغيرون الذين يأخذون بالشرع المبدل لا بالشرع المنزل قالوا لا نقتل القاتل لأننا إذا قتلنا القاتل أفنينا نفسين وإذا أبقيناه لم يفن إلا نفس واحدة ولكن هذا من وحي الشيطان وزخرف القول غرورًا وإلا فإننا إذا قتلنا القاتل قتلنا نفسين لا شك لكن كما درأنا من نفس؟ عالم كثير ولهذا قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} وعلى هذا فتكون الحكمة هي عين إجراء القصاص، وأنه لابد منه. ومن فوائد الحديث: أن الحيلولة دون إجراء القصاص موجبة للعنة؛ لقوله: "ومن حال دون فعليه لعنة الله"، ويتفرع على ذلك أن يكون هذا من كبائر الذنوب؛ لأن كل ذنب رتبت عليه العقوبة الخاصة بلعن أو غيره فإنه من كبائر الذنوب.

الاشتراك في الجناية

الاشتراك في الجناية: 1126 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل الرجل، وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك". رواه الدارقطني موصولًا، وصححه ابن القطان، ورجاله ثقات، إلا أن البيهقي رجح المرسل. هذه المسألة تكون فيما إذا أمسك رجل شخصًا لآخر فأحدهما جان بالإمساك والثاني جان بالقتل. وفي هذا الحديث: أن الممسك يحبس، والثاني يقتل، إلى متى يحبس؟ يحبس إلى الموت لأنه حبس المقتول إلى أن مات فيحبس هذا الماسك إلى ان يموت ويقتل القاتل، ولكن لو عفا أولياء المقتول والممسك فهل يحبسان؟ لا، لا يتعرض لهما اللهم إلا إذا رأى ولي الأمر تعزيزهما حفظًا للأمن فهذا شيء يرجع غليه أما الحق الخاص الذي هو الضمان فهذا يرجع على أولياء المقتول إذا عفوا عن الممسك وعفوا عن القاتل فالحق لهم وقوله إذا أمسك الرجل وقتله الآخر يستثنى ما إذا توطأ على ذلك، يعني: اتفقا عليه وقال سنذهب إلى فلان ننتظره وفي الطريق ثم نقتله أنت أمسك والثاني يقتل فهذان يقتلان جميعًا لأنهما تمالأ على القتل فاشتركا في الإثم وقد قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في رجل قتله جماعة من أهل اليمن قال: لو اجتمع عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، وذلك لأنهم إذا اتفقوا صار كل واحد منهم قوة للآخر قد يكون لولاه لم يقتل فصار القتل مركب من قوة الجميع، ولهذا يجب قتل الجميع إذا تمالؤوا على قتله حتى ولو كان أحدهما ممسكًا والآخر قاتلًا بل حتى لو كانا أحدهما ينظر ويستر الناس، يعني: أنه ردء للقاتل، ولم يمسك لكنه ينظر هل جاء أحد أو لم يأت أحد فإنه يقتل؛ لأنه مالئ القاتل على القتل ولم يقدم القاتل على القتل إلا بقوته فصار شريكين في الضمان، وقوله: عقل الخطأ يكون على العاقلة كما هو معروف وهؤلاء القوم لا ندري من القاتل حتى نحمل عاقلته فقيل: إنه في بيت المال وأن معنى قوله فعقله عقل الخطأ أنه لا يكون العقل على القاتل وقيل: أنه يكون على من يختاره أولياء المقتول فيقال لهؤلاء الجماعة اختاروا من ترونه قتل صاحبكم ثم يحمل عقله وقيل: إنه يكون على الجميع كل يحمل من ذلك والحديث كما رأيتم يقول عقله عقل الخطأ والأصل أن عقل الخطأ يكون على العاقلة فيقال على عاقلة هؤلاء الدية، إلا إذا كان لا يمكن حصرهم فيكون في بيت المال، فأما إذا كان يمكن حصرهم فالدية على عواقلهم.

أما الحديث الثاني ففيه فوائد: منها: أنه إذا أمسك شخص شخصًا لآخر ليقتله فإنه يقتل القاتل لأنه مباشر ولا يقتل الممسك لأنه سبب والقاعدة الشرعية: أنه لو اجتمع سبب ومباشر أحيل الضمان على المباشر، إلا إذا كانت المباشرة مبنية على السبب فإنه يكون على السبب أو كان المباشر لا يمكن إحالة الضمان عليه فيكون على المتسبب وحينئذ نحتاج على هذه القاعدة إلى ثلاثة أمثلة: المثال الأول اجتمع مباشر ومتسبب فالضمان على المباشر كرجل حفر في الطريق حفرة فوقف عليها إنسان فجاء ثالث فدفعه في الحفرة فمن يضمن؟ الرافع لأنه مباشر والحافر لا ضمان عليه لكن الحافر يعذر إذا كان قد حفر في مكان لا يجوز الحفر فيه مما يستثنى من ذلك إذا كانت المباشرة مبنية على السبب فالضمان على المتسبب، مثال ذلك إذا شهد جماعة على شخص بما يوجب قتله ثم بعد أن قتل رجعوا، وقالوا: إننا تعمدنا قتله، لكننا لا نستطيع أن نقتله مباشرة فشهدنا عليه بما يوجب القتل فقتله ولي الأمر فالضمان هنا على المتسبب لأن قتل ولي الأمر مبني على شهادة الشهود فإذا رجعوا وقالوا نحن تعمدنا قتله لكن لم نجد وسيلة إلا هذا قلنا: عليهم القتل، المسألة الثانية مما يستثنى إذا كان المباشر لا تمكن إحالة الضمان عليه مثاله رجل قذف إنسانًا بين يدي الأسد فأكله الأسد فالضمان على الرجل الذي قذفه لا على الأسد؛ لأن الأسد لا يمكن إحالة الضمان عليه هذه القاعدة الشرعية ينظر فيها بالنسبة للممسك والقاتل الممسك سبب والقاتل مباشر فيكون الضمان على المباشر، فيقتل بشروط القصاص المعروفة المهم أنه فعل فعلًا يثبت به القصاص فيقتل القاتل وفي الحديث يقول بحبس الذي أمسك ولم يبن إلى متى فقيل إنه راجع إلى اجتهاد الإمام وقيل: يحبس إلى أن يموت وهذا هو المذهب عندنا لأنه أمسك المقتول إلى أن مات فيحبس هذا على أن يموت وهذا القول الذي دل عليه الحديث وهو مقتضى القواعد الشرعية لأنه إذا اجتمع سبب ومباشر فالضمان على المباشر، وقيل: يقتلان جميعًا لأنه لولا أنه أمسكه ما قدر ذاك على قتله فيقتل المباشر القاتل ويقتل الممسك ولكن هذا مرجوح إلا إذا تمالؤا على قتله اتفقوا قالوا: نقتل فلانًا قال ماذا نعمل؟ قال: أنا قوي شديد أمسكه وأنت أقتله فهنا يكون القصاص على المباشر والممسك لأنهما اتفقا على قتله بقي قسم ثالث إذا أمسكه مازحًا ولم يعلم أن صاحبه يريد قتله، يعني: أمسك اللص فامسكه فقتله فهل على الممسك شيء، ؟ الجواب: لا

قتل الجماعة بالواحد

شيء عليه لأنه لم يعلم أنه يريد قتله؛ فالأقسام إذن ثلاثة أمسكه واحد فقتله الآخر بممالأة على قتله فيقتل الجميع، أمسكه واحد لآخر ليقتله فهنا يقتل القاتل ويحبس الممسك، أمسكه واحد وقتله آخر لكن لم يعلم أنه يريد قتله يحسبه مازحًا فيقتل القاتل ولا يقال للممسك شيء. 1127 - وعن عبد الرحمن بن البيلماني: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلمًا بمعاهد، وقال: أنا أولى من وفى بذمته". أخرجه عبد الرزاق هكذا مرسلًا، ووصله الدارقطني، بذكر ابن عمر فيه، وإسناد الموصول واه. "واه" اسم فاعل وهي إذا ضعف أي إن إسناد الموصول واه وإسناد المنقطع أيضًا؛ واه لأنه فقد شرطًا من شروط الصحة وهو اتصال السند، وهذا الحديث جدير بأن يكون واهيًا في السند كما انه واه في المعنى إذ إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: "لا يقتل مسلم بكافر" ومن المعلوم أن هذا في المعاهد؛ لأن الحربي لا يحتاج أن يقال لا يقتل مسلم بكافر لأنه مباح الدم وعلى هذا فالحديث ضعيف سندًا وضعيف متنًا، فلا يقتل المسلم بالمعاهد، ولكن ماذا يصنع الإمام بالنسبة الذي قتل المعاهد؟ يعززه بما يرى أنه تعزيز له بحبس أو ضرب أو نفي أو أخذ مال أو حرمان من وظيفة؛ لأن التعزيز ليس له حد، التعزيز يرجع فيه إلى اجتهاد الإمام، وعلى الإمام أن يجتهد في التعزيز بكل ما يحصل به التأديب والردع وهو غير مقيد على القول الراجح بشيء معين. قتل الجماعة بالواحد: 1128 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "قتل غلام غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به". أخرجه البخاري. الغلام الصغير، غيلة فعلة من الاغتيال وهو إتيان الشيء على غرة فيقتله وهو آمن مثل أن يأتيه في فراشه فيقتله أو على طعامه فيقتله أو على مكتبه فيقتله قتل الغيلة نوع من أنواع القتل وهل يجري فيه التخيير أي تخيير الأولياء بين القصاص والدية والعفو؟ الجمهور على ذلك على أن قتل الغيلة يخير أولياء المقتول بين القصاص والدية والعفو مجانًا وقال الإمام مالك قتل الغيلة يجب يفه القصاص لأنه إخلال بالأمن إذ إنهم آمنون فإذا كان الناس يؤتون من

مأمنهم يمشي الإنسان في السوق فيأتي رجل فيقتله أو يأتيه على فراشه فيقتله أو في خيمته على فراشه فيقتله هذا إخلال بالأمن والأمر فيه راجع إلى الإمام، فإذا قال الإمام لابد أن يقتل يقتل، حتى لو قال أولياء المقتول هذا ابن عمنا نسمح له أو صديقنا يكفينا منه الدية فإنه لا خيار لهم وما ذهب إليه الإمام مالك رحمه له قوي جدًا أن قتل الغيلة لا خيار فيه وأن القاتل يقتل بكل حال ولو قيل بأن هذا يرجع إلى الإمام وأنه لو كثر قتل الغيلة وجب على الإمام القصاص وإذا كان قليلًا فيرجع في ذلك إلى أولياء القتيل لكان هذا قولًا وسطًا وهو وسط بين قول من يقول إن قتل الغيلة يجب فيه القصاص مطلقًا وبين قول من يقول إنه كغيره من أنواع القتل المهم أن عمر قتل فيه أربعة، وقال: "لو اجتمع عليه أهل صنعاء لقتلتهم به" ولنفرض أن أهل صنعاء في ذلك الوقت مائة نفر لو اجتمعوا عليه لقتلتهم "به" والباء هنا للبدلية أي: قتلًا مقابلًا لهذا القتل - هذا قول عمر أحد الخلفاء الراشدين وأرشدهم أبي بكر وهو الذي يأتي قوله: فيوافقه حكم الله عز وجل حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن يكن فيكم محدثون فعمر" أي مهملون للصواب فعمر، وقال صلى الله عليه وسلم "اقتدوا باللذين من بعيد: أبي بكر وعمر"، وقال: "عن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا". قال لو اجتمع عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، وعليه فنقتل الجماعة بالواحد بشرط التمالئ لأنه قال لو اجتمع عليه أهل صنعاء، يعني: تمالؤوا عليه فإذا اجتمع جماعة على قتل واحد قتلوا جميعًا المباشر وغير المباشر لأن قتل المباشر واضح وقتل الآخرين لأنهم سند له لولا أنهم أسندوه لكان يقدم أو لا يقدم لكنهم قووا عزمه وقتل، وعلى هذا فيقتل الجماعة بالواحد إن تملؤا على ذلك. زاد الفقهاء - رحمهم الله - أو لم يتمالؤوا لكن صلح فعل كل واحد لقتله، مثل: تسور عليه رجلان بدون ممالأة أحدهما شق جنبه الأيمن والآخر شق جنبه الأيسر فيقتل الرجلان؛ لأن فعل كل صالح للقتل لو انفرد. من فوائد الحديث: أن الجماعة تقتل بالواحد لكن يشترط في هذا أن يتمألوا على قتله، يعني: يتفقوا على قتله فيقولون سنقتل فلانًا أو يصلح فعل كل واحد لقتله لو انفرد، يعني: أن يكون فعل كل واحد مهلكًا لو انفرد وحده مثال الأول اتفق أربعة من الناس على أن يقتلوا فلانًا فحضروا إليه فقتله أحدهم، وأما الباقون فهم واقفون، أما أن يحرسونه وإما أنهم يهددون القتيل فهؤلاء يقتلون جميعًا مع أن ثلاثة منهم لم يباشروا القتل لكن كانوا سندًا للقاتل ومثال

الثاني أن يرمي أربعة شخصًا بأحجار كل واحد منها قاتل وهم لم يشعروا أي لم يشعر بعضهم ببعض فهؤلاء أيضًا يقتلون جميعًا لأن فعل كل واحد منهم صالح للقتل ولم يعلم عين القاتل، يعني: أن القتل حصل بفعل الجميع فأما لو انفرد أحدهم بالقتل ثم أجهز عليه الآخرون فالقاتل الأول كما لو ذبحه أحدهم وهم لم يعلم بعهم ببعض فجاء أناس فوجدوا هذا الإنسان قتيلًا مذبوحًا فشقوا بطنه أو رضوا رأسه فمن القاتل؟ القاتل الأول ولو كان بالعكس جرحه إنسان أو ضربه ضربًا غير قاتل ثم جاء آخر فوجده صريعًا بعد الضربة فذبحه فمن القاتل؟ الثاني، هذا الحكم الذي حكم به عمر رضي الله عنه هو مقتضى الدليل ومقتضى النظر لما في ذلك من حماية الأموال أما كونه مقتضى الدليل فلأن كل واحد منهم كان القتل بسببه، يعني: أن هؤلاء المجموعة إنما تقدم أحد فقتل لأنه مستقو بالآخرين الذين مالؤه على ذلك فكان القتل ناشئًا من الجميع لأن هذا الرجل لو انفرد وحده لم يقتل لكن بما حصل من الممالأة أقدم على القتل فصاروا قاتلين كل واحد منهم يصدق عليه أنه قاتل نفسًا فيقتل أما الصورة الثانية إذا لم يتمالؤا ولكن صلح فعل كل واحد للقتل فكذلك لأن كل واحد منهم جنايته موجبة للقصاص فوجب أن يقتل وهذا الذي قضى به عمر هو الموافق للنظر والقياس الصحيح وقال بعض العلماء: لا يقتلوا؛ لأننا لو قلنا: أربعة بواحد تعذرت المماثلة؛ لأن الأربعة أكثر من الواحد والنفس بالنفس فيتعذر القصاص وحينئذ نرجع إلى الدية فتلزمهم دية، ولكن ما قضى به عمر هو الحق أولًا لأن أمير المؤمنين عمر من الخلفاء الراشدين الذين لهم سنة متبعة. والثاني: أن هذا هو مقتضى النظر والقياس. والثالث: أننا لو قلنا: يسقط القصاص في هذه الحال لكان الذي يريد أن يقتل شخصًا يقول لثلاثة من أصحابه ساعدوني فيقتله ولا يكون عليه قصاص فتحصل هذه المفسدة العظيمة ولا شك أن سد الذرائع أمر مطلوب للشرع. فإذا قال قائل: سقط القصاص لعدم تمام الشرط أو لوجود المانع أو لعفو أولياء المقتول فهل يلزم كل واحد منهم دية كاملة أو تلزمهم واحدة؟ الجواب: الثاني تلزمهم جميعًا دية واحدة لأن هذه الدية عوض على النفس الفائتة ولم يفت إلا نفس واحدة. فإن قال قائل: لماذا لا نجعل الدية عوضًا عن الأنفس التي سقط عنها القصاص؟ فالجواب: أن هذا لا يستقيم لأن القصاص إنما وجب على الجميع لتعذر التبعيض فيه وأما الدية فيمكن أن تبعض، يعني: يمكن إذا كانوا خمسة أن نقول على كل واحد خمس الدية لكن إذا كان القتلة خمسة وفيه القصاص هل يمكن أن نقول كل واحد منهم يقتل خمس قتلة؟ لا

التخيير بين الدية والقصاص وشروطه

يمكن فهذا أقول إنه إذا سقط القصاص لعدم تمام الشروط أو لوجود مانع أو لعفو أولياء المقتول فإنه لا يجب عليهم إلا دية واحدة والفرق بينها وبين القصاص واحد أن القصاص لا يمكن تبعضه وأما الدية فيمكن تبعضها. التخيير بين الدية والقصاص وشروطه: 1129 - وعن ابن شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل له قتيل بعد مقالتي هذه، فأهله بين خيرتين: إما أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا". أخرجه أبو داود، والنسائي. - وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة بمعناه. هذا قاله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح يقول: "بعد مقالتي هذه" لأن هذا الوقت هو الذي قرر فيه صلى الله عليه وسلم ماذا يكون في قتل العمد وأن أولياء المقتول يخيرون بين كذا أو كذا فقوله: "فأهله" المراد بالأهل الورثة ورثة القتيل هم الذين لهم الخيار فإذا كان أخوان وعمان فقال العمان نريد القصاص وقال الإخوان نريد الدية فمن القول قوله؟ الأخوين دون العمين؛ لأن العمين لا ميراث لهما فلا حق لهما في شأن المقتول وقوله غما أن يأخذوا العقل أي الدية وهي مئة من الإبل وسميت عقلًا لأن الذين يضمنونها يأتون بها على بيت أولياء المقتول ويعقلونها بعقولها وهي الحبال التي تربط بالإبل وهي باركة حتى لا تقوم قال: وإما أن يأخذوا هناك شيء ثالث وهو العفو مجانًا ولم يذكر في الحديث لأن أمره ظاهر ولأن المقصود العوض وهو القتل وإما الدية وهي مائة من الإبل - كما سيأتي - إذن يخيرون بين ثلاثة أشياء: العفو مجانًا وأخذ الدية والقصاص هناك شيء رابع لو قالوا نحن لا نسقط القصاص إلا بديتين، يعني: مائتي بعير فعل لهم ذلك؟ الحديث قد يمنع ذلك. إذن هذا الحديث فيه فوائد: تقرير هذا الحكم الشرعي عند فتح مكة لقوله: "بعد مقالتي هذه". من فوائده: أن الأحكام الشرعية تتجدد شيئًا فشيئًا وهو أمر واضح فالأحكام الشرعية تتجدد في أعظم أصول الدين وفي الفروع أيضًا ويدل لهذا قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} فالدين يكمل شيئًا فشيئًا حتى انتهى.

ومن فوائد الحديث: أن أولياء المقتول عمدًا يخيرون بين الدية وبين القصاص، ولكن هذا التخيير بعد أن تتم شروط القصاص إذا تمت شروط القصاص حينئذ يخيرون أما إذا اختل شرط واحد منها فإنهم لا قصاص لهم فلو كانوا أهل كتاب وقتل مسلم واحدًا منهم فهل يخيرون بين العقل والقود؟ لا لعدم شروط القصاص وكذلك لو أن حرًا قتل عبدًا فهل يخير أولياء العبد بين القصاص والدية على القول بأنه لا يقتل الحر بالعبد؟ لا، وهلم جرُّا، المهم إذا تمت الشروط خير أهل القتيل وهم ورثته بين هذين الشيئين. ومن فوائد الحديث: أنه ليس هناك شيء ثالث فيما يعوض به عن القتيل، وإنما قلنا: يعوض به عن القتيل ليخرج العفو مجانًا فيقال لأولياء المقتول إما أن تقتلوا وإما أن تأخذوا الدية فقط، وأما العفو فليس واردًا في هذا الحديث وعلى هذا فلو قال أولياء المقتول لا نسقط القصاص إلا بديتين أو ثلاثًا أو أربعًا أو عشرًا منعوا وقيل: إما أن تقتلوا وإما أن تأخذوا الدية، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم وقالوا: إنه لا يمكن المصالحة عن الدية بأكثر منها لأن الدية عوض مقدر شرعًا وما قدر شرعًا فإنه لا يجوز تجاوزه وقال بعض العلماء بل يجوز المصالحة عن القصاص بأكثر من دية لأن أولياء المقتول إذا قالوا إذا كنتم لا تريدون أن تعطوننا إلا الدية فسنقتله فقال أولياء القاتل أو القاتل نفسه أنا أدفع ديتين، أنا أريد أن أفدي نفسي الواجب شرعًا دية لكن إذا كنتم مصممين على القتال فأنا أريد أن أفدي نفسي بزيادة، فإذا ردوا بذلك فما المانع؟ والجواب عن القول بأن هذا مقدر شرعًا أن المراد به: ألا يقل عن مائة من الإبل فلو قال، من تلزمه الدية؟ نحن لا نعطيكم إلا خمسين أو ثمانين نقول: لا وهذا القول أرجح؛ وذلك لدعاء الحاجة إليه لأن الذي سيحتاج إليه من؟ القاتل وأولياؤه ربما يكون القاتل غنيًّا، وأولياؤه أغنياء ولا يهمهم أن يبذلوا ديتين أو ثلاثًا أو عشرًا المهم أن يبقى صاحبهم فما المانع من هذا ولكن يقال الأولى لأولياء المقتول أن يقتصروا على الدية؛ لأن ذلك ربما يكون أبرك لهم وأنفع وإذا بارك الله في المال نما وزاد وإذا نزعت البركة منه نقص وزال، لو أن أولياء المقتول اختلفوا بعضهم يريد القصاص وقال آخرون نريد الدية فمن القول قوله؟ القول قول من يطلب الدية لأن الله تعالى قال في القرآن {فمن عفا له من أخيه شيء فإتباع بالمعروف} أي من المقتول شيء وشيء نكرة في سياق الشرط تشمل أدنى شيء فلو أن واحدًا من الورثة لا يرث إلا واحدًا من ألف، وأسقط القصاص وقال أنا أريد الدية سقط القصاص ووجبت الدية لقوله: {فمن عفا له من أخيه شيء فإتباع بالمعروف} أما الدليل النظر فإنه لما سقط القصاص بحق هذا الرجل صار القصاص الآن واجبًا في هذا الرجل إلا واحدًا من ألف والقصاص لا يتبعض فكيف نقتله تسعمائة وتسع وتسعين قتلة هل يمكن هذا؟ لا يمكن فصار الدليل الأثري والنظري على أنه إذا عفا بعض أوليا المقتول فإنه يسقط القصاص ويترتب على

1 - باب الديات

هذا سؤال لو أن أحدًا من الناس من أولياء القاتل أو القاتل نفسه ذهب إلى بعض الورثة وقال أنت إذا قتلت القاتل ما لك شيء ما الفائدة وأنت الآن فقير وسيأتيك من الدية عشر من الإبل ولكن أنا أعطيك مائة من الإبل وسامح فهل يجوز؟ هي محل نظر قد يقال بالجواز لعموم الآية {فمن عفا له من أخيه شيء فإتباع بالمعروف} وهذا عفا وقد يقال إن هذه حيلة والحيل لا تسقط الواجبات وهذه حيلة على أن يسقط حق البقية من القصاص ولكن الأقرب - والله أعلم - أن ذلك جائز لأن للإنسان أن يفك نفسه من القتل بأي طريق وهذا الرجل ذهب إلى هذا الشخص وقال تسقط القصاص وأنا أعطيك ضعفي الدية التي لك فما المانع؟ وقول المؤلف وأصله في الصحيحين بمعناه، يعني: أصل هذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين. * * * 1 - باب الديات "الديات" جمع دية وهو العوض المأخوذ عن النفس أو الأطراف أو الجروح عن النفس، يعني: دية النفس كاملة أو الأطراف كدية اليد أو الجروح كدية الموضحة والمقدر للديات هو النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان أصله موجودًا في الجاهلية لكن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك. مقادير الدية في الجروح: 1130 - عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن ... فذكر الحديث، وفيه: "أن من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة، فإنه قود، إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي العينين الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الصلب الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وإن الرجل يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار". أخرجه أبو داود في المراسيل والنسائي، وابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان، وأحمد، واختلفوا في صحته.

هذا الحديث كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، وهو مرسل، ولكن تلقته الأمة بالقبول حتى صار عندهم بمنزلة المتواتر وأخذوا بالأحكام التي دل عليها هذا الحديث المرسل، والمرسل إذا اعتضد بمرسل آخر أو بعمل المسلمين وتلقيهم بالقبول صار حجة وهو حديث طويل جاءت فيه أحكام في الطهارة وأحكام في الزكاة وأحكام في الديات، قوله: "اعتبط" الاعتباط هو: أخذ الشيء ظلمًا، ومعنى "اعتبطه": قتله ظلمًا، ولهذا فسر الاعتباط بقوله: "قتلًا" لأن الاعتباط قد يكون مالًا وقد يكون ضربًا، وقد يكون غير ذلك، المهم: أن الاعتباط ظلم؛ ولهذا يقال الآن فيك عباطة، يعني: عنجهية وغطرسة وقوله: عن بينة، يعني: ثبت قتله ببينة فإن فيه قود والقود، يعني: القصاص لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يجل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" وفيه النفس بالنفس ولقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] ففيه القود قال: "إلا أن يرضى أولياء المقتول" فإن رضي أولياء المقتول بالعفو مجانًا أو بالعفو بلا دية أو بالمصالحة بأكثر من الدية على القول الذي رجحناه فلا قود قال: "وأن في النفس الدية مائة من الإبل" يعني: إذا قتل نفسًا ففيها الدية وقول: "مائة من الإبل" هذا عطف بيان، "وفي الأنف إذا أوعب"؛ يعني: استوعب فيه الدية إذ قطع من الماذن والماذن ما لان منه والأنف مشتمل على أربعة أشياء على قصبة وعلى مازن وهو يجمع ثلاثة أشياء المنخرين والحاجز بينهما فإذا ضمت هذه الثلاثة إلى الأول صار أربعة، إذا أوعب جدعه، يعني: جدع وقطع الماذن كله ففيه الدية كاملة وذلك لأنه أتلف شيئًا ليس في البدن منه إلا واحد، يعني: ليس له نظير فلما أتلف شيئًا ليس في البدن منه إلا واحد وجبت دية البدن كاملة وقوله: "كتب" هل المراد كتب بيده لكريمة أو أمر من يكتب؟ الثاني هو الصحيح وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب أما قبل البعثة فلاشك في هذا نص القرآن: {وما كنت تتلوا من قبله من كتب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48]. وأما بعد البعثة فقيل إنه كان يكتب لكن كتابًا يسيرًا وقيل: إنه لا يكتب إلا اسمه فقط لحديث صلح الحديبية والذي يظهر أنه بقي صلى الله عليه وسلم لا يكتب وما ذكر من كتابة اسمه فإنه لا يكون بذلك كاتبًا، وهنا كتب إلى أهل اليمن أي أمر من يكتب إلى أهل اليمن وقلنا إن شهرة الحديث واستفاضته تغني عن تصحيحه، "اعتبطه" يعني: قتله عمدًا بدون سبب وقوله: "مؤمنًا عمدًا"، غير المؤمن فيه تفصيل، إن قلته من يماثله في الدين فإنه يقتل به إذا تمت بقية الشروط وقوله:

"عن بنية" متعلق بـ"اعتبط"؛ يعني: وكان ذلك عن بنية؛ لأن مجرد التهمة لا يمكن أن يثبت فيها القصاص إذ أن القصاص عظيم فمجرد التهمة يمكن أن يثبت في القصاص بل لابد عن بنية والبنية شهود رجلين بالاتفاق أو قرائن وتجري في ذلك القسامة كما هو معروف وربما تأتينا، فإنه قود أي يقاد به وسمي قودًا لأن القاتل يقاد يؤخذ برمته؛ يعني: بالحبل ويقاد إلى أن يسلم إلى أولياء المقتول فيقتلونه، إلا أن يرضى أولياء المقتول فإن رضي أولياء المقتول فلا قود وإن رضي بعضهم فلا قود أيضًا للآية: {فمن عفى له من أخيه شيء فإتباع بالمعروف] ومن أولياء المقتول؟ من يرثونه والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" فدل ذلك على أن الأولياء هم الذين يرثون لأنه قال: "أولى" إذن الوارث ولي، القريب ولي فإذا اجتمع قريبان أحدهما يرث والثاني لا يرث فالأولى بالولاية الذي يرث. مسائل مهمة في الديات: إذن أولياء المقتول هم ورثته وأن في النفس الدية، النفس فيها الدية وبينها النبي صلى الله عليه سلم بقوله: "مائة من الإبل"، وكم أسنانها؟ ستأتي في الحديث القادم، لكن العدد مائة لا تزيد، ويستثني من ذلك المرأة فإن ديتها على النصف من دية الرجل ويستثنى من ذلك أيضًا غير المسلمين فإن دياتهم تختلف عن ديات المسلمين فالكتابي نصف دية المسلم والمجوس والوثني ثمانمائة درهم حوالي مائتي ريال وأربع وعشرون أقل من قيمة الشاة هو لا يساوي شيئًا {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28] "وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية"، "أوعب"؛ يعني: استكمل واستوعب جدعه يعني: جدع جدعًا تامًا؛ أي: قطع الدية قال العلماء في الأنف أربعة أشياء قصبة ومنخران وأرنبة القصبة هي العظم والمنخران معروفان والأرنبة الحاجز بينهما فإذا قطع المازن وهو ما لان من الأنف ففيه دية كاملة وإن قطع المنخر الواحد ففيه ثلث الدية وفي المنخر الثاني ثلثها وفي الأرنبة الحاجز بينهما ثلث، أما إذا كان جميعًا، ولهذا قال: "أوعب جدعه" كله ففيه الدية لماذا؟ لأنه لا يوجد في البدن منه إلا شيء واحد فلذلك وجبت الدية لأنه لا نظير له، وفي العينين الدية وفي العين الواحدة نصف الدية لأن العينين في البدن منها اثنان "وفي اللسان الدية"؛ لأنه ليس في الجسد منه إلا واحدة "وفي الشفتين الدية"، والشفتان هما اللحم الذي يغطي الأسنان من نابت الأسنان من فوق ومن تحت وليست الشفتان هو ما كان أحمر فقط، فيهما الدية "وفي الواحدة نصف الدية"، "وفي الذكر الدية"؛ لأنه ليس في الإنسان منه إلا شيء واحد، "وفي البيضتين الدية" وهما

الخصيتان فيهما الدية، "وفي الواحد نصف الدية"، "وفي الصلب الدية"؛ أي: الظهر فيه الدية كاملة، وفي الرجل الواحدة نصف الدية والرجلان الدية كاملة واليد الواحدة نصف الدية واليدان دية كاملة، إذن لابد أن نأخذ قاعدة نقول ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه دية كاملة وهو الأنف واللسان والذكر والصلب وما فيه شيئان ففي الثنتين دية كاملة وفي الواحدة نصف الدية مثل العينين، الأذنين، اليدين، الرجلين الشفتين، الخصيتين والسندأتين أيضًا وهي للذكر بالنسبة للثدييين للمرأة وما فيه ثلاثة في الجميع الدية كاملة وفي البعض ثلث الدية مثل مازن الأنف فيه منخران وأرنبة في الواحد منهما ثلث الدية وفي الجميع الدية كاملة وما فيه أربعة في الواحد ربع الدية وفي الجميع الدية مثل الأجفان في الواحد ربع الدية وفي الأربع الدية كاملة، وما فيه خمسة لا يوجد في الأجزاء لكن يوجد في المنافع- كما سيأتي-، وما فيه ستة لا يوجد ولا سبعة ولا ثمانية ولا تسعة لكن عشرة يوجد الأصابع في أصابع اليدين الدية كاملة يعني: لو قطع الأصابع وبقيت الكف ففيها دية كاملة وفي أصابع الرجلين كذلك وفي الأصبع الواحد عشر الدية وفي كل أنملة من الأصبع ثلث عشر الدية إلا الإبهام لأن الإبهام مفصلان ففيه في كل مفصل نصف العشر لكن خنصر الرجل كم فيه من المفصل؟ ثلاثة مفاصل، لكن لصغره لا يتبين إبهام الرجل فيه اثنان فالإبهام في اليدين والرجلان فيه مفصلان والبقية ثلاثة مفاصل وهنا أيضًا قاعدتان مهمتان من جنى على عضو فأشله ففيه دية ذلك العضو إلا الأنف والأذن فلو ضرب على أنفه حتى شله ما يتحرك فليس عليه دية أنف، لأن أعظم ما يكون في الأنف هو الجمال والجمال لا يهم سواء حركه أو ما حركه الأذن أيضًا إذا ضرب أذنك فشلك ما معناه؟ أفقده السمع، السمع باق لكن الأذن شلت فإنه ليس عليه دية أذن ولكن عليه حكومة ولكن لو ضرب اليد وانشلت عليه دية يد. إذن القاعدة إذا جني على عضو فأشله ففيه دية ذلك العضو إلا الأنف والأذن لأن أهم ما يكون فيهما الصورة الأنف يمكن يتحرك ولكنه لا يتحرك وهو ثابت لكن حركة الأنف يميل الأنف كله لكن تريد أن تحرك المنخر وحده فهذا لا يمكن الأذن هل تتحرك؟ لا، ولهذا قال العلماء إنه لو جنى على الأذن فأشلها فليس عليه دية، القاعدة الثانية: إذا جنى على عضو مشلول فليس عليه ديته إلا الأنف والأذن يعني: لو قطع عضوًا مشلولًا فإنه ليس عليه دية ذلك العضو لأن هذا العضو ليسس فيه منفعة فإذا قطعهما وهما

مشلولان فإن عليه ديتهما فصار الأنف والأذن يختلفان عن غيرهما في القاعدتين جميعًا ومعنى كلمة حكومة: أن يقدر هذا الرجل الذي حصلت عليه الجناية كأنه عبد ليس به جناية ثم يقدر كأنه عبد فيه الجناية هذه ثم ينظر ما بين القيمتين ثم يعطى مثل نسبته من الدية فإذا قدرنا أن هذا الرجل الذي قطعت يده المشولة لو كان عبدًا غير مقطوع اليد لكان يساوي ألف درهم، وعبدًا مقطوع اليد يساوي تسعمائة درهم فالنسبة بينهما العشر تعطيه من الدية إذا كان حرًا مثل تلك النسبة أي عشر الدية قال وفي المأمومة ثلث الدية المأمومة هي الشجة التي تصل إلى أم الدماغ والشجة قال العلماء لا تكون إلا في الوجه والرأس وما عدا ذلك يسمى جرحًا فإذا جرحه في الساق أو في البطن أو في الظهر فهذا جرح أما إذا كان في الرأس أو في الوجه فإنها تسمى شجة ولها مراتب عند العرب أولها الموضحة وستأتي المأمومة هي التي تصل إلى أم الدماغ والدماغ - بإذن الله- في كيس إذا جرحه حتى كسر العظم ونفذت الجناية إلى هذا الكيس الذي فيه الدماغ فهذه تسمى مأمومة ففيها ثلث الدية يعني: ثلاثة وثلاثون بعيرًا وثلث بعير، وثلث بعير لا يتبعض يؤخذ من الدراهم وفي الجائفة ثلث الدية الجائفة هي التي تصل إلى بطن الجوف كما لو جرح إنسانًا في بطنه حتى شق بطنه ووصل إلى جوفه ففيها أيضًا ثلث الدية وكل هذا ما لم يصل إلى الموت إن وصل إلى الموت فإنه يكون فيه الدية كاملة لكن الكلام في هذه الجناية إذا برأ منها ولم يتسبب بشيء - مضاعفات- كالدماغ مثلًا لو أنه أوصله إلى أن يكون فيه هلوسة أو أنه لا يحفظ هذا يجعل له شيء آخر لكن مجرد المأمومة إذا وصلت إلى أم الدماغ وبقي الإنسان سليمًا فإن فيها ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل خمس عشرة هذه مركب مبني على الفتح وإلا فهي مبتدأ مبني على الفتح في محل رفع المنقلة هي الشجة التي تكسر العظم وتنقله إلى داخل إذا ضربه بحجر أو بسيخ أو غيره حتى انكسر العظم ونزل من مكانه انتقل من مكانه هذه تسمى منقلة فيها خمس عشرة من الإبل فعندنا الآن المأمومة والمنقلة وستأتي الموضحة يقول: "وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل"، الإصبع من أوسع الكلمات في اللغة يجوز فيه عشر لغات مجموعة في هذا البيت: [البسيط] وهمز أنملة ثلث وثالثة ... التسع في إصبع وصف بأصبوع

عشر لغات يعني: معناه الهمزة مثلثة والثالث منه، وهي: الياء مثلثة، فإذا ضربنا ثلاثة في ثلاثة بتسعة والعشر أصبوع، قوله: همزة أنملة يعني: أنملة مثل الإصبع فيها تسع لغات الأصبع في كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وحينئذ نعرف أن الدية ليست مقدرة بالنفع ولو كانت مقدرة بالنفع لكان نفع الخنصر من الرجل لا يساوي شيئًا بالنسبة لنفع الإبهام من اليد، الخنصر من الرجل فيه كما في الإبهام من اليد والانتفاع بكل واحد منهما بينه وبين الآخر شيء كثير لكن الديات ليست مبنية على النفع ولهذا يستوي الرجل المجنون البذيء بالعاقل الحسن الأخلاق الكريم النافع بعمله يستويان في الدية، يعني: لو قتل خطأ شخصًا مجنونًا استراح الناس بقتله إياه وقتل خطأ عالمًا غنيًا سخيًا لكانت الدية واحدة، ولهذا تجدون الآن الأصابع المنافع فيها مختلفة ومع ذلك ديتها واحدة فقال: "وفي السن خمس من الإبل"، فكل سن فيه خمس من الإبل، ولو اختلفت المنافع، ومعلوم أن الأجسام تختلف منافعها من حيث الجمال، ومن حيث المضغ عليها فإنها تختلف اختلافًا عظيمًا ومع ذلك في كل واحد خمس من الإبل، الأضراس والثنايا كلها واحدة مع الفرق العظيم بينهما فيحصل بالثنايا من الجمال ما لا يحصل بالأضراس لو أن الإنسان ليس له أضراس ولكن الثنايا والرباعيات والأنياب سليمة ما همه يكون فمه جميلًا لكن لو كسرت الثنيتان والرباعيتان فإنه يشوه ولو كان عنده من الأضراس ما يكفيه. على كل حال: في كل سن خمس من الإبل فكم يكون في مجموع الأسنان؟ مائة وستون لأن كل واحد في خمس من الإبل ففيه مائة وستون وهذا هو ظاهر الحديث وأنه لا فرق بين أن تكون الجناية على كل سن وحده أو تكون جناية واحدة قضت على الأسنان كلها، وقال بعض العلماء: إنه إذا كانت جناية واحدة قضت على الأسنان كلها فإنه ليس فيها إلا دية واحدة، يعني: مائة من الإبل بدلًا من مائة وستين، لكن جمهور العلماء أخذوا بظاهر الحديث وعمومه: "في كل سن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل" الموضحة شجة في الرأس والوجه توضح العظم ولو بقدر رأس الإبرة إذا أوضحت العظم فهذه موضحة، وفيها خمس من الإبل، فحصل لنا الآن في الشجاج ثلاثة أنواع، وهي: المأمومة، والمنقلة، والموضحة؛ أولها الموضحة وفيها خمس من الإبل يليها الهاشمة فيها عشر من الإبل يليها المنقلة فيا خمس عشرة من الإبل، يليها المأمومة ثلث الدية، يليها الدامغة التي تقذف الجلد جلدة الدماغ فهذا فيها ثلثًا الدية قطعًا؛ لأنه إذا كان في المأمومة ثلث الدية ففي الدامغة من باب أولى لكن بعض أهل العلم يقول الدامغة فيها ثلث الدية وأرش للزائد لأن أنهى ما جاء به الحديث المأمومة وفيها ثلث الدية، وهذه زائدة على المأمومة فيكون فيها أرش، وهل نجعل الأرش كالفرق بين

الموضحة وبين الهاشمة وهي خمس من الإبل أو الفرق بين المأمومة والمنقلة وهو ثمانية عشر وثلث؟ يحتمل هذا وهذا وإنما كان الفرق بين المنقلة والمأمومة هذا الكثير دون المنقلة والهاشمة لأن المأمومة أخطر بكثير من المنقلة لأن المنقلة هذه العظام التي نزلت ممكن ترد إلى مكانها لكن المأمومة يقل من يحيا بعد إصابته بها، إذن خمس شجاج فيها مقدر، الموضحة ثم الهاشمة ثم المنقلة ثم المأمومة ثم الدامغة ما قبل ذلك ليس فيه شيء مقدر وإنما فيه الحكومة، يعني: إنسان جنى على رأس شخص وفري اللحم لكن لم يتبين العظم الذي يجب فيه حكومة ولا يعطى خمس من الإبل لأن الخمس من الإبل إنما جعلها الشرع في الموضحة فما دون الموضحة، يعني: ما دونها أي ما لم يصل إلى حد الموضحة ففيه حكومة والحكومة أن يقدر المجني عليه كأنه عبد سليم ثم يقدر وفيه هذه الإصابة فما بينهما من القيمة يعطى بقسطه من الدية لو فرض أن الحكومة فيما دون الموضحة وصلت إلى حد الموضحة أو أكثر فإنه لا يتجاوز بها حد الموضحة، هذا إنسان جُني عليه فشجَّ رأسه حتى انفرى اللحم ووصل إلى القشرة الرقيقة التي بين اللحم وبين العظم لكنه لم يشق هذه القشرة الرقيقة. إذن لم يصل إلى حد الموضحة ما الذي يجب؟ يجب حكومة نقول لأهل النظر والمعرفة قدَّروا هذا المجني عليه كأنه عبد سليم ثم قدروه كأنه عبد مصاب بهذه الجناية قدروه فوجدنا أن التقدير يتضمن أن يكون أرش الجناية خمسًا من الإبل فإننا لا نعتبر هذا التقدير؛ لأن هذا ينافي النص، والنص أثبت خمسًا من الإبل في الموضحة وهذا دون الموضحة، فلا يمكن أن نلحق ما دون الشيء الذي نصَّ عليه الشارع بالشيء الذي نص عليه؛ فيجب أن يقال: له خمس من الإبل إلا قليلًا، ونظير ذلك لو أن رجلًا فعل بالمرأة كل شيء إلا الجماع وهي امرأة حرام عليه أجنبية وقضي عليه بالتعزيز بمائة جلدة أو بأكثر فإننا لا نقبل هذا التعزيز؛ لأنه إذا كان الشرع جعل في الجماع مائة فلابد أن يكون ما دونه أقل منه. إذن الشَّجاج التي فيها مقدر خمس الموضحة ثم الهاشمة ثم المنقلة، ثم المأمومة ثم الدامغة ففي الموضحة خمس من الإبل وفي الهاشمة عشر من الإبل والمنقلة خمسة عشر من الإبل والمأمومة تكون أعظم فيها ثلث الدية وفي الدامغة ثلث الدية والصحيح أن فيها ثلث الدية وزيادة أرش قال: "وإن الرجل يقتل بالمرأة"، وقد سبق الكلام فيه وبيَّنا أن الأدلة تدل على أن الرجل يقتل بالمرأة دون أن يدفع أولياء المرأة الفرق بين دية الرجل ودية المرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار، وكأن هذا الحديث يدل على أنه إذا وجبت الدية على أهل الإبل ففيها هذه الإبل وإذا وجبت على أهل الذهب وهم التجار فالدية ألف دينار وبناء على ذلك تكون الدية إما مائة بعير، وإما ألف دينار، على أهل الإبل مائة بعير وعلى أهل الذهب ألف دينار وذلك من أجل التسهيل على الناس،

دية القتل الخطأ

حتى لا يكلف صاحب الذهب بشراء الإبل ولا يكلف صاحب الإبل بيعها بالذهب حتى يسلم الذهب، فيكون هذا من باب التخفيف وأنتم تعلمون أن الغالب أن العاقلة هي التي تحمل الدية فناسب أن يخفف عنها وقد اختلف العلماء هل الذهب والفضة والبقر والغنم التي ورد في الحديث أنها من الدية هل هي أصول أو أن الأصل الإبل وهذه مقومة؟ فقال بعض العلماء الأصل الإبل وليس الذهب ولا الفضة ولا البقر ولا الغنم وعلى هذا القول إذا اختلفت القيم نرجع إلى الإبل فلو كان ألف الدينار لا يأتي إلا بعشرين بعيرًا فقط فإننا نرجع إلى الإبل، مائة بعير ولو كان ألف الدينار يأتي بخمسمائة بعير فإننا نرجع إلى الإبل وهذا القول هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والدليل على هذا أنكم ترون أن الجروح التي دون النفس قدَّرها الشرع بالإبل فدلَّ هذا على أن الأصل هو الإبل وهذا الذي يقضى به هنا في المملكة العربية السعودية أن الأصل الإبل، ولهذا يختلف تقدير الدية من وقت لآخر كانت الدية بالأول أربعمائة ريال فرنسي ثم رفعت ثم استقرت الآن بمائة ألف وربما تتغير لكن لا يمكن يغيرونها كل سنة كلما طال الزمن واختلف السعر اختلافًا بينًا غيروها، يقول واختلفوا في صحته ولكن المحققين من أهل العلم يقولون إن هذا الحديث صحيح بقطع النظر عن سنده وذلك لأن الأمة تناقلته وتلقته الأمة بالقبول ومثل هذا يكون صحيحًا وعليه فيكون ما ذكر في هذا الحديث من تقدير الدية يكون صحيحًا معمولًا به، المائة من الإبل كيف تكون أسنانها؟ بيَّنها في الحديث الذي بعده. دية القتل الخطأ: 1131 - وعن ابن مسعود (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "دية الخطأ أخماسًا: عشرون حقَّةً، وعشرون جذعةً، وعشرون بنات مخاضٍ، وعشرون بنات لبونٍ، وعشرون بني لبونٍ". أخرجه الدارقطني. وأخرجه الأربعة، بلفظٍ: "وعشرون بني مخاضٍ"، بدل "بني لبونٍ". وإسناد الأول أقوى، وأخرجه ابن أبي شيبة من وجهٍ آخر موقوفًا، وهو أصحُّ من المرفوع.

يقول: "دية الخطأ أخماسًا" أي: تجب أخماسًا، وعلى هذا فأخماسًا ليست خبرًا لمبتدأ، وإنما خبر المبتدأ محذوف والتقدير: تجب أخماسًا، ثم فصل فقال: "عشرون حقة"، الحقة ما لها ثلاث سنوات والجذعة ما لها أربع سنوات، والثنية خمس سنوات، لكن الثنية لا تجب في الديات إنما تجب في الأضاحي، وعشرون بنات مخاض لها سنة، وعشرون بنات لبون لها سنتان فصار أول السنوات سنة واحدة ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة، أعلاها الجذعة ثم الحقة ثم بنات اللبون وبنو اللبون ثم بنات المخاض فإذا كانت الجناية خطأ وجبت الدية على العاقلة على هذا النحو. إذن ليس فيها ثنية وليس فيها ما فوق الثنية كلها صغار ويظن الظان أنه إذا قيل: إن الدية مائة من الإبل يظن أنها مائة كبيرة وليس كذلك بل هي صغيرة أولها لها سنة. إذن هي صغيرة فتقدر هذه الصغار بالقيمة إذا ذهبنا إلى أن الأصل هو الإبل ثم تدفع القيمة من الدراهم أو من الدنانير. في هذا الحديث وما يتبعه فوائد أولًا: العمل بالكتابة لقوله: "كتب إلى أهل اليمن". ومن فوائده: جواز كتابة الحديث، وقد كان في ذلك خلاف في الزمن الأول فأنكره بعض الصحابة والتابعين وقالوا: لا يمكن أن يكتب حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأنه لو كتب لظن الظان أنه قرآن ولكن الصحيح أنه جائز- أعني: كتابة الحديث- أولًا: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: "اكتبوا لأبي شاة" لما سمع خطبته في عام الفتح قال اكتبوا لي يا رسول الله فأمرهم بالكتابة له، ثانيًا: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يكتب إلى الملوك، وهذا كتابة حديث. ثالثًا: أن الكتابة مشهورة بين الصحابة، قال أبو هريرة: لا أعلم أحدًا أكثر حديثًا مني عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب. ومن فوائد الحديث: أن من قتل مؤمنًا متعمدًا فعليه القود لقوله: "من اعتبط ... إلخ". ومن فوائده: أنه لا يثبت القود، يعني: القصاص إلا ببينة إذ لو يعطي الناس بدعواهم لادَّعى رجال دماء قوم وأموالهم، فمثلًا لو وجدنا إنسانًا يتشحط في دمه وشخص هارب فهل نقول إن هذا الهارب هو القاتل؟ لا، لماذا؟ لاحتمال إن هذا الهارب لما وقف عند القتيل خاف أن يتهم به فهرب، ولكن إذا وجدت قرينة تكون حجة لنا في اتهام هذا الهارب فلا بأس أن نأخذه وننظر في الأمر ثم هل تجري القسامة أو يقال يحلف هذا المتهم بأنه ما قتل ويخلَّى سبيله في هذا قولان للعلماء منهم من قال إن القسامة تجرى في كل شيء يغلب على الظن أنه حصل به القتل والقسامة أن يدعي أولياء المقتول أن فلانًا قتل قتيلهم ويكون هناك قرينة تدل على صدق دعواهم فيؤتى بالمتهم ويقال: احلفوا عليه خمسين يمينًا بأنه هو القاتل، فإذا حلفوا خمسين يمينًا أنه هو القاتل فإنهم يأخذون برمته ويقتلونه، وإن أبوا ردَّت اليمين على المتهم

ويقال: احلف أنك لم تقتل، فإذا حلف برئ وهنا أعملنا قول المدعي لقوة جانبه ورجحانه من أجل القرينة ولكننا لم نجتزئ بيمين واحدة لعظم الحكم فلابد من خمسين يمينًا يحلفها ورثة القتيل، لو أن رجلًا وجد في بيته شخص مقتول وادعى صاحب البيت أن هذا الرجل لص دخل عليه أو أنه رجل فاجر يريد الفاحشة وأنه لم يندفع إلا بقتله فما الحكم؟ المشهور على المذهب أنه إن أتى ببينة على دعواه وإلا قتل به، يعني: صاحب البيت لأننا لو قبلنا دعواه لكان كل شخص يكون بينه وبين شخص عداوة يقول: أدعوك إلى بيتي حتى نزيل ما بيننا من العداوة ويقول إزالة العداوة بين المسلمين واجبة، يقول له: تفضل ثم يقتله، ومن أجل هذا الاحتمال قال العلماء لا نقبل دعواه حتى يأتي ببينة، لكن قال شيخ الإسلام يجب أن ننظر للقرائن فإذا كان القاتل صاحب البيت رجلًا معروفًا بالصلاح وعدم العدوان وكان هذا القتيل معروفًا بالشر والفساد كل يوم يتسور على بيت فإن القول قول صاحب البيت ولو أن أخذنا بما قاله الفقهاء- رحمهم الله- على الإطلاق لحصل شر كثير وفساد كبير وبقي الإنسان لا يقدر أن يدافع عن نفسه في بيته لأنه ليس من المعقول أن نجد بينة تكون في البيت وتشهد بأن الرجل مهاجمًا وأن صاحب البيت مدافعًا، المهم لابد من بينة ولهذا قال عن بينة فإنه قود. ومن فوائد الحديث: أنه إذا رضي أولياء المقتول بما دون القتل فإنه يسقط القتل وليس من شرط ذلك أن يرضي الجميع بل إذا عفا بعضهم عن القتل سقط عن الباقين لقوله تعالى: {فمن عفى له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف}. ومن فوائد الحديث: أن في النفس الدية كاملة وظاهر الحديث ولو اشتركا في ذلك جماعة فتوزع الدية عليهم فإذا اشترك في قتل إنسان خطأ خمسة وزِّعت الدية عليهم كل واحد عشرون، بخلاف ما لو وجب القصاص فإنه يقتص من كل واحد، والفرق بين الدية والقصاص: أن الدية تتبعض والقصاص لا يتبعض. ومن فوائد الحديث: أن الأصل في الديات الإبل لقوله: "في النفس الدية" ثم فسر الدية بقوله مائة من الإبل وظاهر الحديث العموم أن في النفس أي عموم ذلك للذكر والأنثى ولكن سيأتي أن الأنثى عقلها نصف عقل الرجل أي خمسون بعيرًا. ومن فوائد الحديث: أن ما في البدن منه واحد كالأنف واللسان والذكر ففيه الدية كاملة والحكمة من ذلك أنه لا يوجد له نظير في البدن فإذا أتلفه فقد أتلف منفعة كاملة في البدن وعضوًا لا نظير له فتجب الدية. ومن فوائده: أن ما في الجسد منه شيئان ففي الواحد نصف الدية وفي الاثنين الدية كاملة يؤخذ من قوله: "ففي العينين الدية ... إلخ".

دية قتل العمد وشبه العمد

ومن فوائد الحديث: أن في الصُّلب الدية كاملة ويضاف هذا إلى ما سبق من اللسان والأنف والذَّكر لأنه ليس للإنسان إلا صلب واحد. ومن فوائد الحديث: أنه لا يفرق في الدية بين اليمنى واليسرى لعموم قوله: "في الرّجل الواحدة" ولم يفرق بين اليمنى واليسرى، كما لم يفرق في الديات بين الأصابع. ومن فوائده أيضًا: أن في الشجاج الدية لكنها مبعضة ففي المأمومة الثلث وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل. ومن فوائد الحديث: أن في الجائفة ثلث الدية وهي صريحة فيه. ومن فوائد الحديث: أن في السن الواحد خمسًا من الإبل فإذا اجتمعت الأسنان كلها ففيها مائة وستون بعيرًا. ومن فوائده: أن الرُّجل يقتل بالمرأة وهو صريح فيه وكذلك المرأة تقتل بالرجل ولا يلزم أولياءها أن يدفعوا نصف الدية. ومن فوائد الحديث: أن من ليس من أهل الإبل ولكنه من أهل الذهب فعليه ألف دينار، وهل هذا تقدير أو تقويم؟ قال بعض العلماء: إنه تقويم، وقال بعضهم: إنه تقدير، فإذا قلنا: إنه تقويم فصارت الإبل المائة تزيد على ألف دينار ألزموا بما يساوي هذه الإبل وإذا كان مائة من الإبل تساوي أقل من ألف دينار لم يلزمهم إلا ما تساويه، أما إذا قلنا: إنه تقدير فإن الدية تكون ألف دينار سواء زادت على قيمة الإبل أم لم تزد وهذا ينبني على الخلاف هل هي أصل أو أن الأصل الإبل؟ ومن فوائد حديث ابن مسعود: أن دية الخطأ موزعة إلى خمس أسنان: حقة وجذعة وبنت مخاض وبني مخاض وبنت لبون. دية قتل العمد وشبه العمد: 1132 - وأخرجه أبو داود، والترمذي: من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رفعة: "الدية ثلاثون حقةً، وثلاثون جذعةً، وأربعون خلفةً في بطونها أولادها". هذه مائة ثلاثون حقه، يعني: لها ثلاث سنوات، "وثلاثون جذعة" يعني: لها أربع سنوات "وأربعون خلفة"، يعني: حوامل، ولكن الأول هو المشهور أي: أن الدية تكون أخماسًا، فإن كانت في عمد أو شبهه فإنها تكون أرباعًا خمس وعشرين بنت مخاض وخمس وعشرين بنت لبون وخمس وعشرين حقة وخمس وعشرون جذعة، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد (رحمه الله)

أنها في العمد وشبهه تجب أرباعًا وفي الخطأ تجب أخماسًا؛ لأن الخطأ أهون من العمد وشبه العمد. 1133 - وعن ابن عمر (رضي الله عنهما)، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "إن أعتى الناس على الله ثلاثةٌ: من قتل في حرم الله، أو قتل غير قاتله، أو قتل لذحل الجاهلية". أخرجه ابن حبَّان في حديثٍ صحَّحه. قوله "إن أعتى"، يعني: أشدهم عتوًّا، الأول: "من قتل في حرم الله" والمراد بذلك حرم مكة؛ لأن الله قال: {ومن دخله كان ءامنًا} [آل عمران: 97]. وحرَّم النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يسفك فيها دم فإذا اعتدى إنسان وقتل في حرم الله صار أعتى الناس، وهذا أعتاهم على الله بالنسبة للقتل، لا بالنسبة لكل دم، يغني: فأعتى شيء في القتل أن يكون في حرم الله؛ لأنه إذا كانت الصيود تأمن ولا تقتل في الحرم وكانت الأشجار تأمن ولا تعضد في الحرم، وكان الحشيش يأمن ولا يحش في الحرم فما بالك بالآدمي واختلف العلماء- رحمهم الله- في القتل في الحرم قصاصًا هل إذا قتل أحدٌ عمدًا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يقتل؟ فقال بعض أهل العلم: إنه يقتل، ولكنه قول ضعيف، والصحيح أنه لا يقتل وذلك لأنه لم ينتهك حرمة الحرم ولجأ إليه فعصم به أما من قتل في الحرم فإنه يقتل لأنه انتهك حرمة الحرم فصارت المسألة فيها تفصيل على القول الراجح، إن قتل خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم فلا يقتل وإن قتل في الحرم فإنه يقتل ولكن على الوجه الأول إذا قلنا: إنه إذا قتل خارج الحرم ثم لجأ إليه فإنه لا يقتل فهل معنى ذلك أن يسقط القصاص على كل من أراد أن يسقط عنه فيلجأ إلى الحرم؟ لا قال العلماء لا يكلم ولا يباع عليه ولا يشترى منه ولا يؤى وبهذا الحال سوف يخرج بنفسه لأنه تضيق عليه الأرض بما رحبت سوف يضطر إلى الخروج وقوله من قتل بحرم الله هل يزداد بذلك إذا قتل بحرم الله هل يزداد بذلك عليه الدية وتضاعف؟ في هذا خلاف بين العلماء فمنهم من قال إن الرجل إذا قتل في الحرم فإنها تضاعف عليه الدية بالثلث، يعني: يجب عليه ويلزم القاتل بأن يدفع الدية وثلثها وقال آخرون بل لا تضاعف لأن الأحاديث الواردة في ذلك ليست بتلك القوة والمشهور عند الحنابلة أنها تضاعف عليه، وإذا كانت في شهر حرام فالثلثان وإذا كان ذا رحم منه فثلث فيلزمه على هذا ديتان، الثاني: قال: "أو قتل غير قاتله"، وهذا هو القتل عمدًا لكن لا يريد النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك القتل العمد المجرد، لكن يريد ما يفعله بعض الناس إذا قتل أحد شخصًا ولم يوجد القاتل فإن بعض الناس يقول: إذن أقتل أباه أو ابنه أو عمه أو أحدًا من أقاربه فهذا من أعتى الناس،

إلحاق دية شبه العمد بالقتل الخطأ

وذلك لأنه ظلم بصورة يظهر أنها حق لأنه قتله على أنه قصاص مع أنه ليس بقصاص فهذا من أعتى القتلة، الثالث: "أو قتل بذحل الجاهلية" يعني: أحقادها وضغائنها ودعواها ليس لحق، وإنما كان هذا أعتى من غيره؛ لأنه نسب القتل إلى الجاهلية والنبي (صلى الله عليه وسلم) جاء يطمس آثار الجاهلية فهؤلاء من القتلة هم أعتى الناس في القتل فقط فقوله إنه "أعتى الناس"، يعني: في القتل. من فوائد الحديث أولًا: تفاضل الذنوب في الشدة لقوله: "أعتى الناس" وأعتى الناس اسم تفضيل. ومن فوائد الحديث: تعظيم الحرم يكون القاتل فيه من أعتى الناس. ومن فوائد الحديث: تحريم الأخذ بالثأر بقتل غير القاتل وهو واضح. ومن فوائده: تحريم الانتساب إلى الجاهلية وأن القتل بناء على ما في النفوس من الأحقاد والضغائن أشد مما لو لم يكن كذلك. إلحاق دية شبه العمد بالقتل الخطأ: 1134 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "ألا إنَّ دية الخطأ وشبه العمد ما كان بالسَّوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها". أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وصحَّحه ابن حبَّان. هذا الحديث يظهر أنه هو الحديث الأول حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ لأنه يطابقه تمامًا فسرَّ شبه العمد بقوله: "ما كان بالسوط والعصا"، والحديث هو تفصيل قوله فيما سبق "أربعون خلفة"، والباقي وهي "ستون" ليس في بطونها أولادها. ففي هذا الحديث فوائد: أولًا: التسوية بين الخطأ وشبه العمد في مقدار الدية، وهذا خلاف ما سبق في الحديث الثاني أن دية الخطأ أخماسًا فظاهره أن الخطأ يخالف شبه العمد إلا أن يحمل الخطأ في الحديث على ما ليس بعمد، فلا ينافي هذا الحديث الذي معنا والمشهور عند الحنابلة أن شبه العمد ملحق بالعمد في تغليظ الدية وأنها تجب أرباعًا ولكن ذهب بعض العلماء إلى أن دية شبه العمد تلحق بالخطأ لأن المخطئ لم يقصد القتل وكذلك من قتل شبه عمد فإنه لم يقصد القتل فيكون حكمهما سواء وينبغي أن نفرق بين شخص متعمد للقتل بآلة تقتل وشخص متعمد للضرب، وليس القتل بآلة لا تقتل، ولاشك أن هذا القول الأخير أقرب إلى الصواب من القول الأول وذلك أن إلحاق شبه العمد بالخطأ أقرب من إلحاقه بالعمد لأن الضارب أو القاتل بشبه العمد لم يقصد القتل ولأنه إذا كان لا يجب فيه

دية الأصابع والأسنان

القصاص والخطأ لا يجب فيه القصاص فينبغي أن يلحق به في الدية أيضًا، هل نأخذ بحديث عمرو بن شعيب أو حديث عبد الله بن عمرو في أن أربعين من الإبل في الدية تكون خلفة في بطونها أولادها أو نأخذ بحديث عمرو بن حزم؟ الجواب: أخذ الإمام أحمد بحديث عمرو بن حزم وأنه لا يشترط أن تكون خلفة وأخذ بعض العلماء بالحديث الثاني وقال إن فيه زيادة علم وهو قيد أن تكون خلفة في بطونها أولادها ولكن الأول أرجح وذلك لأن العلماء تلقوا الحديث الأول بالقبول وعملوا به وليس فيه ذكر أن أربعين منها في بطونها أولادها ولو قيل: إن هذا يرجع إلى رأي الحاكم وإذا رأى من المصلحة التشديد- وأن تكون خلفة في بطونها أولادها أو إذا عجزوا عن ذلك فإنه يعطى الأرش- لكان له وجه. دية الأصابع والأسنان: 1135 - وعن ابن عباس (رضي الله عنهما)، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "هذه وهذه سواءٌ، يعني: الخنصر والإبهام". رواه البخاريُّ. يعني "سواء" في الدية و"الخنصر" هو طرف الأصابع من جهة والإبهام طرفها من جهة أخرى، فإذا كان الطرفان سواء فيما بينهما سواء، فعلى هذا يتبين أن الديات لا مجال فيها للتقويم وأن الشيخ الكبير الفاني كالشاب الجلد القوي كل منهما ديته مائة من الإبل. مع أننا لو رجعنا إلى التقويم لكان بينهما فرق عظيم، كذلك الخنصر والإبهام بينهما فرق في الحجم والعمل، فالإبهام يفضل الخنصر بكثير في العمل وهو أيضًا أضخم منه، وأقوى منه ومع ذلك قال النبي (صلى الله عليه وسلم) هذه وهذه سواء، يعني: في الدية. 1136 - ولأبي داود والترمذي: "دية الأصابع سواء، والأسنان سواءٌ: الثَّنيَّة والضِّرس سواءٌ". 1137 - ولابن حبَّان: "دية أصابع اليدين والرِّجلين سواءٌ، عشرةٌ من الإبل لكلِّ إصبعٍ". وهذا المعنى قد تقدم الكلام عليه.

ضمان الطبيب

ضمان الطبيب: 1138 - وعن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه رفعه قال: "من تطبَّب ولم يكن بالطِّبِّ معروفًا فأصاب نفسًا فما دونها؛ فهو ضامنٌ". أخرجه الدارقطني، وصححه الحاكم، وهو عند أبي داود، والنسائي وغيرهما؛ إلا أنَّ من أرسله أقوى ممَّن وصله. "تطبب"؛ أي: مارس مهنة الطب، "ولم يكن بالطب معروفًا" أي: معلومًا بأنه طبيب حاذق، "فأصاب"؛ يعني: أتلف "نفسًا فما دونها" كإتلاف العضو أو الجرح "فهو ضامن"، وذلك لأنه غير مأذون له في أن يتطبب، فإذا قال قائل: ولم يكن بالطب معروفًا كيف نعرف طبه؟ نقول يعرف طبه بالدراسة أو بالتجارب إذا لم يكن دارسًا، أما في الدراسة فأن يدخل مدارس الطب ويتعلم ويأخذ تمارين على هذا ويعطى الإجازة التي تسمى الشهادة، وهي عند العلماء سابقًا تسمى إجازة فإذا أعطي الإجازة فهو معروف بالطب، وقد يكون وارثها بالتجارب؛ يعني: لا يقرأ على أحد لكنه يحبس نفسه على التمرن والتجارب في الأمراض، وفي أدوية الأمراض فيتوصل إلى المعرفة، فإذا علم بالتجارب أنه إنسان حاذق والناس يترددون إليه ويجدون منه فائدة فحينئذٍ يكون بالطب معروفًا، فإذا لم يوجد عنده لا إجازة نظرية ولا تجريبية فإنه حينئذٍ يكون ضامنًا إذا أصاب نفسًا فما دونها. وعلم من هذا الحديث فوائد: أولًا: أن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون ويؤخذ هذا من مفهوم الحديث وهو قوله: "ولم يكن بالطب معروفًا" أنه إذا كان بالطب معروفًا فأصاب نفسًا فما دونها فإنه لا ضمان عليه، مثال ذلك رجل معروف بالجراحة أجرى جراحة لشخص ثم خاض الجراحة وانتهى ولكن الجراحة تعفنت وتضاعفت حتى هلك هذا المريض! ! فإن هذا الطبيب ليس عليه ضمان، ولكن لو فرض أن يده أخطأت- بمعنى: أنها تجاوزت الحد المطلوب- مثل: أن يكون الحد المطلوب للجراحة مقدار أنملة، ولكنه تجاوز إلى مقدار أنملتين من غير حاجة لذلك فإن ما ترتب على هذه الزيادة يعتبر مضمونًا، حتى لو كان ذلك عن خطأ لو فرض أنه عندما حرك المشرط زلّت يده حتى اتسع الخرق فإنه يكون ضامنًا، وذلك لأن ما تتعلق بمعاملة الخلق لا يفرق فيه بين العمد والخطأ. وفهم من هذا الحديث: أن من تطبب بدون معرفة فإنه يضمن إن أصاب نفسًا فما دونها

دية الشجاج

وهو منطوق الحديث وعلى هذا فيجب الحذر من إعطاء الترخيص في الطب من لم يكن معروفًا به والحذر أيضًا من مراجعة شخص يتطبب ولم يكن معروفًا بالطب لأنه ربما يهلك المريض من حيث لا يشعر. وفهم من هذا الحديث: أن الطب مهنة جائزة لأنه لا ضمان على من كان معروفًا بالطب إذا أصاب نفسًا فما دونها ولو كانت محرمة لكان على الطبيب الضمان مطلقًا والطب لاشك أنه جائز بل إنه مأمور به بل عدَّه بعض الفقهاء من فروض الكفاية وقال القاعدة عنده إن المصالح العامة التي يحتاج إليها المجتمع عمومًا فرض كفاية وأن من ذلك تعلم الطب والصناعة من خشب وحديد وغيرها لأن هذا من الأمور التي يحتاج إليها المجتمع ولا تندفع حاجة المجتمع إلا بتعلمها ونحن نرى هذا وأن الذين يشاركون في تعلم الطب مشاركون في فرض كفاية لأن المسلمين لابد لهم أحد يداوي مرضاهم وينفعهم ولاسيما في هذا الوقت الذي أصبح الطب أرضًا خصبة لمن أراد دعوة الخلق إلى الحق فإن الطبيب بحكم ضرورة المريض له يستطيع أن يؤثر على المريض أكثر مما يستطيع أن يؤثره داعية من أفصح الدعاة لأن المريض في هذه الحال محتاج ولاسيما إذا كان المريض مرضه مزمن وأنه خطير ولاسيما إذا حضر أجله فإن الطبيب إذا كان موفقًا أمكنه أن يحاول أن يختم لهذا المريض بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. ومن فوائد الحديث: كمال الدين الإسلامي، وذلك بإباحة الطب وتشجيع الطبيب الحاذق بأنه لا ضمان عليه إذا لم يتعد أو يفرط فإذا قال قائل: ما مناسبة هذا الحديث لباب الديات؟ قلنا: المناسبة ظاهرة وهو أن الطبيب الحاذق ليس عليه ضمان بقود ولا دية وهل يقاس على الطبيب كل من تصرف للغير في مصلحته؟ الجواب: نعم كل من تصرف للغير في مصلحته فإنه لا ضمان عليه لو تلف ذلك الغير. دية الشجاج: 1139 - وعنه (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "في المواضح خمسٌ، خمسٌ من الإبل". رواه أحمد والأربعة، وزاد أحمد: "والأصابع سواءٌ، كلُّهن عشرٌ، عشرٌ من الإبل" وصحَّحه ابن خزيمة، وابن الجارود. "المواضح" جمع موضحة، وسبق أنها الشجة التي توضح العظم وأنها خاصة بجرح الرأس

دية أهل الكتاب

والوجه فإذا جرح إنسان حتى شق الجلد واللحم ووصل إلى العظم فأوضحه ولو بجزء يسير ففيه خمس من الإبل، أما لو كان ذلك في غير الرأس والوجه مثل أن يكون في الظهر أو في الأضلاع أو في الرقبة أو في الساق أو في الفخذ فإن ذلك ليس بموضحة وفيه حكومة لأنه لم يقدر شرعًا، فإن قال قائل: الحديث عامٌّ في المواضح وهو جمع موضحة. قلنا: هو عام لكنه عرفا خاصٌّ بجرح الرأس والوجه لا يعرف في اللغة معنى الموضحة إلا لجرح أوضح العظم في الرأس والوجه. وقوله: "خمس من الإبل"؛ يعني: كل موضحة لها خمس، وعلى هذا فلو أوضحه في رأسه من أربعة جوانب دون أن يتصل بعضها ببعض فعليه عشرون بعير لأن كل موضحة لها خمس من الإبل قال وزاد أحمد ... إلخ، وهذا كلٌّ مضى وقد مضى، أن الموضحة هي أول جرح يكون فيه مقدر شرعًا وما قبل الموضحة ففيه حكومة، فالموضحة ثم الهاشمة ثم المنقلة ثم المأمومة ثم الدامغة. دية أهل الكتاب: 1140 - وعنه (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "عقل أهل الذِّمة نصف عقل المسلمين". رواه أحمد والأربعة. ولفظ أبي داود: "دية المعاهد نصف دية الحرِّ". "الذمة" هي العهد والأمان وأهل الذمة هم الذين سكنوا بلادنا على أن يبذلوا الجزية ويحموا من قبلنا من الأذى وقد كان ذلك في أول الإسلام يقيم الرجل بالجزية في بلاد المسلمين ويسكن على أن يبذل الجزية كل عام ومرجع الجزية لاجتهاد الإمام يضرب عليهم جزية كل عام تؤخذ منهم على حسب ما يراه من أحوالهم؛ الغني له حال والفقير له حال والمتوسط له حال وهناك معاهد المعاهد أيضًا يكون نصف دية الحر، "المعاهد" هو الذي بيننا وبينه عهد وهو في بلده مستقلٌّ لا نحميه ولا نتعرض له، لكن بيننا وبينه عهد وهناك قسم ثالث وهو المستأمن الذي طلب منها الأمان لتجارة يعرضها في بلادنا أو ليستمع إلى القرآن والإسلام علَّه يسلم فهؤلاء ثلاثة كلهم معصومون، وبقي قسم رابع من الكفار، وهو الحربي الذي ليس بيننا وبينه ذمة ولا عهد ولا أمان فهذا لا يضمن لا بالقصاص ولا دية؛ لأن دمه هدر، يقول: "عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين"، فيكون الرجل منهم خمسون بعيرًا والمرأة خمس وعشرون بعيرًا والطفل الذكر خمسون والأنثى خمس وعشرون ولفظ أبي داود دية المعاهد

دية المرأة والرجل

نصف دية الحر هو قريب من الأول لكن المعنى يختلف كما سبق، المعاهد ديته نصف دية الحر؛ يعني: خمسون بعيرا للذكر وخمس وعشرين بعيرا للأنثى. دية المرأة والرجل: 1141 - وللنسائي: "عقل المرأة مثل عقل الرجل، حتى يبلغ الثلث من ديتها". وصححه ابن خزيمة. "عقل" بمعنى: دية، يقول: "حتى يبلغ الثلث من ديتها" فإذا بلغ عاد إلى الأصل، وهو أن عقل المرأة نصف عقل الرجل. يستفاد من هذا الحديث فوائد: أولا: أن دماء أهل الذمة محترمة، يؤخذ من إيجاب العقل بقتلهم وهي دلالة التزام. ثانيًا: أنهم دون مرتبة عقل المسلمين، وذلك أنها على النصف. ومن فوائد الحديث: أن المعاهد له دية ومحترم، وديته نصف دية الحر المسلم. ومن فوائد الحديث: تساوي الرجل والمرأة فيما يوجب ثلث الدية فأقل يعني: فيما دون ثلث الدية تتساوى المرأة والرجل، فإذا بلغت ثلث الدية صارت المرأة على النصف من الرجل؛ لأن المرأة لا تتحمل أن تكون مثل الرجل لا في المصالح العامة ولا في المصالح الخاصة، ولهذا كانت على النصف من دية الرجل وعليه ففي الأصبع من المرأة عشر من الإبل وفي الأصبعين عشرون من الإبل وفي الثلاثة ثلاثون من الإبل لأن الثلاثين أقل من الثلث وفي الأربعة عشرون من الإبل لما عظمت مصيبتها قل عقلها، إذا قطع أربع أصابع فالدية عشرون وإذا قطع ثلاثة أصابع فالدية ثلاثون، قال بعض العلماء: كلمة لما عظمت مصيبتها قل عقلها، يعني: الدية فإذا قال قائل أرأيت لو أن رجلا لما قطع ثلاثًا خطأ ورأى أنه يجب عليه في ذلك ثلاثون قال أقطع الرابع ليجب علي عشرون هل تنفعه هذه الحيلة؟ لا، هذه لا تزيده إلا شرا لأنه إذا قطعنا أصبعه المماثل للإصبع الذي قطعه وأوجبنا عليه ثلاثين فتكون هذه الحيلة غير نافعة لأن الأصبع الرابع تعمد قطعه فوجب فيه القصاص والثلاثة الباقية لكل واحد عشر.

تغليظ الدية وضوابطه

ومن فوائد الحديث: حكمة في التفريق بين دية المرأة ودية الرجل، وهذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم لدلالة الحديث عليه. تغليظ الدية وضوابطه: 1142 - وعنه رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل شبه العمد مغلَّظٌ مثل عقل العمد، ولا يُقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشَّيطان، فتكون دماءٌ بين النَّاس في غير ضغينةٍ، ولا حمل سلاحً" أخردة الدَّارقطني وضعَّفه. وعنه؛ أي: عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، و"عقل" بمعنى: دية، وشبه العمد هو الجناية بما لا يقتل غالبا مثل العصا والسوط والحبل وما أشبهه، لكن يفرق بينه وبين الخطأ: أن شبه العمد يتعمده الفاعل والخطأ لا يتعمده، ويفرق بينه وبين العمد، أن العمد يتعمده الفاعل بما يقتل غالبًا، وهذا يتعمده بما لا يقتل غالبًا، شبه العمد وسط بين الخطأ وين العمد؛ لأننا إذا نظرنا إلى أصل الجناية ألحقناها بالعمد لأن الرجل قد تعمد، وإذا نظرنا إلى أنه لم يقصد القتل ولذلك لم يضربه إلا بما لا يقتل ألحقناها بالخطأ فكان في منزلة بين منزلتين ولهذا لا يوجب القصاص، وليس كالخطأ في الدية، بل هو مغلظ، وسبق أن التغليظ هو أن تُجعل مائة الإبل أرباعًا وأما عدم التغليظ فأن تجعل أخماسًا، أرباعًا تكون خمس وعشرين بنت مخاض، وخمس عشرين بنت لبون، وخمس وعشرين حقة، وخمس وعشرين جذعة، الخطأ تكون أخماسًا ثمانون من هذه الأربعة وعشرين من بني مخاض أو بني لبون، على اختلاف الروايات في هذا، إذن شبه العمد مغلظ. من فوائد هذا الحديث: أن شبه العمد لا يجب فيه القصاص لقوله: "ولا يقتل صاحبه" ووجهة: أن الفاعل لم يقصد القتل بدليل انه جنى بآلة لا تقتل غالبًا والذي يريد القتل لابد أن يجني بآلة تقتل غالبًا. ومن فوائد الحدي: ضرب المثل لشبه العمد "أن ينزو الشيطان ... إلخ" يعني: يكون قتال فيه معاندة ومخاصمة فيقوم أحدهم ويضرب الآخر، لن بغير سلاح بقصد -هذا هو شبه العمد. ***

ملخص في الجنابة على الحمل باعتبار ضمانه وكفارة قتله: القسم الأول: ما لا ضمان فيه ولا كفارة وله ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يموت مع أمه ولم يخرج منها، يعني: جنى حامل فماتت هي وجنينها فليس فيه شيء لا كفارة ولا ضمان -هذا بالنسبة للجنين. الثانية: أن يخرج مضغة غير مُخلقة أو قبل ذلك فليس فيه شيء أيضًا. الثالثة: أن يموت في بطن أمه ولم يخرج منها مع بقاء الحياة والفرق بينه وبين الصورة الأولى: أن الأولى ماتت لأمه وهنا لم تمت مع بقاء حياتها ذكره في "المغني" وعلَّله بأن حكم الولد لا يثبت إلا بعد خروجه، قال: وحكي عن الزهري أن عليه غرة لأن الظاهر أنه قتل الجنين وهذا أصح لأنه تأكدنا أنه حي، ولكن يقول الفقهاء لأننا لا ندري ربما لا يخرج حيًّا أو لم يكن جنينًا ويبقى في بطن أمه أما إذا خرج وتبين فالأمر واضح. القسم الثاني: ما يضمن بالغرة ولا كفارة فيه وله صورة واحدة وهي أن يخرج مضغة مُخلقة قبل نفخ الروح فيه. القسم الثالث: ما يضمن بغرة مع الكفارة وله ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يخرج ميتًا بعد نفخ الروح فيه. الثانية: أن يخر حيًّا لوقت لا يعيش لمثله ثم يموت من الجنابة. الثالثة: أن يخرج حيَّا لوقت يعيش لمثله ويتحرك حركة اختلاج ونحوها كحركة ونحوها كحركة المذبوح ثم يموت هذا يضمن بغرة مع الكفارة. القسم الرابع: ما يضمن بدية مع الكفارة وله صورة واحدة وهو أن يخرج حيًّا لوقت بعيش لمثله حياة مستقرة ثم يموت بسبب الجناية -هذا التقسيم جيد. 1143 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: "قتل رجلٌ رحلاً على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفًا". رواه الأربعة، ورجَّح النَّسائيُّ وأبو حاتمٍ إرساله. أي: اثني عشر ألف درهم، وهذا الحديث -كما رأيتم- فيه ان الدية تكون اثني عشر ألف درهم، وقد سبق أن الدية مائة بعير فهل هذا الحديث يقتضي أن يكون هناك أصل آخر غير الإبل كما أن هناك أصلاً آخر غير الإبل وهو ألف دينار أو أن هذا من باب التقويم، يعني: أن

مائة من الإبل في ذلك الوقت تساوي اثني عشر ألفاً؟ في هذا قولان للعلماء؛ منهم من قال: إن ما ذكر أصل فيكون من عنده إبل يؤخذ منه مائة من الإبل ومن عنده دراهم ودنانير يؤخذ منه الدنانير والدراهم، وصاحب البقر من بقره، وصاحب الغنم من غنمه ولكن الصحيح أن الأصل هي الإبل لكن لو رأى الحاكم أن يُراعى احوال العاقلة فإن كانوا أصحاب إبل أخذ منهم إبلاً، وإن كانوا أصحاب بقر أخذ منهم بقرًا، وإن كانوا أصحاب ذهب أخذ منهم ذهبًا، لو رأى مراعاة ذلك لكان جيدًا ولكن إذا قلنا بهذا القول هل نأخذ بما جاء مقدرًا في هذه الأحاديث أو نأخذ بما تساوي في وقتها؟ الثاني إذا قلنا: إن الإبل هي الإصل فالثاني هو الذي يؤخذ به، اما المذهب فالأصول خمسة: الإبل والبقر والغنم والذهب والفضة وعرفتهم أن الإبل مائة، والبقر مائتان والغنم ألف والذهب ألف مثقال والدراهم اثنا عشر ألفا درهم، والاثنى عشر ألف درهم كم تساوي من الدراهم الآن؟ ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستين، الآن انظروا الفرق بين دية الفضة ودية الإبل، يعني: على المذهب من قال من عليه الدية أنا لا أسلمكم إلا الدراهم وقلنا إن الدراهم محددة شرعًا صارت الدية ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستين، الآن انظروا الفرق بين دية الفضة ودية الإبل، يعني: على المذهب من قال من عليه الدية أنا لا أسلمكم إلا الدراهم وقلنا إن الدراهم محددة شرعًا صارت الدية ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستين لكن العمل كما قلنا على خلاف ذلك العمل على أن الأصل في الديات هي الإبل وإن ما ذكر في الأحاديث فهو من باب تقدير الإبل بالقيمة، وكانت في ذلك الوقت تساوي هذه القيمة. 1144 - وعن أبي رمثة رضي الله عنه قال: "أتيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ومعي ابني، فقال: من هذا؟ فقلت: ابني وأشهد به. فقال: أما إنَّه لا يجني عليك، ولا تجني عليه". روان النَّسائيُّ، وأبو داود، وصحَّحه ابن خزيمة، وابن الجارود. هذا الحديث يقول: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابني فقال: من هذا؟ " وكان هناك سبباً أوجب ان يسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا أكده فقال: "ابني وأشهد به" والظاهر -والله أعلم- أن هناك فرقاً في الشبه أو في اللون أو أن أبا رمثة كان صغيراً لا يحتمل أن يكون هذا الابن ولدًا له فقال: من هذا؟ وأمت مجرد سؤال ويقول: "هذا ابني وأشهد به" فهذا بعيد فلابد أن يكون هناك سبب لسؤاله: "فقلت: ابني وأشهد به" أي: هذا ابني، فهو خير لمبتدأ محذوف، فقال: "إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه"، "لا يجني عليك" يعني: لا تتحمل جنايته، "ولا تجني عليه" يعني لا

يتحمل جنايتك هذا المعنى، وليس المعنى: أن الأب لا يمكن أن يجني على ابنه فربما يجني عليه كأن يضربه أو يجرحه وربما يقتله، وكذلك العكس، لكن المعنى: أنه لا يتحمل جنايتك ولا تتحمل جنايته، وعلى هذا فالأب لا يحمل من الدية إذا كانت على العاقلة شيئًا، لو أن شخصًا قتل إنسانًا خطأ، فالدية على عاقلته والعاقلة هم الأصالة، لكن هذا الحديث يدل على أن الأصول والفروع لا يتحملون من الدية شيئًا لأنه قال: لا يجني عليك ولا تجني عليه وإلى هذا ذهب أهل العلم وقالوا إن العاقلة هم ذكور العصبة ما عدا الأصول والفروع وأن الأصول والفروع لا يتحملون من الدية شيئًا، ولكن القول الراجح أنهم يتحملون وأنهم أولى بالتحميل ممن وراءهم لأن القرابة الذين سواهم من أين كانوا قرابة لك؟ منهم فإذا كانوا هم الأصل فكيف يحمل الفرع ولا يحمل الأصل؟ ! فالصواب أن الأصول والفروع من العاقلة كم سواهم ولكن لو قال قائل: كيف نجيب عن هذا الحديث؟ نقول المراد الجناية التي يكون بها قصاص، يعني: لو جنى الابن جناية فيها قصاص فإنه لا يقتص من أبيه بدلاً عنه ولو جنى الأب جناية فيها قصاص فإنه لا يقتص من الابن نيابة عنه أما مسألة الدية فإنه لا تعرض للحديث فيها. في هذا الحديث فوائد: أولاً: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على معرفة أحوال أصحابه لقوله: "من هذا"، ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" فلما سأل علم أنه صلى الله عليه وسلم يعتني بأصحابه وأن أحوال أصحابه مما يعنيه؛ إذ لا يمكن إن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم غير حسن الإسلام -وهو أكمل الناس إيمانًا وأشدهم تقوى لله عز وجل؛ فإذن يستدل بهذا الحديث على حرض النبي صلى الله عليه وسلم على معرفة أحوال أصحابه، ويتفرع على هذه القاعدة: أنه ينبغي لكبير القوم من قاضٍ أو عالم أو أمير أن يتفقد أحوال من هم تحت يده اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أن الرجل إذا استحلق ابنًا له فإن يلحقه ولا يحلف البينة به وهو كذلك فإذا استلحق الإنسان شخصًا قال هذا ولدي فإنه ولده لكن بشرطين الأول ألا ينازع فيه، والثاني أن يمكن كونه منه فإن نوزع فيه نظرنا إن كان المنازع غير ذي فراش فإنه يعرض على القافة الذين يعرفون النسب بالشبه فمن ألحقته به لحقه. ومن فوائد الحديث: صحة إطلاق الشهادة على الإقرار لقوله وأشهد به أي أقر به وقد سمى الله الإقرار شهادة فقال (يا أسها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) [النساء:

2 - باب دعوى الدم والقسامة

125]. والشهادة على النفس صغير إقرار والشهادة على الغير للغير شهادة والشهادة للنفس على الغير دعوى هذه ثلاثة أشياء. ومن فوائد الحديث: أنه لا يقتص من أحد عن أحد حتى الابن لا يتقص منه عن أبيه ولا الأب عن ابنه فلو أن الأب جنى على شخص وقطع يده عمدًا فإنها تقطع يده إذا تمت الشروط، فإذا قال: ابنه هذا أبي اقطعوا يدي بدله هل يمكن من ذلك؟ لا، لأن الأب لا يجني على الابن وكذلك بالعكس، لو أن الابن قطع يد شخص عمدًا وتمت شروط القصاص وأردنا أن نقتص منه فقال أبوه اقتصوا مني لأن ابني شاب وأنا شيخ كبير، فإنه لا يمكن ولقوله: "لا جني عليك ولا تجني عليه" هذا معنى الحديث. * * * * 2 - باب دعوى الدم والقسامة "القسامة" مأخوذة من القسم وهو الحلف وصورة القسامة أن يقتل قتيل لا يعلم قاتله فيدعي أولياؤه أن فلانًا قتله، فإذا طبقنا هذه الصورة على القاعدة الشرعية قلنا: لا ادعي رجال دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فنقول للمدعي: ائت ببينة على أن فلانًا قتل قتيلكم وإلا فلا شيء لكم، يحلف المدعى عليه بأنه لم يقتل لكن إذا كان هناك قرينة تدل على صدق الدعوى وأن القاتل فلان فحينئذ يأتي دور القسامة، ولكن ما هذه القرينة التي تثبت فيها القسامة؟ القرينة التي تثبت فيها القسامة عند شيخ الإسلام ابن تيمية كل ما يُغلب على الظن صدق المدعي منها العداوة الظاهرة بين القبائل ومنها أن تجد شخصًا معه سكين أو سيف يقطر دمًا والقتيل بين يديه فهذه قرينة ظاهرة والقرائن كثيرة المهم القاعدة كل ما يغلب على الظن صدق الدعوى فهو قرينة أما المذهب فالقرينة خاصة بالعداوة الظاهرة التي تكون بين القبائل وإنما خصوها بهذا لأن الأصل في القاعدة الشرعية أن المدَّعي عليه البينة وأنها لا تقبل دعواه ولنفرضها فيما ذكره الفقهاء -رحمهم الله- في العداوة الظاهرة، وُجد قتيل عند قرية بين أهلها وبين قبيلة القتيل عداوة ظاهرة مناوشات دائمة حينئذٍ تُجري القسامة ونقول لأهل القتيل عينوا القاتل فإذا عينوه قلنا: هذا القاتل عندكم بينة قالوا ما عندنا بينة نقول

احلفوا خمسين يمينًا أن هذا هو الذي قتل صاحبكم وتوزع الأيمان على وارث الدم، يعني: على وارث المقتول فإذا كانوا خمسة كان على كل واحد عشرة وإذا كانوا ثلاثة كان على كل واحد ستة عشر ويجبر الكسر فتكون على كل واحد سبعة عشر فنقول احلفوا خمسين يمينًا على أن هذا قاتل صاحبكم فإذا حلفوا قلنا: خذوه اقتلوه فيقتلونه وفي هذه الحال تكون هذه القسامة خارجة عن قاعدة الدعاوي من وجوه ثلاثة الوجه الأول: أن اليمين صار في جانب المدعي والأصل أنها في جانب المدعى عليه. ثانيًا: أن الأيمان كُررت والأصل أن الأيمان لا تكرر. ثالثًا: كيف يحلف هؤلاء على شيء لم يروه ولهذا سيأتينا في الحديث أن الصحابة امتنعوا أن يحلفوا وقالوا كيف نحلف لم نرى فهذه ثلاثة أوجه خالفت فيها القسامة القواعد المعروفة في الدعاوى فما هو الجواب؟ نقول الجواب عن الأول وهو أنه كيف كانت الأيمان في جانب المدعي والأصل أنها في جانب المدعى عليه؟ نقول الأيمان ليست في جانب المدعي دائمًا الأيمان في جانب أقوي المتداعيين سواء كان المدعي أو المدعى عليه ولذلك لو ادعى شخص بشيء وأقام شاهدًا قلنا له: احلف مع الشاهد وخلده. وقول المؤلف: دعوى الجم؛ يعني: أن يدعي الإنسان على شخص انه قتل صاحبه والقسامة مأخوذة من القسم وهو الحلف وهي عند الفقهاء أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم وتكون في جانب المدعي وفي جانب المدعى عيه والقسامة كانت معروفة في الجاهلية يحكم بها الناس، فأقرها الإسلام على ما كانت عليه؛ لأن الإسلام لا يرد كل ما كان عليه المشركون، ولا يرد كل ما جاء به الكافرون، بل الإسلام دين العدل ودين الحق، فمتى كان الشيء حقًا وعدلاً فإنه عند الإسلام مقبول بقطع النظر عن قائله، وما كان باطلاً فهو مرفوض، بقطع النظر عن قائله؛ لأن الله يقول: (هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق). تعريف القسامة: والقسامة، مثل: أن يأتي شخص ويقول: أنت الذي قتلت أخي! فيقول الآخر: ما قتلته، القاعدة أن نقول للمدَّعي: هات بينة، فإن كان عنده بينة فالبينة قائمة مقام الأيمان وإذا لم يكن عنده بينة نقول احلف فإذا حلف أن فلانًا قتل صاحبه عمدًا، قلنا: خذه برمته، يعني: بحبله فاقتله

ولكن لها شروط من أعظمها اللوث، واللوث مختلف في معناه عند الفقهاء، فمن الفقهاء من يقول: إن اللوث هو العداوة الظاهرة كالعداوات التي تكون بين القبائل دون العداوة الباطنة التي تكون بين شخص وآخر، لأن العداوة الظاهرة قرينة مرجحة لدعوى المدعي وهي ظاهرة، لكن العداوة الشخصية خفية ليست ظاهرة فلهذا نقول في تفسير اللوث إنه العداوة الظاهرة ومثالها ما يكون بين القبائل وقال بعض العلماء اللوث كل ما يكون مغلبًا للظن في صدق دعوى المدعي سواء كان عداوة ظاهرة أو كان هذا الذي ادعى عليه القتل بيده سكين متلطخة دمًا وإلى جنبه رجل يتشحط في دمه أو رؤي هاربًا ثم وجدنا خلفه قتيلاً أو سبق أن توعده وتهدده فالمهم أن كل شيء يوجب غلبة الظن في صدق دعوى المدعي سواء كان عداوة ظاهرة أو كان هذا الذي ادعى عليه القتل بيده سكين متلخطة دمًا وإلى جنبه رجل يتشحط في دمه أو رؤي هاربًا ثم وجدنا خلفه قتيلاً أو سبق أن توعده وتهدد فالمهم أن كل شيء يوجب غلبة الظن في صدق المدعي فهو لّوث وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الحق وما وقع بين اليهود والأنصار فهو قضية عين تعتبر مثالاً على ما يبرر القسامة، وكنا قد ذكرنا أن القسامة مخالفة للدعاوي من ثلاثة أوجه: الأول: أن اليمين في الدعاوي في جانب المدعى عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "واليمين على المدعى عليه"، أو قال: "على من أنكر"، وهنا كانت اليمين في جانب المدعي فيقال اليمين المرجحة وتكون في الجانب للراجح وإذا كانت الدعوى مجردة فمن المعلوم أن الراجح هو جانب المدعى عليه لأن الأصل براءته مما ادعى عليه فإذا قال زيد: أنا أطالب عمرًا مائة درهم فما هو الأصل؟ الأصل مع المدعى عليه لأن الأصل عدم ثبوت هذا الشيء، ولهذا صارت اليمين في جانب المدعى عليه لأن جانبه أقوى ويدل على أن اليمين في جانب أقوى المتداعيين وليست في جانب المدعي فقط ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالشاهد واليمين ومعنى الشاهد واليمين لو أن شخصًا ادعى على آخر شيئًا وأقام رجلاً واحدًا يسهد بما ادعى به فهنا نحكم له بما ادعى به إذا حلف مع شاهده فيجدون الآن أن اليمين في جانب المدعي لأنه قوي جانبه بالشاهد الذي معه لكن لما كان الشاهد ناقصًا عن النصاب احتيج إلى توكيده بيمين المدعى كذلك أيضًا قال الفقهاء لو أن رجلاً فارق زوجته وادعت أن هذا المتاع في البيت لها وادعى الرجل أنه له فهل نصدق المرأة أو نصدق الزوج؟ قالوا: إذا كان هذا المتاع مما يصلح النساء فالقول قول المرأة، لكن مع يمينها وإذا كان لا يصلح إلا للرجل فالقول قول الرجل فهما عملنا بالظاهر مع اليمين وجعلنا اليمين في جانب المدعي إذا كان الظاهر معه فتبين أن اليمين في القسامة لم تخرج عن قاعدة الدعاوي في هذه المسألة أي يكون الأيمان في جانب المدعي؛ لأن جانب المدعي قوي بوجود اللوث المغلب

للظن في صدق هذا المدعي، وأما كونها تكرر فإن تكرارها موافق للحكمة أيضًا لأن شأن الدماء عظيم والقسامة إذا ثبتت فيها الدعوى سوف يقتل المدعى عليه تقتل النفس وتنتقل من العصمة إلى الهدر فالأمر عظيم، ولهذا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلف المدعي خمسين يمينًا فإن لكل لم تقبل دعواه وأما كونهم يحلفون على شيء لم يروه فإن الحلف على غلبة الظن جائز شرعًا لا على مجرد هوى، ولهذا نجد الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي في الحديث، "أبوا أن يحلفوا لورعهم"، لكن إذا كان إنسان عنده من القرائن ما يغلب على ظنه أن الأمر حصل فله حلف بناء على غلبة الظن. فإذا قال قائل: هل لديكم دليل يدل على جواز اليمين على غلبة الظن؟ قلنا: نعم، قصة الرجل المجامع في رمضان ثم جاء يستفتي النبي صلى الله عليه وسلم وأفتاه بأن يعتق رقبة فقال لا أجد قال فصم شهرين متتابعين قال لا أستطيع قال أطعم ستين مسكيناً قال لا أجد ثم جيء بتمر فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الرجل وقال تصدق به فقال أعلى أفقر مني والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، أقسم فقال "والله" ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع احتمال أن يوجد بيت أفقر منه حتى لو فرض أن الرجل ليس عنده أي طعام يوجد أفقر منه يكون عليه دين مثلاً، يعني: لو قال قائل: بأن هذا الرجل حلف على أمر معلوم بأنه ليس عنده شيء فلا أحد أفقر منه قلنا: بل ربما تكون أحد أفقر منه يكون ما عنده شيء أيضًا عليه دين فيكون أفقر منه فالحاصل أن هذا يدل على أنه يجوز الحلف على غلبة الظن؛ ولهذا لو قال قائل: والله ليقدمن زيد غدًا ثم لم يقدم هل عليه كفارة؟ بناء على ظنه ليس عليه شيء إذا لم يقدر وإن كان المشهور من المذهب أن عليه كفارة لكن لا كفارة عليه لأنه حلف على شيء يعتقده، لكن لو قال والله ليقدمن بناء على أن أمر زيد بيده سيحظله ولم يحظله فعليه لأنه حلف على الفعل ولم يفعل، ومن ذلك أيضًا لو حلف على أمر ماض يظنه كذلك ولم يكن فهل عليه إثم؟ ليس عليه إذن تكون القسامة أو يكون الحلف في القسامة بناء على غلبة الظن لم يخرج عن قاعدة الأيمان؛ لأن القاعدة في الأيمان أنه يجوز الحلف على غلبة الظن. 1145 - عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه، لكن رجالٍ من كبراء قومه: "أن عبد الله بن سهلٍ ومحيِّضة بن مسعودٍ خرجا إلى خيبر من جهدٍ أصابهم، فأتي محيِّصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قُتل، وطرح في عينٍ، فأتى يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه. قالوا: والله ما قتلناه، فأقبل هو وأخوة حويصة وعبد الرحمن بن سهلٍ، فذهب محيصة ليتكلَّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبِّر

كبِّر، يريد: السنَّ، فتكلَّم حويِّصة ثمَّ تكلَّم محيَّصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمَّا أن يدوا صاحبكم، وأمَّا أن يأذنوا بحربٍ. فكتب إليهم في ذلك، فكتبوا: إمَّا والله ما قتلناه، فقال لحويِّصة، ومحيِّصة، وعبد الرحمن بن سهل: أتحلفون، وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لا، قال: فتحلف لكم يهود؟ قالوا: ليسوا مسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، فبعث إليهم مائة ناقةٍ. قال سهلٌ: فلقد ركضتني منها ناقةٌ حمراء". متَّفقٌ عليه. "سهل"، صحابي و"رجال من كبراء قومه" أيضًا الظاهر أنهم صحابة؛ لأنه لا يهم في مثل هذه القصة عن يهودي أو عن إنسان غير مسلم، وقوله: "جهد" هي المشقة والجوع وقوله: "أصابهم" ولم يقل: أصابهما، يعني: أصاب أهلهم وهم من الأهل، وقوله: "خيبر" لأن خيبر مزارع نخيل يوجد فيها ما يسد جوعهم فخرج إلى ذلك، قوله: "قد قتل وطرح في عين"، العين هي منبع الماء، وهي البئر وخيبر كانت عيونًا تجري، بل إننا شاهدنا نحن وأدركنا أن أحدًا عيونٌ تجري تنبع من الأرض وتمشي لكن نضب الماء وقلَّ، فقال: "أنتم والله قتلتموه قالوا ... إلخ" حويصة أخو محيصة، وعبد الرحمن بن سهل أخو عبد الله بن سهل القتيل. وقوله: "ذهب محيصة يتكلم" لأنه شاهد القضية، وأخوه محيصة أكبر منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "كبر كبر" يريد السن، فتكلم حويصة وحويصة لا شك أنه قد بلغه خبر القوم، وإلا ما كان ليتكلم بشيء لا يعلمه ثم تكلم محيصة، يعني: بعد ما تكلم حويصة ولعلة أتم ما لم يأت به حويصة وقوله: يدوا صاحبكم، يعمي: يؤدوا ديته إن قبلتم الدية أو يقتل القاتل إن عينتموه وإما أن يأذنوا بحرب؛ لأنهم نقضوا العهد، فإن الذمي إذا نقض العهد بقتل أحد من المسلمين أو اعتداء عليه بزنا او لواط أو ما أشبه ذلك فإن عهدهم ينتقض فكتب إليهم يعني: قال لهم: "إما أن تدوا صاحب القوم وإما أن تأذنوا بحرب"، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، قوله: "فكتب إليهم في ذلك" هل المراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم باشر الكتابة ولكن أمر من يكتب ثم إن الظاهر أنه كتب إليه باللغة العبرية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود ليترجم الرسائل التي تأتي منهم والتي تذهب إليهم إلى لغتهم، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال لحويصة، ومحيصة، وعبد الرحمن بن سهل -أخو القتيل- وحويصة ومحيصة: "عمّاه أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" أتحلفون؛ يعني: على أن اليهود قتلته وتستحقون دم صاحبكم، فقالوا: لا، لا نحلف. وفي لفظ آخر أنهم قالوا: "كيف نحلف ولم نشهد ولم نر" يعني: بينوا سبب امتناعهم عن اليمين؛ لأنهم ما شهدوا ولا علموا بذلك. قال: "فتحلف لكم يهود بأنهم لم

يقتلوا صاحبكم" فقالوا: ليسوا بمسلمين، ومن ليس بمسلم فإنه غير مأمون أن يحلف على الكذب، ولا سيما اليهود فغنهم من مصادر الكذب فوداه الرسول؛ أي: أدى ديته من عنده صلى الله عليه وسلم أي: مما تحت ولايته، وليس المراد: أنه وداه من ماله؛ لأن من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبقى المال عنده، حتى إنه جاءه مال ذهب أو فضة فجعل صلى الله عليه وسلم يهتمُّ بذلك حتى فرقه كله، فكان صلى الله عليه وسلم لا يدخر لنفسه شيئًا، فبعث إليهم مائة ناقة. "سهل ... إلخ" سهل الظاهر أنه ابن أبي حثمة الراوي، وقوله: "ركضتني"؛ أي ضربتني برجلها "ناقة حمراء" وأراد بذلك توكيد القضية وأن النبي صلى الله عليه وسلم وداه من عنده. هذا الحديث أصل في القسامة؛ وفيه ألفاظ متعددة غير هذا؛ ولهذا ينبغي أن يُعتنى به من جميع الجوانب، وتذكر القصة بجميع رواياتها، أولاً ما هي خبير؟ هي عبارة عن مزارع وحصون اليهود وسكن بعضهم المدينة وسبب ذلك أنهم كانوا قرأوا أنه سيبعث رسول يكون مهاجره المدينة فسكنوا فيها ترقبًا لهذا الرسول وكانوا كما قال الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحتون على الذين كفروا) أي: يستنصرون عليهم بهذا الرسول الذي يترقبونه وقوله جهد بالفتح المشقة والجهد بالضم الطاقة قال تعالى (والذين لا يجدون إلا جهدهم) أي: طاقتهم وفي حديث الوحي: "ضمني حتى بلغ مني الجهد" أي: المشقة. وقوله: "خرجوا إلى خيبر" لأنها كثيرة الثمر فهم إما خرجوا يقتاتون أو خرجوا يمتارون أو خرجوا لأن لهم فيها سهمًا المهم ليس لنا شأن لماذا خرجوا إنما هم خرجوا للحاجة، وقوله: أتي محيصة ... إلخ هذا يدل على أن معهما أحد لأن اليهود لا يمكن أن يأتوا إلى محيصة يخبرونه بذلك والواقع كذا؛ أي: ان معهم جماعة من قومهم ولعل منهم الكبراء الذين أشار إليهم سهل بن أبي حثمة، وقول فأتى يهود الفاعل محيصة، فقال أنتم والله قتلتموه قالوا والله ما قتلناه فهنا مدع ومدعى عليه وكل منهما حلف أما الأول محيصة فحلف على غالب ظنه، وأما اليهود فحلفوا إما صدقًا وإما كذبًا، يعني: قد يكون غيرهم قتله لأن خيبر فيها أناس من غير اليهود أو أنهم كذبوا واليهود معروفون بالكذب فأقبل هو وأخوه ... إلخ قوله "كبر" يريد السن، وظاهر سياق الحديث ان الثلاثة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبروه الخبر فأراد محيصة أن يتكلم؛ لأنه صاحب القصة ولم يتكلم عبد الرحمن بن سهل لأنه ليس حاضراً أو لأنه أصغر القوم أو لأن المقصود ذكر القضية دون المطالبة، وإلا لكان الأحق أن يتكلم عبد الرحمن إما لصغره أو لأنه

اكتفى بكلام محيصة لشهودة القصة أو لأن المقصود ذكر القضية لا المطالبة وإلا لو كان المقصود المطالبة لكان أحق الناس أن يتكلم عبد الرحمن فتكلم حُويصة يقال حُويصة ويقال حُويِّصة، يعني: بتخفيف الياء وتشديدها والتشديد أشهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب ومعلوم أن هذا ليس بحكم ولكنه فتيّا لأن الرسول لا يحكم على غائب فكتب إليهم في ذلك لينظر ماذا عندهم لأنه حتى الآن لم يُسأل المدعى عليه فكتبوا والله ما قتلناه كما قالوا لمحيصة فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل ... إلخ القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء الثلاثة الذين جاءوا يقصون عليه القصة "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم"، قوله: "أتحلفون" ظاهره أن الخطاب موجه للثلاثة وتوجيهه لعبد الرحمن واضح؛ لأنه وارث الدم لكن المشكل توجيهه لحويصة ومحيصة لأنهما ليس لهما حق في الدم؟ فيقال: إن هذا من باب التغليب ولأنهما لما جاءا يطالبان بالدم صح توجيه الخطاب إليهما، ثم إنه عندما يوجه التحليف فعلا فالذي يحلف هم ورثة عبد الله بن سهل وهو أخوه وإذا كان هناك وارث آخر وبهذا يزول الإشكال هذا ما ذكره العلماء وقروه ويحتمل أن القضية أصبحت ليست قضية عين أو شخصية، قضية بين قبيلة وقبيلة بدليل أن القوم جاءوا مع عبد الرحمن بن سهل وأن الذين اتهموا في القتل قبيلة يهود فيحتمل أنه إذا كانت المسألة هكذا أن يحلف من كبراء القوم من هؤلاء وهؤلاء ما يجب عليهم من الأيمان هذا ما يظهر، لكن عندما نريد أن نحقق حسب القواعد الفقهية نقول إن الذي يحلف هو من يرث الدم وحينئذ يكون الخطاب كما أشرنا إليه أولاً أنه خاطب الجميع، لأنهم جاءوا يطالبون بالدم وعندما يراد التحليف يتوجه الحلف إلى ورثة عبد الله بن سهل قالوا: لا لا نحلف وقد عللوا ذلك في رواية أخرى: أنهم لم يروا ولم يشهدوا، فكيف نحلف فتركوا اليمين لأنهم ليس عندهم شيء يعتمدون عليه، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال يحلف لكم يهود وهنا لم يذكر كم يحلف اليهود لكن في رواية أخرى أنهم يحلفون خمسين يمينًا بأنهم ما قتلوا قالوا ليسوا مسلمين، يعني: وإذا كانوا غير مسلمين فإنهم لا يؤمنون أن يحلفوا وهم كاذبون، "فوداهم النبي صلى الله عليه وسلم من عنده"، وداه يعني: أدى ديته؛ أي: دية القتيل، وذلك لأنه لم يثبت القتل على أحد؛ لأن المدعيين أبوا أن يلفوا وأبوا أن يرضوا بأيمان المدعى عليهم، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدر دمه فوداه من عنده فبعث إليهم مائة ناقة ... إلخ. بقي أن يقال متى كان هذا؟ الذهاب إلى خيبر؟ نقول: كان بعد فتحها ذهبوا إليها وهي يومئذ صلح لكن هل هو في أول سنة هذا لا يهم المهم أن القضية وقعت بعد أن فتحت خيبر.

1146 - وعن رجلٍ من الأنصار رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناسٍ من الأنصار في قتيلٍ ادَّعوه على اليهود". رواه مسلم. قوله: "أقر القسامة"، أولاً: الرجل من الأنصار مجهول، لكن لا يضر جهالته؛ لأنه صحابي؛ والصحابي لا تضر جهالته لأن الصحابة كلهم عدول، وقوله: أقرها، يعني: حكم بها، وقوله: "على ما كانت عليه في الجاهلية ننظر كيف كانت القسامة في عهد الرسول وتكون القسامة في الجاهلية كما كانت عليه في عهد الرسول، وهي أن يوجد قتيل عند قبيلة أعداء، لكون هذا القتيل تتهم به هذه القبيلة فتشرع القسامة، وقوله: "وقضى بها ... إلخ" هل هي قصة عبد الله بن سهل أو غيره؟ هي هي، هذا هو الظاهر. وعلى كل حال يستفاد من هذا الحديث فوائد: أولاً: الحكم بالقسامة وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء وأنكرها بعض العلماء، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ووجه إنكارهم إياها أنها خارج عن قواعد الدعاوي، وقد أشرنا قبل هذا الدرس إلى الوجوه التي خرجت بها عن قاعدة الدعاوي وأجبنا عن ذلك بما فيه الكفاية وسبق وأما الجمهور فحكموا بها ولكن أما على وفق ما جاء به النص فمتفق عليه بين الاثنين، يعني: في دعوى قتل قتيل قُتل عند قبيلة معادية هذا لا أحد من الجمهور يخالفه، لكن فيه بعض مسائل سيأتي التنبيه عليها. ومن فوائد الحديث: أننا لا نأمن من اليهود، يعني: معناه أن اليهود ليسوا أمناء ودليل ذلك أن ظاهر الحال أنهم هم الذين قتلوا عبد الله بن سهل ولا غرابة أن يغدروا، فهم عاهدوا الرسول، القبائل الثلاثة بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة كلهم عاهدوا الرسول حين جاء المدينة وكلهم نقضوا العهد، وهم من أغدر الناس، وأكذب الناس، وهم الطائفة التي وصفها ابن القيم ي كتابه: "إغاثة اللهفان" بالأمة الغضبية؛ يعني: المغضوب عليهم. ومن فوائد الحديث: أنه إذا قُتل شخص ولم يُعلم عن قاتله وليس هناك عداوة توجب التهمة فإنه لا قسامة، وجه ذلك: أن العداوة بين الأنصار واليهود ظاهرة فمن أجلها أُجريت القسامة، أما إذا لم يكن عداوة فإننا لا نقبل من المدعي دعوة القتل إلا ببينة أو اعتراف من المدعى عليه وهل يحلف، يعني: في غير موضع القسامة هل يحلف المدعى عليه أو لا، يعني: رجل ادعى أن قاتل أبيه فلان بدون عداوة وبدون لوث فهل يُحلَّف المدعى عليه؟ قال العلماء: إن كانت الدعوى في القتل الخطأ فإنه يحلف المدعى عليه وإن كانت في قتل عمد

فإنه لا يُحلَّف، يعني: إذا قال فلان هذا الرجل دعس والدي خطأ فأنكر صاحب السيارة قال ما فعلت فهنا يُحلف صاحب السيارة وأما إذا قال إنه قتل والدي عمدً برصاص أو بالسيف وأنكر المدعى عليه القتل فإنه لا يحلف ويُخلى سبيله ولا يتعرض له والأول يؤتى به ويُحلف فإن حلف وإلا قضى عليه بالنكول، قد يقول قائل: إن ادعاء العمد أولى بالتحليف من ادعاء الخطأ لكن العلماء قالوا: مدعي العمد يريد القصاص والقصاص لا يقضى عليه بالنكول ومدعي الخطأ يريد المال والمال يقضى على المدعى عليه بالنكول، والنكول هو الامتناع عن اليمين نكمل المثال ادعى شخص على آخر بأنه دعس والده فأنكر صاحب السيارة وقال: ما فعلت قطُّ. نقول: احلف، قل: والله ما دعسته، فإذا حلف خلينا سبيله؛ لأنه لو ثبت ذلك كان الواجب الدية وهي مال كما لو ادعيت على شخص فقلت: هذا الرجل أتلف مالي فأنكر فهل يُحلف أو لا يحلف؟ يُحلف فإن نكل وقال لا أحلف قلنا: يُقضى عليك بالنكول تضمن المال، قالوا دعوى قتل الخطأ توجب المال فيحلف المدعى عليه أنه ما قتل فإن لم يفعل ونكل ضمناه الدية كما لو قال شخص لآخر هذا الرجل أتلف مالي فأنكر نقول له احلف إن أبى أن يحلف وهذا هو النكول قضينا عليه قلنا: اضمن المال وإلا ما الذي يضرك إذا حلفت في باب العمد إذا ادعى شخص على آخر أنه قتل أباه عمداً عدواناً الذي يضرك إذا حلفت في باب العمد إذا ادعى شخص على آخر أنه قتل أباه عمدًا عدوانًا فقال المدعى عليه ما قتلته هل نحلفه؟ لا، لأنه لو قال لا أحلف لم نقتص منه إذ القصاص لا يقصى فيه بالنكول، لأن القصاص أعظم حرمة من المال فلا يقضي فيه بالنكول هكذا المشهور عند العلماء أنه إذا كانت الدعوى في قتل عمد فإن المدعى عليه لا يلزم باليمين وإذا نكل لا يقضى عليه بالنكول وإن كانت في خطأ فإنه يلزم باليمين فإن نكل قضي عليه بالنكول وقال بعض العلماء يحلف في العمد لاحتمال صدق دعوى العلماء يحلف في العمد لاحتمال صدق دعوى المدعي فإن حلف نجا وغن نكل قضي علبه بالدية دون القصاص لأنه إذا نكل لم يثبت أن دمه الآن صار حلالاً فهو محرم الدم لكن المال يثبت خصوصًا إذا قلنا: إن قتل العمد يثبت به أحد أمرين إما القصاص وإما الدية وأنه ليس الواجب القصاص عينًا والدية لا تجب اليمين في القسامة واحدة إذن الراجح يحلف في العمد فغن حلف نجا وإن لم يحلف قضي عليه بالدية لا بالقصاص. ومن فوائد الحديث: أن اليهود يعظمون الله لكونهم يحلفون به، والحلف تعظيم للمحلوف به ولكن تعظيمهم لله تعظيم لا فائدة منه؛ لأنهم لو عظموا الله لصدقوا رسله ولكنهم مكذبون للرسل. ومن فوائد الحديث: أن مرجع الصحابة في الأحكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاءوا إليه يخبرونه بالقضية من أجل الحكم فيها.

ومن فوائد الحديث: اعتبار تقدم السن في الكلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كبر كبر"، وحينئذٍ نسأل هل هذا على إطلاقه أو نقول هذا إذا تساوى الشخصان في البيان والتعريف، وأما إذا كان الكبير لا يكاد يبين فإنه يقدم الصغير عند الحكومة والخصومة لأنه إذا تكلم الكبير وهو لا يكاد يبين ضاع الحق فيقال يرجع إلى كبر السن عند التساوي أو التقارب في الأوصاف المعتبرة للقضية ولهذا يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وإن كان أصغرهم سنًا. ومن فوائد الحديث: جواز الفتيا في حق الغائب؛ لن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى هؤلاء في حكم اليهود الذين اتهموا بقتل صاحبهم، وادعى بعضهم أن هذا من باب الحكم على الغائب وليس بصحيح، وهذا نظير ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عند امرأة أبي سفيان حيث شكت إليه أن أبا سفيان لا يعطيها ما يكفيها، فأذن لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها. ومن فوائد الحديث: أن أهل الذمة إذا اعتدوا على المسلم بقتل فإن عهدهم ينتقض لقوله: "وإما أن يأذنوا بحرب". ومن فوائده: أن الذمي إذا اعتدى على مسلم ثم أراد أن يضمن موجب عداونه فإنه يبقى على عهده لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا صاحبكم ... إلخ"، وقيل: بل ينتقض العهد مطلقًا بمجرد العدوان لأن مجرد الاعتداء على المسلم انتهاك لحرمة المسلمين وإهدار للعهد. ومن فوائد الحديث: جواز المكاتبة في القضاء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب إلى اليهود في القضية فردوا عليه فكتبوا، فدل هذا على جواز المكاتبة لإثبات الحكم وإثبات القضية، ومن هنا أخذ الفقهاء ما يسمى بكتاب القاضي إلى القاضي. ومن فوائد الحديث: أنه يبدأ في القسامة بأيمان المدعي لقوله: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم". فإن قال قائل: كيف كانت اليمين من جانب المدعي والنبي صلى الله عليه وسلم جعلها في جانب المنكر؟ قلنا: إن اليمين لا تكون في جانب المدعى عليه وهو منكر دائمًا وإنما تكون اليمين في جانب أقوى المتداعيين فمن قوي جانبه شرعت اليمين في حقه. ومن فوائد الحديث: أن القسامة يؤخذ فيها بالقصاص؛ لقوله: "وتستحقون دم صاحبكم" وهذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء، وقال بعض العلماء: إنه لا تنتهك بها الدماء، وأنها إذا تمت تجب الدية تعظيمًا لشأن الدماء، والصحيح أنها إذا تمت واكتملت الشروط فإنه يثبت القصاص إن اختاره أولياء المقتول أو الدية أو العفو.

ومن فوائد الحديث: الاعتداد بحلف الخصم وإن كان كافراً لقوله سيحلف لكم يهود وهو كذلك فلو ادعى مسلم على كافر بأنه أخذ ماله وأنكر الكافر وحلف فإنه يبرأ. ومن فوائد الحديث: أنه لو لم يرض المدعون بأيمان المدعى عليهم فإنهم لا يلزمون بذلك وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة أن يقبلوا أيمان اليهود. ومن فوائد الحديث: أنه إذا جرت القضية على مثل ما جاء به الحديث فإنه يجب دفع ديته من بيت المال فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده ووجه الوجوب ألا يضيع دم مسلم هدرًا. ومن فوائد الحديث: أن الأصل في الدية الإبل لقوله: "فبعث إليهم مائة ناقة"، والحديث هنا يقول: "مائة ناقة"، وقد سبقت أنها من أربعة أصناف منها ذكور فما الجمع بين هذا وما سبق؟ يقال: في بيان الواجب و"ما" هنا على سبيل التبرع. ومن فوائد الحديث: جواز تأكيد الخبر لما يصحبه من حادثة لقول سهل: "فلقد ركضتني منها ناقة حمراء"، ومن هنا أخذ المحدثون باب المسلسل وهو حكاية الراوي الحال التي كان عليها حيت التحديث أو أن يذكر كلمة قالها شيخه حين التحدث، هذا ما يتعلق بالفوائد، ولكن هنا مسائل. مسائل مهمة تتعلق بالقسامة: المسألة الأولى: الحديث ورد في قتل النفس فهل يلحق بها الجراح، يعني: لو أننا وجدنا رجلاً مقطوعة يده أو رجله عند قبيلة معادية فهل تجري القسامة؟ في هذا خلاف بين العلماء منهم من قال: إنها تُجرى القسامة لأن ما ثبت في النفس ثبت في الطرف لقوله تعالى: (والجروح قصاص) والعدو ربما لا يقتل عدوه ولكن يقطع يديه ورجليه وموته أهون عنده من قتل يديه ورجليه والصحيح أنها تجرى القسامة في الأطراف والتعليل أن ما جرى في النفس يجري في الطرف وأما قول بعضهم إن القسامة خرجت عن الأصل وما خرج عن الأصل لا يقاس عليه وهذه قاعدة معروفة عند العلماء ولكن يقال هذه لم تخرج عن الأصل لما سبق بيانه لكم قبل هذا الدرس. المسألة القانية: هل تجري القسامة في الأموال أو لا؟ بمعنى: لو أن شخصًا أوقف سيارته في قرية وأهل القرية أعداء لقبيلة صاحب السيارة، فجاء فوجد سيارته مكسرة فهل تجرى القسامة في هذه الحال أو نقول: هذه كسائر الدعاوي يقال للمدعي ائت بالبينة وإلا فليس لك لا يمين من ادعيت عليه في هذا أيضًا خلاف لكنه أقل من الخلاف الأول فمنهم من قال: إنها تجرى القسامة في الأموال كما تجرى في الدماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"، ولم يفرق بين المال والدم ولكن الجمهور على خلاف

ذلك أنها لا تُجرى في الأموال قالوا وإنما أُجريت في الدماء حقنًا للدماء وحماية لها ولئلا يجترئ مجترئ على القتل ويذهب دم المقتول هدرًا إذا لم يكن بينة والراجح والله أعلم أنها لا تجرى في الأموال أن يقال من ادعى إتلاف ماله عند أعداءً له أقم البينة وإلا فلا لكن في هذه الحال يجب على القاضي أن يتحرى؛ لأن صدق المدعي قريب فيجب عليه أن يتحرى أكثر مما وقع هذا الإتلاف من غير عدو. المسألة الثالثة: إذا أجرينا القسامة سواء في النفس أو في المال أو في الطرف فهل تكرر فيما الأيمان أو لا؟ نقول تكرر فيها الأيمان وذلك لأجل أن يقوى جانب المدعي فإن الأصل أن المدعي يلزمه البينة فإذا أخذنا بيمينه قلنا: تكرر اليمين من أجل أن يقوى جانبك كما أنها إذا كانت في الدماء من أجل تعظيم الدماء. المسألة الرابعة: إذا كان الورثة -ورثة القتيل- كلهم نساء فهل تجرى القسامة؟ يقول العلماء: لا تُجرى؛ لأم الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "يحلفون خمسين يمينًا"، وفي بعض الألفاظ: "يحلف خمسين يمينًا رجلُ منكم" والنساء ليس لهن أيمان في القسامة لكن يوجد قول لبعض العلماء: أن النساء يحلفن، لا سيما إذا لم يوجد رجال فإن لهن الحلف. المسألة الخامسة: هل يشترط تعيين المدعى عليه، أو يجوز أن يدعي على جماعة؟ الجمهور على أنها لابد أن تكون على واحد بعينه، أو يجوز أن يدعي على جماعة؟ الجمهور على أنها لابد أن تكون على واحد بعينه؛ لقوله في بعض ألفاظ الحديث: "يحلف خمسون رجلاً منكم على رجل منهم"، ولأن القتيل واحد فلا نقتل به أكثر إلا ببينة، ومجرد دعوى المدعين نقول: نعم لكم الحق بأن تقتلوا بدعواكم واحدًا، أما أن تدعوا على جماعة فإننا لا نقبل هذا ولا قسامة؛ إما أن تأتوا ببينة أو يقر هؤلاء وإلا فلا حق لكم، وهذا أقرب إلى الصواب، وقيل: إنه يجوز أن يدعي أهل القتيل على جماعة لكن يعينونه، وقيل: يجوز أن يدَّعوا على القبيلة كلها ويختارون منهم خمسين رجلاً يحلفون إذا أنكرت القبيلة. وهذه المسائل سبب الخلاف فيها: أن القضية وقعت مرة واحدة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم واختلف فيها الروايات ثم اختلفت فيها أوجه النظر بين العلماء؛ هل المسألة خارجة عن القياس فلا يقاس عليها أو موافقة للقياس فيقاس عليها، وهل يقاس الجزء على الكل، وهل يقال المال على الدم وهلم جرًّا. المسألة السادسة: هل نقول: كل ما يغلب على الظن يُجرى مجرى العداوة، مثل: أن يكون رجل قد تهدد رجلاً بالقتل، أو مثل ما يكون بين السيد وعبده من المنازعات والمخاصمات، وتعرفون أن العبيد في الغالب سريعو الغضب ربما يغضب على سيده ثم يكون قويًّا فيأخذه ويطرحه على الأرض، ولهذا يقولون: احذر العبد إذا صاج، والفحل إذا

3 - باب قتال أهل البغي

هاج الفحل، يعني: فحل الإبل إذا رددته عن الناقة فيا ويلك عن قريب أو بعيد، حتى إنه حكى لنا بعض الناس أن رجلاً كان في جمع من الإبل وإذا بجمل ينظر إلى هذا الرجل ويكرر النظر، ثم أقبل إليه في غضب شديد وضربه برقبته حتى سقط على الأرض ثم برك عليه، ولولا أن الله -سبحانه وتعالى- أتى بالناس ضربوا الجمل حتى أوجعوه لأهلكه، فقالوا له: ما الذي حمله على هذا؟ قال: إني قد رددته منذ كم سنة عن ناقة أراد أن ينزو عليها فهو عنده حقد عظيم، فالذي يكون بين العبد وسيده قد يغلب على الظن على الظن صدق المدعي فإنه تُجرى فيه القسامة. المسألة السابعة: إذا قام شخص وقال: أنا الذي قتلت القتيل فهل يرتفع الحكم عن المدعى عليه، والذي ثبت أنه القاتل بأيمان المدعين؟ الجواب: نعم، يرتفع الحكم بالنسبة للأول، وقيل: لا يرتفع إلا برضا المدعين؛ لأن المدعين ثبت حقهم بأيمانهم أن هذا هو الذي قتل صاحبهم فلا يرتفع هذا الحق إلا برضاهم، ولكن الصحيح: أنه يقبل إقرار هذا الذي قال: إنه القاتل؛ لن حكمنا بأن المدعى عليهم قاتلون لعدم البينة، أما إذا وجدت البينة وقال: أنا القاتل فإنه يتعلق الحكم بهذا المقر وهذا لا إشكال فيه، فيما إذا كان ذلك قبل تنفيذ القتل، لكن الإشكال إذا كان بعد تنفيذ القتل فهل نقتل هذا الذي اقر أن يدفع الدية لأولياء المقتول المدعى عليه لأنه هو القاتل ويرتفع القتل عنه بإقراره وأما أولياء المقتول الأول فقد أخذوا حقهم بقتل المدعى عليه ولا يمكن أن نقتل هذا المقر لأننا قلنا: لا يمكن أن نقتل نفسين بنفس واحدة ولا يمكن أن نقتله بالقتيل المدعى عليه لأنه هو لم يكن سببًا في قتله ليس شاهدًا ولا مساعدًا وليس هناك شيء يوجب أن يُقتل به. * * * * 3 - باب قتال أهل البغي تعريف البغي، وبيان أهل البغي بالتفصيل: "البغي" هو: التجاوز والعدوان، وأهل البغي عرفهم الفقهاء بأنهم: قوم لهم شوكة ومنعة يخرجون على الإمام بتأويل سائغ؛ ومعناه: أنهم أقوياء بالسلاح وبالكثرة، يخرجون على الإمام لا على غيره، بتأويل سائغ لا بدون تأويل، ولا بتأويل غير سائغ، قالوا: فإن اختل شرط واحد من ذلك فإنهم يسمون خوارج، فإذا لم يكن لهم شوكة ومنعة فهم خوارج، وإذا خرجوا على

قتال من حمل السلاح على المسلمين

جزء من البلاد فهم خوارج، وإذا خرجوا بغير تأويل فهم خوارج، وإذا خرجوا بتأويل غير سائغ فهم خوارج، والخوارج لا يعاملون معاملة أهل البغي ولكن يعاملون بمعاملة أخرى ربما يأتي في الحديث ما يدل عليها، فما موقف الإمام من هذه الفئة الباغية هل يستسلم أو يقاتلهم؟ نقول: يجب أم يقاتلهم ويجب على الرعية أن يساعدوه في ذلك، ولكنه قبل القتال يراسلهم ويسألهم ماذا ينقمون منه إن ادعوا مظلمة وجب عليه إزالتها رفعًا للظلم ودفعًا للفتنة وإن ادعوا مظلمة وجب عليه إزالتها رفعًا للظلم ودفعًا للفتنة وإن ادعوا مشكلة كشفها لهم وبينها لهم فإن أصروا على القتال فإنهم بُغاة يجب على الإمام أن يقاتلهم ويجب على الرعية أن يساعدوه بالنفس والمال لقول الله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي) [الحجرات: 9]، أمر بقتالها (حتى تقئ إلى أمر الله) وأما التخلي عن الإمام في مثل هذه المواقف فإنه لا يجوز إذ لا فائدة من البيعة ولا فائدة من الرعاية إذا كان الإمام سيُخلى في مثل هذه الأمور العظيمة إذن عندنا تعريف البغاة وماذا يجب على الإمام نحوهم وماذا يجب على الرعية نحو الإمام. قتال من حمل السلاح على المسلمين: 1147 - عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السِّلاح؛ فليس منَّا". متفق عليه. "من حمل علينا السلاح" ليقتلنا به "فليس منا، وهذا تبرؤ ممن حمل السلاح، ولكن هل هذا التبرؤ تبرؤ مطلق بحيث يكون حالم السلاح كافرًا أو تبرؤ دون تبرؤ كقوله "من غش فليس منا" الجواب: في ذلك تفصيل إن كان هذا الخارج مستحلاً لقتال المؤمنين فإنه كافر كفرًا مخرجًا عن الملة وإن كان باغيًا وليس مستحلاً لقتال المسلمين لكن متأول، فهذا ليس كافرًا، لكنه بلا شك خارج عن المسلمين من حيث الموالاة والمدافعة والمناصرة لأن الواجب للمسلم على أخيه الموالاة والمدافعة ومناصرة والمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا في هذا الحديث أن حمل السلاح على المسلمين من كبائر الذنوب. ومن فوائده: أنه بعمومه يشمل من حمل السلاح على المسلمين فإنه يدخل في قوله من حمل علينا السلاح فليس منا. ومن فوائد الحديث: تحريم قتال المسلمين بعضهم بعضًا وذلك لتبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم ممن حمل السلاح علينا ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"، فقوله: "يضرب تفسير لقوله: "كفارًا"، ويدللذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق

عقوبة مفارقة الجماعة

وقتاله كفر" فمن الكفر أن يحمل الإنسان السلاح على إخوانه وأن يقاتلهم والقتل أعظم من المقاتلة لأن القتل إثمه أعظم من المقاتلة لأن القتل إثمه أعزم (ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابًا عظيمًا) [النساء: 93). عقوبة مفارقة الجماعة: 1148 - وعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "من خرج عن الطَّاعة، وفارق الجماعة، ومات؛ فميتته ميتةٌ جاهليَّةٌ"، أخرجه مسلمٌ. قوله: "من خرج عن الطاعة"، أى: طاعة ولي الأمر، "وفارق الجماعة"، أي: جماعة المسلمين؛ لأن جماعة المسلمين ملتفة حول ولاة أمورها تطيع ولاة الأمور في غير المعصية، فإذا شد إنسان منهم ومات؛ فإن ميتته جاهلية -والعياذ بالله- يعني: كأنه مات قبل البعثة، أو المعنى أنه مات على الجهل العظيم والسفه البالغ حيث خرج عن الجماعة وفارق الجماعة وقوله: "من خرج عن الطاعة" هذا ليس على عمومه، بل هو مقيد بما إذا لم يؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية وجب عليه المخالفة؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن أُجبر على المعصية وقيل له: افعل وإلا قتلناك أو حبسناك أو أخذنا مالك أو حبسنا أهلك، فإنه له أن يخرج من هذا الإكراه بالفعل غير مطمئن به لقوله تعالى: (من كفر الله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالأيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضبٌ من الله) [النحل: 106]. إلا أنه يشترط ألا يكون ذلك قائمًا مقام الجهاد، فإن كان ذلك قائمًا مقام الجهاد فإنه لا يحل له أن يستسلم للإكراه؛ لأنه في هذا الحال يكون مجاهدًا، والجهاد فرض على الإنسان مثل مقام الإمام أحمد رحمه الله حين أبى أن يقول: إن القرآن مخلوق ولو بالتأويل مع أن كثيرًا من العلماء أيام المحنة قالوا: إنه مخلوق، لكن بتأويل فإذا كان هذا الرجل إذا استسلم لما أمره عليه لزم من استسلامه إضلال الأمة، فغنه في هذه الحال لا يجوز أن يستسلم، لأنه ليس يريد إنجاء نفسه فقط هو إذا أنجى نفسه من الهلاك أهلك الأمة بالضلال فإذا كان انقياده واستسلامه لهذا الإكراه يستلزم إضلال الخلق وجب عليه الصبر وسيجعل الله له بذلك مخرجًا كما جعل للإمام أحمد وغيره. فمن فوائد الحديث: تحريم الخروج عن الطاعة وهذا مقيد بما ذكرنا لكم، تحريم مفارقة الجماعة أي جماعة المسلمين حتى وإن كنت ترى أنك على حق فأتهم رأيك مادمت تخالف جماعة المسلمين لأنه لا شك أن الرأي المجمع عليه أقرب للصواب من الرأي الذي انفرد به واحد أو اثنان أو ثلاثة فيجب الاتحاد مع الجماعة وعدم مفارقتهم.

ومن فوائد الحديث: أن من مات على حال الاستكبار عن طاعة ولي الأمر وعلى حال مفارقة الجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية لأن أهل الجاهلية ليس لهم إمام وليس لهم دين ينطون تحته فهو يموت ميتة جاهلية، والخوارج هل هم كفار مرتدون يعاملون معاملة الكافر فإذا مثلاً اسطلي عليهم سُبيت نساؤهم وقتل المقاتل منهم أو هم بغاة فسقة؟ هذه المسألة فيها خلاف طويل عريض بين العلماء أولاً لابد أن نعرف من همن الخوارج؟ الخوارج هم الذين خرجوا على الإمام يعتقدون كفره ليس بتأويل سائغ، يقولون: إنه كافر يخرجون عليه يقاتلونه مقاتلة الكفار والإمام لابد أن يقاتلهم فهل هم كفار يعاملون معاملة الكافرين وذلك لأنهم استحلوا دماء المسلمين المحرمة بالنص والإجماع وإنهم بغاة فسقة يعاملون معاملة البغاة فإذا قال قائل: ما الفرق بين عاملة البغاة والخوارج؟ قلنا: الفرق ظاهر البغاة يُقاتلون حتى يفيئوا إلى أمر الله لقوله تعالى: (فقاتلوا التي تبغى حتَّى تفئ إلى أمر الله) فإذا فاءوا إلى أمر الله تُركوا والخوارج يقاتلون مقاتلة الحربيين، يعني: يُقتل من يُقاتل منهم ويلحق من يفر ويجهز على الجريح وتسبى ذريتهم وتغم أموالهم كالحربيين تمامًا، والمسألة فيها خلاف فالمشهور من مذهب أحمد رحمه الله أن الخوارج بغاة فسقة وليسوا كفارًا فيعاملون معاملة البغاة إذا انكفوا كففنا عنهم ولا نجهز على الجريح ولا نغم الأموال ولا نسبي الذرية لأنهم فساق والفاسق يُقاتل على وجه الضرورة حتى يندفع شره وضرره. القول الثاني يقول: إن الخوارج كفار مارقون عن الإسلام، يقاتلون مقاتلة الحربيين من أهل الكفر، وبناء على هذا القول يكون كأن الذي أمامنا مشركون أو يهود أو نصارى إذا قدرنا عليهم قتلناهم، وإذا أدبروا اتبعناهم وإذا جُرحوا أثخنا عليهم ونغم أموالهم ونُسبي نساءهم وذريتهم هذا إذا قلنا: إنهم كفار وقد اختار صاحب الإنصاف، والتنقيح أنهم كفار وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، أنهم كفار مرتدون لاستحلالهم دماء المسلمين وعلى هذا فيعاملون معاملة الكفار المرتدين قال صاحب الإنصاف هذا هو الصواب الذي ندين الله به واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية". وحثه صلى الله عليه وسلم على قتالهم وهذا يدل على كفرهم لكن الذين قالوا بأنهم فسقة يعاملون معاملة البغاة قالوا إنهم يمرقون من الإسلام لكن عندهم شبهة فلا نخرجهم من الدين إلا بيقين وعلى هذا القول

يعاملون معاملة البغاة ولا يعاملون معاملة المرتدين، في الحديث: "من حمل علينا السلاح فليس منا" هل يدل على تحريم الخروج على الإمام؟ نعم ووجه الدلالة أن رسول الله تبرأ منه فقال ليس منا. 1149 - وعن أمِّ سلمة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقتل عمارًا الفئة الباغية" رواه مسلمٌ. المراد به: عمار بن ياسر رضى الله عنه "الفئة"، الطائفة "الباغية" الخارجة على الإمام، فهذا الحديث فيه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر غيبي مستقبل وهو علم من أعلام نبوته؛ لأن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عما يستقبل يدل على أنه أوحي إليه به؛ لأننا لو نظرنا إلى ذات الرسول صلى الله عليه وسلم لعلمنا علم اليقين أنه لا يعلم الغيب؛ لقول الله تعالى: (قل لا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب)، ولقوله: (قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلَّا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب ... )، فهو لا يعلم الغيب فإذا أخبر عن شيء مستقبل كان هذا علمًا من أعلام نبوته لأن من أين جاءه هذا إلا عن طريق الوحي، عمار بن ياسر رضى الله عنه كان مع جيش علي بن أبي طالب حين قاتل معاوية رضى الله عنه فقتل على أيدي جيش معاوية، وبهذا الحديث النبوي نعرف أن جيش معاوية هو الفئة الباغية وأن جيش علي بن أبي طالب هو فئة أهل العدل، لأن العلماء يقولون الباغية ضدها العادلة، فالإمام ومن معه هم أهم أهل العدل ومن يقاتلهم هم أهل البغي، فعمار بن ياسر رضى الله عنه قتله جيش معاوية فيستحقون هذا الوصف وأن ما ذكر أن بعضهم تأول الحديث وقال: إن الذي قتله علي بن أبي طالب لأنه هو الذي أخرجه فكان سببًا في إخراجه فإن هذا قد رد عليه برد مفحم فقيل إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي قتل حمزة؛ لأن حمزة بن عبد المطلب مع جيش الرسول صلى الله عليه وسلم وقتله المشركون وهذا إلزام واضح، لكن يبقى النظر كيف كان جيش معاوية الفئة الباغية؟ كان كذلك، لأنه لا شك أن علي بن أبي طالب أحق بالخلافة من معاوية، لكن معاوية رضى الله عنه تأول، وقد قال كثير من العلماء: إن سبب القتال الذي جرى بين جيشه وجيش علي بن أبي طالب سببه من الجيش نفسه فقد كان بين الجيشين نعرة وحمية جاهلية فاشتبك الناس بدون أن يكون هناك رضا وتأن فحصل ما حصل من الشر. وعلى كل خال: فأصل خروج معاوية نحن نعتقد أن هـ بتأويل لكنه بتأويل خاطئ غير صحيح وعلي رضى الله عنه أقرب إلى الصواب من معاوية؛ لأنه هو الخليفة، بعد عثمان بلا شك، فمن ثم صارت فئته هي العادلة وفئة معاوية هي الباغية، فما موقفنا نحن من هذا الصراع الذي حصل بين علي ومعاوية؟ موقفنا أن نقول كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: هذه دماء طهر

ضوابط معاملة البغاة

الله أسيافنا منها فيجب أن نطهر ألسنتنا منها رحمه الله هذا كلام جيد، نقول: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا الكلام فيهم الآن في أعيانهم وأشخاصهم لا يفيد ردوا إلى الله مولاهم الحق والله تعالى يفضل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، أما نحن فعندنا قواعد شرعية الإمام الذي بويع له بالإمامة هو صاحب الحق في أي زمن كان ومن خرج عليه فهو الباغي في أي زمان ومكان أما نجعل بيننا عداوة من أجل أن معاوية خرج على علي بن أبي طالب وأن علي قاتله وما أشبه ذلك فإن هذا من الخطأ ولا يمكن أن يسلكه ناصح للأمة الإسلامية أبدًا، بل لا يسلكه إلا من أراد أن يشق عصا المسلمين ويوقع الفتنة، وإلا فنحن نقول ما علينا من هؤلاء فإنهم إن كانوا مصيبين فلهم أجران وإن كانوا مخطئين فلهم أجر واحد، ونحن نحسن الظن بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونرى أن معاوية أحد كتاب الوحي ائتمنه الرسول صلى الله عليه وسلم على كتاب وعلى وحي الله، والأصل بقاء ما كان على ما كان، فنحن لا يهمنا ما حصل الذي يهمنا القاعدة الشرعية وهي أن من بويع له بالإمامة فهو الإمام، ومن خرج عليه فهو الباغي، وبهذا نسلم ونقول: نصلح أنفسنا اليوم، وأما ما مضى فأمره موكل إلى الله عز وجل. في هذا الحديث من الفوائد أولاً: علم من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو إخباره بالغيب. ومن فوائد الحديث: بيان أن الفئة التي كان فيها عمار هي الفئة العادلة وهي فئة علي ابن أبي طالب. ومن فوائده: الإشارة إلى أن الفئة الأخرى هي الفئة الباغية لأنها خرجت على الخليفة. ضوابط معاملة البغاة: 1150 - وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدري يا ابن أمِّ عبدٍ، كيف حُكم الله فيمن بغى من هذه الأمَّة؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يُطلب هاربها، ولا يُقسم فيئها". رواه البزَّار والحاكم وصحَّحه فوهم؛ لأن في إسناده كوثر بن حكيم، وهو متروكٌ. -وصحَّ عن عليٍّ من طرقٍ نحوه موقوفًا. أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم. هذا الحديث فيه إشكال الحديث الآن من مسند ابن عمر والخطاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه يخاطب عبد الله بن مسعود؛ لأنه هو المشهور بهذه الكنية فما هو المخرج؟ نقول لعله أي ابن عمر يكنى بهذه الكنية ولكن لم يشتهر بها، وهذا ضعيف، أو نقول: لعل ابن عمر رواه عن ابن مسعود وحذف الةاسطة بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب في

الأول ابن مسعود، الأمر الثالث: وهو خير من ذلك كله أن الحديث متروك، وحينئذٍ نستريح، لكن على تقدير صحته وهي بعيدة يكون في الاحتمالان السابقان قال: "كيف حكم الله ... إلخ". قوله: "فيمن بغى" ذكر الله تعالى البغي في القرآن طائفتين مقتتلتين تحت راية إسلامية لقوله (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التَّي تبغى). والغالب أنه إذا خوطب بالجمع في مثل هذا أنه يخاطب به أهل الحل والعقد، لكن قد تكون الباغية مع نفس الإمام أو الخليفة الشرعي تبغي عليه فأيَّا كان الباغي فله الحكم الآتي قال: "الله ورسوله أعلم"، "أعلم" هنا مفرد وهو خبر عن اثنين "الله ورسوله أعلم"، وذلك لأن اسم التفضيل يُلتزم فيه الإفراد والتذكير إذا كان على تقدير من، أما إذا لم يكن على تقدير من فإنه يكون مطابقًا للموصوف فيقول زيد وعمرو الأفضلان ولا تقول زيد وعمرو أفضلان وليس على تقدير من أما إذا كان على تقدير أفضل من كذا أو أعلم من كذا فإنه يلتزم فيه الإفراد والتذكير، وهكذا ينبغي للإنسان إذا سُئل عن شيء لا يعلمه أن يقول: الله ورسوله أعلم في الأمور الشرعية يقول الآن وقبل الآن، أما في الأمور الكنية فيقول: الله أعلم فقط، والفرق أن الأمور الكونية علمها علم غيب محض والرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس عنده من علم الغيب إلا ما أعلمه الله، أما الأمور الشرعية فعلمها علم شرعي والرسول صلى الله عليه وسلم اعلم الناس بالشرع، حتى وإن كان ميتًا فهو أعلم الناس فيجوز أن أقول الآن في حكم شرعي: الله ورسوله أعلم، أما لو قيل لي: هل يقدم فلانًا غدًا فأقول: الله أعلم فقط، قال: يعني: في حكم الله، "لا يجهز على جريحهم"؛ يعني: ان الجريح من البغاة لا يقتل يترك، ولكن هل يُداوى؟ نعم؛ يداوى؛ لأنه له حُرمة، ولذلك لم نجهز عليه بخلاف ما لو جُرح كافر من الحربيين، فإننا نجهز عليه نقتله. قال: "ولا يقتل أسيرهم" الأسير من الفئة الباغية لا يقتل "والأسير" فعيل بمعنى: مفعول؛ أي: المأسور الذي أسرناه حيًّا فإنه لا يقتل؛ لأنه مسلم حرمته باقية، وإنما جاز قتلا الفئة الباغية لدفع شرها فقط. أحكام مهمة: وأما أسير الكفار المحاربين فإنه إن كان من النساء أو الذرية فهو رقيق بمجرد السبي يكون مملوكًا، وإن كان من المقاتلين خُير فيه الإمام بين أمور أربعة: القتل، والفداء بنفس، أو مال، أو المنّ مجانًا، والرابع الاسترقاق، على خلاف في الرابع فإذا أسرنا من المحاربين الكفار فلنا الخيار إما أن نقتله صبرًا فورًا، وإما أن نمن عليه بدون شيء نقول: اذهب فأنت طليق، وإما أن يقادى به بمال أو بمنفعة أو أسير مسلم؛ يعنى: نقول: نفك أسرك وتعطينا مائة ألف أو منفعة

نقول نفك أسرك وتعلمنا كيف نشغل هذه الطائرة أو الدبابة التي غنمناها منكم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر حيث طلب منهم أن يعلموا صبيان أهل المدينة الكتاب الثالث: أو فداء أسير مسلم يكون عنده أسرى لنا فنقول أعطونا أسرانا ونعطيكم أسراكم الربع الاسترقاق بأن يسترقه الإمام كما يسترق النساء والذرية وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء منهم من أجازها ومنهم من قال لا تجوز ومع ذلك فإنه لا ينبغي المن إلا إذا أثخن المسلمون في القتال كما قال الله تعالى: (ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتى يُثخن فى الأرض) [الأنفال: 67]. لأن القتل أنكى للعدو (تريدون عرض الدنيا والله يريد الأخرة) البغاة لا يسترق أسيرهم ولا يقتل الخوارج إن قلنا بكفرهم فهم كالكفار الحربيين وإن قلنا بعدم كفرهم فهم كالبغاة قال ولا يطلب هاربهم الهارب من البغاة لا يقتل لأن المقصود كف شره هذه الفئة والهارب ليس منه شر واختلف العلماء فيما لو خرج إلى فئة من قومه ليقويهم ويأتي بهم هل يطلب أو لا يطلب؟ فمن نظر إلى ظاهر هذا الأثر قال إنه لا يطلب ومن نظر إلى ظاهر هذا الأثر قال إنه لا يطلب ومن نظر إلى المعنى قال إنه يطلب والصحيح النظر إلى المعنى وأننا إذا لعمنا أن هذا الهارب إلى فئة أخرى ليأتي بها إلنا فإننا نأسره حتى ينكف شره قال: ولا يقسم فيئها الفيء ما غُنم منهم من سلاح ومتاع وغير ذلك لا يقسم أي كما تقسم الغنائم فيما لو كانت من أهل الحرب الكفار فإن غنائم الكفار تقسم أولاً خمسة أسهم سهم من هذه الخمسة يقسم خمسة أسهم (واعلموا أنَّما غنمتم من شيءٍ فإنَّ لله خمسه وللرَّسول) وهذا واحد (ولذى القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل) [الأنفال: 41]، خمسة أسهم الخمس يقسم خمسة يوزع هكذا والذي لله ورسوله يجعل في المصالح العامة للمسلمين وذوي القربي قيل: إنهم قرابة الرسول وهو الصحيح، وقيل: قرابة الوالي ولكنه مرجوح الأربعة أخماس الباقية تصرف للغانمين للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه هذه في غنيمة الكفار الحربين، أما البغاة فإنه لا يقسم فيئهم بل يبقى مالهم لهم يرد عليهم فإن جُهل مالكه جُعل في بيت المال وإن علم مالكه سلم إليه، وقوله صححه الحاكم فوهم أي وقع في الوهم؛ يعني: في الغلط؛ لأن في إسناده .. إلخ في المصطلح أن معنى قولهم متروك أي متروك الرواية لتهمته بالكذب لأنه متهم بالكذب فمن اتهم بالكذب سمي متروكًا تترك روايته وهو أشد من الفاسق، الفاسق تترك روايته لكن ليس كالمتهم بالكذب لأن المتهم بالكذب عيبه في صميم موضوع الخبر بخلاف الفاسق فإن فسقه عام لكن يقول وصح عن علي نحوه موقوفًا ... إلخ. يقول: "صح عن علي بن أبي طالب موقوفًا" أي: من قوله، وقوله رضى الله عنه هو محض القياس، يعني: هذه الأحكام ثابتة لكن هل ثبتت بحديث موقوف أو مرفوع؟ نقول ثبتت بحديث

الحث على الاجتماع ونبذ الفرقة

موقوف لكنه محض القياس والموافق للحكمة وعلي رضى الله عنه أحد الخلفاء الراشدين الذين لهم سنة متبعة حتى وإن لم نعلم حكمتها إذا لم تخالف سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فالأحكام الموجودة ثابتة في هذا الأثر فوائد منها عرض المسائل على الطالب للتنبيه لقوله هل تدري كيف حكم الله ومنها أن الإنسان إذا كان لا يعلم يقول الله ورسوله أعلم وهو أحسن من قوله لا أعلم، وإن كان لا أعلم لا بأس بها وهي كما قيل نصف العلم لكن إذا قال الله ورسوله أعلم فإن هذا أضبط للجواب وفيه إسناد العلم إلى عالمه وهو الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أن البغاة لا يجوز الإجهاز على جريحهم لقوله: "لا يجهز على جريحهم"؛ وذلك لأنهم لم يكفروا وإنما خرجوا بتأول. ومن فوائده: أنه لا يقتل أسير البغاة وإنما يؤسر حتى تنطفئ الفتنة ثم يترك. ومن فوائده: أنه لا يطلب هارب البغاة بخلاف هارب الحربيين فإنه يطلب قلنا: إن بعض العلماء استثنى ما إذا هرب إلى طائفة يقويها فحينئذ يطلب ولكن لا يقتل يؤسر حتى تزول الفتنة. ومن فوائد الحديث: أنه لا يقسم ما غنم من أموالهم لقوله ولا يقسم فيء البغاة ولكن ماذا نعمل فيه؟ يرد إلى صاحبه إن كان معلومًا وإلا صُرف في بيت المال. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أنه لا ضمان بين أهل العدل والبغاة فيما تلف من نفس ومال بمعنى أمنهم لا يضمنون ما أتلفوا لنا من الأنفس والمال ولا نضمن ما أتلفنا لهم من الأنفس والمال وهذا الذي حصل من أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضى الله عنه. ومن فوائد الحديث: أن التأويل له شأن في تغيير الحكم فمثلاً هؤلاء الذين قاتلوا المسلمين لما كان لهم تأويل كان لهم هذه الأحكام ولو خرجوا بغير تأويل لكان لهم أحكام أخرى غير هذه ولوجب عليهم أن يضمنوا ما أتلفوا على المسلمين من مال ودم. الحث على الاجتماع ونبذ الفرقة: 1151 - عن عرفجة بن شريحٍ رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمرككم جميعٌ، يريد أن يفرِّق جماعتكم، فاقتلوه". أخرجه مسلمٌ. "من أتاكم"؛ يعني: أي إنسان يأتيكم، "وأمركم" على رجل واحد "يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه" حدًا ولا ينتظر به وإنما يقتل فورًا دفعًا لشره وقوله أمركم جميع؛ يعني: مجتمع على أمير واحد، وذكر العلماء المتأخرون أنه لا يشترط أن تكون الأمة الإسلامية كلها على إمام واحد لأن هذا قد اندفع منذ زمان من آخر الخلافة العباسية والمسلمون ليسوا على إمام

4 - باب قتال الجانب وقتل المرتد

واحد، قالوا: ومن كان إمامًا في جهته مطاعًا فله حكم الخليفة العام، وهذا هو الذي عليه العمل الآن فإن كل قوم لهم إمام في جهتهم يكون حكمه حكم الخليفة العام لجميع المسلمين وليس هو أميرًا فقط؛ لأننا لو قلنا: إنه أمير والثاني في جهته أمير، والثالث في جهته أمير بقي الناس لا إمام لهم وضاعت الأمور، لكن إذا قلنا: كل إنسان في جهته يعتبر بمنزلة الإمام العام كما هو شأن المسلمين منذ أزمنة متقادمة زال الإشكال وزال ما يطالب به بعض الناس اليوم من أنه لابد أن يكون الإمام إمامًا عامًّا يبايعه جميع المسلمين، فإن هذا في الوقت الحاضر متعذر ولو قلنا بهذا ما بقي لولاة أمورنا الآن سلطة ولا كلمة مطاعة، إذا قلنا: إنه لابد أن يكون هناك خليفة عام ولكن في هذا خرق للإجماع؛ لأن المسلمين أجمعوا على أن كل إنسان يكون بمنزلة الإمام في جهته فهاهم الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم كلهم يقرون بهذا. ومن فوائد الحديث: الحث على الاجتماع وعدم التفرق لأنه لا يكون خروج على الإمام إلا باجتماع عليه لقوله وأمركم جميع. زمن فوائده: حل قتل الخارج عن الإمام لقوله فاقتلوه بل وجوب قتله لأن الأمر هنا للوجوب بلا شك لما يترتب على ترك قتله من المفاسد العظيمة وهذا معنى حديث ابن مسعود المشهور "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" وذكر منها "التارك لدينه المفارق للجماعة". ومن فوائد الحديث: أن ظاهره يشمل ما إذا كان الخارج واحدًا أو كانوا جماعة لكن سبق أنه إذا كان لهم شوكة ومنعة وخرجوا بتأويل سائغ فهم بغاة، أما إذا كان غير ذلك وقالوا نريد السيطرة على الحكم بغير تأويل فإن حكمهم حكم قطاع الطريق. * * * * 4 - باب قتال الجانب وقتل المرتدِّ الأول قال: قتال، والثاني فال: قتل، وبينهما فرق؛ فالقتل ليس فيه مغالبة، والقتال فيه مغالبة من الجانبين لأن المفاعلة تكون بين اثنين فصاعدًا أما المرتد يقتل بدون مقاتلة ثم عاد ينظر في قبول توبته كما سيأتي إن شاء الله فمن هو الجاني؟ هو كل معتد ومن الجناة الصائل على الإنسان إذا صال إنسان عليك يريد نفسك يريد مالك يريد أهلك فهذا جانٍ معتد فإذا دافعته بالتهديد أو بأي شيء آخر ولكنه أبى إلا أن يعتدي ويجني عليك فلك قتله.

جواز قتل الصائل

جواز قتل الصائل: 1152 - عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قُتل دون ماله فهو شهيدٌ". رواه أبو داود، والنَّسائُّي، والترمذي وصحَّحه. وليت المؤلف ذكر الحديث الآخر الذي هو أوفى من هذا أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن أراد ماله أو نفسه قال قاتله قال: أرأيت يا رسول الله إن قتلني قال فأنت شهيد، قال: أرأيت يا رسول الله إن قتلته قال فهو في النار وهو أوفى من الحديث الذي ذكره لأن الحديث الذي ذكر المؤلف يدل على أن الذي يقتل دون ماله شهيد لأنه قتل ظلمًا. هذا الحديث فيه فوائد: أولاً: جواز مدافعة الإنسان عن ماله والتعبير بالجواز هل هو لنفي التحريم، فلا ينافي الوجوب أو هو جائز حكمًا والفرق بينهما واضح إذا قلنا الجواز لنفي التحريم صار لا ينافي الوجوب وعلى هذا فيجب عليه أن يدافع عن ماله ولكن الأمر ليس كذلك بل المدافعة عن المال جائزة وليست بواجبة ووجه هذا أن للإنسان أن يتبرع بماله لأي واحد من الناس ولو كان يجب عليه أن يحفظ ماله لنفسه حرم عليه أن يتبرع به لأحد إذن فله أن يدافع عن ماله فلو جاءك إنسان وقال أعطني السيارة غصبًا فقلت: لا إن قاتلك فقاتله فإن لم يندفع إلا بالقتل فاقتله فإذا قتلته فهو في النار وإذا قتلك فأنت شهيد وهل يلزمه الدفاع عن نفسه وعن حرمته؟ الجواب: نعم يلزمه أن يدافع عن نفسه وعن حرمته إلا إذا كان في زمن فتنة فإنه لا يلزمه القتال لأنه إذا دافع فربما تراق دماء كثيرة بسبب مدافعته لأن المقام مقام فتنة ربما إذا قتل هذا الصائل في الفتنة تقتل جميع قبيلته ولهذا لما طُلب من أمير المؤمنين عثمان أن يُقاتل دون حين حُوصر في بيته أبى وقال لا تقاتلوا لأنه خاف أن يكون بالمقاتلة تُراق دماء كثيرة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسلم رضى الله عنه حتى قتل، وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون فتنة فكن فيها عبد الله المقتول ولا تكن القاتل"، لأن الفتنة ليست بهينة غوغاء الناس وعامتهم والجهال والسفهاء كلها تطيش كما يطيش القدر من فوق النار يمينًا وشمالاً، إذن يلزمه الدفع عن نفسه إلا في الفتنة. أما إذا كان في غير فتنة فيجب أن يدافع عن نفسه لأنه مأمور بحفظ نفسه قال الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم)، (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، وهل يلزمه أن يدافع عن حرمته لو أن أحدًا

حاول أن يزني بامرأته فيجب أن يدافع، فإن لم يندفع الجاني إلا بالقتل فله قتله له نفي للتحريم وليست للإباحة، يعني: لا يحرم القاتل، لكن يجب دفاعًا عن حرمته، واختلف العلماء في الدفاع عن مال غيره، والصحيح أنه لا يلزمه الدفاع عن مال غيره كما لا يلزمه الدفاع عن مال نفسه لأن مال غيره إن كان بيده أمانة فأقل ما فيه أنه سيضمه إذا كان متعديًا مفرَّطًا وضمانه من ماله. ومن فوائد الحديث: أن من قتل دون ماله فهو شهيد وكذلك من قتل دون نفسه أو دون حرمته من باب أولى. ومن فوائده: أنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ويدفن مع المسلمين أغني المقتول ظلمًا لأنه شهيد والشهداء لا يغسلون ولا يكفنون ولا يصلى عليهم ويدفنون إن كانوا في قتال في مصارعهم، ولهذا لما جيء بشهداء أحد إلى المدينة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بردهم إلى مصارعهم فيس أحد حيث يخرجون يوم القيامة من المكان الذي قتلوا فيه وهذا الذي قتله هو المشهور من مذهب الإمام أحمد أن المقتول ظلمًا حكمه حكم المقتول في سبيل الله في أنه شهيد دنيا وأخرى وقيل: لا بل شهيد أخرى وليس شهيد دنيا وعلَّلوا ذلك بان هناك فرقّا بين هذا الذي قتل ظلمًا وبين المقتول في سبيل الله، المقتول في سبيل الله بذل نفسه اختيارًا وعرض رقبته اختيارً لأعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا وهذا الرجل الذي قُتل ظلمًا اضطرارًا فبينهما فرق عظيم، ولهذا لما قال الفقهاء إنه يقاس على المقتول في سبيل الله لأن كلاً منهما قتل بغير حق قلنا لكن هناك فرق عظيم بين من عرض رقبته لأعداء الله لإعلاء كلمة الله ومن دافع نفسه حتى قتل فالصواب أنه شهيد أخرى وليس شهيد دنيا وأنه يجب أن يغسل ويكفن ويصفى عليه كما يجب ذلك في سائر الأموات ولو أننا قلنا: كل من أطلق الشارع عليه شهيدًا فإن حكمه حكم الشهيد في سبيل الله لقلنا المطعون والمبطون ومن مات بغرق أو هدم أو حرق يكون حكمه حكم الشهداء في سبيل الله ولا قاتل بذلك، إذا قُتل الجاني في المدافعة فهو كما قلنا في النار ولكن إذا اختلف أولياء الجاني والقاتل دفعًا عن نفسه فقال أولياء الجاني إنه لم يصل عليه وقال أولياء المدافع بل صال عليه فما العمل؟ أهل المذهب يقولون: إننا لا نصدق دعوى القاتل لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء ناس وأموالهم ولكان كل واحد يقتل من يريد قتله لأنه صائل عليه فلابد من بينة البينة

سقوط الضمان في الدفاع عن النفس

في مثل هذه الحال متعذرة لأن الصائل لا يمكن أن يصول على شخص وحوله أحد فالبينة إما أن تكون متعذرة أو متعسرة جدًا فإقامة البينة في مثل هذه الحال بعيدة وقال بعض أهل العلم بل ينظر في القرائن فإذا كان المقتول الذي اتهم بالصول أهلاً لذلك لكونه معروفًا بالشر والفساد وكان القاتل الذي ادعى الدفاع عن نفسه رجلاً صالحًا أهلاً للصدق فإننا نصدقه ولكن هل تجري القسامة في هذه الحال أو بدون قسامة؟ يرى بعض العلماء أنه لابد من القسامة وذلك لأنه توجد قرينة على صدق دعوى القاتل فهذه كالعداوة بل إننا قلنا: إن الراجح في مسألة القسامة أنه كلما يغلب على الظن صدق المدعي تجرى فيه القسامة وعلى هذا فتجرى القسامة فيحلف المدعي خمسين يمينًا أنه صال عليه وقيل: لا حاجة للقسامة لأن القسامة يدعيها أولياء المقتول ليأخذوا القصاص وهنا الذي يدعي أنه قتل بالحق هو القاتل حتى يسلم من الضمان وهذا هو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في أنه يقبل قولاً معروفًا بالصدق في هذه المسألة، إذا قال قائل: هل له أن يقتله مبادرة أي المصول عليه هل للمصول عليه أن يقتل الصائل مبادرة أو يدافعه بالأسهل فالأسهل؟ الواجب: أن يدافعه بالأسهل فالأسهل لأن المقصود كف شره إلا إذا خاف أن يبدره بالقتل فله أن يبدره بالقتل لكن إذا أمكنه أن يكسر يده التي أشهر بها السلام فليفعل لأن كسر اليد ممكن يحصل بها المقصود. سقوط الضمان في الدفاع عن النفس: 1153 - وعن عمران بن حصين رضى الله عنهما قال: "قاتل يعلى بن أمية رجلاً، فعضَّ أحدهما صاحبه، فانتزع يده من فمه فنزع ثنيَّته، فاختصما إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: أيعضُّ أحدكم أخاه كما يعضُّ الفحل؟ لا دية له". متفقٌ عليه، واللَّفظ لمسلم. القصة معروفة "قاتل يعلى بن أمية رجلاً"، والمقاتلة: المشادة والإمساك بالأيدي، ولا يلزم أن يكون بسلاح فهي أعم من أن تكون بالسلاح وغيره قد تكون بالأيدي كالملاكمة وبالعصا وبالأحجار فهي أعم من السيف والسلاح؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا أراد أن يجتاز بين المصلي قال: "فليدفعه فإن أبي فليقاتله" ومعلوم أن المصلي ليس معه سلاح يقاتل به هذا المار، ولكن المراد أن يدفعه بشدة، يقول: "فعض" بالضاد مضارعها يعض ق الله تعالى: (ويوم يعضَّ الظَّالم على يديه) [الفرقان: 27]. قال: "فانتزع يده من فمه" الفاعل في قوله: "فانتزع" يعود على المعضوض، وكذلك الضمير في "يده من فمه" يعود على العاض؛ يعني: أن المعضوض لم يتحمل، وعادة لا يمكن أن يتحمل فنزع ثنيته؛ أي: ثنية العاضّ، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم الخصم هو المحاكم المجادل الذي يريد أن يخصم صاحبه؛ أي: أن يغلبه في

الخصومة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل" هذه الجملة خبرية ولكنها إنشائية، حذفت منها همزة الاستفهام الإنكاري والتقدير: أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل، والمراد من الاستفهام هنا: الإنكار والتوبيخ، ولهذا جاءت بوجهين الوجه الأول: وجه يقتضي الحنو والرفق والرأفة وهو قوله: "أخاه" والوجه الثاني: يقتضي التنفير والبعد عن هذا العمل المشين وهو قوله: "كما يعض الفحل" بالحيوان، والفحل هو الذكور من البهائم، لكن المراد به: الذكور من الإبل؛ لأن عضه شديد كما سيذكره، قلنا: إن الجملة هنا خبرية حذف منها همزة الاستفهام، ونظير ذلك قوله تعالى: (أم اتخذوا إلهة من الأرض هم ينشرون" [الأنبياء: 21]. جملة هم ينشرون ليست صفة لآلهة ولكنها جملة استئنافية إنشائية حذفت منها همزة الاستفهام والتقديم أهم ينشرون حتى يكون آلهة والاستفهام هنا للإنكار ولهذا يحسن للقارئ إذا قرأ هذه الآية (أم اتخذوا إلهة من الأرض) يحسن به أن يقف حتى يتبين معنى الكلام وكثير من القراء وهم قراء قد يُشار إليهم بالبنان يغفلون مثل هذه الأمور تجده يقرأ هذه الآيات ويصل بعضها ببعض فيختلف المعنى اختلافًا كبيرًا ومثل ذلك أيضًا قوله تعالى: (أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا) [السجدة: 18]. سمعنا قراء يقولوا: (كمن كان فاسقًا لا يستوون)، وهذا غلظ بل تقف (أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا) يحتاج إلى جواب الآن، الجواب (لا يستوون) فالجملة بعدها جواب لها فكيف توصل بها وهي جواب؟ فمثل هذه المسائل ينبغي للإنسان أن يتفطن لها حتى إن شيخ الإسلام رحمه الله انتقد الذين حزبوا القرآن ولم يراعوا الجمل والقواطع أو الفواصل المعنوية (لقد جئت شيئًا نكرًا * قال ألم أقل لَّك إنك لن تستطيع معى صبرًا) [الكهف: 74، 75]. كثير من المصاحف يجعلون منتهى الجزء (لقد جئت شيئًا نكرًا) ما تم الكلام، الصحابة لا يمكن أن يحزبوا القرآن هذا التخريب فيبترون المعاني أبدًا، لابد أن يكون الحزب على منتهى الكلام وقد ذكر هذا رحمه الله في التفسير الذي خرج أخيرًا بأن تحزيب الصحابة للقرآن ليس كالتحزيب الموجود الآن، يعني: من كل وجه، بل كانوا يراعون الكلام والمعاني المتصل بعضها ببعض، حتى إني رأيت بعض المصاحف جعل نصف القرآن (وليتلطف) قال: هذا نصف القرآن ويبدأ النصف الثاني من (ولا يشعرن بكم أحدًا) [الكهف: 19]. فإن أرادوا بالمعنى فهذا غير صحيح وإن أرادوا بالحروف أو الكلمات فهذا يرجع إلى الإحصاء المهم. على كل حال: أن قوله: "يعض أحدكم" الجملة خبرية لكنها إنشائية حذفت منها همزة الاستفهام الدالة على الإنكار وقوله: "كما يعض الفحل"، قلنا: إن هذا للتقبيح لينفر الإنسان من هذا الحال لأن الفحل عضه شديد والإبل من أكثر الحيوان حقدًا، ولا ننسى أبدًا أنه قد ذكر لنا

أن رجلاً كان هنا في عنيزة تُباع الإبل عند الجامع كان فيه متسع يُسمى المجلس وهو سوق للغنم وللإبل وكان مع الناس واقفًا ليشتري بعيرًا فإذا بجمل جاء منصبًا إلى دماغ هذا الرجل فأمسكه بفمه وضرب به الأرض وبرك عليه لولا أن الله سبحانه يسر أن عادة الناس الذين يبتاعون الإبل يكون معهم عصى جيدة، فضربوا هذا الجمل حتى مات وإلا لمات الرجل فقيل له ما السبب قال إني مرة من المرات أراد الناقة فمنعته عنها! فجعل هذا الجمل الحقد في قلبه حتى وجده، فالفحل عضه شديد، ثم قال: "لا دية له" الدية هي العوض المدفوع عن الجناية عن النفس الكاملة ولكن تطلق الدية حتى على دية الأعضاء والجروح تسمى دية وأما ما يدفع ضمانًا لغير النفس والأعضاء والجروح فإنه لا يسمى دية، فلو أن إنسانًا أتلف بعيرًا أو شاة أو بقورة لشخص ودفع قيمتها فإن ذلك لا يسمى دية ولكن يسمى قيمة. هذا الحديث فيه فوائد: أولاً: أن الشيطان ينزغ بين بني آدم حتى يلحقهم بالبهائم لكون هذين الرجلين عض أحدهما الآخر كما بعض الفحل. من فوائد الحديث: أن من أتلف شيئًا لدفع أذاه فلا ضمان عليه لأن هذا الرجل اتلف الثنية لدفع أذاه هي التي عضت يده، ولهذا لم يجعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم صمانًا وهذه قاعدة من قواعد الفقه ذكرها ابن رجب في القواعد الفقهية قال من أتلف شيئًا لدفع أذاه لم يضمنه وإن أتلفه لدفع أذاه به ضمنه الدليل مثل هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دية الثتية التي تلفت بانتزاع هذا الرجل يده من بينها وبين الثنية الأخرى لأن الرجل إنما أراد دفع الأذى ومن ذلك ما سبق في الحديث الذي قبله أن من صال عليك فدفعته فإن لم يندفع إلا بالقتل فقتلته فإنه ليس له دية لأنك أتلفته لدفع أذاه، أما إذا أتلفت الشيء لدفع أذاك به فإنك تضمنه ودليل ذلك قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ ... ) الآية نزلت في كعب بن عجرة حين جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه من رأسه لمرض كان به فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه وأن يفدي فهنا أتلف الشعر لدفع أذى الشعر أو لدفع أذاه به؟ الثاني؛ لأن الذي أذاه هو هوام رأسه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "لعلك أذاك هوام رأسك" والقمل عادة يكون تحت الشعر فإذن له أن يحلق رأسه وأن يفدي وهذا أتلف الشعر لدفع أذاه به أي بإتلاف الشعر ومن ذلك أيضًا لو أن شخصًا في سفينة محملة وفيها بضائع للناي وخيف الغرق فإننا نلقي من البضائع في البحر خوفًا من الغرق فهل تضمن هذه البضائع التي ألقياها في البحر؟ نعم، لأننا نريد أن ندفع الأذى بذلك فنضمن لصاحبها قيمتها أو مثلها حسب ما هو معروف في الفقه.

سقوط الضمان للمتطلع لبيوت المسلمين

ومن فوائد الحديث: شدة الإنكار على عض الإنسان أخاه وجهه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل"، فإن هذا للتنفير وهذه قاعدة مطردة: لا يرد تشبيه الإنسان بالحيوان إلا في مقام الذم، وإذا تتبعت النصوص وجدتها كذلك، في الذي آتاه الله تعالى الآيات فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ماذا قال الله فيه؟ قال: (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) [الأعراف: 176]. وجاء في الذين لا يعملون بما أنزل يفترش يديه في حال السجود بالكلب وكذلك من لا يطمئن في صلاته جاء تشبيهه بالغراب، المهم أنك إذا تأملت النصوص وجدت أنه لا يشبه بنو آدم بالحيوان إلا في مقام الذم وذلك لأن الله -سبحانه وتعالى- فضل بني آدم على البهائم فإذا نُزل بهم وشبهوا بالبهائم فهذا يقتضي الذم والتنفير؛ ولهذا يرى الناس أنك إذا قلت لشخص ما يا بهيم يسرون ذلك قدحًا. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للإنسان أن يدافع عن نفسه ولو تضرر الصائل لأن نزع اليد ولو تضرر ومنه لو أن إنسانًا أمسك بيده شخص عدوانًا وانتزع منه فانخلعت يد الممسك فلا ضمان على الأول. سقوط الضمان للمتطلع لبيوت المسلمين: 1154 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "لو أن امرأ اطَّلع عليك بغير إذنٍ، فحذفته بحصاةٍ ففقأت عينه؛ لم يكن عليك جناحٌ". متَّفقٌ عليه. وفي لفظٍ لأحمد، والنَّسائيِّ، وصحَّحه ابن حبَّان: "فلا دية له ولا قصاص". قوله أبو القاسم هذه كنية النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم "إنما أنا قاسم والله معط" لكن هذا لا علاقة له بالدنيا فهل هذه الكنية عامة لكل من سُمي محمدًا يكنى أبا القاسم أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم له ولد يمسى القاسم؟ الظاهر الثاني لكنها انتقلت الآن وصارت كنية لكل من سمى محمدًا فإنه يكنى عن الناس بأبي القاسم هذا معروف عندنا هنا في المملكة. قال: "لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن": "لو" هذه شرطية، ولكن "لو" الشرطية لا تدخل إلا على الأفعال فأين الفعل؟ الفعل محذوف، أي: لو ثبت أن، وجواب "لو" قوله: "أم يكن عليك

جناح"، وقوله: "بغير إذن" أي: اطلع على بيتك؛ أي: جعل يتطلع من وراء الباب على البيت بغير إذن منك، يعني: لم تأذن له إذنًا سابقًا ولا إذنًا لاحقًا فيقول: "فحذفته بحصاة ففقأت عينه" لم يكن عليك جناح حذفته بحصاة الحذف هو أن تجعل الحصاة على طرف الأصبع الإبهام ثم تقذفها بالوسطى هذا الصف لكنه ليس لازم أن يكون على هذا الوجه يعني: لو أخذت الحصاة بين أصابعك الثلاثة الإبهام والسبابة والوسطى فالمعنى واحد وقوله: "فحذفته بحصاة" معروفة "ففقأت عينه"؛ يعني: أنك فضأتها بعنى شققتاها حتى تلفت لم يكن عليك إثم وإذا انتفى الإثم انتفى الضمان صورة هذه المسألة أن رجلاً يطلع من شقوق الباب على البيت لينظر ما فيه ولا شك أن الإنسان قد يطلع على عورة فإن الناس في بيوتهم تختلف حالهم عن حالهم فيما إذا كانوا خارج البيت ربما يطلع على عورة لا يحب أهل البيت أن يطلع عليها الناس فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة هذا أن تفقأ عينه وإذا فعلت ذلك فليس عليك جناح وظاهر صنيع المؤلف أنه جعل هذا من باب دفع الصائل وقتال الجاني وأنه إذا أمكن دفع شره بغير ذلك لم يجز هذا أي إذا أمكن دفع الشر بغير حذفه بالحصاة فإنه لا يجوز أن يحذف بالحصاة، وقد قال بذلك بعض أهل العلم وزعم أن ذلك من باب دفع الصائل ولكن الصحيح أن هذا من باب عقوبة المعتدي ونظيره ما لو وجد الإنسان شخصًا على امرأته يزني بها فإن له أن يقتله بدون إنذار لأن هذا باب عقوبة الجاني المعتدي وقوله لو أن امرأ اطلع يفهم منه أن الباب مغلق لأن كلمة اطلع تقتضي معالجة الإطلاع وأنه لو كان الباب مفتوحًا فوقف إنسان ينظر ما في البيت فإنه لا يفعل به ذلك لأن التفريط هنا من صاحب البيت وكذلك أيضًا حذفته بحصاة ظاهر ذلك أنك لو رميته برصاص فإن ذلك لا يجوز للفرق بين الحصاة وبين الرصاص فإنك ربما تقتله بخلاف الحصاة ولكن لو حذفته بحربة فهل يكون كالحصاة؟ الجواب: نعم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يطلع في البيت فآخذ المدرأ وجعل يختله، يعني: يمشي مشيًا خفيًا حتى لا يشعر به من أجل أن يحذفه بهذا المدرأ وقوله فقأت عينه لو أصبت غير عينه مثل جبهته أو خده فنجرح فهل تكون ضامنًا؟ الجواب: نعم تكون ضامنا وذلك لأنه أي هذا الذي حصل في غير محل الجناية لأن محل الجناية بالنظر هو العين وهذا ليس فيها. نأخذ من هذا الحديث فوائد: أولاً: تحريم الاطلاع على بيوت الناس ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح حذف هذا الرجل وإن فقئت عينه وهذا يدل على أنه معتد، ولولا ذلك لكان محترماً لا يجوز العدوان عليه.

ومن فوائده: أنه لو كان للإنسان بيت يشرف على بيت الثاني وجب عليه أن يرفع الجدار حتى لا يطلع على بيت جاره وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الاطلاع على البيوت وإذا كانت الجدران قصيرة أو كانت الشبابيك في الجدران قصيرة فهذه وسيلة للإطلاع؛ ولهذا قال الفقهاء في باب أحكام الجوار قالوا يلزم الأعلى سترة تمنع مشارفة الأسفل، ولكن هنا مسألة هل يفرق بين الجار الملاصق والجار الذي بينك وبينه طريق؟ نقول لا فرق لأن العلة هي الاطلاع على بيوت الناس وهل يفرق بين جار تقدم أو تأخر، يعني: مثلاً لو كان الذي جداره قصير أو شبابيكه قصيرة سابقًا عليك وأنت الذي أحدثت بناء بعده فهل نقول للأول أرفع الجدار أو تقول أنت الذي وردت عليه؟ الصحيح انه لا فرق بين المتقدم والمتأخر، لأن الناس جرت عادتهم أن يبني بعضهم بجنب بعض حتى لو فرض أنك آخر البناء وأنك ظننت أنه لن يبني أحد وراءك ثم بنى فإن عليك أن تتخذ جدارًا طويلاً يمنع مشارفة جدارك. ومن فوائد الحديث: أن للإنسان أن يُطلع غيره على ما في داخل بيته وجه ذلك قوله: "بغير إذن" والحكمة ظاهرة لأن حجاب البيوت حق لأهل البيوت فإذا رضي صاحب البيت أن يدخل الإنسان إلى بيته وينظر ما فيه فلا حرج لأن هذا حق له ولكن إذا كان في البيت أناس متعددون فلا تطلعهم على حجرة الآخرين بغير إذنهم أما حجرتك الخاصة فأنت حر فيها. ومن فوائد الحديث: أنه لا يشترط لحذفه تقدم الإنذار وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط لجواز الحذف تقدم الإنذار ويتفرع على هذه الفائدة أن حذفه ليس من باب دفع الصائل ولكنه من باب عقوبة المعتدي إذ لو كان من باب دفع الصائل للزم أولاً إنذاره ثم إن بقي وأصر عُمل فيه هذا العمل لكن هذا من باب عقوبة المعتدي وذكرت لكم نظيرًا وهو من رأى شخصًا يزني بامرأته أو فوقها ثم قتله فلا شيء عليه. ومن فوائد الحديث: أنه لو فقأ عينيه جميعًا فإنه ضامن للعين التي لم تطلع وجه ذلك أن فقأ العين التي لا تنظر فقأ في غير محل الجناية فيضمنها كما لو أصاب جبهته أو خده أو أنفه. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن يحذفه بما يقتله لقوله فحذفته بحصاة ولم يقل بسهم فلو حذفه بما يقتله ثم مات فإنه يكون ضامنًا. ومن فوائد الحديث: حماية الشريعة الإسلامية لعورات الناس حتى في البيوت وجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز العقوبة لمن انتهك حرمة البيت واطلع على العراة وهل يؤخذ من الحديث جواز إقامة الحد والقصاص ممن له الحق، يعني: مثلاً إنسان قُذف قذفه رجل قال أنت زان والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يجلدون ثمانين جلدة فهل لهذا المقذوف

أن يتولى إقامة الحد على قذفه؟ لا، إلا أن يكون في بلد لا يحكم فيها بالإسلام فله إقامة الحد لتعتذر إقامته من ولي الأمر أما إذا كان هناك ولي أمر فإنه هو الذي يتولى ذلك، ولهذا جاء في الآية الكريمة قال: (فاجلدوهم ثمانين جلدة) [النور: 4]. فجعل الحكم موكولاً إلى ولي الأمر، في القصاص لو أن إنسانًا قتل شخصًا فأراد وليه أن يقتله فهل له ذلك؟ ليس له ذلك اللهم إلا أن يكون في بلد لا يحكم فيه بالإسلام فله ذلك ما لم يخش فتنة اكبر فإن خشي فتنة أكبر فلا يقتص ولهذا منع عثمان رضي الله عنه من الدفاع عن نفسه خوفاً من الفتنة. فإن قال قائل: ما الفرق بين هذه المسائل التي ذكرت وبين مسألة المطلع على البيت؟ نقول: لأن المطلع على البيت لا يمكن التأخير فيه لأنك لو أخرت فتذهب للحاكم وتثبت المسألة فيهرب من حين ما يفتح الباب بخلاف صاحب القذف أو القصاص أو ما أشبه ذلك وهل يلحق التسمع والتصنت بالنظر، يعني: لو أن إنسانًا جعل أذنه على شق الباب يستمع ما يقال في هذا البيت فجاء إنسان وقذف هذه الأذن بحصاة أو جاء بالمدرأ ووخذها فهل يلحق بالنظر أو لا؟ الصحيح أنه لا يلحق وذلك لأن إدراك النظر للعورة أقوى من إدراك السمع فلا يقاس عليه فالمطلع الذي يشاهد ليس كالذي يسمع، يعني: لو فرضنا أن إنسانًا مع أهله فليس إطلاع الناس عليه وهو مع أهله كسماعهم لكلامه معهم. قال: وفي لفظ لأحمد والنسائي وصححه ابن حبان "فلا دية له ولا قصاص" يعني: بدلاً من قوله: "لم يكن عليك جناح"، "لا دية" ومعروف أن دية العين نصف الدية كاملة؛ لأنه بفقأها أذهب بصره وهي منفعة مستقلة وقوله: "ولا قصاص" كذلك أيضًا لا يقتص منه لأنه لم يتعمد إثمًا. فإن قال قاتل: هل هناك فرق بين هذا اللفظ وبين لفظ الصحيحين؟ قلنا: لا فرق من حيث المعنى لأن لفظ الصحيحين دل على أنه لا دية له ولا قصاص بالالتزام، لأنه من لازم انتفاء الدية والقصاص وعلى هذا فيكون قد انتفى عنه الإثم والدية والقصاص وهذا مطابق للقاعدة المعروفة أن ما ترتب على المأذون فهو غير مضمون.

ضمان ما أتلفته المواشي

ضمان ما أتلفته المواشي: 1155 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ حفظ الحوائط بالنَّهار على أهلها، وأنَّ حفظ الماشية باللَّيل على أهلها، وأنَّ على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم باللَّيل". رواه أحمد والأربعة إلا التَّرمذيُّ، وصحَّحه ابن حبَّان وفي إسناده اختلافٌ. هذا الحديث أولاً: نسأل ما وجه وضعه في هذا الباب؟ والجواب عن ذلك: أن يقال وجه وضعه أن إهمال المواشي في الليل جناية على أهل الحوائط، يعني: البساتين فلذلك ناسب أن يدخله في هذا الباب، وقوله: "قضى" هل حكمًا أو قضى شرعًا؟ الجواب: نقول ما قضاه حكمًا فهو مقض شرعًا، والفرق بين ما قلت من جهة الحكم أو الشرع أنه هل المعنى هل رفعت قضية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قضى فيها بما ذكر أو أن الرسول قال ذلك كلامًا مخبرًا له عن أمر شرعي؟ نقول سواء هذا أو هذا فالحكم واحد: "قضى أن حفظ الحوائط بالنهار ... إلخ" "الحوائط" جمع حائط وهي البساتين، وسميت بذلك لأنه يحوط عليها غالبً، فحفظ الحوائط على أهلها بالنهار وذلك لأن أهلها في يقظة ويستطيعون حفظها، ولأن الماشية في النهار ترسل من أجل أن ترعى، فكان على أهل الحوائط أن ينتبهوا ويحفظوا حوائطهم فهم المسئولون عن الحوائط وقوله: "بالنهار" الباء هنا بمعنى "في" لأن الباء تأتي للظرفية قال ابن مالك. بِالبَا اسْتَعنْ وَعَدِّ عَوِّضْ أَلْصِقِ ... وَمِثْلَ مَعْ وَعَنْ بِهَا انْطِق ثم ذكر أنها أيضًا تأتي للظرفية واستدلوا لذلك بقوله تعالى: (وبالَّيل أفلا تعقلون) [الصافات: 138]، أي وفي الليل وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وتعليله ما ذكرنا أن الماشية في الليل لا حاجة أن ترسل بل تبقى في أعطانها إن كانت إبلا وفي أحواشها إن كانت غير إبل وأن على أهل الماشية "ما أصابت ماشيتهم بالليل" يعني: ما أتلفت الماشية بالليل فإنه على أهلها وجه ذلك أن أهل الحوائط معذورون لم يحملهم النبي صلى الله عليه وسلم حفظ حوائطهم وأن أهل الماشية مفرطون حيث لم يحفظوا ماشيتهم بالليل مع أن حفظها واجب عليهم.

هذا الحديث يستفاد منه فوائد متعددة: منها: أن الأحكام الشرعية مبنية على العلل المناسبة لأن ذلك هو الحكمة أن تكون الأحكام مبنية على العلل المناسبة وجه ذلك أن إلزام أهل المواشي بحفظ مواشيهم بالليل وإلزام أهل الحوائط بحفظ حوائطهم بالنهار مناسب تمامًا للحكمة. ومن فوائده: أن ما أتلفت البهيمة من الحوائط في الليل من ثمر أو زرع فهو على أهلها، لأنهم هم الذين فرطوا بتركها مرسلة في الليل في وقت لم تجربه العادة. ومن فوائد الحديث: أن ما أتلفته البهيمة بالنهار من الحوائط فليس فيه ضمان؛ لأن المسئول عن حفظ الحوائط هم أهلها إلا أن بعض أهل العلم استثنى من ذلك ما إذا أرسلها بقرب ما تتلفه في العادة مثل أن يكون حوله مزرعة فأرسل البهيمة فإن عليه الضمان واستدلوا لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه أو أن يرفع فيه فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذي يرعى الحمى يقرب جدًا أن يرتع فيه وهذا الذي قالوه مراعاة للمعنى وإلا فلو أخذنا بظاهر الحديث ما كان على أهل الماشية ضمان ولو أرسلوها برب ما تتلفه نهم لو أنهم تقصدوا ذلك مثل أن يقول صاحب الماشية سأذهب بها إلى قرب مزرعة فلان وأتحين غفلته فحينئذٍ نعرف أن الرجل نوى العدوان فيضمن. ومن فوائد الحديث: اعتبار العرف والعمل به لأننا لا نعلم أن للتفريق بين إتلاف البهائم في النهار وفي الليل إلا ما جرى به العرف حيث إن العرف أن أهل الحوائط يحفظونها في النهار وأن أهل المواشي يحفظونها في الليل وهذا الحديث -أعني: كون صاحب الماشية يضمن ما أتلفه- يخصص قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العجماء جبار"، يعني: البهيمة هدر لا ضمان فيما أتلفته فيقال: إنه يستثنى من ذلك ما إذا أرسلها صاحبها في الليل وأتلفت شيئًا من الحوائط وهل يلحق بذلك ما أتلفه من الأموال الأخرى غير الحوائط؟ الجواب: لا غير الحوائط يلزم صاحبها حفظها فلو أن البهيمة انطلقت على أكياس من الشعير في حوش مثلاً فأتلفته فإنه لا ضمان على صاحبها إلا أن تكون يده عليها إن كانت يده عليها فهو ضامن ومعنى كون يده عليها أن يكون قائدًا أو سائقًا أو راكبًا، فإذا كانت يده عليها فهو ضامن لكن إذا تم تكن يده عليها فإن الأصل فيما أتلفته أنه هدر ولا ضمان فيه لكن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الحوائط فرق بين الليل والنهار. * * *

قتل المرتد

قتل المرتد: 1156 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه -في رجلٍ أسلم ثم تهود-: "لا أجلس حتَّى يُقتل، قضاء الله ورسوله، فأمر به، فقتل". متفقٌ عليه. -وفي روايةٍ لأبي داود: "وكان قد استتيب قبل ذلك". معاذ بن جبل أحد الرسل الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن داعيًا وحاكمًا وقاضيًا أرسله إلى اليمن وقال له: "إنك تأتي قومًا أهل كتاب" فذكر له أن رجلاً أسلم ثم تهود؛ أي: صار يهوديًا! في حاشية النسخة التي معي: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى إلى اليمن ثم أتبعه معاذًا فلما قدم على أبي موسى ألقى له وسادة، وقال له: اجلس فإذا رجل موثق قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًا فأسلم ثم تهود فقال: "لا أجلس" يعني: على هذه الوسادة "حتى يقتل". وهذا الرجل اليهودي كما رأيتم أسلم ثم ارتد؛ لأن رجوعه إلى دينه بعد أن أسلم ردة، قال: "قضاء الله ورسوله"، أي: هذا قضاء الله ورسوله، أي: حكم الله ورسوله، والقضاء المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: قضاء شرعي، وقضاء قدري، فالقضاء الشرعي: هو الحكم الشرعي كالأمر والنهي وما يتعلق به، والقضاء القدري: هو الحكم الكوني الذي يقضي به الله عز وجل ولابد من وقوعه. مثال الأول: القضاء الشرعي قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) هذا قضاء شرعي، يعني: أمر بذلك، والدليل على أنه قضاء شرعي؛ يعني: أمر بذلك، والدليل على أنه قضاء شرعي: أن من الناس من لم يعبد الله ولم يمتثل لهذه الأوامر، ولو كان قضاء كونيًا لامتثل جميع الناس، ومثال القضاء الكوني: قوله تعالى: (وقضينا إلى بنى اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوًا كبيرًا) [الإسراء: 4]. فالقضاء هنا لا شك أنه قضاء الله ورسوله مراده الشرعي ولم يقل قضاء الله ثم رسوله لأن الأحكام الشرعية حث سواء من الله أو من رسوله والحكم الصادر من الرسول كالحكم الصادر من عند الله فأمر به فقتل، يحتمل أن الذي أمر معاذ ابن جبل ويحتمل أنه موسى المهم أنه قتل هذا اليهودي لأنه أسلم ثم ارتد. وفي رواية لأبي داود: "وكان قد استتيب قبل ذلك؛ أي: طلب منه التوبة والرجوع إلى الإسلام، ولكنه أصر فقتل هذا الحديث أصل في قتل المرتد، وكذلك الحديث الذي بعده.

شروط قتل المرتد

شروط قتل المرتد: 1157 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لدَّل دينه فاقتلوه". رواه البخاري. "من بدل دينه" أي: دينه الإسلامي، "فاقتلوه" أما من بدل دينه غير الإسلامي فإننا نرحب به ولا نقتله لكن المرد بالدين دين الإسلام هذان الحديثان هما أصل في قتل المرتد فلابد إذن من أن نعرف من هو المرتد؟ المرتد هو الذي كفر بعد إسلامه وهو في اللغة الراجع مأخوذ من ارتد بمعنى رجع ولكنه شرعًا هو الذي يكفر بعد إسلامه والكفر يدور على شيئين أما جحد وإما استكبار فمن جحد شيئًا مما أخبر الله به ورسوله أو مما حكم الله به ورسوله فأنكر الحكم وجحده فإنه كافر مثال ذلك: لو قال: إن آية من القرآن ليست منه فإنه كافر كفر جحود ولو قال إن الصيام ليس فريضة فهو كافر كفر جحود ولو صام، ومن قال: إن الزنا ليس محرمًا فهو كافر كفر جحود وهلم جرا، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فهو كافر إذا كان إنكاره جحود فإن إنكاره إنكار تأويل فإنه لا يكفر بذلك وله أحكام تليق به أما الاستكبار فإن لا يجحد شيئاً ولكن يستكبر عنه كما فعل إبليس فإن إبليس أمر أن يسجد لآدم ولكنه أبى واستكبر لم يجحد الأمر لكنه استكبر، وقال: أنا خير منه وقال أأسجد لمن خلقت طينًا وهذا لو استكبر أحد عن شيء من فرائض الله ولو أقر بوجوبها، فإنه يكون كافرًا لكن هناك تقييدات، فإن بعض الشرائع لا تكفر الإنسان بالاستكبار عنها، الاستكبار عن الصلاة وعن الزكاة وعن الصيام وعن الحج هذا كفر وليس هذا من باب التهاون، التهاون ليس يرى نفسه أنه كبير وأنه أعظم من أن يؤمر المستكبر هو الذى يرى نفسه أنه أعظم من أن يؤمر بهذه الشرائع أو الشعائر والمتهاون متهاون يوجه الخطاب إليه ويؤمر ولكنه متهاون فترك التهاون لا يكفر به إلا في الصلاة وأما ترك الاستكبار والعند والتعارض على أوامر الله فهذا يكفر به ولو كان غير الصلاة حتى لو لكان من الزكاة والصيام والحج، بقينا من اتخذ الله صاحبة أو ولدًا أو شريكًا في الملك أو ما أشبه ذلك من أي أنواع الكفر هذه؟ هذا كفر جحود أنه جحد أن يكون الله واحدًا حيث أشرك به وقد يكون من باب الجحود والاستكبار أيضًا فإن الله نهى أن يشرك به فإذا أشرك فهو مستكبر بناء على ذلك نقول إن الإنسان إذا ارتد على الوجه الذي ذكرنا فإنه ينتقل من وصف الإسلام إلى وصف الكفر ولكن لابد لهذا من شروط الشرط الأول العلم فإن لم يكن عنده علم فإنه لا يكفر سواء جحدًا أو استكبارًا ودليل ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)

رسولاً ليعلم الناي، وقال تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) فدل ذلك على أنه إذا لم تبلغ الرسالة فاللناس حجة فلا يكفرون وقال الله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكى القرى إلاَّ وأهلها ظالمون) [القصص: 59]، قال حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا ... إلخ. وقال الله تعالى: (وما كان الله ليضل قوما بعد غذ هداهم حتَّى يبين لهم ما يتقون) [التوبة: 115]، وقال تعالى: (وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه ليبين لهم) [إبراهيم: 4]، وإذا لم يبن فلا فائدة من الرسالة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار"، وهذا يدل على أنه إذا لم يسمع فليس من أهل النار لأنه جاهل وأنكر عمر رضي الله عنه آية من الفرقان؛ لأنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم على غير الوجه الذي سمعها من قارئها حتى إنه خاصمه وذهب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فحكم بينهما وقال هكذا أنزلت لما قال عمر ولما قال الرجل الآخر ومعلوم أن إنكار آية أو حرف من القرآن كفر لكن عمر لم يعلم إذن لابد من العلم. فإن قال قائل: إذا ادعى أنه جاهل فهل تقبل دعوى الجهل؟ نقول في هذا تفصيل: إن كان في مكان ناءٍ بعيد كمن عاش في بادية بعيدة ليس عندهم من يعلمهم فإن دعوى الجهل منه مقبولة وإن كان قد عاش بين الناس الذين عندهم علم في هذا الأمر فإنه لا يقبل فمن كان حديث عهد بإسلام هو في بلده بلد كفر يعبدون الأشجار والأصنام ويزنون ويشربون الخمر ثم أسلم وقال إن الخمر ليست حرامًا فإننا نعذره في ذلك لأنه جاهل لكن لو قال إن الخمر غير حرام وهو عائش في بلاد المسامين فإننا لا نقبل منه لأن هذه الدعوى خلاف الظاهر، الشرط الثاني: أن يكون قاصدًا للكفر وانتبهوا لكلمة قاصدًا لأنها دقيقة فمن قصد الكفر كفر سواء كان جادًا أم هازلاً المهم أنه قصد فمن نطق بالكفر غير قاصد فإنه لا يكفر وتحت هذا عدة صور الصورة الأولى: أن يغضب غضبًا شديدًا حتى لا يدري ما يقول ثم يتكلم بكلمة الكفر فهذا لا يكفر لعدم القصد. الصورة الثانية: أن يفرح فرحًا شديدًا فيقول كلمة الكفر وهو غير قاصد فهو أيضًا لا يكفر بدليل صاحب الناقة التي أضلها حتى اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فإذا بخطام ناقته متعلقًا بالشجرة فأخذ به وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح ولم يكفر؛ لأنه غير قاصد، ويشبه هذا من فعل مكفرا لكمال تعظيمه لله وخوفه منه لا استهانة بالله مثل

الرجل الذي كان مسرفًا على نفسه فقال لأهله: والله إن قدر الله علي لعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين ولكن إذا مت فأحرقوني واذروني في اليم ففعل أهله فجمعه الله عز وجل وقال ما الذي حملك على هذا قال يا رب مخافتك فغفر الله له لأن هذا جاهل كيف ينفذ هذا الخوف من الله عز وجل ورأى أن هذا أسلم طريق يسلم به من مخافة الله ومن صور هذه المسألة -أعني القصد- إذا أكره الإنسان على الكفر ففعله لداع الإكراه لا قاصدًا إياه فإنه لا يكفر لقول الله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا) [النحل: 106]، ولا فرق بين أن يكره على قول أو على فعل وقصة الذبابة التي ذكرت ليست بصحيحة التي فيها أنه قبل لأحدهم: قرب ولو ذبابة فقرب فدخل النار وقيل للآخر: قرب فقال: ما كنت لأقرب لأحد من شيء دون الله فإنها غير صحيحة ثم على فرض صحتها هي شرع من قبلنا وقد ورد شرعنا بخلافه لقوله تعالى: (ألا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ولم يقيد ذلك من أكره بقول وكذل الحديث إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، المهم أن هذه الصور كلها تدخل تحت كلمة قصد الكفر ولا فرق بين كونه جادًا أو هازلًا، يعني: لو نطق بكلمة الكفر جادًا أو هازلًا أو فعل فعلة الكفر جادًا أو هازلًا فهو كافر ودليل ذلك قوله -تبارك وتعالى-: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) [التوبة: 65، 66]. الشرط الثالث: أن نعلم أن هذا الشيء كفر منطبق على من قام به بمعنى أن نعرف أن هذا كفر دل عليه الشرع وأن الذي قام به هذا العمل المكفر قابل لأن يكفر فإذا لم نعلم أنه كفر وشككنا هل هذا كفر أو غير كفر فالأصل عدم الكفر وأن الإنسان مسلم وإذا علمنا أنه كفر لكن شككنا في حال من قام به هذا العمل هل هو معذور بتأويل أو جهل أو لا فإننا أيضًا لا نحكم بكفره ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من منابذة الولاة قال "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان" فهذه قيود مبينة عظيمة أن تروا، يعني: تعرفوا وصده الجهل أو الظن كفرًا أي: لا فسقًا لابد أن نعلم أنه كفر بواحًا أي: صريحًا واضحًا عندكم فيه من الله برهان أي دليل واضح. من فوائد الحديث: أن في دليل على أنه يجب على الإمام بعث الدعاة إلى الأقطار للدعوى للإسلام وهل توافقوني على وجوب البعث؟ لو قال قائل: هذا فعل والفعل لا يدل على الوجوب فالجواب هذا فعل مفسر لقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) والأمر للوجوب بلا شك فيكون الفعل المفسر له واجبًا.

ومن فوائد الحديث: مشروعية استعانة الدعاة بعضهم ببعض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لأبا موسى ولأتبعه معاذًا. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لمن بعث داعيتين فأكثر أن يأمرهما بالتطاوع وعدم التعارض كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذاً أن يتطاوعا، يعني: لا يتنازعا في شيء يطبع أحدهما الآخر ولو كان يرى في ذلك غضاضة عليه لما في الاتفاق والتطاوع من الخير والمصلحة. ومن فوائد الحديث: حسن الصحبة بين الصحابة -رضى الله عنهم-؛ لأنه قد ورد في نفس الحديث وقد رواه البخاري أنه كلما قرب أحدهما من الآخر ذهب إليه ليجدد العهد به ويتفرع على هذه المسألة ما ذكره بعض العلماء من أنه يستحب للعلماء والدعاة إلى الحق أن يكثروا الزيارات بينهم لأن هذا يجلب المودة والألفة وينشط الدعاء ويغيظ أعداء الدعوى وأعداء الخير وهذا أمر لا شك انه مطلوب لا سيما بين العلماء ودعاة الخير. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لمن بعث دعاة إلى الإسلام أن يأمرهم بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذاً حيث قال "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا" وهذا عام أو إن شئت فقل مطلق كل ما كان فيه التيسير بدون إخلال بالشرع فهو مطلوب كل ما كان فه التبشير حتى لو أذنب الإنسان وجاء يقول إنه أذنب فبشره قل أبشر يا أخي إذا أذنبت فتب والتوبة تهدم ما قبلها وربما تجعل التائب أحسن حالاً منه قبل قبل فعل الذنب وتبشره خلافًا لبعض الأخوة الذين عندهم غيره إذا جاء إنسان يقر بذنبه ويقول فعلت كذا وكذا اكفهر وجهه وعبس وقال أعوذ بالله فعلت هذا، هذا ليس بصحيح الذي جاء تائبًا ينبغي أن يفرج عنه ويشرح له الأمر ويوسع له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: إكرام الصاحب والزميل لأن أبا موسى أكرم معاذًا بوضع الوسادة له والوسادة هي المخدة التي ينام عليها الإنسان يضع رلأسه عليها عند النوم ووضعها له ليجلس عليها دليل على إكرامه. ومن فوائده: أنه لا بأس أن يجلس شريف القوم على فراش او وسادة وإن كان الآخرون لم يجلسوا عليها ولا يقال إن في هذا كبرياء وأنفة لأن لكل مقام مقالاً. ومن فوائد الحديث: قوة معاذ بن جبل رضي الله عنه، يعني: كأنه جاء على بغلة فقال له انزل قال لا أنزل ولا أجلس حتى يقتل وهذا لا شك يدل على القوة لأن هذا الرجل كان يهوديًّا فأسلم ثم عاد فتهود. ومن فوائد الحديث: أن المرتد لا يقر على ردته وإن كان يقر على دينه الأول لأن اليهودي يقر على دينه لكن إذا اسلم ثم ارتد وتهود فإنه لا يقر.

ومن فوائد الحديث: استدلال العالم بالنص وإن كان عالمًا مع أن معاذ بن جبل من القضاة المشهورين في الإسلام ومن أئمة الفتوى في الصحابة ومع ذلك استدل على ما قال بقضاء الله ورسوله. ومن فوائد الحديث: أن قضاء رسول الله قضاء لله وعلى هذا فمعصية رسول الله معصية لله وإن لم يكن هذا في القرآن لأن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع فهو شرع الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: جواز قرن الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله بالواو فى المسائل الشرعية؛ لقوله: "قضاء الله ورسوله". ومن فوائد الحديث: تعظيم قضاء الله ورسوله عند الصحابة وأنهم يرون لزامًا عليهم أن ينفذوا قضاء الله ورسوله وهكذا يجب على كل مؤمن أن يرى من نفسه وجوب تنفيذ قضاء الله ورسوله والقيام بذاك؟ ومن فوائد الحديث: إذا لم نعتبر رواية أبي داود أن المرتد يقتل بدون استتابة. أما الحديث الثاني قال: من بدل دينه فاقتلوه، "من" هذه شرطية وألفاظ الشرط تفيد العموم وجواب الشرط قوله فاقتلوه وإنما اقترن الجواب بالفاء؛ لأنه جملة طلبية، والناظم يقول في الجمل التي يجب أن تقترن بالفاء إذا وقعت جوابًا: أسمية طلبية وبجامد ... وبما ولن وبقد وبالتنفيس يقول: "من بدل دينه" يعني: أتى بدين غير دينه الذي كان عليه "فاقتلوه" والخطاب هنا للأمة جميعًا لكن المراد بذلك ذوو الأمر منها لأن ذوي الأمر نواب عن الأمة، ولهذا قال العلماء: إن ولي الأمر نائب عن الأمة فهو نائب عنها يرعى مصالحها، ولهذا لا يمكن أن يكون خليفة إلا بالمبايعة من ذوي الشأن والجاه أو بنص ممن قبله حسب ما ذكره العلماء في هذه المسألة فإذا وجه الأمر فى الحدود وقتل المرتد إلى الجماعة فالمراد بذلك ولى الأمر لأنه نائب عن الجماعة سياق هذا الحديث في قصة وردت عن علي بن أبي طالب وهو أنه رُفع إليه قوم عن الزنادقة والزنادقة قيل: إنهم الدهريون الذين يقولون (ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكها إلا الدهر) [الجاثية: 24]، وقيل: إنهم المنافقون، وقد جاء في روايات أخرى في هذه القضية أن على بن أبي طالب جاءه أناس من الشيعة يتشيعون له وقالوا له: أنت الله حقًا، أنت الذي خلقتنا، وأنت الذي رزقتنا، فنهاهم فأصروا إلا كذلك فأمر بالأخدود -يعني: حفرة- وأمر أن يجعل فيها الحطب ثم توقد فيه النار ثم جاء بهم وألقاهم في النار فبلغ ذلك عبد الله بن عباس فأنكر ذلك وقال لو لم يعذبهم بالنار وقتلهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعذب بالنار، وقال: "من بدل دينه فاقتلوه" فبلغ ذلك علي بن أبي طالب، أي: بلغه قول ابن عباس فقال: ما أسقط ابن أم الفضل

على الهناة، يقصد عبد الله بن عباس ولكن الفضل أكبر منه، والهناة ما يعاض على المرء، وهذا إقرار من علي رضى الله عنه بان الصواب مع عبد الله بن عباس قوله: "من بدل دينه فاقتلوه" "من" هذه للعموم. فيستفاد من الحديث فوائد: أولاً: أن من بدل دينه وجب قتله من رجل أو امرأة ولكن بشرط أن يكون بالغًا، وأما الصغير فإنه قد رُفع عنه القلم، وقيل: بل يكفر التمييز إذا كان مميزًا وارتد فإنه يقتل إذا لم يرجع إلى الإسلام، لكن المشهور الأول أنه لابد أن يكون بالغًا عاقلاً فإن كان غير بالغ أو غير عاقل فلا عبرة بردته لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رُفع القلم عن ثلاثة" وعلى هذا فيكون قوله "من"هذا العام يكون عامًا أريد به؟ البالغ العاقل ويشمل المرأة والرجل. وهل من فوائد الحديث: أنه لو تهود نصراني أو تنصر يهودي قُتل؟ كله باطل والكفر ملة واحدة وهذه المسألة فيها خلاف فذهب بعض العلماء أن اليهودي إذا تنصر أو النصراني إذا تهود يقتل لأنه انتقل عن شيء يعتقده دينًا فهو دينه ويكون بهذا الانتقال ساخرًا بآيات الله التي يرى أنها حق ولكن لو كان صاحب هذا الرأي قال إن تهود نصراني قتل وإن تنصر يهودي لم يقتل لكان اقرب إلى المعقول لأن اليهودي إذا تنصر إلى دين خير من دينه لأنه ناسخ له بخلاف العكس، لكن القول هذا ضعيف فالحديث لا يشمله لا شك والدليل على أن الحديث ليس على عومه من كل صورة أننا لو أخذنا بعمومه في كل صورة لكان الرجل إذا أسلم وهو كافر يُقتل لأنه بذل دينه ولا قائل به وعلى هذا فنقول إذا انتقل الكافر للإسلام فإنه لا يقتل بالإجماع وإذا انتقل كافر من ملته إلى ملة أخرى ففيه خلاف والصحيح أنه لا يقتل لأن كلا الدينين باطل لكن بعض العلماء يقول إنه إذا تهود نصراني أو تنصر اليهودي فإنه لا يقبل منه إلا الرجوع إلى دينه أو الإسلام؛ لأنه متلاعب، لكنه لا يقتل، بل يقال: ارجع لدينك أو الإسلام. الصورة الثانية: أن ينتقل من الإسلام إلى الكفر فهذا هو الذي يقتل وهذا هوة المراد وعلى هذا فقوله: "من بدل دينه" أي: دينه الذي يرتضيه الله والذي هو دينه شرعًا؛ لأن الدين غير دين الإسلام وإن كان دين الإنسان قدرًا فليس دينه شرعًا ويكون المراد من بدل دينه الشرعي ولا دين شرعي إلا الإسلام، فيكون إذن الحديث من ارتد عن الإسلام إلى دين آخر وجب قتله، وإنما يقتل؛ لأنه انتقل إلى ما لا يرضي الله؛ لأنه انتقل من الإسلام إلى الكفر إما إذا انتقل من

قتل من سب النبي أو زوجاته أو أصحابه

يهودية إلى نصرانية فكلاهما لا يرضى عند الله، على أنه ورد فيه حديث، لكنه في السنن ليس في الصحيحين، وهو أنه من اختار غير الإسلام دينًا فاقتلوه. قُتل من سب النبي أو زوجاته أو أصحابه: 1158 - وعنه رضى الله عنه: "أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، فلما كان ذات ليلة أخذ المعول، فجعله في بطنها، واتكأ عليها عليه فقتلها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا اشهدوا فإن دمها هدرٌ". رواه أبو داود ورواته قاتٌ. من هي أم الولد؟ هي السرية التي أتت من سيدها بولد قال العلماء -رحمهم الله- ويثبت كونها أم ولد بأن تضع ما يتبين فيه خلق الإنسان وعلى هذا فنقول في التعريف أم الولد تضع ما يتبين فيه خلق الإنسان من سيدها وحكم أم الولد أنها تعتق بعد موت سيدها ولو لم يملك إلا هي فإنها تعتق في حياته ولكن هل يجوز بيعها أو لا كانت أمهات الأولاد تباع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر ثم في أول خلافة عمر ثم إن الناس تجرءوا على بين أمهات الأولاد والتفريق بينهن وبين أولادهن فمنع عمر رضى الله عنه من بيعهن ولا شك أنه إذا كان معها ولد لا تباع لئلا يفرق بينها وبين ولدها لكن إذا قدر أنها وضعت الولد ومات فهل يجوز بيعها نقول من العلماء من أخذ بسنة عمر على سبيل الإطلاق وقال لا يجوز بيعها والصحيح أنه يجوز بيعها في هذه الحال لأنها لم تعتق بعد ولأن أمهات الأولاد يبعن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر وأول خلافة عمر، يقول: "كانت تشتم النبي" يعني: تذكره بالعيب وتقع فيه بالسب والتقبيح -والله أعلم- هل كانت كافرة من الأصل أو كانت مسلمة ثم ارتدت "فينهاها فلا تنتهي فلما كان ذات ليلة أخذ المعول"، والمعول حديدة تنقي بها الجبال لاستخراج الحصا منها، "أخذ المعول فجعله في بطنها واتكأ عليها" فقتلها رضى الله عنه غيرة لله ورسوله، فهذا جزاؤها، يعني: صار دمها هدرًا فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا اشهدوا فإن دمها هدر"، "إلا" هذه أداة تنبيه وتسمى أداة استفتاح، وهي للتنبيه بلا شك "اشهدوا" استشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن دمها هدر، ومعنى "هدر" أي: لا قيمة له؛ وذلك لأنها سبت النبي صلى الله عليه وسلم وشتمته وسب النبي صلى الله عليه وسلم وشتمه لا شك أنه كفر وردة عن الإسلام، كما أن سب الله عز وجل كفر وردة عن الإسلام كما أن

سب القرآن والاستهانة به وطلب تناقضه واختلافه ومخالفته للواقع، يعني: طلب القدح في القرآن بأي وسيلة كفر (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) كما أن سب الصحابة رضى الله عنهم واعتقاد أنهم كفروا أو فسقوا إلا نفرًا قليلاً منهم كفر مخرج عن الملة، وليس صاحبه من أهل الإسلام في شيء، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الحق. ففي هذا الحديث عدة فوائد: أولاً: أم من سبٌ النبي صلى الله عليه وسلم فدمه هدر وظاهر هذا الحديث أنه لا يستتاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن أنه كان يجب أن يستتبها إلا أن يقال إن نهيه إياها وامتناعها عن الانتهاء بمنزلة الاستيتاب. وعلى كل حال: فمن سب الله عز وجل أو رسوله فهو كافر مرتدٌ لا إشكال فيه، ولكن يبقى النظر إذا تاب هل تقبل توبته أو لا؟ فالمشهور من المذهب انه لا تقبل توبة من سب الله أو رسوله، لأن هذا كفر ليس بعده كفر هذا أعظم الكفر من جعل الله ندًا فهو كافر لكن من سب الله فهو أعظم ممن جعل لله ندًا لن سب الله بجعل الند سب ضمني والسب الصريح أقوى في الاستهانة وعلى هذا فمن سبَّ الله أو رسوله حتى لو قال إنه تاب فإنه لا يقبل منه ذلك-هذا هو المشهور من المذهب- وعللوا ذلك بعظم كفره وكذلك من سب القرآن فإنه لا تقبل توبته لأن سب القرآن سبٌ لله عز وجل فمن سب القرآن فإنه لا تقبل توبته لعظم كفره وقيل: تقبل التوبة ممن سب الله ورسوله لقوله تعالى: (قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ... ) [الزمر: 53]. يغفر الذنوب جميعًا مهما عظمت ولقول النبي صلى الله عليه وسلم التوبة تهدم ما قبلها ولقوله لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ولعموم قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ... ) [النساء: 17]. والقريب الذي في التأبين هب التوبة قبل الموت ولأن الله تعالى قال: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم) [الأنعام: 108]. وهذا يدل على أن المشركين لا يبالون إذا سبوا الله لكنهم قد لا يسبون الله تعالى إذا انتهينا عن سب آلهتهم وهذا القول هو الصحيح أن من سب الله أو كتابه أو رسوله ثم تاب فتوبته مقبولة لعموم الأدلة لكن إذا كان السبٌ لله أو كتابه ارتفع عنه القتل، يعني: لا يُقتل لأن الله تعالى قد أخبرنا بأنه يعفو عن حقه في التوبة وإذا عفا، انتهى كل شيء وأما من سب الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا نقبل توبته لكن نقتله لا كفرًا بل نقتله ونغسله

ونكفنه ونصلي عليه وندفنه مع المسلمين لكننا نقتله أخذًا بالثأر حيث سب النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بشر وليس حيًّا حتى نقول إن الرسول عفا عمن سبوه في حياته، في حياته هو بالخيار لكن بعد موته من يقول لنا إنه يعفو عن هذا الرجل الذي سبه فنأخذ بالثأر لنبينا صلى الله عليه وسلم ونقول نقلت هذا الرجل على أنه مسلم لأنه تاب والآجال طالت أم قصرت لابد من الموت. إذن القول الصحيح فيمن سب الله ورسوله وكتابه تقبل توبته لكن من سب الرسول فقط يقتل أخذًا بالثأر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من سب الله وتاب وسب القرآن وتاب فإننا نقبل توبته ولا نقتله، من سب زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سيما إذا سبهن في عرضهن، فإن سب عائشة بما برأها الله منه، أي: بما قيل فيها في الإفك فهو مرتدٌ، ولا شك في هذا، ويجب أن يقتل؛ لماذا؟ لنه مكذب للقرآن، هو جامع بين ثلاثة أمور: تكذيب القرآن. القدح في أم المؤمنين. القدح فر يول الله صلى الله عليه وسلم لأن هذا تدنيس لفراشه وأما من قذفها بغير ذلك أو قذف غيرها مزن أمهات المؤمنين فقد اختلف العلماء ولكن الصحيح الذي لا شك فيه أنه يكفر إذ لا فرق يكفر كفرًا مخرجًا عن الملة ولا كرامة له ولكن هل تقبل توبته؟ نقول تقبل توبته بناء على عموم الآيات، ولكن يقتل للثأر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الواحد منا لا برضى أن تقذف أمه من النسب أو زوجته فهل يمكن أن يرضى المسلمون بأن تقذف أمهات المؤمنين وهم أمهاتهم؟ لا والله لا يرضون أو يرضون أن تقذف زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا يرضون أن تقذف زوجاتهم؟ أبدًا يقينًا بمن سب الصحابة رضى الله عنهم من سب الصحابة وقال إنهم ارتدوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا نفرًا قليلاً فهو كافر لا شك فيه لأن هذا قدح في حكمة الله عز وجل وقدح في رسول الله وقدح في شريعة الله وقدح في الصحابة أنفسهم أما كونه قدح في الصحابة فواضح كيف يكون خيار الأمة خيرًا القرون منذ خلق آدم إلى خلق القيامة وهم أصحاب رسول الله فيأتي إنسان ويقول هم كفار أو فساق أو ما أشبه ذلك إلا من أملى هواه عليه أنهم بريئون من ذلك فهو قدح في الصحابة هو أيضًا قدح في الشريعة لأننا نقول من الذي نقل الشريعة إلينا؟ الصحابة إلى التابعين ثم تابعين التابعين إلى يومنا هذا فإذا كانوا كفارًا أو فساقًا فمن الذي يثق لما ينقلونه؟ ! ولهذا باتفاق علماء الحديث أن من شرط قبول رواية الراوي أن يكون عدلاً في دينه والله عز وجل يقول: (يا أيها الذي آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) [الحجرات: 6]، تثبتوا خبره وهو أيضًا قدح في القرآن لأن الذين حملوا القرآن إلينا الصحابة القرآن الذي بأيدينا إذا كان النقلة له كفارًا أو فساقًا فكيف نثق به؟ ! هو قدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه أن يقال هؤلاء الأصحاب لمحمد فسقة كفار والمرء على دين خليله والقدح في صاحب الإنسان قدح في الإنسان نفسه؛ لأن القادح في صاحب الإنسان قدح في الإنسان من

أحد وجهين ولابد إما أنه أبله لا يعرف من صاحبه عليه من الانحراف، وإما أنه موافق له في انحرافه، هو أيضًا قدح في حكمة الله -جل وعلا- حيث يختار لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل النبيين مثل هؤلاء الأصحاب الذين انتهزوا الفرصة ثم ارتدوا بعد موته وفسقوا هذا من أسفه السفه والرب عز وجل يُنزه عنه وبهذا تبين أنه لا إشكال في أن من كفر الصحابة فهو كافر أو فسقهم إلا قليلاَ فهو كافر أو فسقهم فهم كافر بل قال شيخ الإسلام لا شك في كفر من لم يكفره لأنه يترتب عليه هذه المفاسد التي سمعتموها، إذن الخلاصة أن هناك أشياء لا تقبل فيها التوبة على المشهور من المذهب وهي من سب الله أو رسوله أو القرآن أو الصحابة أو زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل هذا ينافي الدين، هناك أشياء أيضًا قال الفقهاء أنه لا تقبل توبة من ارتد بها وهي توبة الزنديق -وهو عند الفقهاء المنافق- الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر قالوا هذا لا تقبل فيها التوبة على المشهور من المذهب وهي من سب الله أو رسوله أو القرآن أو الصحابة او زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل هذا ينافي الدين، هناك أشياء أيضًا قال الفقهاء إنه لا تقبل توبة من ارتد بها وهي توبة الزنديق -وهو عند الفقهاء المنافق- الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر قالوا هذا لا تقبل توبته قلنا: لم؟ قال لأن الرجل يظهر أنه مسلم من الأصل إذا سألته قال: أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأصلي الصلوات فيظهر الإسلام قالوا هذا لا تقبل توبته إذا علمنا أنه منافق لأنه لم يظهر لنا إلا الإسلام فلا نقبل توبته هذا هو التعليل لكنه تعليل في مقابلة النص، فإن الله صرح في القرآن بقبول توبة المنافق لكنه سبحانه وضع قيودًا وشروطًا فقال: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله) [النساء: 145، 146]. أربعة قيود (فأولئك مع المؤمنين) ولهذا نتحرز بقوة ي قبول توبة المنافق لا نقبل مباشرة بل نمهله ونسبر حاله وننتظر وهذا هو الصحيح لدلالة القرآن عليه، وقد أشار إليه السفاريني في عقيدته فقال: قلت وإن دلَّت دلائلث الهدى ... كما جرى للعيلبوني اعتدى إذا دلت القرائن على أن هذا الزنديق هذا المنافق مسلم حقيقة فإننا نقبل منه السابع من تكررت ردته، يعني: ارتد ثم أمسكناه فرجع للإسلام فأطلقناه، ثم ارتد ثانية فأمسكناه فأسلم فأطلقناه، ثم ارتد ثالثة فهنا تكررت ردته قالوا: هذا لا تُقبل توبته؛ لأنه متلاعب، إذ كيف أمس يقول إنه قد كفر ثم يقول: إنه قد أسلم وهكذا، فلا نقبل توبته واستدلوا بقوله تعالى: (عن الذين أمنوا ثم كفروا ثم أمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً) [النساء: 137]. الذي تتكرر ردته لا تقبل ثوبته لأنه متلاعب وللآية، ولكننا نقول: اما الآية فلا دليل فيها؛ لأن نهاية من تكررت ردته فيها أنَّا ازداد كفرًا وهذا يقال في حقه إنه يبعد أن يهتدي للإسلام بل لا يمكن أن يهتدي للإسلام لأن الله قال: (لم يكن الله ليغفر لهم) وهذا، يعني: أنهم لا يمكن أن يتوبوا بعد هذا التكرار والزيادة في الكفر لكن إذا علمنا أن الرجل أخلص حقيقة وتاب، وقال: أنا أخطأت فلماذا لا نقبل توبته؟ وأما كونه متلاعبًا فإن كل مرتد متلاعب مستهزئ غير مبالٍ بما

يجب لله من حق وعلى هذا فنقول إن القول الصحيح أن جميع من ارتد بأي نوع من الردة إذا تاب فإن توبته تقبل للآيات التي سمعتم والأحاديث التي سمعتم إلا أن من الناس من نحتاط ونتحرز في توبته مثل المنافق، فغن قال قائل: إذا كان صاحب بدعة مكفرة وتاب فهلا نقتله دفعًا للفساد في الأرض؟ لأن أهل البدع مفسدون في الأرض فالجواب أن نقول: لا؛ لأن الرجل تاب وإذا تاب زال فساده لكن نطالبه بان يكتب ردًا على بدعته التي كان يدعو إليها من قبل ونلزمه بذلك حتى لا يغتر أحد بما كان عليه أولاً وإلا يفعل فإننا بلا شك سوف نشك في صحة توبته فللحاكم أو لولي الأمر في هذه الحال أن يجتهد فيما يرى من قتله أو إبقائه أو إلزامه تحت الضغط الشديد أن يكتب ما يبين أنه عن بدعته، والساحر أيضًا مما اختلف العلماء في قبول توبته فمن العلماء من قال إن الساحر لا تقبل توبته -وهو المشهور من المذهب- لأن كفره عظيم وذلك يكون مفسدًا في الأرض معتديًا على الخلق فلا يمكن أن نقبل توبته، ولكننا قد بينا القول الراجح وأن جميع أهل الكفر تقبل توبتهم لكن الساحر ننظر إذا كانت صلحتن حاله وترك ما هو عليه قطعاً لا سرًا ولا علنا فإننا لا نتعرض له، والله على كل شيء، قدير قد يهديه الله سبحانه، أما إذا كان تاب أمامنا ولكنه في السر يتعاطى هذا العمل فإنه يجب قتله دفعًا لشره وفساده. ومن فوائد الحديث: أن سب النبي صلى الله عليه وسلم كان معلومًا عند جميع الناس أنه مبيح للدم وجه ذلك أن هذا الصحابي لم يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله أم ولده. ومن فوائد الحديث: أن سب النبي صلى الله عليه وسلم كان معلومًا عند جميع الناس أنه مبيح للدم وجه ذلك أن هذا الصحابي لم يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله أم ولده. وفي فوائده: جواز إقامة السيد الحد على رقيقه أو من كان من حكم الرقيق لأن هذا الرجل قتلها والقتل نوع من الحد وإن كان القتل على الرَّدة ليس حدًّا في الواقع لأن الحد لا يمكن إسقاطه والقتل الواجب بالردة يمكن إسقاطه بالتوبة ولو بعد القدرة عليه. ومن فوائد الحديث: أن من أُبيح قتله جاز قتله على أي صفة كان، يعني: لا يكون القتل ذبحًا لن هذا الرجل طعنها في بطنها ولكن لا يجوز أن يُقتل على سبيل التمثيل أو على سبيل يتألم به أكثر لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة". ومن فوائد الحديث: جواز الإشهاد على الأحكام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا أشهدوا فإن دمها هدر مع أنه صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى إشهاد لكن هذا من باب تأكيد الحكم أن دمها هدر.

كتاب الحدود ويشتمل على: 1 - باب حد الزاني 2 - باب حد القذف 3 - باب حد السرقة 4 - باب حد الشارب وبيان المسكر 5 - باب التعزيز وحكم الصائل

كتاب الحدود

كتاب الحدود في فصل المؤلف كتاب الحدود عن قتل المرتد دليلٌ على أن قتل المرتد ليس من الحدود، وما يكتبه بعض الكُتَّاب المعاصرين من أنّ قتل المرتد من الحدود وهم منهم وليس من الحدود في شيء، لأن الحدود إذا وصلت السلطان وجبت إقامتها على كل حال، أما المرتد إذا وصل إلى السلطان واستتابه وتاب وجب رفع القتل عنه. مفهوم الحدود وحكمه: وقول المؤلف: "كتاب الحدود" هي جمع حد، وهو في اللغة: الشيء الفاصل بين شيئين، وسمي حدًّا؛ لأنه يمنع امتزاج كل واحد بالآخر، ومنه حدود الأرض، وهي المراسيم التي تُجعل بين أرض زيد وعمرو، أما في الشرع فله إطلاقات منها: المناهي، ومنها: الواجبات؛ يعني: أن المناهي تسمَّى حدودًا، والوجبات تسمى حدودًا، فما نهي عن تجاوزه فهو أوامر، وما نهي عن الدخول فهو نواه، يعني إذا قيل: {تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة: 187]، فهذه نواه، وإذا قيل: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة]، فهي أوامر، لأن الواجبات يكون الإنسان داخلها في ضمنها فلا يجوز أن يتعداها، والنواهي الأصل أن يكون خارجًا منها يقربها، ولذلك نقول: إذا كانت الآية {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة: 229]، فاعلم أنها أوامر، وإذا كانت الآية {تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة: 187]، فهي نواه، مثال ذلك قوله- تبارك وتعالى- في آية الطلاق لما ذكر ما يجب على المُطلِّق وعلى المطلقة: {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} [البقرة: 229]، لأنها أوامر، وقال- تبارك وتعالى-: {تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للنّاس لعلهم يتقون}، لما ذكر ما يتعلق بأموال اليتامى وغيرهم قال {تلك حدود الله فلا تقربوها} المهم أن ما كان من النواهي يقال فيه: لا تقربوها، وما كان من الأوامر يقال فيه: لا تعتدوها. يطلق أيضًا الحد في الشرع على العقوبة، وهو المراد هنا، ونحده بأنه "عقوبة مقدرة شرعًا في معصية لتكون كفارة عن الفاعل ورادعة عن الفعل فإن السارق إذا كان يعلم أنه إذا سرق قطعت يده فإن هذا سيمنعه ويردعه عن السرقة، والزاني إذا علم أنه سيُجلد ويُغرّب إذا كان

1 - باب حد الزاني

بكرًا فسيردعه، وسيُرجم إذا كان محصنًا فسيردعه، فتعريف الحدود أنها عقوبة مقدرة شرعًا في معصية لتكون كفارة للفاعل ورادعة عن الفعل، هذه هي الحكمة من الحدود. والحدود إقامتها فرض واجب لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاققطعوا أيديهما} [المائدة: 38]، وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب، لا سيما وإن القرينة تؤيده، إذ إن قطع عضو من معصوم حرام، والحرام لا ينتهك إلا بواجب، وكذلك {الزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحدة منهما مائة جلدة} [النور: 2]. يدل على وجوب إقامة الحد، وقد صرَّح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه على منبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه فريضة حيث قال: "وإن الرجم فريضة على من زنى إذا أحصن"، وعلى هذا فإقامة الحدود واجبة على من؛ يعني: من الذي يخاطب؟ يخاطب بذلك ولي الأمر، فإذا ترك حدًّا من الحدود لم يقمه كان تاركًا لواجب، ثم إن الحدود تجب إقامتها على الشريف والوضيع، والغني والفقير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والقريب من ولي الأمر والبعيد، فهي تجب من ولي الأمر، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم- وهو الصادق البار- بأن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم لو سرقت لقطع يدها، بدأ المؤلف رحمه الله بحد الزنا فقال: 1 - باب حد الزاني وذلك لأن الزنا فاحشة وسقوط، وسفول للإنسان وشر مستطير في المجتمع، فكان أولى أن يُبدأ به، والزنا: "فعل الفاحشة في قبل أو دبر" هذا تعريفه، ولكن لا بد أن يكون من يكون من آدمي، فلا يعتبر فعل الفاحشة في البهيمة زنا، ولهذا لا يجب الحد على من أتى البهيمة. حد الزاني غير المحصن: 1159 - عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهنِّي رضي الله عنه: "أنَّ رجلًا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الآخر- وهو أفقه منه-: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي، فقال: قل: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته، وإنّي أخبرت أنّ على ابني الرَّجم، فاقتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبروني: أنَّ ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأنَّ على امرأة هذا الرَّجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، والوليدة والغنم ردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". متفق عليه، وهذا اللفظ لمسلم. الرجل هنا مبهم، ونحن لا يعنينا المبهم، إذ لا يتغير بإبهامه الحكم، فإذا صار ذكره أو

عدم ذكره لا يتغير به الحكم فإن هذا لا يهمنا، الذي يهمنا القضية الواقعة سواء كان الذي وقعت منه فلانًا أم فلانًا، ولهذا قال: "أن رجلًا من الأعراب"، والأعراب اسم جمع للأعرابي وهم سكان البادية، والغالب على الأعراب الجهل لقول الله- تبارك وتعالى- {الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} [التوبة: 97]، ولكن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول، فالغالب عليهم الجهل. "قال: لكن من الموجّه ومن الموجَّه إليه؟ الموجّه: أعرابي، فالناس عنده سواء، والموجَّه إليه أحلم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وإلا فهي كلمة عظيمة "أنشدك الله" يعني: أذكرك الله عز وجل وأعاهدك به أن تقضي بيننا بكتاب الله، وهذا لا يحتاج إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا قضى سوف يقضي بكتاب الله ولا بد، قال العلماء: إن قوله: "إذا قضيت" فيها إشكال، من جهة أنها وردت على جملة مثبتة فقالوا: إن "أنشدك" على تقدير "ما" أي: ما أنشدك إلا القضاء بكتاب الله، وعلى هذا فتكون إلا حرف استثناء مفرغ وليست مثبتة؛ لأنه "أنشدك" على تقدير: ما أنشدك إلا كذا. "إلا قضيت لي بكتاب الله تعالى" يعني: إلا حكمت، القضاء هنا بمعنى الحكم، وقوله: "بكتاب الله" أي: بمقتضى كتاب الله، سواء كان من عند الرسول صلى الله عليه وسلم أو من القرآن، "فقال الآخر- وهو أفقه منه-: نعم، فأقضِ بيننا بكتاب الله"، قوله: "الآخر وهو أفقه" جملة معترضة تبين حالة الرجل الثاني وهو أنه أفقه من الأول، ولكن من أين علم الراوي أنه أفقه؟ يحتمل أنه علم ذلك بأنه لم يقل كما قال الأعرابي "أنشدك الله"، أو أنه يعلم من حالة أنه أفقه لكونه مدنيًّا حضريًّا من أهل الإقامة والمدينة، والغالب أن هؤلاء أفقه من الأعراب، المهم أنه تبين للراوي أنه أفقه من الأول، قال: "نعم" هنا حرف جواب، ولكنها ليست حرف جواب في الواقع، ولكنها لتحقيق ما سبق، ويستعملها العلماء في كتبهم، ولا سيما العلماء الذين يكتبون كتابة مستقلة، يقول: نعم لو كان كذا وكذا فهي حرف لتصديق ما سبق هنا، وإلا فالأصل أنها جواب لاستفهام. "فاقض بيننا بكتاب الله" "اقض" الأمر ليس للوجوب طبعًا؛ لأنه ليس في مرتبة تؤهله أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الوجوب، ولكن نقول: إنها من باب الالتماس والترجي وما أشبه ذلك. "وأذن لي" يعني: أرخص لي أن اتكلم، وهذا من أدبه أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم، والأعرابي لم يستأذن فقال "قل"، يعني: قل ما شئت، وهذا إذن، قال: "إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته"، "على هذا" يعني: الأعرابي، و"عسيفًا" بمعنى: أجبرا، فهو كأجير لفظًا ومعنى، وإن شئت فقل: كأجير وزنًا ومعنى، فمعنى عسيفًا أي: أجيرًا عليه، يعني: قد استأجره لرعي إبله أو غنمه أو ما أشبه ذلك، "فزنى بامرأته" الزاني العسيف الابن، ويظهر أن هذا شاب.

وإن أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة"، "أُخبرت" أخبره بلا شك رجل جاهل جهلًا مركبًا؛ لأنه أخبره بما ليس هو الحق، ويقول العلماء: الجاهل المركب هو الذي لا يعلم ولا يدري أنه لا يعلم، ولهذا ركب جهله من كونه لا يعلم الواقع ولا يعلم بحاله أنه لا يعلم فهو في الحقيقة مركب من جهلين، والبسيط هو الذي لا يعلم ويعلم أنه لا يعلم مثال ذلك: ثلاثة رجال سألنا أحدهم فقلنا له: متى كانت غزوة الخندق؟ فقال: في رمضان في السنة الثامنة من الهجرة هذا جاهل مركب؛ لأن غزوة الخندق في شوال في السنة الخامسة، وسألنا الآخر فقال: لا أدري هذا جاهل بسيط، وسألنا الثالث قال: في شوال سنة خمس من الهجرة هذا عالم، فالذين أخبروه بأن على ابنه الرجم هؤلاء جهال جهلًا مركبًا، "فافتديت منه" يعني: أعطيت فداء عن ابني، "بمائة شاة ووليدة"، المائة شاة معروفة وهي الواحد من الضأن أو أعم من ذلك أو الأنثى من الضأن، "ووليدة" هي الأمة. "فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام"ـ أهل العلم أخبروه بالحق أنه لا يجب الرجم على ابنه وإنما الجلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، كان بالأول الأعرابي أتاه مائة شاة ووليدة وامرأته سالمة من فتوى الجهال، لكن الآن صار الرجم على امرأة الأعرابي وهذا ليس عليه إلا جلد مائة وتغريب عام بماذا؟ قال العلماء: يجلد بسوط بسوط لا جديد ولا خلق، يقولون: لأن الجديد صلب يؤثر عليه وربما يجرح جلده، ولا خلق يتفتت لأنه قديم ولا يكون على ما ينبغي إيجاع هذا الزاني، "وتغريب عام"، يعني: إخراجه من البلد حتى يكون غريبًا لمدة سنة، وقوله: "وأن على امرأة هذا الرجم"، الرجم: هو أن يضرب الزاني بالحصى الصغار التي ليست كبيرة جدًّا ولا صغيرة حتى يموت. فقال رسول الله: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله"، أقسم صلى الله عليه وسلم بالذي نفسه بيده وهو الله، وإنما أقسم من أجل أن يطمئن كلا الخصمين، لا سيما الأول وهو الأعرابي، الإقسام هنا في محله لدعاء الحاجة إليه والمصلحة من وجوده، وقوله: "والذي نفسي بيده" أي: أن نفس الرسول بيد الله إن شاء أرسلها وإن شاء قبضها، وكل إنسان نفسه بيد الله إن شاء أرسلها وإن شاء قبضها، قال الله- تبارك وتعالى-: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} [الزمر: 42]، مناسبة القسم بهذا دون أن يقول: والله ليشعر المخاطب بأن هذا أقسم، أقسم وهو يعلم أن وراءه الموت، ومعلوم أن الإنسان الذي يقسم وهو يعلم أن وراءه الموت سيكون إقسامه عن حق؛ لأنه يخشى من بيده أن يهلكه عاجلًا غير آجل، "لأقضين بينكما بكتاب الله" جملة "لأقضين" هي جواب

القسم، وهي كما تشاهدون مؤكدة بالنون واللام، وعلى هذا فالجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم واللام، والنون. "الوليدة والغنم رد عليك"، "الوليدة" يعني: الأمة، و"الغنم": المائة شاة، "رد عليك"، و"رد" هي خبر المبتدأ، وهي بمعنى: مردود كقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، المعنى: أن الوليدة والغنم ترد عليك، وقوله: "الغنم والوليدة رد عليك" بعد أن قال: "لأقضين بينكما بكتاب الله". إذا قال قائل: أين ذلك في كتاب الله؟ نقول: هي موجودة في كتاب الله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188]، وهذا باطل لأنه أخذ بغير حق، وكل ما أُخذ بغير حق فهو باطل، لقوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: 32]. وعلى هذا فرد الغنم والوليدة على هذا الرجل موجود في كتاب الله، وإن لم يكن موجودًا بعينه، ولكن بالقاعدة العريضة وهي الأساس وهي تحريم أكل مال الغير بالباطل. قال: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام" لأنه ابنه بكر لم يكن قد تزوج، والبكر جلده جلد مائة وتغريب عام، و"واغد يا أنيس" أي: اذهب غدوة في أول النهار، وقد يراد بالغدو مجرد الذهاب، أي: اذهب ولو في المساء، "يا أنيس" اسم رجل من الصحابة اختاره النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب وهي- كما رأيتم- قضية عين لا ندري لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل، لكنه اختاره لسبب اقتضى أن يكون هذا الرجل هو الذي يذهب، "إلى امرأة هذا" أي: الأعرابي، وامرأته، أي: زوجته "فإن اعترفت" أي: أقرت، "فارجمها". في هذا الحديث فوائد كثيرة؛ منها: جفاء الأعراب وغلظة الأعراب وجهل الأعراب لقول الأعرابي: "أنشدك الله إلا قضيت". ومنها أيضًا: سعة حلم الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث لم يؤاخذ هذا الأعرابي بهذه الكلمة الغليظة التي لا ينبغي أن توجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها: الحكم بالقرائن لقول الراوي "وهو أفقه منه". ومنها: حسن الأدب مع الكبير لقول الرجل: "وأذن لي"، فلا نبغي للإنسان أن يتكلم أمام الكبير إلا بإذنه اللفظي أو العرفي أو الحالي، اللفظي أن يقول: تكلم، العرفي أن يكون جرى به العرب الحالي أن يعلم من حال الرجل أنه لا يهمه أن يتكلم الناس في مجلسه ولو كان أصغر منه، والناس في هذا المقام يختلفون، فمن الناس الكبراء من يكره أن يتكلم أحد في مجلسه إلا بإذنه، وإذا تكلم أحدٌ في مجلسه يسند الكلام إلى غيره تجده يتمعر وجهه، وهذا ليس بطيب، اللهم إلا إذا كان هذا الرجل يتحدث بأمر ديني علمي شرعي فهو له الحق أن ينكر على هؤلاء الذين يتكلمون، لا سيما إذا كان الكلام بطلب من الجميع.

ومن فوائد الحديث: خطر الإجراء والخدم على الأهل؛ لأن هذا الأجير خادم، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة ومع ذلك لم تسلم امرأة من استأجره من عدوان هذا الأجير عليها، وقد يكون بغير عدوان كأن يكون زوجها تمادت به السن وهذا رجل شاب وأعجبها وطلبته لنفسها لا ندري، ولهذا قالت امرأة العزيز لما أخذت يوسف إلى النساء: {فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} [يوسف]، فصحرت بما لا تملك أن تسكت عليه، فالنساء كالرجال كما أن الرجل يرغب في المرأة الجميلة، كذلك ترغب المرأة في الرجل الجميل وربما لا تملك نفسها إذا رأت الجميل أن تدعوه إليها إذا لم يكن إيمانها قويًّا. المهم: نأخذ من هذا الحديث: خطر الخدم، إذا كان هذا الخطر وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة فما بالك بعهدنا! ! ومن فوائد الحديث: التصريح بما يستقبح ذكره لدعاء الحاجة لذلك لقوله: "فزنى بامرأتي"، وكان يكفيه أن يقول: فأتى امرأته أو وقع على امرأته أو وقع على امرأته لكنه صرّح؛ لأن المقام يقتضي ذلك. ومن فوائد الحديث: ضرر الفتيا بلا علم؛ لأنها غيرت الحكم الشرعي فأبرأت المرأة من الحد وجعلت الحد على الأجير رجمًا وليس كذلك، فالفتيا بلا علم خطرها عظيم، ولهذا حرمها الله عز وجل وقرنها بالشرك به فقال تعالى: {إنّما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم يُنزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33]. ومن فوائد الحديث: فضل أهل العلم وأنهم في الأرض نور وهدى لقوله: "فسألت أهل العلم فأخبروني بكذا وكذا". ومن فوائده: جواز فتيا المفضول مع وجود الفاضل؛ لأن الرجل استفتى أهل العلم وأفتوه مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاضرًا موجودًا، لكن يحتمل أن هذا الأعرابي خارج المدينة وأنه استفتى أهل العلم الذين عنده، وإذا كان الأمر كذلك تبطل هذه الفائدة، والقاعدة عند العلماء أنه إذا تطرق الاحتمال إلى الدليل سقط الاستدلال به، ولكن يقال: هذه المسألة- وهي إفتاء المفضول مع وجود الفاضل- واقعة في عهد الصحابة- رضي الله عنهم- فما زالوا يفتون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد عهده مع وجود من هو أفضل منهم، لكن الكلام على أن الفتوى تكون بعلم. ومن فوائد الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه وقضائه، وأنه يسلك أقرب الطرق إلى إقناع المخاطب، لقوله: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله". ومن فوائد الحديث: جواز الإقسام وإن لم يستقسم إذا دعت الحاجة أو اقتضت المصلحة ذلك لحلف النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يُستحلف؛ لأن المقام يقتضي ذلك حتى يقتنع الجميع. ومن فوائد الحديث": جواز القسم بهذه الصيغة: "والذي نفسي بيده".

ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى الحكمة في القسم بهذه الصيغة، وهو أن الإنسان يتذكر أنه سيموت وأن نفسه بيد الله. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي الإقسام ويشرع من أجل طمانينة المخاطب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم ليطمئن المخاطب، فإن المخاطب قال: "أنشدك الله ... إلخ"، فكان من المشروع أن يقسم له من أجل أن يطمئن، وعلماء البلاغة يقولون: المخاطب له ثلاث حالات: متشكك، أو خالي الذهن، أو منكر، فإن كان خالي الذهن فإنه لا يحسن أن تؤكد الكلام له بقسم؛ لأن خالي الذهن سوف يصدق إلا إذا كان المخبر به أمرًا مهمًّا يحتاج إلى تثبيت فلا بأس. والثاني: المتردد يحسن أن تقسم له أو أن تؤكد الكلام بأي مؤكد آخر من أجل زوال التردد الذي في نفسه. والثالث: منكر يجب أن يؤكد له حتى يزول إنكاره، في هذا الحديث من أي الأقسام الثلاثة المخاطب؟ الثاني. ومن فوائد الحديث: أن ما جاءت به السنة فهو من كتاب الله لقوله: "لأقضين بينكما بكتاب الله"، ثم قضى بما لم نجده بعينه في القرآن، وإن كان القرآن يتضمن على سبيل العموم ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أن من قبض مالًا بغير حق وجب رده على صاحبه، لقوله: "الوليدة والغنم رد عليك" هذا خبر بمعنى: الإلزام، أي: مردود عليك، فكل من قبض مالًا بغير حق وجب رده إلى صاحبه. فإن قيل: فمن أين نعلم أنه بحق أو لا؟ قلنا: بعرضه على الكتاب والسنة، فإذا كان الكتاب والسنة يجيزان له ذلك فهو بحق وإلا فلا. ويرد على هذا سؤال أيضًا وهو إذا لم يعلم صاحبه فماذا يصنع؟ نقول: إذا لم يعلم صاحبه ولا ورثته فإنه يتصدق به عمن هو له، ولا نقول: عن صاحبه، بل نقول: عمن هو له، لأنه من الجائز أن يكون صاحبه قد مات وانتقل إلى ورثته، فنقول: عمن هو له. ويرد على هذا سؤال آخر: هل إذا تصدق به عن صاحبه يبقى حق صاحبه في الآخرة لقاء ما حال بينه وبين ملكه؟ وهل إذا دفعه إلى الورثة أيضًا حق المورث؟ الذي يظهر من عمومات الأدلة في أن من تاب، تاب الله عليه يسقط حق صاحبه المال ولو حال بينه وبينه هذه المدة ويتحمل الله سبحانه عن صاحب المال ما يكون مقابل ظلمه في هذه المسألة، ويرد على هذا إذا أخذه بغير حق شرعي، ولكن صاحبه قد أخذ مقابله، مثل مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب فهل يرده لصاحبه الذي أخذه منه كامرأة زنى بها رجل بأجرة، ولما فرغ

من الفعل قال: إن مهر البغي خبيث وليس لك عليَّ شيء، فهل نلزمه أن يدفع ذلك إلى المرأة التي زنى بها أم ماذا؟ نقول: لا يمكن أن يرده إلى المرأة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مهر البغي خبيث"، هل نقول: يبقيه له؟ إن قلنا بذلك فهو مشكل؛ لأننا في هذه الحال جمعنا له بين العوض والمعوَّض؛ لأنه نال شهوته بالزنا، ثم نقول: أبق المال الذي اتفقت أنت والزانية عليه فيكون هذا مشكلًا، فنكون جميعًا له بين العوض والمعوَّض، ثم ربما يكون في ذلك تشجيع للزناة أن يفعلوا هذا مع البغايا ثم يقولون: نحن لا نعطيكن تلك الأجرة لأنها خبيثة، فما هو الجواب: أن نأخذ منه هذه الأجرة التي اتفق هو والبغي عليها ونجعلها في بيت المال، وهذا أصح الأقوال وأعدلها. فإن قال قائل: يكون في هذا تضييع حق المرأة؟ فالجواب: أن المرأة ليس لها حق في هذا؛ لأن هذا عوض عن فعل محرم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه". ومن فوائد الحديث: أن الزاني إذا لم يكن متزوجًا فحده جلد مائة وتغريب عام، وسبق لنا صفة الجلد بأن يكون بسوط لا جديد ولا خَلق، وأنه يتقى في ذلك الرأس والفرج والمقاتل، لأن المقصود تعذيبه لا إهلاكه. ومن فوائد الحديث: أن الحكم عام في الأحرار والعبيد، ويؤيد ذلك عموم قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2]، لكن يخص الإماء من هذا العموم لقوله تعالى: {فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء]، أي: أن الإمام يجلدن خمسين جلدة، أما التغريب فقيل: يغرب الزاني المملوك، وقيل: لا يغرب، فمن قال: يغرب أخذ بالعموم، ومن قال: لا يغرب قال: لأن في ذلك تفويتًا لحق سيده فتلحق الجناية غيرها، ولكن الصحيح أن يغرب، وكون ذلك تفويتًا على سيده نظيره ما لو جنى هذا العبد أحد بما يوجب قصاصًا أو مالًا، فهل يؤخذ من سيده؟ نعم يؤخذ إذا كان قصاصًا قتل العبد، وإذا جنى جناية توجب المال قلنا للسيد: إما أن تدفع الجناية وإما أن تدفع العبد عوضًا عنها وإما أن يباع العبد ويؤخذ ثمنه ويجعل في الجناية.

بقي النظر: هل نقيس العبد على الأمة في تنصيف العذاب؟ أما الذين يمنعون القياس كالظاهرية فيقولون: لا قياس، وأما الذين يثبتون القياس فإنهم يقيسون العبد على الأمة ويقولون: إنه يتنصف على العبد، ولكن قد يعارض معارض في هذا القياس، ووجه المعارضة: أن من شرط القياس مساواة الفرع للأصل في العلة، والفرع هنا لا يساوي الأصل، وذلك لأن الإماء نساء مغلوبات على أمرهنّ، فربما يخدعن وربما يهددن، وبما يكرهن أسيادهن مع أن مع الإكراه ليس هناك حدٌّ بخلاف الرجل وحينئذٍ يمتنع القياس، فيقال: إذا زنى العبد يجلد على منع القياس مائة ويغرب عامًا، وإذا زنت الأمة فإنها ينص القرآن تجلد خمسين جلدة. ومن فوائد الحديث: جواز التوكيل في إثبات الحدود وفي إقامة الحدود لقوله: "واغد يا أنيس إلى امرأة فإن اعترفت فارجمها"، "وإن اعترفت" هذا إثبات الحد، "فأرجمها" هذا إقامة الحد. ومن فوائد الحديث: أنه لا بد من تعيين الوكيل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: ليغد أحدكم إلى امرأة هذا، بل قال: "اغد يا أنيس"، فلا بد من تعيين الوكيل في مثل هذه الأمور الخطيرة. ومن فوائد الحديث: أنه لا تقبل دعوى الغير على الغير أو لا يقبل إقرار الغير على الغير، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل قول الرجل فزنى بامرأتي، بل قال: "اغد يا أنيس فإن اعترفت فارجمها". ومن فوائده: أن القذف في مقام المحاكمة قبل ثبوت البراءة ليس فيه حد، يؤخذ من أن الرجل قال: "فزنى بامرأتي"، ولم يقم عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد. فائدة في حكم استراط التكرار في الإقرار لثبوت الزنا: ومن فوائد الحديث: أنه لا يشترط في الإقرار بالزنا تكرار الإقرار، وأنه إذا أقر مرة واحدة ثبت الفعل؛ لقوله: "فاعترفت"، والفعل يدل على الإطلاق فهو غير مقيد بعدد، ولو كان العدد واجبًا لبينة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل لم يعد إلى الرسول إلا وقد نفّذ الحد، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فمنهم من ذهب إلى هذا الحديث وقال: لا يشترط تكرار الإقرار، ومنهم من قال: إنه يشترطن وحمل هذا المطلق على المقيد، وذلك في حديث ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر أنه زنى فأعرض عنه إلى الوجه الثاني، فجاء من الوجه الثاني، وقال: إنه زني فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع مرات، وحينئذٍ استثبت النبي صلى الله عليه وسلم من الرجل قال: "أبك جنون" قال: لا، فأرسل إلى أهله وذرية هل الرجل غير عاقل؟ وفي بعض الروايات أنه أمر شخصًا يستنكهه، يعني: يشمه لعله سكران من الخمر، كل هذا لم يكن مجنونًا ولا سكران بل هو عاقل، لكن لماذا لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم الحد إلا بعد التكرار؟ أما على القول بأنه شرط فالأمر ظاهر؛ لأنه لا يتم الحكم إلا بالتكرار، وأما على القول الثاني فأجابوا عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تردد في صحة إقرار هذا الرجل بدليل أنه سأله أبك جنون؟ ثم سأله كيف زني، حتى قال له:

"أنكتها" قال: "نعم"، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنده الأمر وتردد فيه، والقول الصحيح أنه لا يشترط في الإقرار التكرار، لأن الله تعالى سمى الإقرار شهادة، والشهادة لا يشترط فيها التكرار، قال الله تعالى: {يأيها الذين امنوا كونوا قومين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135]. والشهادة على النفس هي الإقرار، فكما أن الشاهد لا يؤمر بتكرار شهادته فكذلك المقر لا يشترط لصحة إقراره تكرار إقراره، نعم إذا صار عند القاضي تردد في حال هذا الرجل أو تردد في علم هذا الرجل بما يسمى زنا فحينئذٍ نكرر عليه. ومن فوائد الحديث: وجوب الرجم على من زنى إذا كان قد تزوج فإنه يجب رجمه لقوله "فإن اعترفت فارجمها" والرجم هو أن يرمي بالحجارة المتوسطة التي ليست صغيرة فيتأذى بها حتى يموت ولا كبيرة فيموت سريعًا بل حجارة متوسطة، يعني: مثل البيضة أو أقل هكذا الرجم. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجمع بين الجلد والرجم، وهذا هو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجمع بين الجلد والرجم، بل إذا كان الرجم اقتصرنا عليه: وهذا مقتضى النظر؛ لأنه ما دام سوف يقتله لم نستفد من جلده إلا مجرد التعذيب فلا فائدة، الجلد من أجل ردعه، والآن سوف يقتل فلا فائدة من الجلد بل الرجم. فإن قال قائل: هل ثبت الرجم في القرآن؟ قلنا: نعم، وسيأتي في حديث عمر بن الخطاب في هذا الحديث إشكال أولًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول الرجل على ابنه ولم يقبل قوله على امرأة الرجل، فما الجواب؟ الجواب: إما أن يكون الابن حاضرًا فيكون عدم إنكاره على أبيه بمنزلة الإقرار، وإما أن يكون هذا على سبيل الاستفتاء، والاستفتاء لا يشترط فيه إقرار المدعي عليه ولهذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة على زوجها أبي سفيان حين قالت: إنه شحيح لا يعطيني ما يكفيني، فقال: "خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك" ولكن هذا الجواب ضعيف؛ لأن الحديث صريح في أن المسألة من باب القضاء لا من باب الاستفتاء، لكن يقال: إما أن يكون الابن حاضرًا، وإما أن نجعل إقرار الأب على ابنه بمنزلة إقرار الابن، لأنه من المستحيل أن يقول الرجل: إن ابني زني وهو لم يزن بخلاف دعواه على المرأة. الإشكال الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "على ابنك مائة جلد مائة وتغريب عام" فهل التغريب مفيد لهذا الزاني؟ نعم فيه فائدة منها أنه يبتعد عن محل الفاحشة لئلا تحدثه نفسه بالعودة إليها، ومنها: أن الغريب يكون منشغل البال غير مطمئن، وهذه الحال تجعل نفسه تهدأ ويزول عنها ما فيها من الأشر والبطر وحب النكاح فترجع وتهدأ فكان في التغريب فائدة، ولكن إذا كانت امرأة هل تغرب؟ نقول: تغرب بشرط أن يوجد معها محرم يصاحبها حتى تعود إلى

حكم الجمع بين الجلد والرجم

بلدها وإلا فلا تغرب؛ لأن تغريبها لا يزيدها إلا شرًا، وإذا قدرنا أنه لا يوجد فيما حولنا إلا بلاد فاسدة معروفة بالخنا والفجور فهل نغربها إلى هذه البلاد؟ لا، لأننا لا يمكن أن نكون كالمستجير من الرمضاء بالنار. حكم الجمع بين الجلد والرجم: 1160 - وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". رواه مسلم. "خذوا" فعل أمر، و"عني" يعني: ما أقول، كررها تأكيدًا لأهمية الموضوع، "فقد جعل الله لهن سبيلًا"، "جعل" بمعنى: صيّر، ولذلك نصبت فعلين؛ لأن جميع أفعال التصيير تنصب مفعولين، فهنا يقول: {أو يجعل الله لهن سبيلًا} [النساء]، يشير إلى قوله تعالى: {والّاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا- أي: الأربعة- فأمسكوهن في البيوت أو يجعل الله لهن سبيلًا} [النساء: 15]، فيشير بأن الله قد جعل سبيلًا بما أوحاه إلى نبيه في قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2]، هذا السبيل يقول: "البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة" يعني: إذا زنى البكر بالبكر فإن كل واحد منهما يجلد مائة وينفى سنة، وقوله: "البكر بالبكر" هذه إحدى الصور الأربعة الممكنة في ذلك وهي بكر ببكر، ثيب بثيب، بكر بثيب، ثيب ببكر، إذا زنى بكر ببكر فكما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، إذا زنى ثيب بثيب فالرجم، إذا زنى بكر بثيب تبعَّض الحكم البكر جلد وتغريب كما سبق، والثيب رجم كما في الحديث السابق، إذا زنى ثيب ببكر كذلك تبعَّض الحكم يكون الزاني يُرجم والمزني بها تجلد وتُغرب. قوله: "والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" فجمع النبي صلى الله عليه وسلم على الثيب بين عقوبتين الجلد والرجم، لكن قال العلماء: هذا في أول الأمر، أما في النهاية فإن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على الرجم ولم يُحفظ عنه أنه جمع بين الرجم والجلد، وإن كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يرى الرجم مع الجلد، لكنه قول مرجوح، إذن الحديث ليس فيه إلا صورتان: بكر ببكر وثيب بثيب، ونحن ذكرنا أربع صور. في هذا الحديث فوائد: الفائدة الأولى: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الإبلاغ لقوله: خذوا عني خذوا عني" فكررها. ومنها قول الواعظ أو المتكلم للناس: خذوا عني اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعد

ثبوت الزنا بالإقرار

هذا إعجابًا، اللهم إلا أن يقع في قلب القائل إعجاب فهذا شيء آخر، لكن إذا لم يقع فإنه لا بأس به، ولكن يشترط في غير النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ما قاله مؤكدًا أي أنه حكم الله. ومن فوائد الحديث: أن الأحكام الشرعية قد تأتي مؤجَّلة وقد تأتي منجزة، فجلد الزاني مؤجل أو معجل؟ مؤجل، كان بالأول (والاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتّى يتوفهن الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلًا) [النساء: 15]، فهنا جعل الله تعالى غاية إمساكهن بالبيوت إما الموت أو السبيل، فهذا حكم مؤجل بمعنى: أنه قد يكون هذا الحكم مشارًا إلى تغييره. ومن فوائد الحديث: أن الجعل يكون في الأمور الشرعية كما يكون في الأمور القدرية، فالجعل في الأمور القدرية كثير جدًّا: وجعلنا الَّيل لباسًا وجعلنا النهار معاشًا) [النساء: 10 - 11]، {وجعلنا أية النهار مبصرة} [الإسراء: 12]، لكن الجعل الشرعي قليل، الجعل هنا شرعي، ومنه قوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} [المائدة: 103]، {ما جعل} يعني: جعلًا شرعيًّا، أما كونيًّا فقد جعل ذلك، فالبحائر موجود والسوائم موجودة، والوصائل موجودة، وكذلك الحام موجود. ومن فوائد الحديث: الجمع بين الرجم والجلد، وسبق أن آخر الأمرين من الرسول صلى الله عليه وسلم عدم الجمع ويقتصر على الرجم. ثبوت الزنا بالإقرار: 1161 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أتى رجلٌ من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله، إنِّي زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله، إنِّي زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنَّى ذلك عليه أربع مرَّات، فلمَّا شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه". متفق عليه. هذا الحديث في قصة ماعز بنم مالك رضي الله عنه وهو أنه زنى فأراد أن ينتقم من نفسه وأن يطهر نفسه من الإثم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهن فقوله: "فناداه" يعني: كلمه بصوت مرتفع؛ لأن النداء هو الصوت المرتفع، والنجاء هو الصوت المنخفض، ألا ترون إلى قوله تعالى: {ونادينه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} [مريم: 52]، فجعل المناجاة في القرب، والمناداة في البعد، وهذا ظاهر معتاد.

وقوله: "وهو في المسجد" أي: جاءه وهو في المسجد، وقوله: "إني زنيت" هذا صريح في الزنا، والزنا هو فعل الفاحشة في قبل أو دبر من آدمي، وقوله: "أعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه" يعني: التفت إلى ناحية أخرى، ولكن الرجل أعاد وقال ذلك مرة ثانية. "فلما ثنى ذلك" أي: كرر ذلك أربع مرات دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "أبك جنون؟ " الاستفهام هنا استعلام، والجنون: هو تغطية العقل، وسمّي جنونًا؛ لأنه مأخوذ من الاجتنان وهو التغطية، وعلامة الجنون ألا يكون الإنسان متصرفًا تصرف العقلاء إما بمقاله أو بفعاله أو بحاله، وقوله: "هل أحصنت؟ " يعني: هل أحصنت فرجك، وحينئذٍ يكون الفعل متعديًا والمفعول محذوف، ويجوز: "هل أحصنت" بمعنى: هل كنت محصنًا فيكون الفعل لازمًا، والإحصان: هو الجماع، أن يجامع الرجل زوجته بنكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، وقوله: "اذهبوا به فارجموه"، لما أقر على نفسه بالزنا وأنه قد أحصن، وسبق معنى الإحصان وهو أن يطأ الرجل زوجته الحرة البالغة في نكاح صحيح وهو كذلك حر بالغ. فأوصاف الإحصان في باب حد الزنا خمسة: أن يكون كلٌّ منهما حرًّا، بالغًا، عاقلًا، ويطأها الزوج في نكاح صحيح، فقال: نعم، فقال: "اذهبوا به فارجموه"، "اذهبوا" أي: بهذا الرجل، فذهبوا به فرجموه، فلما شرعوا في رجمه وأزلقته الحجارة وذاق مسها هرب، فلحقه الصحابة حتى أدركوه فرجموه حتى مات، وإنما لحقه الصحابة امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "فارجموه" ولم يستثن، لم يقل: إلا أن يهرب أو كلمة نحوها حتى يتركوه، فهم أمروا أن يرجموه، ففعلوا - رضي الله عنهم - فرجموه، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟ "، ولكنه لم يضمنهم لأنهم فعلوا ذلك متأوِّلين، كما لم يضمن أسامة حين قتل المشرك الذي أسلم فعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أسامة وقال له: "أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله"، وما زال يكررها حتى تمنى أنه لم يكن أسلم بعد، ولم يضمنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان متأولًا كما لم يضمن خالد بن الوليد دية الذين قتلهم حين قالوا: صبأنا صبأنا، هو عرض عليهم الإسلام فقالوا: صبأنا صبأنا، ولم يعرف خالد رضي الله عنه أنهم أرادوا بقولهم: صبأنا، أي: دخلنا في الإسلام وتركنا ديننا، بل ظن أنهم يريدون أن يؤكدوا أنهم على دين يخالف الإسلام فقتلهم فلامه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ثم لم يضمنه ولكنه وداهم من بيت المال؛ لأنَّ خالدًا قتلهم متأولًا. في هذا الحديث فوائد عديدة منها: أنه ينبغي الستر عن الإنسان باسمه إذا كانت الفائدة [تتحقق] بدون ذكر اسمه مأخوذة من هذا اللفظ الذي معنا وهو قوله: "أتى رجل من المسلمين"، مع أنه في بعض الروايات ضرّح باسمه، لكن بعض الرواة ربما يلاحظ أن الستر أولى فيعبر بهذا التعبير.

ومن فوائد الحديث: جواز الإقرارات في المسجد مع أن أصل بناء المساجد للذكر وقراءة القرآن والصلاة لكن لا بأس بالإقرارات، فأما ما يتعلق بأمور الدين فلا شك في جوازه، ومنه هذه المسألة؛ لأن معازًا رضي الله عنه أقر في المسجد ولم يقل له الرسول صلى الله عليه وسلم: انتظر حتى تخرج بل قبل إقراره، لكن إذا كان إقرارًا في أمور دنيوية كرجل أقر بدين عليه في المسجد فعل ذلك جائز؟ الجواب: نعم، هو جائز؛ لأن إقرار الإنسان بحق عليه قد نقول: إنه من الدين؛ حيث إنه اعتراف بما يجب عليه من حقوق الناس، وكذلك يجوز التقاضي في المسجد؛ أي: أن الإنسان يكون عليه دين فيرى غريمه في المسجد فيوفيه فإن ذلك جائز؛ لأن إبراء الذمة من الأمور المطلوبة فلا بأس بقضاء الدين في المسجد، وأما البيع والشراء سواء كان بالصيغة المعهودة كبعت واشتريت، أو بما يدل على ذلك مثل أن يقول الرجل للتاجر: يا فلان، أرسل إلى البيت كيسًا من الرز أو كيسًا من السكر فيقول: أفعل، فإن هذا لا يجوز؛ لأنه بيع وشراء، فقوله: أرسل إليّ، يعني: بع عليّ، وأرسل إلى البيت، وقول الثاني: "نعم" هذا هو القبول أو الإيجاب. ومن فوائد الحديث: جواز رفع الصوت في المسجد لقوله: "فناداه"؛ لأن النداء يكون بصوت عالٍ، كما قال الله تعالى: {وناديناه - أي: موسى - من جانب الطُّور الأيمن وقرَّبناه نجيًّا} [مريم: 52]. لما قرب صار كلامه مناجاة، ولما كان بعيدًا كان كلامه نداء، إذن "ناداه" أي: بصوت مرتفع. ومن فوائد الحديث: جواز التصريح بما يلام عليه العبد إذا دعت الحاجة إليه لقوله: "إني زنيت"، وكان بإمكانه أن يقول: أتيت أمرًا عظيمًا، لكنه صرَّح بهذا، وكأنه - والله أعلم - فعل ذلك غضبًا لله وانتقامًا لنفسه من نفسه، وهذا يجري كثيرًا في أولياء الله، فها هو سليمان - عليه الصلاة والسلام - عرضت عليهالخيل قبل صلاة العصر فانشغل بها عن صلاة العصر حتى غابت الشمس، فلما رأى ما حصل قال: {ؤدُّوها عليَّ} فردوها {فطفق مسحًا بالسوق والأعناق} [ص: 33]. المراد بذلك: قطع أعناقها وعقر سوقها، والسوق جمع ساق، فعل ذلك انتقامًا من نفسه لنفسه؛ لأنها ألهته عن ذكر الله {إنِّي أحببت حبَّ الخير عن ذكر ربِّي حتَّى توارت بالحجاب} [ص: 32]. ولا حرج أن الإنسان إذا رأى شيئًا من ماله ألهاه عن ذكر الله أن يكسره أو يبيعه ويخرجه عن ملكه حتى لا يتلهى به، ونظير ذلك إحراق رحل الغال الذي يغل من الغنيمة مع أن الأنفع - فيما يبدو - أن يدخل في بيت المال في الغنيمة ينتفع به الناس، لكنه يحرق هنا لما يترتب على ذلك من النكال والعقوبة. ومن فوائد الحديث: حسن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ حيث ينزل كل إنسان منزلته، وذلك أنه أعرض عن ماعز بن مالك متشككًا في أمره، لكنه لم يعرض في قضية العسيف؛ لأن الأمر كان واضحًا.

ومن فوائد الحديث: فضيلة ماعز بن مالك رضي الله عنه؛ حيث أنه ألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه كلما تنحى عنه اتجه إليه فأقر بأنه زنى حتى أتم ذلك أربع مرات. ومن فوائد الحديث: أنه لا يقبل في الإقرار بالزنا إلا أربع مرات وأنه لو قال: زنيت، ثم قال: زنيت، ثم قال: زنيت فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد على ماعز حتى شهد على نفسه أربع مرات؛ ولأن كل إقرار مرة بمنزلة الشاهد، والزنا لا يقبل فيه بالشهادة إلا أربعة رجال: {ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور: 4]. يعني: لو شهد على إنسان ثلاثة رجال أنه زنى فماذا نصنع؟ نجلد الثلاثة كل واحد ثمانين جلدة، والمتهم بالزنا - المشهود عليه - لا نتعرض له لأنه لا بد في الشهادة بالزنا من أربعة، ما دون الأربعة يكونون قذفة وهذا الذي دل عليه ظاهر الحديث هو ما ذهب إليه الإمام أحمد في المشهور عن أصحابه. وقد سبق لنا في الحديث الأول أن في ذلك خلافًا بين العلماء؛ فمنهم من قال: إن قضية ماعز إنما احتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرره أربع مرات لأنه كان شاكًّا في أمره، ولهذا أعرض عنه وظن أن في عقله شيئًا، ثم لما تأكد أن الرجل ليس في عقله خلل حكم عليه، وكون ذلك أربع مرات قد يقول قائل: إن هذا وقع اتفاقًا وليس مقصودًا بأن يكون كل إقراره مرة عن شهادة رجل وما دام الاحتمال قائمًا فإن الاستدلال يكون ساقطًا، ومن قواعدهم المقررة: إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، والقول الراجح ما ذهب إليه الجمهور من أنه إذا أقر مرة واحدة وهو بالغ عاقل يعلم ما يقول فإنه يثبت عليه الحد. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان مؤتمن على نفسه في بيان حالها لقوله: "أبك جنون؟ " فقال: لا، فإذا رأينا شخصًا مفطرًا فقلنا: لم أفطرت في رمضان أأنت مريض؟ فقال: نعم، فلا نتعرض له؛ لأن الإنسان مؤتمن على نفسه في بيان حاله وحسابه على الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لماعز: "أبك جنون؟ " قال: "لا"، فأقره على ذلك وحكم بمقتضى هذا الإقرار. ومن فوائد الحديث: أن إقرارات المجنون لا تعتبر، وجه الدلالة: أن قوله: أبك جنون؟ " يريد أن يرتب عليه الحكم فيما لو قال: إنه مدجنون، يعني: فلا إقرار له وهو كذلك، والمجنون جميع أقواله لاغية لا يحاسب عليها سواء كانت متعلقة بنفسه أو بحق الله أو بحق العباد فهي لاغية لا يترتب عليها شيء، اللهم إلا أن يحصل من أقواله أذية فهنا يحبس لئلا يؤذي الناس، فلو أن مجنونًا قال لإنسان: أنت زانٍ فإننا لا نقول له شيئًا، يعني: لا يترتب على قذفه هذا إقامة حد القذف؛ لأنه مجنون، ولو قال المجنون لشخص: في ذمتي لك ألف ريال وهو مجنون فهل تثبت الألف؟ لا، ولو قال المجنون: زوجتي طالق هل تطلق؟ لا، إذن جميع أقواله غير معتبرة، ولو قال المجنون: إن الله شريكًا فلا نحكم بكفره.

هل يلحق بالمجنون من زال عقله بسبب؟ نقول: إن كان السبب غير محرم فإنه يلحق بالمجنون ولا يترتب على أقواله شيء كما لو بنِّج على وجه حلال أو أصيب بحادث فاختل عقله أو كان مريضًا مرضًا شديدًا وصار يخرف فغنه لا عبرة بقوله؛ لأنه لا يعي ما يقول، وأما إذا كان بسبب محرم كما لو شرب مسكرًا فهل تعتبر أقواله؟ في هذا خلاف بين العلماء، مثاله: رجل سكر فطلق زوجته فهل تطلق؟ فيه خلاف؛ من العلماء من قال: إنها لا تطلق، ومنهم من قال إنها تطلق، فأما من قال: إنها تطلق فحجته أن هذا الرجل الذي لا يعي ما يقول إنما فعل ذلك باختياره فيعاقب بما تكلم به، كما عاقب أمير المؤمنين عمر من طلق ثلاثًا بمنعه من الرجوع إلى زوجته؛ لأن الطلاق الثلاث محرم، ومن العلماء من يقول: إن طلاق السكران لا يقع؛ لأنه لا يدري ما يقول، وقد صرَّح الله عز وجل بأن السكران لا يعي ما يقول، فقال عز وجل: {يا أيُّها الَّذين آمنوا لا تقربوا الصَّلاة وأنتم سكارى حتَّى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43]. ومن المعلوم أن من طلق بلا علم ولا وعي كيف نلزمه بالطلاق وهو لا يعي ولا يدري ما يقول؟ وهذا هو الصحيح، وهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في إغلاق"؛ لأن السكران مغلق عليه، وقد صح ذلك عن الخلفاء الراشدين أنه لا طلاق على السكران، وقولهم: إننا نلزمه بالطلاق عقوبة له كإلزام عمر المطلق ثلاثًا بعدم الرجوع إلى زوجته عقوبة له، نقول: الفرق بينهما ظاهر؛ لأنّ شارب الخمر لم يشرب ليطلق بخلاف الذي قال: إنها طالق ثلاثًا، فإنه طلق ثلاثًا من أجل أن تبين منه فعوقب بما قصد، وأما السكران فإنه لم يسكر ليطلق فصار بينهما فرق، وأيضًا عقوبة السكران ثبتت في السُّنة، وذلك بالجلد، فإذا زدنا على تلك العقوبة فهذا فيه نوع من تعدي حدود الله لا سيما على القول بأن عقوبة شارب الخمر من باب الحدود، فالصواب أن طلاق السكران لا يقع كسائر أقواله. بقي علينا: ماذا نقول في أفعال المجنون هل تعتبر؟ الجواب: تعتبر، ولكن ذلك في حق العباد لا في حق الله، فمثلًا لو أتلف شيئًا أتلف مالًا لشخص هل نضمنه؟ نعم؛ لأن هذا حق آدمي، وإتلاف مال الآدمي يستوي فيه العامد وغير العامد، ولو قتل صيدًا في الحرم هل نضمنه؟ لا؛ لأن هذا حق الله، فصارت أفعال المجنون تنقسم إلى قسمين الأول: ما يتعلق بحق العباد فهذا يضمن إياه، وما يتعلق بحق الله فإنه لا يضمن؛ لأنه رفع القلم عنه. هناك بحث آخر: هل يضمن حق الآدمي كما يضمن العاقل؟ الجواب: لا، لكنه يضمن حق الآدمي كما يضمن المخطئ؛ مثال ذلك: لو أن هذا المجنون تعمد قتل إنسان عمدًا فهل يقتص منه، يعني: هل يقتل المجنون؟ لا؛ لأن فعله عن غير قصد، فهو كفعل العاقل المخطئ،

فكما أن العاقل إذا رمى صيدًا فأصاب إنسانًا فإنه لا يقتص منه، فكذلك المجنون إذا قتل إنسانًا فإنه لا يقتص منه؛ لأنه لا يتصور منه العمد فيعامل معاملة المخطئ، هل يلحق بذلك السكران بمعنى: أن السكران لو قتل إنسانًا فإنه لا يقتص منه؟ هذا إن سكر ليقتل فلا شك أنه يقتل؛ لأن السبب محرم والمباشرة محرمة، وأما إذا سكر لا ليقتل، ولكن حصل منه الفعل ففي تضمينه نظر؛ أي: ففي القصاص منه نظر، وذلك لأنه غير عامد، والقصاص لا بد فيه من العمد. ومن فوائد الحديث: جواز التوكيل في إقامة الحد؛ أي: أنه يجوز للإمام أن يوكل من ينفذ عنه إقامة الحد لقوله: "اذهبوا به فارجموه". ومن فوائد الحديث: جواز توجيه الخطاب إلى العموم؛ لقوله: "اذهبوا به"، ولم يعين شخصًا، وإذا كان كذلك فإن إقامة الحد تكون من باب فرض الكفاية. في بقية الحديث التي لم يسقها المؤلف أخذ بعض العلماء من الحديث أنه يجوز رجوع المقر في الحد؛ يعني: لو أقر الإنسان بالزنا وثبت عليه ثبوتًا شرعيًّا بإقراره سواء قلنا: المرة تكفي أو الأربع ثم رجع عن الإقرار فهل يقام عليه الحد؟ قال: بعض العلماء لا يقام عليه الحد استدلالًا بحديث ماعز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟ "، وقال بعض العلماء: إنه لا يقبل رجوعه عن الإقرار، ولا سيما إذا احتفت به قرائن؛ لأن ماعزًا لم يرجع لكنه هرب بخلاف الراجع، فإن الراجع متلاعب بالأحكام الشرعية ومتلاعب بالحكام مرة يقر ومرة ينكر الإقرار ويرجع، ثم إنه إذا احتفت به القرائن لا يتجه إطلاقًا القول بقبول الرجوع، مثال ذلك: رجل أقر على نفسه بالزنا فقلنا: كيف؟ قال: أخذت بنتًا من بيتها الفلاني في الزقاق الفلاني وركبت أنا وهي سيارة وذهبنا إلى مكان ما وعينه، وفعلت بها الفاحشة ثم رددتها، وكان ذلك في الليلة الفلانية من الشهر الفلاني، ثم أرانا الأثر، ثم رجع وقال: أنا رجعت عن إقراري هل يمكن أن تأتي الشريعة الحكيمة بقبول رجوع مثل هذا؟ أبدًا لا يمكن، نعم لو كان مجرد إقرار بأن قال: إنه زنى فهذا ربما يكون أقر بسبب ضغط عليه أو حياء أو خجل بأن يكون شهده أناس فرأى من نفسه أنه لا بد أن يقر فأقر، ولولا هذا لم يقر، هذا ربما نقول بقبول رجوعه مع أن في القلب من ذلك شيئًا، أما إذا صرح في إقراره بالزنا وذكر القرائن التي تشهد لما صنع ثم نقول: يرجع استدلالًا بحديث ماعز فهذا بعيد جدًّا، وحديث ماعز ليس فيه الرجوع بل فيه الإقرار، لكنه هرب من أجل أن الحجارة أزلقته وأراد أن يتوب فيتوب الله عليه. * * *

وجوب التثبت في إثبات الزنا

وجوب التثبت في إثبات الزنا: 1162 - وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: "لمَّا أتى ماعز بن مالكٍ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال له: لعلَّك قبَّلت، أو غمزت، أو نظرت؟ قال: لا يا رسول الله". رواه البخاريُّ. "لعل" هنا للتوقع؛ يعني: أتوقع أنك فعلت كذا وكذا، "قبَّلت" أي: قبَّلت المرأة فظننت أن التقبيل زنًا، والتقبيل زنًا لا شك، لكنه ليس الزنا الذي يوجب الحد، "أو غمزت" أي: غمزت المرأة بيدك، الثالثة: "أو نظرت"، والنظر زنا العين، فقال ماعز: "لا يا رسول الله"، وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا له من أجل أن يتثبت هل إقراره إقرار عن يقين وعن تعقل، أو إقراره عن معرفة، فلهذا سأله النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسئلة، وسأله أيضًا أسئلة أخرى فقال له: "أنكتها؟ " قال: نعم، قال: "كما يغيب الميل في المكحلة والرشا في البئر؟ " قال: نعم، ولم يكن هناك حاجة إلى مثل هذه الأشياء، لكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنتج من هذا الرجل أنه عاقل وليس به جنون، وبهذا نعلم أن تكرار الأربع مرات ليس بشرط على القول الراجح كما سبق ذكر الخلاف فيه. يستفاد من هذا الحديث فوائد: أولًا: أنه يجب على الإمام عند التردد أن يتثبت، لا سيما في هذا الأمر العظيم الذي يوجب إزهاق النفس، ويوجب العار على الفاعل، فإن الواجب التثبت، ولهذا لا يقبل في الزنا إلا أربعة رجال شهود، يشهدون على الفعل الصريح، وهم ثقات عدول، فلو شهد أربعون امرأة لم تقبل، بل لا بد من أربعة رجال. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أن هذه الأفعال زنًا، ووجه ذلك: أن ماعزًا أتى فقال: إني زنيت، فكأن الرسول قال له: لعلك زنيت زنا تقبيل أو غمز أو نظر. ومن فوائد الحديث: صراحة الصحابة - رضي الله عنهم - وحبهم لتعزير أنفسهم، ولهذا أصرَّ ماعز رضي الله عنه على هذا الإقرار من أجل تنفيذ الحد عليه. طرق ثبوت الزنا 1163 - وعن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: "أنَّه خطب فقال: إنَّ الله بعث محمَّدًا بالحقِّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل الله عليه آية الرَّجم. قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالنَّاس زمانٌ ان يقول قائلٌ: ما نجد الرَّجم في كتاب الله، على من زنى إذا أحصن من الرِّجال والنِّساء، إذا قامت البيِّنة، أو كان الحبل، أو الاعتراف". متَّفقٌ عليه. الذي يظهر - والله أعلم - أنها خطبة الجمعة، وأن ذلك كان في خلافته فقال: "إن الله بعث

محمدًا بالحق وأنزل عليه الكتاب"، وهذا كالتمهيد لما بعده؛ لأن صلب الموضوع سيذكر فيما بعد، قوله: "بعث محمدًا" ولم يقل: رسول الله؛ لأن هذا من باب الخبر، ويجوز أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم باسمه في باب الخبر بخلاف الدعاء فإنه لا يدعى باسمه، بل يقال: يا رسول الله، أو يا نبي الله، قال الله تعالى: {لاَّ تجعلوا دعاء الرَّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} [النور: 63]. وقوله: "بالحق" له وجهان: الوجه الأول: أنه ملتبسٌ بالحق؛ أي: أن رسالته حق. والوجه الثاني: أنه جاء بالحق أرسل بالحق، وأن ما جاء به من الرسالة حق؛ لأنها مشتملة على الصِّدق في الأخبار والعدل في الأحكام، وعلى مصالح الناس في دينهم ودنياهم، وعلى أسباب الرفعة والعزة والكرامة والتقدم والظهور والانتصار، "وأنزل عليه الكتاب" يعني به: القرآن، وسمي القرآن كتابًا بمعنى مكتوب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب بأيدي السفرة الكرام البررة، ومكتوب في المصاحف التي بأيدينا فلهذا يسمى مكتوبًا. "فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم"، "في" هنا للظرفية؛ لأن ما أنزل على الرسول أوسع من آية الرجم، فصح أن تكون "آية الرجم" مظروفًا لما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم. "قرأناها ووعيناها وعقلناها"، قرأناها بألسننا ووعيناها بآذاننا كما قال الله تعالى: {وتعيها أذنٌ واعيةٌ} [الحاقة: 12]. وعقلناها بقلوبنا يعني: أنها تمت فيها شروط الثبوت بالقول والسمع والفهم - العقل -. "فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده"، كم رجم النبي صلى الله عليه وسلم؟ اليهوديين وماعزًا والغامدية وامرأة صاحب العسيف هذه خمسة، يقول: "ورجمنا بعده"؛ لأنه رضي الله عنه خليفة، وإقامة الحدود إلى السلطان وهو الخليفة. "فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله"، "أخشى" بمعنى: أخاف خوفًا ثقيلًا، "إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله" لأن الناس كلما بعد زمانهم عن عهد النبوة ضعف فهمهم لها لطول الزمن وضعف الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن خير الناس قرنه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون ويؤتمنون ويخونون ويظهر فيهم السِّمن، فإذا طال الزمن بين الناس وبين عهد النبوة فلا بد أن يتخلخل الأمر، من ذلك أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله؛ لأن هذه الآية نسخ لفظها وبقي حكمها، وهذا أحد أوجه النسخ أن ينسخ اللفظ ويبقى الحكم، وهناك آخر ضده أن ينسخ الحكم ويبقى اللفظ، وهناك وجه ثالث: أن ينسخ الحكم واللفظ، والله عز وجل حكيم لا ينسخ شيئًا إلا لحكمة سواء كان اللفظ أو الحكم أو الجميع. قال: "فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله" يضلوا أي: يتركوا فالضلال قد يراد به عدم العلم، وقد

يراد به عدم العمل، لكن الأكثر أنه على عدم العلم، يترك فريضة أنزلها الله وهي الرجم، وإن الرجم حق في كتاب الله، أكد ذلك بـ "إن"؛ لأن المقام مهم، "الرجم حق"، أي: ثابت وواجب في كتاب الله، وما هي الآية التي نزلت؟ لم يبينها عمر، لكن قد روي أنها بهذا اللفظ: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم"، ولكن هذا اللفظ لا ينطبق أو لا يتفق مع الحكم الذي ذكره عمر رضي الله عنه وهذا يدل على أن الآية المنسوخة ليست هي هذا المنقول، ولذلك يقول رضي الله عنه: "على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء"، "على من زنى" والزنا سبق لنا أنه فعل الفاحشة في قبل أو دبر إذا أحصن، وسبق لنا معنى الإحصان وهو أن يطأ الرجل زوجته في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حرّان، وقوله: "إذا أحصن من الرجال والنساء"، "من" هذه بيانٌ للموصول في قوله: "من زنى". "إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف"، هذا شرط ثبوت الزنا، والأول شرط ثبوت الحكم وهو الإحصان، أما ثبوت الزنا فلا بد من قيام البينة، وما هي البينة؟ ذكرها الله في قوله: {لَّولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور: 13]. أربعة، هذا عدد يدل على أن المعدود مذكر، إذن بأربعة شهداء من الرجال، أو كان الحبل، يعني: الحمل، بأن تحمل امرأة ليس لها زوج وليس لها سيد، "أو الاعتراف"، يعني: الإقرار، فذكر رضي الله عنه أن طرق ثبوت الزنا ثلاثة: البينة، الحمل، والثالث الإقرار وهو كذلك وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في الحمل هل هو طريق لثبوت الزنا أو لا؟ والصحيح أنه طريق لذلك؛ لأن عمر خطب به على المنبر ولم يذكر أن أحدًا نازعه في ذلك أو عارضه. ففي هذا الحديث فوائد جمَّة: أن عادة السلف أن الذي يتولى خطبة الجمعة هو الإمام؛ أي: الخليفة وهو كذلك، ولهذا قال العلماء - رحمهم الله - إن الذي يتولى إمامة الجمعة وخطبتها وإمامة العيدين هو الإمام نفسه؛ لأنه إمام فيؤم الناس في المجامع الكبيرة العامة. ومنها: أن الله تعالى بعث محمدًا بالحق وأن دينه ليس فيه شيء من الباطل؛ لقوله رضي الله عنه: "إن الله بعث محمدًا بالحق". ومنها: فضيلة عمر؛ حيث أعلن هذا الإعلان المبني الذي هو أساس التوحيد، أو بالأصح هو أساس الشهادة بالرسالة أن الله بعثه بالحق.

ومن فوائد الحديث: أن القرآن كلام الله لقوله: "أنزل عليه الكتاب"، والكتاب قول، والقول لا بد له من ققائل، وإذا كان نازلًا من عند الله صار هو القائل. ومن فوائده: إثبات علو الله؛ لقوله: "أنزل عليه الكتاب". ومن فوائد الحديث: أن آية الرجم كانت من القرآن ولكنها نسخت لقوله: "وكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم" فنسخت لفظًا وبقي العمل بها حكمًا. فإن قال قائل: هل يمكن أن نستنبط لذلك حكمة؟ قلنا: نعم، يمكن وهي تميز هذه الأمة وتمام انقيادها لشريعة الله، فإن الأمة الإسلامية تطبق الحكم الشرعي وإن لم يكن موجودًا لفظًا في الكتاب، بينما بنو إسرائيل لم يطبقوا الحكم الشرعي مع أنه موجود في كتابهم، هذا - والله أعلم - هو الحكمة في أن الله رفعها لفظًا وأبقى حكمها ليتبين بذلك فضيلة هذه الأمة وتميزها عن بني إسرائيل، وللأمة - والحمد لله - فضائل كثيرة من أبرزها ما مر علينا في قصة أصحاب السبت الذين حرّمت عليهم الحيتان يوم السبت فجعلوا حيلة لصيدها بأن يضعوا شباكًا يوم الجمعة ويأخذوا الحوت يوم الأحد، هذه الأمة اتليت بشيء قريب من ذلك كما قال تعالى: {يا أيُّها الَّذين آمنوا ليبلونَّكم اللَّه بشيءٍ من الصَّيد تناله أيديكم ورماحكم} [المائدة: 94]، يعني: "هم محرمون، فهل أحد منهم أخذ صيدة واحدة؟ لا مع تيسر ذلك لهم لكن تركوه. ومن فوائد الحديث: تأكيد عمر رضي الله عنه بأن هذه الآية نزلت في القرآن لقوله: "قرأناها ووعيناها وعقلناها". ومن فوائد الحديث: أن هذا الحكم لم ينسخ لقوله: "رجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده" ومعلوم أن بقاء الحكم إلى ما بعد وفاة الرسول دليل على أنه ثابت لم ينسخ. ومن فوائد الحديث: "قوع ما توقعه عمر؛ حيث قال: "أخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله"، بل قالوا: أشد من ذلك، قالوا: إن إقامة الحدود وحشية ولا يجوز أن نقيم الحدود، وقالوا: إنا إذا قطعنا يد السارق لزم أن يكون نصف الشعب أشل مشوهًا، فنقول لهم: أقررتم الآن على أنفسكم بأن نصف شعبكم سراق؟ ونقول لكم: لو أنكم قطعتم يد السارق لنقص العدد إلى الربع، وإذا قطعتم الثاني نقص إلى الثمن، ثم لا يزال يتناقص حتى لا يوجد أحدٌ يسرق، وكذلك أيضًا الرجم يقولون: "حشية، كيف نقيم رجلًا إنسانًا ونرجمه بالحجارة! إذا كان لا بد فلنقتله ولا نرجمه، فيقال: أنتم أرحم أم الله؟ لا يستطيعون أن يقولوا: نحن أرحم، لكن ربما يقولون قولًا غير سديد بأن هذا كان في زمن غير زمننا الآن، زمننا الآن زمن الحضارة التي هي خسارة وليست حضارة، زمن الحضارة وزمن

الإنسانية، أما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فالناس رعاة إبل وبدو، فنقول لهم: إذن كفر تم بالإسلام إذا ادعيتم أن الإسلام لا يصلح إلَّا لوقت معين، وأنه في هذا الوقت غير صالح، فهذا هو الكفر بعينه وحينئذٍ لا جدال معكم. ومن فوائد الحديثة وجوب إقامة الحدود لقوله: "بترك فريضة" فصرح رضي الله عنه أن إقامة الحد فريضة حتى في الرجم، وهو كذلك أنظر إلى آية السرقة: {والسَّارق والسَّارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالًا مِّن اللَّه واللَّه عزيزٌ حكيمٌ} [المائدة: 38]. وقال: {الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحدةٍ مِّنهما مائة جلدةٍ ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين اللَّه إن كنتم تؤمنون باللَّه واليوم الآخر} [النور: 2]. إذن أمر {فاجلدوا} وتهديد: {ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين اللَّه إن كنتم تؤمنون باللَّه واليوم الآخر}، {والَّذين يرمون المحصنات ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً} [النور: 4]. إذن الحدود من فرائض الله، ويجب على ولاة الأمور أن يقيموا الحدود على الصغير والكبير والشريف والوضيع بشرط أن يكون الصغير قد بلغ، لأن من دون البلوغ لا يقام عليه الحد. ومن فوائد الحديث: أن الرجم حق وليس بباطل، لقوله: "وإن الرجم حق في كتاب الله"، خلافًا لهؤلاء الخلف الخالفون المخالفون الذين يقولون: إن الرجم همجية ووحشية ... ومن فوائد الحديث: أنه لا يثبت الحد - أعني: حد الرجم - إلَّا بشرط الإحصان لقوله: "من زنى إذا أحصن" فإن كان غير محصن فإنه لا يرجم، ولكنه يجلد مائة جلدة ويغرب سنة. ومن فوائد الحديث: أن الزنا يثبت بواحد من طرق ثلاثة: البينة، الحمل، الاعتراف، أما البينة فلا بد أن يشهد أربعة رجال عدول على فعل واحد، فإن شهد اثنان على أنه زنى بالأمس واثنان على أنه زني اليوم فإن الشهادة لا تكمل، ويحد كل واحد منهم ثمانين جلدة، كذلك أيضًا لو قالوا: نعم، هو زنى اليوم، ولكن شاهدين قالا: إنه زنى في البيت رقم واحد وشاهدين قالوا: زنى في البيت رقم اثنين، فلا تكمل الشهادة، فإن قال اثنان: زنى في الحجرة، وقال اثنان: زنى في الصالة فلا تكمل، إلَّا يمكن أن يتدحرج الفاعلان إلى الصالة؟ هذا بعيد، لكن في حجرة واحدة عين اثنان ربعة والآخرون ربعة أخرى يمكن أن تكمل، لأن هذا شيء قريب. فإن قال أحد الشهود الأربعة: أنا رأيته عليها ورأيت حركة تدل على الجماع، لكنني لا أشهد أن ذكره في فرجها، والثلاثة قالوا: نشهد أن ذكره في فرجها فلا تكمل ويسلم الرابع ويجلد الثلاثة، الرابع يسلم؛ لأنه لم يصرح بالزنا، والثلاثة يجلدون؛ لأنهم صرحوا بالزنا. الطريق الثاني لثبوت الزنا: الحبل - الحمل - لكن يشترط أن يكون ممن ليس لها زوج ولا سبيل، فإن كان لها زوج فإنه لا يمكن أن يقام عليها حد الزنا بالحمل لاحتمال أن يكون من زوجها، وكذلك لو كان لها سيد فإنه لا يقام عليها حد الزنا؛ لأنه احتمال أن يكون السيد قد

حد الأمة الزانية

جامعها، والسيد تحلُّ له مملوكته، فإن ادعت شبهة وقالت: إن هذا الحمل من زنًا ولكنني فكرهة فإنه لا يقام عليها الحد لاحتمال صدقها، وكذلك لوادعت أن أحدًا زنا بها وهي نائمة ولم تعلم فإنه لا يقام عليها الحل لوجود الشبهة. الثالث: أو الاعتراف، أي اعتراف كان؟ نقول: أو الاعتراف وأطلق أمير المؤمنين عمر، فيحتمل أن تكون "أل" لبيان الحقيقة أو للعهد والأصح أنها لبيان الحقيقة، وأنه لا يشترط تكرير الاعتراف، بل إذا اعترف الزاني مرة واحدة فإنه يقام عليه الحد، وقد عرفتم الجواب عن قصة ماعز رضي الله عنه. ومن فوائد الحديث: أنه لا مانع من أن تضمن خطبة الجمعة المسائل الفقهية، ولاسيما المسائل الكبيرة العظيمة التي يحتاج الناس إليها، وأنه لا يشترط أن تكون الخطبة خطبة وعظ فقط، بل حسب ما تقتضيه الحال، قد تقتضي أن تكون الخطبة خطبة وعظ، وقد تقتضي الحال أن تكون الخطبة بيان أحكام. حد الأمة الزانية: 1164 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبيَّن زناها؛ فليجلدها الحدَّ ولا يثرِّب عليها، ثمَّ إن زنت فليجلدها الحدَّ ولا يثرِّب عليها، ثمَّ إن زنت الثَّالثة فتبيَّن زناها؛ فليبعها ولو بحبلٍ من شعرٍ". متَّفقٌ عليه، وهذا لفظ مسلمٍ. يراد بالأمة هي المملوكة، وقد يراد بالأمة مجرد الأنثى كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" فالمراد بالإماء هنا الحرائر، وقوله: "إذا زنت أمة أحدكم" المراد بها: المملوكة، وقوله: "فتبين زناها" أي: ظهر ظهورًا بينًا للسيد وإن لم يكن بشهود أربعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: فشهد عليها أربعة، وإنما قال: "فتبين زناها"، "فليجلدها الحد ولا يثرب"، اللام هنا للأمر، وهل الأمر للوجوب أو للإباحة؟ نقول: الأمر للوجوب، ولكن له أن يتنازل عن حقه ويجعل الحد لولي الأمر يجلدها وقوله: "لا يثرب" يعنى: لا يوبخها ويعنفها؛ لأن إقامة الحد عليها كافٍ. ثم إن زنت مرة ثانية ... إلخ، "إن زنت الثالثة فتبين زناها"، أعاد قوله: "فتبين" لئلا يتسرع الإنسان في الثالثة، "فليبعها ولو بحبل من شعر ولم يذكر جلدها"، وسيتبين ذلك في أخذ الفوائد. هذا الحديث: يدل على أن سيد الأمة هو الذي يتولى إقامة الحد عليها، وذلك أن ملكه إياها أخص من ملك الولي العام، وسيطرته عليها أخص من سيطرة الولي العام. فإن قال قائل: "الزوجة هل يقيم عليها الزوج الحد؟

قلنا: لا؛ لأن الزوجة لها حرية وتصرف أكثر من الأمة، الأمة مملوكة، الحرة مالكة نفسها. ومن فوائد الحديث: أنه لا بد أن يتبين الزنا، وأن مجرد التهمة لا يجيز للإنسان أن يقيم "الحد عليها لقوله: "فتبين زناها". ومن فوائده: أنه لا يشترط في إقامة السيد الحد أن يثبت ذلك بالشهود، بل يكفي أن يتبين ذلك للسيد فإذا تبين فإنه يقيم عليها الحد. ومن فوائد الحديث: أنه لا رجم في حق الإماء، الدليل قوله: "فليجلدها"، والرجم ليس جلدًا بل هو رمي بالحجارة حتى تموت. فإذا قال قائل: ما هو الحد؟ قلنا: هو ما ذكره الله في قوله: {فإذا أحصنَّ فإن أتين بفاحشةٍ فعليهنَّ نصف ما على المصنات من العذاب} [النساء: 25]. يعنى: ما على الحرائر، والعذاب الذي يمكن أن يتنصف في الحرائر هو الجلد، فيؤخذ من ذلك: أن الأمة وإن كانت محصنة لا ترجم بل تجلد خمسين جلدة، وظاهر هذا الحديث أنها لا تغرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فليجلدها"، والتغريب ليس جلدًا، وهذه المسألة مختلف فيها بين العلماء، فمنهم من قال: إنه لا يغرّب لما في ذلك من الإضرار بالسيد؛ لأن منفعة المملوك لسيده، فإذا غربناه فإنه تفوت مصلحة السيد، ومن العلماء من قال: تغرب بشرط أن يكون تغريبها آمنًا وأن يؤمن من هروبها؛ لأنها ربما تهرب إلى بلد الكفر؛ لأنها ربما تكون حديثة عهد بسبي فتهرب إلى بلاد الكفر، فإذا أمنت الفتنة وأمن هروبها إلى بلد الكفر فإنها تغرب، ولكن ظاهر الحديث أولى وهو عدم التغريب. ومن فوائد الحديث: أنه إذا أقيم الحد ألَّا يوبخ المحدود ويعير بذنبه؛ لأن إقامة الحد كفارة للذنب فلا يجمع عليه بين عقوبتين، ويلتحق بهذه القاعدة أن شارب الخمر إذا طلق زوجته فإن زوجته لا تطلق خلافا لمن قال: إنها تطلق نكالًا به؛ لأننا نقول: إن شارب الخمر تكاله بالجلد فلا ينكل بنوع آخر. ومن فوائد الحديث: اعتبار التكرار ثلاثًا وهذا ظاهر في مسائل كثيرة، تكرر ثلاث مرات كالاستئذان والسلام والكلمة إذا لم تفهم، وغير ذلك مما هو كثير في الأحكام الشرعية. ومن فوائد الحديث: أنه إذا زنت الثالثة فإنها تباع، وهل تباع وجوبا أو استحبابًا؟ الحديث فيه الأمر "فليبعها" فاختلف العلماء هل الأمر للوجوب وأنه يجب على السيد في الثالثة أن يبيعها، أو الأمر للاستحباب؛ لأنها ملكه ويكون الأمر "فليبعها" للإرشاد وليس للوجوب؟ الظاهر أنه للوجوب، لكنه وجوب مقيد بما إذا كنَّا نرجو من بيعها أن تستقيم جالها، أما إذا كنَّا نخشى من بيعها أن يزداد شرها فحينئذٍ لا تباع.

السيد يقيم الحد على مملوكه

فإذا قال قائل: ما الفائدة من البيع إذا كانت هذه امرأة زنت ثلاث مرات يخشى إذا بيعت على آخر أن تزني فنكون كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ فنقول: فيه فائدتان: الفائدة الأولى للسيد، والفائدة الثانية للأمة، أما فائدة السيد: فلئلَّا يتهم السيد بالدياثة وإقرار أمته على الزنا، كأنه يقول للناس: انظروا أنا خليتها وبعتها، والفائدة الثانية للأمة: أنه ربما إذا تغير عليها الوضع تغيرت حالها، وكذلك إذا فكرت في الأمر وأنها كلما زنت ثلاث مرات سوف تباع وتنتقل من رجل إلى آخر فإنه ربما تتغير حالها. ومن فوائد الحديث: أنها تباع ولو بثمن قليل لقوله: "ولو بحبل من شعر"، ولكن هل هذا مراد أو المبالغة، يعني: بعها ولو برخص؟ المراد الثاني بلا شك، وإلَّا حبل من شعر لم تجر العادة بأنه ثمن للإماء. السيد يقيم الحد على مملوكه: 1165 - وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم". رواه أبو داود. - وهو في مسلمٍ مؤقوفٌ. "أقيموا": فعل أمر، فهل هو للوجوب أو للاستحباب؟ الجواب: أنه للوجوب؛ لأنه الأصل في الأمر، ولأن إقامة الحدود من فرائض الله، وقوله "على ما ملكت أيمانكم" يشمل الذكور والإناث، وأن الإنسان يقيم الحد على ما ملكت يمينه من ذكور وإناث، فيقيم الحد على الأمة ويقيم الحد على العبد، وقوله: "الحدود" ظاهره العموم وأنه يشمل حدود الجلد وحدود القطع فيما لو سرق وستأتي في الفوائد، وقوله: "على ما ملكت أيمانكم" المراد بالأيمان هنا نفس الشخص، لكن يعبر باليمين عن الكل لأنها آلة الأخذ والإعطاء في الغالب. ففي هذا الحديث دليل على وجوب إقامة الحدود لقوله: "أقيموا"، والأصل في الأمر الوجوب، وقد مر علينا في حديث عمر أن إقامة الحد فريضة. من فوائد الحديث: أن السيد يقيم الحد على مملوكه سواء كان الحد جلدًا أم قطعًا أم غير ذلك للعموم في قوله: "الحدود". فهي صيغة جمع معرف بـ "أل" فيكون للعموم، والمشهور عند

الفقهاء - رحمهم الله - أنه لا يقيم على رقيقه إلَّا الجلد فقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها"، ولكن الصواب العموم، وأن له أن يقيمه بالجلد والقطع بشرط أن يكون عارفًا بمحل القطع وعارفًا كيف يقطع؛ لأنه إذا لم يكن عارفًا بمحل القطع فقد يقطع أكثر مما يطلب أو دون ما يطلب، وإذا لم يكن عارفًا بكيفية القطع فقد يقطع على وجه محرم فيعتدي به على هذا الرقيق فإذا كان عارفًا بمحل القطع وعارفًا كيف يقطع وتبين أنه فعل ما يوجب القطع فما المانع؛ لأن الضرر في هذه الحال على السيد؛ فإذا كان الضرر عليه وباشره بنفسه فلا نرين مانعًا من أن يقيمه عليه كما يقيم الجلد. ومن فوائد الحديث: إثبات ملك الإنسان، وأن هذا لا ينافي قول الله تعالى: {ولله ملك السموات والأرض} [آل عمران: 189]. لأن ملك الإنسان لما يملك ليس كملك الله - سبحانه وتعالى للسموات والأرض، فإن ملك الله للسموات والأرض أعم وأوسع وأشمل يفعل ما يشاء عز وجل لكن ملكك لما تملك ضيق لا تملك إلَّا شيئًا يسيرًا مما في هذا الكون، ولا تملكه أيضًا على وجه الإطلاق، لو أردت أن تفعل فيه ما شئت لم تتمكن من هذا؛ إذ إنك لا تتصرف فيه إلَّا على حسب ما جاء به الشرع، ولهذا إذا قال إنسان: هذا المال مالي سأحرقه، قلنا: لا يجوز؛ لأن الشرع نهي عن إضاعة المال، لكن لله تعالى أن يفعل في خلقه ما يشاء، وحينئذٍ يكون قولنا: إن توحيد الربوبية هو إفراد الله عز وجل بالخلق والملك والتدبير لا ينافي ما ذكر. ومن فوائد الحديث: إطلاق الجزء على الكل لقوله: "على ما ملكت أيمانكم". قال: "وهو في مسلم موقوف" يعني: على عليَّ، والموقوف عند العلماء هو ما كان منتهي سنده الصحابي؛ يعني: ما أضيف إلى الصحابي فهو موقوف، وما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرفوع، والمضاف إلى الصحابي موقوف إلَّا أن يثبت له حكم الرفع، فإن ثبت له حكم الرفع صار مرفوعًا حكمًا، مثل: أن يخبر الصحابي عن شيء من أمور الغيب وهو ممن لم يعرف عنه الأخذ من بني إسرائيل فإن إخباره هذا له حكم الرفع. فإذا قال قائل: إذا سقط كونه مرفوعًا فهل يسقط الاستدلال به إذا كان موقوفًا؟ فالجواب: لا؛ لأنه قول صحابي، قول أحد الخلفاء الراشدين، قول من غرف بالفقه والعلم وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فيكون قوله حجة ما لم يخالف نصًّا أو صحابيًّا آخر، فإن خالف نصًّا فالعبرة بالنص، وإن خالف صحابيًّا آخر وجب أن نطلب المرجح، وهذه القاعدة في قول الصحابي: أن قول الصحابي المعروف بالفقه، ولاسيما الخلفاء الراشدون حجة بشرط ألَّا يخالف نصًّا أو قول صحابي، فإن خالف نصًّا وجب إطراحه، وإن خالف قول صحابي طلب المرجح.

تأجيل إقامة حل الزنا على الحامل

تأجيل إقامة حل الزنا على الحامل: 1166 - وعن عمران بن حصينٍ رضي الله عنه: "أنَّ امرأةً من جهينة أتت نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزِّنا فقالت: يا نبيَّ الله، أصبت حدًّا، فأقمه عليَّ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليَّها، فقال: أحسن إليها فإذا وضعت فائتني بها، ففعل، فأمر بها فشكَّت عليها ثيابها، ثمَّ أمر بها فرجمت، ثمَّ صلَّى عليها، فقال عمر: أتصلِّي عليها يانبيَّ الله وقد زنت؟ فقال: لقد تابت توبةً لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفصل من أن جادت بنفسها لله؟ ". رواه مسلمٌ. قوله: "وهي حبلى من الزنا" الجملة في محل نصب على الحال من فاعل "أتت"، قولها: "أصبت حدًّا": أصبت ما يوجب الحد، ولهذا قالت: "أقمه عليّ"، وإطلاق المسبب على السبب كثير كما في قوله تعالى: {وينزِّل لكم مِّن السَّماء رزقًا} [غافر: 13]. فالذي ينزل من السماء هو المطر يكون به الرزق. وقوله: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليها" يعني: من يتولى أمرها من أب أو زوج أو غير ذلك، فقال: "أحسن إليها" أي: أحسن إليها بالقول والفعل، أما بالقول فلا تخجِّلها ولا تثرب عليها ولا تبد لها تسخطًا مما وقع منها؛ لأن هذه المرأة جاءت تائبة، وأما بالفعل فلا تقصر عليها بالنفقة من طعام وشراب وكسوة، "فإذا وضعت فائتني بها"، ففعل، يعني: أحسن إليها حتى وضعت فأتى بها، "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها" يعني: شدت عليها ثيابها، وذلك لئلَّا تنكشف إذا أحست بألم الحجارة، "ثم أمر بها فرجمت"، يعني: بعد أن شكت ثيابها أمر بها فرجمت بالحجارة على ما سيأتي وصفها، "ثم صلى عليها" الفاعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: "أتصلي عليها يا نبي الله وقد زنت" الاستفهام هنا يحتمل أنه للاستعلام، ويحتمل أنه للاستنكار، ولكن الاحتمال الثاني باطل؛ لأن عمر لا يمكن أن يستفهم هذا الاستفهام منكرًا على النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يريد الاستفهام، ولكن يؤيد الاحتمال الثاني قوله: (وهل وجدت .... إلخ) مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من عمر أنه استنكر هذه الصلاة. فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم"، "توبة"، نكرة لكنها للتعظيم، ولهذا وصفت بعد ذلك بقوله: "لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة"، فما هي التوبة؟ هي الرجوع إلى الله من معصيته إلى طاعته، "وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟ " يعني: هل وجدت شيئًا أفضل من هذا، امرأة جاءت وعرفت أنها سترجم ولكنها جادت بنفسها وسهل عليها بذل النفس لله عز وجل هذا من أفضل المقامات، ولهذا صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم.

ففي هذا الحديث فوائد منها: جواز إقرار الإنسان بالزنا على نفسه وطلبه أن يطهر، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على هذه المرأة، ولكن هل الأفضل أن يقر الإنسان على نفسه بالحد ليحد، أو الأفضل أن يستر على نفسه؟ فيه تفصيل، يقال: إذا كان الرجل يعلم من نفسه أنه سيتوب توبة حقيقية ولا يعود للذنب، فالأفضل أن يستر على نفسه، وإذا كان يخشى أن يعود لكثرة الفتن وضعف عزيمته فالأفضل أن يقر من أجل أن ترفع العقوبة عنه في الآخرة، وهل مجرد إقرار الإنسان عند القاضي يوجب الحد أو لا يوجب حتى يطلب أن يقام عليه الحد؟ الثاني، يعني: لو جاء الإنسان وأقر على نفسه بأنه زنى فإنه لا تجب إقامة الحد عليه حتى يطلب إقامة الحد، والدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد على ماعز، ولا على المرأة التي قالت: "أتريد أن تردني كما رددت ماعزًا" إلَّا بعد أن طلب إقامة الحد، أما مجرد الإقرار فإنه لا يعتبر طلِّبا لإقامة الحد. ومن فوائد الحديث: جواز التصريح بما يستحيا منه عند الحاجة لقوله: "وهي حبلى من الزنا" لأن هذا يستحيا منه في العادة، لكن إذا دعت الحاجة للتصريح به فلا بأس، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز: "أنكتها" لا يكني بذلك أي: لا يكنى عن ذلك. ومن فوائد الحديث: جواز إطلاق المسبب على السبب لقولها: "أصبت حدًّا"، ويمكن أن يقال فيه أيضًا: جواز التكنية عما يستحيا منه؛ لأنها هي بنفسها لم تقل: إنها زنت، القائل الراوي، ففيه الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكنى عما يستحيا منه، ولكن لو صرح فلا بأس. ومن فوائد الحديث: أن من أقر بما يوجب الحد فإنه لا يجوز أن يساء إليه لا بالقول ولا بالفعل لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لوليها: "أحسن إليها". ومن فوائد الحديث: بيان قصور النساء، وأنه ما من امرأة إلَّا وينبغي أن يكون لها ولي، ويؤيد هذا قول الله تعالى: {الرِّجال قوامون على النِّساء} [النساء: 34]. ومن فوائد أحاديث: جواز رجم الزانية إذا وضعت الحمل بمجرد الوضع، هذا هو ظاهر هذا السياق، ولكن قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يرجم الغامدية حتى أرضعت الولد وفطمته وهذا هو الذي أقره أهل العلم، وقالوا: إنه لا يجوز أن ترجم حتى تضع الولد وترضعه اللِّبا ثم إن وجد من يرضعه وإلَّا تركت حتى تفطمه، إذن لا يجوز أن ترجم وهي حامل؛ لأن في ذلك تعدٍّ على جنينها، وهو لم يفعل شيئًا، ثانيًا: أنه لا يجوز أن ترجم حتى تسقيه اللِّبا وهو أول رضعة تكون من الثدي، فإن هذا اللِّبا - بإذن الله - بمنزلة الدبغ للمعدة ينتفع به الصبي انتفاعًا كاملًا.

المسألة الثالثة: "هل يجوز بعد أن ترضعه اللِّبا أن ترجم؟ فيه تفصيل إن وجد من يقوم بإرضاعه أقيم عليها الحد، وإلَّا تركت حتى تفطمه كما جاءت بذلك السُّنة. ومن فوائد الحديث: أنه لا يحفر للمرجوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لها، والسُّنة جاءت بالحفر وبعدم الحفر، وعلى هذا فينظر إلى المصلحة في ذلك. ومن فوائد الحديث: سد الذرائع لقوله: "فشكت عليها ثيابها"؛ لأن هذا سد لذريعة انكشاف الثوب عند مس الألم. ومن فوائد الحديث: جواز التوكيل في إقامة الحد لقوله: "ثم أمر بها فرجمت"، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم وكَّل أنيسًا. ومن فوائد الحديث: أن من أقيم عليه الحد بزنًا أو سرقة أو غير ذلك فإنه لا يكفر الدلالة: "فصلى عليها" لأنها لو كفرت بذلك لم يصلّ عليها. ومن فوائد هذا الحديث: حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على استطلاع الحق والعلم به لقول عمر: "أتصلي عليها وقد زنت؟ ". ومن فوائد الحديث: ان الإقرار بالذنب علامة على التوبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد تابت توبة"، ولا شك أنه علامة على التوبة، وأن الإنسان ندم وغضب على نفسه وأراد أن ينتقم لنفسه بنفسه. فإن قال قائل: هل للتوبة شروط؟ فالجواب: نعم، شروطها خمسة: أولها: الإخلاص بألًا يكون الحامل للإنسان على التوبة مراعاة الناس أو طلب جاه أو طلب مال. الثاني: الندم على ما فعل من الذنب، وهنا يرد إشكال فيقال: إن الندم انفعال، والانفعال ليس باختيار الإنسان، أرأيت لو وجد سبب الغضب بغضب الإنسان بدون اختيار المحبة، الكراهة ... كلها بدون اختيار، فالندم انفعال نفسي فكيف يندم الإنسان؟ الجواب: ليس المعنى أن توجد في نفسك هذا الانفعال، بل المعنى: أنك تتمنى أنك لم تفعل، يعني: تقول بقلبك أو بلسانك: ليتني لم أفعل، وإلَّا فالندم انفعال نفسي لا يمكن للإنسان أن يدركه. الثالث: الإقلاع عن الذنب، وقد سأل أحدكم الآن فقال: رد المظالم، فنقول رد المظالم من الإقلاع، ولا تصح التوبة مع الاستمرار في الذنب، فلو قال قائل: أنا تبت إلى الله عز وجل من الغيبة، ثم قال لجاره: تعال يا فلان، ماذا تقول بفلان وصار يشتم فيه فهل تصح التوبة؟ لا، ولو قال: أنا تبت من الربا لكن أمواله في البنوك فلا ينفع، ولو قال: أنا تائب من ظلم الناس وهو قد استولى على أرض غيره ولم يردها عليه فهذا لا تصلح توبته، فلا بد من الإقلاع عن الذنب.

والرابع: العزم على ألَّا يعود وليس بشرط ألَّا يعود؛ لأن الإنسان قد يعود مع صحة التوبة الأولى، فإذا كان في تلك الساعة عازمًا على ألَّا يعود أبدًا ثم وسوس له الشيطان بعد ذلك فعاد فتوبته الأولى مقبولة صحيحة، ويحتاج إلى أن يجدد توبته للذنب الثاني. الخامس: أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه وذلك نوعان: عام وخاص، فالعام الذي تنقطع به التوبة هو طلوع الشمس من مغربها، والخاص حضور الأجل، ودليل ذلك قوله تعالى: {وليست التَّوبة للَّذين يعملون السَّيِّئات حتَّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنِّي تبت الآن} [النساء: 18]. ولهذا لما تاب فرعون لما أدركه الغرق ماذا قيل له: {الآن وقد عصيت قبل} [يونس: 91]. وأما النوع العام فدليله قوله تعالى: {أو يأتي ربُّك أو يأتي بعض آيات ربِّك يوم يأتي بعض آيات ربِّك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا}} [الأنعام: 158]. وقد فسّر النبي صلى الله عليه وسلم بعض هذه الآيات بأنه طلوع الشمس من مغربها. ومن فوائد الحديث: في قوله: "فشكت عليها ثيابها" أن المرأة تجب المحافظة على سوأتها أكثر من الرجل، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بمثل هذا في حديث ماعز. ومن فوائده: جواز الصلاة على المحدود، وأن الكبائر لا تسقط الصلاة لقوله: "ثم صلى عليها". فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ على قاتل نفسه؟ فالجواب: بلى، لكن هذا من أجل ردع الناس عن هذه الفعلة القبيحة؛ لأن الإنسان إذا علم أنه لم يصلِّ عليه فإنه يرتدع، ولكن هل تترك الصلاة على قاتل نفسه من كل أحد أو ممن يحصل بتركه صلاته عليه ردع لأمثاله؟ الثاني. ومن فوائد الحديث: أنه لا يحفر لمن يقام عليه الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالحفر لها، وقد اختلفت الأحاديث في ذلك؛ فمنها ما دل على الحفر للمرجوم، ومنها ما سكت عنه، والقاعدة أنه إذا سكت عن شيء وأثبت في موضع آخر فإنه يؤخذ بالمثبت؛ لأن عدم الذكر ليس ذكرًا للعدم، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة هل يحفر للمرجوم حين رجمه أو لا؟ فمن العلماء من قال: إن ثبت الزنا بالبينة فإنه يحفر له؛ لأنه لا يمكنه أن يرجع ولا يمكنه أن يهرب لا بد أن يكمل عليه الحد، وإن ثبت بإقراره فإنه لا يحفر له لأنه لو حفر له وأراد أن يهرب صعب عليه ذلك، مع أن من ثبت الحد بإقراره فإنه يجوز له أن يهرب قبل أن يكمل عليه الحد، ومن العلماء من قال: يحفر للنساء دون الرجال، والأصح في هذا كله أنه يرجع إلى رأي الإمام إن رأى في الحفر مصلحة حفر وإلَّا فلا.

ومن فوائد ألحديث: جواز استفهام المرء عما يفعله الكبير؛ لقول عمر: "أتصلي عليها وقد زنت" فلا يستحي الإنسان في الاستفهام أمام الكبير؛ لأن الاستحياء في طلب العلم جبنٌ، ولهذا قال بعضهم: لا ينال العلم مستحيٍ ولا مستكبر. ومن فوائد الحديث: أن هذه المرأة تابت توبة واسعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم". ومن فوائد الحديث: جواز المبالغة في الأشياء قلة وكثرة؛ لقوله: "لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة" وهذا يشبه قوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين"، فإن من اقتطع دون الشبر يطوق به، لكن ذكر الشبر على سبيل المبالغة في القلة، منه أيضًا عند بعض المفسرين قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرةً فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80]. ومن فوائد الحديث: الاستدلال بالقرائن لقوله: "وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى"، فإن هذا يدل على كمال توبتها وصدق توبتها. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى الإخلاص في العمل؛ لأنها جادت بنفسها لله لا لغيره. هل يؤخذ من هذا الحديث أنه يجوز للإنسان ان يهلك نفسه لله؟ قد يقال: إنه يؤخذ من ذلك أن الإنسان يجوز له أن يفعل ما يكون سببا لإهلاك نفسه لله عز وجل، وقد مر بنا أنه لا يجوز للإنسان أن ينتحر في جهاد الأعداء، لكن له أن يغامر مثل أن يدخل في صف الكفار وحده ربما يستلم والكافر جبان عند المؤمن، فإذا رأى شخصا مقدما وسوف يقدم بقوة وانفعال، فإنهم ربما يفرون منه ويهربون منه فيسلم بخلاف من تأكد أنه سيقتل نفسه فإنه لا يجوز، وعلى هذا فالانتحاريون الذين يركبون السيارات الملغمة حتى يقفوا في صفوف العدو فيفجرونها ليسوا على صواب، لكن ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنه لو كان في التسبب لقتل النفس مصلحة عظمى ن في الإسلام فإنه لا بأس بتلك واستدل بقصة الغلام الذي كان مؤمنًا يدعو إلى توحيد الله وكان ملكٌ ظالم يدعو للشرك وأراد أن يقضي على هذا الغلام فأرسله مرة إلى البحر ومرة إلى رءوس الجبال، وكل هذا يسلم، فدله الغلام على مسألة إذا فعلها قتله، قال: له: تجمع الناس ثم أقوم أمامهم وتأخذ سهمًا من كنانتي، وتقول: باسم رب هذا الغلام، فإذا فعلت هذا قدرت على قتلي، ففعل الملك فآمن الناس كلهم قالوا: لما كانت سلطة الملك لم يقدر على قتله ولما جاء اسم الله قدر على قتله، فإذن الرب رب الغلام فأسلم الناس، وهذه فائدة كبيرة فمثل هذا يجوز، أما أن ينتحر ليقتل شخصًا أو شخصين أو عشرة فهذا لا يوجب انكسار العدو ولا دخوله في الإسلام، بل ربما يوجب ازدياد العدو في الإيغال والإعداد.

تخفيف الحد على المريض الضعيف

1167 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من أسلم، ورجلًا من اليهود، وامرأةً". رواه مسلمٌ. - وقصَّة رجم اليهوديَّين في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قوله: "رجلًا من أسلم" هو ماعز رضي الله عنه، "ورجلًا من اليهود"، وهو اليهودي الذي زنى بامرأة يهودية، وقوله: "وامرأة" هل المراد: امرأة من اليهود، أو المراد: امرأة مطلقًا؛ الظاهر أن المراد: امرأة من اليهود فهؤلاء ثلاثة رجمهم النبى صلى الله عليه وسلم، والباقي اثنان وهما الغامدية وامرأة صاحب العسيف، والغامدية هي الجهنية. تخفيف الحد على المريض الضعيف: 1168 - وعن سعيدٍ بن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: "كان في أبياتنا رويجلٌ ضعيفٌ، فخبث بأمةٍ من إمائهم، فذكر ذلك سعيدٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اضربوه حدَّه. فقالوا: يا رسول الله، إنَّه أضعف من ذلك، فقال: خذوا عثكالًا فيه مائة شمراخ ثمَّ اضربوه به ضربةً واحدةً؛ ففعلوا". رواه أحمد، والنِّسائيُّ، وابن ماجه، وإسناده حسنٌ، لكن اختلف في وصله وإرساله. قوله: "في أبياتنا"، في للظرفية، والمعنى: في حيّنا، "رويجل"، تصغير رجل، يعني: أنه رجل ضعيف ممتهن، "فخبث" أي: زنى؛ لأن الزنا خبث كما قال الله - تبارك وتعالى -: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطَّيبات للطَّيِّبين والطَّيِّبون للطَّيِّبات أولئك مبرَّءون ممَّا يقولون لهم مَّغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ} [النور: 26]. "فخبث بأمة من إمائهم" والظاهر أنها كانت أمة مملوكة، "فذكر ذلك سعيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اضربوه حدًّا، فقالوا: يا رسول الله، إنه أضعف من ذلك" يعني: لا يستطيع الحد، فقوله: "اضربوه حدًّا" وهو مائة جلدة، وهذا يدل على أن هلًا الرويجل غير محصن، فقال: "خذوا عثكالًا فيه مائة شمراخ ثم أضربوه ... إلخ". قوله: "إنه أضعف من ذلك" أي مرن أن يضرب الحد، وقوله: "عثكالًا "، العثكال أصل الشماريخ، وأنتم تعرفون عذق النخل له أصل وله شماريخ، الأصل يسمى عثكالًا، والشمراخ هو الذي تنبت عليه حبات الرطب، "ثم أضربوه به ضربة واحدة" فإذا ضرب به ضربة وفيه مائة شمراخ كانت هذه الضربة الواحدة عن مائة ضربة.

قال: "لكن اختلف في وصله وإرساله"، وإذا اختلف في وصله وإرساله اتبع الأرجح؛ لأن من خالف الأرجح فهو شاذ عند أهل المصطلح، فإن تساووا قدم من وصل؛ لأن معه زيادة علم. هذا الحديث فيه فوائد: منها: الحذر من المظاهر، وإلَّا يغتر الإنسان بها، وذلك أن هذا الرويجل الضعيف لا يظن به أن يعمد إلى أمة من الإماء فيفجر بها؛ لأنه ضعيف فيجب الحذر، وإلَّا يغتر الإنسان بالمظاهر. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجب الستر على من زنى، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على من أخبره بزنا هذا الرويجل. ومن فوائد هذا الحديث: جواز التوكيل في إقامة الحد لقوله: "اضربوه حدَّه". ومن فوائد الحديث: أنه لا يجب التغريب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره، ولكن في هذا الاستدلال نظر؛ لأننا نقول: إن كان هذا الرويجل مملوكًا كما هو ظاهر الحال حيث زنى بأمة، فالمملوك لا يغرب؛ لأن في ذلك ضررًا على سيده، وقد قال بعض العلماء: إنه يغرب، وبعضهم قال: يغرب نصف سنة، وسبق ذكر الخلاف في هذا وإن كان حرًّا فإن عدم الذكر ليس ذكرًا للعدم، وإذا كان كذلك فإنه لا ينافي الأحاديث الدالة على أنه يغرب الزاني. ومن فوائد الحديث: أن هذا الرويجل ليس محصنًا، وجه ذلك: أنه قال: "اضربوه حده"، ولم يقل: ارجموه، فإن كان مملوكًا فعدم إحصانه ظاهر؛ لأن من شرط الإحصان: أن يجامع زوجته التي تزوجها بنكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، وإن كان حرًّا فإنه يستدل باللازم، فإن من لازم الاقتصار على الأمر بالجلد أنه ليس بمحصن. ومن فوائد الحديث: أنه إذا كان من وجب عليه الحد لا يقوى على تحمل الحد فإنه يعدل إلى ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن يؤخذ عثكالًا من النخل فيه مائة شمراخ ويضرب به ضربة واحدة، واختلف العلماء - رحمهم الله -: هل يجب آن تنشر الشماريخ حتي يباشر كل شمراخ بدن هذا المحدود أو لا يشترط؟ الصحيح أنه لا يشترط أولًا: لأنه لم يذكر في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تفرق هذه الشماريخ، والثاني: أن تفريقها فيه مشقة شديدة، وقد لا يمكن أن تنشر مائة شمراخ حتى تباشر الضرب هذا صعب أو متعذر، فالصواب أنه لا يشترط أن تفرق هذه الشماريخ، وهل مثل ذلك ما ذكره الله عن أيوب حين قال له: {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث} [ص: 44]؟ الجواب: نعم مثل هذا؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - أقسم أن يضرب امرأته مائة جلدة، ولكن أفتاه الله عز وجل بذلك {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث}، وهل يقال: إنه متى وجب الحد على ضعيف لا يحتمله فإنه يضرب بالعثكال الذي فيه مائة شمراخ بكل حال أو

عقوبة اللواط

فيه تفصيل؟ الجواب: فيه تفصيل وهو أنه إذا كان يرجى زوال ضعفه فإنه ينتظر حتى يزول ثم يقام عليه الحد على الوجه المعتاد وأما إذا كان ميئوسًا منه فهو الذي يفعل به ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الذي وجب عليه مريضًا بزكام أو ما يسمى باللوزات أو ما أشبه ذلك، فإننا ننظر حتى يبرأ من المرض، وأما إذا كان مريضًا بمرض لا يرجى برؤه أو كان ضعيفًا لكبره فإننا نقيم عليه الحد على الوجه الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أن الحدود لا يقصد بها الإيلام قصدًا أوليًّا، وإنما المقصود بها: التأديب والردع، وأن تكون كفارة للذنب؛ لأنه لو كان المقصود الإيلام لوجب أن يقام الجلد على الوجه المعتاد على الضعيف؛ لأن ذلك أقوى في إيلامه. عقوبة اللواط: 1169 - وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوطٍ؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به، ومن وجدتموه وقع على بهيمةٍ؛ فاقتلوه واقتلوا البهيمة". رواه أحمد والأربعة، ورجاله موثَّقون، إلَّا أنَّ فيه اختلافًا. قوله: "من وجدتموه .. إلخ" الخطاب هنا يعود للأمة جميعًا، ولكن الذي يتولى إقامة الحدود هو الإمام أو نائب الإمام وليس كل أحد يتولى إقامة الحد إلَّا واحدًا وهو السيد على رقيقه كما سبق، وقوله: "يعمل عمل قوم لوط" يعني: يأتي الرجال، وهذه الفعلة القبيحة سماها الله تعالى الخبائث فقال: {ونجيناه من القرية الَّتي كانت تعمل الخبائث} [الأنبياء: 74]. وسماها نبيهم الفاحشة فقال: {أتأتون الفاحشة} [النمل: 54]. وفى الزنا قال الله تعالى فيه: {إنه كان فاحشةً} [الإسراء: 32]. وما عرف فهو أقبح، يعني: كأنه جمع أنواع الفواحش، ولا شك أنه أقبح؛ لأن هذا الفرج لا يباح بحال من الأحوال وأما فرج المرأة فيباح بعقد النكاح الصحيح، أما هذا فلا يباح بأي حال من الأحوال فلذلك كان أقبح من الزنا، وقوله: "اقتلوا الفاعل والمفعول به"

ولم يقل: اقتلوه مع أن مقتضى السياق أن يؤتى بالضمير، ولكنه أظهر في موضع الإضمار ليحسن العطف في قوله: "والمفعول به" لأنه لو قال: فاقتلوه والمفعول به، ما حسن العطف، لكن إذا أظهر صار فيه أنه يحسن العطف عليه وهذه فائدة لفظية، وفيه أيضًا فائدة معنوية: وهي أن الإظهار في مكان الإضمار هنا يشير إلى علة الحكم وهي: "اقتلوا الفاعل" وهي الفعلة القبيحة التي صدرت منه. "ومن وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه" وذلك للعلة السابقة؛ لأن فرج البهيمة لا يباح لبني آدم بأي حال من الأحوال، "اقتلوا البهيمة"، لأن في ذلك زجرًا له ومنعًا للعودة مرة ثانية إلى هذه البهيمة، ولئلَّا تحمل بحيوان يكون بعضه آدميًّا وبعضه بهيمة، ولئلَّا يعير بها. فالفوائد إذن في قتل البهيمة ثلاث، وهذا الحديث يدل على قبح هاتين الفعلتين: إتيان الذكور وإتيان البهائم، واختلف العلماء - رحمهم الله - في صحة هذا الحديث من ضعفه والعمل به؛ فمنهم من قال: إن هذا الحديث ضعيف لا يحتج به، وعلى هذا فيبقى النظر في حد اللوطي وحد آتي البهيمة، ومنهم من قال: الحديث صحيح في الطرف الأول منه؛ يعني: إلى قوله: "والمفعول به"، ومنهم من قال: هو صحيح في الطرفين، لكن الطرف الثاني في قتل الفاعل بالبهيمة لوجود الشبهة فيه وهي اختلاف العلماء لا ينفذ. في هذا الحديث فوائد: أولًا: وجوب قتل اللوطية فاعلًا كان أو مفعولًا به لقوله: "اقتلوا"، والقتل إعدام، ولا يمكن إعدام المعصوم إلَّا بشيء واجب؛ لأن عصمة المعصوم ثابتة ولا تنتهك إلَّا بشيء واجب وهذا هو القول الصحيح. ومن فوائد الحديث: أنه يقتل الفاعل والمفعول به سواء كانا محصنين أو غير محصنين؛ أي: سواء سبق لهما الزواج أو لم يسبق لعموم الحديث، ولكن هل يشمل ما إذا كانا مكلفين أو غير مكلفين؟ الجواب: لا؛ لأن من شروط إقامة الحد أن يكون الفاعل لما يقتضي الحد بالغًا عاقلًا، وعلى هذا فلو وقع اللواط بين شخصين لم يبلغا فإنه لا يقام عليهما الحد، ولكنهما يعزران بما يردعهما وأمثالهما، وكذلك لو وقع بين مجنون ومجنون، أو مجنون وصغير، وقد اختلف العلماء في حكم هذه المسالة على ثلاثة أقوال، بل أربعة لكن الرابع ساقط. القول الأول: "جوب قتل الفاعل والمفعول به، وهذا القول هو الصحيح المؤيد بالسُّنة وبعمل الصحابة - رضي الله عنهم -، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع الصحابة على قتل الفاعل والمفعول به في اللواط قال: إلَّا أنهم اختلفوا كيف يقتل. القول الثاني: أن حده حد الزاني، وعلى هذا إن كانا محصنين رجما، وإن كانا غير - محصنين جللًا وغرِّبا.

القول الثالث: أنه لا حد عليهما، بل هو التعزير؛ وذلك لأن الحد إنما وجب في الزنا، واللواط ليس بزنًا. القول الرابع: "هو قول ساقط، لكن نذكره لإتمام سياق الأقوال أنه لا شيء عليهما اكتفاء بالرادع الطبيعي، وهذا من أضعف الأقوال، وقاسوا ذلك على البول قالوا: لو أن الإنسان شرب بولًا لم يحد ولو شرب خمرًا لحد؛ لأن النفوس لا تطلب البول وتطلب الخمر، فيقال: هذا منتقض في أصل القياس، وفي فرعه، أما أصل القياس فإننا لا نسلم أن من شرب البول لا يعزر، بل يجب أن يعزر؛ لأن شرب البول معصية حرام، والتعزير واجب في كل معصية. ثانيًا: أنه منتقض، فإن قولهم: "الطبيعة تنفر منه" يراد بذلك: الطبيعة السليمة، وأما المنجرفة فإنها لا تنفر، فهذه قرية كاملة أرسل إليها رسول كانت تعمل هذا العمل، ونقول الزنا أيضًا النفوس السليمة تنفر منه، ومع ذلك أوجب الله فيه الحد، فهذا القياس باطل في أصله وفي فرعه. يبقى النظر في التعزير نقول: الاقتصار على التعزير فيه نظر، وذلك لأن اللواط استمتاع محرم في فرج فأقرب ما يكون له الزنا وهذا هو القول لولا أن السُّنة وإجماع الصحابة على خلافه، وإلَّا لقلنا: إن حده حد الزاني؛ لكن ما دامت السُّنة دلت على وجوب قتله وكذلك الصحابة، فليس لنا بدٌّ عن القول بذلك، إذن فهو مؤيد بالنص وبإجماع الصحابة، ثم إنه مؤيد أيضًا بالنظر الصحيح؛ لأن التحرز عن اللواط غير ممكن، فإنه اقتران ذكر بذكر، فهل يمكن أن نقول: كلما وجدنا ذكرا مع ذكر وجب علينا أن نفرق بينهما خوفًا من الوقوع في اللواط، لكن إذا كان ذكرًا مع أنثى يفرق بينهما فالتحرز منه لا يمكن، وإذا كان التحرز منه لا يمكن فإنه لا بد من إعدامهما حتى لا يكونا جرثومة فاسدة في المجتمع، وهذا هو الحق الذي يتعين المصير إليه، أما من أتى البهيمة فنقول: إن الحديث لا يقوى على استباحة دم الفاعل لما فيه من الشبهة، وعليه فلا يقتل الفاعل في البهيمة ولكن يعزر بما يردعه، أما البهيمة فتقتل لكنها تقتل قتلًا ولا تذكي تذكية، تقتل بالرصاصي أو ما أشبهه ولا تذكى. فإن قال قائل: هل يحل أكلها؟ فالجواب: لا؛ لأنها قتلت حدًّا وتعزيرًا على صاحبها، بل وتعزيرًا على الفاعل فلا تؤكل فإن قيل: إذا كانت البهيمة للفاعل فالغرم عليه ولا إشكال، لكن إذا كانت لغيره فكيف نقتل مال غيره أليس هذا عدوانًا على الغير؟

الجمع بين الجلد والتغريب للزاني البكر

فالجواب: لا، ليس عدوانًا على الغير بل نقتلها ويغرم الفاعل للغير قيمتها، تقوم زانية أو غير زانية - يعني: البهيمة-؟ هل نقول: إننا نضمنه مثلها بمعنى أن نقول: ائت بشاة مثل هذه الشاة أو بعنز مثل هذه العنز؟ إن قلنا: إن الحيوان مثلي وهو الصحيح فإننا نضمنه مثلها ونلزم الفاعل أن يشتري مثلها ويعطيها مالكها، وإن قلنا: إن الحيوان غير مثلي - وهو المشهور من المذهب - فإنه يضمنها بالقيمة، لكن الصحيح أنه مثلي؛ لأنه يمكن أن نجد حيوانًا مماثلًا للآخر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استقرض بكرًا ورد خيارًا رباعيًا وقال: "خيركم أحسنكم قضاء". الجمع بين الجلد والتغريب للزاني البكر: 1170 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ضرب وغرَّب، وأنَّ أبا بكرٍ ضرب وغرَّب، وأنَّ عمر ضرب وغرَّب". رواه التِّرمذيُّ، ورجاله ثقاتٌ، إلَّا أنَّه اختلف في وقفه ورفعه. وهذا في البكر إذا زنى البكر فإنه يضرب؛ أي: يجلد مائة جلدة ويغرب؛ أي: ينفى عن بلده ولم يبين في هذا الحديث كم يغرب، لكن مر علينا أنه يغرب سنة كاملة، وذكر ضرب أبي بكر وعمر مع أننا نكتفي بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم للإشارة إلى أن هذا لم ينسخ، وأن عمل المسلمين بقي عليه، وهذه فائدة كبيرة، فلو ادعى مدَّعٍ أن التغريب نسخ أو أنه لا يعمل به؛ لأنه لم يذكر في الآية الكريمة؛ إذ إن الآية لم يذكر فيها إلَّا الجلد، قلنا: نرد عليه بمثل هذا أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. وقول المؤلف: "اختلف في رفعه ووقفه"، القاعدة عند علماء المصطلح أنه إذا اختلف في الرفع والوقف فإنه يؤخذ بالرفع؛ لأن مع الرافع زيادة علم، وأنه لا منافاة في الحقيقة بين الوقف والرفع، فإن الراوي الذي يسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قد يتكلم به في مجلس من المجالس دون أن يسنده إلى الرسول فيسمعه من يسمعه فيظنه موقوفًا عليه والأمر ليس كذلك، فالحاصل: أنه لا تعارض بين الوقف والرفع ما دام الرافع ثقة كما سبق في ذكر الوصل والإرسال فإنه يؤخذ بالواصل؛ لأن معه زيادة علم.

لعنة المخنثين والمترجلات

لعنة المخنثين والمترجلات: 1171 - وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنَّثين من الرِّجال، والمترجِّلات من النِّساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم". رواه البخاريُّ "لعن" أي: دعا عليهم باللعنة، فقال: اللهم العن، أو قال: لعنة الله على كذا، فعبر عنها الراوي بقوله لعن، والمخنث والمؤنث والمذكر هذه ثلاث كلمات، المذكر للذكور الخلص، والمؤنث للإناث الخلص، والمخنث لما بينهما، رجل لكن طبائعه طبائع النساء، في كلامه، في مشيته، في هيئته، إذا سمعت كلامه وأنت لم تره ظننت أنه امرأة، فهذا هو المخنث طبائعه كطبائع النساء، لكن جسده جسد الذكور، المخنثون عادة يدخلون البيوت ولا تهتم بهم النساء؛ لأن طبيعتهم كطبيعة المرأة فلا تهتم به ولا تهابه ولا تخاف منه، ولكن كم من عود فيه جذوة نار، ربما يكون هو مخنثًا ولكن معه شهوة الرجال فيخشى عليه مع اطمئنان النساء إليه أن يفعل الفاحشة، ولهذا لعن الرسول المخنثين من الرجال، وقيل: إن معنى المخنث الذي يتشبه بالنساء وإن كان هو طبيعته طبيعة الذكر لكن يتشبه بالنساء في الكلام وفي المشية، والفرق بين القولين ظاهر، القول الأول: أن المخنث مخنث بطبيعته، والثاني: مخنث بتطبعه، ويؤيد هذا القول قوله: "المترجلات من النساء"، المترجلات اللاتي يحذون حذو الرجال في الهيئة والكلام والحركة وفي المشية، إذا رأيتها قلت: هذه رجل تمشي على الأرض بظاهر القدم كأنها فرس، وتتكلم بكلام جذم كلام الرجال وتجادل مع الرجال وتخالط الرجال، وكأنها رجل منهم، المهم أنها مترجلة أي: جاعلة نفسها بمنزلة الرجل، هذه ملعونة لعنها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله: "من النساء"، بيان لأن "أل" هنا اسم موصول؛ لأن ابن مالك يقول: ومن وما وأل تساوي ما ذكر ثم قال في صلتها: وصفةٌ صريحةٌ صلة أل إذن "أل" الداخلة على اسم الفاعل واسم المفعول تكون اسمًا موصولًا، لكن لا تعرب؛ لأنها على صورة الحرف فينتقل إعرابها إلى ما بعدها، فالمترجلات إذا كانت "أل" اسمًا موصولًا فتحتاج إلى بيان، المترجلات من أين؟ من النساء؛ ولهذا نقول: "من" هذه بيانية.

وقوله: "أخرجوهم من بيوتكم"، أخرجوهم الضمير هنا ضمير مذكر فيكون عائدًا على المخنثين من الرجال لا على المترجلات من النساء، يعني: أخرجوا هؤلاء المخنثين من الرجال من بيوتكم لا يدخلون البيوت لما يخشى من الخطر باختلاطهم بالنساء. ففي هذا الحديث فوائد عظيمة جدًّا أولًا: أن الشرع يراعي أن يكون النساء والرجال متميزين، أي: أن بعضهم يتميز عن بعض حتى لا يكون بعضهم مشابهًا لبعض. ومن فوائده: الرد على أولئك الذين ينادون الآن أن تكون المرأة مساوية للرجل تعمل كما يعمل الرجل وتجادل وتحامي وتفعل ما يفعله الرجل، فإن هذا الحديث يرد عليهم. ومن فوائده: تحريم قيام الرجل بدور المرأة في التمثيليات؛ لأنه تشبه بالنساء فهو تخنث فيدخل في الحديث، وكذلك العكس أن تقوم المرأة بدور الرجل فإنها تكون ملعونة. ومن فوائد الحديث: أنه يجب أن تتجنب المرأة في لباسها ما يختص بلباس الرجال، وكذلك يتجنب الرجل ما يختص بلباس النساء، وأنه يحرم على المرأة أن تتشبه بالرجال في اللباس، وكذلك يحرم على الرجال أن يتشبهوا بالنساء في اللباس. فإن قال قائل: هل يلزم من ذلك أن تتجنب المرأة لبس الثوب الأبيض؟ فالجواب: لا، لا يلزم، كما لا يلزم الرجل أن يتجنب لبس الثوب الأسود، لكن إذا لبست الثوب الأبيض فلا بد أن يكون على تطريز يخالف ثياب الرجال من أجل التمييز، ثم نقول في هذه المسألة: الثياب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم خاص بالرجال، وقسم خاص بالنساء، ولا يختلف الناس فيه، وقسم مشترك، فأما الأول والثاني فأمرهما ظاهر، يعني: لا يلبس الرجل لبسة المرأة ولا المرأة لبسة الرجل، وأما الثالث فلا بأس إذا كان مشتركًا بين الطرفين مثل بعض الفنايل يلبسها الرجال والنساء على حدٍّ سواء، فما تقولون في البنطلون للمرأة هل نقول: إنه من خصائص لباس الرجال أو هو عام؟ نؤجل الكلام على هذا، لأنه يكثر السؤال عنه ونحن نمنعهن، نقول: لا تلبسن هذا، لكن التحريم يحتاج إلى دليل إلَّا أننا نفتي بأنها لا تلبسه اللهم، إلَّا في غرفة النوم عند زوجها فهذا شيء آخر، لأنه يؤدي إلى أنه ينفتح أمام النساء قلة الحياء، لأن الإنسان حتى الرجل إذا صارت أفخاذه محددة وسيقانه محددة وصوره محددة فهو ليس كالرجل الذي عليه قميص واسع، لا شك أنه ينزع الحياء، والمرأة شيمتها الحياء، ولهذا يقال: أشد حياء من العذراء في خدرها. ثانيًا: أن النساء وإن كن الآن يدعين أنهن يلبسن بناطيل واسعة هذا قد يكون مسلَّمًا لكن في المستقبل ما يأتي الواسع سوف يأتي بنطلونات تلزج على الجلد لزاجا، على كل حال:

درء الحدود بالشبهات

منعه أولى؛ لأن أقل ما نقول فيه: إنه ذريعة، أما إذا كان من بنطلونات الرجال التي لا يلبسها إلَّا الرجال فهذا حرام من أجل التشبه. ومن فوائد الحديث: أنه يحرم على النساء أن يترجلان بكل ما يختص بالرجال، اللباس فهمناه حتى في الهيئة، في الحركة، في النطق لأجل أن يتميز الجنس عن الجنس الآخر، والله عز وجل ميز بينهما خلقة وطبيعة وشريعة، فالخلقة واضحة، والطبيعة أيضًا واضحة، أسأل الذين يتعاطون التشريح، كذلك شريعة يختلف الرجال على النساء، هناك أشياء من مهمات الدين لا تجب علين النساء؛ لأنهن لسن من أهلها، فالجماعة في الصلوات الخمس وفي الجمعة غير واجبة على النساء، وهي من مهمات الدين، الجهاد ذروة سنام الإسلام ليس واجبًا على النساء، الحج لا يجب على المرأة إلَّا بمحرم يصاحبها، ويجب على الرجل ولو لم يكن معه خادم يصاحبه، وأشياء كثيرة، فرق الله سبحانه بحكمته بين الرجال والنساء في الشريعة فكيف يأتي أناس اليوم ويحاولون أن يسووا بين الرجال والنساء! هذه محادة لله ورسوله مخالفة للفطرة التي فطر عليها الخلق، وسبحان الله! كيف يتمتع الإنسان بزوجة إذا دخل وقال: أحضري فنجان شاي قالت أنا أطالع الدرس أو أضع راديو مسجل وما أشبه ذلك، ثم ربما يغلب صوتها عليه كأنها رجل، أين الاستمتاع؟ ولست أقول هذا من أجل أن الإنسان لا يهمه إلَّا الاستمتاع، لا، لكن لا يمكن للإنسان أن يشعر بسعادة زوجية وهو يعتقد أن زوجته مثله لا يمكن أن يشعر بهذا لكن الذي يفكك الأسر في المجتمعات غير الإسلامية هو كون كل واحد يشعر بأنه وحده في البيت صار هذا الأمر سهلًا عليه. درء الحدود بالشبهات: 1172 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا". أخرجه ابن ماجه، وإسناده ضعيفٌ. 1173 - وأخرجه التِّرمذيُّ، والحاكم: من حديث عائشة رضي الله عنها "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم". وهو ضعيفٌ أيضًا

1174 - ورواه البيهقيُّ: عن عليٍّ رضي الله عنه من قوله بلفظ: "ادرءوا الحدود بالشُّبهات". أحسن ما يكون ما روي عن علي من قوله: "ادرءوا الحدود بالشبهات" قوله: "ادرءوا" معنى: ادفعوا، و"الحدود" جمع حد، وهي العقوبة المقدرة شرعًا في معصية، وحكمتها: تكفير الذنب عن العاصي وردعه وردع غيره عن هذه المعصية في المستقبل، وخرج بقولنا: "العقوبة المقدرة شرعًا" التعزير، لأن التعزير ليس حدًّا، بل هو راجع إلى ولي الأمر، وليس القصاص من الحدود لا كما ظنه بعض الناس، بل القصاص حق للآدمي، له أن يعفو عنه إلى بدل وهي الدية، وله ان يعفو عن مجانًا، وأما الجدود فلا يستطيع أحد أن يدفعها ويعفو عنها إذا وصلت الإمام فلعن الله الشافع والمشفع له وقوله: "ما وجدتم لها مدفعًا"، يعني: ما وجدت لها دافعًا ولو من وجه يعيد. ولكن هذا الحديث - بفضل الله - ضعيف؛ لأننا لو أخذنا بهذا لكنا نحاول بقدر المستطاع ألَّا يثبت حد؛ لأن قوله: "ما وجدتم" تشبه أن تكون شرطية أو مصدرية ظرفية؛ أي: مدة دوام وجودكم، فما دمت تجد مدفعًا فادفع، وهذا يؤدي إلى سقوط الحدود، وكذلك اللفظ الثاني "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم"، هذا أيضًا يؤدي إلى إسقاط الحدود إذا كنا بقدر المستطاع ندرأ الحدود فمعناه: أننا نأتي بشبهة بعيدة ولو احتمالًا واحدًا من ألف احتمال، أما الذي روي عن علي فهذا واضح: "ادرءوا الحدود بالشبهات" يعني: إذا وجدت شبهة في وجوب الحد إما لخلل في البينة أو في الإقرار أو لاشتباه أن ينطبق عليه الحكم الشرعي أو لا فحينئذٍ ندعها؛ وذلك لأن الأصل براءة المسلم حتى تقوم البينة بأنه متلبس بهذا الذنب الذي يوجب الحد، ولهذا لو شككنا في الشهود على سرقة أو على قذف أو على زنًا فإنه يجب علينا أن تعمل الأسباب التي يزول بها الشك مثل أن نستشهد كل واحد على حدة، وأن نجمع بين شهادتهم، فإذا تناقضت عرفنا أنها شهادة باطلة، وإن اتفقت زال الشك عنها، وكذلك ننظر في حال المقر هل هو عاقل كامل العقل، أو هو ناقص العقل هل هو سكران أو غير سكران، هل هو ملجأ للإقرار أو غير ملجا وهلم جرًّا حتى نتبين، وذلك لأن الأصل براءة المسلم حتى يثبت ما يستحق به العقوبة ثم بعد ذلك نعاقبه، وعلى هذا فيكون المعتمد ما روي عن علي رضي الله عنه: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، أما "ادرءوا الحدود ما استطعتم"، أو "ما وجدتم لها مدفعًا" فهذا لا يستقيم، ولذلك كان هذا الحديث ضعيفا في هذا الأثر عن علي رضي الله عنه. من الفوائد: أنه يجب رفع الحد إذا حدثت الشبهة.

وجوب إقامة حد الزنا عند ثبوته

ومن فوائده: الحفاظ على أعراض المسلمين وعلى اعتباراتهم، وأنه لا يجوز أن نخدشها إلَّا إذا قامت البينة الواضحة التي ليس فيها شبهة. وجوب إقامة حد الزنا عند ثبوته: 1175 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا هذه القاذورات الَّتي نهى الله تعالى عنها، فمن ألمَّ بها فليستتر بستر الله تعالى، وليتب إلى الله تعالى، فإنَّه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله عز وجل". رواه الحاكم، وهو في الموطَّأ من مراسيل زيد بن أسلم. قوله: "ورواه الحاكم"، الحاكم معروف رحمه الله بالتساهل في الرواية وبالتساهل في التصحيح، وأما الموطأ فيقول: إنه من مراسيل زيد بن أسلم، والمرسل - كما تعرفون - من أقسام الضعيف، ولكن لننظر هل معنى هذا الحديث صحيح بقطع النظر عن كونه مرفوعًا أو غير مرفوع. "اجتنبوا هذه القاذورات" هي: جمع قاذورة، وهي كل ما يستقذر ويستقبح، ولا شك أن المعاصي عند أرباب العقول السليمة والإيمان القوي لا شك مستقذرة، ولهذا سمى الزنا خبثًا، واللواط خبثًا، فقال الله - تبارك وتعالى - في لوط: {ونجَّيناه من القرية الَّتي كانت تعمل الخبائث}. مع أن هذه الخبيثة عند قوم طيبة لا يستنكرونها والعياذ بالله، كذلك الزنا يسمى خبيثًا، ومنه حديث الرويجل الذي خبث في جارية، ومنه قوله تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات} [النور: 26]. فهذه قاذورات مستقذرة عند كل ذي طبع سليم ودين قويم؛ ولهذا قال: "التي نهي الله تعالى عنها" وهذه الصفة بيان للواقع وليست صفة مقيدة؛ لأن القاذورات كلها نهي الله عنها فليست القاذورات قسمين منهي عنه وغير منهي بل كلها منهي عنها، إذن فالصفة هنا بيان للواقع، وقوله: "ألم بها"، أي: أصاب منها؛ لأن اللمم هو الشيء اليسير كما قال تعالى: {الَّذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلَّا اللَّمم} [النجم: 32]. إما أنه يسير بممارسته بحيث لا يفعلون الكبيرة إلَّا مرة واحدة، أو {إلَّا اللَّمم} الذنب الصغير على خلاف بين العلماء، الشاهد "ألمّ بها" يعني: أصاب منها، فليستتر بستر الله، فإن الله - سبحانه وتعالى - يستر على من شاء من عباده، ولكن إذا أصر الإنسان على المعصية كشفه الله - والعياذ بالله - لا بد أن تظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه، أما إذا فعلها مرة فقد يستر الله عليه، ويذكر أن بنى إسرائيل كان الواحد منهم إذا أصاب ذنبا وجد هذا الذنب مكتوبًا على بابه، فضيحة - والعياذ بالله - لهم ولكننا - ولله الحمد - لا يوجد هذا في هذه الأمة، فإذا كان الله قد ستر عليك فاستتر، لا تصبح تتحدث بأني فعلت كذا، وفعلت كذا، فإن هذه من المجاهرة، وكل هذه الأمة معافى إلَّا المجاهرين

فإنهم لن يعافوا كثير من الناس إذا فعل المعصية قام يتحدث بها افتخارًا أو استهتارًا وعدم مبالاة أو دعوة للضلال، يريد من الناس أن يقتدوا به ويعملوا بعمله، لكن المؤمن لا يفعل هذا، فنقول: استتر بستر الله، "وليتب إلى الله". الحديث إذا ضح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بأمرين: الاستتار وعدم الإصرار، يؤخذ عدم الإصرار من قوله: "وليتب إلى الله" أي: ليرجع إلى الله من هذه المعصية، فيندم ويستغفر ويعزم على ألَّا يعود، قوله: "فإنه من يبد لنا صفحته" يعني: ما عمل؛ لأن الصفحة هي الجانب الذي يكتب فيه الشيء، والمعنى: من أبدى لنا عمله فإننا نقيم عليه الحد الموجود في كتاب الله فمن جاءنا مقرًّا بالزنا ماذا نقيم عليها؟ نقيم عليه حد الزنا إما الجلد والتغريب وإما الرجم، حسب ما تقتضيه الحال. في هذا الحديث فوائد أولًا: "جوب اجتناب المعاصي، لقوله: "اجتنبوا هذه القاذورات"، وتأكيد ذلك يستقبح كالزنا واللواط لقوله: "القاذورات". ومن فوائده: إرشاد من ألمّ بشيء منها أن يستتر ويتوب إلى الله لقوله: "فمن ألمَّ بها فليستتر بستر الله"، ونحن نقول: إرشاد، ولا نقول: وجوب؛ لأنه لو كان واجبًا لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقرار الذين أقروا عنده بالزنا، ولقال لهم: استتروا ولا تقروا؛ لكن هذا من باب الإرشاد أن الإنسان يستتر بستر الله، وربما يكون الآن غضبان على نفسه لكن فيما بعد تطمئن نفسه ويتوب إلى الله وتصلح حاله. ومن فوائد الحديث: وجوب التوبة لقوله: "وليتب"، ولعل قائلًا يقول: كيف تقول في اللام في قوله: "فليستتر" أنها للإرشاد والاستحباب، وتقول في قوله: "فليتب" إنها للوجوب، وهل هذا إلَّا تفريق بين كلمتين في نص على نسق واحد؟ الجواب: نعم، هو كذلك، لكن التفريق ليس مأخوذًا من هذا الحديث، وإنما هو من أدلة أخرى، فالتوبة من الذنب واجبة بالنص والإجماع: {وتوبوا إلى الله جميعًا أيُّه المؤمنون لعلَّكم تفلحون} [النور: 31]. وعلى هذا فقوله: "فليتب" الأمر للوجوب. ومن فوائد الحديث: أن من أقر عند الحاكم بذنب وجب على الحاكم أن يقيم عليه ما يستحقه بهذا الذنب لقوله في الحديث: "فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يربط الوقائع والأحكام بكتاب الله حتى يألف الناس الرجوع إلى كتاب الله عز وجل، فإن لم يكن في كتاب الله فليربطهم بالسُّنة، ولا مانع أن يضم إلى ذلك الدليل العقلي الذي نسميه الدليل النظري؛ لأن الدليل العقلي حجة على الشاك بالأدلة الشرعية وزيادة طمأنينة فيمن آمن بالنصوص الشرعية، وكثير من الناس لا يقبل الحكم الشرعي

ولو قيل له: قال الله ورسوله إلَّا إذا قيل: بأنه كذا وكذا ثم ذكر له التعليل، ولاسيما إذا كان ناقص الإيمان، ولهذا نحث إخواننا طلبة العلم إلَّا يهدروا الدلالة العقلية مطلقًا وألَّا يعتمدوا عليها مطلقًا، بل يجمعوا بينها وبين النصوص الشرعية التي تسمى الأدلة السمعية ويركز عليها مع الخصم الذي لا يقر بالأدلة السمعية، ولهذا نجد الله في القرآن الكريم يضرب الأمثلة العقلية لإقرار المنكرين مدلول خطاب الشرع مثلًا الذين أنكروا إحياء الموتى ضرب الله أمثلة عقلية وحسية، أما العقلية فقال {وهو الَّذي يبدءوا الخلق ثمَّ يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27]. هذا دليل عقلي؛ لأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة، وأما الحسية فإنه سبحانه يضرب مثلًا بالأرض هامدة: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزَّت وربت إنَّ الَّذي أحياها لمحي الموتى إنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ} [فصلت: 39]. نجد الذين اعتمدوا على الأدلة العقلية ضلوا مثل المعطلة وأصحاب الرأي، وحدِّث ولا حرج مثلًا يجوز أن تزوج المرأة العاقلة الرشيدة نفسها، كما يجوز أن تبيع ما لها هذا دليل عقلي قياسي كله عقلي، لكن هذا مصادم للنص، فضل الذين قالوا بذلك لاعتمادهم على العقل دون الرجوع إلى السمع، ونجد مثلًا الذين أنكروا صفات الله عز وجل اعتمدوا على العقول وهي في الحقيقة أوهام وليست حقيقة يتوهمون من كذا وكذا، وكذا مما يجعلهم ينكرون. فالحاصل: أنك لا تهمل الأدلة العقلية، ولا تعتمد على الأدلة السمعية دون النظر إلى الأدلة العقلية، مثلًا أهل الظاهر يقابلون أهل الرأي، أهل الظاهر اعتمدوا على ظواهر النصوص ولم يرجعوا إلى العقل إطلاقًا، حتى إنهم من جمودهم على الظاهر قالوا: إن الإنسان لو ضحى بثنية من الضأن لم تقبل أضحيته، ولو ضحى بجذعة قبلت أضحيته، أيهما أولى بالقبول؟ الثنية، لكن قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تذبحوا إلَّا مسنة إلَّا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن"، هذا جمود على ظاهر بعيد من العقل، وقالوا: إن الرجل إذا جاء لابنته البكر وقال: يا بنية، إن فلانًا خطبك، فقالت: نعم الرجل فلانًا ديانة وعلمًا ومالًا وشجاعة أنا لا أطلب إلَّا مثل هذا الرجل فزوجنيه، قالوا: هذه لا نزوجها؛ لأن الرسول قال: إذنها وهي بكر أن تسكت، أما إذا صرحت فلا نزوجها، إذن ماذا نصنع؟ نعيد عليها الاستئذان فإذا أعدناه عليها وسكتت حينئذٍ نزوجها، فأقول: إن الجمود على الظاهر دون أن يعرف مغزى الشريعة وأسرارها وحكمتها هذا أيضًا خطأ. * * *

2 - باب حد القذف

2 - باب حدِّ القذف القذف: بمعنى الرمي بزنًا أو لواطٍ، وقد سماه الله تعالى رميًا، فقال تعالى: {والَّذين يرمون المحصنات ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور: 4]. ثم هو ينقسم إلى قسمين: تصريح وتعريض، التصريح أن يقول لشخص: يا زان، يا لوطي هذا تصريح، التعريض أن يقول: الحمد لله، لا أنا زانٍ ولا لوطي؛ يعني: يتخاصم رجل وآخر فقال له: لا أنا زانٍ ولا لوطي، معنى هذا: أنك زان ولوطي، فالقذف نوعان، ثم أيضًا التصريح، كناية وصريح، وقد ذكر الفقهاء - رحمهم الله - ألفاظًا غريبة في كنايات القذف حتى قالوا: إنه إذا قال الرجل للمرأة: جعلت لزوجك قرونًا فهو كناية عن القذف، وأشياء كثيرة قد تسلم وقد لا تسلم، لكن ما كان دالًا على الزنا بدون احتمال يسمى صريحا، وما كان دالًّا عليه مع الاحتمال يسمى كناية. 1176 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لمَّا نزل عذري، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فذكر ذلك وتلا القرآن، فلمَّا نزل أمر برجلين وامرأةٍ فضربوا الحدَّ". أخرجه أحمد والأربعة، وأشار إليه البخاريُّ. قصة عائشة رضي الله عنها هي قصة الإفك، وأنزل الله تعالى فيها عشر آيات عظيمة تهز المشاعر، وتجعل الإنسان يعرف قدر منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الله عائشة رضي الله عنها كانت مع النبي في سفر، وكان من عادته أن يصطحب إحدى نسائه معه، وإن كنا نحن الآن مع الأسف لا نفعل هذا، الإنسان يذهب إلى سفر أسبوعا أو أكثر ولا يصطحب أهله، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصطحب أهله، فأراد السفر في غزوة المريسيع، فأقرع بين نسائه، فخرجت القرعة لأم المؤمنين عائشة، فلما قفل راجعًا وعرس يعني: نزل ليلًا، وفي آخر الليل ذهبت عائشة تقضي حاجتها فجاء الذين يحملون هودجها على الراحلة وحملوا الهودج ولم يحسوا أنه ليس فيه أحد؛ لأنها كانت صغيرة ولم يأخذها اللحم فتكون خفيفة، فظنوا أنها موجودة ثم ساروا، فلما رجعت لم تجد القوم، وكان من ذكائها رضي الله عنها ورباطة جأشها وعقلها أن قالت: أبقى في هذا المكان؛ لأنهم إذا فقدوها سيرجعون لهذا المكان، لكن لو ذهبت يمكن أن تضيع، فبقيت وكان هناك رجل يقال له: صفوان بن المعطل من قبيلة لا يمكن أن يقوموا أبدًا إلَّا إذا أتى إنسان يوقظهم مهما كان، لا يقومون إلَّا إذا انتهي النوم، نعم هذا موجود حتى عندنا، هذا الرجل أستيقظ بعد أن ارتفعت الشمس ثم مشى، وإذا سواد - يعني: جسد - فاسترجع عليه، فإذا هي أم المؤمنين عائشة، وكان

يعرفها قبل الحجاب، فاسترجع قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أناخ بعيره ووطأ على عضده ولم يتكلم بكلمة احترامًا لفراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي لما رأت أنه هيأ لها البعير ركبت، ثم ذهب يقودها لا يمشي وراءها لئلَّا تقع عنه عليها حتى وصل إلى الجيش، وحينئذٍ صارت فرصة عظيمة للمنافقين للقلح في زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم. أولًا: حد القذف فهو في القرآن الكريم {والذَّين يرمون المحصنات ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبدًا وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4]. فرتب الله على القذف ثلاثة أحكام، أولًا: الجلد، والثاني: رد شهادته دائمًا، والثالث: الفسق، ثم قال: {إلَّا الَّذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنَّ الله غفورٌ رحيمٌ} [النور: 5]. وهذا الاستثناء عائد على الأخير بالاتفاق وليس عائدًا على الأول بالاتفاق، واختلفوا في الأوسط هل يعود إليه أو لا؟ على قولين؛ يعني: إذا تاب وأصلح فإنه يزول عنه وصف الفسق ويكون من أهل العدالة ولكنه لا يسقط عنه حد القذف؛ لأنه حق آدمي فيقام عليه الحد، ولكن هل تقبل شهادته بعد التوبة أو لا؟ فيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: تقبل توبته؛ لأن الاستثناء عائد إلى الجمل الثلاث كلها، ومنهم من قال: لا تقبل؛ لأن الاستثناء يعود إلى أقرب مذكور، والظاهر أنها تقبل؛ وذلك لأن أصل رد شهادته لفسقه لقوله تعالى: {يا أيُّها الَّذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبإٍ فتبيَّنوا} [الحجرات: 6]. فإذا زال الفسق بالتوبة زال موجب الرد وحيث يتقبل شهادته، فيكون قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادةً أبدًا} [النور: 4]. مستثنى منه من تاب، أما حد الثمانين فهذا لمن ذكره الله تعالى بهذا الوصف: {الَّذين يرمون المحصنات} [النور: 23]. فلا بد أن يكون المرمي محصنًا، فمن هو المحصن؟ المحصن هو الحر العاقل العفيف الذي يجامع يمثله وفارق المحسن في باب الزنا؛ لأن المحصن في باب الزنا لا بد أن يكون بالغًا عاقلًا متزوجًا، ولا فرق بين أن يكون عفيفًا أو غير عفيف يقام عليه حد الرجم، لكن هنا لا بد أن يكون المقذوف عفيفًا عن الزنا، وعلى هذا فمن رمى بالزنا من كان متهمًا به فإنه يعزر ولا يقام عليه الحد، ومن رمى بالزنا من لا يتهم به ولا تتطرق إليه التهمة برميه فإنه يعزر، مثل: لو رمى أهل بلد جميعًا وقف عند باب المسجد والناس يخرجون من صلاة الجمعة فقال: يا أيها الناس، كلكم زناة، هل يقام عليه الحد؟ لا؛ لأن هذا لا يقدح فيهم بل يقدح هو في نفسه، يقال: هذا الرجل مجنون، أما لو كان جماعة يمكن حصرهم ويمكن أن يلحقهم العار بقذفه فإنه يحد، إذن صار الحد إنما يجب على من قذف محصنًا، أما من قذف غير محصن فإنه يعذر ولا يقام عليه الحد.

ثم ذكر المؤلف حديث عائشة قالت: لما نزل عذري ... إلخ قصة الإفك، لعلكم قرأتموها بعد أن أشرنا إليها في الدرس الماضي قصة غريبة عجيبة فيها فوائد عظيمة، ساق ابن القيم كثيرًا منها في زاد المعاد، هذه القصة هي أن عائشة كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع رجعوا ونزلوا في الليل وقامت لقضاء حاجتها ورجعت وفقدت عقدًا يعني: قلادة فذهبت تطلبه فلما رجعت وجدت القوم قد ساروا وشدوا لأنهم حملوا هودجها وكانت صغيرة لم يأخذها اللحم، وكان الذي حمل الهودج جماعة فصار الهودج خفيفًا فحملوا على أن المرأة موجودة فيه، ولكنها لم تكن فيه فلما رجعت إلى المكان وجدت أنهم ساروا [فمن رجاحة] عقلها أن بقيت في المكان لأنها؛ لو ذهبت تطلبهم لأضاعتهم ثم لو جاءوا هم يطلبونها أضاعوها أيضًا، لكن بقيت في مكانها والغريب أنها بقيت ونامت، سبحان الله! في هذه الحال المخوفة المرعبة تنام مما يدل على قوة جأشها وطمأنينتها ولا شك أن هذا ليس غريبًا على أم المؤمنين رضي الله عنها نامت، وكان صفوان بن المعطل رضي الله عنه في أخريات القوم وكان إذا نام لا يقوم إلَّا إذا بعثه الله فلما قام ورأى السواد ركب بعيره وأتى إليه فلما رآها فإذا هي عائشة وكان يعرفها بعينها بوجهها قبل نزول الحجاب فاسترجع - قال: إنا لله وإنا إليه راجعون -؛ لأنه رضي الله عنه يعلم أن بين أيديهم منافقين كل شيء يحتمل منهم، ولكنه رضي الله عنه أناخ البعير واستيقظت هي باسترجاعه وركبت البعير، ولم يتكلم معها ولو بربع كلمة احترامًا لفراش النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقود البعير، حتى أتت القوم فصار في هذا فرصة عظيمة للمنافقين أن يقدحوا في عائشة لا لأنها عائشة ولكنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من أكبر العار أن يكون فراش الإنسان بغيًا - والعياذ بالله -، ففرح المنافقون بهذا وجعلوا يتكلمون ويتكلم رؤساؤهم، ولكنهم خبثاء، عبد الله بن أبي هو رأس المنافقين وهو الذي تولى كبره منهم، لكنه لا يقول: إنها زنت، يقول: قيل كذا، ويأتي للإنسان ويقول: ماذا تقول في هذه الشبهة، هذه امرأة شابة تأخرت عن القوم وجاءت يقودها رجل شاب، فيجمع حواشي الحديث ويفرقه في الناس، ومن المعلوم أن الإنسان بشر، وإذا جاء هؤلاء المنافقون الذين قال الله عنهم: {وإن يقولوا تسمع لقولهم} [المنافقون: 4]. أهل بيان وفصاحة فربما يؤثرون بلا شك، وهذا الذي حصل لما وصلت عائشة المدينة مرضت، والناس يخوضون، ومن نعمة الله أنها مرضت حتى لا تسمع ما يقال، وبقي الوحي شهرا لا ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه محن، ولكن الإنسان يؤجر على هذه المصائب، بقي الوحي لا ينزل والناس يخوضون، والنبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في القضية منهم من يثني على عائشة ويقول: لا نعلم إلَّا خيرًا، ومنهم من يقول: النساء سواها كثير أرخ نفسك، يعني: طلقها وأرح نفسك كعلي بن أبي طالب، لأنه ابن عمه وأشد الناس شفقة عليه، ولا يحب أن يغتم الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرًا،

والرسول صلى الله عليه وسلم صابر محتسب يدخل على أهله ولا يتكلم بالكلام الذي كانت تعهده عائشة، ولكن يقول: كيف تيكم أو كيف هاتيكم كلمة واحدة فقط ثم يخرج، واستنكرت عائشة رضي الله عنها منه، لكن ما ظنت هذا الأمر، وفي يوم من الأيام خرجت مع أم مسطح بن أثاثة وكان الناس في ذلك الوقت ليس في بيوتهم مراحيض خرجت لقضاء الحاجة فعثرت فقالت أم مسطح تعس مسطح ألقى الله على لسانها أن تقول هذا الكلام، فقالت عائشة كيف هذا مهاجر شهد بدرًا فكيف تقولين: تعس مسطح؟ فقالت: أما علمت ما يقول؟ قالت: ماذا قال؟ فأخبرتها لأن مسطحًا - رضي الله عنه وعفا عنه - ممن تكلموا في هذا الأمر، فحينئذ أصابها ما أصابها من الغم، وجعلت تبكي ليلًا ونهارًا ولا تذوق نومًا؛ لأن الله عز وجل حكيم يشتد الكرب إذا قرب الفرج، مضى عليها ليلة أو ليلتان على هذه الحال، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: إن كان الأمر قد وقع منك فاستغفري الله وتوبي إليه وجعل يعرض لها، فقالت لأمها وأبيها: أجيبوا رسول الله، قالوا: ما ندري ما نقول؛ لأن الأمر فشا وانتشر، قالت لما قالوا: أجيبي أنت الرسول: ذهب عني كل ما أجد، وكان الأمر لم يكن، وألهمها الله قولًا سديدًا قالت: إن قلت: قد فعلت شيئًا وأنا لم أفعل فإنكم لم تصدقوني، حتى لو قلت: ما فعلت، وإن لم أكن فعلت فسيبرؤني الله عز وجل، انظر ثقتها بالله عز وجل، فما قام النبي صلى الله عليه وسلم من مكانه إلَّا وقد نزل عليه الوحي ببراءتها، فلما تجلى عنه الوحي قال لها: أبشري! بشرها بنزول براءتها من عند الله عز وجل، فكأن أباها وأمها طلبا منها أن تقوم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وتحمده، قالت: والله ما أحمد إلَّا الله عز وجل هو الذي أنزل براءتي، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "من يعذرني في رجل قال في أهلي ما قال؟ "، وتكلم الناس وصار بينهم كلام، منهم من قال: أنا أعذرك يا رسول الله، أضرب عنقه وتشاتموا فيما بينهم، والقصة مشهورة، لكن الرسول هدَّأهم صلى الله عليه وسلم، وأمر أن يحد ثلاثة منهم وهم مسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وحسان بن ثابت، هؤلاء الثلاثة - عفا الله عنهم - يصرحون بالأمر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحدُّوا، وانظر حمنة بنت جحش ليست من زوجات الرسول وزينب أختها من زوجات الرسول وكانت هي التي تسامي عائشة، يعني: تضارعها عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم زينب عن عائشة قالت: والله لا أعلم عنها إلَّا خيرًا، وأثنت عليها مع أنها ضرَّتها وأختها وقعت فيه،

اللعان

والهدى هدى الله عز وجل، أما مسطح فقال أبو بكر - وكان ينفق عليه -: "الله لا أنفق عليه غيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولابنته، فأنزل الله تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسَّعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبُّون أن يغفر لكم والله غفورٌ رَّحيم} [النور: 22]. قال أبو بكر: بلى، والله نحب أن يغفر الله لنا، ثم رد عليه النفقة. اللعان: 1177 - وعن أنسٍ بن مالكٍ رضي الله عنه قال: "أوَّل لعانٍ كان في الإسلام: أنَّ شريك بن سحماء قذفه هلال بن أميَّة بامرأته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيَّنة وإلَّا فحدٌّ في ظهرك". الحديث أخرجه أبو يعلى، ورجاله ثقاتٌ. قوله: "أول لعان كان في الإسلام"، اللعان: مصدر لأعن يلاعن، كقتال مصدر قاتل يقاتل، وهو مأخوذ من اللعن، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، واللعان أيمان مكررة بل شهادات مؤكدة بأيمان مقرونة بلعنة أو غضب، وغلب جانب اللعن، لأنه هو الذي يبدى به أولًا، ولأنه من جانب الزوج، وسبب اللعان قذف الرجل زوجته بالزنا، وإذا قذف الرجل زوجته بالزنا فإما أن يقيم البينة فيثبت عليها حد الزنا، وإما أن تقر فيثبت عليها حد الزنا، وإما أن تنكر وحينئذٍ نقول للزوج: عليك الحد في ظهرك وهو حد القذف ثمانون جلدة كما سيأتي في الحديث نفسه. وقوله: "أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته" الضمير في قوله: "بامرأته" يعود إلى هلال بن أمية، يعني: أن هلال بن أمية قذف شريك بن سحماء بأنه زنى بامرأته، ورفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنكرت المرأة وأجرى اللعان بينهما، لكن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة" يعني: أقم البينة، فهي مفعول لفعل محذوف تقديره: أقم البيئة، وإلَّا فحدٌّ" هذه جملة شرطية، والتقدير: وإلًا تقم البينة فعليك حد في ظهرك، وعلى هذا فيكون فعل الشرط فيها محذوفًا، ويكون أيضًا خبر المبتدأ فيها محذوفًا تقديره وإلَّا تقم البينة فعليك حدٌّ في ظهرك، الذي معنا الآن "إن" الشرطية مدغمة بـ "لا" النافية المحذوف فعل الشرط، عندنا أيضًا فـ "حد" هذا مبتدأ، والمحذوف خبره التقدير: فعليك حد في ظهرك، و"حد" كلمة منكَّرة، لكن المراد حد القذف في ظهرك؛ أي: تضرب به على ظهرك، فما هي البينة التي طلبها النبي صلى الله عليه وسلم؟ البينة هي إما إقرار الزوجة المقذوفة بالزنا، وإما أن يقيم أربعة رجال يشهدون بزناها على وجه صريح، فإذا لم يجد يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فحد في ظهرك"، وهنا ليس في الحديث ذكر اللعان، وإنما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الحد

عليه؛ لأنها لم تنزل آية اللعان، والأصل في قاذف العفيف أن يحد حد القذف لعموم قول الله تعالى: {والَّذين يرمون المحصنات ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً} [النور: 4]. فيكون هذا الحكم الذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل آية اللعان، من أين أخذه النبي صلى الله عليه وسلم؟ أخذه من العموم: {والَّذين يرمون المحصنات ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً} هذا الرجل الذي قذف زوجته بالزنا رمي المحصنات ولم يأت بأربعة شهداء، فيجلد ثمانين جلدة، ولكن الله سبحانه خفف عن الزوج إذا قذف زوجته بالزنا خفف عنه بمشروعية اللعان، وكيفيته: أن يحضر القاضي الزوج والزوجة ويقول للزوج: ادَّع ما ادعيت، فإذا ادعى وقال: هذه زوجتي قد زنت ماذا يقول؟ يسأل الزوجة فإن أقرت انتهى الأمر ولا حاجة لطلب البينة؛ لأن إقرارها بينة شهادة على نفسها، فإذا أقرت أقيم عليها الحد، وما هو حدها؟ إن كانت بكرًا فحدها الجلد، وإن كانت ثيِّبا فحدها الرجم، ولكن كيف تكون بكرًا؟ يقذفها قبل أن يطأها حتى لو دخل عليها ولكن لم يطأ، فإنه لم يدخل بها، إذن نقول: إذا أقرت أقيم عليها حد الزنا؛ إن كانت بكرًا فالجلد والتغريب، وإن كانت ثيبًا فالرجم، إن أنكرت قلنا للزوج: هات البينة أربعة رجال يشهدون بأنهم رأوها تزني بصراحة فإن لم يقم البيئة تجري اللعان، لا نقيم حد الرجم؛ لأن الزوج مع الزوجة مستثنى فنجري اللعان، نقول للزوج: اشهد أربعة شهادات بالله أنها زانية وأنك صادق فيما رميتها به وفي الخامسة قال: إن لعنة الله عليك، ويجعل ضميرًا لنفسه إن كان من الكاذبين، ثم يقال للزوجة: ماذا تقولين؟ إن نكلت فسيأتي ذكر حكمها إذا قالت: لا أقول شيئًا، إن لاعنت قلنا: لابل أن تقولي أربع مرات: أشهد بالله أنه كاذب فيما رماني به من الزنا وتقولي في الخامسة، وأن غضب الله عليها أي: بضمير المتكلم إن كان من الصادقين، فإذا فعلت ذلك وجب أن يفرق بينهما تفريقا مؤبدًا لا تحل له أبدا، ويدرأ عنها العذاب - عذاب الزنا - بملاعنتها ويدرأ عن زوجها عذاب القذف بملاعنته، فإن لاعن وأبت أن تلاعن فقيل: إنها تحبس حتى تقر أو تلاعن، وجعل هذا تفسير قوله تعالى: {ويدرءوا عنها العذاب} [النور: 8]. الذي هو الجلد {أن تشهد أربع شهاداتٍ باللَّه} [النور: 8]. قالوا: إن العذاب هنا الحبس، وقيل: إن نكلت أقيم عليها حد الزنا،

وهذا هو القول المتعين، وهو الصواب، وفسر العذاب بهذا المعنى، فيكون قوله: {ويدرءوا عنها العذاب} [النور: 8]. أي: حد الزنا رجما كان أو جلدًا، ويدل لذلك قوله تعالى في الزاني والزانية: {وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} [النور: 2]. فجعل حد الزنا عذابًا وهو كذلك إن تكل هو عن اللعان يعني لما لم تقر ولم يأت ببيئة وقلنا له: لاعن. قال: لا ألاعن، ماذا نصنع؟ نقيم عليه حد القذف، فصار الزوج إن نكل أقيم عليه حد القذف، والزوجة إن نكلت بعد ملاعنة الزوج أقيم - عليها على القول الراجح - حد الزنا، صار هذا الحديث يعتبر منسوخًا بالقرآن هكذا قال بعض العلماء، وقيل: ليس منسوخًا بالقرآن ولكنه مخصوص بالقرآن، وهذا القول هو الصحيح أي: أنه مخصوص بالقرآن، لكن إن ورد عن السلف أنه منسوخ فإن السلف يجعلون التخصيص نسخًا، ووجه ذلك: أن التخصيص نسخٌ للعموم؛ لأنه أخرج بعض أفراد العموم عن الحكم العام وهذا نوعٌ من النسخ، فالسلف - يعني: الصحابة والتابعين - قد يعبرون بالنسخ ويريدون به التخصيص، والصحيح أنه تخصيص. وخلاصة هذا الحديث نقول: إذا قذف الرجل زوجته بالزنا فلا تخلو الحال من أربعة أحوال. الأولى: أن تقر بالزنا فيقام عليها الحد. الحال الثانية: أن يقيم عليها بينة بعد أن تنكر، فيقيم عليها بينة، فيقام عليها الحد. الحال الثالثة: إلَّا يكون عنده بينة وينكل عن اللعان إذا طلبناه منه، فيقام عليه هو الحد. الحال الرابعة: أن يلاعن؛ يعني: ألَّا يكون عنده بينة ويلاعن، ولا تلاعن الزوجة فيقام عليها الحد على القول الصحيح؛ أي: حد الزنا وليس الحبس. الحال الخامسة: أن يلاعن وتلاعن هي أيضًا، وفي هذه الحال لا يقام عليه الحد حد القذف ولا يقام عليها حد الزنا، ولكن يفرق بينهما تفريقًا مؤبدًا لا تحل له أبدًا، هذا حكم قذف الرجل زوجته، وعرفتم كيف نخرج قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة وإلا حد في ظهرك" بأن هذا كان قبل نزول آية اللعان. قال: وفي البخاريِّ نحوه من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما. وهو كذلك الذي في البخاري من حديك ابن عبَّاسٍ قريب من هنا، بل إن قوله: "البينة أو حد في ظهرك" جاءت في البخاري بهذا اللفظ. * * *

حد المملوك القاذف

حد المملوك القاذف: 1178 - وعن عبد الله بن عامرٍ بن ربيعة قال: "لقد أدركت أبا بكرٍ، وعمر، وعثمان، ومن بعدهم، فلم أرهم يضربون المملوك في القذف إلَّا أربعين". رواه مالكٌ، والثَّوريُّ في جامعه. في قوله: "لقد أدركت أبا بكر" فيه نظر، والذي في الموطأ: "أدركت عمر وعثمان"، وذلك أن عبد الله بن عامر بن ربيعة لم يدرك أبا بكر، فيكون حديثه عن أبي بكر مرسلًا لكنه في الموطأ بدون ذكر أبي بكر. في هذا الأثر يقول: "فلم أرهم يضربون المملوك في القذف إلَّا أربعين"، وعلى هذا فيكون حد القذف بالنسبة للمملوك إذا قذف غيره يكون أربعين جلدة، فإذا صح هذا عن هؤلاء الخلفاء فالأمر واضح لنا فيهم أسوة، وإن لم يصح فإن القول الراجح أن المملوك في حد القذف كغيره ولا يصح قياسه على حد الزنا الذي ثبت فيه التنصيف بقوله تعالى: {فإذا أحصنَّ فإن أتين بفاحشةٍ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25]. ووجه عدم صحة القياس: أن القذف يرجع إلى معنى في غير المقذوف، والزنا يرجع إلى معنى في الزاني، كيف كان القذف يرجع إلى معنى في غير المقذوف؟ لأن القذف يلحق به العار؛ أي: المقذوف، وهذا لا فرق فيه بين الحر والعبد، لاسيما إذا كان العبد معروفًا بالتأني والثقة، فإن العار الذي يلحق المقذوف بقذف هذا العبد كالعار الذي يلحقه بقذف الحر ولا فرق. ربما يقول قائل: إن قذف المملوك يعني: قذف العبد لغيره لا يؤبه به ولا ينظر إليه؛ لأن عادة العبيد في الغالب أنهم لا يهتمون بهذه الأمور، وأنهم يطلقون القذف ولا يبالون به. فيقال: هذا وارد، لكن مثل هذا التعليل لا يمكن أن يخصص قوله تعالى: {والَّذين يرمون المحصنات ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً} [النور: 4]. ثم إن القذف من المملوك لا فرق فيه عندكم بين المملوك الذي يعتبر قوله والذي هو عند الناس بمنزلة الحر وبين المملوك الذي ليس بهذا المستوى. فعلى كل حال: إن صح ما نقل عن هؤلاء الخلفاء فالأمر واضح؛ لأن لهم سنة واضحة، وإن لم يصح فالقول ما قاله أهل الظاهر أن المملوك كالحر يجلد ثمانين جلدة، ولا يصح قياس القذف على الزنا لما علمتم من أن الزنا يتعلق عاره بالزاني والقذف، يتعلق عاره بالمقذوف.

1179 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قذف مملوكه يقام عليه الحدُّ يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال". متَّفقٌ عليه. قوله: "من قذف مملوكه" هل "من" شرطية أو موصولة؟ أما كونها موصولة فلا إشكال فيه؛ لأن قوله: "يقام عليه الحدُّ" مرفوع؛ يعني: لا إشكال بأن يأتي اسم الموصول مبتدأ وخبره فعل مضارع مرفوع، لكن إذا كانت شرطية فهنا إشكال كيف رفع الفعل المضارع وهو جواب الشرط؟ والجواب عن ذلك: أنه إذا كان فعل الشرط ماضيًا وجوابه مضارعًا جاز رفع المضارع وجزمه، وفي هذا يقول ابن مالك: وبعد ماضٍ رفعك الجزا حسن ... ورفعه بعد مضارعٍ وهن يعني: أنه يجوز إذا كان جواب الشرط فعلًا مضارعًا وفعل الشرط فعلًا ماضيًا يجوز لك في الجواب وجهان الأول: الجزم وهو الأصل، والثاني: الرفع، فهل في مثل هذه العبارة نسلك ما لا إشكال فيه، أو نسلك ما فيه إشكال لنزيل الإشكال؟ أما الذي لا يعرف النحو سيقول: نسلك الأول ونستريح، والذي يريد أن يعرف النحو ويتعمق فيه يقول: سأسلك الذي فيه الإشكال حتى ينحل عني الإشكال. قوله: "من قذف مملوكه" أي: قال له: يا زان أو يا لوطي، يقام عليه الحد يوم القيامة؛ لأن يوم القيامة هو الذي يظهر فيه العدل ظهورًا كاملًا، والمملوك في الدنيا لا يستطيع أن يطالب سيده في أن يقام عليه الحد؛ لأنه يخشى منه، ولأنه قد لا يصدّق في دعواه أنه قذفه ... إلى غير ذلك من الأسباب التي قد لا تمكِّن المملوك من إقامة الحد على سيده بقذفه إيام ثم إن قلف السيد لمملوكه بالزنا أو اللواط يعود ضرره على السيد، لأن هذا المملوك إذا كان موصوفًا بهذا الوصف من قبل سيده فإن قيمته سوف تنزل، ولهذا لا يقام الحد على السيد؛ لأن الغالب أنه إذا قال ذلك فإنما يقول عن يقين أو غلبة ظن؛ إذ لا يمكن أن يصف عبده بصفة تنزل بها قيمته لأن هذا ضرر عليه في هذا الحديث عدة مسائل: المسألة الأولى: إثبات الملكية للبشر لقوله: "من قذف مملوكه"، وهذا الحكم ثابت بالقرآن والسُّنة، قال الله - تبارك وتعالى -: {إلَّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنَّهم غير ملومين} [المعارج: 30]. والسُّنة كما رأيتم، وأجمع العلماء علي ثبوت الملكية للبشر. ومن فوائد الحديث: تحريم قذف السيد لمملوكه، وجه ذلك: أنه يعاقب عليه يوم القيامة.

3 - باب حد السرقة

ومن فوائد الحديث: أن الجزاء كما يكون في الدنيا يكون في الآخرة، ومن قال: إن الآخرة ليست دار تكليف فليس على إطلاقه؛ لأن الآخرة فيها تكليف، لكنه ليس كالتكليف في الدنيا، أرأيتم قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساقٍ ويدعون إلى السُّجود فلا يستطيعون} [القلم: 42]. قال: {يدعون إلى السُّجود} [القلم: 43]. وهذا تكليف، فالآخرة فيها شيء من التكليف لكن ليس كالتكليف في الدنيا. ومن فوائد الحديث: إثبات يوم القيامة، وهو الذي يبعث فيه الناس، وسمي يوم القيامة لوجوه ثلاثة: الأول: أن الناس يقومون من قبورهم لله عز وجل والوجه الثاني: أنه يقام فيه تمام العدل، والوجه الثالث: أنه يقوم فيه الأشهاد كما قال تعالى: {إنَّا لننصر رسلنا والَّذين آمنوا في الحياة الدُّنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر: 51]. ومن فوائد الحديث: أنه لا حد على السيد إذا كان الأمر كما قال لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلَّا أن يكون كما قال"، ويتفرع على هذه الفائدة فائدة عظيمة بل فوائد عظيمة واسعة منها: لو أن الرجل حلف على شيء يعتقد أنه على ما حلف عليه فتبين خلافه فإنه لا يحنث، وكذلك لو حلف على زوجته بطلاق وتبين أن الأمر بخلافه فإنها لا تطلق كما لو قيل له مثلا: إن فلانًا يكلم زوجتك فقال: أهكذا حصل؟ قيل: نعم، قال: إذن هي طالق، ثم تبين أن الذي كان يكلمها ليس هو الذي أوقع الطلاق من أجل مكالمته، فهنا لا تطلق الزوجة حتى وإن صرح بالطلاق؛ لأن هذا الطلاق مبني على سبب تبين أنه لم يوجد، كذلك أيضًا لو أن رجلًا حلف على شيء يعتقد صحة ما حلف فتبين أنه على خلافه فإنه لا حنث عليه؛ لأنه إنما حلف على شيء يعتقده، فإذا كان يحلف على شيء يعتقده فتبين خلافه فإنه لا يضر. * * * 3 - باب حدِّ السَّرقة "حد السرقة" يعني: عقوبة السارق، وليس المراد بالحد هنا: التعريف، والسرقة: أخذ المال على وجه الاختفاء من مالك أو نائبه، فقولنا: "أخذ المال" خرج به أخذ ما ليس بمال فإنه لا يعد سرقة شرعًا؛ لأنه لا حرمة له، كما لو سرق الإنسان آلة لهو فإنه ليس بسارق شرعًا؛ لأن هذه الآلة لا يقر عليها مالكها فهي حرام، وقولنا: "من مالك" خرج به ما لو سرق من غير المالك مثل أن يسرق من سارق فإنه لا يقطع، لماذا؟ لأن بقاء المال بيد السارق الأول بقاء غير شرعي لا يقر عليه، فالسارق من السارق لا يقطع، وليس كما قال العامة: السارق من السارق كالوارث من أبيه! هذا غير صحيح؛ لأن الوارث من أبيه يرث مالًا حلالًا وهذا لا يرث اللهم إلَّا إذا كان يسرق من السارق ليوصله إلى صاحبه فهذا جزاه الله خيرًا، وقولنا: "من نائبه" أي: من ينوب مناب المالك كمستأجر العين ومن استودعت عنده والمرتهن وغير ذلك، المهم كل من

قام مقام المالك فإذا سرق منه فهي سرقة شرعًا، إذن هل السرقة شرعًا أعم أم السرقة لغة؟ نقول: السرقة لغة أعم، والغالب في جميع التعريفات أن التعريف اللغوي أعم من التعريف الشرعي؛ لأن التعريفات الشرعية متلقاة من الشرع. ثم إن السرقة من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن السارق، واللعن لا يكون إلَّا على كبيرة من كبائر الذنوب، ولأن فيها حدًّا في الدنيا، وقد ذكر العلماء - رحمهم الله - أن كل ذنب فيه حدٌّ في الدنيا فهو من كبائر الذنوب فهي حرام، ومنزلتها في المحرمات أنها من كبائر الذنوب وتوجب القطع - قطع اليد - لقول الله تعالى: {والسَّارق والسَّارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالًا من الله والله عزيزٌ حكيمٌ} [المائدة: 38]. {والسَّارق والسَّارقة} يعني: من ثبت آنه سارق أو سارقة فاقطعوا والخطاب للأمة ويقصد به أو بالقصد الأول ولاة الأمور، {أيديهما} جمع يد، ومعلوم أنه لا يقطع من الإنسان إلَّا يد واحدة، لكن المتعدد إذا أضيف إلى متعدد فالأفصح فيه الجمع، وقوله: {أيديهما} لم يقيدها - سبحانه وتعالى - فتختص بالكف؛ لأن اليد إذا لم تقيد فهي الكف، والدليل على هذا قوله تعالى في التيمم: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم مِّنه} [المائدة: 6]. ومعلوم أن التيمم في الكف فقط، وقوله: {أيديهما} في القراءة المشهورة اليد مجملة، أو إن شئت فقل: مبهمة، لكنه فسرها قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين قال: {فاقطعوا أيمانهما} فيكون المراد باليد: اليد اليمنى، ولأنها هي آلة الآخذ والإعطاء غالبًا، {جزاءً بما كسبا نكالًا من الله} [المائدة: 38]. أي: جزاء بكسبهما؛ أي: بما كسباء من المال المحرم {نكالًا من الله} أي: عقوبة حتى ينكل الناس عن السرقة، {والله عزيزٌ حكيمٌ} [المائدة: 38]. فلعزته وحكمته وحكمه قطع، ويذكر أن أعرابيًا سمع قارئًا يقرأ: {والله غفورٌ رَّحيمٌ} فأمره الأعرابي أن يعيد الآية فقال: {جزاء بما كسبا نكالًا من الله والله غفورٌ رَّحيمٌ}. فأمره فأعاد في الثالثة والرابعة فقال: {والله عزيزٌ حكيمٌ} قال الأعرابي: الآن؛ يعني: الآن أصبت لأنه عزَّ وحكم فقطع، ولو غفر ورحم ما قطع، وصدق الأعرابي لو غفر ورحم ما قطع، ولهذا قال في قطاع الطريق: {إلَّا الَّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنَّ الله غفورٌ رَّحيمٌ} [المائدة: 34]. قال العلماء: يؤخذ من هذا أنهم إذا تابوا قبل أن يقدر عليهم سقط عنهم الحد، وظاهر الآية الكريمة: {والسَّارق والسَّارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]. العموم، وأن السارق يقطع سواء سرق من جرز أو من غير حرز، وسواء سرق قليلًا أو كثيرًا لأن الآية مطلقة: "السارق"، وبهذا أخذ الظاهرية وقالوا كل سارق يقطع ولم يلتفتوا إلى السُّنة، وبعضهم التفت إليها في الذهب فقط، فقالوا: الذهب لا يقطع إلَّا ما بلغ النصاب - أي: نصاب القطع -، وما سوى ذلك فإنه يقطع فيه بالقليل والكثير، ولكن الصحيح أنه لا بد من بلوغ النصاب، ويدل لذلك قوله:

نصاب السرقة الموجب للقطع

نصاب السرقة الموجب للقطع: 1180 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد سارقٍ إلا في ربع دينارٍ فصاعدًا". متَّفقٌ عليه، واللَّفظ لمسلمٍ، ولفظ البخاريِّ: "تقطع يد السارق في ربع دينارٍ فصاعدًا". - وفي رواية لأحمد: "اقطعوا في ربع دينارٍ، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك". هذه ثلاث روايات: الأولى يقول: "لا تقطع يد السارق إلَّا في ربع دينار" يعني: إلَّا إذا سرق ربع دينار، والدينار الإسلامي زنته مثقال من الذهب، وعلى هذا فتقطع في ريع مثقال من الذهب، وقوله: "فصاعدًا"، أي: فذهب القدر صاعدًا، وقد أعربها النحويون على أنها حال حذف منها عاملها وصاحبها، وتقدر في كل سياق بحسبه. الحديث يقول: "لا تقطع إلَّا في ربع دينار فصاعدًا"، فلو سرق لمن دينار أو سدس دينار فلا قطع، إذا سرق ثلث دينار تقطع؛ لأن الثلث أكثر من [الربع] فيدخل في قوله: "فصاعدًا". لفظ البخاري يقول: "تقطع يد السارق" وهو خبر بمعنى الأمر؛ لأن الخبر قد يأتي بمعنى الأمر كما في هذا الحديث وكما في قوله تعالى: {والَّذين يتوفَّون منكم ويذرون أزواجًا يتربَّصن بأنفسهنَّ أربعة أشهرٍ وعشرًا} [البقرة: 234]. وكما في قوله: {والمطلَّقات يتربَّصن بأنفسهنَّ ثلاثة قروءٍ} [البقرة: 228]. وكما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، فقوله: "تقطع" هي خبر بمعنى الأمر؛ ولهذا أتى المؤلف رحمه الله برواية أحمد التي فيها "اقطعوا في ربع دينار" هذا يوافق رواية البخاري: "ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك" يوافق رواية مسلم فتكون رواية أحمد جمعت بين الروايتين. فيستفاد من هذا الحديث فوائد: أولًا رأفة الله عز وجل بالعباد في كون الشيء اليسير لا قطع فيه. وثانيًا: أنه لابد من نصاب لقطع السرقة، والتصاب هنا ربع دينار، فإذا سرق ما دون ذلك فلا قطع. فإن قال قائل: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" فكيف نجمع بين الحديثين؟ نقول: إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة" يحمل على بيضة تبلغ قيمتها ربع دينار، وهذا يمكن في زمن المسغية يمكن أن تصل البيضة دنانير، وقد وقع هذا في زمننا

في بعض الجهات، أو يقال: إن المراد بالبيضة: البيضة التي توضع على الرأس عند القتال، وهي عبارة عما يشبه الإناء يضعه الإنسان على رأسه يتقي به السهام، أما الحبل فالحبل من الحبال ما يبلغ ربع دينار، الحبل المطوي الطويل يبلغ ربع دينار أو يقال: إن المراد بالحبل: الحبال الغليظة التي تربط بها السفن على الساحل، وهو يبلغ هذه القيمة. المهم: أنه لا بد من تأويل الحديث مع ما يتناسب مع الحديث الثاني. ومن فوائد الحديث: أن سرقة ربع الدينار تهدر عصمة اليد، وقد اعترض بعض الزنادقة على الشريعة في هذا الحكم وقال: كيف تقطع اليد في ربع دينار، وإذا قطعت اليد وجب فيها خمسمائة دينار؟ فدية اليد خمسمائة دينار، فكيف تقطع هذه التي قيمتها خمسمائة دينار في ريع دينار، وهل هلًا إلَّا تناقض، وفي ذلك يذكر عن المعري أنه قال في ذلك: [البسيط] يدٌ بخمس مئينٍ عسجدًا وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار تناقضٌ ما لنا إلَّا السُّكوت له وصدق في قوله: "إلًا السكوت له"، وكلب في قوله: "تناقض"، لا يوجد تناقض، فأجيب: قل للمعري عارٌ أيما عار ... جهل الفتى وهو عن ثوب التُّقى عار معناه: أنك جاهل ولا عندك تقوى؛ لأن الجاهل الواجب عليه أن يسكت، وبيّن أنه إنما قطعت بربع دينار حماية للأموال، ووديت بخمسمائة دينار حماية للنفوس، ولهذا قال: حماية النَّفس أغلاها وأرخصها ... حماية المال فافهم حكمة الباري وقال بعضهم: لما خانت هانت، ولما كانت أمينة كانت ثمينة، فالحاصل: أن الحكمة واضحة جدًّا، وأن الله تعالى جعل ديتها خمسمائة دينار حفظًا للنفوس حتى لا يجترئ أحد على قطع الأيدي، وجعلها تقطع في ربع الدينار حماية الأموال حتى لا يجترئ السراق على أموال الناس. 1181 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قطع في مجنٍّ، ثمنه ثلاثة دراهم". متَّفقٌ عليه. "قطع في مجن" أي: بسبب، فـ "في" هنا للسببية، وفي الكلام محذوف والتقدير: في سرقة مجن، والمجن: ما يجتنُّ به المقاتل عن القتال، ويقال له: ترس يتترس به المقاتل، ثمنه ثلاثة دراهم فقطع في ثلاثة دراهم، فهل هذا الحديث يخالف ما سبق: "لا تقطع إلَّا في ربع دينار؟ "

نقول: لا، لا يخالف، لأنه يجب أن نقول: ثلاثة دراهم قيمتها في ذلك الوقت ربع دينار؛ ولهذا جاءت الدية ألف مثقال ذهبًا واثني عشر ألف درهم فضة وألف مثقال ذهبًا، فصار الآن ثلاثة در هم ربع دينار، فهكذا كانت القيمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قيمة الدينار كانت اثني عشر درهمًا فتكون ثلاثة دراهم تساوي ربع دينار، وحينئذ لا معارضة بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق إلَّا في ربع دينار". فإن قال قائل: إن قول ابن عمر هذا مبني على ظنه. قلنا: الأصل عدم الظن، وأنه يعلم أن ثمنه لو بيع لكان ثلاثة دراهم، ولكن الجمع كما قلنا، لو سرق ثلاثة دراهم ليس شيئًا يساوي ثلاثة دراهم بل سرق ثلاثة دراهم هل تقطع أو لا؟ تقطع؛ لأن ثلاثة دراهم ربع دينار - نصاب -، واختلف العلماء - رحمهم الله - فيما لو اختلف السعر عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهل المعتبر الدراهم أو الدنانير أو الأعلى ثمنًا وقيمة؟ فقيل: المعتبر الدراهم، وقيل: الدنانير، وقيل: الأرفع قيمة، يعني: قد يكون ربع الدينار أربعة دراهم، وقد يكون ربع الدينار درهمين، والصحيح أن المعتبر ربع الدينار، فلو زادت الدراهم أو قلَّت الدراهم أو رخصت فلا عبرة، بها العبرة بالدنانير، فإذا سرق ربع دينار أو ما يساوي ربع الدينار فإنه يقطع. 1182 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "لعن الله السَّارق؛ يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده". متَّفقٌ عليه أيضًا. هذا يحتمل أن يكون خبرًا، ويحتمل أن يكون دعاءً، وهذا واضح إذا صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا صدر عن غيره فإن ثبت اللعن فهو خبر وإلَّا فهو دعاء، فقول الرسول: "لعن الله السارق" يحتمل أنه خبر عن الله، أي: يخبر بأن الله لعن السارق، ويحتمل بأنه دعاء، وأيًّا كان فإنه دليل على أن السرقة من كبائر الذنوب. وقوله: "يسرق البيضة ويسرق الحبل"، سبق لنا أن بعضهم قال: المراد بالبيضة: الخوذة التي توضع على الرأس عند القتال، وقال بعضهم: المراد بالبيضة إذا بلغت ربع دينار، ويوجد معنى ثالث وهو: أن المراد بذلك: السارق يسرق الأشياء الخفيفة أولًا ثم لا يزال يترقى حتى يسرق الأشياء الغالية الثمن، فيكون المراد: أنه لعنه بابتداء تدربه على السرقة. فمن فوائد الحديث: جواز الدعاء باللعن على من سرق، تقول: لعن الله السارق سرق

جحد العارية

الباب، سرق الساعة، سرق القلم وما أشبه ذلك، ولكن الدعاء على شخص بعينه لا يجوز، حتى وإن كان ينطبق عليه الوصف، لأن ما ورد معلقًا بالأوصاف يجب أن يكون معلقًا بالأوصاف، وما ورد معلقًا بالأعيان يكون معلقًا بالأعيان، ولهذا نشهد لكل مؤمن أنه في الجنة ولا نشهد لفلان أنه في الجنة وإن كان مؤمنًا. ومن فوائد هذا الحديث والذي قبله: قطع يد السارق، وأن ذلك لا ينافي الرحمة. ومن فوائده هو والذي قبله: أن مراعاة العموم أولى من مراعاة الخصوص؛ لأنه لا شك أن الضرر على السارق ضرر عظيم ستفقد يده اليمنى ويشل شيء كثير من عمله ويكون عارًا عليه بين الناس، لكن هذه المفسدة فردية، والمصلحة العامة حماية أموال الناس أولى من مراعاته، فيؤخذ من هذا قاعدة مفيدة: وهي أننا لا ننظر إلى الشخص إذا كان في محاباته ضرر بالمصلحة العامة، الواجب أن ننظر للمصلحة العامة ولو ضر ذلك الشخص، بعض الناس مثلًا إذا حصل من شخص جناية قال: ارحمه هذا له أولاد وليس له وظيفة وأتى بالمبررات، فنقول: مراعاة المصلحة العامة أولى من مراعاة المصلحة الخاصة، ولسنا بأرحم من الله ولا بأحكم من الله، فالله عز وجل نجد في حدوده سبحانه ما يكون ضررا على شخص معين لكن للمصلحة العامة. جحد العارية: 1183 - وعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟ ثمَّ قام فاختطب، فقال: أيُّها النَّاس، إنَّما هلك الَّذين من قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ". متَّفقٌ عليه، واللَّفظ لمسلمٍ. - وله من وجه آخر عن عائشة: "كانت امرأةٌ تستعير المتاع وتجحده، فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقطع يدها". الهمزة للاستفهام، والمراد به هنا: التوبيخ والإنكار، وتشفع) من الشفاعة وهي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة ليدخلوا الجنة من أي النوعين؟ من جلب المنفعة، وفي أهل الموقف أن يريحهم الله منه هذه لدفع مضرة، وسميت الشفاعة - أعني: التوسط للغير -؛ لأن الشافع يشفع من شفع له، فبعد أن كان المشفوع له واحدًا صار الآن شفعا - اثنين -. "أتشفع في حد من حدود الله؟ "، الحد يطلق على ثلاثة معانٍ: الأول: الأوامر، والثاني: النواهي، والثالث: العقوبات المقدرة شرعًا في المعاصي، والمراد هنا الثالث، وهو العقوبات

التي قدرها الشرع في فعل المعصية، والمعنى: أتشفع في عقوبة فرضها الله عز وجل وسبب هذا أن امرأة مخزومية من بني مخزوم - من كبار قبائل العرب - كانت تستعير المتاع؛ أي: تطلب من مالكه أن يعيرها إياه ثم إذا استعارته أنكرته، وقالت: لم آخذ منك شيئًا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن تقطع يدها، فلما أمر بذلك لحق قريشا الهم والكآبة والحزن أن تقطع يد امرأة من بني مخزوم، فأهمهم هذا الأمر وطلبوا من يشفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهابوا أبا بكر وعمر وغيرهما من سادات الصحابة وقالوا: لا أحد يشفع إلَّا أسامة بن زيد بن حارثة؛ لأنه ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويحب أباه؛ ولهذا يلقب بأنه حب رسول الله؛ أي: محبوبه فطلبوا من أسامة أن يشفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرأة، فشفع فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أتشفع في حد من حدود الله" يعني: هذا لا يمكن؛ لأننا لو قبلنا الشفاعة لتعطلت الحدود ولبقيت الحدود التي فرضها الله عز وجل لا قيمة لها، ثم قام فخطب الناس، يعني: ألقى خطبة، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يخطب عند النوازل، وخطبه - عليه الصلاة والسلام - قسمان: قسم راتب كخطبة الجمعة، وقسم عارض كخطبة الكسوف، وكذلك خطبته في قصة بريرة وغير ذلك من المناسبات، خطب فقال: "يا أيها الناس، إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم" النداء هنا مناسب جدًّا لأن المقام مقام عظيم ينبغي أن يتنبه له المخاطب، والنداء - كما أسلفنا مرارًا - يفيد تنبيه المخاطب حتى ينتبه ويعتني قال: أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم، والمراد بالهلاك هنا يحتمل الهلاك الحسي يهلكهم الله بسبب المعاصي، أو أنه الهلاك المعنوي وهو هلاك المجتمع، وقوله: "أنهم كانوا" وأنه هنا بالفتح؛ لأنها على تقدير حرف الجر أي: بأنهم، فالجملة - إذن تعليلية على تقدير حرف الجر. "أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه" يعني بالشريف: ذا الشرف والرفعة والجاه عند قومه إذا سرق تركوه لأنه شريف، "وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد"، لأنه لا ناصر له ولا جاه له فيقيمون عليه الحد. ولم يذكر المؤلف رحمه الله بقية الحديث؛ لأن هذا لفظ مسلم، والمقصود منه في هذا الباب ما ذكر، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال كلمة ينبغي أن يسير عليها ولاة الأمر قال: "وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، وفي لفظا: "لقطع محمد يدها"، فأقسم - وهو الصادق البار بدون قسم - أنه لو كانت فاطمة وهي أجل قدرًا من المخزومية وأعلى نسبًا لو أنها سرقت لقطع يدها، يعني: لا بد من قطع اليد، لا بد من تنفيذ حدود الله، وهذا كقوله في قصة الربيع أخت

أنس بن النضر انكسر ثنية الربيع قال: "يا أنس، كتاب الله القصاص، لو أن فاطمة ... إلخ"، قال: وله من وجه آخر عن عائشة قالت: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها"، وقد تقدم الكلام عليه. هذا الحليبث فيه فوائد عظيمة منها: الإنكار على من شفع في حد من الحدود، ولكن هذا بعد أن يصل الأمر إلى السلطان، فأما قبل ذلك فلا بأس، لكن إذا وصل إلى السلطان فإنه لا تجوز الشفاعة فيه لما في ذلك من إسقاط حدود الله عز وجل. ومن فوائده: الإنكار على من فعل ما ينكر عليه ولو كان أحب الناس إليك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة، والله تعالى لا يستحي من الحق، لا نقول: هذا صديق، هذا رفيق، لا أحب أن أنكر عليه، بل أنكر عليه لاسيما في الأمور العظيمة. ومن فوائد الحليخثا: أن الشفاعة تجوز في غير الحدود كما لو كان من باب التعزيرات فإنه يجوز أن يشفع فيها، والفرق أن الحدود فرائض والتعزيرات تبع للمصالح، فقد يكون من المصلحة أن نشفع في هذا الذي يستحق التعزير لأجل أن يسقط عنه التعزير؛ ولهذا قال كثير من العلماء: إن التعزير ليس بواجب، وإنما هو راجع إلى رأي الإمام إن رأى من المصلحة أن يفعل التعزير فعل وإلَّا فلا. ومن فوائد الحديث: حكمة الشرع في تحديد العقوبات، وأنها مناسبة تمامًا للجرائم، ولهذا أضيفت إلى الله تعالى قال: "حد من حدود الله"، ومعلوم أن ما كان من حدود الله عز وجل فإنه في غاية الحكمة وفي غاية الرحمة. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان القدوة أن يخطب في المناسبات التي تستدعي الخطبة ولو كان ذلك في غير جمعة لقوله: "ثم قام فخطب". ومن فوائده: أن الخطبة تكون عن قيام، والحديث العادي يكون عن جلوس، ويتفرع على هذه الفائدة: ما يفعله بعض الإخوة من القيام خطيبًا عند دفن الميت يعظ الناس مستدلًّا بأن النبي صلى الله عليه وسلم وعظ أصحابه حين جلسوا إليه، وجعل يتكلم عن حال الإنسان عند الموت وبعد الموت وترجم البخاري على ذلك بقوله: "باب الموعظة عند القبر"، فيقال: هناك فرق بين الموعظة وبين الخطبة، نحن لا نتكر أن يجلس رجل [عند] المقبرة ويجلس إليه الناس ينتظرون إلحاد القبر ثم يتكلم معهم بموعظة تلين القلوب وتذكر، لكن أن يقوم خطيبًا يخطب في الناس فليس هذا موضعها.

ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي أستعمال الأسلوب الذي يكون أبلغ في الوصول إلى المقصود، وهذا ما يسمى بالبلاغة، أي: مطابقة الكلام لمقتضى الحال، لقوله: "أيها الناس"؛ حيث وجه الخطاب بالنداء من أجل أن ينتبه الناس لما يقول. ومن فوائد الحديث: أن الحيلولة دون تنفيذ الحدود سبب للهلاك لقوله: "إنما أهلك من كان قبلكم". ومن فوائده: أن عقوبة الله عز وجل لا تختلف بالنسبة للأمم؛ لأنه ليس بين الله وبين الخلق نسب حتى يراعيهم، فإذا هلك من قبلنا بذنب فيوشك أن نهلك به، لكن الفرق أن هذه أمة لا تهلك بعقوبة عامة بخلاف الأمم السابقة، وقد قيل: إنه بعد نزول التوراة لم تهلك أمة بعامة؛ لأن الله تعالى قال: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} [القصص: 43]. وأما هلاك فرعون فإنه [كان] قبل نزول التوراة. ومن فوائد الحديث: أن حد السرقة ثابتٌ في الأمم السابقة لقوله: "إذا سرق فيهم الشريف ... إلخ)، كما أن حد الزنا ثابت أيضًا في الأمم السابقة، وعلى هذا فإذا شنّع النصارى واليهود على المسلمين بقطع يد السارق قلنا لهم: نحن أيضًا نشنع عليكم؛ لأن هذا موجود في شريعتكم لكن أنتم تجرأتم وأبطلتم شريعة الله، لكن نحن التزامنا بشريعة الله، وكذلك إذا شنعوا علينا في القصاص قلنا: وأنتم أشد منا شناعة، فاليهود يجب عليهم القصاص: {وكتبنا عليهم فيها - أي: فرضنا عليهم - أنَّ النَّفس بالنَّفس والعين بالعين ... إلخ} [المائدة: 45]. إذن نقول: حد السرقة بقطع يد السارق ثابت في الأمم السابقة. ومن فوائد الحديث: "جوب العدل بين الناس في إقامة الحدود، وأن الجور سبب للهلاك لقوله: "إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد". ومن فوائد الحديث: أن السرقة لا تختص بالحاجة، بل قد تكون عن هوى وشهوة لكون الشريف يسرق، فالشريف في العادة يكون غنيا إما بنفسه أو بقومه، ولكن الشيطان يغوي ابن آدم؛ ولهذا نجد أن الرجل المتزوج الذي عنده زوجة من أحسن النساء خلقًا وسمتًا وصورة نجده يستهويه الشيطان فيزني بمن ليست بشيء عند زوجته. ومن فوائده: أنه لا يجوز أن يختلف الناس في إقامة الحدود بالمال، يعني: بالغنى أو الفقر قياسا على الشرف والضعف؛ لأن المراد بالضعيف هنا ما يقابل الشريف، فلا يقال: هذا غني لا نقطعه وهذا فقير اقطعوه، لكن لو كان بالعكس وقالوا: نقطع الغني ولا نقطع الفقير لأجل أن نبقي. له جوارحه يحصل بها الرزق فلا يجوز أيضًا لوجوب العدل ووجوب إقامة الحد. ومن فوائد الحديث: - ونتكلم على ما حذف منه -: جواز إقسام الإنسان بدون أن يستقسم؛ لأن. النبي صلى الله عليه وسلم أقسم فقال: "وايم الله" مع أنه لم يستقسم.

ومن فوائده: أنه كلما عظم شأن المخبر عنه فإنه يستحسن أن يقسم عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم لعظم شأن هذا الأمر، وإلَّا لو قال: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها اكتفى بذلك. ومن فوائده: فضيلة فاطمة رضي الله عنها، ولا شك أن فاطمة أفضل بنات الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها سيدة نساء أهل الجنة، لكن لا يعني ذلك أن نبالغ ونغلو فيها، فإن الغلو فيها أو في غيرها مما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أن جاحد العارية يقطع لحديث عائشة: "كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر"، وجه الدلالة: أن الفاء في قوله: "فأمر" للسببية؛ أي: فسبب ذلك أمرًا، فيكون هذا الحكم مفرعًا على تلك العلة، وهي: أنها كانت تستعير المتاع فتجحده، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا، والقول بأن جاحد العارية يقطع انفرد به الإمام أحمد رحمه الله، وأكثر العلماء على أنه لا يقطع، كما أن الخائن في الوديعة وغيرها لا يقطع، فكذلك الخائن في العارية، ولكن يقال: إذا ثبت النص فلا قول لأحد، فما دام الحديث ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع يدها؛ لأنها كانت تستعير المتاع فتجحده فإنا نقول: هذا سبب مستقل، فسموه سرقة أو لا تسموه، إن كانت السرقة تنطبق على هذه الحال فالأمر ظاهر، وإن كانت لا تنطبق فإنها قسم مستقل برأسه جاءت به السُّنة فوجب الأخذ به، وأما من قال: إن هذا الحديث على تقدير محذوف: "كانت تستعير المتاع فتجحده فسرقته فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها"، فهذا لا وجه، له لأنه إثبات علة لم توجد ونفي علة موجودة، وهذا تحريف، لأن رفع الوصف عن الحكم وإثبات وصف آخر لا شك أنه تحريف، وهذا كقول من قال: إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" قال هذا لمن كان جاحدًا وهذا تحريف؛ لأننا إذا حملناه على الجحد ألغينا الوصف الذي رتب عليه الحكم وأتينا بوصف آخر جديد فيكون في هذا جناية على النص. ومن فوائد الحديث: جواز التوكيل في إقامة الحدود لقوله: "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها". ومن فوائده: أن يد السارق إنما تقطع من الكف لا من المرفق، وجهه: أن اليد إذا أطلقت فالمراد بها الكف، وإذا أريد بها ما زاد عليه فيدت به، ولهذا جاءت الآية في الوضوء مقيدة: {إلى المرافق} [المائدة: 6]. فوجب أن تغسل في الوضوء إلى المرفق، وجاءت في التيمم مطلقة "فلم يجب إلَّا مسح الكفين فقط.

ثم قال: "وله - أي: لمسلم - كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم" كانت امرأة، ومعروف أنها من بني مخزوم، لكن أحيانًا يذكر الراوي الاسم مبهمًا سترًا عليه إذا كان لم ينسه أو نسيانًا إن كان قد نسيه ولكن الذي يظهر أنه كان من باب الستر؛ لأنه قد ورد مصرحًا به في وتجه آخر، "تستعير المتاع"، الاستعارة: طلب الإعارة، كالاستغفار طلب المغفرة، والغالب أن السين والتاء المزيدتين فيهما استدعاء وطلب، وقولنا: "الغالب"، احترازًا من غير الغالب في مثل "استقر" فإنه ليس معناها طلب القرار، ولكنه بمعنى قرَّ، لكن الغالب أن الاستفعال يفيد الطلب، فقوله: "تستعير" أي: تطلب الإعارة، وما هي الإعارة؟ هي بذل المال لمن ينتفع به ورده بعينه، فقولنا: "لمن ينتفع به" خرج به سائر البذل وخرج به الهبة؛ لأن باذلها يريد بذلك تمليك الموهوب له، وخرجت الوديعة؛ لأن معطيها لا يريد أن ينتفع بها المودع، وإنما يريد منه أن يحفظها، وخرج بقولنا: "لمن ينتفع به" الإجارة؛ لأن المؤجر يسلِّم العين المستأجرة لملك المستأجر منافعها، وبه يظهر الفرق الدقيق بين العارية وبين الإجارة، فالإجارة يملك المستأجر المنافع، والعارية يملك الانتفاع، وبينهما فرق يظهر في بيان حكم من الأحكام التي تترتب على هذا الفرق، المستأجر له أن يؤجر العين بشرط إلَّا يكون لشخص أكثر منه ضررًا، المستأجر له أن يعير العين بشرط ألَّا يكون ذلك أشد ضررًا من انتفاعه هو، أمَّا المستعير فلا يملك تأجيرها ولا يملك إعارتها، لأنه يملك الانتفاع، ومن الفروق. على المذهب: أن المستعير ضامن لكل حال، والمستأجر لا يضمن إلَّا إذا تعدى أو فرط، والصحيح أن المستعير كالمستأجر في مسألة الضمان لا يضمن إلَّا إذا تعدى أو فرط، اللهم إلَّا إذا اشترط عليه الضمان مطلقًا والتزم فعلى ما اشترط، الجحد: بمعنى الإنكار، فمعنى جحد أي: أنكر، تأخذ المال من الناس إعارة ثم تنكر وتقول: ما أخذته ولا استعرته، "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها"، أي: بقطع كفها؛ لأن اليد عند الإطلاق معناها الكف، ولم يبين في الحديث أيُّ اليدين، ولكن ثبت أن المراد بها: اليد اليمنى، لقراءة عبد الله بن مسعود في رضي الله عنه: {فاقطعوا أيمانهما}، والقراءة لا شك أنها حجة. ففي هذا الحديث فوائد: أولًا: تحريم الشفاعة في الحد، يعني: في سقوطه، ولكن هذا إذا وصل إلى السلطان ولم يبق إلَّا التنفيل، أما قبل أن يصل إلى السلطان فلا بأس من الشفاعة.

ومن فوائد الحديث: وجوب الإنكار على من شفع حتى وإن كان جاهلًا؛ وذلك لأن هذه المسألة عظيمة فيجب الإنكار. ومن فوائد الحديث: إعلان إنكار الشفاعة في الحدود لأهميتها حتى لا يتلاعب الناس بفرائض الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: الإنكار على من هو أحب الناس إليك فلا تحابي أحدًا في دين الله قريبًا ولا صديقًا ولا غنيًّا ولا فقيرًا: {يا أيها الَّذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما} [النساء: 135]. يعني: إن يكن غنيًّا فحابيتموه لغناه أو فقيرًا فحابيتموه لفقره فالله أولى بهما، وولاية الله تعالى خير من ولايتكم التي تحابون بها هؤلاء ولا تقومون بالشهادة بالقسط. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للخطيب استعمال الألفاظ التي تستدعي الانتباه لقوله: "يا أيها الناس"، وكذلك ينبغي للخطيب استعمال الإلقاء الذي يستدعي انتباه الناس، مثل: لو فرضنا أنه يغير الصوت في بعض الأحيان من أجل انتباه الناس فإن هذا لا بأس به، وقد كثر السؤال عن استعمال بعض الخطباء عند تلاوة الآيات أن يتلوها على حسب التلاوة المجودة وهو في أثناء الخطبة، وأشكل هذا على بعض الناس فما الجواب؟ الجواب: أنه جائز؛ يعني: لا بأس أن تحول الأداء من الأداء المعتاد في الخطبة إلى الأداء المعتاد في القراءة عند تلاوة الآيات، وربما يكون في هذا تنبيه. ومن فوائد الحديث: أن إضاعة إقامة الحدود من أسباب الهلاك: "إنما أهلك الذين من فبلكم أنهم ... إلخ". ومن فوائد الحديث: أنه تجب إقامة الحدود على الشريف والوضيع، وجه ذلك: الوعيد بالهلاك على من أقامه على الوضيع دون الشريف. ومن فوائد الحديث: أن السرقة قد تقع من ذوي الشرف والسيادة لقوله: "إذا سرق فيهم الشريف". فإذا قال قائل: كيف يسرق وهو شريف ذو جاه أو نسب أو غير ذلك؟ قلنا: السرقة مرض من الأمراض، والمرض قد يعتري الإنسان، ولو كان بعيدًا عنه، فهي مرض يكون الإنسان به مملوء القلب بالطمع والجشع فيسرق، أو لمجرد أن يسرق ولو ألقى ما سرقه في الأرض، المهم أنها مرض من الأمراض، ولا تستغرب أن يكون هذا المرض يسري في الشرفاء. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أن سنَّة الله عز وجل في الخلق واحدة؛ يعني: لا نقول: نحن من أمة محمد لا يصيبنا البلاء ولا يصيبنا العذاب، بل نقول: سنة الله في الأولين والآخرين واحدة؛

لأن الله عز وجل لا يحابي أحد، ليس بيننا وبين ربنا عز وجل نسب، ولكن بيننا وبينه عبادة، إذا حققنا العبادة والتقوى فنحن أقرب الخلق لله، ولهذا قال: "إنما أهلك من كان قبلكم" تحذيرًا أن يقع الهلاك فينا كما وقع فيمن سبق. ومن فوائد الحديث: ضرب الأمثال عند الوعظ ترغيبًا أو ترهيبًا، لقوله: "إنما أهلك الذين من قبلكم"، فهذا ضرب أمثال؛ ولهذا قال الله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الَّذين من قبلهم دمَّر الله عليهم وللكافرين أمثالها} [محمد: 10]. سيروا في الأرض انظروا ولا تظنوا أنكم سالمون من عذاب الله. ومن فوائد الحديث: أن العقوبات المقدرة شرعًا حد، ومعنى كونها حدًّا أنها لا يقصر عينها ولا تتجاوز، فمثلًا: لو أن رجلًا زنى وهو شريف وثبت زناه وأردنا إقامة الحد عليه فقلنا: هذا الرجل شريف نريد أن نقيم عليه الحد خمسين جلدة فقط، فلا يجوز حتى لو كان ضعيف البنية، إن كان ضعيف البنية نستعمل طريقًا آخر وهو {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث} [ص: 44]. كذلك أيضًا لو كثر الزنا في الناس، واراد انسان آن يستعمل ما استعمله عمر حين كثر الشرب من الناس فضاعف عليهم العقوبة فهل نفعل هذا؟ لا؛ لأن هذا حد، ومعنى حد أنه لا يقصر عنه ولا يتجاوز مهما أكثر الناس من الزنا، فلا نتعدى حتى ولو تكرر من الشخص نفسه، السرقة إذا تكررت أربع مرات فإنه يغلظ عليه، إذا سرق تقطع اليد اليمنى، ثم الرِّجل اليسرى، ثم اليد اليسرى، ثم الرِّجل اليمنى، حتى يبقى من غير يدين ولا رجلين، وفي الحديث: "إن سرق بعد ذلك فاقتلوه"، لكن قال بعض العامة - لما سمع هذا الحديث -: بأي شيء يسرق؟ نقول: ممكن، لكن الزنا لو تكرر منه ليس له إلا الجلد ما دام غير محصن. ومن فوائد الحديث - في الوجه الآخر الذي أخرجه مسلم -: بيان كيد النساء، كيف ذلك؟ أنها بدل أن تسطو على الناس في بيوتهم تستعير المتاع وتجحده، وهذا بمعنى السطو، لكته سطو مؤدب. ومن فوائد ألحديث: جواز الاستعارة، يعني: لا غضاضة عليك إذا استعرت من إنسان شيئًا، ولا يعد هذا من المسألة المذمومة، لكن كلما استغنى الإنسان عن الخلق، ولاسيما في عهدنا وعصرنا فإنه أولى؛ لأن الناس اليوم لا يهتمون إذا حصل أدنى شيء وهو أن يمنَّ عليك بما أعطاك من قبل حتى ولو كان يريد به الأجر، لهذا مهما استغنيت عن الناس فافعل، وكان مما بايع النبي صلى الله عليه وسلم ألَّا يسألوا الناس شيئًا، حتى إن الرجل تسقط عصاه وهو على راحلته فينزل فقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية دروعًا، وما زال المسلمون يستعيرون.

المختلس والمنتهب

ومن فوائد الحديث: وجوب قطع اليد بجحد العارية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد المرأة. ومن فوائد الحديث: جواز استتابة الغير في إقامة الحد؛ يعني: يجوز للإمام الذي يتولى إقامة الحدود أن ينيب غيره في إقامة الحد لقوله: "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ... إلخ". فإن قال قائل: هل الأولى أن يأمر الإمام بقطع اليد، أو أن يباشر القطع بيده؟ حسب المصلحة إذا كان من المصلحة أنه إذا تولى بنفسه قطع يد السارق كان أعظم شأنًا وأشد على الناس فليفعل، وله في ذلك أجر، لأن إقامة الحدود قيام بفريضة من فرائض الله يثاب عليه الإنسان ثواب الفريضة. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للإمام إذا وكل أحدا في إقامة الحد أن يتغيب؛ لأن الظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحضر. فإذا قال قائل: هل يقاس على العارية جحد ما سواها من الأمانات كجحد الشيء المستأجر وجحد الوديعة؟ فالجواب: لا قياس؛ لأنه لا يمكن أن تتحقق العلة التي ثبت بها قطع يد المستعير في أي صورة أو في أي مسألة من مسائل الجحد، ومن شرط القياس أن يتساوى الأصل والفرع في العلة، فلنأت أولًا إلى الوديعة مثل أن نعطي لشخص دراهم أو سيارة نقول خذ هذه عندك إلى حين، هذه لا يمكن أن نقيسها على العارية؛ لأن قابض العارية قبضها لمصلحتها والمودع لمصلحة المعطي، الإجارة لو أن الإنسان استأجر شيئًا ثم جاء مالكه وقال: أعطني ملكي، قال: لا أعطيك أبدًا ليس لك، لا يمكن أن يقاس على العارية؛ لأن المستأجر قبضها لمصلحة مالكها وهي الأجرة، الرهن كذلك، يعني: إنسان أعطى شخصًا شيئًا رهنًا عنده هذا قبضه المرتهن لمصلحته، فبينهما فرق؛ يعني: لا يمكن أن تساوي العارية من جميع الأمانات؛ ولهذا لا يصح أن نقيس هذا بالأمانات التي لا يقطع من جحدها؛ لأن بعض العلماء - رحمهم الله - قالوا: لا يمكن أن نقطع جاحد العارية، كما أنه لا يمكن أن نقطع جاحد الوديعة، قلنا: هذا قياس مع الفارق فيعتبر قياسًا فاسدًا. المختلس والمنتهب: 1184 - وعن جابر رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خائنٍ ولا منتهبٍ، ولا مختلسٍ قطعٌ". رواه أحمد والأربعة، وصحَّحه التِّرمذيُّ، وابن حبَّان.

هذا الحديث أتى به المؤلف رحمه الله بعد العارية لأحد احتمالين: إما أنه يريد أن يضعف الوجه الثاني في صحيح مسلم وهو أن المرأة قطعت يدها لجحدها العارية، وإما أنه يريد الفرق بين جحد العارية وهذه الصور الثلاث، وهذا هو الأقرب. قوله: "ليس على خائن"، الخائن: هو الذي يغدر بك عند الائتمان، ومن غدر بك في غير موضع الائتمان فليس بخائن؛ ولهذا صارت الخديعة مما يحمد عليه الإنسان في بعض الأحيان، ويذم عليها في بعض الأحيان، وأما الخيانة فهي مذمومة بكل حال، وانظر إلى قول الله تعالى: {إنَّ المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء: 142]. فذكر أن الله خادعهم؛ لأن الخديعة هي المكر في غير موضع الائتمان، وانظر إلى الخيانة فقد قال الله تعالى: {وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم} [الأنفال: 71]. ولم يقل: فخانهم، والفرق ظاهر أن الخيانة غدر في موضع الائتمان، وأما الخديعة فهي الغدر بالإنسان في غير موضع الائتمان؛ ولهذا جاء في الحديث: "الحرب خدعة"، ويذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراد أن يبارز عمرو بن ودّ فخرج إليه عمرو وخرج عليّ فصاح به علي وقال: ما خرجت لأبارز رجلين فظن عمرو أن وراءه أحد فالتفت فضربه على عنقه، الخديعة هنا في محلها تمامًا، لأن هذا الرجل جاء ليقتله، فغره بهذه الخديعة حتى قتله. فالحاصل: أن الخائن هو الغادر في محل الائتمان، ولهذا جاء في الحديث: "لا تخن من خانك"، حتى من جحد مالك وله عندك مال فلا تخته، مثال الخائن في الوديعة، ائتمنته على وديعة فخان. الثاني: مختلس المختلس: هو الذي يخطف الشئ ويمر به، وإن شئت فقال: هو الذي. يتحين غفلتك حتى يأخذ ما أراد، وهنا يكثر في السُّراق، يأتي اثنان إلى الدكان ويقول أحدهم لصاحب الدكان، كم هذه؟ فيتكلم معه بالمماكسة، والثاني يسرق ويمشي هذا نسميه مختلس، ويذكر أن رجلين في بلد عربي من السُّراق رأيا يهوديًّا قبل مسألة فلسطين فقال أحدهما للآخر: سنوقع هذا اليهودي قال: ماذا نعمل؟ قال: تقدم أنت ومعه بوك - الذي تحفظ به الدراهم - قال: اذهب أمامه وارم بالبوك، وعلى كل حال: الإنسان إذا سقط أمامه بوك إنسان يقول: يا فلان، خذ البوك، وقال: اجعل فيه دينارًا وندعي أن به مائة دينار، تقدم الرجل ورمى بالبوك وأخذه اليهودي فقال: خذ البوك، فقال: إنك لأمين وأثنى عليه خيرًا وفتح البوك، وقال:

اشتراط الحرز لوجوب القطع

لكن البوك كان فيه مائة دينار والآن ما فيه إلَّا دينار أين يا رجل النقود؟ فقال: أبدًا ما أخذت شيئًا فأمسكه وجاء الثاني فقال: لا أنا أشهد أن البوك هذا فيه مائة دينار، المهم حصل نزاع فذهبوا إلى القاضي الرجلان مدعيان واليهودي منكر ورأى القاضي أن اليهودي صادق؛ لأنه أقسم إقسامات عظيمة لا يقسم بها اليهودي إلَّا وهو صادق فقال القاضي: أروني البوك فوجد فيه الدينار قال: إذن البوك الذي سقط غير هذا اذهب فابحث هذا ليس لكما ما دام تقول: البوك فيه مائة دينار فهذا فيه دينار واحد فسقط في أيديهم وخسروا بوكهم ودعواهم، على كل حال: أن قصدي أن السراق لهم طرق منها الاختلاس. الثالث: المنتهب وهو الذي يأخذ الشئ على وجه الغنيمة يعنى: بدون مخادعة لصاحبه. فيؤخذ من هذا الحديث: أن السرقة لا بد أن تكون من حرز لا بالمخادعة بل محرزة، فيأتي السارق ويكسر الحرز ويسرق المال، وهذا هو الراجح من أقوال العلماء، وإن كان أهل الظاهر لا يرون اشتراط الحرز، لكن الصحيح أنه يشترط وسيأتي - إن شاء الله - في قصة رداء صفوان ما يدفع به حجة أهل الظاهر. إذن نقول: الخائن في جميع الأمانات لا تقطع يده إلَّا في العارية المختلس، والمنتهب لا تقطع يده؛ لأنه لم يسرق من حرز، ويدل لاشتراط الحرز قول المؤلف: اشتراط الحرز لوجوب القطع: 1185 - وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا قطع في ثمرٍ ولا كثرٍ". رواه المذكورون، وصحَّحه أيضًا التِّرمذيُّ، وابن حبَّان. يعني كالحديث السابق، المذكورون: أحمد والأربعة، والمصححون: الترمذي وابن حبان ولهذا قال: أيضًا، هذا يدل على اشتراط الحرز، "لا قطع في ثمر" أي: على الشجر سواء كان ثمر نخل وهو التمر أو ثمر عنب أو تين أو أي شيء لا قطع فيه؛ لأنه غير محرز بارز، كل الناس ممكن أن يأخذوا منه، "ولا كثر" وهو جمَّار النخل، جمار النخل يمكن سرقته على وجهين: الوجه الأول: أن يأتي السارق ويقطع القنو من أصله فيكون في أصله جمار. الوجه الثاني: النخلة نفسها ينقبها حتى يخرج جمارها من أصلها، أيهما أعظم ضررًا؟ الثاني، ومع ذلك لا يقطع لا على الثاني ولا على الأول، وسبب ذلك أنها غير محرزة.

ثبوت السرقة بالإقرار

حديث رافع يشترط أن يكون الإنسان قد سرقه من شجرة، أي: الثمر أو جمار من شجرة، أما إذا أخذ وأحرز فإنه كغيره من الأموال يقطع سارقه، وسيأتي في كلام المؤلف. ثبوت السرقة بالإقرار: 1186 - وعن أبي أميَّة رضي الله عنه قال: "أتي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بلصٍ قد اعترف اعترافًا، ولم يوجد معه متاعٌ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما إخالك سرقت؟ قال: بلى، فأعاد عليه مرَّتين أو ثلاثًا، فأمر به فقطع وجيء به، فقال: استغفر الله وتب إليه، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال: اللهمَّ تب عليه - ثلاثًا-". أخرجه أبو داود واللَّفظ له، وأحمد، والنِّسائيُّ، ورجاله ثقاتٌ. - وأخرجه الحاكم من حديت أبي هريرة، فساقه بمعناه، وقال فيه: "اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه" وأخرجه البزَّاز أيضًا، وقال: لا بأس بإسناده. اللص: هو السارق، وقوله: "اعترف" يعني: أقرَّ، "ولم يوجد معه متاع" أي: لم يوجد معه متاع يظن أنه سرقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما إخالك؟ " أي: ما أظنك سرقت، وقوله: "استغفر" أي: أطلب المغفرة من الله، والمغفرة: ستر الذنب مع التجاوز عنه؛ لأنها مشتقة من (المغفر)، وهو ما يوضع على الرأس من الحديد فهو ساتر واقٍ، ويدل لهذا المعنى أن الله سبحانه إذا قرر عبده يوم القيامة بذنوبه قال: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وهذا يدل على أن المغفرة ليست مجرد السرقة، "وتب إليه"، أي: ارجع إليه من معصيته إلى طاعته فقال الرجل: "أستغفر الله"، يعني: أسأل الله المغفرة، "وأتوب إليه" أرجع إليه من معصيته إلى طاعته، فقال: "اللهم تب" عليه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم تب عليه اللهم تب عليه اللهم تب عليه". ففي هذا الحديث: دليل على أن حد السرقة يثبت بالإقرار، وهذا يعتبر فردًا من قاعدة جاءت في كتاب الله، وهي قوله تعالى: {يا أيها الَّذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135]. فقوله: {ولو على أنفسكم} [النساء: 135]. هذا هو الإقرار أن يشهد الإنسان على نفسه بما فعل، واختلف العلماء" - رحمهم الله - هل يشترط تكرار الإقرار أو لا؟ فقيل: إنه يشترط؛ وذلك لأن السرقة لا تثبت على القاعدة المعروفة عند أكثر العلماء إلَّا بشاهدين عدلين، فلا تثبت

بشاهد واليمين ولا بشهادة امرأتين، ولا بشهادة رجل وامرأتين إلَّا أنه إذا أتى المسروق منه بشهادة رجل وامرأتين ثبت ماله دون القطع؛ وذلك لأن الحدود - على قاعدة هؤلاء العلماء - لا تثبت بشهادة النساء يختص بالشهادة فيها الرجل فقط، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يشترط تكرار الإقرار، وإن الإنسان إذا اعترف وهو بالغ عاقل مختار ولو مرة واحدة ثبت الحكم، وهذا القول هو الراجح، وقد سبق لنا هذا البحث في الإقرار بالزنا، وبينَّا أن الصواب أنه إذا أعترف الإنسان وهو بالغ عاقل مختار ثبت مقتضى إقراره. ومن فوائد الحديث: التعريض للمقر بالرجوع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما إخالك سرقت" أي: ما أظنك، وهذا تعريض له بالرجوع، يعني: ليقول: نعم أنا على ما ظننت يا رسول الله، واختلف العلماء في هذه المسألة هل يسن للحاكم أن يعرض بالرجوع عن الإقرار؟ فمن العلماء من قال: إنه يسن أن يعرض بالرجوع عن الإقرار، وأنه إذا رجع عن إقراره ارتفع عنه الحد؛ لأن هذا هو فائدة التعبير بالرجوع عن الإقرار، وقال بعض العلماء: لا يسن ذلك وهذا هو الصحيح أنه لا يسن إلَّا إذا كان هناك أحوال تقتضي أن يعرض له بذلك كهذا الحديث؛ لأن هذا الحديث اعترف الرجل بأنه سارق، لكن لم يوجد معه متاع، فيخشى أن يكون هذا الرجل ظن أن السرقة تثبت بكل قليل وكثير، أو أن السرقة تثبت بما دون ذلك، ومن المعلوم أن من السُّراق من يسرق ويعترف ويقول: هذا سرقته من البيت الفلاني من الحرز، فهل يمكن مثل هذا أن نعرض له بالرجوع؟ لا، ثم ينبني على القول بالتعريض بالرجوع لو رجع المقر فهل يقبل رجوعه، يعني: بعد أن أقر بالسرقة رجع، فهل نقبل رجوعه أو لا نقبل؟ اختلف العلماء في ذلك أيضًا؛ فمنهم من قال: إنه لا يقبل رجوعه مطلقًا؛ لأنه شهد على نفسه، ولو أننا قلنا بقبول رجوع المقر بما يقتضي الحد لم يثبت حد في الدنيا؛ لأن كل واحد يمكنه أن يرجع ويسلم من الحد، والاستدلال بقصة ماعز رضي الله عنه لا وجه له؛ لأن ماعزًا لم يرجع عن إقراره لم يكذب نفسه، وإنما هرب ليتوب، وفرق بين من يرجع بإقرار ويكذب نفسه ويلعب بالحكام، وبين إنسان ما زال على إقراره لكنه هرب ليتوب فيما بينه وبين الله، فالاستدلال ليس بوجيه، لكن هذا الحديث قد يؤخذ منه أن الإنسان إذا رجع عن إقراره قبل، لكن هذا إذا لم يكن هناك قرائن تقتضي تكذيب رجوعه، فمثلًا: لو أن السارق أقر بالسرقة وقال: سرقت المال الفلاني ووصفه كمًّا ونوعًا، وقال: سرقته من المكان الفلاني ووصف المكان بأنه حرز ووجد نفس المتاع الذي وصفه

عنده، فهل بعد ذلك يمكن أن تقول: بقبول رجوعه عن إقراره؟ هذا لا يمكن، وإن كان بعض العلماء يقول: يمكن، لأنه لعله اشتراه هذا لا يمكن أن يقبل رجوعه عن إقراره؛ لأن القرائن تكذب رجوعه وتمنع قبول رجوعه، وعلى هذا فيكون القول الراجح الوسط في هذا إذا وجدت قرائن تشهد بأن رجوعه ليس بصحيح فإن رجوعه لا يقبل، وإن لم توجد فإنه يقبل رجوعه، لكن لو رأى الحاكم أن يعزره بما يقتضي ألَّا يتلاعب بالحكام فله ذلك؛ لأن القضية سوف تعرض ويكون لها جلسة عند القاضي ومحضر وكتابة وبعد هذا كله يقول: أنا أكذب أقررت بالسرقة، ولكن أكذب كنت أريد أن أعرف ما عندكم، ولما علمت أن السكينة الباترة مهيأة لقطع يدي فأنا أكذب، هذا ربما نقبل رجوعه إذا لم يكن هناك قرينة تكذبه، وأما مع وجود القرينة فلا وجه لقبول رجوعه، ولا يمكن أن يكون هذا القول عمليًّا في أحوال الناس لاسيما مع كثرة السرقات. في هذا الحديث: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه أعاد عليه هذا القول عدة مرات؛ لأن حاله تقتضي ألَّا يكون سرق وذلك لعدم وجود متاعٍ معه. ومن فوائد الحديث: أنه يطلب من الإنسان بعد إقامة الحد أن يستغفر الله ويتوب إليه، يعني: ينبغي للقاضي أن يقول: استغفر الله وتب إليه، لجواز أن يعود مرة أخرى إلى الذنب. فإن قال قائل: أليس قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحدود كفارة للمعاصي؟ فالجواب: بلى ثبت ذلك، لكن هنا مما يزيد توبة الله علي، ثم إنها كفارة لما مضى، والاستغفار والتوبة عما مضى وعما يستقبل، لأن من شروط التوبة أن يعزم على ألَّا يعود في المستقبل. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا أمر شخصًا بالاستغفار والتوبة من أي ذنب كان أن يشرح صدره له وأن يشرح صدر التائب، فيدعو له بالتوبة، ويقول: اللهم اغفر له، اللهم تب عليه؛ لأن هذا مما ينشطه على الاستمرار في توبته. وفي رواية الحاكم قال: "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه الحسم" بمعنى: القطع، لكن القطع هنا غير القطع الذي سبقه، فإن قوله: "فاقطعوه" أي: اقطعوا يده "احسموه" أي: اقطعوا نزيف الدم، قال العلماء: وكيفية الحسم أن يغلى الزيت بالنار ثم يغمس طرف الذراع في الزيت وهو يغلي؛ لأن هذا يسد أفواه العروق؛ إذ لو بقيت أفواه العروق مفتوحة لنزف الدم ومات.

فيستفاد من هذا الحديث: وجوب حسم يد السارق. ولكن إذا قال قائل: هل يتعين الطريق الذي ذكره العلماء بأن يغلى الزيت ثم يغمس فيه طرف الذراع؟ الجواب: لا إذا وجد طريقة أخرى يمكن بها الحسم وهي أهون من هذا فإن الواجب اتباعها لقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة". فإن قيل: هل يجوز أن يبنج محل القطع حتى لا يحس به المقطوع؟ فالجواب: نعم يجوز ذلك، لأن المقصود هو إتلاف اليد وهو حاصل سواء بنج أم لم يبنج، فإن قال قائل: يرد عليكم أنه يجوز لمن أريد جلده أن يبنج. قلنا: لا، لا يرد هذا؛ لأن المقصود بالجلد هو الإيلام، ولا يحصل بالبنج، أما المقصود بقطع اليد فهو إتلاف اليد وهو حاصل بالبنج. فإن قال قائل: فهل تعدون ذلك إلى اليد المقطوعة قصاصًا؟ الجواب: لا، اليد المقطوعة قصاصًا لا يجوز أن تبنج، لأننا لو بنجناها لم يتم القصاص، إذ إن قطع المعتدي ليد المعتدى عليه حصل به الإتلاف والإيلام، فإذا بنِّج لم يتم القصاص، ما الذي يفوت من القصاص؟ الإيلام. وهذه المسائل ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها؛ لأن بعض الناس قد يقول: اليد باليد، قطعنا يد القاطع كما قطع هو يد المقطوع. قلنا: لكن الله تعالى يقول: {والجروح قصاصٌ} [المائدة: 45]. فلا بد من أن يذوق هذا ألم الجرح كما ذاقه المعتدى عليه. فإن قال قائل: الحسم يحتاج إلى نفقة، الزيت له قيمة، غليه له قيمة، وما يقوم مقام الزيت له قيمة، فعلى من تكون أعلى الذي أقيم عليه الحد أم في بيت المال؟ قلنا: الثاني تكون في بيت المال؛ لأن إقامة الحدود من واجبات ولي الأمر، وعلى هذا فتكون في بيت المال. فإن قيل: لماذا لا تكون على ولي الأمر؟ قلنا: لأن هذا ليس لمصلحة خاصة بل لمصلحة عامة، فيكون في بيت المال الذي هو عام للمسلمين. ويستفاد من الحديث: اطمئنان الصحابة - رضي الله عنهم - على إقامة الحدود وانشراح صدورهم لها، فهذا الرجل الذي قطعت يده ثم حسمت إذا تأملت القصة وجدت أنه طيب النفس منشرح لم يتضجر ولم يظهر السخط مما وقع، وذلك لأن قطعه كان بأمر الله ورسوله:

لا ضمان على السارق

{وما كان لمؤمنٍ ولا لمؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36]. والإنسان المؤمن حقًّا يجري أمر الله ورسوله على نفسه وإن كان في ذلك مرارة؛ لأنه يرى أن امتثال أمر الله خير من المرارة التي يحس بها. لا ضمان على السارق: 1187 - وعن عبد الرَّحمن بن عوفٍ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغرم السَّارق إذا أقيم عليه الحدُّ". رواه النِّسائيُّ، وبيَّن أنَّه منقطعٌ، وقال أبو حاتمٍ: هو منكرٌ. السارق حصل منه ثلاث مخالفات. المخالفة الأولى: أنه عصى الله ورسوله؛ لأن الله حرم أموال المسلمين كما أعلن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في موضعين: في عرفة وفي منى، قال: "إن دماءكم وأموالكم واعراض كم عليكم حرام". المخالفة الثانية: العدوان على الشخص الذي سرق منه، وذلك بالاستيلاء على ماله وحرمانه إياه. المخالفة الثالثة: اختلال الأمن - أمن الناس - بحيث لا يأمنون على أموالهم إذا كثر السراق، بل ربما لا يأمنون على أنفسهم؛ لأن السارق قد يكون معتديًا فيحمل السلاح ليقاوم به من يصده عن السرقة، هذه الأمور الثلاثة كل شيء يتعلق به حق، أما الحق الأول وهو حق الله، فإنه لا شك إذا قطعت اليد فقد استوفي منه حق الله يبقى علينا اعتداؤه على أموال الناس حق الآدمي. هذا الحديث يقول: "لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد"، لكن هذا الحديث منكر متنًا ومنقطع سندًا، ووجه إنكاره متنًا أنه مخالف للقواعد الشرعية؛ لأن حق الله شيء وحق المخلوق شيء آخر، فهو إذا قطعت يده ماذا يستفيد صاحب المال؟ لا شيء؛ يعني: لنفرض أنه سرق مليونًا من الدراهم راحت على صاحبها وأقيم على السارق الحد كيف يضيع حق صاحب المال، فهذا الحديث إذن منكر من جهة المتن، وهذه فائدة ينبغي لطالب العلم أن يتبه لها، إذا رأى بعض المتون المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفة لقواعد الشريعة العامة فليتأمل ولا يتعجل بنسبة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيجد أن هذا الحديث منكر، لأن قواعد الشريعة العامة قواعد كالجبال، ولا يمكن أن يأتي حديث نقله واحد من الناس فيخرم هذه القواعد لهذا يجب على طالب العلم إذا وجد حديثًا يخالف الأصول أن يتثبت، أنا لا أقول: يرده لأنه قد يكون هناك معنى لم نعقله نحن وجاء الحديث من أجله لكن يتثبت، إذا تثبتنا في

حكم الجمع بين الضمان والقطع

هذا الحديث وجدنا أنه مخالف للقواعد العامة في الشريعة، وهي أنه من أتلف على إنسان شيئًا بغير حق وجب عليه ضمانه. بقي علينا الشئ الثالث وهو الأمن، يمكن أن نقول: إن الأمن استوفى بقطع اليد؛ لأن هذا من أعظم ما يكون يمشي بين الناس مقطوع يده اليمنى، لماذا؟ يقال: لأنه سارق هذا أعظم ما يوفر الأمن، وبهذا نعرف حكمة الله عز وجل في وجوب قطع يد السارق: {نكالًا من الله والله عزيزٌ حكيمٌ} [المائدة: 38]. حكم الجمع بين الضمان والقطع: 1188 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص في رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه سئل عن التَّمر المعلَّق؟ فقال: من أصاب بفيه من ذي حاجةٍ، غير متَّخذٍ خبنةٍ، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيءٍ منه، فعليه الغرامة والعقوبة، ومن خرج بشيءٍ منه بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجنِّ فعليه القطع". أخرجه أبو داود، والنَّسائيُّ، وصحَّحه الحاكم. قوله: "المعلق" يعني: في شجره كما يوجد في النخل تمر، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم سواء معلق أو غير معلق على ثلاثة وجوه: الأول: من أصاب بفيه من ذي حاجة، غير ... إلخ. الثالث: أشدها ولذلك عظمت العقوبة فيه. في هذا الحديث فوائد منها: أن الإنسان إذا مر بشجر فيه ثمر فأكل منه بفيه فقط - يعني: أخذ يده ووضعها في فيه - فهذا لا شيء عليه، لكن بشرط ألَّا يحمل معه شيئًا، واشترط الفقهاء زيادة في ذلك فقالوا: يشترط في هذا التمر أن يكون في بستان ليس عليه حائط ولا ناظر؛ وذلك لأنه إذا سوِّر أو كان عليه ناظر كان هذا دليلًا على أن صاحبه غير راضٍ بالأكل منه، ولا يحل مال امرئ مسلم إلَّا بطيب نفس منه، {فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفسًا فكلوه هنيئًا مَّريئًا} [النساء: 4]. وهذا القيد الذي ذكره بعض العلماء قيدٌ لا بد منه؛ لأن جعل السور أو الشوك المنيع على هذا الحائط دليل واضح على أن صاحبه لا يريد أن يأخذ أحد منه شيئًا، لكن نخل على الطريق وليس عليه حائط ولا ناظر فلك أن تأكل، ولكن هل تأكل حتى تشبع أو بقدر الحاجة؟ ظاهر الحديث أنه مقيد بالحاجة، ولكن بعض العلماء أطلق وقال: له أن يأكل حتى يشبع وظاهر كلامهم ولو أنه له ذلك كان واسع البطن، المهم لا يحمل شيئًا منه.

ومن فوائد الحديث: ألَّا يأخذ من هذا التمر شيئًا يضعه في جيبه أو في طرف ردائه أو ما أشبه ذلك، لأن هذا متملك، والأول منتفع، الأول يريد أن يسد جوعته فقط، أما هذا فمتملك أخذه في جيبه أو في كمه أو في طرف ردائه فهذا حرام عليه، فإن فعل فعليه الغرامة والعقوبة، الغرامة لصاحب التمر، والعقوبة لحفظ الأمن إلى الإمام، ولكن العقوبة هذه قيل: إنها إضعاف القيمة عليه، فإذا كان الثمر الذي أخذه يساوي عشرة أضفنا إليها عشرة أخرى تكون لبيت المال وقال بعض العلماء: العقوبة تعزير يقدره القاضي، والصواب أن ينظر في ذلك لما هو أنكى وأمنع، قد يكون بعض الناس المال عنده غالٍ والقرش عنده أغلى من أن يضرب عشر مرات، وبعض الناس بالعكس لو أخذ منه الألف أو يضرب مرة واحدة لاختار الألف، فينظر القاضي لما هو أنكى وأمنع وأنفع. ومن فوائد الحديث: أن من العلماء من أخذ منه قاعدة وهي أن من سرق من غير حرز ضوعفت عليه القيمة فإنه لا يقطع؛ لأنه يشترط الحرز ولكن تضعف عليه القيمة، وهذا هو المعروف عند كثير من العلماء، وقيل: إنه خاص بالثمر والكثر، والأقرب أن يقال: من أخذ من غير حرز فعليه عقوبة إما إضعاف القيمة، وإما جلد نكال. ومن فوائد الحديث: اشتراط الحرز في المسروق لقوله: "ومن خرج بشيء منه بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع"، الجرين: مجمع الثمر، وذلك أن الثمار تجمع في مكان ما لتيبس وتنشف ثم تدخل في البيوت، لكن الآن صارت الآلات التي تنجزه بسرعة وليس فيه جرين، فكون إيواء المكان الذي فيه المكاين كإيواء الجرين. فإن قال قائل: الآية عامة {والسَّارق والسَّارقة فاقطعوا أيديهما}. قيل: إن صيغة العموم هنا الموصولية، وجه ذلك: أن "أل" الداخلة على المشتق اسم موصول، قال ابن مالك: *وصفةٌ صريحةٌ صلة أل * وعلى كل حال: نحن نقول: فيه عموم إما من الموصول وإما من كونه مفردًا محلًّى بـ "أل" التي ليست للعهد، أقول: إن قال قائل: اشتراط الحرز ينافي عموم الآية، قلنا: لكن هذه المنافاة - ليست من كل وجه، بل هي من بعض الوجوه، ما هي بعض الوجوه؟ أنه أخرج بعض أفراد العام من الحكم فهو من باب التخصيص، وتخصيص القرآن بالسُّنة جائز لا شك فيه؛ لأنه ليس رفعًا للحكم نهائيًّا، بل هو رفع للحكم عن بعض الأفراد وهذا هو التخصيص.

الشفاعة في الحدةد، ضوابطها

ومن فوائد الحديث: اشتراط النصاب في السرقة لقوله: "فبلغ ثمن المجن"، والمجن ثمنه ثلاثة دراهم، والدراهم تساوي في ذلك الوقت ربع دينار، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء هل الفضة والذهب كلاهما معتبر في نصاب السرقة أو الذهب فقط، والصواب أنه الذهب فقط، وأنها تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا ولا تقطع فيما دون ذلك، لكن كان الدينار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يساوي اثني عشر درهما فيكون ربعه ثلاثة دراهم. ومن فوائد الحديث: مطابقة أحكام الشريعة للحكمة، ووجهه: التفريق في الأحكام بين هذه الأحوال الثلاثة حيث جعل لكل حال حكمًا خاصًّا، ويتفرع على هذه الفائدة قاعدة عظيمة في الشريعة الإسلامية وهي: أنها لا تفرق بين متماثلين ولا تجمع بين مختلفين، لأنها من لدن حكيم خبير: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} [النساء: 82]. الشفاعة في الحدةد، ضوابطها: 1189 - وعن صفوان بن أميَّة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له لمَّا أمر بقطع الَّذي سرق رداءه، فشفع فيه: "هلَّا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟ ". أخرجه أحمد والأربعة، وصحَّحه ابن الجارود والحاكم. صفوان بن أمية يعني كان نائمًا في البطحاء، قيل: في بطحاء عارية، وقيل: في المسجد النبوي، وقيل: في المسجد الحرام، وهذا لا يوجب اضطراب الحديث؛ لأن المقصود منه لا اختلاف فيه، وهذه مرت علينا في مصطلح الحديث، أي: أن الاختلاف الذي ليس في أصل الحديث لا يعد اضطرابًا كاختلاف الناس في ثمن جمل جابر، واختلافهم فيما وجد في ثمن قلادة حديث فضالة بن عبيد. قوله: "سرق رداءه"، ما هو الرداء؟ الرداء: ما يستر به أعلى الجسد، وكان أكثر اللباس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو الإزار والرداء، وقد توسد صفوان رضي الله عنه رداءه فسرق الرداء فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم "فأمر بقطع يده"، "فأمر" الفاعل هو الرسول صلى الله عليه وسلم، "بقطع يد الذي سرق"، لكن خذفت اليد للعلم بها، وقد أصَّل ابن مالك رحمه الله في ألفيته أصلًا مفيدًا في قوله: وحذف ما يعلم جائزٌ كما ... نقول زيدٌ بعد من عندكما

وقوله: "سرق رداءه" الضمير يعود على صفوان بن أمية، "فشفع فيه" الفاعل: صفوان، والضمير في "فيه" يعود على السارق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلًا كان ذلك" أي: شفعك "قبل أن تأتيني به"، "هلا" أداة تحضيض، "ألا" أداة عرض، والعرض دون التحضيض، والتحضيض عرض بإلحاح، ويجوز أن تكون هنا - أعني: هلا بمعنى: لو أي: لو كان ذلك قبل أن تأتي به لقبلت، والقصة أن صفوان بن أمية كان نائمًا على ردائه إما في المسجد الحرام أو في المسجد النبوي أو في بطحاء من الأرض على اختلاف الروايات في ذلك، وربما يقول قائل: اختلاف الروايات على هذا الوجه يقتضي أن يكون الحديث مضطربا، واضطراب الحديث يقتضي ضعفه؛ لأنه يدل على أن الرواة لم يضبطوه، ولكن عند المحدثين قاعدة وهي: أنه إذا كان الاختلاف لا يتعلق بالحكم فإن ذلك لا يضر، لأنه لا يؤثر في أصل الحديث وحكم الحديث، ولذلك أمثلة منها اختلاف الرواة في ثمن القلادة في حديث فضالة بن عبيد، ومنها اختلاف الرواة في قدر ثمن جمل جابر، وهذا لا يؤثر لأنه لا يتعلق به حكم هذا أيضًا نفس الشيء؛ لأن المهم أن الرداء سرق من تحت رأسه وهو نائم سواء في المسجد النبوي أو في المسجد الحرام أو في بطحاء من الأرض، فلما سرق الرداء رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيء بالسارق واعترف فأمر النبي بقطع يده، فشفع فيه صاحب الرداء وهو صفوان، لأنه ظن أن الأمر لا يصل إلى حد القطع، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلا كان ذلك قبلي أن تأتيني به" يعني: ولو كان لأفادت الشفاعة. يستفاد من هذا الحديث فوائد من أهمها: أن الحرز يختلف باختلاف الأموال فرداء النائم حرزه أن يضعه تحت رأسه؛ لأن هذا هو العادي، فالوسادة تحت الرأس تعتبر في حرز؛ لأن هذا هو الذي جرت به العادة، ولو أن الإنسان توسد حفيظة دراهم -يعني: بوك دراهم - هل يعتبر هذا حرزًا؟ لا؛ لأن الدراهم لا تحفظ في مثل هذا، اللهم إلَّا أن يكون هناك قوة سلطان، فإن قوة السلطان تجعل ما ليس حرزًا تجعله حرزًا، يعني: في بعض الأحيان يكون أمير البلد أو السلطان الأكبر يكون حازمًا قويًا شديدًا فيكون الحرز في عهده أقل مما لو كان غير ذلك. ومن فوائد الحديث: أن وضع الرداء ومثله المشلح تحت الرأس توسُّدًا له يعتبر حرزًا. ومن فوائد الحديث: جواز الشفاعة في الحد قبل أن يصل إلى السلطان، ومن هو السلطان هل هو المحقق أو الحاكم أو المنفذ في عهدنا الآن ثلاث جهات: جهات تحقق وهي الشرطة، وجهات تحكم وهو القاضي، وجهات تنفذ وهي الإمارة، فأيها يعتبر سلطانًا؟ الظاهر لي الأخير أن الأمير هو المنفذ. فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حاكم؟

الشبهة أنواعها وشروط انتفائها

قلنا: نعم، هو حاكم وهو محقق وهو منفذ، الرسول صلى الله عليه وسلم ليس في عهده من يحقق أولًا ثم ترفع للمحكمة فتحكم ثم تأتي إلى الإمارة فتنفذ ليس موجودا، وعلى هذا فقد اجتمعت الولايات الثلاث في حق النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: بيان أن الأردية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت غالية رفيعة الثمن حملًا لهذا الحديث على أن الرداء يبلغ النصاب، ومن قال: إن النصاب ليس بشرط أستدل بهذا الحديث قال: لأن الرداء في الغالب لا يساوي هذه القيمة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لدينا قاعدة معلومة للأكثر وهي حمل المتشابه على المحكم، فلدينا نصوص محكمة تدل على أنه لا قطع في أقل من ربع دينار فتحمل هله الأحاديث المشتبهة على هذا الحديث البيِّن الواضح. 1190 - وعن جابرٍ رضي الله عنه قال: جيء بسارقٍ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: "اقتلوه، فقالوا: إنَّما سرق يا رسول الله، قال: اقطعوه فقطع، ثمَّ جيء به الثَّانية، فقال: اقتلوه، فذكر مثله، ثمَّ جيء به الرَّابعة كذلك، ثمَّ جيء به الخامسة فقال: اقتلوه". أخرجه أبو داود، والنِّسائيُّ، واستنكره. - وأخرج من حديث الحارث بن حاطبٍ تخوه، وذكر الشَّافعيُّ أنَّ القتل في الخامسة منسوخٌ. قوله: "استنكره" يعني: قال: إنه منكر، وهو جدير بأن يكون منكرًا؛ لأنه يبعد جدًّا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بقتله دون أن يتحقق موجب القتل هذا من أبعد ما يكون، ولهذا نعتبر هذا الحديث منكرًا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان كذلك فلا حاجة إلى الكلام عليه ولا إلى بيان فوائده لأن المبني على الباطل باطل. وقوله: "وأخرج من حديث الحارث ... إلخ"، نقول: لا نفرح حتى يثبت وإذا لم يثبت، فلا حاجة لدعوى النسخ. الشبهة أنواعها وشروط انتفائها: وبهذا انتهي الكلام على حد السرقة، وبقي هناك شروط ذكرها الفقهاء وهي انتفاء الشبهة، ولكن الشبهة على أنواع: شبهة قريبة، وشبهة بعيدة، وشبهة بين ذلك، فأما الشبهة القريبة فنعم ينبغي أن يرفع القطع عن السارق، ومن ذلك عام المجاعة؛ أي: إذا لحق الناس مجاعة عامة

وسرق أحد من الناس سرقة لحفظ حياته فإن هذا لا يقطع، وقد رفع ذلك أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في زمن المجاعة؛ لأن الشبهة هنا قوية وهي أن هذا السارق مضطر، والمضطر يجب على من علم بحاله أن ينقذه، فهو يقول: سواء علم بي صاحب المال أم لم يعلم لا بد أن يبذل لي من ماله ما تقوم به حياتي، أما إذا ادعى السارق أنه جائع وقال: لو لم أسرق لمت فهل يرتفع القطع عنه؟ لا؛ لأن هذا ليس مجاعة عامة، ولو أننا صدقنا مثل هذا لكان كل سارق يقول: إنه مضطر. السرقة من مال من تجب نفقته هل فيها شبهة: نعم، فيها شبهة، فهذا رجل فقير عنده أخ غني يجب عليه أن ينفق على هذا الفقير، فسرق منه الفقير فقال: أنا سرقت منه؛ لأنه لم ينفق علي النفقة، فهذه لا شك أنها شبهة، ولكن نقول لهذا السارق: بدلًا من أن تسرق خذ من ماله - إذا قدرت عليه - ما يكفيك؛ لأنه يجوز لمن تجب نفقته على شخص ولم ينفق عليه أن يأخذ من ماله بغير علمه بقدر النفقة، أفتى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم هند بنت عتبة حين جاءت تشكو زوجها أبا سفيان بأنه رجل شحيح لا يعطيها ما يكفيها فقال: "خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف". هل سرقة الزوج من مال زوجته يقطع؟ الفقهاء يقولون: هذه شبهة؛ لأن العادة جرت بأن الزوج يتبسط بمال زوجته وكذلك العكس، مع أن الزوجة إذا سرقت فلها شبهتان الشبهة الأولى: وجوب النفقة، والثانية: البسط بمال الزوج. فإذا قال الإنسان: يوجد امرأة لا تريد أن يأخذ زوجها منها ولا فلسًا ولا ترضى أن يتبسط بمالها فهل تقطعونه إذا سرق من مثل هذه الزوجة؟ نقول: النادر لا حكم له والعبرة بالأكثر، أكثر النساء قد يطيب لها أن يأخذ زوجها من مالها سرقة أو نهبًا وترى هذا من كمال المودة، وكذلك بالعكس هذا هو الغالب، وإذا وجدت حالات نادرة فالنادر لا حكم له، إذا ثبت القطع فمن الذي يقطع المسروق منه أم أولو الأمر؟ الثاني؛ لأنهم هم الذين توجه إليهم مثل هذه الخطابات إقامة الحدود وما أشبه ذلك، إذا كان عبدًا فهل يقطعه سيده أم ولي الأمر العام؟ الثاني، والسيد لا يقطعه، ولهذا لم يرخص الفقهاء للأسياد أن يقيموا الحدود على مماليكهم إلَّا في الجلد فقط وأما القطع فلا، ثم إن هناك محظورًا آخر نقول للسيد إذا قطع يد عبده السارق ربما نقول إنه يعتق عليه؛ لأن التمثيل بالعبد يوجب العتق، لكن يدفع هذا الإيراد بأن هذا ليس قصده التمثيل، وإنما قصده التأديب. وما معنى قولنا: إذا مثل بعبده عتق؟ يعني: لو قطع أنملة من أصابعه عتق، ولو قطع ظفرًا من أظفاره لم يعتق؛ لأن الظفر في حكم المفصل، ولو قطعه خطأ فظاهر التعليل أنه لا يعتق؛

4 - باب حد الشارب وبيان المسكر

لأنه لم يقصد التمثيل، ولكن لو أن القاضي حكم بعتقه سدًّا للباب، لئلَّا يدَّعى كل سيد أنه قطعه خطأ، وعلى هذا يفرق بين ما علما يقينا أنه خطأ وما شككنا فيه. * * * 4 - باب حدِّ الشَّارب وبيان المسكر "الشارب" يعني: للخمر، و"بيان المسكر"، ما هو؟ وليعلم أن الخمر ما خامر العقل؛ أي: غطى العقل حتى لا يكون عند الإنسان إحساس عقلي، وإن كان يشعر بالألم لو ضرب لكنه ليس له إحساس عقلي، لكن يضاف إلى ذلك أنه غطى العقل على سبيل اللذة والطرب ليخرج بذلك البنج وشبهه فإنه لا يكون مسكرًا، فلا بد أن يكون هناك لذة وطرب؛ لأن قوة اللذة والطرب هي التي تجعل هذا الإنسان يفقد عقله حتى يكون كالمجنون، وحكم شرب الخمر أنه من كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم توعد عليه بأن من شربه في الدنيا لم يشربه في الآخرة، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر فهو من كبائر الذنوب، وهو مفتاح كل شر وأم الخبائث، وكم من شرور حصلت من أجل السكر، حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان الخمر مباحًا حصل منه مفاسد كثيرة، ومن ذلك ما حصل لحمزة بن عبد الطلب أفضل أعمام الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان شاربا ذات يوم وعنده جارية تغنيه، فمر ناضحان لعلي بن أبي طالب بعيران يسقى عليهما فغنته هذه الجارية وقالت: * ألَّا يا حمز للشُّرف النُّواء * فأخذ السيف وجب أسنمتهما وشق بطونهما وأكل من أكبادهما وهو سكران لا يدري ماذا صنع، فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمزة فرآه قد ثمل يعني: سكران فلما كلمه قال له حمزة: هل أنتم إلَّا عبيد أبي استحقارًا واستخفافًا فتراجع النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الكلمة لو جاءت من عاقل لكانت كفرا لكنها من إنسان غير عاقل، ولهذا كان القول الراجح في السكران أن جميع أقواله غير معتبرة لا عقوده ولا فسوقه، كل شيء من أقواله غير معتبر فلو أن السكران: قال نسائي طوالق وعبيدي أحرار وعقاراتي أوقاف فإنه لا ينفذ شيء من ذلك؛ لأنه غير عاقل لا يدري ما يقول كما قال تعالى: {يا أيُّها الَّذين لا تقربوا الصَّلاة وأنتم سكارى حتَّى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43]. فالسُّكر يؤدي إلى مفاسد عظيمة وقرأت

عقوبة شارب الخمر

قديمًا في مجلة من غير هذه البلاد أن شابًّا دخل على أمه في الساعة الواحدة ليلًا وهو سكران فراودها عن نفسها وأبت عليه، فأخذ السكين وقال: إن لم تفعلي فسأنتحر فأدركتها الشفقة فمكنته من نفسها ثم انصرف وذهب إلى غرفة نومه، وفي الصباح أحس بشيء فأتى إلى أمه، وقال: ماذا فعلت البارحة؟ قالت: لم تفعل شيئًا، فأصر عليها فأخبرته، فأخذ دلوًا من البنزين أو الغاز وذهب إلى الحمام وصبها على نفسه، ثم أحرق نفسه فصار هذا فعل جنايات شرب الخمر والزنا بأمه وقتل النفس وأشياء كثيرة تذكر عن السكارى، ولهذا صارت تسمى أمّ الخبائث ومفتاح كل شر، تبين الآن أنها حرام، وماذا يجب على الإمام أن يعامل من شرب المسكر؟ بينه في الحديث الآتي: عقوبة شارب الخمر: 1191 - عن أنسٍ بن مالكٍ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أتي برجلٍ قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكرٍ، فلمَّا كان عمر استشار النَّاس، فقال عبد الرَّحمن بن عوفٍ: أخفُّ الحدود ثمانون، فأمر به عمر". متَّفقٌ عليه. هذا رجل ولم يذكر اسمه ولا حاجة إلى تعيين اسمه؛ لأن المقصود هو الحكم، أما كون الفاعل فلانًا أو فلانًا هذا لا يهمنا، وقوله: "شرب الخمر" سبق معنى الخمر، "فجلده" يعني: أمر بجلده، ولهذا قام الصحابة يجلدونه، وقوله: "نحو أربعين"، كلمة "نحو" تدل على أنها ليست حدًّا مؤكدًا، إذ لو كانت حدًّا مؤكدًا القال: جلده أربعين، قال: "وفعله أبو بكر" يعني: أنه جلد في الخمر نحو أربعين. "فلما كان عمر استشار الناس" أي: طلب منهم المشورة، والمشورة: هي إبداء الرأي في الأمور المشكلة، وكان من عادة عمر رضي الله عنه على ما عنده من الإلهام الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "إن يكن فيكم تحدثون فعمر"، كان رضي الله عنه لا يستقل برأيه يستشير الصحابة وله في ذلك مقامات كثيرة، استشار الصحابة؛ لأن الناس كثر فيهم شرب الخمر بواسطة ما أنعم الله عليهم به من الفتوح واختلاط الأنباط بهم، فكثر فيهم شرب الخمر، فاستشار الصحابة ماذا يصنع، فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون، ويعنى بذلك: حد القذف لقول الله تعالى: {والَّذين يرمون المحصنات ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً} [النور: 4]. فأمر به عمر يعني أمر بحد القذف أن يجلد الشارب، فزادت العقوبة نحو الصعف أو أكثر، فنفذه عمر رضي الله عنه بعد أن استشار الصحابة - رضي الله عنهم-.

في هذا الحديث فوائد: منها: أن وقوع مثل هذه المنكرات لا يستغرب؛ لأنه وقع في عهد الصحابة وفي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم السرقة وجدت الزنا وجد، شرب الخمر وجد في خير القرون وأفضل العهود في قرن الصحابة وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والإسلام طري النفوس مقبلة عليه شغوفة به متمسكة به، ومع ذلك يقع من أفراد الناس مثل هذا، فلا تستغرب إذا وقع في عصرك وأنت في القرن الخامس عشر مثل هذه الأشياء مع بعد الفرق بين ذاك الزمن وهذا الزمن، وبين أولئك الناس وهؤلاء الناس، وبين الكثرة والقلة، كان الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مائة وأربع وعشرون ألفًا، الآن كم عدد المسلمين؟ مليار، فإذا قدر أنه زنى منهم ألف الألف نسبته إلى المليار قليلة جدًّا فعلى هذا نقول: لا يلحقك همٌّ أو غم إذا رأيت شيئًا من المنكرات في عهدك، ولكن هذا لا يمنعك من أن تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر. ومن فوائد الحديث: يطلب إخفاء الفاعل إذا لم تلاع الحاجة إلى بياته وتعيينه من قوله: "شرب رجل" ولم يعينه. ومن فوائد الحديث: نسبة الشيء إلى الآمر به لقوله: "فجلده نحو أربعين". ومن فوائد هذا الحديث: أن عقوبة شارب الخمر ليست بحد لقوله: "نحو أربعين"، ولأن عمر زادها والحد لا يمكن أن يزاد، ولهذا لو كثر الزنا في غير المحصنين فهل لنا أن نزيد على مائة جلدة؟ لا، ولو كانت عقوبة شارب الخمر حدًّا ما زاد عمر عليها. الوجه الثالث: أن عبد الرحمن بن عوف قال: أخف الحدود ثمانون، قالها بمحضر الصحابة ولم ينكر عليه أحد، ولو كانت عقوبة شارب الخمر حلًا لكان أخف الحدود أربعين، وهذا القول هو الذي تبين لي من السُّنة أن عقوبة شارب الخمر ليست حدًّا، ولكن يمكن أن نقول: إنها حد أدنى، بمعني: ألَّا ننقص عن أربعين، أما الزيادة على أربعين إلى ثمانين أو عن ثمانين إلى مائة وعشرين فهذا لا بأس به، إذا كان الناس لا يرتدعون بدونه. ومن فوائد ألحديث: أنه في عهد أبي بكر رضي الله عنه كان الناس قريبين من عهد النبوة والمعاصي فيهم قليلة وتوسع الفتوحات كان قليلًا؛ لأن عهد أبي بكر سنتين وخمسة أشهر تقريبًا. ومن فوائد الحديث: مشروعية الاستشارة حتى وإن كان الإنسان ذا عقل ومشورة. شاور سواك إذا نابتك نائبةٌ ... يومًا وإن كنت من أهل المشورات المرع قليل بنفسه كثير بإخوانه، وإذا كان عمر رضي الله عنه - هو من هو - يستشير الصحابة فمن دونه - من باب أولى، ولكن هل نستشير في كل شيء؛ بمعنى: إذا عرض للحاكم مسألة يجمع الناس

إليها ليستشيرهم أو لا يستشير إلَّا فيما تدعو الحاجة إلى الاستشارة فيه؟ الثاني هو المقصود أنك لا تستشير إلَّا في أمور تدعو الحاجة إلى الاستشارة فيها، وهل يستشير الإنسان في أموره الخاصة أو لا يستشير إلَّا في الأمور العامة؟ الأول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استشار في شأن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك، فالإنسان يستشير في أموره الخاصة ويستشير في الأمور العامة، ولكن يشترط في المستشار أن يكون أمينا وأن يكون ذا رأي، وهل يشترط أن يكون قريبًا؟ لا؛ لا بد أن يكون أمينًا لا تستشر إلَّا إنسانًا أمينًا يحب لك ما يحب لنفسه، الثاني: أن يكون ذا رأي، لأن من ليس له رأي لا تستفيد منه كثير من الناس إذا استشرته في شيء يقول: كله زين، ويقول العامة: إذا أردت أن تحيره فخيره، فلا بد أن يكون ذا رأي، هل يشترط أن يكون ذا دين، أو نقول: إن قولنا أمين يكفي؟ الثاني، إذا كان أمينا فالأمانة لا تكون إلَّا [ممن عنده] دين، وإذا استشرت فهل تستسلم لما يقول أو تناقشه؟ الثاني، تناقشه حتى يستبين الأمر؛ لأنه قد يشير عليك بما يرى انه مصلحة لكنه لا يدري ما وراء ذلك مما هو عندك أنت فلا حرج أن تناقشه، قد يغضب بعض الناس يقول: كيف تستشيرني ثم تجادلني ماذا تقول له؟ تقول: أنا ما جادلتك اعتراضًا لكن جادلتك لأجل أن يتبين الأمر حتى أعرف؛ لأن الإنسان قد يبدو له شيء وتغيب عنه موانعه، فإذا وجد من يعارضه تبين تمامًا. ومن فوائد الحديث: تواضع عمر رضي الله عنه، وبه نضع شجن في حلوق الذين يقولون: إن عمر رجل مستبد. بقي علينا بحث: هل الخمر نجس أو لا؟ أكثر العلماء على أن الخمر نجس نجاسة حسية وأنه كالبول والغائط في تنجيس الثياب والأراضي وغيرها، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {يا أيُّها الَّذين ءامنوا إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسُ من عمل الشَّيطان فاجتنبوه لعلَّكم تفلحون} واستدلوا بأنه حرام، ولا يحرم الله إلَّا الخبيث، والخبيث نجس، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخمر ليست بنجسة نجاسة حسية، واستدلوا لذلك بدليل إيجابي، ودليل سلبي، أما الدليل الإيجابي فقالوا: إن الخمر حين حرمت أراقها الناس في الأسواق ولم يؤمروا بغسل الأواني، وهذا يدل على أنها طاهرة إذ لو كانت نجسة لأمروا بغسل الأواني كما أمر الناس حين حرمت الحمر أن يغسلوا الأواني بعدها. ثانيًا: أن الصحابة أراقوا الخمر حين حرمت بأسواق المدينة، ولو كانت نجسة ما أراقوها في الأسواق؛ لأنه لا يحل للإنسان أن يضع في أسواق المسلمين ما يكون نجسًا؛ ولهذا حرم البول والغائط في الطرقات. ثالثًا: أن رجلًا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راوية من خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها حرمت،

فتكلم أحد الصحابة مع الرجل سرًّا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بما ساررته؟ قال: قلت: بعها، فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن ثمنها حرام، ثم فتح الرجل فم الراوية وأراق الخمر الذي فيها ولم يمنعه الرسول صلى الله عليه وسلم من إراقته لما كان قريبًا من مجلسه، وقد يكون هذا في المسجد ثم لم يأمر أن يغسل الراوية، وهذا يدل على طهارة الخمر، أما الدليل السلبي فنقول: الأصل في الأشياء الطهارة، فمن ادعى نجاسة أي عين من الأعيان طولب بالدليل، وقد علمتم للقائلين بأنه نجس دليلًا من القرآن وهو قوله تعالى: {با أيُّها الَّذين ءامنوا إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان} [المائدة: 90]. والجواب عن الآية أن المراد بالرجسية هنا رجسية العمل؛ لأنه قال: {رجسٌ من عمل الشيطان}، ولأن قوله: {رجسٌ}، خبر عن أربعة أشياء: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، والخبر حكم على المخبر عنه، وإذا كان بالإجماع أن ثلاثة من هذه الأربعة ليست نجسة نجاسة حسية لزم أن يكون الرابع مثلها لا فرق، وعلى هذا فيكون الدفع، أي: دفع من قال بالنجاسة واستدل بهذه الآية قالوا: وهو محرم؛ أي: الخمر، قلنا: وليكن محرمًا ولا شك في ذلك، لكن هل يلزم من تحريم الشيء أن يكون نجسًا؟ لا يلزم فها هو السُّم حرام وليس. بنجس، والدخان مثلًا حرام وليس بنجس، وبهذه الأدلة يتبين أن الخمر ليس بنجس، ويبنى على هذا ما أبتلي به الناس اليوم من أن بعد الأطياب تحمل كحولًا بنسبة كبيرة فهل يجوز أن يتطيب بها الإنسان، وهل إذا تطيب بها تكون ثيابه نجسة هذان سؤالان؟ أما الأول فنقول: الأولى ألَّا يتطيب بها؛ لأنه لا ضرورة إلى ذلك إذ إنّ هناك أطيابًا طيبة خالية من هذه المادة، والشيء الثاني: أنها من الأمور المشتبهة لقول الله تعالى: {إنَّما يريد الشَّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدَّكم عن ذكر الله وع الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]. وهذا يكون فيما إذا شربه، أما إذا تطيب به أو ادَّهن به فلا يحصل ذلك بلا شك، وعلى هذا فيبقى التطيب من الأمور المشتبهة، والأمور المشتبهة القاعدة فيها أنها تبيحها الحاجة، فإذا احتاج الإنسان إلى استعمال هذه الكحول لتعقيم جرح أو غير ذلك فهذا جائز ولا ريب فيه، حتى وإن كان فيها مادة كحول كثير لأنها حاجة، والتحريم فيه اشتباه، ولا يمكن أن نمنع ما كان فيه الاشتباه مع أن الأصل الحل، فإذا احتاج الإنسان إلى استعمال هذه الأشياء لتعقيم جرح أو ما أشبه ذلك فلا بأس. * * *

1192 - ولمسلمٍ: عن عليٍّ رضي الله عنه في قصَّة الوليد بن عقبة: "جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكلٌّ سنّةٌه، وهذا أحبُّ إليَّ. وفي هذا الحديث: "أنَّ رجلًا شهد عليه أنَّه رآه يتقيَّأ الخمر، فقال عثمان: إنَّه لم يتقيَّأها حتَّى شربها". قوله: "هذا أحب إليَّ"، "هذا" المشار إليه الثمانون؛ لأن الإشارة والضمير يعودان إلى أقرب مذكور، وإنما كان أحب إلى علي رضي الله عنه لما فيه من النكال والعقوبة، وفي الحديث - يعني: نفسه - الذي عند مسلم وقوله: "إنه لم يتقيأها حتى شربها" هذا معلوم. ففي هذا الحديث فوائد منها: أنه يجوز الاقتصار على أربعين في شرب الخمر؛ لقول عليّ: "وكل سنَّة"، وتجاوز الزيادة على الأربعين؛ لأن علي يقول: "إنه سنة" الأول - أعني: الأربعين - سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وأول خلافة عمر، والثاني سنة عمر رضي الله عنه وقول علي: "كل سنة" يعني: كل سنة يجوز العمل بها. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي التغليظ في العقوبة كلما تتابع الناس في المعصية لقول علي: "وهذا أحب إلي". ومن فوائد الحديث: جواز إقامة عقوبة شرب الخمر لمن تقيأ الخمر، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إن من تقيا الخمر وجبت عقوبته كالمرأة إذا حملت يجب أن تحد ما لم تدعي شبهة، وهذا الذي تقيأ الخمر يجب أن يعاقب بعقوبة شرب الخمر ما لم يدَّع شبهة، وهذا القول هو الراجح وهو الصحيح، وهو قول عثمان رضي الله عنه، وعلله بتعليل معقول صحيح، وهو أنه لم يتقيأها حتى شربها؛ لأنه من أين دخلت ليس هناك طريق إلَّا الفم وهذا هو الشرب، وقال بعض العلماء: إنه لا يحد إذا تقياها لاحتمال أن يكون شربها جاهلًا أو مكرهًا أو ما أشبه ذلك، نقول: هذا الاحتمال وارد حتى فيمن شربها يحتمل أنه مكره أو أنه جاهل يحسب أن هذا شراب عادي، نعم لو أن الذي تقيأها ادعى أنه لم يعلم ولما علم تقيأها لقلنا: إنه لا تجب عقوبته لأنه جاهل، فإذا لم يدَّع شبهة فإن الأصل كما قال عثمان رضي الله عنه: "أنه لم يتقيأها حتى شربها". 1193 - وعن معاوية رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في شارب الخمر: "إذا شرب فاجلدوه، ثمَّ إذا شرب الثَّالثة فاجلدوه، ثمَّ إذا شرب الرَّابعة فاضربوا عنقه". أخرجه أحمد وهذا لفظه، والأربعة.

تجنب الضرب على الوجه

وذكر التِّرمذيُّ ما يدلُّ على أنَّه منسوخٌ، وأخرج ذلك أبو داود صريحًا عن الزُّهري. قوله: "اضربوا عنقه"، يعني: اقتلوه، ووجه ذلك: أن هذا الرجل الذي أقيم عليه الحد ثلاث مرات ولم تصلح حاله قد أيس من صلاح حاله، وإذا أيس من صلاح حاله فالأحسن أن يعدم حتى لا يزداد إثمًا ببقائه: "فإن شر الناس من طال عمره وساء عمله". وهذا الحديث اختلف العلماء في العمل به فقال المؤلف رحمه الله: "ذكر الترمذي ما يدل على أنه منسوخ وأخرج ذلك أبو داود صريحًا عن الزهري، وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء، أن هذا الحديث منسوخ، وأن شرب الخمر لا يبيح القتل لا في الرابعة، ولا في الخامسة ولا في العاشرة، وأنه إنما يجلد جلدًا، وذهبت الظاهرية إلى أن الحديث محكم غير منسوخ، وقالوا: إنه لا بد أن يقتل إذا تكرر منه أربع مرات، وفي كل مرة تقام عليه العقوبة، وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: إذا لم ينته الناس بدون قتله قتل، وإذا أمكن أن ينتهوا لم يقتل، وعلامة ذلك: أن نرى الناس يشربون الخمر ويجلدون ولكن يرجعون إلى الشراب وهذا يعني: أنه لا ينفع فيهم إلَّا القتل، وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام هو الصحيح؛ أولًا: أنه يمكن حمل الحديث عليه بأن يقيد حديث اقتلوه في الرابعة بما إذا أيس من صلاحه ولم يندفع إلَّا بالقتل. ثانيًا: أنه إذا أستمر علين شرب الخمر مع كونه يعاقب ويجلد ثلاث مرات صار من المفسدين في الأرض الذين يحاربون الله ورسوله، وهؤلاء يقتلون أو يصلبون أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، إما على حسب نظر الإمام، وإما على حسب الجريمة كما سيأتي - إن شاء الله -، وعلى هذا فالقول الراجح أن الناس إذا لم ينتهوا بدون القتل فإنه يقتل من شرب في الرابعة وهو يعاقب في كل مرة. تجنب الضرب على الوجه: 1194 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضرب أحدكم فليتَّق الوجه". متَّفقٌ عليه. "إذا ضرب أحدكم"، وهذا عام في ضرب التأديب الذي يقع من الأب على ابنه، ومن المعلم على تلميذه وفى غيره، فإنه إذا ضرب الإنسان أحدًا فليتق الوجه، لماذا؟ لأن الوجه

الخمر بين الطهارة والنجاسة

مجمع المحاسن، والضرب على الوجه ربما يؤدي إلى جرحه أو ميله أو غير ذلك، والضرب على الوجه أشد إذلالًا للمضروب من الضرب على الصدر أو على الرأس أو على الظهر، فصارت العلل ثلاثًا. في هذا الحديث: دليل على وجوب اتقاء الوجه عند الضرب في أي حالٍ من الأحوال، وبه نعرف خطأ كثير من الناس الذين يربون أولادهم تجده يضربه على الوجه ولا يبالي، لكن لعل هذا يكون جهلًا منهم، وإلا فمن علم بالنهي فلا أظنه يرتكبه إلا أن يشاء الله. 1195 - وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في المساجد". رواه التِّرمذيُّ والحاكم. "الحدود" نائب فاعل، و"تقام" مبني لما لم يسم فاعله، والحدود جمع حد، والمراد بها العقوبات المقدرة شرعًا في المعصية لتمنع من غيرها، والمساجد جمع مسجد، وهو المبني ليصلى فيه، وإنما نهي عن ذلك؛ لأن المحدود قد يحصل منه حدث من شدة الضرب، وقد يحدث منه صراخ، وقد يحدث منه سب أو شتم، وهذا كله غير لائق بالمساجد، فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحدود في المساجد. الخمر بين الطهارة والنجاسة: 1196 - وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: "لقد أنزل الله تحريم الخمر، وما بالمدينة شرابٌ يشرب إلَّا من تمرٍ". أخرجه مسلمٌ. قوله: "لقد أنزل الله" هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: الأول: القسم المقدر؛ لأن "لقد" جواب لهذا القسم، الثاني: لام القسم، الثالث: "قد"، وقوله: "أنزل الله تحريم الخمر" صريح في أن قوله: {فاجتنبوه} للوجوب؛ أي لوجوب الاجتناب، ووجوب الاجتناب يقتضي تحريم الفعل وقوله: "وما بالمدينة" الباء هنا بمعنى "في"، وإتيان "الباء" بمعنى "في" كثير، ومنه قوله تعالى: {وإنَّكم لتمرُّون عليهم مُّصبحين * وباللَّيل أفلا تعقلون} [الصافات: 137 - 138]. وقوله: "شراب يشرب إلا من تمر" وهو معروف، وذلك أن التمر يوضع في الماء، فإذا مر عليه مدة صار هذا الماء الذي وضع فيه التمر خمرًا إذا شربه الإنسان سكر، وإنما ذكر ذلك ليبين رضي الله عنه أن ما ساوى التمر في الإسكار فهو مثله.

كل مسكر خمر

في هذا الحديث فوائد: أولًا: أن القرآن كلام الله، لقوله: "أنزل الله" ونحن لا نشاهد إلا ما كان في القرآن الكريم. ومنا: إثبات علو الله؛ لأن النزول يكون من العلو. ومنها: أن الخمر كان مباحًا أول الأمر لقوله: "لقد أنزل الله تحريم الخمر" فدل هذا على أن التحريم طارئ، والأصل عدمه وهو الحل، وينبني على ذلك أنه متى ادعى إنسان تحريم شيء من المأكولات أو المشروبات أو الملبوسات قلنا له: عليك بالدليل؛ لأن الأصل هو الحل. ومنها: أن التحليل والتحريم إلى الله عز وجل لقوله: "لقد أنزل الله تحريم الخمر". ومنها: أن الطيب قد يكون خبيثًا، والخبيث قد يكون طيبًا، الخبيث يكون طيبًا، الخمر إذا تخللت وصارت خلاًّ صارت طيبة، والخل إذا تخمر صار خبيثّا، وأعجب من ذلك أن الشيء قبل التحريم طيب، وبعد التحريم خبيث، هو عين واحدة، فالخمر قبل أن تحرم طيبة تدخل فى قوله" {كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172]. وبعد التحريم صارت خبيثة؛ لأن الله قال: {ويحرم عليهم الخبيث} [الأعراف: 157]. وبهذ نعرف أن الأوصاف الشرعية قد لا تكون ظاهرة للناس، ولكننا نعرفها بالحكم الذي رتب عليها، فنحن نعرف أن الخمر خبيث، لأنه حرم، ونعرف أنه قبل التحريم طيب، كذلك الخمر قبل أن تحرم هي طيبة وبعد التحريم صارت خبيثة مع أنها عين واحدة. 1197 - وعن عمر رضى الله عنه قال: "نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر: ما خامر العقل". متفق عليه. يعني: أنها تصنع من هذه الأشياء فى عهد الصحابة -رضي الله عنه-، ثم قال كلمة جامعة: "والخمر ما خامر العقلط" معنى "خامر العقل" يعني: غطاه حتى زال على وجه السكر واللذة. كل مسكر خمر: 1198 - وعن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام". أخرجه مسلم. وهذه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، لأنها كلمة جامعة تشمل كل شيء، وعلى هذا فلا يختص الخمر بالأشربة التى كانت عند نزوله؛ لأن لدينا حدًا لا عدًا، ما هو الحد؟ الإسكار، فكل شيء مسكر من أي نوع كان فإنه خمر يترتب على متناوله ما يترتب على من شرب الخمر، لو كان

بالشم وليس بالشرب هل يسكر؟ إن نظرنا إلى عموم قوله: "الخمر ما خامر العقل" قلنا: إنه يسكر وحكمه حكم الخمر الذي يؤكل ويشرب؛ لأنه الآن يستعملون أشياء بالرائحة إذا شمها سكر وصار يهذي كالمجنون. من فوائد الحديث: ومنطوقه وهو: "أن كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام"، مفهومه: أن ما لا يسكر حلال وهذا هو المفهوم. 1199 - وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما اسكر كثيره فقليله حرام". أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان. قوله: "ما أسكر كثيره" يعني: ولو لم يسكر قليله حرام، قوله: "ما أسكر" يحتمل أن تكون "ما" موصولة، ويحتمل أن تكون شرطية، والأقرب أن تكون شرطية لدخول الفاء فى الجواب؛ لأنه قال: فقليله حرام. فيستفاد من هذا الحديث: أولًا: سد الزرائع. ومن فوائد الحديث: أنه إذا لم يسكر لا القليل ولا الكثير فإنه ليس بحرام، ولكن ليعلم أن بعض الناس فهم من هذا الحديث أن الذي فيه جزء من مسكر يدخل فى الحديث، وأنه لو كان فيه جزء من ألف جزء من المسكر فهو حرام لقوله: "ما أسكر كثيره"، ولكن هذا خطأ، بل معنى الحديث: أن الشيء إذا سكر مع كثرة الشراب لا مع قتله صار القليل حرامًا؛ يعني مثلًا: يوجد شراب إن شربت من عشرة أكواب حدث السكر وإن شربت خمسة لم يسكر ماذا نقول؟ هو حرام، يوجد شراب فيه مادة من الكحول تساوي واحدًا في المائة من مكوناته فماذا نقول؟ هذا حلال وليس بخمر؛ لأنه إذا اختلط الخمر بغيره نظرنا إن كانت النسبة كبيرة بحيث يؤثر هذا الخمر الذي يسمى الآن الكحول على الطاهر صار حرامًا، وإن كانت النسبة قليلة خمسة في المائة أو ثلاثة في المائة فإنه ليس بحرام، وإذا شككنا فالأصل الحل، هل لنا أن نجرب فيما شككنا فيه؟ نعم لنا أن نجرب؛ لأنه لم يثبت التحريم بعد، والتجربة لأجل دفع الوهم، فإذا جربنا هذا الشراب الذي شككنا فيه فلا بأس به.

حكم مزج الزبيب بالماء أو اللبن

حكم مزج الزبيب بالماء أو اللبن: 1200 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قالك "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب في السقاء، فيشربه يومه، والغد، وبعد الغد، فإذا كان مساء الثالثة شربه وسقاه، فإن فضل شيء أهراقه". أخرجه مسلم. قوله: "كان الله ينبذ له" اشتهر عند كثير من العلماء أن "كان" تدل على الدوام، ولكن هذا ليس بصحيح ولكنها تدل على الاتصاف بما يقتضيه الخبر ولا يلزم من ذلك الاستمرار، ويدل لهذا أنكم تسمعون ما يمر عليكم من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فى يوم الجمعة بسبح والغاشية، وفى حديث آخر كان يقرأ الجمعة والمنافقون، ولو قلنا: إن كان تفيد الدوام دائمًا لكان بين الأحاديث تعارض وليس الأمر كذلك، فـ"كان" لا تدل على الدوام دائمًا، أما هنا "كان ينبذ له الزبيب" فهذا أيضاً يدل على أنه ليس كل يوم ينبذ له. وقوله: "ينبذ له الزبيب فى السقاء"، الزبيب هو العنب المجفف وهو عنب خاص، بمعنى: أنه ليس كل عنب يجفف يكون زبيبًا، "في السقاء"، السقاء معروف هو جلد الشاه أو المعز الدبوغ يوضع فيه الماء أو اللبن أو النبيذ فيشرب يوماً وإنما كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب؛ لأن الزبيب يكسب الماء حلاوة ويمتص ما في الماء من مكروبات، هو التمر، ففيه فائدتان: الأولى فى الماء والثانية في طعم الماء. "فيشربه يومه والغد وبعد الغد" هذه ثلاثة أيام، "فإذا كان مساء ... ألخ" يعني: لا يبقيه بعد الثالثة؛ وذلك لأنه لو بقي بعد الثالثة لصار خمرًا وقد يصير خمرًا وانت لا تشعر، ولاسيما في البلاد الحارة كالحجاز فإنه يسرع إليه التخمر، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يهريقه إذا تمت له ثلاثة أيام خوفًا من أن يكون خمرًا وهو لا يشعر به، أما فى وقتنا الحاضر والثلاجات موجودة الآن فيمكن أن يبقى النبيذ لمدة طويلة ونأمن أمنا تامًّا من انتقاله إلى الخمر؛ لأنه يبقى بارداً ولا يتخمر، فالتقييد بثلاثة أيام إنما يكون حين يتحمل أن يكون خمرًا، أما إذا أمنا ذلك كما هو المعروف الآن فلا بأس، ولهذا قال العلماء: لو خلل الخل قبل أن يختمر لكان ذلك حلالًا بأن يوضع عليه أشياء قبل أن يتخمر ولا يتخمر بعدها ولو طالت المدة، وعلامة التخمر: أنك ترى الشراب يحصل فيه فقاعات مع أنه لا يوجد نار، ولكن ليس منه ما يوجد الآن في بعض العلب، يوجد الآن علب إذا فتحتها تطيش عليك هذا ليس خمرًا، لكن هذا النبيذ إذا بقي مدة مع الحر يربو وتراه كالأسفنج، هذا خمر، والعجيب أن هذا يوجد فى كثير من الأحيان

حكم التداوي بالمحرم

[في بعض الأشياء] تجد أنها زبيبن وهذا يعني: أنها خمر فلا يجوز إمساكها، وقوله: "فإن فضل شيء أهراقه" لئلا يشرب. فتأخذ من هذا الحديث فوائد: أولًا: جواز اتخاذ الإنسان ما يتلذ به من طعام وشراب لفعل الرسول "كان ينبذ له" وهذا لا شك أنه تلذذ بالطعام والشراب، وهل هذا الأمر محمود أو أمر جائز أو أمر خلاف الأولى؟ الأول أنه أمر محمود إذا أنعم الله عليكم فأنعموا على أنفسكم، فما دام الله قد أحله ولا يعد إسرافًا، فلماذا لا نتبسط بنعمة الله؟ ولهذا قال شيخ الإسلام: من امتنع عن الطيبات بلا عذر شرعي فإنه شيء مذموم، أما لو امتنع لعذر شرعي فهذا شيء آخر، أما بدون عذر شرعي فإن الامتناع عما أحل الله لك من الأمور المذمومة، احمد الله عز وجل حيث أنعم عليك فانعم على نفسك، وهذا سيد الزهاد وأهل الورع محمد صلى الله عليه وسلم كان يتخذ النبيذ. ومن فوائد الحديث: أنه لا يشرب النبيذ بعد ثلاثة أيام، وهذا كان احتمال أن يكون خمرًا وإلا فلا بأس. ومن فوائد الحديث: مشروعية إراقة الخمر؛ لأن النببي صلى الله عليه وسلم كان يهراق النيذ بعد ثلاثة أيام، ولأن إمساكها لافائدة منه لأنها الآن حرام، فهل نقول: إن كانت لا تستعمل إلا للسكر وجبت إراقتها: وإن كانت تستعمل لغير السكر فهذا محل نظر؛ لأنك إن نظرت إلى قوله تعالى: {فاجتنبوه} قلت: هذا يدل على وجوب اجتناب كل ما يمكن أن يكون مسكرًا، وإن نظرنا إلى التعليل {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر} [المائدة: 91]. قلنا: هذا فيمن اتخذه من أجل الشرب؛ لأن هذ هو الذي يكون فيه العداوة والبغضاء، ولذلك أنا لا أحرمه- يعني: هذا الكحول- ولا أستعمله إلا عند الحاجة كتعقيم جرح أو شبهه، وقد سبق لنا البحث هل الخمر نجس أو ليس بنجس، وبيَّنا أن الصحيح أنه ليس بنجس وأنه لا دليل على نجاسته. حكم التداوي بالمحرم: 1201 - وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لم يجعل شفعاءكم فيما حرم عليكم". أخرجه البيهقيُّ، وصححه ابن حبان. "الجعل" ينقسم إلى قسمين: جعل شرعي، وجعل قدري، والجعل هنا فى هذا الحديث جعل قدري، والجعل فى قوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سآبٍه ولا وصيله ولاحام}

[المائدة: 103]. هذا جعل شرعي. {وجعلنا اليل لباسا (10) وجعلنا النهار معاشًا} [النبا: 9 - 11]. جعل كوني ألا يقول قائل إن {وجعلنا اليل لباسا} إنه شرعيظ له وجه لكنه بعيد في الواقع الجعل هنا "لم يجعل شفاءكم" جعلًا قدريًا، وكذلك أيضًا شرعيًّا لأنه حرم، وقوله: "شفاءكم" الشفاء والإشفاء بينهما فرق عظيم: الشفاء البرء من الأسقام، والإشفاء الهلاك، ولهذا تقول: شفاك الله ولا أشفاك لأن شفى الثلاثي بمعنى: أبرأ من المرض، وأشفى: أهلك، {وكنتم على شفا حفرٍة من النار فأنقذكم منها} [ال عمران: 103]. وأظن أنك لو قلت للعامي: شفاك الله ولا أشفاك لعلك تختنق معه؛ لأنه يقول: دعوت لي بالشفاء ثم تراجعت، لكننا نقول: إننا دعونا بقولنا: لا أشفاك الله. وقوله: "فيما حرم عليكم" التحريم بمعنى: المنع ومنه: الحرم لمنع القتال فيه، ومنه حريم البئر، لمنع التملك حولهن إذن المحرم ليس فيه شفاء، وتعليل ذلك ظاهر؛ لأنه لو كان فيه شفاء لكان فيه مصلحة، والله عز وجل لا يمنع عباده عما فيه مصلحة، كل ما حرم على عباده فهو مضرة ولايمكن أن يحرِّم عليهم ما فيه مصلحتهم إطلاقا. في هذا الحديث فوائد: أولًا: منع التداوي بالمحرمن وجهه: أنه قال: "لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" فإذا انتهك الإنسان المجرم بدون أن يكون له شفاء صار هذا ممنوعًا؛ يعني: لا مصلحة منه. ومن فوائد الحديث: أن المباح قد يكون فيه الشفاء؛ لأنه إذا انتفى الشفاء عن المحرم فمفهومه إمكان ذلك فى الحلال وهو كذلك وهناك أشياء جاء الشرع بكونها شفاء وأشياء علمت بالتجارب، فمما جاء به الشرع العسل، قال الله تعالى: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} [النحل: 69]. ومنه الحبة السوداء، وتعرف عندنا فى القصيم بالسميرة، وعند المصريين حبة البركة والكمون الأسود ويوجد ناس يسمونه الشونيز المهم أنها معروفة وكذلك الحجامة فيها شفاء، وكذلك فيه شفاء، وهناك عملت بالتجارب-تجارب الناس فيها-فوجد فيها الشفاء. فإن قال قائل: إذا اضطر الإنسان بالتداوي بالمحرم فهل يجوز؟ لا ولو اضطر، بل نقول: لا تمكن الضرورة للتداوي إلا بأشياء معلومة كما لو كان التداوي بقطع عضو من الأعضاء، وهذا ربما يعلم بالضرورة، لكن على سبيل العلاج والتداوي لا تمكن الضرورة لابد فيها من أمرين: الأمر الأول: الإلتجاء إلى هذا العمل، والثاني: ارتفاع الضرورة به، والدواء هل الإنسان ملجا إليه؟ إلى هذا الدواء بعينه؟ لاقد يتداوى بغيره وقد يشفى بلا تداو، وكم من أناس شفاهم الله بلا تداٍو.

حكم التداوي بالخمر

الثاني: هل إذا تداوى الإنسان بما يعتقد أنه شفاء هل يرتفع المرض؟ لا، إذن ارتكاب المحرم مفسدة محققة وحصول الشفاء غير محقق، فها يليق أن نرتكب الشيء المحرمالمحقق بأمر غير محقق؟ لا. فإن قال إنسان: يرد عليكم أن الله أحل الميته للجائع المضطر إليه. قلنا لا يرد علينا، أولًا: لأن اندفاع ضرورة الجائع لا تكون إلا بالأكل فهو مضطر، وثانيًا: أنه إذا أكل ارتفعت الضرورة واستفاد من الأكل فلا يرد علينا، اشتهر عند العامة عندنا أن لبن الحمارة يشفي من السعال-الحكة- حتى وضعوا قاعدة وهي تقول: دواء الشهاجة - نوع من السعال شديد- لبن النهاجة وهي الأنثى من الحمير، وهذه قاعدة من أبطل القواعد، ولا يمكن أن يكون الشيء الحرام فيه شفاء، فإن قيل: قد وقع ذلك وارتفع المرض يعني: مجرب، نقول: إن المرض ارتفع عنده لا به امتحانًا من الله عز وجل وفرق بين ما يقع عند الشيء أو يقع بالشيء؛ لأن ما وقع بالشيء فالشيء سبب له، وما وقع عنده فهو وقع فقط، ولكن لنعلم أنه لا يمكن أن يكون لبن الحمير سببًا للشفاء إطلاقًا. يقولون: إن هناك أمراضًا جلدية ينفع فيها دم بعض الحيوانات أو شحم بعض السباع فهل يجوز التداوي بها؟ نعم، يجوز لكن إن كانت نجسه فالواجب عندى الصلاة أن يتطهر منها، وقد ذكر ذلك أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي فى أول كتاب الجنائز؛ أى: أنه يجوز التداوي بشحم الخنزير ادهاناً لا أكلا؛ لأن هذا يصل إلى الجوف وربما ينفع. وهذا لو قال قائل: يرد عليكم أن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها. قلنا: إن الله لم يحرم علينا أن ندهن أجسامنا بشيء نجس ثم نغسله للمصلحة. حكم التداوي بالخمر: 1202 - وعن وائل الحضرمي، إن طارق بن سويٍد رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر يصنعها للدواء؟ فقال: "إنها ليست بدواٍء، ولكنها داء". أخرجه مسلم، وأبو داود وغيرهما. سأله عن الخمر يصنعها للدواء كالصيادلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها ليست بدواء ولكنها داء" لأنها محرمة، والمحرم داء إن الله لم يحرمه إلا لمضرته، ثم لو فرض أنه لم يحصل فيه مضرة بدنية ففيه مضرة شرعية دينية فهي داء، وهذا أبلغ مما لو قال: إن ذلك حرام لماذا كان أبلغ؟

لأن وصفها بهذا الوصف يقتضي النفور منها لا عدم استعمالها للدواء، وهذا الحديث يكون مؤيداً للحديث الذي قبله لكن الذي قبله أعم. فإن قال قائل: يوجد بعض السموم يتداوى بها الناس، قلنا: إذا كانت في ظاهر الجلد فلا بأس؛ لأنه قد جرب هذا، وإن كان الإنسان يأكلها فينظر إذا كان في هذا الدواء جزء كبير من السُّم بحيث يقتل الإنسان صار استعماله حرامًا، وأما إذا كان فيها شيء يسير يقتل فيروس المرض، ولكنه لا يقتل الإنسان فهذا لا بأس به، ولهذا يقال الآن: إن الأدوية-الأقراص- فيها شيء من الكحول لكنه لا يؤثر من حيث الإسكار، نقول: إن هذا لابأس به؛ لأنه منغمر في جانب الشيء المباح. إذا قال قائل: ما مناسبة هذين الحديثين لباب حد المسكر أفلا يقال: إن الأولى أن تجعل فى كتاب الجنائز؟ ما يعرض للإنسان من الشبهة في استعمال الخمر للدواء. من فوائد الحديث: حرص الصحابة - ضي الله عنهم - على أن يتعلموا أمور دينهم قبل أن يقعوا فيا خلافًا لما عليه الناس اليوم؛ حيث يفعلون الشيء ثم بعد ذلك يسألون عنه إلا من شاء الله. ومن فوائد الحديث: أن الخمر لايمكن أن تكون دواًء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى ذلك حيث قال: "إنها ليست بدواء". ومن فوائده ايضا: أن الخمر داء معنوي لأنها محرمة تمرض القلب وداء حسي لأنه يحصل من المضار بشربها أكثر مما يحصل من المنافع.

5 - باب التعزيز وحكم الصائل

5 - باب التعزيز وحكم الصَّائل "التعزيز" يطلق على عدة معان، منها: النصرة كما فى قوله تعالى: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه} [الفتح: 9].أى تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بنصره، ومنها: التأديب كما هنا، والتأديب في الواقع فيه نصرة لقول النبي الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنصر أخاك ظالماً أو مظلومًا) قالوا: يا رسول الله، هذا المظلوم فكيف نصر الظالم؟ قال: " أن تمنعه من الظلم"، والتعزير يمنع الإنسان من ظلم، فهذا وجه الارتباط بين كون التعزيز تأديبًا وكونه أيضًا نصرًا، وقولنا: إن التعزيز هو التأديب هل يتحدد بشيء معين؟ الجواب: لا، التعزيز لا يتحدد بشيء معين قد يكون بالمضرب، وقد يكون بأخذ المال، وقد يكون بالتخجيل أمام الناس، المهم أنه تأديب، فكل ما يحصل به التأديب فإنه تعزير، ولهذا نرى أن بعض الناس تجلده مائة جلدة ولا تأخذ منه درهمًا، وبعض الناس بالعكس خذ منه دراهم كثيرة ولا تجلده، ونرى بعض الناس أيضًا خجلة ما شئت ولا تأخذ منه درهمًا، وبعض الناس بالعكس خذ منه الدراهم ولا تخجله، فلكل مقام مقال فما يحصل به التأديب فهو مشروع أيًا كان ولهذا كان القول الصحيح أنه يجوز التعزير بالمال، ومنه: إحراق النبي صلى الله عليه وسلم رحل الغال من الغنيمة فإنه تعزير بالمال، لأنه يحرق رحله، ومنه إحراق أمير المؤمنين عمر دكان الخمار الذي كان يبيع الخمر، ومنه التعزير في غير المال وهو التعزير بحلق الرأس كما فعل عمر نصر بن الحجاج، كان فى المدينة شاباً وسيماً صارت النساء تتغزل به، فحلق عمر رضي الله عنه رأسه، فلما حلق رأسه ازدادت فتنة النساء به، فنفاه عن المدينة، فالمهم: أن التعزير يكون بما يحصل به التأديب. وهل يجوز أن يعزر الإنسان بحلق اللحية؟ . لا، لأنه لايجوز أن يعزر بشيء محرم بعينه، وقد كان بعض الولاة الظلمة فيما سبق يعزرون بحلق اللحى، وصار بعض الناس اليوم يحلقون ويؤجرون على حلق لحاهم انقلبت الأوضاع. هل يجوز التعزير بتسويد الوجه؟ يجوز لكن بشرط ألا يكون دائمًا لأن هذا ضرره عظيم. هل يجوز التعزير بأن نركبه حمارًا ووجهه إلى ذيل الحمار؟ نعم يجوز؛ لأن هذا يحصل به التخجل، رجل من الشرفاء نركبه حمارًا وهو يركب كاديلاك فهذا تعزير جدُّا، ثم مع ذلك نجعل وجهه إلى عجز الحمار هذا ايضًا تعزير آخر، فإذا عرفت القاعدة قلت: إن التعزير هو التأديب ويختلف باختلاف الأحوال واختلاف الأشخاص.

التعزيز بين الوجوب والاجتهاد

أما حكم الصائل: وهو اسم فاعل من صال يصول وهو المعتدي المندفع الذي يريد نفسك أو مالك أو اهلك أو ما أشبه ذلك. التعزيز بين الوجوب والاجتهاد: وهنا بحث: هل التعزيز واجب يجب على الإمام أن ينفذه إذا وجد سببه، أو راجع إلى إجتهاد الإمام؟ قال بعض العلماء: إنه واجب وهذا هو المذهب، وقال آخرون: إنه ليس بواجب بل يرجع فيه إلى رأي الإمام، والصواب أنه واجب، اللهم إلا إذا رأى الإمام مصلحة تربو على المفسدة فهذه ربما يقال له أن يسقطه من أجل هذا، ثم فيم يجب؟ قال العلماء: يجب في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، وعلى هذا فالزنا لا تعزير فيه؛ لأن فيه حدًّا، وكذلك السرقة لا تعزير فيها؛ لأن فيها حدًّا، فيكتفى بالحد عن التعزيز ولاكفارة الوطء في نهار رمضان لا تعزيز لأن فيها كفارة. اختلاف قدر التعزيز وضوابطه: ثم البحث الثاني: هل يتحدد التعزير بعدد معين من الجلدات بحيث لا يزيد عليها؟ في هذا خلاف تذكره على هذا الحديث. 1203 - عن أبي بردة الأنصاري رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لايجلد فوق عشرة أسواٍط إلا في حدود الله". متفق عليه. "ويجلد بالرفع على أنها جملة خبرية؛ لأنها بالرفع تكون "لا" نافية، والفعل المضارع مرفوع، ولكن هي خبرية لفظًا طلبيه معنى، فهو نفي بمعنى: النهي، وقوله: "عشرة أسواط"، والسوط معروف، هو عبارة عن جلد أو نحوه يفتل ثم يضرب به، وقد يطلق على مجرد العصا ونحوها، "إلا في حد من حدود الله" اختلف العلماء ما المراد بالحد، هل المراد بالحد: العقوبة المقدرة شرعًا كمائة جلدة في الزنا وثمانين جلدة في القذف، أو المراد بالحد: الحكم سواء كان واجباً أو محرماً، فيعزر لترك الواجب ويعزر بفعل المحرم؟ فى هذا قولان للعلماء؛ والصحيح: الثاني أن المراد بالحد هنا: حكم الله عز وجل وقد سمى الله تعالى أحكامه حدوداً فقال تعالى: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولايخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله} [الطلاق: 1]. وقال تعالى في ختام آيات المواريث قال: {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم} [النساء: 13].

والآيات في هذا متعددة فعليه يكون المراد بالحد هنا: الحكم إن كان واجباً فليجلد حتى يقوم بالواجب، وإن كان محرمًا فليجلد حتى يكف عن المحرم. فإذا قال قائل: على القول بان المراد بالحد الحكم الشرعي فما المراد بقوله: " لايجلد إلا فى حد؟ ". قلنا: لا يجلد هذا منصبِّ على ما إذا جلد الإنسان ولده من أجل إجلاله بالمروءة مثل أن يقول لوالده: يابني، إني قد دعوت فلانًا وفلانًا انتظرهم بعد صلاة العشاء، فأهمل الابن ذلك، فللأب أن يجلده إلى عشر جلدات ولايزيد، هذا على القول بان المراد بالحدود: الحكم الشرعي وهو الصحيح. يستفاد من هذا الحديث: أولًا: تحريم الزيادة على عشر جلدات فيما يؤدب به الإنسان ولده، واما إذا كان فى حكم شرعي فيجلد أكثر من ذلك، وهل يمكن أن نقول: إننا لو وجدنا رجلًا قد خلا بامرأة وباشرها وقبلها وراجعها عدة ليال. نقول: نعزره بعشر جلدات فأقل هذا لا يمكن أن صلح الناس، وعلى القول بأن المراد بالحد هنا العقوبة المقدرة يقولون: إنه إذا وقع مثل هذه القضية فإننا نجلد المرأة والرجل عشر جلدات فأقل، ومعلوم أن هذا لا يصلح الخلق، أما على القول الصحيح فإن لنا أن نجلده أكثر: عشرين، ثلاثين إلى تسع وتسعين، ولا نصل إلى المائة؛ لأن الزنا أعظم من هذا الفعل ومع ذلك عقوبته مائة جلدة؛ ولهذا لا يبلغ بالتعزير الحد إذا كانت المعصية من جنس الذي فيه الحد: تقبيل المرأة، الخلوة، مباشرتها، السفر بها، لكن بدون زنا لا يبلغ به مائة جلدة، رجل مثلًا اعتدى على الناس صار يضرب هذا وينهب مال هذا ويشتم هذا هل يمكن أن نعزره بمائة جلدة أو أكثر؟ لا؛ لأن هذا ليس من جنس الزنا الذي فيه الحد. ومن فوائد الحديث: الرفق بالأهل والأولاد بحيث لا نجلدهم أكثر من عشر جلدات فيما يتعلق بالتأديب والمروءة. فإن قال قائل: هذا حد في العدد فهل هناك حد فى الكيفية أو فى السوط؟ نقول نعم لابد أن يكون الضرب غير مبرح لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يخطب: "ولكم عليهن- أى: الزوجات- ألاَّ يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح"، ويشترط أيضًا ألا يكون في الوجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ضرب الوجه، أما بالسوط فيجب أن يكون سوطًا ليس جديدًا فيؤثر ولاخلقًا فلا ينفع لابد أن يكون وسطًا.

إقالة العثرات وضوابطها

إقالة العثرات وضوابطها: 1204 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلاَّ الحدود". رواه أبو داود، والنسائي والبيهقي. "أقيلوا" يعني اعفوا واسمحوا، ومنه إقالة البيع أن الرجلين إذا تعاقدا عقد بيع ثم طلب أحدهما الفسخ فوافقه الآخر تسمى هذه إقالة، فالمراد بالإقالة هنا العفو والسماح، وقوله: "ذوي الهيئات" ليس المراد بذوي الهيئات: هيئة المنظر، ولكن المراد بذوي الهيئات أي: ذوي الشرف والسؤدد من الناس؛ لأن الناس يختلفون، ذوي الشرف والسؤدد قد يؤثر فيهم هذا الشيء تأثيراً بالغا، والآخرون لا يهتمون به، إذن المراد بالهيئات: الشرف والسؤدد، وليس المراد: هيئة الإنسان بان يكون له هندام يصلحه ويعمل عليه ويرجل الشعر ويدهن دائمًا ويلبس فى الصباح ثوبًا، وفي المساء ثوبًا وهو أيضًا قامته طويلة ووجهه جميل ليس هذا المراد ولكن المراد بالهيئات: الشرف والسؤدد وقوله: " عثراتهم" جمع عثرة وهي: الزلة، وذلك بفعل مالا ينبغي أن يفعلوه، "إلا الحدود" فإن الحدود لا تقال من أحد مهما كان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". ففي هذا الحديث فوائد متعددة: منها: مراعاة حال الشخص في التعزير، وأنه ربما نعزر فلانًاعلى هذا العمل، ولا نعزز فلانًا.؟ فإن قائل: لو ظهر هذا في المجتمع لكان فيه ضرر كبير، إذا إن العامة لا يفرقون بين التعزير والحد؛ إذ سيقولون مثلًا لماذا حبس فلانًا لما فعل كذا ولم يحبس فلان؟ قيل: لأنه من ذوي الهيئات حينئذ ينفر الناس. فيقال: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا يشترط فيه ألا يتضمن مفسدة أعظم من إهانة هؤلاء الشرفاء، فإن تضمن مفسدة أعظم فإنه لابد أن يعاملوا كما يعامل غيرهم. ومن فوائد الحديث: حكمة الشرع وذلك بتنزيل الناس منازلهم، وهذه من أهم ما يكون فى معاملة الخلق أن تنزل الناس منازلهم حتى في الدعوة إلى الله ينزل الناس منازلهم، منهم من ندعوه باللين واللطف، ومنهم من يكون بالعكس، حتى قال الله تعالى: {ولاتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت: 46]. فهؤلاء لا تجادلهم بالتى هي أحسن بل التي هي أشد واشق، لأنهم معاندون ظالمون.

ومن فوائد الحديث: أن الحدود لا يمكن أن تقال عن أحد ولو كان من ذوي الهيئات لقوله: "إلا الحدود" فالحدود لا تقال عن أحد، حتى لو أن الذي فعل ما يوجب الحد من أقرب الناس إلى ولي الأمر، فإن الواجب عليه أن يقيم عليه الحد وألا تأخذه في الله لومة لائم. 1205 - وعن علي رضي الله عنه قال: "ما كنت لأقيم على أحٍد حدًّا فيموت فأجد في نفسي، إلا شارب الخمر؛ فإنه لو مات وديته". أخرجه البخاريُّ. قوله: "فيموت" يعني: من إقامة الحد، "فأوجد في نفسي" يعني: أجد في نفسي قلقًا وندمًا إلا شارب الخمر، "فإنه لومات وديته" يعني: لو مات أديت ديته. وعند أبي داود: قال علي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن فيه شيئًا، وإنما قلنا نحن، وهذه الزيادة صحيحة. في هذا الأثر عن علي دليل على مسائل أولًا: أن الإمام يجب عليه أن يحتاط في إقامة الحد بحيث لا يصل إلى الموت. وثانيًا: أنه لو مات المحدود بالحد فإنه لا يضمن، لماذا؟ لأن الحد مأذون فيه وما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمون وأضرب لكم مثالين لتوضيح القاعدة هذه وهي مفيدة إذا جنى على شخص جناية جرح أو كسر ثم سرت الجناية فهل يضمن الجاني؟ نعم يضمن؛ لأن جنايته غير مأذون فيها، ول أنا اقتصصنا من الاني ثم سرى القصاص إلى أكثر مما اقتصصنا فإنه لا يضمن لأنه مترتب على أمر مأذون فيه. ومن فوائد الأثر: أن عقوبة شارب الخمر ليست بحد؛ لأنه صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن فيه شيئًا، ولأنه لو كان حدًّا لم يكن في نفس عليٍّ شيء كسائر الحدود. ومن فوائد الأثر: أن خطأ الإمام عليه؛ يعني: لو أخطأ في الحكم فإن الخطأ يكون عليه من ضمانه، لقوله: "وديته"، ولكنه ليس بصريح في أنه يكون عليه نفسه، إذ من الجائز أن يكون في بيت المال، ولهذا صرح الفقهاء: أن خطأ لحاكم يكون في بيت المال، لأنه يتصرف للناس، فإذا كان يتصرف لهم فكيف يضمن ما يترتب على فعله مع أنه مجتهد.

حكم الصائل

حكم الصائل: 1206 - وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيٌد" رواه الأربعة، وصحَّحه التَّرمذيُّ. "من" شرطية، فعل الشرط: "قتل" جوابه: "فهو شهيد"، ومعنى "قتل دون ماله ": أنه لو جاء أحد من الناس فصال عليه لأخذ ماله فقاتله دفاعًا عن نفسه وعن ماله ثم قتل فهو شهيد، فيكون هذا المقتول شهيدًا؛ لأنه دافع بحق، فإن قتل الصائل فالصائل ليس بشهيد بل هو في النار، ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يأتيه الإنسان يقول: أعطني مالاً؟ قال: "لا تعطه"، قال: يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله"، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار" قال: أرأيت إن قتلني قال: "فأنت شهيد"، وذلك لأنه صائل معتٍد فيكون في النار، أما هذا فيكون شهيدًا، ولكن قال العلماء: يجب أن يدافع الصائل بما هو أسهل فأسهل، فمثلاً: إذا كان يمكن أن يدافعه بالتهديد ويقول: سوف أرفع بك إلى ولي الأمر إذا لم تنته فلا حاجة إلى ضرب ولا غيره، وإذا لم ينتفع به هذا وأمكن للمصول عليه أن يوثقه ويدفعه فإنه لا يحتاج للضرب، وإذا لم يمكن الاندفاع بذلك واندفع بالضرب فليضربهن هذا لا يمكن مدافعته في هذا الحديث فوائد: أولاً: جواز مدافعة الإنسان عن ماله لكونه إذا قتل يكون شهيدًا ومن فوائده: أن المقتول ظلمًا شهيد، ولكا هل هو شهيد في الآخرة أو شهيد في الدنيا؟ في هذا للعلماء قولان: القول الأول: أنه شهيد في الدنيا والآخرة، والقول الثاني: أنه شهيد في الآخرة فقط، والثاني هو الصحيح أنه شهيد في الآخرة، وبناء عليه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وإنما يدفن في ثيابه.

الدفاع عن النفس

فإن قال قائل: ألا يصح قياسه على من قتل في سبيل الله؟ لا يصح القياس؛ لأن المقاتل في سبيل الله إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ولأن المقاتل في سبيل الله هو الذي بذل نفسه وذهب إلى الخطر، أما هذا فإنه مدافع فقط فبينهما فرق؛ ولهذا كان القول الراجح: أنه يجب أن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن. ومن فوائد الحديث: أنه لا يلام الإنسان على المدافعة عن ماله وذلك لقوله: "فهو شهيد" ولكن هل يلزمه أن يدافع عن ماله؟ قال الفقهاء: إنه لا يلزمه أن يدافع عن ماله، لأن المال لو ذهب يخلف الله غيره، وقال آخرون: بل يجب أن يدافع عن ماله؛ لأن ماله محترم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما سئل أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله" فأمر بقتله، ولأننا لو تركنا المقاتلة لكان في ذلك فتح باب للصائلين أن يصولوا، على الناس، وهذا القول - أعني: وجوب المدافعة - أقرب غلى القول بأن ذلك على سبيل الإباحة، هل يلزمه أن يدافع عن نفسه وعن أهله؟ نعم، يجب قولا واحدا، وذلك لأن المدافعة عن النفس والأهل أوكد من المدافعة عن المال، لو أراد أحد أن يقتلك أو أن يهتك عرضك فلا تمكِّنه من هذا، وهل يلزمه أن يدافع عن مال الغير؟ ينبني على الخلاف في المدافعة عن ماله، فنقول: نعم، إذا كان الغير معصومًا وله حرمة فإنه يجب أن يدافع عنه. الدفاع عن النفس: 1207 - وعن عبد الله بن خبَّاب رضي الله عنه قال: سمعت أبي رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون قتنٌ، فكن فيها يا عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل". أخرجه ابن أبي خيثمة والدَّارقطنيِّ. - وأخرج أحمد نحوه: عن خالد بن عرفطة رضي الله عنه. "تكون" هنا فعل مضارع، ولكنها هنا تامة، أي تكتفي بمرفوعها، كما قال ابن مالك: *وذو تمام ما برفع يكتفي * وعلى هذا تكون "فتن" فاعلًا، أي توجد فتن، والفتنة ما يفتن به الناس، وهي أنواع كثيرة قد يفتن الناس في أديانهم، أو في أعراضهم، أو في أخلاقهم عموما أو في دمائهم، المهم أن الفتن أنواع، ومن الفتن: الفتن المقالية التي يتنابز فيها بالناس بالألقاب السيئة: أنت مبتدع، أنت كافر، أنت فاسق، وغير ذلك من الكلمات التي لا يجنى منها إلا اختلاف القلوب، واختلاف الناس، لكن المراد بالفتن هنا - والله أعلم - فتن الدماء، أي: تكون فتن، أي قتال بين الناس.

"فكن فيها يا عبد الله المقتول" "عبد" هنا يجوز أن تكون منصوبة على أنها خبر "كن"، ويجوز أن تكون منصوبة على أنها منادى وحرف النداء محذوف، أي: كن فيها يا عبد الله المقتول، فعلى الأول تكون، "المقتول" صفة لعبد الله، وعلى الثاني أن "عبد" منادى "تكون" "المقتول" خبر كان، أي: كن يا عبد الله المقتول ولا تكن القاتل، وهذا يعني: أنك لا تدافع عن نفسك في الفتن؛ لأن المدافعة عن النفس في الفتن قد يكون فيها شر كثير وذلك كما جرى لأمير المؤمنين رضي الله عنه الخليفة الثالث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه نهى أن يدافع عنه، بل قال لغلمانه كل إنسان لا يدافع عني فهو حر، فتركوا الدفاع عنه؛ لأنه يحصل بذلك قتل كثير في المدينة النبوية، فهو رضي الله عنه فدى بنفسه دماء المسلمين وحقنها ولا يقولون عن عثمان: إنه فدى بنفسه دماء المسلمين وحقنها مع أن الواضح جدًا أن الثاني هو الحق، أي: أن عثمان رضي الله عنه أراد أن يفدي بنفسه دماء المسلمين وليقتل شهيدًا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صعد جبل أحد واهتز بهم وارتجف قال: "اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان"، النبي: محمد صلى الله عليه وسلم والصديق: أبو بكر، والشهيدان: عمر، وعثمان رضي الله عنهما، فالحاصل أنه اختار ذلك، ولهذا قال العلماء: يجب عليه الدفاع عن نفسه إلا في الفتنة فلا يجب، ولكن إذا قلنا: لا يجب هلى معنى ذلك أنه يحرم الدفاع عن نفسه في الفتانة أو ينظر للمصلحة؟ الجواب: الثاني، قد يكون الإنسان في مكان فيه فتنة وفيه قتال، لكن يمكن أن يقتل من صال عليه بدون أن يحصل بذلك فتنة، حينئذ نقول اقتل، وقد يكون بالعكس لو قتله لثارت القبائل؛ لأنه من قبائل كبيرة فتثور ويحصل بذلك فتنة، فالحاصل: أنه في غير الفتنة في حكم الدفاع عن النفس أنه واجب، وفي الفتنة لا يجب لكن ينظر الإنسان للمصلحة قد تكون المصلحة بالمدافعة ولو بالقتل وقد تكون بعدم المدافعة، والإنسان ينظر إلى المصالح العامة فيقدمها على المصالح الخاصة؛ لأن تقديم المصالح العامة هو شرع الله، يعني: يتوافق الشرع والقدر في تقديم المصالح العامة، على المصالح الخاصة، أرأيتم المطر مصلحة عامة لكن يأتي إنسان صب صبة السقف قبيل نزول المطر ما شأن هذا المطر بالنسبة له؟ ضرر له لكن هذا الضرر يزول ويضمحل، فالحكم القدري والحكم الشرعي من ربنا وله الحكمة البالغة تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة، فأنت انظر في حال الفتنة هل من المصالحة أن تدافع عن نفسك أو من المصلحة أن

تمسك عن الدفاع، افعل ما تراه مصلحة لكن في غير الفتنة يجب أن تدافع، وبهذا نعرف أن من قاتل ليستشهد فهل يكون شهيدًا؟ إذا قاتل ليقتل فهذا ليس بشهيد، وإن قاتل ليستشهد بمعنى: أن يكون قتاله لإعلاء كلمة الله فهو شهيد، والنية لها أثر بالغ؛ لأن بعض الناس يظن أنه إذا قتل في الجهاد فإنه شهيد بكل حال، وليس كذلك ليس من الشهادة أن تذهب لأجل أن تقتل، إنما الشهادة أن تذهب لتقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، حينئذ إذا قتلت فأنت شهيد، فالقتل ليس مقصودًا لذاته، المقصود: أن تكون كلمة الله هي العليا، فإذا قتلت من أجل ذلك فأنت شهيد.

كتاب الجهاد ويشتمل على 1 - باب الجزية والهدنة. 2 - باب السبق والرمي.

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد ذكرنا فيما سبق أن العلماء صنفوا تصنيفاتهم على ثلاثة وجوه: كتاب، والثاني: باب، والثالث: فصل، فالكتاب هو عبارة عن الدخول إلى مسائل متعددة، لكن يجمعها حكم واحد والباب لتحديد الأنواع، فمثلاً: الجهاد فيه عقد ذمة وفيه عهد، وأشياء متنوعة، والفصل لتنوع المسائل فقط فهو كالاستراحة، إذا طال الباب جعلوا فصولاً. تعريف الجهاد لغة وشرعًا: الجهاد: لا يشك عالم باللغة العربية أنه مصدر فعله جاهد يجاهد جهادًا، ومعناه: بذل الجهد، أي: الطاقة في إدراك أمر شاق، وهنا نقول: المراد به في هذا الباب خاصة: بذل الجهد لتكون كلمة الله هي العليا، وعلى هذا التعريف يشمل الجهاد بالسلاح، والجهاد بالبيان؛ لأن طالب العلم يبذل الجهد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ودين الله تعالى هو المعمول به في الأمة، فهو يقرأ الكتاب والسنة ويفهم معناهما وينشره بين الناس ويدعو إلى سبيل الله، فهو إذن مجاهد في سبيل الله؛ ولهذا نرى أن الذين في المعركة والذين في مجلس العلم وهم يطلبون العلم حقيقة أنهم سواء في الأجر، بل ربما يزداد أجر طالب العلم لما يحصل من علمه إذا كان ناصحا لله ورسوله من نشره السنة وبيانها، ولهذا نجد أن المجاهد في المعركة محتاج إلى المجاهد في العلم ولا عكس. أقسام الجهاد: ينقسم الجهاد إلى قسمين: * هو أولاً جنسان: الجنس الأول: جهاد الأعداء بالسلاح. والجنس الثاني: الجهاد لإعلاء كلمة الله بالبيان والعلم، الجهاد - أعني: جهاد الأعداء - ينقسم إلى قسمين: جهاد دفاع، وجهاد طلب؛ فمن غزانا من الكفار فجهاده جهاد دفاع، ومن غزوناه من الكفار فجهاده جهاد طلب، ولكن جهادنا للكفار هل هو من أجل أن يسلموا أو من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وإن يسلموا؟ الثاني، والدليل على هذا ما رواه مسلم من حديث بريدة بن الحصيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله

وجوب جهاد الدفاع وشروطه

وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثمَّ يأمره إذا حاصر العدو أن يسلم العدو أو ينزل على حكم الله فيبذل الجزية أو يقاتل، وهذا أمر معلوم، أي: أن قتالنا لأعدائنا ليس لأن يسلموا: } لا إكراه في الدين {، ولكن من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تكون السيطرة لدين الإسلام: } هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله {] التوبة: 33 [ هذا هو المقصود، فنحن مثلاً إذا أخذنا الجزية على الكفار وقلنا: أعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فلمن الكلمة العليا؟ لله عز وجل، إذا جاءك اليهودي أو النصراني أو المشرك - على القول الراجح - ذليلاً حقيرًا يسلم الجزية، قوله تعالى: } عن يدٍ {] التوبة: 29 [. ذكرنا فيما سبق أن لها معنيين: المعنى الول: عن قوة متكلم، أي: أنكم تظهرون أمامه بمظهر القوة، والثاني أنَّ} عن يدٍ {أي: أنك تأخذ بيده عندما تأخذ الجزية وتجره لتريه القوة فليس بصحيح. وجوب جهاد الدفاع وشروطه: إذن الجهاد نوعان: جهاد دفاع، وجهاد طلب: جهاد الدفاع واجب فرض عين بدون تفصيل؛ لأنه يجب أن يدافع عن دينه لأنه دفاع عن النفس وعن بلاد المسلمين، فيجب أن نقاتل - ندافع - حتى من يستطيع الدفاع من النساء أو المراهقين أو ما أشبه ذلك بشرط أن نأمن انهزامهم، فإن خفنا من انهزامهم - كما هو الغالب في النساء ومن لم يبلغ- فإننا لا نمكنهم من القتال. ولهذا قال العلماء: يجب القتال ويكون فرض عين بأمور أربعة: الأول: إذا حضر الصف فإن القتال يجب لقول الله تعالى: } يأيها الذين أمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير {] الأنفال: 15، 16 [. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم التولِّي يوم الزحف من كبائر الذنوب من الموبقات، إلا أن الله تعالى خفف عن عباده وأذن للمسلمين أن يفروا إذا كان العدو أكثر من مثليهم لقوله تعالى: } الئن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا .. {] الأنفال: 66 [. ولهذا أجاز العلماء الفرار من العدو إذا كان أكثر من الضعف. الثاني: إذا استنفره يعني: إذا قال الإمام: اخرجوا قاتلوا، فإنه يجب على المسلمين أن يخرجوا ويقاتلوا؛ لقوله تعالى: } يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل

شرط القدرة على الجهاد وضوابطه

الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38]. يعني: ملتم إليها بثقل، ومعلوم أن الذي يختار الأرض على السماء ضائع} أرضيتم بالحياة الدنيا من االآخرة فما متاع الحياة الدنيا إلا في الآخرة إلَّا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم ولا تضروه شيئًا والله على كل شيء قدير {] التوبة: 38، 39 [. الثالث: إذا حضر العدو بلده، وهذا هو الشاهد لما قلناه قبل قليل، إذا حصر العدو بلدك صار الجهاد الآن واجبًا؛ لأنه جهاد دفاع؛ لأن العدو إذا حصر البلد معناه أن أهلها يكونون عرضة للهلاك لاسيما في مثل وقتنا الحاضر، إذا حصر العدو البلد وقطع الكهرباء وقطع المياه وقطع مصادر الغاز معناه أن الأمة سوف تهلك فيجب الدفاع ما دام عندهم ما يمكن أن يدافعوا به. الرابع: إذا كان محتاجًا إليه، يعني: إذا احتيج إلى هذا الرجل بعينه وجب أن يقاتل مثل أن نغنم دبابات أو طائرات من عدو ونحن لا نعرف كيف نشغلها، لكن يوجد واحد من الناس قد عرف هذه الصنعة وعرف كيف يشغلها فهذا يجب عليه بعينه أن يقاتل، لا يقول: الناس كثير. نقول: نعم، الناس كثير لكن يعرفون تدبير هذا الطائرات فيجب أن تخرج أنت بنفسك. فهذه أربعة مواضع ذكرها العلماء - رحمهم الله - أن الجهاد فيها يكون فرض عين، وما عدا ذلك فهو فرض كفاية، الجهاد فرض كفاية على المسلمين لأمر الله تعالى في آيات كثيرة من القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام - يعني: أعلاه؛ لأن المجاهدين يعلون على أعدائهم فلهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بذروة السنام، لأنه أعلى ما في البعير، فالجهاد فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وإذا لم يقم به من يكفي تعيَّن عليهم. شرط القدرة على الجهاد وضوابطه: ولكن اعلموا أن كل واجب لابد فيه من شرط القدرة، والدليل على ذلك النصوص من القرآن والسنة ومن الواقع أيضًا؛ أما القرآن فقد قال الله تعالى: } لا يكلف الله نفسا إلا وسعها {] البقرة: 286 [وقال تعالى: } فاتقوا الله ما استطعتم {] التغابن: 16 [. وقال تعالى: } وجاهدوا في الله حقَّ جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج {] الحج: 78 [يعني: حتى لو أمرتم بالجهاد لا يوجد حرج إن قدرتم عليه فهو سهل، وإن لم تقدروا عليه فهو حرج مرفوع، إذن لابد من القدرة والاستطاعة، ومن السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم وإذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، وهذا عام لكل أمر؛ لأن قوله تعالى: "بأمر" نكرة في سياق الشرط فيكون للعموم سواء أمر العبادات أو الجهاد أو غير ذلك، وأما الواقع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو الناس إلى توحيد الله وإلى

الصلاة، وبقي على هذا ثلاث عشرة سنة لم يؤمر بالجهاد مع شدة الإيذاء له ولمتبعيه صلى الله عليه وسلم وقلة التكاليف، أكثر أركان الإسلام وما وجبت إلا في المدينة، ولكن هل أمروا بالقتال؟ لا، لماذا؟ لأنهم لا يستطيعون، هم خائفون على أنفسهم، إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة خائفًا على نفسه وهذا معروف، ولذلك لم يوجب الله عز وجل القتال إلا بعد أن صار للأمة الإسلامية دولة وقوة: } أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير {] الحج: 39 [. وعلى هذا فإذا قال لنا قائل: الآن لماذا لا نحارب أمريكا وروسيا وفرنسا وانجلترا؟ فالجواب أن يقال: لعدم القدرة، الأسلحة التي قد ذهب عصرها عندهم هي التي بأيدينا وهي عند أسلحتهم بمنزلة السكاكين الموجودة عند الصواريخ ما تفيد شيئًا، فكيف يمكن أن نقاتل هؤلاء؟ ! ولهذا أقول: إن من الحمق أن يقول قائل: إنه يجب علينا الآن أن تقاتل أمريكا وفرنسا وانجلترا وروسيا، هذا تأباه حكمة الله عز وجل ويأباه شرعنا، لكن الواجب علينا أن نفعل ما أمر الله عز وجل: } وأعدُّوا لهم ما استطعت من قوة {] الأنفال: 60 [. هذا الواجب علينا أن نعد لهم ما استطعنا من قوة نعدها هو الإيمان والتقوى؛ لأننا بالإيمان والتقوى سوف نقضي على أهوائنا، ونقضي على تكاسلنا، ونقضي على محبتنا للدنيا، لأننا الآن نحب الدُّنيا ونكره الموت. الصحابة المجاهدون حالهم عكس حالنا يريدون الموت ويكرهون الحياة في الذل، فالواجب أن نعد ما استطعنا من قوة وأولها الإيمان والتقوى ثمَّ التسلح، الذي علَّم هؤلاء ألا يعلمنا؟ ّ! يعلمنا لكننا لم نتحرك ثم في الواقع لو تحركنا كمخت الرءوس ما نستطيع، ولا حاجة إلى أن نعين لكم أنهم إذا رأوا دولة يمكن أن تنتعش بالأسلحة فعلوا ما فعلوا مما هو معلوم لكم. أقول: إن الواجب الآن أن نستعيد بالإيمان والتقوى، وأن نبذل الجهد والشيء الذي لا نقدر عليه نحن غير مكلفين به ونستعين الله عز وجل على هؤلاء الأعداء، ونحن نعلم أن الله عز وجل لو شاء لانتصر منهم كما قال تعالى: } ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم {] محمد: 4 [. يعني: حتى لو ابتلى بعضنا ببعض وقتل من قتل منا فإن الله لا يضل أعمال هؤلاء الذين قتلوا في سبيله سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفا لهم. فالحاصل: الذي أحب أن أقوله وأؤكده أنه لابد من القدرة، أما مع عدم القدرة فإن الشرع والقدر يتفقان بأنه لا يجب علينا أن نتحرك ما دمنا لا نستطيع الواقع، والشرع كله يدل على هذا

الترغيب في الجهاد في سبيل الله

من المهم فيما نعده لأعدائنا ألا نتفرق ونحن تحت راية واحدة، وألا نتفرق ونحن تحت رايات، يعني: مثًلا الأمة الإسلامية كم لها من دولة؟ دول كثيرة، بينما هي في صدر الإسلام دولة واحدة لكن تعددت الدول، هذه الدول هل هي متفقة أو مختلفة؟ مختلفة غاية الاختلاف متباينة غايو التباين، ثم الدولة الواحدة هل اتفق شعبها؟ الغالب لا، أحزاب: طوائف من الناحية السياسية، وطوائف من الناحية الدينية والأخلاقية والمنهجية، واخرج من بلادك ترى العجب العجاب، يمكن أن يكون كل قرية ترى نفسها دولة مستقلة في عقيدتها ومنهجها وأعمالها وأحكامها، فكيف مع هذا التفرق نريد أن ننتصر على أعدائنا؟ ! ولهذا يحكى لنا أن هناك كلمة حكيمة يطلقها الإنجليز، يقولون: فرق تسد؛ أي: تكون أنت السيد؛ لأنك إذا فرقت الناس صار الناس يضرب بعضهم بعضًا وأنت تتفرج، وهذا هو الواقع بالنسبة لنا على كثرة المسلمين وما عندهم من القوة وإن كانت لا تضاهي ولا تقارب قوة الكفار لكننا متفرقون، وليس هذا من إعداد القوة لأعدائنا، بل هذا من أسباب الفشل كما قال تعالى: } ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين {] الأنفال: 46 [. ولهذا نحن نحرص دائمًا على تأليف القلوب وعدم الاختلاف وعدم الفوضى الكلامية والقلبية، ونرى أن الناس يغضون عما يحصل من الأشياء التي قد يستنكرونها يرجون بذلك جمع الكلمة؛ لأن جمع الكلمة مهم جدًا لاشك أنه قد مر على بعضكم من النصوص ما يدل على أن الاجتماع من أهم ما يكون للشرع حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبع بعضكم على بيع بعض"، لماذا؟ لأنه يؤدي إلى التباغض والتنافر، فتجدون أن الشرع ضد كل طريق يكون فيه اختلاف. الترغيب في الجهاد في سبيل الله: 1208 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه به، مات على شعبة من نفاق". رواه مسلم. "من مات" الجملة هذه شرطية، فعلى الشرط فيها "مات"، وجواب اشلرط فيها "مات" الثانية. قوله: "ولم يغز" أي بالفعل، "ولم يحدث نفسه بالغزو" أي: لو قام الجهاد بأنه سيجاهد إذا قام الجهاد من لم يفعل ذلك مات على شعبة من النفاق، ووجه ذلك: أن المؤمن حقًا هو المجاهد في سبيل الله، أما المنافق فإنه أجبن الناس ولا يمكن أن يجاهد ولا أن يحدث نفسه بالجهاد، ولهذا رجع من الجيش في غزوة أحد نحو الثلث؛ لأنهم كانوا منافقين، فالمنافق لا

يريد الجهاد ولا يحدث نفسه به؛ لأنه عكس ما يراد بالجهاد؛ إذ إنه يريد أن تكون كلمة الله هي السفلى فلا يمكن أن يحدث نفسه بالغزو، فمن كان من المؤمنين على هذا الوجه "مات على شعبة" أي: على جانب، وشعبة الشيء جانبه، على جانب "من النفاق" والنفاق هو إبطان الشر وإظهار الخير، فإن كان الذي أبطنه كفرًا والذي أظهره إيمانًا صار منافقًا نفاقًا أكبر من الذين في الدرك الأسفل من النار، وإن كان معصية صار منافقًا نفاقًا أصغر، لماذا سمي هذا النوع من العمل السيء بالنفاق يعني: إبطان الشر وإظهار الخير، لماذا سمي بالنفاق؟ قالوا: لأنه مأخوذ من النافقاء وهي نافقاء اليربوع، واليربوع دويبة أكبر من الفأرة قليلًا رجلاه طويلة ويداه قصيرة، ـ لكنه ذكي وله حيل منها أنه يحفز له جحرًا في الأرض ويجعل له بابًا يخرج منه، ويدخل منه ثم يحفر في أقصى الجحر صاعدًا إلى الأرض حتى إذا بقى عليه مثل القشرة وقف من أجل إذا حجره أحد من بابه فتح النافقة هذه، والذي ينظر إلى الجحر من الأصل يقول: هذا ليس له إلا باب واحد، فهو قد أخفى الباب الثاني خداعًا ولهذا اشتق من هذه النافقاء كلمة نفاق. ففي هذا الحديث: أنه يجب على الإنسان أن يغزو، فإن لم يفعل فليحدث نفسه بالغزو إذا قام ساق الجهاد. وفيه أيضًا: التحذير من النفاق، ولعمر الله إنه لعمل سيئ يجب الحذر منه؛ لأن المنافق يرائي الناس بأعماله يظهر للناس أنه مستقيم وأنه على الهدى وهو بالعكس وقد قال الله تعالى: } إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلًا {] النساء: 142 [ ومن فوائد الحديث: أن النفاق يتشعب يكون أكبر وأصغر لقوله: "على شعبة من النفاق"، وهل الإيمان يتبعض؟ نعم، الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة. ومن فوائد الحديث: أنه يمكن أن يجتمع في الإنسان خصال إيمان وخصال كفر، فالنفاق من خصال الكفر، وهذا الذي قررناه هو مذهب السلف وأئمة الخلف، وعليه درج أهل السنة والجماعة أن الإنسان يكون فيه خصلة إيمان وخصلة كفر، وقال بعض أهل البدع: لا يمكن أن يجتمع إيمان وكفر، فإما كفر خالص أو إيمان خالص، وهؤلاء هم الخوارج والمعتزلة، وكذلك المرجئة الخوارج يقولون: لا يمكن أن يكون في الإنسان خصال إيمان وكفر، إما كفر وإما إيمان، ولهذا لا يزيد الإيمان عندهم ولا ينقص، ففاعل الكبيرة كالزاني مثلًا عند الخوارج كافر خارج من الإيمان هو ومن يسجد للصنم سواء، وعند المرجئة: مؤمن كامل الإيمان لم ينقص إيمانه؛ لأن الإيمان عندهم هو المعرفة سواء استلزم القبول والإذعان أم لا.

هناك طائفة تمحلت وتمعرفت وتمعلقت وهم المعتزلة قالوا: لا نقول مؤمن ولا كافر، بل نقول: في منزلة بين المنزلتين، لا نسميه مؤمنّا ولا نسميه كافرًا نسميه في منزلة بين المنزلتين، لو أن أحدًا سافر من أهل المدينة إلى مكة وفي أثناء الطريق وقف هل نقول: إنه من أهل المدينة؟ لا، ولا من أهل مكة، لأنه لم يصل إليها بعد، يقولون: هذا في منزلة بين المنزلتين، هذا الفاعل للكبيرة لا يكون مؤمنًا، لأنه خرج من الإيمان، ولا يكون كافرًا، لأنه لم يصل إلى الكفر، وهو في الأخر مخلد في النار كما يقول الخوارج تمامًا، لكن أهل السنة - والحمد لله - هداهم الله تعالى الصراط المستقيم وقالوا: يجب أن نقول بالعدل، نقول: هذا مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان، وهذا هو الحق. 1209 - وعن أنس رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (وجاهدُوا المشركين بأموالكُم، وأنفسكُم، وألسنتكُم). رواهُ أحمد، والنسائيُّ، وصححُه الحاكمُ. (جاهدوا) فعل أمر، ومعناه: ابذلوا الجهد، يعني: الطاقة في معاملة المشركين لأجل إعلاء كلمة بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم، أما الأموال فأن يدفع الإنسان شيئًا من ماله للمجاهدين في سبيل الله، أو لشراء السلاح ليجاهد به في سبيل الله ومن جهز غازيًا فقد غزا، (أنفسكم) أن يباشر الإنسان نفسه الجهاد في سبيل الله، الثالث: (ألسنتكم) وذلك بالخطب والأشعار وما أشبه ذلك كهجاء المشركين وتشجيع المسلمين المجاهدين، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: (وألسنتكم): بيان الحق، فيكون منفصلًا عما قبله، ويكون المراد بالجهاد باللسان هُو جهاد أهل العلم يجاهدون بألسنتهم فيبينون للناس شريعة الله ويدعونهم إليها، وأيهما أولى أن نقول: المراد بالجهاد باللسان الخطب التَّي تحث على الجهاد والتَّي توجب وهن أعدائنا وكذلك القاصئد، وكم كلمة صارت أشد من السيوف، وكان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يحث حسَّانا على هجاء المشركين ويقول: (اللَّهُمَّ أيده بروح القدس)، أو أن نقول: إن المراد بالألسن بيان الحق، ويكون المراد بالجهاد هنا جهاد العلم، فيبين للناس ما نُزل إليهم، أو الأمرين معًا؟ الأمرين جريًا على القاعدة التَّي تقول: إذا أمكن جمل اللفظ على المعنيين بدون تناقض فهو أولى من الاقتصار على أحدهما، وعلى هذا فيكون هذا أعم.

جهاد النساء

قوله صلى الله عليه وسلم حينئذ: (جاهدوا المشركين) هل هُو خاص بالمشركين أو حتَّى الكفار والمنافقين وغيرهم؟ الثاني، ويكون ذكر المشركين على سبيل التمثيل، ويدل لذلك قوله تعالى: {يأيها النبيُ جهد الكُفار والمنفقين واغلظ عليهم} وهذا يعُمُ أي: كفار. فيستفاد من الحديث: وجوب جهاد المشركين، أي: بذل الجهد في قتالهم حتى تكون كلمة الله هي العليا. وفيه من الفوائد: أن الجهاد يكون بالمال والنفس واللسان لقوله: (بأموالكم ..... إلخ)، وهل هذا ينزل على حالات أو على التخيير؟ الظاهر الثاني، لأننا إذا قلنا بأنه على الحالات صار الجهاد بالمال واجبًا على من لا يستطيع ببدنه، وصار الجهاد واجبًا بالنفس على من لا يستطيع بماله، وكذلك يقال في الجهاد باللسان، أما إذا قلنا على التخيير فصار من لم يجاهد بنفسه صار يجاهد بماله، وربما يكون الجهاد بالمال أنفع من الجهاد بالنفس، قد يكون الإنسان جبانًا أو ضعيف الجسم أو غير ذلك وعنده ثروة مالية يستطيع أن يبذل منها في الجهاد فهنا نقول: الأفضل الجهاد بالمال، لأن هذا الرجل ضعيف لا يستطيع المقاومة أو يكون جبانًا، والجبان لا يستطيع المجابهة إذَّا رأى العدو ألقى بالسيف ثُم هرب فهذا لا يصلح للجهاد. فالحاصل: أن المسلم إذا كان عنده مال وهو ضعيف أو جبان نقول له: جاهد بمالك، أما إذا لم يكن عنده مال ولا قوة بدن فهذا نقول له: جاهد بلسانك، وكم من إنسان يستطيع أن يجاهد بلسانه دون ماله ونفسه، فالظاهر: أنه على التخيير، ولكنه ينظر فيه للمصلحة. جهاد النساء: 1210 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسُول الله، على النَّساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه: هو الحجُّ والعُمرة). رواهُ ابن ماجه، وأصلهُ في البُخاريِّ. فسر الجهاد لهن بأنه الحج، فالحج نوع من الجهاد، لأنه يبذل فيه المال والنفس ويلحق فيه من المشقة جهاد، ولذلك قال الله عز وجل: {وأنفقُوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنُوا إن الله يحب المحسنين} (وأتمُوا الحجَّ والعُمرة لله) فذكر إتمام الحج بعد ذكر الإنفاق في سبيل الله، فدل هذا على أن الحج نوع من الجهاد في سبيل الله. وقوله: (هُو الحج والعُمرة)، الحج هُو التعبد لله تعالى بقصد مكة والمشاعر لإقامة أعمال معلومة، وهذا أحسن من تعريف من عرفه بقوله: قصد مكة لعمل مخصوص، لأن هذا التعريف

يشمل ما لو ذهب رجل إلى مكة ليتَّجر فقد ذهب إلى مكة لعمل مخصوص، فالتعريف هنا غير مانع، والصواب أن يقال: التعبد لله، الحج إذن هُو التعبد لله بقصد مكة والمشاعر لعمل مخصوص، والعمرة: التعبد لله تعالى بقصد البيت لعمل مخصوص، لأن عمل المعتمر لا يشمل كل مكة فهو لا يخرج إلى مزدلفة ولا إلى منى ولا إلى عرفة. في هذا الحديث فوائد: أولًا: حرص الصحابة على العلم، وذلك بسؤال عائشة النَّبي صلى الله عليه وسلم هل على النساء جهاد، وهل سؤال الصحابة لمجرد العلم، أو للعلم والعمل؟ الثاني خلافا لكثير من الناس اليوم يسأل لمجرد أن يعلم فقط، ولكن العمل قليل إلا من شاء الله. من فوائد الحديث: رغبة النساء في الجهاد، لأنه من أفضل الأعمال بل هُو ذروة سنام الإسلام كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ووجهه: هل عليهن جهاد؟ ومن فوائده: أن الجهاد لا يجب على المرأة وهو كذلك، فالمرأة لا يجب عليها الجهاد، بل للحاكم أن يمنعها من الجهاد، وذلك لأنها ليست من ذوي العزائم والقوى والجلد، إذ إنها عزيمتها ضعيفة وكذلك صبرها وقتها وجلدها ضعيف فلا تصلح أن تكون من أهل الجهاد، بل ربما يكون وجودها ضرراً على الجاهدين. فإن قال قائل: في وقتنا قد تكون المرأة قائدة لطائرة مسلحة أفلا يجب عليها أن تجاهد؟ نقول: لا يجب، لأنها وإن كانت قائدة لطائرة مسلحة فإنها ربما تجبن عند اللقاء فلا يجب عليها الجهاد، ولكن هل تخرج مع المجاهدين؟ نقول: إن خرجت من أجل القيام بمداواة الجرحى وتضميدهم فلا بأس كما فعل نساء الصحابة، وأما إن خرجت للقتال فلا، لأنها لا تستطيع المواجهة والمقاومة، فإذا وجدت امرأة نادراً تستطيع ذلك فالنادر لا حكم له. ومن فوائد الحديث: وجوب الحج والعمرة، يؤخذ من قولها: (عليهن جهاد) و (على) تفيد الوجوب، وهذا هُو القول الراجح أن الحج والعمرة كلاهما واجب، ومن العلماء من قال: إن العمرة ليست بواجبة مطلقًا، ومنهم من قال: ليست بواجبة على مكي وواجبة على الآفاقي الَّذي ليس من أهل مكة، وهذا هُو نص الإمام أحمد رحمة الله أي: أن أهل مكة لا عمرة عليهم، وأما غيرهم فعليه العمرة، ولكن الَّذي ليس من أهل مكة، وهذا هُو نص الإمام أحمد رحمة الله أي: أن أهل مكة لا عمرة عليهم، وأما غيرهم فعليهم فعليه العمرة، ولكن الَّذي لي من النصوص وجوب الحج والعمرة على أهل مكة وغيرهم.

تقديم بر الوالدين على الجهاد

تقديم بر الوالدين على الجهاد: 1211 - وعن عبد الله بن عُمر رضي الله قال: (جاء رجل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد. فقال: أحيّ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد) مُتَّفق عليه. (رجل) منهم، وكثيرًا ما تجد هذه المبهمات، ولكن قد اعتنى بعض العلماء ببيانها، ومنهم من وصل به الحال إلى حد التكلف، والحقيقة أن بيان المبهم إذا كان مصلحة فجدير أن يبذل الإنسان وقته في بيانه، وإلا فالمهم هُو معرفة الحكم. وقوله: (يستأذن في الجهاد) أي: يطلب الإذن، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: (أحي والداك؟ ) الجملة استفهامية للاستعلام يعني: يستعلم الرسول هل له من ذلك، وقولة: (أحي والداك) هذا التركيب مما يتعين فيه أن يكون الفاعل نائبا مناب الخبر، لماذا؟ لأن الوصف مفرد والفاعل مثنى، فيتعين أن يكون الوصف مبتدأ، و (والداك) خبره، لأننا لو قلنا: (والداك) مبتدأ مؤخر لم يطابق الوصف للمبتدأ وهذا متعذر، ولو قال: وأحيان (والداك) جاز لكي تكون (حيان) خبرًا مقدمًا، و (والداك) مبتدأ مؤخرًا، ولا يجوز أن تكون (والداك) فاعل سد مسد الخبر إلا على لغة أكلوني البراغيث، إذن (حي) مبتدأ، و (والداك) فاعل سد مسد الخبر. وقوله: (والداك) يعني: أمه وأباه، وهل هذا من باب اتغليب أولا؟ هل يطلق كلمة والد على الأب والأم أو على الأم وحدها؟ {إن أُمَّهتُهُم إلَّا التَّي ولدنهُم} الولادة تطلق على الأم، لكن هل الأب يقال: والدا؟ نعم، والشاهد: (لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما يعطي ولده)، والمراد به هنا: الأب كما ذكر أهل العلم، على حال: والداك إذن ليست من باب التغليب، لأن الوالد يطلق على الأب وعلى الأم. (قال: نعم)، حرف جواب، أي: أنهما حيان، قال: (ففيهما فجاهد) يعني: اجعل جهادك فيهما، وقوله: (وفيهما) الفاء عاطفة، وقوله: (فجاهد) الفاء زائدة لتحسين اللفظ، والأصل: (ففيهما جاهد)، وتاتي زائدة في قولك: فقط، والأصل: قط. هذا الحديث يفيد: أن حق الوين مقد على الجهاد، فهل هُو على إطلاقه؟ سيأتي في الفوائد. يستفاد من الحديث: أولًا: وجوب استئدان ولي الأمر في الجهاد، هل يفيد الوجب الوجوب أو يفيد أنه الأولى والأفضل؟ الثاني أنه ينبغي لمن أراد الجهاد أن يستأذن من ولي الأمر لئلا يجاهد من لا يصلح للجهاد

ومن فوائد الحديث: أن النَّبي صلى الله عليه لا يعلم الغيب لقوله: (أحي والداك؟ )، وهذا أمر يكاد يكون معلومًا بالضرورة لدلالة الكتاب والسنة عليه دولة صريحة واضحة وأنه لا يعلم الغيب صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: مشروعية استفهام المفتي حتى لا يجيب بكلام مطلق أو عام مع وجوب التقييد أو التخصيص لقوليه: (أحي والداك؟ ). فإن قال قائل: الأصل عدم التفصيل إلا فيما دعت إليه الضرورة. فيقال: لعل النَّبي صلى الله عليه وسلم فهم من حال السائل أنه لابد من الاستفهام، فعندي أنه يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى هذا الرجل غير صالح للجهاد وأراد أن يعرف هل له والدان حتى يكون جهاده في والديه مغنيًا عن جهاد الأعداء، لأن من الناس من نأذن له أن يجاهد لكونه أهلًا للجهاد في القوة والشجاعة، ومن الناس من لا نأذن له ونوجهه إلى جهاد آخر وإلا فلو جاء أحد يستأذن مني ويقول: أفاد جاهد وأنا أرى أنه رجل شجاع قوي فلا حاجة للاستفصال، ولكن يظهر لي- والله أعلم- أن النَّبيّ صلى رأى من حال الرجل أن جهاده في والديه أفضل من جهاده للكفار. ومن فوائد الحدث: أن الاقتصار على (نعم)، في الجواب دون إعادة السؤال يحصل به المقصود، لأن النبَّي صلي الله عليه بني على كلامه حين قال (نعم)، وكذلك الإشارة تقوم مقام العبارة شرعًا أو حساً أو لا يشترط؟ يرى بعض العلماء أن الإشارة لا تقوم مقام العبارة إلا إذا تعذرت العبارة شرعًا كما لو كان الإنسان في صلاة واستأذنه احد أو سلم عليه، فهنا يتعذر الرد بالعبارة، ومن ثمَّ فلا بد من الإشارة، أو تعذرت حسًا كالأخرس، أما إذا أمكن فإنه لا تقوم الإشارة مقامه، والصحيح أنها تقوم مقامه مطلقًا إلا ما شرط فيه النطق كإيجاب النكاح والطلاق وما أشبه ذلك، ولهذا لو أن امرأة سألت زوجها الطلاق قالت: طلقني، فقال برأسه فلا يكفي، لأنه لابد من لفظ الطلاق أو ما يقوم مقامه من العبارات، الكتابة تقوم مقام النطق حتى وإن أمكن النطق، ولهذا لو كتب الإنسان: في ذمتي لفلان كذا وكذا، أو زوجتي طالق، أو عبدي حر، أو بيتي وقف نفذ، وإن لم يكن عاجزًا عن النطق. ومن فوائد الحديث: تقديم القيام بحق الوالدين على الجهاد، لقوله: (ففيهما فجاهد)، ولكن هذا ليس على إطلاقه كما تفيده الأدلة الشرعية، فإذا كان حق الوالدين واجبًا فهو مقدم على الجهاد، لأنه واجب عيني لشخص خاص مثل ألاَّ يوجد أحد يقوم بحاجة الوالدين إلا هذا الولد، فالواجب تقديم حق الوالدين هنا على الجهاد ولو كان فرض عين، اللَّهم إلا في المسائل التَّي سبقت إذا حضر الصف، أو احتيج إليه حاجة ضرورية أو ما أشبه ذلك، وأما إذا كان عندهما من يقوم مقام هذا فلينظر إلى المصلحة.

حكم الإقامة في دار الكفر

وفي حديث عبد الله بن مسعود أنه سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها) قال: ثم أي؟ قال: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين) قال ثُم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) فجعل الجهاد مؤخرًا على بر الوالدين، لأن وجوبه عام بخلاف وجوب بر الوالدين فهو خاص. ومن فوائد الحديث: أن القيام ببر الوالدين يقوم مقام الجهاد في سبيل الله لقولة: (فيهما فجاهد). ومن فوائد الحديث: حرص الدين الإسلامي على ائتلاف الأسرة وعدم تفرقها وتمزقها، خلافًا لما عليه الكفار اليوم وقبل اليوم من تفكيك الأسر، حتى إن الواحد منهم إذا بلغ سن ثماني عشرة انفصل ولابد، ويكون مع أبيه كالرجل الأجنبي، لأنه ليس عندهم دين يبين لهم ويحثهم على التآلف والاجتماع. 1212 - ولأحمد وأبي داود: من حديث أبي سعيٍد نحوه، وزاد: (ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك وإلا فبرَّهُما) هذه الزيادة تدل على أن الرجل كان أهلا للجهاد، لكن النّبي صلى الله عليه وسلم فضل قيامه ببر الوالدين على الجهاد، ولهذا قال: (أستأذنهما) ومن فوائد هذه الرواية: أن ما وجب لحق الغير فأسقطه الغير فإنه يسقط، فلو أن الأب أو الأم أسقطا عن الولد برهما وقالوا: نحن نسمح لك أن تفعل كذا، فقال: أنتما محتاجان لي. قالوا: نسمح لك اذهب، ففي هذه الحال نقول: يجوز له أن يفعل إلا إذا علم أنهما قالا ذلك حياء وخجلًا، أو قالا ذلك لقوة رحمتهما للوالد وأنهما في حاجة، مثلًا لو قالا ما حاجة تبيت عندنا اذهب بت حيث شئت، وهو يعلم أنهما قالا ذلك شفقة عليه ورحمة به، ففي هذه الحال لا يطيعهما ما داما محتاجين بأن يبيت عندهما. حكم الإقامة في دار الكفر: 1213 - وعن جريرٍ البحلي رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيمُ بين المشتركين) رواهُ الثَّلاثة وإسناده صحيح، ورجح البخاري إرساله.

يعني: أنه منقطع عند البخاري، الحديث يقول: (أنا بريء) والبراءة بمعني: التخلي، ومنه إبراء المدين من دينه، أي: إسقاطه عنه، فالبراءة معناها: التخلي من كل مسلم يقيم بين المشركين سواء أقام في بيت واحد مع المشركين أو أقام في بلد واحد مع المشركين، فالنبي صلى الله عليه وسلم منه بريء. وهذا الحديث يدل على: تحريم إقامة المسلم في بلاد المشركين وأن ذلك من كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ منه، وبراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الفاعل تدل على أن فعله كبيرة من الكبائر، ولكن قوله: (يقيم) هل المراد الإقامة المطلقة أو مطلق الإقامة؟ الاول، أما من ذهب وأقام بين المشركين لحاجة شراء بضاعة أو ما أشبه ذلك فإن هذا لا بأس به، لأن هذه لا تعد إقامة مطلقة، وإنما هي مثل الزيادة والعيادة وما أشبهها، ولكن هذا الحديث يقول: إن البخاري رجح إرساله ففيه هذه العلة وهو كان من أثمة الحديثين أعلَّه بهذه العلة، والإرسال يوجب القدح في الحديث ما لم تتلقاه الأمة بالقبول، إن تلقته بالقبول صار مقبولا من حيث إن الأمة تلقته بالقبول وهذا شأن كل مرسل. فإن قال قائل: إن هذا الحديث يشكل في الوقت الحاضر، لأنه لابد من إقامة المسلم بدار المشركين في موضوع السفارة، فإن سفراء الآن مقيمون بين المشركين؟ فالجواب عن هذا أن يقال: إذا كان السفير سفير خير يبين الحق ويدعو للإسلام ويدافع عن دولته ما يلحق بها من التهم والكذب والافتراء فإن هذا لا بأس به لما في ذلك من المصالح الكبيرة، لأن السفارات الآن ليس مجرد أن يتكلم السفير بلسان الحومة في أمور سياسية، بل فيها اقتصاديات وعسكريات وغيره، فالناس لابد لهم من ذلك فهو ضرورة، أما إذا كان السفير على اسمه بهذا المعنى فلا خير فيه، لأنه يوجد من السفراء من يشوه سمعة دولته بل من يشوه سمعة الإسلام ويكون وجوه في السفارات ضررا عظيمًا ليس على دولته فحسب بل على دولته وعلى المسلمين عمومًا، تجده لا يقوم بواجبه لا يحضر إلا يومًا بعد يوم، وإذا حضر لم يحضر إلا بعد الدوام، ثم إنا نسمع عن بعض السفراء أنهم يعربدون ويشربون الخمر! شئ يوحش! هؤلاء إقامتهم هناك حرام، لأن إقامتهم لا تزيدهم إلا شرا ومعصية، فرجوعهم إلى

الهجرة من دار الكفار وأحكامها

بلاد الإسلام المحافظة واجب، لكن من السفراء من يكون فيه خير في الدعوة إلى الله في الدفاع عن الإسلام في الدفاع عن دولته فيما هي متصفة به إلى غير ذلك من الأشياء التي يحمد عليها السفير. الهجرة من دار الكفار وأحكامها: 1214 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية". متفق عليه. قوله: "لا هجرة"، الهجرة هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، أو من بلد يغلب على أهله البدعة إلى بلد السنة، حتى وإن كانوا يدعون الإسلام، لكن بدعتهم تكفر فهم كبلاد الكفر، يجب الهجرة من بلادهم ما دام الإنسان لا يستطيع أن يقيم السنة. وقوله: "بعد الفتح": "أل" هنا للعهد الذهني، والمراد به: فتح مكة، وقوله: "لا هجرة بعد الفتح" يعني: من مكة، يتعين هذا المعني، لأنه لا علاقة بين فتح مكة وبين بلاد الكفر الأخرى، بلاد الكفر الأخرى باقية على كفرها ولو بعد الفتح، أهل الطائف قريب من مكة كانوا على الكفر بعد فتح مكة، إذ يتعين أن المراد لا هجرة بعد الفتح من مكة، وبهذا يزول الإشكال الذي أورده بعض العلماء على هذا الحديث، وقالوا: كيف يصح هذا الحديث مع أن الهجرة لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها؟ نقول: لا تعارض، لأن نفي الجنس هنا للبلد معين وهو مكة، وذلك أن رجلًا سأل النبي صلي الله عليه وسلم في الهجرة فقال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"، جهاد للأعداء للكفار، جهاد للقادر ونية لغير القادر، والجهاد للقادر والنية لغير القادر تقوم مقام الهجرة، بل تكون أعظم، لأن المجاهد يأتي للكفار يقاتلهم في بلدهم، والمهاجر يدع البلد ويتركها لكن لا يقاتلهم على كفرهم فالجهاد أعظم، وقوله: "ونية" المراد: نية لمن لا يستطيع الجهاد. يستفاد من حديث جرير السابق: تحريم إقامة المسلم بين المشركين، بل هو من كبائر الذنوب، لأن النبي صلي الله عليه وسلم تبرأ منه، ولكن هذا مبني على صحة الحديث. ومن فوائدة: أنه وإن كان مطلقًا أو عامًا فإنه لابد أن يخصص أو يقيد بما إذا أقام لمصلحة الدعوة كما لو أقام في بلاد المشركين يدعوهم إلي الله، فهنا لا يلحقه هذا الوعيد، ولكن إن وجده فائدة فليبقي وإلا فليرحل.

وجوب الإخلاص في الجهاد

أما حديث ابن عبس ففيه فوائد: أولًا الإشارة إلى مكة ستبقى بلاد إسلام، وجهه: قوله: "لا هجرة بعد الفتح" ولو عادت بلاد كفر -أجارها الله من ذلك- لعادت الهجرة منها، لكن فيه بشارة بأنها لا تعود بلاد كفر. ومن فوائد الحديث: أن الجهاد يقوم مقام الهجرة، بل كما قلت هو أعظم من الهجرة، لأنه هجوم على الكفار في بلادهم، والهجرة فرار منهم من بلد الإنسان. ومن فوائد الحديث: أن النية تقوم مقام الفعل لقوله: "ونية" وعلى هذا فتكون الواو هنا بمعنى "أو" يعني: أنه جهاد لمن قدر، أو نية لمن لم يقدر، ولكن النية لا تقوم مقام الفعل إلا بشروط: الشرط الأول: أن تكون النية صادقة، بمعني: أن ينوي نية صادقة من قلبه أنه لولا المانع لفعل. الشرط الثاني: أن يكون قد شرع في العمل ولكن عجز عن إتمامه لقوله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} [النساء: 100]. أما إذا نوى بدون أن يشرع في العمل فله أجر النية فقط ويكون هذا الأجر مساويًا لأجر نية الفاعل، ودليل ذلك- أي: دليل أنه لا يحصل على الأجر كاملًا- قصة الفقراء الذين جاءوا يشكون إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم أن الأغنياء سبقوهم، فقال صلي الله عليه وسلم: "ألا أحبركم بشيء تدركون به من سبقكم ولا يكون أحد أفضل منكم"، ثم دلهم على التسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة، فعلم بذلك الأغنياء ففعلوا مثلهم، فرجع الفقراء مرة ثانية إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سمع إخواننا الأغنياء بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال لهم: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"، ولم يقل: أنتم وهم سواء، فدل على أن من لم يشرع في العمل لا يحصل له أجره. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا نفى شيئًا يتطلع الناس إليه أن يفتح لهم بابًا آخر يكون قائمًا مقامه، لأن النبي صلي الله عليه وسلم لما نفى الهجرة بعد الفتح فتح الناس الراغبين في الخير بابًا آخر وهو: الجهاد والنية. وجوب الإخلاص في الجهاد: 1215 - وعن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله". متفق عليه. سبب هذا الحديث: أن النبي صلي الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية، يعني: حمية لقوم ودفاعًا عن قومه ويقاتل بشجاعة، يعني: يقاتل لأنه شجاع، والشجاع يجب أن يقاتل، لأن الشجاعة خلقه، فيجب أن يعمل بهذا الخلق، كما يحب صاحب الصيد أن يخرج إلى البر في الشتاء

وفي الصيف من أجل أن يصطاد وإن لم يكن محتاجًا إلى الصيد، بل ربما يصطاد الصيد ثم يهبه لأحد من الناس، فالإنسان الشجاع يجب أن يقاتل، لأنه شجاع يريد أن ينفذ هذا الخلق الذي أعطاه الله إياه ويقاتل ليرى مكانه، وفي رواية: يقاتل رياء يعني: يرائي الناس بأنه شجاع وأنه يقاتل في سبيل الله، فقال النبي صلي الله عليه وسلم كلمة جامعة مانعة: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا"، فـ"من قاتل" هذه شرطية، و"لتكون" اللام للتعليل، و"كلمة" هي دينه، و"العليا" يعني: فوق كل الأديان، "فهو في سبيل الله" هذا جواب الشرط، هذه الكلمة جامعة مانعة لها منطوق ولها مفهوم، منطوقها: أن من قاتل بهذه النية الطيبة فهو في سبيل الله، مفهومها: أن من قاتل على خلاف ذلك فليس في سبيل الله. ففي هذا الحديث: الحث على إخلاص النية في الجهاد. وفيه الإشارة إلى أن الجهاد إنما شرع لهذا الغرض لتكون كلمة الله هي العليا لا لإكراه الناس على الدين، ولهذا سيأتينا في حديث بريدة أننا لا نكره الناس علي الدين لكننا نكرههم على ألا يعارضوا ولا أن يقوموا في وجهه، نقاتلهم على أن تكون كلمة الله هي العليا. ومن فوائد الحديث: أن الناس يختلفون اختلافًا كثيرًا في الجهاد في سبيل الله، ، منهم من يجاهد في سبيل الله، ومنهم من يجاهد في غير سبيل الله حسب النية. ومن فوائد الحديث: أن للنية أثرًا بالغًا في قلب الأعمال إلى صالحة أو إلى فاسدة لقوله: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا". ومن فوائد الحديث: أن الإسلام دين عزيز، لا ينبغي للمسلم أن يرضى أن يكون دين فوقه لقوله: "أن تكون كلمة الله هي العليا". وعلى كل حال: هذا منوط بالقدرة: لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. وهذا شبيه قول النبي صلي الله عليه وسلم في طالب العلم: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع"، وهذا عند الإخلاص، أما عند عدم الإخلاص فقد قال: "من طلب علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يريد إلا أن ينال عرضًا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة". وذلك لفساد النية.

جواز الهدنة

جواز الهدنة: 1216 - وعن عبد الله بن السعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو". رواه النسائي، وصححه ابن حبان. "الهجرة": هي الخروج من بلد الكفر إلى بلد الإسلام إذا كان الساكن في هذا البلد، أعني: بلد الكفر لا يستطيع إظهار دينه فإنه يجب عليه أن يهاجر، وقوله: "ما قوتل"، "ما" مصدرية ظرفية، وإذا حولناها إلى المصدر يكون المعني: مدة قتال العدو، ومعلوم أن مقاتلة العدو واجبة إلى يوم القيامة لما روي النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة"، فالجهاد لا يمكن أن يسقط بأى حال من الأحوال، وإن سقط عن المسلمين في حال الضعف، فإن الواجب أن يكون من نيتهم أنهم متى كانوا قادرين على قتال العدو فإنهم سيقاتلون، وأما وضع الجهاد مطلقًا فهذا خلاف الإسلام، ولا يجوز أن نصالح الكفار صلحًا على ألا نقاتلهم وإن كنا مثلهم أو خيرًا منهم في السلاح والقوة، ولكن لنا أن نهادنهم، وقد سبق أن العلماء اختلفوا هل تقيد بعشر سنوات أو تقيد بالحاجة أو يصح أن تكون الهدنة مطلقة؟ والصحيح: أنها تصح أن تكون مطلقة، ولكنه لا يعني: أننا نضع الجهاد، بل لابد أن يكون نيتنا أننا متى كنا قادرين فسوف نجاهد، لأنه ديننا يجب أن نحميه، ويجب أن نجعله فوق كل دين. من فوائد الحديث: استمرار الهجرة إلى قيام الساعة لقوله: "ما قوتل العدو" والعدو مقاتل إلى قيام الساعة. ومن فوائد الحديث: أن كل من ليس بمسلم فهو عدو، لقوله: "ما قوتل العدو". ومن فوائده: أن المشروع مقاتلة العدو حتى يسلم أو يعطي الجزية عن يد وهو صاغر وهو كذلك، فإن قال قائل: لا شك أن الكافر عدو للمسلم لقوله تعالى: {من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكل فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98]. وإذا كان الله عدوًا للكافرين فالكافر عدو لكل مسلم، ولقوله تعالي: {يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم

حكم الإغارة بلا إنذار

أولياء} [الممتحنة: 1] يعني بذلك: الكفار، لكن هذا لا ينافي جواز مخالفتهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حالف خزاعة في الصلح الذي وقع بينه وبين أهل مكة في الحديبية. فإن قيل: ما الجمع بين هذا الحديث الحديث الذي سبق؟ فالجواب: أن حديث ابن عباس خاص في الهجرة من مكة، وأما هذا فعام. حكم الإغارة بلا إنذار: 1217 - وعن نافع رضي الله عنه قال: "أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق، وهم غارون، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم. حدثني بذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنه". متفق عليه، وفيه "وأصاب يومئذ جويرية رضي الله عنها". نافع هو مولى ابن عمر، وأورد المؤلف الحديث على هذه الصيغة على خلاف العادة، لأن الحديث الآن متصل وليس بمرسل، إذ رواه نافع عن ابن عمر، لكن كأنه لما ورد هكذا في الأمهات ساقة على ما ورد: "أغار" الإغارة هي الاندفاع بسرعة على أي شيء كان عدو أو صديق، وقوله: "على بني المصطلق" هم قبيلة من العرب "وهم غارون" أي: غافلون، يعني: أنه لم ينذرهم قبل، بل أغار عليهم وهم غافلون، "فقتل مقاتلتهم" يعني: قتل الذين يقاتلون وهم الرجال البالغون العقلاء الذين ليس فيهم مانع من شيخوخة أو مرض أو ما أشبه ذلك، "وسبى ذراريهم" "الذراراي": هم الصغار من الأولاد وكذلك النساء مطلقًا. في هذا الحديث فوائد: منها: جواز الإغارة على العدو بدون إنذار، وهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل، وذلك أن العدو إما أن يكون قد بلغته الدعوة لنا أن نغير عليه بدون إنذار، وإما ألا تكون الدعوة بلغته فهذا يجب أن ندعوه أولًا ثم نقاتله إذا امتنع، كما يدل عليه حديث بريدة القادم، وعلى هذا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أغار على هؤلاء القوم بعد أن بلغتهم الدعوة. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز تبييت الكفار إذا بلغتهم الدعوة، يعني: مهاجمتهم ليلًا ما دامت الدعوة بلغتهم لقوله: "وهم غارون" أي: غافلون لم يتأهبوا للقتال أو يحسبوا له حساب. ومن فوائد الحديث: قتل المقاتلين، ولكن لو قال قائل: هل لنا أن نأسرهم؟ الجواب: في ذلك تفصيل يوضحه قوله تعالى: ? فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق? [محمد: 4]. وقوله تعالى: ? ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض? [الأنفال: 67]. فإذا

كنا قد اثخناهم وكسرنا شوكتهم بقتال المقاتلين فلنا أن نأسر، وليس لنا أن نأسر ابتداء، لأن ذلك هوان علينا وذل لنا، بل لابد من أن نثخن أولًا بالقتل والجراح حتى إذا استسلموا وذلوا فحينئٍذ يأتي دور الأسرى. ومن فوائد الحديث: جواز سبي الذرية، أي ذرية العدو وهم النساء والصغار، ومن لا عقل له، ومن لا رأي له، ومن لا يستطيع القتال، كل هؤلاء يسبون ولا يجوز قتلهم لأنهم إذا سبوا صاروا غنيمة للمسلمين وقتلهم يفوت ماليتهم على المسلمين ولا فائدة منه، فلذلك على المسلمين ولا فائدة منه، فلذلك هؤلاء يؤسرون، قال العلماء: ويكونون أرقاء بمجرد السبي، يعني: لا يحتاج أن يقول الإمام أو القائد: إنني قد استرققتهم، أما المقاتلون إذا جاز أسرهم فإن الإمام يخير فيهم أمور أربعة: القتل والفداء بمال، والفداء بأسير، والمن، وقال بعض العلماء: يجوز استرقاقهم، يعني: فيكون هنا يخير بين خمسة أشياء: القتل واضح، والثاني: الفداء بأسير يعني: يكون لدى العدو أسرى منا فنقول: أعطونا أسيرًا بأسير أو بأسيرين حسب الحال أو بمال نقول نعطيكم أسيركم بشرط أن تدفعوا لنا كذا وكذا من المال، وأيهما الأولى المفاداة بالمال أو بالأسير؟ ينظر للمصلحة قد يكون الأسرى عندهم في أمن ونحن لدينا قدرة على أن نفك أسرانا بالقوة وعندنا حاجة للمال فينظر للمصلحة فإن تساوت المصلحة رجحنا الفداء بالأسير، لأن حرمة النفس أعظم من تحصيل المال، الرابع السن يعني: أن نطلقهم بلا شيء لكن هذا لابد أن يترجح عند الإمام أن فيه مصلحة كبيرة وهذا قد يرد قد يكون الأسير من زعمائهم ورؤسائهم وإذا مننا عليهم به كفينا شرًا عظيمًا منهم، وإذا بقي أسيرًا عندنا قد يحصل بذلك مفسدة كبيرة، أما الاسترقاق فمن العلماء من أجازة ومنهم من قال: لا يجوز لأنهم أحرار، ولم يذكر الله عز وجل إلا? فإما منا بعد وإما فداء? أما أن نسترقهم وهم أحرار ومقاتلون فلا والمشهور من المذهب أنه يجوز استرقاقهم. ومن فوائد الحديث: فضيلة جويرية حيث اختارها النبي صلى الله عليه وسلم وصارت من أمهات المؤمنين مع أنها من السبي. وفيه أيضًا: دليل على زواج أشراف الناس نسبًا بمن جرى عليها الرق، لأن جويرية جرى عليها الرق حيث سبيت مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق لكنها عتقت وصارت حرة وهي من العرب.

وصايا الرسول صلي الله عليه وسلم لأمراء الجيوش

لكن فيه دليل أيضًا: على جواز نكاح الهاشمي لغير الهاشمية، وهذا هو الذي جاءت به السنة خلافًا لمن يدعون الآن أنهم أشراف ويقولون: لا نزوج إلا من كان شريفًا وهذه حمية جاهلية، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بني عدى، وعلي بن أبي طالب من بني هاشم وعمر تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وأيهما أشرف نسبًا؟ أم كلثوم أشرف نسبًا من عمر رضي الله عنه ومع ذلك تزوجها، ولم يقولوا: لن نزوجك، لكن الحمية الجاهلية العمياء أوجبت ألا يتزوج أحد ممن يقولون الآن: نحن من آل الرسول لا يزوجون ولا يتزوجون بقيت نساؤهم مساكين أرامل عوانس، وبقي أيضًا شبابهم ربما يختارون المرأة الدينة المهذبة، ولكن لا تحصل له لأنه ممنوع عندهم عرفًا أن يتزوج أحد من بني هاشم من غير بني هاشم. وصايا الرسول صلي الله عليه وسلم لأمراء الجيوش: 1218 - وعن سليمان بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنها قال: "كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا علي جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا على اسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تفلحوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك إليها، فأقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم بأنهم يكونون كأغراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فأقبل منهم، فإن هم أبوا فاستعن عليهم بالله تعالى وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تفعل، ولكن أجعل لهم ذمتك، فإنكم أن تخفروا ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله، وإذا أرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تفعل، بل على حكمك، فإنك لا تدرى أتصيب فيهم حكم الله تعالى أم لا". أخرجه مسلم. هذا الحديث يقول: "إذا أمر أميرًا" يعني: إذا نصبه أميرًا وقوله: "على جيش أو سرية، "أو" هنا التنويع، والفرق بين الجيش والسرية: أن ما زاد على أربعمائة فهو جيش وما دون ذلك فهو سرية، "أوصاه في خاصته بتقوى الله"، "أوصاه" يعني: عهد إليه عهدًا موثقًا، لأن الوصية العهد

بالشيء على الغير على وجه موثق يعني: مؤكد، وقوله: "في خاصته" أي: في نفسه بتقوى الله، وتقوى الله سبحانه هي اتخاذ ما يقي من عذابه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، قال" "وبمن معه من المسلمين خيرًا" يعني: عهد إليه أن يختار لهم الخير، لأنه ولي عليهم فيجب أن يختار ما يراه خيرًا. ثم قال بعد هذه الوصية وهي وصية فليلة اللفظ كثيرة المعنى، لأن تقوى الله تشمل القيام بكل أوامر الله وترك نواهيه، والخير للمسلمين يشمل كل خير لهم في دينهم ودنياهم، ثم قال: "اغزوا على اسم الله" "اغزوا" الخطاب هنا للأمير ومن معه، "على اسم الله" هو قولنا: سر على بركة الله، فالمعنى: اجعل غزوك مقرونًا باسم الله عز وجل وقوله: "في سبيل الله" متعلق ب"اغزوا"، وهو إشارة إلى إخلاص النية، وقد سبق قبل قليل في حديث أبي موسى- أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ففي سبيل الله" قال: "قاتلوا من كفر بالله"، ومن كفر بالله يشمل من كان كفره بجحود أو شرك أو استهزاء أو غير ذلك، "اغزوا" هذا تكرار لقوله: "اغزوا على اسم الله" للتوكيد، "اغزوا ولا تغلوا" أي: لا تأخذوا شيئًا من الغنيمة ولا تغدروا أي: لا تغدروا بالعهد إن جرى بينكم وبين أعدائكم عهد، "ولا تمثلوا" أي: تقطعوا الأعضاء إن ظفرتم بعدوكم، "ولا تقتلوا وليدًا" أي: صغيرًا في السن. قال: "وإذا لقيت عدوك من المشركين" أي: واجهته، وقوله: "عدوك" ولم يقل إذا لقيت أحدًا بل أتى بالعدو من أجل إثارته وإغرائه على ما يراد بهذا المشرك وقوله: "من المشركين" المراد بذلك: المشرك شركًا أكبر الذين يقاتلون على شرك، "فادعهم إلى ثلاث خصال" يعني: اطلب منهم أن يحضروا إلى هذه الخصال "فإن هم أجابوك إليها فأقبل منهم وكف عنهم" ثم بينها بقوله: "ادعهم إلى الإسلام، وصوم رمضان، وحج البيت، هذا الإسلام عند الإطلاق كما أجاب به النبي صلي الله عليه وسلم جبريل حسين سأله عنه. "فإن أجابوك فأقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين" يعني: إذا أسلموا فاطلب منهم التحول إلى دار المهاجرين اختيارًا لا لزامًا، لأنه قال: "فإن أبوا فأخبرهم بأنهم يكونون كأعراب المسلمين"، ولو كان إلزامًا لم يقبل منهم وقوله: "إلى دار المهاجرين" الظاهر أن المراد بها: المدينة، لأنها هي التي هاجر المسلمون إليها كما قال تعالى: ? والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم? [الحشر: 9]. ولأن هجرتهم إلى المدينة فيها تكثير المسلمين واجتماعهم في مكان واحد، "فإن أبوا فأخبرهم بأنهم يكونون من كأعراب .... إلخ"، إن أبوا التحول من دارهم إلى دار المسلمين، يعني: لهم أن يبقوا في دارهم ولكنهم يكونون

كأعراب المسلمين، يعني: البادية، "ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن جاهدوا وهم في ديارهم استحقوا ما يستحقه المجاهدون من الغنيمة، والغنيمة هي ما أخذ من مال المشرك أو الكافر بقتال وما ألحق به وأما الفيء فهو ما أخذ بغير قتال وله موارد متعددة، منها ما يؤخذ من الكفار بغير قتال كالجزية والخراج، ومنها: الأموال المجهولة التي لا يعلم مالكها فهذه تجعل في بيت المال، ومنها: دية من لا وراث له فإنها أيضًا تجعل في بيت المال، ومنها خمس خمس الغنيمة يعني: واحدًا من خمسة وعشرين جزءًا من الغنيمة أيضًا فيئًا في بيت المال ومصرف الفيء المصالح العامة، أما الغنيمة فقد سبق بيان أنها تقسم خمسة أسهم، أربعة منها للغانمين، وواحد يقسم إلى خمسة أسهم أيضًا. "فإن هم أبوا" يعني: أبوا الإسلام "فاسألهم الجزية" هي مال يضعه ولاة الأمر على كل كافر تحت ذمة المسلمين مثل لو كان في بلد فتحناها واستولينا عليها، ثم إننا قلنا لأهلها إذا كانوا كفارًا: تبقون فيها بالجزية كل واحد يبذل الجزية التي توضع عليه ويبقى على دينه ويستحق له ما يقتضيه هذا العقد مما هو معروف عند أهل العلم، "فإن هم أجابوك فاقبل منهم"، هاتان اثنتان " فإن هم أبوا فاستعن عليهم بالله تعالى وقاتلهم"، "إن أبوا" أي: الجزية، فاستعن عليهم بالله" أي: اطلب العون من الله تعالى عليهم وقاتلهم فبدأ أولًا بالاستعانة بالله حتى ينبني عليها الفعل، لأن الاستعانة بالله قبل كل شيء لقول النبي صلي الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" يعني: لا تتكاسل، استعن عليهم بالله وقاتلهم هكذا. قال شراح الحديث في هذه الخصال: الإسلام أولًا ثم الجزية ثانيًا ثم القتال لكنه يشكل على هذا قوله: "فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم"، لأن القتل يختلف على هذا الشرط أفلا يمكن أن تكون الخصلة الثانية أن يتحولوا من دارهم إلى دار المهاجرين والثالثة سؤال الجزية؟ يمكن لكن يشكل على هذا أنهم إن امتنعوا من التحول من دارهم إلى دار المهاجرين لم يجز قتالهم فالحديث فيه شيء من الإشكال، وعلى هذا فيكون جملة "فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم" يراد بها: الأكثر لا الكل وذلك لأن قتالهم ليس فيه كف وعدم تحولهم من دارهم إلى دار المهاجرين ليس فيه قتال، فيتعين أن يكون قوله: "فإن هم أجابوك إليها" يعني: باعتبار الأغلب والأكثر وإلا لبقي الحديث مشكلًا. ثم قال: "وإذ حاصرت" الحصر: بمعني التضييق، ومعني حصر أي: أحاط بهم حتى منعهم من الخروج من حصنهم إذا حصر.

أهل حصن فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تفعل، يعني: إذا قالوا: ننزل ونسلم أنفسنا على ذمة الله وذمة رسوله فلا تفعل لهم ذلك، والذمة يعني: العهد، لا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة رسوله وعلل النبي صلي الله عليه وسلم ذلك فقال: "فإنكم إن تخفروا ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله" قوله: "أن تخفروا" بفتح الهمزة "أن" على أنها مصدرية، وهي بدل اشتمال من الكاف في قوله: "فإنكم" يعني: فإنكم خفركم، وعلى هذا فتكون "أنج مؤولة بمصدر منصوبة على أنها بدل اشتمال في قوله: "فإنكم إن تخفروا ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله" وخفر الذمة يعني: نقض العهد، ومعلوم أن نقض الإنسان عهده أهون من أن ينقض عهد الله وعهد رسوله صلي الله عليه وسلم فلهذا نهاهم النبي صلي الله عليه وسلم أن يجعلوا لهم ذمة الله وذمة نبيه، وإذا أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل ولكن أنزلهم على حكمك ثم علل ذلك إذا قالوا: ننزل على حكم الله فلا تفعل بل أنزلهم على حكمك واجتهادك وذلك لأنك تدري أن تصيب فيهم حكم الله، لأنك قد تجتهد فتخطيء وحينئذ لا تكون مصيبًا لحكم الله، وقد تجتهد وتصيب حكم الله ولكن ينفسخ الحكم، لأن الوقت وقت تشريع، فلهذا قال: "فإنك لا تدري ... إلخ" نحن عللنا بأنه قد يجتهد ويخطئ وقد يحكم بصواب يكون قد نسخ ما دام الوقت وقت تشريع وسيأتي في الفوائد ما يترتب على اختلاف هذين التقديرين. هذا الحديث يعتبر أساسًا لتوجه ولي الأمر لمن ينفذه في الجهاد، لأنه ذكر فيه كل ما يحتاج من نفذ في الجهاد ففيه فوائد: أولًا: مشروعية التأمير. ومن فوائد الحديث: أن من هدي النبي صلي الله عليه وسلم بعث السرايا والجيوش. فإن قال قائل: لماذا يبعث السرايا والجيوش ويتأخر؟ قلنا: لأن الدين الإسلامي له شعائر وله شرع يحتاج إلى أن يقيم الإنسان بعضها ويقيم غيره بعضها فهل كان الرسول صلي الله عليه وسلم يذهب مع كل جنازة؟ لا كانت تمر الجنازة من عنده ولا يقوم لها، لأنه يشتغل بما هو أهم من اتباع الجنازة كذلك أيضا في الجهاد هل كان يغزو مع كل جيش وسرية؟ لا بل يبقي في المدينة يعلم الناس الخير وقد أشار الله إلي ذلك في قوله: ? وما كان المؤمنون لينفروا كافة? [التوبة: 122]. فالدين الإسلامي لابد له أن يتكامل فالمؤمنون يكمل بعضهم شيئًا ويكمل الآخرون شيئًا آخر. ومن فوائد الحديث: أنه يشرع للإمام أن يوصي الأمراء بما أوصى به النبي صلي الله عليه وسلم الأمراء وهو تقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا. ومن فوائد الحديث: أنه يجب على من كان أميرًا أو وليًا أن يختار لمأموره وموليه ما هو خبر لقوله: "أوصاه ومن معه من المسلمين"، والوصية بالشيء تدل على الاهتمام به، ومن هنا

أخذ العلماء- رحمهم الله- فائدة قالوا: إن من خير بين شيئين فإن كان التخيير للتيسير على المكلف فهو تخيير تشه، يعني: ما يريد مثل التخيير في كفارة اليمين وإن كان تخيير مصلحة فالواجب أن يفعل ما هو الأصلح وذلك فيمن يتصرف لغيرها فكل ما يتصرف لغيره إذا قيل: يخير بين كذا وكذا يجب عليه أن يختار ما هو أصلح إذن التخيير بين الأشياء إذا كان المقصود منه التيسير على المكلف فالتخيير تشه، يعني: افعل ما تريد، مقاله: خصال كفارة اليمين وإن كان التخيير للمصلحة فهذا تخيير مصلحة يفعل ما هو الأصلح، وهذا يكون فيمن يتصرف لغيره فالأمير على الجيش يجب عليه أن يفعل الأصلح، إمام المسجد يجب عليه أن يفعل الأصلح لا يقول: أنا بالخيار إن شئت طولت وإن شئت خففت لا، ولكن يجب عليه أن يفعل من السنة ما يستطيع ومن فوائد الحديث: تشجيع الغزاة وتوجيههم بالاستعانة بالله عز وجل وإلى الإخلاص، تشجيعهم بقوله: "اغزوا" ثم أكدوها بقوله: "اغزوا" يعني: الغزو الحقيقي المبني على الشجاعة والإقدام، ومن فوائد الحديث: النية على الاستعانة بالله لقوله: "على اسم الله"، والإخلاص لقوله: "في سبيل الله"، قد يفوت الإنسان الإخلاص لله عز وجل ويقع في قلبه شيء من الرياء، وقد يفوته الاستعانه بالله إذا رأى من نفسه القوة والقدرة غاب عنه الاستعانه بالله، وكلاهما يخل بالعمل لابد من إخلاص واستعانه ولهذا إذا اعتمد الإنسان على نفسه فالغالب من ذلك أن يخذل ولا أدل على ذلك من قصة حنين حينما أعجبت المسلمين كثرتهم فغلبوا مع أنهم اثنا عشر ألفًا وعددهم ثلاثة آلاف وخمسمائة ومع ذلك هزم المسلمون لأنهم أعجبوا بالكثرة. ومن فوائد الحديث: وجوب مقاتلة الكفار لقوله: "قاتلوا من كفر بالله" وهذا العموم مخصص بنفس الحديث، وهو أن من بذل الجزية من الكفار وجب الكف عنه. ومن فوائد الحديث: تحريم الغلول لقوله: "ولا تغلوا" وقد مر معنى الغلول وهو أن يكتم الغال شيءًا من الغنيمة، وهل للغلول عقوبة؟ نعم عقوبة أخروية وعقوبة دنيوية، أما الأخروية فقد قال الله تعالى: ? ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة? [آل عمران: 161]. وأما الدنيوية فإنه يحرق رحله إلا الحيوان والمصحف والسلاح وإلا فيحرق رحله تنكيلًا به، وهل يدخل في ذلك السرقة من بين المال؟ الجواب لا، لأن النهي موجه إلى الغزاة لكن من غل من بيت المال فإنه شبيه به، لأنه أخذ من مال عام خلافًا لما يفهمه العامة أهل الجشع الذين يقولون: إن مال

الحكومة حلال هذا غلط مال الحكومة قد يكون أشد تحريمًا من مال الشخص المعين، لأن مال الحكومة يتعلق به حق كل إنسان حتى العجائز والشيوخ والصبيان، ثم إذا أراد الإنسان أن يتخلص منه قد يصعب عليه ذلك، لكن حق المعين حث خاص لواحد يمكنه أن يستحله يمكنه أن يعطيه عوضًا عما أخذ وما أشبه ذلك. ومن فوائد الحديث: تحريم الغدر لقوله: "ولا تغدروا"، والغدر هو الخيانة في موضع الأمانة فإن قيل: كيف يجاب عن المبارزة التي وقعت من الصحابة مع أعدائهم وحصل فيها الغدر؟ ويذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بارز عمرو بن ود- نقله الفقهاء رحمهم الله- لما بارزه وخرج عمرو بن ود يريد أن يقتله صاح به على ما خرجت لأبارز رجلين فالتفت عمرو لعل أحدًا لحقه فلما التفت ضربه علي حتى سقط رأسه على الأرض، هذا غدر في ظاهرة لكنه ليس غدرًا، إذ إن الرجل جاء ليقتله ليس بينهما أمانة فليس بغدر، ولهذا جاء عن النبي صلي الله عليه وسلم: "الحرب خدعه"، ما عقبة الغادر؟ له عقوبة عظمة فإن لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به يقال هذه غدرة فلان بن فلان في ذلك اليوم المشهود وهذه من أعظم العقوبات ومن فوائد الحديث: تحريم التمثيل لقوله: "ولا تمثلوا" وظاهر الحديث العموم وألا نمثل ولو كانوا يمثلون بنا، لأنه لم يستثن من ذلك شيئًا ولكن يقال: إن هذا العموم يعارض بعموم آخر وهو قوله تعالى: ? فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليهم بمثل ما اعتدى عليكم? [البقرة: 194]. ولقوله: ? وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به? [النحل: 126]. ولأن في التمثيل بهم إذا مثلوا بنا كفا لهم وإهانة وذلة وعلى هذا فيكون هذا العموم مخصوصًا بعمومات أخرى، فإن قيل: هل يدخل في ذلك ما أخذنا جسد حربي قتلناه من أجل إجراء التجارب على الجسد للعلم، ليس لقصد التمثيل أو الأهانة أو الذل هل يدخل في التمثيل أو لا يدخل؟ محل نظر، وذلك لأن الشرع حرم بيع أجزاء الكافر على الكفار يعني مثلًا: لو قال الكفار: أنتم الآن قتلتم سيدنا ولكن أعطونا رأسه قلنا لا نعطيكم رأسه إلا بكذا وكذا من القيمة يقول العلماء: هذا حرام فالانتفاع بجثثهم كالانتفاع بعوض المال فلا يجوز، وقد يقال إن هذا جسد حربي لا حرمة له وإذا لم يكن له حرمة ولنا منه فائدة فما المانع فالمسألة عندي يتجاذبها أصلان وأنا فيها متوقف. ومن فوائد الحديث: تحريم قتل الصغار لقوله: "ولا تقتلوا وليدًا" ولأن في قتل الصغار تفويت ماليتهم على المسلمين، لأنهم يسترقون بالسبي فإذا قتلوا فوتت ماليتهم على المسلمين، ولأن الصغار قريبون من الإسلام، لأن الشاب الصغير ميله أكثر من ميل الشيخ الكبير ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم" لأن الصغار أقرب للإجابة من الكبار.

فائدة جواز الجزية من مشركي العرب

ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا لقي عدوه فإنه لا يباغته بالقتال ولكن يعرض عليه الخصال الثلاث التي ذكرها النبي صلي الله عليه وسلم لقوله: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلي ثلاث خصال .... الخ". فإن قيل: ما الجمع بين هذا الحديث وبين إغارة النبي صلي الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون؟ فالجواب أن يقال: إما أن الدعوة على سبيل الاستحباب وأنه إذا اقتضت المصلحة أن يغير على العدو بدون دعوة فليفعل، وإما أن يقال: إن بني المصطلق قد بلغتهم الدعوة وأصروا على ما هم عليه من الكفر وحينئذٍ تكون الدعوة واجبة فيمن لم تبلغه ومن بلغته فلا ندعوه إلا على سبيل الاستحباب فائدة جواز الجزية من مشركي العرب: ومن فوائد الحديث: أخذ الجزية من المشركين لقوله: "إذا لقيت عدوك من المشركين"، وعلى هذا فلا يختص أهل الجزية باليهود والنصارى والمجوس، وهذه المسألة اختلف فيها العلم فقال أكثر أهل العلم: إنها لا تؤخذ إلا من اليهود والنصارى لقوله تعالى: ? قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون? [التوبة: 29]. وقال في غيرهم: ? فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وأحصروهم وأقعدوا لهم كل مرصد? [التوبة: 5]. وقال النبي صلي الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"، وعلى هذا فلا تكون الجزية إلا لليهود والنصارى. ثم إنه أورد على القول بأنه قد ثبت أن النبي صلي الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وهم ليسوا من أهل الكتاب، أجابوا على ذلك بأن لهم شبهة كتاب وأن لهم كتابًا أنزل لكنهم ضلوا عنه، ولكن هذه الإجابة فيها نظر، والصواب أن يقال: إن كونه يخص الجزية بالذين أوتوا الكتاب لا يدل على أن غيرهم لا يؤخذ منهم بدليل هذا الحديث: "إذا لقيت عدوك من المشركين"، لكن خص أهل الكتاب، لأن معهم علمًا ببعثة الرسول صلي الله عليه وسلم، فإذا أخذت الجزية منهم وعاشوا في بلاد الإسلام فربما يستجيبون وهذا فيما سبق، أما الآن فإن النصارى واليهود أشد عداوة من غيرهم في الوقت الحاضر وأبعد الناس عن الدخول في الإسلام والاستجابة ولاسيما العرب

منهم فإن عندهم عنادًا عظيمًا في البقاء على كفرهم ولا تكاد تجد أحدًا من نصارى العرب أو اليهود أسلم لكن غير العرب يوجد كثير من النصارى يسلمون ومن المشركين، إذن القول الراجح: أخذها من جميع الكفار. ومن فوائد الحديث: أن فيه دليلًا على أنه لا إكراه على الإسلام، لأنه لو كان إكراه ما قبلت الجزية، فبقبول الجزية يدل على أن لا إكراه في الإسلام، إذن ما الواجب نحو الإسلام والله تعالى يقول: ? ليظهره على الدين كله? ؟ الواجب: أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الظهور للإسلام إما بالدخول فيه وإما ببذل الجزية مع الصغار، لأنه إذا بذل الجزية وصار يعطينا الجزية بذل وخضوع فهذا هو العلو، ثم إن هذا الذي يعطي الجزية لو أنه نقض العهد ولو بتعد على مسلم انتقض عهده ووجب أن يقتل وحل دمه وماله حينئذٍ يحصل إعلاء كلمة الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: أن أول ما يدعي إليه الناس الإسلام، فيكون فيه رد لقول من يقول: إن أو لواجب هو النظر، لأن هذا القول ضعيف إذ إن الفطرة كافية في ذلك فأول واجب أن يدعى الناس إلى الإسلام ولا حاجة أن نقول: انظر في الآيات أولًا ثم أسلم، لأن هذا سوف يطيل المسألة ثم هو مخالف لسنة الرسول صلي الله عليه وسلم ودعوته إلى الإسلام بل كان يدعو إلى التوحيد رأسًا دون أن يقول: انظر للمقدمات والنتائج وكيف حصل كذا وهذا لابد له من محدث والمحدث لابد أن يكون واجب الوجود ثم يدور رأيه ويقول: ما دام الإسلام السلام عليكم بل نقول: أول ما ندعو إليه هو التوحيد كما قال الرسول صلي الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله". ومن فوائد الحديث: أنه يجب التحول إلى دار الهجرة دون البقاء في البادية لما في ذلك من اجتماع الكلمة واجتماع الناس في بلد واحد، لكنه يجب هذا أو أن يسقطوا حقهم من الغنيمة والفيء، فيقال: أنتم كنتم تريدون أن يكون لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فتحولوا إلى بلد المهاجرين ولا تبقوا في البادية وإذا شئتم بقيتم ولا حق لكم في الغنيمة إلا أن تشاركوا في الجهاد إذا شاركتم في الجهاد فلكم من الغنيمة ومن فوائد هذا الحديث: جواز أخذ الجزية على الكافر إذا لم يسلم وهل هي عقوبة أو من أجل حمايته، لأن من له ذمة يجب حمايته وعصمته؟ الظاهر: الثاني، ولهذا يجب علينا أن نحميهم وإذا اعتدى عليهم أحد بحقهم ويجب علينا أن نكف عنهم أيضًا لو اعتدى أحد

على عرضهم وغير ذلك فإن قيل: إنها عقوبة على بقائه على الكفر فإننا نقفز منها إلى فائدة ثانية، وهي: جواز العقوبة بالمال والعقوبة بالمال ثابتة لا شك فيها منها: ما سبق في تحريق رحل الغال، ونمها: إضعاف القيمة على من كتم الضالة، ومنها: إضعاف القيمة على من سرق من الثمر المعلق قبل أن يئويه الجرين. المهم: أن القول الراجح أنه يجوز التعزيز بأخذ المال ولكن لو قال قائل: التعزيز بأخذ المال لأنه يستفاد منه أن نأخذ المال ونجعله في بيت المال، لكن كيف تعزرون بإحراق المال أو بكسر آلات اللهو أو ما أشبه ذلك؟ يقال إن التعزيز هو التأديب فإذا كان التغزيز بالإحراق أو بالكسر كان هو الواجب ونحن أتلفنا هذه المالية على صاحبها إذن نتلفها على بيت المال، لأنه عام فإذا جاز إتلافها على الأخص جاز إتلافها على الأعم وهذا هو القياس. ومن فوائد الحديث: استحضار الاستعانة بالله (عز وجل) عند قتال الكفار لقوله: "فاستعن عليهم بالله وقاتلهم" والاستعانة بالله تكون بالقلب وتكون باللسان أما بالقلب فواضح أن الإنسان يستعين الله (عز وجل)، وأما باللسان فيقول: اللهم أعني عليهم اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم اللهم إنا نقاتلهم فيك، وما أشبه ذلك من الكلمات التي يتوسل بها الإنسان إلى ربه (عز وجل) في الدعاء المفيد للاستعانة. ومن فوائد الحديث: جواز محاصرة العدو، بمعني: أن نحيط به ونطوقه، لكن هل يجوز في محاصرته أن نقطع عنهم الماء؟ إذا كان هذا مصلحة قطعناه، إذا كان أقرب إلى إجابتهم فإننا فننا نقطع الماء عنهم. فإن قال قائل: قطعكم الماء يستلزم هلاك الصبيان والنساء والشيوخ ومن لا يجوز أن يقتل. قلنا: هذا اللازم يكون تبعًا غير مقصود، فإننا لم نقصد بذلك هلاك هؤلاء الذين لا يقاتلون وإنما قصدنا قتل هؤلاء المقاتلين وجاء هلاك تبعًا غير مقصود، ولهذا يجوز أن نرمي العدو بالمنجنيق، وهو- فيما سبق- عبارة عن خشبتين تنصبان وثالثة تكون عرضًا ويكون هناك حبلان طرفهما في مكان يجعل فيه الحجر ثم يدار بشدة، إذا دير بشدة ثم يطلق فإن الحجر سوف ينطلق ويكون على حسب قوة الرامي على كل حال، المنجنيق بدله الآن المدفع والصواريخ يجوز أن نفعل هذا بالكفار وإن قتلنا من لا يحل قتله، لأن هذا غير مقصود بل هو تبع ولأننا لا يمكن أن نصل إلى المقصود إلا بهذه الطريقة ويمكن أن يستدل لذلك بإغارة النبي (صلى الله عليه وسلم) على بني المصطلق، لأنه إذا أغار عليهم سوف يكون عندهم نساء وربما يقتلون نساء أو أطفالاً.

ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للقائد المحاصر للحصن إذا أرادوا أن ينزلوا على حكمه أن يجعل لهم ذمة الله وذمه رسوله، يعني: عهد الله وعهد الرسول، لأنه ربما تخفر الذمة وخفر ذمم الإنسان أهون من خفر ذمة الله ورسوله. فإن قيل: إذا كان الإنسان واثقًا من الوفاء فما الجواب؟ أقول: وإن كان واثقًا فإن إخفار الذمة وارد، قد يكون بسبب مباح لكن العدو لا يعلم فيظنه غادرًا فيغدر أمام العدو بذمة الله وذمة رسوله أو يقال: الإنسان بشر يمكنه عند عقد العهد واثقًا من الوفاء لكنه يطرأ عليه الغدر والخيانة، فلذلك نقول: لا يجوز أن تجعل لهم ذمة الله وذمه رسوله (صلى الله عليه وسلم). ومن فوائد الحديث: أن الأحكام معللة يعني: أنها ليست مجرد حكم بل لا بد لها من علة إما أن تكون معلومة أو مجهولة أو منصوصًا عليها أو غير منصوص، فالأقسام أربعة: علة معلولة منصوص عليها وعلة معلومة مستنبطة، والثالث: علة مجهولة لنا لكنها معلومة عند الله (عز وجل) الرابع: أن تكون مجرد امتحان للعباد والمعلومة يمكن أن نقسمها إلى معلومة عند جميع الناس ومعلومة عند بعض الناس. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للمتكلم في الفقه أو الموعظة أن يعلل ما يذكر من أحكام مهما أمكن، لأن ذلك يستفاد منه فائدتان: الفائدة الأولى: بيان سمو الشريعة الإسلامية، , أن أحكامها كلها مركودة بالمصالح، والثانية: اطمئنان المكلف؛ لأنه إذا ذكر لك الحكم المعلل أطمأنت أكثر، وربما نزيد ثالثة: وهو القياس على الحكم المنصوص عليه المعلل، لأن الأحكام تتبع العلل، مثال ذلك قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحى إلى محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس) [الأنفال: 145] علل تحريم هذه الأشياء بأنها رجس، إذن نأخذ من هذا: أن كل ما كان رجسًا فهو حرام حتى روث الحمير مثلاً وعزره الإنسان فهي حرام، لأنها رجس. ومن فوائد الحديث: جواز اشتراك الحكم الثابت لله ورسوله بدون"تم" لقوله: "ذمه الله وذمه رسوله"، وهذا يحتاج إلى تفصيل، فيقال: في الأمور القدرية لا تشرك الله مع رسوله بما يقتضي الاشتراك والتساوي في الأمور الشرعية لا بأس، وذلك لأن ما شرعه الرسول (صلى الله عليه وسلم) فهو شرع الله أما الأمور القدرية فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يستقل بشيء من الأمور القدرية فهي لله وحده هذا هو الضابط. ومن فوائد الحديث: إثبات تفاضل الأعمال قبحًا وحسنًا ومن قوله: "أهو من أن تخفر دمه الله وذمه رسوله" وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الأعمال تتفاضل قبحًا وحسنًا وإذًا

التورية عند الغزو

تفاضلت الأعمال لزم من ذلك تفاضل العامل فالناس طبقات حسب أعمالهم ودرجاتهم في الجنة درجات حسب أعمالهم. ومن فوائد الحديث: منع تنزيل الحصن المحاصر على حكم الله لقوله: "فلا تفعل" ولكن هل هذا خاض زمن حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لأن الإنسان لا يدري هل بقي الحكم أم نسخ أو أنه عام؟ لا شك أن القول بأنه خاص بحياة الرسول واضح، لأنه قد نسخ الأحكام قد يفارق أمير الجيش النبي (صلى الله عليه وسلم) على حكم ثم يتغير الحكم فلا يدري أيصيب أم لا وإذا قلنا: إنه عام نقول أيضًا حتى بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا تنزلهم على حكم اجتهادي، لأن الحكم الاجتهادي فيه الإصابة وفيه الخطأ لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران"، أما ما كان معلومًا بدون اجتهاد فلا بأس أن تنزله على حكمك وعلى حكم الله أيضًا لأنه معلوم مثلاً إذا أنزلناهم على أن نأسرهم فإما منا بعد وإما فداء هل وافقنا حكم الله؟ نعم (حق إذا أتخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} [محمد: 4]، وعلى هذا فتكون العلة التي ذكرها النبي (صلى الله عليه وسلم): "فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا" العلة إذا انتفت انتفى الحكم فإذا كان الإنسان قد علم أنه أصاب فيهم حكم الله فإنه لا بأس أن ينزلهم على حكم الله. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للعالم أن يقول في حكم من الأحكام: حكم الإسلام في كذا وكذا لا تقل هكذا، لأنك قد تخطئ فينسب الخطأ إلى الإسلام، ولكن قيد فقل حكم الإسلام فيما أرى كذا وكذا، وبه نعرف تهاون بعض المتأخرين الذين تجد في كتبهم الإسلام يقول: كذا الإسلام يمنع كذا مع أن هذا المنع قول ضعيف في الإسلام ومع ذلك ينسبونه إلى الإسلام فيجب الحذر من مثل هذه الكلمات. التورية عند الغزو: 1219 - وعن كعب بن مالك (رضي الله عنه): "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها". متفق عليه. سبق لنا أن كلمة "كان" تفيد الاستمرار لكن لا دائمًا بل غالبًا، والدليل على أنها ليست دائمًا تفيد الاستمرار ما ود في الأحاديث في الصلاة: "كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقرأ في صلاة الجمعة بسبح والغاشية" "وكان يقرأ بالجمعة والمنافقون" "وكان يقرأ في العيدين بـ "ق" واقترتب" وكان يقرأ فيها بسبح والغاشية، كل هذا يدل على أن "كان" لا تفيد الاستمرار لكن إن وجد قرينة أفادت الاستمرار بهذه القرينة.

وقوله: "كان إذا أراد غزوة وري بغيرها" أي: أرى الناس أنه يريد غيرها فإذا كان يريد الذهاب ناحية الشمال سأل عن طريق الجنوب ولا يقول: أنا أريد الجنوب لكن يسأل كيف يذهب الإنسان إلى الجنوب وهكذا وليس المعنى أنه يقول: أنا أريد أن أذهب إلى الجنوب، لأنه لو قال: أنا أريد أن أذهب إلى الجنوب صار كذبًا صريحًا لكن إذا جعل يسأل أين الطريق إلى قبيلة فلان التي في الجنوب، يظن الناس أنه الجنوب ولكنه يريد الشمال والحكمة من ذلك: هي تعمية الأخبار عن الأعداء: ، لأن الأعداء إذا علموا بالخير فإنهم سوف يتأهبون على مقتضى ما علموا فيحصل بذلك مضرة على المسلمين، ولهذا لم يظهر النبي (صلى الله عليه وسلم) الجهة التي يريدها إلا في غزة واحدة فقط وهي غزوة تبوك فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) صرح بأنه يريد ذلك، لأنها جاءت في وقت حر وفي وقت طيب الثمار فلا بد أن يصرح للناس بهذا ولأن العدو بعيد عنهم فلهذا صرح بذلك (صلى الله عليه وسلم). ومن فوائد الحديث: حكمة النبي (صلى الله عليه وسلم) في تدبير الجيوش، لأن التورية لا شك أنها من الحكمة. ومن فوائده: جواز التورية، ونحن إذا قلنا "جواز" فلا ينفي أن تكون مستحبة في بعض الأحيان، وذلك لأن كل حكم وصف بالجواز فإنه قد ينقلب إلى مسنون وقد ينقلب إلى واجب، وقد ينقلب إلى محرم، وقد ينقلب إلى مكروه، يعني: أن الحكم بالإباحة لا ينفي أن يكون الشيء محرمًا أو واجبًا أو مسنونًا أو مكروهًا بحسب ما تقتضيه الأدلة، فالبيع مثلاً من الأشياء المباحة وإذا باع الإنسان سلاحًا في فتنة صار حرامًا وإذا باع عنبًا لمن يتخذه خمرًا صار حرامًا وإذا اضطر الإنسان إلى مأكل أو مشرب صار البيع عليه واجبًا وهلم جرًا، ومثله أيضًا كل المباحات يمكن أن تجد فيها الأحكام الخمسة فإذا كانت التورية جائزة فلا يعني، أنها لا تستحب في بعض الأحيان. وليعلم أن التورية نوعان: تورية بالفعل وتورية بالقول؛ فالتورية بالقول أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره والتورية بالفعل أن يفعل ما يخالف ما يريد ظاهرًا فكلاهما على خلاف المراد فيما يظهر للناس وهل التورية بالقول جائزة؟ اتفق العلماء، على أن التورية إذا كانت في شيء محرم فهي حرام، يعني: لو أن صاحب حق أدعي على المحقوق أن عنده وديعه فقال: إني أودعت هذا الرجل ألف درهم فأنكر الرجل فهل يجوز لهذا المنكر أن يوري بالإنكار فيقول ما له عندي شيء يريد بـ "ما" الأسم الموصول، أي: الذي عندي له شيء نقول: حرام

القتال أول النهار وأخره

وهذه متفق عليها على أن التورية القولية إذا تضمنت فعل محرم أو إسقاط واجب للغير فهي حرام، فإن لم تتضمن ذلك فهل هي جائزة وإذا قلنا بالجواز فهل هي تصل إلى الاستحباب في بعض الأحيان أم لا؟ الصواب: أنها ليست جائزة إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك أو المصلحة وإنما قلنا بهذا؛ لأن هذا الموري إذا ظهر فيما بعد خلاف ما قال صار عند الناس كاذبًا وهذه مفسدة فلهذا نري أنها لا تجوز التورية إلا إذا كانت لحاجة أولمصلحة وإلا فلا يجوز. القتال أول النهار وأخره: 1220 - وعن عقل، أن النعمان بن مقرن (رضي الله عنه)، قال: "شهدت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا لم يقاتل أول النهار آخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر"، رواه أحمد والثلاثة، وصححه الحاكم. - وأصله في البخاري. هذا أيضًا من الحكمة في تدبير الجهاد، وهو أن يتحرى الأوقات التي تكون أقرب إلى النصر، فمثلاً أول النهار لا شك أنه بعد برودة الليل، ونشاط الجسم بعد النوم فهو وقت مناسب للقتال فإذا لم يحصل ذلك فلا ينبغي أن يستقبل الإنسان القائلة، يعني: شدة الحر لأن ذلك ضرر بل يؤخر إلى أن تزول الشمس ولا بد أن نلاحظ أن يؤخر إلى أن تزول الشمس وتحصل البردوة، لأنه عند زوال الشمس المباشر لا يحصل بذلك برودة، بل إنهم يقولون أشد ما يكون من الحرارة بعد زوال الشمس بنحو ساعة. وقوله: "حتى تزول الشمس" أي: تميل إلى جهة المغرب وذلك أن الشمس أول ما تطلع تكون في ناحية المشرق فإذا توسطت السماء زالت- أي: مالت- إلى جهة المغرب ثم أخذت في البرودة بعد أن كانت في الحرارة. وقوله: "تهب الرياح" هذا شيء معتاد أنه في آخر النهار تهب الرياح إما عواصف شديدة أو دون ذلك لكن تتحرك الرياح- بإذن الله- في آخر النهار وهذه الرياح التي تتحرك في آخر النهار تكون باردة، لأن الجو قد برد وقوله: "وينزل النصر" هل هذا النصر الذي ينزل أمر لا نعلم سببه أو أن المراد: ينزل النصر، لأن الناس قاتلوا في زمن يكون فيه النشاط والقوة والشجاعة وهذا أقرب إلى النصر؟ فيه احتمالان، فإن كان الله تعالى ينزل النصر في آخر النهار حمل على ذلك وإن كان المعنى: أن القتال في آخر النهار سبب للنصر فهذا سبب حسي معلوم.

جواز قتل النساء والذرية عند التبييت

من فوائد الحديث: أولاً: أنه ينبغي القتال في أول النهار، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا لم يقاتل آخر القتال حتى تزول الشمس. ومنها: حسن رعاية النبي (صلى الله عليه وسلم) لمراعاة الأوقات المناسبة للقتال، وإذا كان هذا هو السبب فإنه يمكن أن يقال: إن هذا يختلف باختلاف الأحوال، فإذا قدرنا أن مفعول السلاح في الليل أبلغ منه في النهار فليكن في الليل ولا حرج من تبيت الكفار وإن قتل من لا يجوز قتله كما نص على ذلك أهل العلم، لأن هؤلاء الذين قتلوا إنما قتلوا تبعًا لا قصدًا. ومن فوائد الحديث: أن الغالب أن آخر النهار تهب الرياح وتبرد الأرض بعد حرارة الشمس لقوله: "حتى تزول الشمس وتهب الرياح". ومن فوائد الحديث: أنه متى كان الجو مناسبًا كان هذا أقرب إلى الظفر والنصر لقوله: "وينزل النصر" هذا إذا قلنا: إن نزول النصر سببه حسي وهو برودة الجو، وأما إذا قلنا: إن نزول النصر في آخر النهار سببه أمر شرعي فهذا لا نعلم أنه سبب. جواز قتل النساء والذرية عند التبييت: 1221 - وعن الصعب بن جثامة (رضي الله عنه) قال: "سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أهل الدار من المشركين، يبتون، فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: هم منهم" متفق عليه. قال: "سئل عن أهل الدار" المراد بهم: أهل القرية أهل المنزلة، بل حتى وإن كانوا مجتمعين في خيام فإنهم يسمون أهل دار، وذلك لأن هذه المنطقة تجمعهم، وقوله: "يبيتون" يعني: يغار عليهم ليلاً، أي: في الليل يهاجمون، وقوله: "فيصيبون من نسائهم وذراريهم" يعني: يصيبون النساء والذرية بالقتل، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "هم منهم" "هم" الضمير يعود إلى النساء والذرية "منهم" أي: من أهل القرية ولا شك أن هذا التبييت سيؤدي إلى قتل النساء والذرية وقتل النساء والذرية في الحرب ليس بجائز غلا من شارك في الحرب فإن يقاتل كما لو شاركت امرأة في القتال فإنها تقتل كالرجل. ففي هذا الحديث: دليل على جواز تبييت الكفار، وذلك لأنه قد تدعو الحاجة إلى ذلك لعدم الملائمة للقتال بالنهار فيبتون. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى ما ذكره العلماء أنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالاً،

لا يستعان بمشرك في الحرب

وذلك بإباحة قتل النساء والذرية في هذا التبييت، والأصل أن قتل النساء والذرية لا يجوز، لأن النساء والذرية يكونون أرقاء بالسبي وعلى ملك المسلمين ولا يجوز إتلاف أموال المسلمين لكن هذا للحاجة ولكون ذلك تبعًا لا استقلالاً. ومن فوائد الحديث: أن من كان مجتمعًا مع قوم فإنه يكون منهم، أي: له حكمهم ولهذا جاء التحذير من مجامعة المشرك والسكن معه فإن ذلك يؤدي إلى الاختلاط به وإلى الارتباط بدينه وأخلاقه وبالتالي يكون الإنسان من هؤلاء المشركين الذين جامعهم. واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن الذرية يتبعون آباءهم فيحكم عليهم بالشرك إذا كان آباؤهم مشركين لعموم قوله: "هم منهم" ولا شك أن المولود يولد على الفطرة لكن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال "أبواه يهودانه أو ينصرانه أو بمجسانه" فيحكم على أولاد المشركين بأنهم منهم في أحكام الدنيا أما الآخرة فالصحيح أنهم يمتحنون فيما بما يريد الله (عز وجل) من التكليف في الآخرة ثم من أطاع منهم دخل الجنة ومن عصا دخل النار هذا ما لم يبلغ فإن بلغ فهو مستقل بنفسه يسلم أو يكفر يكون مستقلاً. لا يستعان بمشرك في الحرب: 1222 - وعن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لرجل تبعه في يوم بدر: أرجع، فلن استعين بمشرك"، رواه مسلم. قوله: "قال لرجل تبعه في يوم بدر" يوم بدر أولاً ما هو؟ فيقال: هو مكان بين مكة والمدينة وهو معروف على الطريق الأول لسالك طريق السيارات ولا يزال موجودًا إلى الآن قرية معروفة، ويوم بدر كان في سبعة عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة وسبب هذه الغزوة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بلغه أن أبا سفيان قد أقبل إلى مكة ومعه عير لقريش محملة من الشام فخرج (صلى الله عليه وسلم) إلى هذه العير ليأخذها، لأن قريشًا حربيون، والحربي يجوز أخذ ماله، لأن حربي كما يجوز قتله فعلم بذلك أبو سفيان فعدل عن الطريق الأصلى وسار من عند سيف البحر وأرسل إلى قريش يستنجدهم فخرجت قريش بكبرائها وزعمائهم وحدها وحديدها خرجوا كما وصفهم الله بقوله: {بطرًا ورثاء الناس ويصدون عن سبيل الله} [الأنفال: 47] وجمع الله تعالى بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وسلم) على غير ميعاد وكانو نحو تسعمائة رجل والنبي (صلى الله عليه وسلم) ومن معه كانوا ثلاثمائة وبضعه عشر رجلاً، وليس معهم إلا سبعون بعيرًا وفرسان يتعاقبون عليهم جمع الله بينهم كما وصفهم الله وهم عزل ليس معهم سلاح ولا استعداد، ولكن الله -سبحانه وتعالى-

نصرهم في هذا اليوم، تبعه رجل من المشركين فقال: "ارجع فلن استعين بمشرك" خوفًا منه، لأن المشرك لا يؤتمن وكذلك غير المشركين كاليهود والنصارى، فإنهم لا يؤتمنون ولهذا كتب أحد عمال الأمصار إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين بلغ عمر أنه قد اتخذ- أي: هذا الأمير- كاتبًا نصرانيًا، فكتب- أي: عمر- إلى هذا الأمير أن أعزله وقال كيف نأمنهم وقد خونهم الله فأرسل إليه يقول: هذا الرجل عنده علم حافظ جيد كأنه يريد أن يبقيه فكتب إليه من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى فلان: إن النصراني قد مات، معني هذا الكلام إذا مات فماذا تفعل؟ وكأنه يوبخه على محاولة إبقاء النصراني كاتبًا في شأن من شئون المسلمين، ولهذا يعتبر من الغباوة أن يؤتمن النصارى واليهود وغيرهم من الكفار على أمور المسلمين سواء كان في السلاح أو غير ذلك، لأنهم أعداء بنص القرآن، واليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض بنص القرآن، وإذا كان عدوًا لك كيف تأمنه وما ضر الأمة الإسلامية إلا ائتمان غير المسلمين ولشيخ الإسلام (رحمه الله) في الفتاوى كلام جيد جدًا حول هذا الموضوع وهو ائتمان اليهود والنصارى أو غيرهم من الكفار على أحوال المسلمين بكتابة أو غيرها ففي المسلمين من هو خير من هؤلاء كما قال الله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} [البقرة: 221]. فيستفاد من هذا الحديث فوائد: أولاً: الحذر من المشركين حتى وإن تظاهروا بالمعاونة والمساعدة، فالواجب الحذر منهم. ومن فوائد الحديث: رد من خرج مع المسلمين لمساعدتهم في الغزو، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) رده وقال: "لن أستعين بمشرك". فإن قال قائل: أليس النبي (صلى الله عليه وسلم) قد استعان بصفوان بن أمية في استعارة الدروع منه. قلنا: بلى لكن هذه استعانة با لمال، والذي نفاه الرسول (صلى الله عليه وسلم) هنا الاستعانة بالنفس، لأنه إذا أعاننا بنفسه لا نأمن خيانته أن يدل الأعداء على خفايا أسرارنا أو أن يقاتل لا قتال الشجاع المدافع، أما الاستعانة بالمال فلا بأس، لأن الذين استعملوا الدروع هم المسلمون فلا ضرر علينا بذلك هذا خير محض فلا يعارض هذا الحديث. فإن قال قائلك: أليس قد استعان النبي (صلى الله عليه وسلم) بمشرك في أخطر موقف له وهو الهجرة فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) اتخذ هاديًا، أي: دليلاً، رجلاً يقال له: عبد الله بن أريقط من بني الديل وكان مشركًا فكيف نجيب عن هذا الحديث؟

النهي عن قتل النساء والصبيان في الحروب

نجيب عنه: بأن لكل مقام مقالاً، ففرق بين الاستعانة بالكفار في حال الحرب وبين الاستعانة بالكفار في مثل الدلالة على الطريق أو ما أشبه ذلك. أو يقال جواب آخر: أننا متى أمنا من خيانتهم واستفدنا منهم بالرأي أو بالقتال فلا بأس، لأن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، ولعل هذا الوجه أقرب لأن عبد الله بن أريقط لو شاء لخان أعظم خيانة فإن قريشًا قد جعلت لمن جاء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وأبى بكر قد جعلت له مائتي بعير ومائتا بعير في ذلك الوقت لها شأن كبير فالذي يظهر أني قال الأصل منع الاستعانة بالمشركين في الحرب لكن إذا كان هناك مصلحة ومنفعة محققة مع الأمن من غدرهم ومكرهم فإن ذلك لا بأس به، لأنه مصلحة بلا مضرة والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. النهي عن قتل النساء والصبيان في الحروب: 1223 - وعن ابن عمر (رضي الله عنها): "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) رأي امرأة مقتولة في بعض مغازيه، فأنكر قتل النساء والصبيان" متفق عليه. قوله: "في بعض مغازية" ولم تعين، لكن لا يهمنا تعيين الغزوة، لأن المقصود معرفة الحكم، وقوله: "أنكر قتل النساء" يعني: أنه نهي عنه لكن بشدة، لأن الإنكار أخص من النهي قد ينهي عن الشيء بدون إنكار، لكن إذا أنكر فقد تضمن النهي وزيادة، وقوله: "قتل النساء والصبيان" النساء مطلقًا حتى البالغات، وأما الصبيان فهم الذكور غير البالغين وإنما نهي عن ذلك لأن النساء والصبيان يكونون أرقاء بالسبي فإذا قتلوا فوت على المسلمين خيرًا كثيرًا. * ففي هذا الحديث دليل على فوائد: أولاً: أنه يجب إنكار المنكر حتى وإن كان فاعله جاهلاً بالحكم، وذلك لأن الذين قتلوا هذه المرأة لا شك أنهم جاهلون ولو كانوا عالمين بذلك ما قتلوها. والثاني: تحريم قتل النساء والصبيان في حال الحرب. فإن قيل: لو فعلوا ذلك بنا بأن قتلوا صبياننا ونساءنا فهل نقتلهم؟ الظاهر أنه لنا أن نقتل النساء والصبيان ولو فاتت علينا المالية لما في ذلك من كسر قلوب الأعداء وأهانتهم، ولعموم قوله تعالى: {فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم} [البقرة: 94]، وتفويت

جواز قتل شيوخ المشركين

المال على المسلمين ليس بشيء غريب ولهذا يحرق رحل الغال مع أنه فيه تفويت مال على أحد الغزاة. فإن قال قائل: لو هتكوا أعراض نسائنا فهل نهتك أعراض نسائهم؟ لا، هذا لا نفعله، لأن هذا محرم بنوعه ولا يمكن أن نفعله، يعني: ليس محرمًا لاحترام حق الغير ولكنه محرم بالنوع فلا يجوز أن نهتك أعراض نسائهم ولكن إذا حصلت القسمة ووقعت المرأة منهم سبيه صارت ملك يمين يطوؤها الإنسان بملك اليمين حلالاً ولا شيء فيه. وهل يخصص من النساء من كانت تحارب؟ الجواب نعم لو فرض أن المرأة تحارب كما هو في عصرنا الحاضر ففي النساء من تقود الطائرة وترمي بالمدفع والصاروخ فإنها تقتل، لأنه ليس بينها وبين الرجل فرق. جواز قتل شيوخ المشركين: 1224 - وعن سمرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) {اقتلوا شيوخ المشركين، واستبقوا شرحهم} رواه أبو داود، وصححه الترمذي. "الشيوخ": كبار السن، يعني: من زادوا على الأربعين، ولكن المراد بذلك من بلغ، وهو أهل القتال، هذا هو المراد به هنا، وقوله: "استبقوا شرخهم" الشرخ: هم الصغار الذين لم يبلغوا، في قوله (صلى الله عليه وسلم): "اقتلوا شيوخ المشركين" يعني: في الغزو أو في غير الغزو إذا لم يكن بيننا وبينهم عهد، لأن المشرك إذا لم يكن بيننا وبينه عهد فهو مباح الدم بالنسبة لنا. ففي هذا الحديث: دليل على أنه ينبغي التركيز على قتل كبار السن من العدو لقوله: "اقتلوا شيوخ المشركين". وفيه أيضًا من الفوائد: وجوب استبقاء الصغار لقوله: "استبقوا شرخهم"، وقد سبق أنه يجب استبقاء النساء أيضًا، وأن النساء لا يقتلن إلا إذا قاتلن، إلا إذا قاتلن، وفي عصرنا الحاضر نجد نساء العدو يشاركن في القتل فإذا كان كذلك فإنهم كالرجال تمامًا، يعني: أنهن يقتلن. المبارزة في الحروب: 1225 - وعن على (رضي الله عنه): "أنهم تبارزوا يوم بدر"، رواه البخاري. - وأخرجه أبو داود مطولاً. "المبارزة" مشتقة من البروز، وهو الظهور، ومعناها: أن يطلب أحد رجال الجيش من رجال

الحمل على صفوف الكفار وضوبطه

العدو أن يبارزه في القتال، يبرز له فيقاتله وفائدة هذا التبارز: أنه إذا قتل حد المتبارزين صار في ذلك قوة للقوم الذين منهم القاتل، وصار في ذلك ضعف وذل للذين منهم المقتول ويكون هذا من أسباب النصر ونوعًا من الجهاد، يعني: بدل ما يكون بالرصاص، يكون بمثل هذا، لأن ضعف قلب العدو من أكبر أسباب النصر، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم)، "نصرت بالرعب مسيرة شره"، لكن شرط المبارزة أن يكون لدي الإنسان علم بكيفية المبارزة. وأن يكون عنده قوة يستطيع بها أن يقضي على خصمه، أما أن يخرج رجل ليس عنده علم بذلك أو ليس عنده قوة فإنه لا يجوز، ويجب أن يمنع. ففي هذا الحديث: دليل على جواز المبارزة، ولكن شرطها شيئان: الأول: العلم بكيفية المبارزة، الثاني: القوة: لأنه إن لم يكن عالمًا فإنه يخدع ويغلب، وإن كان عالمًا لكن ليس عنده قوة فإن الثاني في الغالب يغلبه، ويذكر أيضًا أن علياً (رضي الله عنه) بارز عمر بن ود في إحدى المغازي وأنه لم خرج عمرو من صف القتال صاح به على وقال: والله ما خرجت لأبارز رجلين! فظن عمرو أن معه رجلاً آخر فالتفت فضربه علي، وهذا خدعه لكنها خدعة جائزة، لأنني ما خدعت رجلاً آمن بل هو خرج مغامرًا بنفسه وخرج ليقتلني، فإذا وجدت حيلة أن أقتله أنا فلا بأس، ولهذا جاء في الحديث "الحرب خدعة" إذن في هذا الحديث: جواز المبارزة ولكنها بشرطين كما سمعتم. الحمل على صفوف الكفار وضوبطه: 1226 - وعن أبى أيوب (رضي الله عنه) قال: إنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، يعني قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195]، قاله ردًا على من أنرك على من حمل على صف الروم حتى دخل فيهم، رواه الثلاثة، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم. قوله: "إنما أنزلت هذه الآية" أيهم المنزل للعلم به، فإن الذي أنزلها هو الله (عز وجل)، وهذا نظيره في القدر قوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفًا} فإنه أبهم الخالق للعلم به وهو الله. وقوله: "أنزلت هذه الآية فينا معشر" المعشر هم الطائفة وسموا بذلك، لأن بعضهم يعاشر بعضًا ويناصره ويؤويه. وقوله: "الأنصار" هم قبيلتان كبيرتان في المدينة إحداهما: الأوس، والثانية الخزرج وسموا أنصار لنصرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} تلقوا بها: أي: تضعوها أمام

ما يهلكها كما يقال: ألقى بالحبل، أي: وضعه أمام وجهه، فالمعني: لا تلقوا بها أمام الهلاك وقوله: {بأيديكم} المراد بها: النفس، لكن يعبر بالأيدي عن النفس كثيرًا في اللغة العربية، ومنه قوله تعالى: {فيما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] أي: بما كسبتم، والتهلكة تفعله من الهلاك، أي: بما يكون به الهلاك. "قال (رضي الله عنه) ردًا على من أنكر على من حمل على صف الروم حتى دخل فيهم، لأنهم كانوا في غزوة فحمل رجل من المسلمين على صف الروم وهم أمة حتى دخل فيهم وقاتلهم فقال الناس ألقى بيده إلى التهلكة صاحوا: ألقى بيده إلى التهلكة، فبين أبو أيوب أن هذا ليس من التهلكة وأنها نزلت فيهم حين كفوا أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله وقالوا: ننفق الأموال في غير هذا فأنزل الله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195] فبين (رضي الله عنه) أنه ليس الحمل على صف العدو من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة وقوله: "حتى دخل فيهم" يعني: دخل فيهم وقاتلهم. في هذا الحديث فوائد: منها: أن القرآن منزل لقوله: "أنزلت فينا هذه الآية"، قال العلماء: ويتفرع على هذه الفائدة فرعان عظيمان الفرع الأول علو الله (عز وجل)، لأن النزول لا يكون إلا من أعلى، والثاني: أن القرآن كلام الله، لأنه إذا نزل من عنده وهو صفة من الصفات الكلام صفة المتكلم ليس عينًا قائمة بنفسها فهو إذا أضيف إلى الله لزم أن يكون كلام الله وهو كذلك قال الله - تبارك وتعالى-: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للإنسان أن يذكر نفسه بما قد يلام عليه بيانًا للحق وعليه، لأن أبا أيوب الأنصاري بني ما نزلت فيه هذه الآية وهو أنهم كفوا أيديهم عن الإنفاق وقالوا لا نضيع أموالنا في القتال فلماذا لا نصرفها إلى أشياء أخرى ولا شك أن مثل هذا يلام عليه العبد لكنه (رضي الله عنه) ذكره بيانًا للحق، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135]. ومن فوائد الحديث: جواز الحمل على صف الكفار ولو واحدًا، وجهه: أن أبا أيوب أقر هذا وأنكر على من أنكره. فإن قال قائل: هل يجوز الحمل ولو غلب على ظنه أنه يقتل؟ الجواب: نعم، أما إذا تيقن أنه يتقل فإنه لا يجوز، لأنه يكون أعان على قتل نفسه لكن مع احتمال النجاة ولو واحدًا في المائة يجوز. ومن فوائد الحديث: بيان شجاعة جيوش المسلمين المقاتلة لأعدائهم لأن هذا الرجل - وهو فرد حمل- على صف الروم وهم أمة عظيمة.

إتلاف أموال المحاربين

ومن فوائد الحديث: تحريم الإلقاء بالنفس إلى التهلكة لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}. ومن فوائده: أن الهلاك يكون حسيًا بالجسد ومعنويًا بالعمل، لأنه إذا كانت نزلت هذه الآية في هؤلاء الذين أرادوا أن يكفوا أيديهم عن المساعدة في القتال فهذا هلاك معنوي بالعمل وليس بالجسد أما قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]، فهو نهي عن قتل النفس جسديًا لكن يصح أن يكون حتى هذه الآية تدل على تحريم الإلقاء بالنفس إلى التهلكة. إتلاف أموال المحاربين: 1227 - وعن ابن عمر (رضي الله عنها) قال: "حرق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نخل بني النضير، وقطع". "بنو النضير": إحدى القبائل الثلاث اليهودية التي عاهدت النبي (صلى الله عليه وسلم) حين قدم المدينة ولكن كل هذه الطوائف خانت، وهم: بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة، لما حاصر النبي (صلى الله عليه وسلم) بني النضير وخرج المسلمون قبل أن يخرجوا قطع نخلهم وحرقها بالنار إذلالاً لهم وحملاً على الاستسلام أو الخروج، وقد كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين كما في سورة الحشر "وقطع" يعني: أنه حرق البعض وقطع البعض الآخر فحصل من ذلك تشويه لسمعه المسلمين، وقالوا: ها هو محمد ينهي عن إضاعة ثم يحرق النخيل ويقطعها وهذه إضاعة مال فأنزل الله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} [الحشر: 5]. يعني: أن الله هو الذي أذن لنا وإذا أذن الله بشيء صار حلالاً حتى وإن كان جنسه حرامًا فإنه يكون حلالاً، أرأيتم السجود لغير لله ألم يكن شركًا؟ بلى، لكن لما استكبر عنه من أمر به- أي: بأن يسجد لغير الله- صار هذا الذي استكبر كافرًا، فإن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس، قتل الأولاد من كبائر الذنوب ولما أمر الله به خليله إبراهيم صار قربه من أفضل القرب فقطع النخيل أو إحراق النخيل إضاعة مال لا شك، لكن إذا أذن الله به صار قربه، فالله تعالى أذن لنبيه بأن يحرق النخيل ويقطعه ثم قال: {وليخزي الفاسقين} هذه فائدة عظيمة فخزي الفاسقين أمر مطلوب للشرع حتى وإن ضاع به المال فبين الله سبحانه أن الله أباح له أن يفعل وأن من فوائده: إذلال الفاسقين، يعني: الكافرين. فيستفاد من هذا الحديث: جواز قطع نخيل العدو وجواز حرقه. فإن قيل: إن هذا إفساد مال. قلنا: نعم، هو إفساد مال لكن لمصلحة أهم، وهي إذلال الكفار ونصر المؤمنين.

النهي عن الغلول

ومن فوائد هذا الحديث: الإشارة إلى قاعدة عظيمة عند العلماء وهي: أنه إذا وجد مفسدة ومصلحة يغلب أقوامها، فإن تساويًا غلب دفع المفسدة، ولهذا نقول: العبارة المشهورة "درء المفاسد أولى من جلب المصالح" ليست على إطلاقها، إنما هذا مع تساوي الأمرين، وأما مع ترجح المصلحة فإن المفسدة تنغمر فيها، فهنا لا شك أن قطع النخيل وإحراقها مفسدة، لكن يتحقق به مصلحة أعظم فإذا وجد في فعل من الأفعال مصلحة ومفسدة وكانت المصلحة أرجح أخذنا بالمصلحة، أما مع التساوي فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح لأنه لو لم يكن به إلا السلامة لكان ذلك مرجحًا. فإن قال قائل: وهل يلحق بذلك هم القصور والبيوت؟ قلنا: نعم، يلحق بذلك قال الله تعالى: {يخربون بيوتهم} وفي قراءة {يخربون بيوتهم بأيدهم وأيدي المؤمنين} فدل ذلك على جواز هدم بيوت الكفار. فإن قيل: ألا يمكن أن يخرج هؤلاء عن ديارهم وعن حيطانهم وتبقى مصلحتها للمسلمين؟ قلنا: بلى يمكن هذا، لكن إذلال هؤلاء الكفار من ذلك والمسلمون إذا غنموا الأرض أمكنهم أن يعيدوا ما كان فيها من بناء، وما كان فيها من غراس. النهي عن الغلول: 1228 - وعن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لا تغلوا؛ فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة"، رواه أحمد، والنسائي، وصححه ابن حبان. "لا تغلو" "لا" ناهيه، ولهذا جزم الفعل بعدها بحذف النون و "الغلول": أن يكتم الغنام شيئًا مما غنم، وقوله: "فإن الغلول نار وعار ... الخ" أما كونه نارًا في الآخرة فظاهر ولكن كيف يكون نارًا في الدنيا؟ . يمكن أن يقال: إن قوله: "في الدنيا والآخرة" متعلق بقوله عار لا نار، وأنه نار على أصحابه في الآخرة وعار عليهم في الدنيا والآخرة لأنه خزي ونشر لغلوله، فإن الغال يأتي يوم القيامة وهو يحمل على عنقه ما غله من حيوان أو متاع. ففي هذا الحديث: تحريم الغلول.

سلب القاتل

وفيه أيضًا: أنه من كبائر الذنوب ووجه كونه من كبائر الذنوب: الوعيد عليه، لأن كل ذنب توعد عليه بوعيد خاص فإنه يكون من كبائ الذنوب، لأن المحرمات نوعان: منهيات لم تذكر لها عقوبة، ومنهيات ذكر لها عقوبة، فالأول صغائر، والثاني كبائر هذه هي القاعدة عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الكبيرة ما رتب عليها وعيد خاص دون الوعيد العام على كل شيء. ومن فوائد الحديث: أن الغلول نار على صاحبه يوم القيامة فإن ما غله يوقد عليه نارًا كما أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) في صاحب الشملة الذي غلها أنها نار عليه. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول (صلى الله عليه وسلم)، حيث ربط الحكم بالعلة لما نهي عنه بين ما يترتب عليه. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز الترهيب عن العمل المحرم فيما ذكر من عقوبة الدنيا والآخرة، ولا يقال: إن تارك المحرم خوفًا من عقوبة الدنيا لا يكون له أجر بل يكون له أجر حتى وإن تركه خوفًا من عقوبة الدنيا لكن أجره ناقص عمن تركه خوفًا من عقوبة الآخرة. فإن قال قائل: فإذا غل الإنسان فماذا يكون الحكم؟ يقال: إن الحكم أن يحرق رحله كله إلا السلاح والمصحف والحيوان، أما السلاح فلأنه ينتفع به في القتال وأما المصحف فاحترامًا له، وأما الحيوان فئلا يعذب النار مع أنه لم يحصل منه شيء. سلب القاتل: 1229 - وعن عوف بن مالك (رضي الله عنه) "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قضي بالسلب للقاتل" رواه أبو داود. - وأصله عند مسلم. "قضي" بمعني: حكم، والقضاء يطلق على أمور متعددة منها: الفراغ من الشيء مثل قوله تعالى: {فقضاهن سبع سموات}، ومنها: الفصل مثل قوله: {وقضي بينهم بالحق} يعني: فصل بين الناس كما قال تعالى: {يوم القيامة يفصل بينكم} [الممتحنة: 3]، ومنها: الحكم الشرعي أو الكوني ففي قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} [الإسراء: 4]، كوني {فلما قضينا عليه الموت} [سبأ: 14] كوني {وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] شرعي يطلق أيضًا على علي الحكم بين الناس وهو بمعني الفصل الذي أشرنا إليه أولاً. قوله: "السلب للقاتل" السلب ما على المقاتل من ثياب وسلاح ونحوها وهو على العدو

يقتله المسلم فقضي النبي (صلى الله ع ليه وسلم) بالسلب لهذا القاتل ينفرد به من الغنيمة من بين سائر الأعيان التي تغنم. وقوله: "قضي" هل المراد بالقضاء هنا أنه حكم شرعي ثابت أو حكم في قضية معينة تبع المصلحة؟ في هذا للعلماء قولان: الأول أنه قضاء شرعي حكم شرعي، وعلى هذا فيكون السلب للقاتل، سواء شرط له أم لم يشترط، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قضي به، وقيل: إنه قضاء تدبيري اقتضته المصلحة، وعلى هذا فإذا رأي الإمام أن يقول للمجاهدين: من قتل قتيلاً فله سلبه استحق السلب وإن لم يقل فإن سلب المقتول يكون مع الغنيمة فأيهما الأصل أنه قضاء تدبيري أو قضاء شرعي؟ الظاهر أن الثاني أولى وأحوط، وذلك لأن الأصل إتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) والتأسي به حتى لو فرض أنه قضاء تدبيري فإنه ينبغي لقائد الجيش أن يقضي بهذا القضاء: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]. فيستفاد من هذا الحديث- على احتمال أنه قضاء شرعي-: أن السلب للقاتل سواء اشترط له أم لم يشترط. ويستفاد منه: تشجيع الإنسان على العمل الصالح بأمر دنيوي، لأن الرسول شجع على القتال وعلى قتل العدو بجعل السلب للقاتل، وعلى هذا فالجوائز التي تجعل على المسابقات الشرعية إذا دخل الإنسان المسابقة فإنه لا يحرم الأجر ما دام يريد الوصول إلى العلم، لكن جعل هذا العوض- الذي في المسابقة- حافزًا له على الدخول في البحث والمراجعة والسؤال. ومن فوائد الحديث: أنه يشرع للإنسان أن يشجع على الخير ولو بأمر دنيوي، لأن النفوس مجبولة على محبة الدنيا والآخرة فلا حرج أن تجعل مسابقة فيها عوض لمن سبق لكن هل يجوز التفريق بين المتسابقين فيقال: من كان أجود أعطي أكثر أو لا بد أن يتساووا؟ الأول هو الجواب الصحيح ولا يلزم التساوي، ولهذا قضي النبي (صلى الله عليه وسلم) بالسلب للقاتل مع أن المقتول من العدو قد يكون سلبه كثيرًا وقد يكون سلبه قليلاً. ومن فوائد الحديث: حسن تدبير النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث كان يجعل المحفزات عند الحاجة إلى ذلك كما فعل هنا في جلب السلب للقاتل. 1230 - وعن عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) في قصة قتل أبى جهل قال: "فابتدراه بسفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فاخبراه، فقال: أيكما قتله؟ هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا قال: فنظر فيهما، فقال: كلاكما قتله، فقضى (صلى الله عليه وسلم) بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح" متفق عليه.

قوله في: "قصة قتل أبى جهل" أبو جهل من أكبر زعماء قريش، وكان يكني أبا الحكم، ولكن النبي (صلى الله عليه وسلم) هو الذي كناه بأبى جهل، وهذه الكنية هي المطابقة تمامًا لحال هذا الرجل، لأن من جهله أن يرد دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) وليس من الحكمة أن يردها فكيف يستحق أن يكني بأبي الحكم بل هو أبو جهل وقوله: "في قصة قتل أبى جهل"، القصة: هو أن عبد الرحمن بن عوف كان بين شابين صغيرين فسألاه عن أبى جهل، فقال لهما: ماذا تريدان منه؟ فصرح أحدهما قال: والله لأن عرفته لأقتلنه أو أموت دونه ثم التفت إلهي الآخر وسارة أيضًا وقال ما قال الأول، فلما رآه عبد الرحمن قال: هذا هو الرجل الذي تريدانه؟ قال فانطلقا من عنده كالصقرين على الصيد يريدان هذا الرجل فضرباه بسيفيهما فأردياه حتى سقط على الأرض ثم جاء بعدهما عبد الله بن مسعود وأجهز عليه وحز رأسه وكان يخاطبه، لمن الدائرة الآن؟ فقال عبد الله، ورسوله يا عدو الله، ثم وضع رجله على صفحة وجهة، ابن مسعود راعي غنم يضع رجله على صفحة وجه أبى جهل زعيم قريش فقال له: لقد ارتقيت مرتقي صعبًا يا رويعي الغنم، يحقره فهذا عزة الإسلام جاء الشابان إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأخبراه أنهما قتلا أبا جهل فقال: "أيكما قتله؟ " ولعله سأل عن ذلك ليقي بالسلب للقاتل ثم قال: "هل مستحتما سيفيكما؟ " قال: لا، فنظر في السيفين وإذا كلاهما متغمص بالدم فعرف أنهما قتلاه جميعًا. يقول: "فقضي (صلى الله عليه وسلم) بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح". في هذا الحديث فوائد متعددة منها: أن الشجاعة قد تكون في قلوب الصغار، لأن هذين الشابين سألا عبد الرحمن بن عوف عن أبى جهل وقالا هذه الكلمة العجيبة: لأقتلنه أو أموت دونه، وهذا يدل على التصميم التام في قلهما أبا جهل. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للإنسان أن يتخلف عن فرض الكفاية إذا قام به من يكفي؛ لأن عبد الرحمن يشاهد أبا جهل، وليس بذاك الرجل الجبان لكنه لما رأي هذه الشابين يريدان قتله اكتفى بهما وهذا هو القاعدة في فرض الكفاية أنه إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين. ومن فوائد الحديث: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يعلم الغيب لقوله: "أيكما قتله"، فيكون رد لقول الخرافيين الذين يدعون أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يعلم الغيب حتى بعد موته، يقولون: إنه يعلم الغيب يحتجون بشبهات مثل قوله النبي (صلى الله عليه وسلم): "فإن صلاتكم تعرض على"، ومثل ما ورد في بعض الآثار أن أعمال الأمة تعرض عليه، فيقال: لا يلزم من عرضها عليه أن يكون عالمًا بها قبل وقوعها ولا عالمًا بها قبل أن تعرض عليه أيضًا فهو (صلى الله عليه وسلم) لا يعلم الغيب لا حيًا ولا ميتًا.

ومن فوائد الحديث: العمل بالقرائن، لأنه استدل بما على سيفيهما من الدم على أنهما قتلاه وقد ثبت العمل بالقرائن بالكتاب والسنة، أما في الكتاب فقصة يوسف مع امرأة العزيز حيث شهد الشاهد: {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين} [يوسف: 26، 27]، كذلك أيضًا من السنة حكم سليمان - عليه الصلاة والسلام- في قصة المرأتين اللتين تحاكمتا إلى داود بابن إحداهما حيث أكل ابن إحداهما الذئب فاختصمتا في الابن الباقي إلى داود فرأي - عليه الصلاة والسلام- أن يحكم به لكبيرة بناء على أنها أحوج للولد من الصغيرة وبناء على أن الصغيرة يمكن أن تنجب ولكن سليمان- عليه الصلاة والسلام- خالفه في الحكم، فلما تحاكمتا إليه دعا بالسكين وقال أريد أن أشق الولد بينكما نصفين كل واحدة تأخذ النصف فقالت الصغرى: هو لها يا نبي الله، وقالت الكبرى: شقة! فحكم به للصغرى، أين القرينة؟ الرحمة والحنان من الصغرى، الصغرى لا يهمها أن يفارقها ولكن يبقي حيًا والكبرى ال يهمها أن يقتل ويموت، لأن أبنها قد أكله الذئب، والحديث أن يفارقها ولكن يبقي حيًا والكبرى لا يهمها أن يفارقها ولكن يبقي حيًا والكبرى لا يهمها أن يقتل ويموت؛ لأن أبنها قد أكله الذئب، والحديث الذي معنا من الحكم بالقرائن على يدي الرسول خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وسلم)، ولكن لا بد أن تكون القرائن قوية لا مجرد شبهة فإن مجرد الشبهة لا يكفي، بل لا بد أن تكون القرينة قوية جدًا مثلاً: لو تنازع الزوجان بعد الفراق في أساس البيت فقالت الزوجة: دلال القهوة لي، وقال الزوج: لي، القرينة مع الزوج، لأن النساء لا يكثرن من شرب القهوة والذي يكثر الرجال إذن يحكم بأنها للرجل بناء على الظاهر وإن كان فيه احتمال أن المرأة هي التي اشترتها. تنازع الرجل والمرأة في حلي سوار من الذهب، قال الزوج: لي، وقالت الزوجة: لي القرين مع الزوجة مع أن فيه احتمالاً أن للزوج وأنه أعارها إياه كما يفعل بعض الأزواج الآن يشتري ذهبًا وبعيره زوجته، ويكتب بأني أعرت الزوجة كذا وكذا، إذن العمل بالقرآن إذا كانت قوية عمل مشروع وطريق صحيح إلى الحكم بين الناس. ومن فوائد الحديث: أن من اشتركا في عمل استحقا ما جعل عليه ولا حاجة إلى الإقراع بينهما ما دامت القسمة ممكنة، وإن كان لا يمكن احتيج إلى إجراء القرعة بينهما، ووجه الاستدلال من الحديث يترتب على تحرير الحديث.

الرمي بالمنجنيق

الرمي بالمنجنيق: 1231 - وعن مكحول (رضي الله عنه): "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نصب المنجنيق على أهل الطائف" أخرجه أبو داود في المراسيل ورجاله ثقات. - ووصله العقيلي بإسناد ضعيف عن علي (رضي الله عنه). قوله عن "مكحول" (رحمه الله) وفي بعض النسخ (رضي الله عنه) وهذا يوهم أن يكون مكحول من الصحابة وليس كذلك وعلى هذا فيحسن أن تغير (رضي الله عنه) إلى (رحمه الله) "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نصب المنجنيق"، "المنجنيق" هو عبارة عن سلاح ينصب على أعمدة من خشب أو غير خشب ثم يوضع في شيء مثل القبة حجر كبير ثم يرمي به رجال أقوياء ثم يطلقونه بقوة فينطلق الحجر الكبير إلى الهدف المقصود، ويشبه في وقتنا الحاضر المدافع، وقوله: "على أهل الطائف" لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) حاصرهم نحو عشرين ليلة أو ثلاثين ليلة على اختلاف الروايات، حاصرهم حتى نزلوا على ما أراد النبي (صلى الله عليه وسلم). في هذا الحديث: دليل على جواز نصب المنجنيق أو ما يقوم مقامه من المدافع أو ما يقو مقام المدافع من الصواريخ. وفيه دليل أيضًا: على أنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المستقبل، وجهه: أن هذا المنجنيق سوف يهلك النساء والذرية ومعلوم أن إهلاكهم محرم حتى في الحروب لكن إذا جاء تبعًا فإنه يثبت في التبع ما لا يثبت في الاستقلال. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي لنا أن نفوت الفرصة من أجل خوف إصابة من لا تجوز إصابته، لأنه من الممكن أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقيم الحصار حتى يستسلموا ولكنه (صلى الله عليه وسلم) اختار هذا- إن صح الحديث-. ومن فوائد الحديث: أن ما يفعله الناس اليوم في المزارع حيث يحرقونها إذا حصدوا الزرع لئلا يكون فيها ثوابت ضارة في الزرع في المستقبل فإنه لا بأس به وإن أدي ذلك إلى إحراق الحشرات التي تكون فيها، وذلك لأنه تابع غير مقصود، وقد مر علينا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حرق نخل بني النضير والنخل قد يكون فيه فراخ الطيور أو غير ذلك لكنها لم تقصد. وهذا الحديث يقول المؤلف: "أخرجه أبو داود في المراسيل" والمراسيل: جمع مرسل

جواز قتل المرتد في الحرم

والمرسل له اصطلاحان: المصطلح الأول المشهور، وهو ما رفعه التابعي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) أو رفعه الصحابي الذي لم يسمع من الرسول فهو صنفان مرفوع تابعي أو صحابي لم يسمع من النبي (صلى الله عليه وسلم) وسواء لم يسمع من الرسول لصغر سنه أو لتيقننا أنه غاب عنه في هذا المشهد، فمثلاً لو ري أحد من الناس حديثًا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في غزوة من الغزوات ونحن نعلم أن هذا الراوي لم يشهد هذه الغزوة فإنه يكون مرسلاً لأننا نعلم أن بين الراوي وبين الرسول (صلى الله عليه وسلم)، واسطة، كذلك إذا رواه الراوي الذي لم يسمع من الرسول كمحمد بن أبى بكر، فإنه ولد عام حجة الوداع، أمه أسماء بنت عميس وضعته ف ي ذي الحليفة، فإذا روي محمد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حديثًا فإنه مرسل. أما النوع الثاني من المرسل في الاصطلاح: فهو كل ما لم يتصل سنده فإن بعضهم يسميه مرسلاً فيقول: أرسله فلان عن فلان، لأن بينهما واسطة، وهو يشبه المرسل المصطلح عليه المشهور من حيث سقوط الواسطة؛ ولذلك يطلق عليه بعض المحدثين أنه مرسل، أما حكم المرسل فهو الضعف إلا في حالين: الحال الأولى: إذا رفعه الصحابي، قالوا: فإن مرسل الصحابي مقبول وذلك لشدة تحري الصحابة في النقل عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فهو لم يرسله إلى الرسول مباشرة إلا لعلمه أن الواسطة ثقه، والحال الثانية: إذا علمنا أن هذا التابعي لا يروي إلا عن صحابي كما يذكر عن سعيد بن المسب أن مراسيله عن أبى هريرة (رضي الله عنه) [متصلة] فهذا أيضًا يكون مقبولاً وما عدا فإن المرسل يعد من قسم الضعيف. ثم قال المؤلف: ووصله العقيلي بإسناد ضعيف عن علي فصار هذا الحديث إما ضعيفًا من حيث اتصال السند لكون مكحول أرسله، وإما ضعيفًا من حيث الرواة، كما قال الحافظ ابن حجر، وصله العقيلي بإسناد ضعيف عن علي (رضي الله عنه) لكن على كل حال إذا لم يصح سندًا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإن القواعد الشرعية تقتضي ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإذا لم يتم الوصول إلى غزو هؤلاء الكفار وإثخانهم إلا بذلك كان جائزًا بلا شك. جواز قتل المرتد في الحرم: 1232 - وعن أنس (رضي الله عنه) "أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه" متفق عليه. قوله: "دخل مكة"، يعني: في غزوة الفتح، وكان ذلك في رمضان في السنة الثامنة من

الهجرة، وروي أهل التاريخ أنه في يوم الجمعة العشرين من شهر رمضان، فيكون النبي (صلى الله عليه وسلم) أدرك تسعة أيام من رمضان في مكة ومع ذلك فقد ورد في البخاري أنه لم يصم هذه الأيام التسعة، لأنه مسافر ومشغول بتدبير شئون الفتح وما يتعلق به. وقوله: "على رأسه المغفر" الجملة من حيث الإعراب في محل نصب على الحال، والمغفر: آلة الغفر، أي: الستر؛ لأن مفعل تطلق على معان منها الآله مثل مقلاع، محراب، آله الحرب، مغفر على وزن مفعل يعني: آله الغفر: هو الستر مع الوقاية، وهو شيء يلبس على الرأس يقي سهام المقاتلين، "فلما نزعه- يعني: انتهي الحرب ونزعه- جاءه رجل وقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة .. الخ) ابن خطل اسمه عبد الله، قال: "متعلق بأستار الكعبة" متعلق بها تأمينًا على نفسه، لأن هذا البيت من دخله كان آمنًا فالمتعلق بأستار الكعب يكون أشد أمنًا فهذا الرجل متعلق بأستار الكعبة، ولكن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "اقتلوه"، فقتل لا شك، وكان ذلك ضحي يوم الفتح وقد أحل الله لنبيه (صلى الله عليه وسلم) مكة من ضحي يوم الفتح إلى صلاة العصر، وهذا معني قوله: "وإنما أحلت لي ساعة من النهار" يعني: من طلوع الشمس إلى العصر- حوالي ثماني ساعات- لكن ليست الساعة الاصطلاحية. * فائدة: اتخاذ الأسباب لا ينافي التوكل. من فوائد هذا الحديث: أولاً: مشروعية فعل الأسباب الواقية من الضرر وأنها لا تنافي التوكل، وذلك للبس الرسول (صلى الله عليه وسلم) المغفر على رأسه وقاية من السهام وقد ظاهر (صلى الله عليه وسلم) في غزوة أحد بين درعين، يعني: لبس درعين، ليكون ذلك أشد حماية، ففعل الأسباب النافعة الثابتة شرعًا أو حسًا من الأمور المطولبة الثابتة شرعًا كالرقي التي يرقيها على المرضي أو على نفسه والأوراد وما أشبه ذلك هذه نافعة ثابتة بالشرع، والثابتة بالحس كالذي يثبت بالتجارب كثير من الأدوية يثبت نفعه بالتجارب، فمتى ثبت حسًا بأن هذا نافع فإنه مأمور أما ما كان ينفع وهمًا ولا أثر له في الواقع فإن الاعتماد عليه من باب الشرك بالله كلبس الحلقة لدفع البلاء أو رفعه فإن هذا من باب الشرك لكنه شرك أصغر، ووجه كونه شركًا، إنه إثبات سبب لم يثبت شرعًا ولا حسًا وهذا يقتضي أن يكون المثبت مقدرًا مع الله وربًا مع الله، فإذا كان هذا لم يثبت أنه سبب لا شرعًا ولا حسًا فإنه لا يجوز الاعتماد عليه.

ومن فوائد الحديث: أن للأسباب تأثيرًا، لأن النبي لبس المغفر ولولاً أنه تحصل به الوقاية لكان لبسه عبثًا لا فائدة منه، فالأسباب لها تأثير سواء كانت أسباباً شرعية أو أسباباً حسية، أما الشرعية فمثل قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "من أحب أن ينسأ له في أثره ويبسط له في رزقه فليصل رحمه" وأما الأسباب الحسية فكثيرة. ثبوت تأثير الأسباب وأدلته: وبهذا نرد على من قالوا: إن الأسباب لا أثر لها ولا تؤثر، لأن من العلماء من قال: إن الأسباب ليس لها أثر حتى لو رميت زجاجة بحجر فانكسرت فإنها لم تنكسر بإصابة الحجر، الحجر لا يمكن أن يكسر، قال: هذه انكسرت عند الإصابة وليس بالإصابة، الإصابة هذه علامة أنه إذا التقى الحجر بالزجاج انكسر إمارة وليس له تأثير، ولا أدري كيف تكون هذه أمارة ولو ضربنا الحديد بالحجر لم ينكسر. ومن فوائد الحديث: العمل بالأسباب. ومن فوائد الحديث أيضًا: أن للأسباب تأثيرًا، وذكرنا أن للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: طرفان ووسط أما الطرفان فالأول أنه لا تأثير للأسباب مطلقًا وأن ما يحصل من التأثير بها فهو حاصل عندها لا بها وأنها مجرد علامات، يعني: علامة انكسار الزجاجة إذا ضربها الحجر أن يصدمها الحجر وليست تنكسر به، وهذا مذهب الأشاعرة ومذهب كل من ينكرون الحكمة في أفعال الله (عز وجل) لأنهم لا يعللون الأفعال والقوائع، ولا شك أن هذا القول باطل ومردود بأوجه كثيرة بالدليل العقلي والسمعي والحسي وأن هذا لو ذكر أنه من عقائد المسلمين عند غير المسلمين لاتخذوا عقيدة المسلمين هزوا؛ لأن هذا القول يكذبه الحس والواقع، يعني: لو أن إنسانًا قذف بحجر على زجاجة فانكسرت وقالت: إنها لم تنكسر بالحجر وإنما انكسرت عنده لا به لضحك الناس من هذا، والعجب أن القائلين بهذا القول يرون أنهم هم أهل الإخلاص، لأن إثبات تأثير الأسباب عندهم من باب الشرك حيث جعلوا مؤثرًا دون الله أو مع الله، وهذا القول تصوره كاف عن سياق أدلة بطلانه. الطرف الثاني: القائلون بأن الأسباب مؤثرة بطبائعها بمقتضى طبيعتها مؤثرة بذاتها، فالحجر هو الذي كسر الزجاجة بنفسه وبطبيعتها، والنار هي التي أحرقت الورق بنفسها، وهذا القول باطل بدلالة الواقع ودلالة الشرع، يعني: بدلالة الشرع والواقع على أنه باطل وهو نوع من الشرك بالله (عز وجل) لأن اعتقاد أن شيئًا ما يؤثر في الشيء الآخر بنفسه دون الله هذا شيء من الشرك

لا شك فيه، ووجه بطلانه من الشرع: قول الله - تبارك وتعالى: {أفرأيتم النار التي تورون (76) أنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون} [الواقعة: 71 - 72]، فبين الله تعالى أن الذي أنشأ شجرة النار والتي تنقدح بها النار هو الله (عز وجل) وبين أنه جعلها متاعًا للمقوين، وتذكرة للمتقين، وأما الواقع فإن الله -سبحانه وتعالى- قال للنار التي ألقى فيها إبراهيم: {كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم} [الأنبياء: 69] فكانت بردًا وسلامًا ولم تحرقه ولو كان إحراقها بذاتها لأحرقته بذاتها إذن بطل الطرفان الأول والثاني أيهما أبعد عن المعقول والفطرة؟ الأول أبعد عن المعقول والفطرة. أما القول الوسط وهو الحق- والغالب أن القول الوسط هو الصحيح- فيقول: إن للأسباب تأثيرًا ولكن لا بذاتها، بل بما أودع الله فيها من القوة المؤثرة وبهذا نسلم من شرك من جعلوها مؤثرة بذاتها ونسلم من سفه القول بأنها لا تؤثر. من فوائد الحديث: أن مكة فتحت عنوة بالسيف لا بالصلح لقوله: "وعلى رأسه المغفرة"، وهذا يدل على أنه فتحا عنوة لا صلحًا، وهذا هو الصحيح. فإن قال قائل: لماذا لم تقسم مكة على الغانمين إذا كانت فتحت عنوة كما قسم النبي (صلى الله عليه وسلم) أرضي بني النضير وبني قريظة؟ فالجواب عن ذلك من أحد وجهين: إما أن نقول: إن قسم الأراضي المغنومة راجع إلى الإمام فإن رأي مصلحة في القسم قسم وإن رأي مصلحة في الإيقاف أن توقف وتجعل وقفًا للمسلمين ويضرب عليها الخراج فعل، وإن رأي أن تكون وقفًا بدون خراج فعل، وإن رأي أن يمن بها على أهلها فعل، الوجه الثاني: أن المانع من قسمة مكة هو أن مكة مشعر من المشاعر فيكون في هذا دليل على أن مكة لا تقسم كما هو قول كثير من العلماء أن مكة كمني وعرفة ومزدلفة مشعر لا يمكن أن يجري فيها القسم لكن يجري فيها الأحقية، فمن كان تحته دار أو ما أشبه ذلك فهو أحق بها من غيره، لكن لا يملكها، والمسألة فيها أقوال، أظن أننا ذكرناها في الكلام على زاد المستنقع فلا حاجة للإعادة. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجب الإحرام على من دخل ولو تباطأ العهد، وجه الدلالة: أن النبي دخلها وعلى رأسه المغفر والمحرم لا يمكن أن يلبس المغفر، واختلف العلماء في تخريج هذا فمنهم من قال: إنه لا يجب الإحرام على داخل مكة إذا دخلها لقتال مباح والنبي (صلى الله عليه وسلم) دخلها لقتال مباح، فكل من دخلها لقتال مباح فإنه لا يلزمه الإحرام لأنه سيشتغل بالقتال عن النسك، ومنهم من قال: إنه لا يجب على من أدي فريضة العمرة والحج ثم دخل مكة أن يحرم وهذا المأخذ هو الصحيح- أن من دخل مكة وقد أدي الفريضة فلا إحرام عليه- ويدل لذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما أخبر أن الله فرض علينا الحج قال الحج قال رجل يا رسول الله أفي كل عام؟ قال:

"لو قلت نعم لوجبت وما استطعتم، الحج مرة فما زاد فهو تطوع" فقال: "ما زاد" و"ما زاد" هذه شرطي تعم كل شيء، فمتى أدي الإنسان فريضة الحج والعمرة كان ما يفعله بعد ذلك تطوعًا إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله، ويدل لذلك أيضًا قول النبي (صلى الله عليه وسلم) حين وقت المواقيت قال: "هن لهن ولمن أتي عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة" هكذا استدل بعض العلماء بهذا الحديث، وفي هذا الاستدلال منازعة، لأن قوله: "ممن يريد" لا تدل على عدم الوجوب، لأن الوجوب سابق على الإرادة، فيمكن أن نقول: "ممن يريد" ممن يجب عليه، وكل الناس يجب عليهم، ونظير ذلك أن نقول: الوضوء واجب على من يريد أن يصلى الظهر، هل هذا يدل على أن صلاة الظهر غير واجبة؟ لا، بل يدل على وجوب الوضوء لمن أرادها، ثم الإرادة يسبقها الحكم الشرعي واجبًا كان أم مندوبًا لكن الدليل الواضح هو الأول وهو قوله: "الحج مرة فما زاد فهو تطوع". ومن فوائد الحديث: أن الإخبار عن الجاني ليس وشاية وليس بحرام، يؤخذ من قوله: "أن رجلاً جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة" هذه وشاية لكن لمصلحة، فمن هو ابن خطل؟ هو رجل كان قد أسلم في المدينة ثم ارتد ولحق بالمشركين في مكة، واتخذ جاريتين تغنيان بهجاء النبي (صلى الله عليه وسلم)، فجمع بين الردة واللحاق بالمشركين وسب النبي (صلى الله علي وسلم)، فكانت ذنوبه عظيمة، واشتهر ذلك فجيء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ليخبر به، فقال: "اقتلوه". ومن فوائد الحديث: أنه قد اشتهر حتى عند الكفار الالتجاء إلى بيت الله الحرام. ومن فوائد الحديث: جواز قتل المرتد في مكة، وذلك لقوله "اقتلوه" ولكن هل هذا عام بحيث من ارتد خارج مكة ثم دخل مكة فإن الحرم يعيده أو لا؟ في هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: إن من فعل ما يوجب خارج مكة ثم لجأ إليها فإنها لا تقام عليه العقوبة، لعموم قوله الله تعالى: {ومن دخله كان أمنًا} [آل عمران: 97]، وقوله: {أو لم يروا أن جعلنا حرمًا أمنًا ويتخطف الناس من حولهم} [العكنبوت: 67] ولأن الطيور- وهي من غير البشر- تأمن إذا دخلت إلى مكة، فالآمي من باب أولى، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد (رحمه الله)، لكنهم قالوا: يضيق على هذا الرجل حتى يخرج فلا يكلم ولا يطعم ولا يسقي ولا يماشي حتى تضيق عليه الأرض بما رحبت ثم يخرج فإذا خرج أقمنا عليه الحد، ومنهم من قال: إن الحرم يعيد العاصي مطلقًا ولا يتعرض له بشيء ولا يضيق عليه؛ لأنه دخل المكان الآمن وربما يمن الله عليه بالهداية إذا عرف أنه استجار بحرم الله فأجير تعظيمًا لله (عز وجل) فالأقوال ثلاثة. فإن قال قال: هل في قصة ابن خطل دليل على القول الذي يقول: إنه يجيره مطلقًا؟

القتل صبرا

فالجواب: لا، لأن ابن خطل فعل الجريمة في مكة، وفاعل الجريمة في مكة منتهك لحرمة الحرم فلا حرمة له هو بنفسه؛ لأنه انتهك حرم الله فلم يكن له حرمة، ولهذا أجمع العلماء على إقامة الحد على من فعل ما يوجب الحد في مكة وهذا هو الذي يدل عليه الحديث. القتل صبرًا: 1233 - وعن سعيد بن جبير (رضي الله عنه): "أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قتل بدر يوم ثلاثة صبرًا" أخرجه أبو داود في المراسيل ورجاله ثقات. عندي: "عن سعيد بن جبير (رضي الله عنه)، والصواب (رحمه الله) حسب اصطلاح العلماء أو حسب ما عرف بين العلماء، وإلا فهو ممن رضي الله عنهم إن شاء الله، "يوم بدر" يعني: يوم غزوة بدر، وهو مشهورة في مكانها وسببها وزمانها ولا حاجة إلى إعادة القول فيها لأننا ذكرناه وقوله: "ثلاثًا صبرًا" يعني: ثلاثة من قريش وقوله: "صبرًا" أي: بدون قتال أوقدهم وصبرهم، أي: حبسهم ثم قتلهم. يقول: أخرجه أبو داود في المراسيل ورجاله ثقات، لكنه ما دام مرسلاً ففي صحته نظر، إلا إذا علمنا أن سعيد بن جبير لا يرسل إلا عن صحابي، ولكنه يشهد له الحديث السابق في قصة ابن خطل، فإنه قتل صبرًا، أي: بدون تشابك في القتال. الأسير وأحواله: 1234 - وعن عمران بن حصين (رضي الله عنه): "أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فدي رجلين من المسلمين برجل من المشركين" أخرجه الترمذي وصححه. - وأصله عند مسلم. هذا أيضًا في الأسرى أنه يجوز فداؤهم، يعني: يجوز أن يأخذ فدية عن قتلهم بأناس من المسلمين، ففي هذا الحديث أن الرسول فدي رجلين من المسلمين برجل مشرك، يعني: أعطي المشركين رجلاً وأخذ رجلين. ففيه: جواز فداء الأسير المشرك بأسير من المسلمين، فإذا ضممته إلى ما سبق تبين أنه يجوز في الأسرى شيئان: الأول أن يقتلوا، والثاني: أن تؤخذ الفدية من المشركين، أي: يفدوا

إسلام الكافر ونتائجه

برجال من المسلمين، ويجوز أن يفدوا بمال ويجوز أن يفدوا بمنفعة كما فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) في أساري بدر حيث أطلقهم على أن يعلموا أهل المدينة، فهذه ثلاثة أشياء: أن يقتل صبرًا والثاني الفدية بأسير مسلم، والفدية بمال، والرابع: فدية بمنفعة، وهل يجوز أن يطلقوا؟ نعم يجوز ذلك لقوله الله - تبارك وتعالى: {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} [محمد: 4]، فصار مخيرًا بين ثلاثة أشياء بين القتل والفداء- والفداء له ثلاث صور- والثالث: المن، ولكن هذه القضايا المختلفة هل هي حسب تشهي القائد أو الإمام أو هي حسب المصلحة؟ الثاني، لأن القاعدة الشرعية: أن من تصرف لغيره فإنه يجب عليه أتباع الأصلح في حق ذلك الغير، بخلاف من تصرف لنفسه فإنه مخير تخيير تشه، فخصال الكفارة في الإيمان الخصال الثلاث، التخيير فيها تشه أفعل ما شئت، فصار الفدية- فدية الأعداء- التخيير فيها أيضًا تشهيًا أفعل ما شئت، لكن إذا كنت تتصرف لغيرك فيجب أن يكون التخيير مبنيًا على مصلحة ذلك الغير، فمثلاً: إذا رأي الإمام أن في قتل هذا الأسير مصلحة للمسلمين بتقوية نفوسهم وإذلال أعدائهم، فالواجب أن يقتله حتى لو أعطي ملايين الملايين فإنه لا يجوز أن يقبل الفدية، وإذا رأي أن المصلحة أن يأخذ منه فدية مالية فليأخذ فدية مالية وإذا رأي من المصلحة إلا أن يقول: أنا لا أقبل فداء إلا بالأسري الذين عندكم فله أن يفعل وأما المن ففي الآية واضح إذا رأي من المصلحة أن يمن عليه فلا بأس، وهذا يرجع إلى كل قضية بعينها وهذا هو الذي تسمعون أحيانًا في كلام العلماء: هذه قضية عين، يعني: ليست حكمًا عامًا يستدل بعمومه، ولكن قضية عين يعني: قد يكتنفها من الأشياء ما يجعل حكمها هكذا ولو اختلف الأمر لاختلف الحكم، وهل يجوز أن يسترقه؟ نعم ذكر فقهاؤنا- رحمهم الله- أنه يجوز أن يسترق الأسير- والمراد بالأسير: المقاتل الذي يؤخذ في الحرب بعدما استسلم- إذا شاء الإمام، وقيل: ليس له أن يسترقه، لأن الاسترقاق حق لله (عز وجل) لا يمكن أن يسترقه إلا بسبب شرعي لكن فقهاؤنا صرحوا يجوز ذلك وقالوا: إذا كان يجوز أن يقتل فاسترقاقه قد يكون أنفع للمسلمين من قتله. إسلام الكافر ونتائجه: 1235 - وعن صخر بن العيلة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "إن القوم إذا أسلموا، أحرزوا دماءهم وأموالهم" أخرجه أبو داود، ورجاله موثقون. "القوم": المراد بهم: الكفار بدليل قوله: "إذا أسلموا"، ثم إن كلمة "القوم إذا أسلموا" عامة، ولكن الأدلة تدل على أنها تحتاج إلى تفصيل على النحو التالي:

معرفة الجميل لأهله

أولاً: إذا أسلموا قبل قتالهم أحرزوا دماءهم وأحرزوا أموالهم أيضًا ولا يجوز أن نأخذ من أموالهم شيئًا، لا من الأموال المنقولة ولا من الأموال غير المنقولة، لأنهم أسلموا وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى فهؤلاء الذين أسلموا بمجرد أن أسلموا لا يجوز أن نتعرض لهم قد أحرزوا دماءهم وأموالهم. الحال الثانية: أن يسملوا بعد القتال، فما أخذ من أموالهم حال القتال وقبل الإسلام فهو غنيمة للمسلمين وما لم يؤخذ فهو لهم ومنه غير المنقول كالأراضي فإذا أسلموا على أراضيهم فلا يجوز أن نقسمها بين الغانمين، لأنهم أسلموا عليهم فتكون لهم ويحرزون بذلك أموالهم التي لا تنقل وكذلك الأموال التي كانت بأيديهم بعد أن أسلموا، لأنهم صاروا محترمين معصومين أما إذا أسلموا بعد المقاتلة وبعد أن غنمنا أموالهم فما غنمناه من الأموال فهو غنيمة وكذلك لو اسلموا بعد أن فتحنا أرضهم عنوة وملكناها فإن هذه الأرض للإمام أن يصالحهم فيها على ما يريد مما تقتضيه المصلحة. معرفة الجميل لأهله: 1236 - وعن جبير بن مطعم (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال في أساري بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيًا، ثم كلمني في هؤلاء النتني لتركتهم له" رواه البخاري. "في أساري بدر" يعني: الذين أسروا في بدر، وكان عددهم سبعين نفرًا أسروا، وقتل سبعون، هؤلاء جاء بهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة، وقال: "لو كان المطعم بن عدي- الذي هو أبو جبير- حيًا ثم كلمني ... الخ" "النتني" جمع نتن، والنتن: الرائحة الكريهة المستقذرة وإنما وصفهم بذلك لأنهم مشركون، والمشرك نجس كما قال الله تعالى: {إنما المشركون نجس} [التوبة: 28]، وقوله: "لتركتهم له" يعني: لأطلقتهم، وهذا فيه المن بال شيء، وسبب ذلك- يعنيك سبب ذلك هذا القول- أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما رجع من الطائف بعد أن ردوا دعوته ودخل مكة أجارة المطعم بن عدي وركب فرسه وأمر أبنية أن يكون أحدهما عن يمينه و [الآخر] عن الشمال وكان مجيرًا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أن يناله سوء من قريش فمن أجل هذه الحسنة العظيمة التي فعلها بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه أحق الناس برد الجميل وأن المطعم لو كلمه في هؤلاء لتركهم له.

ففي هذا دليل على فوائد: أولاً: رد الجميل والمعروف حتى وإن كان الفاعل لو كافرًا وهذا يؤيده عموم قوله (صلى الله عليه وسلم): "من صنع إليكم معروفًا فكافئون". ثانيًا: جواز التعبير بـ "لو" وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله)، في كتاب التوحيد قال: باب ما جاء في اللو ثم ساق ما ساق من الآثار والأحاديث، واستعمال" لو" على ثلاثة وجوه، أولاً أن يكون المراج بها مجرد الخبر فهذه جائزة ولا تنافي التوحيد، ومنه هذا الحديث" لو كان حيًا ثم كلمني لتركتهم له" وكذلك لو قلت: لو جاءني زيد لأكرمنه، هذا لا بأس به ولا ينافي التوحيد، لأنه خبر وهل منه قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم"؟ نعم، هو منه وليس هذا تمني ما فات ولكنه الإخبار عما كان يفعله لو استقبل من أمره ما استدبر. الوجه الثاني: أن تكون للندم والحزن على ماضي فهذه منهي عنها لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت، لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان" وهذه لأن الإنسان يظهر الندم والحزن على ما فات، وهذا لا ينفع، فما فات لا يمكن أن يرد ولا تستفيد من هذه "اللو" إلا التحسر والضيق وعدم الأمل، فلهذا قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "إنها من عمل الشيطان "، لأن الشيطان يريد أن يقلقك دائمًا وأن يحزنك {إنما النجوي من الشيطان ليحزن الذين أمنوا} [المجادلة: 8] ولهذا إن وجدت من نفسك قلقًا وحزنًا من شيء فاعلم أنه من الشيطان، استعن بالله (عز وجل) على رفع ما يمكن رفعه وما لا يمكن فلا يمكن أن يرفع المهم هذه اللو منهي عنها. الوجه الثالث: أن تكون في التمني أن يتمني الإنسان شيئًا، فهذه حسب ما يتمناه إن تمني خيرًا فهي خير وإن تمني شرًا فهي شر، ويدل لذلك حديث أربعة النفر أحدهم عنده مال ينفقه في طاعة الله والثاني فقير لكنه يحب الخير يقول: لو أن لي مال فلان فأفعل فيه مثل عمل فلان أو لعملت فيه مثل عمل فلان، فهذا قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيه: "هو بنيته فهمًا في الأجر سواء" وهذا طيب، لأن الإنسان إذا فعل هذا فإن يحثه على فعل الخير، والثالث: رجل غني لكنه يبذل ماله في غير مرضاة الله، والرابع: فقير ليس عنده مال لكن يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه مثل عمل فلان هذه لو مذمومة، لأنها في تمني شر، فهذه أقسام "لو" التي جاءت بها السنة قوله تعالى:

النهي عن وطء المسبية حتى تستبرأ أو تضع

{الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا" {آل عمران: 168] هذه مذمومة لأنها للتحسر كأنهم يقولون: ليتهم أطاعونا حتى لا يقتلون. ومن فوائد الحديث: جواز المن على الأسرى بدون فداء، سواء كان ذلك لمصلحة مترقبة أو لمكافأة على معروف، فمثلاً إذا رأينا شخصًا نعرف أنه صاحب خير وإحسان على المسلمين، لكنه لم يوفق للإسلام وقلنا له: أنت فعلت كذا في المسلمين فنحن الآن نطلقك حرًا كريمًا فهذا لا بأس به لمكافأته على ما صنع. ومن فوائد الحديث: جواز غيبة الكافر لقوله: "هؤلاء النتني" ومعلوم أنك لو وصفت الكافر بأنه منتن لكره ذلك لكنه لا غيبة له، الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره، والكافر ليس أخًا لك. النهي عن وطء المسبية حتى تستبرأ أو تضع: 1237 - وعن أبى سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: "أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فتحرجوا، فأنزل الله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء: 24] الآية"، أخرجه مسلم. قوله: "سبايا" يعني نساء سبيت، وقوله: "يوم أوطاس" يعني: يوم حنين، وأوطاس: واد في ديار هوزان قريب من الطائف، وهذه الغزوة تسمي غزوة هوازن وثقيف، وتسمي غزوة الطائف، وتسمي غزوة أوطاس، وقوله: "لهن أزواج فتحرجوا" من المتحرج؟ الصحابة، وذلك لأن النساء إذا سبين صرن ملكًا للمسلمين، لكن هؤلاء المتزوجات يشكل على الإنسان كيف تحل له وهي متزوجة، فأنزل الله هذه الآية: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء: 24]، يعني: وحرمت عليكم المحصنات من النساء، والمراد بالمحصنات هنا اللاتي أحصن بالأزواج، يعني: اللاتي هن متزوجات مع أزواجهن إلا ما ملكت أيمانكم ومنه- مما ملكت أيمانهم- السبايا فأحل الله لهم هؤلاء النساء المسبيات ولو كن مع أزواج ولكن لا بد من استبراء قبل الجماع والاستبراء إن كان حاملاً فبوضع الحمل، وإن كانت غير حامل- وهي تحيض- فبحيضة، وإن كانت غير حامل ولا تحيض فشهر فعلي هذا يكون الاستبراء بواحد من أمور ثلاثة خوفًا من أن يختلط ماء السابي بماء الزوج وحفظًا للأنساب، لأن حفظ الأنساب أمر مهم حتى إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال للرجل الذي قال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود يعرض بأن الغلام ليس له، فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): "هل لك من إبل؟ " قال نعم، قال: "ما ألوانها؟ " قال: حمر، قال: "هل فيها من أورق؟ " قال: نعم، قال: "أنني أتاها ذلك؟ " قال: يا رسول الله لعله نزعه عرق،

فقال: "ابنك هذا لعله نزعة عرق" كل هذا لئلا يقلق الإنسان من كون هذا الود ليس ولدًا له فيضيع النسب. ففي هذا الحديث فوائد: أولاً: انفساخ نكاح المسبية يؤخذ من حلها للمسلمين، إذ لا يمكن لامرأة أن تحل لرجلين في آن واحد، إذن المرأة إذا سبيت انفسخ نكاح زوجها، ولكن هل ينفسخ نكاح زوجها إذا سبي معها أو نقول لا ينفسخ إلا إذا كان الزوج في دار الحرب أما إذا كان مع زوجته- مسبي- فلا ينفسخ في هذا قولان للعلماء: منهم من قال إنه إذا كان معها زوجها فهو زوجها ولكن إذا سبيت وحدها وزوجها في دار الكفر فحينئذ ينفسخ النكاح، والمسألة تحتاج إلى تحرير لترجيح أحد القولين. ومن فوائد الحديث: إتباع سبيل الورع عند الاشتباه لقوله: "تحرجوا" أي: خافوا من الحرج وكأنه من المعلوم عندهم أن السبايا ملك للسابي تحل له لكن أشكل عليهم إذا كانت متزوجة. ومن فوائد الحديث: أن القرآن كلام الله لقوله: "فأنزل الله" ووجه الدلالة: أن الكلام ليس عينًا قائمة بنفسها حتى نقول إنه مخلوق كما في قوله: {وأنزل من السماء ماء}، {وأنزل لكم من الأنعام ثمينة أزواج} القرآن كلام صفة للمتكلم ليس عينًا قائمة بنفسها وحينئذ يدل هذا الحديث أن القرآن كلام الله كما هو قول أهل السنة. ومن فوائد الحديث: أن القرآن الكريم على نوعين أو إنزال القرآن الكريم على نوعين: الأول ما نزل ابتداء بدون سبب وهذا هو الأكثر، والثاني: ما نزل بسبب وهو كثير لكنه بالنسبة للأول فقليل. ومن فوائد الحديث: أن كلام الله (عز وجل) يتعلق بمشيئة متى شاء تكلم وليس هو المعنى القائم بنفسه الذي هو موصوف به أزلاً وأبدًا كما ذهب إلى ذلك الأشاعرة، بل هو قول يحدثه الله عز وجل، متى شاء وجاء الدلالة، أنهم لم تحرجوا أنزل الله هذه الآية. ومن فوائد الحديث: علم الله عز وجل أو إحاطة علم الله، حيث علم- سبحانه وتعالى- أن الصحابة تحرجوا ثم أنزل ما يزيل تحرجهم. ومن فوائد الحديث: الحديث سعة رحمه الله للعباد، لأنه لو بقيت المرأة في عصمة زوجها الكافر للحق المسلمين بذلك حرج شديد، فلهذا رحم الله العباد وجعل المسبية ملكًا لسابيها ويفسخ نكاح زوجها. ومن فوائد الحديث: جواز وطء الأمة بملك اليمين وإن لم تكن كتابيه بخلاف النكاح،

تنفيل المجاهدين بعد قسمة الفيء

النكاح لا يجوز أن يتزوج الإنسان امرأة غير مسلمة إلا إذا كانت كتابية، يهودية أو نصرانية وأما الإماء فمتى ملك الإنسان أمة فهل حل له، لعموم قوله تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} ولهذا الحديث، لأن السبايا مشركات من المشركين وهذا هو القول الراجح أن الأمة يحل وطؤها بملك اليمين سواء كانت كتابية أم غير كتابية. تنفيل المجاهدين بعد قسمة الفيء: 1238 - وعن ابن عمر (رضي الله عنه) قال: "بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سرية وأنا فيهم قبل نجد، فغنموا إبلاً كثيرة، فكانت سهمانهم أثنى عشر بعيرًا، ونفلوا بعيرًا بعيرًا" متفق عليه. "بعث" يعني: أرسل سرية، قلنا: إن السرية هي ما ينطلق من الجيش دون أربعمائة أو دون خمسمائة على خلاف ذلك وسميت سرية، لأنها تسير ليلاً أو نهارًا، وقوله: "وأنا فيهم" الجملة في موضع نصب على الحال. قد يقول قائل: كيف تكون في موضع نصب على الحال وقد سبقها نكرة، وقد ذكرتم قاعدة أن الجمل بعد النكرات صفات؟ نقول: يمنع هذا إثبات الواو إثبات الواو في هذه الجملة يمنع أن تكون صفه لها، وقوله: "قبل نجد" أي: جهة نجد، ونجد في الأصل كل ما ارتفع من الأرض، والمراد به: نجد العرب، وهي بالنسبة للمدينة مرتفعة. يقول: "فغنموا إبلاً كثيرة" "غنموا": الفاعل يعود على السرية باعتبار المعنى لا باعتبار اللفظ وإلا لقال: فغنمت لكن لما كانت السرية مؤلفة من أناس عاد الضمير إليها بالواو موافقة للمعنى وكل لفظ مفرد يدل على الجمع فإنه يجوز عود الضمير إليه مفردًا باعتبار لفظه ومجموعًا باعتبار معناه، قال الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9] فأعاد الضمير الأول باعتبار المعنى، فقال: "اقتتلوا" وفي الثاني قال: {فأصلحوا بينهما} ولم يقل: بينهم، ففي الضمير الأول باعتبار المعنى، وفي الثاني باعتبار اللفظ، والإبل معروفة ليس لها مفرد من لفظها فهي اسم جمع، ومفردها بعير، "فكانت سهمانهم" أي: سهم كل واحد من هؤلاء السرية اثني عشر بعيرًا، لنفرض أن هذه السرية ثلاثمائة رجل كل واحد له أثنا عشر بعيرًا ستكون الغنيمة ثلاثة آلفا وستمائة، قال: "ونفلوا بعيرًا بعيرًا" فيكون أربعة آلاف بعير في هذه السرية. من فوائد الحديث: هذا الحديث مشروعية بعث السرايا سواء كانت منطلقة من الجيش أو

سهم الفارس والفرس والراجل

منطلقة من العاصمة إذا لم تتجاوز أربعمائة رجل فإنها سرية، وما زاد على ذلك فيسمي جيشًا، ودليل مشروعيتها فعل النبي (صلى الله عليه وسلم). ومن فوائد الحديث: أن الإمام الأعظم هو القائد الأول للأمة وهو الذي يبعث الجيوش ويؤمر الأمراء ويعرف العرفاء، ووجه ذلك: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو الذي كان يفعل ومن بعده الخلفاء. ومن فوائد الحديث: أن الحيوان من الأموال المغنومة كالأمتعة، لقوله: "فغنموا إبلاً". ومن فوائد: أنه يقسم بين الغانمين ولا يؤخر، وكيفية القسم أنه يوزع خمسة أسهم، سهم يوزع لله ورسوله، وسنذكره إن شاء الله، وأربعة أخماس تكون للغانمين تقسم بينهم، السهم الخامس ذكر الله تعالى مصرفه في قوله: {وأعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسة وللرسول وذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 41]، والذي لله ورسوله يجعل في المصالح العامة إلا في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فهو الذي يتصرف فيه كيف يشاء، لكن بعد موته الصحيح أنه يكون فيئًا يكون لبيت المال، وقال بعض العلماء: يكون للخليفة، لأنه قائم مقام الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحيح أنه يكون في المصالح العامة ويسمي عند العلماء فيئًا. ومن فوائد الحديث: جواز التنفيل، أي: تنفيل السرية، فإما أن تنفل شيئًا معينًا كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) في هذه السرية، وإما أن تنفل سهمًا مشاعًا، وقد فرق العلماء - كما جاء في الحديث- بين السرية التي انطلقت من الجيش في البداية وبين السرية التي انطلقت في الرجوع أيهما أكثر؟ الثانية أكثر؛ لأن التي تنطلق قبل الجيش لها سند يسندها وهو الجيش خلفها وأيضًا تكون قد بدأت القتال وهي في قوتها، وتكون أيضًا بدأت القتال وربما العدو في غفلة فلهذا كان تنفيلها أقل من التي تنفل في الرجعة، لأن في الرجعة الجيش يكون منهكًا، ثم إنها في الرجعة ليس لها سند، الجيش كله قد ولاها دبره، ثم إنها في الرجعة ربما يكون عند العدو استعداد أكثر وحنق أكثر فيكون الخطر عليها أكثر. سهم الفارس والفرس والراجل: 1239 - وعنه (رضي الله عنه) قال: "قسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم خيبر للفرس سهمين، وللراجل سهمًا" متفق عليه، واللفظ للبخاري.

حكم التنفيل

1240 - ولأبي داود: "أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهمين لفرسه، وسهمًا له" فهذا في كيفية القسمة تقسم بين الغانمين، كم نسبة الذي يقسم إلى الغنمية كلها؟ أربعة أخماس، يقسم بين الغانمين للراجل الذي ليس معه حيوان سهم ولمن كان على فرس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه، ووجه التفريق: أن فعل الفارس أقوى من فعل الراجل في الكر والفر بخلاف الراجل حتى وإن كان الراجل غناء وله فتح في الأعداء فإنه لا يزاد على سهم، اللهم إلا على سبيل التنفيل، بمعني: أن ينفله الإمام أو قائد الجيش والراكب على بعير له سهمان سهم لبعيره وسهم له، وذلك لأن العبير دون الفرس في النكاية في الأعداء وهذا هو العدل. حكم التنفيل: 1241 - وعن معن بن يزيد (رضي الله عنها) قال: "سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا تفل إلا بعد الخمس" رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الطحاوي. 1242 - وعن حبيب بن مسلمة (رضي الل عنه) قال: "شهدت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة" رواه أبو داود، وصححه أبن الجارود، وابن حبان، والحاكم. 1243 - وعن ابن عمر (رضي الله عنها) قال: "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوي قسمة عامة الجيش" متفق عليه. اختلف العلماء- رحمهم الله- في التنفيل هل يكون بعد الخمس أو قبله؟ على قولين، فمنهم من يقول: ينفل بعد الخمس، بمعنى: أنه يؤخذ الخمس كاملاً ويصرف على خمسة أصناف كما مر ثم أربعة الأخماس يؤخذ منها النفل السدس أو الربع كما في التفصيل المذكور، ومنهم من قال: يؤخذ النفل قبل الخمس، يعني: من أصل الغنيمة، ولو قيل بأن ذلك راجع للإمام أو للقائد لكان له وجه، لأن الأحاديث في ذلك مختلفة، فيكون هنا لا نفل إلا بعد الخمس وهذا يقتضي أن يكون التنفيل بعد الخمس، يعني: من أربعة الأخماس، وهنا يقول: "نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة" وظاهره أنه من أصل الغنيمة لا من أربعة الأخماس، ومن

حكم الأخذ من طعام العدو قبل القسمة

ثم اختلف العلماء والراجح أن هذا يرجع إلى اجتهاد الإمام أو من له القول في الجيش، وقوله: "نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة" تكلمنا عليه، أما حديث أبن عمر "كان ينفل ... الخ" استفدنا من قوله: "بعض من يبعث من السرايا" أنه ليس التنفيل أمرًا حتميًا ولكنه راجح إلى الإمام، والإمام يجب أن يراعي المصلحة، إن اقتضت التنفيل فعل وغلا فلا. حكم الأخذ من طعام العدو قبل القسمة: 1244 - وعنه (رضي الله عنه) قال: "كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه" رواه البخاري، ولأبي داود: "فلم يؤخذ منهم الخمس" وصححه ابن حبان. 1245 - وعن عبد الله بن أبى أوفى (رضي الله عنه) قال: "أصبنا طعامًا يوم خيبر، فكان الرجل يجيء، فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف" أخرجه أبو داود، وصححه أبن الجارود والحاكم. هذا في بيان هل مثل هذه الأشياء تدخل في الغلول؟ بينت هذه الأحاديث أنها لا تدخل في الغلول، يقول: "كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه" يعني: لا نرفعه إلى القائد أي: لا نرسله في الغنيمة والمعنى واحد، يعني: أنهم إذا وجدوا عسلاً أكلوه"، أو عنبًا أكلوه أو رطبًا أكلوه أو طعامًا مطلقًا أكلوه، ولكنهم لا يدخرونه، بل يأكل الإنسان منه حاجته ولا يدخر، ولهذا جاء في الحديث الثاني يأكل قدر ما يكفيه ثم ينصرف، وأما ادخاره فهذا غلول، لكن الأكل منه بقدر الحاجة ليس بغلول، لأنه قد يحتاج الجند إلى ذلك، ربما يصيبون العسل أو العنب أو الرطب أو الطعام وهو في حاجة إليه، فإذا قلنا: إن أكلكم منه من الغلول ازدادوا ضرورة، فيقال: إن هذا أمر من المرخص فيه، وإذا كان الجند يستوون في هذا ففي الحقيقة أنه لا غلول، لأن كل واحد من الجند سوف يتمتع بهذه الرخصة، صحيح أن المسلمين الذين لهم حق في الفيء لا يساوون هؤلاء، لكن ما دام الأمر سهلاً ومما جرت العادة ب الحاجة إليه فإنه لا بأس به.

وجوب المحافظة على الفيء

وجوب المحافظة على الفيء: 1246 - وعن رويفع بن ثابت (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر لا يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ردهًا فيه، ولا يلبس ثوبًا في فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه" أخرجه أبو داود، والدرامي، ورجاله لا بأس بهم. قوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب" تذكر هذه الجملة حثًا للمخاطب على ألا يفعل إن كانت في نفي، أو أن يفعل إن كان في إثبات، ففي قوله: "من كان يؤمن بالله واليوم فليقل خيرًا أو ليصمت" هذا في إثبات، فالمقصود بذلك الحث على فعل هذا، في نهي كما في الحديث فلا يركب الحث على الاجتناب، لأنه من يؤمن بالله واليوم الآخر سيحمله ذلك على فعل الأوامر وترك النواهي، وقوله: "واليوم الآخر" هو يوم القيامة وسمي بذلك، لأنه آخر مرحلة للبشر فالبشر لهم مراحل لهم دور الدار الأولى: بطن الأم، والدار الثانية: الدنيا دار العمل، والدار الثالثة: البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، والدار الرابعة: المستقر الدار الآخرة، فلهذا يسمي ذلك اليوم اليوم الآخر، لأنه لا يوم بعده وليس فيه ليل ولا نهار بل إما جنة وإما نار. فإن قال قال: لماذا ذكر اليوم الآخر ولم يقل: وملائكته وكتبه ورسوله والقدر خيره وشره؟ قلنا: إن هذه الأربعة داخلة في ضمن الإيمان بالله، لأن الرسل رسل الله والكتب كتب الله والقدر قدر الله والملائكة ملائكة الله، وكلها مما أخبر الله به عنه فيكون الإيمان بها داخلاً في الإيمان بالله. فإن قال قائل: يرد عليكم أن اليوم الآخر الإيمان به من الإيمان بالله؟ قلنا: نعم، لكنه خصه بالذكر؛ لأنه يوم الجزاء، فإذا ذكره وآمن به فسوف يحمله على أن يقوم بالأمورات ويترك المنهيات، لأن تحقيق الإيمان باليوم الآخر لا بد أن يحمل الإنسان على فعل الأوامر وترك النواهي. وقوله: "فلا يركب دابة من فيء المسلمين" المراد بالفيء هناك الغنيمة وليس الفيء الذي هو خمس الخمس، بل هو الغنيمة يركبها، "حتى إذا أعجفها ردها" لأن هذه خيانة للمسلمين وهو غلول للمنافع، لأن الغلول يشمل: غلول الأعيان كما لو أخذنا الإنسان ثوبًا أو غير ذلك وغلول المنافع وهذا من غلول المنافع. "ولا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه" وكذلك أيضًا لا يلبس ثوبًا من الغنيمة

حتى إذا أخلقه، أي: صيره خلقًا، والخلق هو الثوب القديم المستعمل، "رده فيه" أي: في الفيء؛ لأن ذلك نوع من الغلول غلول المنافع، "أخرجه أبو داود والدرامي ورجاله لا بأس بهم" قوله: "رجال لا بأس بهم" هذا أدنى مراتب التعديل وهو قريب من أدني مراتب التجريح، فهي ليست توثيقًا تامًا ولا جرحًا فهو تعديل لكنه أدنى مراتب التعديل. في هذا الحديث فائد: أولاً: إثبات اليوم الآخر، لقوله: "واليوم الآخر" ولم نقل: إثبات وجود الله، لأن هذا أمر دل عليه العقل والفطرة والشرع ولا إشكال فيه لكن اليوم الآخر هو الذي أنكره من يؤمن بالله، الكفار يؤمنون بالله لكن ينكرون اليوم الآخر، لأنه ليس مشاهدًا لا بعينه ولا بآثارها. ومن فوائد الحديث: أن آخر مرحلة للبشر هي اليوم الآخر ويترتب على هذه الفائدة بيان خطأ من يقول في الميت إذا دفن: ردوه إلى مثواه الأخير هذا غلط عظيم ولو كنا نعلم أن الذي يقوله يعتقد موجبه لقلنا: إن كافر، كأنه يقول: ليس هناك بعث هذا آخر شيء وهذا غلط عظيم وهذا من البلاء الذي يصيب كثيرًا من الناس يتلقون الكلمات عن الغير دون تمحيص، ونبهنا في درس أمس بعد صلاة العصر على كلمتين تقالان بدون تمحيص، كثير من الناس يقولون: دين الإسلام دين مساواة، وهذا لا يصح على إطلاقه، هو دين مساواة فيما لا فرق بينهما ودين المخالفة فيما بينهما فرق، وهذه الكلمة لما كانت تحتمل معنى باطلاً ومعنى حقًا صار لا يجوز إطلاقها بالنسبة لدين الإسلام، ألم تروا أن هذه الكلمة احتج بها من يقول: لا فرق بين الرجال والنساء! واحتج به من يقول: يجب أني سوي بين الغني والفقير وما دون ذلك بالاشتراكية، هم يقولون: دين الإسلام دين المساواة، وهذا غلط هذا خطير بدل هذه الكلمة وأحسن وأنصع وأبيه: أن الدين الإسلامي دين العدل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90] الثانية من العبارات المشهورة بين العامة مع أنها تخالف العقيدة الصحيحة- قولهم: اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه هذا غلط مخالف للحديث، الحديث يقول: "لا يرد القضاء إلا الدعاء" وكم من شيء أراده الله عز وجل فرفعه بالدعاء، ألم تعلموا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال في صلاة الكسوف: " إن الله يخوف عباده بذلك فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه والصلاة" لماذا؟ حتى نرد الشر الذي انعقد سببه والذي أنذرنا به بهذا الكسوف، ومن ذلك ما أشرت إليه الآن كلمة مثواه الأخير، هذا تقال في الصحف ويقولها بعض الناس أيضًا، فالمهم أن الواجب على طلبه العلم أن يمحصوا هذه الكلمات الحديثة التي هي ليست من كلام السلف حتى يبينوا صوابها من خطئها. ومن فوائد الحديث: تخريم ركوب الدابة من الغنيمة لقوله "فلا يركب" لكن لو قال قائل:

يجير على المسلمين أدناهم

هل المحرم مجرد الركوب أن يركبها حتى يعجفها؟ يحتمل أن تكون "حتى" للغاية أو تكون للتعليل، وإذا نظرنا إلى أن هذا المال قد تعلق به حق جميع الغانمين ترجح أن تكون "حتى" للتعليل، نعم لو دعت الضرورة إلى ركوب الدابة فلا حرج تكون كالطعام الذي يحتاج إليه، أما بدون ضرورة فلا. ومن فوائد الحديث: أن ركوب الدابة من فيء المسلمين مناف لكمال الإيمان بالله واليوم الآخر، وجهه: أنه جعل مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر ألا يركب، فإذا كان هذا من مقتضاه وتخلف هذا المقتضى دل على نقصان الإيمان بالله واليوم الآخر. ومن فوائد الحديث: حماية بيت المال، وجهه: حيث جعل ذلك من كبائر الذنوب، ويتفرع على هذه الفائدة: بطلان قاعدة قعدها العوام، يقولون: مال الحكومة حلال، كل كما شئت بالكذب والحيلة وكل شيء! ! إذا كان هذا الوعيد على من ركب دابة من فيء المسلمين فكيف بمن نهب أموال كثيرة وبه نعرف أن من أعطي انتدابًا وهو لم ينتدب فإنه يأكل سحتًا وأن الذي أعطاه ذلك لم يقم بواجب الأمانة لأنه مؤتمن على مال الحكومة، وأنه- أي: الذي أعطاه هذا الانتداب- ظالم له- للمعطي؛ لأنه أعطاه ما لا يستحق وجعله يأكل سحتًا، لأن بعض الموظفين مساكين قد يقبلون هذا إما لحاجتهم أو لاستكثارهم من المال لكن الذي أغراهم بذلك وجعل لهم انتدابًا هو الذي لم يقم بأمانته وهو الذي ظلمهم ومثل ذلك أيضًا من يكتب له [حاضر] الدوام وهو لم يعمل فإن هذا حرام عليه أن يأخذه وكذلك من كتب له هذا فإن لم يقم بواجب الأمانة من جهة ولي الأمر فيكون ظالمًا لهذا المسكين الذي أخذ مثل هذه المكافأة، إذن القاعدة العامية باطلة. من فوائد الحديث: تحريم لبس ثوب من فيء المسلمين، لقوله: "ولا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين" ونقول في قوله: "حتى إذا أخلقه" ما قلنا في قوله: "حتى إذا أعجفه" وإن "حتى" للتعليل، أن اللبس لا بد أن يؤثر في الثوب ولو لبسه واحدة كما هو معروف. يجير على المسلمين أدناهم: 1247 - وعن أبى عبيدة بن الجراح (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "يجير على المسلمين بعضهم" أخرجه أبن أبى شيبة وأحمد، وفي إسناده ضعف.

1248 - وللطيالسي من حديث عمرو بن العاص: "يجير على المسلمين أدناهم". 1249 - وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم". زاد ابن ماجه من وجه آخر: "ويجير عليهم أقصاهم". 1250 - وفي الصحيحين من حديث أم هانئ: "قد أجرنا من أجرت". هذه أحاديث، الأول منها قال المؤلف: في إسناده ضعف، والثاني لم يتكلم عن إسناده لكنه يسمى عند أهل المصطلح شاهدًا؛ لأن الشاهد عند أهل المصطلح ما جاء من رواية صحابي آخر مؤيدًا للحديث الضعيف، والثالث: "ذمة المسلمين" أي: عهدهم واحد، شاهد مقو لا شك ورواية ابن ماجه "يجير عليهم أقصاهم"، وأيضا هناك شاهد تطبيقي وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ". نعود إلى البحث في الأحاديث، هذه الأحاديث في إجارة الإنسان رجلا من المشركين، هل تنفذ إجارته؟ والإجارة بمعنى: التأمين؛ يعني: لو أمنه هل ينفذ أو لا بد أن يكون ذلك من الإمام أو نائبه هذا هو موضوع الأحاديث، وليعلم أن عقد الذمة لا يكون إلا من الإمام أو نائبه، وعقد العهد العام لا يكون إلا من الإمام أو نائبه، وتأمين شخص معين يكون من كل واحد من المسلمين. يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: "يجير على المسلمين بعضهم" أي: يكون جارا مجيرا مؤمنا للمشرك على المسلمين بعض المسلمين، فلو دخل مشرك إلى بلد المسلمين بأمان من تاجر أو عالم أو ما أشبه ذلك فإنه يجار، ولا يجوز لأحد أن يعتدي عليه؛ لأن ذمة المسلمين واحدة، يعني: عهدهم يسعى بها أدناهم، وقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]، "وحتى" هنا للغاية وللتعليل أيضًا {ثم أبلغه مأمنه} أي: إلى مكانه الذي يأمن فيه، وهذا إذا طلب أحد من المشركين أن يجار فإن كان لقصد ديني وجب علينا أن نجيره إذا قال: أجيروني أريد أن أسمع كلام الله، أريد أن أنظر عمل المسلمين كيف يصلون، كيف يتصدقون كيف يصومون، فههنا يجب علينا أن نقبل وأن نجيره؛ لأن هذا لمصلحة الإسلام والمسلمين، وإن طلب الإجارة من أجل أمور مباحة كالبيع والشراء فإننا لا

يلزمنا أن نجيره لكن لنا أن نجيره، وإن طلب الإجازة يريد أن يطلع على أحوال المسلمين فيكون عينًا للمشركين فهنا يحرم أن نجيره، إذ لا يصح ولا يمكن أن نجير شخصًا يكون جاسوسًا على المسلمين لأعداء المسلمين. وقوله: للطيالسي من حديث عمرو بن العاص: "يجبر على المسلمين أدناهم" "أدنى" اسم تفضيل من الدنو والمراد: أدناهم مرتبة، فلا يشترط في المجير أن يكون ذا شرف وسيادة في قومه بل وإن كان أدنى قومه، تجير المرأة؟ نعم تجير، والفقير والجاهل، كل من يصح منه عقد الإجازة فإنه يجير ولو كان أدنى قومه: وقوله: في حديث عليِّ "ذمة المسلمين"، "وذمة" بمعنى: عهد، فعهد المسلمين إذا وقع من واحد منهم حرم على غيره أن يعتدي على أجيره الذي آجره؛ ولهذا قال: "يسعى بها أدناهم" وهذا كقوله في رواية الطيالسي: "يجير على المسلمين أدناهم". وزاد ابن ماجه: "ويجير عليهم أقصاهم" يعني: أن أقصاهم وأبعدهم عن المراتب والشرف والسيادة يجير عليهم. وخلاصة هذه الأحاديث: أنه يجوز أن يستجير أحد من المشركين بواحد من المسلمين ولو لم يكن ذا شرف وسيادة وأنه إذا أجاره فهو كإجارة جميع المسلمين؛ لأن ذمة المسلمين واحدة, وقوله في الصحيحين عن أم هانئ: "قد أجرنا من أجرت" أم هانئ أخت علي بن أبي طالب- رضي الله عنها وعنه- أجارت رجلين من المشركين عام الفتح فكانا في جوارها فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "وقد أجرنا من أجرت" وإنما قال ذلك لأن علي بن أبي طالب امتنع أن يجيرهما وهو أخوها حتى رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قد أجرنا من أجرت" والمرأة بالنسبة لقومها من أدناهم إذن يكون هذا الحديث تطبيقًا عمليًا لقوله: "يسعى بها أدناهم"، صار عندنا الآن ثلاثة أقسام بالنسبة لتأمين الكفار، الأول: عقد الذمة، والثاني: عقد العهد العام، والثالث: الإجازة، أما الأول والثاني فلا يعقده إلا الأمام أو نائبه لأنه عقد عام. لكن إذا قال قائل: ما الفرق بين عقد الذمة وعقد العهد. نقول: عقد الذمة يكون بيننا وبين الكفار على أن يقيموا في بلادنا آمنين محفوظين ولكن عليهم الجزية، والعهد عهد بيننا وبين الكفار ألا نقاتلهم ولكنهم في ديارهم وليس علينا المطالبة بحمايتهم إنما لا يكون بيننا وبينهم قتال، كما جرى بين النَّبّي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، قريش في مكة والرسول في المدينة، والثالث: الإجازة الخاصة هذه لا تتعلق بالإمام ونائبه بل تكون من أدنى واحد من المسلمين وليس لها حكم، يعني: هذا الَّذي أجرناه من الكفار لنا أن نقاتل

إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب

قومه؛ لأن الإجازة بيننا وبينه فقط وهذا يكون من الإمام وغير الإمام، وهل يجب علينا إجابة طلبه للإجازة؟ ذكرنا تفضيلاً وأنه على ثلاثة أحكام: واجب ومباح وحرام. إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب: 1251 - وعن عمر رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأخرجنَّ اليهود والنَّصارى من جزيرة العرب، حتَّى لا أدع إلاَّ مسلمًا". رواه مسلم. قوله: "لأخرجن" هذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات، وهي القسم المقدر واللام ونون التوكيد، وقوله: "اليهود" هم الَّذين ينتسبون إلى موسى والنصارى الَّذين ينتسبون إلى عيسى فلماذا سمي اليهود يهودًا؟ قيل: إن ذلك نسبة إلى جدهم يهوذا، وقيل: إنه من قوله تعالى: {إنَّا هدنا إليك} [الأعراف: 156]. أي: من الهود وهو الرجوع ولا يبعد أن يكون من هذا ومن هذا لكننا قلنا: هم المنتسبون إلى موسى، فلماذا لم نقل هم أتباع موسى؟ لأنهم لم يتبعوه حقيقة، بل هم كافرون به وبجميع الرسل حتى الرسل الَّتي قبله كإبراهيم وغيره هم كافرون بهم؛ وذلك لأن المكذب بواحد من الرسل مكذب بجنس الرسالات وجنس الرسالات عام وإلا فما الفرق بين أن يكون فلانًا أو فلانًا، وقلنا أيضًا في النصارى: إنهم المنتسبون إلى عيسى ولم نقل أتباع عيسى لأنهم لم يتبعوه بل كذبوه وردوا بشارته وقال لهم عيسى: {يا بني إسراءيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التَّوراة} وهذا الرسول الَّذي قبله {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6]. بشرهم وهل يبشرهم برسول لا ينتفعون به؟ لا، إذن بشرهم برسول، يعني: أنه رسولكم الَّذي تحصلون بإتباعه على كل خير وتسلمون من كل شر، ولهذا جعلها بشرى، لكن أتدرون ماذا قال النصارى؟ قالوا: إن الرسول الَّذي بشرنا به أحمد وهذا محمد ونحن ننتظر أحمد، فيقال لهم: قبحكم الله أخذتم بالمتشابه وتركتم المحكم، في هذه الآية نفسها: {فلمَّا جاءهم بالبيّنات قالوا هذا سحر مبين} إذن هذا الرسول الَّذي اسمه أحمد جاء فتبيَّن بطلان حجتهم. فإن قال قائل: لماذا لم يسمه محمدًا؟ قلنا: إن عيسى لا يعلم الغيب، وإنه تلقى الاسم من الوحي أوحاه الله إليه وأوحى الله إليه هذا الاسم لفائدة عظيمة؛ لأن أحمد اسم تفضيل وهو إقرار من عيسى بفضيلة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أحمد الناس لله وأحق الناس أن يحمد، فاسم التفضيل هنا للفاعل والمفعول، يعني: أحق الناس أن يحمد هو محمد صلى الله عليه وسلم فأوحى إليه هذا الاسم ليتبين فضله- صلوات الله وسلامه عليه- دون محمد الَّذي هو اسم مفعول، ثمَّ نقول للنصارى: إنه جاءكم بالبينات وقلتم: هذا سحر

مبين وأن الله ألهم عيسى أن يسميه أحمد لهذا السبب ليتبين فضله وأنه أحمد الناس لله وأحق الناس أن يحمد صلى الله عليه وسلم. قوله: "لأخرجن اليهود ... إلخ" أقسم أن يخرجهم من جزيرة العرب والنصارى سموا بهذا الاسم إما لأنهم من بلدة تسمى الناصرة في فلسطين وإما من قوله تعالى: {قال الحواريُّون نحن أنصار الله} [آل عمران: 52]. وإما من الأمرين جميعًا وهؤلاء النصارى كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أقرب إلى المؤمنين من اليهود لقوله تعالى: {لتجدنَّ أشدَّ الناس عداوة للَّذين ءامنوا اليهود والَّذين أشركوا ولتجدن أقربهم مَّودَّةً للَّذين ءامنوا} يعني: من الكفار {الَّذين قالوا إنَّا نصارى} وعلل آية: {ذلك بأنَّ منهم قسيسين ورهبانًا وأنَّهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الَّرسول ترى أعينهم تفيض من الدَّمع ... } إلخ، ومثل هذه الأوصاف لا توجد في اليهود؛ لأن اليهود عتاة معاندون من أشد الناس عنادًا وكبرًا، فلا تجد فيهم هذا الوصف أما النصارى ففيهم هذا ولهذا صاروا أقرب الناس مودة إلى المؤمنين من سائر الكفار، ولكن بما أن الحكم يدور مع علته فإنه إذا انتفت هذه العلة انتفى الحكم، ولذلك نجدهم اليوم من أشد الناس عداوة للمؤمنين وأشدهم شراسة في قتال المسلمين وهذا شيء مشاهد فمنذ الحروب الصليبية إلى يومنا هذا وهم في صراع دموي وغير دموي مع المسلمين ولا يسعون أبدًا إلا لصالح أنفسهم ولو على حساب المسلمين، ونجد أنهم الآن تحقق فيهم قول الله- تبارك وتعالى-: {يأيها الَّذين ءامنوا لا تتَّخذوا اليهود والنَّصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ} [المائدة: 51]. فاليهود مع النصارى أولياء وفي هذا الزمن ظهر هذا تمامًا في قضية اليهود في فلسطين وقضية النصارى في البلاد الأخرى وأنهم يساعدون بالمال والعتاد وكذلك أيضًا بالسياسة، وهذا أمر معروف ولهذا قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم""لأخرجن اليهود والنصارى"، فجعل الاثنين حكمهما واحد في أنه يخرجهم من جزيرة العرب لما في إبقائهم فيها من الشر، ولأن جزيرة العرب منها خرج الإسلام وشاع نوره في الآفاق وإليها يعود كما ثبت عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "أن الإيمان يأرز إلى المدينة، - أي: يرجع - كما تأرز الحية": ، إلى جحرها؛ ولأنه لو فشا فيها هذان الدينان لفسدت، ولهذا جاء في الحديث: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب"، يعني: لا يمكن أن تقام

شعائر دين الكفر مع شعائر دين الإسلام في المدينة، فإما هذا وإما هذا وهو إشارة إلى وجوب أن تمحيص هذه الجزيرة للمسلمين. فما هي الجزيرة؟ الجزيرة حدودها: من الشمال الشام الشامل لسوريا وفلسطين وما والاها، وحدودها من الغرب البحر الأحمر وحدودها من الشرق العراق وحدودها من الجنوب اليمن، هذه جزيرة العرب، وسميت جزيرة من باب التغليب على خلاف المعروف عند الجغرافيين؛ لأن الجزيرة عند الجغرافيين هي ما جزر عنه الماء في وسط البحر، فيكون البحر محيطًا بها من كل جانب أما الجزيرة العربية فإنه لا يحيط بها البحر من كل جانب، ولهذا يعبر بعضهم بشبه الجزيرة؛ لأنها ليست جزيرة كاملة، هذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بأنه يؤكد إخراج هؤلاء من جزيرة العرب. وورد عنه فيما رواه أهل السنن أنه أمر بذلك فقال: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" وفي مرض موته صلى الله عليه وسلم أوصى أمته فقال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب". وعلى هذا فالواجب على المسلمين إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وإخراج المشركين من جزيرة العرب وقد ذكرنا آنفًا الحكمة في ذلك. فإن قال قائل: يرد على هذا أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع وأقره ولم يجلهم إلا عمر بن الخطاب لسبب من الأسباب؟ فالجواب أن نقول: إن إقامة اليهود والنصارى في الجزيرة على نوعين: النوع الأول: على وجه الإذلال وأنهم عمال من جملة العاملين، فهذا لا بأس به لكن بشرط أن نأمن شرهم فإنه لا يجوز أن يبقوا. والثاني: إقامة استيطان فهذا هو الذي منع منه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر بإخراجهم، بقاء اليهود في خيبر من النوع الأول، فلهذا قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في العقد الَّذي جرى بينهم: "نقركم على ذلك ما شئنا" ولما استغنى المسلمون عنهم في عهد عمر رضي الله عنه ولما حصل منهم من الغدر أجلاهم إلى أذرعات في الشام وإلى مواطن أخرى. فالحاصل أن نقول: إن المراد استيطان اليهود والنصارى والمشركين في المدينة هذا ممنوع ويجب على ولي الأمر منعه؛ لأنهم إذا استوطنوا سوف يطالبون بطلب المواطن من المدارس والمعابد وغيرها من الحقوق لا سيما الدين وهذا يوجب إشكالاً كبيرًا؛ لأنهم إما أن يجابوا فيجتمع دينان في جزيرة العرب، وإما ألاَّ يجابوا فيحصل منهم شر وبلاء؛ لهذا يمنع استيطان اليهود والنصارى والمشركين في الجزيرة مطلقًا بأي حال من الأحوال، أما بقاؤهم بأنهم عمال فهذا لا بأس به ما لم يؤد إلى شر وفساد فإن خيف شرهم وفسادهم فإنهم لا

إجلاء بني النضير من المدين

يمكَّنون من البقاء مطلقًا، يعني: لو أنهم بقوا على أنهم عمال ولكنهم يصنعون الخمر ويسوقونها عند الناس خفاء أو علنًا، أو يظهرون الصليب على صدورهم أو في سياراتهم فهؤلاء لا شك أنهم معتدون فيجب ردعهم أو ترحيلهم. وقوله: "حتَّى لا أدع إلا مسلمًا" فيه دليل على أنه يجب أن يخلص الدين في هذه الجزيرة على دين الإسلام. ومن فوائد الحديث: احترم هذه الجزيرة؛ لأن منها بدأ الإسلام، وفيها البيت الحرام وفيها مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا جرم أن يكون لها من الحرمة ما يجب أن تطهر من النجس من المشركين واليهود والنصارى. ومن فوائد الحديث: أنه تجب العناية بهذه الجزيرة من حيث الاستقامة والتقوى بحيث تخلص للإسلام لقوله: "حتَّى لا أدع إلا مسلمًا". هل نستفيد من هذا أنهم إذا لم يخرجوا إلا بقتال فإننا نقاتلهم؟ نعم إذا لم يكفوا عن الاستيطان إلا بالقتال قاتلناهم. إجلاء بني النضير من المدين 1252 - وعنه رضي الله عنه قال: "كانت أموال بني النَّضير ممَّا أفاء الله على رسوله، ممَّا لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنَّبيّ صلى الله عليه وسلم خاصَّةً، فكان ينفق على أهله نفقة سنةٍ، وما بقي يجعله في الكراع والسِّلاح عدَّةً في سبيل الله عز وجل". متَّفق عليه. قوله: "كانت أموال بني النضير"، بنو النضير هم: إحدى الطوائف الثلاث اليهودية التى عاهدها النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة وهم: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، وكلهم غدروا وخانوا فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم بدون قتال، أجلى بني النضير بدون قتال فكانت مما أفاء الله عليه. يقول: "مما لم يوجف عليه من المسلمين ... إلخ"، "يوجف" أي: يحمل عليه، "بخيل ولا ركاب"، الخيل من معروف، والركاب: الإبل؛ لأن هؤلاء نزحوا عن بلادهم وتركوها حتى كانوا- والعياذ بالله من الحسد والحقد- يخربون البيوت يكسرون أبوابها ويفسدونها بقدر ما يستطيعون: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين}. يقول: "فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة"، ووجه ذلك: أنها لم تؤخذ بقتال والغنيمة: ما أخذ بقتال

تقسيم غنائم خيبر

وما ألحق به، وهذه لم تؤخذ بقتال ولا ما الحق به. فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة فكان صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنة كأنه يدخر نفقة السنة لينفقها لكن مع ذلك إذا أتاه المحتاج فإنه يعطيه حتى إنه يبيت الليالي ذوات العدد وهو جائع وينفق ما عنده من الأموال. قوله: "وما بقي يجعله في الكراع والسلاح" الكراع: الخيل، والسلاح معروف، وقوله: "عدة في سبيل الله" حال من الكراع والسلاح، يعني: حال كونه عدة في سبيل الله. من فوائد الحديث: أنه يجوز أموال من جلوا عن أرضهم خوفًا منا؛ لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ أموال بني النضير، فلو كانت مدينة أو قرية لما سمع أهلها بأن المسلمين قد أقبلوا عليهم هربوا وتركوا أموالهم فهذه الأموال تكون فيئًا للمسلمين. ومن فوائده: أن ما حصل فتحه على الوجه بدون قتالٍ فأمره إلى الأمام؛ لأن الأموال بني النضير صار أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها: جواز اتخاذ النفقة للأهل؛ لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ادخر نفقة أهله ولكن الحديث فيه أنه إلى سنة فهل يجوز إلى أكثر من ذلك؟ نقول: إذا لم يكن في المسلمين حاجة وخاف هو من تجدد الحاجات فله أن يدخر أكثر وإلا فالأولى ألا يدخر أكثر من ذلك؛ لأن الطعام عرضة للفساد ولأن الطعام في مظنة حاجة الناس إليه فلا ينبغي أن يفسد، أما إذا كانت ليست في البلد حاجة وكان هو يخشى من نوائب الدهر فلا بأس. ومن فوائد الحديث: اهتمام النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بالجهاد لكونه يصرف ما يخرج عن حاجته إلى الكراع والسلاح. ومن فوائد الحديث: أن شراء الخيل والأسلحة من الجهاد في سبيل الله وحينئذ نسأل هل الأولى أن يصرف دراهم لقوت الجيش، أو أن يصرف كراعًا وسلاحًا؟ ينظر للمصلحة قد يكون عندهم من الأسلحة ما يكفيهم لكنهم يحتاجون إلى قوت، وقد يكون بالعكس، فإذا رأى وليّ الأمر أن المصلحة في بذل النقود في دفع المؤن دفع المؤنة، وهلم جرًا. تقسيم غنائم خيبر: 1253 - وعن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فأصبنا فيها غنمًا، فقسم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفةً، وجعل بقيتها في المغنم". رواه أبو داود، ورجاله لا بأس بهم

لا يحبس الرسول صلى الله عليه وسلم الرسل ولا ينقض العهد

يقول: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر" أي: غزونا نفس المكان الذي هو خيبر وخيبر، يظهر لي- والله أعلم- أنه سمي بهذا الاسم؛ لأنه أرض زراعية، والمخابرة بمعنى: المزارعة وهو عبارة عن مزارع وحصون وقلاع تقع في الشمال الغربي من المدينة نحو مائة ميل وفتحها النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة من الهجرة. يقول: "فأصبنا فيها غنمًا، فقسم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة وجعل بقيتها في المغنم"، يحتمل أن يكون هذا القسم لدفع الحاجة فأعطاهم من هذه الغنم ما يدفع حاجتهم، وجعل الباقي مع الغنيمة تبعًا لها ويحتمل أن يقال: إن تقسيم الغنائم راجع إلى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن شاء قسم الغنيمة كلها إلى خمسة أسهم ثمَّ أحد الأسهم إلى خمسة أسهم أيضًا، وإن شاء نفل ما ينفل وكلاهما صحيح، بمعنى: أن الجيش إذا احتاج إلى طعام فللقائد أن يعطيه من الطعام من غير قسم أو من اللحم من غير قسم ويحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى حاجتهم إلى ذلك فأعطاهم. ففي هذا الحديث فوائد: منها: مشروعية غزو اليهود؛ لأن خيبر كان يسكنها اليهود. ومنها: أن من الحكمة أن نبدأ بمن حولنا من الكفار دون من وراءهم وإلى هذا يشير قوله تعالى: {يا أيُّها الَّذين ءامنوا قاتلوا الَّذين يلونكم من الكفَّار وليجدوا فيكم غلظةً} [التوبة: 123]. ووجه ذلك أننا لو ذهبنا نقاتل الأبعد هنا نخاف من الأقرب الَّذي يأتينا من ورائنا فالحكمة أن نأخذ البلاد من أطرافها مما يلينا؛ لأن ذلك أسلم. ومنها: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قاسم بأمر الله ولهذا قال: "إنما أنا قاسم والله هو المعطي" فالله هو المعطي والمدبر والنَّبيّ صلى الله عليه وسلم قاسم لا يقسم إلا ما أمر به. لا يحبس الرسول صلى الله عليه وسلم الرسل ولا ينقض العهد: 1254 - وعن أبي رافعٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس الرُّسل". رواه أبو داود، والنَّسائيُّ، وصحَّحه ابن حبَّان. قوله: "إني لا أخيس" هذه الجملة مؤكة بمؤكد واحد وهي"إن"، وأما "لا أخيس" فهي نافية وليست للتوكيد ومعنى: "أخيس به" أنقضه، و"لا أحبس الرسل" يعني: الرسل الذين يأتون من الأعداء للمفاوضة؛ لأن حبس هؤلاء الرسل خيانة وفيه تفويت لمصلحة عظيمة؛ لأنه قد يكون الخير في التفاوض، فلو أن الرسل قتلت ما حصل تفاوض ولا صلح.

حكم الأرض المفتوحة

في هذا الحديث فوائد وهي: وجوب الوفاء بالعهد، وقد دل على ذلك نصوص كثيرة منها قوله تعالى: {وأوفوا بالعهد إنَّ العهد كان مسئولاً} [الإسراء: 34]. ومنها: أن الله أمر بقتال الكفار إلا المعاهدين. ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الغدر بالعهد من علامات النفاق هذه أدلة سمعية أما الأدلة العقلانية فلأننا لو غدرنا بالعهد مع أعدائنا لكان هذا وصمة عار في ديننا لأنهم بعد ذلك يقولون: هذه أمة الإسلام تغدر بالعهد، الغدر بالعهد من كبائر الذنوب لأنه رتب عليه عقوبة خاصة. فإن قال قائل: إذّا خفنا من نقض العهد؟ نقول: هذا الخوف إما أن يكون قبل إبرام العهد أو بعد إبرام العهد، فإن كان قبل إبرام العهد فإننا لا نبرمه معهم، لأن هذا يعتبر ذلاً، وإما أن يكون ذلك بعد العهد فهؤلاء لا يجوز أن ننقض عهدهم لكن ماذا نصنع؟ ننبذ إليهم على سواء لقوله تعالى: {وإمَّا تخافنَّ من قومٍ خيانةً فانبذّ إليهم على سواء} [الأنفال: 58]. فإن وفوا بالعهد وجب علينا أن نفي بالعهد لقول الله تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنَّ الله يحبُّ المتقين} [التوبة: 7]. وإن نكثوا العهد وجب قتالهم وقد حث الله عليه حثًّا بينًا فقال: {وإن نَّكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمَّة الكفر إنَّهم لا أيمان لهم لعلَّهم ينتهون} [التوبة: 12]. فصار المعاهدون ثلاثة أقسام. ومن فوائد الحديث: بيان وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم حتَّى مع أعدائه؛ لأن قوله: "لا أخيس بالعهد" عام. ومنة فوائده: منع حبس السبيل- رسل الأعداء- الَّذين يأتون للمفاوضة. فإن قال قائل: إذا خفنا أن يكون هذا الرسول الَّذي أرسل عينًا للمشركين- ومعنى عينًا أي: جاسوسًا- فهل نحبسه؟ نقول: نعم نحبسه؛ لأن الأعداء ربما يرسلون رسولاً لا يريدون الصلح ولا التفاوض لكن يرسلون هذا الرسول ليعلم ما نحن عليه فيرجع وقد جسّ علينا، فمثل هذا إذا علمنا بالقرائن أنه قدم لهذا وجب علينا أن نحبسه؛ لأنه أهدر حقه بكونه عينًا للمشركين. حكم الأرض المفتوحة: 1255 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما قريةٍ أتيتموها فأقمتم فيها؛ فسهمكم فيها، ، وأيما قريةٍ عصت الله ورسوله؛ فإن خمسها لله ورسوله، ثمَّ هي لكم". رواه مسلم.

قوله: "أيما قرية" هذه اسم شرط، وفيها إشكال وهو أن اسم الشرط لا يليه إلا فعل وهذا وليها اسم فما الجواب عن هذا الإشكال؟ نقول: "قرية" مضاف إليه والمضاف: "أي" القرية هي المدينة سواء كانت كبيرة أو صغيرة هذا هو المعلوم من اللغة قال الله تعالى: {وكأين من قريةٍ هي أشدُّ قوَّةً من قريتك التي أخرجتك} [محمد: 13]. والقرية التي أخرجته مكة أم القرى، وهناك قرى أعظم منها أهلكها الله عز وجل وأما المعروف بين الناس وهو أن المدينة للقرية الكبيرة، والقرية للمدينة الصغيرة فهذا لا أصل له في اللغة لكن تسمى القرية الكبيرة مصرًا؛ ولهذا يقول الفقهاء في القرى والأمصار فيفرقون بين القرى وبين الأمصار. وقوله: "فسهمكم فيها" يعني: أنها تكون لكم، "وأيما قرية عصت الله ورسوله ... إلخ"، يعني: القرية الأخرى الَّتي عصت الله ورسوله وحوربت وفتحت، "فإن خمسها يكون لله ورسوله" فيذهب فيئًا، والباقي يكون لكم؛ أي: للمجاهدين، فيقسم بينهم على ما سبق وقد تقدم حكم هذه المسألة؛ لأن قوله: "ثمَّ هي لكم" يدل على أنهم يملكونها وسبق أن الإمام يخيّر فيها بين أن يقسمها على المجاهدين وبين أن يدعها وقفًا للمسلمين ويضرب عليها خراجً مستمًرا، يؤخذ ممن هي بيدهم فيقول مثلاً هذه الأرض لا أقسمها بين الغانمين لأنني إذا قسمتها بين الغانمين وهي أرض باقية لا تفني بفناء الناس حرمنا الأجيال القادمة من المسلمين فإننا لا نقسمها ولكن نوزعها الأراضي الزراعية نوزعها زراعة والأراضي السكنية نوزعها سكنى ونضرب على كل مسافة معينة شيئًا معينًا، وقال أهل العلم: إن المرجع في هذا إلى اجتهاد الإمام فقد يضرب على الفدان في هذه الأرض ألفًا وفي أرض أخرى ألفين وقد يضرب على الفدان في أرض ثالثة خمسمائة على حسب الحال وربما تتغير الأمور فيكون المرغوب هذا العام غير مرغوب في العام المقبل فتتغير الأحكام، ولهذا قال العلماء- رحمهم الله-: إن المرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام. ففي هذا الحديث فوائد: منها: أن القرى تنقسم إلى قسمين: قرية أسلم أهلها فهذه لا تقسم ولكنها تبقى لهم وقسم آخر بقيت على كفرها وعصت الله ورسوله فهذه تخمس ويكون خمس أراضيها للفيء وأربعة أخماسها للمجاهدين هذا ما يدل عليه الحديث. وبهذا انتهى كتاب الجهاد.

1 - باب الجزية والهدنة

1 - باب الجزية والهدنة الجزية: ما يوضع على الذمي من ضريبة عوضًا عن حمايته وإقامته في دارنا وبهذا نعرف أن الجزية لا تكون إلا في الذميين، ولا تكون إلا على من كان في أرضنا وأن مقتضاها حماية هؤلاء الذين يبذلون الجزية وإعطاؤهم الحقوق على حسب ما ذكره أهل العلم وجاءت به السنة. وأما الهدنة: فهي وضع الحرب بيننا وبين العدو، وهي تشبه المصالحة من حيث إننا نضرب مدة معينة لوضع الحرب بييننا، ولكنها لا تكون إلا إذّا دعت الحاجة إليها؛ لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس"، وكونه يؤمر بقتال الناس يعني: أنه لا هدنة، لكن قد تدع الحاجة إلى الهدنة إما لضعف المسلمين ضعفًا عامًا، وإما لضعفهم ضعفًا خاصًا أمام هذا العدو المعين، فالضعف العام: كحال المسلمين اليوم فلا يمكن أن يتفقوا-وهم على هذه الحال- على حرب قرية ولو صغيرة؛ لأنهم هم بأنفسهم متنازعون، ومن كان الداء في بطنه فكيف يداوي غيره؟ ! لكننا نرجو الله- سبحانه وتعالى- أن يكون مستقبل الأمة الإسلامية خيرًا من حاضرها، والله على كل شيء قدير، قد تكون الأمة الإسلامية مجتمعة ولكن عدوها قوي فتحتاج إلى هدنة لتتقوى ثمَّ بعد ذلك يفعل الله ما يشاء. والهدنة اختلف العلماء-رحمهم الله- هل تجوز لمدة عشر سنين فأقل أو لمدة خمس سنين فأكثر، المهم أن تحدد بحدَّ، أو يجوز أن تكون مطلقة؟ فالمشهور من مذهب الحنابلة أنها تجوز في حدود عشر سنوات قالوا: لأن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس"، ثمَّ صالح قريشًا على عشر سنوات فتكون هذه المصالحة مخصصة للحديث السابق وإذّا كانت مخصصة فإنه لا يجوز أن يتعدى المستدل ما جاء في التخصيص، لأنه قال: الأصل المقاتلة خرجنا على الأصل بعشر سنوات فأقل لوجود النص فلا نتعداه وهذا لا شك أنه وجه قوي، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تجوز المهادنة مطلقًا أي: بدون قيد السنوات لا قليلة ولا كثيرة ما دمنا على ضعف فإذا قوينا فإننا نقاتلهم وإذا قالوا: إن بيننا وبينكم عهدًا نقول: إن هذا العهد مطلق ولم يؤبد ونحن هادناكم هدنة مطلقة فعلى هذا القول يجب على المسلمين إذا أوتوا قوة أن يقاتلوا فإذا قالوا: في الهدنة، قلنا: الهدنة ليست عامة بل هي مطلقة والمطلقة تصدق بأي شيء وهذا الَّذي اختاره شيخ الإسلام هو الصحيح؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا؛ إذ إن سبب المهادنة هو ضعف المسلمين فمتى وجد هذا الضعف فالهدنة قائمة ومتى زال هذا الضعف فالهدنة لا غية ثمَّ ساق المؤلف رحمه الله الأحاديث في ذلك فقال:

أخذ الجزية من المجوس

أخذ الجزية من المجوس: 1256 - عن عبد الرَّحمن بن عوف رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذها- يعني: الجزية- من مجوس هجر". رواه البخاريُّ. وله طريق في الموطَّأ فيها انقطاع. قوله: "أخذها" يعني: الجزية، "من مجوس هجر"، والمجوس: قوم وثنيون يعبدون النار ومنهم طائفة تسمي الثنوية وهم الَّذين يقولون بأن العالم له خالقان: ظلمة ونور الظلمة تخلق الشر والنور يخلق الخير، ومع ذلك فهم لا يقولون بتكافؤ الظلمة والنور بل يقولون: إن النور خير وأفضل لكن لا يمكن أن ننسب إليه الشر وهو نور بل نقول: لك الخير والظلمة لها الشر وإلا فالنور عندهم أكمل من الظلمة وأيضًا هو يخلق الخير والظلمة تخلق الشر وأيضًا هو قديم والظلمة لهم فيه قولان: هل هي محدثة أو قديمة؟ فعلى كل حال: لا تكافؤ بين إلهين عندهم إلا أنهم يقولون: نحن ننزه إله الخير عن الشر، المهم أن المجوس الأصل فيهم عبادة النار أخذها النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من مجوس هجر وهجر: هي الناحية الَّتي تقع جنوبًا في المملكة العربية السعودية وهي الإحساء وما حولها هذه المقاطعة كان يسكنها المجوس لأنها تابعة للفرس، فكان الَّذي فيها مجوسًا أخذ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم الجزية منهم وأبقاهم على ما هم عليه والتزم-عليه الصَّلاة والسَّلام- بالأحكام الَّتي تلزم لهم. ففي هذا الحديث: دليل على جواز أخذ الجزية من المجوس. فإن قال قائل: هذا الحديث فيه أنه أخذها من مجوس هجر. قلنا: لا فرق بين مجوس هجر ومجوس غيرها والمكان لا يختص بالأحكام إلا لسبب بين واضح بين واضح. فإن قال قائل: أليس الله يقول: {قاتلوا الَّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرّمون ما حرمَّ الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الَّذين أوتوا الكتاب} [التوبة: 29]. وهم اليهود والنصارى {حتَّى يعطوا الجزية} فالآية خصت اليهود والنصارى وعموم الآيات الدالة على وجوب قتال الكفار تكون عامة وقد سبق آنفًا أن المخصص يقتصر فيه على ما ورد به التخصيص فقط؟ قلنا في الجواب عن هذا: السنة دليل إلهي كما أن القرآن دليل إلهي ومن فرق بينهما فقد كفر بالقرآن والسنة لأن الله تعالى يقول: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} ويقول- جل

أخذ الجزية من العرب

وعلا-: {مَّن يُطع الَّرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80]. ويقول: {ومن يعص الله ورسوله فقد ضلَّ ضللاً مُّبينًا} [الأحزاب: 26]. وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي بأحكام غير الَّتي في القرآن؛ لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن للرسول ميزة على غيره من الخلق، لو قلنا: إن معصية الرسول هي معصية الله لكان الَّذي يأتي بعد الرسول وينهي عن معصية الله ثمَّ يعصى لا فرق بينه وبين الرسول كذلك أيضًا من يطع الرسول فقد أطاع الله لو قلنا: إن طاعة الرسول في أمر قد أمر الله به لم يكن بينه وبين غيره؛ إذ إن من أمر بأمر أمر الله به فإنه يطاع، وحينئذٍ لا يكون للرسول صلى الله عليه وسلم ميزة فتبين بهذا أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن في القرآن فإنه من القرآن بمعنى: أنه حكم شرعي تجب طاعته وعلى هذا فنقول: ثبت أخذ الجزية من اليهود والنصارى بالقرآن وثبت أخذها من المجوس بالسنة. بقي: هل تؤخذ من غيرهم؟ في هذا خلاف بين العلماء؛ منهم من يقول: الأصل وجوب مقاتلة الكفار حتَّى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فلا نخصص منها إلا ما جاء به التفصيل فقط اليهود والنصارى بالقرآن، والمجوس بالسنة، لكن هناك حديث رواه بريدة ابن الحصيب رواه مسلم أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول حين يرسل جيشًا أو سرية: " إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أوخلال". وذكر منها الجزية، فصرح: "إذا لقيت عدوك من لمشركين"، وهذا عام في كل مشرك، وهذا القول هو الراجح أن الجزية تؤخذ من كل كافر بدلاً عن الكف عنه وعن حمايته أيضًا وإعطائه حقه. من فوائد الحديث: جواز أخذ الجزية من المجوس؛ لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أخذها منهم. ومنها: أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر شرعًا؛ لأن العلماء استدلوا بهذا الحديث على جواز أخذ الجزية من المجوس. أخذ الجزية من العرب: 1257 - وعن عاصم بن عمر، عن أنسٍ، وعن عثمان بن أبي سليمان رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلي أكيدر دومة الجندل، فأخذوه، فأتوا به، فحقن دمه، وصالحه على الجزية". رواه أبو داود. "دومة الجندل" معروفة تقع هنا شمالاً غربًأ أرسل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الأكيدر فجاءوا به فحقن دمه وصالحه-لأنه كان أمير قومه- على الجزية، وهو ليس من أهل الكتاب ولا مجوسيًا، ولكنه كان مشركًا.

مقدار الجزية عن كل حالم

يستدل بهذا الحديث على جواز أخذ الجزية من غير اليهود والنصارى والمجوس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها من أكيدر دومة الجندل. مقدار الجزية عن كل حالم: 1258 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "بعثني النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كلِّ حالم دينارًا، أو عدله معافريًّا". أخرجه الثَّلاثة، وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم. معاذ بن جبل بعثه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن في السنة العاشرة في ربيع الأول بعثه داعيًا وقاضيًا وحاكمًا فدعاهم، وقصته - في الصحيحين من حديث ابن عباس- معروفة، فيقول: "أمرني أن آخذ من كل حالم دينارًا" والدينار: هو الوحدة من النقد الذهبي وهو أكبر وزنًا من الدرهم؛ لأن الدينار مثقال من الذهب والدرهم سبعة أعشار المثقال، فكل مائتي درهم تساوي مائة وأربعين مثقالاً بخلاف الدنانير فإن الدينار مثقال وهذا يتعجب منه الإنسان أن يكون النقد الذهبي أكبر من النقد الفضي في ذلك الوقت أما في وقتنا الحاضر فمعروف أن النقد افضي أكبر من النقد الفضي في ذلك الوقت أما في وقتنا الحاضر فمعروف أن النقد الفضي أكبر من النقد الذهبي، وقوله: "من كل حالم" أي: بالغ، وقوله: "أو عدله معافريًّا": نوع من ثياب اليمن، عدله أي: ما يعادله، ففي هذا دليل على تقدير الجزية وأنها دينار أو ما يعادله ولكن هل هذا حكم شرعي أو حكم مصلحي يعني: ينظر فيه للمصلحة؟ الجواب: الثاني ينظر فيه للمصلحة قد يكون من المصلحة أن نجعل الجزية أكثر؛ لأن حماية هؤلاء الذميين تقتضي نفقةكبيرة فلا يكفي الدينار وقد يكون الأمر بالعكس فيكفي دون الدينار؛ ولهذا قال العلماء: المرجع في الجزية إلى اجتهاد الإمام ويختلف هذا في كل وقت بحسبه. علو الإسلام بالوقوف عند العمل به: 1259 - وعن عائذ بن عمرو المزنيِّ رضي الله عنه، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام يعلو ولا يعلى". أخرجه الدَّارقطنيُّ. ذكره المؤلف في باب الجزية والهدنة إشارة إلى أن من علو الإسلام أن يأخذ المسلمون

الجزية من غير المسلمين لأن الجزية فيها إهانة وفيها ذل كما قال الله تعالى: {حتَّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} فهذا وجه المناسبة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى" هذا خبر ولكنه يتضمن الحكم فالإسلام لا شك يعلو ولكن بشرط أن يكون أهله حاملون له حقيقة فإذا حملوه حقيقة نصرهم الله به. ودليل هذا في كتاب الله: {هو الَّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون} [التوبة: 33]. أما إذا لم يحمله أهله حقيقة فإنه يوشك أن يكون هؤلاء الَّذين لم يحملوه أخبث من اليهود والنصارى؛ لأن الله تعالى قال: {مثل الَّذين حملوا التوراة ثمَّ لمّ يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} [الجمعة: 5]. وإذا كان الله قد منَّ على هذه الأمة بميزات لم تكن لغيرها كان له عليها من الحق ما هو أوكد من حقوق الآخرين فإذا أهملوا هذا الحق صاروا أخبث وإذا نظرنا إلى المسلمين اليوم وجدنا أنهم على اختلاف طوائفهم كلُّ أخذ بنصيب مما عليه اليهود والنصارى، فالتحريف لكتاب الله وسنة رسوله موجود كما أن التحريف في التوراة والإنجيل موجود، الحسد موجود، إيثار الدُّنيا على الآخرة موجود ... إلى غير ذلك، لو تتبعت أحوال المسلمين اليوم لوجدتهم-أو أكثرهم- قد أخذوا من خصال الكفار والمشركين بنصيب ولذلك وصلوا إلى الحال الَّتي ترى صاروا من أذل الأمم بل إننا إذا اعتبرنا كثرتهم قلنا: هم أذل الأمم؛ لأن أمة تبلغ إلى هذا الحد من العدد وإلى هذا الحد من الغنى في بعض الجهات ثمَّ تذل هذا الذل لا شك أنها أرذل الأمم، فمن الأمم من هم دونهم في الكثرة والغنى ومع ذلك لهم نصيبهم من الكلمة في المجتمعات أكثر من نصيب المسلمين. فالحاصل أن قوله: "الإسلام يعلو" متى؟ إذا أخذ أهله به فإنه سوف يعلو ويعلو بهم؛ أي: يعليهم حتَّى يكونوا فوق الناس، و"لا يعلى" أي: لا يمكن أن يهزم ويكون شيء فوقه، وهذه البشرى لكن هذه الجملة الأخيرة ليست شاملة عامة بل مقيدة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين"، هذه الطائفة هي الَّتي لا يمكن أن يعلى إسلامها أما الطوائف الأخرى فإنه قد يعلى إسلامها والحقيقة أنها قد تعلى هي ولا يعلى إسلامها الإسلام نفسه لا يمكن أن يعلوه أي: دين؛ لأن الدين الإسلامي هو العالي الظاهر لكن إن جاء تسلط غير المسلمين مع ضعف المسلمين فهو لأنهم لم يقوموا بما أوجب الله عليهم. يستفاد من هذا الحديث: البشرى التامة لمن تمسك بدين الإسلام وأنه سيكون له العلو والظهور.

السلام على الكفار وحكمه

ويستفاد منه أيضًا: بيان مرتبة الدين الإسلامي وهو أنه لا يمكن أن يعلوه أي دين لقوله: "ولا يعلى" وهذا خبر كما قلت لكم لكنه يتضمن أحكامًا منها ما ذكره العلماء: أنه لا يجوز للكفار أن يعلو بنيانهم على المسلمين إذا كانوا في بلد واحد وأراد الكافر أن يعلي بنيانه على من حوله من المسلمين فإنه يمنع لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. ومنها: أن العلماء كرهوا أن يكون الإنسان المسلم مستخدمًا عند الكافر ويكون خادمًا له شخصيًا فإن هذا من إذلال المسلم والعلو عليه، ولهذا يستطيع الَّذي استخدمه أن يقول: يا فلان هات الحذاء ألبسني إياه، اغسل ثوبي، ولهذا قال العلماء: إنه يكره ولو قيل بالتحريم لم يبعد، وأما استخدام الكافر للمسلم في جهة لا لعينه كما لو كان الكافر رئيسًا في شركة أو غير ذلك، فإن هذا الَّذي يخدم ليس يخدم الكافر وإنما يخدم الشركة أو المصلحة الحكومية أو ما أشبه ذلك فلا يعد هذا من باب استخدام الكافر للمسلم ومنها-أي: من الأحكام المترتبة على أن الإسلام له العلو- أننا لا نبدأغير المسلمين بالسلام، ولهذا أتى المؤلف رحمه الله بحديث أبي هريرة بعد ذلك؛ لأن الإسلام هو الذي يجب أن يكرم أهله، وأما غير الإسلام فلأهله الإهانة والإذلال وعلى هذا ننتقل إلى حديث أبي هريرة. السلام على الكفار وحكمه: 1260 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود وانَّصارى بالسَّلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريقٍ، فاضطرُّوه إلى أضيقه". رواه مسلم. اليهود: هم الَّذين يدَّعون أنهم أتباع موسى، والنصارى هم الَّذين يدعون أنهم أتباع عيسى، سمي اليهود بذلك نسبة إلى جدهم يهوذا، وسمي النصارى بذلك من المناصرة؛ لأنهم نصروا عيسى ابن مريم؛ أعني: أن طائفة منهم نصرته وطائفة لم تنصره كما هو معروف في آية الصف، وقيل: إنهم سموا نصارى من البلد المعروف بالناصرة فهو نسبة إلى مكان وأيًّا كان فهم الَّذين يدَّعون أنهم متبعون لعيسى ابن مريم، وقلنا: يدَّعون وأضربنا عن قول: يتبعون؛ لأنه لا يصح أن نقول: إن النصارى اليوم متبعون لعيسى بل هم مكذبون لعيسى كافرون به؛ لأن عيس ابن مريم قال لهم: {يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدّقًا لما بين يدي من التوراة} فهذا موقفه من الرسالات السابقة وموقفه من الرسالات اللاحقة قال: {ومبشرا برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد} ولم يقل ومصدقًا بل قال ومبشرًا وهذا أبلغ؛ لأن المبشر به يكون نعمة على من بشر به فيكون تصديقه من باب تصديق الخبر وشكر النعم ومع ذلك رفضوا هذه البشارة وأنكروها ولم يؤمنوا

بمحمد صلى الله عليه وسلم إذن فهم حقيقة كافرون بعيسى وعيسى خصمهم يوم القيامة لأن الله سيقول له: } يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته ... {الآيات؛ فعيسى هو خصمهم يوم القيامة وهم مكذبون له كافرون به، لكن الإسلام - لسعته ورحابته - أقرهم على دينهم بالجزية ولعلهم بما عندهم من الكتاب لعلهم يهتدون ويرجعون للصواب، وقوله: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام" ولم يقل: بالتحية؛ لأن التحية أعم فقد يضطر الإنسان إلى بداءتهم بالتحية لكن نقول: لا تبدأهم بالسلام، التحية مثل أهلًا وسهلًا ممكن أن يضطر الإنسان إلى أن يقول لرجل يهودي أو نصراني أو وثني: أهلًا وسهلًا لكن لا يمكن أن يقول بمقتضى الشرع: السلام عليكم وعلم من قوله: "لا تبدءوهم بالسلام" أننا نرد عليهم السلام؛ لأننا إذا رددنا فهم البادءون، والنهي إنما هو عن بداءتهم أما الرد عليهم فلا. ولكن كيف نرد عليهم؟ نرد عليهم بمثل ما حيَّونا به كما قال الله تعالى: } وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها {[النساء: 86]. فبدأ بالأحسن ثمَّ قال: } أو ردوها {وهو الواجب، فإذا قال اليهودي أو النصراني: السلام عليك بلفظ صريح، فأقول: عليك السلام بلفظ صريح، وإذا قال: السام عليك أقول: وعليك وإذا احتمل الأمران أقول عليك أيضاً، وهذا أيضاً من الآداب الإسلامية أنهم إذا قال أحدهم: السام عليك لا أقول: عليك السام بل أكون أنا أحسن أدباً منه، وأقول: وعليك، ففي هذه الحال أكون قابلته بما قابلني به ولهذا لما قالت عائشة في ردها على اليهودي الَّذي مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال السام عليك يا محمد، قالت: وعليك السام واللعنة نهاها الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" وهذا من آداب الإسلام وعلوه ألا أنزل مثله إلى الساحة التي نزل فيها وهي الدعاء بل أقول عليك كما قال: "إن كان قال السلام فهو عليه وإن كان قال السام فهو عليه أيضاً". وقوله: "وإذا لقيتم أحداً منهم في طريق فلا تفسحوا له اضطروه" أي: ألجئوه إلى أضيق الطرق فلا تفسح له مهما كان ولو كان أكبر منك مرتبة أو أغنى منك أو أعظم منك سلطة لا تفسح له إن بقي لم يذهب يميناً ولا يساراً فلا تهتم به اجعله هو الذَّي يميل يمينًا ويسارًا، وليس المعنى: أنك تلجؤه حتَّى تضيق عليه برصِّه على الجدار لماذا؟ لأن قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم يفسره فعله وفعل أصحابه فما كان الناس في المدينة يفعلون هكذا باليهود الَّذين فيها لكن إذا لقيناهم مثلاً ونحن خمسة وهم خمسة والطريق لا يتسع إلا لخمسة فقط فهل نحن نفسح لهم ونمشي واحداً واحداً حتَّى يتجاوزوا أو بالعكس؟ بالعكس نضطرهم إلى الأضيق، أما نحن فنبقى أعزة. في هذا الحديث فوائد متعددة: أولًا: النهي عن بدء اليهود والنصارى بالسلام والأصل في النهي التحريم ولاسيما والقرينة هنا تدل عليه وهو أن بداءتهم بالسلام فيه شيء من إكرامهم

صلح الحديبية

وإعزازهم، والكافر لا يستحق إكرامًا ولا إعزازًا، لما قال المنافقون: } ليخرجن الأعز منها الأذل {قال الله تعالى: } ولله العزة ولرسوله {. وأما المنافقون فلا عزة لهم وكذلك الكافرون. ومن فوائد الحديث: جواز الرد عليهم يؤخذ من المفهوم؛ لأنه إذا كان نهى عن البداءة فالرد جائز ولكن هل يجوز أن أزيد في الرد على ما قال: إذا قال: السلام عليك، أقول: عليكم السلام ورحمة الله؟ يحتمل، الآية تدل على أن فيه احتمال: } وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها {. فإذا قال قائل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ابتدائهم. نقول: نعم عن الابتداء، لكن الزيادة هنا صارت تابعة للرد ويغفر في التوابع ما لا يغفر في الأوائل لكن إذا خشينا أن يتعاظم في نفسه لو رددنا عليه بأكثر فحينئذٍ نمنعه من أجل هذه المفسدة. ومن فوائد الحديث: أن المسلم ينبغي أن يكون عزيزاً في دينه لا بشخصه، فيرى في نفسه أنه عزيز بما يحمله من دين الله من غير فخر ولا خيلاء؛ لأنه إذا رأى أي عزيز بالدين لم يكن عنده فخر ولا خيلاء لأن الدين يحارب الفخر والخيلاء، لكن لا ينبغي أبدًا أن يذل أمام الكفار وينبني على ذلك أننا لا نقلدهم فيما لا خير لنا فيه، أما ما فيه خير كالصنائع وغيرها فهذا ليس تقليدًا لهم في الواقع وإنما نأخذ من علومهم ما ننتفع به، كما أخذ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن أريقط دلالته على الطريق ولم يقل هذا مشرك لا آخذ بدلالته بل أخذ بدلالته. فإن قال قائل: وهل يلحق غير اليهود والنصارى بهم في النهي عن بداءتهم بالسلام؟ فالجواب: نعم، بل من باب أولى؛ لأن اليهود والنصارى أهل كتاب ولهم من الخصائص والمزايا على غيرهم ما لا يوجد في غيرهم فإذا نهى عن بداءتهم بالسلام فغيرهم من باب أولى. ومن فوائد الحديث: أننا لا نفسح المجال لهم إذا لقيناهم في الطريق لقوله: "إذا لقيتموهم ... الخ". ومن فوائد الحديث: أنه ليجوز أن نمكِّن اليهود والنصارى من المشي في الطرقات وغير ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: اطردوهم، بل قال: "اضطروهم إلى أضيقه". صلح الحديبية: 1261 - وعن السمسور بن مخرمة ومروان رضي الله عنهما "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية ... " فذكر الحديث بطوله، وفيه: "هذا ما صالح عليه محمَّد بن عبد الله سهيل بن عمروٍ: على

وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها النَّاس، ويكف بعضهم عن بعض". أخرجه أبو داود وأصله في البخاريِّ. بدأ المؤلف الآن في الهدنة، لأن الباب باب الجزية والهدنة وعام الحديبية العام السادس من الهجرة خرج النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة على مكة معتمرًا في نحو ألف وأربعمائة رجل لا يريد إلا العمرة ومعه الهدي وأحرم من ذي الحليفة ولما وصل إلّى الحديبية أبى المشركون أن يدخل مكة حملهم على ذلك حمية الجاهلية وقالوا: لا تتحدث العرب أننا أخذنا ضغطة وكان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قد أراه الله من الآيات ما يقتضي أن يصالحهم وألا يدخل وذلك في ناقته حينما بركت وكان يزجرها ولكنها أبت فقال الناس: "خلأت القصواء" يعني: حرنت فقال صلى الله عليه وسلم: "والله ما خلأت وما ذاك لها بخلق" حتَّى البهائم لها أخلاق؟ نعم، "وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل"، الفيل الَّذي جاء به أبرهة ليهدم به الكعبة ولكنه - أعني الفيل - أبى أن يمشي انحبس في المغمَّس. حبس الفيل بالمغمَّس حتَّى ... صار يحبو كأنَّه معقور ثمَّ قال: "والَّذي نفسي بيده"، أو قال: "نفس محمد بيده لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمة الله إلا أجبتهم عليها" لا ذلأ لهم ولكن تعظيمًا لحرمات الله وحصل ما حصل وجرى الصلح، وكان فيه: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وكان قد قال: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ولكن سهيل بن عمرو [أنكر] قال: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ولا منعناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله! ! فقال صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله" فأنكر صلى الله عليه وسلم إنكاره أن يكون رسول الله وأثبت أنه رسول الله، لكن تواضع للحق لا للخلق، وقال: اكتب محمد بن عبد الله وهو محمد بن عبد الله لا شك، لكن وصفه بالرسالة أفضل من وصفه بالنسب إلا أنه من باب تعظيم حرمات الله كتب محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ... إلخ، فكتب الكتاب على هذا الشرط ويوجد شروط أخرى لكن هذا هو المقصود من إيراده في هذا الباب، هذا ما صالح عليه على وضع الحرب عشر سنين يعني: لا حرب بينه وبين قريش لمدة عشر سنوات، وأطال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في المدة من أجل أن يستتب الأمن بين الناس وقد سمى الله تعالى هذا الصلح فتحًا: } لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا {[الحديد: 10]. فسماه الله تعالى فتحًا، لأن الناس اختلط بعضهم ببعض ولأنه مقدمة

للفتح الأعظم فتح مكة إذ إن سبب فتح مكة هو نقض المشركين لهذا العهد فصار كالمقدمة بين يدي فتح مكة، يأمن فيها الناس، من المراد بالناس؟ المسلمون والكافرون يأمنون يذهب الرجل إلى مكة ويرجع ويأتي الآتي من مكة ويرجع من دون أن يخاف على نفسه والثاني يكف بعضهم عن بعض. 1262 - وأخرج مسلم بعضه من حديث أنس رضي الله عنه، وفيه: "أنَّ من جاء منكم لم نردَّه عليكم، ومن جاءكم مَّا رددتموه علينا. فقالوا: أتكتب هذا يا رسول الله؟ قال: نعم، إنَّه من ذهب منَّا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا". من القائل؟ سهيل "من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا" هذا شرط ثقيل جدًا، لأن ظاهره عدم العدل إذ أن العدل يقتضي أن من جاءنا منهم لا نرده كما أن من جاءهم منا لا يردونه أو من جاءهم منا ردوه ومن جاءنا منهم نرده أما أن تكون المسألة بالعكس فالغضاضة فيها على المسلمين ظاهرة لكن نظرًا إلى أن المقصود بذلك تعظيم حرمات الله صارت فتحًا مبينًا وخيرًا كثيرًا، وتعلمون ما في القصة من مراجعة أمير المؤمنين عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى قال: يا رسول الله، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى" وحصل مراجعة بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينه وبين أبي بكر، وكان جواب أبي بكر كجواب الرسول صلى الله عليه وسلم سواًء بسواء. يقول: "فقالوا: أتكتب هذا يا رسول الله؟ قال: نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله" الَّذي يذهب من المسلمين إلى الكفار مهاجراً إليهم لا لغرض تجارة أو نحوها فأبعده الله "وأما من جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا" يعني: لو رددناه سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا وكان الأمر كذلك فإن من جاءنا منهم رددناه إليهم جعل الله له فرجًا ومخرجًا كما سيذكر إن شاء الله. ففي هذا الحديث فوائد: أولًا: بيان غطرسة الكفار وأنهم يريدون الحيلولة بين المسلمين وبين دينهم، يؤخذ ذلك: من منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدم إلى مكة مع أن قريشًا قد فتحت الأبواب بل قد كسرت الأبواب لكل من جاء إلى مكة ليعتمر؛ لأنهم يستفيدون من ذلك استفادة دعائية واقتصادية وغير ذلك لكن الرسول لا، فمنعوه مع أنه هو ولي البيت: } وما كانوا أولياؤه إن أولياؤه إلا المتقون {[الأنفال: 34]. وفيه أيضاً: بيان أن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، ويتفرع على هذا أن نصبر وإن كان في الأمر غضاضة علينا ما دمنا ننتظر أو نريد رضا الله غز وجل.

ومن الفوائد: جواز مصالحة المشركين على وضع الحرب وهو ما يعرف بالسلم أو السلام لمدة عشر سنين لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم صالح قريشًا على وضع الحرب لمدة عشر سنين مع أن قريشًا أخرجوا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم واحتلوها وهي أشرف البقاع وصالحهم عشر سنوات على ترك الحرب وعلى هذا فيكون هذا الحديث مخصصًا لقوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتَّى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فيكون هذا مخصصًا لهذا العموم أي: ما لم يكن بيننا وبينهم عهد أو صلح، وهل العهد والصلح جائز للحاجة أو مطلقًا؟ الجواب: أنه جائز للحاجة والضرورة لا مطلقًا، فإذا دعت الحاجة إلى الصلح بيننا وبين الكفار فعلنا وإلا فالأصل وجوب القتال، واختلف العلماء - رحمهم الله - هل هذا خاص بقريش لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم صالحهم تعظيمًا لحرمة البيت أو هو عام؟ في هذا قولان للعلماء: منهم من قال: إنه عام وأنه تجوز مصالحة الكفار لمدة عشر سنوات مطلقًا ومنهم من قال: هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد بهذا تعظيم البيت لا إقامة الهدنة بينه وبين الكفار والصحيح العموم وعلى هذا فهل يختص جواز المصالحة بهذا القدر من الزمن، أي: عشر سنوات فأقل أو لنا أن نزيد للمصلحة؟ الصحيح: أنه لنا أن نزيد للمصلحة لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بنفسه أي: عقد عشر سنوات لكنه لم يقل للناس لا تعقدون فوق ذلك فيكون الأصل الجواز يعني لنا أن نقول: عشرين سنة أو خمس عشرة سنة لأنه لا دليل على التحريم، وهل لنا أن نطلق يعني: أن نصالح صلحاً غير مقيد؟ في هذا خلاف بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: لا بأس، وبعض العلماء يقول: لا لابد من التحديد والصحيح جواز الإطلاق وأنه يجوز أن نصالح الكفار على وضع الحرب بدون قيد وحينئذ نقول ما دام الأمر مقيدًا بالحاجة فما دمنا في حاجة إلى بقاء هذا الصلح فلنبقه وإذا وجدنا ضعفًا في عدونا أو وجدنا قوة فينا فلنا أن ندعوهم إلى الدخول في الإسلام أو بذل الجزية ولا حجة للعدو علينا في هذه الحال، لأننا ليس بيننا وبينه مدة معينة حتَّى يقول: غدرتم أو نقضتم العهد لأن العهد مطلق وهل يجوز أن نعاهد عهدًا دائمًا؟ لا، لأن العهد الدائم يعني: وضع الجهاد وإبطال فرضيته، وهناك فرق بين الدائم وبين المطلق، الدائم يعني المؤبد فيكتب مثلًا في العقد: أننا نضع الحرب بيننا وبينكم دائمًا أو أبدًا هذا حرام، لأنه إبطال لفريضة من فرائض الإسلام، بل جد ذروة الإسلام لأن الإسلام ذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. ومن فوائد الحديث: أنه إذا تم الصلح فإنه لا يجوز الاعتداء على الكفار الَّذين جرى بيننا وبينهم الصلح لقوله: "يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض" فلا يجوز لأي واحد من الناس

النهي عن قتل المعاهد

يعتدي على هؤلاء الّذين جرى بيننا وبينهم الصلح لأنهم في عهد وأوفى الناس بالعهود هم المسلمون كما قال تعالى: } والموفون بعهدهم إذا عاهدوا {[البقرة: 177]. ومن فوائد الحديث: في رواية مسلم جواز مثل هذا الشرط أن من جاءنا منهم مسلمًا رددناه، ومن جاءهم منا فإنه لا يرد، ونعلل بما علل به النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أن من جاءهم منا فأبعدهم الله ولا خير فيه ومن جاءنا منهم فرددناه فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا، وقد حصل هذا كما توقعه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بل كما وعد به، لأنه قال: سيجعل والسين للتنفيس تفيد التحقيق، من الَّذي رد فجعل الله له فرجًا؟ أبو بصير، فهو جاء مسلمًا من قريش فألحقه قريش برجلين يطلبان رجوعه فلما أدركاه في المدينة رده النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وفاء بالشرط، لأن مراعاة المصلحة العامة أولى من مراعاة المصلحة الخاصة فهذا الرجل الَّذي رد إلى الكفار لاشك أن فيه غضاضة عليه عظيمة، وربما يقتلونه لكن المصلحة العامة - وهي وفاء المسلمين بعهودهم - أولى من مراعاة المصلحة الخاصة لا يقال كيف نرده وهو مسلم هذا إذلال للمسلم، نقول: نعم هو إذلال لكن المصالح العامة مقدمة، المهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رده فذهب به الرجلان وفي أثناء الطريق نزلوا يتغدون، فقال أبو بصير لأحدهم يمدح سيفه ويثني عليه فقال لذاك الرجل - والظاهر أنه غبي - قال: نعم ولقد فعلت وفعلت قال أعطني أراه فأعطاه إياه فسله وجبَّ رأسه، الثاني هرب إلى المدينة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فلحقه أبو بصير، فلما وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو بصير: يا رسول الله، إن الله قد أبرأ ذمتك ووفيت بعهدك، يعني: لا تردني قال: "ويل أمّه مسعر حرب لو يجد له من ينصره لما قال هذا الكلام" كان أبو بصير ذكيًّا عرف أنه سيرده فهرب خارج المدينة وذهب إلى الساحل - ساحل البحر - وجلس على الطريق وكلما مرت عير لقريش عدا عليها وأخذ منها وعلم به المستضعفون - الذين أسلموا بمكة علموا به - فخرجوا إليه فكوَّن عصابة لكن عصابة مسلمة بحف فكانت كلما جاء شيء لقريش أخذوه، فتعبت قريش منهم وأرسلوا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يفكهم من هؤلاء وهو أيضًا في حل، فهذا الَّذي حصل، فجعل الله لهم فرجًا ومخرجًا، وهكذا ينبغي للإنسان أن يكون واثقًا بالله عز وجل في كل شيء. النهي عن قتل المعاهد: 1263 وعن عبيد بن عمر رضى الله عنه، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل معاهدًًا، لم يرح رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا". أخرجه البخاريُّ. "من" شرطية وجملة "لم يرح رائحة الجنة" جواب الشرط وهنا هل العمل لـ "لم" أو العمل لـ "من"؟ نقول أيهما المباشر؟

"لم"، وعلى هذا فتكون الجملة في محل جزم جواب الشرط، "وإن ريحها" أي: الجنة "ليوجد من مسيرة أربعين عامًا"، ريح الجنة أشجارها ورياحينها وكل ما فيها يوجد من مسيرة أربعين عامًا وفي رواية أخرى يأتي الإشارة إليها إن شاء الله. قوله: "من قتل معاهدًا" المعاهد هو من عقدنا معه عهدًا، وهو ثلاثة أنواع: مستأمن، وذمِّمي، ومعاهد. المستأمن: هو الَّذي دخل بلادنا بأمان لمصلحة إما ليسمع كلام الله وإما ليحضر مجالس العلم، وإما ليبيع أو يشتري، وإما ليعمل، وإن كان أصله حربيًا فإنه إذا أمن بالدخول صار آمنًا. أما المعاهد: فهو الّذي جرى بيننا وبينهم عهد كما جرى للنبى صلى الله عليه وسلم مع قريش. وأما الذمي: فهو الَّي يبقي في بلادنا تحت حمايتنا ويبذل لنا الجزية كل عام، وكلها تدخل في المعاهدة، لكن تختلف المعاهدة وأحكامها بين هؤلاء. ففي هذا الحديث دليل على فوائد: أولًا: وجوب الوفاء بالعهد، وجهه أنه رتب على من غدر بالعهد حرمانه من دخول الجنة وهذا يقتضى أنه من كبائر الذنوب. ثانيًا من فوائد: أن ما يصنعه بعض الناس اليوم من قتل الداخلين إلى البلاد بعهد وأمان يدخل في هذا الحديث، ما دام من له السلطة قد أذن له أذن له في دخول البلاد وأعطاه عهدًا فإنه لا يحل لأحد أني قتله، فإن فعل حق عليه هذا الوعيد. ومن فوائد الحديث: إثبات أن للجنة رائحة، وهذا أمر معلوم، قال الله تعالى: } فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنات نعيم {[الواقعة: 88، 89]. ومن فوائد الحديث: أن ريح الجنة يوجد من مسافات بعيدة ورد: "أربعين عامًا" وورد: "سبعين عامًا"، وورد غير ذلك، فاختلف العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث والجمع بينها سهل، فإما أن يقال: إن اختلاف هذه التقادير باعتبار اختلاف الشم، وإما أن يقال باعتبار اختلاف المشام لأن بعض الناس يشم شمًّا قويًّا وبعضهم دون ذلك، وإما أن يقال باعتبار المشمون، فإن بعض المشمومات لها رائحة تشم من بعيد وبعضها دون ذلك، المهم: أن القاعدة أنه ليس فيما أخبر الله به ورسوله شيء من التناقض وإذا تراءى لك شيء من التناقض فالواجب عليك أن تحاول الجمع بين النصوص، لأن نصوص الكتاب والسنة لا يمكن أن يكذب بعضها بعضًا، وبهذا الحديث انتهى باب الجزية والهدنة، ثمَّ قال المؤلف: * * * *

2 - باب السبق والرمي

2 - باب السبق والرمي ومناسبة هذا الباب لكتاب الجهاد عمومًا أن من أنواع السبَّق ما يكون معينًا على الجهاد كما سيأتي، والسَّبق والسبَّق بينهما فرق: السَّبق: العوض، والسَّبْق: فوات من أراد إدراكه، يعني أن يسبق، يتقدم على غيره، فالتقدم على الغير هو السَّبْق، وأما السبَّق بالفتح فهو العوض وأما الرمي فواضح. 1264 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "سابق النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بالخيل التي قد ضمِّرت، من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل الَّتي لم تضمر من الثَّنية إلى مسجد بني زريق، وكان ابن عمر فيمن سابق". متفق عليه، وزاد البخاريُّ: قال سفيان: "من الحفياء إلى ثنيَّة الوداع خمسة أميال أو ستَّة، ومن الثَّنية إلى مسجد بني زريق ميل". متفق عليه. هذه أماكن معروفة في المدينة، وأما الخيل الَّتى ضمِّرت فهي الَّتي تجاع، يعني: تمنع من العلف ولا تعطى إلا قدر ما يسد رمقها لمدة معينة، فتضمر ويخف لحمها، ويكون عندها من القوة أكثر مما إذا لم تضمر ثمَّ بعد ذلك تستعمل في المسابقة، وأما الَّتي لم تضمر فهي الَّتي بقيت تأكل على ما تريد ولا يخف لحمها ولا يكون فيها سبق، ولذلك فرق النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بين هذا وهذا وسابق بين الخيل الَّتي لم تضمر من الثنية إلى بني رزيق، وكان ابن عمر فيمن سابق. ففي هذا الحديث: حسن رعاية النَّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أجرى المسابقة على الخيل لما في ذلك من الاعتياد على ركوبها في الجهاد، وفي هذا مراعاة للإنسان وللخيل جميعًا، للإنسان الراكب وللخيل المركوبة. ومن فوائده: أن تضمير الخيل وإن كان يلحقها شيء من المشقة بالتجويع فإن ذلك للمصلحة، فيؤخذ منه: أنه إذا اقتضت المصلحة أن نعمل في الحيوان ما يؤلمه فإنه لا بأس سواء كانت المصلحة دينية أو المصلحة دنيوية، فمثال الدينية هنا: تضمير الخيل، ومثالها أيضاً: إشعار الهدي، أتدرون ما إشعاره؟ أن يشق سنامه حتَّى يسيل الدم، وهذا لاشك أنه يؤلمه لكن لمصلحة وهي: العلامة على أنه هدي ومن ذلك أيضًا وسم إبل الصدقة فإن ذلك يؤلمها لاشك ولكن لمصلحة وهو: حفظ مال الصدقة، وأما الدنيوية فمثل: وسم الحيوان لمن أراد أن يبيع ويشتري فيه فإن هذه مصلحة دنيوية ولا بأس بها، ومن ذلك أيضًا ما يفعله الناس اليوم من تقطيع آذان بعض الغنم يزعمون بأن ذلك يقلل من إيذائها بتدلي آذانها بالشرب وعند الأكل

السباق على الخف والحافر والنصل

وما أشبه ذلك وأن ذلك يزيد في القيمة فهذا لا بأس به، وليس هذا من البحيرة ولكنه مما يفعله الإنسان للمصلحة، إلا أننا نقول: إذا أمكن قطع آذانها بلا أذية وبلا إيلام كان واجبًا ولكن كيف يكون بلا إيلام؟ بالبنج تبنج وتقطع الأذن بدون إيلام وهذا لا بأس به. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي مراعاة الشوط في بعده وقربه بحسب الخيل الَّتي سابق عليها، المضمرة يمد لها في الشوط، وغير المضمرة يقصد، لأن غير المضمرة تتعب فيلحقها مشقة لا داعي لها. ومن فوائد الحديث: أنه لا بأس أن تكون المسابقة مع من لم يبلغوا الأشد، فإن ابن عمر كان لم يبلغ أشده ومع ذلك دخل في المسابقة فلا يحقرن أحد نفسه في مثل هذا. وزاد البخاريٌّ: قال سفيان: "ومن الحفياء إلى ثنيَّة الوداع خمسة أميالٍ أو ستة، ومن الثَّنية إلى مسجد بني زريق ميل". فالفرق - إذن - عظيم، ميل إلى خمسة أميال أو سبعة واحد من خمسة أو واحد من ستة لأن كل واحد من هذه الخيل يسابق على حيث ما يمكنه. 1265 - وعنه رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل، وفضَّل القرَّح في الغاية". رواه أحمد، وأبو داود، وصحَّحه ابن حبَّان. هذا أيضًا كالذي قبله في أنه يفرق بين ما يحتمل بعد الشوط وما لا يحتمل. السباق على الخف والحافر والنصل: 1266 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا سبق إلا في خفٍّ، أو نصلٍ، أو حافرٍ". رواه أحمد والثَّلاثة وصحَّحه ابن حبَّان. السبق: هو العوض الَّذي يؤخذ على المسابقة، قوله: "لا سبق إلا في خف" معروف أن "لا" نافية للجنس وأن خبرها محذوف، أي: لا سبق كائن إلا في خف، والخف إشارة إلى الإبل لأنها هي ذات الخفاف، والنصل إشارة إلى الرمي بالسهام، والحافر إشارة إلى الخيل

فهذه الثلاثة أجاز النَّبيّ صلى الله عليه وسلم المسابقة فيها على عوض، وأما غيرها فلا يجوز وهذا الاستثناء استثناء من شبه الميسر أو من الميسر نفسه؟ لأن المسابقة إذا أخذ عليها العوض صارت من الميسر إذ إن الداخل فيها بين غانم وغارم وهذا هو حقيقة الميسر. فإن قال قائل: لماذا أبيح السبق في هذه الثلاثة؟ فالجواب: أنه أبيح؛ لأن ذلك مما يعين على الجهاد في سبيل الله، فالإبل تحمل أمتعة المجاهدين وأسلحتهم، وتحمل المجاهدين أيضًا، والنصل يرمي به المجاهد فيدافع عن نفسه، ويهاجم عدوه، وأما الحافر فكذلك يركب عليه ويفر فهو مما ينتفع به في الحرب للجهاد في سبيل الله. يستفاد من هذا الحديث فوائد: أولًا: تحريم المسابقة على عوض إلا في هذه الثلاث، وجه ذلك: قوله "لا سبق" وهذا النفي بمعنى النهي، فهو نفي لكن يراد به النهي كقوله تعالى: } ذلك الكتاب لا ريب فيه {[البقرة: 2]. نفي لكنه بمعنى النهي، أي: لا ترتابوا فيه. فإن قال قائل: وهل تجوز المسابقة في غير ذلك على غير عوض؟ فالجواب: نعم تجوز المسابقة على غير عوض في غير هذا تجوز المسابقة في المصارعة لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم صارع ركانه بن يزيد، وتجوز المسابقة على الأقدام؛ لأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم سابق عائشة وتجوز المسابقة في كل عمل مباح لكن بلا عوض وأما العمل غير المباح فلا تجوز المسابقة فيه، مثل النرد والشَّطرنج وما أشبههما وبذلك نعرف أن المسابقة على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما جاز بعوض وبغير عوض وهو هذه الثلاث، والثاني: ما حرم بعوض وغيره مثل النَّرد والشَّطرنج، وضابطه: أنه يلهى كثيرًا ويكسب قليلًا، فكل ما ألهى كثيرًا وأكسب قليلًا فإنه محرم، والثالث: ما يجوز بلا عوض ولا يجوز بعوض وهو المسابقة في الأشياء المباحة، لكن القسم الثاني الَّذي لا يجوز بعوض ولا غيره يرخص فيه للصبيان ما لا يرخص فيه للكبار، وذلك لأن الصبي لابد أن يلهي نفسه باللعب والمسابقة وما أشبه ذلك وليس مكلفًا بحفظ الوقت كما يكلف الكبير، فلهذا يرخص للصبيان في أشياء من اللعب مما ترخص للكبار. من فوائد الحديث: أن ظاهره أنه يجوز السبق ولو كان من أحد المتسابقين مثل أن يقول أحدهما: سأسابقك على فرس وأنت على فرسك والغالب منا له ألف درهم ثمَّ يتسابقا على ذلك فمن سبق أخذ ألف الدرهم وهذا هو القول الراجح، بمعنى: أنه يجوز أن يكون السبق من

محلل السباق

أحد المتسابقين بدون أن يكون هناك طرف ثالث يسمى المحلل لأن هذا حلا ولا يحتاج إلى محلل، ولكن بعض أهل العلم قال: لا، لا يصح من أحد المتسابقين إلا بمحلل بأن يدخل معهما متسابق ثالث يساوي فرسه فرسيهما وهذا الثالث لا يؤخذ منه شيئًا إن سبق فله وإن سبق فليس عليه شيء، وعللوا ذلك قالوا لأجل أن تخرج الصورة عن مشابهة القمار، ولكن هذا القول ضعيف جدًّا لأن الشارع أجاز القمار في هذا لغلبة المصلحة والمصلحة إذا كانت كبيرة أكبر من مضرة المفسدة فإنها تغلب، لأن الدين الإسلامي إنما جاء لتحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة، فإذا ترجحت المصلحة انغمرت المفسدة فيها وكان ذلك جائزًا، ثمَّ ذكر المؤلف رحمه الله عن أبي هريرة. محلل السبَّاق: 1267 - وعنه رضي الله عنه، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس به، وإن أمن فهو قمار". رواه أحمد، وأبو داود، وإسناده ضعيفٌ. هذا من أدلة من قالوا: إنه لابد في المسابقة من محلل، قال: من أدخل فرسًا بين فرسين فتكون الأفراس ثلاثة والمتسابقون ثلاثة وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس، يعني: فيه احتمال أن يسبق هذا الفرس أو يسبق، يعني: أن فيه احمالًا أنه يسبق فهذا لا بأس به، وأما إذا كان قد أمن أن يسبق لأنه يعرف أن فرسه سابق ولابد يقول: فهذا قمار لأنه إذا كان يأمن أن يسبق صار المسابقة حقيقة بين الاثنين السابقين؛ إذ إن فرسه قد أمن أن يسبق، ولكن هذا الحديث - على تقدير صحته - لا يدل على، ما قاله من يرى أنه لابد من المحلل، لأن هذا المحلل إذا كان يأمن أن يسبق فهو قمار، إذا سبق هو من يكون له العوض؟ يكون له فأين القمار؟ القمار أن يكون العاقد إما غانمًا وإما غارمًا وإذا كان هذا الرجل يأمن أن يسبق ويعلم أن فرسه سيسبق بكل حال صار معناه أنه غانم بكل حال ولا يمكن أن يلحقه غرم، فهو في الحقيقة لو صح فلا دليل فيه على اشتراط المحلل. وخلاصة القول: أن المسابقة في الخيل والإبل والسهام لا بأس بها وأنه لا يشترط أن يدخل بينهما محلل، والمحلل: هو الطرف الثالث الَّذى لا يغرم شيئًا فيكون إما غانمًا أو سالمًا.

شرعية التدريب على القوة

شرعية التدريب على القوة: 1268 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقرأ: } وأعذوا لهم مَّا استطعتم من قوة ومن رباط الخيل {[الأنفال: 60] الآية. ألا إنَّ القوة الرَّمي، ألا إنَّ القوَّة الرَّمى، ألا إنَّ القوَّة الرَّمي". رواه مسلم. يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، إنما قال هذه الجملة لفائدتين: الفائدة الأولى: أن يؤكد ضبطه للقضية، والثانية: أن يبين أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أعلنه، لأنه على المنبر تلا هذه الآية: } وأعدُّوا لهم مَّ استطعتم من قوةٍ {} وأعدوا {الخطاب للمؤمنين، و} لهم {الضمير يعود على الكفار، } ما استطعتم {أي: ما قدرتم عليه، } مّن قوة {هنا نكرة في سياق الشرط فتكون عامة فتشمل القوة الإيمانية الَّتي هي صدق الإيمان بالله عز وجل والثقة بنصره والتوكل على الله وتفويض الأمر إليه وتشمل أيضًا القوة بإعداد العدة بكثرة الجيوش ومهارتها وما أشبه ذلك وتشمل القوة النهائية وهي الرمي وهي الَّتي نص عليها النَّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ألا إن القوة الرمي" ووجه كون هذه القوة الغاية: أن الإنسان ينال عدوه من بعد، بخلاف ما إذا كان القتال بالسيوف فإنه عن قرب وربما يصيبه عدوه، لكن إذا كان بالرمي فهو عن بعد فنيل عدوه له يكون أقل احتمالًا وكررها النَّبي صلى الله عليه وسلم تأكيدًا، وإلا فإن خبره الواحد يغني عن التكرار لوجوب تصديق خبره. ومن فوائد الحديث: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يفسر القرآن، بمعنى أن تفسير النَّبيّ صلى الله عليه وسلم للقرآن واقع، لقوله: "ألا إن القوة الرمي". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لنا نحن المسلمين أن نهتم بالرمي، والرمي في كل مكان بحسبه ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم الرمي بالقوس وهو سهم لا يتجاوز ثلاثمائة ذراع أو نحوه أما الآن فالرمي بالصواريخ عابرة القارات وبهذا يجب على المسلمين أن يكون لهم قوة من هذا النوع. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز الحصر الإضافي، بمعنى: أن يذكر الكلام محصورًا بالنسبة لشيء معين، لقوله: "ألا إن القوة الرمي" فالرسول صلى الله عليه وسلم حصرها بذلك، لكن هذا حصر إضافي، بمعنى: أن هناك قوة سوى هذا، لكن باعتبار الغاية المثلى إنما يكون بالرمي. هل يستفاد من هذا الحديث طلب تعلم الرمي؟ نعم، لأنه إذا كان الله أمر بذلك وفسر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي فهذا يكون داخلًا في أمر الله حيث قال: {وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوُّة}.

في الحديث الَّذي قبله بل الَّذي قبل الَّذي قبله، هل يمكن أن نقيس على الخف الَّذي هو الإبل ما يشبهها من معدات الحرب اليوم؟ نعم، مثل الدبابات وشبهها، وهل نقيس على النصل ما يشبهه اليوم؟ نعم، وكذلك يقاس الحافز فما الَّذي يشبه الحافز؟ أظن الطائرات فهي أسبق ما يعدى به، في الوقت الحاضر توجد أشياء لم يذكرها المؤلف رحمه الله مثل السباحة، فهى مما يسابق عليه بغير عوض، لأنها من الأعمال المباحة، لكنها لا تدخل في قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر". * * * *

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة الأطعمة: جمع طعام وهي ما يؤكل ويشرب. فإن قال قائل: يؤكل واضح طعام, ولكن ما يشرب هل يسمى طعاما؟ الجواب: الذي يشرب يطعم فيكون طعاما من هذه الناحية لقوله تعالى: {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} [البقرة: 29]. ولقوله -تبارك وتعالى-: {وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا لنحي به بلدةً ميتًا ونسقيه مما خلقنا وأنعامًا وأناسي كثيرًا} [الفرقان: 48 - 49]. وهذا الماء النازل من السماء, لقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" فالأصل هو الحل, وقد أنكر الله عز وجل على من حرم ذلك بغير دليل فقال: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]. وعليه فإذا اختلف اثنان في حل شيء مأكول فمن الذي يطالب بالدليل؟ الذي يمنع ويحرم, وكذلك يقال في المشروبات إذا تنازع اثنان في شراب فقال أحدهما: حلال, وقال الثاني حرام, فالذي يطالب بالدليل هو القائل بأنه حرام؛ إذن فالأصل الحل, وهل الأصل الطهارة؟ نعم, في كل شيء, وسنبين -إن شاء الله- الصول التي ينبني عليها التحريم فمنها ما كان ضارًا, لكن الضار ينقسم إلى قسمين: ضار لذاته وضار لعارضه, الضار لذاته مثل: السم هذا حرام؛ لأنه ضار قاتل, وقد قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. والضار لعارض مثل الحلوى لمن أصيب بالسكر وكان يضره فإنه يحرم عليه أن يأكله وإن كان في الأصل حلالاً, بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: أنه يحرم أن يأكل الإنسان شيئًا يتأذى به وإن لم يضره, يعني: يملأ بطنه من الطعام, ولاسيما إن كان مالحًا فحينئذ يحتاج إلى ماء, وإذا شرب ماء وقد ملأ بطنه من الطعام فإنه على خطر أن ينفجر أو على الأقل يتأذى, والعجيب أننا نأكل كثيرًا ثم نطلب مهضمات فلماذا تأكل كثيرًا؟ ! كل قليلاً وتسلم من أن تبذل دراهمك في مهضمات لكن طبيعة الإنسان هكذا, ولهذا كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية

[*]

رضي الله عنه أن يأكل بسبعة أمعاء ليس هذا للقدح فيه, بل هذا لأجل أن تطيب له الحياة؛ لأن معاوية صار ملكًا أو خليفة يؤتى إليه بكل شيء فإذا وسع الله بطنه وأكثر أكله صار هذا من جملة التنعيم في الدنيا إذن الضار سواء كان ضارًا بنفسه أو لعارض فإنه يكون حرامًا, النجس كل نجس حرام حتى لو تصور أحد أنه ليس بضار فإنه حرام؛ لأنه إذا كان يجب التخلي عن النجس ظاهرًا فالتخلي عنه باطنًا من باب أولى. فإن قال قائل: ألا نقول له: كل هذا النجس واغسل فمك ويديك إن تلوثت به؟ نقول: لا؛ لأن الله تعالى لم يجعله نجسًا يجب التحرز منه إلا لضرر فيه لكن الضرر قد يحصل, وقد يكون الضرر بطيئًا لا تظهر أعراضه إلا بعد حين, الحيوان الأصل فيه الحل؛ لأنه مما خلف الله لنا في الأرض لكن قد يحرم لسبب منها ما ذكره هنا, قال: تحريم كل ذي ناب من السباع: 1269 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل ذي ناب من السباع فأكله حرام". رواه مسلم. فقيد النبي صلى الله عليه وسلم التحريم بقيدين: الأول: أن يكون من السباع, والثاني: أن يكون له ناب, والمراد بالناب: الناب الذي يفترس به مثل الكلب والذئب والأسد والنمر, هذه كلها حرام؛ لأن لها نابًا تفترس به, وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فأكله حرام" ولم يقل: فهو حرام؛ لأن من هذه الأشياء ما يجوز الانتفاع به بما سوى الأكل, هذه قاعدة كل ذي ناب من السباع فهو حرام, فإن كان من غير السباع فإنه لا يحرم, وكذلك لو كان من السباع لكن ليس له ناب يفترس به فإنه لا يحرم, وبناء على ذلك نقول: الضبع هل حرام أم حلال؟ حلال؛ لأنها ليست لها ناب تفترس به ولا تفترس إلا عند الضرورة القصوى, ما هي الحكمة من التحريم؟ الحكمة: أن الإنسان إذا تعدى بهذا النوع من الطعام فإنه يكتسب طبيعة منه فيكون محبًا للعدوان على الغير فلذلك منع, ولهذا قال العلماء في الرضاع لا ينبغي أن تسترضع امرأة حمقاء أو سيئة الخلق؛ لأن ذلك يؤثر في الرضيع, كذلك أيضًا الإنسان إذا أكل من هذه السباع فإن ذلك يؤثر في طباعه. تحريم كل ذي مخلب من الطير: - وأخرجه: من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ: "نهى", وزاد: "وكل ذي مخلب من الطير". "وأخرجه" أي: مسلم, بلفظ "نهى", وأيهما أقوى في التحريم؟ الأول؛ لأنه قال: فأكله

حكم أكل الحمر الأهلية والخيل

حرام" وزاد: "وكل ذي مخلب من الطير", يعني: ونهى عن كل ذي مخلب من الطير, فكل ذي مخلب من الطير فإنه حرام, والمراد بالمخلب: المخلب الذي يصيد به, وأما ما لا يصيد به فلا بأس, والمخلب هنا هو الظفر؛ لأنه مأخوذ من الخلب وهو الإمساك والجذب وليس المخلب ما يظهر في ساق الديكة إذا تقدم بها السن, الظفر مخلب لكن إذا كان يصيد به فهو حرام مثل الصقر والبازي والنسر وغير ذلك, وأما ما ذهب إليه بعض العامة من أن كل ذي منقار معقوق فهو حرام هذا ليس بصحيح وليست قاعدة شرعية, وما رأيت هذا في كتب الفقهاء, قد يكون الشيء مباحًا منقاره معقوق أو حرامًا ومنقاره مستقيم, المدار على ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم كل ذي مخلب من الطير إذا كان له مخلب لا يصيد به فهو حلال, ولهذا الحمام لها مخلب والدجاج لها مخلب وأكثر الطيور لها مخلب لكن لا يصيد به فلذلك كان حلالاً, وإذا شككنا فيه فالأصل الحل. حكم أكل الحمر الأهلية والخيل: 1270 - وعن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية, وأذن في لحوم الخيل". متفق عليه, وفي لفظ البخاري: "ورخص". وقوله: "نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية", هذا الثالث مما يحرم من الحيوان, الحمر جمع حمار, والحمر بسكون الميم جمع أحمر وحمراء, ويخطئ بعض الناس في هاتين الكلمتين فتجده يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "خير لك من حمر النعم", يقول: حمر -بضم الميم- وهذا غلط. إذن الحمر جمع حمراء وأحمر, والحمر جمع حمار. وقوله: "الأهلية" وصف مقيد يخرج به الحمر الوحشية التي لا تالف الناس وليست أهلية وهي ما يوجد في البراري. وقوله: "يوم خيبر", يعني: يوم فتح خيبر, وذلك في السنة السادسة من الهجرة, فإن الناس كانوا في مجاعة وخرجت الحمير فأخذوها وذبحوها وطبخوها حتى كانت القدور تغلي فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها ونهى عن أكلها, وإذن في لحوم الخيل. وفي لفظ: "رخص" وهي بمعنى: أذن, فهنا منع وترخيص, المنع في لحوم الحمر, والترخيص في الخيل, وهي معروفة فأذن فيها صلى الله عليه وسلم -فهاتان قاعدتان-, أما الأولى وهي قاعدة تحريم لحوم الحمر الأهلية فهي مستثناة من الحل, وأما الإذن في لحوم الخيل فهل نقول: إنها مستثناة من التحريم, أو نقول: إنها على الأصل؟ الصحيح أنها على الأصل؛ لأنه لم يسبق أن

منعت, وأما لفظ: "رخص" فهو في مقابل "نهى", وليس المعنى أنه كان محرمًا ثم رخص فيه, لا هو من أصل حلال, أما لحوم الحمر الأهلية فالظاهر أن الإجماع انعقد عليها وأنها حرام, وكانفيها خلاف عن بعض السلف في جواز أكلها مطلقًا, أو في جواز أكلها عند الحاجة, أو في جواز أكلها إذا كثرت, ولم نحتج إلى ظهرها, والصحيح أنها حرام مطلقًا؛ لأن الأدلة عامة, لكن من المعلوم أن الحرام إذا اضطر إليه صار حلالاً حتى الخنزير وهو أخبث من الحمير إذا اضطر إليه الإنسان أكله, أما لحوم الخيل فالصحيح الذي عليه الجمهور أن لحمها حلال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن فيها, وقالت أسماء: نحرنا فرسًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في المدينة فأكلناه, ففيه السنة القولية والسنة الإقرارية أنه اقر أكل لحوم الخيل, وهذا هو الذي عليه الجمهور -جمهور العلماء- أن لحم الخيل حلال, وذهب بعض العلماء إلى أن لحم الخيل حرام, واستدلوا بدلالة ضعيفة وهي قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8]. بعد قوله: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم} [النحل: 5 - 7]. فقالوا: إن الله قسم هذه الحيوانات إلى قسمين: قسم لنا فيه دفء ومنافع وحمل أثقال وأكل, وقسم آخر الخيل والبغال والحمير لشيئين فقط هما: الركوب والزينة, فدل ذلك على التحريم, ولكن هذا الاستدلال بعيد من وجهين: الأول: أنه مخالف للنصوص الدالة على الحل. ثانيًا: أن الآية في سورة النحل مكية والإذن في لحوم الخيل في المدينة, فعلى فرض أن الآية تدل على ذلك فيكون نسخ التحريم. اهـ ثالثًا: أن الذين يستدلون بذلك - أي: بالآية - على تحريم لحوم الخيل إنما استدلالهم مبني على دلالة الاقتران وهي ضعيفة؛ لأن الشيئين قد يشتركان في أمر ويختلفان في أمر آخر أو أمور, فليست دلالة الاقتران ملزمة لكون القرين مساويًا لقرينه في كل شيء. رابعًا: أنهم لا يقولون بمقتضى الآية؛ لأننا لو قلنا بأن الله قسم الحيوانات إلى قسمين ما يحمل الأثقال وما يركب وما يؤكل, قلنا: إذن لا نحمل الثقال على البغال ولا على الحمير؛ لأن الله تعالى لم يذكر من منافعها إلا الركوب والزينة, وعلى هذا فالآية لا دلالة فيها, وعلى أعلى تقدير أنها تدل على تحريم الخيل, فإننا نقول: إن ما جاء في حل الخيل متأخر ويكون ناسخًا لما تقتضيه الآية في التحريم.

حكم أكل الجراد

وقوله: "في لحوم الخيل" يشمل جميع أجزائه, وما اشتهر عن العوام أنه مقدمها حرام؛ لأنه يتقى به سهام المشركين في القتال فيكون محرمًا لاحترامه بخلاف عجزها ومؤخرها فإنه لا يكون إلا عند الإدبار فلا حرمة له فهذا حكم باطل وتعليل عليل وليس في الشريعة الإسلامية ما تختلف أجزاؤه أبدًا حلة وحرمة, نجاسة وطهارة, إيجابًا ومنعًا أبدًا, وانتبهوا لهذه القاعدة المفيدة في الشريعة الإسلامية حرم الله على الذين هادوا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرم عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم, لكن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن يوجد فيها حيوان واحد تختلف أجزاؤه, وعلى هذه القاعدة يتبين أن القول الراجح في لحم الإبل أن جميع أجزاء البعير تنقض الوضوء خلافًا لمن قال: إن الكبد والكرش والمصران والرئة لا ينقض الوضوء نقول: كلها تنقض الوضوء؛ لإذن حكم العوام باطل. حكم أكل الجراد: 1271 - وعن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات, نأكل الجراد". متفق عليه. "الغزوة والغزو": مجاهدة العدو ومقاتلته, والنبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوات كثيرة تبلغ نيفًا وعشرين غزاة وباشر أكثرها بنفسه صلى الله عليه وسلم, ومنها: هذا الحديث: "سبع غزوات". يقول عبد الله بن أبي أوفى: "نأكل الجراد", قوله: "نأكل" هذه الجملة حالية من فاعل "غزونا", يعني: كوننا نأكل الجراد, والجراد معروف هو طائر ذو مخالب في رجليه, ولا حاجة إلى أن نصفه, الجراد إذن معروف. فيستفاد من الحديث أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاهد بيده ولسانه وبدنه وقبله أيضًا فإنه يحزن إذا لم يؤمن الناس وهذا جهاد بالقلب, وجاهد بيده وبلسانه في بيان الحق لقوله: "غزونا مع رسول الله". ومن فوائد الحديث: حل أكل الجراد لقوله: "نأكل الجراد". فإن قال قائل: لو لم يأت هذا الحديث أتحكمون بحل الجراد أو بتحريمه؟ بحله لأنه الأصل, لكن إذا جاءت هذه الأمثلة تكون كمثال للأصل, وقوله: "نأكل الجراد" لم يشترط شرطًا أن تكون حية, والجراد قد يوجد حيًا وهو الأكثر وقد يوجد ميتًا فهل نأخذ بالعموم, أو نقول إن هذا فعل, والفعل المطلق لا يدل على العموم؟ نقول: يمكن أن نأخذ بالعموم لا على وجه الصيغة الفعلية؛ ولكن لأنه في حديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحل لنا ميتتان ودمان, فأما الميتتان فالجراد والحوت, وأما الدمان

حكم أكل الأرنب

فالطحال والكبد, وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا مرفوعًا لكنه صحيح موقوفًا؛ لأن قوله: "أحل لنا" في حكم المرفوع, وعلى هذا فالجراد حلال حيه وميتته, وقيل: إن مات بسبب من الآدمي فهو حلال؛ وإن مات بغير سبب فهو حرام؛ لعموم قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]. والصحيح الأول أنه حلال سواء مات بسبب من الإنسان أو مات بغير سبب لعموم حديث عبد الله بن عمر؛ ولأنه ليس فيه دم, وإذا لم يكن فيه دم فإنه لا يكون خبيثًا بالموت فيحل, والمحرم بالموت هو الذي فيه دم؛ لأنه يكون خبيثًا باحتقان الدم فيه, وأما ما لا دم فيه فهو حلال. فإن قال قائل: أرأيتم لو مات بمبيدات هل يحل؟ يأخذ حكم المباح أن كل مباح ترتب عليه ضرر فهو حرام؛ لأننا نقول: المباح هو مباح في أصله, لكن قد تجري فيه الأحكام الخمسة. حكم أكل الأرنب: 1272 - وعن أنس رضي الله عنه في قصة الأرنب قال: "فذبحها, فبعث بوركها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله". متفق عليه. الأرنب معروف, وهذه القصة: أنهم أمسكوا أرنبا في مر الظهران فهربت منهم فلحقها القوم فتعبوا إلا أنس بن مالك رضي الله عنه أدركها ثم ذبحها وجاء بوركها إلى النبي صلى الله عليه وسلم, الورك كم بالكيلو؟ صغير جدا جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله, وفي رواية: "وأكله", وهذه الرواية كالتبيين فقط, وإلا فإنه لم يقبله إلا ليأكله ما قبله ليرمي به. فيستفاد من هذا الحديث فوائد: أولاً: جواز تهييج الأرنب من جحرها من أجل اصطيادها؛ لأنها مما خلق لنا, فإذا كانت مما خلق لنا فأي وسيلة نسلكها للحصول على ما أحل الله لنا فهي جائزة, نعم لو كانت ذات عيال ربما يقول قائل: إنه لا يمكن أن تصاد وحدها حتى يصاد معها أولادها لئلا يتعذب الأولاد بفقد الأم. ومن فوائد الحديث: قوة الصحابة - رضي الله عنهم - وشدتهم؛ لأنهم لحقوها, وأين الواحد منكم يلحق الأرنب؟ لا أحد, ومن وجه آخر أنهم أمسكوها, ومعروف أنها إذا أمسكت لا تسكت لابد من أن تدافع عن نفسها بأظفارها وربما بأسنانها, ولكن لقوتها عرفوا كيف يصيدونها. ومن فوائد الحديث: تواضع سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وجه التواضع: أن أصحابه أقدموا على أن يقدموا إليه ورك أرنب, وأظن أن لو قدم لكم ورك الأرنب لأكلتموه لكن ترون أن هذا

حكم النملة والنحلة والهدهد والصرد

الرجل الذي أهدى لكم ورك أرنب أنه يحتقرك لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أهدي إلي كراع أو ذراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم غاية المتواضعين. ومن فوائد الحديث: جواز الإهداء إلى الفقراء, ولا يقال: يخشى أن يكون المهدي ممن من ليستكثر, والله تعالى قال لرسوله: {ولا تمنن تستكثر} [المدثر: 6]. يعني: لا تمن على أحد ليعطيك أكثر مما مننت به, لكن الإنسان هو ونيته وإذا أهديت إلى الأكابر كالملوك والرؤساء والوزراء والأمراء والعلماء حتى وإن ظننت أنهم سيردون هديتك بأكثر ما دمت لست مستشرفًا فلا بأس بذلك. ومن فوائد الحديث: ما ساق المؤلف الحديث من أجله وهو الأرنب, أرأيتم لو لم يأت نص بحلها فما هو حكمها؟ حلال على الأصل. حكم النملة والنحلة والهدهد والصرد: 1273 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة, والنحلة, والهدهد, والصرد. رواه أحمد, وأبو داود, وصححه ابن حبان. "نهى عن قتل أربع". والنهي عن قتل أربع لا يعني أن النهي مقصور عليها, بل قد يكون هناك أشياء منهي عنها كما يوجد هذا في كثير من السنة مثل: "سبعة يظلهم الله في ظله", وقد وردت أحاديث صحيحة أن الله يظل غيرهم, "ثلاثة لا يكلمهم الله", وقد ورد غيرهم. فالحاصل: أن مثل هذا الحصر يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم لمناسبة المقام, ولا يعني ذلك أن الحصر ينفي ما سواه؛ ولهذا قال الأصوليون: إن أضعف المفاهيم مفهوم العدد, حتى إن بعضهم قال: إنه لا مفهوم للعدد إطلاقًا, فإذا قال مثلاً: "ثلاث من كن فيه كان منافقًا خالصًا" لا نقول: إن هذا حصر, قد يكون هناك أشياء أخرى من النفاق إلا إذا وجد قرينة تدل على الحصر فإن العدد يكون دالاً على الحصر, مثاله: حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ماذا يتقى من الضحايا؟ قال: "أربع وأشار بأصابعه", فهذا يدل على الحصر؛ لأن السؤال يقتضي ذلك, والجواب مركب على السؤال, أما إذا جاء عدد بدون قرينة تدل على الحصر فإنه لا يستلزم الحصر. إذن نهى عن قتل أربع من الدواب, وهل النهي هنا للكراهية أو التحريم؟ الأصل للتحريم, وقال بعض العلماء: إنه للكراهية, لكن ما جوابنا يوم القيامة إذا قتلنا هذه الأربع من الدواب,

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك؟ نقول: ينهى عن هذا نهي تحريم, وما هو النهي؟ النهي في تعريفه عند البلاغيين والأصوليين هو طالب الكف على وجه الاستعلاء أي: أن الطالب يشعر بأنه عال على المطلوب لأنه لو نهى وهو يعتقد أنه دون المطلوب لكان هذا من باب الدعاء, ولو نهى وهو يعتقد أنه مثله لكان هذا من باب الالتماس, لكن لابد أن يشعر الناهي بأنه أعلى حتى يتوجه الأمر بالكف. يقول: "نهى عن قتل أربع من الدواب": "النملة" معروفة, وظاهر الحديث أنه يشمل الصغار منها والكبار, فالذر من النمل, ما هو أكبر هو أيضًا من النمل, نهى عن قتله احترامًا لها أو استقباحًا لها؟ الأول, احترامًا لها, وذلك جزاء لما قامت به حين مر سليمان بقرية النمل: {قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهو لا يشعرون} [النمل: 18]. تضمنت هذه الجملة إرشادًا وتوجيهًا وتعليلاً للحكم واعتذارًا مما يقع وهي نملة كلام بليغ أولاً: {يأيها النمل} دعتهم بنداء حتى ينتبهوا لما تقول, {ادخلوا مساكنكم} هذا إرشاد وتوجيه أن يدخلوا الملاجئ؛ لأن الناس عندما تقوم الحرب لابد أن يدخلوا الملاجئ إذا لم يكن عندهم ما يقاوموا به, العلة: {لا يحطمنكم سليمان وجنوده} , معلوم إذا مرت الخيول والإبل على النمل ستحطمهم, ثم قالت: {لا يحطمنكم} ولم تقل: لا يطأنكم, ليكون هذا أبلغ في التنفير, {وهم لا يشعرون} هذا اعتذار, هذه النملة صارت بركة على النمل, أكرم النمل من أجلها, فنهى عن قتلها, فلا تقتل النملة لا في حرم ولا في حل ولا في إحرام ولا في إحلال. الثاني: "النحلة" نهى عن قتلها؛ لأن قتلها إضاعة مال وحرمان خير كثير, غذ أن النحلة يكون منها العسل الذي فيه شفاء للناس, فإذا قتلت واحدة ثم الثانية ثم الثالثة وهكذا فإن ذلك سبب لضياع ما ينتج منها من هذا العسل المبارك. "الهدهد" معروف, هذا الهدهد نهى عن قتله احترامًا له؛ وذلك لقصته مع سليمان فإن سليمان حشر له جنوده من الجن والإنس والطير لأنه -علية الصلاة والسلام- كان ملكًا, وكان منظمًا لملكه, تفقد الطير ففقد الهدهد, ومع ذلك لم يحكم عليه بأنه غائب قال: {ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} [النمل: 20] يعني: بل أكان من الغائبين, وهذا واقع, أنت إذا تفقدت جنودك أو أولادك ولم تقع عينك على أحد منهم لا تحكم بأنه غائب ربما أن بصرك صرف عنه, ثم توعده قال: {لعذبنه عذابًا شديدًا أو لأذبحنه} [النمل: 21]. إعدام بالكلية, {أو ليأتيني بسلطان مبين} [النمل: 21]. يعني: إما عذاب, وهذا العذاب حد أو تعزير؟ تعزير, {أو لأذبحنه} إعدام, {أو ليأتيني بسلطان مبين} , يعني: بحجة قوية تكون عذرًا له؛ {فمكث غير بعيد} [النمل: 22]. فقال الهدهد حين جاء بخبر لا يحيط به سليمان قال

كلمة الطير الواثق بنفسه: {فقال أحطت بما لم تحط به} , يعني: نتعجب كيف يقول الهدهد لسليمان هذا الكلام, فجعل نفسه في هذه القضية أعلى من سليمان, {فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين} [النمل: 22]. ليس فيه شك {إني وجدت امرأة تملكهم ... الخ القصة} [النمل: 23]. فمن أجل أنه كان سببًا في إسلام أمة كان بركة على جنسه من الطيور وهو الهدهد, فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله. بقينا في الرابع وهو: "الصرد" وهو طائر معروف, ويمكن أن ترجعوا إلى المنجد المصور حتى تعرفوه بصورته, وهو طائر أكبر من العصفور قليلاً له منقار أحمر, لكن أهل الطيور اختلفوا عندي فيه, ولكن نرجع إلى كتب اللغة, هذا الأخير المجهول الحال هو مجهول العلة أيضاً لا ندري ما السبب, وليس لنا إلا أن نقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله وكفى, هذه أربع من الدواب نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها, والنهي عن قتلها يتضمن النهي عن أكلها؛ لأنها لم تؤكل إلا بعد أن تذبح أو تقتل فيكون النهي عن القتل مستلزمًا للنهي عن الأكل, والنتيجة أنها تكون حرامًا, ولهذا يمكن أن نكون قاعدة فنقول: كل ما أمر الشرع بقتله فهو حرام, وكل ما نهى عن قتله فهو حرام, ووجه ذلك أنه أمر بقتل الفواسق مثل الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب والعقور أمر بقتلها لفسقها وإذا كانت فاسقة فإنه ربما يتأثر المتغذي بها ويأخذ من فسقها وعدوانها, أما ما نهى عن قتله فظاهر أنه حرام؛ لأنه لا يمكن أكله إلا بقتله فلهذا نأخذ قاعدتين: الأولى: كل ما أمر الشارع بقتله من الحيوان فهو حرام, وكل ما نهى عن قتله فهو حرام, وحينئذ أيضًا نرجع إلى مسألة جواز قتل الحيوانات هل يجوز أن نقتل الحيوانات كلها أو لا؟ نقول: أما ما كان مباحًا فقتلها حرام؛ لأنني لم اقل: تذكيته, يعني: لو خنقت شاة هذا قتل فهو حرام؛ إذن ما أحله الله فهو حلال بتذكيته, وما أمر بقتله من المحرمات فقتله مشروع إما وجوبًا أو استحبابًا, وما نهى عن قتله من المحرمات فقتله حرام أو مكروه على حسب اختلاف العلماء في هذا, وما سكت عنه ما هو الأصل؟ الحل, معناه: أن كل الصوارير التي عندك في البيت اقتلها وكل الضباب اقتلها, يعني: الذي لا يخوف الصبيان ولا يوقظ من النوم ولا يفسد الطعام ولا يفسد البيت, فقال بعض أهل العلم: إنه لا يجوز قتله, وإن كان مما سكت عنه؛ لأن الله تعالى يقول: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود: 6]. ويقول: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44]. وأنت الآن قطعت رزقها وقطعت تسبيحها لله عز وجل فلا يحل ذلك, وقال بعض أهل العلم: بل يكره ولا يحرم؛ لأن الإنسان إذا قتل هذه الحشرات تعودت نفسه على انتهاك ذوات الرواح وصار فيه شيء من العدوان, وهذا أقل أحواله أن يكون مكروهًا؛ وهناك قول ثالث, وهو: أنه حلال؛ لأنه مما سكت عنه, وقد قال الله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29]. وأقرب الأقوال عندي أنه مكروه إلا لسبب إذا كان هناك سبب فلا بأس.

حكم أكل الضبع

بقينا فيما نهى عن قتله إذا آذى فكانت تحفر تحت البلاط ويبقى البلاط في الهواء ويخرب هل تقتل؟ تقتل, لكن إن اندفعت بغير القتل فافعل وإن لم تندفع إلا بالقتل فاقتلها لأنه إذا كان المؤذي من بني آدم لا يندفع أذاه إلا بالقتل يجوز قتله فالنمل من باب أولى, لكن قد تندفع بغير القتل, فمن ذلك أن بعض الناس يحفظ قراءة للنمل يجلس على كرسي بين النمل الكثير ثم يقرأ آيات, فإذا هي ترحل فإذا وجد هذا الرجل قلنا تعال عندنا نمل آذانا, ووجدنا أيضًا مما يخفف من ضررها أو يصرفها أن تصب على جحرها جاز, وهذا شيء جربناه, على كل حال هي: إذا آذاك فلك قتلها إذا لم تندفع إلا بالقتل؛ لأن كل مؤذ يجوز قتله على العموم, وقد ذكر شيخ الإسلام قصة أظن ذكرتها لكم, يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه "مفتاح دار السعادة": إنه حكي لشيخه ابن تيمية رحمه الله قصة رجل وجد ذرة فوضع أمامها طعمًا, فجاءت هذه الذرة تجره فعجزت, فذهبت إلى صاحبتها في البيت ودعتهم: هلموا إلى الطعام, فلما أقبلوا نزع هذا الطعم بحثوا لم يجدوا شيئًا, والنملة التي ندبتهم لما انصرف قومها بقيت لعلها تجد شيئًا فوضع الطعم مرة ثانية فجاءت إليه وتيقنت أنه موجود, ولكن عجزت أن تحمله فذهبت إلى قومها ودعتهم: فلما أقبلوا المرة الثالثة نزعه, فلما جاءوا فلم يجدوه يقول: اجتمع النمل عليها فأكلوها قتلوها وهذا أولاً- كيف لم يقتلوها أول مرة وإنما قتلوها بعد الثالثة؟ كأن الحيوان مفطور على أن التكرار ثلاثًا يغني عما زاد عنه, وثانيًا: ولا ينقص عن التكرار, فقال شيخ الإسلام: هذا صحيح؛ لأن كل شيء مفطور على كراهية الكذب وعقوبة الظالم, فهذه كذبت عليهم باعتبار ما ظنوا, وإلا فالمسكينة لم تجد الطعم, النهاية على كل حال نقول: إن النمل منهي عن قتله, لكن إن لم يندفع أذاه إلا بقتله فلا بأس, وكذلك البقية: النحلة والهدهد والصرد. حكم أكل الضبع: 1274 - وعن ابن أبي عمار رضي الله عنه قال: "قلت لجابر: الضبع صيد هو؟ قال: نعم. قلت: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. رواه أحمد والأربعة, وصححه البخاري, وابن حبان. قال: "قلت لجابر", أولاً: ابن أبي عمار من التابعين؛ لأنه أدرك الصحابة, "الضبع صيد

هو", هذه الجملة استفهامية أم خبرية؟ استفهامية, يعني: الضبع صيد أو لا؟ وإنما قال: أصيد هي؛ لأن الضبع معروف أنها ليست من الحيوان الإنسي بل من الحيوان الوحشي وكل حيوان وحشي فإنه صيد إذا كان حلالاً, قال: "نعم" هي صيد, قلت: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم" أي: صيد, ولهذا وجب في صيدها على المحرم شاة ولو كانت غير حلال لم يجئ فيها شيء؛ لأن غير الحلال لا قيمة له. فيستفاد من هذا الحديث: أن عمل السلف -رحمهم الله- هو التساؤل عن الأحكام الشرعية الأفعال والأعيان, وهذا أمر لا تكاد أدلته تحصر, قال ابن مسعود: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها", والأمثلة على هذا كثيرة, هذا سؤال عن الأعمال, وهنا سؤال ابن أبي عمار عن الأعيان, سأل جابرًا الضبع صيد أم لا؟ وهكذا ينبغي للناس أن يكون همهم البحث في معرفة حدود الله تعالى وأحكامه حتى يحلوا العلم, ومعلوم أن المباحثة والمناقشة إذا كانت بنية صالحة أن الناس يوفقون فيها للحق, وأما المناقشة والمجادلة من أجل انتصار الإنسان لنفسه فالغالب أن يحرم الوصول إلى الخير. ومن فوائد الحديث: أن "نعم" صريحة في الجواب, وقد قيل: إن الجواب بالحروف على نية إعادة الجملة التي وقع الاستفهام بها, يعني: إعادة الجملة التي هي صيغة الاستفهام, وعلى هذا فقوله: "نعم"؛ أي: ي صيد, وهل صيد, وهل تثبت بها الحقوق فيما لو قيل لشخص: أعليك لزيد ألف درهم فقال: نعم؟ نعم تثبت بها الحقوق, ولو قيل له: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم طلقت؛ لأن المعنى: نعم طلقتها. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للإنسان أن يسأل العالم الذي هو أعلم منه عن الدليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاله كفى. ومن فوائد الحديث: ما ساقه المؤلف من أجله وهو أن الضبع حلال, وهي حيوان معروف يشبه الذئب, واختلف العلماء لما كانت حلالاً هل هي مستثناة من كل ذي ناب من السباع أو أنها ليس لها ناب تفترس به, فمنهم من قال: إنها ليس لها ناب تفترس به, وأنه ليس من عادتها افتراس الحيوان إلا عند الضرورة, ومنهم من قال: إنها مفترسة, والله تعالى في الاستثناء من أحكامه ما يشاء, فعلى القول الأول قد يحصل فيه إشكال؛ لأنه ثبت بأن الضبع تأكل الإنسان, وعلى الثاني لا إشكال فيه, والذي للإنسان عند المناظرة والمجادلة أن يسلك ما لا إشكال فيه حتى يقطع النزاع, ويكفي المؤمن أن يقال له: هذا قول الله ورسوله,

حكم أكل القنفذ

ويدل لهذا أن الإنسان ينبغي له عند المناظر أن يتبع ما تنقطع به المجادلة أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لما حاجه في ربه من حاجه قال إبراهيم: {ربي الذي يوحي ويميت قال أنا أحي وأميت} [البقرة: 258]. لو قال إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ لصار يلتوي في جوابه ويحتاج إلى عناء في رده لكن إبراهيم عدل عن هذا إلى شيء لا يمكن العدول عنه, فقال إبراهيم: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} [البقرة: 258]. وحينئذ انقطع ما يمكن أن يجادل, ولهذا قال الله تعالى: {فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} [البقرة: 258]. فأنت إذا خفت من صاحبك الجدل لأن بعض الناس يجادل, بل الإنسان أكثر شيء جدلاً, ما يوجد في الحيوانات مثل الإنسان في المجادلة, هو أكثر شيء جدلاً, فتعمد إلى الأمر الذي تقضي عليه فيه بحيث لا يستطيع الحراك, فهنا جابر رضي الله عنه قال: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحينئذ نقول: إن هذا مستثنى من قوله: "نهى عن كل ذي ناب من السباع". حكم أكل القنفذ: 1275 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما, أنه سئل عن القنفذ, فقال: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرمًا} [الأنعام: 145]. فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: "ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنها خبيثة من الخبائث. فقال ابن عمر: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا فهو كما قال". أخرجه أحمد, وأب داود, وإسناده ضعيف. القنفذ: حيوان معروف, صغير يشبه الفأرة, وقد أعطاه الله عز وجل ثوب جلد من الشوك شوك شديد إذا أصابك يخرق جلدك ما دام مطمئنًا تجده يمشي على أرجله, وتجد طرف رأسه قد خرج يأكل من الأرض؛ فإذا أحس بأحد انطوى حتى يكون كالكرة تمامًا لا تجده؛ أي: منفذ كرة كاملة, لكنها كرة شوكية لا أحد يستطيع مسه يحتمي بذلك, وهذا من هداية الله له, يقولون: إنه يأكل الحية يمسكها من ذيلها. وهي 'ذا جاءت تلدغه وجدت شوكًا فلا تستطيع, لكن الحدية تغلب هذا القنفذ تأتي عليه, فإذا انطوى على نفسه أمسكت بذقنها إحدى الشوك وحملته إلى الجو ثم أطلقته, وصل الأرض وإذا هو قد داخ ما يستطيع أن يدافع أن ينطوي على نفسه فتمسكه فتأكله. فهذا القنفذ يقول: سئل ابن عمر هل هو حلال أو حرام؟ فاستدل بآية فقال: {قل لا أجد ... } [الأنعام: 145]. الآية {إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقًا أهل لغير الله به} [الأنعام: 145]. أربعة أمر الله نبيه أن يقول هذا, والآية في سورة الأنعام وهي مكية, أولاً:

هذا الحديث في بيان حكم القنفذ هل هو حلال أم حرام, ولو أجريناه على القاعدة السابقة أن الأصل في كل مطعوم ومشروب الحل, فإننا نقول: هو حلال إلا إذا صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرمه, فهذا يؤخذ به في هذا الحديث. سئل ابن عمر -وهو من فقهاء الصحابة ومفتيهم- عن القنفذ؛ يعني: هل هو حلال أم لا؟ فلم يقل: هو حلال, ولم يقل: هو حرام, ولكنه أجاب بالدليل, فقال: {قل لا أحد} , قال بمعنى: قرأ؛ لأن هذه الآية ليست قوله, ولكنها قول الله عز وجل "قال" يعني: أنه قرأ هذه الآية: {قل لا أجد ... الآية} الخطاب في "قل" للرسول صلى الله عليه وسلم و {لا أجد في ما أوحي إلي}؛ يعني: من القرآن, {محرمًا} , أي: حرمه الله {على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقًا أهل لغير الله به} , أربعة أشياء: {إلا أن يكون ميتة} , وهذه قد علم أنه يستثنى منها ما ميتته حلال مثل: السمك, والجراد, {أو دمًا مسفوحًا} وهذا أيضًا يستثنى منه الدم الطاهر كدم السمك, فإنه حلال, وخرج بقوله: {مسفوحًا} الدم غير المسفوح كالذي يبقى في العروق بعد الزكاة فإنه حلال وإن ظهرت حمرته؛ لأنه ليس دمًا مسفوحًا, فدم القلب الذي يكون بعد موت الحيوان بالزكاة حلال للإنسان أن يأخذه بمعلقة ويشربه وكذلك دم الكبد, {أو لحم خنزير} وهو الحيوان المعروف الخبيث المشهور بشيئين خبيثين: أحدهما معنوي والثاني حسي, أما الحسي فإنه يأكل العذرة والقاذورات, وأما المعنوي فإنه لا غيره فيه إطلاقًا, والمتغذي به ربما يناله من هذا الخلق الذميم أن تنزع منه الغيرة سواء على أهله أو على دينه, وقوله: {فإنه رجس} لا شك أن الضمير في قوله: {فإنه} يعود على الضمير المستتر في قوله: {إلا أن يكون} أي: لا أجد في الذي أوحي إلى محرمًا على طعام يطعمه إلا أن يكون ذلك الشيء ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير, هذه كلها خبر لكان التي فيها ضمير يعود على الشيء المطعوم, فعليه يكون قوله: {فإنه رجس} يكون الضمير عائدًا على ما ذكر كله, وليس عائدًا على لحم الخنزير فقط, والرجس هو: النجس, وهذه العلة -كما رأيتم- علة منصوصة. وعلى هذا فنقول: كل نجس محرم, لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا, ولا يصلح أن نقول: كل محرم نجس؛ لأن من المحرمات ما ليس بنجس كالسم والدخان, وكذلك على القول الراجح الخمر فإنه محرم وليس بنجس {أو فسقًا أهل لغير الله به} , {أهل لغير الله به}

الجملة كالبيان لقوله {أو فسقًا} , يعني: يبين ما هو الفسق, هو الخروج عن الطاعة, والذي أهل لغير الله به مذبوح على الشرك فيكون حرامًا وإن كان هو في ذاته ليس بخبيث, لكن لما ذبح لغير الله صار خبيثًا لا خبثًا ذاتيًا ولكنه خبث معنوي, ولذلك فصله عن قوله: {رجس} ليتبين أن ما حرم من أجل ذبحه لغير الله ليس لقذارته بذاته, بل قد يكون من أنقى ما يكون ذبحًا, لكنه من أجل أنه خبيث معنى, وهذه الآية استدل بها ابن عمر على حل القنفذ؛ لأن القنفذ ليس مذكورًا في هذه الأربع, وعلى هذا فيدخل في الحلال, وهذا استدلال جيد, ولكن الآية الكريمة لا ينافيها ما ثبت تحريمه بعد ذلك؛ لأن الله قال له: {قل لا أجد في ما أوحي إلي} , ولم يقل: "لا أجد فيما يوحى إلي", و {أوحي} فعل ماض يدل على أن ما مضى مما أوحي ليس فيه تحريم إلا هذه الأشياء الأربعة, أما المستقبل فله شأن آخر' ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم لحوم الحمر الأهلية مع أنها ليست مما ذكر, وكذلك كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من السباع, وعلى هذا فلا يكون ما ذكر بعد نزول هذه الآية لا يكون نسخًا لهل؛ لأن الآية لم تدل على تعميم الحكم وإنما دلت على تعميم الحكم فيما مضى. وقوله: ثم إن رجلاً مجهولاً قال لعبد الله بن عمر: أنه سمع أبا هريرة يقول: ذكر القنفذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنها خبيثة من الخبائث" والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنها خبيثة", ولم يقل: إنها حرام؛ لأنه من المعلوم: أن الخبائث محرمة, فاكتفى بالوصف عن ذكر الحكم, فقال ابن عمر: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك فهو كما قال؛ يعني: إن كان قال ذلك فهو كما قال, ولا ينافي الآية؛ لأن الآية ليس فيها حصر التحريم فيما يستقبل, إنما حصر التحريم فيما مضى, فلا ينافي أن يأتي حكم يحرم ما لم يذكر فيها. في هذا الحديث فوائد أولاً: جواز ذكر الدليل دون ذكر المدلول, يعني: ذكر دليل الحكم دون ذكر الحكم, وجهه إجابة عبد الله بن عمر بتلاوة الآية ولكن هذا مقيد بما إذا كان السائل يعرف أن يستنبط الحكم من الدليل, أما إذا كان عاميًا بحتًا لا يعرف فإنه لابد أن يذكر له الحكم فيقال: هذا حرام, ثم إن كان في الاستدلال لذلك الحكم مصلحة استدل وإلا فلا يفعل, وجه ذلك: أن العامي إذا ذكرت له الحكم ثم الاستدلال ربما يترخص في المستقبل ولا يفرق بين الحكم والدليل, فصار في هذه المسألة تفصيل: إن كان المستفتي يعرف استنباط الحكم من الدليل فإنه يجوز أن يذكر الدليل دون الحكم ليفهمه الإنسان من الدليل, وإن كان لا يعرف فلابد من ذكر الحكم, ثم إن كان من المناسب والمصلحة أن يذكر الدليل فهو أولى من أجل أن يكون المستفتي معتمدًا على الدليل فيكون ذلك أطمن لقلبه وأقوم لحجته وإن كان ليس من المناسب ذكر الدليل فلا يذكره؛ لأن المقصود معرفة الحكم, والناس يختلفون في هذا.

ومن فوائد الحديث: جواز الحصر في المعلوم وإن كان يحتمل لوجوده سوى هذا المحصور لقوله تعالى: {قل لا أجد ... } الآية. ومن فوائد الحديث: بلاغة القرآن؛ حيث لم يقل: قل ليس من المحرم إلا كذا وكذا, بل قال: {قل لا أجد في ما أوحي إلي .. الخ}. ومن فوائد الحديث: تحريم هذه الأشياء الأربعة: وهي الميتة, والدم المسفوح, ولحم الخنزير, وما أهل لغير الله به. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يرد المجهول ولا أن يقبله, بل يجعل الحكم معلقًا على ثبوته؛ أي: ثبوت الخبر عمن نقل إليه, ووجه ذلك: قول ابن عمر: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك فهو كما قال, فإذا أخبرك إنسان مجهول فلا ترد الخبر ولا تقبله, بل الواجب التوقف, أما عدم رده فالاحتمال أن يكون صادقًا' وأما عدم قبوله فالاحتمال أن يكون كاذبًا, فيجب عليك التوقف وهذا هو الميزان العدل القسط؛ لأن الرد بدون مستند خطأ, والقبول بدون مستند خطأ أيضًا, فالواجب التوقف. فإذا قال قائل: هل تحكمون بصحة الحديث إذا لم يعرف هذا الشيخ المجهول؟ فالجواب: لا, ولهذا قال الحافظ ابن حجر: إن إسناده ضعيف لجهالة هذا الشيخ, وينبني على ذلك هل يثبت الحكم بالحل أو بالتحريم في القنفذ؟ يثبت الحل؛ لأنه إذا ضعف السند فإنه لا يحتج به, إذ لا يحتج إلا بالحديث الذي يكون حسنًا أو صحيحًا, أما ما كان ضعيفًا فلا. فإن قال قائل: إذا كرهه الإنسان كراهة طبيعية فهل له أن يمتنع منه؟ الجواب: نعم له ذلك, كما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من أكل الضب مع إباحته, ومن لا يهتم به ولا يكرهه فليأكله؛ لأن الحديث لم يصح في كونه من الخبائث, ولهذا كان بعض أهل العلم يرى حله, وكان العامة المقلدون لهؤلاء العلماء لا يستكرهونه أبدًا, ويرون أنه من جنس اليربوع وشبهه. ومن فوائد الحديث: أن الخبائث محرمة, لاسيما إذا سيقت لبيان الحكم إن صح قوله: إنها خبيثة من الخبائث, ولكن هل نقول: كل خبيث محرم, أو نقول: كل محرم خبيث؟ الثاني؛ لأننا لو قلنا: كل خبيث محرم لكان التحريم عائدًا إلى أذواق الناس, وقد يستخبث قوم هذا الشيء ولا يستخبثه آخرون, ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن شجرة البصل والثوم ونحوها خبيثة ومع ذلك فهي حلال.

النهي عن أكل الجلالة

النهي عن أكل الجلالة: 1276 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجلالة وألبانها". أخرجه الأربعة إلا النسائي, وحسنه الترمذي. النهي: هو طلب الكف على سبيل الاستعلاء, وصيغته: "لا تفعل", أما اترك فليست نهيًا ولكنها أمر بالترك, وكذلك دع ذر اجتنب, لكن يصح أن نعبر عنها بأنها نهي, فيقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كذا, وإن كانت تأتي بقول: اجتنب, والجلالة أحسن ما قيل فيها: أنها التي أكثر علفها النجاسة فهي جلالة ومنهي عنها, وكذلك نهى عن ألبانها؛ لأن ألبانها متولدة من بين فرث ودم من لحومها, فيكون اللبن تبعًا للحم, وفي بعض الأحاديث نهى عن ركوبها أيضًا, والنهي عن الركوب من أجل الابتعاد عنها حتى لا يضطر الإنسان إلى محاولة تطهير هذه الجلالة. ففي هذا الحديث: النهي عن الجلالة, واختلف العلماء - رحمهم الله- في حكمها؛ فمنهم من قال: إنها حرام لهذا الحديث, ولأنها تربت بخبيث فتأثرت به فتكون خبيثة, ومنهم من قال: إنها طاهرة وليست بخبيثة وذلك لأن غذاءها حال في العلف الذي أكلته مثلاً استحال إلى دم وتغذى به الجسم فتكون طاهرة بالاستحالة, ومنهم من قال: إنها حلال, وهؤلاء هم الذين ضعفوا الحديث وقالوا: إنه ضعيف لا تقوم به حجة, فنرجع إلى الأصل وهو الحل, منهم من فصل فقال: إن ظهر أثر النجاسة عليها بأن هذا اللبن له رائحة النجاسة أو اللحم له رائحة النجاسة حرم أكلها وإن لم يظهر فلا, وهذا أقرب الأقوال, لكن هذا ممكن في اللبن بعد حلبه وفي اللحم بعد الذبح, فيقال مثلاً: إذا ذبح الجلالة فإن شم رائحة نجاسة حرم, لأنها لم تتم استحالتها وإلا فهي حلال, وهذا القول أقرب ما يكون من القواعد سواء صح الحديث بالنهي أم لم يصح؛ لأنه إذا ظهرت رائحة الخبث فيها صار لها حكم ذلك الخبث كالماء إذا تغير بالنجاسة وإذا لم تظهر فقد استحالت النجاسة ولم يظهر أثر والأصل الحل. فإذا قال قائل: إلى متى يمتد النهي؟ قلنا: إلى أن تطعم الطاهر, وإلى متى؟ اختلف العلماء في ذلك بناء على اختلاف الروايات؛ فمنهم من قال: أربعون, ومنهم من قال: عشرون, ومنهم من قال: ثلاثة أيام, ومنهم من فرق

حل الحمار الوحشي والخيل

وقال: الحيوان الكبير الجسم يحتاج إلى مدة أطول والصغير كالدجاجة يكفيه ثلاثة أيام, ولعل هذا أقرب القوال, أي: يختلف هذا باختلاف حجم الحيوان, وكذلك ينبغي أن يقال: ويختلف أيضًا باختلاف كثرة أكلها النجاسة, فإذا كان لها مدة طويلة تتغذى بالنجاسة وجب أن يكون انتظار التطهير أكثر, وإذا كان مدتها قصيرة فيكون انتظار التطهير أقل, الميزان ما ذكرناه أولاً وهو الرائحة, حتى لو أننا حبسناها عن النجاسات وأطعمناها الطاهر ثم ذبحناها ووجدنا فيها رائحة النجاسة فإنها تكون حرامًا؛ لأنها لم يزل عنها وصف الخبث. حل الحمار الوحشي والخيل: 1277 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه في قصة الحمار الوحشي: فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. قصة أبي قتادة رضي الله عنه. أنه مع أصحابه وكان حلالاً, وكان أصحابه محرمين فرأوا حمارًا وحشيًا وجعل بعضهم يحدث بعضًا وينظر بعضهم إلى بعض ويضحكون, ففطن لذلك أبو قتادة فرأى الحمار فركب فرسه, قال لهم: ناولوني الرمح, ولكنهم أبوا أن يناولوه؛ لأنهم محرمون, والمحرم يحرم عليه قتل الصيد, فأخذ رمحه ثم ذهب وقتل الحمار وأتى به إلى أصحابه وقدمه لهم, ولكنهم توقفوا عن الأكل حتى يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه فقال: هل منكم أحد أشار إليه أو أعانه أو كلمة نحوها؟ قالوا: لا, قال: فكلوا. ففي هذا الحديث من الفوائد: حل الحمار الوحشي, وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه وأذن لأصحاب أبي قتادة أن يأكلوا, ضد الحمار الوحشي والحمار الأهلي, والحمار الأهلي كان مباحًا ثم حرمه النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر. لو قال قائل: فهمنا من هذا الحديث أن الحمار الوحشي حلال لكن لو لم يأت هذا الحديث فهل نحكم بحله؟ نعم بناء على الأصل {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29]. 1278 - وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: "نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل منه, وما نحر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكره الرسول فهو حلال.

فإن قال قائل: هذا فيما علم به الرسول صلى الله عليه وسلم, والحديث ليس فيه أن الرسول أكل أو علم؟ فنقول: مثل هذا الغالب أنه يشتهر ويعلم به الرسول, لاسيما وأن أسماء بنت أبي بكر قريبة من بيت الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها ابنة الصديق وصاحبه الذي هو أخص الناس به وأختها عائشة مع الرسول, فيبعد أن ينحر الفرس في هذا المجتمع القليل ثم لا يعلم به بقية العائلة. ثانيًا: على فرض أنه لم يعلم به فإن الله قد علم بذلك, ولا يقر الله تعالى الأمة على خطأ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى إن المنافقين الذين يبيتون ما لا يرضى من القول فضحهم الله فقال: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} [النساء: 108]. إذن ففيه دليل على جواز أكل الفرس, وفيه أيضًا دليل على أن حل الخيل ثابت حتى بعد الجهاد خلافًا لمن قال إن الناس إذا احتاجوها للجهاد صارت حرامًا, ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض عليه الجهاد في أول ما قدم المدينة, فيكون في هذا الحديث رد على من قال: إنه إذا احتاجها الناس للجهاد حرم أكلها, والصواب أن الناس إذا احتاجوها للجهاد فإنه لا يحرم أكلها لكن يحرم إتلافها فلو تعدى إنسان وأتلفها فهي حلال, وإنما قلنا: يحرم إتلافها من أجل حاجة الناس إليها لا من أجل أنها هي نفسها حرام بل هي حلال. وفي هذا الحديث: دليل على أن الخيل تنحر, لقولها: "نحرنا", ولكن قد ورد في هذا الحديث في بعض ألفاظه: "ذبحنا", وعليه فيحمل لفظ النحر على الذبح؛ لأن المشروع في غير الإبل الذبح- يجب قطع الأوداج؛ لأن الأوداج بها ينهر الدم, ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شريطة, وهي التي تذبح ولا تفرى أوداجها, إذن الفرس حلال, وأما ما اشتهر عند العامة من أن مؤخره حلال ومقدمه حرام فهذا لا أصل له, وليس في الشريعة الإسلامية حيوان واحد تختلف أجزاؤه, أما اليهود فنعم في شريعتهم بعض الحيوانات يحرم شيء من أجزائها دون كلها, وتعليل العامة في مقدمه حرام مؤخره, حلال, يقولون: لأن المقدم يواجه به العدو الكافر فلا ينبغي أن يؤكل, نحن الآن ذبحناه ما الفائدة هل المقدم بعد الذبح يواجه به العدو؟ لا, لكن على كل حال لا يؤخذ بأحكامهم ولا بتعليلاتهم.

حل أكل الضب

حل أكل الضب: 1279 - وعن ابن عباس رضي الله عنها قال: "أكل الضب على مائدة رسول الله رضي الله وسلم. متفق عليه. الضب حيوان معروف وهو لا يأكل الأشياء المستقذرة, وإنما يأكل الزرع والعشب وغير ذلك وهو حلال, ودليل ذلك أنه أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم, يعني: إذا أقر شيئًا فهو مباح, إذ لا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقر شيئًا حرامًا بل إقراره دليل على التحليل. حكم الضفدع: 1280 - وعن عبد الرحمن بن عثمان القرشي رضي الله عنه: "أن طبيبًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضفدع يجعلها في دواء, فنهى عن قتلها". أخرجه أحمد, وصححه الحاكم, وأخرجه أبو داود والنسائي. الضفدع دويبة معروفة تعيش في البر وتعيش في الماء, وفي هذا الحديث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها يجعلها دواء فنهى عن قتلها, وإذا نهى عن قتلها صارت حرامًا؛ لأن القواعد المقررة التي سبق أن من طرق تحريم الحيوان ما أمر بقتله أو نهى عن قتله, وعلى هذا يكون الضفدع حرامًا لا يجوز قتله. ومن فوائد الحديث: أن بعض الحيوانات قد يكون مفيدًا في الطب, لكن إذا كان حرامًا فإنه لا يجوز أكله للتطبب به, لكن هل يجوز أن يدهن به الإنسان إذا جرب ذلك ونفع كالادهان بشحم الخنزير مثلاً؟ الجواب: نعم, لا بأس, يعني: لو ثبت. طبيًا أن شحم الخنزير يستفاد منه فلا بأس. فإن قال قائل: هذا ينافي قول النبي صلى عليه وسلم: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها". قلنا: لكن حرم الأكل وهذا ليس بأكل هذا دهن لكن على من ادهن بهذا الشيء النجس إذا حضرت الصلاة أن يزيله ويطهر الموضع لوجوب تطهير البدن من النجاسات كما وجب تطهير الثبات من النجاسات.

خلاصة كتاب الأطعمة, وخلاصته تدور على أمور

خلاصة كتاب الأطعمة, وخلاصته تدور على أمور: الأول: أن الأصل في الأطعمة الحل, فلا يجوز أن نحرم شيئًا إلا بدليل من الكتاب والسنة. ثانيًا: أن على من حرم شيئًا من الأطعمة الحيوانية أو النباتية أو غيرها فعليه الدليل؛ لأن الأصل الحل. ثالثًا: أن الأصل فيما عدا الحيوان أنه حلال ما لم يثبت ضرره, يعني: فليس فيه شيء معين نص على تحريمه, لكن إذا ثبت ضرر أي شيء من النبات كان حرامًا, بل إذا ثبت ضرر الشيء المباح الطيب لإنسان معين صار في حقه حرامًا, مثل أكل الحلوى للإنسان المصاب بمرض السكر والذي ثبت أنه يتضرر بأكل الحلوى, فإننا نقول: أكل الحلوى على هذا الرجل حرام؛ لأن الله تعالى قال: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. والنفي عن قتل النفس يشمل قتل النفس المؤدي إلى الهلاك, وكذلك ما يكون ضررًا على الإنسان, كذلك أيضًا حرم شيخ الإسلام رحمه الله أكل الإنسان إذا كان يستلزم التخمة, ومعنى التخمة: تغير المعدة ونتنها وخبثها, وذلك بكثرة الأكل أحيانًا أو بالتخليط ربما يأكل الإنسان مثلاً قد تعشى وأكل لحمًا ثم قدم إليه طعام آخر فأكل أيضًا لحمًا وربما يكون اللحم الثاني نيئًا كثير السمن مثل هذا إذا أكله على الأول يخشى عليه من التخمة, ولكن -الله المستعان- الآن نأكل ونملأ بطوننا ثم نشرب كذلك فنكون كالذي تلطخ بالشيء القذر ثم يحاول أن يغسله. ومن القواعد المقررة في الأطعمة: أن كل ذي ناب من السباع فهو حرام؛ وكل ذي مخلب من الطير فهو حرام, وكل ما أمر بتله فه حرام, وكل ما نهي عن قتله فهو حرام, هذه الأربع قواعد كلها في الحيوانات. ومن القواعد في هذا الباب أيضًا: أن الشيء قد يكون محرمًا لذاته, وقد يكون محرمًا لمعنى آخر, فما كان خبيثًا في نفسه فهو حرام لذاته كالخنزير, وما كان خبيثًا لطبعه بمعنى أنه هو نفسه ليس خبيثًا لكن فيه العدوان والتجاوز, فهو حرام لا لذاته, لكن لما يترتب على التغذي به الخروج عن الاعتدال.

1 - باب الصيد والذبائح

1 - باب الصيد والذبائح "الصيد" يطلق على معنيين: المعنى الأول: فعل, فيقال: صاد يصيد صيدًا, والثاني: على المصيد فيكون من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول وإطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول كثير في اللغة العربية, ومنه: فراش بمعنى مفروش, وغراس بمعنى مغروس, وخلق بمعنى مخلوق, ومنه حمل البطن بمعنى محمول, ومنه: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" بمعنى: مردود, على كل حال: هذا موجود في اللغة العربية كثيرًا. إذن "صيد" بمعنى: مصيد, فصارت تعلق على معنيين: الأول: فعل الصائد, والثاني: المصيد, وهي على هذا الوزن مصدر أريد به اسم المفعول وهو اقتناص حيوان متوحش هذا الصيد. وأما الذبائح فهو جمع ذبيحة كصحائف جمع صحيفة, وفعيلة أي: ذبيحة بمعنى مفعولة كجريح بمعنى مجروح, والذبح: انهار دم الحيوان المقدور عليه بأي وسيلة كانت, لكن لابد من شروط تذكر -إن شاء الله-, ما هو الأصل في الصيد بمعنى: الصيد؟ الحل بناء على القواعد السابقة. اقتناء الكلب: 1281 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتخذ كلبًا, إلا كلب ماشية, أو صيد أو زرع, انتقص من أجره كل يوم قيراط". متفق عليه. صدر المؤلف هذا الباب بهذا الحديث؛ لأن الكلاب من جملة ما يصطاد به فلهذا كان ينبغي لنا أن نعرف الآلة التي يصاد بها وحكمها قبل أن نعرف حكم الصيد وما يشترط له قوله: "من اتخذ", وجاء بلفظ: "من اقتني", ومعناها واحد, وقوله: "كلبًا" نكرة في سياق الشرط فيعم كل كلب سواء كان أصفر أو أحمر أو ابيض, كل كلب, "إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص ... الخ". "قيراط" فاعل "انتقص". ففي هذا الحديث: حذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الكلاب واقتنائها إلا عند الحاجة, ووجه التحذير: أنه بين أن المتخذ ينقص كل يوم من أجره قيراط, والقيراط قيل المراد به: الجزء بدون تحديد, وعلمه عند الله ورسوله, وقيل المراد بالقيراط: ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيمن صلى على الجنازة وشهدها حتى يصلى عليها فله, قيراط, ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان, قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين أصغرهما مثل أحد, فحمل بعض العلماء هذا الحديث على الحديث الذي سقناه في الصلاة على الجنائز وقال: كل يوم يهدم من أجره قدر قيراط.

وبناء على هذا التقرير يكون اقتناء الكلاب محرمًا لفوات الأجر به, وأنكر بعض العلماء أن يحمل على ذلك, وقال: لا يمكن أن نحمله على حديث شهود الجنازة؛ لأن حديث شهود الجنازة في فضل على عمل صالح, وهذه عقوبة على عمل غير صالح, ولا يمكن أن يساوي فضل الله بعقوبته؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه. وبناء على هذا يقول هذا القائل: أما القيراطان فيمن شهد الجنازة حتى يصلى عليها وتدفن فقد بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأما القيراطان هنا فإنه لم يبينهما, وعلى هذا فنقول: هما أو هو إن كان قيراطًا هو جزء من الأجر معلوم عند الله ورسوله؛ لأننا لا نعلم بذلك, وهذا أسلم, ولكن هل يدل على التحريم؟ سيأتي الكلام إن شاء الله. في هذا الحديث من الفوائد: تحريم اتخاذ الكلاب إلا ما استثنى وجه التحريم: أن اقتناءها ينقص من أجر الإنسان, والعقوبة قد تكون بحصول مطلوب, وقد تكون بفوات محبوب, وهذا الحديث من أي النوعين؟ من النوع الثاني من فوات المحبوب, لهذا كان القول الراجح أن اقتناء الكلاب حرام. ومن فوائده: أنه يبين لنا مدى سفه أولئك القوم الذين يقتنون الكلاب من الكفار ومقلدو الكفار, فإن اقتناءهم إياها سفه في العقل وضلال في الدين؛ والعجب أنهم يختارون لها أطيب اللحوم فيعطون الكلب أطيب اللحم, وصاحب الكلب يأكل [الرديء] والكلب يعطى أطيب اللحم, وسمعنا أنهم في كل صباح يغسلونه بالصابون والشامبو, وإذا كان مقر الشياطين هو محل قضاء الحاجة؛ لأنه خبيث, ولأنها خبيثة تأوي إلى الخبيث, هؤلاء أيضًا خبثاء نجس: {إنما المشركون نجس} [التوبة: 28]. ولهذا ألقوا الخبائث. ومن فوائد الحديث: جواز اقتناء الكلاب لهذه الأغراض الثلاثة: الماشية وهي ما يتخذ من بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم, وإن كان الأكثر اتخاذ الكلاب للماشي؛ لأن الإبل كبيرة وكذلك البقر فتحمي نفسها من الذئاب, ولا يتخذ أهل الماشية الكلاب إلا للغنم لتحميها؛ لأن الكلب وفيَ على أنه كلب فهو وفيَ يطرد الذئاب عن الغنم. والثاني: كلب الصيد, أما الأول الذي اتخذه للماشية فاتخذه حماية عن الضرر, وأما صاحب الصيد فاتخذ الصيد لكمال التنعم أو للراحة إلى الصيد ينتفع بثمنه. أما الثالث: كالزرع كلب الزرع حماية لزرعه من السراق وغيره, بل إنه يحمي الزرع من أن يدخل إليها الهوام, إذا دخل بعير أو حمار يأكل الزرع فإن الكلب ينبحه حتى يخرج.

حل صيد الكلب المعلم

إذن يجوز اتخاذ الكلب واقتناؤه لهذه الأغراض الثلاث, فهل يقاس عليها ما هو أولى منها؟ الجواب: نعم؛ وذلك لأن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين متماثلين, ولا تجمع بين متفرقين, ونحن لا نعلم أن هناك علة توجب التفريق بين اتخاذ الكلاب لهذه الأغراض الثلاثة أو لما يشبهها هو أولى منها, وبناء على ذلك لو كان الإنسان ساكنًا في محل ناء بعيدًا عن العمران واتخذ كلبًا لحماية أهله ولحماية نفسه فهو من باب أولى يجوز له ذلك. اتخاذ الكلاب لاستخدامها في الاطلاع على السراق ونحوه هل يجوز؟ نعم يجوز؛ لأن هذه حاجة, وهذه الحاجة مصلحة عامة أبلغ من المصلحة الخاصة؛ ولكن هل يحكم بشهادتها؟ الكلاب البوليسية الآن معروفة فهل يؤخذ بشهادتها إذا أمسكت إنسانًا على أنه متهم بالسرقة؟ لا يؤخذ بشهادتها, ولكن هي قرينة, فيؤخذ المتهم حتى يتبين أمره. فإذا قال قائل: أنتم قلتم: إن اقتناء الكلاب حرام, وهذه المسائل الثلاث ليست ضرورة, والقاعدة الشرعية: أن الحرام لا يباح إلا للضرورة لقول الله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه {[الأنعام: 119]. أفلا يمكن أن نجعل إباحة اقتنائها لهذه الأغراض الثلاثة دليلاً على أنه ليس بحرام على أن اقتناءها ليس بحرام؛ لأن الحرام لا تجيزه المصلحة والحاجة لا يجيزه إلا الضرورة؟ قد يقال: إن هذا من رحمة الله عز وجل أن أباح هذه الأشياء من أجل الحاجة أو المصلحة ويكون هذا مستثنى من القاعدة بأن الاقتناء مكروه مع قوله: "انتقص من أجره كل يوم قيراط" بعيد جدًا, والاعتراض الذي أوردناه قريب جدًا أن الأصل في المحرم إلا يباح إلا للضرورة, لكن نقول: لما عمت البلوى بهذه الأغراض رخص فيها الشارع مع أنه أحيانًا قد تكون هذه الأشياء ضرورة كالماشي؛ لأن تسلط السباع على الماشية وإتلافها يضطر الإنسان إلى أن يدافع, والصيد أيضًا ربما يكون ضرورة, قد يكون الإنسان ليس له كسب يعيش به وأهله غلا الصيد, وكذلك يقال في الزرع. حل صيد الكلب المعلم: 1282 - وعن بن حاتم رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه, فإن أمسك عليك فأدركته حيًا فاذبحه, وإن أدركته قد قتل ولم يؤكل منه فكله, وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره وقد قتل فلا تأكل, فإنك لا تدري أيهما قتله, وإن رميت سهمك فاذكر اسم الله تعالى, فإن غاب عنك يومًا, فلم تجد فيه إلا أثر سهمك, فكل إن شئت, وإن وجدته غريقًا في الماء, فلا تأكل". متفق عليه, وهذا لفظ مسلم. بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الآلة التي يكون بها قتل الصيد, وبين أنها نوعان: جارحة, وآلة

الجارحة قال فيها: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه", وقوله: "كلبك" المراد به: الكلب المعلم؛ لأن الكلب قد يعلم وقد لا يعلم, وبماذا يحصل التعليم؟ يحصل تعليم الكلب بكونه يسترسل إذا أرسل, وينزجر إذا زجر, وإذا أمسك لم يأكل, يعني شروطه ثلاثة: الأول: أن يسترسل إذا أرسل, بمعنى: أن صاحبه إذا رأى الصيد استرسل, أما إذا كان لا يسترسل إذا أرسل بمعنى: أنه إذا كان جائعًا استرسل, وإن كان غير جائع سكت" وقال: الراحة زين فهذا ليس بمعلم. الثاني: أن ينزجر إذا زجر, وتحت هذا شيئان: الأول: أن يتوقف إذا زجر ليوقف بعد أن ينطلق, والثاني: إذا استرسل بنفسه ثم إذا زجرته انطلق لأكثر, هذا أيضًا من التعليم, فإن كان لا ينزجر إذا زجر فإنه ليس بمعلم, لو أنك رأيت الصيد وأشليته به, ثم بعد أن انطلق زجرته ولكنه لم ينزجر ما زال مندفعًا حتى أمسكه؛ فهذا ليس بمعلم؛ لأنه كونه يعصيك إذا زجرته وذهب يقتل الصيد يدل على أنه إنما قتل لنفسه. الشرط الثالث: إذا أمسك لم يأكل, فإن أكل إذا أمسك فليس بمعلم, ولماذا؟ لأنه إذا أكل دل هذا على أنه إنما أمسك على نفسه, الشرط أن يكون أمسك على صاحبه لقوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة: 4]. فإذا أكل معناه أمسك لنفسه, وظاهر هذا أنه لا فرق بين أن يكون جائعًا فيأكل للضرورة أو غير جائع فلا يأكل, وهو كذلك؛ لأنه إذا كان غير جائع لم يأكل فقد ترك الأكل لا لأنه أمسك على صاحبه ولكنه شبعان لا يريد, وسيأتي -إن شاء الله- ذكر هذه المسالة. يقول: ""فاذكروا اسم الله عليه", متى؟ عند إرساله, ولو تأخر صيده لو أرسلته عند طلوع الشمس وجعل يطارد الصيد ولم يتمكن منه إلا عند الزوال كانت التسمية مجزئة وصحيحة مع أنه طال الفصل بينه وبين قتل الصيد, هكذا أمر الرسول أن يذكر اسم الله إذا أرسله. كيف يذكر اسم الله عليه؟ يقول إذا أرسله: باسم الله, ويطلق الكلب فمتى صاد الصيد ولو تأخر فإنه حلال. فإن قال قائل: ألستم تقولون: إن التسمية على الذبيحة لا تجزئ إلا إذا كانت عند تحريك السكين للذبح؟ فالجواب: بلى, نقول بهذا, ولم نقل ذلك في الصيد للمشقة, فكان إرسال الآلة سواء كانت جارحة أو غير جارحة كان إرسالها بمنزلة تحريك الذابح يده للذبح.

فائدة: حكم التسمية عند الذبح

فائدة: حكم التسمية عند الذبح: من فوائد الحديث: وجوب ذكر اسم الله على الصيد, وقد اختلف العلماء- رحمهم الله- في ذلك- أي: في هذا الأمر-هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ والقائلين بالوجوب اختلفوا هل هو شرط لحل الصيد أم لا؟ فمن العلماء من قال: إن التسمية على الصيد سنة وليست بواجبة, وهذا القول ضعيف؛ لأنه يخالف ما جاءت به السنة, بل يخالف ما جاء به القرآن, أما مخالفته لما جاءت به السنة فإنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل", فاشترط لحل الأكل شرطين: الأول: انهار الدم, والثاني: ذكر اسم الله عليه, وأما القرآن فلأن الله تعالى قال: "ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم الله" -أضعف؛ لأن هذا الحديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه. حكم ما أكل منه كلب الصيد: وقوله: "فإن أمسك عليك" أخذ منه العلماء أنه يشترط ألا يأكل منه شيئًا, وقوله: "فأدركته حيًا فاذبحه" ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون حيًا حياة مستقرة أو يكون حيًا كحياة المذبوح, ولكن هذا الظاهر غير مراد؛ لأن المراد: إذا أدركته حيًا حياة مستقرة, أما إذا أدركته وفيه حركة مذبوح, فالقتل هنا قتل الكلب, فإذا كان قتل الكلب فإنه يحل, لو أن الصيد جاء وقد قطعت أحشاؤه أو قطعت أوداجه فإنه قد يتحرك لكن هذه حركة مذبوح لا يؤثر فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: "أدركته حيًا"؛ أي: حياة مستقرة, وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكل. اشترط النبي صلى الله عليه وسلم ألا يأكل منه ووجه الشرط ظاهر لأنه إذا أكل منه فإنما أمسك على نفسه فلا يحل. حكم اشتراك كلبين في الصيد: يقول: "وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله", هذا أيضًا يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أدركت مع كلبك كلبًا غيره فلا تأكل ... الخ", فنكون هنا قد شككنا في الحل؛ أي: فيما يحل به الصيد فإذا شككنا فيما يحل به الصيد لم يحل, ظاهر

الحديث العموم, لكنه يقيد بما إذا الكلب الثاني لم يرسله صاحبه ويسم عليه, فإن الكلب الثني قد أرسله صاحبه وسمى عليه فإن الصيد يحل؛ لأنه صيد بكلب معلم مرسل من قبل صاحبه, لكن يبقى النظر لمن يكون هذا الصيد لصاحب الكلب البيض أو لصاحب الكلب الأحمر؟ لا ندري من السابق, هل نقول: يقرع بينهما أو يقسم بينهما؟ الظاهر أن أقرب الاحتمالات أن يقسم بينهما, لو أننا نعلم أنه قتله كلب واحد لقلنا بالقرعة؛ لأن هذا الكلب لواحد منهما غير متعين, فيقول: يقرع بينهما, ولكنا لا ندري هل اشترك الكلبان في الصيد أو انفراده به أحدهما, فأقرب الأقوال أن يقسم بينهما, فإن أبيا قالوا: لا, ما نقسم, قلنا: يبقى الصيد حتى تصطلحا؛ لأنه لا مرجح لحد على الآخر. وقوله: "فإنك لا تدري أيهما قتله", هذا التعليل يدل على أنه إذا علم أن كلبه هو الذي قتله حل, لو كان ينظر من بعيد بالمنظار ورأى كلبه قتله وجاء مقبلاً به كلب الآخر فإنه يحل, ووجه حله: أن ... الحكم إذا علل صار تابعًا للعلة؛ إذا وجدت وجد الحكم, وإذا انتفت انتفى الحكم. "وإن رميت بسهمك" هذا النوع الثاني من آلة الصيد؛ لأن النوع الأول: الجارحة, النوع الثاني: الآلة, يقول: "إن رميت بسهمك فاذكر اسم الله متى؟ أعند الرمي أم عند إعداد السهم؟ الجواب: الأول عند إرسال السهم لا عند إعداده, وعلى هذا فنقول في عهدنا الآن: لو أن الإنسان عندما يخرج ليصيد عبأ البندقية بالرصاص وعند التعبئة سمى ولما رأى الصيد لم يسم عند إرسال السهم فهل يحل؟ لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذكر اسم الله عليه إذا أرسل السهم كما أن الإنسان لو حد السكين ليذبح البهيمة وسمى عند حدها ولكنه لم يسم عند الذبح فإنها لا تحل.

وقوله: "وإن رميت بسهمك" ظاهرة العموم؛ أي: لو قدر أن السهم كان من العظام فإنه يحل, فهل نأخذ بهذا العموم؟ الجواب: لا؛ النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا إلا السن والظفر, فإن غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت", وهذه من نعمة الله وتيسيره إذا رميت الصيد وهر سواء كان طائرًا أم زاحفًا هرب ثم وجدته بعد ذلك ولم تجد فيه إلا اثر السهم فكل مع احتمال أن يكون هذا الصيد قد مات عطشًا أو جوعًا, ولكن يحال الحكم على الظاهر وهو السهم الذي أصابه فيحل. "وإن وجدته غريقًا في الماء فلا تأكل", وانتبه لقوله: "غريقًا في الماء فلا تأكل", ولم يقل: إن وجدته في الماء؛ لأنني قد أجده في الماء حيًا يتحرك حركة المذبوح ثم يموت, أو أجده في الماء وأعلم أن الماء لا أثر له في قتله لكون الجرح موحيًا, يعني: مصيبًا إصابة قاتلة, كأن يصيبه في قلبه أو ما أشبه ذلك فإنه يحل؛ لأنني وجدته وليس غريقًا في الماء بل الماء لا أثر له في قتله, كلام النبي صلى الله عليه وسلم محكم: كل الفرق بين قول: وإن وجدته في الماء, وقوله: "وإن وجدته غريقًا في الماء فلا تأكل" هذا معنى الحديث. أما فوائده فكثيرة منها: أن الله -سبحانه وتعالى- لم يضيق أسباب الرزق, ولم يغلق أبوابه بل الأبواب مفتوحة, فكل طريق يوصل على الرزق فهو حلال, إلا إذا قام الدليل على تحريمه سواء كان صيدًا أو حرثًا في الأرض أو بيعًا أو شراء أو غير ذلك, دليل هذا أن الشارع جعل من جملة أسباب التملك الصيد. ومن فوائد الحديث: التوسعة على الأمة, فإن الصيود -كما نعلم- ليست سهلة, يعني: لا تمسك باليد ولا بالمطاردة, فيسر الله -سبحانه وتعالى- الأسباب لاقتناصها وجعل لها آلة تحيط بها, وهي الكلاب والسهام, ولكن قد يقع التسهيل لاقتناص الصيود امتحانًا مثل قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب} [المائدة: 94]. وذلك أن الله تعالى أرسل الصيود على الصحابة وهم محرمون حتى كانت أيديهم تناله ورماحهم, اليد تنال ما على الأرض, كالأرانب والظباء والرماح, وتنال ما يطير الرمح يقذفه الإنسان بيده, وليس من العادة أن الإنسان يقتنص الصيد الطائر بالرمح لكن الله تعالى ابتلى الصحابة ليعلم الله من يخافه بالغيب فعلم الله عز وجل أن هؤلاء الصحابة الأخيار يخافونه بالغيب, ولم ينقل عن أي واحد أنه أخذ الصيد الزاحف الذي يناله باليد أو الطائر الذي يناله بالرمح, وهذا مما يدل على كمال هذه الأمة ولله الحمد, فإن بني إسرائيل ابتلاهم الله تعالى بالحيتان يوم

السبت وقد حرم عليهم صيدها, فماذا صنعوا؟ احتالوا كما هو معروف, لكن هذه الأمة -ولله الحمد- لم يخطر ببالهم هذه الحيلة. ومن فوائد الحديث: جواز الصيد بالكلاب لقوله: "إذا أرسلت كلبك", وكما سمعنا في المناقشة أنه يشمل ما إذا أرسل كلب غيره, وتقيد الكلب بإضافته إلى المرسل من باب الغالب فلا يكون مخرجاً لما سواه, فهل يلحق بالكلب ما سواه مما يصاد به؟ الجواب: نعم لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الكلب؛ لأن غالب ما يصاد به في عهده هو الكلاب فإذا وجد غير الكلاب كالفهود وغيرها مما لا نعلمه ويعلمه متعهدو الصيد فإنه يحل, وهذا الحديث بالنسبة للآية أخص من الآية, والآية أعم, وهذا شيء قليل الوجود, الغالب أن النصوص النبوية تكون أعم, لكن في هذه الحال صار النص القرآني أعم من السنة لقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة: 4]. فالجوارح عام يشمل الكلاب وغيرها, لكن قلت لكم: إن تقييد السنة ذلك بالكلاب بمعنى أن ذلك هو الغالب. ومن فوائد الحديث: وجوب ذكر اسم الله تعالى على الكلب إذا أرسل لقوله: "فاذكر اسم الله عليه" وهل المراد: ذكر هذا اللفظ بعينه أو ذكر كل اسم يختص به الله؟ يعني: هل يجب أن تقول: باسم الله, أو يجوز أن تقول: باسم الرحمن, باسم الواحد القهار؟ الظاهر: الثاني أن المراد بذلك الثاني, وأنه إذا ذكر الإنسان أي اسم يختص بالله جائز, لكن من باب الاحتياط نقول: الأولى أن تقول: باسم الله. ومن فوائد الحديث: تيسير الشريعة؛ حيث كانت التسمية عند إصابة الصيد بل عند إرسال الجارحة السهم أو الكلب. ومن فوائد الحديث: وجوب تذكية الصيد إذا أدركه حيًا؛ لقوله: "فأدركته حيًا فاذبحه". فإذا قال قائل: لماذا؟ قلنا: لأن الإنسان الآن قادر على ذبحه فهو كالذي قدر عليه من قبل, فإن قيل: ما الفرق بين الذبح والصيد؟ قلنا: الصيد يحل بجرح في أي موضع من بدنه, والذبح لا يكون إلا في الحلق واللبة. ومن فوائد الحديث: أنه يشترط فيما صاده الكلب ألا يأكل منه لقوله: صلى الله عليه وسلم: "فإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله", فإن مفهومه أنه إن أكل فلا تأكل. ومن فوائد الحديث: أنه لا يشترط إنهار الدم فيما صاده الكلب؛ لقوله: "قد قتل", ولم يشترط أن ينهر الدم, وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء؛ فمنهم من أخذ بذلك وقال: إنه إذا جاء بالكلب وقد قتله ولو خنقًا فإنه يحل لقوله: "قد قتل", ولم يشترط إنهار الدم, ولم يقل: قد

ذبحه, ولم يقل: قد نحره مثلاً, وهي عندي محل توقف؛ لأنه تعارض فيها عموم هذا الحديث, وعموم قوله: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل", ويرجح الثاني -أنه لابد من إنهار الدم- أن عدم إنهار الدم وموت الحيوان ودمه فيه ضرر على الإنسان, والشارع ينهى عن كل ما فيه ضرر, فالظاهر أنه لا يحل إلا ما جرحه, إذا جرحه في أي موضع من بدنه فهو حلال. ومن فوائد الحديث: أننا إذا شككنا في شرط الحل فإنه لا يحل لقوله: "وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره وقد قتل فلا تأكل"؛ لأننا الآن تيقنا أن هذا الصيد قد مات إما بفعل الكلب المرسل أو بفعل الكلب المهمل أو بهما جميعًا, وشككنا في شرط الحل, والأصل عدم الحل, وليس هذا معارضًا لقولنا: إن الأصل في الحيوان الحل؛ لأن الحل في الحيوان يشترط لحله أن يذكي ذكاة شرعية. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى قاعدة معروفة عند العلماء وهي أنه إذا اجتمع مبيح وحاذر نغلب جانب الحذر, فهذا الذي قتل ونحن لا نعلم اشترك فيه الكلبان أو انفراد به أحدهما حصل فيه هذا الشيء اجتمع فيه مبيح وحاذر فغلب جانب الحذر. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنك لا تدري أيهما قتله", وهكذا ينبغي للمفتي أن يذكر ما يقتنع به المستفتي؛ لأنه إذا ذكر للمستفتي ما يقتنع به أخذ الفتيا بقلب مطمئن واستراح لها, ويمكن ذلك فتح باب للمناقشة, حتى لو كنت تعلم أنه مقتنع بما تقول وإن لم تعلل أو تلل, فالأحسن أن تعلل أو تدلل ما لم تخش بذلك اشتباهًا أو التباسًا؛ لأنه ربما لو لم يعلل للعامي يحصل ف ذلك التباس, العامي قل له: هذا حرام, هذا حلال, ودعه يذهب, لكن لو تقول: هذا حلال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا, وإذا كان في حديث آخر ظاهرة التعارض مع ما استدللت به قلت: ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا, ووجه الجمع بينهما: أن بينهما عموم وخصوص من وجه فيقدم هذا من جهة ... الخ, العامي يقول: ما هذا؟ لكن حسب الحال إذا كان عاميًا الأحسن أن نقول: حلالاً أو حرامًا, حتى لو كان في المسالة خلاف إن ترجح لك أحد القولين قل له ما ترجح عندك, وإذا لم يترجح عندك أحد القولين قل: هذا فيه خلاف, لو قال: أعطني الراجح, فهذه مشكلة يكون الإنسان في حيرة, فمثل هذا إذا كنت في بلد فيه من هو أعلم منك قل له: أسأل غيري وتسلم منه.

ومن فوائد الحديث: أننا إذا علمنا بعد اشتراك الكلبين في الصيد أن الذي قتله هو صيد المرسل فهو حلال لقوله: "فإنك لا تدري أيهما قتله". ومن فوائد الحديث: أن الشك في شرط الحل مؤثر في الحل, بمعنى: أن الإنسان إذا شك هل وجد شرط الحل أم لا؟ فإنه يكون حرامًا لقوله: "فإنك لا تدري أيهما قتله". ومن فوائده أيضًا: أنه إذا علم أن أحد الكلبين قتله ثبت الحكم, فإن علم أنه كلبه فهو حلال وإن علم أنه الكلب الآخر فهو حرام. ومن فوائد الحديث: جواز الرمي بالسهام؛ لقوله: "إذا رميت بسهمك ... الخ", ووجه الجواز: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله سببًا للحل, يتفرع على هذه الفائدة أنه ينبغي للإنسان أن يتعلم كيف يرمي ما دام الرمي مصدرًا للرزق فإن طلب الرزق مأمور به, وما توقف عليه المأمور به كان مأمورًا به على أن الأمر بتعلم الرماية له جهة أخرى وهي الجهاد في سبيل الله, ولهذا أباح الشرع فيه العوض والمراهنة, مع أن المغالبة بالرهان في غير ذلك لا يجوز إذ لا تجوز إلا في النصل والحافر والخف. ومن فوائد الحديث: أن محل الذكر عند إرسال السهم وليس عند إصلاح السهم ولا عند إصابة السهم, إنما هو عند الإرسال, أما كونه لا يكون عند إصلاح السهم؛ فلأن المدة تطول بين إصلاح السهم وبين رميه. وثانيًا: أنه لا يدري هل يرمي هذا السهم على صيد أو على عدو أراده أو على سبع أو كلب أو ما أشبه ذلك, وأما كونه لا يجب عند الإصابة, فلأن هذا من الأمور الشاقة أو المتعذرة, لهذا وضع الشرع -والحمد لله- عن هذه الأمة هذه المشقة. ومن فوائد الحديث: أنه إذا الصيد الذي أصابه السهم ثم وجده ولم يجد إلا أثر سهمه كان حلالاً حتى لو فرض أنه بقي ساعة أو ساعتين بعد إصابة السهم ثم مات فإنه حلال, بينما لو أدركه الإنسان عند إصابة السهم حيًا حياة مستقرة فإنه يجب عليه أن يذكيه, لكن هنا لما غاب صار تذكيته متعذرة, ولهذا سمح فيه حتى لو غلب على الظن أنه سيبقى نصف يوم في هذا الجرح ولم يجد فيه إلا أثر السهم فهو حلال, وهذا من باب التخفيف على الأمة؛ لأنه في هذه الحال عاجز عن تذكيته, والمعجوز عن تذكيته حكمه حكم الصيد. ومن فوائد الحديث: أنه يشترط لما غاب عن الرامي ألا يجد فيه أثرًا إلا أثر سهمه لقوله: "فلم تجد فيه إلا أثر سهمك". ومن فوائده: أنه إذا وجد فيه أثرًا سوى سهمه فإنه لا يحل, ولكن هل هذا على الإطلاق أو فيه تفصيل؟ ينبغي أن يقال: فيه تفصيل؛ وذلك لعلمنا بالعلة في عدم الحل وهي أننا لا

ندري أمات بسهمه أم بما أصابه من غيره؟ وبناء على ذلك إذا علمنا أن الذي أماته سهمه, وأن السهم الآخر إنما أصابه في رجل أو في جناح أو غير ذلك فهنا مقتضي الأدلة السابقة واللاحقة أنه حلال, وعلى هذا فيكون المفهوم لا عموم له, وهذه قاعدة مقيدة وهي أن المفهوم لا يتناول جميع الصور فيما عدا المنطوق, بل قد يكون في بعض الصور تفصيل وهذا كثير منها مثلاً: حديث ركانة حين طلق زوجته ثلاثًا في مجلس واحد, فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: "أفي مجلس واحد؟ " قال: نعم, قال: "هي واحدة", قال: طلقتها ثلاثًا يا رسول الله, قال: "قد علمت فإنها واحدة". قال شيخ الإسلام: وإنما قال: "في مجلس واحد"؛ لأنه إذا كان في مجالس فربما يكون راجعها بعد الطلقة الأولى ثم طلقها صارت ثانية, فإن راجعها من الثانية ثم طلقها الثالثة صارت ثالثة فبانت منه, يقول رحمه الله: فالمفهوم هنا لا عموم له؛ لأنه لو طلقها في غير هذا المجلس ففيه تفصيل أيضًا هذا نقول: إذا وجد فيه أثرًا غير أثر سهمه فيه تفصيل, فماذا نقول إن وجد فيه أثرًا غير أثر سهمه؟ فإن كان الأثر الثاني مميتًا فالصيد حرام؛ لأننا لا ندري أيهما قتله, وربما يغلب على ظننا أنه قتله غير سهمه إذا كان سهمه خفيفًا, وإن علمنا أن الذي أصابه تمامًا هو سهمه بحيث ضربه في قلبه وذاك في جناحه أو رجله فالحكم لسهمه فيكون حلالاً. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا غاب عنه الصيد فهو مخير, إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل؛ ولهذا قال: "كل إن شئت". قد يقول قائل: هذا كقول القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا. نقول: لا, هي لها فائدة قوله: "إن شئت"؛ لأنه إذا تركه عافته نفسه فلا يقال: إن هذا من باب إضاعة المال, وأنه لا يحل له أن يدع الأكل, بل نقول: له أن يدع الأكل؛ لأن الرسول قال: "إن شئت", ربما يكون هذا الصيد كبيرًا يساوي مائتين ريال أو أكثر فتكره نفسه حين غاب عنه, فنقول: الحمد لله لقد خيرت الرسول صلى الله عليه وسلم, قال: "إن شئت", بينما لو كانت نفسه لا تعافه لكان تركه إضاعة للمال ولا نصيده في ذلك. ومن فوائد الحديث: أنه إذا وجد الصيد غريقًا في الماء فلا يأكل, ولماذا؟ علله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر, قال: "فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك", ولهذا قال غريقًا, ما قال: إن وجده

صيد المعارض

في الماء؛ يعني: أننا نعلم أنه مات بالغرق, وعليه فإذا كان الجرح موحيًا؛ أي: قاتلاً, ووجدناه في الماء فهل نأكل؟ نأكل؛ لأننا نعلم أنه مات بالسهم وليس بالغرق. ومن فوائد الحديث: أنه لو وجد حريقًا في نار فهل يؤكل أم لا؟ في الواقع قد لا نستطيع العثور على الجرح, لكن إن أمكن أن نعرف أن الجرح هو الذي قتله فهو كالماء لكن لما كان الحريق أو المحترق لا يتبين فيه أثر السهم, قلنا: لا تأكل؛ لأن تبين أثر السهم بالحرق بعيد جداً بخلاف الغرق. ومن فوائد الحديث: الحكم بالظاهر, وأنه وإن احتمل شيئًا آخر فلا عبرة به؛ لأنه قال: "إن غاب عنك يومًا ولم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت", وهذا غالب أحكام الشريعة مبنية على الظاهر إلا إذا كان هذا الظاهر يستلزم إبطال شيء متيقن فإنه لا يلتفت إليه؛ لأن اليقين مقدم على الظن. مثاله: رجل وجد حركة في بطنه ثم أشكل عليه انتقض وضوؤه أم لا؟ وغلب على ظنه أنه انتقض وضوؤه فهل يجب أن يتوضأ؟ لا, ولهذا قلنا: ما لم يكن ظاهرًا مبطلاً ليقين فإنه لا يلتفت إليه؛ إذ أن الظاهر ظن, والظن لا يثبت به اليقين؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليه: أخرج منه شيء أو لا؟ قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحًا, والقاعدة عند العلماء: أن اليقين لا يزول بالشك. ومن فوائد الحديث: أن ظاهره لا فرق بين أن يصيبه السهم بعرضه أو بحده, ولكن هذا الظاهر غير مراد؛ لأنه سيأتينا أنه إذا أصاب بعرضه فهو ميتة, وإن أصابه بحده فهو حلال. صيد المعارض: 1283 - وعن عدي رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض, فقال: إذا أصبت بحده فكل, وإذا أصبت بعرضه, فقتل, فإنه وقيذ, فلا تأكل". رواه البخاري. هذا يقيد ظاهر الحديث السابق, أولاً: ما هو المعراض؟ المعراض هو عصا في رأسها حديدة محددة يصطاد به الناس كما قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} [المائدة: 94]. فهو رمح في الواقع, فيقذف به الصائد على الصيد, فإما أن يصيبه بحده, وإما أن يصيبه بعرضه, إن أصابه بحده يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فكل"؛ لأنه إذا أصابه بالحد مع قوة الرمي انجرح فأنهر الدم, وإن أصابه بالعرض فإنه لا ينجرح, وإذا قدر أن الصيد مات فقد مات بثقله لا بحده؛ ولهذا قال: "إنه وقيذ" وقوله: "عن صيد المعراض" هذا من باب إضافة الشيء

إلى آلته أو نوعه, وقوله: "فإنه وقيذ", "وقيذ" بمعنى: موقوذ, ولفظ الآية الكريمة {والموقوذة} [المائدة: 3]. وهي التي قتلت بشي ثقيل لا بشيء حاد. في هذا الحديث فوائد: منها: حرص الصحابة على التعلم حتى في مسائل غير الدين الأكل والشرب واللباس وغير ذلك, نجد أن الصحابة -رضي الله عنه- يسألون عن هذه الأمور, وهذا واجب على كل إنسان أراد أن يفعل شيئًا ألا يدخل فيه حتى يعرف أحكامه الشرعية لأجل أن يكون على بصيرة. ومن فوائد الحديث: أنه إذا كان المسئول عالمًا بمعنى السؤال فإنه لا يحتاج إلى استفهام, وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله عن المعراض؛ لأنه يعلمه, مع أن علماء اللغة اختلفوا فيه, لكن أقرب ما يقال فيه ما ذكرناه أنه عصا في رأسه حديدة محددة. ومن فوائد الحديث: جواز الصيد بالمعراض مع احتمال أن يصيب بالعرض أو بالحد, فلا يقال مثلاً: إذا كان فيه احتمال أن يصيب بالعرض فإن هذا لا يجوز؛ لأنه إيذاء للحيوان, أو لأنه يكون سببًا لإتلافه إذا لم تدركه فتذكيه, نقول: هذا مما أباحه الشرح مع احتمال أن يصيبه بعرضه. ومن فوائد الحديث: وجوب التفصيل في الفتوى إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فصل, وهذا إذا احتيج إلى ذلك يستفصل عن شرط الحكم, أما عن عدم المانع فلا يجب, ولهذا لو سألنا سائل: هلك هالك عن أب وأم وأخ لا نحتاج أن نقول: هل الأب موافق للميت في الدين أم لا؟ أو هل الأم كذلك أو هل الأخ, لا نحتاج, لماذا؟ لأن هذا استفهام عن عدم المانع ولا يجب لكن لو قال هلك هالك عن بنت وأخ وعم شقيق, فهنا يجب أن نسأل نقول: ما الأخ هذا؟ إن كان أخًا لأم فللبنت النصف والباقي للعم, والأخ من الأم يسقط بالبنت وإن كان الأخ شقيقًا أو لأب فالباقي له ويسقط العم, في هذا الحديث الذي وقع السؤال من عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فصل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب بعرضه فقتله فإنه وقيذ" فيستفاد من ذلك: أنه يجب على المفتي أن يستفصل فيما يحتاج إلى التفصيل لكن في شرط الحكم لا في انتفاء المانع. ومن فوائد الحديث: أنه لو أصاب المعراض بعرضه فأدركته وذكيته وفي حياة مستقرة حل, يؤخذ من قوله: "فقتل" يعني: مات بإصابته بعرضه, فإن هذا يعتبر قتلاً ولا يعتبر صيدًا مبيحًا للصيد. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علل منعه من الأكل بأنه وقيذ, وقد قال الله تعالى في المحرمات: {والموقوذة}.

تنبيه

ومن فوائد الحديث: جواز تقديم العلة على الحكم كما يجوز تأخير العلة عن الحكم وهو الأصل, الأصل تقديم الحكم ثم العلة أو الدليل, لكن قد يأتي أحيانًا فيقدم العلة أو الدليل فمثلاً لو قال قائل: أنا صليت الظهر ولكن لم أنو ظهرًا نويت عصرًا, قلنا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فصل الظهر, هنا قدمنا الدليل على الحكم ولا بأس أو نقول: صل الظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال ... الخ", وأيهما الأصل: تقديم الدليل أو الحكم؟ الحكم؛ لأن الحكم كالدعوى من المدعي الذي نقول له: هات بينة. هذا الحديث الذي معنا قدم فيه التعليل على الحكم؛ لأنه قال: "فإنه وقيذ فلا تأكل", لو فرض أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: فلا تأكل, هل يستفاد من الحديث التحريم؟ نعم, لقوله: "إنه وقيذ". تنبيه: إذا أمسك الكلب الصيد هل يجب غسل ما أصابه الكلب؟ معلوم أن الكلب لعابه من أخبث النجاسات يجب غسل ما أصابه سبع مرات إحداهما بالتراب, ومعلوم أنه إذا صاد الكلب صيدًا فلابد أن يصيب الصيد من لعابه فهل يجب غسله؟ اختلف العلماء في هذا, فمنهم من قال: أنه يجب غسله سبع مرات إحداهما بالتراب, قيل له: إذا وضعنا التراب على اللحم أفسده, قال: نجعل بدل التراب صابونًا أو شبهه مما يقوم مقامه, المهم: أنه لابد أن نغسله سبعًا إحداهما بالتراب, وقال آخرون: لا يجب غسله, فغسله من التنطح والتشدد, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون", وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وما بعده كل الصيادين تصيد الكلاب لهم, ولا نقل عن أحد منهم أنه كان يغسله, ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسله, القاعدة في الشريعة الإسلامية: أنه ليس في الدين من حرج -هذه واحدة-, القاعدة الأخرى: لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة, والرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين لكل هؤلاء الذين سألوه عن الصيد أنه يجب عليهم أن يغسلوه. فإذا قال قائل: قد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين ذلك لوضوحه. فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه ليس كل الصحابة, ولاسيما الصيادون الذين في البراري يعلمون حكم لعاب الكلب, ثم إن المسالة ملحة على أن يبين الحكم لو كان هذا واجبًا فإن قال قائل: اللعاب واحد, فكيف إذا ولغ من هذا الإناء؟ نقول: يلزمك أن تغسله سبع مرات إحداهما بالتراب, وإذا سال لعابه على الصيد لا يلزم واللعاب واحد والكلب واحد, هذا الكلب الذي قلنا الآن: إن صيده لا يجب غسل ما أصابه من فمه هو الذي شرب من الإناء, وشربه من الإناء نقول: يلزمه أن يغسله سبع مرات إحداهما بالتراب, وهذا نقول: لا يلزمه, نقول: نعم إن الله -سبحانه وتعالى- يودع الأشياء ما فيه مضرة في حال دون حال, وما يدريك أن الله عز وجل رفع عن عباده ضرر لعاب الكلب في هذه الحال التي

الصيد بالسهم وحكمه

يكون فيها الإلزام بالغسل حرجًا وشاقًا, أليست الحمير في أول النهار قبل أن تحرم من الطيبات الحلال, هذا الحمار بعينه الذي لو ذبحناه في الصباح أكلناه في المساء لما حرم صار نجسًا خبيثًا وهو لم يتغير, هو الحمار في أول النهار قبل التحريم, وبعد التحريم لكن الله عز وجل هو الذي بيده كل شيء, فهو -سبحانه وتعالى- يمكن أن يمنع ما كان ضارًا فلا يسري ضرره إلى المحل القابل للضرر؛ لأن الأمر بيده عز وجل كل شيء بيده, قد يعجز الأطباء عن مرض من الأمراض النفسانيون والجسديون وغيرهم ويشفه الله عز وجل بدون شيء؛ لأن الذي خلق للإنسان؛ أولاً: هو القادر على أن يرفع عنه, ثانيًا: كل الأمور بيد الله, فالقول الراجح ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أنه لا يجب غسل ما أصابه فم الكلب من الصيد وذلك للمشقة. أسألك: لو أن هذا الكلب بعد أن جاء بالصيد وألقاه بيد صاحبه جعل يأكل منه هل يجب علينا أن نغسل ما أصاب فمه؟ نعم؛ لأن هذا الأخير يمكن التحرز منه وليس فيه مشقة إذا تحرزنا أو طهرناه بعد أن يصيبه بخلاف ما كان عند صيده, فإن فيه مشقة ولا يمكننا أن نتحرز منه وكل شيء له حكمه. الصيد بالسهم وحكمه: 1284 - وعن أبي ثعلبه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميت بسهمك, فغاب عنك, فأدركته فكله, ما لم ينتن". أخرجه مسلم. هذا كحديث عدي رمى بسهم صيدًا فأصابه ثم غاب عنه ووجده بعد ذلك, فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فكل ما لم ينتن"؛ أي: ما لم تتغير رائحته بنتن, فإن تغيرت رائحته بنتن فلا تأكل, وهل نقول: إن هذا شرط زائد على ما في حديث عدي؛ لأن حديث عدي فيه أنه لم ير فيه إلا أثر سهمه؟ نقول: نعم هذا شرط زائد, ولابد من الشرط السابق الذي دل عليه حديث عدي. إذن فإذا وجده بعد أن رماه وغاب عنه يأكله إلا أن يجد فيه أثر غير أثر سهمه أو يجد نتنًا, أما الأول فلأنه شرط لحل الصيد لا يحل الصيد؛ لأنه جيفة, وأما الثاني فليس حلاً للصيد, فالصيد حلال وطاهر وليس بخبيث, لكنه إذا كان منتنًا فإن أكله ربما يضر بالصحة, فلهذا اشترط النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشرط, فيكون الشرط الأول الذي في حديث عدي شرطًا لحله الحل الوضعي؛ بمعنى: أنه لا يصح صيده إذا وجد معه صيدًا آخر, أما هذا فشرط لحله التكليفي؛ لأنه إذا كان منتنًا فإنه يضر وليس هذا شرطاً لصحة الصيد, ويظهر أثر الفرق بأن هذا الإنسان الذي غاب عنه الصيد حتى وجده منتنًا, نقول: إن الصيد طاهر والأول الذي وجد فيه جرح

التسمية على ما لم يسم عليه عند الذبح

آخر نقول: أن الصيد نجس؛ لأنه ميتة, فيكون النهي فيما أنتن لضرره, والنهي فيما إذا ما وجد فيه سهماً آخر لخبثه ونجاسته وكونه ميتة. يُستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: أن الصيد إذا غاب ثم وجد الصائد فإنه يحل أكله إلا إذا أنتن. ويستفاد منه: أن أكل اللحم المنتن ممنوع, إما منع تحريم, وإما منع كراهة, فإن كان النتن قوياً فإنه يكون حراماً, لأنه ظاهر, وإن كان خفيفاً فإن الغالب ولاسيما فيما سبق أن اللحم في أيام الصيف يسرع إليه التغير فلا يكون محرماً, بل يكون مكروهاً. فإن قال قائل: هل علاج لهذا النتن أن يذهب؟ الجواب: نعم, إذا طبخ طبخاً تاماً يزول النتن, فإن بقي له أثر فإنه ينهى عن أكله. ومن فوائد الحديث: حرص الشريعة الإسلامية على حفظ الصحة لقوله: «ما لم ينتن» , وعلى هذا فيجب على الإنسان المحافظة على صحته, ولا يقول: أنا حر إن شئت فعلت ما يضر بصحتي, وإن شئت لم أفعل, نقول: ليس كذلك, إن بدنك أمانة عندك ويجب عليك أن ترعاه أحسن رعاية, ولهذا قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا ضرر ولا ضرار» , بل أسقط الله عن الإنسان شرطاً من شروط الصلاة خوف الضرر كالطهارة بالماء, فإن الإنسان إذا خاف الضرر سقط عنه أن يتطهر بها سواء من الجنابة أو من الحدث الأصغر؛ لأنك مأمور بحفظ بدنك, ولهذا وجب على الإنسان المضطر أن يأكل وليس بالخيار, فإن يم يأكل فقد تعرض لقتل نفسه. التسمية على ما لم يسم عليه عند الذبح: 1285 - وعن عائشة رضي الله عنها: «أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوماً يأتوننا باللحم, ولا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا الله عليه أنتم وكلوه». "رواه البخاري". وفي لفظ آخر: «وكانوا حديثي عهد بكفر» أي: أسلموا قريباً, قولها: «كانوا حديثي عهد بكفر» كأنها تبين سبب السؤال لأنه لولا هذه الحال لكان سؤالهم: هل يأكلون اللحم أو لا تنطعاً وتعنتاً لكن إذا كانوا حديثي عهد بكفر فإنه قد يغلب على الظن أنهم لا يعرفون أن التسمية واجبة فيكون عند الإنسان شك. هذا الحديث استدل به بعض العلماء على أن التسمية ليست بشرط لقول النبي صلى الله عليه وسلم:

«سموا أنتم وكلوا»، مع أن السائلين قد شكوا في كون هؤلاء قد سموا أو لا، وهذا شك في شرط الحل لو كان شرطاً فلا تحل الذبيحة إذا شككنا هل الذابح قد سمى أو لا، ولكنه لا وجه للاستدلال بهذا الحديث على هذه المسألة لوجهين: الوجه الأول: أن هذا الحديث يحتمل ما قبل، ويحتمل أمراً آخر وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهم في أكله؛ لأن الأصل في الفعل الواقع من أهله أنه واقع على السلامة والصحة لا لأن التسمية ليست شرطاً، وعندنا أدلة أخرى صريحة في اشتراط شرط التسمية لحل الذبيحة، والقاعدة الشرعية: أنه إذا وردت نصوص فيها احتمال ونصوص أخرى لا احتمال فيها فالواجب حمل المحتمل على ما لا يحتمل وهو من المتشابه إلى المحكم وهذه طريقة أهل العلم والإيمان، أما أتباع المتشابه فهي طريقة أهل الزيغ، ولكن لا ينبغي أن يؤخذ من هذه العبارة أن المخالفين في وجوب التسمية المستدلين بهذا الحديث أنهم أهل زيغ؛ لأن منهم علماء أجلة نعلم أن عندهم من النصح للأمة والنصل لله ولكتابه ما ليس عند غيرهم، لكن نقول: هذه الطريق طريق زيغ ضالة غير صحيحة، عندك نصوص محكمة واضحة تريد أن تحملها على المتشابه هذا عكس ما يقتضيه الشرع والعقل، بل احمل المتشابه على المحكم حتى يصير الجميع محكماً، وحينئذ يترجح احتمال أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم في أن هذا الفعل وقع من أهله، والأصل فيما وقع من أهله أنه على السلامة حتى يتبين الفساد. في هذا الحديث فوائد: منها: اشتراط التسمية لحل الذبيحة، وجه ذلك: أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا، ولولا أنهم قد تقرر عندهم أن اللحم لا يؤكل إلا إذا ذكر اسم الله على الذبيحة ما سألوا، ولكن هذا متقرر عندهم. ومنها: ورع الصحابة- رضي الله عنهم-؛ حيث سألوا عن هذه المسألة المشكلة، وهذا يدل على ورعهم وتحريهم، فالورع من طريق الصالحين، وحقيقته: أن يدع الإنسان ما فيه مضرة في الآخرة، كل إنسان يدع ما فيه مضرة فإنه يعتبر ورعاً، والزهد أكمل من الورع، الزهد أن يدع ما لا نفع فيه في الآخرة، فكل ما لا نفع فيه من أمور الدنيا إذا تركه الإنسان فهذا زاهد، وكل ما فيه ضرر إذا تركه الإنسان فهو ورع. ومن فوائد الحديث: أن الفعل إذا وقع من أهله فإنه لا يسأل عنه؛ لأن الأصل السلامة، وإذا كان الأصل السلامة كان السؤال عنه تعتنا، ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض بهؤلاء السائلين حيث قال: «سموا أنتم وكلوا» كأنه يقول: لستم مسئولين عن فعل غيركم، فعل غيركم المسئول عنه الفاعل، أما أنتم فمسئولون عن فعلكم، ولهذا قال: «سموا أنتم وكلوا». ومن فوائد الحديث: وجوب التسمية على الأكل لقوله: «سموا أنتم وكلوا» وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال إن التسمية على الأكل والشرب سنة، ومنهم من قال:

فائدة: حكم اللحوم المستوردة من بلاد الكفار

إنها واجبة؛ والصحيح أنها واجبة، وأنه يجب على الإنسان إذا أكل أو شرب أن يسمي؛ وذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، حتى إنه أمر الغلام الصغير وهو عمر بن أبي سلمة حين كان يأكل مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك»، ولأن الإنسان إذا ترك التسمية شاركه الشيطان في أكله، فيشاركك أعدى عدو لك في أكلك إذا لم تسم، وإذا سميت صارت تسميتك حصنا منيعاً تمنع الشيطان من مشاركتك، فالصواب: أن التسيمة على الأكل والشر واجبة. فإن قال قائل: إذا نسيت أن أسمي في أول الأكل وذكرته في أثنائه فماذا أصنع؟ نقول: قل: باسم الله أوله وآخره كما جاء في الحديث، واستمر فإذا انتهى الإنسان من الأكل ولم يذكر إلا بعد أن انتهى ماذا يقول؟ يقول: الحمد لله؛ لأن التسمية فات محلها، وقد قال الله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. فائدة: حكم اللحوم المستوردة من بلاد الكفار: ومن فوائد الحديث: أن هذه الشريعة مسيرة؛ حيث إننا لا نطالب بالسؤال عن فعل غيرنا؛ لأننا لو طولبنا للحقتنا بهذا مشقة عظيمة، أذكر لكم مثالا: وجدنا لحما يباع في السوق لو كان يلزمنا أن نبحث لبحثنا عن الذابح هل هو يصلي أو لا يصلي، ثم بحثنا هل سمى أم لم يسم؟ ثم بحثنا هل أنهر الدم أم لم ينهر الدم؟ ثم بحثنا عن الذبيحة هل هي ملك له أو لمن استنابه في ذبحها أو لا؟ ثم إذا قال: هي ملك لفلان، نقول: من أين جاءته؟ اشتراها من فلان، وهل فلان هو مالك حين باعها أو قائم مقام المالك؟ قالوا: نعم، ثبت، قلنا: ممن اشتراها؟ قالوا: من فلان، فهل هو مالك، إلى أن نصل أول ما خلق الله الذبائح، لكن من نعمة الله عز وجل أن فعل غيرنا لا نكلف به. يبقى عندنا الآن هذه الذبائح التي تردنا من الخارج هل من الحق أن نسأل من الذابح؟ نعم، إذا كانت وردت من بلاد يمكن أن يتولى ذبحها من يحل ذبحه أو من لا يحل فلابد أن نسأل عن الذابح، إذا قيل لنا: الذابح من أهل الكتاب هل لنا أن نسأل كيف يذبح؟ لا، هل سمي؟ لا هل ذكر اسم المسيح أو غيره؟ لا؛ لأنه ما دام ثبت عندنا أنه ممن يحل ذبحه فليس لنا أن نسأل كيف ذبحها ولا هل سمى أو لا؟ ويعتبر السؤال عن هذا من باب التعنت والتنطع. فإن قال قائل: هو ورد من دولة فيها أهل كتاب وفيها مشركون وفيها ملحدون، نسأل من الذي يتولى الذبح، إذا قالوا: الذي يتولى ذبحها في المذابح كتابيون ماذا نقول؟ هي حلال

حتى لو كانت البلد شيوعية، إذا علمنا أن الذي يتولى الذبح كتابيون أو مسلمون؛ لأنه يوجد الآن مسلمون في بلاد شيوعية يتولون المذابح إذا قالوا: إنهم مسلمون أو كتابيون، قلنا: هي حلال، فإذا قال: لا ندري من يتولى الذبح أهم مشركون وثنيون أو كتابيون أو مسلمون لا ندري والبلد خليط من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء، فماذا نصنع؟ نقول: الأكثر، إذا كان الأكثر يمكن أن يتولى الذبح، فإن كان الأكثر هم التجار والأغنياء والذين لا يمكن أن يتولوا الذبح فلا عبرة بالأكثرية هنا، لأننا نعتبر الأكثر فيما إذا كان الاحتمال وارداً أن يكون الذابح هو الأكثر أم لا، وإذا كنا نعلم أن الأكثر هم الكبار الأغنياء الذين لا يمكن أن يتولوا الذبح سقط الترجيح بالأكثرية حينئذ، ويبقى الآن أنه يوجد صعوبة إذا سقطت الأكثرية أو إذا سقط الترجيح بالأكثر سيبقى الأمر مشكلاً تماماً، فنقول في هذا الحال: اترك لا تأكل لكن أنا أخبركم بالنسبة للبلاد السعودية أنه جرى مناقشة هذا الأمر في هيئة كبار العلماء ودعوا وكلاء الوزارة مرة أو مرتين يسألونهم كيف ترد إلينا هذه الذبائح؟ فقالوا: إن هناك أناساً موكلين بالإشراف، وأنه لا يمكن أن يرد إلى المملكة إلا ما أشرف على ذبحه وأنه بطريق شرعي ونحن في ذمة غيرنا، لكن من أراد أن يسلك الورع فهذا شيء آخر بشرط أن يكون للورع محل، أما إذا كان الورع من باب التنطع فإنه ليس بورع. فإن قال قائل: وهو يورد الكتابيون في الوقت الحاضر ملاحدة لا يؤمنون إيمان عيسى ولا إيمان موسى. قلنا: ولو كان الأمر كذلك ما داموا ينتسبون إلى اليهودية أو النصرانية، فإنهم وإن كانوا مشركين ذبائحهم حلال، والدليل أن الله تعالى قال في سورة المائدة: {وطعام الذين أوتوا الكتب حل لكم وطعامكم حل لهم} [المائدة: 5] وقال في نفس السورة {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] فكفرهم عز ووجل مع أنه حكم بحل ذبائحهم؛ لأنهم ينتسبون إلى هذا الدين، ثم نقول: مجرد ما يبقون على دينهم بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا كفاراً، أي: بمجرد ما يأبون دخول دين الإسلام، فالمسألة ليست مسألة كفر وإيمان، هم وإن طبقوا اليهودية والنصرانية مائة في المائة فهم كفار بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسألة ليست مسألة كافر أو مؤمن، بل المسألة أنه منتسب لأهل الكتاب، إذا انتسب لأهل الكتاب حلت ذبيحته وإن كان ملحداً في دينه.

ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يضيق على نفسه في الأمور التي أطلقها الله ورسوله؛ لأن التضييق على النفس يوجب الحرج والمشقة سواء كان ذلك في تبيان الحكم أو العمل، فإن الإنسان إذا شق على نفسه شق الله عليه كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشددوا فيشدد الله عليكم»، سواء كان ذلك في الحكم أو في التطبيق، فمثلاً في التطبيق بعض الناس يتشدد في الطهارة أو في أقوال الصلاة أو في أفعالها فيشدد الله عليه، فبدلاً من أن يغسل يديه ثلاث مرات يغسلها ست مرات؛ لأنه شدد على نفسه أو في العمل، تحده مثلاً في العمل يريد أن يشدد يقرأ القرآن بالتجويد كما زعم فتجده عند خروج الحاء يخرجها حتى يكرها كراً في حلقومه، وربما تأخذه السعلة من أجل هذا عند القلقلة يقلقل حتى كأنما قلقل رجليه من الأرض، وهكذا أيضا في بقية القواعد التجويدية فيتنطع ويزيد على المشروع، فإذا شدد، شدد الله عليه، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أقل الناس تكلفاً ليس عندهم تكلف لا في العمل ولا في التطبيق، كذلك إذا شدد الإنسان، شدد الله عليه في الحكم، بمعنى: أنه قد يوجب على نفسه ما لم يوجب الله عليه إذا كان قد انتهى زمن التشريع، وقد يوجب الله عليه ما لم يجب إذا كان في زمن التشريع؛ ولهذا امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة في رمضان صلاة التطوع، وقال: «إذا خشيت أن تفرض عليكم» يعني: أن تلتزموا بها فتفرض عليكم، ولما أمر موسى- عليه الصلاة والسلام- قومه أن يذبحوا بقرة ما رأيكم لو أخذوا أي بقرة وذبحوها أكان يجزئ؟ يجزئ، ولو فعلوا هذا لسهل عليهم الأمر، لكن قالوا: {ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} [البقرة: 68] ما هذه البقرة، ما عملها، ما سنها، ما لونها؟ قال في الجواب الأول: {لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون} [البقرة: 68] لكن ما فعلوا، فجاء السؤال عن اللون ما لونها، قال: {إنها بقرة صفراء ليست صفراء فقط فاقع لونها- كالذهب تسر الناظرين} [البقرة: 69] ثلاثة أوصاف: صفرة، فقوع اللون، سرور الناظرين، هذا فيه تشديد ما انتهوا، وفي هذه الآية ما قال: افعلوا ما تؤمرون لأن الذين عتوا في الأولى سيعتون في الثانية، قالوا: {ادع لنا ربك لنا ما هي إن البقر تشابه علينا} أفهامهم حجر، وقالوا: {وإنا إن شاء الله لمهتدون} [البقرة: 70] ما جزموا، قال: {إنه يقول إنها بقرة إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها} أي: لا عيب فيها، ثم صاروا هم الحكام وليس موسى هو الحاكم، قالوا: {الئن جئت بالحق} هم الذين حكموا بأن هذا هو الحق، {فذبحوها وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71] فالمهم: أن الإنسان إذا شدد على نفسه فإنه يشدد عليه مثلا ظن أن ظروف ثوبه

النهي عن الحذف

نجاسة ظن قال: أحتاط وأغسله فرشش الماء، وظل هكذا حتى يغسل الثوب كله من أجل هذا؛ لأنه شدد على نفسه، فإذا شدد على نفسه شدد الله عليه، وهكذا أيضاً في طريق الموسوسين أشياء غريبة لكن لو أن الإنسان قطع هذا الأمر وأخذ بالأيسر سهل الله عليه، فهذا الحديث أصل في أن الإنسان لا ينبغي أن يشدد على نفسه ولا يسأل عن فعل غيره ما دام الفعل قد وقع من أهله فهو سليم صحيح. النهي عن الحذف: 1286 - وعن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف، وقال: إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكأ عدوا، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين» متفق عليه، واللفظ لمسلم. «نهى»، النهي معناه: طلب الكف عن العمل على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة وهي المضارع المقرون ب «لا» الناهية، فقولنا: «طلب الكف» خرج به الأمر، لأن الأمر طلب الفعل، وقولنا: «على وجه الاستعلاء» خرج به الالتماس والدعاء، وقولنا: «بصيغة مخصوصة» خرج بذلك ما كان بمعنى النهي من ألفاظ الأمر مثل دع واترك واجتنب، هذا بمعنى النهي، ولكنه ليس نهيا بل هو أمر. وقوله: «نهى عن الخذف» «الخذف» هو الرمي بحجر صغير يوضع بين السبابة والوسطى ثم هكذا يدفع، ويطلق أيضا على المقلاع، وهو عبارة عن حبل ممدود تمسك طرفاه بواسطة شيء مثل القبة توضع فيه الحجر ثم يديره الإنسان بقوة ويطلق أحد الطرفين فتنطلق الحصاة بسرعة، هذا أيضا من الخذف فقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك ما سنذكره في الفوائد، وعلل النهي بقوله: «إنها لا تصيد صيداً» وهذا هو الشاهد من الحديث، يعني: لو أصابت الصيد فقتلته فإنه لا يحل؛ لأنها إنما تقتله بالثقل، «ولا تنكأ عدوا» أي: لا تدفع العدو، فإن العدو لا يرمي بمثل هذا، إذ إن هذا لا يفيد شيئاً «ولكنها تكسر السن» إذا أصابته «وتفقأ العين» إذا أصابتها، فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه لا خير فيها، وأنها تجلب سوءا، وإذا كان كذلك فإن أحد الأمرين موجب للنهي عنها وهي أنها لا تنكأ عدوا ولا تصيد صيداً فتكون لغوا لا فائدة منها، وإذا كانت تفقأ العين وتكسر السن صار فيها مضرة. ففي هذا الحديث فوائد: أولاً: النهي عن الحذف، وهل هو للتحريم أو للكراهة؟ الأظهر أنه للكراهة ما لم يتحقق الضرر الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهي أنها تفقأ العين وتكسر السن، وذلك بأن

يكون أمامنا ناس نخشى أن يصيبهم هذا الحجر الصغير فيفقأ العين وبكسر السن، ويقاس على الخذف ما يعرف عندنا الآن بالنباطة هذا أيضاً من جنسه؛ لأنه لا يصيد الصيد ولا ينكأ العدو. ومن فوائد الحديث: أن من أصيب بحصى الخذف فإنه لا يحل لقوله: «لا تصيد صيداً» لكن لو أدركه حياً فذكاه فإنه يحل؛ لأن هذا يشبه الموقوذة التي قال الله تعالى فيها: {إل ما ذكيتم} [المائدة: 3] فإّا أردك الصيد وذبحه وخرج منه الدم الحار الأحمر فهي حلال سواء تحركت أم لم تتحرك؛ فمثلاً: إذا أصاب صيدا بحصى الخذف ثم سقط وأدركه قبل أن يموت وذبحه وسال منه الدم الأحمر الحار فهو حلال، لأنه أنهر الدم، ولا فرق بين أن يتحرك أو لا يتحرك، وقيل: إنه لابد أن يتحرك؛ لأن كون يذكى ولا يتحرك يدل على أنه انهارت قواه وخرجت روحه، ولكن الصحيح الأول. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث إنه إذا ذكر الحكم ذكر الحكمة، وهذا فرد من آلات الأفراد من قوله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113]. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي أن نقابل أعداءنا بسلاح لا ينفع فإن هذا من التهور الذي يكون سببا للتدهور، بل نقابله بمثل سلاحه أو أعظم لقوله الله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال: 60] ومن هنا نعرف أن ما يفعله بعض الناس في المدن الإسلامية وغير الإسلامية من الفئات القليلة التي لا تملك من السلاح ما تملكه حكوماتهم ثم يخرجون على الحكومة نرى أن هؤلاء مخطئون بكل حال، حتى لو فرض أن الحكومة كافرة مائة في المائة فإنه لا يجوز الخروج عليها في مثل ذلك، لأن هذا سوف يكون إساءة إلى الإسلام وانتصاراً لهذه الطائفة الكافرة إذا قدر أن الحكومة كافرة، وجه ذلك: أنهم سيغلبون والعلم عند الله إذا غلبوا حينئذ قدر على البقية من المسلمين وانتصرت هذه الدولة التي يعتقد هؤلاء أنها كافرة، وهذا أمر ظاهرة حتى من الناحية العقلية، أما من الناحية الشرعية فانظر إلى حكمة أحكم الحاكمين حيث لم يأمر ولم يأذن للمسلمين في مكة أن يجاهدوا أو يقاتلوا لم يأذن لهم إلا بعد أن انتقلوا إلى المدينة وصار لهم دولة، والإنسان يجب عليه أن يتأمل قبل أن يقدم ما هي

النهي عن اتخاذ ذي الروح غرضا

النتيجة وما هي الفائدة، والأحداث تشهد بأنه لا نتيجة ولا فائدة بل تشهد أيضا شهادة واقعية أن أولئك الذين يخرجون على أئمتهم بحجة أنهم يريدون أن ينتصروا للإسلام وأن أئمتهم على الضلال والكفر نرى أن الحال تنعكس وتكون أسوأ بكثير مما سبق، ولا حاجة إلى التشخيص والتعيين، تأملوا كل البلاد التي حصلت فيها الثورات يتمنى شعوبها الآن أنهم كانوا على الحال الأولى، يتمنون بقلوبهم ولكنن لا يحصل. إذن يؤخذ من هذا الحديث: أنه لا ينبغي أن نقاتل العدو بسلاح هش ردئ لا ينفع ولا ينكأ العدو. ويستفاد من هذا الحديث: تجنب ما يكون ضرراً على الغير لقوله: «ولكنها تكسر السن» إذا أصابته، وكذلك قوله: «وتفقأ العين» وهذا ضرر، فالواجب اتقاء الضرر، ثم إن الضرر إن كان متيقنا أو راجحا فالنهي للتحريم. النهي عن اتخاذ ذي الروح غرضاً: 1287 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً» رواه مسلم. هذا أيضاً نهي، والدليل على أنه نهي: جزم الفعل بعد «لا»، وقوله: «شيئا فيه الروح» قيد، ولم يقل: شيئا مطلقا، قال: «فيه الروح غرضاً»؛ أي: هدفاً يرمى إليه بأن ينصب أمام الناس، ويقال الآن نترامى عليه، وإنما نهى عنه صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من إيلامه وعدم الضرورة إليه؛ لأنه من الممكن أن يتخذ غرضاً ليس فيه الروح ليس من الضرورة أن نجعل ما فيه الروح غرضاً. ففي هذا الحديث: النهي عن اتخاذ ما فيه الروح غرضاً، والنهي للتحريم لما فيه من أذية الحيوان بدون ضرورة إليه. ومن فوائد الحديث: أن الدين الإسلامي كما يرحم الإنسان يرحم الحيوان، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» أي: ما كان قوته واجباً عليه فكفى به إثما أن يضيعه. ومن فوائد الحديث: أنه لو مات الحيوان كالطير مثلاً وجعل غرضاً فلا بأس به، لكن هذا المفهوم مقيد بما إذا لم يكن ذلك متضمناً لإفساد المال، فإن كان متضمناً لإفساد المال بمعنى: أن هذا الطير الذي جعلناه غرضاً بعد أن مات يتخرق ويفسد لحمه فإنه ينهى عنه من هذه الناحية أن في ذلك إفساد للمال.

حكم ذبح الحجر وذبح المرأة الحائض

ومن فوائد هذا الحديث: الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون للرماة غرضاً يترامون إليه؛ لأن هذا هو الذي يحصل به تعلم الرمي، وكثير من الناس يصيب الهدف بما يريد أن يصيبه فيه من أعلاه أو من أسلفه أو من يمينه أو شماله، حتى إنه حدثنا بعض الناس أن من الرماة من يجعل البيضة على صدر ابنه ثم يرمي إليها فيصيب البيضة ويسلم الولد، وهذا يعني: أنه يبلغ من الإصابة غايتها؛ إذ إن رجلا يفعل هكذا يخشى عليه أن ترتعد فرائضه؛ لأن أمامه ابنه ومع ذلك يتحكم إلى هذا الحد، وهذا أمر معروف مشهور عندنا نحن لم نشاهده لكنه اشتهر عند الناس وإن كنا لا نحبذ هذا الأمر؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشير الرجل بحديدة إلى أخيه فهذا أشد خطراً لكننا نحكي الواقع، وحكاية الواقع لا يعني إقراره، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم اليهود والنصاري» وحكايته إياه لا يدل على إقراره، فالحاصل: أنه إذا مات ما فيه الروح جاز اتخاذه غرضاً بشرط ألا يؤدي ذلك إلى إفساد المال. فإن قال قائل: يعزم معلمو الصيود اليوم أنه لا يمكن أن يتعلم الصيد حتى تطلق أمامه حمامة أو نحوها، فهل إطلاقها جائز، أو نقول: هي مثل هذا الحديث أنه يتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً لكنه اتخذه غرضا للصيد فهل نقول: إنه يدخل في هذا الحديث دخولا لفظياً أو دخولا معنوياً؟ الجواب: أن الظاهر أنه لا يدخل في الحديث إذا لم يمكن تعليم الصيد إلا بذلك والفرق بينه وبين السهم: أن السهم يمكن أن تجعل شيئاً ليس فيه الروح غرضاً أما هذا فلا يمكن أن نعرف أن نعلم الصيد إلا بهذا. حكم ذبح الحجر وذبح المرأة الحائض: وعن عكب بن مالك رضي الله عنه: «أن امرأة ذبحت شاة بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمر بأكلها» رواه البخاري. هذا الحديث ساقه البخاري رحمه مختصراً، والقضية التي وقعت أن جارية كانت ترعى غنماً بتل قريباً من المدينة، وكان في ذلك الوقت محل الرعي، الآن كله عمائر، كانت ترعى الغنم فأصاب الذئب شاة منها فأدركته أخذت حجراً له حد فذبحتها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها. وهذا الحديث فيه فوائد ذكرنا أظن فوق العشرة في كتابنا «الأضحية والذكاة» عشر فوائد تؤخذ من هذا الحديث نأخذ منها ما تيسر. أولاً: فيه دليل على جواز الذبح بالحجر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك، حيث أمر بأكل الذبيحة

فائدة في ذبح ملك الغير وحله

به، لكن يشترط أن يكون الحجر ذا حد لقول النبي صلى الله فيما سبق: «ما أصاب بحده فكله وما أصاب بعرضه فلا تأكله» هنا الحجر لابد أن يكون له حد، ولأنه لا يمكن أن ينهر الدم إلا إذا كان له حد. ومن فوائد الحديث: جواز ذبح المرأة، وجه ذلك أن الرسول أقر ذلك. ومن فوائده: أنه يجوز ذبح المرأة الحائض، هنا ذبح مصدر مضاف إلى الفاعل، يعني يجوز للحائض أن تذبح وجه الدلالة أنه لم يستفصل، وأخذ العلماء من ذلك أنه يجوز ذبح الجنب قالوا: لأن حدث الحيض أعظم من حدث الجنابة، ولكن هذا القياس فيه نظر؛ لأن موجبات الحيض أدنى من موجبات الجنابة بمعنى: أن الحائض لا تمنع دخول الملائكة والجنب لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب فالجنابة تبعد الملائكة والحيض لا تبعد الملائكة، ولكن على كل حال الأصل في ذبح الجنب أنه حلال سواء قسناه على الحائض أو جعلناه مستقلاً. فائدة في ذبح ملك الغير وحله: من فوائد الحديث: جواز تصرف الأمين فيما فيه المصلحة، وإن أدى إلى التلف ليس التلف الكامل- البعض الدليل أن الجارية تصرفت لأنها أمينة تصرفت وذبحت الشاة مع أن صاحب الشاة لم يأذن لها ولم يقل: إن أصابها شيء فاذبحيها؛ لأن هذا من المصلحة ويدل لهذا أيضاً قصة الخضر حين ركب السفينة فخرقها قال له موسى: أخرقتها لتغرق أهلها، فأخبر أنه خرقها لأن وراءه ملكاً يأخذ كل سفينة غصباً. إذا قال قائل: أنتم تقولون: فيه دليل على جواز تصرف الأمين بما فيه مصلحة، وإن لم يؤذن له فهل أردتم بالجواز ما يقابل المنع أو أدرتم بالجواز ما استوى فيه الأمران؟ الجواب: الأول أردنا ما يقابل المنع وهل هنالك فرق بين العبارتين؟ إذا قلنا: المراد بالجواز استواء الطرفين صار هذا الأمين إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وإذا قلنا: المراد بالجواز ما يقابل المنع صار واجباً على الأمين إذا خشي التلف أن يتصرف وهذا هو المراد، يعني: يجب على الأمين إذا خاف التلف فيما اؤتمن عليه أن يفعل ما هو أقرب إلى الصلاح، وعلى هذا فقولنا: جواز تصرف الأمين فيما فيه المصلحة وإن لم يأذن له صاحبه في مقابل المنع وليس معناه استواء الطرفين. ومن فوائد الحديث: أن ما أصابه سبب الموت فأدرك فهو حلال، وجه ذلك: أن هذه الشاة عدا عليها الذئب فأكلها لكن هذه الجارية أدركت البهيمة حية وذبحتها. ومن فوائد الحديث: أن الفعل إذا جرى من أهله فإنه لا يسأل عنه، ولهذا لم يسأل النبي

شروط الذبح

صلى الله عليه وسلم هل هذه المرأة سمت الله عليها أم لا؟ بل أمر بالأكل لأن الأصل في الأفعال الواقعة من أهلها السلامة وصحة التصرف. ومن فوائد الحديث: ورع الصحابة- رضي الله عنهم- حيث لم يأكلوها حتى سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بأكلها. ومن فوائد الحديث: أن الأمر يأتي بمعنى الإذن لأن قوله: «أمر» ليس معناه أمر تعبدي بمعنى أنه يلزمهم أن يفعلوا ذلك ولكنه أمر بمعنى الإذن، وهكذا كل أمر بعد استئذان فهو للإباحة وليس للوجوب ولا للاستحباب إلا بدليل خارجي أما مجرد الأمر الواقع جواباً للاستئذان فإنه يكون للإباحة وهذا هو الأصل. شروط الذبح: 1289 - وعن رافع بن خديج رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر؛ أما السن؛ فعظم: وأما الظفر: فمدى الحبشة» متفق عليه. قوله: «ما أنهر الدم» هذه ما شرطية، «وأنهر» فعل الشرط وفاعله مستتر جوازاً تقديره هو «والدم» مفعول به وقوله: «وذكر اسم الله عليه» معطوف على فعل الشرط، وقوله: «فكل» هذا هو جواب الشرط واقترنت الفاء به لأنه طلب وإذا كانت جملة الجواب طلباً وجب اقترانها بالفاء وعلى هذا بيت مشهور فيما يجب اقترانه بالفاء: (اسمية طلبية ويجامد ... وبما ولن وبقد وبالتفيس) من أي هذه الأحكام السبعة هنا في الحديث؟ الطلبية وقوله: «ليس السن» ليس هذه أداة استثناء واسمها مستتر وجوباً، وليس كما نعلم يستتر اسمها وجوباً إلا إذا كانت أداة استثناء فإن اسمها يكون اسمها مصدرا وجوباً، والسن خبرها، وأما قوله: «فأما السن» فأما هذه حرف شرط وتفصيل، والسن مبتدأ وعظم خبر المبتدأ، ويقال: كذلك في «فأما الظفر فمدى الحبشة» يقول النبي صلى الله عليه وسلم أي شيء أنهر الدم من حديد وخشب ورصاص وذهب وفضة، أي شيء أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، واستفدنا العموم من أداة الشرط لأن جميع أدوات الشرط الأسمية تفيد العموم كل اسم شرط فإنه مفيد للعموم، وعلى هذا فيشمل كل ما أنهر الدم من أي مادة كان الزجاج يدخل في هذا، ويدل على العموم الاستثناء حيث قال: ليس السن والظفر، وقد ذكر الأصوليون ضابطاً في هذه المسألة فقالوا: الاستثناء معيار العموم وهذا واضح لأن الشيء إذا

تناول أشياء كثيرة ثم أخرج منه بعض الأفراد علم أن ما سوى هذا المخرج داخل في اللفظ لكن لو قال قائل: العموم يستثنى منه الذهب والفضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في صحائفهما والشرب في صحائفهما قلنا النهي الوارد في الأكل والشرب ولا يصح أن يقاس غيرهما عليهما لظهور الفرق وحتى لو قلنا بتحريم ذلك فإنه لا يلزم من تحريمهما؛ أي: تحريم استعمالهما فهو حرام حتى في تقشير البصل يكون حراماً فليس تحريم ذلك خاصاً بالذبيحة وعلى هذا فالذبيحة حلال مع تحريم الفعل على القاعدة أن النهي العام لا يقتضي بطلان الخاص. وقوله: «ذكر اسم الله عليه» «ذكر» لم يبين من الذاكر، ولكن الأحاديث السابقة في الصيد تدل على أن الذكر لابد أن يكون من الفاعل فيكون المراد بذكر اسم الله أن يكون الفاعل هو الذاكر فلو أن أحداً ذبح وآخر ذكر فالذبيحة حرام، وقوله: «اسم الله» هل المراد هذا اللفظ المعين الذي هو لفظ الجلالة أو أنه عام لأن «اسم» مفرد مضاف إلى الرب عز وجل فيشمل كل اسم من أسماء الله؟ فالجواب الثاني إذا ذكر اسم الله الخاص به فإنه يحصل به المقصود وقوله: «فكل» الأمر هنا للإباحة، ولكن لا يعني ذلك أنه يجوز أن ترمى هذه الذبيحة، لأن رميها إفساد للمال وإضاعة له لكن نقول: لا يلزم أن تأكل، ممكن أن تبيعها على أحد ولا تأكل، وعلى هذا فيكون الأمر للإباحة على كل حال لكن لا يعني ذلك جواز ترك الأكل ورميها بدون فائدة. وقوله: ليس السن والظفر، السن هنا مطلق فهل نقول: إن المراد به سن الإنسان أو سن الحيوان؟ وهل المراد المتصل أو المنفصل؟ بمعنى لو وجدنا سناً منفصلاً وذبحنا به لم يدخل في الاستثناء أو هو عام؟ الظاهر أنه عام لأنه ليس هناك قرينة تدل على التخصيص وعلى هذا فيتناول السن على أي وجه كان سواء كان متصلاً أو منفصلاً وسواء كان من إنسان أو من حيوان أي: سن يذبح به فإنه لا تحل الذبيحة. وقوله: الظفر ما المراد به؟ هل المراد ظفر الإنسان أو يشمل ظفر الإنسان والحيوان؟ وهل المراد المتصل أو المنفصل؟ الظاهر أن المراد ظفر الإنسان ويؤيد هذا قوله: أما الظفر فمدى الحبشة؛ لأن الحبشة هم الذين يطيلون أظفارهم ويذبحون بها وإلا لقلنا: إن الظفر عام كما قلنا إن السن عام. في هذا فوائد: منها: اشتراط إنهار الدم لحل الذبيحة وجه ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم علق حل الأكل على إنهار الدم، والمعلق على شرط لا يتم إلا بوجود ذلك الشرط، فلابد من إنهار الدم وهذا أصرح حديث فيما يجب قطعه عند الذبح.

وهذه المسألة اختلف العلماء- رحمهم الله- فيها هل يكفي إنهار الدم بدون قطع الحلقوم والمريء أو لابد من قطع الحلقوم والمريء؟ وهل إذا قلنا: لابد من قطع الحلقوم والمريء يكتفي بهما عن إنهار الدم أو لابد مع ذلك من إنهار الدم. نقول: إن الحديث ظاهر في أنه لابد من إنهار الدم وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلقوم هو مجرى النفس وعن المريء الذي هو مجرى الطعام سكت عنه. قد يقول قائل: سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عنها لأن من أنهر الدم من الودجين فقد قطع الحلقوم والمريء إذ إن الحلقوم أبرز من الودجين فإذا قطع الودجين فلابد أن يقطع الحلقوم والمريء، فيقال: هذا ليس بصحيح؛ إذ قد يقطع الودجين دون أن يقطع الحلقوم والمريء مثل أن يقطعها بمبراة صغيرة يقطع العرق وكذلك العرق الآخر فليس بلازم أنه إذا قطع الودجين قطع الحلقوم والمريء. وليعلم أن أكمل الحالات أن يقطع الأشياء الأربعة: الودجين والحلقوم والمريء هذا أطيب شيء وأذكى شيء يحصل بذلك إنهار الدم وقطع مادة الحياة التي هي الحلقوم والثاني المريء لأن الحلقوم به قطع النفس والمريء قطع الطعام والشراب وبالنفس والشراب تكون الحياة كما أن بالدم تكون الحياة فأكمل ذلك أن تقطع الأربعة. يلي هذا أن تقطع الودجين والحلقوم فإن الصحيح أن الذبيحة تحل بقطع الودجين والمريء يلي ذلك أن تقطع الودجين مع المريء وهذه صعبة لأن المريء داخل الحلقوم، يعني: تحته لكن قد يكون مثلا إنسان رمى بندقية وأصابت الودجين، يعني: رماها لأنه غير قادر على الذبح أو قادر ولكن أصاب الودجين والمريء المهم يكون هذا هو المرتبة الثالثة. المرتبة الرابعة: قطع الودجين فقط وهذا أيضاً تحل به الذبيحة، الدليل أن في ذلك إنهار للدم ولهذا إذا قطع الودجين فإنه يراهما يشحبان دماً. المرتبة الخامسة: أن يقطع المريء والحلقوم دون الودجين ففي حل ذلك خلاف والمشهور من المذهب أنها تحل وأن الشرط هو قطع الحلقوم والمريء وإن لم يقطع الودجين لكن القول بالحل هنا فيه نظر، وجه النظر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه» وهذا لا ينهر الدم، صحيح أنه بعد مدة طويلة يموت الحيوان لأنه ينضب الدم لكنه لا ينهره وأيضاً قد روى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح ولا تفرى الأوداج وهذا الحديث وإن كان فيه مقال لكنه يشهد له حديث ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل.

المرتبة السادسة: أن يقطع الحلقوم وحده فقط فهذه لا تجزئ قولاً واحداً حتى على المذهب لا تجزئ. المرتبة السابعة: أن يقطع المريء وحده فهذه لا تجزئ أيضاً، بقى عندنا أن يقطع أحد الودجين فهذه أيضا لا تحل؛ لأنه لا يحصل بذلك إنهار الدم، فصار الآن عندنا أكمل الحالات في الزكاة أن يقطع الأربع الودجين والحلقوم والمريء. من فوائد الحديث: أن الذبيحة لا تحل إلا إذا ذكر اسم الله عليها لقوله: «وذكر اسم الله عليها» بأن يقال: باسم الله، لو أن الإنسان قال: يا الله ثم ذبح فهذا لا يجزئ؛ لأن هذا لا يقال له: ذكر، يقال له: دعاء، ولابد من ذكر اسم الله. ومن فوائد الحديث: أنه إذا نسي اسم الله، أي: نسي أن يذكر اسم الله عليه فإن الذبيحة لا تحل، وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذكر اسم الله شرطاً والشرط لا يسقط بالنسيان، ولأن الله تعالى قال في القرآن الكريم: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] فنهانا أن نأكل مما لم يذكر اسم الله عليه سواء تركت التسمية عمداً أو سهواً أو جهلاً. فإن قال قائل: أليس الله يقول: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. قلنا: بلى، ولهذا لو أكل الإنسان مما لم يسم عليه ناسيا أو جاهلاً لم يعاقب ولم يؤاخذ لكن هنا شيئان: فعل الذابح وفعل الآكل كلاهما إذا وقع نسيانا أو جهلا فلا إثم؛ فالذابح إذا نسي أن يسمي فلا إثم عليه، وكذلك إذا جهل، يبقى عندنا الآكل الآن وقف هذا الآكل على ذبيحة لم يسم عليها فهل له أن يأكل؟ لا؛ لأن الذي سقط عنه الإثم الذابح، أما الآكل فالآن هو يعلم أن هذه ذبيحة لم يسم عليها فيحرم عليه الأكل فإن أكل ناسياً أو جاهلاً يظن أنه قد سمي عليها فلا شيء عليه، لا إثم عليه وليس في هذا معارضة للآية التي هي قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن سنينا أو أخطأنا} لأننا نقول إذا أكل من الذبيحة التي لم يسم عليها ناسياً لم تصح صلاته ولم يأثم لأنه معفو عنه لكنها لا تبرأ بها ذمته لأن الطهارة شرط لصحة الصلاة. فإن قال قائل: ألستم تقولون إن الإنسان إذا صلى في ثوب نجس ناسياً فالصلاة صحيحة مع اشتراطكم طهارة الثوب للصلاة قلنا: بلى نقول بهذا لكن اشتراطنا طهارة الثوب للصلاة اشتراط عدمي؛ يعني: ألا يكون الثوب نجساً وأما اشتراطنا للوضوء إذا صلى ناسياً فهو شرط وجودي لابد من وجوده هذا هو الفرق.

فإذن قال قائل: إذا حرمتم متروك التسمية سهواً أو جهلاً أضعتم الأموال لأن هذا يقع كثيراً في الناس؟ قلنا: الأمر بالعكس، لأننا إذا قلنا بتحريم متروك التسمية سهواً أو جهلاً أقمنا الناس واستقام الناس على الذكر؛ لأن الإنسان إذا حرم بعيره وهي بخمسة آلاف ريال وقلنا: حرم أكلها، ارمها للكلاب فهل ينسي في المرة الثانية أن يسمي؟ لا ينسى ربما يسمى عشر مرات ويخشى أن التسمية الأولى فيها نقص حركة أو شيء لكن لو قلنا: بأنه مستحب فربما يتهاون. ونظير هذا الاعتراض أعني أن يعترض الإنسان فيقول إذا حرمتم متروك التسمية سهواً أضعتم أموالاً كثيرة نظير هذا من اعترض على قطع يد السارق وقال: إذا قطعتم يد السارق جعلتم نصف الشعب أقطع، وهذا قرأناه في بعض المجلات، نقول: هذا بالعكس بل إذا قطعنا يد السارق قلت السرقة. يوجد إشكال في إعراب الحديث وهو قوله: «ليس السن والظفر» فلماذا لم تكن مرفوعة على أنها اسم ليس؟ يقولون: إن هذه- أعني «ليس» في المكان- وما أشبهها أداة استثناء واسمها محذوف وجوباً، وعلى هذا فنقول: ليس فعل ماض وهو أداة استثناء، وإن شئنا قلنا: السن مستثنى كما نقول ذلك فيما بعد إلا، أو نقول: اسمها مستتر وجوباً والسن خبرها، والسن بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه العظم، والظفر: العلة فيه أنه مدى الحبشة، نرجع للفوائد. من فوائد الحديث: أنه لابد لحل الذبيحة من إنهار الدم، لقوله: «ما أنهر الدم» ولكن هل هو من أي موضع؟ لا؛ لأنه لا يمكن إنهار الدم إلا من موضع واحد وهو الرقبة؛ لأنها مجمع العروق ويكون إنهار الدم بقطع الودجين وهما العرقان الغليظان المحيطان بالحلقوم. ومن فوائد الحديث: أنه إذا حصل إنهار الدم حلت الذبيحة وإن لم يقطع الحلقوم والمريء، وهذا هو القول الراجح، والمسألة فيها أقوال متعددة تصل إلى ستة أقوال؛ ولكنها كلها ليس عليها دليل واضح إلا هذا القول: إن الواجب هو قطع الودجين لأن بهما إنهار الدم، لكن لا شك أن الأكمل أن يقطع الأجزاء الأربعة وهما الودجان والحلقوم مجرى النفس والمريء مجرى الطعام والشراب. ومن فوائد الحديث: أنه لا تحل الذبيحة إلا إذا ذكر اسم الله عليها لقوله: وذكر اسم الله عليها؛ لأن ذكر اسم الله عليها معطوفة على الشرط، والمعطوف على الشرط يكون شرطاً مثله، والجواب: قوله فكل.

واختلف العلماء في هذه المسألة فمنهم من يقول: إن التسمية سنة وليست بواجبة فإذا ذبح وسمى فهو أكمل وإذا ذبح ولم يسم فالذبيحة حلال، ولو كان عمداً، ومنهم من قال: إن التسمية واجبة ولكنها تسقط بالسهو والجهل لقول الله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وقوله: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5]. ومنهم من يقول: إن التسمية شرط ولا تحل الذبيحة بدونها سواء تركها سهواً أو جهلاً. وهذا القول أصح الأقوال وأشدها انطباقا على القواعد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراط لحل الأكل شرطين: الأول إنهار الدم، والثاني التسمية فإذا كان اختلاط الشرط الأول وهو إنهار الدم موجباً لتحريم الذبيحة فكذلك إذا اختل الشرط الثاني ولا فرق، أرأيت لو أن إنساناً نسي وذبح الذبيحة من خلف العنق وماتت الذبيحة وصار الدم يخرج منها حتى نفد الدم وماتت لكنه نسي أتحل الذبيحة؟ لا تحل، وكذلك لو كان جاهلاً فذبحها من على الرقبة حتى ماتت نبض الدم وماتت فإنها لا تحل. إذن ما الذي جعلنا نقول إذا نسي التسمية حلت وإذا جهل وجوبها حلت مع أن كلا الأمرين في شرط واحد لا وجه لذلك وأما قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} فنقول: نعم لا يؤاخذ الإنسان إذا ذبحها بدون تسمية جاهلاً أو ناسياً وليس الشأن بالذبح الآن الذبح إذا كان ناسياً أو جاهلاً فإنه لا يأثم به بلا شك، الكلام على الأكل هذا الذي يأكلها علاماً ذاكراً غير مكره قد تعمد المعصية لقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121]. ولهذا لو أن الإنسان أكل من هذه الذبيحة التي لم يسم عليها جهلاً أو نسياناً فلا شيء عليه لأن هناك فرقاً بين الذبح الذي هو فعل الذابح وبين الأكل الذي هو فعل الآكل فهما مفترقان فالذبح إذا تعمد الإنسان ترك التسمية [فيه] إنها لا تحل ولا إشكال في ذلك، لو نسي أو جهل فإنه ليس عليه إثم لأنه ناس أو جاهل، لكن يبقى الآكل إذا أراد أن يأكل قيل له هذه الذبيحة لم يسم الله عليها إذا أكل فقد تعمد مخالفة قول الله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} وإذا تأمل الإنسان المسألة وجد أن هذا هو الصواب من وجهين: أولاً: لظاهر النصوص، وثانياً لأنه أقرب إلى القواعد لأن الشرع لا سقط سهواً ولا جهلاً.

ولذلك لو أن إنساناً صلى بلا وضوء جاهلاً فلا تصح صلاته ولو صلى بغير وضوء ناسياً لم تصح صلاته وهكذا شأن الشروط. يقول بعض الناس: إنه لو قيل بتحريم ما نسي ذكر اسم الله عليه لأدى ذلك إلى ضياع أموال كثيرة لأن النسيان يقع كثيراً من الناس فإذا قلنا: إن هذه البعير التي تساوي عشرة آلاف نسي أن يسمى الله عليها نقول: هي حرام، كيف نتلق هذا المال العظيم؟ نقول: لأنه لم يكن مالا حينما نسي أن يسمي الله عليه لم يكن مالا بل صار ميتة ولا إضاعة فيه ثم إنه فيما لو أراد أن ينحر بعيراً مرة أخرى هل سينسى؟ لن ينسى، وأظنه سوف يذكر اسم الله وهو مقبل على البعير قبل أن يبدأ في النحر لأنه يذكر الحلة الأولى. وما هذه العلة إلا كتعليل بعضهم قطع يد السارق بأننا لو قطعنا يد السارق لزم أن يكون نصف المجتمع أشل! نقول: هذا خطأ، إذا قطعنا يد السارق امتنعت أمة تريد السرقة، ومنه أيضاً من قال القصاص وهو: قتل النفس بالنفس يؤدي أيضاً إلى كثرة الأموات والقتلى، نقول: هذا غير صحيح، لأن الله يقول: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة: 179] ومن فوائد الحديث: هذا التأثير العظيم في التسمية لا حل الذبيحة إلا به ما يدل على بركة اسم الله عز ووجل وأنه يؤثر حتى في نتائج الأعمال وثمراتها، وهل هناك شيء يجب ذكر اسم الله عليه؟ الوضوء على قول كثير من العلماء، يجب أن نسمي عند الوضوء، وقاس عليه بعض العلماء الغسل والتيمم وكذلك يجب على القول الراجح عند الأكل والشرب لأنه إذا لم يسم الله عند أكله وشربه شاركه الشيطان في ذلك. ومن فوائد الحديث: أن الأمر يستعمل بمعنى الإباحة وذلك فيما إذا كان الحظر متوهماً فإن الأمر يكون للإباحة لقوله: فكل؛ لأن معنى فكل فقد أبيح لك الأكل وليس المعنى أنه سيلزم بأن يأكل أو يندب له أن يأكل من الذبيحة ولكن المعنى أنه رفع عن المنع. ومن فوائد الحديث: أن التذكية بالعظم والسن غير صحيحة، ولو كان جاهلاً؟ نعم، ولو كان جاهلاً فلو أن إنساناً ذبح أرنباً بعظم حاد وأنهر الدم فإنها لا تحل؛ لأن الآلة غير شرعية مستثناة «ليس السن والظفر» فإن قال قائل: لو ذبح بسكين مغصوبة، استعمال السكين الآن محرم لأنها لغيره ولا يحل

للإنسان أن يتصرف في مال غيره إلا بإذنه فهل تحل الذبيحة؟ نعم، وذلك لأن السكين في حد ذاتها آلة ذبح وإنما يحرم الذبح بها لأنها ملك الغير ثم إن استعمال السكين في الذبح ليس منهياً عنه لذاته وإنما المنهي عنه هو استعمال المغصوب في أي وجه من وجوه الانتفاعات، وعلى هذا فنقول: إنه لو ذبح بآلة مغصوبة فعمله محرم والذبيحة حلال. ومن فوائد الحديث: أن الزكاة لا تصح بالظفر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم «ليس السن والظفر» لكن هل المراد ظفر الإنسان أو أي ظفر يكون؟ فيه خلاف: بعض العلماء يقول: المراد بذلك ظفر الإنسان ومنهم من يقول: أي ظفر يكون والأمر محتمل أن يكون أي ظفر يكون، ويحتمل أن يكون ظفر الإنسان وهذا يرجع إلى عادة الحبشة هل هم يذبحون بأظفارهم أو بكل ظفر حيوان؟ الظاهر الأول وأن المراد ظفر الآدمي، لأن استعمال الظفر آلة للذبح يستلزم أن يبقيه الإنسان يستعملها وهذا خلاف الفطرة التي فطر الله الخلق عليها فإن تقليم الأظفار من الفطرة وإذا كان الإنسان يستعملها للذبح فسيتركها ويقول: إذا وجدت حيواناً وليس معنا مدية لأجل أن أذبح بالظفر فيكون ذلك مخالفاً للفطرة. ومن فوائد الحديث: أنه لا يحل الذبح بأي عظم، يؤخذ من عموم العلة في قوله: «أما السن فعظم» وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه العلة قاصرة وأن العلة مجموع الأمرين، أنه سن وأنه عظم وإنما حرم الزكاة بالسن الذي هو عظم لأن ذلك يشبه افتراس الذئب والسباع والإنسان منهي عن أن يتشبه بالسباع والذئاب. والذين رجحوا هذا القول قالوا: لو كان الأمر للعموم لكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس العظم فلا يخص السن، فكونه يخص السن بما هو عظم يدل على أن هذا جزء لعلة وليس هو العلة الكاملة، ولكن القول الثاني في هذه المسألة وهو أن المراد جميع العظام وأن قوله ليس السن والظفر إنما ذكر السن فقط دون بقية العظام لأنه هو الذي كان المعهود في التذكية به، فذكر السن لأن هذا هو المعهود أن يذكي به فلهذا نهى عنه واستثناه. والذين قالوا بالعموم عللوا تعليلاً جيداً قالوا: لأن العظم إما أن يكون عظم مذكاة أو عظم ميتة فإن كان عظم مذكاة لزم منه العدوان على الجن لأن الجن قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم لهم غذاء فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدون أوفر ما يكون لحماً» فيأكلونها. فإذا قال قائل: كيف هذا؟ ألسنا نشاهد العظام نطرحها ثم لا نجد عليها لحماً؟ قلنا: كن جنياً تجد اللحم! لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعلها لحما للجن، أما أنت فآدمي، وقد أخذت ما ينتفع به منها قبل ذلك، وهذا مما يدل على فضل الإنس على الجن أن الجن لا

يأكلون إلا فضلاتهم، وهذا من أمور الغيب التي يجب على المؤمن أن يصدق بها، أليس الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الإنسان إذا أكل ولم يسم شاركه الشيطان؟ بلى فهل نرى الشيطان؟ لا ولكن هذا من أمور الغيب التي يجب علينا أن نصدق بها ونقول سمعنا وآمنا ولا نتعرض لأي إيراد يورده الذهن أو أن نجيب عن كل مورد في مثل هذه الأمور إلا أن نقول هذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره صدق. إذا كان عظم غير مذكاة فإنه يكون نجساً، والنجس لا يليق أن يكون سبباً للذكاة والتطهير، الذكاة تطهر الحيوان فكيف تكون آلة التطهير نجسة على الخلاف في حكمها ولذلك نقول: إذا كانت العظام نجسة فوجد العلة أنه لا يليق أن يكون الشيء النجس بذاته سبباً لتطهير غيره. الظفر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم «مدى الحبشة» فهل نقول: كل سكين للحبشة لا يذبح بها إلا الحبشة فإنه لا تجوز التذكية بها كما قلنا في قوله وأما السن فعظم؟ لا؛ لأن هذا بيان للواقع، وقد علمنا فيما سبق أن ما كان قيداً لبيان الواقع فإنه لا مفهوم له وعلى هذا فلو قدر أن هناك سكاكين- آلات- لا يستعملها إلا الحبشة فهل نقول: إنه يحرم علينا أن نذكي بها ولو ذكينا لكانت المذكاة حراماً الجواب: لا. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يذكر الحكم وعلته، وذكر العلة مع الحكم أمر مطلوب خصوصاً إذا كان فيما يشكل حتى يزول ما في النفس من الإشكال، لأنه قد يقول قائل: ما الذي أوجب أن نستثنى العظم والظفر مما لا يجوز به الذبح؟ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيل هذا الإشكال. ففي ذكر العلة طمأنينة للمخاطب وراحة، وأحياناً يكون فيها فائدة أيضاً وهي أنه إذا كانت هذه العلة متعدية فإنها تكون مفتاحاً لباب القياس مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة

النهي عن قتل الدواب صبرا

فلا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه» فيستفاد من هذا: أن كل شيء يحزن المؤمن فإنه منهى عنه سواء المناجاة أو غير ذلك. النهي عن قتل الدواب صبراً: 1290 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنها قال: «نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل شيء من الدواب صبراً» رواه مسلم. النهي: قال العلماء هو طلب الكف على وجه الاستعلاء عكس الأمر؟ لأن الأمر طلب الفعل على وجه الاستعلاء وهذا طلب الكف أي: الترك على وجه الاستعلاء أي: أن الناهي يشعر بأنه مستعل على المنهي، وقد مر علينا في الأصول هل النهي المطلق يقتضي التحريم أو الكراهة؟ وبينا أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: أنه يقتضي التحريم، والثاني: الكراهة، والثالث: التفريق بين العبادات والآداب، وقوله: «أن يقتل شيء من الدواب صبراً» الدواب جمع دابة والمراد بها كل ما دب علي الأرض سواء كان حلالاً أو حراماً وقوله صبراً أي: حبساً، والمعنى: أنه يحبس ثم يقتل، وهذا كالنهي عن اتخاذ ما فيه الروح غرضاً مثال ذلك أن يمسك إنسان بالدابة ثم يأتي شخص آخر ويرميها بالسهم/ هذا منهي عنه؛ لأنه إفساد ولا تحل به هذه المقتولة لأنه مقدور على ذبحها، والمقدور على ذبحها لا يحلها الرمي بالسهم لأن الرمي بالسهم إنما هو لما لا يقدر عليه وأما ما يقدر عليه فلابد أن يذبح أو ينحر. ففي هذا الحديث: أن الدين الإسلامي كما جاء بالرفق بالإنسان فإنه جاء بالرفق بالحيوان، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل شيء من الدواب صبراً. ومن فوائده: النهي عن إضاعة المال لأن قتل الدواب صبراً إضاعة للمال إذ إنها لا تحل بهذا القتل؛ إذا كانت مما يؤكل فتضيع ماليتها، وإن كانت مما لا يؤكل كالحمير ضاعت ماليتها أيضاً فينهى عن ذلك. ومن فوائد الحديث: أن ما يقدر على ذبحه لا يحل برميه ولعل المؤلف رحمه الله ساقه في هذا الباب من أجل هذه الفائدة أن كل ما يقدر عليه فلابد فيه من الذبح أو النحر، الذي لا يقدر عليه يحل بقتله في أي موضع من بدنه كالصيود الطائرة أو العادية وكالذي سقط في بئر ولم نقدر عليه فإنه يصح أن نرميه وفي أي موضع أصابه السهم ومات به يحل، وكذلك إذا ندت الإبل أو

وجوب إحسان القتلة

البقر أو الغنم، يعني: هربت وعجزنا عن إمساكها ورميناها حلت في أي موضع كان أصابه السهم. وجوب إحسان القتلة: 1291 - وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا بحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» رواه مسلم. كتب: تأتي بمعنى فرض كما في قوله تعالى: {يأيها الذين امنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] وقوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إنن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} [البقرة: 180] وقوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين} [المائدة: 45] وقوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة: 178]. فقوله: «كتب» الإحسان أي: فرضه وأوجبه ويحتمل أن المعنى كتبه أي: شرعه ويشمل الفرض والنفل بمعنى: أنه يشمل الإحسان الواجب والإحسان المستحب، وقوله: «على كل شيء» قيل: إن معنى «على» «في» أي: في كل شيء وليس هذا ببعيد وإذا جعلنا «على» على ظاهرها أنها للاستعلاء صار المعنى على فعل كل شيء، كل شيء يفعله الإنسان في غيره فإنه مفروض عليه الإحسان، قال: «فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» وهذا مثالان وإلا فيكون الإحسان أيضا في غير هذا، كالجلد والرض وما أشبه ذلك فيحسن الإنسان هذا كما يحسن القتلة والذبحة، وقوله: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين القتل وبين الذبح فالقتل فيما لا يجوز أكله، والذبح فيما يجوز أكله كالإبل والبقر والغنم، وقوله: «أحسنوا القتلة» هل الإحسان هو بالتسهيل أي: بتسهيل القتل واستعمال أقرب الطرق إلى القتل بالسهولة، أو يراد بالإحسان موافقة الشرع؟ الثاني، المراد هو: الثاني، ولهذا نرى أن الرجل إذا زنى وهو محصن فرجم بالحجارة، نرى أن هذا من إحسان القتلة لموافقته للشرع مع أنه لو قتل بالسيف لكان أسهل، وقوله: «القتلة» ولم يقل: القتلة- أي: بالفتح- والفرق بينهما أن فعلة للهيئة وفعلة للمرة كما قال ابن مالك رحمه الله في الألفية: (وفعلة لمرة كجلبه ... وفعله لهيئته كجلسه)

وعلى هذا فإذا قلت: وئب الرجل على المعتدي وثبة الأسد أو وثبة؟ وثبة بالكسر لأن المراد الهيئة، أما المرة فهذه تعود إلى نفس الأسد، وعلى هذا تكون القتلة بالكسر أي: هيئة القتل وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة يقال فيها مثل ما قيل في قوله: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» لكن هذه فيما يؤكل وكذلك إذا نحرتم فأحسنوا النحر وإذا رميتم فأحسنوا الرمي. المهم أن هذين المثالين ليس على سبيل الحصر ثم قال: «وليحد أحدكم شفرته» اللام هنا لام الأمر ولهذا جاءت ساكنة بعد الواو لأن لام الأمر تسكن إذا وقعت بعد حروف ثلاثة وهي «الواو، وثم، والفاء» قال الله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم} [الحج: 29] وقال تعالى: {ثم ليقطع فلينظر} [الحج: 15]. وأما لام التعليل فإنها مكسورة بكل حال وإن وقعت بعد هذه الحروف، وبهذا نعرف غلط من يقرأ قول الله تعالى: «هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد» وجه الغلط: أنه سكن اللام مع وجوب الكسر وهذا اللحن هل يغير المعنى؟ نعم يغير المعنى، ولهذا يجب الفتح على الإمام إذا قرأ هكذا ولينذروا به وليذكر فيقال: ولينذروا وليذكر أولوا الألباب لئلا يختلف المعنى. وقوله: «شفرته» الشفرة، قيل: إنها السكين العظيمة الكبيرة، والأظهر أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا: مطلق السكاكين، يعني: سكينة، وقوله: «شفرته» أي: الشفرة التي يذبح بها سواء أكانت ملكاً له أو ملكاً لغيره؛ لأن الإنسان قد يستعير السكين ليذبح بها لكنها أضيفت إليه والإضافة تكون لأدنى ملابسة، «وليرح ذبيحته» اللام هنا لام الأمر لأن اللام بعد الواو ساكنة. فإذا قال قائل: ونستطيع أن نقول: وليرح بالكسر؟ نقول فيه دليل في الفعل لأنها لو كانت لام التعليل لقال: وليريح ذبيحته، وقوله: ذبيحته فعلية بمعنى مفعولة أي: مذبوحته وهل الجملتان بمعنى واحد «وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» لأن حد الشفرة يريح الذبيحة أو هما معنيان مختلفان؟ الجواب: الثاني وهو: أنهما معنيان مختلفان: الراحة لا شك أن حد الشفرة مريح للذبيحة لكن المراد بالإراحة ما هو أشمل وأعم وذلك بأن يذبحها بقوة ونشاط وعزم لا يرخى يده عند الذبح بل يجذب بقوة هذا هو الإراحة، السكين إذا كان حاداً لكن الذابح ضعيف يذبح خفيفاً هل تنفع حدة الشفرة؟ لا، ولهذا قال وليرح ذبيحته بحيث يذبح بقوة ونشاط وسرعة. في هذا الحديث فوائد: منها: حب الله عز وجل للإحسان لأنه تعالى محسن للعباد ويحب الإحسان إلى العباد، وجه الدلالة: أن الله كتب الإحسان على كل شيء ولولا محبته له ما كتبه على عباده إذ إنه لا يلزم العباد بما لا يحب بل ولا يشرع لهم ما لا يحب إطلاقاً ولهذا الشرع يتعلق بما يحب.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الإحسان شامل لكل شيء، إن قابلت أخاك بوجه طلق فهذا إحسان وإن قابلته بوجه عابس فهذا إحسان! نعم، إذا كانت المصلحة تقتضي أن تقابله بوجه عابس فهذا إحسان، ولهذا نجلد الزاني ونرجمه ويعد ذلك إحساناً له ولغيره أما لغيره فظاهر لأن الإنسان إذا علم أنه فعل الفاحشة حد بالجلد أو بالرجم امتنع وهو إحسان له أيضاً؛ لأن هذا الحد يكون كفارة له لا يعاقب عليه في الآخرة ولا يجمع الله تعالى له بين عقوبتين. إذن إن قابلت أخاك بوجه طلق فهو إحسان، وبوجه عابس فهو إحسان لكن لابد من قيد وهو إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك، وهل لي أن أقول: إذا قابلت أخاك بوجه منبسط فهو إساءة؟ نعم، يمكن لكن بشرط إذا كان هذا يؤدي إلى تماديه في الإساءة؛ إنسان يعرف أن هذا رجل مجرم، ثم إذا قابله، قابله بوجه الرضا والانبساط، هذا العمل وإن كان خيراً في ذاته لكنه يؤدي إلى مفسدة وهي استمرار هذا المجرم في إجرامه، وبهذا نعرف أن المصالح الشرعية ليست مرتبة على الهيئات والأحوال بل على تحقيق المصالح الخالصة أو الراجحة. ومن فوائد الحديث: وجوب إحسان القتلة، إذا وجب على الإنسان القتل فإنه يجب إحسان القتلة [بأن] يسلك في قتله أقرب الطرق إلى إزهاق روحه بدون تعذيب، وأقرب شيء في ذلك هو السيف. ولكن لو قال قائل: إذا وجدنا طريقاً أسهل من القتل بالسيف بأن يقتل بالرصاص على نخاعه أو في رأسه أو بالصعق الكهربائي ألا نسلكه؟ قد يقول قائل: إن الصعق الكهربائي أسهل وقد يقول قائل: ليس بأسهل وحينئذ نرجع إلى رأي الاختصاصيين في هذا ولا يرد على ذلك أن يقال: إن هذا لم يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم توجد هذه الأداة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أما قتله بالرصاص فهذا قد جرى به العرف الآن كثيراً من الذين يقتلون؛ يقتلون بالرصاص فإذا ثبت أن هذا أسهل فإنه يسلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحسان القتلة ولم يعين فيرجع إلى أهل الاختصاص في هذا. هل يقاس على ذلك إذا قطعتم عضواً في قصاص أو في حد فأحسنوا القطع؟ نعم، يدخل في هذا إذا وجب قطع يد قصاصها فلا شك أن من الإحسان أن يبنج من تقطع يده فهل يبنج؟ لا؛ لأننا إذا بنجناه أحسنا من وجه وأسأنا من وجه آخر، أحسنا من جهة إراحة هذا المقطوع لكن أسأنا القصاص؛ لأن الذي اعتدى عليه قد ذاق ألم القطع، وتمام القصاص أن المقتص منه يذوق الألم كما ذاقه الأول. وفي السرقة هل يجوز أن نستعمل البنج عند قطع يد السارق؟ الجواب: نعم؛ لأن هذا ليس قصاصاً بل المقصود قطع اليد وقد حصل فيفرق بين هذا وهذا.

ومن فوائد الحديث: وجوب الإحسان في الذبح بأن يضجع البهيمة برفق عند ذبحها على الجنب الأيسر إن كان ممن يذبح باليمنى أو بالأيمن إن كان ممن يذبح باليسرى لأن هذا هو الذي به الراحة لأن الذي يذبح باليمنى إذا أضجعها على الأيسر سهل عليه الذبح لأنه سوف يضع يده على صفحة العنق ويمسك بالرأس ويذبح، والذي لا يذبح إلا باليسرى لو أنه أضجعها على الجنب الأيسر لكان في ذلك تعب عليه وعلى البهيمة فتضجع على الجنب الأيمن ويمسك الرأس باليد اليمنى ويضع رجله على صفحة العنق ويذبح باليسرى. وهل من ذلك أن يعرضها على الماء؟ نقول في هذا تفصيل: إذا كان يخشى إنها عطشى فليعرض الماء عليها وإلا فلا حاجة، لو كان يعلم أننا في الشتاء ولا تحتاج إلى ماء أو أننا في الصيف ولكنها شربت قبل قليل فلا حاجة؛ ولهذا لا أذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض الماء على الذبيحة إذا ذبح ولو كان هذا من السنة المطلقة لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم إما بقوله أو بفعله لكنه إذا كان يخشى أن تكون عطشي وعرض عليها الماء لتبرأ ذمته من إساءة الإنفاق عليها ومراعاتها فهذا حسن لا بأس به. وهل من الإحسان أن يمسك بيديها ورجليها؟ ليس من الإحسان، من الإحسان أن يدعها تتحرك بأرجلها الأربع، لأن هذا أريح لها ولأن هذا أشد في تفريغ الدم، وتفريغ الدم من الذبيحة أمر مقصود للشرع، وأما ما يفعله بعض الناس الآن تجد الرجل القوي الكبير الجسم إذا أراد الذابح أن يذبح البهيمة برك عليها وأمسك بيديها ورجليها فهذا لا شك أنه تعذيب لها، هذا الرجل الكبير الجسم إذا برك عليها سوف يؤلمها ويضيق نفسها. فالأولى ألا تمسك اليدان والرجلان، الرقبة توضع الرجل عليها لأن هذا أريح للذبيحة عند ذبحها. هل من الإحسان أن توجه إلى القبلة؟ ذكر الفقهاء أنه يستحب أن توجه إلى القبلة إذا كانت تذبح تعبداً مثل الأضحية وأما الذبح للأكل، فلا فهذه ليست عبادة فلا يتوجه القول باستحباب استقبال القبلة، وعلى كل حال حتى لو كانت الذبيحة تعبداً لله فإن استقبال القبلة ليس بشرط خلافاً للعامة، العامة يقولون: لابد من استقبال القبلة ويرون أنه من شروط صحة الذكاة، ومثل هذه الأمور ينبغي لطلبة العلم أن ينشروا بيان حكمها للعامة، لأنه ربما يذبح العامي في مكان

ذكاة الجنين ذكاة أمة

ليس عنده طالب علم فإذا ذبحها على غير القبلة قام يسترجع إنا لله وإنا إليه راجعون حرمت الذبيحة! جرها يا ولد للكلاب. فلابد أن يبلغ الحكم الشرعي للعوام حتى لا يضلوا. ومن إحسان الذبيحة ألا يعجل كسر عنقها أو سلخها قبل أن تموت موتاً نهائياً لأن في ذلك تعذيباً لها بدون فائدة. ومن فوائد الحديث: وجوب حد الشفرة لقوله: «وليحد أحدكم شفرته» وإذا قلنا بوجوب حد الشفرة صار الذبح بشفرة ليست حادة حراماً، ولكن هل تحل الذبيحة؟ نعم تحل مع تحريم الفعل؛ لأنه انطبق عليها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل». ومن فوائد الحديث: وجوب إراحة الذبيحة لقوله: «وليرح ذبيحته» فيسلك أقرب الطرق لما فيه الإزاحة لأن الأصل أن إيلام الحيوان محرم لكن أباحه الله عز وجل لمصلحة العباد، وعليه فنقتصر على قدر الضرورة في إيلامه ونريح الذبيحة بما ذكرنا لكم من قبل أن تكون الشفرة حادة وأن يذبحها بعزيمة وقوة وسرعة. ذكاة الجنين ذكاة أمة: 1292 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» رواه أحمد، وصححه ابن حبان. «الذكاة» خي الذبح أو النحر وسميت ذكاة لأنها تذكي المذبوح أو المنحور فيكون طيباً ولو مات هذا المذبوح أو المنحور حتف أنفه لكان خبيثاً نجساً وقوله: «الجنين»؛ أي: الحمل في البطن سمي بذلك لأنه مستتر وهذه المادة- أعني الجيم والنون- في جميع تصاريفها تدل على الستر، فمنه الجنة للبستان الكثير الأشجار، ومنه الجنة التي يستتر بها المقاتل عند القتال ومنها الجنة وهم الجنة لأنهم مستترون عن الأعين. الجنين هو الحمل لأنه مستتر، «ذكاة أمه» يعني: بذكاة أمه وهنا نسأل أولاً على الجملة هذه هل الخبر ذكاة الجنين أو الخبر ذكاة أمه؟ ذكاة الجنين مبتدأ وذكاة أمه خبر هذا قول. قول ثان: «ذكاة أمة ذكاة الجنين» هل يختلف المعنى؟ إذا قلنا ذكاة الجنين ذكاة أمه احتمل أن تكون الجملة هنا جملة تشبيهية تشبيهاً بليغاً ويكون المعنى: ذكاة الجنين كذكاة أمه، كما لو قلت: فلان بحر في الكرم، يعني: معناه هذا تشبيه حذفت منه أداة التشبيه فإذا قلنا: فلان بحر صار تشبيهاً بليغاً، وعلى هذا يكون الحديث يحتمل معنيين:

المعنى إذا قلنا ذكاة الجنين مبتدأ وذكاة أمه هي الخبر صار الحديث يحتمل معنيين الأول أن ذكاة الجنين كذكاة أمه وإلى هذا ذهب أبو حنيفة والظاهرية، وقالوا: إن الجنين إذا ذكيت أمه وخرج ميتاً ولم يذك صار حراماً لأن مراد الرسول في الحديث أن ذكاة الجنين كذكاة أمه. ويحتمل أن تكون الجملة على غير التشبيه أي: أن ذكاة الجنين بذكاة أمه ويؤيد هذا أنه جاء في بعض ألفاظه ذكاة الجنين بذكاة أمه، أي: أن الأم إذا ذكيت فذكاتها ذكاة لجنينها لا يحتاج أن يذكي مرة أخرى، هذا إذا قلنا: إن ذكاة الجنين مبتدأ وذكاة أمه خبر. وإذا قلنا بالعكس: ذكاة أمه ذكاة الجنين ذكاة أمه مبتدأ وذكاة الجنين خبر، صار المعنى أن ذكاة الأم ذكاة للجنين ولا يحتمل وجها آخر لكن هذا التقدير فيه إعادة الضمير المتأخر على سابق، فيقال: هذا لا يضر لأن هذا السابق المتقدم لفظاً [فقط] ويجوز عود الضمير على متقدم لفظا متأخر رتبة. نعود إلى المعنى الأول أن ذكاة الجنين مبتدأ وذكاة أمه خبر فنقول: من جعل هذا على سبيل التشبيه فإن عليه ملاحظتين: الملاحظة الأولى: إذا قلنا: ذكاة الجنين كذكاة أمه صار الحديث ليس له معنى لأنه من المعلوم أن كل حي فإن ذكاته كذكاة الحي الآخر يكون الحديث عديم الفائدة كقول القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا وهذا لا شك أنه لا فائدة فيه. ثانياً: إذا أخذناه بظاهره قلنا: ذكاة الجنين فهو إذا خرج لم يكن جنيناً وهذا يقتضي أن الحديث يدل على أن الجنين إذا ذكي في بطن أمه فذكاته كذكاة أمه، وهذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريده فتبين بذلك بطلان أن القول الذي يقول المراد بذلك ذكاة الجنين كذكاة الأم تكون بإنهار الدم وهي حي. فإن قال قائل: لهم أن ينفصلوا عن هذا بقولهم إن المراد بذكاة الجنين اعتبار ما سبق كقوله تعالى: {وءاتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2] واليتيم لا يعطي ماله إلا إذا بلغ وإذا بلغ لم يكن يتيماً قلنا: هذا خلاف ظاهر اللفظ والأصل أن يحمل الكلام على ظاهره فسقط هذا الجواب. وخلاصة القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه إذا ذبحت البهيمة وهي حامل فإن ذكاتها ذكاة لجنينها لا نحتاج أن نذكيه إذا خرج ميتا أما إن خرج حياً فإنه لابد أن يذكى لأنه انفصل عن أمه وصار مستقلاً فلا تكون ذكاة أمه ذكاة له. وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون هذا الجنين قد أشهر، أي: نبت شعره أم لم يشعر وهو كذلك، حتى لو لم يبق على وضعه إلا ساعات ثم ذبحت الأم وخرج الجنين ميتاً فإنه يكون حلالاً لعموم الحديث والتفصيل بين ما أشهر وبين ما لم يشعر لا دليل عليه. ومن فوائد الحديث: ما اخترناه أنه الصحيح أن ذكاة الأم ذكاة الجنين.

حكم نسيان التسمية عند الذبح

ومن فوائده: أنه لا يشترط إنهار الدم بعد خروجه، أي: بعد إخراجه من بطن أمه بعد أن يذكي لا يشترط إخراج الدم لأن ذكاته قد تمت من قبل، ولكن قال بعض أهل العلم: ينبغي أن ينهر دمه حتى يطهر من الدم الذي لم يخرج. ومن فوائد الحديث: تيسير هذه الشريعة لأنه كل ما كان الأمر شاقا حل التخفيف لأن العثور على الجنين أمر لا يمكن إلا بشق بطن الأم وشق بطن الأم إن كان قبل أن تذبح فهو إضاعة لماليتها وإن كان بعد ذكاتها فربما لا يدرك الجنين حتى يذكى فكان من يتسير هذه الشريعة أن ذكاة أمه ذكاة له. ومن فوائد الحديث: سمو الشريعة وبيانها لكل شيء من دقيق وجليل؛ لأن مثل هذه الصورة - أعني: أن يذكى الحيوان في بطن الحمل- نادرة الوقوع؛ يعني: يمكن [أن يقع في] كل مائة خمسة أو أقل لكن لما كانت الشريعة شاملة لكل شيء نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. حكم نسيان التسمية عند الذبح: 1293 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمي حين يذبح، فليسم ثم ليأكل» أخرجه الدارقطني وفيه راو في حفظه ضعف وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان، وهو صدوق ضعيف الحفظ. «المسلم يكفيه اسمه» يعني: يكفيه أن يكون مسلماً في حل الذبيحة لأنه مسلم فيكفيه أن يكون مسلماً «فإن نسي أن يسمى حين يذبح فليسم» يعني: عند الأكل «ثم ليأكل» وهذا اللفظ كما ترى لفظ لا تشعر بأنه خارج من مشكاة النبوة لأن فيه ركاكة لأن المسلم يكفيه اسمه إذ قلنا إن وصف الإسلام كاف عن التسمية فيعني هذا أنه لا يشترط في المسلم أن يسمي كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء. وإن قلنا: إن الإسلام غير كاف قلنا: إذن ذبيحة الكتابي إذا نسى فإنها تكون كذبيحة المسلم لأن العلة هي النسيان، ثم إن سياق الحديث وصيغته تدل على أنه لم يخرج من فم النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال المؤلف: أخرجه الدارقطني وفيه راو ... إلخ، إذا قالوا: «صدوق» عند المحدثين فيعني أنه ضعيف يحتاج إلى من يقويه ولهذا قال:

-وأخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً عليه. -وله شاهد عند أبي داود في مراسيله بلفظ: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله عليها أو لم يذكر» ورجاله موثقون. كل هذه الأحاديث كما ترون ضعيفة جداً ولا يقوي بعضها بعضا بحيث تعارض الآيات والأحاديث الدالة على وجوب التسمية فضلاً عن كونها تقاومها وتبطل دلالتها فمثلاً الحديث الأول فيه راو في حفظه ضعف وفيه أيضا من هو صدوق ضعيف في حفظه ففيه راويان ضعيفان. والثاني: عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس فيه علة وهي أنه موقوف على ابن عباس فيكون رأيا لصحابي وهذا الرأي مخالف لمقتضى الكتاب والسنة فلا يعارض الكتاب والسنة ولا يقاومها. الثالث: فيه علة أيضا ً وهي الإرسال والمرسل من قبيل الضعيف، ولضعف هذه الأشياء سنداً أو متنا نقول: لا يمكن أن تعارض بها النصوص الواضحة الصريحة لأنه لابد من التسمية، وقد ذكرناها فيما سبق وبينا أنها واجبة. فإن قال قائل: إن ابن جرير رحمه الله نقل الإجماع على سقوط التسمية بالنسيان، قلنا: أجاب عن هذا ابن كثير رحمه الله في تفسيره بأن ابن جرير يرى أن مخالفة الواحد والاثنين لا تخدش الإجماع ولا تمنع منه، ولكن رأيه رحمه الله ضعيف، لاسيما إذا كان رأي الأقل هو الذي تقتضيه الأدلة. فالمسألة ليس فيها إجماع والأدلة تدل على أنه لابد من التسمية، وهذا هو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وإذا تأمل الإنسان الأدلة تبين له أنه الصواب أما كونه لا يؤاخذ بالنسيان فنعم لا يؤاخذ، ولهذا لو ذبح بدون تسمية عمداً كان آثما لكن هنا ذبح وهنا أكل فالذابح إذا نسي لا إثم عليه لكن الآكل من هذه الذبيحة وهي لم يسم الله عليها يأثم فإن أكل ناسياً فلا إثم عليه فهذا القول لا يخرج عن هذه القاعدة {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وهو الصواب.

2 - باب الأضاحي

2 - باب الأضاحي الأضاحي جمع أضحية ويقال: أضْحية وأضحيَة وهي: ما يذبح أيام النحر تقرباً إلى الله عز وجل وأيام النحر- سيأتينا إن شاء الله- أربعة على القول الراجح وهي: يوم العيد والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر؛ فما يذبح تقربا إلى الله في هذه الأيام يسمى أضحية وأطلق عليه اسم الأضحية؛ لأنه يذبح ضحى، إذ إن ابتداء بعد صلاة العيد وخطبتها وهذا يكون ضحى يوم النحر، والتسمية تثبت بأدنى علاقة بدليل مزدلفة ماذا تسمى؟ تسمى جمعاً لأن الناس يجتمعون فيها بعد عرفة ومع أن الناس يجتمعون في عرفة ومني لكن كما قلت التسمية تحصل بأدنى علاقة. الأضاحي حكمها اختلفوا فيه: من العلماء من يقول: إنها واجبة وأنها فرض ولهم على ذلك أدلة ومنهم من يقول إنها سنة مؤكدة ولا يأثم الإنسان بتركها ولهم على ذلك أدلة ومنهم من يقول سنة يكره تركها للقادر فتكون أرفع من السنة قليلاً لأن السنة لا يأثم تاركها لكن السنة التي تكون قريبة من الواجب يكون تاركها قد أتى مكروها. ويظهر من كلام شيخ الإسلام رحمه الله أن الأضحية واجبة لأنها من شعائر الإسلام ولأن الله تعالى شرعها لمن لم يكن في مكة حتى يتساوى العباد في التقرب إلى الله تعالى بالنحر في جميع البلاد، وهذا من نعمة لله عز وجل ورحمته لما حرم هؤلاء الوصول إلى مكة ليذبحوا الهدايا هناك شرع لهم ذبح الأضاحي في البلاد فهي من الشعائر. والقول بالوجوب على القادر قول قوي جدا وأدلة هؤلاء وهؤلاء قد بسطنها في كتاب الأضحية والذكاة فمن أراد أن يراجعها فليراجعها، أما الأحاديث فيقول: شروط الأضحية: 1294 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحى بكبشين أملحين، أقرنين، ويسمي، ويكبر، ويضع رجله على صفاحهما» وفي لفظ: «ذبحهما بيده». متفق عليه. -وفي لفظ: «سمينين» ولأبي عوانة في صحيح: «ثمينين» بالمثلثة بدل السين. -وفي لفظ لمسلم، ويقول: «باسم الله، والله أكبر».

أنس بن مالك رضي الله عنه خادم النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم من أحواله في بيته ما لم يعلمه كثير من الرجال يقول: «كان يضحي بكبشين» والكبش ذكر الضأن الكبير، «أقرنين» يعني: لهما قرون وإنما اختار هذين لعظمهما ولأن ماله قرون أكمل مما ليس له قرون فإن وجود قرونه من كمال الخلقة وهو أيضاً يدل على قوة الخروف وشدته لأن هذا الذي له قرون تجده عند المناطحة يهزم ما يناطحه من الضأن وحينئذ يكون له قوة معنوية جسدية وقوة في مصارعة العدة، «ويسمى ويكبر» وفسر ذلك بقوله في اللفظ الآخر يقول: «بسم الله والله أكبر» والتسمية سبق أنها شرط لحل الذبيحة والتكبير سنة وإنما شرعت التسمية هنا لأنها شرط لحل الذبيحة وشرع التكبير لأنه تعظيم لله والذبح تقربا إليه تعظيم له فيحصل التناسب بين التعظيم الفعلي والتعظيم القولي أما بسم الله فقد مر علينا كيف إعرابها أنها متعلقة بمحذوف يقذر فعلا متأخراً مناسباً، لأن الأصل في العمل الأفعال. ولهذا تعمل الأفعال بلا شرط وما ينوب عنها في العمل لابد فيه من شروط عمل المصدر عمل اسم الفاعل عمل اسم المفعول عمل الصفة المشبهة كله لابد فيه من شروط، ومناسباً لأنه أدل على المقصود مثلا تقرأ فتقول: باسم الله أقرأ يجوز أن تقدرها باسم الله ابتدأ لكن إذا قلت باسم الله أقرأ صار أدل على المقصود، ومتأخراً تيمناً بالبداءة باسم الله، والثاني: إفادة الحصر لأن تقدير ما حقه التأخير يدل على الحصر. كيف تقدر إذا أردت أن تذبح فقلت باسم الله؟ باسم الله أذبح، أما الله أكبر فهي مبتدأ وخبر وقد عرفنا أن الحكمة من التكبير هنا هو أن يتفق الفعل والقول على تعظيم الله عز وجل، ويضع رجله على صفاحهما يضع رجله عند الذبح إذا أضجعهما وضع رجله على صفحتي عنقيهما من أجل أن يضبطها عن الاضطراب والتحراك؛ لأنها لو اضطربت وتحركت ربما لا يأتي ذبحها على وجه مطلوب وربما ترجع السكين على يده اليسرى فلابد من أن يضع رجله على صفاحهما. لكن هذا الوضع هل هو وضع هين أو وضع شديد بحيث يضبط البهيمة؟ الثاني بلا شك لأن مجرد الوضع لا يفيد وفي لفظ: «ذبحهما بيده» وهذا تصريح بالمراد بقوله يضحى وإلا لم تأت هذه لكان كلمة يضحى يحتمل أن يكون يذبحهما بيده أو يأمر من يذبحهما لكن إذا جاء التصريح صار أبلغ «بيده» بيان للواقع مثل كتب بيده بيان للواقع وقوله: أملحين الأملح هو الأبي سمي بذلك لأنه يشبه الملح في البياض وقيل الأبيض الذي خالطه سواد فصار كالرصاص أبيض وأسود ثم هل هذا مقصود هذا اللون أم لا؟ سيأتينا في الفوائد، وفي لفظ سمينين من السمنة وهي كثرة اللحوم والشحم، ولأبي عوانة ثمينين

صفة ذبح النبي صلى الله عليه وسلم للأضحية

بالمثلثة بدل السين، أي: كثيري الثمن والغالب أنه كلما عظمت البهيمة كثر ثمنها، وقد يكثر ثمنها لجمالها وقد يكثر ثمنها لنوعيتها كما هو الآن مجود ضأن مثلاً مسمى باسم وضأن آخر مسمى باسم آخر وتجد الفرق بين أثمانها كثيراً. صفة ذبح النبي صلى الله عليه وسلم للأضحية: 1295 - وله: من حديث عائشة رضي الله عنها: «أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد؛ فأتي به ليضحى به، فقال لها: يا عائشة، هلمي المدية. ثم قال: اشحذيها بحجر. ففعلت، ثم أخذها وأخذه فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحى به». قوله: «وله» لمسلم، وفي حديث أنس السابق يقول: كان يضحى بكذا، وحديث عائشة هنا يدل على أنه ضحى بواحد، فهل نقول بما رواه أنس ونقول: لعل عائشة رضي الله عنها لم تعلم بالثاني أو نقول: إنه أحياناً يفعل كذا، وأحياناً يفعل كذا؟ الثاني، قوله: «أمر بكبش أقرن» يطابق قوله: «بكبشين أقرنين يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد» «يطأ في سواد» يعني: أن مقدم يديه ورجليه أسود، فيكون ما يلي الأرض من الرجلين واليدين أسود، «يبرك في سواد» يعني: أن بطنه أسود؛ لأنه هو الذي يبرك عليه، «ينظر في سواد» يعني: أن ما حول عينيه أسود، فهل الرسول قال: ائتوني بما هذا وصفه، أو أنه أمر بكبش أقرن ووصفته عائشة بأنه يطأ في سواد ... إلخ؟ وعندي محتمل أن الرسول أمر بكبش هذا وصفه أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد وينظر في سواد، ويحتمل أنه أمر بكبش أقرن، فجيء به فإذا هو ملون بهذا التلوين يطأ في سود .. إلخ، وعندي أن هذا أقرب؛ وذلك لأنه إذا أمر بكبش هذا وصفه فقد يكون صعباً جداً، ثم إن الإنسان لعقله القاصر يقول: أي فرق بين هذا اللون واللون الثاني. «فأتي به ليضحي به»، وهذا قد يؤيد أنه أمر به على هذا الوصف لقوله: «فأتي به ليضحي به، فقال لها: يا عائشة، هلمي المدية» يعني: أعطيني إياها، و «هلم» هل هي اسم فعل أو فعل؟ فعل لأن كل ما دل على الأمر ولم يقبل علامته فهو اسم فعل، ، ، فإن قبل علامته فهو فعل، «هلمي المدية» وهي السكين، ثم قال «اشحذيها بحجر» يعني: حدديها بخجر، وفي ذلك الوقت فيما يظهر- والله أعلم- ليس عندهم هذه المبارد المعروفة عندنا لكن حجر، وكان الناس فيما سبق يحدون الشفار بالحجر.

إذن «اشحذيها» أمريها على الحجر لتكون حادة، وقوله: «بحجر» لئلا تشحذها بمدر، «المدر» هو الطين اليابس هو لا يشحذ الشفرة؛ لأنه إذا أمررت الشفرة عليه تفتت ولم يؤثر فيها شيء، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «اشحذيها بحجر» لئلا تبادر فتشحذها بمدر أو على الأرض مثلاً، ففعلت ثم أخذها فأخذه فأضجعه، أخذ المدية أولاً ثم أخذه فأضجعه، وهذا هو الأولى إلا إذا كان الإنسان غير قوي بحيث يخشى أنه إذا حاول إضجاع البهيمة بدأت تتحرك وتضطرب فربنا عاد السكين إلى يده لعلم قوته وشده إياه، ففي هذه الحال نقول: أضجعها أولاً ثم خذ المدية، ثانياً: تقول: «ثم ذبحها ثم قال: بسم الله» ثم هنا للترتيب الذكري وليست للترتيب المعنوي لأن التسمية تكون قبل الذبح لا شك، يذكر اسم الله ثم تمر السكين ثم ذبحه، ثم قال: بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد ثلاثاً محمد صلى الله عليه وسلم وآل محمد، وأمة محمد، أما محمد فهو نفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم وأما آل محمد فهم المؤمنون من قرابته وليسوا كل قرابة؛ لأن أبا لهب وأبا طالب ليسا من آله، أما العباس وحمزة فمن آله، ، ، ، فالمراد بآله المؤمنون من قرابته في مثل هذا السياق، ومن أمة محمد، يعني: أمة الإجابة الذين أجابوه واتبعوه واقتدوا به في النحر فسأل الله أن يتقبل من أمة محمد، والأمة تطلق على معان متعددة منها: الطائفة، ومنها: الزمن، ومنها: الإمامة، ومنها: الملة، هذه أربعة أشياء. مثال إطلاق الأمة على الملة {إنا وجدنا آباءنا على امة} [الزخرف: 23] {إن هذه أمتكم أمة واحدة} [الأنبياء: 92] إذا قلنا: أمة بمعنى ملة، ويحتمل أن تكون بمعنى طائفة في الآية، وبمعنى الإمام {إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 12] أمة بمعنى: زمن {وقال الذي نجا منهما وأذكر بعد أمة} [يوسف: 45]. الرابع بمعنى الطائفة {وإن هذه أمتكم أمة واحدة} [المؤمنون: 52]. ثم ضحى به أيضا هذا ترتيب ذكري هذا الظاهر؛ لأن التضحية به كانت بذبحه. من فوائد الحديث الأول- حديث أنس-: مشروعية التضحية لقوله: «كان يضحى» وقد ثبتت مشروعية التضحية بأنواع السنة الثلاثة بقوله وفعله وإقراره، أما قوله فإن حث صلى الله عليه وسلم على الأضحية وأمر بها وهذا في عدة أحاديث، وأما فعله فكما في هذا الحديث، وأما إقراره فإنه يرى أصحابه يضحون ويقرهم على ذلك. أما القرآن فقد دل على عموم التقرب إلى الله تعالى بالذبح في قوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا أسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 34]. ومن فوائد الحديث: كرم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يختار الأفضل لقوله: «بكبشين» ووجه الكرم التعدد، والثاني: كونهما كبشين فهذا كرم بالكمية وكرم بالكيفية، فهل نقول: إنه كلما تعددت الأضحية كانت أفضل أو نقول: الأفضل الاتباع؛ لأنها عبادة؟ الظاهر الثاني وهو أن الأفضل

الاقتصار على ما ورد، والنبي صلى الله عليه وسلم ضحى عنه وعن أهل بيته بكبش وعن أمته بكبش ومن لا أمة له يضحي بكبش. فإن ضحى الإنسان عنه عن طلابه فهل يكون كتضحية الرسول عنه وعن أمته؟ لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يجب على أمته اتباعه، والمعلم لا يجب على طلابه أتباعه، وفي هذه المناسبة أود أن أذكر الطلبة عموماً أنه ينبغي للطالب أن يتعلم على معلمه على أنه يأخذ بقوله وعلى أنه إمامه، ومعلمه ولا على انه ند له، لأنه إن سلك المنهج الثاني لم يستفيد منه كثيراً؛ إذ إنه كلما أورد معلمه مسألة وقع في نفسه معارضة هذه المسألة وحينئذ لا يستفيد، ولست أريد بهذا أن أسد باب الاجتهاد على الطلبة، باب الاجتهاد وحرية الفكر طيب، ولكن الطالب إلى الآن لم يصل إلى هذا الحد، فما دام طالباً متلقياً فالذي ينبغي أن يعتمد قول معلمه على أنه إمام له، ولذلك نجد الطلبة ونحن منهم لما كنا طلبة عند الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله نقتدي حتى في أفعاله وحركاته حتى خطي كان طيباً قبل أن أبدأ الدراسة عليه فلما بدأت الدراسة عليه صرت أقلد كتابته كتابة رديئة فتركت خطي كل ذلك من محبتنا له، واتخاذه قدوة لنا اقتدينا حتى في الكتابة حتى في المشي وحتى في كل شيء، لأن الإنسان إذا لم يعتقد في معلمه هذا الاعتقاد فإنه لا ينتفع به إذا نصب نفسه جالسا عنده للتعلم يريد أن يجعل في نفسه شيئاً من المعارضة لما يقول أستاذه، فأنا أقول: لا ينتفع به، وإن انتفع به فهو قليل. لكن إذا قدرنا أن هذا الطالب عنده من العلم ما ليس عند معلمه وهذا شيء واقع لا ينكر، فيقال: نعم، إذا كان عنده من العلم بدلالة الكتابة والسنة ما ليس عند معلمه فإنه لا يمكن أن يأخذ بقول معلمه ويدع ما دل عليه الكتاب والسنة، لكن هنا يجب أن يناقش المعلم إما في الجلسة إذا رأى مناسبة، وإما فيما بينه وبينه. والواجب على المعلم إذا تبين له الحق أن يرجع لأن الحق ضالة المؤمن فتمسكوا بهذا على ان المتعلم آخذ عن معلمه يأخذ عن معلمه حتى يستفيد، أنت الآن لو تطالع كتاباً لكي تناقش ما في الكتاب هل تستفيد منه كما لو طالعته لتكسب منه علما؟ لا، بينهما فرق، ولهذا أنا أجد في نفسي فرقاً بين أن أقرأ مؤلفاً لشيخ الإسلام ابن تيمية أو مؤلفاً لغيره، أجد نفسي في الأول متلقياً مستلهماً مستفيداً. أما في الثاني فقد يكون مراجعتي له من باب الإطلاع على خلاف في المسألة إن كانت المسألة تحتاج إلى معرفة خلاف وما أشبه ذلك فالآن هذه نصيحة لكم وجربوها تجدوها. ومن فوائد الحديث: أنه كلما كانت البهيمة أكمل خلقة فهي أفضل لقوله: «أقرنين» والقرن من كمال البهيمة، وكذلك أيضا الأذن إذا كانت الأذن تامة ليس فيها خرف ولا شق ولا قطع فهو أفضل.

ومن فوائد الحديث: التسمية والتكبير عند الذبح لقوله: «يسمى ويكبر» فالتسمية سبق لنا أنها شرط لحل الذبيحة، والتكبير سنة وليس بشرط، ولكن هل هو سنة على ما ذبح لغير العبادة أو هو سنة فيما ذبح للعبادة فقط؟ فيه احتمالان، الأول: أنه سنة فيما ذبح على أنه عبادة فقط، وأما ما ذبح على أنه ليس للعبادة فهو تسمية بدون تكبير، ولكن ما دام الأمر متردداً فقد يقال: إن الأتباع أولى وهو الجمع بين التسمية والتكبير. ومن فوائد الحديث: استحباب وضع الرجل على الصفاح يعني: على صفحة الرقبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ولأن فيه إراحة للحيوان؛ ولأن فيه تمام قدرة المذكي على التذكية. ومن فوائد الحديث: أنه لا يسن الإمساك بأرجلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ولم يأمر بذلك، فإن قال قائل: وعلى أي جنب يضجع؟ قلنا: على ما هو أسهل وأيسر فالذي يذبح باليمنى، الأفضل أن يضجعه على الجانب الأيسر، والذي يذبح باليسرى، الأفضل أن يضجعه على الجانب الأيمن؛ لأن علة هذا معقولة ليست تعبدية بإضجاعه على الجانب الأيسر بل هي معقولة المعنى وداخلة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وليرح ذبيحته». ومن فوائد الحديُ: أنه ينبغي للمضحي أن يذبح بيده لقوله: «ذبحهما بيده» لأن في ذلك كمال لتعبيد لله عز وجل فيكون متقربا لله بالذكر والفعل والمال الذكر في التسمية والتكبير، والفعل ذبحهما بيده، والمال أنه اشتراهما، فالإنسان إذا ذبح بيده مع التسمية والتكبير استفاد هذه الفوائد الثلاث. ومن هنا نأخذ أن ما استحسنه بعض الناس في هذه الأيام من إرسال قيمة الذبائح إلى جهات بعيدة تذبح ويتصدق بها على الفقراء هناك خطأ؛ لأنه ليس المقصود من الأضحية الانتفاع باللحم لقول الله تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} [الحج: 37] المقصود التقرب إلى الله بالذبح، فالذبح نفسه عبادة محبوبة إلى الله مقصودة بالذات، ولكن لو فرضنا أن بالمسلمين حاجة شديدة في بلادهم فهنا نقول: إن كنت ذا جدة فأرسل إليهم ما يسد حاجتهم، وإن لم تكن ذا جدة فينظر هل الأفضل أن تضحي أو أن تسد جوع إخوانك؟ إذا كان الثاني فأرسل لهم دراهم تنفق عليهم لا على أنها أضحية ويكون هذا من باب تفضيل الصدقة على الأضحية. ومن فوائد الحديث: استحباب مباشرة المضحي للذبح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم باشر ذلك، ذبحها بيده، فإن كان لا يحسن أو كان عاجزاً فقد قال العلماء: ينبغي أن يوكل واحداً يذبح ويكون حاضراً. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي اصطياد السمين لقوله: «سمينين» واختلف العلماء أيما أفضل التعدد أو الحسن، يعني: السمين أو التعدد، فمثلاً: إذا كان الإنسان يريد أن يضحى

بواحدة لكنها سمينة جيدة أو يضحي باثنتين دونها لكنها في الثمن توافيهما، اختلف العلماء في ذلك: والصحيح التفصيل، وهو أن الناس إذا كانوا في رغد من العيش وسعة فإن الأسمن أفضل، وإذا كانوا في ضيق من العيش فكلما تعددت كان أحسن لأجل أن ينتشر انتفاع الناس بالأضحية. ومن فوائد الحديث: استحباب ما كان ثمنه أكثر لقوله في رواية أبي عوانة: «ثمينين» والغالب أن ما زاد ثمنه فإنما يزيد لحسنه إما للسمن أو للكبر أو لغير ذلك. ومن فوائد الحديث: أنه يسمي ويقول: الله أكبر، أمال التسمية فظاهر أنها واجبة وأنها لا تحل ذبيحة بدونها، وأما التكبير فسنة، ومناسبته هنا واضحة، لأن الذبح تعظيم لله تعالى بالفعل والتكبير تعظيم له بالفعل. أما حديث عائشة ففيه فوائد: منها: جواز إصدار الأمر إلى الغير، ومعلوم أن إصدار الأمر سؤال مع أنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً فكيف الجمع؟ الجمع سهل يقال: أما من كان يستثقل أمره ولا يمتثل المأمور إلا على إغماط فهذا لا يسال، وأما من كان يفرح بأمره بحيث إنه إذا أمر يعتقد المأمور بأن له الفضل عليه فإن هذا لا بأس به، ومعلوم أن كل واحد يحب أنه يوجه النبي صلى الله عليه وسلم إليه أمراً وأنه يفرح بذلك، ولهذا أمر بكبش أقرن. ومن فوائد الحديث: اختيار الكبش وهو الكبير من الخراف واختيار الأقرن، لأنه أكمل خلقة وأقوى غالباً. ومن فوائد الحديث: اختيار هذا اللون أن يكون أبيض لكن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد كما سبق، وقد يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أمراً معيناً على كبش صادف أنه يطأ في سواد ... إلخ، بمعنى أن اختيار اللون لا أثر له، لكن الأصل أن قوله: «أنه أمر بكبش» هذا وصفه وأنه لم يقع اتفاقاً. وكيفية وقوع الاتفاق يكون مثلاً قطيع من الغنم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم هاتوا هذا نضحي به، فصادف أنه على هذا الوصف يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، وأن الرسول أختاره لا لأجل هذا اللون المعين، ولكن لعله أفضل ما يكون في هذا القطيع. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز الاستعانة بالغير في الذبح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بعائشة. ومن فوائده: أنه ينبغي شحذ المدية بحجر أو ما يقوم مقامه مما هو أشد لأجل إراحة الذبيحة، وظاهر هذا الحديث أنها شحذتها والبهيمة تنظر مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار

حكم الأضحية

وأن تواري عن البهائم وتخفى لئلا تنزعج؛ لأن البهيمة تدري وتعرف، فلذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن توارى عن البهائم فيقال في الجمع: إن أمره إياها أن تشحذها بحجر لا يستلزم مشاهدة البهيمة لأنها لو استدبرت البهيمة شحذتها بدون أن تراها. ومن فوائد الحديث: أنه يسن اضطجاع الضأن، وكذلك المعز، وكذلك البقر، هذه الثلاث يس اضطجاعها، ولكن على أي الجنوب؟ حسب ما هو أسهل للذبيحة فالذي يعمل باليمين، الأسهل للذبيحة أن يضجعها على اليسار، والذي يعمل باليسار، الأسهل للذبيحة أن يضجعها على اليمين والمقصود إراحة الذبيحة. ومن فوائد الحديث: جواز الاقتصار على البسملة دون التكبير؛ لأنها لم تذكر التكبير قال: باسم الله ولم يذكر التكبير، وفي حديث أنس السابق أنه سمى وكبر، فدل ذلك على أن التكبير ليس بواجب. ومن فوائد الحديث: أنه يسن أن يدعو الإنسان بالقبول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك، ولكن هل يقال: إن هذا مشروع في كل عبادة أو فيما ورد به النص فقط؟ الظاهر: الثاني؛ لأننا لم نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهى من صلاته قال: «اللهم تقبل» وإنما كان يستغفر ويقول: «اللهم إنك أنت السلام» وهذه الجملة هي في الحقيقة تتضمن الدعاء بالقبول لأن قوله «اللهم إنك أنت السلام» توسل إلى اله سبحانه باسم السلام ليسلم له صلاته، وهذا، يعني: دعاءه بالقبول لكنه ضمنا. ومن فوائد الحديث: فضل النبي صلى الله عليه وسلم على أمته حيث سأل الله أن يتقبل من أمة محمد، الأضاحي، وأما اللفظ فيدل عمومه على أنه عام في كل شيء يتقبله الله عز وجل. لو أن الإنسان أتى بهذا الدعاء بغير هذه الصيغة وقال: يا رب تقبل منا هل يجزئ؟ نعم يجزئ لكن الأفضل المحافظة على اللفظ الوارد في كل الأدعية، كل الأدعية يحسن أو يصلح أن تقتصر على المعنى ويجزئ لكن الأفضل مراعاة اللفظ. حكم الأضحية: 1296 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له سعة ولم يضح، فلا يقربن مصلان» رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم، ورجح الأئمة غيره وقفه.

«من كان له سعة» أي: قدرة على الأضحية فلم يضح فلا يقربن مصلانا، والنهي هنا الأصل فيه التحريم، وأنه يمنع من قربان المصلى لأن من كان ذا سعة فصلى ولم ينحر فقد خالف قول الله تعالى {فصل لربك وأنحر} [الكوثر: 2] حيث قرن النحر بالصلاة. هذا الحديث اختلف علماء الحديث فيه هل هو مرفوع أو موقوف يقول: إن الأئمة رجحوا وقفه، والحاكم صححه على أنه مرفوع، ومر علينا قاعدة: (أنه إذا اختلف في الحديث أمر مرفوع هو أم موقوف وكان الرابع له ثقة أخذ بالرفع) فهل نقول: إن هذا مثله؟ الجواب: لا، لأن العبارات التي يسلكها العلماء- رحمهم الله- ليست في كل مكان وفي كل سياق، مر علينا قاعدة تشبه هذا (إذا تعارض مثبت وناف أخذنا بقول المثبت) وسبق لنا في رفع اليدين في السجود أن ابن عمر قال: كان لا يرفع يديه في السجود، وأنه مقدم على الحديث الذي يقول: كان يرفع إذا سجد لأن ابن عمر هنا نفيه إثبات لأنه رضي الله عنه تتبع الصلاة يشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم يرفع عند التكبير وعند الركوع وعند الرفع منه ثم يقول: ولا يفعل، هذا لا يمكن أن يقال: لعله لم يطلع؛ لأن أصل تقديم المثبت على النافي هو أن النافي ليس عنده علم فإما نسي وإما جهل، لكن هذا لا يمكن أن يقال: ليس عنده علم لأنه فصل وبين، ولا يمكن أن يقال: نسي؛ لأنه يبعد أن ينسي جملة من ثلاث جمل أو أربع. على كل حال: كلام العلماء في بعض الأحيان ليس على إطلاقه، هنا نقول: تعارض رافع وواقف فمن نقدم؟ الأصل نقدم الرافع، لأن الرفع لا يناقض الوقف؛ إذ إن الراوي قد يسوق الحديث خبراً وقد يعمل به حكما، إذا عمل به حكما فهو موقوف وإذا ساقه خبراً فهو حديث مرفوع لكن هنا قرينة تدل على أن الوقف أرجح مها الموازنة ابن حجر يقول الأئمة رجحوا وقفه، ومعلوم أن الأئمة أقوى من الحاكم وحده، ثانياً: أن أبا هريرة تولى إمارة المدينة صار أميراً في المدينة فيمكن أن رضي الله عنه يرى وجوب الأضحية أو يرى تأكدها ومنع من لم يضح مع السعة أن يقرب المسجد تعزيزاً له، فهذه قرينة تؤيد أنه موقوف، وكون الأئمة رجحوا وقفه وانفراد الحاكم برفعه أيضاً يؤيد أنه موقوف. أما ما يستفاد منه: فقد استدل به من يرى أن الأضحية واجبة، ووجه الدلالة: تعزيز من لم يضح بمنعه من المسجد، ولا تعزيز إلا على ترك واجب، أو فعل محرم، وأجاب من لم ير الوجوب بأن هذا الحديث موقوف على أبي هريرة وليس بحجة فلا يدل على الوجوب، ومر علينا بالنسبة لحكم هذه المسألة أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى وجوب الأضحية وكذلك هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله. ومن فوائده- سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً: أن من لم يجد فلا واجب عليه، وهذا هو

وقت الأضحية

الذي يشهد له القرآن والسنة/ قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] هذا في الأوامر، وفي النواهي قال: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} فنقول: في هذا الحديث دليل على أن من كان غير قادر على الأضحية فإنه لا تجب عليه، وهذا موافق للقاعدة العامة وهي قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. ومن فوائد الحديث: جواز تعزيز الإنسان بحرمانه من الطاعة لقوله: «فلا يقربن مسجدنا» وفي هذا إشكال، لأن العلماء قالوا: يحرم التعزيز بالمحرم، وقالوا: يحرم التغزيز بترك الواجب، مثلاً: لو أن الأمير عزر عاصياً بحلق اللحية كان هذا حراماً عليه، لأن حلق اللحية حرام. وكان بعض الولاة الظلمة فيما سبق بهذا إذا فعل الإنسان معصية غزره بحلق لحيته، وماذا يصنع المحلوق؟ يتلثم حتى لا يرى إذا اضطر إلى الخروج وإلا بقي في بيته خوفاً من الفضيحة أما الآن- نسأل الله السلامة فكما تعلمون- يأتي الإنسان ووجهه أوسع من جسمه وهو حالق اللحية، ولا يبالي نسأل الله لهم الهداية يقول: لا يجوز التعزيز بالمحرم ولا بترك الواجب، فيجاب عن ذلك أن ترك الواجب هنا فيه مصلحة وهو أن يكون منع هذا الرجل من قربان المسجد نكالاً له ثم إن بإمكانه أن يقوم بالواجب إذا قلنا بوجوب الأضحية وقت الأضحية 1297 - وعن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: «شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته بالناس نظر إلى غنم قد ذبحت، فقال: من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله» متفق عليه في هذا الحديث: دليل على جواز نحر الأضاحي وذبحها في المصلى، يعني: حول المصلى، والحكمة في ذلك: هو أن أصحاب الشعيرة تكون صلاتهم مقارنة للنحر في الزمان والمكان، ولإظهار الشعيرة، وهذه السنة تركها الناس من أزمنة متطاولة لكن هي سنة لا شك. وسمعت أن بعض الناس في بعض القرى يقومون بهذه السنة يخرج الإنسان ما يريد أن يضحي به ويربطه حول المسجد فإذا انتهت الصلاة والخطبة ذبحها وهذا خير. لكن في الوقت الحاضر لو قال قائل: يلزم من هذا أي: دعوة الناس لفعل هذه السنة يلزم على ذلك مفاسد وهو أن هذه الأضاحي ربما تشغل المصلين بأصواتها ويكون في ذلك تشويش على الناس، ثم إذا ذبحت في المكان لزم من ذلك الدماء والأذى والقذر ما يصعب معه أن يعالج ثم ربما تختلط هذه الأضاحي بعضها ببعض ويحصل عند ذلك نزاع.

فعلى كل حال: نرى أنه إذا خيف من هذه المفاسد أن يقال: تبنى على القاعدة العامة وهي أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، على أن هذا ليس بسنة لكل أحد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر بعض الصحابة الذين ضحوا في بيوتهم، أقرهم على ذلك وهو لم يأمر أن يذبح في المصلى، ولكن فعل وهذا أيضا مما يهون المسألة إذا قلنا إن هذه سنة أميتت، والسنة إذا أميتت يجب أن تحيا، ويكون إحياؤها واجباً، نقول: الحمد لله علم الرسول أن بعض المسلمين ذبحها في مكانه. ومن فوائد الحديث: أن من ذبح قبل الصلاة وجب عليه الضمان أن يذبح شاة «مكانها» وتأمل قوله مكانها لتستفيد منه أنه لابد أن يكون البدل مثيلاً للمبدل فإن كان أحسن كان أولى. ومن فوائد الحديث: أن العبادة إذا فعلت قبل وقتها فإنها لا تجزئ ولو كان عن جهل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل وعلى هذا فلو أن الإنسان صلى الظهر قبل زوال الشمس ظناً منه أن الشمس قد زالت أو أنه يجوز أن يصلي قبل الزوال فإن صلاته لا تجزئه عن الفريضة لكنها تجزؤه نافلة، لأنه لم يوجد في الصلاة ما يبطلها إلا أنها قبل الوقت فتكون نافلة له، ولهذا من عبارات الفقهاء في هذا الموضع ينقلب نفلاً ما بأن عدمه، كفائته لم تكن، وفرض لم يدخل وقته فائتة لم تكن، يعني: إنسان ظن أنه نسي صلاة الظهر فصلاها بناء على أنه نسيها ثم تبين أنه قد صلاحا نقول: الثانية تكون نفلاً، وكذلك الفرض قبل دخول وقته إذا ظن أن وقته قد دخل وصلى فإنه يكون نفلاً لكن الرسول صلى الله عليه وسلم صرح في الحديث الآتي أو الذي لم يأت لكنه مفهوم صرح بأن الأضحية إذا ذبحت قبل الصلاة فإنها شاة لحكم. وعلى هذا فلا تكون عبادة والفرق أن الأضحية لا تصح نفلاً ولا فريضة قبل دخول الوقت، وأما صلاة الفريضة قبل دخول وقتها فإنها تكون نافلة لأن النفل يجوز في غير وقت الفريضة. ومن فوائد الحديث: وجوب البدل على من ذبح قبل الصلاة، الدليل «فليذبح» واللام للأمر، ويقاس على ذلك من أتلفها بغير نية التقرب فإنه يلزمه ضمانها، يعني: لو عين شاة على أنها أضحية ثم ذبحها لضيف نزل به فإنه يجب عليه أن يذبح أضحية بدلها مكانها بمعنى: أن الأضحية البدل تكون مثل المبدل من جهة الحسن والطيب وإذا كانت أطيب فلا بأس. ومن فوائد الحديث: وجوب الذبح على اسم الله لقوله: «ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله» وسبق لنا أن التسمية شرط وأنها لا تحل الذبيحة بدون تسمية، سواء أتركها ناسياً أو جاهلاً أو عامداً.

عيوب الأضحية

إذن من شروط الأضحية أن تكون في الوقت وقت الذبح- ووقت الذبح من بعد الصلاة وينتهي على القول الراجح بغروب الشمس ليلة الثالث عشر، وهل يشترط أن يكون الذبح بعد خطبة الإمام؟ لا، هذا الحديث يدل على أنه ليس بشرط لقوله: «من ذبح قبل الصلاة» وهل يشترط أن يكون بعد ذبح الإمام؟ لا العبرة بالصلاة وهل يشترط أن يكون مصلياً؟ يعني: لو ترك الصلاة ولكنه يسمع أداء الصلاة وسمع الإمام يسلم، فهل يجوز أن يذبحها؟ نعم، لأن الصلاة ليس شرطاً للأضحية بمعنى: أنه يجوز أن يضحى من لا يصلي العيد. عيوب الأضحية: 1298 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنه: قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها والكبيرة لا تنفي» رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان. هذا الحديث روي على عدة أوجه منها ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل ماذا يتقى من الضحايا فأجاب «أربع» وأشار بأصابعه- صلوات الله وسلامه عليه- نحوها بالقول وبالإشارة، ولا يبعد أن يكون سئل وهو يخطب فأشار ثم نقل الراوي المقصود منه وهو بيان ما يتقى في الضحايا لكن هذا المعنى لا تجزئ أو المعنى لا تحل؟ أما ظاهر اللفظ فهي لا تحل، ويحتمل أن يكون المراد ينفي الجواز نفي الإجزاء، لكن نفي الجواز هو المطابق لظاهر الحديث والمعنى يقتضيه أيضا لأن هذه المعيبات لو تقرب بها الإنسان على أنها ضحايا صار كالمستهزئ بآيات الله وحينئذ يكون هذا حراماً ولا شك، فإذا كان في إحدى الروايات لا تجزئ صار المعنى أنها حرام، أي: يحرم التقرب إلى الله تعالى بها، لأن ما يسخطه لا يجوز أن يتقرب به الإنسان إليه- سبحانه وتعالى- وقوله: «وفي الضحايا» جمع ضيحة وهي ما يذبح أيام النحر تقرباً إلى الله تعالى سواء ذبحها في الضحى أو بعد الظهر أو بعد العصر أو في الليل. أولاًك «العوراء البين عورها» قد يقول متزحلق: المراد بالعوراء هنا ما كانت معيبة لأن العو هو العيب، ولكننا نقول: ليس كذلك؛ لأنه ذكر أشياء بعدها كلها معيبة، فالمراد بالعور هنا: عور العين، العوراء البين عورها، لم يطلق الرسول صلى الله عليه وسلم العور بل قال: البين عورها، فبهذا يكون بيان العور؟ هل هو بالمشي أو برؤية العين؟

بالمشي؛ لأن العوراء مشيها ليس كمشي الصحيحة، تجدها تخضع لرقبتها قليلاً ليكون النظر مسلطاً على ما أمامها لأنها لا تنظر إلا من جانب واحد فإذا دققت النظر وجدت ذلك من أجل أن تنظر تماماً، أو المراد: النظر، البين عورها بالرؤية؟ بالرؤية نعم بماذا؟ قال العلماء: يكون بيان العور بواحد من أمرين: إما أن تكون العين قد نتأت، وإما أن تكون قد، انخسفت نتأت يعني: برزت: بعض الأحيان يكون العين يبرز كأنها غدة زائدة، أو انخسفت يعني: غارت. وبناء على ذلك لو كانت لا تبصر بالعين لكن من رآها لا يرى أنها عوراء فإنها تجزئ. الثاني: «المريضة البين مرضها» أيضا لم يطلق الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يشق على الأمة، لأنه قد لا تخلو شاة من مرض، لكن لابد أن تكون بينة المرض، فبماذا يبين المرض؟ أولاً: بالسخونة إذا مسكتها وجدتها حارة جدا، هذا مرض بين. ثانياً: بالخمول وعدم المشي مع السليمات وما أشبه ذلك. ثالثا: بقلة الأكل فإن قلة الأكل يدل على المرض لاسيما في الحيوان الذي ليس له إرادة كإرادة الإنسان. رابعاً: بما يظهر على جسدها مثل الجرب مرض بين وخطير وربما يتقعر حتى يصل إلى اللحم أو إلى العظم، فهذا من بيان المرض. كذلك قد يكون من المرض أن يكون معها خمول وكسل وتئن أنيناً غير معتاد؛ لأن الأنين يدل على أن فيها مرضاً. فعلى كل حال: ربما تكون هناك بيانات أخرى غير ما ذكرت، فالمقصود أن يكون المرض بيناً. الثالثة: «العرجاء البين ضلعها» العرجاء اليد أو الرجل أو بهما؟ بأحدهما أو بهما إذا كانت عرجاء باليد أو بالرجل لكن عرجها بين ليس مجرد أن تهمز إذا مشت لا، لابد أن يكون العرج بينا حده بعض العلماء بأنه لا تطيق المشي مع الصحيحة، دائماً تجدها متخلفة عن الماشية سواء كانت بعيراً أو بقراً أو غنماً متخلفة حتى لو نهرتها ما استطاعت أن تعانق الصحيحات، أما التي تهمز يسيراً ولكنها تعانق الصحيحات فهذه عرجاء ولكن ليس بينا عرجها. الرابع: «الكبيرة التي لا تنقي» الكبيرة هي الكبيرة في السن التي لا تنقي، يعني: ليس فيها نقي والنقي هو المخ، وهذه لا يمكن أن يعلم بها إلا بعد أن تذبح ويكسر عظمها، المراد هنا: الكبيرة في أعضائها وليس مخ الرأس، وهذه لا تعرف إلا بعد الذبح، وكبر العظم إذا كان العظم ليس فيه مخ فإنها لا تجزئ ولكن هل لابد من الشرطين بمعنى أن تكون كبيرة وأنه لا مخ فيها، بمعنى: أنه لو كان ليس فيها مخ ولكنها صغيرة تجزئ أو لا؟ الظاهر أن قوله: «كبيرة» وصف طردي بمعنى: أن المدار على المخ، ويحتمل أن يقال: إنه ليس وصفاً طردياً لوجهين، أن الأصل في الأوصاف أنها أوصاف قيود لابد منها، والثاني: أن

التي لا مخ فيها وهي شابة لا تكون كالعجوز الكبيرة؛ لأن العجوز الكبيرة لحمها فاسد وليس فيها مادة قوة التي هي المخ فالظاهر لي-والله أعلم- أن التي لا مخ فيها وهي شابة لا يمنع ذلك إجزاءها. هذه الأربع ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم محصورة بالعدد، والعدد غالباً مفهومه مخالفة؛ لأنه في الحقيقة يؤول إلى صفة لأن «أربع» هو البالغ هذا العدد، فعلى هذا يكون مفهومه مفهوم الصفة إن لم يكن أشد دلالة على الحصر، وعلى هذا فما سوى الأربع يجزئ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حصرها في مقام الخطابة، وجواباً للسؤال وهذا كله يؤيد أن الذي لا يجزئ محصور بهذا العدد وبهذه الموصوفات بهذه الصفات. نرجع إلى الفوائد نقول في هذا الحديث: دليل على حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبلاغ الأمة حيث قام خطيباً يبين للناس ما يجزئ وما لا يجزئ في الأضحية. ثانياً: فيه حسن التعليم وذلك بالحصر؛ لأن حصر الأشياء يوجب أن يكون الإنسان يحفظها ولا ينساها لو ذكر لك الكلام مرسلاً بدون حصر بعدد يمكن أن تنسى شيئاً من الجمل لكن إذا كان محصوراً بعدد فسوف تقول: واحداً اثنين ثلاثة، أين الرابع ثم تتذكره وتبحث عنه في الحافظة المخية، فلذلك من حسن التعليم: أن المعلم يحصر الأشياء لأنها أقرب فهما وأقوى حفظاً وأسرع للاستذكار. ومن فوائد الحديث: أن العوراء البين عورها لا تجزئ، ولا تجوز وهو نص الحديث ومفهومه: أن العوراء التي لا يبين عورها تجزئ، ولا تجوز العمياء من باب أولى، هذا ما نعتقده ونرى أنه مقتضى اللفظ والمعنى لكن بعض العلماء- رحمهم الله وعفا عنهم- قال إن العمياء تجزئ لأنها لا تمشي قد أنملة، والعوراء لا تجزئ، قال: «لأن العمياء يعتني بها ويؤتي إليها بالعلف والماء ولا يقصر عليها قاصر فهي كالعيناء التي ترعى بعينها، وحينئذ لا يأتيها قاصر لكن هذا تعليل عليل بل ميت.» نحن نقول: حتى العوراء أيضا يمكن أن يؤتى إليها بالرزق لكن العلة هي فقد عضو مهم في هذا الجسد الذي يتقرب به الإنسان إلى الله عز وجل فالقول بأن العلة هذا، قول ضعيف لا شك، يعني: أن العلة أنها لا تأكل أكلاً كثيراً هذا ضعيف وليس بصحيح. ويستفاد من هذا الحديث: أن المريضة التي مرضها خفيف لا تضر يعني: لا تمنع من الإجزاء ولكن لا ينبغي للإنسان أن يأكلها أو أن يضحي بها وفيها هذا المرض حتى يعرضها على الأخصائيين البياطرة يسأل هل هذا مرض مضر أو لا؟ إن كان مضراً فلا يذبحها أصلا، لا تجزئ، وأن لم يكن بينا فإنها تجزئ.

من فوائد الحديث: أن ما أخذها الطلق فإنه لا يضحى بها حتى تضع، وذلك لأنها على خطر بما تموت، ولهذا قال العلماء- رحمهم الله- إن التي أخذها الطلق يعتبر مرضها مرضا مخوفاً في باب العطايا والهبات فعلى هذا إذا كانت هذه البهيمة تتولد وأراد الإنسان أن يضحي بها نقول: انتظر حتى تلج. كذلك أيضا المبشومة لا يضحي بها حتى تبرأ، والمبشومة هي التي انتفخ بطنها من الأكل، أحياناً تأكل الشاة تمراً ولا يناسبها فينتفخ البطن وهي على خطر في هذه الحال فلا يضحي بها حتى تبرأ، أي: حتى يخرج منها الخارج، كذلك ما لدغت الحية فإنه لا يضحي بها لأنها على خطر، وكذلك لو تدحرجت من شاهق فأغمي عليها فإنه لا يضحي بها حتى تفيق وأمثال هذا، المهم: أن يكون الشيء بينا معرضا للخطر. ومن فوائد الحديث: أن العرجاء البين عرجها لا تجزئ فأما ذات العرج السهل فإنها تجزئ لكنه كلما كانت أكمل فهو أفضل لقول الله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92]. ومن فوائد الحديث: أن مقطوعة اليد أو الرجل لا تجزئ لأن هذا أولى من العرج، فإذا كان العرج يمنع من الإجزاء فقطع العضو، أي: اليد أو الرجل من باب أولى. ومن فوائد الحديث: أن الزمني لا يضحى بها والزمني: التي لا تستطيع المشي إطلاقاً كالشلل أو تعكف في اليدين والرجلين كيف نعرف أنها لا تجزئ؟ من أنها أولى من العرجاء البين عرجها. ومن فوائد الحديث: أن الكبيرة التي ليست فيها مخ لا تجزئ لقوله: «الكبيرة التي لا تنقي» فإن كان فيها مخ فإنها تجزئ ولو كانت كبيرة جداً، وإن كانت لا مخ فيها لكنها صغيرة فهل تجزئ؟ ذكرنا لكم أن الكبيرة وصف طردي لا مفهوم له وهو بيان للواقع الغالب، وعلى هذا فلو فرض أن شاة هزيلة ضعيفة ليس فيها مخ ولكنها شابة فإنها لا تجزئ لكن لو كانت الشاة ليس فيها مخ وهي شابة وذات لحم يعني لا هزيلة ولا كبيرة لكن ليس فيها مخ أو لا نسأل هل هذا ممكن؟ هذا لا يمكن لأن السمينة لابد أن يكون فيها مخ وكذلك الشابة. لكن قالوا: إنه يمكن أن تكون سمينة فيها لحم وشحم كثير ولكن لا مخ فيها، يكون هذا إذا كانت السنة سنة جدب لا تأكل ثم أنشأ الله تعالى الربيع بسرعة وشبعت منه فإنها هنا تبني اللحم والشحم قبل أن يدخل المخ إلى أعضائها ومثل هذه نقول: إنها تجزئ لأن أصل المخ الذي في العظام ليس مقصوداً لذاته، وليس مقيداً لصورة البهيمة، لكنه دليل على اللحم والشحم والقوة والنشاط فإذا حصل مثل هذه الحال وهي نادرة فإنها تجزئ.

ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يتقرب إلى الله عز وجل بما فيه عيب، ويشهد لهذا قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267] الخبيث يعني: الرديء {ولستم بأخذيه إلا أن تغمضوا فيه} [البقرة: 267] وقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92]. وكان ابن عمر رضي الله عنها إذا أعجبه شيء عنده تصدق به لأجل أن ينال البر المذكور في هذه الآية. وأبو طلحة رضي الله عنه كان له بستان وكان قبلة هذا البستان المسجد النبوي، وكان فيه ماء طيب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى هذا البستان ويشرب منه، ولا شك أن شرب النبي صلى الله عليه وسلم سيزيده غلاء في قلب أبي طلحة، فلما نزلت هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن الله أنزل {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب مالي إلى بيرحاء وإني أضعها بين يديك صدقة إلى الله ورسوله فقال: «بخ بخ ذاك مال رابح ذاك مال رابح» وصدق النبي صلى الله عليه وسلم هذا مال رابح لأن مالك مهما كان حسنا في عينك فإنك مغادره أو هو مغادرك، لكن المال الذي تخرجه لله عز وجل هو المالك الرابح لأنك تجده في يوم أنت أحوج ما تكون إليه لا درهم عندك ولا متاع ولا أهل ولا ولد، فهذا هو الذي يبقى «بخ بخ ذاك مال رابح ذاك مال رابح» ثم قال له: «أرى أن تضعها في الأقربين» فجلها أبو طلحة في بني عمه وأقاربه. والحاصل: أن هذا الحديث يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يتقرب إلى الله بالشيء الجيد الطيب السليم، وألا يتقرب إلى الله بما ليس كذلك، وهنا سؤال هل المعتبر هنا في العيوب ما كان عيباً في البيوع وهو ما ينقص قيمة المبيع، أو أن هذه عيوب منصوص عليها ولا عبرة بالقيمة. الثاني لا شك، ولهذا تجد أن العوراء التي لا يبين عورها هي غير معيبة شرعاً في الأضاحي لكنها في البيع والشراء معيبة، وكذلك في العرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها، العرجاء التي لا يبين عرجها هذا عيب في البيع والشراء والمريضة التي لا يبين مرضها عيب في البيع والشراء، لكن لا عبرة بذلك، العبرة بالعيوب المنصوص عليها شرعاً. نأخذ من هذا الحديث من الفوائد أيضاً: أنه يشترط في الأضاحي أن تكون سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء وسبق لنا أنه يشترط أن تكون من بهيمة الأنعام فهذان شرطان.

حكم ذبح المسنة

حكم ذبح المسنة: 1299 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» رواه مسلم. «لا تذبحوا» هذا نهي والمراد: لا تذبحوا في الأضاحي وليس نهياً مطلقاً لأن ما هو صغير من المواشي يذبح في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يضر، «إلا مسنة» هذه المسنة فما هو السني من الضأن؟ ما تم له سنة، ومن المعز ما تم له سنة، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن الإبل ما تم له خمس سنين، وما دون ذلك لا يجزئ في الأضاحي لكن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى فقال: «إلا أن عسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» الضأن تختص بما دون السنية وهي الجذعة تجزئ، ولهذا قال: إلا أن تعسر فتذبحوا جذعة من الضأن، والجذع من الضأن ما تم له ستة أشهر، قالوا: وله علامة وهي أن الصغير من الضأن يكون شعر ظهره واقفاً فإذا صار جذعاً فإنه ينام الشعر ينام على الظهر، وهذا ربما تكون علامة مقربة لكن المدار على ما تم له ستة أشهر. في هذا الحديث: دليل على أنه لابد في الأضاحي من أن تكون الأضحية سنية فأكثر لقوله: «لا تذبحوا إلا مسنة». ومن فوائده أيضاً: أنه يجوز التضحية بالجذع من الضأن لكن الحديث كما ترون مشروط بن إذا تعسرت السنية، فهل هذا الشرط شرط للإجزاء أو للكمال؟ ظاهر الحديث أنه شرط للإجزاء لأنه قال: إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن، يعني: فلا حرج، ولكن سيأتينا- إن كان المؤلف قد ذكره- بأنه يجوز التضحية بالجذع مطلقاً فالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح التضحية بالجذع من الضأن مطلقاً، وعلى هذا فيكون هذا القيد: «إلا أن تعسر عليكم» قيد للأكمل والأفضل: يعني: أن الأفضل السنية أفضل من الجذعة، لكن إن تعسرت ولم تكن متيسرة فاذبحوا جذعة من الضأن، وإن ذبحتم بدون أن تتعسر فلا بأس، دلت عليه السنة من وجه آخر، إذن أضف إلى الشرطين السابقين شرطاً ثالثاً، وهو بلوغ السن المعتبر شرعاً وهو في الإبل خمس سنين والبقر سنتان والمعز سنة والضأن ستة أشهر.

عيوب الأضحية: 1300 - وعن علي رضي الله عنه: قال «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة ولا مدابرة، ولا خرقاء ولا ثرماء» أخرجه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم. «أمرنا» الأمر طلب الفعل على وجه الاستعلاء وهل يقتضي الوجوب أو الاستحباب؟ هذا محل ذكره أصول الفقه، «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين» أي: طلب شرفهما أي: حسنهما يعني: أن نتفقد العين والأذن وننظر الأحسن في منظره والأحسن في أذنه، وألا نضحي بعوراء يعني: وأمرنا ألا نضحي بعوراء وسبق أن العور فقد البصر في إحدى العينين وأنه ينقسم إلى قسمين بين وغير بين، وحديث على بعوراء يشمل العوراء البين عورها وما لا يبين عورها، وألا نضحي بمقابلة ولا مدابرة هذه هي العيوب المقابلة والمدابرة والخرقاء كلها عيوب في الأذن. أما المقابلة فهي التي يقابلك عيبها والمدابرة هي التي يدابرك عيبها والخرقاء مخروقة الأذن، المقابلة هي أن تشق أذنها عرضا من قدام، المدابرة عكسها تشق الأذن عرضا من الخلف، الخرقاء ما خرقت أذنها سواء خرقت من أعلى أو أسفل أو الوسط أو اليمين أو اليسار، أي: خرق وسواء كان الخرق من الوسم أو من حادث أصابها. ولا ثرمي وهي التي سقط من أسنانها شيء، ويوشك أن تكون هذه الكلمة غير محفوظة لأنه ليس لها علاقة بالعيب والأذن، والحديث يقول: أن نستشرف العين والأذن، ولذلك [جاء في] بعض ألفاظ الحديث: «لا شرقي» وهي التي تشق أذنها من الوسط طولاً. هذا الحديث: يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يتفقد أضحيته حتى الأعضاء الصغيرة فيها وهي العين والأذن يتفقدها ويختار الأحسن والأجمل لقوله: «أمرنا أن نستشرف العين والأذن» وهل هذا الأمر للوجوب بمعنى أن تكون العين شريفة والأذن شريفة؟ لا، هذا على سبيل الاستحباب ويدل لذلك حديث البراء أن الممنوع من التضحية به هي الأربع، أما هذا فهو على سبيل الكمال ألا نضحي بعوراء، هذا يستفاد منه أيضاً: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا نضحي بعوراء»،

وهل هذا الأمر على الوجوب؟ نقول: لا، فيه تفصيل، أما العوراء البين عورها فإننا لا نضحي بها وجوبا ويفيده حديث البراء، وأما العوراء التي ليس عورها بيناً فإننا نضحي بها لكن الأفضل الا أن التضحية بها تكون مكروهة. كذلك يستفاد من هذا الحديث: جواز التضحية بما اختل أذنه من البهائم، يستفاد من هذا الحديث: جواز التضحية لكن على خلاف الأفضل والأكمل وعليه فينبغي أن تكون الأذن سليمة ليس فيها خروق ولا شقوق ولا غير ذلك. فإن قال قائل: إذا قطعت الأذن للمصلحة فهل تدخل في هذا الحديث. نقول: نعم تدخل لأن المصلحة التي قطعت لها الأذن ليس لمصلحة البهيمة ولكنها لمصلحة صابحها لكثرة الدراهم بخلاف الخصي، تجوز التضحية به، وقد ضحى به النبي صلى الله عليه وسلم لأن الخصي إنما قطعت خصيتاه لمصلحة البهيمة فهو يكون سبباً لحسن اللحم وكثرته. ومن فوائد الحديث: ألا نضحي بالمقابلة والمدابرة والخرقاء، بل يضحي بما أذنه سليمة أسنانه شيء سواء الثنايا أو الرباعيات أو الأضراس فإنه لا يضحي به، وذلك لنقص خلقته، ولكن هل هذا على سبيل الوجوب؟ لا، ، هو على سبيل الكمال لأنه كلما كانت أسنانها أكمل فهي أفضل. بقي لنا لو انكسر قرنها فهل تجزئ؟ الجواب: نعمن تجزئ حتى لو انكسر القرن كله فإنها تجزئ: لأن القرن لا يؤكل ولا يستفيد الناس منه بالأكل، ولا يضر البهيمة إذا انكسر، لكن إن كان انكساره طريا والبهيمة متأثرة به فإننا نقول: إن كان تأثرها بيناً لم تجزئ لدخولها في قوله: «المريض البين مرضها» وأما إذا لم يكن مؤثراً فلا حرج فيها إطلاقاً أيضا: هل مقطوعة الذنب تجزئ أو لا؟ الأحاديث ليس فيها شيء يدل على هذا، لكن يؤخذ من القياس أنها مكروهة لأنها كمقطوعة الأذن، ولكنها مجزئة، وإذا كانت مقطوعة الإلية فإنها لا تجزئ، وذلك لأن الإلية لحم مقصود ومؤثر في البهيمة، وإذا كانت البهيمة مما لا ألية له خلقة فهل تجزئ؟ نعم، تجزئ، لأن هذا بأصل الخلقة، من ذلك الضأن الاسترالي فإن الأسترالي ليس له ذنب بل هو مقطوع الذنب فهو مجزئ لأنهم يقطعونه من أجل طيب اللحم وكثرة اللحم وهو يشبه ذنب البقرة ولا يشبه ألية الضأن، وقد رأينا ذلك في التي تولدت من الاستراليات ووجدنا أن ذنبها مستطيل كذنب البقرة تماماً يعني: ليس كالضأن الذي قطعت أليته، وعلى هذا فيكون مجزءاً الخصي يجزئ مقطوع الذكر يجزئ، لكن كلما كانت البهيمة أكمل فهي أفضل.

نعود إلى شروط الأضحية هي أربعة أولا: أن تكون من بهيمة الأنعام، ثانياً: تبلغ السن المعتبرة شرعاً، ثالثاً: أن تكون سلمية من العيوب المانعة من الإجزاء رابعاً: أن يكون في وقت الأضحية وهو ما بين انتهاء الإمام من صلاة العيد يوم النحر إلى أن تغرب الشمس في اليوم الثالث عشر على القول الراجح. ومن العلماء من قال: إنه يوم النحر فقط، ومنهم من قال: إنه يوم النحر ويومان بعده، ولكن القول الراجح: أنها ثلاثة أيام بعد العيد، فتكون أيام الذبح أربعة ويجزئ الذبح ليلاً ونهاراً بلا كراهة، على هذا فقوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة: 203] لا يمنع من دخول الليالي، لأن العرب تطلق الأيام على الليالي والليالي على الأيام. هل يشترط أن تكون ملكاً للإنسان؟ نعم، يشترط، فلو أن أحداً غصب شاة شخص ثم ضحى بها فإنها لا تجزئه لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا» وهذه ليست طيبة بل هي خبيثة وكذلك ما تعلق بها حق الغير كالمرهونة فإنه لو ضحى بها لم تجزئ، لأنه لا يمكن التصرف فيها. وهناك بحث: هل الأضحية للأموات أو للأحياء؟ الأضحية للأحياء وليست للأموات، ولهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنهم ضحوا عن ميت إطلاقاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم توفيت زوجته خديجة وهي من أحب الناس إليه وتوفي جميع أولاده ما عدا فاطمة وتوفي عمه حمزة بن عبد المطلب ولم يضح عن أحد منهم أيداً، ولو كان هذا من شرع الله لفعله النبي صلى الله عليه وسلم أو أرشد الأمة إليه أو فعل بحضرته وأقدره فدل ذلك على أن الأضحية سنة تتعلق ببدن الفاعل كالصلاة وغيرها من العبادات، وقد قرنها الله تعالى بالصلاة فقال: {فصل لربك وأنحر} [الكوثر: 2] وأما عن الأموات فلم يرد، لكن لو أن الإنسان تبرع لوالده بأضحية فنرجو ألا يكون في هذا بأس، وإن كان بعض العلماء يقول: لا يجوز، ، ولا تنفع الميت على أنها أضحية ولكن تنفعه على أنها صدقة؛ لأن الأضحية إنما تشرع للأحياء فقط، وأما ما يفعله بعض العامة عندنا يجعلون الأضاحي كلها للأموات يعني: مر علينا أعوام سابقة لا يعرف الناس الأضحية إلا للأموات، لا تجد أحداً يضحي عن نفسه وأهل بيته، حتى في بيتنا أذكر أنه يكون عندنا عشر أو إحدى عشرة أضحية كلها للأموات لكنها وصاياً، أما الأحياء فما كان يطرأ على بالهم أن الحي يضحى له إطلاقا. فإن قال قائل: هل يجوز أن يضحى عن الميت تبعاً؟ فالجواب: نعم، بأن يقول الإنسان: هذا عني وعن أهل بيتي ويدخل في ذلك الأحياء

لا يعطي الجزار من الأضحية

والأموات، فهذا لا بأس به، ولهذا ضحى النبي صلى الله عليه وسلم عن أمته، وأمته يدخل فيها الأحياء والأموات، فإذا ضحي عن الميت تبعاً فلا بأس. أما استقلالاً فلا، لكن الوصايا لابد من تنفيذها يعني: لو أن إنساناً كتب وصيته بأن يجعل ربع هذا البيت أو الدكان أضحية فإنه لابد أن ينفذ، لأنه ليس بإثم وقد قال الله تعالى: {فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم- فمن خاف من موص جنفاً أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه} [البقرة: 181 - 182] ثم انتقل المؤلف في الأحاديث الواردة في كيفية الانتفاع بالأضحية فقال: لا يعطي الجزار من الأضحية: 1301 - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أقسم لحومها وجلودها وجلالها على المساكين، ولا أعطي في جزارتها شيئاً منها» متفق عليه. علي بن أبي طالب صلته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجهين من قرابة النسب وصلة الصهر، أما قرابة النسب فهو ابن عمه، وأما صلة الصهر فهو زوج ابنته، وهو أفضل أهل البيت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ولذلك أشركه في هديه في حجة الوداع ووكله فيه أيضا يقول: «أمرني أن أقوم على بدنه» بدن جمع بدنة، وهي الإبل التي أهداها النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيت في حجة الوداع وهي مائة بعير يعني: رعية كاملة أهداها صلى الله عليه وسلم لا يجب عليه منها إلا واحدة فقط، لأجل أنه كان قارنا واحدة من سبعمائة وهذا يدل على كرمه لأنه أكرم الناس. وقول علي رضي الله عنه: «وأن أقسم لحومها وجلالها على المساكين» كلها أمر أن تقسم اللحوم والجلود والجلال، أما اللحوم والجلود فواضحة وأما الجلال فهو ما تكسى به البعير وقاية من الحر أو من البرد يكون على ظهرها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم: أن يتصدق بكل ما يتعلق بهذا الهدي لكنه صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بكل ما يتعلق بهذا الهدي لكنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يؤخذ من كل بدنه بضعة، أي: قطعة، وجعلت في قدر وطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها صلى الله عليه وسلم تحقيقاً لأمر ربه سبحانه وتعالى في قوله: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} [الحج: 28] وقوله: ولا أعطي في جزارتها شيئاً منها يعني: لا تعطي الجزار شيئاً منها، ومن الجزار؟ هو الذي يذبح ويقطع اللحم ويوزعه ويفرقه، ولا يدخل الذبح هنا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم الجزار من يذبح لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بيده وأعطى عليا فنحر ما بقي، فما

إجزاء البدنة والبقرة عن سبعة

عمل الجزار بعد النحر؟ السلخ وتفريق اللحم وغير ذلك، وهو يحتاج إلى أجرة لكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا ألا يعطي في جزارتها شيئاً منها؛ لأنه لو أعطي الجزار منها شيئاً في الجزارة لكان هذا رجوعا في الصدقة لأنه إذا أعطاه أجرته منها وفر على نفسه الأجرة المالية فكان هذا رجوعا في الصدقة، والرجوع في الصدقة محرم. فيستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: جواز التوكيل في توزيع الأضيحة لقول علي: «أمرني أن أقوم على بدنه». وفيه أيضا: منقبة علي بن أبي طالب حيث أنابه الرسول صلى الله عليه وسلم منابة. وفيه أيضا من فوائده: كرم النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر أن تقسم اللحوم والجلود والجلال على المساكين. ومن فوائده: أنه لا يجوز أن يعطي الجزار شيئاً منها في أجرته، لأن حقيقة هذا أنه رجوع في الصدقة والرجوع في الصدقة حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: «لا تعد في صدقتك» ولأن كل شيء أخرجه الإنسان لله فإنه لا يعود فيه، ، ، وكل شيء خرج منه لله فإنه لا يعود فيه؛ ولهذا حرم على المهاجر أن يعود إلى البلاد التي هاجر منها، لكن رخص له أن يبقى فيها ثلاثة أيام. ومن فوائد الحديث أيضا: جواز الأجرة في جزارة الهدي، ويقاس عليها الأضاحي ولا يقال: إن هذا عمل ديني لا يجوز أخذ الأجرة عليه، لأننا نقول: العمل الديني المحض هو الذي لا يجوز أخذ الأجرة عليه أما ما كان متعدياً فإنه لا بأس بأخذ الأجرة، عليه ولهذا كان الصواب أن من قرأ على مريض بآيات من القرآن أو علم أحداً القرآن فإنه يجوز أن يكون ذلك بأجرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» إجزاء البدنة والبقرة عن سبعة: 1302 - وعن جابر بن عبد الله قال: «نحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية: البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» رواه مسلم. الحديبية هي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج في ذي القعدة في السنة السادسة عام الحديبية، خرج

إلى مكة يريد العمرة فأخذت قريشاً حمية الجاهلية ومنعوه أن يدخل، ولكنه صلى الله عليه وسلم بايع أصحابه على الجهاد وبايعوه فكتبت لهم غزوة كاملة؛ ولهذا تسمى غزوة الحديبية مع أنه لم يحصل فيها قتال لكن حصل فيها صلح وتم الصلح على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع إلى المدينة ويأتي بالعمرة من العام القادم ثم أمر أصحابه أن ينحروا وأن يحلقوا، أما النحر فلقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] وأما الحلق فلأنه نسك من أنساك العمرة وهم قادرون على فعله، فلهذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلقوا، وإن كان لم يذكر في القرآن فقد ثبت بالسنة، الصحابة- رضي الله عنهم- كان معهم الهدي فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشترك السبعة في بدنة أو في بقرة فاشتركوا، فكان السبعة يشتركون في بدنة وكان السبعة يشتركون في بقرة. فيستفاد من هذا الحديث: جواز اشتراك عدد من المضحين أو المهدين في الهدي أو في الأضحية وأنه محدد بسبعة في البقرة وبسبعة في البدنة فما معنى هذا التحديد؟ هل معناه أن الإنسان لو أراد أن يجعل ثواب هذه البدنة لعشرين رجلاً فإنه لا يجوز أو المراد أن السبعة يشتركون في هذه البدنة أو البقرة والسبع يكون عن شاة؟ المراد الثاني: يعني: أن سبع البدنة أو سبع البقرة يكفي عن شاة وعلى هذا فإذا اجتمع سبعة أشخاص في الأضحية ببقرة وكل واحد ضحى عنه وعن أهل بيته وكل واحد منهم أهل بيته عشرة تكون مجزئة عن سبعين، لكن في الواقع لم يشترك فيها إلا سبعة، فالثواب ليس له حصرا؛ إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن أمته جميعاً وعن أهل بيته جميعاً وهم عدد لا يحصيهم إلا الله- أعني: أمته، في الثواب شيء والاشتراك في النسك شيء آخر. ففي هذا الحديث: دليل على اشتراك السبعة في بدنة أو في بقرة في الهدي فهل نقلو: إن الأضحية مثل الهدي الجواب: نعم، الأضحية مثل الهدي. ومن فوائد الحديث: أنه لا عبرة في الثواب وحصول الأجر بكبر الجسم، وجهه: أن البقرة أقل جسماً من البدنة لا شك لكن مسائل الثواب والشعائر ليست مبنية على الأمور الحسية، وإنما هي مقدرة من قبل الشرع فإن اشترك ثمانية في بدنة على أنهم سبعة وبعد ذبحها ونحرها تبين أنهم ثمانية فهل نقول: إن الأضحية الآن بطلت ولا تجزئ عن واحد منهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وهذا عمل ليس على أمر الله ورسوله فيكون مردوداً أو نقول يضحون بشاة إما عن واحد منهم وأما عن الجميع؟ الثاني، ولهذا قال العلماء: لو اشترك سبعة في بقرة أو في بدنة فبانوا ثمانية فإنهم يذبحون شاة وتجزئ عن الجميع، وهذا أهون لكن كما قلت لكم: هل هذه الشاة مشاعة عن الثمانية أو عن واحد منهم؟ يحتمل هذا وهذا، ولهذا قال بعض العلماء: إنها مشاعة، وبعضهم قال: إنها لواحد مبهم والله تعالى يعلمه.

3 - باب العقيقة

3 - باب العقيقة العقيقة: اسم على وزن فعلية بمعنى مفعولة والعق هو القطع، وعلى هذا فالعقيقة يعني المقطوعة؛ لأنها تقطع أوداجها عند الذبح، والتسمية تكون بأدنى ملابسة كما مر علينا كثيرا حيث تسمى مزدلقة جمعا لأن الناس يجتمعون فيها مع أنهم يجتمعون في عرفة وفي منى لكن التسمية تحصل بأدنى ملابسة. والعقيقة تسمى في اللغة-لغتنا نحن-: التميمة؛ لأنها تتمم الطفل وتفكه من الأمر وهو اسم طيب فلها اسم عرفي واسم شرعي الاسم الشرعي العقيقة والعرفي التميمة، وليست هي التميمة التي تعلق على المرضى ونحوهم، وهي سنة لأنها ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله لكنها من السنن المؤكدة حتى إن الإمام أحمد رحمه الله قال في رجل ليس عنده شيء قال: يقترض ويعق أحب إلي أحيا سنة. وهذا الذي قال الإمام أحمد يقيد بما إذا كان يرجو وفاء كرجل له راتب يحل في آخر الشهر وعند ولادة طفله لم يكن عنده مال فيقترض لأنه يعلم أنه سوف يوفيه في آخر الشهر، أما الإنسان الذي ليس عنده شيء ولا يرجو شيئا فلا يقترض، ثم قال المؤلف: العقيقة عن الغلام والجارية: 1303 - عن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا». رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وعبد الحق، لكن رجح أبو حاتم إرساله، وأخرج ابن حبان: من حديث أنس نحوه. «عتق» يعني: ذبح، كبشا كبشا يعني: لكل واحد منهما كبشا والحسن والحسين رضي الله عنه صلتهما بالنبي صلى الله عليه وسلم أنهما سبطاه أي ابنا بنته فلذلك عق عنهما، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولأن مثل هذا الفعل يشرح صدر أهل الحسن والحسين حيث عق عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا عق عنهما لهذه الوجوه الأربعة. فيستفاد من الحديث: أولا: استحباب العق عن الأبناء وكذلك عن البنات كما سيأتي، دليله: فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

ويستفاد منه أيضا: جواز الاقتصار على واحدة في عقيقة الذكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا، وقد روي أن فاطمة رضي الله عنها عقت أيضا كبشا كبشا فيكون على هذا متمشيا على المشهور من أن العقيقة للذكر تكون اثنتين. ومن فوائد الحديث: أنه لا يشترط في العقيقة أن يتولاها الأب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولاها مع أن أباهما علي بن أبي طالب. ويستفاد منه: جواز تصرف الفضولي يعني: لو أن الإنسان فعل شيئا لشخص وأقره وأجازه فإنه يمضي على ما فعل، وجه ذلك: أنه ليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذا يقتضي أن الإنسان إذا عق لشخص وأجازه فإنه لا بأس بذلك. ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عنهما كبشا كبشا ولم يذكر في الحديث ماذا صنع بهذا الكبش، هل تصدق به كله أو أكل منه وتصدق أم ماذا؟ لكن العلماء قالوا: ينبغي أن تطبخ العقيقة وتوزع مطبوخة أو يدعى إليها على خلاف الأضحية، الأضحية لا توزع مطبوخة بل توزع نيئة أما هذه فتوزع مطبوخة. قال أهل العلم: وينبغي أن تطبخ بحلو تفاؤلا بحلاوة أخلاق الطفل، لكن في هذا نظر أولا: إذا خلط الحلو مع اللحم فإنه لا يستساغ ولا يشتهيه الإنسان في الغالب، وثانيا: أن مثل هذه الأمور تحتاج إلى توقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم، والصواب أنه يطبخ كما يطبخ غيرها. لكن المؤلف قال: «رجح أبو حاتم إرساله»، والمرسل-كما تعرفون- من أقسام الضعيف، لأنه سقط منه رأو، ولكن المرسل في الاصطلاح الخاص هو ما رفعه التابعي أو الصحابي الذي لم يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم كمحمد بن أبي بكر رضي الله عنه وقد يطلق العلماء-علماء الحديث- المرسل على ما لا يتصل إسناده إطلاقا وليس المرسل الخاص وهذا يظهر بالتتبع. 1304 - وعن عائشة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم؛ أن يعق عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة». رواه الترمذي وصححه. -وأخرج الخمسة عن أم كرز الكعبية نحوه. هذا فيه أمر، أن يعقوا عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة، والأصل في الأمر أنه للوجوب، ولكن سبق أن القول الراجح أنها ليست واجبة وأنها سنة وأن هذا أمر استحباب وقوله:

ارتهان الغلام بعقيقة

«عن الغلام شاتان مكافئتان» يعني: متشابهتان في السن والكبر والسمن، والحكمة في ذلك لئلا تكون إحداهما أطيب والثانية يجعلها تابعة للأولى ولا يهتم بها، فلهذا ندب الشارع إلى أن تكون الشاتان متكافئتين؛ لأنه لو عق بشاة جيدة ثم قال: حصل المقصود والشاة الثانية تكون تبعا ولم يتحر فيها الجودة كما تحراها في الأولى ولذلك قال: شاتان مكافئتان أي: متشابهتان سنا وكبرا وسمنا. أما اللون فليس بشرط، وكذلك أيضا الذكورة والأنوثة كما جاء ذلك في حديث آخر. في هذا الحديث: دليل على أن الأفضل في حق الغلام أن يعق عنه بشاتين وأن تكونا مكافئتين أي: متساويتين سنا وكبرا وسمنا. ومن فوائد الحديث: بيان مرتبة الذكور مع الإناث، وأن مرتبة الإناث متأخرة لا تساوي الرجال وهذا أمر مشهور قدرا وشرعا، يعني: الاختلاف بين النساء والرجال مشهور قدرا وشرعا، فالرجل أقوى وأصبر وأذكى وأعقل، والمرأة ناقصة عقل ودين، غير صابرة، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة، ولم يلعن النائح؛ لأن النوح في الرجال قليل لجلدهم وصبرهم بخلاف المرأة فالمرأة ناقصة عن الرجل قدرا وشرعا ومن سوى بينهما في غير ما سوى الله بينهما فيه فقد سفه عقله وضل في دينه. هنا في العقيقة الذكر اثنتان والأنثى واحدة على النصف تماما وهل هناك أشياء أخرى تكون فيها المرأة على النصف؟ نعم، منها: الشهادة {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة: 282]. ومنها الميراث {يوصيكم الله فى أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11]، {وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 176]. هذه ثلاثة [وكذلك] الدية دية المرأة على النصف من دية الرجل، العتق فإن عتق رجل واحد أفضل من عتق أمرأتين كما جاء لك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، العطية فإن الرجل إذا أراد أن يعدل بين أولاده يعطي الرجل مثل حظ الأنثيين، فهذه كلها، وربما فاتنا بعض الشيء، لكن هذه تدل على أن هناك فرقا بين الذكور والإناث. ارتهان الغلام بعقيقة: 1305 - وعن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق، ويسمى». رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي.

وقت العقيقة والحلق

هذا جمع بين عدة مسائل «كل غلام» وهل مثله الأنثى؟ نعم مثله، «مرتهن بعقيقته» المرتهن هو المأخوذ رهنا والرهن هو الحبس، مثال ذلك رهنت عندي ساعة أخذت الساعة منك فالساعة الآن مرتهنة «كل غلام مرتهن» أي: محبوس بعقيقته وما معنى الحبس هنا أو الارتهان؟ ذكر عن الإمام أحمد رحمه الله أنه محبوس عن الشفاعة لوالديه؛ لأن الغلمان إذا ماتوا صاروا حجابا من النار لوالديهم فيكون مرتهنا أي: محبوسا عن الشفاعة لوالديه. ولكن ابن القيم رحمه الله نظر في هذا القول، وقال: إن المعنى هو أنه محبوس عن مصالحه هو نفسه وأن للعقيقة تاثيرا في انطلاقة الطفل وانشراحه وسعة إدراكه؛ لأن العقيقة شكر لله عز وجل على هذا الولد، والشكر للنعم يزيدها فيزداد هذا الغلام سواء ذكرا أو أنثى يزداد عقلا وفهما، ويسلم من الشرور بسبب العقيقة. قال: «تذبح عنه يوم سابعه»، تذبح الفعل هنا مبني لما لم يسم فاعله؛ لأنه قد يكون الفاعل معلوما لكن بنيناه للمجهول لإخفائه كقوله تعالى: {وخلق الإنسن ضعيفا} [النساء: 28]. الله يعلم من الخالق فالفعل هنا مبني لما لم يسم فاعله، وهذا هو الذي عبر عنه ابن مالك في الألفية قال: ما لم يسم فاعله. إذن تذبح مبنية لما لم يسم فاعله فمن الذي يذبحها؟ الأصل أن المطالب بها الأب هذا الأصل، فإن لم يكن أب فالجد من قبل الأب، فإن لم يكن فعلى من تلزمه نفقته. وقت العقيقة والحلق: وقوله: يوم سابعه أي: يوم سابع ولادته بأن تذبح قبل يوم من ولادته في اليوم الذي يسبق يوم ولادته، ، فمثلا: إذا ولد يوم الأربعاء متى تذبح؟ يوم الثلاثاء وإذا ولد يوم الاثنين تذبح يوم الأحد وهلم جرا. وإنما اختير أن تذبح في هذا اليوم لأنه مرت عليه أيام الدهر كلها مثلا إذا قلنا: إنه ولد يوم الأربعاء نعد الخميس، والجمعة، والسبت، والأحد، والأثنين، والثلاثاء كل أيام الدهر مرت عليه فيكون ذبحها في هذا اليوم تفاؤلا بطول عمره وأن يبقى ما بقيت هذه الأيام، ومن المعلوم أن كل شيء له أجل، لكن من باب التفاؤل تذبح يوم سابعه، ويحلق أي: الغلام يحلق رأسه ويتصدق بوزنه ورقا أي: فضة، ولكن لابد أن يكون الحالق حاذقا لأن الرأس لين ربما يأتي إنسان فيه غشم فيحلقه ويجرح رأسه، لكن اجعل الذي يحلقه رجلا عنده خبرة وتأني فإن لم تجد وقلت: أريد أن أتصدق بما أظن على وزن الشعر من الورق أي: من الفضة هل يجزئ؟

يجزئ {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. ما دمت لم أجد من يحلقه وأنا لا أحسن الحلق فلا حرج أن أقدر وزنه وأتصدق به ويسمى أي: يوم السابع. وظاهر الحديث أن التسمية تؤخر إلى اليوم السابع حتى وإن كانت أعدت وعينت فإنها تؤخر إلى اليوم السابع ولكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأهله: «ولد لي الليلة ولد وسميته إبراهيم» فسماه حين ولادته فما الجمع بين هذا وهذا؟ نقول: الجمع بينهما أنه إذا كان الأسم مهيئا من قبل فالأفضل أن يسمى حين الولادة لئلا يمر عليه يوم من الدهر وليس له اسم، أما إذا كان الأهل يتشاورون في الاسم ولم يتهيئأ لهم أن يسموا في أول ولادته فإنهم يؤخرونه إلى اليوم السابع ليتوافق مع العقيقة. يستفاد من هذا الحديث فوائد: أولا: البحث على العقيقة لقوله: «كل غلام مرتهن»، والعقيقة تفك رهنه فيكون في هذا حث عليها. ومن فوائده: أن العقيقة يذبحها أي إنسان يقوم بها لكن يبدأ بالأولى، فالأولى الأب ثم الجد من قبله ثم الإخوان ثم من تلزمه نفقته. ومن فوائد الحديث: أنه قد يكون في قوة فحواه أن الذي يباشر الذبح هو الذي يعق وهذا مشروط بما إذا كان عارفا بالذبح، أما إذا لم يكن عارفا فإنه لا يمكن أن يذبح بل يوكل من يذبح ويحضر. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أنه ينبغي عند الذبح أن تقول: هذه عقيقة فلان لقوله: تذبح عنه فتنوي أنها عقيقة عن هذا الصبي أو الطفلة. ومن فوائد الحديث: اختيار اليوم السابع لذبح العقيقة: «تذبح عنه يوم سابعه» فإن ذبحت من قبل فلا بأس؛ لأن توقيتها بالسابع على سبيل الأفضلية فقط، فإن ذبحها في الخامس أو في الرابع أو في أول يوم فلا بأس، لكن بعد السابع أحسن لتمر عليه أيام الدهر كلها فإن لم يتيسر في اليوم السابع ففي الرابع عشر، فإن لم يتيسر ففي الحادي والعشرين، هكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا في صحته نظر، لكن العلماء مشوا على هذا.

الرابع عشر قبل يوم الولادة بيوم يعني مثلا: ولد يوم الأربعاء فالسابع يوم الثلاثاء، الرابع عشر يوم الثلاثاء، الحادي والعشرون يوم الثلاثاء أيضا. ومن فوائد الحديث: أنه يسن حلق الرأس في اليوم السابع، ويتصدق بوزنه ورقا أي: فضة بقوله: «ويحلق». ومن فوائد الحلق: في اليوم السابع أنه يقوي أصول الشعر، والإنسان مطلوب منه أن يقوي أصول شعر أبنائه. فائدة الأسماء المستحبة والأسماء الممنوعة: ومن فوائد الحديث: التسمية أن يسمى في اليوم السابع وقلنا: إن الجمع بينه وبين تسمية النبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم في ليلة ولادته الجمع هو: أنه إذا كان قد هياء فالأولى المبادرة؛ لئلا يمضي عليه يوم وليس له اسم، وأما إذا كانوا مترددين فإنهم يؤخرونها إلى اليوم السابع. ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم لماذا يسمى؟ لكن قد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وهل أحد يعدل عن ذلك إلى أسماء أخرى مع أن هذين الاسمين هما المحبوبان إلى الله؟ أعتقد أن أحدا لا يفعل، ولذلك ينبغي لك أن تسمى ولدك بعبد الله، والثاني بعبد الرحمن لأنهما أحب الأسماء إلى الله عز وجل وإذا كانوا أحب الأسماء وإذا سميت بهما طلبا لما يحبه الله عز وجل فقد يكون هذا من بركة الولد أن الله يبارك فيه ويجعله من عباد الله وعباد الرحمن. وأما ما يفعله الناس الآن يبحثون عن أسماء ما ترد على الذهن إطلاقا فهذا من العجائب تجد الإنسان يمسك القرآن من أوله إلى آخره يطلب كلمة يسمي بها، حتى قيل لي: إن بعض الناس سمى ابنه «نكتل» قال في القرآن: {فأرسل معنا أخانا نكتل} [يوسف: 63]. يعني: كأنه قرأ «نكتل» نكتلا جعلها منصوبة هذا عجيب وأكثر ما يكون هذا في النساء، تجد الناس يتعجبون كيف تسميه المرأة مع أن الأسماء الكثيرة الخفيفة الطيبة موجودة بأكثر لكن تجده يمسك الإصابة في تمييز الصحابة يمسك أسماء النساء من أوله إلى آخره عله يجد اسما يختاره وهذا طيب لا بأس نحن لا ننكر على هذا لكن ننكر على من يتخذ أسماء اليهود والنصارى والأوروبيين يسمي بها أولاده فإن هذا خطر عظيم وضعف في الشخصية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء حارث وهمام» كيف ذلك؟ لأن كل إنسان له همة، كل إنسان حارث عامل {يأيها الإنسن إنك كادح إلى ربك كدحا فملقيه} [الانشقاق: 6]. هذا أصدقها، لكن أنا لا أختار أصدقها وأنا يمكنني أن أحصل على أحب الأسماء إلى الله، بل أختار أحب الأسماء إلى الله عز وجل ولابد في الاسم من أن يعبد لله إذا عبد فلا يجوز أن يعبد لغير الله، قال ابن حزم رحمه الله:

مسألة السقط وأحكامه

اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب وإنما استثنى هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» يعني: وظاهر كلام ابن حزم أن الإنسان لو سمى ابنه عبد المطلب لم يخرج عن إجماع المسلمين، ولكن الصواب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينشا اسم عبد المطلب، وإنما أخبر بأنه ابن عبد المطلب وعبد المطلب سمي وعرف بهذا، وعلى هذا فلو كان لك جد اسمه عبد الرسول تقول: ابن فلان ابن فلان ابن عبد الرسول، هذا ليس فيه شيء لأنه خبر وليس إنشاء، أما أن تسمي ابنك عبد الرسول فهذا لا يجوز، لأنه نوع من الشرك، كل اسم معبد لغير الله فإنه محرم بالإجماع واستثناء عبد المطلب لا وجه له؛ لأنه لو أنشا اسم عبد المطلب لكان حراما، وأما خبر عن جد له اسمه عبد المطلب فهذا لا بأس به، ومتى تكون التسمية؟ قلنا: إذا كانت هيئت فتكون حين الولادة وإلا ففي يوم العقيقة. مسألة السقط وأحكامه: هل السقط يعق عنه ويسمى نقول: في هذا تفصيل أما السقط قبل أن تنفخ فيه الروح فهذا لا يسمى ولا يعق عنه؛ ولا يجب تغسيله، ولا تكفينه، ولا الصلاة عليه، لأنه قطعة لحم فيدفن في أي مكان ولا يسمى، وأما إذا كان بلغ أربعة أشهر فإنه إنسان يبعث يوم القيامة ويكون شبيها لوالديه ويكون مع والديه في الجنة فهو إنسان تام؛ ولهذا قال العلماء: إنه يسمى ولو كان سقطا لكنه قد بلغ أربعة أشهر، فيسمى بالاسم الذي يختاره أبوه، والأفضل اختيار الأسماء الكاملة لأنه يوم القيامة يدعى الناس بأسمائهم وأسماء أبائهم، كما ثبت في صحيح البخاري، ، أن لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان ومن ثم نعرف خطأ من قال: إن الناس يوم القيامة يدعون بأمهاتهم فإن هذا لا أصل له ولا حقيقة له. إذن يسمى السقط إذا نفخت فيه الروح، ومن الذي له حق التسمية الأم أو الأب؟ التسمية للأب هو الذي يختار، فإن تنازع مع زوجته كما يوجد كثيرا ولا سيما في أسماء البنات فالرجوع إلى قول الب، لكن مع هذا ينبغي له أن يوافق إذا لم يكن هناك محظور شرعي اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي». فالأحسن المياسرة وعدم المعاسرة إلا إذا كان هناك محظور شرعي، لكن ما دام ليس فيه محظور فالأفضل أن يطيعها لاسيما في أسماء البنات، وإن تقاسما وقال: سم هذا المولود وأنا لي اسم المولود الآتي لا بأس؛ لأن الحق لهما وإلى هنا أنتهى باب العقيقة، وبه نعرف أن الذبائح

المشروعة: الأضاحي والهدايا والعقائق، وما عدا ذلك فليس بمشروع، اللهم إلا جبرانا لترك واجب كالحج أو فعل محظور، واختلف العلماء-رحمهم الله- في الفرع والعتيرة هل هما سنة أو هما من المباحات؛ العتيرة: هي ذبيحة رجب، والفرع: هو ذبيحة أول ولد الناقة، وكانوا إذا ولدت الناقة أول مرة ذبحوا فصيلها ثم تصدقوا به، وكذلك في رجب في أول جمعة منه أو في أول يوم منه يذبحون عتيرة ويتصدقون بها فهذه وردت فيها أحاديث تدل على أنها جائزة ولكن بعض العلماء يقول: إنها مكروهة وأنه نسخ الأمر بها والله أعلم.

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الأيمان والنذور جمع بينهما؛ لأن في كل منهما التزاما، فالحالف يلتزم بما حلف عليه والناذر يلتزم بما نذر؛ فلهذا جمع المؤلف بينهما. تعريف الأيمان: و«الأيمان»: جمع يمين، وهو القسم، وهو: تأكيد الشيء بذكر معظم سواء كان خبرا عن ماض أو مستقبل. و«النذور»: جمع نذر، وهو: إلزام المكلف نفسه شيئا غير واجب سواء كان عبادة أو غير عبادة، وسيأتي بيان حكم الوفاء بالنذر وأنه أقسام. كراهة الإكثار من اليمين: ثم اعلم أنه لا ينبغي للإنسان أن يكثر من اليمين؛ لقول الله-تبارك وتعالى-: {واحفظوا أيمنكم} [النساء: 89]. فقد فسرها بعض العلماء بأن المراد: لا تكثروا اليمين، وهذا حسن؛ ولأن إكثار اليمين فيه شيء من التهاون بالمحلوف به، فلا ينبغي للإنسان أن يكثر اليمين، ولا ينبغي أن يحلف إلا على شيء مهم. فائدة: قرن اليمين بقول: «إن شاء الله»: واعلم أيضا أنه ينبغي لك إذا حلفت على شيء أن تقرن ذلك بمشيئة الله، فتقول: إن شاء الله؛ لتستفيد في ذلك فائدتين: الفائدة الأولى: تسهيل أمرك، والفائدة الثانية: رفع الكفارة عنك فيما لو حنثت، دليل الأول أن سليمان بن داود-عليه وعلى أبيه الصلاة والسلام- حلف أن يطوف ليلة من الليالي على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل إن شاء الله، لكنه لم يقل اعتمادا على جزمه لا استهانة بالاستثناء، لكن اعتمادا على أنه جازم فلم يقل: إن شاء الله، فطاف على تسعين امرأة في ليلة واحدة فلم تلد منهن إلا واحدة ولدت شق إنسان، ليتبين لجميع الخلق- وعلى رأسهم الأنبياء- أن الأمر أمر الله، وأن الإنسان مهما كان في عزيمته على شيء فلابد أن يعترف أن الأمر بيد الله عز وجل ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم

شروط وجوب الكفارة

عن قصة أصحاب الكهف سألوه قريش قال: أخبركم غدا، ولكنه امتنع الوحي عنه بأن توقف إلى خمسة عشر يوما لم ينزل عن خبرهم شيء، وفي ذلك قال الله تعالى: {ولا تقولن لشااء إنى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23، 24]. أما دليل الثاني: وهو أنه لو حنث لم تجب عليه الكفارة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه»، لذلك ينبغي أن يقرن الإنسان يمينه دائما بـ «إن شاء الله»، أو «إلا أن يشاء الله»، ولا يكفي أن يمرها على قلبه، بل لابد من النطق بها، وهل يشترط أن تكون مساوية لليمين في الجهر والإسرار، أو يجوز أن يسر بها ولو كان اليمين جهرا؟ الجواب: الثاني، يجوز أن يذكرها سرا ولو كانت اليمين جهرا، وهذه تنفع الإنسان فيما إذا حلف على شخص ولم يقل: إن شاء الله جهرا، فإن مخاطبه يظن أنه لم يستثن فلا يحنثه، لكن لو استثنى قال له المخاطب: استثنيت الآن فلا حنث عليك، وأنا لن أفعل. كذلك أيضا من مباحث هذا الباب أن اليمين أو الحلف بغير الله محرم، وسيأتي في الحديث الذي بعد الأول، وستأتي الكفارة فيما أظن في المستقبل. شروط وجوب الكفارة: الكفارة لا تجب إلا بشروط: الشرط الأول: أن تكون اليمين منعقدة، وهي أن اليمين المنعقدة التي قصد عقدها على أمر مستقبل ممكن؛ فإن لم يقصد عقدها لم تكن منعقدة وليس عليه كفارة، لكن إن كان صادقا فقد بر، وإن كان كاذبا فعليه إثم الكاذبين، لكنه يتضاعف عليه الإثم؛ لأنه قرن كذبه باليمين بالله، وهل هذه يمين غموس؟ قيل: إنها يمين غموس، وقيل: لا، والصحيح أنها ليست يمين غموس، وأن اليمين الغموس هي التي يقسم بها ليأكل بها مالا بالباطل، وأما هذه فهو كاذب عليه إثم الكاذبين مع مضاعفة الإثم عليه لكونه حلف وأقسم إذن على أمر مستقبل، الحلف على الماضي ليس فيه الكفارة، فإما صادقا وإما كاذبا، مثل: أن يقول: والله لقد حصل أمس كذا وكذا وهو لم يحصل فما الحكم، هل عليه كفارة؟ لا؛ لأن ذلك على أمر ماض، لكننا نقول: هو بين أمرين إما آثم وإما سالم إن كان صادقا فهو سالم، وإن كان كاذبا فهو آثم، وهل يجوز أن يحلف على غلبة ظنه في أمر ماض؟ الجواب: نعم يجوز ذلك؛ لأنه حلف عند النبي صلى الله عليه وسلم على غلبة الظن ولم ينكر ذلك. وقولنا: «قصد عقدها ضده» ما لم يقصد ذلك، فإذا لم يقصد عقدها فلا حنث عليه؛ لقول الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمنكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمن فكفرته إطعام عشرة

الحلف بغير الله

مسكين ... } الآيات [المائدة: 89]. فما هي التي لا يقصدها؟ هي التي تأتي في مجرى الكلام بلا قصد مثل أن يقال له: أتذهب إلى فلان؟ يقول: لا والله ما أنا ذاهبا ثم يذهب فهذا ليس فيه الكفارة؛ لماذا؟ لأنه لم يقصد عقدها وهذه تقع كثيرا، تقول المرأة أو الأب لابنه مثلا: والله لئن خرجت إلى السوق لأكسرن رجليك هذه لم يقصد عقدها؛ لأنه لا يكسر رجليه فهذه من لغو اليمين. وأما قوله: «ممكن» فضد الممكن المستحيل، والمستحيل إذا حلف على إيجاده فقد اختلف العلماء فيه: هل عليه كفارة في الحال؟ لأننا نعلم أنه لا يمكن أن يوجده أو ليس عليه شيء؛ لأن هذا من باب اللغو والهذيان، مثل أن يقول: والله لأبنين بيتا في القمر هذا مستحيل، فهل تقول: إن عليك الكفارة من الآن؛ لأنك لا يمكن أن تصل أن تصل إلى هذا، أو نقول: إن هذا كلام لغو وهذيان فليس فيه كفارة؟ فيه خلاف، بعضهم يقول كذا، وبعضهم يقول كذا، ولو ألزمناه بالكفارة تأديبا له عن هذا الكلام اللغو لكان حسنا؛ يعني: من باب الأديب. الحلف بغير الله: 1306 - عن ابن عمر رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب، وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن ينهاكم أن تحلفوا بابائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت». متفق عليه. أدركه «في ركب» يعني: أنه في سفر، وتعيين هذا السفر أو الركب أو كيف قابلهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ كل هذا من الأمور التي ليست بذات أهمية، المقصود: فهم القضية وما يترتب عليها من أحكام. يقول: «وعمر يحلف بأبيه»؛ لأنهم كانوا يعتادون هذا في الجاهلية ومشوا عليه، وهذا هو الأصل أن الإنسان يبقى على ما كان عليه، حتى يدل الدليل بالوجوب أو التحريم أو ما أشبه ذلك، وكذلك يقول: «فناداهم» أي: كلمهم بصوت مرتفع؛ لأن النداء للبعيد يكون بصوت مرتفع، على أن الله ينهاهم، أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجملة بمؤكدين: المؤكد الأول: «ألا»؛ لأنها أداة استفتاح يقصد بها تنبيه المخاطب على ما يرد عليه، والمؤكد الثاني: «إن»، «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بابائكم»، والنهي: هو طلب الكف على وجه الاستعلاء، والصيغة التي أوحاها الله تعالى إلى رسوله في هذا لا نعلمها، لكن نعلم المعنى وهو: أن الله تعالى ينهانا أن نحلف بآبائنا، والآباء جمع أب يشمل الأب والجد لأن الجد يسمى أبا كما في القرآن الكريم.

وقوله: «فمن كان حالفا فليحلف بالله» يعني: من أراد أن يحلف فليحلف بالله، فقوله: «من كان حالفا» ليس شيئا ماضيا، بل المراد: من أراد أن يحلف «فليحلف بالله أو ليصمت»، واللام في قوله: «فليحلف»، قد يقال: إنها لام الأمر، وقد يقال: إنها لام الإباحة، فباعتبار أنه لا يحلف بغيره تكون لام أمر، وباعتبار أنه يباح له أن يحلف بالله تكون لام إباحة «أو ليصمت»: ليسكت. في هذا الحديث من الفوائد: أولا: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إنكار المنكر؛ لأنه لما سمع هذا المنكر ناداهم ولم يسكت، وظاهره أنه ناداهم من بعد، يعني: لم يصبر حتى يصل إليهم فيكلمهم بكلام معتاد، بل ناداهم من بعد وأخبرهم بما أوحاه الله تعالى إليه من النهي. ومن فوائد الحديث: أن من كان جاهلا فإنه لا يؤاخذ، ولهذا لم يعنفهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل بين لهم الحكم دون أن يوبخهم ويعنفهم. ومنها: البناء على الأصل وهو أن يبقى الإنسان على ما كان عليه حتى يتبين نقل الحكم أو الحال عن الأصل، دليله فعل عمر حيث حلف بالأب. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي في المسائل المهمة أن تؤكد بأنواع التأكيدات، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف النهي إلى الله، ولا شك أن إضافة النهي إلى الله تعطي الإنسان قوة في اجتناب هذا المنهي عنه؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- له الحكم وبيده ملكوت السموات والأرض وما صدر عنه فإنه أقوى مما صدر عن غيره؛ ولهذا قال: «ألا إن الله ينهاكم» إلا أن هذه الفائدة قد ينازع فيها، فيقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نسب النهي إلى الله لأن الله نهى عن ذلك لا من أجل أن يؤكد الاجتناب، وهذا قد يقال: إنه أقرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يجب عليه البلاغ. ومن فوائد هذا الحديث: أن تعظيم الآباء كان معروفا في الجاهلية، ولهذا يحلفون بآبائهم وهذا أمر فطري، كل الناس يعظمون آباءهم ويحترمونهم إلا من ضل عن سواء السبيل هذا له شأنه. ومن فوائد هذا الحديث: جواز اليمين إذا كانت على وجه مشروع؛ لقوله: «من كان حالفا فليحلف بالله». ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا نهى عن شيء أن يذكر ما يكون بدلا عنه، وهذه طريقة القرآن والسنة، انظر إلى قول الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تقولوا رعنا وقولوا انظرنا} [البقرة: 104]. فلما ذكر اللفظ المنهي عنه أتى ببدله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في بيع التمر الرديء بالجيد مع الزيادة: «هذا عين الربا، ولكن بع التمر-يعني: الرديء- بالدراهم ثم اشتر بالدراهم تمرا جيدا»، فلما ذكر الممنوع ذكر ما يقوم مفامه، وهذا في الحقيقة هو خلاصة الدعوة؛ لأن الناس إذا ذكر لهم ما كانوا يعتادونه أو يستحسنونه وهو مخالف للشرع ثم قيل

لهم: اجتنبوه دون أن يوجد لهم بديل فإن ذلك يشق عليهم، لا يمتثلون أمر الله ورسوله، فأنت إذا نصحت إنسانا أو أمرته بمعروف أو نهيته عن منكر فبين له الشيء المباح؛ ليكون ذلك أدعى للقبول. مسائل مهمة في اليمين: وهنا مسائل خارجة عن موضوع الحديث: أولا: لو حلف الإنسان بأبيه فهل تنعقد اليمين؟ الجواب: لا، لا تنعقد؛ لأن هذا الحلف حرام، وإذا كان حراما فإن اليمين لا تنعقد؛ لأنه بانعقادها ما يترتب عليه الكفارة إذا حنث فيها والكفارة قربة إلى الله، والله عز وجل لا يتقرب إليه بما كان معصية، أيضا لو حلف الإنسان بغير أبيه حلف برئيسه أو بالشمس أو بالقمر فهل يكون كالحلف بالآباء؟ نعم هو كالحلف بالآباء، فتقييد النبي صلى الله عليه وسلم الحلف بالآباء بناء على أن هذا هو الذي وقع فما كان مثله فإن له حكمه، فإذا حلف الإنسان برئيسه أو بجده أو بأمه فالحكم في ذلك واحد، وقول الرسول: «فليحلف بالله» هذا مما يتفرع عليه لو حلف بالرحمن ينعقد، بالرحيم ينعقد؛ لماذا قال: «فليحلف بالله»؟ لأن هذا هو العلم الذي لا يسمى به غير الله عز وجل. وعلى هذا فجميع أسماء الله يجوز الحلف بها، والحلف بصفاته جائز أيضا، لو قال: وعزة الله، وقدرة الله لأفعلن كذا وكذا فهو جائز، ومنه-فيما يظهر- قول إبليس لرب العالمين: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} فإن هذا من الحلف بصفة الله، ومنه على رأى بعض العلماء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا ومقلب القلوب»، فإن تقليب القلوب من الصفات الفعلية. وعلى كل حال نقول: الصحيح أن الحلف بصفات الله جائز ومنعقد، أما الحلف بآيات الله ففيه تفصيل: إن كان مراد الحالف بآيات الله الكونية فهذا لا يجوز ولا ينعقد به اليمين، مثل أن يقول: والشمس والقمر والليل والنهار فهذا كله حرام، مع أنها من آيات الله، لكن لكونها من آيات الله الكونية حرم على الإنسان الحلف بها، أما إذا كانت من آيات الله الشرعية كالقرآن- فالقرآن صفة من صفات الله لأنه كلام الله- فيجوز الحلف بذلك؛ ولهذا ينبغي أن نسأل العامي إذا سمعناه يحلف بآيات الله كما هو كثيرا الآن وشائع نقول: ماذا تريد بآيات الله؟ قد يقول: أنا لا أعرف من آيات الله إلا الليل والنهار والشمس والقمر، نقول: إن أردت ذلك فالحلف بها حرام ولا يجوز، فإذا قال: أنا أريد بآيات الله المصحف أو القرآن، قلنا: هذا لا بأس به، لكن بشرط أن تريد بالمصحف: القرآن لا الورق والجلد.

1307 - وفي رواية لأبي داود والنسائي: عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «لا تحلفوا بابائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون». إذا قيل: «مرفوعا» فهو يعني: معزورا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن السند إذا كان غايته أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرفوع، وإذا كان غايته أن يصل إلى الصحابي فهو موقوف، وإذا كان غايته أن يصل إلى التابعي فمن بعده فهو مقطوع، وهو غير المنقطع؛ لأن المنقطع من مباحث الإسناد، والمقطوع من مباحث المتن، يقول: «لا تحلفوا بآبائكم» وهذا في الحكم كقوله: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم»، حتى بالأم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلف بها مع أنها محل الرأفة والرحمة وحسن الصحبة، «ولا بالأنداد»، «الأنداد»: جمع ند، أي: الأوثان التي تعبد من دون الله مثل: اللات والعزى ومناة وهبل، قال: «لا تحلفوا إلا بالله»، فلا تحلف بقبر فلان، ولا باللات والعزى ومناة، «ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون»، لما نهى عن الحلف بما ذكر بقي الحلف بالله عز وجل فنهى أن نحلف به-سبحانه وتعالى- إلا ونحن صادقون؛ لأن الحلف تأكيد الشيء بذكر معظم، كأن الحالف يقول: بعظمة هذا الشيء عندي وفي قلبي أؤكد هذا الشيء، يعني: المحلوف عليه؛ ولهذا كان الحلف من أكبر ما يدل على تعظيم المحلوف به. في هذا الحديث فوائد: النهي عن الحلف بالآباء والأمهات، وهل النهي للتحريم؟ الجواب: نعم؛ لأنه هو الصل؛ ولأنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك». ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز الحلف بالأنداد كاللات والعزى وغير ذلك، فإن حلف فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم للحالف بالأنداد أن يقول بعد ذلك: لا إله إلا الله فقال: «من قال: واللات» -يعني: في يمينه- فليقل: «لا إله إلا الله بعد ذلك». قال العلماء: وفائدته أن تعظيم هذا الصنم شرك، ودواء الشيء يكون ضده بالإخلاص، تقول: لا إله إلا الله، وفي بقية الحديث: «ومن قال: تعال أقامرك فليتصدق» لتمحوا هذه الصدقة الجناية. فيه أيضا: تحريم الحلف بالأنداد، وذكرنا إن دواء ذلك أن يقول: لا إله إلا الله، لأنه يداوى الشرك بالإخلاص.

شبهة والرد عليها

شبهة والرد عليها: فإن قال قائل: ما الجواب عما جاء في صحيح مسلم في قصة الرجل النجدي الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فذكر له خمس صلوات وصيام رمضان والزكاة [فقال الرجل بعد ذلك]: هل علي غيرها؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لا إلا تطوع»، فقال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفلح وأبيه إن صدق»، فقال: «وأبيه»، وهذا حلف بالآباء، فقيل في الجواب عن ذلك أولا: أن اللفظة شاذة انفرد بها بعض الرواة الآخرين، والشاذ غير مقبول؛ لأن من شرط القبول أن يكون الحديث غير شاذ وعلى هذا نستريح منه، وهذا من حسن المناظرة أي: أن الإنسان يطالب أولا بصحة الدليل قبل كل شيء؛ لأنه إذا لم يصح لا حاجة إلى أن نتكلف في رده، وهذه من طرق العلماء التي يسلكونها، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه «منهاج السنة» الذي رد به على الرافضة، يقول في الجواب: نطالبك بصحة النقل؛ لأنه إذا عجز أن يقيم الدليل على صحته فمعناه: أنه سقط وعليه تسقط حجته، وقيل: إن هذا كان في أول الأمر ثم نسخ، وهذا يحتاج إلى العلم بتأخر هذا عن النهي عن الحلف بالآباء، فإن لم يوجد دليل فإنه لا يجوز ادعاء النسخ؛ لإمكان أن يكون المدعي نسخه هو الناسخ، وقيل: إن هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنه لا يمكن أن يتصرف فيما فيه احتمال الشرك وتعظيم المخلوق كتعظيم الخالق بخلاف غيره، وأما غيره فلا يحل له أن يقول: وأبيه، وهذا أيضا فيه نظر؛ لأنه يحتاج إلى دليل على الخصوصية، الرابع: أنه على حذف، والتقدير: أفلح ورب أبيه إن صدق، وهذا أيضا غير صحيح، لأن حذف المضاف هنا يوجب إشكالا، والنبي صلى الله عليه وسلم يبلغ البلاغ المبين، فلا يمكن أن يعبر بلفظ مبهم عن لفظ واضح، فلو كان مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ورب أبيه لقال: ورب أبيه، حتى لا يبقى إشكال، الخامس: أن هذا مما يجري على اللسان بلا قصد كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «ثكلتك أمك يا معاذ»، وكقوله: «فاظفر بذات الدين تربت يداك»، كلمات تقال على الألسن ولا يراد معناها وهذا أيضا فيه نظر؛ لأن الحلف بالآباء مما يجري على الألسن في عادة الجاهلية ومع ذلك أبطله النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه. فأسلم الأجوبة في ذلك أن يقال: إن هذه الكلمة شاذة ولا يبقى إشكال، وأما القول بأنها تصحيف فهو أيضا وجه سادس؛ قيل به وفيه نظر، ويقول: الأصل: «أفلح والله إن صدق»، لكنهم كانوا فيما سبق لا يعربون الكلمة ولا ينقطونها ولم يرفعوا اللامين، وعليه فلفظ: «أبيه» إذا حذفت النقط ورفعت النبرة صارت «والله» وهذا تحريف، فتكون الكلمة محرفة، ولكن هذا أيضا غير صحيح، بل هو باطل؛ لأن الحديث يروى بالنقل بالمشافهة وبالنقل بالمكاتبة، وأكثر المحدثين

اعتبارنية المستحلف في اليمين

يحدثون بالمشافهة، فلو سلمنا جدلا إن هناك تصحيفا في الكتابة لم يكن هناك خطأ في المشافهة، فهذه الأقوال في هذه المسألة، ولكن أقرب الأقوال: أنها شاذة، والشذوذ قد يقع من بني آدم. ومن فوائد الحديث: النهي عن الحلف بالله إلا والإنسان صادق؛ لقوله: «ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون»، وتحت أمور أو أحوال: الحال الأولى: أن يعلم أنه صادق. والحال الثانية: أن يعلم أنه كاذب. والحال الثالثة: أن يغلب على ظنه أنه صادق. والحال الرابعة: أن يغلب على ظنه أنه كاذب. والحال الخامسة: أن يشك يتردد، أما إذا علم أنه صادق فلا بأس باليمين، وقد تكون اليمين مطلوبة، كما لو أراد أن يقنع شخصا في أمر يحسن إقناعه فيه، كأن يحلف مثلا على فرضية الصلاة وما أشبه ذلك، هذا يعلم أنه صادق، والحال الثانية: ضده أنه يحلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب فهذه محرمة، وإذا تضمنت أكلا لمال الغير بالباطل صارت يمينا غموسا من كبائر الذنوب، والحالة الثالثة: أن يغلب على ظنه الصدق فيما حلف فهذا لا باس به وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجامع في رمضان حيث قال: والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم لكن إذا تضمن هذا أكل مال الغير بالباطل فلا يجوز؛ لأن مال الغير محترم، لا يجوز انتهاك حرمته إلا بيقين، والحال الرابعة: أن يغلب على ظنه أنه كاذب فهذا حرام، والحال الخامسة: أن يشك فهو حرام أيضا حتى يعلم أو يغلب على ظنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هنا يقول: «إلا وأنتم صادقون»، فخرج بذلك كل الأحوال الأربعة الباقية، وهي: أن يعلم أنه كاذب، أو يغلب على ظنه أنه صادق، أو يغلب على ظنه أنه كاذب، أو يشك؛ لأن قوله: «إلا وأنتم صادقون» أي: عالمون بانكم صادقون، فيقال: نعم، هذا أعلى الحالات، لكن قد جاءت السنة بجواز الحلف على غلبة الظن. اعتبارنية المستحلف في اليمين: 1308 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك». وفي رواية: «اليمين على نية المستحلف». أخرجهما مسلم. قوله صلى الله عليه وسلم: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» يعني: أنك إذا حلفت لشخص وأظهرت

خلاف الواقع من باب التورية فاليمين على حسب نية المستحلف الذي عبر عنه بقوله: «صاحبك»، ولا عبرة بنيتك حتى لو نويت نية تخرجك من الإثم، فإن المدار على نية صاحبك، مثال ذلك: إذا قال لك شخص ادعى عليك مائة ريال وأنت تعلم أنه صادق فقلت: والله ما عندي لك مائة، تريد أن «ما» بمعنى: الذي؛ يعني: الذي عندي لك مائة، وهو سيفهم النفي وأنت الآن تثبت أن له عندك مائة، لكن نيتك غير معتبرة، بل النية على حسب ما يصدقك به صاحبك، وهل يبرأ الإنسان فيما إذا حلف هذا الحلف من المائة؟ نقول: أما ظاهرا باعتبار الحكم لو تحاكما إلى قاض فإنه يبرأ؛ لأن القاضي إنما يقضي بنحو ما يسمع لكن عند أحكم الحاكمين-سبحانه وتعالى- لا يبرأ ولا ينفعه هذا التأويل. في هذا الحديث من الفوائد: أولا: أن الأصل الرجوع إلى نية الحالف ما لم يكن هناك خصم له، فإن كان له خصم فالمرجع نية الخصم، لكن إذا لم يكن خصم فإنه يرجع إلى نية الحالف، لكن العلماء افترضوا أن يحتملها اللفظ، فإن لم يحتملها اللفظ فلا عبرة بها، مثال هذا: لو قال قائل: والله لا أنام الليلة إلا على فراش، ثم توسد كثيبا من الرمل، ونام على الرمل، هو قد أقسم ألا ينام على فراش، وقال: أنا أنوي بالفراش الأرض؛ لأن الله قال: {الذى جعل لكم الأرض فرشا} [البقرة: 22]. والثاني: قال: لا أنام الليلة على وتد-عود يدق بالجوار يعلق به الحوائج- ثم نام على جبل، نقول هذه نيته واللفظ يحتملها، فإن قال: والله لا آكل اليوم خبزا ثم أكل الخبز وقال: أردت بذلك التمر فهل تقبل نيته؟ لا، لماذا؟ لأن اللفظ لا يحتملها. إذن الأصل في الأيمان لإلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ، دليل ذلك قوله-تبارك وتعالى-: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيسن} [المائدة: 89] أي: على حسب ما عقدتموه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»، وكذلك هذا الحديث، فإن لم يكن له نية رجعنا إلى السبب الذي هيج اليمين وأثار اليمين، لماذا حلف هذا الرجل؟ نرجع إلى السبب، مثال ذلك: قال له رجل من الناس: إن عمرا يقرر البدعة قال له: صحيح؟ قال: نعم، قال: والله لا أكلم عمرا الذي ذكره لصاحبه، ثم كلمه فهل يحنث؟ نقول: لا يحنث اعتمادا على السبب، كذلك أيضا لو قال: والله لا أدخل هذا البيت بناء على منكرات ذكرت في هذا البلد ثم تبين أنه لا يوجد منكرات، وأن ما نقل عن وجود منكرات ليس بصحيح فهل يدخلها؟ نعم يدخل بناء على السبب، ومثل ذلك: رجل رأى امرأته تكلم إنسانا فقال: أنت طالق بناء على أن هذا الإنسان من غير محارمها ثم تبين أنه محرم لها فهل تطلق؟ لا، بناء على السبب، فإن لم يوجد سبب، لا نية ولا سبب يرجع إلى التعيين-وهي المرتبة الثالثة- يعني: إلى ما عينه الحادث كيف

من حلف فرأى الحنث خيرا كفر عن يمينه

ذلك؟ قال: والله لا آكل لحم هذا الحمل-وهو الجذع من الضأن- عين ثم أن الحمل كبر صار سنيا أو رباعيا وأكل منه فهل يحنث؟ يحنث؛ لأنه عين، قال: هذا الشيء إلا إذا أراد ما دام حملا فعلى نيته، لكن نقول: لو لم يوجد نية فنرجع إلى التعيين، كذلك لو قال: والله لا ألبس هذا الثوب وجعله سراويل وكان حين حلف عليه قميصا فهل يحنث أم لا؟ يحنث بناء على التعيين فإن لم يوجد تعيين وإنما علق اليمين بالمعاني لا بالأعيان ولم يوجد نية ولا سبب رجعنا إلى ما يتناوله اللفظ؛ يعني: إلى معنى اللفظ، وحينئذ ننظر ما معنى هذا اللفظ وما حقيقة هذا اللفظ؟ والحقائق ثلاثة: شرعية ولغوية وعرفية، أول ما نرجع إليه النية ثم السبب ثم التعيين، فإذا لم يحصل شيء من ذلك رجعنا إلى مدلول اللفظ فنرجع إلى الحقائق الثلاث: الشرعية واللغوية والعرفية، وحينئذ تجدون الألفاظ منها ما تتفق فيه الحقائق الثلاث كالسماء، السماء: لغة وشرعا وعرفا معناها واحد، لكن المشكل إذا اختلفت الحقائق فإلى أي الحقائق نرجع؟ مثلا: إذا قال رجل: والله لا أصلي، ثم قام وصلى قلنا: كفر، قال: لماذا؟ الصلاة في اللغة: الدعاء وهذه الصلاة الشرعية، نقول: أنت هل نويت الدعاء، إن كنت نويت الدعاء؟ فأنت ونيتك ولا تجادله، لكن إذا قال: ليس عندي نية فتحملها على المعنى الشرعي؛ لأن هذا هو المعروف عند المسلمين، رجل آخر قال: والله لأبيعن اليوم وأعقد عقد بيع ثم ذهب وباع خمرا، حتى غربت الشمس ما رأينا الرجل قد باع شيئا قلنا: كفر، فقال: قد بعت خمرا وهو بيع بمقتضى اللغة العربية فهل نطيعه بأنه بيع بمقتضى اللغة العربية؟ نعم، ولكنك مسلم فنحمل البيع الذي حلفت عليه على الشرعي وبيع الخمر ليس شرعيا، فلا يعتبر، ونلزمه بالكفارة، لكن لو قال: أردت (عنبا) يرجع إلى نيته، بقي عندنا الحقيقة الشرعية والعرفية، إذا تعارضت اللغوية والعرفية فإنه يحمل على اللغة العرفية، يعني: كلام الناس على أعرافهم، مثل لو قال: والله لأذبحن الآن شاة فأخذ تيسا فذبحه هل يحنث؟ قال: الشاة في اللغة تطلق على الذكر والأنثى من الضان والمعز، ماذا تقول؟ لكن العرف أن الشاة هي: الأنثى من الضان ولا نقبل كلامه إلا إذا قال: نعم، نويت الحقيقة اللغوية، فعلى ما نوى. من حلف فرأى الحنث خيرا كفر عن يمينه: 1309 - وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها؛ فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير». متفق عليه. قوله: «وإذا حلفت» الواو هنا حرف عطف، فأين المعطوف عليه؟ المعطوف عليه حذفه

المؤلف؛ لأنه لا شاهد فيه للباب، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها»، هذا هو المحذوف، بمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن طلب الإمارة، وأخبر أن من طلبها فأعطيها وكل إليها، وإن جاءته من غير مسألة أعين عليها، وأيهما أحسن؟ الثاني: أحسن أي: أن يعان عليها؛ ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يتعرض للإمارة، العافية خير والسلامة أسلم، اللهم إلا إذا كان القائم عليها ليس أهلا لها، فحينئذ لك أن تسألها كقول يوسف-عليه الصلاة والسلام-: {اجعلنى على خزائن الأرض إلى حفيظ عليم} [يوسف: 55]. وهذه وإن لم تكن إمارة سلطة لكنها إمارة وزارة مالية؛ لأنه قال: {اجعلنى على خزائن الأرض}، ثم بعد ذلك ترقى حتى صار ملك مصر، أما الولاية فلا بأس أن يسألها من هو أهل لها كقول عثمان بن أبي العاص للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، قال: «أنت إمامهم»، ولكن يجب على الآمر المسئول ألا يجيب السائل إذا لم يكن أهلا مطلقا، سواء في الإمارة أو الولاية، وكلامنا هنا فيمن طلب الإمارة أو الولاية، لا فيمن أعطى الإمارة أو الولاية؛ لأن من أعطى الإمارة أو الولاية يجب عليه أن يختار من هو أقوم في العمل من غيره فإن ولى من هو دونه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، إذا ولى أحد على أمر وفيه من هو خير منه فهذا خيانة، لكن كلامنا على الطالب فصار طلب الإمارة منهيا عنه، طلب الولاية لا بأس به إذا كان أهلا لذلك، أو إذا لم يكن القائم على ذلك أهلا؛ كقصة يوسف؛ لأن يوسف لم يسأل الولاية-ولاية السلطة- التي هي الإمارة، وإنما قال: {اجعلني على خزائن الأرض}، أما الموضوع المناسب للحديث لهذا الباب فهو قوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر»، المراد باليمين هنا: ليست اليمين التي ينعقد بها الحلف، ولكن اليمين التي حلف عليها، فالمعنى: إذا حلفت على شيء لأن اليمين حقيقة هي صيغة القسم، ولا يستقيم الكلام إذا قلت: حلفت على قسم، ولكن المعنى: إذا حلفت على شيء فرأيت غيرها خيرا منها، رأيت رؤية قلبية أو بصرية؟ الظاهر أنها قلبية؛ لأنها أعم، «غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وئت الذي هو خير» فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر عن يمينه ويأت الذي هو خير، وهذا اللفظ بدأ فيه بالتكفير قال: «كفر عن يمينك وائت الذي هو خير»، والواو هنا لا تستلزم الترتيب، وإن كانت تقتضيه؛ لأن أصل دلالة الواو على الترتيب ليست لزومية، وإنما على الترتيب بحسب الأدلة.

الحنث في اليمين على خمسة أقسام

وفي لفظ للبخاري: «فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك». فبدأ هنا بالحنث قبل الكفارة. وفي رواية لأبي داود: «فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير». وإسنادهما صحيح. فبدأ هنا بالتكفير قبل الحنث على وجه مرتب صريحا لقوله: «ثم»، و «ثم» تقتضي الترتيب، وهذه الألفاظ المختلفة قد نرجح بعضها على بعض، وقد نقول: إنها تدل على أن الأمر واجب، لقوله: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها»، والخيرية: هنا هل هي خيرية الدين أو خيرية الدنيا أو كلاهما؟ كلاهما جميعا، مثال ذلك: حلف ألا يصومن غدا الإثنين، ومعلوم أن صوم الإثنين سنة، نقول: كفر عن يمينك وصم، دعاه ابن عمه لوليمة عرس أو غيرها فحلف ألا يجيب دعوته، فأشار عليه بعض الموفقين قال: هذا ابن عمك وإجابة دعوته من صلة الرحم وامتناعك قطيعة، فرأى أن الخير في إجابته ماذا تقول؟ كفر عن يمينك واذهب إلى صاحبك، وهل التكفير والإتيان هنا واجب؟ نقول: فيه تفصيل: إن كان الخير واجبا وجب الحنث وفعل الخير، وإن كان مستحبا استحب الحنث وفعل الخير، فإذا قال: والله لا أصلين اليوم في جماعة، إنسان أحمق! كان ابنه يقول له: يا أبت، صل مع الجماعة خير وفضل وأجر، فقال عنادا لابنه: والله لا أصلين اليوم مع الجماعة، حلف على ترك واجب، الخير هنا واجب الذي هو الحنث لو حنث وصلى مع الجماعة صار هذا أمرا واجبا عليه، فنقول: يجب عليك الآن أن تحنث وأن تكفر صل مع الجماعة وكفر، فصار إتيان الذي هو خير والتكفير حسب هذا الخير أن كان واجبا وجب الحنث والتكفير إن كان سنة سن الحنث ووجب التكفير، لأن كفارة اليمين واجبة، وإذا كان ليس خيرا ولا شرا أي: بأن كان شيئا مباحا، كأن يقول مثلا: والله لا ألبس هذا الثوب، فقال له بعض الحاضرين: البسه هذا الثوب أجمل من الثوب الذي عليك، قال: والله لا ألبسه، فهنا نقول: الأولى حفظ اليمين، لكن لو فعل ولبس الثوب وكفر فلا بأس. الحنث في اليمين على خمسة أقسام: وقد قسم العلماء-رحمهم الله- الحنث إلى خمسة أقسام: واجب، وحرام، وسنة، ومكروه، ومباح، واجب الحنث يعني: قطع اليمين والكفارة إما واجب أو سنة أو حرام أو مكروه أو مباح، متى يكون واجبا؟ إذا توقف على الحنث فعل واجب أو ترك محرم صار

الحنث واجبا مثاله-ما قلنا قبل قليل- إذا قال: والله لا أصلي مع الجماعة اليوم فهنا يتوقف على الحنث فعل واجب، يعني: أنه يجب عليه إذا حنث من هذا اليمين أن يصلي لأن هذه الصلاة فعل واجب، فيكون الحنث واجبا، ويكون الحنث سنة إذا توقف عليه فعل سنة، ويكون مكروها إذا توقف عليه فعل مكروه مثلا نقول: والله لا آكلن الآن بصلا، البصل: أصله مكروه عند قرب الجماعة، ماذا نقول؟ الحنث هنا مستحب، يعني: ألا يأكل، لكن لو قال: والله لآكلن الآن بصلا، قلنا: الحنث مكروه، المباح كما ذكرنا في مسألة الثوب، ولكن العلماء يقولون في قسم المباح حفظ اليمين أولى من الحنث؛ لقوله-تبارك وتعالى-: {واحفظوا أيمنكم} [المائدة: 89]. بقي لنا: هل يكفر أولا ثم يحنث أو يحنث ثم يكفر؟ اختلف العلماء في ذلك بناء على اختلاف الروايات، فقال بعض أهل العلم: كفر ثم احنث. عيد على عمر وقال بعضهم: احنث ثم كفر بناء على اختلاف الروايات، والصواب أن هنا لا بأس بهذا أو بهذا، ولكن إذا كان التكفير قبل الحنث فإنه يسمى تحلة، وإن كان بعده فإنه يسمى كفارة، دليل ذلك قول الله-تبارك وتعالى-: {يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تنبغى مرضات أزوجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمنكم}] التحريم: 1 - 2]. وهو التكفير قبل الحنث وقال تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمن فكفرته إطعام عشرة مسكين} [المائدة: 89]. هذا بعد الحنث، والصواب أن الإنسان إذا حلف على شيء وأراد أن يحنث نقول له: أنت بالخيار إن شئت فافعل ثم كفر وإن شئت كفر ثم افعل هذا هو القول الراجح بمعنى: أنه لا يتعين لا هذا ولا هذا. من فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يحنث في اليمين إذا كان خيرا؛ لقوله: «فرأيت غيرها خيرا منها فكفر ... إلخ». ومن فوائد الحديث: الانتقال عن المفضول إلى الأفضل ولو عينه الفاعل، يعني: ينتقل عن المفضول إلى الأفضل ولو كان المفضول قد عين، دليله قوله: «كفر عن يمينك وائت الذي هو خير» ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي نذر أن فتح الله على رسوله مكة أن يصلي في بيت المقدس قال: «صل هاهنا» فأعاد عليه قال: «شأنك»، فهذا يدل على أن الانتقال عن المفضول إلى الفاضل جائز ولو كان المفضول قد عين، وبناء على ذلك لو

الاستثناء في اليمين

أن إنسانا أوقف بيتا على ما يفعله كثير من الناس فيما سبق على أضاح وعشاء في رمضان، ورأى الناظر أن يصرفه في بناء المساجد، فهل يجوز أن يغير شرط الواقف؟ الجواب: نعم يجوز؛ لأن هذا أفضل، فيكون الانتقال إلى الأفضل عن المفضول ولو كان معينا مما جاءت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: وجوب التكفير عن اليمين بالحنث لقوله: «كفر عن يمينك». ومن فوائده: جواز الإجمال في القول إذا كان قد فصل في موضوع آخر لقوله: «كفر عن يمينك»، ولم يذكر الكفارة، ولكنها كانت معلومة عند عبد الرحمن بن سمرة، فإذا كان التفصيل معلوما فلا بأس أن يخاطب بالمجمل. الاستثناء في اليمين: 1310 - وعن ابن عمر رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله؛ فلا حنث عليه». رواه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان «من حلف على يمين» أي: على شيء، يعني من حلف على شيء بيمين، فقال: «إن شاء الله فلا حنث عليه». تحقيق القول في تعليق الحلف بالمشيئة: هذا فيه: أن الإنسان إذا حلف على شيء وقرن اليمين بالمشيئة، سواء تقدمت أو تأخرت، فإنه ليس عليه حنث مثال التقدم: والله إن شاء الله لأفعلن كذا وكذا، ومثال التأخر والله لأفعلن كذا أن شاء الله فإنه إذا قال أن شاء الله لم يحنث أي: لا تلزمه الكفارة ولو خالف ما حلف عليه مثل أن يقول: والله لأزورن فلانا اليوم: إن شاء الله، ثم لم يزره لم يحنث لا شيء عليه أو قال: والله لا أزور فلانا اليوم فزاره لكنه قال أن شاء الله لم يحنث أيضا، وظاهر الحديث سواء أراد التحقيق أو أراد التعليق، أما الثاني فظاهر-إذا أراد التعليق- ظاهره أنه علقه بمشيئة الله ولو شاء الله أن يفعله لفعله، لكن التحقيق كيف ينفع التعليق مع إرادة التحقيق؟ ! هذه المسألة هي ظاهر الحديث؛ لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن شاء الله»، ولم يقيد لكن بعض العلماء يقول: إذا أراد التحقيق فإن هذا الشرط يكون ملغى؛ لأن الشارط لم يرد أن يعلق الأمر بمشيئة الله بل لقوة إرادته، قال: إن هذا سيقع بمشيئة الله، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله اختار أنه لا فرق بين إرادة التحقيق أو إرادة التعليق لعموم الحديث، ولأن التحقيق ليس بيدك ما دمت قلت: إن شاء الله فإن الله-تعالى-

نية الاستثناء لا تغني في اليمين إلا بالتلفظ به

لعله: قد لا يحقق هذا الشيء، وما ذكره الشيخ رحمه الله أقرب إلى الصواب، والأول أقرب إلى القواعد، فإن الذي أراد التحقيق يقول: إني لم أرد التعليق إطلاقا ولا أردت أن يكون الأمر راجعا إلى مشيئة، لكن ذكرت المشيئة تبركا وتحقيقا فقط، فهو إلى القواعد أقرب، لكن رأي شيخ الإسلام رحمه الله إلى ظاهر الحديث أقرب. نية الاستثناء لا تغني في اليمين إلا بالتلفظ به: وقوله: «فقال إن شاء الله «ظاهر الحديث أنه لابد من القول باللسان، وأن نية الاستثناء لا تغني شيئا، فلو قال: والله لأفعلن كذا ومن نيته أنه بمشيئة الله فإن ذلك لا ينفعه لقوله فقال. ومن فوائد الحديث: أنه لابد أن يكون هذا القول مقارنا لليمين؛ لقوله: «فقال: إن شاء الله»، فصل عن اليمين فإنه لا ينفع؛ وذلك لأنه إذا فصل عن اليمين لم يكن الكلام متصلا، وإذا لم يكن الكلام متصلا صار كلامين لا كلاما واحدا، فلو قال: والله لأزورن فلانا الليلة، وبعد ربع ساعة قال: إن شاء الله فإن ذلك لا ينفعه. واختلف العلماء-رحمهم الله- هل يشترط في هذا أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه، أي: أن ينوي أنه مقرون بمشيئة الله قبل أن يتم الكلام أو لا يشترط؟ فمن العلماء من قال: يشترط أن ينويه قبل أن يتم الكلام، فإذا قال: والله لأزورن فلانا الليلة إن شاء الله لابد أن ينوي إن شاء الله قبل قوله: الليلة، ولكن ظاهر السنة خلاف ذلك، وأنه لا تشترط نيته، بل لو أنه ذكر بعد أن أتم الكلام فله أن يستثني، ودليل ذلك قصة سليمان حيث قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل: إن ةشاء الله، فلم يقل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو قالها لولدت كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله». وعلى هذا فإذا أقسم عليك أخوك وقال: والله لتدخلن وفتح لك الباب وقال: تفضل فقلت: لا، وقال: والله لتدخلن، فقيل له: قل إن شاء الله، فقال إن شاء الله هل يحنث؟ لا يحنث على القول الراجح؛ لأنه قال: إن شاء الله، فإن قال: لا اقول إن شاء الله فهل يحنث؟ يحنث، لكن الكفارة على الحالف الذي هو صاحب البيت لا على من حنثه؛ لأنه هو السبب إلا أنه ينبغي للإنسان أن يبر المقسم وألا يحنثه، إلا إذا كان هناك ضرورة فلا بأس، وإلا ففي مثل هذه الحال ادخل؛ لأنه من مكارم الأخلاق، بل أنت ماجور عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإبرار المقسم.

لفظ يمين الرسول صلى الله عليه وسلم

لفظ يمين الرسول صلى الله عليه وسلم: 1311 - وعنه رضي الله عنه قال: «كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم: لا ومقلب القلوب». رواه البخاري. «كانت يمينه» يعني: قسمه الذي يقسم به، وهذا ليس كل يمين، بل أحيانا يقول: والذي نفسي بيده، وأحيانا يقول: والله، وأحيانا يقول: وربي، كما أمره الله: {قل بلى وربى لتعبثن} [التغابن: 7]. المهم: أن الرسول كان يقسم بهذا، فيكون معنى قوله: «كانت يمين» أي: من أيمان الرسول صلى الله عليه وسلم «لا ومقلب القلوب»، ويحتمل أن المعنى يمينه التي يجتهد فيها، يقول: «لا ومقلب القلوب»، وقوله: «لا» هذه للتنبيه، وليست للنفي؛ لأن هذا القسم يكون في الإثبات فتقول: لا ومقلب القلوب لأفعلن كذا أو لا أفعلن كذا، فتكون «لا» هنا كـ «لا» في قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيمة} [القيامة: 1]. {لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1]. {فلا أقسم برب المشرق} [المعراج: 40]. وقوله: «مقلب القلوب» يعني: أنه يصرف إرادة الإنسان عما كان يريد، فيقلب قلبه، وتقليب القلوب حسب مشيئته-سبحانه وتعالى- قد يقلب القلب-والعياذ بالله- من خير إلى شر، ومن أسباب تقليب القلوب إلى شر ألا يقبل الإنسان الحق أول مرة ويكون عنده تردد، فإن الله يقول: {ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} [الانعام: 110]. أي: لأنهم لم يؤمنوا به أول مرة. فإذا رأيت من نفسك أنها لا تقبل الحق لأول مرة تتبين له فاعلم أنك على خطر؛ أنك تبتلى بأن ترد الحق ولا تؤمن به، وهذا كقوله تعالى: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريح} [ق: 5]. تختلط عليهم الأمور ويضلون-والعياذ بالله- فاقبل الحق من أول ما ياتيك، حتى يكون قلبك سليما قابلا لشرع الله عز وجل. في هذا الحديث: جواز القسم بما كان من صفات الله عز وجل، لقوله «لا ومقلب القلوب»، ولكن هذا مشروط بما إذا كانت الصفة خاصة بالله عز وجل مثل تقليب القلوب؛ لأنه لا أحد يقدر على تقليب القلوب إلا الله عز وجل، أما إذا كانت صفة تكون لله ولغيره فهذه إن نواها لله فهي يمين، وإن أطلق-وهي تقال لله ولغيره- فليست بيمين؛ لأنها لم تتعين يمينا، وإن ترجح أنها لله فهي يمين، وإن ترجح أنها لغيره فليس بيمين. حكم الحلف بصفة من صفاته تعالى: فإن قال قائل: هذه صفة بمعنى أنها مشتقة فهل يجوز أن نحلف بالصفة التي هي صفة مخصة؟

اليمين الغموس من كبائر الذنوب

قلنا: إذا كانت الصفة من صفات المعاني فلا بأس؛ وأما إذا كانت من الصفات الخبرية، فلا يجوز، اللهم إلا ما يعبر به عن الذات، فمثلا: عزة الله يحلف بها، كلام الله يحلف به، استواؤه على عرشه لا يحلف به، يد الله لا يحلف بها، وجه الله يحلف به؛ لأنه يعبر به عن الذات مثل: {كل شاء هالك إلا وجهه} [القصاص: 88]. ومثل {ويبقى وجه ربك ذو الجلل والإكرام} [الرحمن: 27] من فوائد الحديث: جواز القسم بمقلب القلوب، وما كان مشابها له مثله، مثل: لا والذي يفعل ما يريد، هذا يجوز؛ لأنه لا أحد يفعل ما يريد إلا الله أما غير الله فإن إرادته تحت إرادة الله عز وجل وقد يريد الإنسان شيئا فلا يفعله لأن الله لم يرده، لو قلت: لا والذي فلق البحر لموسى يصح؛ لأن هذا لم يكن إلا الله عز وجل، لا وفالق الإصباح يصح، وعلى هذا فقس. اليمين الغموس من كبائر الذنوب: 1312 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ ... » فذكر الحديث وفيه «اليمين الغموس» وفيه: قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: التي يقتطع بها مال امرى مسلم، هو فيها كاذب». أخرجه البخاري. الأعرابي: ساكن البادية، والغالب على الأعراب الجهل بدين الله: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر ويتخذ ما ينفق قربت عند الله وصلوت الرسول} [التوبة: 99]. الغالب عليهم أيضا الصراحة-يقول ما في قلبه تماما- ولهذا كان الصحابة يتمنون أن ياتي أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسأله عما يستحون أن يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه. فقال: «ما الكبائر؟ »، وهذا يدل على أن الرجل يعرف الكبائر من الصغائر، فذكر الحديث، وفيه: «اليمين الغموس». الحديث فيه: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، واليمين الغموس، فما هي الكبائر هل هي محدودة أو معدودة؟ من العلماء من قال: إنها معدودة، ومنهم من قال إنها محدودة، ومنهم من قال/ كل ذنب ترتب عليه لعنة أو غضب أو نفي إيمان أو تبرؤ منه أو غير ذلك فهو كبيرة. ورأيت لشيخ الإسلام كلاما، قال: كل ذنب رتب عليه عقوبة خاصة فهو كبيرة؛ وذلك لأن الذنوب منها ما يستفاد بالنهي المطلق، أو ما يستفاد بمطلق النهي هذا لا يكون كبيرة ومنها ما يترتب عليه عقوبة خاصة كنفي الإيمان والتبرؤ منه واللعن والغضب والحد وما أشبه

ذلك، فهذا يكون كبيرة، والكبائر نفسها تتفاوت كما في حديث أبي بكرة أنبئكم: «ألا أنبنكم بأكبر الكبائر». وقوله: «اليمين الغموس»، «غموس» فعول، وهي صيغة مبالغة، والغمس بمعنى: ربط الشيء في شيء آخر، وسميت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم تغمسه في النار. قلت: «ما اليمين الغموس ... إلخ»، إذن اليمين الغموس: ما يقتطع بها مال امراء مسلم هو في هذه اليمين كاذب، الشاهد من هذا قوله: «اليمين الغموس». والاقتطاع نوعان: إما أن يدعي ما ليس له، أو ينكر ما ثبت عليه، أما الأول فظاهر، مثل: أن يقول: هذه السيارة ملكي، فيقول من هي بيده: إنها لي ليست ملكا لك، فيقيم هذا المدعي شاهدا ويحلف معه، وإذا أقام شاهدا وحلف معه حكم له بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين، هذا الرجل الآن اقتطع مال امراء مسلم بيمين هو فيها كاذب والذي شهد معه شاهد زور. الثاني: أن يجحد ما يجب عليه، مثل: أن يقول له شخص في ذمتك لي مائة ريال، فيقول: لا، ثم يحلف بأنه ليس في ذمته له مائة ريال، فحينئذ يكون اقتطع من ماله؛ لأن الأصل: أن ما في ذمة هذا المطلوب للطالب، فإذا أنكره وجحده وحلف عليه فقد اقتطعه. ففي هذا الحديث فوائد: أولا: حرص الصحابة-رضي الله عنهم- على السؤال والبحث عن الدين، وهذا من نعمة الله عليهم وعلى الأمة: لأن جميع ما يسأل عنه الصحابة يقع أيضا في قلوب الناس من بعدهم فتكون إجابة الصحابي كإجابة ما يرد على القلوب ممن بعدهم. ومن فوائد الحديث: أن الذنوب تتفاوت كبائر وصغائر، والكبائر أيضا تتفاوت منها السبع الموبقات، وهي أشدها، ومنها ما دون ذلك. ومن فوائد الحديث: أن اليمين الغموس من كبائر الذنوب وهي التي يقتطع بها مال امراء مسلم، فإن لم يقتطع بها مال امراء مسلم ولكنه كاذب فيها فهل تكون غموسا؟ الجواب: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص اليمين الغموس بالتي يحلفها ويقتطع بها مال امراء مسلم وهو كاذب، ولكن إذا حلف على شيء ماض هو فيه كاذب فهل عليه كفارة؟ لا، لأن الكفارة إنما تكون في اليمين على المستقبل. وهل من فوائد الحديث: أنه لو حلف على يمين يقتطع بها مال امراء غير مسلم فليست يمينا غموسا؟ نقول: لا، هي يمين غموس إذا كان هذا ممن عصم ماله ودمه لكن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم؛ لأن ذلك هو الغالب وإلا فمن له حرمة وعصمة كالمسلم.

لغو اليمين

ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يسأل عن المبهم لئلا يفهمه على خلاف المراد، الدليل أنه سأل عن اليمين الغموس وقال: وما اليمين الغموس؟ فبينه، وهل فيها كفارة؟ الجوةاب: لا، لأنها على شيء ماض. لغو اليمين: 1313 - وعن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمنكم} [البقرة: 225]. قالت: «هو قول الرجل: لا والله، بلى والله». أخرجه البخاري. وأورده أبو داود مرفوعا. البخاري رواه عن عائشة فيكون موقوفا، وأبو داود رواه مرفوعا، أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأيا كان فهو حجة؛ لأنه إن كان من عند الرسول فهو تفسير القرآن بالسنة، وإن كان من عند عائشة فهو تفسير القرآن بقول الصحابي، والصحيح أنه يرجع إلى قول الصحابي في التفسير ما لم يخالفه صحابي آخر. في هذا الحديث: دليل على أن اللغو هو الذي لا يقصد الإنسان عقده، وإنما يجري على لسانه، مثل: لا والله، وبلي والله ويدل لهذا قوله تعالى-في نفس الآية-: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمن}، فلا بد من عقد، أما الذي يجري على اللسان بلا قصد فهذا لا يؤاخذ به. فيستفاد من هذا: أنه لابد من قصد عقد اليمين، وأنه إذا جرى على اللسان بلا قصد فإنه لا يؤاخذ به، وهل يقاس على هذا ما جرى على اللسان بلا قصد في الحلف بغير الله؟ الظاهر نعم لكن ينهى عن ذلك لئلا يغتر به من يسمعه. وهل يلحق بذلك أيضا من طلق زوجته بلا قصد؟ الجواب: نعم، يلحق بذلك، لكن عند المحاكمة-ويعني: لو حاكمته- فإن الحاكم ليس له إلا الظاهر، وعليه فيدين هذا الرجل بالنسبة للطلاق الذي وقع منه على امرأته، بمعنى أن يقال له أنت ودينك أن كنت لم تنو الطلاق فلا طلاق عليك، وإن كنت قد نويت الطلاق فإنها تطلق لكن عند المحاكمة لا يحكم الحاكم إلا بما ظهر من كلامه. أسماء الله الحسنى: 1314 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعا وتسعين اسما، من

أحصاها دخل الجنة» متفق عليه، وساق الترمذي وابن حبان الأسماء، والتحقيق: أن سردها إدراج من بعض الرواة. قوله: «إن الله ... إلخ»، والله تعالى وتر يحب الوتر، ولهذا كان شرعه وترا، وكانت أقداره غالبا وترا، وكانت أسماؤه المعلوم منها، وترا فكانت له تسع وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة، وهي مبهمة، والحكمة من إبهامها: أن يجتهد الإنسان في معرفتها كما أخفيت ليلة القدر؛ ليجتهد الناس في العمل، وأخفيت ساعة الإجابة في الجمعة، وكذلك ساعة الإجابة في الليل من أجل أن يجتهد النس في طلبها، كذلك الأسماء التسعة والتسعون المقدسة إنما أخفاها الله ولم يعينها ليجتهد الناس في طلبها، ثم إذا فتح على الإنسان فإنه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وقد يختار بعض الناس هذا الاسم والآخرون يختارون الاسم الآخر، لكن الإنسان عليه أن يجتهد. وقوله: «من أحصاها» ما معنى الإحصاء؟ الإحصاء معناه: الإحاطة بالعدد، هذا هو الأصل كما قال تعالى: {وأحصى كل شاء عددا} [الجن: 28]. ومنه قول الشاعر: [الرجز] (ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر) كانوا في الأول يحصون العدد بالحصى؛ لأنهم أميون فهل الإحصاء مجرد إدراكها عددا؟ لا، الإحصاء؛ أولا: إدراك لفظها والإحاطة بها، ثانيا: معرفة معناها؛ لأن من لا يعرف معناها كالذي لم يدركها، فإن الله تعالى وصف الذين لا يفهمون معنى القرآن بأنهم أميون، فقال: {ومنهم أمنون لا يعلمون الكتب إلا أمانى} [البقرة: 78]. أي: إلا قراءة، فمن حفظ الأسماء ولم يعرف المعنى فإنه لا يعد محصيا لها؛ لأن حفظه وعدمه سواء، ثالثا: التعبد لله بمقتضاها، بمعنى: أن الإنسان يتعبد لله تعالى بمقتضى الاسم، فإذا علم أن من أسمائه السميع تعبد لله بمقتضى هذا الاسم، كيف ذلك؟ يحذر كل قول يغضب الله عز وجل، لأنه يعلم أنه إذا قال هذا القول فإن الله يسمعه، كذلك من أسماء الله البصير، تتعبد لله بمقتضى هذا الاسم؛ يعنى: أن كل

كل فعل لا يرضاه الله تتجنبه؛ لأنك تعلم أنه بصير به، الغفور تتعبد الله بمقتضاه بمعنى: أن تفعل أسباب المغفرة، وهلم جرًا. ولهذا كان العوض غاليًا جدًا وهو الجنة، ومثل هذا لا يمكن أن يحصل بمجرد أن الإنسان يسردها بلفظه فقط، فإحصاؤها إن يتضمن ثلاثة أشياء إحصاؤها لفظًا، فهمها معنى، والثالث: التعبد لله تعالى بمقتضاها فمن حصل على ذلك-ونسأل الله تعالى أن يكتبه لنا ولكم- فإنه يدخل الجنة. أتى المؤلف رحمه الله بهذا الحديث إشارة إلى أن أي اسم من أسماء الله تحلف به فإنه جائز، وكان الذي ينبغي أن يكون هذا الحديث بعد قوله: "كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب"، ولكن الإنسان عند التأليف ربما يفوته الترتيب. فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذا الحديث وبين حديث ابن مسعود في دعاء الغم والكرب: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك"، فإن ما استأثر الله به عنده في علم الغيب لا يمكن إدراكه ولا إحصاؤه، ولا يمكن أن يقال عدده كذا أو كذا؟ فالجواب أن يقال: إن معنى هذا الحديث "إن لله تسعة وتسعين اسمًا": إن من أسماء الله عز وجل تسعة وتسعين من أحصاها دخل الجنة، وعلى هذا فتكون الجملة "من أحصاها دخل الجنة" متعلقة بالجملة التي قبلها وليست منفصلة عنها، كأنه قال: إن من أسماء الله تسعة وتسعين اسمًا ... الخ. ونظير ذلك أن تقول عندي ألف ريال أعددتها للإقراض، يعني: من جاء يقترض أعطيته منها، فهل هذا يعني: أنه ليس عندك غيرها؟ لا يعني ذلك، ولاسيما أنه جاء في الحديث الذي معنا: "أو استأثرت به في علم الغيب عندك". وقول المؤلف رحمه الله: التحقيق أن سردها إدراج من بعض الرواة، الإدراج: هو أن يدخل أحد الرواة في الحديث كلامًا من عنده بدون بيان، وحكمه أنه حرام إلا أن يتعلق بتفسير الحديث أو ما أشبه ذلك، وإلا فلا يجوز للإنسان أن يدخل في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ما ليس منه بدون بيان، لكن يفعلها بعض الرواة إما لأنه أتى بالحديث غير مدرج في مكان آخر وقد علم ذلك؛ أو لأن الكلمة تكون شرحًا لمعنى الحديث مثل حديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار

الدعاء بخير لصانع المعروف

حراء" قال الزهري: والتحنث: التعبد، هذا نقول: قاله شرحًا للحديث فلا بأس، أما أن يأتي بكلام مستقل بدون بيان فلا يجوز، فعلى هذا فإدراج هذه الأسماء يعتبر محرمًا إلا إذا وجد في بعض الألفاظ أنه بين أنه مدرج. الدعاء بخير لصانع المعروف: 1315 - وعن أسامة بن زيد رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا؛ فقد أبلغ في الثناء". أخرجه الترمذي، وصححه ابن حبان. قوله: "من صنع إليه معروف" يعني: أسدي إليه المعروف سواء كان هذا المعروف مالا أو جاهًا أو منفعة بدن أو غير ذلك، أي معروف يصنع إليك ويسدى إليك فإنك مأمور بأن تكافئ بما يليق، وإذا كنا نكافئه بما يليق فمن الناس من يليق أن نكافئه بمثل ما أعطانا، ومن الناس من لا يليق به إلا الدعاء، فالناس يختلفون ليس كلهم على حد سواء، مثلاً: لو أهدى إليك رجل كبير غنيُّ غنى واسعًا، أهدى إليك هدية تساوي مثلاً ألف ريال وهل من المستحسن أن تكافئه بألف ريال؟ لا حتى هو ينتقضك فمثل هذا يدعى له، ولو أسدى إليك فقير شيئًا يساوي مائة ريال فما مكافأة هذا الفقير؟ أن تعطيه ألف ريال؟ لا، أن تعطيه أكثر؛ لأن ألف ريال عند الفقير شيء كبير وليست بشيء عندك وأنت غني، فهذا الرجل اجتهد في إسداء المعروف إليك فكافئه، فإن لم تجد ما تكافئه فادع الله له. ومن الدعاء قوله: "جزاك الله خيرًا" أي: أعطاك خيرًا مما أعطيتني، فخيرًا هنا اسم تفضيل، المعنى: أعطاك الله أخير مما أعطيتني، ويكون هذا قد أبلغ في الثناء يعني أنه أثنى على هذا الذي أعطاه أو صنع إليه المعروف على وجه بالغ، من الذي يقول: شكرًا لأن كثيرًا من الناس الآن إذا صنعت إليه معروفًا يقول: شكرًا حتى إنه لا يقول شكرًا لك، والأحسن أن يقول: جزاك الله خيرًا حتى يبلغ في الثناء.

حكم النذر

حكم النذر: 1316 - وعن ابن عمر رضي الله عنها، عن النِّبيِّ صلى الله عليه وسلم: {أنَّه نهى عن النَّذر وقال: إنَّه لا يأتي بخير وإنَّما يستخرج به من البخيل}. متَّفق عليه قوله: "نهى عن النذر" النذر هو: أن يلتزم الإنسان بالشيء سواء بلفظ النذر أو لفظ العهد أو غير ذلك؛ ولهذا قيل في معناه إلزام المكلف نفسه طاعة غير واجبة، هذا هو النذر الذي يجب الوفاء به، والنذر بالمعنى العام إلزام المكلف نفسه شيئًا يقوم به فعلاً أو تركًا، وهذا الحديث يقول "نهى عن النذر" والأصل في النهي: التحريم، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم وقال: إن النذر لا يجوز، سواء كان مطلقًا أو معلقًا، وسواء كان على مباح أو على غيره، مثال النذر المطلق: أن يقول الله علىّ نذر أن أصوم ثلاثة أيام هذا نذر مطلق لم يقيد بشيء. مثال النذر المعلق أن يقول: لله عليّ نذر أن أصوم ثلاثة أيام أن شفى الله مريضي هذا نذر معلق ومن ذلك ما ذكره الله في الآية {ومنهم من عاهد الله لئن اتانا من فضله لنصّدَّقنَّ ولنكونن من الصالحين} [التوبة: 75]. هذا ندر معلق على إغناء الله إياهم، والنذر-نذر غير العبادة- مثل أن يقول لله عليّ نذر أن ألبس الثوب الفلاني، لله عليّ نذر أن أركب السيارة الفلانية، هذا نذر فعل الطاعة، وسيأتي تقسيم النذر أن شاء الله. قلنا: إن النذر هو إلزام المكلف نفسه شيئًا وعلم من قول العلماء: أنه لا يلزم من لم يبلغ، وأن من لم يبلغ لو نذر لم نلزمه بنذره؛ لأنه ليس أهلاًَ للوجوب، كل العبادات عليه غير واجبة إلا الزكاة لأنها حق مالي والنفقات أيضًا لأنها حق للمخلوق فهو إلزام المكلف نفسه شيئًا ولا نقول: طاعة لأن النذر قد يكون طاعة وقد يكون غير طاعة وقد قسّم أهل العلم- رحمهم الله- النذر إلى خمسة أقسام نذر طاعة، ونذر معصية، ونذر مباح، ونذر يمين، ونذر لم يسم، ولكل قسم منها حكم. أولاً: نذر الطاعة: بأن يقول لله علي نذر أن أصوم غدًا يوم الاثنين هذا نذر طاعة؛ لأن الصوم من العبادة وتخصيصه بيوم الاثنين عبادة أخرى فيلزمه أن يصوم يوم الاثنين، ونذر الطاعة تارة يكون معلقًا بشرط وتارة يكون مطلقًا، المعلق بشرط مثل ما حكي الله عن المنافقين {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدَّقن ولنكوننَّ من الصالحين (75) فلما

اتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} [التوبة: 75 - 76]. ويقع هذا كثيرًا، كثير من الناس إذا أيس من مريضه قال: لله علي نذر إن شفى الله مريضي لأتصدقنَّ بألف ريال، أو لأصومنَّ شهرًا، أو لأصلين عشرين ركعة مثلاً. هذا نذر معلق، متى وجد الشرط لزم المشروط، إذن يجب الوفاء بنذر الطاعة سواء كان معلقًا أو مطلقًا، يعني: غير معلق، دليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، ولم يذكر سوى الطاعة ولابد من ذلك، ولو خالف الإنسان فلم يطع الله لكان على خطر عظيم، والخطر العظيم هو قوله تعالى: {فأعقابهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة: 77]. وهذا خطر عظيم، نفاق إلى الموت، لأنهم أخلفوا الله ما وعدوه وكذبوا فقال: لنتصدقنَّ ولنكوننَّ من الصالحين، ولم يحصل شيء من ذلك. الثاني: ضد ذلك وهو نذر المعصية مثل أن يقول: لله علىّ نذر ليشربنَّ الخمر، هذا نذر معصية، حرام، فلا يجوز الوفاء به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، ولأن الوفاء به مضادة لله عز وجل ومحادة له، كيف ينهاك الله عنه وأنت تتقرب إليه بفعله؟ هذا مستحيل عقلاً، ولكن هل يلزمه كفارة يمين؟ في هذا خلاف بين العلماء، وسيأتي الكلام عليه في شرح الحديث الآتي. الثالث: نذر مباح، مثل أن يقول: لله عليّ نذر لألبسن هذا الثوب الليلة، هذا مباح؛ لأنه إن شاء لبسه وإن شاء لم يلبسه، إن لبسه لم يأثم وإن تركه لم يأثم هذا نذر مباح فما حكمه؟ قال العلماء: يخير بين فعله وكفارة اليمين يعني: أن شاء فعله ولبس الثوب الذي نذر أن يلبسه هذه الليلة وإن شاء لم يلبسه ولكن عليه كفارة يمين؛ لأن هذا النذر في حكم اليمين إذ إنه إنما نذر لإلزام نفسه كالحالف فيلزمه كفارة يمين ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الكفارة في النذر الذي لم يسم فالمسمي الذي خولف من باب أولى. الرابع: نذر اليمين، يعني: النذر الذي قصد به معنى اليمين، مثل: أن يقول: إن كلمت فلانًا فلله عليّ نذر أن أصوم شهرين، هذا بمنزلة قوله: والله لا أكلم فلانًا؛ لأن هذا النذر ليس له

قصد أن يتعبد لله بصيام شهرين، لكن قصده أن يلزم نفسه بألا يلكم فلانًا ورأى أن صيام الشهرين ثقيل على النفس فربط نذره بذلك، هذا قال العلماء: إنه يخير بين كفارة اليمين وبين فعل المنذور وهذا غير القسم الذي قبله، لأن القسم الذي قبله؛ نذر أن يفعل شيئًا وهذا نذر نذرًا معلقًا علي فعل شيء فهو نذر يمين، فيقال لهذا الناذر أنت الآن بالخيار إن شئت كلِّم زيدًا وإذا كلمت زيدًا فإن شئت كفر كفارة يمين، وإن شئت صم شهرين كما نذرت، وهذا يسميه العلماء نذر اللجاج والغضب؛ لأن الذي يحمل عليه غالبًا هو الغضب والملاجة. الخامس: النذر الذي لم يسم بأن يقول: لله عليّ نذر فقط ولا يتكلم بشيء فهذا حكمه حكم اليمين يعني: تلزمه كفارة يمين كما جاءت به السنة. هذه أقسام النذر. أما حكم النذر فلنقرأ حديث ابن عمر (الذي معنا) قال: "نهى عن النذر" وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل"، قوله: "نهى عن النذر" أي: بجميع أقسامه، كل الأقسام الخمسة منهي عنها، حتى نذر الطاعة منهي عنه، وأما من قال من العلماء- رحمهم الله وعفا عنهم-: ينبغي أن ينذر كل نافلة لتنقلب فريضة، فهذا قول مخالف للنص أولاً: أن الله قال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجنَّ قل لاَّ تقسموا} [النور: 53]. افعلوا العبادة من ذات أنفسكم بدون إكراه وبدون إجبار. ثانيًا: كيف نقول: أن النذر هنا سنه والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه، لكن أكثر ما يؤتي الناس كما قال الإمام أحمد من القياس الفاسد أو التأويل، هذا قياس فاسد؛ لأنه كيف يقال للشخص: إذا أردت أن تصلي راتبه الظهر، قل: لله عليّ نذر أن أصلي راتبه الظهر، من أجل أن يجب عليه الوفاء بها فيثاب ثواب الواجب؟ نقول: سبحان الله، الله عز وجل يقول: "لا تقسموا طاعة معروفة" يعني: عليكم طاعة معروفة بدون يمين وبدون إلزام للنفس، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء: 59]. ولولا هؤلاء العلماء الذين نقل عنهم ذلك لولا أننا نثق بأنهم مجتهدون لا يريدون إلا الحق لكن فضل الله يؤتيه من يشاء، لقلنا: إنهم آثمون بهذا القول، لكن الحمد لله المجتهد من أمة محمد أن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر والخطأ مغفور. يقول: نهى عن النذر، ثم علل النهي فقال: إنه لا يأتي بخير؛ لأن بعض الناس ينذر

لحصول خير أو اندفاع شر، مثل من قال: إنه نذر إن تزوج فلانة ليصومن سنة كاملة، مسكين هذا أيام عرسه يصوم سنة كاملة! ! هذا من الخطأ لكنه نذر لحصول خير مطلوب أما لزوال مكروه فهذا كثير، فمن الناس يكون عنده المريض آيسًا منه، ثم يقول: إن شفا الله مريضي فلله عليّ كذل وكذا فيشفي الله مريضه، وهل شفى الله مريضه من أجل نذره؟ أبدًا النذر لا يرد قضاءّ ولا يورد قضاءّ كما أنه لا يأتي بخير، كثيرًا ما يوجد بعض الناس اللآن مسكينًا ضعيفًا في الدراسة وأيس من النجاح يقول: لله عليّ نذر إن نجحت أن أصوم شهرين أو ثلاثة أشهر، ثم إذا نجح جاء إلى عتبة كل يسأل يتخلص مشكلة، نقول: يا أخي إذا أراد الله أمرًا، فإن النذر لا يأتي به والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إنه لا يأتي بخير". وإنما قال ذلك لأنه كما قلت لكم: كثير من الناذرين ينذر لحصول مطلوب، أو زوال مكروه، فيقول الرسول: النذر لا يأتي بشيء، الذي يأتي بالخير ويصرف الشر هو الله عز وجل حتى لو فرض أنه صادف أن شفي من مرضه حين نذر نقول عن هذا الشفاء: إنه حصل عند النذر لا بالنذر؛ لماذا لا نقول بالنذر؟ لأن الرسول يقول: لا يأتي بخير ولم يفصل، فإذا قدِّر أنه شفي عند النذر قلنا: هذا حصل عنده لا به كما يقوم المشرك يدعو الصنم لحصول مطلوب أو زوال مكروه ثم يحصل مطلوبة أو يزول مكروهه ويقول: هذا من الصنم، نقول: غلط هذا ليس من الصنم، ولكن حصل الشيء عند دعائك إليه؛ لأن الله يقول: {ومن أضل ممَّن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلي يوم القيامة وهم عم دعائهم غافلون (5) وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} [الأحقاف: 5، 6]. ويقول عز وجل: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعائكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم} [فاطر: 14]. كيف يأتي الصنم لداعيه؟ هذا غير ممكن، فإذا قدر أنه حصل الشيء فنقول: هذا حصل عنده لا به، ولا يقال: إن هذا رأي الأشعرية الذين ينكرون تأثير الأسباب لمسبباتها؛ لأننا نقول: نحن اعتمدنا على أدلة من القرآن والسُّنة. إذن النذر لا يأتي بخير لا يرفع مكروهًا، ولا يجلب محبوبًا، وإنما قال: "لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل"؛ لأن البخيل لا ينفق، لكنه إذا اضطر إلى الإنفاق حينئذ ينذر ويقول: إن شفى الله مريض أو شفاني من المرضي لأتصدقنِّ بمائة ألف ريال هنا استخرجت الدراهم من البخيل بالنذر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لولا هذا ما نذر، وربما أيضًا إذا حصل

مطلوبه، ربما لا يوفى أيضًا؟ ربما تغلبه نفسه الشحيحة ولا يوفي، وحينئذ يصدق عليه قول الله عز وجل: {فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة: 76]. من فوائد الحديث: أولاً: النهي عن النذر، وهل النهي هنا للكراهة أو للتحريم؟ أكثر العلماء يقولون: إنه للكراهة، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية مال إلى التحريم، وهو الذي مشى عليه صاحب سبل السلام أنه للتحريم، والقول بأنه للتحريم قول قوي. فإن قال قائل: كيف تقولون: إنه للتحريم والله تعالى مدح الموفين بالنذر فقال: {يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا} [الإنسان: 7]. وإذا كانت النتيجة ممدوحة كان السبب ممدوحًا؟ نقول: هذا غلط أولاً: الآية الكريمة هل المراد بقوله: {يوفون بالنذر} أي: بما نذروه على أنفسهم وكلفوا به أنفسهم أو المراد العبادات الواجبة؟ فيها قولان: والآية محتملة؛ لأن العبادة الواجبة تسمى نذرًا كما قال الله تعالى في الحجاج: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم} مع أنهم ما نذورا {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29]. وما دامت الآية محتملة فمع الاحتمال يسقط الاستدلال وحينئذٍ نقول الآية لا تعارض الحديث والمراد بقوله: {يوفون بالنذر} أي: بما نذروه على أنفسه وعاهدوا به الله عز وجل وهو أن يسمعوا ويطيعوا لأمر الله هذا هو المراد، وليس المراد النذر الخاص الذي هو إلزام المكلف نفسه شيئًا. ومن فوائد الحديث: أن النذر لا يرد قضاء، لا يجلب خيرًا ولا يدفع شرًا لقوله: "إنه لا يأتي بخير". فإن قال قائل: ومن أين لكم أنه لا يدفع الشر؟ قلنا: إن دفع الشر خير فيكون عامًا، لا يأتي بخير لا في جلب منفعة ولا في دفع مضرة، ثم إن الغالب أن الذين ينذرون يريدون حصول الخير. ومن فوائد الحديث: ذمَّ البخل، لقوله: "وإنما يستخرج به من البخيل" ولا شك أن البخل

كفارة النذر

خلق ذميم والإسراف كذلك خلق ذميم ولهذا مدح الله الذين يكونون بين هذا وهذا فقال: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا} [الفرقان: 67]. نحن نقول أنفق لكن بدون إسراف وبدون بخلٍ، قم بالواجب، وقم بما تقتضيه المروءة بين الناس، ولا تزد على ذلك والاقتصاد نصف المعيشة. إذا قال قائل: هل من البخل البخل بالنفس الذي هو الجبن؟ يمكن أن يقال: إن ذكر البخل والجبن فالبخل في المال والجبن في النفس وإن أطلق البخل فقد يشمل البخل في النفس وهو الجبن؛ لأن بعض الناس يجود بماله ولا يهمه ولكن لا يجود بنفسه جبان، هذا نقول: إنه بخيل قد يشمله لفظ البخيل يقال له: اخرج اغز يقول: أخاف أن تأتيبني رصاصة، يجد رجلاً معه متاعه، فيقول: هذا معه مسدس ويهرب من الرجل هذا لأنه جبان هذا بخيل بنفسه، لكن تجد هذا الرجل عند بذل المال يبذله بسخاء، نقول هو كريم بماله بخيل بنفسه، لكن الذي يظهر من الحديث أن المراد بالبخيل هنا: البخل بالمال لقوله: "وإنما يستخرج" والذي يستخرج هو المال. إذن في الحديث ذم البخل وكما قلنا: إنه ينبغي للإنسان بل يجب أن يكون إنفاقه بين بين، بين البخل والإسراف. كفارة النذر: 1317 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفَّارة النَّذر كفَّارة يمينٍ". رواه مسلم وزاد التِّرمذيُّ فيه: "إذا لم يسمِّ"، وصحَّحه. قوله: "كفارة النذر" كلمة النذر، هل "ال" فيها للعموم أو المراد نذر معين؟ قال بعض أهل العلم: إنها للعموم، ولكن هذا ليس بصحيح، وحتى لو قلنا: إنها للعموم، فإنه يخصص منها نذر الطاعة فإنه لا يجزئ فيه كفارة يمين، بل لابد من فعل المنذور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"، وقوله: "كفارة النذر كفارة يمين" ظاهره العموم فيشمل كل نذر، لكن رواية الترمذي "إذا لم يسمه" تقيد هذا النذر، يعني: النذر الذي لم يسم بأن قال الإنسان: لله عليّ نذر وسكت نقول: الآن عليك كفارة يمين، والحكمة - والله أعلم- في ذلك: من أجل أن يحترم الإنسان النذر حتى لا يعود، وحتى لا يكون النذر على لسانه، وحتى يبتعد عن الضيغة التي تقتضي إلزامه بما لم يلزمه الله به وهذا هو القسم الخامس على حسب ما شرحناه.

حكم نذر المعصية وما لا يطاق

فيستفاد من هذا الحديث: أن كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين، ومثاله ما ذكرناه "لله عليِّ نذر" فقط. حكم نذر المعصية وما لا يطاق: 1318 - ولأبي داود: من حديث ابن عبَّاس مرفوعًا: "من نذر نذرًا لم يسمِّه؛ فكفارته كفَّارة يمينٍ، ومن نذر نذرًا في معصيةٍ؛ فكفَّارته كفَّارة يمينٍ، ومن نذر نذرًا لا يطيقه، فكفَّارته كفَّارة يمين". وإسناده صحيح؛ إلا أنَّ الحفَّّاظ رجَّحوا وقفه. قوله: "من نذر" إلي قوله: "يمين" هذا شاهد رواية الترمذي التي قيدت بها رواية مسلم "إذا لم يسم"، قال: "ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين"، يعني: من نذر نذر معصية فكفارته كفارة يمين، ولا يحل له أن يوفي به؛ لأن الوفاء به ممتنع شرعًا، وسواء كانت المعصية فعل محرم أو ترك واجب، فمن قال: لله عليه نذر ألا يصلي الجمعة فنقول: هذا نذر معصية لأن صلاة الجمعة واجبة إلا لعذر فنقول: إذن يجب عليه أن يصلي ويكفَّر كفارة يمين، ومن قال: لله عليه نذر أن يشرب الخمر نقول: لا تشرب الخمر وعليك كفارة يمين. فإن قال قائل: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه" ولم يذكر كفارة وهذه رواية البخاري وغيره قلنا: إنه لا معارضة؛ لأن رواية البخاري تفيد هل يفعل أو لا يفعل، أما ماذا يترتب عليه لو لم يفعل فهذا لم تتعرض له رواية البخاري، وعليه فلا معارضة، ويكون العمل على ما دل عليه حديث ابن عباس، يقول: "ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين"؛ لأن ما لا يطاق من المستحيل أن يكون، فمن قال: "لله عليّ أن أصعد إلى السماء بنفسه" فإنَّ هذا النذر لا يطاق، فعليه كفارة يمين، لكن ينتظر حتى يرى هل يستطيع أو لا؟ لا ينتظر؛ لأنه لا فائدة من الانتظار هذا شيء مستحيل، هذا فيه ثلاثة نذور، الأول: الذي لم يسم، والثاني: المعصية، والثالث: النذر الذي لا يطاق كلها كفارتها كفارة يمين وكفارة اليمين بينَّها الله - تعالي- بيانًا كافيًا شافيًا في سورة المائدة في قوله تعالى: {فكفَّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} هذه الثلاثة على التخيير، فمن لم يجد فصيان ثلاثة أيام متتابعة كما في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه فتكون الثلاث الخصال: الأولى: على التخيير

ويبدأ بالأسهل كما بدأ الله به، بدأ الله تعالى بالإطعام؛ لأنه أسهل ثم بالكسوة لأنها أصعب ثم بعتق الرقبة؛ لأنها أشقُّ. فإن قال قائل: كيف يعادل إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم بعتق الرقبة؟ فالجواب من وجهين: الوجه الأول: أنه قد يأتي زمان تكون الرقبة رخيصة والطعام والكسوة غالية، ثانيًا: أنه لا شك أن الغالب في كل زمان أن قيمة الرقبة أعلى وأغلى فيقال: إنّ في هذا إشارة إلى أن الذي انتهك حرمة اليمين لابد أن يفدي نفسه بمثلها وهو عتق الرقبة، لكن من نعمة الله أن خفف على عباده وجعل إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم بمنزلة عتق الرقبة، أما إذا لم يجد فيصوم ثلاثة أيام متتابعة. من فوائد هذا الحديث: أولاً: صحة النذر الذي لم يسم، ويدل على صحته ترتب الحكم عليه؛ لأن ما ليس بصحيح لا يترتب عليه شيء، لكن إذا صح رتبت عليه الأحكام ووجهه قوله: "فكفارته كفارة يمين". ومن فوائده: أن نذر المعصية منعقد، ولكن لا يجوز الوفاء به، بل يكفر كفارة يمين وجاء ذلك ظاهر؛ لأنه إذا كان النذر الذي لم يسم فيه كفارة يمين فنذر المعصية الذي يحرم الوفاء به من باب أولى. ومن فوائد الحديث: تقديم طاعة الله على هوى النفس؛ لقوله: "فكفارته كفارة يمين" يعني: ولا يعصي الله مع أن الرجل الذي نذر أن يفعل المحرم إنما نذره؛ لأن نفسه تهواه فيقال له: رضا الله فوق هواه خالف الهوى وكفر كفارة يمين. ومن فوائد الحديث: أن نذر المستحيل منعقد، ولكن فيه كفارة يمين؛ لقوله: "ومن نذر ندرًا لا يطيقه". ومن فوائد هذا الحديث: أن الطاقة وعدمها تختلف باختلاف الناس، فمن الناس من يطيق ما لا يطيقه الآخرون، فكل إنسان بحبسه، والقاعدة أن من نذر نذرًا لا يطيقه فإن عليه كفارة يمين ولا يكلف نفسه بذلك. ومن فوائد الحديث: أنه شاهد لقول الله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}، وقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. بدليل أن الإنسان لم يلزم بفعل المنذور إذا كان لا يطيقه، ولكن كفارة عليه كفارة يمين.

1319 - وللبخاريِّ: من حديث عائشة: "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". فائدة هذه الرواية التصريح بأن من نذر نذر معصية فإنه لا يجوز الوفاء بذلك؛ لأن الحديث الأول حديث ابن عباس، قد يقول قائل: إنه يخير بين أن يكفر كفارة يمين وأن يفعل المعصية لكن هذه الرواية - البخاري عن عائشة- بينت أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية. ويستفاد مما سبق: أن الواجب تقديم ما يرضاه الله عز وجل على ما تهواه النفس. - ولمسلم: من حديث عمران: "لا وفاء لنذرٍ في معصيٍة". والنفي هنا بمعنى: النهي، يعني: لا توفوا بنذر في معصية الله، فيكون أيضًا شاهدًا لحديث: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه". من نذر أن يمشي إلى بيت الله الحرام: 1320 - وعم عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه قال: "نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافيةً، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيته؛ فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: لتمش ولتركب". متَّفق عليه، واللَّفظ لمسلم. قوله: "نذرت أختي" لم يبين في الحديث من هي، ولكن هذا ليس بلازم أن نعرف صاحب القضية، المهم أن نعرف القضية، وحكمها هذه امرأة نذرت أن "تمشي إلى بيت الله حافية" أي: ليس عليها نعال، حاسرة الرأس ليس عليها خمار، والذي حملها على ذلك -والله أعلم- قصد التقرب إلى الله تعالى بما يحصل لها من المشقة، فظنت أنه كلما كان الشيء أشق، فهو أحب إلى الله ففعلت تمشي ولا تركب حافية: لا تنتعل حاسرة الرأس، لا تخمر، فهذا النذر اشتمل على أربعة أشياء: أولاً: قصد البيت سواء كان لعمرة أو لحج وهذا طاعة يجب الوفاء بها، ثانيًا: المشي من بلدها إلى مكة وهذا ليس من نذر الطاعة، بل هو لنذر المعصية أقرب لما في ذلك من الإشقاق على النفس والإتعاب والإجهاد، ثالثًا: حاسرة الرأس، وهذا أيضًا إلى المعصية أقرب منه إلي الطاعة لأن حسر الرأس عرضة لإصابة الرأي بحر الشمس أو صقيع البرد، ففيه تغليب، والرابع: حافية القدمين، وهذا أيضًا لا شك أنه مشق من بلدها إلى مكة حافية مع أنها سوف تمر بأحجار وأشجار وشوك، وغير ذلك مما يؤذي الرجل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّ المعروف وأنكر المنكر، وذلك لأنه أقر الذهاب إلى البيت الله الحرام، لكن الأوصاف الأخرى لم يقرها فقال: "لتمش ولتركب" اللام هنا لام الأمر، ولكن هل هو للوجوب أو

للإباحة؟ أما قوله: "تركب" فهو للإباحة؛ لأنها نذرت أن تمشي حافية، وأما قوله: "لتمش" فهو مطابق للنذر، لكن يمكن أن نقول: إن اللام هنا للإباحة في الموضعين، بمعنى: أنه يباح لها أن تمشي ويباح لها أن تركب ويمكن أن يقال: أنها للطلب في الموضعين أيضًا، يعني: تركب أحيانًا ولتمش أحيانًا ويكون ركوبها عند الحاجة ومشيها عند عدم الحاجة، بمعنى إذا احتاجت إلى ركوب فلتركب لأن هذا النذر لا يطاق وإذا لم تحتج فإنها تمشي. 1321 - ولأحمد والأربعة فقال: "إنَّ الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، مرهًا: فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيامٍ". لتختمر ما ذكرت في اللفظ الأول الذي من أنها ذكرت تمشي حافية لكن كأنه- والله أعلم- حذف من أحد اللفظين ما يدل عليه اللفظ الآخر، فحذف من الأول أنها تمشي حاسرة الرأس، وذكر الجواب بقوله: "ولتختمر" وذكر في الأول أنها تمشي حافية ولم يذكر حكمه في اللفظ الثاني، لكنه لا شك أنه نظير حسر الرأس بمعنى: أنها تمشي ناعلة ولا شيء عليها ولكن قال: "ولتصم ثلاثة أيام" صوم الثلاثة أيام لأجل ما تركت مما نذرت وهي الآن تركت ثلاثة أشياء، وحكم النذر إذا لم يوف أن فيه كفارة يمين، لكن هنا قال: "ولتصم ثلاثة أيام" نقول: هذا ليس حكمًا عامًا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم علم من حال المرأة أنها لا تستطيع العتق ولا الإطعام ولا الكسوة وقال: "ولتصم ثلاثة أيام". في هذا الحديث فوائد: منها: جواز التوكيل في الاستفتاء؛ لأن أخته أمرته أن يستفتي النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: أنه ينبغي لمن استفتي ألاَّ يطلب الأصل، بمعنى: ألاَّ يقول لمن سأل عن غيره: هاته هو الذي يستفتي إلا إذا كان الأمر مهمَّا أو خاف من سوء الفهم، فهنا يحتاج إلى أن يستدعي الأصل فيقول: أحضره، أما إذا كان الأمر واضحًا ولا إشكال فيه، فإنه لا يحتاج إلى أن يقول لا أفتي إلا الأصل، أما وجه كونه لا يحتاج إلى ذلك فلهذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم

يطلب من عقبة إحضار أخته، وأما كونه في الأمر المهم أو إذا أقضت المصلحة ذلك فلأن الناس- ولاسيما في زماننا- قد يوردون السؤال على غير وجهه فتكون إجابة المفتي على حسب السؤال، وقد يوردون على وجهه ويفهمون خلاف ما يريد المفتي فيحصل بذلك خطأ كبير، ولاسيما في مسائل الطلاق التي يختلف حكمها باختلاف نية المطلق. ومن فوائد الحديث: أم من نذر نذرًا لا يطيقه بوصفه فليفعل أصله وليكفِّر عن وصفه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تأتي إلى البيت الحرام، لكن على غير الوجه الذي نذرت وأمرها أن تمشي وتركب، فهنا وجب الوفاء بالأصل وكفِّر عن الوصف. ومن فوائد الحديث: مطابقته لقول الله تعالى: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم} [النساء: 47]. يؤخذ من قوله: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا" لأن الله لا يريد من عبادة الشقاء والإعنات والحرج، بل يريد خلاف ذلك {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 85]. ومن فوائد الحديث: وجوب الاختمار لقوله: "فلتختمر" وهذا قد ينازع فيه؛ إذ إن الأمر بعد الاستفتاء يراد به الإباحة، فإذا كان يراد به الإباحة لم يستقم القول بأن هذا فيه دليل على وجوب الاختمار، لكن وجوب الخمار يؤخذ من أدلة أخرى أن المرأة عليها أن تختمر فتغطي رأسها، وكذلك على القول الراجح تغطي الوجه والكفين. وهل يستفاد من هذا جواز ركوب المرأة على الراحلة؟ نعم؛ لقوله: "ولتركب" وهل نقول وإذا جاز أن تركب الراحلة جاز أن تقود السيارة؛ لأنها توجه الراحلة فكذلك توجه السيارة؟ الجواب: أن يقال الأصل جواز هذا - قيادة المرأة للسيارة- لكن نمنع منه من أجل ما يترتب عليه من المحاذير العظيمة والفتنة الكبيرة، وإلا فالأصل الجواز، لو أن امرأة مثلاً في بستان لها بعيدة عن نظر الرجل وأرادت أن تقود السيارة من أعلى البستان إلى أسفله أو من شماله إلى جنوبه فإننا لا نقول: إن هذا حرام، ولكننا نحرم ذلك بناء على قيادة السيارة العامة؛ لما في ذلك من الفتنة والشر والفساد. ومن فوائد الحديث: قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل لقوله: "ما يصنع" وقد قال الله تعالى: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} [النمل: 88]. فيجوز أن يوصف الله بالصنع وبأنه صانع ولكن لا يسمى به لأن الأسماء كلها حسنى والصانع ليس متمحضًا للحسن، بل الصانع يصنع الخير ويصنع الشر.

وفاء نذر الميت

وفاء نذر الميت: 1322 - وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: "استفتي سعد بن عبادة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذرٍ كان على أمِّه، توفِّيت قبل أن تقضيه؟ فقال: اقضه عنها". متَّفق عليه. سعد بن عبادة رضي الله عنه هو سيد الخزرج، وسعد بن معاذ هو سيد الأوس، وكلا السعدين له منزلة عالية، ولكن سعد بن معاذ أفضل من سعد بن عبادة، وكلاهما ممن له منزلة عالية في الإسلام، قوله: "استفتى" أي: طلب منه الفتوى؛ لأن السين والتاء هي التي تدل على الطلب يقال: استفتى أي: طلب الفتيا، استغفر: أي طلب الاستغفار، وقد يراد بهما المبالغة، مثل: استكبر، ليس معناها طلب الكبر، لكن المعنى: أنه تكبر وزاد في كبريائه، وقوله: استفتى في نذر كان على أمه هنا لم يبين النذر، هل هو صيام عتق حج؟ لأن تنبيه ليس بذاك الضرورة، فإن تبين فإنه لا شك زيادة علم، وإن لم يتبين فلا يضر، توفيت قبل أن تقضيه أي: أن تقضي هذا النذر فقال: "اقضه عنها"، كلمة "اقضه" فعل أمر، لكنه هل هو على سبيل الوجوب أو على سبيل الإباحة؟ الثاني: هو الأقرب، يعني: لا بأس أن تقضيه عنها؛ لأنه جواب عن سؤال يظن السائل أن ذلك ممنوع، فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم، ولأننا لو قلنا بالوجوب لزم التأثيم بالترك، وهذا يخالف قول الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164]. ففي هذا الحديث فوائد: منها: حرص الصحابة- رضي الله عنهم- على العلم، لا لمجرد العلم والنظر ولكن للتطبيق فهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الأسئلة ليطبقوها، وليس كما يصنعه كثير من الناس اليوم يسأل لينظر ماذا عند العالم، وربما إذا سأله ووجد ما عنده ذهب إلى آخر وسأله ثم قال: قال العالم الفلاني كذا، فضرب آراء العلماء بعضها ببعض. ومن فوائد الحديث: جواز قضاء النذر عن الأم؛ لأن سعد بن عبادة استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، فهل يقاس عليها الأب؟ الجواب نعم، يقاس عليها الأب، وذلك أن الأولاد من الكسب وكسب الإنسان كعمله، وهل يقاس على ذلك من ليس له صلة بالناذر؟ فيه خلاف، والصحيح أنه يقاس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاس هذا بالدَّين، ومعلوم أن الدَّين إذا قضاه الأجنبي والقريب برئت ذمة المدين، فالصواب أنه يجوز قضاء النذر عن الغير، سواء كان أبًا أم أمًا أم أخًا أم عمًا قريبًا كان أم بعيدًا. ومن فوائد الحديث: أن ظاهره أنه لا يقضي النذر عن الناذر، إلا إذا تمكن من فعله فلم يفعل؛ لقوله: "توفيت قبل أن تقضيه"، وهذا لا يمكن إلا إذا كان متسعًا لقضائه، فأما لو لم

يمكن فإنه لا يقضي عنه، مثال ذلك: إذا قال لله عليّ نذر أن أصوم شهر شعبان، ولكن لم يدرك الشهر مات قبل ذلك ففي هذه الحال لا يلزم قضاؤه، ولا حاجة لقضائه؛ لأن الوقت الذي عيَّنه للنذر لم يدركه فقد أتى عليه وهو قد انتهى من التكليف فإن أدرك البعض دون البعض فما أدركه وقضاه سقط عنه وما لم يقضه يقضي عنه. ومن فوائد الحديث: أن الكلام يحمل على ما يقتضيه السياق، كل كلام يحمل على ما يقتضيه السياق وإن خرج عن الأصل، فالأصل في الأمر الطلب، سواء كان إلزامًا أو على سبيل التطوع، لكن إذا دلَّ على أنه ليس للطلب وإنما هو للإباحة كان للإباحة. ويتفرع على هذه الفائدة فائدة عظيمة وهي: أن السياق والقرائن يعين المعنى المراد، وإذا كان كذلك أيضًا نرتقي إلى شيء آخر وهو أنه لا مجاز في اللغة العربية، وذلك أن كل نص ادعى فيه المجاز فإن سياق الكلام يمنع المعنى الأصلي الذي يدعي من يقول بالمجاز أنه نقل عنه؛ لأن السياق هو الذي يعين المعنى، فمثلاً قوله تبارك وتعالى: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلوا عليهم آياتنا وما كنَّا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} [القصص: 59]. كل يعلم أنه ليس المراد بالقرى هنا الأبنية، ولا أحد يشكل عليه هذا الأمر، وأما قوله تعالى: {إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين} [العنكبوت: 31]. فكلٌّ يعلم أن القرية هنا هي الأبنية لأنه قال: مهلكو أهل هذه القرية، فأضاف الأهل إليها فالسياق إذا كان هو الذي يعين المراد فإن المعنى الأصلي لو أنك فسرت به هذا الكلام الذي عيَّنه السياق لكان هذا خطأ، فإذن فمدلول الكلام هو الحقيقة، سواء كان هذا اللفظ منقولاً من غيره أو ليس بمنقول. نفي المجاز عن القرآن: ولهذا مشى شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك تلميذه ابن القيم، على أنه لا مجاز في اللغة العربية ومن العلماء من قال: لا مجاز في القرآن، وأما اللغة العربية ففيها المجاز، وعلَّل ذلك بأن من أكبر علامات المجاز صحة نفيه، والقرآن ليس فيه شيء يصح نفيه، فلهذا نقول: يمنع المجاز في القرآن ولا نقول بمنع المجاز في كلام امرئ القيس وغيره من أهل اللغة لكن الذين قالوا بالمنع مطلقًا ردُّوا على هذا، وقالوا: إننا نتكلم عن الكلام بقطع النظر عن المتكلم به. المتكلم به لا يبحث في موضوع الكلام، وإذا كنا نتكلم بهذا فنقول كل معنى يعينه السياق فهو حقيقة وحينئذ لا تحتاج إلى تقسيم ولكن كما تعلمون أن جمهور العلماء على هذا، مع أن هذا

حكم نذر المكان المعين

حدث بعد القرون الثلاثة في آخر القرن الثالث، بدأوا يتكلمون عن الحقيقة والمجاز ويشققون الكلام، لو أن أحدًا قال في مدح إنسان: إنه كثير الرماد، طويل النجاد، رفيع العماد، هذا كناية عن الكرم والشجاعة، لو قال: إنه كثير الرماد يعني: إنه يحرق الحطب حتى يصير رمادًا هل أحد يوافق على هذا؟ لا، إذن نعلم أن كثير الرماد بأنه كريم، فهو حقيقة في معناه حسب الحال، طويل النجاد يعني: علاقة السيف ويدل على طوله، لكن هذا لا يمنع حقيقة أنه طويل النجاد، أي: علاقة السيف في الواقع، رفيع العماد يعني: أن خيمته عمودها مرتفع ليتبين أنه سيد قومه، على كل حال القول بأنه لا مجاز في اللغة لاشك أنه أقرب إلى الصواب بناء على أننا نقول: إنّ المعنى المراد باللفظ هو السياق وقرائن الأحوال. حكم نذر المكان المعين: 1323 - وعن ثابت بن الضَّحَّاك رضي الله عنه قال: "نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: هل كان فيها وثن يعبد؟ قال: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ فقال: لا. فقال: أوف بنذرك؛ فإنَّه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله، ولا في قطيعة رحمٍ، ولا فيما لا يملك ابن آدم". رواه أبو داود، والطَّبرانيُّ واللَّفظ له، وهو صحيح الإسناد. - وله شاهد: من حديث كردمٍ عند أحمد. يقول ثابت بن الضحاك "نذر رجل ... الخ" "بوانة" اسم مكان، والرجل مبهم، وكما قررنا كثيرًا بأن إبهام صاحب القصة لا يضر، "ينحر إبلاً ببوانة" لكن لماذا خص هذا المكان: هل هو لفضل المكان أو لحاجة أهله أو لأن فيه أقارب لهذا الرجل؟ نقول: أعلم لكن ليس أفضل المكان قطعًا؛ لأن هذا المكان ليس له فضيلة في حد ذاته، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم خاف أن يكون هذا الرجل الذي عيَّن هذا المكان أنه لحظ كونه فيه أوثان أو أنه عيد من أعياد الكفار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وقع في ذهنه كيف يخصص هذا المكان لأي شيء؟ فسأل عن المحذور دون السبب الموجب فقال: "هل كان فيها وثن يعبد" قال: لا. والوثن: كل ما عبد من دون الله من قبر أو صنم أو شجر أو حجر أو غير ذلك، قال: لا، قال قوله: "وثن يعبد"، هل هذا قيد لبيان الواقع أو قيد احترازي؟ الظاهر أنه لبيان الواقع؛ إذ لا نعلم أن أوثانًا تنصب، ولكنها لا تعبد، قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم"، بحيث يترددون إلى هذا المكان ويحيونه كل سنة على وجه

معتاد؟ قال: "لا"، قال: "فأوف بنذرك" الأمر هنا الظاهر أنه للإباحة إذا قصد بذلك المكان المعين، أما إذا قصد مطلق النذر فهو للوجوب، فقال: "أوف بنذرك" ثم علَّل فقال: "إنه لا وفاء لنذر في معصية الله" ولو كان هذا المكان فيه الوثن أو فيه عيد من أعياد المشركين لكان النذر نذر معصية. ولا في قطيعة رحم بأن يقول: لله علىّ نذر إن لم يأت قريبي بكذا وكذا ألا أكلمه هذا حرام؛ لأنه في قطيعة رحم، ومن هم الرحم الذين تجب صلتهم؟ هم قرابة الإنسان من الجد الرابع فأنزل كما ذكر العلماء هذا في كتاب الوقف أنه لو وقف على قرابته، فإنه يكون من الجد الرابع وما نزل، "ولا فيما لا يملك ابن آدم" يعني: من الأمور التي لا يملكها شرعًا أو لا يملكها قدرًا، فلو نذر شيئًا مستحيلاً قلنا: لا نذر في المستحيل، ولكن هل يجب عليه الكفارة، سبق الكلام عليه. في هذا الحديث فوائد: منها: جواز تعيين المكان للنذر إذا كان هذا لغرض صحيح، فلو نذر أن يتصدق بالمدينة ثم أراد أن ينقله إلى بيت المقدس فلا يصح؛ لأنه انتقل إلى مفضول. ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز الذبح لله حول الأصنام والأوثان، وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الإباحة على انتفاء الوثن، فدل هذا على أنه لو وجد الوثن، فإنه لا يجوز أن تذبحه ولو كان الذبح لله، لئلا يغتر أحد بفعله، حيث يظن أنه ذبح لغير الله، وهذا يتفرع عليه فائدة أخرى أكبر، وهو: سد ذرائع الشرك ولو كانت بعيدة. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن نخص المكان إذا كان مخصوصًا لأعياد المشركين، دليله: "هل كان فيه عيد من أعيادهم؟ " لأنه لا يجوز موافقة المشركين في أعيادهم، وهو لو نذر وقضى النذر في الوقت الذي هو يوم عيد الكفار كان مشابهًا لهم، وعلى هذا يتبين أنه لا يجوز مشاركة الكفار في أعيادهم، وهذا- أعني مشاركتهم في أعيادهم- أن لم يكن كفرًا فهو حرام؛ لأن مشاركتهم في أعيادهم الدينية رضًا بدينهم، ومن رضي بدين يدان به لله عز وجل غير الإسلام فإنه كافر؛ لأنه مكذب للقرآن لأن الله يقول: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} [آل عمران: 85]. ولهذا لا يجوز لنا نحن المسلمين أن نشارك الكفار في أعيادهم الدينية؛ لأن هذا رضا بشعائر الكفر- والعياذ بالله-. ومن فوائد الحديث: أنه إذا قوي الاحتمال وجب على المفتي الاستئصال وهنا الاحتمال قوي، إذ إنه يقال لماذا خصَّ هذا المكان؟ فلذلك استفصل النبي صلى الله عليه وسلم من هذا السائل، أما إذا

حكم الانتقال عن النذر إلى ما هو أفضل منه

كان بعيدًا فإنه لا يستفصل، فلو سئل الإنسان عن رجل مات عن أبيه وأمه لا نحتاج إلى أن نقول: هل أبوك كافر أو مسلم أو غير ذلك؟ لو سئل عن رجل جامع زوجته في نهار رمضان لا حاجه إلى أن يستفصل ويقول هل هو جاهل أو ناسٍ أو متعمد؟ لكن إن قوي الاحتمال فإنه يجب الاستفصال. ومن فوائد الحديث: جواز تخصيص النذر بمكان إذا كان خاليًا من معصية؛ لقوله: "أوف بنذرك" فإن نقله إلى مكان نظرنا إن كان أفضل فلا بأس، وإن كان دون ذلك لم يجز، وإن كان مثله جاز، ولكن عليه كفارة يمين، كما سيأتي في الحديث الذي بعده. ومن فوائد الحديث: جواز تحريم الوفاء بنذر المعصية؛ لقوله: "لا وفاء لنذر في معصية الله" والمعصية إما ترك واجب، وإما فعل محرم. ومن فوائد الحديث: تحريم وفاء النذر بقطيعة الرحم، فلو قال: لله علىّ نذر ألا أكلم أخي قلنا: هذا حرام، ولا يحملك أن تفي بذلك النذر، لكن عليك كفارة يمين. ومن فوائد الحديث: عدم وجوب وفاء النذر فيما لا يملك؛ لقوله: "ولا فيما لا يملك ابن آدم" وسواء كان لا يملكه شرعًا كالمعصية أو لا يملكه قدرًا، كملك الغير، وخلق الحيوان وما أشبه ذلك مما لا يمكن قدرًا. حكم الانتقال عن النذر إلى ما هو أفضل منه: 1324 - وعن جابر رضي الله عنه: "أنَّ رجلاً قال يوم الفتح: يا رسول الله، إنِّي نذرت إن فتح الله عليك مكَّة أن أصلِّي في بيت المقدس، فقال: صل هاهنا. فسأله، فقال: صلِّ هاهنا. فسأله، فقال: شأنك إذن". رواه أحمد وأبو داود، وصحَّحه الحاكم. "يوم الفتح" إذا أطلق فهو فتح مكة ويطلق الفتح على صلح الحديبية، كما في قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10]. فالمراد بالفتح هنا: صلح الحديبية لأنه لا شك أنه حصل به فتح كبير [حيث] صار المسلمون يأمنون، وكذلك الكفار يأمنون على دمائهم وأموالهم، وقوله: "إني نذرت ... الخ" هذا يتضح منه جليًا أن هذا النذر نذر عبادة، وليس نذر عادة لأن الصلاة ليست من العادات التي يفعلها بعض الناس، كالصدقة والإنفاق وغير ذلك، يقول: أن أصلي في بيت

المقدس ولم ندري؛ لماذا خصَّ بيت المقدس مع أن عنده المسجد النبوي، وهو أشرف البقاع بعد مكة؟ لكن لا ندري ما السبب، قال: "صلِّ هاهنا" أي: في مكة؛ لأن مكة أفضل من بيت المقدس "فسأله" يعني: أعاد السؤال، فقال: "صلَّ هاهنا فسأله فقال: شأنك إذن" يعني: اصنع شأنك أي: ما تريد "إذن" أي: حين لم تقبل الرخصة. في هذا الحديث دليل على فوائد: أولاً: أن الإنسان إذا نذر فإنه يجب عليه الوفاء بالنذر؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صل هاهنا". ومن فوائده: أنه يصح النذر المعلق؛ لقوله: "إني نذرت إن فتح الله عليك"، وسواء كان النذر معلقًا على شيء عام أو على شيء خاص كما يصح النذر المطلق. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز الانتقال عن النذر إلى ما هو أفضل منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صل هاهنا" وعلى هذا فإذا نذر أن يصلِّي في مكة لم يجز في غيرها لأنها أفضل البقاع، وإذا نذر أن يصلِّي في المدينة في المسجد النبوي جاز في المسجد النبوي وجاز في مكة، وإذا نذر أن يصلي في بيت المقدس جاز في بيت المقدس، وفي المسجد النبوي، وفي المسجد الحرام؛ لأنه انتقل إلى ما هو أفضل. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان لو نوى أن ينفق في شيء من أعمال البر، ثم أراد أن ينقله إلى شيء آخر أفضل فلا بأس، ومن ذلك إذا وقَّف وقفًا على طائفة معينة أو على جهة معينة ثم أراد أن ينقله إلى مكان آخر أفضل فلا بأس، فلو أن الإنسان وقف بيته على طائفة معينة ثم رأى من المصلحة أن يبيع هذا البيت وينقله إلى بيت أفضل في مكان الناس فيه أحوج فإن ذلك لا بأس، وهذا القول هو القول الراجح، ويدل عليه هذا الحديث، والمشهور من المذهب إنه لا يجوز بيعه، أي: الموقوف، إلا أن تتعطل منافعه، فما دام فيه منفعة، ولو قليلة فإنه لا يجوز بيعه، لكن الصحيح ما قدمناه؛ لدلالة الحديث عليه. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا أردا أن يشقَّ على نفسه، فإننا نوليه ما تولى ذلك؛ لأن هذا الرجل أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يصلى في مكة ولكنه أبى إلا أن يشقَّ على نفسه فقال: "شأنك إذن" فإن قال قائل: كيف يكون هذا وقد تبرأ النبي صلي الله عليه وسلم من القوم الذين قال بعضهم: إنه يصلي ولا ينام، والآخر قال: يصوم ولا يفطر والثالث: قال: لا أتزوج النساء فيقال في الجواب عن ذلك: إنّ هؤلاء القوم الثلاثة أرادوا أن يغيروا تغييرًا ظاهرًا في الشريعة فيصوم أحدهم بلا فطر، والثاني يقوم بلا نوم، والثالث لا يتزوج النساء، أما هذا فهي مسألة فردية لا يتغير بها شيء؛ فلذلك قال له: "شأنك إذن" على أنه ربما نفهم من قوله: "شأنه إذن" نفهم منه: أن

الرسول يكره هذا، كره أن يصمم على أن يذهب إلى بيت المقدس، وفرق آخر أن الذهاب إلى بيت المقدس ليس كالإشقاق فيما إذا ما صام ولم يفطر أو قام ولم ينم أو ترك النكاح. 1325 - وعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا". متَّفق عليه، واللَّفظ للبخاريِّ. قوله: "لا تشد الرحال" "لا": نافية وليست ناهية، لو كانت ناهية لقال: لا تشدوا الرحال فهي نافية، لكن هذا النفي بمعنى: النهي والخبر يأتي بمعنى الطلب سواء كان أمرًا أو نهيًا؛ لأنه أبلغ إذ كان هذا الأمر أمر مفروغ منه لا يحتاج إلى نهي ولهذا قال العلماء: إنّ إتيان الخبر في موضع الطلب يدل على توكيد هذا الطلب، وهذا حق كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [البقرة: 228]. فهنا جملة {يتربصن} جملة خبرية، والمراد بها: الأمر، فيكون هذا أوكد، ووجه التوكيد: أن جعله بمنزلة الخبر أو التحدث عنه كأنه خبر مستقر يدل على أن هذا الأمر مفروغ منه وأن هذا هو الحال وقوله: "لا تشد الرحال" جمع رحل، وهو: ما يحمل على البعير، أو بعبارة أصح وأعم ما يحمل على المركوب، أي: ما يحمله المسافر من متاع على مركوبه "إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام" هذا من باب إضافة الموصوف إلى صفته وأصله المسجد الحرام، الثاني "مسجد الأقصى"، كالأول من باب إضافة الموصوف إلى صفته، و"مسجدي هذا" والمشار إليه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه فهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز شدُّ الرحل إلى أي مكان من الأرض إلا هذه المساجد الثلاث؛ لأن هذه هي البقع المفضلة على غيرها فأفضلها مكة ثم المدينة ثم الأقصى وما سواها من البقع، فإنه لا يجوز شد الرحل إليها من أجل هذه البقعة، أما إذا كان يشد الرحل إليها من أجل أمر آخر لا يتعلق بالبقعة فلا بأس، كما لو شد الرحل إلى بلد أكثر علمًا أو أيسر مؤونة أو غير ذلك فهذا لا يقال: إنه شد الرحل تعبدًا للمكان بل يقال: إنه شد الرحل لهذا الغرض الآخر. فمن فوائد الحديث: فضيلة هذه المساجد الثلاثة وجه ذلك: أنها هي التي أذن بشد الرحل إليها. ومن فوائد الحديث: أنه لا يشدُّ الرحل إلى المقابر لزيارتها؛ لأن هذا مكان يختص بالبقعة ولا شيء من البقع يخصص إلا هذه الثلاثة. ومن فوائد الحديث: أن شد الرحل يختص بالمساجد المعينة الثلاثة وينبني على ذلك أننا لا نشدُّ الرحل إلى مسجد في مكة سوى مسجد الكعبة؛ لأن المسجد الحرام هو المسجد

الوفاء بالنذر بعد الإسلام

الذي فيه الكعبة، كما جاء ذلك صريحًا في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة"، وهذا هو الذي تشدُّ إليه الرحال. ومن فوائد الحديث: بيان فساد ما ذهب إليه بعض العلماء من أنه لا فضل في المسجد النبوي إلا المسجد الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأما الزيادات فهي خارجة عنه، فهذا ليس بصحيح، والصحيح أن ما زيد في المسجد فله حكمه، سواء كان في المسجد الأقصى أو النبوي أو الحرام، ودليل ذلك أن الصحابة لما زادوا في المسجد النبوي ما زادوا لم يكونوا يتركون الصلاة في الزيادة، بل كانوا يصلون في الزيادة، ويرون أنها داخلة في المسجد وهو كذلك؛ ولهذا قال العلماء: ما يزيد في هذه المساجد فله حكمها ولو بلغ، ما بلغ إذن التخصيص بمكان معين من أجل البقعة ينهى عنه أي: أنه نهى عن شد الرحل إليه، أما إذا كان لغرض آخر فلا بأس كتجارة أو علم أو مؤونة. الوفاء بالنذر بعد الإسلام: 1326 - وعن عمر رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله، إنِّي نذرت في الجاهليَّة أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام. قال: فأوف بنذرك". متَّفق عليه. قال العلماء: الاعتكاف في الأصل هو: لزوم الشيء ومنه قول إبراهيم لقومه: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} أي: ملازمون عليها، وفي الشرع: لزوم مسجد لطاعة الله عز وجل فلو لزم المسجد لغير الطاعة إما لكونه لا مبيت له ولا أهل له فليس بمعتكف ولو لزم غير المسجد لطاعة الله فإنه ليس بمعتكف لقوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المسجد} عمر رضي الله عنه نذر في الجاهلية قبل أن يسلم أن يعتكف في المسجد الحرام ليلة أو يومًا كما في اختلاف الروايات، ويطلق اليوم والليلة بعضهما على بعض والظاهر- والله أعلم- أنه نذر أن يعتكف يومًا وليلة. ومن فوائد الحديث: أن تخصيص النذر بالمسجد الحرام يجب أن يوفي به؛ لقوله: "أوف بنذرك" ولم يؤذن له أن يوفي بالمدينة ولا غيرها. ومن فوائد الحديث: انعقاد النذر من الكفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر على ذلك. ومن فوائده: فيما يظهر أنه لو أوفي الكافر نذره في حال كفره سقط عنه؛ لأن الظاهر أن الذين أسلموا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ما كانوا يسألون عن اعتكافاتهم التي نذورها، بل كان يقرهم على ما هم عليه وهذا هو الأقرب أن الكافر لو نذر أن يعتكف في أيَّ مسجد كان واعتكف، فإنه يسقط عنه باعتكافه.

ومن فوائد الحديث: جواز الاعتكاف بدون صيام؛ لقوله: "أن أعتكف ليلة" والليل: ليس محلاَّ للصيام، وهذه المسألة مختلف فيها. من العلماء من يقول: إنه لا اعتكاف إلا بصوم، ومنهم من يقول: إنه يصح الاعتكاف بلا صوم؛ لأن كلاُّ منهما عبادة منفردة عن الأخرى فيصح أن يعتكف بلا صوم، وأن يصوم بلا اعتكاف، والثاني: محلُّ إجماعٍ، وأما أن يعتكف بلا صوم فموضع اختلاف، ولكن الراجح أنه ليس بشرط، وأن الإنسان يجوز أن يعتكف بلا صوم. ومن فوائد الحديث: جواز الاعتكاف في غير رمضان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" ولم يقل: إذا أتى رمضان وهو كذلك، لكن لو قال قائل: هل هذا من السُّنة؟ قلنا: لا ليس من السُّنة أن يعتكف في غير رمضان؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أنهم كانوا يعتكفون في غير رمضان، ولأن الحكمة من الاعتكاف أو العلة فيه هو تحري ليلة القدر، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول ثم الأوسط؛ تحريًا لليلة القدر، ثم قيل له: إنها في العشر الأواخر فاعتكف العشر الأواخر، ومعلوم أن هذا لا يكون في غير رمضان إذ إن ليلة القدر قطعًا في رمضان وفي العشر الأواخر منها، وهذا هو الصحيح، أي: أننا لا نأمر إنسانًا ولا نقول: يسنُّ لك أن تعتكف في غير رمضان، وبناء عليه تبيَّن ضعف قول من قال من العلماء: يسنُّ لمن أتى المسجد أن ينوي الاعتكاف مدة لبسه فيه؛ لأنه يقال من أين ذلك؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم يتردد على المسجد كل يوم خمس مرات على الأقل؟ ! والصحابة كذلك هل قال لأحد منهم: إذا أتيت إلى المسجد فانو الاعتكاف؟ وهل كان جاهلاً بهذه السُّنة؟ لا، هل قال لأحد منهم: إذا أتيت إلى المسجد فانو الاعتكاف؟ وهل كان جاهلاً بهذه السُّنة؟ لا، هل كان عالمًا بها وكتمها، لا كل ذلك لم يكن، وعلى هذا فالصحيح أنه لا يسنُّ للإنسان أن ينوي الاعتكاف مدة لبسه بالمسجد وأن الاعتكاف المسنون ما كان في العشر الأواخر. فإن قال قائل: كيف يقرُّ النبي صلى الله عليه وسلم عمر على أن يعتكف في هذه المدة وليس بمشروط؟ نقول: هذا جرت به العادة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أقرَّ سعد بن عبادة أن يتصدق لأمه بمخرافه بعد موتها، وأقرَّ الرجل الذي قال: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت أفأ تصدق عنها؟ قال: نعم، وأقر الرجل الذي كان في سرية يقرأ لأصحابه ويختم بقل هو الله أحد، ومع ذلك لم يشرع هذا لأمته، لم يقل: أيها الناس تصدقوا لأمهاتكم بعد موتهن ولم يقل: يا أيها الناس، اختموا القراءة بقل هو الله أحد ولم يكن هو يفعله، ما كان يختم قراءته بقل هو الله أحد، فدلَّ هذا على أن من الأشياء ما يقرُّ عليه الإنسان ولا يقال: إنه مبتدع، ولكنه لا يطلب منه فعل ذلك، وأظن أن بين المرتبتين فرقًا واضحًا؛ لأننا إذا قلنا: إنه سنة دعونا الناس إليه وأمرناهم به، وإذا قلنا: إنه من القسم المباح الذي إذا أراده الإنسان، لم يمنع منه صار من الأمور المباحة، ولكنه ليس من الأمور المشروعة.

كتاب القضاء ويشتمل على: 1 - باب الشهادات. 2 - باب الدعاوى والبينات.

كتاب القضاء

كتاب القضاء القضاء يضاف إلى الله تعالى ويضاف إلى العبد والمراد به هنا القضاء المضاف إلى العبد، وليس القضاء المضاف إلى الله، لكن مع ذلك يحسن أن نتكلم عن القضاء المضاف إلى الله عز وجل. القضاء المضاف إلى الله نوعان: قضاء شرعي، وقضاء قدري كوني، فالقضاء الشرعي ما أمر الله به، وعلى هذا يكون قضى بمعنى أمر، مثاله: قول الله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا} [الإسراء: 23]. قضى يعني: أمر، وقوله تعالى: {والله يقضى بالحق} [عاقر: 20]، يعني: يشرع الحق، والقضاء القدري: هو ما قضاه الله تعالى قدرًا وكونًا، ولا يلزم أن يكون فيما يحبه الله ومنه قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين} [الإسراء: 4]. فالقضاء هنا كوني قدري بلا شك؛ لأن الله لا يمكن أن يقضي شرعًا بالفساد، بل هو لا يحب الفساد، فالقضاء المضاف إلى الله ينقسم إلى هذين القسمين: كوني قدري، وشرعي، والشرعي يكون فيما يحبه الله، والكوني فيما يحبه وما لا يحبه. معنى القضاء والفرق بين القاضي والمفتي: أما القضاء المنسوب إلى الإنسان فهو تبيين الحكم الشرعي والإلزام به، فالقاضي في المحكمة يبين الحكم الشرعي ويلزم به، وبهذا يعرف الفرق بين القاضي والمفتي، المفتي لا يلزم أحدًا، والقاضي يلزم، ولهذا صح الإفتاء على الغائب، ولا يصح القضاء على الغائب؛ لأن القضاء على الغائب إلزام له وقد يكون له حجة تدفع الإلزام، وأما الفتوى فليست إلزامًا؛ ولهذا لما استفتت امرأة أبي سفيان النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رجل شحيح قال: "خذي ما يكفيك" مع أن المقضي عليه غائب، لكن هذا ليس من باب القضاء، بل من باب الفتوى. فإذن القضاء اصطلاحًا: تبيين الحكم الشرعي والإلزام به. الفتوى: تبيين الحكم الشرعي بدون إلزام، ولهذا جازت الفتوى على الغائب ولم يجز القضاء على الغائب. والقضاء من فروض الكفاية، وإذا لم يوجد إلا واحد يصلح للقضاء صار فرض عين عليه؛ لأنه لابد أن يوجد للناس من يقضي بينهم.

تولي القضاء فرض كفاية

[فائدة]: الإلجاج: هو المنع أو الحثُّ أو التصديق أو التكذيب، مثال المنع: أن يقول والله لئن فعلت كذا لأصومنَّ سنة، هل قصده الطاعة؟ لا، ولا نذر شيئًا مباحًا، إنما علَّق نذره بهذا ليمنع نفسه من فعله، الحثُّ مثل أن يقول: والله إن لم أفعل كذا لأصومنَّ سنة، هذا مقصود به حث نفسه على الفعل، التصديق هذا في مقابلة المخاطب، أخبر بخبر فقال: حصل كيت وكيت، فقال له المخاطب: كذبت، قال: إن كنت كاذبًا فلله عليَّ نذر أن أصوم سنة كاملة، غرضه بهذا أن يحمل المخاطب على التصديق، العكس إذا أخبره المخاطب بخبر فقال: إن كان ما أخبرتني به حقًا فلله علىَّ نذر أن أصوم سنة ما المقصود؟ تولي القضاء فرض كفاية: سبق لنا أن القضاء هو: بيان الحكم الشرعي والإلزام به، وأن الفتوى: بيان الحكم الشرعي دون الإلزام، ونقول: إن القضاء من أفضل الولايات التي يقوم بها المسلم؛ لأنه ينفذ حكم الله في عباد الله، ولأنه إذا لم يتول القضاء من هو أهل له تولاه من ليس بأهل له؛ ولهذا قال العلماء: إن تولي القضاء فرض كفاية إن قام به من يكفي وإلا تعين عليه، وتهرب بعض السلف منه؛ لأن العلماء في وقتهم كثيرون وإذا تهرب إنسان وجدنا من تكون به الكفاية لكن إذا قلَّ العلماء الموصوفون فإنه لا ينبغي أبدًا أن يتهرب الإنسان منه. وقول القائل: أخشى أن أجور في الحكم. نقول: حتى وإن جرت في الحكم بعد الاجتهاد فلك أجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر"، ثم إنك قد تخطئ وقد تصيب، لماذا تغلب جانب الخطأ؟ ! أليست الإصابة لمن أراد الحق واجتهد هي الأكثر؟ وإذا كانت هي الأكثر فلماذا نتهرب خوفًا من الأقل وقد قال الله تعالى لداود- عليه الصلاة والسلام-: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26]. فهو ولاية من أفضل الولايات لما يحصل فيها من وصول الحقوق إلى أهلها وحقن الدماء وعقوبة المفسد وغير ذلك؛ لأن كل هذه الأشياء تمرُّ بالقضاء، فالتهرب عنه ليس في محله ولا

ينبغي؛ لأن الناس لابد لهم من قضاة فإذا تهرب أهل القضاء الذين هم أهله حقُّا تولاه من ليس بأهل له ففسدت الدنيا والدَّين. ثم أنه قد يقول القائل: الناس تغيرت وكثرت الحيل وكثر الكيد وهذا يشق علينا؟ جوابنا على ذلك ما ذكرناه: أولاً: أن تجتهد في تحري الحق، فإن أصبت فلك أجران، وإن أخطأت فلك أجر واحد. ثم إنه ينبغي للقاضي أن يكون عنده فراسة ومعرفة بأحوال الناس؛ لأن هذه تخدمه كثيرًا، قد يتحاكم اثنان وظاهر الحال مع الأول، ولكن بالفراسة ومعرفة الأحوال يكون الحق مع الثاني، لهذا ينبغي للقاضي أن يكون لديه فراسة حتى يصل إلى الحق، وما قصه سليمان وداود بغريبة عليكم في قصة المرأتين اللتين خرجتا فأكل ولد إحداهما الذئب فاختصمتا إلى داود فقضى به للكبرى اجتهادًا منه بناءً على أن الصغرى شابة وأمامها سنوات ويأتيها أولاد- إذا أراد الله- خلاف الكبرى، فخرجتا فقصتا على سليمان فقال: أشقه بينكما نصفين، فقالت الصغرى: هو لها يا نبي الله، أما الكبرى فوافقت حتى يلحق هذا بابنها ويهلك كما هلك ابنها الذي أكله الذئب، فقضى به سليمان للصغرى. وهذه من الفراسة. ويذكر عن قضاة من السلف ومن الخلف أيضًا أشياء غريبة في الفراسة؛ ولهذا أتمنى أن يتتبع أحد من الناس مثل هذه القصص وتؤلف في مؤلف وتوزيع بين القضاة حتى يستعينوا بها على تحرى الحكم والحق. على كل حال: القضاء إذن حكمه فرض كفاية وإذا لم يوجد أهل سوى واحد تعين عليه، وهو من أفضل الأعمال وأجل الطاعات وأعلى الولايات، حتى إن الحاكم القاضي يحكم حتى على الأمير والسلطان لأنه حاكم قاضٍ يقضي بشرع الله، ثم إنه يتأكد في زمننا هذا أن يتولى العلماء لشريعة الله مناصب القضاء؛ لأنه كثر التحاكم الآن إلى الطاغوت- وهو القانون المخالف للشريعة- وصار كثير من الناس اليوم- ولا أقول أكثر الناس- يعتمدون على القوانين المكتوبة ويخافون إن حكموا بخلافها أن ترد أحكامهم أو أن توضع فوق رءوسهم علامة الاستفهام، ولكن الواجب على الإنسان أن يقول الحق، قال تعالى: {يأيها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء: 135]، ثم ذكر المؤلف حديث بريدة فقال:

صفة القاضي الصالح

صفة القاضي الصالح: 1327 - عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة: اثنان في النَّار، وواحد في الجنَّة: رجل عرف الحقَّ فقضى به؛ فهو في الجنَّة، ورجل عرف الحقَّ فلم يقض به، وجار في الحكم؛ فهو في النَّار، ورجل لم يعرف الحقَّ فقضى للنَّاس على جهلٍ؛ فهو في النَّار". رواه الأربعة، وصحَّحه الحاكم. ثلاثة بالشخص أو بالصَّنف؟ الثاني، وهذا من حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أحيانًا يصنف الأشياء، يقسَّم الأشياء أحيانًا يحصرها بعدد معين مع أنها أكثر من ذلك حسب ما تقتضيه الحال. "القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة"، هذا جمع بين العلم والعدل، جمع بين العلم لأنه عرف حقه والعدل لأنه قضى به فهذا في الجنة. الثاني: "رجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم"، قوله: "وجار في الحكم" من باب عطف التفسير تفسير: "ولم يقض به"؛ لأنه إذا لم يقض بالحق لزم من ذلك الجور؛ لأن ما خالف الحق فهو جور، وعلى هذا فيكون قوله: "وجار في الحكم" من باب عطف التفسير لا عطف التباين فهذا في النار. والثالث: "رجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار"، إنسان نصب نفسه قاضيًا بسبب هيئته وزيه فنصب نفسه قاضيًا لكنه أجهل من الحمار لا يعرف الحق فقضى بغير الحق، هذا في النار، وأيهما أعظم: الثاني أو الثالث؟ الثاني الذي عرف الحق ولم يقض به هذا أعظم- والعياذ بالله؛ لأن هذا من صنف المغضوب عليهم، والثالث من صنف الضالين، والمغضوب عليهم أقبح حالاً من الضالين. وجوب الحذر من تولي القضاء: 1328 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ولِّي القضاء؛ فقد ذبح بغير سكِّين". رواه أحمد والأربعة، وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان. أولاً: في إعراب هذا الحديث إشكال وهو أن الفعل مبني لما لم يسم فاعله ومع ذلك

تبعات الإمارة

نصب ما بعده، فأين نائب الفاعل؟ ضمير مستتر جوازًا تقديره: هو، والقضاء مفعول ثانٍ، يعني: من ولاه السلطان أو نائبه القضاء فقد ذبح بغير سكين والمذبوح بغير سكين لا شك أنه سوف يكون عليه مشقة في الذبح لكنه لا يعني أنه يكون ميتة نجسًا؛ لأن المذبوح إذا ذبح على وجه صحيح فإنه يكون طاهرًا مذكى حلالاً، لكن يحصل عليه مشقة حيث ذبح بغير سكين مثل أن يذبح بخشبة أو حجر أو عظم أو غير ذلك. وجه المشابهة: أن المذبوح بغير سكين يتألم، والقاضي أيضًا يتألم أولاً: في طلبه معرفة الحق من الكتاب والسنة؛ لأن عليه أن يبحث وينظر في دلالة الكتاب والسُّنة على هذه القضية المعينة، ثانيًا: في تطبيق هذا على القضية المعينة، ثالثًا: في معرفة حال الخصوم؛ لأن من الخصوم من يظهر على خصومته الكذب ويعرفها الحاكم بفراسته. فلهذه المقدمات الثلاث صار الحاكم أو القاضي كالمذبوح بغير سكين من أجل المشقة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: إن الذبيحة ستكون حلالاً أو حرامًا، بل ظاهر الحديث أنها تكون حلالاً، فإذا اجتهد في هذه المقدمات الثلاث وحكم فإن حكمه صحيح نافذ وليس عليه في ذلك إثم. فيستفاد من هذا الحديث: أولاً: الحذر من القضاء أو التحذير من القضاء، ولكن هذا ما لم يتعين عليه، فإن تعين عليه بحيث لا يوجد أحد أفضل منه فإنه يجب عليه أن يتعين وأن يكون قاضيًا لئلا تضيع حقوق الناس، إذ إن الحقوق سوف تضيع إذا لم يكن هناك حاكم، ولهذا قال الله تعالى لداود: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم}. ولأن الناس إذا لم يجدوا حاكمًا يحكم بالشرع ذهبوا إلى حاكم يحكم بغير الشرع؛ إذ إن الناس لابد لهم من حل مشاكلهم بأي طريق، فلا يحل لإنسان هو أهل للقضاء ولا يوجد من يقوم مقامه أن يعتذر، أو يقول: القضاء مشقة، والناس اختلفوا والحقوق صعبة وغير ذلك، نقول استعن بالله، وأنت إذا استعنت بالله عز وجل ثم بذلت الجهد فإن أخطأت فلك أجر واحد وإن أصبت فلك أجران، إذن لا نحذر من القضاء مطلقًا، ولا نرغب فيه مطلقًا، بل لابد من التفصيل. تبعات الإمارة: 1329 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة". رواه البخاريُّ. "إنكم" الخطاب للأمة جميعًا، "ستحرصون" أي: سيكون منكم حرص على الإمارة، أي:

على أن يكون أحدكم أميرًا، وهذا في الغالب من طبيعة الإنسان يحب أن يكون له سلطة على الناس سواء بحق أو بغير حق، الحرص على الإمارة ستكون ندامة يوم القيامة، لكن هذا اللفظ المطلق مقيد بما إذا لم يقم بحقها، فإن قام بحقها لم تكن ندامة بل كانت نعمة؛ لأن الذي يكون أميرًا ينفذ أحكام الله عز وجل في عباده لا شك أنه مأجور على هذا، والمأجور لا يمكن أن يندم أبدًا، لكن هذا فيما إذا لم يقم بالإمارة، أو يقال: هذا فيمن كان حريصًا على الإمارة بدون سبب شرعي؛ لأن الحريص على الإمارة بدون سبب شرعي إنما حرص ليكون له السلطة والسيطرة، والإنسان الذي يتولى أمور الناس من أجل أن يكون له السلطة والسيطرة في الغالب أنه يتبع الهوى ولا يرجع حتى لو بين له الحق، وحينئذ تكون ندامة. وقولنا: "بغير سبب شرعي" علم منه أنه لو كان لسبب شرعي فإنه لا بأس به، مثل: أن يكون القائم على هذه البلدة أميرا لا خير فيه بل فيه شر، فيأتي إنسان ويحرص على أن يكون هو الأمير من أجل أن يزيل هذا الشر ويحلّ محله الخير، فهنا نقول: الرجل لم يحرص على الإمارة لمجرد السُّلطة ولكن لإصلاح الخلق. فهذه النصوص المطلقة يجب أن تقيد بالقاعدة العظيمة العريضة، وهي: أن هذه الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المضار. وقوله صلى الله عليه وسلم "يوم القيامة" أي: يوم يقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، وسمي بذلك لثلاثة أمور: الأمر الأول: أن الناس يقومون كلهم لرب العالمين: {يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} [القمر: 7]. ولا يكون خروجهم هذا في مهلة بل في لحظة، قال الله تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة (13) فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 13 - 14]، وقال: {إن كانت إلاَّ صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} [يس: 53]. صيحة واحدة يصاح بهم: اخرجوا فيخرجون، {ما خلقكم ولا بعثكم إلاَّ كنفس واحدة} [لقمان: 28]. لأن الله إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون مهما كان ومهما كان من الصعوبة. الأمر الثاني في سبب تسمية هذا اليوم يوم القيامة: أنه يقام فيه الأشهاد كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين امنوا في الحياوة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [عاقر: 51]. والأشهاد منهم الرسل، ومنهم العلماء، ومنهم هذه الأمة، فإنها يومئذ تشهد على من سبقها، ومنها الجوارح تشهد على نفس الرجل أو المرأة بما عملوا، ومنها الأرض: {يومئذ تحدث أخبارهم (4) بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 4 - 5]. الأمر الثالث مما سمي يوم القيامة من أجله: أنه يقام فيه العدل كما قال تعالى: {ونضع

الموازين القسط ليوم القيامة} [الأنبياء: 47]، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء وذلك يوم القيامة، وهذا غاية العدل. وقوله: "فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة"، نعمت المرضعة لأن الأمير الذي لا يريد إلا مجرد السلطة يتنعم بما وصل إليه من الهوى الذي كان يحبه ويهواه فيكون في نعيم، لكن بئست الفاطمة إذا قطع عنه هذا النعيم بانتقاله إلى الآخرة ووجد بدل النعيم البؤس فلهذا قال: "نعمت المرضعة وبئست الفاطمة". في هذا الحديث فوائد: أولاً: مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «إنكم ستحرصون على الإمارة»، وهل وقع ذلك؟ نعم وقع، وقتل الناس، وسفكت الدماء، واستحلت الأموال من أجل الوصول إلى الإمارة فظهر مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستحرصون على الإمارة». ومن فوائده: التحذير من الحرص على الإمارة، وكنه مقيد لغير سبب الشرعي، أما إذا كان لسبب شرعي، وكان الإنسان يريد أن يكون أميراً ليقوم بالعدل أو ليقيم العدل الذي أمر الله به فهذا لا بأس به. ومن فوائد الحديث: إثبات يوم القيامة لقوله: "وستكون ندامة يوم القيامة"، وهو اليوم الآخر، والإيمان به أحد أركان الإيمان، ولا يمكن للإنسان أن يستقيم على ما يطلب إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر، ولهذا تجدون أن الله يقرن بين الإيمان به واليوم الآخر كثيراً. ومن فوائد هذا الحديث: أن من حرص على الإمارة ونعم بها وأترف بها وصار الناس يمتثلون أمره وينقادون له ويكرمونه ويعظمونه، ولكنها -أي: الإمارة- في حقه على نية سيئة، فيقال فيها: نعمت المرضعة وبئست الفاطمة. فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم أمر في السفر إذا كانوا ثلاثة أن يؤمر أحدهم؟ قلنا: نعم، لكن هؤلاء الثلاثة لا يحرص أحدهم على الإمارة إلا إذا رأى من نفسه أنه خير أخويه فحينئذ لا بأس أن يحرص عليها، وأما إذا رأى أنه ليس فيها خير وقالوا: يا فلان، نحن نرى أنك أميرنا فله أن يمتنع، فإن كان هو أحسن القوم في الرأي والتدبير والحزم والديانة فإنه لا يحل له أن يعتذر في هذه الحال. ومن الأسف: أن الناس يعتذرون في هذه الحال يقول أحدهم: أنا لست بملزوم، غيري يكون أميراً: فنقول: سبحان الله! أنتم رفقة ثلاثة أو خمسة أو عشرة أو عشرون، لماذا لا تكون أميراً لهم؟ أحمد الله أنك أهل لها، كما أن بعض الناس الآن يتدافعون عن الإمامة في الصلاة يأتي ناس مثلاً في نزهة أو في سفر فإذا أقيمت الصلاة هذا

حكم الحاكم أو القاضي أو المفتي المجتهد

يقول: تقدم أنت، والثاني يقول تقدم أنت حتى تنتهي إلى أسوئهم، وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله في رسالة له في الصلاة أنه إذا أم القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال، يعني: في انحطاط وتأخر ونزول، لأنه يجب أن يولى الأمور من هو أحق الناس بها. حكم الحاكم أو القاضي أو المفتي المجتهد: 1330 - وعن عمر بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد ثم أخطأ؛ فله أجره. متفق عليه. "إذا حكم حاكم" هل المراد بذلك الذي يحكم بين الناس وهو قاض أو الحاكم بالشرع من قاض وغيره؟ الثاني؛ لأنه أعم؛ وإذا كان المعنى أعم واللفظ يحتمله فهو أولى من المعنى الخاص. إذن "إذا حكم الحاكم"، أي: من حكم بالشرع سواء بين الخصوم وهو القاضي أو للمستفتين وهو العالم. وقوله: "فاجتهد ثم أصاب" قال بعض العلماء: إن في هذا تقديماً وتأخيراً؛ لأن الأصل أن الاجتهاد يسبق الحكم، وأن أصله: "إذا اجتهد الحاكم فحكم ثم أصاب" وهذا يسمونه: الترتيب الذكري؛ لأن الترتيب إما أن يكون معنوياً أو ذكرياً، ودائماً يستشهدون بقول الشاعر: (إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم ساد من بعد ذلك جده) يعني: فهو السيد حقا، الشاهد: "ثم ساد أبوه ثم ساد جده، ومعلوم أن سيادة أبيه وجده في الغالب سابقة على سيادته، فلهذا قالوا: إن ذلك من باب الترتيب الذكري. وعلى كل حال: البيت فيه منازعة ومناقشة، لكن الحديث الذي معنا هل نقول: إن هذا من باب التقديم والتأخير وإن الأصل إذا اجتهد الحاكم فحكم؟ نعم، هذا لا شك أنه محتمل، ويحتمل أن يكون المعنى: إذا حكم الحاكم فكان مجتهداً، فيكون التقدير: "كان" أي: فكان مجتهداً في حكمه، وحينئذ يبقى الترتيب كما هو، ويكون الاجتهاد هنا خبراً عما سبق الحكم. وقوله: "اجتهد" فعل على وزن افتعل أي: بذل الجهد في الوصول إلى الحق، وهذا يحتاج أولاً: إلى معرفة الحكم الشرعي قبل كل شيء، فمن لم يعرف الحكم الشرعي لا يجوز له أن يجتهد؛ لأنه لو اجتهد وحكم سيكون حاكماً برأيه لا بالشرع، ويكون إن أصاب كالأعمى الذي عثر بخرزة السبحة يعني: من غير قصد، وهذا لا يجوز فلابد أن يبذل جهده في الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي، هذه واحدة.

وهناك اجتهاد آخر وهو: أن يجتهد في الواقعة وما يحيط بها، ثم يجتهد اجتهاداً ثالثاً في تطبيق الحكم الشرعي عليها؛ لأنه قد يفهم الواقعة ويتصورها تماماً لكن الحكم الشرعي لا ينطبق عليها إما لفوات شرط وإما لوجود مانع، فلابد من اجتهادات ثلاثة، بدون ذلك لا يحصل اجتهاد، وهذا لا شك أنه يحتاج إلى جهد، إن كان الإنسان قد أوسغ الله له في العلم فإن الوصول إلى الحكم الشرعي يكون عليه سهلاً. لكن يبقى النظر في الواقعة، فقد يكون الإنسان عنده علم كثير من الشرع لكن أحوال الناس ومعرفتهم ومعرفة ألفاظهم ومدلولاتهم قد تكون صعبة عليه، الآن يوجد علماء لا يعرفون أحوال الناس لا يخالطونهم ولا يذهبون إلى أسواقهم ولا يعرفون شيئاً عن حياتهم، هؤلاء عندهم قصور في معرفة الواقع فلابد من ذلك. الثالث: كيف نطبق الحكم الشرعي على هذا الواقع؟ لأننا قد نعرف الواقع لكن يكون هناك فوات شرط أو وجود مانع، بحيث لا ينطبق الحكم الشرعي على القضية الواقعة. قال: "ثم أصاب" أي: أصاب الحق الذي هو الشرع، "فله أجران" أجر على اجتهاده، وأجر على إصابته الحكم. فإن قال قائل: الأجر على اجتهاده واضح؛ لأنه من عمله وكسبه، لكن إصابة الحق كيف يؤجر عليه؟ نقول: يؤجر عليها؛ لأن إصابته للحق دليل على أنه بذل جهداً واسعاً في طلب الحق، ولأن إصابته للحق تستلزم ظهور الحق للناس وبيانه، وينتفع به آخرون من بعده أو في عصره فصار له أجران: الأول: أجر الاجتهاد، وهذا واضح؛ لأنه من عمله، والثاني: إصابة الحق، وفيه شيء من الإشكال؛ لأن إصابة الحق ليست من عمله، لكن نقول: فيه أجر؛ أولاً: لأن إصابته للحق تدل على أن الرجل بذل جهداً وافياً، والغالب أن من اجتهد في الوصول إلى الحق بنية خالصة يوفق له، والثاني: أنه أيان الحق وأظهره وعرفه الناس، ويكون فيما بعد أسوة لمريد الحق؛ لذلك جعل الشارع له أجراً في ذلك. قال: "وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" وهذه نعمة، أجران على الاجتهاد، لا يضيع الله أجر من أحسن عملاً، وأجر على الخطأ. فإذا قال قائل: أفلا يكون عليه إثم لخطئه على الأجر والإثم ثم يتساقطان؟ الجواب: لا؛ لأن هذا مجتهد مريد للحق لكن لم يوفق له، وهذا الخطأ هل هو باختياره؟ لا، بل هو يظن أنه على صواب لكنه عند الله غير مصيب، هذا له أجر واحد والخطأ مغفور له، وهذه من نعمة الله عز وجل.

هذا حديث يدل على فوائده: أولاً: أنه يجب على الإنسان أنه يبذل الجهد في الحكم لينال الأجر، إما الأجرين وإما الأجر الواحد، وذلك مأخوذ من قوله: «فاجتهد». ومن فوائد الحديث: أن المصيب واحد، ولا يمكن أن يصيب اثنان الحق في قولين مختلفين، وعليه فأي العبارتين أصح: لكل مجتهد نصيب، أو كل مجتهد مصيب؟ الأولى: لكل مجتهد مصيب صحيحة، لكن الثانية: كل مجتهد مصيب خاطئة، لكن لها وجه؛ لأنها صدرت من العلماء فلها وجه، فيكون توجيهها كالآتي: كل مجتهد مصيب في اجتهاده وفي بذل الجهد، وليس معنى ذلك أنه مصيب للحق؛ لأننا لو قلنا: إنه مصيب للحق لكان هذا في الحديث خطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم المسلمين المجتهدين إلى مصيب ومخطئ، ولا يمكن أن نقول فيما قسمه الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه لا ينقسم إلا إلى قسم واحد. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا اجتهد فيما هو ولي عليه وأخطأ فلا شيء عليه ينبني على ذلك حكم الحاكم إذا تبين له أنه أخطأ فلا شيء عليه. مثاله: لو أنه رفعت إليه قضية في المواريث كالمشركة -وهي معروفة عندكم- وهي امرأة هلكت عن زوج وأم وأخوين من أم وإخوة أشقاء، فالقسمة من ستة: للزوج النصف ثلاث وللأم السدس واحد وللأخوين من أم الثلث اثنان والإخوة الأشقاء لا شيء لهم. دليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» ونحن ألحقنا الفرائض بأهلها ولم يبق شيء فيقال للإخوة الأشقاء: لا شيء لكم بما دل عليه الحديث، حكم هذا القاضي بالتشريك بين الأخوة الأشقاء والإخوة لأم وقال: الثلث بينكم أيها الإخوة بالسوية كميراث الإخوة من الأم، ثم إنه بعد أن حكم وأخذ أهل الحق حقهم واشتركوا في التركة حصلت قضية أخرى مشركة، فحكم بان الإخوة الأشقاء ليس له شيء بناء على أن الدليل تبين له أنه لا شيء للإخوة الأشقاء فهل عليه إثم حيث ضر الإخوة لأم في الحكم الأول؟ لا؛ لأنه حكم عن اجتهاد، هل يلزمه أن ينقض الحكم الأول؟ لا، لا يلزمه، الحكم الأول مضى، وكما قال أمير المؤمنين: -إن صح عنه- ذاك على ما قضينا، وذاك على ما نقضي، الحكم الأول ذهب وانتهى، والحكم الثاني حسب الاجتهاد، واجتهاده قد تغير، فليس عليه إثم لا في الأول ولا في الثاني؛ لأنه مجتهد، ونحن قلنا فيمن ولي عليه ليشمل القاضي كما مثلنا وكذلك المفتي.

ولو أن رجلاً ليس حاكماً بل كان مفتيا ثم استفتى في مسألة من المسائل وأخطأ فيها لكن بعد أن بذل جهده ثم تبين له الخطأ فإنه لا يلزمه أن يذهب إلى القوم ويقول: يا أيها الناس، إني أخطأت فاعدلوا عما أفتيت به فلا يلزمه؛ لأنه كان في الأول مجتهداً. وكم من صحابي وردت عنه في المسألة الواحدة عدة أحكام، فابن عباس مثلاً ورد عنه في قول الرجل لامرأته: أنت علي حرام مرة قال: لا شيء عليه هذا لغو، ومرة قال: يمين يكفرها، وتلا قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]، ومرة قال: إنه طلاق -فيما أظن- واختلفت أقواله في هذه المسألة هل تظنون أن ابن عباس لما قال القول الأخير ذهب يطلب الناس الذين أفتاهم ويعلن قائلاً لهم: اتركوا ما أفتيتكم به؛ لأنه قد تبين لي أنه خطأ؟ لا، ما كان ليفعل ذلك أبداً وكذلك من بعده الأئمة، لكنه إذا تبين له الخطأ لا يجوز أن يصر على رأيه الأول؛ لأن بعض الناس -نسأل الله العافية- إذا قال قولاً ثم تبين له الخطأ يصعب عليه جدا جدا أن يرجع ويظن أنه في رجوعه نقص في قيمته بين الناس، ولكن هذا من الشيطان، وبرجوعه تزداد الثقة به بين الناس؛ لأنهم يعلمون أن الرجل يتبع الحق أينما كان ولا يضره هذا، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تبين له الحق رجع إليه، لما سأله سائل عن الشهادة هل تكفر الذنب؟ قال: «نعم» ثم انصرف الرجل فجاءه جبريل فقال له: إلا الدين، فدعا بالرجل وقال: «إلا الدين أخبرني بذلك جبريل آنفاً». كل إنسان يجب أن يرجع إلى الحق، والرجوع إلى الحق فضيلة وليس رذيلة ولا مهانة، ونحن قلنا ولي عليها، ذكرنا الآن اثنين من الناس: القاضي والمفتي. كذلك أيضاً ولي اليتيم أو الوصي، أحياناً يتصرف ولي اليتيم بما يراه أنه أحسن ثم يتبين الخطأ فهل يكون ضامناً؟ ولنفرض أنه فتحت مساهمة في أرض فشارك فيها هذا الولي -أعني: ولي اليتيم - بناء على أن الأراضي سوف ترتفع قيمها، ولكن الله أراد فانخفضت القيم هل نقول: إن هذا الولي يجب أن يضمن النقص؟ لا؛ لأنه مجتهد، وكذلك لو باع له شيئاً ثم تبين أنه أخطأ بعد أن بذل الجهد، ولنفرض أنه باع له سيارة بخمسين ألفاً؛ لأن هذا سعر السوق وقد اجتهد ورد إلى كل من يظن أنه يشتري السيارة وباعها، وفي أثناء اليوم تبين أن السيارة قد زادت قيمتها ضعفين هل يضمن؟ لا يضمن؛ لأنه كان مجتهداً وفي ذلك الوقت لم ير أحداً يزيد في الثمن، وعلى فقس.

النهي عن الحكم حال الغضب

وهذا الحديث أصل في هذا الأمر، بمعنى: أن كل من تصرف بطريق شرعي مجتهداً فيه فلا ضمان عليه، حتى الطبيب إذا عالج المريض واجتهد وهو حاذق تماماً ثم أخفق فليس عليه شيء، إذا كان خطؤه في محل العلاج. وما تقولون في الذي أفتى نفسه؟ مثلاً: أحد من البادية جاء إلى شخص وقال له: أعطني حبوباً فأعطاه حبوباً وقال آكل واحدة في الصباح وواحدة في السماء، وكانت هذه الحبوب تستوعب ثلاثة أيام، فقال الأعرابي: بدلاً من أخذها في ثلاثة أيام آخذها جميعاً لأجل أن أشفى اليوم، فأكلها جميعاً فكان حتفه، هلك، هل هذا مجتهد؟ لا، هذا من غير أهل الاجتهاد، ليس بطبيب، وعلى هذا يعتبر قائلاً نفسه، لكنه قتلها خطأ. النهي عن الحكم حال الغضب: 1331 - وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان». متفق عليه. "لا يحكم" بالسكون على أن (لا) ناهية، والرفع على أنها نافية، فأما على الوجه الأول فلا إشكال، وأما على الوجه الثاني -وهو النفي- فإن العلماء -علماء البلاغة- قالوا: إذا جاء النفي في موطن النهي فإنه يكون أوكد، كأن هذا الأمر أمر ثابت لابد منه يعني: أنه لا يمكن أن يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان، وعلى هذا فما جاء بصورة الخبر في موضع الطلب فإنه يكون أقوى مما لو جاء بلفظ الطلب، كأن هذا أمر مستقر يخبر عنه خبراً ولا يطلب طلباً ومثل ذلك العكس إذا جاء الطلب في موضع الخبر صار أقوى مثل قوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت: 12]. هذه أبلغ من قوله: ونحن نحمل، لأن اللام هنا للأمر، كأنهم ألزموا أنفسهم بحمل الخطايا فهو أشد وأقوى من الوعد. هنا: لا يحكم أو لا يحكم فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان، وجملة: "وهو غضبان" حالية من فاعل "يحكم" أي: والحال أنه غضبان، فما هو الغضب؟ الغضب حدة النبي صلى الله عليه وسلم بحد هو أحسن الحدود قال: «إنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور دمه»، ثم قال: «ألا ترى إلى انتفاخ أوداجه واحمرار عينيه» فهو جمرة يلقبها الشيطان يلقيها في قلب الإنسان ثم يغلي دمه حتى لا يستطيع أن يضبط نفسه وربما غاب غيبة كاملة لا يشعر بشيء إطلاقاً، لا يدري أهو في أرض أم في سماء.

ففي هذا الحديث: نهى الحاكم أن يقضي بين اثنين وهو غضبان، لماذا؟ لأنه -أي: الغضب- يمنعه من تصور المسألة في أولها ثم تطبيق الحكم الشرعي عليها، وهذا يؤثر في الحكم؛ لأنه سبق لنا أن الحكم لابد له من ثلاثة أمور: الأول: تصور القضية، والثاني: العلم بالشرع، والثالث: تطبيق الشرع على هذه القضية، والغضبان لا شك أنه لا يدرك واحدة من هذه لكننا نقول: الغضب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط؛ الطرف الأول: أول الغضب الذي يدرك الإنسان فيه ما يتصوره ويدرك على تطبيق الأحكام الشرعية عليه فهذا لا يمنع من القضاء، يعني: له أن يقضي ولو كان غضباناً، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين الزبير وخصمه وهو غضبان، لكنه غضب لا يمنعه من تصور القضية ولا من تطبيق الأحكام الشرعية عليها. الطرف الثاني: غضب شديد لا يحس الإنسان فيه بنفسه ولا يدري أهو في أرض أو في سماء، فهذا لا عبرة بقوله ولا يقضي بين الناس، وهذا متفق عليه بين العلماء. والثالث: الوسط الذي لا يملك نفسه، لكنه يدرك ويدري أنه في أرض أو في سماء، ولكن الغضب كأنه شيء يكرهه على أن يقول ما يقول أو يفعل ما يفعل، فهذا موضع خلاف بين العلماء في تنفيذ الأحكام التي تجري في مثل هذا، وأما القضاء فإنه لا يقضي. فصار القاضي لا يقضي في حال الغضب المتوسط والغضب الشديد النهائي، أما الغضب اليسير فإنه لا بأس أن يقضي به، لأنه لا يكاد يخلو مجلس القاضي من ذلك، من الذي يأتي من الخصمين متعجباً؟ قل ذلك، ولهذا تجد أنه في مكان القضاء والحكم، تجد اللفظ والأصوات ترتفع وربما يحصل المشاتمة بين الخصوم فلابد أن يثير غضب القاضي، لكن الغضب اليسير الذي لا يمنعه من تصور المسألة ولا من العلم بالشيء ولا من تطبيق الشرع عليها هذا لا يضره. ففي هذا الحديث فوائد: منها: أنه ينبغي للحاكم أن يكون فارغ البال عند الحكم، أي: لا يتعلق باله بشيء سوى القضية التي بين يديه؛ لأن ذلك أقرب إلى إصابة الصواب. ومنها: أنه لا يجوز أن يقضي في حال الغضب، والمراد به: الحال المتوسطة والحال الشديدة، ولكن لو خالف فحكم فهل ينفذ حكمه؟ قال العلماء: إن أصاب الحق في الحكم نفذ وإن لم يصب الحق لم ينفذ، وقال آخرون: لا ينفذ مطلقاً، ويجب إعادة القضية إذا برز عنه الغضب.

أما حجة الأولين فقالوا: إن النهي عن القضاء في حال الغضب لئلا يخطئ في الحكم، فإذا أصاب فقد زالت العلة فينفذ، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه إذا خالف فأصاب فالحكم نافذ ولا يحتاج إلى إعادة القضية. وأما حجة الآخرين فقالوا: إن هذا عمل نهي عنه لذاته، والقاعدة الشرعية "أن ما نهي عنه لذاته فإنه لا ينفذ"؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وهذا الغاضب حكم حكماً ليس عليه أمر الله ورسوله، بل فيه نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحينئذ لا يكون نافذاً، ولكن القول الأول أقرب إلى القواعد وإلى ملاحظة المعنى، إنه إذا أصاب الحق نفذ الحكم وأنه أيسر للعامة؛ لأننا لو قلنا بعدم الحكم الأول ووجوب إعادة القضية ربما تحتاج إلى طول، ولاسيما في المدن الكبيرة التي تكثر فيها المحاكمات، فقد يمضي عليه سنة وسنتان وهو لم يصل إليه الدور وحينئذ تحصل مفاسد. ومن فوائد الحديث: أن القاضي لا يحكم بين اثنين في حال تشويش فكره بغير غضب، مثل: أن يكون في هم شديد أو غم شديد أو اشتغال بمريض أو يكون هو نفسه مريضاً مرضاً لا يتصور معه القضية، وهذا القياس على الغضبان قياس جلي واضح؛ لأن العلة معلومة أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «وهو غضبان»، فإن الغضب يمنع من تصور القضية واستحضار العلم وتصور تطبيق الأحكام الشرعية على هذه القضية، وعلى هذا فإذا جاء الخصوم إلى القاضي وقد اغتسل للجمعة وهو الآن يرتعد برداً فهل يحكم بين الخصوم في هذه الحال؟ لا يحكم؛ لأنه مشغول، الرجل الآن لا يمكن أن يتصور القضية أو الحكم على الوجه الذي ينبغي، فيقال: انصرفوا عنه حتى يزول ما به من ألم البرد، وكذلك الحر المزعج، لو كان هناك حرارة شديدة والخصوم طلبوا منه أن يقف لهم في حر الشمس في أشد القيظ، قالوا: لابد أن تقضي بيننا، لا تمش خطوة حتى تقضي بيننا وهو الآن حران وسط الشمس في أيام القيظ، فهنا له أن يصرفهم، ولا يقال: إن الرجل امتنع عن الحكم بين الناس وقد أمر أن يحكم بين الناس؛ لأنه هنا يكون معذوراً.

لا يقضي القاضي حتى يسمع قول الخصمين

ومن فوائد الحديث: حماية الأموال والأعراض والأبدان؛ لأن هذا النهي من أجل ألا يخطئ الحاكم في حكمه، والخطأ في الحكم يعتبر جناية على الأموال والأبدان والأعراض، فمن أجل حمايتها نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القضاء بهذه الحال وهو غضبان. ثم هل النهي هنا للتحريم أو للكراهة؟ قال بعض العلماء: إنه للكراهة، وقال بعضهم: إنه للتحريم وهو الأصح؛ لأن الأصل في النهي التحريم، ولأن هذا يؤدي إلى الخطأ في الحكم إذا حكم في هذه الحال فالصواب: أنه -أي النهي- للتحريم وأنه إذا خالف فأصاب الحق فالحكم نافذ. لا يقضي القاضي حتى يسمع قول الخصمين: 1332 - وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول، حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي، قال علي: فما زلت قاضياً بعد». رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وقواه ابن المديني، وصححه ابن حبان. - وله شاهد عند الحاكم: من حديث ابن عباس. "وإذا تقاضى إليك رجلان" تقاضى أي طلبا أن تقضي بينهما، وقوله: «رجلان» بناء على الأغلب، وإلا فالمرأتان كالرجلين، والمرأة والرجل كالرجلين أيضاً. وقوله: "فلا تقض للأول" وهو المدعي "حتى تسمع كلام الآخر"؛ لأنه من الممكن القريب أن يكون عند الآخر ما يدفع به دعوى هذا المدعي، ولولا أن عنده ما يدفع به دعوى المدعي ما تقاضى إلى القاضي مع خصمه. وقوله: "حتى تسمع كلام الآخر فسوف تدري كيف تقضي" يعني: إذا سمعت كلام الآخر فحينئذ تعرف كيف تقضي، ويتبين لك الأمر قال علي: "فما زلت قاضياً بعد" أي: بعد أن قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام وأخذت به ما زلت قاضياً؛ أي: قاضياً حقاً؛ لأن ليس كل قاض يكون قاضياً، لكن من عمل بما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء فإنه يكون قاضياً، فقوله: "فما زلت قاضياً بعد" المعنى: أنني حين عملت بهذا ما زلت قاضياً حقاً؛ لأنه ليس كل قاضٍ يكون قاضياً. ففي هذا الحديث: أنه لا يجوز أن يقضي لأحد الخصمين حتى يسمع الإنسان كلام الخصم الآخر.

وفيه أيضاً وهو من الفوائد: أنه لا يجوز القضاء على الغالب؛ لأنه إذا نهى عن القضاء بين اثنين قبل أن يدلي الثاني بحجته مع حضوره فمع غيبته من باب أولى. فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند بنت عتبة التي شكت إليه بقولها: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيها من النفقة ما يكفيها وبنيها، أليس أذن لها أن تأخذ من ماله بغير ماله؟ الجواب: بلى، ولكن هذا قال العلماء: إنه ليس قضاء، ولهذا لم يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم زوجها حتى يعرف هل عنده ما يدفع هذه الدعوى أو لا؟ فهو من باب الفتوى. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان يجب أن يكون سامعاً للدعوى، فلا تكفي الإشارة فيمن يمكنه النطق؛ لأن الإشارة إنما هي دلالة فقط على ما في قلب العبد، لكن اللسان هو الذي يعبر عما في قلبه تعبيراً صحيحاً، ولهذا قال: "حتى تسمع". فإن قال قائل: إذا كان أحدهما أخرس لن يسمع حجته؟ قلنا: يمكن بالكتابة، فإن كان لا يحسن الكتابة فبالإشارة، فإن كانت الإشارة لا تفهم فبالوكالة، يوكل من يحاج عنه؛ لأنه لابد من أن نعرف ما عند الخصم. ومن فوائد الحديث: حسن توجيه النبي صلى الله عليه وسلم للقضاة الذين يحكمون بين الناس وأنك لا تسمع من جانب دون الآخر. ومن فوائد الحديث: أننا لا نحكم على الشخص حتى نسمع كلام الخصم، يعني: لو سمعنا شخصاً يسب من يكرهه، أي: من يكرهه السامع فلا يجوز أم نأخذ بقوله حتى نعرف قول الطرف الآخر، ولهذا نجد بعض الناس -نسأل الله لنا ولهم الهداية- يأخذون الحكم على الناس وتصنيفهم كما يقال، يأخذون ذلك من قول الخصم سواء كان إيجابياً أو سلباً وهذا غلط؛ لأن النفوس مجبولة على محبة من تحب الدفاع عنه وعلى كراهة من تكرهه ورميه بالسب والشتم. ويشبه هذا الذي أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما حصل لداود -عليه الصلاة والسلام-، فقد ذكر الله تعالى قصته في صورة شيقة فقال: {وهل آتاك نبؤا الخصم} [ص: 21]. والاستفهام هنا للتشويق كأنه يشوق إلى استماع هذه القصة، {إذا تسوروا المحراب} [ص: 21]. تسوروا مع أن الخصم مفرد لكنه مفرد بمعنى الجمع، المحراب مكان الصلاة: {إذ دحلوا على داود ففزع منهم}

[ص: 22]. كعادة الإنسان الذي يغلق بيته، فإذا بأناس يتسورون عليه الجدار؛ ألا يفزع؟ يفزع، لأنهم لا يدخلوا على الوجه السليم، {قالوا لا تخف} [ص: 22]. يعني: لسنا سراقا ولا قاتلين، إنما نحن {خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا نشطط واهدنا إلى سواء الصراط} [ص: 22]، ثم أدلى المدعي بحجته فقال: {إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزنى في الخطاب} [ص: 2]، غلبني حتى أدركها ماذا قال داود -عليه السلام- قال: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجة} [ص: 24]، فحكم له دون أن يسمع قولاً، وهذا لا شك أنه ليس الطريقة السوية، ولهذا عرف داود أن الله تعالى أختبره، قال تعالى: {وظن داود} [ص: 24]. أي: أيقن؛ لأن الظن يأتي بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46]. وكما في قوله تعالى: {وراء المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها -أي: أيقنوا ذلك- ولم يجدوا عنها مصرفاً} [الكهف: 53]. {وظن داود إنما فتنة فاستغفر ربه وخر راكعاً وأباب فغفرنا له ذلك} [ص: 35]. والنعجة هنا بمعنى: الشاة. وأما القول بأنها زوجة أحد الجنود، وأن داود -عليه السلام- سعى يكيد ويمكز -والعياذ بالله- حتى يتزوجها، وأمر هذا الجندي أن يذهب للجهاد لعله يقتل فيخلفه داود عليها، فهذا كذب، هذا من اليهود، ولا يجوز لأحد نقله بين العامة، حتى وإن قال: إنه علم، اللهم إلا أن يشتهر بين العامة ويتحدث عنه كذباً فهو لا بأس به، لكن شيئاً لا يطرأ على بال الناس فيقف يتحدث ثم ينقضه هذا وإن كان جيداً، لكن لاحظوا أن الشيطان يلقي في قلب الإنسان شيئاً بما يحدث به وإن كان في الأصل كذباً. على كل حال: هذه القصة كذب، ومن اعتقدها فقد أساء إلى داود -عليه الصلاة والسلام-، إنما الذي حصل من داود: أنه حكم بمجرد سماع الخصم دون أن يأخذ قول الآخر، وهذا واضح من القصة. قد يقال: إن هناك خطأ آخر وهو كونه يدخل يتعبد لله والعبادة الخاصة منفعتها له ويدع الحكم بين الناس وهو مما يتعلق به مصالح عامة الناس؛ ولهذا سلط عليه الخصوم حتى تسوروا عليه المحراب، هذا أيضاً ربما يكون فيه شيء من الخطأ يضاف إلى الأول، وحينئذ حصل ما حصل من الفتنة، ولكن الله تعالى رفعها عن داود حينما خر راكعاً وأناب. والظاهر: أن معنى راكعاً: خر ساجداً لله عز وجل ليتوب إلى الله فتاب الله عليه. هذه القصة إذا تصورها الإنسان على هذا الوجه عرف مدى قيمة الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنك لا تقضي بين اثنين حتى تسمع قول الآخر».

حكم الحاكم لا يحل للمحكوم له إذا كان باطلا

حكم الحاكم لا يحل للمحكوم له إذا كان باطلاً: 1333 - وعن أم سلمة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من النار». متفق عليه. من المعلوم أن الجملة هنا خبرية وأنها مؤكدة بـ (إن). فقد يقول قائل: لماذا تؤكد بـ (إن) وهي جملة ابتدائية ليست إنكارية حتى تحتاج إلى تأكيد؟ فيقال: إنها أكدت لما يأتي بعدها وهي قوله: "فمن قطعت له ... إلخ". وقوله: "تختصمون إلي" قد يقول قائل: كان المتوقع أن يقول: تختصمون عندي، قلنا: إن معنى: رتختصمون" أي: ترغبون الخصومة إلي، ففي هذا الفعل تضمين، والتخاصم: هو تنازع الخصمين أيهما أحق. "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بع"، "لعل" هنا للتوقع؛ يعني: فيتوقع أن يكون بعضكم ألحن بحجته من بعض يعني، أفصح لأن ألحن في الأصل، اللحن هو: الميل، ومنه لحن المتكلم في الإعراب، يقال: هذا لحن، لكن هنا من باب السلب، ألحن يعني: أبلغ حجة بحيث لا يكون في حجته ميل. "فأقضي له على نحو ما أسمع منه" أي: أحكم له على نحو ما أسمع منه بناء على الظاهر؛ لأنه أفصح من ذاك وأقوى في الحجة وأشد تعبيراً وتأثيراً، فيقضي له -عليه الصلاة والسلام- على نحو ما يسمع منه. "فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار"، قوله: "من قطعت له من حق أخيه" يشمل الحقوق المالية والجنائية والشخصية وغيرها، "فإنما أقطع له قطعة من النار" على حد قول الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم نارا} [النساء: 10]. لأن آكلي مال اليتامى يأكلونها بغير حق، وهذا الذي حكم له وهو مبطل يأخذه بغير حق فكأنما يأكل ناراً -والعياذ بالله-. في هذا الحديث فوائد: منها: أن الخصومة واقعة في خير القرون، وأن هذا أمر لا يستغرب؛ لأن الصحابة كانوا يختصمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هل هناك مرحلة قبل الوصول إلى الخصومة؟ الجواب: نعم وهو المصالحة، إذا أمكنت المصالحة فهي أطيب للقلب وأبعد

عن العداوة والبغضاء وأسلم من شماتة الأعداء، فمتى أمكن الصلح فإنه لا ينبغي الترافع إلى الحاكم ولكن: (وإن لم يكن إلا الأسنة مركب ... فما حيلة المضطر إلا ركوبها) إذا كان ولابد فلابد أن يختصم الناس. ومن فوائد الحديث: أن الصحابة -رضي الله عنهم- لا يعدون في التخاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً؛ يعني: لا يختصمون إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس، إنما تنتهي الخصومة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هو مرجع الأمة في الخصومة فورثته مرجع الأمة في الخصومة أيضاً وهم العلماء، ولهذا لابد أن يكون القاضي عالماً بالشريعة. ومن فوائد الحديث: أن الناس يختلفون في التعبير عما في قلوبهم لقوله: "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض"، وهذا شيء مشاهد، حتى مؤلفات العلماء تجد أن بينها فرقاً في الوضوح والانسياب والمعنى واحد، وإذا شئت فقارن بين أسلوب ابن القيم رحمه الله في مؤلفاته، وأسلوب شيخه رحمه الله تجد الفرق العظيم بينهما ولهذا قال بعضهم: ابن تيمية يطبخ، وابن القيم يقدم الطعام؛ لأن حقيقة الأمر أن كثيراً من كلام ابن القيم هو كلام شيخ الإسلام تماماً، لاسيما في مسائل العقائد، وكذلك أيضاً في مسائل الترجيحات عندما يتكلم على مسألة ويرجحها، لكن تجد الفرق، شيخ الإسلام كلامه جزل وفحل ولا يدركه إلا من تمرن عليه في الغالب، وقد يكون سهلاً، وأضرب لكم مثلا وإن كنا قد خرجنا [عن الشرح]: له كتاب "الرد على المنطقيين" وهذا صعب جدا، وله كتاب "نقد المنطق" أقل منه حجماً لكن أكثر منه فائدة؛ لأنه مرتب ومنسق، حتى إن طالب العلم المبتدئ يفهمه، والمؤلف واحد. على كل حال: الناس يختلفون في التعبير عما في قلوبهم، منهم من يعبر بعبارة تكون سحراً: "إن من البيان لسحراً"، ومنهم من عنده في قلبه حجة قوية لكن لا يستطيع أن يعبر، ومن ذلك بعض الناس من إخواننا يقول: أنا أعرف الجواب بقلبي لكن لا أستطيع أن أنطق به بلساني.

حكم القاضي بعلمه وضوابطه

وعلى كل حال: هذا أمر معلوم، أن الناس يختلفون في قوة التعبير والتأثير. ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لقوله: «فأقضي له على نحو ما أسمع منه»، فلو كان يعل م الغيب لقضى بما يعلم لا بما يسمع لكنه لا يعلم الغيب. حكم القاضي بعلمه وضوابطه: ومن فوائد الحديث: أن القاضي لا يحكم بعلمه لقوله: "على نحو ما أسمع منه"، فهل يقضي بنحو ما رأى منه؟ يعني: لو رأى أن هذا الخصم ضرب خصمه؟ لا فرق، لكن يقال: إن رآه خارج الحكومة -يعني: ليس في مجلس الخصومة أو التحاكم - فلا يقضي به لأنه لو قضى به لكان هذا قضاء بعلمه وهو ممنوع، إذا ماذا يصنع؟ إذا كان يعلم أن الحق خلاف ما يظهر مما سمع، قال العلماء في مثل هذه الحال: يجب عليه أن يحولهما إلى قاض آخر ويكون هو شاهداً وبذلك يجمع بين المصلحتين، وهذا حق. ومثله أيضاً "بما سمع" لو فرضنا أنه سمع خارج الخصومة فلا يمكن أن يحكم بما سمع خارج الخصومة، ولكن يحولهما إلى فاض آخر ويكون شاهداً، ولهذا قال: "تختصمون" وقال: "ما أسمع"، في أي وقت مما أسمع؟ في وقت الخصومة؛ لأن قال: "تختصمون إلي". ولكن العلماء استثنوا من الحكم بالعلم مسألتين سبقتا: المسألة الأولى: ما كان عالماً به في مجلس الحكم، وهذا يدل عليه قوله: "على نحو ما أسمع"، لأن السمع طريق العلم، فما سمعه في مثل الحكم أو رآه في مثل الحكم لو فرض أن أحد الخصمين ضرب الثاني عند القاضي فيحكم به. المسألة الثانية: إذا كان الأمر مشهورا، تحاكم إلي رجلان أحدهما يدعي أن البيت الذي فيه فلان والذي هو ساكن فيه من مدة طويلة والذي يعلم أنه بيته، ادعى أنه بيته، فههنا يحكم بعلمه. لكن في الواقع توجد مسألة ثالثة: وهي علم القاضي بعدالة الشهود كافية لا يحتاج القاضي إلى أن يقول: شهد فلان ابن فلان بكذا وكذا، وشهد فلان وفلان بعدالته، ليس بلازم إلا إذا كان لا يعرفه فيذكر هذا لأجل ألا يكون هناك طعن في الشهود فيما بعد. ومن فوائد الحديث: أن الواجب على القاضي أن يحكم بما سمعه حتى لو ظن أن الأمر بخلافه، لو ظن -وهو لم يعلم- أن الأمر بخلافه يجب أن يقضي بنحو ما سمع، ولو ظن أن الأمر على خلاف ما سمع بخلاف ما إذا علم فقد قلت لكم: إذا علم يحول إلى قاضٍ آخر ويشهد. لكن هل أن يستظهر الحق بالتورية؟ نعم، له ذلك يعني: لو سمع شيئاً ولو حكم به لكان مخالفاً لما يظن، لكن أراد أن يستخرج الحق بالتورية، نقول: هذا جائز، ووقع من سليمان

-عليه الصلاة والسلام- في قصة المرأتين اللتين أخذ الذئب ولد إحداهما فحكم به داود للكبرى، ولكن سليمان دعا بالسكين وقال: أشقه بينكما نصفين، فقالت الصغرى: هو لها، وقالت الكبرى: شقه ليس عندي مانع، فقضى به للصغرى لوجود القرينة. وهذه المسألة يوفق لها بعض القضاة: أي: استخراج الحق عن طريق الاستدراج، إذا علم أن الحق خلاف ما سمع، أما إذا لم يتبين له فيجب أن يقضي بنحو ما يسمع. وحدثني ثقة عن بعض القضاة أن شخصين حصل بينهما عقد على مزارعة، يعني: يعطيه الأرض يزرعها بسهم، وقع العقد في أول الشتاء والأمطار قليلة، في مثل هذا يكون جزء مالك الأرض قليلا: لأن المزارع سوف يعمل كثيرا في السقي وغيره، المهم أنه تم العقد بينهما في أول الشتاء وكانت الأمطار قليلة وكان سهم المالك قليلا أراد الله عز وجل فنزل المطر وارتفعت الأسهم فعاد المالك إلى هذا المزارع وقال له: يا فلان، يبقى نظر؛ لأنها طلبت مني بكذا وكذا، يعني: أتى واحد إلى صاحب الأرض وقال له: أنا أريد أن أزرعها بسهم أكثر مما تم العقد عليه فقال: يا فلان، هل لك نظر فيها، يعني: هل تزيد؟ قال: سبحان الله ألست قد عقدت معك؟ قال: لا ما عقدت، فقال: ألك شهود؟ قال: لا، بني وبينك الله، ما عندي شهود، قال: نحن نذهب إلى القاضي، فذهبا إلى أحد القضاة وجلسا عنده وكان ذا فراسة وعالما بأحوال الناس وعرف أن الصواب مع المزارع، فأدلى كل واحد منهما بحجته، وكان هذا القاضي يعرف أن هذه الأرض موقوفة، فقال القاضي للمزارع: يا فلان، هذا الرجل ناظر على الوقف، والناظر يجب عليه أن يتبع الأصلح، وما دام العقد الذي بينكما كان في زمن الرخص لم تنبت الأرض إلى الآن وزادت الأسهم فهو يريد الأفضل للوقف حتى لو تم العقد بينكما، يعني: هذا أمانة، يقوله لمن؟ لصاحب الأرض المالك: قال: صحيح يا شيخ جزاك الله خيرا قال: إذن الأرض للمزارع. انظروا كيف استدرجه حتى أقر بأنه عقد، لكن زادت الأسهم فتراجع، المهم أن القضاء يحتاج إلى ذكاء وفراسة وفطنة كما شهد شاهد في قضية يوسف قال: {قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين} [يوسف: 26 - 27]. فمثل هذه الأمور والقرائن ينبغي للقضاة وغير القضاة أن يدركوها حتى ينتفعوا بها. ومن فوائد الحديث: أن قضاء القاضي لا يحل الحرام، وعلى هذا فيكون قضاء القاضي

الاهتمام بإقامة العدل

نافذا ظاهرا لا باطنا، الدليل: أنه -صلى الله عليه وسلم- توعد من حكم له بأنه يقتطع له قطعة من النار، فلو أن إنسانا ادعى على شخص أنه زوجه ابنته وأنكر الرجل، ولي المرأة الذي هو أبوها أنكر فأتى هذا المدعي بشهود وشهدوا عند القاضي بأن العقد قد تم ماذا يحكم القاضي؟ بالظاهر، إنما يقضي بنحو ما يسمع، قضى بأن البنت زوجته فهل يكون وطؤه إياها حلالا؟ لا يكون زنا حتى وإن حكم له ظاهرا بأنها زوجته، ما موقف البنت هنا؟ ليس لها طريق إلا إما أن يعاد العقد من جديد على وجه صحيح وتنتهي المشكلة، وإما أن تحاول الابتعاد عنه ومنعه من الاستمتاع بها بقدر الإمكان، لأنها لا تحل لها. هذا هو ما دل عليه الحديث بمعنى: أن حكم الحاكم لا يحل الحرام وأنه ينفذ ظاهرا لا باطنا، لا يقول القائل: أنا حكم لي القاضي وفي ذمته ... ومن فوائد الحديث: عقوبة من أخذ مالا بغير حق، فهل يقال: إن كل من أخذ مالا بغير حق فإنما يأكل نارا؟ لا لكن إذا كان هناك سبب مثل أن يكون وليا على قصار لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، هذا يدخل في قوله: {إنما يأكلون في بطونهم نارا} [النساء: 10]. أو كان على شكل خصومة وخداع للقاضي؛ لأن هذه جناية عظيمة، خداع القضاة جناية عظيمة وفساد في المجتمع، فهذا يكون كمن يأخذ قطعة من النار، أما إذا كان مجرد ظلم فإنه لا يحكم له بذلك ما لم ترد الشريعة بهذا. الاهتمام بإقامة العدل: 1334 - وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كيف تقدس أمة، لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم؟ ». رواه ابن حبان. - وله شاهد: من حديث بريدة عند البزار، وآخر: من حديث أبي سعيد عند ابن ماجه. قوله: "كيف" استفهام بمعنى النفي، أي: لا تقدس أمة؛ أي: تطهر، تطهر من كل ما ينبغي التطهير منه: من الذنوب والحروب والبغضاء ... وغير ذلك؛ لأننا نقول: تطهر من كل ما ينبغي التطهر منه من الذنوب وعقوباتها.

خطر القضاء وكبر مسئوليته

"لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم" الشديد هنا بمعنى القوي، ومنه قوله تعالى: {أشداء على الكفار} [الفتح: 29]. أي: أقوياء، وقوله الله -تبارك وتعالى-: {وبنينا فوقكم سبعا شدادا} [النبأ: 12]. أي: قوياً، يعني: لا يؤخذ من قويهم للضعيف، والقوة هنا ليست بالمال فقط، قد تكون بالمال فقط، قد تكون بالجاه، قد تكون بالقرب من الحاكم، المهم: أن له قوة على هذا الضعيف، فإذا كان الحق لا يؤخذ من القوي للضعيف فإن هذا إيذان بهلاك الأمة وعدم طهارتها. ففي هذا الحديث: التحذير العظيم -تحذير الأمة- من ألا يؤخذ الحق من القوي للضعيف والعكس كذلك، يعني: لو أن الإنسان رحم الضعيف وهم يحكم له بغير الحق نفس الشيء، لكنه لما كان الغالب أن القوي هو الذي يؤخذ حقه والضعيف لا يؤخذ قال هكذا، وإلا فحتى الضعيف أليس الله يقول: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا} [النساء: 135]. لأن الإنسان قد يجور في الشهادة لغنى المشهود عليه أو لفقره. فمن فوائد الحديث: تحذير الأمة من ألا يؤخذ الحق من الشديد للضعيف والعكس كذلك، لكن الأول هو الغالب. ومن فوائد الحديث: وجوب العدل بين كل أحد لقوله: "لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم". خطر القضاء وكبر مسئوليته: 1335 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة، فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره». رواه ابن حيان وأخرجه البيهقي، ولفظه: "في تمرة". "يدعى بالقاضي العادل" أي: يؤتى به، والقاضي: هو الحاكم بين الناس، والعادل: من لا يجوز في حكمه، و"يوم القيامة": هو الذي يقوم فيه الناس لله رب العالمين فيلقى هذا القاضي العادل الذي عدل في حكمه بحيث طبق حكمه على الشرع؛ لأن الشرع كله عدل وبحيث لم يمل مع أحد المتخاصمين، "فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره"، يعني: يحاسب على قضائه، وكيف حكمت لفلان، ولماذا لم تحكم لفلان؟ وكيف حكمت بالمال كله؟ ولماذا لم تحكم ببعضه؟ لاحتمال أن يكون قضى منه شيئا وما أشبه ذلك، وقوله: "ما يتمنى" التمني هو: أن يطلب الإنسان لنفسه ما في حصوله عسر أو تعذر.

حكم ولاية المرأة أمور المسلمين العامة

والرجاء: ما في حصوله قرب كلاهما تمن يعني: طلب نفسي، لكن إن كان متعلقا فيما يعسر فهو تمن، وإن كان فيما قرب حصوله فهو رجاء، أنه لم يقض بين اثنين في تمرة أو في عمره. هذا الحديث فيه: التحذير من تولي القضاء. وفيه أيضا: مصادمة لما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيمن حكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر»، ومصادم أيضا للحديث الذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم القضاة إلى ثلاثة أقسام. وبناء على ذلك يكون هذا الحديث إما باطلا وإما شاذا شذوذا عظيما؛ لأننا لو أخذنا به لفر الناس كلهم من القضاء مع أن تولي القضاء فرض كفاية لا يمكن للناس أن يكونوا بلا فاض، ثم إنه مصادم للأحاديث الصحيحة التي تدل على أن القاضي العادل ممن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وإن كان الحديث واردا في الإمام العادل، لكن قد يسمى القاضي إماما باعتبار أن يقتدى به، وقد لا يسمى فلا يستحق أن يظل في ظل الله، لكنه لا شك مأجور، وكيف يحاسب هذا الحساب الشديد الذي يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة واحد وهو عادل؟ هذا غير موافق لحكمة الله. فالصواب: أن هذا الحديث باطل أو شاذ، المهم: أنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وبناء على ذلك لا نحتاج أن نلتمس ما فيه من فوائد؛ لأن الجدار إذا انهدم لا يصخ أن يسقف عليه. حكم ولاية المرأة أمور المسلمين العامة: 1336 - وعن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». رواه البخاري. الفلاح هو: حصول المطلوب والنجاة من المرهوب، فقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1]. أي: قد حصلوا على مطلوبهم ونجوا من مرهوبهم، وهو قريب من معنى الفوز، و"قوم" نكرة في سياق النفي الذي هو النفي المستفاد من "لن"، فيعم كل قوم ولو أمرهم امرأة، وقوله: "ولوا أمرهم" أي: شأنهم وتدبير أمروهم سياسيا وعسكريا واجتماعيا وغير ذلك، والمرأة معروفة، و"امرأة" أيضا نكرة في سياق النفي فتعم أي امرأة حتى لو كانت أذكى بنات آدم في عهدها، فإن من ولاها لن يفلح، و"لن" للمستقبل فتعم جميع الزمن.

وهذا الحديث له سبب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن الفرس ولوا ابنة كسرى غليهم فقال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». فيستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: أن المرأة لا يصح أن تكون لها ولاية عامة؛ لأن توليتها ولاية عامة يفضي إلى عدم الفلاح وإلى فساد الأمور. ومن فوائد الحديث: بيان قصور المرأة في العقل والتدبير، وأنها لا تصح أن تشارك الرجال في مثل هذه الأمور العامة، أما أن تكون ولية في بيتها فلا بأس أو مدير ة لمدرسة بنات، فهذا كله لا بأس به، أما أن تتولى أمور الرجال فهذا لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى عدم الفلاح. ومن فوائد الحديث: أن النساء مهما بلغن في الذكاء والحنكة وغير ذلم فإن من ولاهن لن يفلح، ونأخذ هذا من كلمة "امرأة" التي هي نكرة في سياق النفي. وهل هذا الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى هؤلاء القوم الذين هم الفرس فيفهم منه كأنه قال: إنهم لما ولوا عليهم امرأة فلن يفلحوا أو أن النفي في الحديث يعم كل قضية على هذا النحو إلى يوم القيامة؟ الظاهر الثاني، ومن زعم أنه خاص بالفرس الذين ولوا أمرهم المرأة -فقال الرسول: «لن يفلحوا» يعني: هؤلاء القوم- يقال له: أولا: أنه لا يتعين أن يكون هذا المراد، ثانيا: لو فرضنا جدلا أنه المراد فإنه يقاس عليه ما أشبهه لوجود العلة في الفرع كما هي موجودة في الأصل؛ إذ لا فرق بين امرأة من فارس أو امرأة من العرب أو امرأة من بني إسرائيل، بل الكل واحد، الكلام على أن المرأة لا يصح أن تكو ولية على الرجال إطلاقا، ولهذا الإمامة الصغرى لا تجوز للمرأة، لا يجوز أن تكون إمامة للرجال حتى ولو كانت أقرأ القوم، لو وجد قوم من الرجال عوام وامرأة قارئة هل تقدم؟ لا، لو أدى الأمر إلى أن يصلوا فرادى ما قدمت المرأة إمام لهم أبدا، هذا في الإمامة الصغرى، إمامة حي، فكيف بالإمامة الكبرى؟ ! ومثل ذلك أيضا: أنه لا يصح أن تكون أميرة ولا وزيرة؛ لأن العلة واحدة لقصور عقل المرأة، ولأن المرأة سريعة العاطفة ولأن نظرها قريب، ولأنها تخدع، إلى غير ذلك ربما تكون ولية أمر سلطانة رئيسة فيأتيها شاب جميل من أحسن الشباب [ومع الكلام] تقول: ماذا تريد؟ [هذه] امرأة العزيز في قصة يوسف ماذا قالت؟ {هيت لك} [يوسف: 23]. فلذلك لا يصح إطلاقا أن تكون المرأة في ولاية عامة للرجال، بل ولا خاصة كما قلت لكم، الولاية الخاصة كإمامة المرأة للرجال فإنها لا تصح.

التحذير من احتجاب الوالي عن حاجة المسلمين

فإن قال قائل: هذا الحديث يعارضه الواقع؛ لأن الواقع أن هناك ملكات من النساء ورئيسات ووزيرات من النساء فما الجواب؟ الجواب من وجهين: أما الملكات فإنهن ملكات بلا ملك ليس لهن تدبير وإنما هو شيء ورثوه كابرا عن كابر وسموها ملكة وهي مسكينة لا تملك شيئا، هذا هو الواقع، وأما أن تكون رئيسة وزراء؛ فلأن لديها وزراء هم الذين يديرون في الواقع. ثم يقال: لو فرضنا جدلا أنها تدير لكونها رئيسة لوزراء فإنهم لو تخلوا عنها وولوا أحدا من الرجال لكانوا أشد فلاحا. إن قدر أنهم يفلحون يكونون بتولية الرجال أشد فلاحا؛ لأننا نحن نؤمن بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نؤمن بما يقولون: إنه واقع؛ لأن هذا الواقع عليه احتمالات وإيرادات فلا يصح أن يعارض كلاما محكما صدر من أصدق الخلق -عليه الصلاة والسلام- أتى المؤلف بهذا الحديث في باب القضاء لنستفيد منه أنه لا يصح أن تتولى المرأة القضاء؛ لأننا لو وليناها القضاء لكنا ولينا أمرنا امرأة، فلا يجوز أن تتولى القضاء. فإن قال قائل: لو حكمها نساء فيما بينهن، مثلا: تنازعت امرأتان وقالتا: الحكم بيننا فلانة، وذهبوا إليها وحكمت أينفذ حكمها؟ لا؛ لأنها غير صالحة للقضاء، والعلماء يقولون: ولو حكم اثنان رجلا صالحا للقضاء فلا ينفذ حكمه، لو أنها تعرف مسألة من باب الصلح وأصلحت فيصح؛ وذلك أن لأن الصلح عن تراض وليس شيئا لازما، فإذا أصلحت بين امرأتين فلا بأس ونقول: جزاها الله خيرا على إصلاحها بين المرأتين. وهل يصح أن تكون مديرة على مدرسة؟ فيه تفصيل إن كانت المدرسة مدرسة نساء فلا بأس، وفلاح هذه المدرسة بقدر مديرتهم، وإن كانت على رجال فلا يصح؛ لأن عموم "أمرهم" يشمل الأمر العام والخاص. التحذير من احتجاب الوالي عن حاجة المسلمين: 1337 - وعن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم؛ احتجب الله دون حاجته». أخرجه أبو داود، والترمذي. قوله: "من ولاه شيئاً من أمور المسلمين"، "شيئا" نكرة في سياق الشرط فتكون عامة، فيشمل الشيء الكبير والشيء الصغير، "فاحتجب عن حاجتهم" يعني: فلم يقضها، سواء احتجب

عن الأنظار أو لم يحتجب، ولكن منع لأن كلا احتجاب سواء احتجب عن الأنظار بأن جعل بينهم وبين الناس بابا، أو احتجب بالمنع، بأن كان جالسا على كرسيه لكن يمنع الناس أن يقربوا إليه فهذا محتجب في الواقع؛ لأنه لا يصل الناس إليه بحاجتهم. وقوله: "عن حاجتهم" أي: حاجة المسلمين سواء كانوا أغنياء أم فقراء، وأما قوله و "فقيرهم" أي: فيما يحتاج إليه الفقير، وإنما نص عليه؛ لأن من الولاة من يحتجب عن الفقراء ولا يحتجب عن الأغنياء، كما هو عادة بني إسرائيل، فإنهم يقدمون الأغنياء والشرفاء، حتى إنهم لا يقيمون عليهم الحدود، وأما الفقراء ومن لا وجاهة له فيقام عليه الحد، العقوبة أن الله يحتجب دون حاجته فلا ييسر أمره ولا يقضي حاجته. ففي هذا الحديث: وعيد على من احتجب عن حاجة المسلمين وفقرائهم وأمورهم إذا كان الله تعالى قد ولاه عليهم؛ لأن الله إذا ولاه عليهم، فهذا عهد وميثاق من الله أن يقوم بحاجتهم، ولولا أنه أهل لذلك لما ولاه على هذا، ولكن إذا احتجب لم يكن أهلا. ففي هذا الحديث فوائده أولا: أن الإنسان مدبر لا يستقل بأمره، لقوله: «من ولاه الله»، ففيه رد على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله ولا علاقة لله به، ولا يعلم الله من عمل العبد إلا ما أظهره فقط أما ما لم يظهر فلا شأن لله فيه، ولكن هذا الحديث يرد عليهم. ومن فوائد الحديث: وجوب بروز الإنسان للمسلمين لقضاء حوائجهم إذا كان وليا عليهم، ودليل الوجوب الوعيد على الاحتجاب. ولكن لو قال قائل: هل هذا الحديث يشمل كل وقت، بمعنى: لو جاء الناس إليه وهو في فراشة في ليلة باردة وقد أخذه الدفء ثم قرعوا عليه الباب وقالوا: اخرج؟ لا؛ لأنه لأنه يقال هنا: لم يحتجب عن حاجتهم؛ لأن الله يقول: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 286]. ولكن يجب أن يكون للولي، أوقات معلومة تكون مناسبة للناس يراجعونه فيها ثم بعد ذلك يحتجب لقضاء حاجاته أو يحتجب للاستعانة على قضاء حاجتهم؛ لأنه لو يبقى لا ينام ولا يأكل هلك ولم يقض حاجتهم. ومن فوائد الحديث: أن الجزاء من جنس العمل؛ لأنه لما احتجب عن المسلمين احتجب الله دون حاجته. ومن فوائده: التخصيص بعد التعميم، ولكن هذا لا يكون إلا لسبب، هنا التخصيص بعد التعميم في قوله: "عن حاجتهم عموما وفقيرهم خصوصا"، وإنما نص عليه؛ لأن من الولاة من لا يحتجب عن الأغنياء ويحتجب عن الفقراء. المهم: أن لدينا قاعدة: لا يمكن أن ينص على خاص بعد عام إلا وهناك مزيد عناية

الرشوة والهدية للقاضي

لسبب، وهل يدخل في هذا القاضي؟ نعم يدخل، لا يجوز أن يحتجب عن حاجات المسلمين، لكن -كما قلت- يرتب أحوالهم، وهذا هو المعمول به الآن" جلسة القاضي من كذا إلى كذا معلومة، وكذلك غيره من الولاة كانوا قديما قبل أن تتطور الأمور ويكثر الناس وتكثر الحكومات، كان القاضي يقضي في أي وقت، حتى إنه يمشي في السوق بين الناس، ويجلس على دكان صاحبه ويقضي بين الناس على عتبة الدكان. وجاء رجلان يختصمان إلى أحد القضاة وهو قد نام القيلولة فجعلوا يضربون الباب لكن الظاهر: أنهم من جنس الأعراب الذين ينادون من وراء الحجرات، فقرعوا الباب عليه حتى خرج عليهم فقال: كيف تأتون في هذا الوقت؟ قالوا: نعم أنت تأخذ كذا وكذا من صاع البر وكان مكافأة القضاة قديما أصواع قليلة من البر والتمر، فجعلوا يختصمون، كل واحد له حجة، قال لهم: يا جماعة، أكثرتم علي، أعطوني زبدة -وهي خلاصة الكلام- لكن الزبدة من اللبن خلاصة اللبن، ولا يمكن أن تأتي إلا بعد أن يخض في السقاء، فقالوا له: ما فيه زبدة إلا بخض؛ يعني: سوف نكثر القيل والقال والخصومة، فاستسلم لأمر الله. فالحاصل: أنه إذا لم يكن هناك وقت مرتب للقاضي فإنه لا يحتجب عن الناس إلا في أمور ضرورية أو لمصلحة القضاء. الرشوة والهدية للقاضي: 1338 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم». رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان. وله شاهد: من حديث عبد الله بن عمرو، عن الأربعة إلا النسائي؟ قوله: "لعن رسول الله" أي: دعا باللعنة عليه، ولعنة الله هي: طرد الملعون عن رحمة الله وإبعاده منها، فهي عقوبة عظيمة. وقوله: "الراشي والمرتشي"، الراشي: دافع الرشوة، والمرتشي: آخذها، أما آخذ الرشوة فظاهر؛ لأنه أخذ ما لا يحل له، وأما الراشي فوجهه: أنه أعان على الإثم فكان له حكمه، أي: حكم الآخذ، وقوله: «في الحكم» أي: في القضاء.

فمن هو الراشي الملعون؟ هو الذي يدفع الرشوة، ونسينا أن نقول: الرشوة: ما يقدم بين يدي الحكم ليتوصل به المعطي إلى مراده، مأخوذة من الرشاء، والرشاء: هو الحبل الذي ينزل إلى البئر ليفرع الماء منه، فهذه الرشوة من جنس الحبل الذي يكون في الدلو وينزل في البئر لأجل استخراج الماء منه، أما المرتشي فواضح. ففي هذا الحديث: دليل على تحريم الرشوة في الحكم على الآخذ وعلى المعطي، لكن ما هي الرشوة المحرمة التي يلعن فاعلها؟ هي التي يريد الراشي بها أن يحكم له بالباطل إما بتحقيق دعواه وإما بتحقيق إنكاره، دعواه أن يقول: أنا أدعي على فلان بألف ريال فيعطي القاضي قبل الجلوس للخصومة، يعطيه عشرة ريالات لأجل أن يحكم له بدعواه. والثاني: رشوة لإنكار ما يجب عليه، بأن يقول: فلان يدعي علي بكذا وكذا، فيعطي القاضي رشوة من أجل أن يحكم بإنكاره، وهذا شرط أن يكون بالباطل، بمعنى: أن يدفع عنه ما ادعي عليه أو يصدقه فيما أنكر مما ادعي عليه، هذه هي الرشوة المحرمة، أما إذا كانت الرشوة للوصول إلى حق فهذه حرام على الآخذ حلال للمعطي، لأن هذا المعطي لم يظلم أحدا، ولكن يدفع الظلم عن نفسه. فإذا وجدنا قاضيا نعلم أنه لم يحكم بالحق إلا برشوة، وجاء المحق فأعطى القاضي شيئا ليحكم له بالحق فهذا لا بأس به؛ لأنه هنا لم يبطل حقا لغيره ولم يثبت باطلا لنفسه فهو محق، ويكون الإثم على الآخذ، هكذا قال العلماء -رحمهم الله- وهو حق. وهل يلحق بالحاكم من سواه ممن يتولى أمور الناس؟ الظاهر: نعم، أو الظاهر: نعم، إن نظرنا إلى هذا يتفق مع الرشوة في الحكم بأنه في تقديم الناس بعضهم على بعض، والظاهر: لا؛ لأن الرشوة في الحكم تؤدي إلى تغيير الحكم الشرعي بخلاف الحقوق الأخرى، وتغيير الحكم الشرعي ليس بالأمر الهين؛ لأنه ربما يقتدي بهذا القاضي، لاسيما إذا كان القاضي مشهورا بالعلم فربما يأتي قاض آخر ويحكم بهذه القضية بمثل ما حكم به القاضي الذي أخذ الرشوة، وحينئذ يكون فيه تغيير للشرع. والظاهر لي: أن الرشوة في غير الحكم لا تدخل في اللعن، وذلك لأن الحاكم يسند هذا

تسوية القاضي بين الخصوم في المجلس

الحكم إلى الله ورسوله فيكون بهذا افتراء على الله ورسوله، أما مسألة الحقوق كما لو كان إنسان يستحق أن يوظف في هذا المكان ولكن غلقت الأبواب في وجهه وقيل له: ادفع شيئا من الرشوة للمسئول ويسهل أمرك وهو محق في هذا -له الحق في الوظيفة- فدفع شيئا، فهنا الإثم على الآخذ لا شك، ولكنه لا يستحق اللعنة كما يستحقها المرتشي في الحكم، وأما الدافع فلا شيء عليه؛ لأنه مطالب بحق. وهذه مع الأسف -الرشوة- شاعت عند كثير من الدول كل يتضجر منها وكل يشكو منها، حتى إنه حدثني رجل عن شخص له حق دعوة ليس فيها إشكال، كلما جاء للمسئول قال له: انتظر انتظر، حتى بقي ستة أشهر وهو يتردد ويقال له: انتظر، فجاءه بعض الناس وقال له: أتريد أن تقضى حاجتك؟ قال: نعم. قال: أعطني مائتي ريال فقط، فأعطاه مائتي ريال وأعطاه القهوة، وأخذه للمسئول فقال: هات المعاملة فمشى المعاملة، ولما ذهب الرجل يصلي الظهر وجاء قال: تفضل هذه معاملتك، وهو يتردد ستة أشهر والأمر انتهى بمائتي ريال، وهذه مصيبة، يعني: ضاعت الحقوق -الآن- كلها لهذا السبب، يأتي إنسان مثلا: يتقدم في وظيفة قد سبقه من هو أحق بها منه ثم يعطي المسئولين شيئا من المال ويمشي، فيقدم على غيره، يمكن أن يكون قد تقدم لهذه الوظيفة قبله عشرون رجلا أو أكثر -نسأل الله العافية-. والإنسان في الحقيقة يتعجب أن يقع هذا في عالم الإسلام مع أن الله أمر بالعدل وقال: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء: 135]. ومع ذلك تحصل هذه الخيانة -والعياذ بالله-، ثم ربما يأتي هذا الموظف الكبير الذي بيده الوظائف ويولي من ليس أهلا وفي القوم المتقدمين من هو أحق منه في أهليته، وأي إنسان بولي أحدا من المسلمين وفيهم من هو خير منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، والمسألة كبيرة، نسأل الله الهداية للجميع. تسوية القاضي بين الخصوم في المجلس: 1339 - وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم». رواه أبو داود، وصححه الحاكم. الحديث فيه مقال، لكن لا شك أن من آداب القاضي الذي ينبغي للخصوم أن يتأدبوا بين

1 - باب الشهادات

يديه أن يكونوا أمامه بين يديه، قال أهل العلم ويجب على القاضي أن يعدل بين الخصمين في لفظه وفي لحظه، وفي الجلوس بين يديه، وفي كل شيء؛ لأن هذا من العدل الذي أمر الله به: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل: 90]. ولأنه لو جار على أحدهما لانقطعت حجة الآخر لانكسار قلبه واعتقاده أنه مهضوم ومظلوم فتضيع حجته. ولكن أين يجلسان؟ هذا الحديث يدل على أنهما يجلسان بين يديه، وذلك من أجل أن يصوب إليهما النظر تصويباً كاملا؛ لأنه بالنظر إليهما قد يعرف بفراسته المحق من المبطل فإن كثيرا من الناس يعرفون المحق من المبطل بصفحات وجهه، فإن لم يكن ما بين يدي القاضي مكانا يتسع لذلك فلا بأس أن يكون أحدهما عن اليمين والثاني عن الشمال ولكن لو تنازعا أيهما يكون اليمين؟ فهل يقدم الأكبر أو الأعلم أو يضرب بينهما بالقرعة؟ الثالث، يعني: يقرع بينهما إن تنازعا؛ لأن أحدهما قد يكون يرغب في اليمين وينازعه الآخر، وهذا من تمام العدل، ثم قال: * * * 1 - باب الشهادات الشهادات: جمع شهادة، وهي إخبار الإنسان بما يعلمه من مرئي أو مسموع أو مذوق أو مشموم، يعني: الحواس الأربعة: السمع والبصر والشم والذوق، وربما نزيد الخامسة وهي اللمس، وقولنا: "بما يعلمه" يفيد أنه لا يمكن أن يشهد بالظن، لابد من العلم، وطرق العلم هي: الحواس. هناك شيء يعلم بالاستفاضة، ولكن المعلوم بالاستفاضة لا يخرج عن هذه المدركات الخمس، يعني: يستفيض عند الناس كذا وكذا، مثلا قدمت لنا جنازة وقالوا: هذا فلان ابن فلان نشهد بأن فلانا قد مات بأي طريق؟ بالاستفاضة؛ إذ أن الإنسان ليس جالسا عنده حين احتضر وخروجه روحه، نشهد أنه فلان ابن فلان، وهل نحن عنده حين ولدت أمه على فراش أبيه؟ الجواب: لا، لكن نشهد بماذا؟ بالاستفاضة، نشهد أن فلانا أمير على البلد الفلاني فهل نحن شهدنا قرار السلطان بأنه أمير؟ لا، هذا يكون بالاستفاضة. فإذن طرق العلم بالمشهود به تكون ستة: السمع، والبصر، والشم، والذوق واللمس، والاستفاضة. النكاح مثلا: أتينا إلى محفل وقلنا: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج بنت فلان، هل نحن عنده عند العقد؟ الجواب: لا، لكن نشهد بالاستفاضة وهلم جرا، إذن لا يجوز أن يشهد بالظن ولو كان عنده قرائن قوية، ولكن هل يشهد بالقرائن؟ نعم يشهد بالقرائن مدركة بواحد من هذه الأمور السيئة فمتى أدرك الإنسان الشيء شهد به.

خير الشهود الذي يشهد قبل أن يسأل

وليعلم أن الشهادة تطلق على شيئين: تحمل وأداء، أما التحمل فإنه فرض كفاية قال الله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة: 282]، أي: إذا دعوا. وأما الأداء ففرض عين، لقوله تعالى: {ولا تكتمزا الشهادة ومن يكتمها فإنه أتم قلبه} [البقرة: 283]، إذا كان حضر القضية من حضر لكن هؤلاء الذين حضروا قد لا تقبل شهادتهم لفسقهم أو قرابتهم من المشهود له أو عداوتهم للمشهود عليه أو ما أشبه ذلك، فهل تكون الشهادة الآن فرض عين على الحاضر؟ الجواب: نعم، فإذا حضر من لا تقبل شهادته أو يحتمل أن يرد شهادته صار فرض عين على الآخرين. والخلاصة: تحمل الشهادة فرض كفاية وأداؤها فرض عين، ثم هل الأولى أن يبادر الإنسان بالشهادة قبل أن يستشهد، أو الأولى ألا يشهد حتى يستشهد؟ يؤخذ هذا الحكم من الحديثين الآتيين. خير الشهود الذي يشهد قبل أن يسأل: 1340 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ هو الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها». رواه مسلم. "ألا" هذه أداة عرض، و"هلا" أداة تحضيض، والتحضيض عرض بحث، والعرض عرض بلا حث، والفائدة من قوله: "ألا أخبركم" يعني: من هذا العرض تنبيه السامع من أجل أن يحضر ذهنه ليسمع ما يقال، والخطاب في قوله: "ألا أخبركم" للحاضرين عند الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: "بخير الشهداء" أي: أفضلهم، و"خير" أصلها: أخير؛ لأنها اسم تفضيل واسم التفضيل، على وزن أفعل، وبكن حذفت الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال فصار خيرا ومثله شر، تقول: شر الناس منزلة كذا وكذا، أي: أشر، لكن يقال في حذف الهمزة منها كما يقال في حذف الهمزة من خير، ومن ذلك أيضا: "الناس" قالوا: أصلها: الأناس، وحذفت الهمزة للتخفيف لكثرة الاستعمال، و"الشهداء" جمع شهيد وهو الذي يشهد بأحد الطرق الستة التي ذكرناها. ثم قال: "الذي يأتي للشهادة" "الذي" خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الذي يأتي بالشهادة، "قبل أن يسألها" ولم يعين السائل، لأن السائل قد يكون الحاكم وقد يكون المشهود له، فلذلك أبهمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: قبل أن يسأله صاحب الحق، ولم يقل: قبل أن يسأله الحاكم أيضا، من أجل أن يشمل هذا وهذا، أما لو سأله من لا علاقة له بالقضية فلا عبرة بسؤاله.

خير القرون الثلاثة الأولى

في هذا الحديث: دليل على تفاضل الشهداء، وأن منهم الخير، ومنهم من دون ذلك. ومن فوائده: أن الذي يشهد قبل أن يسأل هو خير الشهداء، وصورة ذلك: أن يسمع الإنسان بخصومة بين زيد وعمرو وعنده شهادة لزيد على عمرو، فلما سمع بالخصومة ذهب إلى مكان القضاء وقال: عندي شهادة لزيد على عمرو، هذا شهد قبل أن يستشهد وقبل أن يسأل فهو خير الشهداء. ولكن سيأتي حديث ظاهرة خلاف ذلك، وهو قوله في الحديث الآتي -حديث عمران بن حصين-: "يشهدون ولا يستشهدون"، وفي رواية: "يشهدون قبل أن يستشهدوا"، وسيأتي الكلام عليها بعد أن نتكلم على حديث عمران ونذكر الأوجه في الجمع. خير القرون الثلاثة الأولى: 1341 - وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن خيركم قرني، ثم الذين بلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن». متفق عليه. "إن خبركم" الخطاب للأمة عموما، وإن كان الذي أمامه هو الصحابة الموجودة في عهده، وقوله: "قرني" ما المراد بالقرن؟ ذكروا فيه أقوالا: الأول: أن القرن معتبر بالزمن واختلفوا فيه من عشر سنوات إلى مائة وعشرين سنة، يعني: بعضهم بقول القرن عشر سنوات، وبعضهم يقول: القرن مائة وعشرون سنة، ثم ما بينهم من عقود العشرات محل خلاف وهذا خلاف واسع. في هذا الحديث: أن المراد به أهل القرن، فمتى يكون قرن الصحابة ثم التابعين ثم تابعيهم؟ يقول شيخ الإسلام: القرن معتبر بأكثر أهله، فإذا كان أكثر الموجودين من الصحابة فهذا قرن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا أقل وأكثره من التابعين فهذا قرن التابعين، وإذا كان انقرض أكثرهم وبقيت قلة مع تابعي التابعين فهذا قرن تابعي التابعين، وعلى هذا فالقرن والعصر على حد سواء وهذا أقرب، إذا خير الناس قرن الرسول، أي: الصحابة، وينقرض الفرن بموت أكثرهم، "ثم الذين يلونهم" وهو التابعون، "ثم الذين يلونهم" وهو تابعو التابعين، إذن ذكر ثلاثة قرون، "ثم يكون قوم"، "يكون" هنا تامة وعلى هذا فنعرب "قوم" على أنها فاعل، أي: يوجد. "قوم يشهدون ولا يستشهدون"، "يشهدون" يؤدون الشهادة من غير أن يستشهدوا، وفي رواية أصرح من هذا: "يشهدون قبل أن يستشهدوا" يعني: قبل أن تطلب منهم الشهادة على خلاف في هذا المعنى.

"ويخونون ولا يؤتمنون" أي: تظهر فيهم الخيانة والغدر والخديعة، "ولا يؤتمنون"، أي: لظهور خيانتهم لا يأتمنهم الناس. "وينذرون ولا يوفون"، "ينذرون" بمعنى: يعاهدون، وهو شامل للمعاهدة بينهم وبين الله، والمعاهدة بينهم وبين الخلق. ولا يوفون؛ لأنهم لا يهتمون بالعهود، "ويظهر فيهم السمن"؛ وذلك لانفتاح الدنيا عليهم، وكثرة أكلهم، وترفيه أبدانهم ولا يهتمون بحياة القلوب وسمن القلوب، وإنما يهتمون بالأجسام، فتجد الواحد منهم ليس له عن إلا كم وزنه، ممكن أن يزن نفسه في اليوم والليلة مرتين إذا أراد أن ينام وإذا استيقظ هكذا سمعنا عن بعضهم، سمعنا أيضا عن بعضهم أنه يزن نفسه كل أسبوع كأنه قطعة لحم يجلب نفسه على الناس، وهذا لا داعي له، أنت ما دام الله قد عافاك فأنت صحيح، اعمل في طاعة الله، وإذا سقمت، فمن مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما. في هذا الحديث: دليل على فضل القرن الأول وهم الصحابة، والفضل هنا باعتبار الجنس والقرن لا باعتبار كل واحد، إذ أنه قد يوجد في التابعين من هو خير من الصحابة للأمة في علمه وتعليمه وجهاده وغير ذلك، لكن في الصحابة فضل لا يمكن أن يدركه أحد وهو الصحبة هذا الفضل المطلق في الصحبة لا يناله أحد، لكن الفضل باعتبار أنواع العبادات وأفعال العباد لا شك أنه يوجد من التابعين من هو أفضل من بعض الصحابة. وأضرب لكم مثلا: رجل جاء وافدا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبقي معه يوما أو يومين وأخذ منه ما شاء الله من الأحكام، ثم خرج إلى إبله وإلى أهله ومات ولم ينتفع الناس به، وآخر من التابعين نفع الله به الأمة بعلمه ونقله للحديث ودعوته للحق وجهاده في سبيل الله، أيهما أفضل كم حيث أنواع الأفعال؟ الثاني أفضل، لكن الأول يمتاز عليه بالصحبة التي لا يمكن أن ينالها إلا من صحب النبي صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أن التابعين أفضل من تابعي التابعين، والمراد أيضا: الجنس، يعني: جنس التابعين أفضل من جنس تابعي التابعين، وليس المراد: كل فرد من هؤلاء أفضل من كل فرد من هؤلاء؛ لأن في تابعي التابعين من هو أفضل من التابعين. والتابعون لا يتميزون بصحبة حتى نقول: إننا لا يمكن أن نفضل من بعدهم عليهم مطلقا، بل هم مثل تابعي التابعين من حيث فقد الصحبة في كل منهما، لكن في الجملة وباعتبار الجنس: التابعون أفضل من تابعي التابعين، ثم الذين يلونهم وهم تابعو التابعين، ثم بعد ذلك تتغير الأحوال، تحدث شهادة الزور والخيانات والغدر؛ ولهذا قال: "ثم يكوم قوم يشهدون ولا يستشهدون".

أيضا من فوائده: ذم من يشهد ولا يستشهد ولكن ما محط الذم هنا؟ اختلف العلماء - رحمهم الله - في هذا، فقيل: المعنى: أنهم يشهدون بدون أن يحملوا الشهادة، وهذا أقرب ما قيل في الحديث، بمعنى أن المراد بهم: شهداء زور، لأن هذا هو المناسب لأحوال من وصفوا من بعد، وبناء على ذلك نقول: لا معارضة بينه وبين الحديث الأول؛ لأن الحديث الأول فيمن عنده شهادة الحق ولكن أداها قبل أن يسألها، وسيأتي التفصيل في هذا أيضا، وقيل: المراد بقوله: "يشهدون ولا يستشهدون" أي: أنهم يشهدون متسرعين في الشهادة لا لغرض صحيح ولكن للتسرع، وهذا لا شك أنه ذم كما هو واضح، إنسان لم يدع للشهادة يذهب ويشهد هذا لاشك أنه تسرع يخالف ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن من التأني والتثبت. ومن فوائد الحديث: التحذير من شهادة الزور وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا سيقع. ومن فوائده: أن الإخبار بالشيء لا يعني جوازه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن قوما يأتون يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف فهل إخباره بذلك إقرار أو تحذير؟ تحذير، وأخبر أن من هذه الأمة من يتبع سنن اليهود والنصارى، وهذا إخبار وليس بإقرار، بل هو تحذير، وأخبر أن الظعينة تمشي من صنعاء إلى عدن لا تخشى أحدا، وهذا أيضا إخبار لا إقرار، فلا يكون فيه دليل على جواز سفر المرأة بلا محرم. المهم: أن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مما يخالف الحكم الشرعي فإنه لا يدل على أن الرسول أقره أو أباحه. ومن فوائد الحديث: أنه يفسد الزمان أيضا بأن يظهر في الناس الخيانة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أنها تنزع الأمانة حتى يقال القبيلة فيهم أمين، يعني: لا يكاد تجد الأمين في القبيلة الكاملة. ومن فوائده أيضا: أنه يتغير الزمان بنقض العهد: "ينذرون ولا يوفون"، وكل هذه الأوصاف التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم كلها مقام ذم وتحذير. الحديث الأول حديث زيد إذا قال قائل: هل الأفضل للإنسان أن يأتي بالشهادة قبل أن يسألها؟ نقول: هذا فيه تفضيل، والتفضيل: أنه إذا كان المشهود له لا يعلم وجب عليه أن يشهد وإذا لم يسأل. فإذا قال قائل: كيف يتصور أن المشهود له لا يعلم؟ قلنا: يتصور، لو سمع شخصا رجلا يقول لصاحبه: إن القرض الذي أعطيته لي الذي هو

حكم شهادة الخائن والعدو والقانع

ألف درهم سوف أحضره بعد يوم أو يومين، ثم إن الذي أقر أنكر، وذاك الذي له الحق له يعلم بسماع هذا منه، فهذا نقول: إن هذا عنده شهادة لم يعلم بها صاحب الحق. ويذكر في ترجمة المعري أنه كان رجلا قوي الحافظة، وأنه تخاصم رجلان فارسيان في المسجد يتنازعان [بلغتهم] في المسجد، وأنهما مع النزاع أقر أحدهما للآخر ثم أنكر، فارتفعا للحاكم، فقال الحاكم: هل عندك شهود -يقوله لصاحب الحق- قال: أين أقر لك؟ قال: في المسجد، قال: هل في المسجد أحد؟ قال: لا يوجد إلا رجل أعمى ولا أدري ما عنده، قال: أحضروه، فجاء فقال: أنا لا أدري ما يقولان، ولكن أنا أحكي لك كلامهما! ! هو عربي وهما عجم، فقال: احك وبدأ يرطن عليه وتبين الحق، فهذه إن صحت تدل على قوة الحافظة، يعني: ليس كلاما عربيا يفهمه الإنسان؛ لأن الكلام العربي تفهم المعنى، ويمكن أن تعبر عنه بلفظ مقابل أو باللفظ نفسه، لكن كلام غير غربي وهذا الرجل غير عربي هذا من العجائب إن صحت القصة، لكني قرأتها قديما في ترجمته. على كل حال نقول: يمكن أن يشهد الإنسان بحق وهو لا يدري عن شهادته، نقول: الأفضل لمن شهد شهادة لا يعلم بها صاحب الحق أن يؤديها قبل أن يسأل، بل نقول: يجب أن يؤديها أو على الأقل يعلم صاحب الحق. وأما القسم الثاني فإنه إذا كان عنده شهادة لشخص يعلمها فالأفضل ألا يتسرع حتى يسأل إما من قبل الخصم وإما من قبل الحاكم، وأما أن يتسرع، فهذا يدل على أنه رجل خفيف وأنه لا يتأنى في الأمور، وحمله بعض العلماء على أن المراد بذلك: الشهادة في حق الله، يعني بذلك: أهل الحسبة، فإنهم يشهدون على المنكر وإن لم يستشهدوا، ولكن الصحيح أنه عام، وأن المراد بذلك: من كان عنده شهادة وليس يعلمها صاحب الحق. حكم شهادة الخائن والعدو والقانع: 1342 - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت». رواه أحمد وأبو داود. "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة"، خائن في حق العباد أو في حق الله؟ الحديث عام، أما الخائن في حق العباد فهو الذي يخون أماناتهم من ودائع وعوار وأعيان مضمونة وغير ذلك، وأما في حق الله فهو الذي لا يقيم دينه، لأن دين الله عز وجل مؤتمن عليه الإنسان كما قال الله تعالى: {إن عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها} [الأحزاب: 72].

وقوله: "ولا ذي غمر"، وضبطه بعضهم: "غمر" لكن الأصوب غمر، والعمر هو الحقد والشحناء، وقوله: "على أخيه" يعني: أن شهادة من في قلبه حقد وشحناء لا تقبل على أخيه، وأما على غيره فتقبل، "ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت"، "القانع"، يعني: التابع لأهل البيت كما قال الله تعالى: {أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال} [النور: 31]، والمراد بهم: الخدم، وقوله: "لأهل البيت" يحتمل أن تكون متعلقة بـ"شهادة" أو ب"القانع"؟ إن قلنا: متعلقة بـ"القانع" صار المعنى: التابع لأهل البيت، وكلاهما صحيح؛ يعني: أن التابع لأهل البيت لا تجوز شهادته لهم. ففي هذا الحديث: دليل على أن هؤلاء لا تجوز شهادتهم، وذلك أنه ينبغي أن نقول الشهادة لابد فيها من شروط ولابد فيها من الخلو من الموانع كغيرها من الأمور لا تتم إلا بوجود الشروط وانتفاء الموانع، فنبدأ بالشروط. الشرط الأول: أن يكون مسلما، فالكافر لا تقبل له شهادة، أما على المسلم فظاهر، وأما على كافر مثله فالصحيح أنها تقبل، لاسيما في الأماكن التي لا يوجد فيها أحد من المسلمين، وعلى هذا فأصحاب الشركات الكفار والعمال الكفار يجوز أن يشهد بعضهم على بعض وإن كانوا كفارا، لكن هل تجوز شهادة الكافر على المسلم للضرورة؟ يرى بعض العلماء أنها تجوز للضرورة ويرى بعضهم أنها لا تجوز إلا في شيء معين وهو الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلم، يعني: لو كان رجل مسافرا وليس معه إلا كفار وأوصى بوصية في السفر ثم عند المخاصمة من الورثة الذين أنكروا الوصية يقبل الحاكم شهادة الرجلين من غير المسلمين. فالإمام أحمد في المشهور من مذهبه يقول: لا تجوز شهادة الكافر إلا في هذه الحال، ولابد أن يكون من أهل الكتاب. والصحيح: أن شهادة الكافر عند الضرورة تجوز سواء في السفر أو غيره، وسواء كان الكافر من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب، فمثلا: لو فرضنا أن رجلا مريضا في المستشفى ويمرضه طبيبان من الكفار وأوصى عند موته بوصية ولم يحضره في المستشفى قبل موته إلا هذان الكافران وشهدا فإننا نقبل شهادتهما للضرورة، ولكن إذا ارتبنا فهناك عمل آخر. الشرط الثاني: البلوغ، ولكن البلوغ شرط للأداء وليس شرطا للتحمل، وعلى هذا فلو تحمله وهو صغير وأدى للشهادة بعد البلوغ فإنها تقبل. وهذا يقع كثيرا تكون القضية لها سنة أو سنتان ويشهد بها بالغ كان حين الوقوع -وقوع القضية- ليس ببالغ، فالعبرة بالأداء.

ولكن هل تقبل شهادة الصبي للضرورة؟ بمعنى: أن تكون قضية لم يشهدها إلا صبيان، وهذا يقع، صبيان يلهون في السوق فأخذ أحدهم حجرا وقذف به الآخر حتى شجه، فجاء أولياؤه يطالبون هذا الذي أخذ الحجر فشج صاحبهم، فقال أولياء الجاني: هل عندكم شهود؟ قالوا: كل الصبيان يشهدون، فهل تقبل شهادتهم؟ لا تقبل؛ لأنهم كلهم لم يبلغوا ولابد من البلوغ، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء؛ فبعضهم قال: لا تقبل شهادتهم، وبعضهم قال: تقبل شهادتهم إذا لم يفارقوا محل الحادث؛ لأنهم إذا فارقوا محل الحادث ربما ينسون أو يلقنون، لكن طالما في محل الحادث تقبل لعدم التهمة، ومنهم من قال: العبرة بالضرورة، فمثلا: يوجد بالغ كما هو البالغ فإنها تقبل، لاسيما مع وجود القرائن، وهذا فيما أرى أنه راجع إلى رأي الحاكم، يعني: له أن يختار واحدا من هذه الأقوال الثلاثة، لكن إذا أجمع الصبيان على أن الجاني هو فلان فلا ينبغي أن يكون هناك خلاف في وجوب العمل بهذه الشهادة. الشرط الثالث: العقل، فإن كان مجنونا لم تقبل الشهادة، فإن تحمل وهو مجنون وأدى وهو عاقل لا تصح؛ لأن هذا لا يمكن، إذن فالعقل شرط للتحمل والأداء، ومما يلحق بالمجنون: الذي أصيب بعقله من جراء حادث أو غيره هذا أيضا لا تقبل شهادته، لأنه لن يضبطها. الرابع: العدالة، بمعنى: أن يكون الشاهد عدلا، لقول الله تعالى: {وأشهدوا ذوى عدل منكم} [الطلاق: 2]. فأمر الله تعالى أن نشهد ذوي عدل، أي: صاحب عدل. فمن ذوا العدل؟ قال العلماء: العدل من استقام دينه واستقامت مروءته، أو من استقام في دينه ومروءته، هذا العدل في الدين، قالوا: بأن يحافظ على الواجبات ولا يفعل كبيرة ولا يصر على صغيرة، فإن فعل كبيرة لم يتب منها أو أصر على صغيرة فإن شهادته لا تقبل؛ لأنه ليس بعدل. وبناء على ذلك لا نقبل تحملا ولا أداء شهادة كل من يحلق لحيته، لأنه مصر على صغيرة، ولا نقبل شهادة كل من يدخن؛ لأنه مصر على صغيرة، ولا نقبل من اغتاب أحدا ممن لا يحل اغتيابه -ولو مرة واحدة- إذا لم يتب لا نقبل شهادته، ولو طبقنا هذا الشرط على عالمنا اليوم ما وجدنا أحدا يكون مستحقا للشهادة، حتى بعض الناس الذين هم على دين واستقامة لا يخلون من غيبة الناس، فلو طبقنا هذا الشرط ما وجدنا شاهدنا. كذلك أيضا المروءة لابد أن يستقيم في مروءته، فلو فعل فعلا يخرجه عن المروءة ويشار إليه به ويستنكره الناس منه وإن كان حلالا فإنه ليس بعدل، وهذا مشكل، يعني: لو خرج واحد منكم -ممن تجري العامة بأنه لا يخلع غترته- خالعا غترته ماذا يكون؟ مخالفا للمروءة، وهذا في قوم يعتادون ستر رءوسهم بالغترة، أما من اعتاد كشف الرأس فهذا شيء آخر.

لا تقبل شهادة البدوي على صاحبه قرية

كذلك لو خرج إنسان في السوق يمشي ومعه تفاحه بيمينه وبرتقالة بيساره يأكل باليمين مرة وباليسار مرة، هذا بكون خارما للمروءة من وجه فاعلا محرما بالأكل بالشمال. من فوائد الحديث: أن الخيانة مانع من قبول الشهادة لقوله: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة"، ووجه ذلك: انتفاء العدالة؛ لأن الخيانة من أكبر الأسباب التي تزول بها العدالة، ومن شروط الشهادة: العدالة: {وأشهدوا ذوى عدل منكم} [الطلاق: 2]. ومن فوائد الحديث: التحذير من الخيانة؛ لأن رد شهادته من أعظم العقوبات؛ لأنه صار غير معتبر في المجتمع. ومن فوائد الحديث: مراعاة الأحوال، وأنها مقدمة على مراعاة الأشخاص لقوله: "ولا ذي غمر على أخيه"، فإن هذا الرجل في نفسه ثقة، أعني: الشاهد على أخيه وبينهما عداوة، فإنه ثقة في نفسه لكن حاله تقتضي ألا تقبل شهادته عليه. ومن فوائد الحديث: أن العداوة والبغضاء لا تنافي الأخوة الإيمانية لقوله: "على أخيه". ومن فوائده: أنه ينبغي للإنسان أن يزيل العداوة والبغضاء عن قلبه بين إخوانه؛ لأن قوله: "على أخيه" فيه نوع استعطاف لهذا الذي في قلبه حقد، فحاول أن تزيل العداوة والبغضاء والحقد عن قلبك بقدر ما تستطيع، واضغط على النفس؛ لأن النفس قد لا تقبل هذا، وقد ترى أن هذا انهزام، ولهذا قال الله تعالى: {وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت: 35]، لكن حاول، [واعلم] أنك إذا قابلت السيئة بالحسنة فإن الذي بينك وبينه عداوة سيكون كأنه ولي حميم، وهذا وعد الله عز وجل وليس مخلفا. لا تقبل شهادة البدوي على صاحبه قرية: 1343 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية». رواه أبو داود، وابن ماجه. البدوى: ساكن البداية، وصاحب القرية: ساكن المدن، والقرية هنا ليست خاصة بالمدينة الصغيرة كما هو معروف من معناه عرفا، ولكنها تشمل المدن والبلاد الصغيرة، بدليل قول الله تعالى: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك} [محمد: 13]. والمراد بالقرية: أم القرى، وهي: مدينة عظيمة ومع ذلك سماها قرية؛ لأنها مأخوذة من الاجتماع، فيؤخذ منه: أن شهادة البدوي على صاحب القرية لا تقبل، ولكن هذا العموم مقيد بما إذا كان البدوي متهما بشهادته، وأما إذا كان عدلا غير مهتم فإنها تقبل لعموم الأدلة الدالة على قبوله.

العبرة في عدالة الشاهد بما يظهر

وعلم من هذا الحديث قبول شهادة البدوي، وهذا أيضا مقيد -أعني: قبول الشهادة- بما إذا لم يكن بينهما عداوة كالعداوة التي تكون بين القبائل في الغالب. ومن فوائد الحديث: قبول شهادة صاحب القرية على صاحب القرية، وهل لابد أن يكون من قريته أو لو كان من قرية مجاورة؟ الثاني. ومن فوائد الحديث: قبول شهادة صاحب القرية على البدوي، وهذا مأخوذ من المفهوم لا تجوز شهادة البدوي على صاحب القرية، فمفهومه: أن صاحب القرية على البدوي شهادته مقبولة، لكن كما قلنا: إن هذا مقيد بما إذا لم يكن هناك تهمة، فصار المدار كله في هذه الأشياء على التهمة، بمعنى: أن يكون الشاهد يجر إلى نفسه نفعا ولو بالتشفي من عدوه أو يدفع عنها ضررا. العبرة في عدالة الشاهد بما يظهر: 1344 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب فقال: «إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم». رواه البخاري. عمر بن الخطاب يتكلم بهذا الكلام حين ولايته بدليل قوله: "وإنما نأخذكم ... إلخ". يقول: "إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي"، كأنه يشير رضي الله عنه إلى بعض المنافقين الذين علمهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بهم من أخبر من أصحابه مثل حذيفة بن اليمان صاحب السر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلمه بأسماء أناس بأعيانهم من المنافقين، يقول: "يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وحي الله عز وجل، وإن الوحي قد انقطع بماذا؟ بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فمن ادعى أن الله أوحى إليه شيئا بعد موت الرسول فهو كاذب؛ لأن الوحي انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم دون ما بطن؛ لأن ما بطن علمه عند الله، ولا يمكن أن يؤخذ الإنسان به. ففي هذا الحديث فوائد: أولا: ثبوت علم الله بمن يخالف قلبه ما ظهر من جوارحه ولهذا يخبره الله عنهم. ومن فوائده: أن الله تعالى قد يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عن أناس ظواهرهم تخالف بواطنهم بالوحي. ومن فوائد الحديث: أنه لا وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الرؤيا الصادقة إذا ظهرت القرائن على صدقها فإنه يؤخذ بها، لكن بشرط أن يكون هناك قرائن، ومثلوا لذلك بعمل أبي بكر بوصية ثابت بن قياس بن شماس، ثابت بن قيس بن شماس قتل في غزوة اليمانية ومر به

أحد الجنود وأخذ درعه ووضعها بجانب العسكر ووضع عليها برمة، ورآه-أي: رأى ثابت بن قي بن شماس بعض أصحابه في المنام -فأخبره ثابت بأنه مر به أحد الجند وأخذ الدرع ووضعه تحت برمة بجانب العسكر وحوله فرس تستن وكأنه يريد أن يأخذه، فلما أصبح الرجل وذهب إلى المكان وجد الأمر كما قال، وفي هذه الرؤيا أوصاه ثابت بأمور يعهد بها إلى أبي بكر رضي الله عنه، وسبب ذلك أنه وجد قرائن تدل على صدقه، فإذا وجدت قرائن تدل على صدق الرؤيا عمل بها؛ لأن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. ومثله ما ذكره ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أنه أشكل عليه بعض المسائل في الفقه والعلم، منها: أنه يقدم جنائز من أهل البدع لا تدري أمسلمون هم أم كفار؟ ! فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأسله عن أشياء منها هذه المسألة فقال له: عليك بالشرط يا أحمد بمعنى: أن تشترط في الدعاء فتقول: اللهم إن كان مؤمنا فاغفر له وارحمه، وله شاهد من الوحي في اليقظة، الشاهد ما جاء في آية اللعان في قوله تعالى: {والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين} [النور: 7]. والمرأة تقول: {أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} [النور: 9]. فهو دعاء مقيد بشرط، وكذلك في قصة الثلاثة أبرص والأقرع والأعمى، قال الملك لهم: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت عليه، فدل هذا على جواز الاستثناء في الدعاء، إذن فإذا قدم للإنسان شخص اشتهر عنه أنه لا يصلي -ومعلوم أن ترك الصلاة كفر، وأن من ثبت عندنا أنه لا يصلي ومات على ذلك -لا نصلي عليه؛ لأنه كافر ونكفره بعينه، ولا نستوحش من هذا؛ لأننا لو استوحشنا وقلنا: نفكر الفعل دون الفاعل فهذا خطأ لم يبق أحد كافرا، نكفره بعينه ونقول: لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين، فإذا قدم إليك رجل تشك فيه فلك أن تقول: اللهم إن كان مسلما فاغفر له وارحمه. ومن فوائد هذا الأثر عن عمر: أن الواجب أخذ الناس بظواهرهم لقوله: "وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لها من أعمالكم"، ويؤيد هذا القول من أمير المؤمنين عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل المنافقين معاملة المسلمين حتى قيل له في قتلهم، قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"، وكذلك يشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر ملكم، وإنكم تختصون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع»، فنحن في هذه الدنيا لا نعامل الناس إلا على ظواهرهم، أما في الآخرة فالعمل على البواطن.

شهادة الزور

وجه اتخاذ هذا الأثر في باب الشهادات: أن الأصل في المسلم هو العدالة وقبول الشهادة، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء: هل الأصل في المسلم العدالة أو الأصل فيه عدم العدالة؟ في هذا قولان للعلماء؛ منهم من قال: إن الأصل إنه ليس بعدل فلا تقبل شهادته حتى تتبين لنا عدالته؛ لأن العدالة شرط وجودي فلابد من وجوده، اشترطه الله في قوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2]. ومنهم من قال: إن الأصل في المسلم أن يكون قائما بطاعة الله ممتثلا بأمره والفسق طارئ عليه، فالأصل فيه العدالة والذي يظهر لي أن يقال: إن هذه المسألة تختلف باختلاف الناس، فمن لم يظهر منه سوء حملناه على العدالة وقبلنا شهادته، لكن للخصم المشهود عليه أن يطعن فيه ويجرحه، ثم يعطى مهلة لإقامة البينة على جرحه، فإن ثبتت فحينئذ ترد شهادته، وهذا الذي نقوله فيمن لم تظهر عدالته وتتبين لجميع الناس، وفيمن لم يظهر فسفه وانحرافه، أما من ظهرت عدالته وصار معروفا عند الناس فهذا لا إشكال في أن الأصل في العدالة، ولهذا لو طعن أحد في الإمام أحمد وقال: لا ندري هل هو عدل فنقبل روايته أم لا؟ لا حاجة لهذا، لا حاجة أن نطلب التعديل في مثل الإمام أحمد أو نحوه من العلماء الأئمة الثقات، ولو طعن إنسان في شخص معروف بالفسق والفجور لا حاجة إلى أن نقول: هات البينة؛ لأن هذا أمر واضح للناس كلها. شهادة الزور: 1345 - وعن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه عد شهادة الزور في أكبر الكبائر». متفق عليه في حديث طويل. الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ » قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين»، وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور»، فما زال يكررها حتى قالوا ليته سكت. فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر، فما هي شهادة الزور؟ الزور مأخوذ من الازورار وهو الانحراف، وشهادة الزور: كل ما خالف الحق، فمن شهد بما يعلم أن الأمر بخلافه فهو شاهد زور، ومن شهد بما لا يعلم فهو شاهد زور، ومن شهد بما علم على الوجه الذي علم شاهد حق. فشاهد الزور قسمان: من شهد بما يعلم أن الأمر بخلافه ومن شهد بما لا يعلم، وأما شاهد الحق فهو الذي شهد بما يعلم على حسب ما علم.

مثال ذلك: رجل ادعى على شخص بألف ريال وأقام شاهدا، والشاهد يعلم أن المدعي كاذب ولكنه شاهد؛ لأن المدعي صاحب له، فالشهادة هنا شهادة زور لا شك، لأنه شهد بما بعلم أنه باطل. ومن شهد بما لا يعلم مثل أن يدعي شخص أنه سلم فلانا مائة ورقة في ظرف وعنده شخص آخر يشهد أنه أعطاه الظرف لكن لا يدري ما الذي في الظرف هل هو دراهم أو رسائل أو خرق؟ لا يدري، ولكنه لما أقيمت الدعوى شهد بأنه أعطاه ظرفا فيه الدراهم فهذا شهد شهادة زور؛ لأنه لا يعلم ما في هذا الظرف فتكون شهادته شهادة زور. وأما من شهد بالشيء الذي يعلمه على الوجه الذي يعلمه فهذا شهادته شهادة حق، إذن شهادة الزور من أكبر الكبائر لما يترتب عليها من إتلاف الأنفس والأموال والأبضاع والأعراض؛ لأن شاهد الزور لا تقتصر شهادته على أن يشهد بدرهم أو بدرهمين، ولكنه قد يشهد بما يؤدي إلى الرجم، قد يشهد بما يؤدي إلى قطع اليد، قد يشهد بما يؤدي أن ترد شهادة المشهود عليه، فلذلك كانت شهادة الزور من أكبر الكبائر، وعظم النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الزور بأمرين: بالقول والفعل، أما القول؛ فلأنه كررها حتى تمنى الصحابة أنه سكت، وأما الفعل فكان متكئا فجلس، وهذا يدل على تعظيم الأمر، أرأيت لو أن شخصا دخل عليك في البيت وأنت متكئ وأنت تعظمه ألست تقوم وتقعد لعظم من ورد عليك؟ لكن لو دخل عليك ابنك الصغير وأنت متكئ لا تهتم له، فكون الرسول صلى الله عليه وسلم متكئا فيجلس يدل على عظم الأمر وهو كذلك لما يترتب على هذه الشهادة من العظم. في هذا الحديث فوائد: أولا: ما ذكره المؤلف رحمه الله من أن شهادة الزور من أكبر الكبائر. ثانيا: أن الذنوب كبائر وصغائر، فما هو حد الكبيرة؟ اختلف العلماء في ذلك، منهم من عد الكبائر عدا ولم يذكر لها حدا، ومنهم من ذكر لها حدا، واختلفوا أيضا فقيل: ما ختم بلعنة أو غضب أو نفي إيمان فهو كبيرة، وما لم يختم بذلك فهو صغيرة. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كلامه: أن ما رتبت عليه العقوبة الخاصة فهو كبيرة؛ لأنه خص بذكر العقوبة، وما ذكر التحريم فيه أو الكراهة بدون أن تذكر له العقوبة فهو من الصغائر. ومن فوائد الحديث: أن الكبائر تختلف، فيوجد كبائر دون الأكبر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر». ومن فوائد هذا الحديث: أن شهادة الزور من أكبر الكبائر كما ذكر، لكن أعدناها لما يترتب عليها من التحذير من شهادة الزور. فإذا قال قائل: هل يجوز أن أشهد بما دلت القرينة عليه أو أشهد بالقرينة فقط؟

الشهادة على ما استيقن وبالاستفاضة

الجواب: أشهد بالقرينة فقط، يعني: لو أن إنسانا رأى شخصا صاحب دين وخلق ادعى على شخص فاسق بأنه سرق بيته فهنا القرينة تدل على أن الدعوى صحيحة؛ لأن المدعي ثقة وأمين وصاحب دين، والثاني بالعكس، هل يجوز أن تشهد بأنه سرق بيته؟ لا لكن يجب أن تشهد بالقرينة، نقول مثلا: أنا أشهد بأن هذا الرجل المدعي ثقة وأمين ولا يمكن أن يدعي ما ليس له، وأما الثاني فهو رجل فاجر بأنه يحصل منه ما شهد به عليه. فالمهم: أن ما ثبت بالقرائن لا يجوز الجزم به شهادة، ولكن يشهد به على الوجه الذي يعلمه الشاهد، بمعنى: أنه يشهد بالقرينة، والأمر بعد ذلك إلى الحاكم. الشهادة على ما استيقن وبالاستفاضة: 1346 - وعن ابن عباس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ترى الشمس؟ قال: نعم. قال: على مثلها فاشهد، أو دع». أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف، وصححه الحاكم فأخطأ. "قال لرجل" من هذا الرجل؟ نقول: لا يعنيا هذا، المهم معرفة القضية والحكم، وأما تعيين الرجل فلا شك انه زيادة علم لكنه ليس ضروريا في ثبوت الحكم، ولهذا يأتي مثل هذا كثيرا، وقوله: "ترى الشمس"، من المعلوم أن الرسول يعلم أنه يرى الشمس؛ لأنه مبصر، لكن قال ذلك ليبني عليه ما بعده وهو قوله: "على مثلها فاشهد"، وقوله: "نعم" حرف جواب، وقوله: "على مثلها فاشهد" الجار والمجرور متعلق بقوله: "اشهد" والفاء هنا مزيدة لتحسين اللفظ، ولو حذفت لاستقام الكلام بدونها، لو قال مثلا: على مثلها أشهد لاستقام الكلام، لكنها زيدت لتحسين اللفظ كزيادتها في قوله تعالى: {فإني فارهبون} [النحل: 51]. والأصل: إياي ارهبون. قال: "على مثلها أشهد أو دع" يعني: إن ظهر لك الأمر جليا كما ترى الشمس وإلا فلا تشهد، دع. المؤلف رحمه الله جزم بأن هذا الحديث إسناده ضعيف ولكنه مع ضعف إسناده إلا أن متنه صحيح كما يدل على ذلك قول الله تعالى: {إلا من شهد بالحق وهو يعلمون} [الرخرف: 86]. ولأن الشهادة: هي الإخبار عن يقين، فلابد فيها من علم متيقن، كما يتيقن الإنسان الشمس إذا رآها. فالحديث ضعيف كما قال المؤلف ونحن نقلد المؤلف في هذا، ولكن متنه صحيح، ولابد من أن يؤخذ به، في هذا الحديث على تقدير صحته-: أنه ينبغي للإنسان أن يقرب الأحكام بالأمور المحسوسة؛ لقوله: "ترى الشمس"، وذلك بأن تقريب المعقول بذكر المحسوس من حسن

القضاء باليمين والشاهد

صناعة التعليم كما قال الله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعلقها إلا العالمون} [العنكبوت: 43]. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان لا يجوز له أن يشهد إلا بما يتيقنه كما يتيقن الشمس لقوله: "على مثلها فاشهد أو دع". ومن فوائده: أنه لا تجوز الشهادة بغلبة الظن وإن قوي، وقد سبق لنا أنه إذا رأى شيئا تقوى به غلبة الظن فإنه يشهد بما رأى، والحاكم له أن يتصرف، ومثلنا لذلك برجل خرج من دكان وفي يده صره لكنه لا يعلم الذي فيها وادعى صاحب الدكان أنه حق لهذا الرجل الذي بيده الصرة قضاه، فهل يشهد بذلك مع أن ظاهر الحال والقرينة أنها هي الدراهم التي عليه؟ لكن نقول: لا يشهد، ولكن يشهد بما رأى. ومن فوائد الحديث: تعظيم أمر الشهادة وأنه يجب فيها التثبت، ولاسيما إذا كانت في أمر خطير، فإنه كلما عظم الخطر في المشهود به تعين التثبت أكثر مع أن الأمر اليسير له حقه في التحري، أي: تحريم الشهادة على ما لا يعلم، وما أسكر كثيره فقليله حرام، يعني: أن الإنسان ربما يشهد بالشيء اليسير ويقول: هذا أمر يسير أو سهل أنا أشهد وهذا ضمن المشهود عليه يقول هذا أمر نقول هذا يجره إلى الشهادة بما هو أكبر. القضاء باليمين والشاهد: 1347 - وعنه رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيني وشاهد». أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وقال: «إسناده جيد». 1348 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله أخرجه أبو داود، والترمذي، وصححه ابن حبان. "قضى" بمعنى: حكم، والقضاء هنا قضاء شرعي، وقوله: "بيمين" أي: من المدعي، و"شاهد" على ما ادعى، "شاهد"، أي: شاهد واحد، وهذا يقتضي أنه ذكر الآن شاهد اسم فاعل مذكر فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بيمين ورجل واحد. وهذا الحديث اختلف العلماء في تخريجه، أما صحته فصحيح؛ لأنه أخرجه مسلم، وقد جوده النسائي فهو صحيح، لكن حكمه قال بعض أهل العلم: إنه غير مقبول؛ لأنه خبر آحاد،

والقرآن ظاهره يعارضه لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة: 282]. ولم يقل: رجل ويمين، وعلى هذا فيكون غير مقبول لمعارضته القرآن، ولكن الصحيح أن الحديث صحيح السند والمتن وأنه يجب العمل به، وأن هذا القضاء موافق للقياس تماما؛ وذلك لأنه إذا شهد مع المدعي شاهد واحد قوى جانبه بلا شك لكن الشاهد الواحد لا يقوى على ثبوت الحكم، فأكد ذلك بيمين المدعي، واليمين إنما تكون في جانب أقوى المتداعيين ليست على المدعى عليه دائما، بل قد تكون في جانب المدعي إذا قوى جانبه، وهذا المدعي الذي أقام شاهدا قوي جانبه، فلما قوي جانبه بدعواه أكدت هذه القوة باليمين، كذلك المدعى عليه، فلو ادعى شخص على آخر بشيء وأنكره فإننا نحكم ببراءة المدعى عليه بيمينه؛ وذلك لأن جانبه أقوى؛ حيث إن الأصل عدن ثبوت ما ادعاه المدعي، فيكون هذا الحديث موافقا تماما للقياس. وأما إذا أقام المدعي شاهدين فإننا نحكم له بذلك وإن لم يحلف؛ لأنه لا يحتاج إلى اليمين لما تم النصاب. وخلاصة القول: أن هذا الحكم مطابق للأصول تماما، ووجه المطابقة أن المدعي لما أقام الشاهد قوى جانبه، والقياس أن اليمين تكون في جانب أقوى المتداعيين سواء كان هو المدعي أو المدعى عليه، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم اليمين على المنكر إذا لم يقم المدعي بينة لقوة جانبه بالأصل، فإن الأصل عدم صحة ما ادعى عليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في القسامة في جانب المدعين؛ لأن جانبهم قوي بالعداوة التي كانت بينهم وبين المدعى عليهم. والقسامة أن يدعي قوم على قبيلة أخرى أنهم قتلوا صاحبهم وبين القبيلتين عداوة، فهنا إذا حلف خمسون من المدعين على عين المدعى عليه حكم بأيمانه بدون أن يقيموا أدنى بينة. فإذا قال قائل: كيف نجيب عن الآية؟ نقول: إن الآية ليست في الحكم، الآية في الاستشهاد، فالمطلوب من الإنسان إذا استشهد أن يستشهد برجلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، حتى لا يحتاج فيما بعد إلى اليمين، لأنه لو استشهد واحدا احتاج إلى أن يحلف معه ليثبت ما ادعاه، لكن إذا استشهد اثنين لم يحتج إلى اليمين، فالآية في الابتداء؛ أي: في الاستشهاد وليست في الأداء، أي: في أداء الشهادة، ولما انفكت الجهة انفك التعارض، فلم يكن بين الآية والحديث أي تعارض، لأن كل واحد منهما له جهة. فالإنسان عند إثبات الحقوق نقول له: اختر أعلى المراتب، وهي: أن نستشهد رجلين فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، ألم تروا إلى الرهن إذا كان الإنسان في السفر ولم يجد كاتبا

وأراد أن يأخذ رهنا يوثق دينه، قال الله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة: 283]. لأنه لا يتم توثيق الدين إلا إذا قبض الرهن، فلذلك أرشد الله تعالى إلى أعلى الحالين وهي الرهن المقبوض، ومع أن الرهن يثبت ويلزم وإن لم يقبض على القول الراجح. إذن يستفاد من هذا الحديث: جواز الحكم بالشاهد الواحد بالإضافة إلى يمين المدعي، ولكن هل نبدأ بالشاهد أو نبدأ باليمين؟ نقول: ما دمنا قلنا: إن اليمين شرعت لقوة جانب المدعي فإننا نبدأ بالشاهد أولا فنقول: أشهد فإذا شهد قلنا للمدعي: احلف على ما شهد به فإذا حلف حكمنا له بذلك، وهذا الحكم في الأموال وغير الأموال، يعني: في كل شيء حتى لو ادعى عليه ما يوجب القصاص. يقول العلماء: هذا في الأموال فقط أما ما يوجب القصاص فلابد فيه من التحري وأن يكون ذلك بشهادة رجلين. وبمناسبة هذا الحديث ينبغي أن نبين أن البينات في الشهود تنقسم إلى أقسام: الأول: ما يشترط فيه أربعة رجال عدول، وذلك في الزنا واللواط والإقرار بهما، فلابد من أربعة شهود عدول كما قال الله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور: 13]. وعلى هذا فلو شهد أربع نساء على زنا رجل أو امرأة لم تقبل شهادتهم، ولا ثمان نساء ولا ثمانين امرأة، لا تقبل لابد من أربعة رجال عدول: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات} [النور: 6]. الثاني: ما يشترط فيه ثلاثة رجال وهو من سأل لعثرته بعد اشتهاره بالغنى، رجل مشهور بالغنى ثم جاء يسأل من الزكاة فإننا لا نقبل منه حتى يأتي بثلاثة شهود رجال عقلاء ممن يعرفون حاله كما في حديث قبيصة: "حتى يقوم ثلاثة رجال من ذوي الحجى من قومه". الثالث: رجلان، وذلك في الحقوق غير المالية وما يقصد به المال كحد السرقة مثلا، حد القذف، القصاص، وما أشبه ذلك، هذا لابد فيه من رجلين، وهل تقوم المرأتان مقام رجل؟ لا، أو أربع مقام رجلين؟ لا، هذا هو المشهور من المذهب، وقيل: إن المرأتين تقومان مقام الرجل في كل شهادة ما عدا الزنا والإقرار به واللواط والإقرار به. الرابع: رجلان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعي، هذا أوسع الشهادات، وهذا في المال وما يقصد به المال، في المال كما لو ادعى شخص على أن له في ذمته ألف ريال وأتى برجلين [هل] يحكم له بذلك؟ نعم، أتى برجل وامرأتين؟ يحكم له، برجل ويمينه؟ يحكم له، هذا في المال، وأما ما يقصد به المال كالرهن، مثلا: ادعى شخص أن فلانا رهنه بيته في دين عليه وأقام شاهدين يثبت الرهن، شاهدا وامرأتين يثبت الرهن، شاهدا ويمين المدعي يثبت

2 - باب الدعاوي والبينات

الرهن، وكذلك لو ادعى أنه اشترط الخيار في البيع أو ما أشبه ذلك هذا هو المال وما يقصد به المال. الخامس: أن يكتفي فيه بواحد من رجل أو امرأة، وذلك فيما لا يطلع عليه إلا النساء غالبا كالولادة، واستهلال الحمل إذا سقط، وكذلك ما ذكره الفقهاء ما يحصل في العرف من إتلاف أموال أو شبهها، قالوا: إن هذا يكفي فيه امرأة واحدة والرجل أولى بالقبول من المرأة، وكذلك الرضاع لو شهدت امرأة أنها أرضعت هذا الطفل، أو أن فلانة أرضعت هذا الطفل يقبل فيه امرأة واحدة، والاستهلال: أن تشهد القابلة التي تولت توليد المرأة بأن الحمل استهل صارخا، فتقبل شهادتها لأجل أن يستحق من الميراث. السادس: اليمين المجردة مع القرائن، وذلك فيما إذا قوي جانب المدعي، كما في القسامة، وكما لو ادعى شخص على آخر أن الغترة التي معه له، يعني: رأينا رجلين أحدهما هارب والثاني طالب، الهارب عليه غترة وبيده غترة والطالب ليس عليه شيء، الطالب يقول: هات غترتي، والثاني يقول: ليست لك هي بيدي، فهنا نقبل دعوى المدعي لكن باليمين لقوة جانبه. * * * * باب الدعاوي والبينات قال المؤلف رحمه الله: باب الدعاوى، ويجوز الدعاوي؛ لأن فعلى تجمع على فعالي وفعالى كالفتاوى والفتاوي والصحارى والصحاري. يقول: الدعاوى وهي جمع دعوى، والدعوى أن يضيف الإنسان إلى نفسه حقا على غيره، عكسها: الإقرار، والإقرار: أن يضيف الإنسان حقا لغيره على نفسه، وبقيت الشهادة وهي أن يضيف الإنسان حقا لغيره على غيره، وهذه القسمة ثلاثة: إما أن تضيف حقا لنفسك على غيرك، وهذه دعوى، أو حقا لغيرك على نفسك فهذا إقرار، أو حقا لغيرك على عيرك، هذه شهادة. أما البينات فهي: جمع بينة، والبينة هي: ما يظهر به الحق ويبين به الحق، وهي أقسام: إما بينات خارجية، وإما بينات حالية كالقرائن، وإما بينات على البراءة الأصلية كإنكار المنكر. المهم: أن البينات جمع بينة، وهي ما يبين به الحق سواء كانت شهودا أو إقرارا أو إنكار أو غير ذلك، المهم أنه كل ما بان به الحق فهو بينة، ومن ذلك العمل بالقرائن، كما عمل شاهد يوسف بالقرينة فقال: {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين} [يوسف: 26 - 27].

البينة على المدعي واليمين على من أنكر

البينة على المدعي واليمين على من أنكر: 1349 - عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس ردماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه». متفق عليه. قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم»، يعني: لو أن الإنسان كلما ادعى شيئا أعطي ما ادعاه لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، دماء رجال بأن يقول: فلان قتل ابني من أجل أن يقتل، وأموالهم بأن يقول: فلان سرق مني كذا وكذا أو استعار مني كذا وجحدها، وكذلك الحقوق، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدماء والأموال؛ لأنها الأصل، والحقوق تابعة. قوله: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم"، قال: "ولكن اليمين على المدعى عليه"، والمدعي بينه في الحديث الذي بعده. 1350 - وللبيهقي بإسناد صحيح: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكره". وقوله: "لو يعطى الناس بدعواهم"، اعلم أن الدعوى تنقسم إلى قسمين: دعوى مستحيل، يعني: دعوى شيء مستحيل، وهذه لا تسمع أصلا، ولا يلتفت لها القاضي ويصرف المدعي فورا دون أن يطالبه ببينة وغيرها، وهو أن يدعي شيئا مستحيلا مثل أن يدعي أن هذا ابنه والمدعي له عشرون والمدعى به له خمس عشرة سنة، فهنا لا تسمع الدعوى ولا يشكل القاضي لها جلسة ولا يلتفت إليها. والقسم الثاني: دعوى شيء ممكن لكن الأصل عدمه هذا هو الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ادعى شخص على آخر دما أو مالا أو حقا من الحقوق، فإننا نقول للمدعى عليه أولا: هل تقر بهذا؟ إن قال: نعم قال إشكال، وإن قال: لا، قلنا للمدعي: ألك بينة؟ إن قال: نعم، قلنا: أحضرها، وإن قال: لا، قلنا للمدعى عليه: احلف، فإذا حلف انتهت القضية، ولكن ليس معنى هذا الحلف أنه لو تبين فيما بعد أن هناك بينة، فإنه لا يحلف المدعى عليه، بل إن اليمين لقطع الخصومة الحاضرة فقط، فلا يكون للمدعي دعوى على من أنكر إذا حلف، لكن لو تبين فيما بعد أن الحق مع المدعي ببينة أو غير ذلك، فإن اليمين لا تكون مزيلة للحق إذا ترتب الدعوى.

حضر رجلان إلى القاضي، فقال أحدهما: إنني أطالب هذا الرجل بألف ريال، هذا مدع ماذا يعمل القاضي؟ يسأل المدعى عليه ويقول: أتقر بهذا؟ إن قال: نعم، انتهت القضية وحكم بإقراره، لكن هذا في الغالب لا يكون إلا حيلة لشيء ما، مثل أن يكون للمدعى عليه ديون لبعض الناس، فيريد أن يتفق مع صاحب له ويقول: أنا سأدعي عليك بدين وأقر به لأجل أن يزاحم الغرماء الآخرين، وإلا ليس من المعقول أن يحضر مدع ومدعى عليه ثم بمجرد ما يقول: أطالبه مائة درهم يقول: نعم، تفضل، هذا بعيد جدا، لكن ربما تكون حيلة، لكن على كل حال إذا أقر انتهت القضية، وحكم بالإقرار، وإن قال: لا، ليس بصادق، ولا حق له عندي، رجعنا للمدعي وقلنا: ألك بينة؟ إن قال: لا، رددنا إلى المدعى عليه، وقلنا: احلف أن فلانا ليس له حق عليك، فإذا حلف برئ وخلى سبيله، وإن أقام المدعي بينة بعد ذلك فهل تقبل؟ نقول: إن كان قد قال: لا أعلم لي بينة ثم أقامها فإنها تقبل؛ لأنه من الجائز أن تكون البينة شهدت وهو لا يعلم أو شهدت بإقرار المدعى عليه وهو لا يعلم بذلك أو كان نسيها. المهم: أنه إذا نسي العلم بالبينة ثم أقامها بعد تقبل، لأنه لا منافاة بين نفي العلم وبين إقامة البينة، وأما إذا قال: ليس لي بينة ثم أقام بعد ذلك بينة فإنها لا تقبل، وعلل الفقهاء ذلك بأن إقامتها بعد نفيها تناقض فيكون كلامه الثاني مكذبا لكلامه الأول فلا يقبل، ولكن هذا القول متوجه فيما إذا كان المدعي يعرف الفرق بين قوله: لا أعلم، وقوله: ليس لي بينة، وغالب العامة لا يفرقون بين قولهم: لا أعلم لي بينة، وقولهم: ليس لي بينة، وكونه له بينة لا يعلمها يرد كثيرا إما أن يكون البينة تسمع لإقرار في عدم حضور المدعي أو ما أشبه ذلك. وقوله: "اليمين على المدعى عليه" ظاهر الحديث أن ذلك في كل دعوى، بمعنى: أننا نوجه اليمين في كل مدعى عليه، سواء كان الذي ادعي به عليه من الأمور المالية أو التي يقصد بها المال أو من الأمور الدموية أو من الحقوق، فإن اليمين على المدعى عليه، إذا أبى وقال: لا أحلف، إما أن يأتي ببينة وإلا قضي عليه؛ لأنه قد يكون هذا الرجل يغير على الناس ويدعي عليهم ويحضرهم إلى القاضي ويهدم شرفهم ثم يقول الرجل: لا أحلف، قال العلماء: إذا لم يحلف قضي عليه، لأننا نقول له: لماذا تمتنع من اليمين أحلف إن كنت صادقا فإن اليمين لا يضرك وإن كنت كاذبا فعليك الإثم، وكونك تمتنع عن اليمين يدل على أن المدعي صادق وإلا فما يضرك؟ لا يضرك شيء.

لكن الفقهاء -رحمهم الله- خصصوا هذا العموم بما إذا كان الأمر مما يقضى فيه النكول، وأما إذا كان لا يقضى فيه بالنكول، فإنه لا يلزم المدعى عليه الحلف، مثاله: لو أن رجلا ادعى على امرأة أنها زوجته وقال: هذه زوجتي فقالت: لا، لست بزوجة له، فعلى ظاهر الحديث نقول للمدعي: هات البينة؛ لأن المرأة أنكرت، فإذا قال: ليس عندي بينة أو قال: عندي بينة وفقدت أو جنت أو ما أشبه ذلك، ماذا نعمل؟ نوجه -على ظاهر الحديث- الدعوى إلى المرأة ونقول: احلفي أنه ليس زوجك، إذا أبت وقالت: لا أحلف هل يقضى عليها بالنكول؟ لا، لكن ظاهر الحديث أنه يقضى عليها بالنكول؛ لأن الرسول جعل اليمين هي التي نتفي الدعوى، وهذا فيه نظر -أعني: أن نجعل الحديث عاما - لأن في هذا مفاسد كثيرة. فقد يكون بعض الناس تتحرج أو تتورع أن تحلف وإن كانت صادقة فيحصل بذلك شر كثير؛ ولهذا خصها الفقهاء -رحمهم الله- بما إذا كان الدعوى لا يقضى فيها بالنكول، فإذا كان لا يقضى فيها بالنكول، فإنه إذا نكل المدعى عليه لم يحكم عليه بمقتضى دعوى المدعي. البينة ذكرنا أنها كل ما بان به الحق سواء كانت بينة منفصلة كالشاهدين مثلا أو بينة بالقرائن والأحوال، وهو كذلك، وقد مر علينا مثال من هذا وهو القضاء بالشاهد واليمين قلنا: الشاهد وحده لا يكفي، لكنه عزز باليمين لما رجح جانب المدعي بالشاهد صار اليمين مقررا لدعواه. وهذا الحديث يستفاد منه فوائد: أولا: سد باب الفساد لقوله: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم"، وهذه هي قواعد الشريعة العامة، لأن الشريعة إنما جاءت باستجلاب المصالح ودفع المفاسد وتأمل هذا في جميع مشروعاتها. ثانيا: ظاهر الحديث أن الدعوى مقبولة بأي حال كان، وقد ذكرنا أن ذلك مشروط فيما إذا كانت الدعوى ممكنة، فأما دعوى المستحيل فإنها لا [تقبل]، وضربنا لذلك مثلا. ولكن هل من المستحيل ما يستحيل عادة بحسب مقام المدعى عليه؟ إذا فرضنا أن رجلا من الناس قال: إن الملك اشترى مني حزمة علف هل يمكن هذا عادة؟ لا، جاء بالملك عند القاضي قال: هذا اشترى مني حزمة علف بربع ريال، يعني: فرضا، هل نقول: إن المستحيل ما استحال عادة وواقعا؟ يرى الإمام مالك رحمه الله أن الدعوى على مثل هؤلاء بمثل هذا الشيء الصغير لا تقيل، لكن لو ادعى أن يستولي الأمير أو الوزير على مثل هذا، وما ذهب إليه الإمام مالك هو الصواب؛ لأننا لو قبلنا سماع الدعوى على مثل هؤلاء بمثل هذه الأشياء الزهيدة لحصل في ذلك مضرة، كل إنسان ادعى على إنسان ذي شرف وجاه، ويريد أن يحطم شرفه

القرعة بين الخصوم في اليمين

وجاهه يدعي عليه ويحضره للقاضي، وربما إذا امتنع أرسلوا إليه الشرط يحضرونه وهذه مشكلة، فما ذهب إليه الإمام مالك لا شك أنه قول قوي جدا. ومن فوائد الحديث: أن كل دعوى لابد فيها من بينة، وهذا وإن كان في الخصومات بين الناس، لكل يشمل حتى في الأحكام الشرعية، أي إنسان يدعي أن هذا حرام أو هذا حلال أو هذا واجب، فإننا نقول: له هات البينة، وما هي بينة التحليل والتحريم والإيجاب؟ الأدلة وهي أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس الصحيح، فلابد لكل مدع من بينة. ومن فوائد هذا الحديث: أن البينة هنا مطلقة، ولكنها ذكرنا أنها ما يبين به الحق على حسب ما رتب في الشرع، فمثلا: بينة الزنا أربعة أشياء، بينة مدعي الفقر بعد [أن كان غنيا] ثلاثة، بينة السرقة من أجل القطع شاهدان ومن أجل ضمان المال شاهدان أو شاهد وامرأتان أو شاهد ويمين حسب ما ذكرنا سابقا. القرعة بين الخصوم في اليمين: 1351 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين، فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين، أيهم يحلف». رواه البخاري. صورة هذا الحديث أن اليمين توجهت على جماعة كل منهم يريد أن يحلف، فأقرع بينهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا ظاهر، ويحتمل أن تكون الدعوى بين خصمين متكافئين لا يترجح أحدهما على الآخر؛ أي: ليس هناك مدع ومدعى عليه، فأسرع أحدهما إلى اليمين ليكون بريئا، فالمسألة تحتمل هذا وهذا، لكن الذي يظهر ويقرب من الأدلة هو أن اليمين توجهت على جماعة؛ يعني: رجل ادعى على جماعة فأسرعوا أيهم الذي يحلف، كل واحد يقول: أنا أحلف دونكم، أنا أحلف حتى أبرئكم كلكم فيسهم بينهم. ويوجد صورة ثالثة وهي: أن يدعي اثنان عينا بيد غيرهما، والتي في يده لا يدعيها؛ لأنه لو ادعاها لكان عليهما البينة لكنه لا يدعيها، يقول: أنا أعطاها لي رجل لا أذكره، فهنا العين المدعى بها بيد ثالث، كلاهما يقول: أنا أحلف أنها لي، هذا يقول: أنا أحلف أنها لي، وهذا يقول: أنا أحلف أنها لي، فهنا يسهم بينهما، لكن إن جرى صلح فالصلح خير؛ بأن تباع العين. ويقسم بينهما إن لم يكن قسمتها هي بنفسها فتقسم، ولكن إذا كان لا يمكن أن تنقسم كالنعل لا يمكن أن ينقسم بين اثنين، لو أعطينا أحدهما نعلا والآخر نعلا لا يستفيد أحدهما، إذ لابد من بيعها ثم تقسم، فإن قال: أنا أدعي بها كاملة والثاني قال: أنا أدعي بها كاملة ولا

يمكن أن أرخص لهذا أن يشاركني فيها، اضطررنا الآن إلى القرعة، وهذه أوضح من الصورتين اللتين ذكرتهما؛ أولا: لأنها واضحة وهي ما إذا كانت العين المدعى بها بيد ثالث وأراد كل منهما أن يحلف ليأخذها فنقول إن اصطلحا على شيء من أي نوع من الصلح ما لم يحرم حلالا أو يحلل حراما فعلى ما اصطلحا وإلا أقرع بينهما، فمن قرع فهي له. ففي هذا الحديث: عرض اليمين عليه اليمين فإنه لا عبرة بحلفه كما قاله الفقهاء -رحمهم الله-[حيث] قالوا لا عبرة بحلف المنكر ما لك يعرضها عليها القاضي. ومن فوائد الحديث: جواز القرعة إذا اشتبه الأحق من غيره فإنه لابد للتمييز من القرعة، يعني: إذا تعذر التمييز بغير القرعة فلابد من القرعة، وقد جاءت القرعة في القرآن في موضعين: الموضع الأول: قصة يونس لما ركب السفينة وكانت محملة كثيرا، فاضطروا أن يلقوا بعض الركاب فساهم فكان هو من الذين يلقون في البحر. والثاني: قوله تعالى: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكقل مريم} [آل عمران: 44]. والله عز وجل إذا حكى لنا ما سبق من أفعال الأمم فهو دليل على أنه جائز. أما في السنة فقد جاءت في مواضع منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجلين يتشاحنان على الأذان يستهما، وكذلك على الصف الأول. "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا"، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، وفي استعمال القرعة فائدة وهي: أنه إذا تعذر التعيين رجعنا إلى القرعة. فإن قال قائل: القرعة فيها غرر. قلنا: لكن هذا الغرر بالتساوي لا يختلف أحدهما عن الآخر ولابد منه، ولهذا لو كان متاع بين شخصين على المناصفة وقسماه ثلثين وثلثا ثم قالا: نقرع أينا يكون له الثلث وأينا يكون له الثلثان، هذا لا يجوز هذا ميسر؛ لأنه إذا قرع صاحب الثلث أخذ دون ماله ويأخذ صاحب الثلثين أكثر من ماله، أما إذا كان الأمر بالتساوي فإنه لابد من ذلك.

غضب الله على من أخذ مال غيره بغير حق

ومن فوائد الحديث: جواز المساهمة في الحقوق، لأن هذا مساهمة أيهم أحق باليمين وهو أيضا ثابت كما كان النبي إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، وإذا جاز في الأموال ففي الحقوق من باب أولى. بالنسبة للقرعة كيف تكون؟ تكون القرعة بطرق كثيرة معروفة، منها: ما كنا نستعمله سابقا في المبايعات بأن يجعل أحدنا في يده نواة تمر وفي اليد الأخرى حصاة فيقول: من وقع اختياره على النواة فهو الغارم، ومن وقع على الحصاة فهو المغروم، أو أن يجعل ذلك بالأوراق بأن يكتب مثلا (مستحقا)، غير مستحق، أو أن يكتب (مستحقا)، ويترك بقية الأوراق بيضاء، المهم: ليس لها طريق معين. غضب الله على من أخذ مال غيره بغير حق: 1352 - وعن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك». رواه مسلم. "من اقتطع" جملة شرطية، فعل الشرط هو: "اقتطع"، وجوابه: "فقد أوجب الله"، وإنما اقترن جواب الشرط بالفاء؛ لأنه مقرون بـ"قد"، و"قد" إذا كانت في جواب الشرط فإنه يجب أن يؤتى قبلها بالفاء كصاحبتها وهن المجموعات في قول الناظم. (اسمية طلبية وبجامد ... وبما وقد وبلن وبالتنفيس) وقوله: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه" أي: يحلف، وهذا له صورتان: الصورة الأولى: أن يدعي شيئا ويأتي بشاهد ويحلف معه وهو يعلم أنه كاذب، فهنا اقتطع حقا؛ لأنه استباح ماله بيمين كاذبة. والصورة الثانية: في مقام الدفاع بأن يكون على شخص حق ثم ينكره وليس للمدعي بينة، فهنا سوف يحلف المدعى عليه ويخلى سبيله، فيكون قد اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق، إذا لها صورتان الصورة الأولى في دعوى ما ليس له، والصورة الثانية في إنكار ما يجب عليه، وكلاهما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنهما: «فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة»، أوجبها له؛ أي: جعله مستحقا لها؛ لأنه لما فعل هذا الأمر العظيم فكان بذلك انتهك حرمتين:

الحرمة الأولى: حرمة الرب عز وجل حيث حلف به كاذبا، والحرمة الثانية حرمة صاحب الحق، ومن أجل ذلك صار وعيده هذا الوعيد الشديد، "وحرم عليه الجنة" أي: حرم عليه دخولها، "فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا؟ "، أي: وإن كان الحق الذي اقتطعه شيئا يسيرا، قال: و"وإن كان قضيبا من أراك"، الأراك: هو شجر السواك، وقوله: "قضيبا" يعني: ما يقضب باليد، وظاهره: ولو كان عودا واحدا، وإنما قال الرسول: «وإن كان قضيبا من أراك" مبالغة في القلة وعدم المبالاة به؛ لأن أكثر الناس لا يبالون بالسواك وما أشبه ذلك، فالمعنى: اقتطع مال امرئ مسلم ولو كان يسيرا ... فهذا جزاؤه. في هذا الحديث فوائد: منها: ما ساقه المؤلف من أجله، وهو أن الإنسان قد يستحق بدعواه شيئا بيمينه، ولو صورتان: دعوى ما ليس له، أو إنكار ما يجب عليه. ومن فوائد الحديث: أن هذا النوع من الدعوى واليمين من كبائر الذنوب، وجه الدلالة: أنه رتبت عليه هذه العقوبة العظيمة، وكل ذنب رتبت عليه عقوبة دينية أو دنيوية، فإنه من كبائر الذنوب، وتعظم هذه الكبيرة بحسب ما فيها أو بحسب ما رتب عليها من العقوبة، فكل ما كانت عقوبته أعظم كان أكبر وأكبر. ومن فوائد الحديث: أن فاعل الكبيرة لا يدخل الجنة بل هو مخلد في النار لقوله: "أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة"، وبهذا استدلت المعتزلة والخوارج -فقد استدلوا بهذا الحديث وما أشبهه من النصوص -على أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، أخذا بظاهر النص وإعراضا عن بقية النصوص، وهكذا كل إنسان مبطل يأخذ من النصوص بجانب ويدع الجانب الآخر فينظر إلى النصوص بأعين عوراء لا يرى إلا من جانب واحد. على كل حال: لو سألنا سائل: ما ظاهر هذا الحديث، أيوافق ما استدل به المعتزلة والخوارج أم لا؟ لقلنا: يوافق، كلام الرسول صلى الله عليه وسلم محكم وهو خبر لا يحتمل الكذب، "فأوجب الله له النار وحرم عليه الجنة"، ولكن يجب أن نعلم أن الشريعة كلها دليل واحد لابد أن يقيد بعضه بعضا، وأن يخصص بعضه بعضا لا نأخذ بجانب وندع الجانب الآخر، فنكون ممن قال الله تعالى عنهم: {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض} [النساء: 150]. الأدلة الشرعية كلها كتلة واحدة فيجب أن يقيد مطلقها وأن يخصص عامها بمخصصها؛ لأنها دليل واحد.

وعلى هذا فنقول خرج هذا مخرج الوعيد، وما خرج مخرج الوعيد فلا بأس من أن يؤتى به على سبيل الإطلاق تنفيذا للنفس عنه؛ لأن النفس إذا سمعت هذه الكلمة نفرت وهربت من أن تعمل هذا، ونظير ذلك فيما يجري بيننا، ومنه: أن تقول الأم لودها: لئن فعلت كذا وكذا لأفعلن بك كذا وكذا من العقوبة، وهي في نفس الوقت لن تفعل، لكن باب الترهيب شيء آخر، قد يقول: هذا فيمن استحل ذلك وإن لم يفعل استحق هذا الوعيد، ولهذا لما ذكر للإمام أحمد رحمه الله في آية وعيد قاتل المؤمن عمدا أنها فيمن استحل ذلك ضحك تعجبا قال كيف هذا إنه إذا استحل قتل المؤمن عمدا فهو كافر سواء قتل أم لم يقتل. ونظير ذلك من قال: إن تارك الصلاة يكفر إذا تركها جاحدا لوجوبها، فهذا جواب مضحك؛ لأنه إذا جحد وجوبها فهو كافر ولو صلى فريضة وتطوعا، إذن لا يصح هذا التخريج، تخريج هذا الحديث على من استحل ذلك، لماذا لا يصح؟ لأن مستحله يستحق هذه العقوبة سواء فعل أم لم يفعل. جواب ثالث: أن هذا سبب يعني أن من اقتطع مال امرئ مسلم وهو فيها فاجر سبب لذلك؛ أي: لكونه تحرم عليه الجنة وتجب له النار، والأسباب لا تنفذ إلا بانتفاء الموانع، والمانع هنا هو الإيمان المانع من كونه تحرم الجنة عليه وتجب له النار، فيكون هذا كقولنا في الإرث مثلا القرابة سبب للإرث، الأب يرث من الابن والابن يرث من أبيه، لكن إذا وجد مانع امتنع الإرث لا لفوات سببه ولكن لوجود مانعه هذا، والأول هو أحسن الأجوبة أن يقال: لإنه خرج مخرج الوعيد من أجل قوة النفور عنه، أو يقال: هذا بيان لكون هذا الشيء سببا، والسبب قد يختلف لوجود مانع. 1353 - وعن الأشعث بن قيس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين، يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر؛ لقي الله وهو عليه غضبان». متفق عليه. "على" هنا بمعنى الباء، ويعني: من حلف بيمين، فهذا كحديث الذي قبله فيه الوعيد على من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، لكن الحديث الأول أعم؛ لأنه قال: "اقتطع حق امرئ"، والحق أعم من المال، إذ أن الحقوق قد تكون غير مالية، وقوله "امرئ مسلم" نقول فيها كما سبق بأن هذا القيد بناء على الأغلب، وإلا فكل مال معصوم، ولو لم يكن مال مسلم، فإنه يحرم أن يحلف الإنسان على اقتطاعه؛ لأنه مال محترم، وعلى هذا فمال المعاهد

محترم لا تجوز سرقته ولا ادعاؤه بباطل ولا الحلف عليه، ولكن هل نقول: إن من اقتطع مال معاهد بيمينه يستحق هذا العقاب المذكور في الحديثين، أو نقول: إنه لا شك أنه يعاقب ويأثم حيث اعتدى على حق معصوم لكن لا يستحق هذه العقوبة؟ فيها خلاف، بعضهم يقول بالثاني؛ أي: يقول: إن هذا الوعيد الخاص فيمن اقتطع ذلك من مسلم، وأما من اقتطعه من معاهد فلا شك أنه آثم ولكنه لا يستحق هذا الوعيد، وبعضهم قال: إن هذا قد أغلبي ولا عبرة به، لأن القاعدة الأصولية أن كل قيد أغلبي فإنه ليس له مفهوم. ثم إنه إذا كان هذا في المسلم فإنه يكون في الذمي؛ لأن الذمي إذا أهين صار فيه إخفار للذمة والعهد، وإخفار الذمة والعهد من صفات المنافقين. على كل حال: لا يجزم الإنسان بأن هذا الوعيد الذي حصل لمن اقتطع من مال امرئ مسلم يكون كذلك لمال المعاهد والمستأمن والذمي، لكنه يخشى أن يكون كذلك، وقوله "هو بها فاجر" الجملة هنا حالية، حال من فاعل "يقتطع" أو من فاعل "حلف" وهو الأقرب، يعني: من حلف حال كونه فاجرا، والفاجر هو الكاذب، "لقى الله"، يعني: يوم القيامة، "وهو عليه غضبان"، ويحتمل أن يكون اللقاء بعد الموت مباشرة؛ لأن من مات انتقل إلى الآخرة، لكن الظاهر الأول، وقوله "وهو عليه"، "هو" الضمير يعود على الله، "عليه" الضمير يعود على المقتطع، "غضبان" الوصف هذا لله عز وجل. في هذا الحديث فوائد: منها: أن اليمين قد يكون سببا للاستحقاق ولو ظاهرا، وله صورتان كما سبق. ثانيا: وجوب احترام أموال المسلمين وعدم العدوان عليها. ثالثا: أن الحالف قد يكون صادقا، وقد يكون كاذبا، بدليل -هو فيها فاجر- ولو لم يكن ينقسم ما احتيج إلى القيد. ويستفاد من الحديث: إثبات ملاقاة الله عز وجل، وقد جاء في القرآن في عدة مواضع: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} [الانشقاق: 6] {واتقوا الله واعلموا أنكم ملقوه وبشر المؤمنين} [البقرة: 223]. هذا فيه أمر وخبر وبشارة {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} لكن لا تخافوا من هذه الملاقاة إن كنتم مؤمنين، ولهذا قال: {وبشر المؤمنين} أما من لم يكن مؤمنا - والعياذ بالله - فسيلقى جزاءه الأوفى. مسألة: وهل يستفاد من الملاقاة رؤية الله؟ الجواب: لا، لا يلزم من الملاقاة الرؤية فيما سيظهر، وإن كان بعض العلماء قال: إنه يلزم من الملاقاة الرؤية؛ لأن من لم يرك ولو خاطبك فإنه لم يلاقك، ولهذا تجدون المهاتفة في الهاتف لا تعد ملاقاة مع أنه يخاطبك، فإن كان في

ذلك دليل على رؤية الله عز وجل فهذا المطلوب، وإن لم يكن فالأدلة -والحمد لله- متوافرة سوى هذا. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات الغضب لله لقوله: "وهو عليه غضبان"، والله تعالى بوصف بالغضب، ويوصف بالرضا، ويوصف بالسخط، ويوصف بالكراهية، وبوصف بالمقت، ويوصف بالبغض، لكن في محله، فما هو الغضب؟ قال أهل التحريف: الغضب هو الانتقام، أو إرادة الانتقام، وقال السلف وأهل الحق: الغضب وصف يليق الله عز وجل من آثاره الانتقام، وليس الانتقام هو الغضب بل هو وصف زائد على الانتقام، انظر كيف فسروا الغضب الانتقام، لأن الانتقام منفصل عن الباري عز وجل، إذ هو عقوبة منفصلة لا تتعلق بالذات، وهو لا يمنعون أن يكون هناك عقوبة منفصلة عن الله لا تتعلق بذاته الانتقام، لأنهم يثبتون الإرادة ويقولون: لا بأس أن يوصف الله بالإرادة لكن الغضب لا، أما نحن فنقول: إن لله غضبا هو وصفه عز وجل كما يليق بجلاله، ولا يمكن أن يفسر بالانتقام، لأن الله تعالى قال: {فلما ءاسفونا أنتقاما منهم} [الزخرف: 55]. وأسفونا بمعنى: أغضبونا، وليس المعنى: ألحقوا بنا الأسف الذي هو الحزن، بل آسفونا: أغضبونا فانتقمنا منهم. إذن لو غضب بمعنى الانتقام لكان معنى الآية: فلما انتقمنا منهم انتقمنا منهم، وهذا كلام عبث ينزه عنه كلام الخالق عز وجل إذن الغضب ليس الانتقام بل هو شيء زائد على الانتقام. ما حجة الذين ينكرون أن بوصف الله بالغضب؟ حجتهم مبنية على مصدر تلقي صفات الله من أين تتلقى؟ هم يرون أن تتلقى من العقل، ولهذا كانت القاعدة عندهم فيما يثبت وينفى عن الله كما يلي: ما دل العقل على ثبوته فأثبته سواء وجدته في القرآن والسنة أم لم تجده، إذا لم أجده يكون هذا من باب من افترى على الله كذبا، وقال على الله ما لا يعلم، هم يقولون: لا بأس ما دام العقل دل على هذا أثبته. القاعدة الثانية: وما نفاه العقل فانفه ولا تثبته؛ لأن الله لا يوصف بما ينافي العقل. القاعدة الثالثة: وما لم يقتض إثباته ولا نفيه فماذا نفعل؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أكثرهم نفاه؛ لأن القاعدة عندهم لابد من دليل إيجابي على ثبوته فإن لم يدل على ثبوته فلا تثبته، هذه قاعدة أكثرهم، وعلى هذا فما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه فإن أكثرهم ينفيه ولا يصدق به حتى ولو كان في كتاب الله بأصرح العبارة أو في كلام رسوله، وبعضهم توقف فيه. أيهم الأقرب للورع -ولا ورع عندهم-؟ المتوقف، لكنه ليس ورعا؛ لأن الورع حقيقة أن يثبت ما أثبته الله لنفسه سواء اقتضاه عقله أو لم يقتضه، نحن نقول: إن الله تعالى يغضب، ولكن هل يمكن لقائل أن يقول الغضب صفة نقص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل قال: أوصني، قال: "لا

الحكم بحسب البينة

تغضب" فقال أوصني قال: "لا تغضب"، قال: أوصني، قال: "لا تغضب"، ردد مرارا قال: لا تغضب، وإذا كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه ألا يغضب فإنه لن يوصيه بشيء يكون كمالا بل لابد أن يكون ناقصا فيكف يوصف الله به؟ قلنا: إن قسنا غضب الله بغضب الإنسان فهو نقص لا شك؛ لأن الإنسان إذا غضب تصرف المجنون ربما يقتل ولده وربما يكسر ماله وربما يحرق ماله وربما يطلق زوجاته، إذا هو نقص لكن في حق الخالق لا يمكن أن يصدر عن غضب الله شيء ينافي حكمته عز وجل بل لابد أن يكون لحكمة. ثم الغضب من حيث هو في مقام السلطة يدل على كمال السلطان، لأنك إذا ضربت إنسانا مثلا ثم غضب معناه أنه يستطيع أن ينتقم منك، ولهذا إذا رأيته غضبان تهرب، لكن لو ضربت ضعيفا ماذا يفعل؟ يمشي، لأنه لا يستطيع الانتقام، إذا فالغضب من حيث هو غضب هو كمال، لكن من حيث ما يصدر عنه يكون نقصا، وهو هو الذي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بعدمه. على كل حال: في هذا الحديث إثبات الغضب لله عز وجل وهل جاء في القرآن إثبات غضب الله؟ في مواضع متعددة {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه} [النساء: 93]. الحكم بحسب البينة: 1354 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «أن رجلين اختصما في دابة، وليس لواحد منهما بينة؛ فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين». رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي وهذا لفظه، وقال: "إسناده جيد". اختصما في دابة وليس لواحد منهما بينة، وظاهر الصورة هذه أن الدابة ليست في يد أحدهما أو في أيديهما جميعا، ليست في يد واحد منهما بأن تكون بيد ثالث لا يدعيها ولم يقر بها لأحدهما، كل منهما ادعاها وليس له بينة، ماذا تعمل؟ هذه واحدة. الصورة الثانية: ادعيا في أيديهما كل واحد ممسك بها، واحد يجرها من الخلف ويقول: هذه ناقتي، والثاني من الأمام ويقول هذه ناقتي، وليس لأحدهما بينة، قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين؛ وذلك لأن نصفها بيد واحد والنصف الثاني بيد الآخر، فمن بيده النصف يكون مدعي عليه به، ومن بيده النصف الآخر يكون مدعى عليه به ومنكر، فكل نصف منها فيه دعوى وإنكار وليس هناك بينة، إذن الطريق -طريق العدل- أن نقسمها بينهما نصفين؛ لأنه لا

تغليظ اليمين بالزمان أو المكان

يوجد مرجح لا لهذا ولا لهذا، وقسمها بينهما نصفين ممكن بأن تباع العين المتنازع فيها أو تقوم ويأخذها أحدهما، ويمكن إذا كانت مما تؤكل أن تذبح وتقسم، لكن إذا أبيا أن تذبح لم يمكن عندنا إلا البيع أو التقويم، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم بينهما. فهذا الحديث فاصل بين المتنازعين من العلماء، حيث إن لهم في هذه المسألة أقوال، فمنهم من قال: إنه يقرع بينهما؛ لأن هذه الدابة ملك لواحد منهما فقط فهي إما لزيد وإما لعمرو ولا بينة فيقرع بينهما، فإن قال أحدهما: أنا أحلف وأبى الثاني أن يحلف فيقضى له بها -أي: للحالف-؛ لأنه ترجح جانبه باليمين ونكل صاحبه. وقال بعض العلماء: تقسم بينهما على حسب البينة، وهذا يوافق ما روي عن علي رضي الله عنه فيما سبق فيما رواه البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهما، وهو أن يقال: إذا كان لأحدهما بينة بثلاثة وللاخر بينة وبأثنين تقسم أخماسا أسهم ثلاثة لمن بينته ثلاثة وسهمان لمن بينته سهمان. ولكن إذا صح الحديث الذي ذكره المؤلف، والمؤلف يقول: إن إسناده جيد، إذا صح فإنه فصل النزاع، ولا قول لأحد بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يصح فالقرعة أقرب؛ لأنها حقيقة هي لواحد لا بعينها لم يدع كل واحد منهما أن نصفها له ادعى كل واحد أنها كلها له، وعلى هذا فلا طريق إلى فصل الخصومة بينهما إلا بالقرعة. ولكن كما قلت لكم لا يمكن لأحد استبانت له السنة أن يعدل عنها إلى قول أحد كائنا من كان كما نقل ابن عبد البر إجماع العلماء على ذلك أن كل من استبانت له سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يحل له أن يعدل عنها إلى قول أحد كائنا من كان، فنقول: هذا الحديث إذا صح وهو قد جود إسناده الحافظ رحمه الله فإنه فصل النزاع، ونقول: هي بينكما نصفين. تغليظ اليمين بالزمان أو المكان: 1355 - وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من خلف على منبري هذا بيمين آثمة؛ تبوأ مقعده في النار». رواه أحد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان. قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على منبري هذا» منبره -عليه الصلاة والسلام- مأخوذ من النبر، وهو الارتفاع وهو الذي صنع له من طرفاء الغابة، وكان قبل ذلك يخطب إلى جذع نخلة ثم صنع له هذا المنبر فصار صلى الله عليه وسلم يخطب علبه في خطبة الجمعة، وقوله: "على منبري هذا" يحتمل

أن "على" هنا بمعنى: عند، ويحتمل أنها بمعنى العلو، يعني: عليه؛ أي: صاعدا عليه أو عنده، يعني: بقربه، وعلى هذا فيرجع في ذلك إلى رأي القاضي، إذا قال: لابد أن ترقى على المنبر لتعلن هذه اليمين التي تحلف عليها في استحقاق ما تدعيه، ولا شك أنه إذا صعد عليه فهو أشد وأعظم خطرا وأعظم هيبة. وقوله: "بيمين آثمة"، اليمين الآثمة هي التي يقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق، "تبوأ مقعده في النار" هذه خبر على ظاهره، أي: أنه أعاد مقعده من النار بهذه اليمين. في هذا الحديث: التحذير من الحلف باليمين الكاذبة على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى التغليظ بالمكان، وقد ذكر أهل العلم -رحمهم الله- أن تغليظ اليمين لا يكون إلا في شيء له خطر وأهمية كمال كثير أو دعوى قصاص أو زنا أو غير ذلك من الأمور الخطرة، والزنا ليس فيه يمين، لكن أقول: إنه من الأمور الخطرة، لكن لا تغلظ في الشيء التافه؛ لأن تغليظها خطير جدا، والشيء التافه لا يساوي أن تغلظ الأيمان فيه، إنما تغلظ فيما له خطر. وهل التغليظ واجب على القاضي أن يغلظ مطلقا يعني: واجبا مطلقا أو واجبا بطلب الخصم، أو ليس بواجب، ويرجع فيه إلى ما يراه الحاكم؟ الصواب: الثالث أنه إذا رأى الحاكم أن يغلظ اليمين فليفعل؛ لأن هذا من باب استظهار الحق، التغليظ يكون بأربعة أمور: بالمكان، والزمان، والهيئة، والصيغة. أما الزمان فمن بعد صلاة العصر إلى الغروب؛ لأن هذا الزمن أقرب ما يكون للعقاب فيما إذا كان الإنسان كاذبا؛ لأنه آخر النهار، وآخر النهار أفضل النهار، ويشير إلى هذا قوله تعالى: {تحسبونهما من بعد الصلاوة} [المائدة: 107]، أي: من بعد صلاة العصر؛ لأنها الصلاة الوسطى وهي أفضل الصلوات. أما المكان ففي المدينة النبوية على منبر النبي صلى الله عليه وسلم وفي مكة قالوا: بين الركن والمقام - مقام إبراهيم - ولكن هو الحجر الأسود، والظاهر -والله أعلم- أن هذا التعبير حين كان المقام لاصقا بالكعبة فيكون التغليظ في الملتزم الذي بين الركن وبين الباب؛ لأن هذا من أشرف الأماكن، وفي غيرهما يكون عند المنبر في المسجد الجامع أو عند المحراب في المساجد غير الجوامع هذا تغليظ في المكان. أما في الهيئة فقالوا: أن يكون الإنسان -المحلف- قائما لأنه أقرب للعقوبة -والعياذ بالله- ربما يغمى عليه في الحال ويسقط. بقي لنا الصيغة، المسلم يقول: أحلف بالله العلي العظيم ... إلخ ما يذكر من صفات العظمة والسلطان، قالوا: واليهودي يغلظ عليه فيقال: أحلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى،

والنصراني نقول له: قل أحلف بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وإذا رأي القاضي أن يذكر صيغة أخرى لكنها ليست شركا فليفعل، أما إذا كانت شركا بأن يحلف البوذي بإلهه فهذا لا يجوز. الحلف بالطلاق والعتق والوقف هل يجوز؟ لا يجوز، هذه أيمان رتبها الحجاج بن يوسف الثقفي في البيعة ولهذا تسمى أيمان البيعة الذين يبايعون الخلفاء يؤاخذون بالعهود في هذا، فمثلا إذا قال: إن كنت كاذبا فنسائي طوالق وعبيدي أحرار، وأملاكي أوقاف هل يحلف بهذا؟ لا يحلف: لأن هذه أيمان بدعية فلا يركن إليها حتى لو قال قائل: هذا الرجل لو أحلفته إذا كان فاجرا فهل نحلفه؟ الجواب لا، نحن نقول: نحلفه بالله والعقوبة وراءه يلقى الله وهو عليه غضبان، قم إني أقول لكم بحسب ما سمعنا: أنه إذا حلف الإنسان كاذبا فإن العقوبة أقرب إليه من قدميه وله شواهد ليس هذا موضع ذكرنا فيمن يحلفون وهم كاذبون أن العقوبة لا تتجاوزهم إلا قليلا وتحيط بهم إما بفقد المال الذي حلفوا عليه وإما بفقد أولادهم، أحيانا يحلفون ثم يخرجون بأولادهم للنزهة والفرح بالنجاة في هذه القضية، وإذا بهم يصابون بحادث يعدمهم -والعياذ بالله- وهذا له شواهد واقعية، ولهذا يجب الحذر من الحلف بالله تعالى في مثل هذا الأمر. في هذا الحديث أيضا من الفوائد: إثبات النار، أو لا حاجة لهذه الفائدة، وبكون قولنا هذا مثل قول القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا؟ نقول: لا؛ لأن هناك ناسا ينكرون النار، الذين ينكرون البعث ينكرون النار، فلهذا لا مانع من أن نقول: في الحديث إثبات النار، وأن هذه اليمين سبب لاتخاذ مكان من النار. ومن فوائد الحديث: تغليظ الحلف على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك: أن منبر النبي صلى الله عليه وسلم مقام دعوة للخير، فإذا حلف الإنسان على هذا المنبر الذي هو مقام دعوة للخير على وجه يكون ظلما وجورا فهذا غاية المحادة لله ورسوله، المنبر كان الرسول يخطب عليه الناس، يدعو للخير، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، فإذا حلف الإنسان على هذا المنبر يمينا كاذبة فيعني ذلك أنه أحل محل الحق باطلا فصار ذلك أعظم. ومن فوائد الحديث: أنه يمكن تغليظ اليمين بالمكان، وقد ذكرنا في الشرح أن لتغليظ يكون بأربعة أوجه. ومن فوائد الحديث: أن الحلف على منبر النبي صلى الله عليه وسلم بيمين كاذبة من كبائر الذنوب، وجهه:

الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم

الوعيد على ذلك: "تبوأ مقعد من النار"، فهل نقول: كل ذنب ذكر الوعيد عليه فهو من الكبائر؟ الجواب: نعم، هكذا قال العلماء، وبناء على ذلك تكون الكبائر معروفة بالحد لا بالعد، وما ورد في بعض النصوص من العد فليس المراد به الحصر كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات». الحد اختلفت عبارات العلماء والفقهاء فيه، وأجمع ما قيل فيه: أنه ما ذكر عليه عقوبة خاصة، إذا ذكر على الذنب عقوبة خاصة دينية أو دنيوية أو أخروية فإنه من كبائر الذنوب، أما ما جاء منهيا عنه فقط مثل لا تفكل كذا أو مذكورا فيه التحريم مثل: حرم كذا، أو نفي الحل مثل: لا يحل كذا، فهذا ليس من الكبائر بمجرد هذه الصيغة ما لم يوجد دليل. وهل يمكن أن يقال: إن فيه إثبات وجود النار؟ نعم، من قوله: "تبوأ مقعده". وهل يمكن أن تلحق بمنبر الرسول صلى الله عليه وسلم منابر المساجد الأخرى؟ الجواب: قال بعض أهل العلم: إنه يلحق به من حيث التغليظ لا من حيث العقوبة، فمثلا: لو حلف الإنسان على يمين فاجر عند منبر مسجد من المساجد ورأى القاضي أنه يغلظ اليمين في هذا المكان فلا بأس، لكنه لا يستحق العقوبة التي كانت على منبر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لشرف المكان. الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم: 1356 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة، يمنعه من ابن السبيل؛ ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر، فحلف له بالله: لأخذها بكذا وكذا، فصدقه، وهو على غير ذلك؛ ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف». متفق عليه. "ثلاثة" مبتدأ، وجملة: "لا يكلمهم الله" معطوفة عليه خبر، فإن قال قائل: كيف جاز الابتداء بالنكرة والابتداء بالنكرة ممنوع؛ لأن الخبر تعريف وحكم، ولا يمكن أن يكون الحكم إلا على شيء معلوم والنكرة غير معلومة؛ ولهذا قال النحويون قولا حقا إنه لا يجوز الابتداء بالنكرة؛ لأن الاسم النكرة مجهول، والخبر محكم عليه، ولا يمكن أن نحكم على شيء مجهول؟ فيقال: إن ابن مالك رحمه الله قال كلمة جيدة في هذا قال: (ولا يجوز الابتدا بالنكرة ... ما لم تفد كعند زيد نمرة)

يعني: ما لم يكن لها معنى خاص زائد على مدلولها المطلق، هذا معنى قوله، لابد أن يكون هناك سبب لكونها ابتدئ بها وهي نكرة، وإلا فالأصل أنه لا يصح، لو قلت: رجل قائم ما يصح، لكن إذا كان هناك شيء يقيد هذا الإطلاق فإنه يصح، لو قلت: رجل فاضل قائم صح، إذن الجواب: أنه يجوز الابتداء بالنكرة، متى؟ إذا أفادت، وهنا فيها فائدة تقسيم: "ثلاثة لا يكلمهم"، ولا شك أن التقسيم فائدة، ومنه قول الشاعر: [المتقارب] (فيوم علينا ويوم لنا ... ويون نساء ويوم نسر) ومثل هذا التركيب لا يدل على الحصر، أي: أنه لا يوجد سوى هؤلاء؛ لأنه يوجد سوى هؤلاء كثيرون، يقول: "لا يكلمهم الله يوم القيامة"، أي: كلام رضا، لكن قد يكلمهم كلام غضب كما في قوله تعالى: {قال اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108]. وكلام الغضب ليس بشيء بل عدمه خير من وجوده، إذن "لا يكلمهم" كلام رضا، "ولا ينظر إليهم" كذلك نظر رحمة ورضا، أما النظر العام فهو عز وجل لا يخفي عليه شيء، كل شيء يراه -سبحانه وتعالى-، "ولا يزكيهم"، أي: لا يطهرهم؛ لأنهم ليسوا أهلا للتزكية، "ولهم عذاب أليم"، بالإضافة إلى ذلك لهم عذاب أليم، بمعنى: مؤلم، ففعيل هنا بمعنى: مفعل، ويوجد بيت مشهور وهو قول الشاعر: [الوافر] (أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع) السميع بمعنى المسمع، يعني: هل هناك داع يسمعني. الأول: "رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه من ابن السبيل"، أي: عنده ماء زائد عن حاجته في فلاة يمنعه من ابن السبيل، يأتي ابن السبيل محتاجا إلى الماء فيقول له: هذا ممنوع، لا تأخذ منه، لا تشرب منه، مع أنه زائد عن الحاجة ليس محتاجا إليه. والثاني: "رجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك"، هذا المنفق سلعته بالحلف الكاذب، لكن جاء في حديث أبي ذر على وجه الإطلاق، وجاء هنا مقيدا بما بعد العصر، حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة لا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قالها ثلاثة، قال أبو ذر: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ قال: «المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب».

الشاهد قوله: "المنفق سلعته بالحلف الكاذب"، فهنا أطلق أن كل من كذب في سلعته فإن له هذه العقوبة، لكن يمكن أن نقول: هذا مطلق ويقيد بما في هذا الحديث، وهذا الحديث قيد الإطلاق من وجهين: أنه بعد العصر، وأنه حلف أنه أعطى بها كذا وهو لم يعطه، كما قيدنا قوله: "المسبل" بأنه إذا كان مسبلا ثوبه خيلاء. "رجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لآخذها بكذا" من الحالف؟ البائع، "لأخذها" أي: اشترها بكذا، وقوله: "لأخذها" اللام الواقعة في جواب القسم، وحذف منها "قد"، وإلا فالأصل: "لقد"، لكن حذفت لقرب الجواب من القسم، "لأخذها بكذا وكذا" كناية عن عدد معين، "فصدقه" أي: المشتري؛ لأن المشتري رجل سليم القلب يظن أن الناس على صدق، وهو على غير ذلك، بكم سيأخذها المشتري؟ قد يأخذها بثمنها وقد يكون أكثر، المهم سوف يعتقد المشتري أنه لن يبيعها بأقل. والثالث: "رجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا"، "بايع" أي: عاهده، وسميت المعاهدة المبايعة؛ لأن كل منهما يمد باعه إلى الآخر ليأخذ بيده، فيمد يده فيقول: أبايعك على كذا وكذا، فهذا بائع إماما على السمع والطاعة، ولكن إنا فعل ذلك لأجل الدنيا، إن أعطى من الدنيا وفى وإن لم يعط منها لم يف وتمرد وخالف وعصى هذا من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، الشاهد من هذا الحديث قوله: "رجل بايع". ففي هذا الحديث فوائد أصولية وفقهية جمة: منها: إثبات أن الله -سبحانه وتعالى- يكلم، ووجه الدلالة: أن الله نفى الكلام عن هؤلاء الثلاثة، ولولا أنه يكلم من سواهم ما كان [لتخصيصهم بعدم الكلام] فائدة، وكلامه -سبحانه وتعالى- بالحرف والصوت، فهو عز وجل يقول قولا مسوعا، وهذا شيء متواتر متفق عليه بين السلف، دل عليه الكتاب والسنة يقول الله عز وجل: {ونادينها من جانب الطور الأيمن وقربناه يحيا} [مريم: 52]. لما كان بعيدا ناده الله مناداة؛ لأن البعيد يحتاج إلى رفع الصوت، والنداء: هو المخاطبة برفع الصوت، ولما قرب صارت مناجاة؛ يعني: بصوت أدنى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله -سبحانه وتعالى- يقول يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك»، الجواب: من من؟ من آدم «فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار»، «فينادى -الفاعل الله عز وجل بصوت: إن الله يأمرك»، هذا الحديث واضح ينادي بصوت وقد حرفه بعض أهل التعطيل، وقال: إن الصواب: "فينادى بصوت إن الله يأمرك" من أجل أن

تكون المناداة من غير الله عز وجل، وأيد حديثه بقوله: "إن الله يأمرك"، ولم يقل: إني آمرك، ولكن هذا تحريف؛ لأن الرواة باللفظ المتواتر: "فينادي بصوت"، وأيضا لفظ الحديث في آخره: "قال: يارب، وما بعث النار؟ " وهو صريح في المخاطبة. المهم: قوله: "فينادي بصوت" فإن قوله: "بصوت" توكيد لمعنى النداء؛ لأن النداء لا يكون إلا برفع صوت إذن كلام الله بحرف وصوت خلافا لقول الأشاعرة الذين قالوا: إن الله لا يتكلم بحرف وصوت، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه وهو أزلي لا يقبل الحدوث أبدا، وبناء على قولهم لا فرق بين العلم والكلام، لأن الكلام عندهم هو المغنى القائم بالنفس، ولا يمكن أن يتجدد ولا يحدث ولا يتعلق بمشيئة. إذا كيف نجيب عما يسمعه الأنبياء الذي يوحى إليهم ويكلمهم؟ قالوا: إنه يخلق أصواتا تعبر عما كان في نفسه فيسمعه المخاطبون، وهذا تحريف، وهو يؤدي إلى فساد أبلغ من فساد الجعمية والمعتزلة؛ لأن الكل يقولون: إن ما يسمع مخلوق، لكن المعتزلة يقولون: هو كلام الله، وهؤلاء الأشاعرة يقولون: ليس كلام الله، بل هو عبارة عنه؛ ولهذا كانوا أبعد عن الصواب من المعتزلة في هذه المسألة؛ لأن أولئك يقولون هذا كلام الله تعالى خلقه وسمع، وهم يقولون: لا، لم يكن كلام الله ولكنه عبارة عنه. ومن فوائد الحديث: إثبات يوم القيامة، والإيمان به أحد أركان الإيمان السنة وهو معروف. ومن فوائده: إثبات النظر لله لقوله: "ولا ينظر إليهم"، ووجد الدلالة: أن نفي النظر عن هؤلاء دليل على إثباته لغيرهم، كما استدل الإمام الشافعي رحمه الله في قول الله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففيين: 15]. قال: لم يثبت الحجب لهم وإلا وهو يراه من سواهم. ومن فوائد الحديث: إثبات تزكية الله للعبد، وهذا ثابت حتى في القرآن، قال الله تعالى: {ولكن الله يزكى من يشاء} [النور: 21]. فمن الذي زكاه الله؟ الذي زكاه الله تعالى هو المتقي لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]، فكل فكل من كان أتقى لله كان أشد تزكية من الله تعالى. ومن فوائد الحديث: إثبات العذاب وأنه عذاب ليس بالهين بل هو عذاب مؤلم لقوله: "ولهم عذاب أليم". ومن فوائده: بذل فضل الماء لمن احتاجه إذا كان على طريق، وجه الدلالة على الوجوب: هو الوعيد على المنع، فإذا ثبت الوعيد على المنع ثبت الوجوب في البذل. ومن فوائده: أن الإنسان إذا كان محتاجا إلى الماء فله أن يمنع غيره منه، يؤخذ من قوله:

"فضل الماء"، ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك»، وعلى هذا فإذا وجد ماء يكفي لإنقاذ نفس واحدة وهو مملوك لآخر وهو إن لم يشرب هلك ومعه صاحب له إن لم يشرب هلك، فهل الأولى لصاحب الماء أن يؤثر به صاحبه أو أن يشربه هو؟ الثاني. هذا إذا لم يمكن قسم الماء، أما إذا أمكن قسم الماء فالأمر واضح، أما إذا لم يكن فالأولى أن يبدأ بنفسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك»، وما ذكر من القصة التي حصلت في وقعة اليرموك وهي قصة الثلاثة الذين أحضر إليهم الماء، وكل واحد يقول: أعطه فلانا فما عاد إلى الأول حتى هلكوا جميعا، فهذه القصة أولا لا أعرف صحتها، هذه واحدة، والثاني: أنه اجتهاد، والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب. ومن فوائد الحديث: أن الكذب في ثمن السلعة بعد العصر من كبائر الذنوب، لقوله: "ورجل بايع ... إلخ"، فهل يقال على الكذب في الثمن كالكذب في الصفة؛ يعني: هل تقول: إنه لو كذب الإنسان في وصف البيع بعد العصر وحلف بأن قال: والله إن هذه الشاة لبون، والله إن هذا الثوب من الثوب الأصلي، فهل نقول: كالكذب في الثمن؟ الظاهر: نعم؛ لأن كل منهما كذب من أجل زيادة الثمن، فالظاهر أن الرسول ذكر ذلك على ضرب المثل، وأن كل منهما كذب من أجل زيادة الثمن، فالظاهر أن الرسول ذكر ذلك على ضرب المثل، وأن كل من حلف في وصف السلعة أو في ثمنها من أجل الزيادة فالحكم واحد؛ لأنه يقتطع به مال امرئ مسلم. ومن فوائد الحديث: أن مبايعة الأئمة من الدين، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المبايعة من أجل الدنيا من كبائر الذنوب وهو كذلك، ومبايعة العامة للإمام دين لا شك؛ لأنه يترتب عليها واجبات كثيرة ومحرمات كثيرة، وإذا كان عقد النكاح على المرأة من الدين وهو يترتب عليه ما يترتب على البيعة -بيعة الإمام- فهذه من باب أولى، فعندنا أثر وقياس، أن مبايعة الإمام من الدين؛ ولهذا من مات وليس في عنقه بيعة للإمام مات ميتة جاهلية. ومن فوائد الحديث: تحريم مبايعة الإمام للدنيا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توعد على ذلك، وعلى هذا فيكون من كبائر الذنوب. هل يقال مثل ذلك من كذب على الإمام بأن سأله الإمام عن أحوال الناس؟ فقال له: الأحوال كلها مرضية وكلها على ما تريد، كل شيء طيب، وهو كذاب هل يدخل من هذا؟ هذا لا يدخل في الحديث، لكنه خيانة لولي الأمر وخيانة للرعية، والواجب على من سأله ولي

اليد المرجحة للشهادة الموافقة لها

الأمر سواء الولى في الدولة أو من دونه، أن يبين له الأمر على ما كان عليه، قد يقول: إذا بينت له الأمر على ما كان عليه ضاق صدره، ونحن لا نحب أن نضيق صدره، نريد أن يبقى مسرورا منشرح الصدر، نقول: نعم، هو يضيق صدره الآن لكن يسعى للحلول كيف يتخلص من هذا؟ إما أن يبدي له الأمور على أنها أكمل شيء وهي بالعكس فسيبقى الشر والفساد على ما كان عليه فلابد من أن يبين لولاة الأمور الأمر على ما كان عليه. كذلك الأمر في المدارس سأله المدير قال ما تقول في أجوبة الطلبة؟ قال: ما شاء الله ما بين ممتاز وجيد جدا، وأجوبتهم في الحقيقة أعلاهم من أتى بلقب مقبول، لكن يريد أن يدخل السرور على المدير، نقول: هذا حرام عليك، الواجب أن تخبره بالواقع، وإذا كان أعلاهم من أتى بلقب مقبول فماذا يكون أدناهم؟ ! فيجب أن تبلغ حتى تحل المشكلة. اليد المرجحة للشهادة الموافقة لها: 1357 - وعن جابر رضي الله عنه: «أن رجلين اختصما في ناقة، فقال كل واحد منهما: نتجت عندي، وأقاما بينة، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن هي في يده». قوله: "أن رجلين" لم يبنيا هذان الرجلان، ولا يهمنا أن يبين صاحب القصة أو لا يبين إذا لم يكن في تبيينه ضرورة، وعلى هذا فلا يعد هذا من الجهل المذموم؛ لأن الذي يهمنا هو القصة، وقوله: "اختصما في ناقة فقال كل واحد منهما نتجت"، يقال: إن نتج يكون دائما مبنيا للجهول، وقد ألف في هذا رسائل مثل: "إتحاف الفاضل في الفعل المبني لغير الفاعل"، وهو كتيب صغير لكنه جيد في موضوعه، يذكر كل فعل في اللغة العربية لا يبنى للفاعل، وإنما يبنى لما لم يسم فاعله، ومعنى "نتجت" أي: ولدت عنده. "وأقاما بينة" كل واحد منهما أقام بينة، ومن المعلوم أن هاتين البينتين متناقضتان، هذه تشهد بأنها ولدت عند زيد والأخرى تشهد بأنها ولدت عند عمرو، ولا يمكن أن تولد ناقة واحدة من بطنين مختلفين، فلابد أن إحدى البيتين غير صحيحة، المهم: أن كل واحد أقام بينة. "فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن هي في بيده"، إذن الناقة الآن في يد واحد، أيهما المدعي وأيهما المدعى عليه؟ المدعى عليه الذي هي في يده، فلدينا الآن مدع ومدعى عليه، كما منهما أقام بينة، ونحن لو وقعت عندنا هذه الخصومة لمكان القاضي أول ما يطلب أن يقول للمدعي: ألك بينة؟ إذا أتى ببينة ولم يكن للثاني بينة حكم له وانتهى الموضوع، وإذا قال: ليس عندي

بينة وأطلب يمينا فحلف من هي في يده أيضا انتهت الخصومة، لكن الآن لدينا مدع أقام بينة ومدعى عليه أقام بينة، اليمين هنا لا محل لها؛ لأن لدينا بيتين لكل واحد منهما بينة، فلمن نحكم في هذه الحال؟ الحديث صريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بها لمن هي في يده، وجه القضاء بذلك: أن الذي في يده لديه بينة معارضة ببينة المدعي، لكن جانبه ترجح بكون المدعي به في يده فترجح جانبه الآن؛ لأننا نقول البينتان تعارضتا فتساقطتا فيرجح جانب المدعى عليه لأنها في يده، ثم هل يحتاج إلى اليمين؟ من أهل العلم من قال: إنه يحتاج إلى اليمين؛ لأن البينتين لما تساقطنا صارت القضية كأنه ليس فيها بينة لا للمدعي ولا للمدعى عليه، وفي مثل هذه الحال يكون على المدعى عليه اليمين، أنتم تعلمون الآن لو أن زيدا ادعى على عمرو بمائة وليس له بينة فإننا نقول لعمرو: احلف، فالآن تساقطت البينتان، فلابد من أن يحلف المدعى عليه، وقال بعض أهل العلم: لا حاجة لليمن؛ لأن لديه بينة، ولا يمين مع البينة، وهذه البينة إنما رجحناها لكون المدعى به في يده وحينئذ لا حاجة إلى اليمين. إذا هذا هو ظاهر الحديث، فالآن تحكم بها لمن هي في يده وهو المدعى عليه بيمين أو غير يمين؟ على قولين، وظاهر الحديث أنه لا يمين عليه وهو الأقرب، وهذا هو القول الراجح، وذلك أنه يقضي بها للداخل وهو الذي هي بيده. القول الثاني خلاف هذا الحكم أنه يحكم بها للمدعي ويسمى الخارج، قالوا: لأن الداخل ليس مطالبا ببينة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي»، وهذا أتى ببينة فيحكم له بها، أما ذاك فليس في جانبه إلا اليمين، ولسنا بحاجة إلى اليمين، لأن لدينا بينة للمدعي، فصار أصل المسألة فيها قولان: هل هي للمدعي عليه؟ المدعي يسمى عندهم "الخارج"، والمدعى عليه يسمى "الداخل"، فهل هي للخارج ببينته وتلغى بينة الداخل أو هي للداخل؟ فيها قولان على القول بأنها للداخل وهو الراجح، هل يحتاج إلى اليمين أو لا يحتاج؟ في ذلك قولان أيضا هذه هي المسألة والقول بأنها للخارج غريب؛ لأن أقل ما نقول من حيث النظر: تعارضت البينتان فتساقطتا، فبقي هذا المدعى عليه الذي هي في يده بقي راجحا جانبه بكون المدعى به في يده، لكن هل يحتاج إلى اليمين أو لا؟ ترى في هذه المسألة أنه يقضى بها لمن هي في يده وهو الداخل، وأما إلزامه باليمين أو عدمه فهذا يرجع إلى اجتهاد الحاكم، قد يرى الحاكم من المصلحة أن يحلفه، وهل يستحلف؟ نعم، لأنه جازم بأنها ناقته فيحلف، وهل سيحلف؟ نعم، لأنه جازم بانها ناقته فيحلف، ولا ضرر على الإنسان أن يحلف إذا كان صادقا.

رد اليمين على المدعي إذا لم يحلف المدعى عليه

رد اليمين على المدعي إذا لم يحلف المدعى عليه: 1358 - وعن ابن عمر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق». رواهما الدارقطني، وفي إسنادهما ضعف. رد اليمين على جانب المدعي، وصورة هذه المسألة: أن المدعي ليس عنده بينة، والمدعى عليه نكل عن اليمين بأن قال: لا أحلف، فحينئذ يقضي عليه بالنكول، لكن يحتاج إلى تقوية دعوى المدعي وذلك باليمين، ترد اليمين على المدعي ونقول: تحلف؟ فقال: لا أحلف، فتبطل دعواه وإن حلف قضي له بذلك. صورة المسألة: ادعى زيد على عمرو بمائة ريال، ماذا نقول لزيد؟ البينة، ليس عنده بينة، ماذا نقول لعمرو؟ إذا أقر حكم عليه، وإذا لم يقر نقول عليك اليمين، فحلف، إذا حلف يخلى سبيله يترك وسقطت الدعوى، لو أبى أن يحلف يقضى عليه بالنكول، لأنه كونه يأبى اليمين يدل على أنه كاذب في إنكاره وإلا لحلف، إذ لا يضره اليمين شيئا. لكن هل ترد اليمين على المدعي قبل أن تحكم له بذلك أو لا؟ الحديث يدل على أنها ترد، فإذا قال المدعي: أنا لا أحلف، الحلف على المدعى على المدعى عليه، أنا على البينة وليس عندي بينة، والرسول يقول: اليمين على المدعى عليه فكيف تلزمونني؟ نقول: نلزمك؛ لأن صاحبك لما نكل وأبى أن يحلف ترجح جانبك أنت، واليمين تكون في أقوى جانبي المتداعيين، والنبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على المدعي في باب القسامة لوجود القرينة الدالة على صدقه. والصحيح كما في هذه المسألة: أن الأمر موكول إلى القاضي، إن رأى أن يرد اليمين على المدعي فليردها ويقول للمدعي: احلف، وهل يضره إذا حلف وهو صادق؟ لا يضره، فإن أبى فحينئذ توقف الخصومة حتى يتبين الأمر، وإن رأى ألا يردها لكون المدعي ظاهر العدالة والمدعى عليه نكل، فإنه يقضى عليه بالنكول بلا يمين، أي: لا ترد اليمين على المدعي. وهذا القول هو الراجح: أن يكون رد اليمين على المدعي موكولا إلا رأي القاضي إن رأى أن ترد فترد وإلا فلا، والقاضي يعرف المسألة من قرائن الأحوال بالنسبة للشخصين وبالنسبة للمدعي به ويحكم بما يرى. * * *

الاعتبار بالقيافة في ثبوت النسب

الاعتبار بالقيافة في ثبوت النسب: 1359 - وعن عائشة رضي الله عنه قالت: «دخل على رسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورا، تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري إلى مجزز المدلجي؟ نظر آنفا إلى زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، فقال: هذه الأقدام بعضها من بعض». متفق عليه. كلمة "ذات" ترد في اللغة العربية على عدة أوجه، منها: الزيادة للتوكيد مثل هذا اللفظ: "ذات يوم" فهنا كلمة "ذات" زائدة؛ إذ إنك لو حذفتها فقلت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يوما صح [الكلام]، إذن هي زائدة للتوكيد، وأيضا فيها زيادة على التوكيد زيادة الإبهام؛ لأن "ذات يوم" مبهم، وقولها: "مسرورا" هذه حال من النبي صلى الله عليه وسلم، "تبرق أسارير وجهه" حال أخرى، و"تبرق" أي: تلمع، وأسارير الوجه هي مغابنه التي تكون في الجبهة، وإنما تبرق إذا دخل السرور على الإنسان، وأيضا الوجه -بإذن الله- مع السرور يستنير ويتوسع ويحس به الإنسان. فقال: "ألم ترى ... إلخ"، أي: ألم تعلمي، والاستفهام هنا للتقرير، والمغنى: أعلمت، وهو لتقرير الحكم الواقع، وقوله: "مجزز" اسم فاعل من جزز المزيدة، وأصلها غير مزيدة من جز، وهذا الرجل وصف بذلك؛ لأنه إذا كان عنده أسرى جز رءوسهم وأطلقهم ومن عليهم بالإطلاق. "والمدلجي" من بني مدلج، "نظر آنفا" أي: قريبا، "إلى زيد بن حارثة" وزيد بن حارثة مولى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهبته له خديجة رضي الله عنه فأعتقه فصار مولى له، "وأسامة بن زيد" ابنه، وكان لونهما مختلفا: أسامة أسود؛ لأن أمه حبشية، وزيد أبيض. هذا الذي نعرفه، لكن عندي في الحاشية يقول: وكان أسامة أبيض، لكن المعروف أن أسامة هو الأسود؛ لأن أمه حبشية فصار على لون أمه، وأبوه زيد أبيض، فكان المشركون ينالون من عرضه، لأنه له صلة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لو كان مولى واحد من قريش ما همهم الأمر، لكن لأنه مولى للنبي صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يطعنوا فيه، فكانوا يتكلمون كيف يكون الابن أسود والأب أبيض، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما تعلمون- مغنم من ذلك أن يقال هذا في مولاه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويحب ابنه، حتى إنه يلقب -أعني: أسامة- بجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكان هذا يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما مر هذا المجزز وكان قائفا نظر إلى أسامة وأبيه وكان فوقهما كساء لم يخرج منها إلا الأقدام فقط ولعله لا يعرفهما فقال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض"؛ لأنه قائف، فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أن شهد هذا القائف بأن هذه الأقدام بعضها من بعض، ولا يكون بعضها من بعض إلا أن أحدهما ابن الآخر؛ لأن الولد بضعة من أبيه، فسر ذلك.

ففي هذا الحديث فوائد: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يلحقه البشر من السرور والحزن لقولها: "دخل علي مسرورا". ومنها أيضا: أنه ينبغي للإنسان أن يسر بمثل هذه الأمور التي يظهر بها الحق وينجلي بها، وتزول بها التهم عمن ليس من أهلها؛ لأن القلب الحجر لا يبالي، لا يسر بما يسر ولا يحزن بما يحزن، تجد قلبه حجريا لا يتأثر، والإنسان الرقيق اللين هو الذي يتأثر بمثل هذه الأمور سرورا أو حزنا. ومنها: حرص النبي صلى الله عليه على حماية الأعراض، وكما أن الله عز وجل يحمي الأعراض بحد القذف ثمانين جلدة وألا تقيل له شهادة -أي: القاذف- وأن يكون فاسقا، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يحب حماية الأعراض. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم من خير الناس لأهله، بل هو خير الناس لأهله؛ حيث دخل على أصغر نسائه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأخبرها الخبر مما يدل على ينبغي للإنسان أن يكون مع أهله ممتزجا مختلطا لا يخفي عليهم شيئا، كما أنه لا ينبغي أن يخفوا عليه شيئا. ومنها: أن اختلاف اللون بين الأب وابنه أو بين الأم وابنها لا يستلزم التهمة، ويدل لذلك أيضا: ما ثبت في الصحيحين أن رجلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود -وكان الرجل وزوجته غير أسودين -وكأنه إما أنه يعرض بامرأته، وإما أنه يسأل الرسول كيف كان ذلك؟ الكلام محتمل، يعني: كيف يولد غلام أسود من بين أبوين أبيضين؟ ! وكان الرجل أعرابيا صاحب إبل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من إبل»، قال: نعم، قال: «ما ألوانها؟ »، قال: حمر، قال: «هل فيها من أورق؟ » قال: نعم، والأورق هو الذي لونه أبيض وفيه شيء من السواد كلون الفضة التي تسمى الورق، قال: «من أين أتاها ذلك؟ »، قال: لعله نزعه عرق -عرق من آبائه أو أجداده أو أمهاته - فقال: «فابنك هذا لعله نزعه عرق»، انظر للتعليم، ذكر الدليل قبل الحكم حتى يأتي الحكم والإنسان مقتنع تماما، فاللون لا ينبغي أن يكون سببا للتهمة، فقد يكون هناك عرق سابق، مع أن قضية أسامة وأبيه قريبة المسألة، من الذين يدعون بهذا؟ الأم قريبة أمه حبشية. ومن فوائد الحديث: العمل بالقيافة، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها وسر بها، أي: بالحكم بها، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل، ولا يسر بالباطل، فالقيامة حكم شرعي، دلت السنة عليه مبنية على الشبه. ولهذا نقول: القافة هم قوم يعرفون الأنساب بالشبه، والقائف: هو الذي يعرف الإنسان بالشبه، ولهذا قال العلماء -رحمهم الله-: إذا تنازع رجلان في غلام ولا بينة لأحدهما فإنه يعرض على القافة، فمن ألحقته به لحقه، لكن لو ألحقته بالاثنين جميعا هل يلحق؟

الفقهاء يقولون: نعم، يمكن أن يلحق الأبوين جميعا، لكن الأطباء يقولون: لا، لا يمكن أن يلحق بأبوين، فهل نرجع إلى كلام الفقهاء المبني على النظر أو نرجع إلى كلام الأطباء المبني على المحسوس؟ هذه ما لنا بها دخل، المهم: العمل بالقيافة، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها وسر بها، ولا يقر على باطل، ولا يسر بباطل. فإذا قال لنا قائل: عن شخص مشتبه بنسبه قال: هذا ولد فلام ولم يدعيه أحد فهل يحكم له به؟ الجواب: نعم، يحكم له به ما لم يكذبه الحس، فإن كذبه الحس فإنه لا يحكم له به، مثل أن يقول: هذا ولد فلان، وللغلام خمس سنوات وللآخر ثماني سنوات هذا لا يمكن، وهل يلحق بالنسب غيره؛ بمعنى: لو أن القائف حكم بشيء من الأموال أو من الحقوق فهل يلحق بالنسب؟ في هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: إنه يلحق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم بالقيافة لأنها دليل ليس لأنها حكمت بنسبه، والدليل يكون في كل شيء. ومنهم من قال: إنه لا يكون إلا في النسب؛ وذلك لأن الشارع له تشوف لثبوت الأنساب، لكن العمل الآن على الأول أنه يعمل بالقيافة، لكنه يؤخذ الإنسان ويقرر حتى يقر، فلو قال القائف: هذا الأثر قدم فلان فإنه يحكم بذلك، ويؤتى بالرجل ويقرر، ولا يقال: إننا لا نلفت لقول القائف إطلاقا. ولقد حدثني بعض القافة أنه إذا رأى قدم إنسان فكأنما رأى وجهه وإن لم يوجد التباس حتى إنه يقول: وإن لم أكن أعرفه، وهذه غريبة، والقافة أيضا يعرفون أثر البعير إذا كانت كبيرة أو صغيرة أو حاملا أو غير حامل، بل إنهم يصلون إلى اللون، يعرفون اللون وهذا شيء غريب، لولا أنهم يستفيدون بالأمور المحسوسة لقلنا: إنهم يدعون الغيب وليس كذلك. وكان في هذا البيت قائف يجيد القيافة تماما فتسلق رجل سارق الجدار وسرق وكان من أقارب أهل البيت، بمعنى: أنه تبعد تهمته، فجاء هذا القائف فرأى إبهامه في الجدار -لما أراد أن يتسلق أثر إبهام رجله في الجدار -فقال لمن معه- وكان الذي معه خدم الأمير-: انصرفوا عرفنا الرجل، بماذا؟ بإبهام رجله، فذهب القائف إلى صاحبه وقال: يا فلان، لماذا تسرق من أقاربك -أرحامك وأنسابك- يعني: بالقرابة وليس بالمصاهرة؟ قال: لم أسرق قط! من قال لك أني سرقت؟ ! ما سرقت، قال: على كل حال أنا علمتك، أعطني السرقة لأردها وهذا المطلوب، وإلا ما عندي في أنك أنت السارق، فلما تبين الأمر أعطاه المسروق.

فالصحيح: أنه يعمل بالقيافة حتى في الأموال، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رجمه الله، وربما يستدل لذلك بقصة داود وسليمان: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} [الأنبياء: 78]. فإنه لا يدري أنها نفشت إلا بالأثر. * * *

كتاب العتق ويشتمل على: 1 - باب المدبر والمكاتب وأم الولد

كتاب العتق

كتاب العتق أخر المؤلف كتاب العتق إلى آخر أحاديث الأحكام تفاؤلا بأن يعتقه الله تعالى من النار، وقدد سلك ذلك بعض أهل العلم، ومن العلماء من جعل كتاب العتق بعد المواريث؛ لأن صلته بالمواريث أن العتق يحصل به الولاء، والولاء أحد أسباب الإرث الثلاث فلكل من المؤلفين وجهة نظر ونسأل الله أن يعتقنا وإياهم من النار. تعريف العتق وبيان بعض أحكامه: «العتق»: هو تحرير الرقبة وتخليصها من الرق، ولابد أن نعرف ما هي الأسباب التي يكون بها الإنسان - البشر- رقيقًا؛ لأنه لا يمكن أن نعرف العتق حتى نعرف الرق؟ الرق سببه شيء واحد، وهو الكفر ليس له سبب سوى ذلك ليس سببه الجوع؛ فيبيع الإنسان ولده أو ابنته، وإنما سببه الكفر، وذلك أن المسلمين إذا قاتلوا الكفار وغلبوا عليهم، واستولوا على نسائهم وذرياتهم؛ فإن هؤلاء النساء والذرية يكونون أرقاء بمجرد السبي، يعني: يدل أنهم كانوا أحرارًا في الأول ثم صاروا الآن أرقاء مملوكين للمسلمين. فإذا السبب الوحيد للرق هو الكفر ثم بعد ذلك يأتي الإنتاج، فإذا أنتجت الأمة إنتاجا؛ فإن ما يأتي منها يكون رقيقا، إلا إذا أتت به سيدها، فإنه يكون حُرًا وتكون هي أم ولد، أو إذا استثني حملها، فإنه يكون حرا وما عدا ذلك، فإن حملها يكون رقيقا تبعا لأمه حتى لو تزوجت رجلا حرا وأتت منه بولد فالولد رقيق لسيدها ولهذا حرم الله على عباده أن يتزوج الإنسان أمة إلا بشروط قال تعالى {ذلك لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ} [النساء: 25]. وألا يجد طولاً أي: مهر حُر؛ ولهذا قال الإمام أحمد: إذا تزوج الحرُّ أمة رق نصفه لأن أولاده يكونون أرقاء إلا بشرط. إذن سبب الرق: الكفر أو النتاج من امرأة رقيقة، يأتي الآن دور العتق، العتق له أسباب متعددة، وإنما كثرت أسباب العتق دون أسباب الرق؛ لأن الشارع له تطلع وتشوف إلى التحرير ولهذا جعل له أسباب كثيرة من أجل أن يقل رق الناس بعضهم بعضًا، فالعتق يحصل بأمور:

الترغيب في العتق

الأول: اللفظ بأن يقول السيد لرقيقه: أنت حُر إذا قال: أنت حُر صار حُرا أو أتى بلفظ يدل على ذلك بأي لغة كانت، فإنه يكون حينئذ حُرا بالقول، يكون التحرير أيضا بالفعل، وذلك بالتمثيل بالعبد، إذا مثل فإنه يعتق عليه، كيف يكون التمثيل؟ بأن يقطع طرفًا من أطرافه، أنملة من أنامله، شيئا من أذنه، وما أشبه ذلك! ! الترغيب في العتق: 1360 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسولَ الله (صلى الله عليه وسلم): «أَيُّما امرئٍ مسلم أعتق امرأ مسلمًا؛ استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار». متفق عليه. قال عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أيما امرئ مسلم أعتق»، والعتق: هو تحرير الرقاب؛ يعني: أن يكون هناك إنسان مملوك فيأتي شخص فيعتقه ويحرره ابتغاء وجه الله فهذا من أفضل الأعمال، قال الله تعالى: {فَلَا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يومٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَترَبَةٍ} [البلد: 11 - 16]. وقوله «مسلمًا»: اشتراط الإسلام في الرقبة المعتقة يدل على أن هذه الفضيلة لا تنال إلا بعتق الرقبة المسلمة، وإن كان في عتق الرقبة الكافرة فضل، لكن لا يبلغ ما وعد به هنا من الأجر، وقوله: «استنقذه» يشعر بأنه بعد استحقاقه للنار، وذلك لأن عتق الرقاب صعب وشاق على النفوس؛ لأن فيه إخراج المملوك عن ملكه وهو شاق ولذلك استوجب من يقتحم هذه العقبة الشاقة على النفوس أن يعتق الله بكل عضو من المعتق عضواً من المعتق من النار، حتى إنه قد وقع في رواية البخاري: «حتى فرجه بفرجه» يعني: أنك إذا أعتقت عبدًا، أعتق الله كل بدنك من النار؛ لأنك أعتقت هذا العبد المسلم من الرق فيعتقك الله تعالى من النار. وقال الشيخ ابن باز (رحمه الله): هذا الحديث يتعلق بالعتق وفضله، وإن الإعتاق من أسباب العتق من النار، وإن الإنسان إذا أعتق أمرأ مسلما أعتقه الله بكل عضو من النار حتى فرجه بفرجه، وإن المؤمن يستحب له العتق إذا تيسر له ذلك. عتق الأنثى: 1361 - وللترمذي وصححه عن أبي أمامة: «وأيما امرئٍ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين، كانت فكاكهُ من النار».

عتق الأغلى أفضل من عتق الأدنى

1362 - ولأبي داود: من حديث كعب بن مُرة: «وأيما امرأة أعتقت امرأة مسلمة؛ كانت فكاكها من النار». قوله: «اعتق امرأتين مسلمتين» فيه دليل على أن عتق المرأة أجره على النصف من عتق الذكر فالرجل إذا أعتق امرأة كانت فكاك نصفه من النار، والمرأة إذا أعتقت الأمة كانت فكاكها من النار، كما دل له مفهوم الحديث الأول عن أبي أمامة، ومنطوق الحديث الثاني عن كعب بن مُرة فإن قال: «وأيما امرأة مسلمة اعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار». قال الشيخ ابن باز (رحمه الله): وظاهر الأحاديث العموم، وأن العبد متى أعتق رجلاً أو امرأة حصل هذا الفضل العظيم، وإذا أعتق امرأتين كانتا فكاكه من النار؛ لأنه أعتق رقبتين، ولا يلزم من ذلك عتق الرجل دون المرأة، فإن الحديث العام الصحيح الذي هو أصح يعم الجميع، يعم المرأة والرجل، وأنه متى أعتق امرأة أو رجلاً يبتغي بذلك وجه الله (عز وجل) عتق الله به بكل عضو من النار حتى المرأة بالمرأة. عتق الأغلى أفضل من عتق الأدنى: 1363 - وعن أبي ذر (رضي الله عنه) قال: «سألت النبي (صلى الله عليه وسلم) أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله. قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها». متفق عليه. قال الشيخ ابن باز (رحمه الله): وفي حديث أبي ذر سألت النبي (صلى الله عليه وسلم): «أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمنا» فكلما كانت أغلى وأثمن صار أجرها أعظم، وهكذا في الضحايا والهدايا وغيرها كلما كانت أنفس كانت أعظم. وقال النووي: محله - والله أعلم - فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلاً فأراد أن يشتري بها رقابا يعتقها فوجد رقبة نفيسة ورقبتين مفضولتين، قال: فثنتان أفضل، بخلاف الأضحية؛ فإن الواحدة السمينة أفضل؛ لأن المطلوب في العتق فك الرقبة وفي الأضحية طيب اللحم. وقال صاحب «سبل السلام». والأولى أن هذا لا يُؤخذ قاعدة كلية، بل يختلف باختلاف الأشخاص؛ فإنه إذا كان شخص بمحل عظيم من العلم والعمل وانتفاع المسلمين، فعتقه أفضل من عتق جماعة ليس فيهم هذه السمات؛ فيكون الضابط اعتبار الأكثر نفعًا، وقوله:

حكم من أعتق نصيبه من عبد

«وأنفسها عند أهلها» أي: ما كان اغتباطهم بها أشد وهو الموافق لقوله تعالى: {لَنْ تنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: (92)]. حكم من أعتق نصيبه من عبد: 1364 - وعن ابن عُمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من أعتق شركا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوِّم قيمة عدلٍ، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق». متفق عليه. قوله: «من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل» أي: لا زيادة فيه ولا نقص، وقوله: «فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا» يكن له مال يبلغ ثمن العبد «فقد عتق منه ما عتق». قال الشيخ ابن باز (رحمه الله) في تعليقاته: وفي حديث ابن عمر الدلالة على أنه إذا أعتق شركا في عبد يقوم عليه، ويُعطي شركاءه حصصهم، ويعتق عليه عبده إذا كان يستطيع ذلك؛ فإذا كان له النصف وأعتقه لزمهم أن يعتقوا النصف الثاني، ويقوم عليه، ويسلم عليه؛ لأن التبعيض يشق على العبد، فمن رحمة الله جل وعلا أن أوجب إكمال العتق. السعاية: 1365 - ولهما: عن أبي هريرة (رضي الله عنه): «وإلا قوم عليه، واستسعى غير مشقوق عليه». وقيل: إن السعاية مدرجة في الخبر. وقوله: «ولهما» أي: للشيخين البخاري ومسلم «عن أبي هريرة» (رضي الله عنه) وإلا قوم العبد عليه واستسعى غير مشقوق عليه، وقيل: إن السعاية مدرجة في الخبر؛ فإنه ظاهر أنه إذا لم يكن للشريك مال: قوم العبد، واستسعى في قيمة حصة الشريك، وأجيب بأن ذكر السعاية ليست من كلامه (صلى الله عليه وسلم) بل مدرجة من بعض الرواة في الخبر كما أشار إليه المصنف. قال الشيخ ابن باز (رحمه الله): إن كان عاجزاً يستسعى به يعني: يقوم قيمة العبد، ويستسعى في حصة شريكة الذي لم يعتقه يعمل خادمًا، بناءً، نجارًا يعمل ويوفي شريكه حتى يعتق، هذا معنى الاستسعاء، يعني: يستعمل فيما يحسن من العمل يعمل ويؤدي للشريك حتى يكمل الحصة التي للشريك ويعتق.

حكم من ملك والديه أو ذا رحم محرم

حكم من ملك والديه أو ذا رحم محرم: 1366 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا يجزي ولدٌ والده، إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه». رواه مسلم. 1367 - وعن سَمرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «من ملك ذلك رحمٍ مَحْرَمٍ؛ فهو حُر». رواه أحمد والأربعة، ورجح جمع من الحفاظ أنه موقوف. في حديث أبي هريرة قوله (صلى الله عليه وسلم): «لا يجزي» أي: لا يكافئ، «ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» في هذا الحديث دليل على أنه لا يعتق عليه بمجرد الشراء، وأنه لابد من الإعتاق بعده، وإلى هذا ذهب الظاهرية. وذهب الجمهور إلى أنه يعتق بنفس الشراء وتأولوا قوله: «فيعتقه» بأنه لما كان شراؤه تسبب عنه العتق نُسب إليه العتق مجازا، ولا يخفى أن الأصل الحقيقة إلا أنه صرفه عن الحقيقة حديث سمرة (رضي الله عنه) «من ملك ذا رحم محرم فهو حُر» وفيه تعليق الحرية بنفس الملك، وإنما كان عتقه جزاءً لأبيه؛ لأن العتق أفضل ما من به أحد على أحد لتخليصه بذلك من الرق، فتكمل له أحوال الأحرار من الولاية والقضاء والشهادة بالإجماع. قال الشيخ ابن باز (رحمه الله): هذا الحديث يتعلق بالعتق، يدل على أنه إذا اشترى والده عتق عليه، وأن هذا يكون جزاء وبرا عظيما بوالده، ومعنى الحديث: أنه يعتق عليه، هذا الذي عليه الجمهور، وأنه متى اشتراه عتق عليه، كما في الحديث الثاني «من ملك ذا رحم محرم فهو حُر» وهذا جزاء عظيم من الولد للوالد، وحق الوالد على ولده عظيم وبره عظيم، ويدل على أنه يعتق عليه قوله: «من ملك ذا رحم محرم فهو حُر» فأعظم الرحم الأب والأم إذا ملكهما أو أحدهما عتق عليه، وهكذا إذا ملك أخاه أو أخته أو خاله ذوي الأرحام المحرمة. وفي حديث سمرة: «من ملك ذا رحم محرم فهو حُر». قال الشيخ ابن باز (رحمه الله): اختلف في وقفه ورفعه والصواب رفعه؛ لأن الذي رفعه ثقة، ثم هو أيضا لا يُقال من جهة الرأي فهو في حكم المرفوع من «ملك ذا رحم من بنت أو أخت أو عمة أو خالة أو جد أعتق عليه».

حكم التبرع في المرض

حكم التبرع في المرض: 1368 - وعن عمران بن حُصين (رضي الله عنه): «أن رجلا أعتق ستة مماليك له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولا شديدًا». رواه مسلم. هذا الحديث يدل على أن حكم التبرع في المرض حكم الوصية، ينفذ من الثلث وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد، وإنما اختلفوا هل تعتبر القيمة أو العدد من غير تقويم؟ فقال مالك: يعتبر التقويم، فإذا كانوا ستة أعبد أعتق الثلث بالقيمة سواء كان الحاصل من ذلك اثنين منهم أو أقل أو أكثر، وذهب البعض إلى أن المعتبر العدد من غير تقويم فيعتق اثنان فى مسألة الستة الأعبد. وخالفت الحنفية، وذهبوا إلى انه يعتق من كل عبد ثلثه ويسعى كل واحد فى ثلثى قيمته للورثة، قالوا: وهذا الحديث آحادي خالف الأصول؛ وذلك لأن السيد قد أوجب لكل واحد منهم العتق، فلو كان له مال لنفذ العتق في الجميع بالإجماع، وإذا لم يكن له مال وجب أن ينبذ لكل واحد منهم بقدر الثلث الجائز تصرف السيد فيه. ورُد بأن الحديث الآحادي من الأصول، فكيف يقال: إنه خالف الأصول؟ ولو سلم فمن الأصول أنه لا يدخل ضررا على الغير وقد أدخلتم الضرر على الورثة وعلى العبيد المعتقين. وقال الشيخ ابن باز (رحمه الله) في تعليقه عن الحديث: الحديث فيمن كان له مال محدود من أرقاء، وأعتقهم أو أوصى بهم جميعا فليس له إلا الثلث، ولهذا لما عتقهم جميعًا وليس له مال غيرهم أقرع النبي (صلى الله عليه وسلم) بينهم؛ فأعتق أثنين وأرق أربعة، هذا هو الحكم، فإذا كانوا لأبيه وأوصى بعتقهم، فإنه يعتق الثلث ويخرج بالقرعة كما فعله النبي: : ، وهذا معنى حديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لسعد: «الثلث والثلث كثير»، ليس للموصي إلا الثلث سواء كان ماله أرقاء أو نقودًا أو أرضا ليس له إلا الثلث. تعليق العتق: 1369 - وعن سفينة (رضي الله عنه) قال: «كنت مملوكا لأم سلمة فقالت: أعتقك، واشترط عليك أن تخدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما عِشت». رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم. وهذا الحديث دليل على صحة اشتراط الخدمة على العبد المعتق، وأنه يصح تعليق العتق

الولاء لمن أعتق

بشرط، فيقع بوقوع الشرط، ووجه دلالته: أنه علم أنه (صلى الله عليه وسلم) قرر ذلك إذ الخدمة له، ورُوي عن عُمر أنه أعتق رقيق الإمارة، وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعد ثلاث سنين. قال الشيخ ابن باز (رحمه الله) في تعليقه: في هذا الحديث أن أم سلمة اشترطت على سفينة أن يخدم النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهذا يدل على أنه لا بأس بالشرط؛ فإذا قالت: أنت حُر لوجه الله بشرط أن تخدمني سنة أو سنتين، أو إلى أن تموت، أو بشرط أن تخدم فلانا فلا بأس، المسلمون على شروطهما، ولهذا أشارت (رضي الله عنها) على سفينة أن يخدم النبي (صلى الله عليه وسلم) ما عاش. الولاء لمن أعتق: (1370) - وعن عائشة (رضي الله عنها)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «إنما الولاء لمن أعتق». متفق عليه في حديث طويل. عن عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «إنما الولاء لمن أعتق»، وقد تقدم الحديث بطوله في البيوع بشرح الشيخ ابن عثيمين في قصة بريرة وتقدم شرحه للشيخ بما فيه كفاية، ونضيف هنا أن الولاء لمن أعتق سواء أعتقه تطوعا أو أعتقه في زكاة أو أعتقه في كفارة فالولاء له. مثال التطوع: اشترى رجل رقيقًا وقال له: أنت حُر، هذا تطوع ولا إشكال في كون الولاء للمعتق، ومثال الزكاة: من مصارف الزكاة للرقاب؛ لقوله تعالى: {وَفِي الرِقَابِ} [التوبة: 60]. ومن صور ذلك: أن يشتري من الزكاة عبدًا فيعتقه؛ فهذا رجل اشترى عبدا بزكاته، ثم أعتقه، فله عليه الولاء، لو أن هذا العبد اتجر وأغناه الله وصار عنده مال كثير، ثم مات وليس له عصبة فعاصبه المعتق. مثال الكفارة: إنسان عليه عتق رقبة كفارة كرجل ظاهر من زوجته، أو جامعها في رمضان فأول ما يجب عليه أن يعتق رقبة فإن أعتق رقبة، فالولاء له. وقال بعض أهل العلم: الولاء في غير التطوع يكون للجهة التي أعتقه من أجلها، فمثلاً: إذا أعتقه من زكاة يكون ولاؤه للفقراء؛ لأنه مصرف الكفارة، ولكن المشهور من المذهب أن كل من أعتق عبدا، فله ولاؤه؛ ولهذا قال المؤلف: «فله عليه الولاء» واستدلوا بعموم قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «إنما الولاء لمن أعتق». فلو قال قائل: ولو اختلف دينهما هل الولاء ثابت؟ الولاء ثابت وإن اختلف أهل العلم في حكم التوارث بينهما، والخلاف هنا أنه لا توارث بين مسلم وكافر وإن ثبت الولاء من أجل

بيع الولاء وهبته

اختلاف الدين، وهذا هو القول الراجح، أن الولاء ثابت ولكن لا توارث بينهما، ولو كان العبد الذي أعتقه سيده كافراً فإنه يثبت الولاء له عليه لكن الميراث لا يرثه لو مات، والمرأة لا ترث بالولاء إلا من أعتقت فلا ترث بالولاء بواسطة النسب. مثال ذلك: رجل وأنثى اشتريا أباهم ثم عتق عليهما، ثم إن الأب اشترى عبدا فأعتقه فهل يرثان أباهما ميراث نسب أم ميراث ولاء؟ الجواب: يرثانه ميراث نسب؛ لأن النسب مُقدم، فإن كانت البنت بذلت في قيمة والدها عشرة آلاف والابن بذل خمسة آلاف، فمات الأب، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فلو قالت: أنا بذلت أكثر من أخي في شراء والدي قلنا فالنسب مقدم على الولاء. قال الشيخ ابن باز (رحمه الله) في تعليقه على الحديث: هذا الحديث «إنما الولاء لمن أعتق» فإذا أعتق زيد سعيدا أو عمراً أو فلانا فالولاء له ولعصبته كما في حديث عائشة، فإنها أعتقت بريرة وقال لها النبي (صلى الله عليه وسلم): «الولاء لمن أعتق». بيع الولاء وهبته: 1371 - وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب». رواه الشافعي، وصححه ابن حبان والحاكم، وأصله في الصحيحين بغير هذا اللفظ. قوله (صلى الله عليه وسلم): «الولاء لحمة كلحمَة النسب» فيه تشبيه الولاء بلحمة النسب، ومعناه: أنه يجري الولاء مجرى النسب في الميراث كما تخالط اللحمة سدى الثوب حتى يصير كالشيء الواحد، والحديث دليل على عدم صحة بيع الولاء ولا هبته؛ فإن ذلك أمر معنوي كالنسب لا يتأتى انتقاله كالأبوة والأخوة لا يتأتى انتقالهما، وقد كانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره فنهى الشرع عن ذلك، وعليه جماهير العلماء، وروي عن السلف جواز بيعه، وروي عن آخرين منهم جواز هبته، وكأنهم لم يطلعوا على الحديث، وحملوا النهى على التنزيه، وهو خلاف أصله. قال الشيخ ابن باز (صلى الله عليه وسلم) تعليقا على هذا الحديث: «الولاء لحمة»، يُقال: لُحمة ولَحمة يعني: الولاء من جنس النسب، كما أن النسب لا يُباع فالولاء لا يُباع فمن يبيع أخاه أو عمه أو خاله؟ ! فهذا ثابت لا يُباع، بل يثبت الولاء عليه ولعصبته، وأصله في الصحيحين عن ابن عُمر: «أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن بيع الولاء وعن هبته» لأنه كالنسب لا يباع ولا يُوهب.

باب المدبر، والمكاتب، وأم الولد

1 - باب المدبر، والمكاتب، وأم الولد «المدبَّر»: اسم مفعول وهو الرقيق الذي عُلق عتقه بموت مالكه، وسُمّي بذلك؛ لأن مالكه دبر دنياه وآخرته، أما دنياه فاستمرار انتفاعه بخدمة عبده، واما آخرته فتحصيل ثواب العتق. و«المكاتب»: اسم مفعول أيضا وهو: من وقعت عليه الكتابة، وحقيقة الكتابة تعليق عتق المملوك على أدائه ملأ أو نحوه من مالك أو نحوه، وهو على خلاف القياس عند من يقول: إن العبد لا يملك. و«أم الولد» هي: الأمة التي استولدها سيدها، وقد سبق الحديث عنها في كتاب البيوع. المُدبر: 1372 - عن جابر (رضي الله عنه) «أن رجلا من الأنصار أعتق غلاما له عن دبر، ولم يكن له مال غيره، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم). فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم». متفق عليه. - وفي لفظ للبخاري: «فاحتاج» وفي رواية للنسائي: «وكان عليه دينٌ، فباعه بثمانمائة درهم، فأعطاه، وقال: اقضِ دينك». وقد سبق الكلام عن حديث جابر (رضي الله عنه) في أول كتاب البيوع واستوفى الشيخ ابن عثيمين الحديث عنه وذلك في قوله: أعتق رجل منا عبدا له من دُبر ولم يكن له مال غيره فدعا به النبي (صلى الله عليه وسلم) فباعه. قال صاحب «سبل السلام»: والحديث دليل على مشروعية التدبير، وهو متفق على مشروعيته، واختلف العلماء هل ينفذ من رأس المال أو من الثلث؟ فذهب الجمهور إلى أنه ينفذ من الثلث، وذهب جماعة من السلف والظاهرية إلى أنه ينفذ من رأس المال. واستدل الجمهور بقياسه على الوصية بجامع أنه ينفذ بعد الموت، وبحديث ابن عُمر مرفوعا: «المدبر من الثلث». ورد الحديث بأنه جزم أئمة الحديث بضعفه وإنكاره وأن رفعه باطل، وإنما هو موقوف على ابن عُمر. وقال البيهقي: الصحيح أنه موقوف وروى البيهقي عن أبي قلابة مرسلاً: «أن رجلا أعتق عبدا له عن دبر فجعله (صلى الله عليه وسلم) من الثلث». واستدل الآخرون بالقياس على الهبة ونحوها مما يخرجه الإنسان من ماله في حال حياته،

المكاتب عبد ما لم يفيا بما كوتب عليه

ودليل الأولين أولى، لتأييد القياس بالمرسل والموقوف؛ ولأن قياسه على الوصية أولى من القياس على الهبة. وفي الحديث فوائد منها: جواز بيع المدبر لحاجته لنفقته أو قضاء دينه، وقد ذهب طائفة إلى عدم جواز بيعه مطلقا مستدلين بقوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 10]. ورد بأنه عام خصصه حديث الكتاب. وذهب آخرون ومنهم: الشافعي وأحمد إلى جواز بيعه مطلقا مستدلين جابر وبشبهه بالوصية؛ فإنه إذا احتاج الموصي باع ما أوصى به وكذلك مع استغنائه قالوا: والحديث ليس فيه قصر البيع على الحاجة والضرورة، وإنما الواقع جزئي من جزئيات صور جواز بيعه، وقياسه على الوصية يؤيد اعتبار الجواز المطلق والظاهر القول الأول. وقال الشيخ ابن باز (رحمه الله) في تعليقه على الحديث: الحديث يدل على أن المدبر عبد ما لم يمت صاحبه؛ ولهذا أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) ببيعه وفاءً لدينه، فدل على أن حكمه حكم العبد وأنه يتصرف فيه مادام سيده حيّا وهكذا لو كان مُعلقا لو قال: إذا أهل رمضان فهو عتيق وباعه قبل ذلك فلا بأس. المكاتب عبد ما لم يفيا بما كُوتِبَ عليه: 1373 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم». أخرجه أبو داود بإسناد حسنٍ، واصله عند أحمد والثلاثة، وصححه الحاكم. والحديث دليل على أن المكاتب إذا لم يف بما كوتب عليه فهو عبد، له أحكام المماليك، وإلى هذا ذهب الجمهور، وفى المسألة خلاف، فقد رُوي عن علي (رضي الله عنه) أنه يعتق إذا أدى الشرط، ويُروي عنه أنه يعتق بقدر ما أدى، ودليله ما أخرجه النسائى من رواية عكرمة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «يؤدي المكاتب بحصته ما أدّى دية حُر وما بقي دية عبد». قال البيهقى: قال أبو عيسى فيما بلغني عنه: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: روى بعضهم هذا الحديث عن أيوب عن عكرمة عن علي، واختلف على عكرمة فيه ورواية عكرمة عن علي مرسلة وروايته عن النبي (صلى الله عليه وسلم) مرسلة، وروي عن علي من طرق مرفوعًا وموقوفًا.

المكاتب كالحر إذا ملك ما كوتب عليه

وقول الجمهور هو الأقرب، ودليله هذا الحديث الذي أيدته آثار سلفية عن الصحابة؛ ولأنه أخذ بالاحتياط في حق السيد فلا يزول ملكه إلا بما رضي به من تسليم من عند عبده. وقال الشيخ ابن باز (رحمه الله): هذا الحديث يدل على أن المكاتب عبد ما دام عليه درهم فإذا كاتبه على أموال مؤجلة فهو في حكم العبد له النظر إلى سيده وإذا مات، مات رقيقا وولاؤه لسيده حتى يؤدي ما عليه. المكاتب كالحر إذا ملك ما كوتب عليه: المكاتب كالحر إذا ملك ما كوتب عليه: 1374 - وعن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي؛ فلتحجب منه». رواه الخمسة وصححه الترمذي. هذا الحديث يدل على مسألتين وهما: أولاً: أن المكاتب إذا صار معه جميع مال المكاتبة فقد صار له ما للأحرار فتحتجب منه سيدته إذا كان مملوكا لامرأة وإن لم يكن قد سلم ذلك، وهذا الحديث معارض لحديث عمرو بن شعيب وقد جمع بينهما الشافعي فقال: هذا خاصاً بأزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو احتجابهن عن المكاتب، وإن لم يكن قد سلم مال الكتابة إذا كان واجدا له وإلا مُنع من ذلك كما منع سودة من نظر ابن زمعة إليها مع أنه قد قال: الولد للفراش. والمسألة الثانية: أن الحديث يدل بمفهومه على أنه يجوز لمملوك المرأة النظر إليها ما لم يكاتبها ويجد مال الكتابة وهو الذي دل له منطوق قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]. ويدل له أيضا قوله لفاطمة لما تقنعت بثوب، وكانت إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك». قال الشيخ ابن باز (رحمه الله) في تعليقه على الحديث: هذا الحديث «إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي به فلتحتجب منه»، هذا قد يظهر أنه مثل الذي قبله لكن المعنى صحيح؛ لأنه إذا كان عنده ما يؤدي فقد يتساهل فيحصل لها النظر، وعدم التحرز منه وهي عندها ما يمنع ذلك فسدّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا الباب سدا للذريعة؛ لأنه إذا كان عنده ما يؤدي، فإنه يُسلم المال وعلى سيدته الاحتجاب منه ولا يحصل التساهل، فالذي عنده ما يؤدي كالذي أدى يكون كالأحرار تحتجب منه، حتى لا يكون تساهل في هذا الامر، فلو كوتب على (10000) كل

دية المكاتب

سنة ألفان وأداهما، وكان عنده الألفان الأخيرة حاضرة، فإن له حكم الحر ليس لها أن تنكشف أمامه وإنما تحتجب منه، وهذا من باب الحيطة وسد الذرائع التي قد تُفضي إلى التساهل فيما حرم الله، فإذا كان عنده ما يُؤدي وجب تسليمه والاحتجاب عنه وصار في حكم الأحرار، ولا يجوز التساهل لا له ولا لسيدته. دية المكاتب: 1375 - وعن ابن عباس (رضي الله عنهما)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «يؤدي المكاتب بقدر ما عتق منه دية الحر، وبقدر ما رق منه دية العبد». رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. قال الشيخ ابن باز (رحمه الله) هذا الحديث: جاء من طرق بعضها مدلس، وله طرق أخرى جيدة من حديث علي عند أحمد معناه: أنه إذا أعتق نصفه يكون دية الحر بالنصف والباقي دية العبد، فإذا عجز المكاتب ولم ينجز النصف وأعتقه سيده فالنصف مثل الحر، وما بقي من في الرق، ولا يكون بين الحديث وما تقدم معارضة؛ لأن لفظ الحديث يقول: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم»، فذاك إذا ما بقي ولم يعتق منه شيء ثم إذا أعتق السيد نصفه أو ثلثه أو ربعه بما أدَّى يؤدي دية الحُر، وما بقي من الرق ولم يسع في تخليص نفسه يكون دية الرق. تركة النبي (صلى الله عليه وسلم): 1376 - وعن عمرو بن الحارث أخي جويرية أم المؤمنين (رضي الله عنها) قال: «ما ترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند موته درهما ولا دينارا، ولا عبدا ولا أمة، ولا شيئا، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، ,ارضا جعلها صدقة». رواه البخاري. هذا الحديث دليل على ما كان عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) من تنزهه عن الدنيا وأدناسها وأعراضها، وخلو قلبه وقالبه عن الاشتغال بها؛ لأنه متفرغ للإقبال على تبليغ ما أمر به، وعبادة مولاه، والاشتغال بما يقربه إليه، وما يرضاه، وقولها: «ولا عبدًا ولا أمةً» وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أعتق ثلاثا وستين رقبة فلم يمت وعنده مملوك. قال الشيخ ابن باز (رحمه الله) في تعليقه على هذا الحديث: هو دليل على أنه (صلى الله عليه وسلم) كان ينفق، كان أجود الناس، وما يأتيه من المال ينفقه في وجوه البر ولهذا لما تُوفي ما ترك شيئًا من المال إلا بغلته البيضاء التي يركبها وسلاحه وأرضا التي كانت في «فدك» جعلها صدقة، وكانت لمصلحة

عتق أم الولد بوفاة سيدها

المسلمين، هذا فيه الإحسان من ولي الأمر للمسلمين ينبغي له أن يجود على الناس من بيت المال، ويحسن للناس لسما فيهم من الضعيف والمسكين، يُنفق من بيت المال لمصلحة المسلمين. عتق أم الولد بوفاة سيدها: 1377 - وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أيما أمة ولدت من سيدها؛ فهي حُرة بعد موته». أخرجه ابن ماجه، والحاكم بإسناد ضعيف، ورجح جماعة وقفه على عمر (رضي الله عنه). قال الشيخ ابن باز (رحمه الله) في تعليقه على هذا الحديث: هذا الحديث - حديث ابن عباس - فيمن استولد جارية فإنه يعتقها وولدها، هذا ضعيف والمحفوظ عند أهل العلم أنه من اجتهاد عمر (رضي الله عنه). فإن عمر (رضي الله عنه) أعتق الجواري اللاتي استولدهن سادتهن، وعلى هذا يرجح العلماء قول الجمهور أن الجارية إذا أولدها سيدها فإنه يعتقها تكون حُرة باستيلاد سيدها لها، وبهذا حكم عمر (رضي الله عنه) وهذا الذي عليه الجمهور. وقال صاحب «سبل السلام»: والحديث دال على حرية أم الولد بعد وفاة سيدها، وعليه دل الحديث الأول حيث قالت: «ولا أمة»، فإنه (صلى الله عليه وسلم) خلف مارية القبطية أم إبراهيم وتُوفيت في ايام عُمر فدل [على] أنها عتقت بوفاته (صلى الله عليه وسلم). 1378 - وعن سهل بن حنيف (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «من أعان مجاهدا في سبيل الله، أو غارما في عسرته، أو مكاتبا في رقبته، أظله الله يوم لا ظل إلا ظله». رواه أحمد، وصححه الحاكم. قال الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله) في شرحه للحديث: نعطي سيده من الزكاة دون أن يعلم؛ لأنه داخل في قوله تعالى: {وَفِي الرِقَابِ}. وقوله: «أظله ألله يوم لا ظل إلا ظله»؛ يعني: يوم لا ظل إلا الظل الذي يخلقه الله (عز وجل)؛ لأن في يوم القيامة لا يوجد بناء ولا أشجار ولا جبال تُظِل، الشمس فوق الرؤوس ولا يوجد ظل، إلا ظل يخلقه الله (عز وجل) فيظله على من يشاء ولهذا جاء في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم): «كل امرئ في

ظل صدقته يوم القيامة». وإعانة المكاتب لا شك أنها من الصدقة، وكذلك الغارم، وكذلك المجاهد وقد جاء عن النبي (صلى الله عليه وسلم): «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه»، وإنما قال: يوم لا ظل إلا ظله؛ لأنه في الدنيا هناك ظلال غير ظل الله (صلى الله عليه وسلم) وهو ما يبنيه الإنسان من المساكن والعرش، فيستظل به، أما في الآخرة فليس هناك شيء، لا يوجد إلا ظل الله (عز وجل). قال الشيخ ابن باز (رحمه الله) تعليقا على هذا الحديث: فيه رواية أخرى عن أبي هريرة عند النسائي وابن ماجه يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «ثلاثة حق على الله عونهم المجاهد في سبيل الله»، وفي رواية «الغازي في سبيل الله، والناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء». وقوله: «أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» هذا فيه الحث على مساعدة الغزاة في سبيل الله ومساعدة الناكح الذي يريد العفاف، والغارم الذي يحتاج إلى أن يُعان على قضاء دينه، والمكاتب الذي يريد أداء مكاتبته، هؤلاء يستحقون العون من إخوانهم، الغازي في سبيل الله والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد فك نفسه، والغارم الفقير، كل هؤلاء ومن شابههم في حاجة إلى المساعدة ومن ساعدهم له هذا الفضل العظيم؛ ولهذا يقول (صلى الله عليه وسلم): «ثلاث حق على الله عونهم المجاهد في سبيل الله ... إلخ» هذا فيه حث على مساعدة هؤلاء الغارمين المعسرين، والمكاتبين العاجزين، والغزاة في سبيل الله، هؤلاء في حاجة إلى مساعدة، وهكذا الناكح الذي يريد العفاف يستحق العون، لأنه عاجز عن مؤنة النكاح.

كتاب الجامع ويشتمل على: 1 - باب الأدب. 2 - باب البر والصلة. 3 - باب الزهد والورع. 4 - باب الترهيب من مساوئ الأخلاق. 5 - باب الترغيب في مكارم الأخلاق. 6 - باب الذكر والدعاء.

كتاب الجامع

كتاب الجامع 1 - باب الأدب معنى الأدب الإسلامي وأنواعه: ختم المؤلف (رحمه الله) كتابه بلوغ المرام من أدلة الأحكام بكتاب الجامع، والمراد: أدلة الأحكام الفقهية يعني: أنه متنوع لا يختص بباب دون الآخر، وبدأ بالأدب. أنواع الأدب: والأدب نوعان: أدب مع الله، وأدب مع عباد الله. فالأدب مع الله تعظيم الله (عز وجل)، وألا يتقدم الإنسان بين يديه في تحليل حرام أو تحريم حلال أو إيجاب ما لم يوجبه، وكذلك لا يعصي الله (عز وجل) لا سرًا ولا علنًا؛ لأن الذي يعصي الله لم يتأدب مع الله (عز وجل) فالأدب مع الله: هو عبارة عن القيام بطاعته وتعظيمه; وألا يتقدم الإنسان بين يديه، إلى غير ذلك من الآداب. ومن الأدب مع الله أن تتأدب مع الله تعالى بما تتأدب به مع الناس مثال ذلك: كشف العورة، يستحيي الإنسان أن يكشف عورته أمام الناس، والله تعالى أحق أن يستحيا منه، هذا لم يكن حاجة، فالمهم أن الأدب مع الله ينحصر في أن تقوم بطاعة الله تعالى معظمًا له محترمًا لشرائعه. الأدب مع عباد الله هو فعل ما يجمله ويزينه، واجتناب ما يدنسه ويشينه؛ يعني: أن يفعل كل ما يُجمل، كل ما يمدح عليه، كل ما يوافق المروءة، هذا هو الأدب مع الناس. اختلاف الأديب باختلاف الأمم: ويختلف هذا باختلاف الأمم، تجد عند بعض الأمم أشياء لا تخل بالأدب بينما هي عند آخرين تخل بالأدب، بل تجد الأمم تتغير أحوالها فى بعض الأزمان يكون هذا الفعل يخل بالأدب وفى بعض الأزمان لا يخل بالأدب، نحن أدكنا أنه لا يمكن لإنسان أن يشرب الشاهي فقط على عتبة الدكان، وأنه إذا فعل ذلك فهو خارم للمروءة، الآن هل يخالف الأدب أن تشرب فنجان شاهي في دكانك؟ كذلك أيضا أدركنا أن الأكل في السوق من أقبح ما يكون، الآن الأكل في السوق عادة، المطاعم منتشرة في الأسواق، لكن ظهرت عادة سيئة في الواقع

حقوق المسلم على أخيه

عند المترفين من بني جنسنا، بدأت بعض العوائل مع الأسف لا تطبخ في بيتها، إذا جاء وقت الغداء خرج الرجل بعائلته إلى المطعم، وجلس في المطعم يأكل هو وعائلته، وكذلك حوله الناس، تقليدا للغربيين وهذه عادةً سيئة؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يتحدث كما ينبغى وكما يريد في حضرة الناس، ثم إن غالب هؤلاء تجد المرأة منهم متبرجة كاشفة وجهها وربما تضحك إلى أختها ولا تبالي و- العياذ بالله -. يوجد ناس وسط صاروا لا يطبخون في بيوتهم ولكن يأتون بالطبخ من الخارج ويأكلون في البيت وهذه أيضا عادة سيئة، أيهما أولى أن تطبخ طبخا أنت الذي تتولاه وتطبخه على مزاجك وعلى مذاقك، وآمن من أن يكون قد عفن وآمن أن يكون فيه أشياء محذورة أو أن تأكل من المطاعم؟ لا شك أن الأول أولى، لكن مع الأسف أن الإنسان إذا اختار شيئا أو هوى شيئا أعماه الهوى عن الأفضل وعن الحق. حقوق المسلم على أخيه: (1379) - عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه». رواه مسلم. قوله: «حق المسلم على المسلم ستُ» هذا لا يعني الحصر، لكن التي (صلى الله عليه وسلم) أحيانا يذكر الأشياء المتفقة في حكم من الأحكام ويحصرها مع أن غيرها ثابت، فهنا ليس على سبيل الحصر بل هناك حقوق أخرى، «حق المسلم على المسلم»، من المسلم؟ المسلم: مَن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ولم يأت بمكفر، أولاً: «إذا لقيته فسلم عليه» هذا حق، حق لأخيك عليك إذا لقيته أن تسلم عليه: يعني وإن كان مجاهراً بالمعصية؟ الجواب: نعم، وإن كانَ مجاهراً بالمعصية، وسيأتي التفصيل، ثانيا: «إذا دعاك فأجبه»: إذا دعاك إلى أي شيء؟ إلى طعام وليمة، ليس المعنى إذا دعاك لكل شيء، قد يدعوك مثلا أن تذهب معه إلى ملهى، هذا لا يريده الرسول (صلى الله عليه وسلم)، يريد إذا دعاك إلى طعام فأجبه أو دعاك إلى شراب كالشاهي والقهوة فأجبه. ثالثا: يقول: «وَإِذَا استنصحك فانصحه» يعني: طلب منك النصيحة، فانصحه أي: اذكر له النصيحة، وما هى النصيحة التى تسديها؟ النصيحة: أن تختار له إذا استنصحك ما تختاره لنفسك. رابعًا: «إذا عطس فحمد الله فشمته» العطاس معروف، والحمد معروف، يعني: إذا عطس وقال: الحمد لله فمن حقه عليك أن تشمته، وسيأتي بيان ذلك وكيفيته في الفوائد.

إلقاء السلام ورده

خامسًا: «وإذا مرض فعده»، إذا مرض مرضا يمنعه عن الخروج إلى الناس بدليل قوله: «فعده»؛ لأنه إذا كان مرضه يسيرا لم يمنعه من الخروج فلا حاجة لعيادته؛ لأنه سوف يراه الناس فى السوق أو فى المسجد فلا حاجة. سادسًا: «وإِذَا مات فاتبعه»، وهل اتباعه واجب أو ليس بواجب؟ يأتي تفضيله في الفوائد إن شاء الله. من فوائد الحديث: بيان شيء من حقوق المسلم على أخيه وهي ستة أشياء كما ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) هنا. ومن فوائد الحديث: أن للإنسان حقوقا تثبت للمسلمين بعضهم على بعض، وذلك من أجل روابط الأخوة ووشائج الصلة حتى يكون بعضهم قائمًا بحقوق أخيه فيحصل الالتئام والائتلاف. إلقاء السلام ورده: ومنها: أن من حق المسلم على أخيه: إذا لقيه أن يسلم عليه، وهل هذا الحق واجب؟ الجواب: ليس بواجب، بدليل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) رخص في الهجر فيما دون ثلاث فقال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، وعلى هذا فليس ابتداء السلام واجبا ما لم يصل إلى حد الهجر. ومنها: أنه لا حق لغير المسلم في السلام عليه لقوله: «حق المسلم على المسلم»، ولكن هل يجوز للمسلم أن يبدأ غيره بالسلام؟ الجواب: لا؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى أن يبدأهم به، فقال: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام»، ولكن إذا سلم الكافر وجب الرد عليه لقوله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]. يعني: على الأقل ردها، وهل يرد بمثله - يعني: غير المسلم - أو أكثر أو أقل؟ أما أقل فلا يجوز، وأما مثله فجائز، وأما الزيادة فالأظهر عدم جوازها؛ لأنه كان لا يجوز أن تبدأه بالسلام فإن الزيادة بمنزلة الابتداء؛ لأن فيها زيادة إكرام وتعظيم واحترام، إذن يردُّ عليه بالمثل، فإذا قال: السلام عليكم، فقل: وعليكم السلام، هذا هو المثل، وأما إذا قال: السام عليكم، فقل: وعليكم، ولا تقل: وعليكم السام، وإن كان قولك: وعليك السام هو العدل، لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: «قولوا: وعليكم»، ويحتمل أنه إذا صرح السام عليكم أن لك أن تصرح وتقول: عليك السام، لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: «إن اليهود

إذا سلموا وقالوا: السام عليكم، فقولوا: وعليكم»، وهذا يدل على أن اقتصار المسلم على ما ليس فيه أذى هو الأولى؛ لأن هذا من خلق المسلم إذا قال: السام عليكم تقول: وعليك، أما إذا كان لم يفصح بقول: السام أو السلام الواجب، فالواجب أن يقال: وعليكم، وجوبًا لا يزيد، ولا يقول: عليكم السلام ولا وعليكم السلام؛ لأنه يحتمل أنه قال: السام، ويحتمل أنه قال: السلام، فأنت تقول: وعليكم، إن كان قال السام فعليه السام، وإن كان قال السلام فعليه السلام. ومن فوائد الحديث: أن مطلق السلام كافي، الحديث يقول: «إذا لقيته فسلم عليه»، ولم يذكر الصيغة، فهل الأولى أن تقول: سلامُ عليك، أو السلام عليك، أو سلام عليكم، أو السلام عليكم، بمعنى: هل الأفضل جمع الكاف أو الأفضل إفرادها، وهل الأفضل التنكير أو التعريف؟ في هذا خلاف بين العلماء، والأظهر: أن الأفضل التعريف مع الإفراد بأن تقول السلام عليك ويجوز أن تقول: السلام عليكم إما تعظيمًا له إن كان أهلاً للتعظيم، وإما للإشارة إلى من معه من الملائكة. ويجوز سلامُ عليك، أو سلام عليكم بالتنكير؛ لأنه ورد السلام وورد سلام بالتنكير، واختار أصحابنا - رحمهم الله- أن التعريف أفضل، يعني: السلام عليكم وهذا هو الذي جاع في القرآن: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَن اتَّبَعَ الهُدى} [طه: 47]. وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: «السلام على من اتبع الهدى»: وقال في زيارة القبور: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين». ومن ذلك: «إذا لقيته فسلم عليه»، ظاهر الحديث أن تبدأ بالسلام، ولو كان أكبر منك أو أصغر أو أكثر أو أقل، وهذا هو الحق أن الأفضل أن تبدأ بالسلام حَتّى وإن كان دونك؛ لأنه أضاع ما هو حق عليه فلا تُضيع أنت السُنة كلها، وإلا فإن الأفضل أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي، والماشي على القاعد، لكن لو فرض أن واحدا منهم لم يقم بما ينبغي أن يقوم به فلا تدع السُنة، لا تقل: الحق عليه هو الذي يسلم، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، سواء كان صغيرًا أو كبيرا.

حكم إجابة الدعوة والنصيحة للمسلم

حكم إجابة الدعوة والنصيحة للمسلم: ويستفاد من هذا الحديث: أنه إذا دعاك أخوك المسلم فإنك تجيب، وهل هذا على سبيل الوجوب؟ نقول: أكثر العلماء يرى أنه ليس على سبيل الوجوب إلا فى وليمة العُرس أول مرة، واختار بعض العلماء أن ذلك على سبيل الوجوب لظاهر الأمر، ولظاهر كونه حقًا، وإنما قلنا في السلام إنه على سبيل الاستحباب لوجود أدلة تدل على أنه ليس للوجوب. والأظهر أن الإجابة ليست واجبة إلا في وليمة العُرس، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال فيها: «ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله»، وظاهر الحديث: الوجوب مطلقًا لكنه يجب أن يقيد بما دلت عليه النصوص منها: أولا: ألا تعلم أنه دعاك إلى وليمة محرمة، كما لو عرفت أن هذا قاطع طريق يسرق أموال الناس ثم يدعوهم إليها فهذا لا تجبه ويحرم عليك إجابته. ثانيًا: ألا تعلم أن في الدعوة منكرًا، فإن علمت أن في الدعوة منكرا نظرنا إن كنت تستطيع أن تزيله وجب عليك الحضور لسببين هما: إجابة الدعوة إذا قلنا بالوجوب، والثاني: إزالة المنكر، وإن كنت لا تقدر حرم عليك الإجابة؛ لأنك لو أجبت إلى دعوة فيها منكر لا تستطيع إزالته وجلست معهم كنت شريكهم في الإثم بدليل قوله تعالى: {وَقَدْ نزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140]. وظاهر الحديث «إذا دعاك فأجبه»، أنه لا فرق بين أن يكون الداعي كبيراً أو صغيرًا ما دام يصح أن يتصرف، فإذا دعاك إنسان مراهق - يعني: قد بلغ وتصرفه صحيح - فأجبه ولا مانع، وإذا دعاك باسم أبيه فهل تجبه ولو كان صغيرًا؟ نعم؛ لأنه نائب عن أبيه وكثيرًا ما يرسل الإنسان أولاده الصغار إلى جيرانه أو أصحابه ويقول: تفضلوا مثلاً. ومن فوائد الحديث: وجوب نصيحته إذا استنصحك، يعني: إن طلب منك النصح بمشورة أو غير مشورة وجب عليك أن تنصح له، يعني: أن تذكر له ما هو الأكمل والأفضل، فإن تساوى عندك أمران أحدهما فاضل، والثاني أفضل، فالواجب أن تنصح بالأفضل، لا تقصر على أدنى شيء، الواجب أن تنصح بالأفضل، إذا لم يستنصحك بقوله ولكن استنصحك بفعله بأن تعلم أن الرجل سيقدم على أمر يضره حاضراً أو مستقبلاً وأنت تعلم هذا وتعلم أنه يفرح إذا أهديت إليه النصيحة، فهنا تجب النصيحة؛ لأن هذا وإن لم يستنصحك بالقول فإنه قد استنصحك بالفعل، إذا استنصحك فى أمر وأنت لا تعرف هذا الأمر فهل تتحيط وتقول: أظن لو فعلت كذا لكان كذا، أو يجب عليك أن تتوقف؟ الواجب أن تتوقف؛ لأن هذا مقتضى النصيحة، إذ قد تنصحه بشيء يكون ضررا عليه.

آداب العطاس والتشميت

آداب العطاس والتشميت: من فوائد الحديث: أنه إذا عطس فحمد الله فشمته. ومفهوم الحديث من فوائده: أنه إذا لم يحمد الله فلا تشمته، وسبق معنى التشميت هو: أن تقول له: يرحمك الله إلى ثلاث مرات، فإذا شمته ثلاث مرات وعطس فى الرابعة فقل له: عافاك الله إنك مزكوم، وقوله: «إِذَا عطس فشمته» هل الأمر هنا للوجوب؛ بمعنى: هل هنا الحق واجب؟ الجواب: نعم، هو واجب، لكن هل هو واجب على الكفاية أو واجب عيني؟ اختلف العلماء في ذلك بناء على قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «إذَا عطس المسلم - أو قال: المؤمن - فقَالَ: الحمد لله كان حقا على كل مَنْ سمعه أن يقول يرحمك الله». فظاهر هذا الحديث: أن التشميت واجب لقوله: «كان حقا» وأنه عيني، لقوله: على كل من سمعه، ولكن أكثر العلماء يقولون: إنه فرض كفاية. ومن فوائد الحديث: - في هذه الجملة -: جواز التعزير بترك المحبوب، يؤخذ ذلك من أنه لما لم يحمد عُزر بترك الدعاء له، والتعزير كما يكون بفوات المحبوب، يكون أيضا بحصول - المكروه، قلنا: إذا عطس ولم يحمد فلا تشمته ولكن هل تذكره؟ الظاهر أنه إذا لم يحمد ولو ناسيا فلا تذكره هل تعلمه إذا كان جاهلاً؟ الظاهر نعم؛ لأننا إذا عرفنا أن هذا الرجل ما ترك الحمد إلا جهلاً فينبغي تعليمه، وفي هذه الحال إذا علمته فقال: الحمد لله هل يجب أن تشمته؟ نقول: هذا الرجل عطس وحمد الله فشمته فيكون لك أجر من جهتين: من جهة أنك علمته ومن جهة أنك شمته، إذا عطس اثنان وحمدا جميعًا فكيف نشمتهما؟ نقول: يرحمكما الله وإن حمد أحدهما أو لأشمته أولاً، ثم الثاني، وإن عطس أحدهما أولاً ولكن حمد آخر فهل العبرة بعطاسه أو بحمده؟ الجواب: بحمده. عيادة المريض: ومن فوائد الحديث: أن من حق المسلم على أخيه أن يعوده إذا مرض لقوله: «وإذا مرض فعده» وهل هذا واجب أو لا؟ أكثر العلماء على أنه سنة، والصواب أنه واجب كفائي، وأنه يجب للواحد من المسلمين

آداب اتباع الجنائز

أن يعوده المسلمون، وألا يتركوه؛ لأن هذا انفصام عُرى بين المسلم وأخيه، أخوك له مدة منحبس في بيته من المرض لا يعوده أحد من الناس! فالصواب: أن عوده أو أن عيادته فرض كفاية، إذا علمت أن أحدا لم يأت من الناس وجب عليك أن تذهب أنت بنفسك وتعوده. ومن فوائده: أنه إذا مرض مرضا لا يقعده فإن عيادته ليست حقّا علينا، وجه ذلك أن العيادة إنما تكون لمنحبس وأما من كان يمشي مع الناس ويذهب ويجيء، لكن في عينه مرض أو في وجهه جرح أو غير ذلك فهذا لا يُعاد، وإنما يُعاد من حُبس، ولم يذكر في هذا الحديث ماذا عليه عند العيادة هل يخفف العيادة أو يتباطأ فيها؟ هل يتكلم فيها؟ هل يسكت؟ يقال: يُراعى في ذلك حال المريض، إذا كان المريض يأنس لك وتعرف أنه منشرح صدره ويحب أن تبقى وأن تحدثه فالأفضل أن تجلس وتحدثه، وأما إذا عرفت أنه قلق وأنه يحب أن ينفرد بأهله دون غيرهم من الناس فالأفضل التخفيف، كذلك أيضا إذا رأيت من المناسبة أن تتلو عليه آيات تحث على الصبر، ويتبين له ثواب الصابرين، والأحاديث كذلك فافعل، فإن رأيت أنه يحب (الكلام عما سبق) وأنك تقول له: أتذكر يوم كذا ويوم كذا فاعمل ما يدخل السرور عليه. هل يعود غير المسلم؟ الجواب: فيه تفصيل إن كان في ذلك مصلحة فلا بأس أن يعوده، مثل أن يكون هذا المريض من غير المسلمين قريبًا إلى الإسلام وأن الإنسان إذا ذهب وعرض عليه الإسلام فربما يُسلم فهنا نقول: عيادتك هنا مطلوبة من أجل ما يترتب عليها من المصلحة والنبي (صلى الله عليه وسلم) عاد عمه وهو في مرضه، وعاد يهوديا في المدينة وهو في مرضه وعرض عليه الإسلام فأسلم، فإذا علمت أنك إذا ذهبت إلى هذا الكافر وعرضت عليه الإسلام أنه قريب فافعل، وإلا فلا تعد إلا إذا كانت عيادته من صلة الرحم فعده؛ لأن صلة الرحم حق لمن كان مسلمًا ومَن كان كافراً؛ لقوله تعالى في الوالدين: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]. آداب اتباع الجنائز: ومن فوائد الحديث: من حق المسلم إذا مات أن نتبعه لقوله: «وإذا مات فاتبعه»، واتباع الجنائز فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، ودليل هذا من السُنة كثير جدا. ومنها: مُر بجنازة بالنبى (صلى الله عليه وسلم) وهو جالس بأصحابه فأثنوا عليها خيرا فقال: وجبت، وأخرى أثنوا عليها شرا فقال: وجبت، ولم يذكر أنه قام واتبعها، والشواهد على هذا كثيرة، بمعنى: أن اتباع الجنائز فرض كفاية وليس بواجب على العين.

وسيلة عدم ازدراء نعمة الله

مما يتعلق باتباع الجنازة أن متبع الجنازة له أجر، ان شهدها حتى يصلي عليها فله قيراط، وإن شهدها حتّى تُدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان يا رسول الله؟ قال: «مثل الجبلين العظيمين أصغرها مثل أحد». إذا كان مع الجنازة منكر مثل أن يكون المشيعون لها يصطحبون ما يسمونه بالموسيقى الحزينة وما أشبه ذلك، إذا كان معه موسيقى حزينة ولا يمكن أن تغيره فلا تتبعه؛ لأن كل شيء فيه منكر لا يمكنك تغييره، فإن حضوره حرام عليك. ومما يتعلق باتباع الجنازة أنه ينبغي لمن يتبع الجنازة أن يكون مفكرا في مآله متعظا بما يشاهد، فهذا الرجل الذي [هو] اليوم محمول على الأكتاف، كان بالأمس هو يحمل الناس على كتفه، وهذا الرجل الذي كان أمس يمشي على ظهر الأرض هو الآن سوف يدفن في باطن الأرض، وهل أنت بعيد من ذلك؟ لا تدري لعله تمضي سويعات فيفعل بك ما فعل به، فينبغي لتابع الجنازة أن يفكر في أمره ومآله، خلافا لبعض الناس الذينَ إذا اتبعوا جنازة صاروا يقهقهون ويتكلمون في أمور الدنيا، ويقولون: ماذا بعت اليوم، وماذا اشتريت، وماذا أكلت، وماذا شربت، ما أحسن هذا الثوب وغير ذلك هذا غلط، المقام لا يقتضي هذا ولكل مقام مقال. وسيلة عدم ازدراء نعمة الله: 1380 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم». متفق عليه. انظروا: الأمر هنا للإرشاد، وقوله: «انظروا» هل المراد: النظر بالعين يعني: بالبصر أو بالبصيرة؟ الثاني، النظر بالبصيرة، وقوله «إلى من هو أسفل منكم» يعني: بنعمة الله عليه، سواء كانت النعمة دينية أو دنيوية، لا تنظر لمن فوقك، بل انظر إلى من هو دونك، وعللها الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقال: «فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم»، ونعمة الله تشمل نعم الدين ونعم الدنيا، وهذا من الإرشاد الحكيم؛ لأنه لاشك أن الله تعالى جعل الناس متفاوتين {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بعْضَهُمْ عَلَى بعْضٍ} [الإسراء: 21]. متفاوتين في المال، في العقل، في القوة، في الولد، في كل شيء، حتّى في الصورة الخلقية الناس يتفاوتون. ويقال: إنه لا يمكن أن تجد اثنين متساويين في كل شيء حَتّى وإن تقاربوا في الشبه جدا فلابد أن يكون بينهم تفاوت، فإذا كانوا متفاوتين فمنهم العالي ومنهم النازل، وأنت لا تنظر إلى

العالي؛ لأنك إذا نظرت إلى العالي احتقرت نعمة الله عليك، بل انظر إلى من دونك، ولنفرض مثلاً أن نظرك ضعيف لا يتجاوز عشرين مترا، ويوجد من نظره لا يتجاوز عشرة أمتار، ويوجد من نظره يتجاوز مائة متر، الذي فوقك الآن هو الذي يتجاوز مائة متر ودونك عشرة أمتار وأنت بينهما، إن نظرت إلى الأعلى ستقول: الله ما رزقني، مثل هذا وأعطاني أقل فتزدري نعمة الله عليك في هذا البصر، إذا نظرت للثاني قلت الحمد لله، أعطاني الله خيرا منه فعرفت قدر نعمة الله عليك وشكرته على ذلك، في العلم رأيت شخصا عنده حافظة قوية وذاكرة قوية وفهم قوي، وإنسان تُحفظه اليوم سطرا واحدا وقبل أن يبرد مجلسه من سخونته إذا قام منه وجدته ناسيا وأنت يبقى العلم معك لمدة ساعتين أو ثلاثة أو أربع أو خمس ساعات، إن نظرت إلى الذي يبقى الحفظ معه شهرين أو سنتين قلت: ما عندي شيء، وإن نظرت للثاني قلت: الحمد لله عندي خير متين يتبين لك نعمة الله؟ إذا نظرت إلى من دونك في الأخلاق كذلك وجدت إنسانا في غاية ما يكون الأخلاق، صدره منشرح، وجهه طليق كلامه طيب، دائم البشر دائم التبسم، وآخر - أعوذ بالله- وجه عبوس قمطرير لا يريد أحد يتكلم وأنت بالوسط تنظر إلى من؟ إلى الأسفل، لو وجدت إنسانا كثير العبادة من صلاة وصدقة وصوم وبر الوالدين وصلة رحم، وإنسانا دون ذلك أي: مهمل وأنت بينهما تنظر إلى من؟ تنظر إلى الأسفل؛ لأن نعمة الله فى الدين أقوى وأشدُ فضلاً من نعمة الدنيا تقول: الحمد لله الذي هداني أنا في خير، لكن هذا لا يمنعك أن تستبق الخيرات لا تقول: قف مكانك، بل اسع في الخير، لكن من حيث النعمة لا تنظر إلى من هُوَ أعلى منك؛ لأنك إن نظرت إلى من هو أعلى منك تقول ما أنعم الله على، وأما تفريق بعض العلماء بين أمور الدين والدنيا ففيه نظرا؛ لأن الحديث عام والإنسان يغبط الشخص الذي أعطاه الله تعالى قوة في الدين وفعلاً للخيرات وتركا للمنكرات من إنسان دون ذلك ولا يرى أن الله أنعم عليه كما أنعم على الآخر العالم، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) أرشدنا إلى هذه النظرية بالإضافة إلى نعمة الله علينا ليس بالإضافة إلى فعلنا، حَتّى فى أمور الدُّنيا، إذا رأيت إنسانا أنعم الله عليه بخلق طيب وإنسانًا بالعكس ألا يجدر بك أن تكون مثل الأول، حَتَّى الإنسان الذي أنعم الله عليه بالمال ربما يقول: أنا أسعى لطلب المال لعل الله يوفقني كما وفق الآخر، على كل حال إذا كان المقصود النظر إلى ما أنعم الله به من مال وبنين وعلم وعمل وعبادة بالنظر إلى إضافته إلى الله فانظر إلى من هُوَ أسفل مطلقا حَتَّى تعرف قدر نعمة الله عليك بأن الله فضلك على من دونك، لكن لو نظرت إلى الأعلى فلابد أن تزدري النعمة وتنتقصها وتقول: الله ما أعطانى شيئا الله، من على هذا بالمال والعبادة وأنا محروم، لكن هذا لا يمنع أن نقول: استبق الخبرات، انظر إلى فعلك أنت مقصر.

البر والإثم وضوابطهما

من فوائد الحديث: حُسن إرشاد النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذا الكلام الذي يعتبر قاعدة في النظر إلى نعم الله، أن تنظر إلى من دونك، نحن لو نظرنا إلى الأغنياء سيارات فخمة وقصور فخمة أزواج وبنين وأموال، نحن ما عندنا شيء سيارات موديل واحد وتسعين والبيت شعبي، وأشياء كثيرة لا نحب أن نقولها، هل نحن الآن لو نظرنا إلى من هو دوننا من ليس عنده بيت ولا زوجة ولا سيارة ولا طعام يكفيه هل ننظر للأول أو الثاني؟ للثاني حتى نعرف أن الله أنعم علينا بشيء، فالمهمة أن هذه قاعدة ذكرها نبينا (صلى الله عليه وسلم) وهذه حقيقة ينبغي للإنسان أن يبني حاله عليها. ومن فوائد الحديث: حُسن تعليم الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه إذا ذكر الأمر أو الحكم ذكر التعليل، والذكر التعليل فائدتان: الفائدة الأولى: زيادة الطمأنينة، الإنسان إذا علم الحكم وعلم حكمته يزداد طمأنينة، وإن كان المؤمن سوف يسلم لأمر الله ورسوله علم الحكمة أم لم يعلم، لكن كلما علم الحكمة ازداد طمأنينة، ولهذا لما غرس الرسول (صلى الله عليه وسلم) جريدة رطبة على القبرين، الصحابة أشكل عليهم الأمر لماذا كانت رطبة يريدون أن يتبينوا الحكمة، والفائدة الثانية لذكر العلة: بيان سمو الشريعة، وأنها لا يمكن أن تحكم بالأحكام إلا بحكم اقتضت ذلك. البر والإثم وضوابطهما: 1381 - وعن النواس بن سمعان (رضي الله عنه) قال: «سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن البر والإثم؟ فقال: البر: حُسن الخُلق، والإثم: ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطَّلع عليه الناس». أخرجه مسلم. «البر»: هو الخير والإثم ضده كل يسأل عن هذا من أجل العلم فقط أو من أجل العمل. أما الصحابة فلاشك أنهم يسألون من أجل الثاني، أما بعض الناس فربما يسأل لمجرد العلم فقط، لكن الحازم هو الذي يسأل عن الخير ليقوم به، وعن الشر ليجتنبه، قال حذيفة: كان الناس يسألون النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، سأله عن البر والإثم فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): «البر حسن الخلق». الجملة هذه يقولون: إن التركيب يقتضي الحصر: البر حُسن الخلق وهذا قد يُشكل في ظاهره على بعض الناس حيث يقول: إن البر حُسن الخلق هناك أشياء كثيرة من البر وليست حُسن خلق، كالصلاة والصدقة والصيام والحج وغير ذلك. فيقال: إنك لم تفهم مراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) به حسن الخلق مع الله ومع عباد الله؛ لأن الرسول لم يقيد لم يقل: حسن الخلق مع الناس ولكن أطلق حسن الخلق مع الله أن تتقبل أوامره بالسرور والانشراح سواء كانت من المنهيات أو من المأمورات لا يضيق صدرك به، هذ لاشك

أنه بر لأن من تلقى أوامر الله بانشراح وقبول فسوف يفعله لأنه مسرور بها، وفي المحارم سوف يتجنبها فهذا صار في معاملة الله وفي معاملة الخلق حُسن الخلق، بعضهم، قال هُو بذل الندى وكف الأذى وطلاقة الوجه، وبعضهم قال: حُسن الخلق، أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، وهذا أجمع وأبين وأوضح أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، عامل الناس بهذا هذا حُسن الخلق كل منا يحب أن يعامله الناس بطلاقة وانشراح وسرور لا أجد واحدا منكم يحب أن يقابله الإنسان بوجه عابس مكفهر، يضيق ذرعا إذا كلمته، لا أحد يحب ذلك! ! فحسن الخلق أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به هذا في المعاملة مع الناس «الإثم ما حاك في صدرك»، حاك يعني: صار شديدا عليك لا تحب أن تفعله وربما يفسره قوله: «ما تردد في الصدر»، لأن الشيء إما أن تفعله بإنطلاق وإما أن تفعله مع تكره له يحيك في صدرك، هذا هو الإثم، ولكن هذا الخطاب في المسأله الأخيرة لمن شرح الله صدره للإسلام لا لكل أحد، بدليل أن أهل الفجور هل يحيك بصدورهم الفجور؟ . لا، بل يرونه سرورا لهم {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فرَأَىهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]. فمن رأى الشيء حسنا كيف يحيك في صدره، فيكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) خاطب رجلاً من الصحابة مستقيما يحيك في صدره الإثم ولا يخاطب جميع الناس فنقول: كلما كان الإنسان أتقى لله فسيضيق صدره ذرعا بالآثام، وأنا أحكي لكم قصة وقعت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقصة وقعت من عامي من الناس أما التي وقعت من الرسول (صلى الله عليه وسلم) فإنه لما سلم في إحدى صلاتي العشي سلم من ركعتين الصلاة في نظره (صلى الله عليه وسلم) تامة لم تطمئن نفسه قام إلى خشبة في قبلي المسجد واتكأ عليها وشبك بين أصابعه ووضع خده على إحدى يديه، الذي يفعل هكذا هل يكون منشرحا صدره أم مغمومًا؟ مغمومًا؛ ولهذا قالوا: كأنه غضبان لم ينشرح صدره، مع أنه كان يعتقد أنه لم يفعل شيئا لكن - سبحان الله - انقبضت نفسه؛ لأن صلاته لم تتم هذا حاك في صدره لكن لا يعلم ما سببه لما قال له ذو اليدين أنسيت أم قصرت الصلاة؟ ! ولله در الصحابي! واحد من عامة الصحابة يقول هذا الكلام الذي لو اجتمع عليه الفلاسفة سنين لم يأتوا بمثله، أنسيت أم قصرت الصلاة حصر، فيه احتمال ثالث لا يمكن أن يكون من الرسول ولهذا لم يقله الصحابي وهو أنه سلم عمدا، وهذا لا يمكن فهو سلم إما ناسيا وإما أن الصلاة مقصورة؛ لأن الزمن زمن تشريع فقال: لم أنس، بناء على ظنه ولم تُقصر حكم شرعي نفى أن تكون قصرت. إذن فهي تامة لما انتفى

القصر بقي النسيان، ولذا جزم الصحابي قال: بلى قد نسيت، لكن تعارض عند النيي (صلى الله عليه وسلم) ما كان يعتقده وما أخبره به الصحابي فصار خصمان، الخصمان يحتاجان إلى حاكم فسأل الصحابة «أحقّ ما يقول ذو اليدين، أو أصدق ذو اليدين؟ » قالوا: نعم فصلى ما بقي، هذه تجد فيها شاهدا على أن الإنسان كلما كان أتقى لله فلابد أن يتأثر إذا فرط في شيء من الواجبات بدون علم، أما قصة العامي فكان رجلاً معروفا بالورع وأنه لا يريد أن يُدخل على ماله شيء حرام إطلاقا، فكان عنده أثل وكان قد قطعه، في يوم من الأيام خرج من أجل أن يحمله على بعيره ويأتي به إلى أهله أو يبيعه، وكان جاره قد قطع أثاله أيضا وكدسه، فجاء إلى أثل جاره يظنه أثله فأناخ البعير وحمل أثل جاره على بعيره وربطه وشده ونهر البعير فلم تقم، وأبت أن تقوم فنهرها وضربها كلما نهرها أو ضربها تحلحلت وزادت مُكثا في الأرض فتعجب ما عاهد ببعيره هكذا فجعل يطوف بالبعير ويتأمل فإذا الأثل أثل جاره وأثله باق فحمد الله وتعجب، حبس الله هذا البعير لأنه حمل مالاً ليس بماله ففك الخشب ووضعه في مكانه ثم حمل خشبه وبمجرد ما حمله ونهرها قامت وهذه من آيات الله، حبس الفيل عن الكعبة وحبس ناقة النيي (صلى الله عليه وسلم) عن دخول مكة في صلح الحُديبية كانت البعير (وقفت) يزجرها ما تمشي حَتَّى إن الصحابة عيروها وقالوا: خلأت القصواء يعني: جرنت فدافع عنها النبي (صلى الله عليه وسلم) الحق مقصود حَتّى في البهائم، قال: والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، يعني: ليس من عادتها ولا خلأت؛ الآن دفاعا عن الحق، ولكن حبسها حابس الفيل وهو الله (عز وجل) كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): إن الله حبس عن مكة الفيل، والذي نفسه بيده أو قال: والله لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم عليها، عرف النبي (صلى الله عليه وسلم) أن هناك أمرا وراء (التأخير) وهو أمر الله (عز وجل)، فالمهم أننا في مجريات حياتنا أيضا أحيانا تجري الأمور على خلاف ما نريد، وإذا بالأمر الواقع هو الأحسن هو الخير، جرب هذا في نفسك أحيانا تريد شيئا ثم يأتي القدر بخلاف ما تريد ثم تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون وإذا بالأمر الواقع يكون هُوَ الأفضل، وهذا مصداق قول الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]. وقوله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. والآية فيها عموم وخصوص، إن كرهتموهن كان المتوقع أن يكون الجواب فعسى إن كرهتموهن ويجعل الله فيهن خيرا، لكن قال: فعسى أن تكرهوا شيئا ليكون الأمر أعلم، عسى أن تكرهوا شيئا النساء وغير النساء ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا فأنت يا أخي المسلم كن مع الله (عز وجل) كن مع القدر، لكن لا تصادم بالقدر الشرع بمعنى: أن تترك الواجب وتقول: هذا قدر تفعل المحرم تقول: هذا قدر، هذا لا يمكن لكن إذا فعلت واجتهدت وجاء الأمر خلاف ما تريد فكن مع القدر اطمئن استرح ولا تقل: لو فعلت كذا لكان كذا أو يا

ليتني ما فعلت لا، أصبر لو قُدر ما تريد لكان، كن مع القدر واجعل منهاجك في سيرك هذا الحديث العظيم قال النيي (صلى الله عليه وسلم): «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير»، هذه مثل قوله تعالى علينا: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بعْدُ وَقَاتلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]. هذا قال: «المؤمن القوي خير وأحبُ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير» الضعيف والقوي كله فيه خير «احرص على ما ينفعك». كلمة عظيمة لو وزنت بها الأرض لوزنتها، احرص على ما ينفعك في أمر الدين وَالدُّنيا وكل ما ينفعك واستعن بالله لا تعتمد على قوتك وحرصك إنك لو اعتمدت على قوتك وحرصك لخُذلت، ولكن أفعل الأسباب مع الاستعانة بالمسبب وهو الله، «ولا تعجز» يعني: لا تكسل، بعض الناس إذا حرص على ما ينفعه وسعى فيه ولم يحصل بأول مرة تعاجز، وقال: هذا يتعبني وهذا غلط لا تعجز ثمّ بعد بذل الأسباب والاستعانة بالله (عز وجل) إن أصابك شيء خلاف ما قدرت فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا فإن لو تفتح عمل الشيطان، هذا لو أننا حرصنا عليه في حياتنا لحصلنا على خير كثير لكن تستولى علينا الغفلة أحيانا وتنسى ما أرشدنا إليه من كلام النبوة ثم يحصل الخلل في ميزان أعمالنا. من فوائد الحديث: حرص الصحابة - رضي الله عنهم- على معرفة الأحكام الشرعية حيث سأل النواس عن البر والإثم. ومن فوائده: الحث على حُسن الخلق مع الله ومع عباد الله. ومن فوائده: أن ما تردد في صدر الإنسان - إذا كان الإنسان قلبه سليما- ما تردد في صدره هل يفعل أو لا يفعل يُعتبر إثما لكن هل إذا أقدم على هذا الشيء الذي تردد فيه هل يكون آثما؟ نقول: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه». فالورع ألا يقدم عليه ولكن له الإقدام ما لم يتحقق أنه إثم. ومن فوائد الحديث: أن من كان سليم القلب فإن الله تعالى قد يهبه فراسة يعرف بها الإثم حتى إن نفسه لا تطمئن إليه ولا ترتاح له وهذه من نعمة الله على الإنسان. ومن فوائد الحديث: أن الرجل السليم القلب الصحيح المنهج يكره أن يطَّلع الناس على أموره لقوله: «وكرهت أن يطلع عليه الناس»، أما الرجل الذي لا يستحيي فلا يبالي، ومما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى «إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

لا يتناجى اثنان دون الثالث

لا يتناجى اثنان دون الثالث: 1382 - وعن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن ذلك يحزنه». متفق عليه، واللفظ لمسلم. قوله: «لا يتناجى» أي: لا يكلم أحدهما الآخر سرا؛ لأن المناجاة: الكلام بصوت منخفض والمناداة: الكلام بصوت مرتفع، ولهذا قال الله تعالى: {وَنَادَينَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقرَّبنَاهُ} [مريم: 52]. فلما كان بعيدًا قال ناديناه ولما قرب جعله مناجى إذن لا يتناجى اثنان أي: لا يتكلم بعضهما مع الآخر سراً دون الآخر الذي هو الثالث، ثمّ علل النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك قال: «حتى تختلطوا بالناس» من أجل أن ذلك يحزنه فإذا اختلط الثلاثة بالناس فليتناج الاثنان لأنهما يتناجيان وأمامهما جمع من الناس فهؤلاء الجمع لا يحزنهم أن يتناجى اثنان لأنهم لا يهتمون بذلك غالبًا قال من أجل «أن ذلك يحزنه» أي: يلحقه الحزن والحزن هو الغمْ مما وقع وإذا كان مما يستخفي فهو الخوف. من فوائد الحديث: أن الشريعة الإسلامية تحارب كل ما يحزن أفراد المسلمين دليله نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن تناجي اثنين دون الثالث. ومن فوائد الحديث: تحريم إدخال الحزن على أخيك المسلم؛ لأن النهى في قوله: «لا يتناجى» الظاهر أنه للتحريم لأنه إذا كان يدخل الحزن على أخيك المسلم فإن الحزن إيذاء وإيذاء المسلم حرام، بل قد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فقَدِ احْتَمَلُوا بهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]. ومن فوائد الحديث: أنهم إذا كانوا أربعة فأكثر وتناجى اثنان فلا يحرم؛ لأنه لا يُحزن الاثنين الآخرين. ومن فوائد الحديث: أنهم إذا كانوا ثلاثة فتكلم اثنان بغير لغة الثالث ولو جهرا فإنه منهي عنه «لأن ذلك يحزنه»، إذ إن الثالث لا يدري ما يقولان فيحزن. ومن فوائد الحديث: أنه إذا كان الثالث لا يحزن ولا يبالي إما لأنه قوي ولا يخاف منهما ولا يهابهما وهو قوي الشخصية فإنه لا بأس أن يتناجى اثنان. ومن فوائد الحديث: أن أحكام الشريعة مبنية على العلل والمناسبات؛ لأنه لما نهى عن التناجي بين السبب - من أجل أن ذلك يحزنه- فإن قال قائل: إذا كانوا خمسة وتناجى أثنان أحدهما كبير القوم فجلسا في مجلس واستبد أحد الناس بكبير القوم يكلمه ويناجيه ويبحث

آداب المجلس وأحكامها

معه والآخرون ساكتون هل يدخل في النهي للعلة أو نقول: إنه من الخطأ أن يحزن الآخرين؟ أحيانا يكون مثلاً رجل كبير في عمله أو في ماله، أو في جاهه، أو في إمارته، فيجلس في مجلس ويجلس إلى جنبه آخر ويتحدثان كل المجلس حديث مع هذا الرجل هل القوم الآخرون يرضون بهذا أو يحزنون؟ عادة يحزنون؛ ولهذا ينكرون على صاحبهم يقولون: استبددت بالرجل فهل نقول: إن هذا منهي عنه؟ نقول: نعم منهي عنه لأن ذلك إذا كان يحزن القوم فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، كل إنسان إذا جلس مع عالم أو مع أمير أو مع وزير كل إنسان يحب أن يكون له معه كلام ويأتي إنسان جنب هذا الكبير ويتحدث معه والآخرون لا يتكلمون لا شك أن هذا يحزنهم ولهذا دائمًا إذا وقع مثل ذلك ألقوا باللوم على صاحبهم قالوا: لما استبددت بهذا الرجل؟ ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن تعليمًا إذا حكم بحكم بين العلة. ومن فوائد الحديث: أن تعليل الأحكام يستوجب للإنسان فائدتين عظيمتين، أو يحصل به فائدتان عظيمتان: الأولى: الاطمئنان أن الإنسان يطمئن للشريعة ويعرف أن هذا هو المناسب وهو الحكمة، الثاني: القياس قياس ما لم يذكر على المذكور إذا وجدت العلة فنأخذ من هذا أن كل شيء يحزن أخاك المسلم سواء في المناجاة أو غيرها فإنه منهي عنه. آداب المجلس وأحكامها: 1383 - وعن ابن عمر رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا». متفق عليه. قوله: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ... » الخ نهى النبي صلى الله وسلم عن ذلك لأن فيه عدوانًا على أخيه، وقوله: "الرجل" لا يعني: أن المرأة لا بأس أن تقيم أختها وتجلس مكانها لأن هذا مبني على الأغلب وما بني على الأغلب فلا مفهوم له، وقوله: «ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا» هل معناها ولكن يقول: تفسحوا ليطابق الآية وهي قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم} [المجادلة: 11]. أو إن هذا أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم أننا إذا رأينا الرجل ليس له مكان ودخل علينا فإننا نتفسح ونتوسع، والثاني أقرب إلى ظاهر الحديث؛ لأن المعنى الأول يحتاج إلى تقدير والأصل عدم التقدير. [مرة ثانية] قال: ولكن تفسحوا وتوسعوا هل معنى الحديث ولكن يقول تفسحوا وتوسعوا، يؤيد ذلك قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس}، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى خبر من

إقامة الرجل وهو أن نتفسح ونتوسع فكأنه قال: ولكن إذا دخل رجل لم يجد مكانًا فتفسحوا وتوسعوا، نقول: أما الثاني فهو ظاهر اللفظ، والواجب كما كدرنا سابقًا ونكدر الآن الواجب حمل النصوص على ظاهرها ما ل يمنع مانع وهنا لا مانع ونقول: الآية دلت على معنى مستقل، وهذا الحديث دل على معنى مستقل، وأنه ينبغي لنا إذا دخل رجل ونحن قد ملأنا المكان ينبغي لنا أن نتوسع خلافًا لبعض الناس إذا دخل إنسان انتفض من أجل أن يضيق المكان هذا خلاف السنة. من فوائد هذا الحديث: تحريم إقامة الرجل من مكانه ليجلس فيه وجه ذلك أن الأصل في النهي التحريم ويؤيد التحريم أنه عدوان على الغير، والأصل في العدوان أنه حرام. ومن فوائد الحديث: أن الرجل بمكانه ما دامت حاجته لم تنقض فلا يقام ويشمل هذا المكان في المسجد، المكان في الدرس، المكان في موضع البيع والشراء، المكان في أي مكان هو أحق به ما لم يتركه، ولكن هل نقول: إنه أحق به في هذه الجلسة فقط بمعنى أنه إذا انتهت الجلسة وجاءت جلسة أخرى فالسابق أحق أو نقول: هو أحق به دائما؟ الجواب الأول؛ لأنه لم يملكه حتى نقول: إنك أحق به دائمًا فعلى هذا مثلاً إذا كان هذا الرجل له مكان بيع وشراء في السوق ونزل به أول مرة ثم أنكف السوق وجاء آخر النهار هل نقول إنه أحق به بمعنى: أنه لو وجد غيره فيه فإنه يقيمه، أو نقول: انتهت أحقيته بالجلسة الأولى؟ الثاني لكن إذا جرت العادة بأن مثل هذا إذا وضع متاعه في هذا المكان فهو له دائمًا ولاسيما إذا كانت الجهات المسئولة تأخذ عليه ضريبة في بقائه في هذا المكان فهنا نقول هو أحق به ما دام متاعه موجودًا فإذا نقله زالت أحقيته، والعمل على هذا الآن. ومن فوائد الحديث: أن الرجل لا يقيم الرجل من مجلسه ولو كان ابنه، فإذا جاء إنسان ووجد ابنه في الصف الأول فإنه ليس من حقه أن يقيمه لعموم الحديث، لو كان تلميذه هل يقيمه؟ لا، الحديث عام، لو كان عبده أيضًا لا يقيمه لعموم الحديث، إلا إذا كان قد قدم عبده ليجلس فيه فهذا محل نظر. قد نقول: إنه إذا قدم عبده ليجلس فيه حتى يحضر ثم قام العبد عنه فإنه يجلس وقد نقول: إن هذا من باب التحجر لأن العبد لم يتقدم طلبًا للدوام لكن تقدم طلبًا لحماية هذا المكان لسيده وحينئذٍ تبقى هذه المسألة كمسألة التحجر، ومسألة التحجر مختلف فيها من العلماء من رخص في ذلك وقال: للإنسان أن يتحجر مكانًا في المسجد متى شاء، وما دام مكان التحجر معلومًا موسومًا بشيء موضوع فيه فهو أحق به، ومنهم من قال: إنه

لعق الأصابع والصحفة

لا يجوز التحجر بل المكان لما سبق، وهذا القول أرجح وأقرب للصواب؛ لأن الإنسان إنما يتقدم بنفسه لا بمنديله وكتابه وغير ذلك، ثم إن التحجر فيه مفسدة على المتحجر نفسه إذ إنه ربما يأتي وقد تمت الصفوف فيستلزم ذلك تخطي رقاب الناس، ثانيًا إذا علم أن مكانه متقدم فسوف يتساهل في التقدم ويقول ما دام مكان. مأمونًا فمتى شئت ذهبت وهذا ضرر عليه يفوت عليه أجرًا كثيرًا، ثالثًا أنه يوجب إيغار الصدور على هذا المتحجر، ولذلك نسمع دائمًا الشكاوي من الناس فلان جاء متقدمًا متأخرًا تقدم إلى الأمام وما أشبه ذلك فالذين قالوا بالتحريم أقرب، وهو اختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعيد رحمه الله أما المذهب يقول: تحجر هذا المكان، ولو خرجت إلى أهلك أو غير ذلك ما دام العصا موجودة أو المسواك موجودًا أو المفتاح موجودًا فكأنك موجود، إذا قال قائل: هو يريد أن يضع عصاه ويذهب مثلاً في ناحية أخرى من المسجد ولم يخرج من المسجد، ماذا نقول فيه؟ الصحيح أنه لا بأس، ولا حرج لكن يجب عليه أن يلاحظ الصفوف إذا كان يلزم من تقدمه إلى مكانه أن يتخطى الرقاب فحينئذٍ يجب عليه أن يراعي ذلك. ومن فوائد الحديث: أنه لو أقام الرجل الرجل من مجلسه لا ليجلس فيه فإنه لا بأس لقوله: «لا يقيمه ثم يجلس فيه» لكن هذه الفائدة غير مقيدة ولا مستفادة من الحديث، لأن هذا الحديث مبني على الأغلب، فو أقمته ولم تجلس فحرام عليك؛ لأنك حرمته مكانه الذي هو أحق به من غيره فيكون قوله: "ثم يجلس فيه" بناء على الغالب. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للحاضرين إذا قيل لهم تفسحوا في المجالس أن يفسحوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولأن الله وعد خيرًا بهذا فقال: {يفسح الله لكم} وهذا وعد من الله يفسح الله لكم هل المعنى: أن المكان يتسع ويكون فيه بركة أو المعنى يفسح لكم من كل ضيق؟ الثاني أعم فيكون الجزاء من جنس العمل. لعق الأصابع والصحفة: 1384 - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أكل أحدكم طعامًا، فلا يمسح يده حتى يلعقها، أو يلعقها». متفق عليه. المراد بالطعام هنا: ما يتعلق باليد وأما ما لا يتعلق فلا حاجة إلى لعق الأصابع مثاله: لو أكل الإنسان تمرًا جافًا هل يمكن أن نقول له: العق يدك؟ لا، لكن المراد الطعام الذي يعلق باليد يقول: «فلا يمسح يده» يعني: بالمنديل أو بثوبه أو

بأي ماسح آخر حتى يلعقها هو أي: يمص أصابعه يلحس راحته وما أشبه ذلك حتى يدخل بقية الطعام إلى جوفه؛ لأنه لا يدري في أي طعامه البركة، كما جاء في الحديث، وقوله: "أو يلعقها" كيف ذلك؟ يعني: يقول لواحد آخر العق يدي وهذا كان معتادًا عندهم لا يرون به بأسًا أن يقول: العق يدي وكان في زمن مضى يحب الواحد أن يذوق الطعام فقط هذا إذا قلت: يا فلان، يدي الآن فيها طعام العقها ماذا يعمل؟ يفرح لأنه يذوق طعاما فلا تستنكروا هذه المسألة، تقولوا: هذه خلاف المروءة ولا أحد يفعلها نقول: ليس كذلك إذا اعتادها الناس صارت أمرًا معروفًا وإذا كان فيها بقي طعام بين فإن المحتاج للطعام إذا مصها سوف يتلذذ بذلك هناك شيء آخر أيضًا ربما يكون عنده زوجته فيجعل الزوجة تلعقها وهو أيضًا يلعق أصابعها هذا يحصل فيه متعة، الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن ينطق بكلام لغو لا تقبله النفوس، لا يتكلم إلا بكلام تقبله النفوس. في هذا الحديث فوائد: منها: أنه ينبغي الأكل باليد وهو خير من الكل بالملعقة لقوله: "فلا يمسح يده منها" يدل على أن الذي باشر الأكل وأن آلة الأكل هي اليد وهو كذلك، الأكل باليد أفضل من الأكل بالمعلقة، لكن الأكل بالمعلقة هل هو جائز؟ نقول: فيه تفصيل أما إذا كان المانع له من أكله باليد التكبر والتغطرس ومحاكاة ذوي الترف فهذا مكروه أقل أحواله أنه مكروه، ولهذا لما قال الفقهاء: لا بأس بالأكل بالمعلقة، قال: آخرون: إنه قد يؤخذ م قول الإمام أحمد أكره كل محدث أنه يكره الأكل بها لأن الأكل بالمعلقة كان محدثًا لكن في هذا نظر لأن مراد الإمام أحمد في قول أكره كل محدث يعني: في الدين، على كل حال إذا كان الحامل على الأكل بالمعلقة هو ما أشرنا إليه وهو التكبر والتغطرس ومحاكاة ذوي الترف فإن أقل أحواله أنه مكروه أما إذا كان لعذر فلا شك في جوازه كما لو كان في يده اليمنى جروح لا يستطيع أن يأكل بها فلا بأس أو كان الطعام حارًا فأكل بمعلقة فلا باس، لكن قد يقول قائل: إذا كان حارًا يلدع يده فسوف يلدع فمه، فنقول: لا، الفم أصبر على الحار من اليد، بدليل أنك تشرب فنجان شاي وهو حار لا تتأثر به، لكن لو غمست أصبعك فيه لا تستطيع؛ لأن الفم تعود على الحار، وقد ذكر لبعضهم وقيل له: يا فلان إنك لا تأكل بالمعلقة قال: أنا آكل بملعقة لا يأكل معي فيها غيري وأنتم تأكلون بملاعق كل يأكل بها ما هي الملعقة التي لا يأكل بها غيره؟ يده، فيقول: أنا أعرف يدي نظيفة ولا أكل بها غيري، أما أنتم فكل شفة أكلت بها بملعقة صاحبها فسوف تمس هذه الملعقة وكلامه صحيح.

آداب السلام وأحكامه

ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يكون متواضعًا فيلعق بقية الطعام قبل أن يمسح يده. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يكون نظيفًا بدليل أنه في عهد الرسول تمسح اليد من الطعام، خلافًا لما يفعله بعض الناس لا يبالي هل بقيت آثار الطعام في يده أو لا؟ فإن هذا خلاف المروءة وما بالك لو سلمت على إنسان ويدك ملطخة بالتمر ماذا يكون الأمر؟ يستاء بلا شك. ومن فوائد الحديث: جواز إلعاق الغير لأصابعك لقوله: "أو يلعقها"، لكن هذا مقيد بما إذا لم يكن في ذلك ضرر فإن كان في ذلك ضرر بأن تكون يدك فيها جروح مثلاً خفية لا تبين أو في فمه أيضًا جروح فهنا لا ينبغي لئلا يعرض الإنسان نفسه للأذى والمرض. آداب السلام وأحكامه: 1385 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير». متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «والراكب على الماشي». قوله: "ليسلم": اللام لام الأمر ويسلم فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، لكن حرك بالكسر لالتقاء الساكنين؛ لأنه لا يمكن أن تنطق بساكنين وهما باقيان على سكونهما يقول ابن مالك في الكافية: (إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق ... وإن يكن لينا فحذفه استحق) نقول: يرم الرجل صيدًا أين الياء في يرمي؟ حذفت لالتقاء الساكنين وهي حرف لين وتقول: يدع الرجل ربه أين الواو؟ حذفت لالتقاء الساكنين، وإذا كان صحيحا يكسر ليسلم الصغير، الهمزة ساكنة والميم ساكنة وهي حرف صحيح فيجب كسرها؛ ليسلم الصغير على الكبير، الصغير سنًا أو الصغير قدرًا؟ ظاهر الحديث سنًا ويجوز أن يكون قدرًا، وإذا كان أحدهما صغيرًا سنًا وقدرًا فالأمر واضح، لكن إذا كان صغيرًا سنًا كبيرًا قدرًا أو بالعكس فمن الذي يسلم؟ سيأتي في الفوائد، "والمار على القاعد"، المار العابر يعني: الماشي "على القاعد"؛ لأن

القاعد متجاوز والماشي متجاوز، فكان الذي عليه الحق هو الماشي، "والقليل على الكثير، القليل صفة لعدد، إذا كانوا ثلاثة وقابلهم أربعة من الذين يسلم؟ الثلاثة، ولو ثلاثة كهول لكل واحد أربعون سنة وأربعة صغار كل واحد له خمس عشرة سنة من يسلم؟ القليل على الكثير، والراكب على الماشي؛ لأن الراكب أعلى من الماشي، فإذا كان أعلى فإن من المناسب أن يتواضع للماشي ويسلم هو لأنه لو سلم الماشي في هذه الحال لكان الراكب مرتفعًا قدرًا ومرتفعًا حسًا فربما تزهو نفسه ويتعاظم، فكان من الحكمة أن يكون لديه شيء من الخضوع والذل فيسلم هو على الماشي. في هذا الحديث فوائد: أولاً: مشروعية السلام بين المتلاقيين وهذا أمر مجمع عليه وقد سبق أنه من حق المسلم على المسلم. ومن فوائده: أن الصغير يسلم على الكبير، الصغير سنًا يسلم على الكبير سنًا فإذا تساويا في السن رجعنا إلى الصغر قدرًا فالصغير قدرًا يسلم على الكبير، أما الكبير قدرًا فيسلم على الكبير سنًا إذا كان أقل منه سنا يعني: رجل كبير القدر عالم متبحر عمره عشرون سنة لاقاه شيخ كبير عمره ثلاثون سنة لكنه جاهل من يسلم؟ الصغير، وهذا من تواضعه؛ لأن شريف القدر هو الذي يعرف القدر، إنما يعرف الفضل من الناس ذووه، فإن لم يفعل يعني الصغير لم يسلم هل يترك الكبير السلام؟ لا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، كثير من الناس يقول: لا أسلم وأتواضع لهذا الرجل الذي لم يتواضع لي، نقول: يا أخي تواضع للحق وسلم وأنا ضامن فيما أظن أنه إذا سلم الكبير على الصغير، هذه المرة فسوف يسلم الصغير على الكبير المرة الثانية لأنه يخجل. ومن فوائد الحديث: مراعاة المنازل والرتب لقوله: «يسلم الصغير على الكبير» وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنزلوا الناس منازلهم»، وكذلك قال: فيما يروي عنه: «أقيلوا ذوي الهيئات عشراتهم إلا الحدود»، والدين الإسلامي جاء بهذا، ليس الناس على حد سواء لا في الفضيلة ولا في الإكرام ولا غيرهما، فمثلاً الضيف له حق والمتأهل له حق لكن أيهما أولى؟ الأول، يعني لو جاءنا ضيف من حيث الدين ومن حيث العبادة ليس بذلك لكنه ضيف

سلام الواحد على الجماعة والعكس

كبير القدر فيما يتعلق بالضيافة وجاء إلي وأكرمته وقمت قابلته وقلت تفضل هنا وأجلسته وجاءنا واحد دين عالم لكنه صاحب لنا، ولكن ما اعتنيت به في الإكرام مثل الأول هل يعد هذا من السفه والمخالفة في الدين؟ لا بل هذا هو الدين أنزلوا الناس منازلهم، ولهذا يقول بعض الناس بعض الولاة إذا جاء رئيس أو وزير أو غير ذلك لا يساوي فلسًا من حيث رتبته الدينية تجده ينزل ويضيف ولو أتى رجل آخر أفضل منه بكثير في العلم والعبادة والإيمان لم يحتفى به كهذا ماذا نقول؟ نقول كل إنسان ينزل في منزلته، الدين الإسلامي دين العقل دين الفطرة دين الحكمة، تجد كل شيء له وزنه فيه وربما تكرم إنسانا إكراما ظاهرًا وقلبك لا يكرمه بل يبغضه لكن ماذا نقول؟ الأمر يتطلب ذلك فالدين الإسلامي يعرف للرتب منازلهم وينزلها منازلها وأما عن المحبة والبغضاء والكراهة والعداوة، هذا شيء آخر. من فوائد الحديث: أنه كلما كان الإنسان في مرتبة شرف فإنه ينبغي له أن يتواضع ولا يزهو بنفسه؛ لقوله: «يسلم الراكب على الماشي». سلام الواحد على الجماعة والعكس: 1386 - وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجماعة أن يرد أحدهم». رواه أحمد، والبيهقي. هذا أيضًا من آداب السلام، يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ولا يلزم أن يسلموا جميعًا، ولكن ما هو الأفضل وما هو الأدب أيسلم الصغير مع وجود كبير يمشي معه؟ لا مثلاً رجل يمشي مع ولده ومروا برجل قاعد هل من الأدب أن الابن يسلم يقطع الخط على أبيه أو من الأدب أن يترك للأب؟ الثاني لا شك، وكذلك الأكبر منزلة نعم لو لم يسلم فسلم، لكن لو كان الكبير لم يتجاوز حتى الآن لم يحاذ الرجل فدع السلام للكبير، هذا هو الأدب، إلا إذا لم يسلم فسلم ولابد،

وكذلك في الرد يجزئ عن الجماعة أن يرد أحدهم، لكن هل من الأدب إذا سلم على المجلس وفيها جماعة متعددة منهم الكبير والصغير هل من الأدب أن يرد الصغير؟ لا مثلاً: دخلنا على مجلس فيه مميزون لهم ست سنوات وآخرون لهم خمس عشرة سنة وآخرون لهم ثلاثون سنة، وآخرون لهم أربعون فسلمنا عليهم، وقام واحد من الصغار وقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته هذا لا يصح ولا يجزئ؛ لأننا نعلم أن المسلم إنما أراد كبار المجلس فيأتي واحد صغير جالس عند الباب ويقول: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فمن الأدب إذا دخل الإنسان على مجلس فيه كبار وصغار وسلم أن يرد الكبار. نقول في الحديث فوائد: أولاً: أن السلام سنة كفاية وليس سنة عين؛ الدليل أن سلام الواحد يكفي عن الجميع، وهل من فوائد الحديث: أنه يسن للجميع أن يسلموا؛ لقوله: «يجزئ عن الجماعة»؟ فيه نظر قد نقول: إنه يجزئ شرعًا بمعنى أن الشرع إنما ورد أن يسلم واحد عن الجماعة وهذا هو الظاهر يعني: تتبع ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ليعود مريضًا أو يجيب دعوة، تجد أن الذي يسلم هو الرسول صلى الله عليه وسلم فالظاهر أنه يجزئ بمعنى: أنه تحصل به السنة وأنه لا حاجة أن يسلم الجميع، لكن في ظني أنه لو سلم الجميع والحال تقتضي ذلك فلا بأس؛ لأنه أحيانًا يأتي جماعة ويدخلون أرسالا واحدًا واحدًا كل من دخل قال: سلام عليكم. ومن فوائد الحديث: أن رد السلام فرض كفاية يجزئ عن الجماعة أن يرد أحدهم وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يرد من قصد بالسلام، أو من لم يقصد، أحيانًا يدخل الإنسان ويسلم ويكون المقصود الأول كبير القوم، كرجل دخل على مجلس فيه عالم أو أمير أو وزير فسلم لو فتشت عن قلبه لوجدت أنه أراد بالقصد الأول، وهو كبير القوم أي: العالم أو الأمير فهل يجزئ أن يرد واحد من أدون القوم؟ الجواب: لا ولهذا نص العلماء على أن من قصد بالسلام بالقصد الأول فإنه يجب أن يرد فرض عين عليه أن يرد، قالوا: ولو رد غيره لم يكف لأن المسلم أراده هو بالذات وغيره بالتبع وهذه مسألة قل من يتفطن لها.

حكم السلام على أهل الكتاب

حكم السلام على أهل الكتاب: 1387 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريقٍ، فاضطروهم إلى أضيقه». أخرجه مسلم. «لا»: ناهية "وتبدءوا" أي: تبادروا اليهود والنصارى فتكونوا أول من يبدأ، واليهود هم: الذين يدعون أنهم أتباع موسى، والنصارى هم الذين يدعون أنهم أتباع المسيح، "بالسلام" أي: يقوله: السلام عليكم، «وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه» يعني: إذا قابلوكم في طريق فلا تفسحوا لهم "اضطروهم" أي: ألجؤهم إلى أضيقه، أي: إلى أضيق الطريق، فمثلاً كان الطريق يتسع إلى أربعة أنفار ولقانا أربعة أنفار من هؤلاء لا نتسع لهم، بل نبقى على ما نحن عليه حتى يضطروا هم أن يدخلوا من بيننا واحدًا واحدًا ولا نتفسح لهم؛ لما في ذلك من إكرامهم وإعزازهم ثم استكبارهم واعتلائهم. الحديث يدل على فوائد: أولاً: أنه ينبغي للإنسان أن يكون عزيزًا بدينه وأعني بذلك المسلم يكون عزيزًا فلا يذل لأحد لأن الدين الإسلامي هو دين الله الذي تعبد به جميع الناس فمن خالفه فقد خالف مراد الله عز وجل شرعًا. ومن فوائده: النهي عن بداءة اليهود والنصارى بالسلام، وهل غيرهم مثلهم؟ نعم، بل أولى؛ لأن اليهود والنصارى لهم من الحقوق ما ليس لغيرهم من الكفار، فإذا كنا نهينا أن نبدأهم بالسلام فغيرهم من باب أولى فالوثني والشيعوي ومن أشبههم هؤلاء لا يبدؤن بالسلام من باب أولى، وهل نبدأهم بالتحية يعني بدون السلام؟ نقول مثلاً: أهلا وسهلا إذا علمنا أن مراد الشارع بالنهي عن بداءتهم بالسلام ألا نعزهم ولا نكرمهم، قلنا: إذن لا نبدأهم بالتحية، لا نقول: أهلاً وسهلاً ولا مرحبًا، لما في ذلك من إعزازهم ونصرتهم، لكن إن ألجأتك الضرورة إلى ذلك مثل: أن تدخل مكتبًا رئيسه نصراني فلا بأس أن تقول: مرحبًا أو تقول: صباح الخير وتنوي لنفسك وللمسلمين، هذا يكون الإنسان في ضرورة؛ لأن من الناس الآن من هم في شركات رؤساؤها نصارى، ولا يسعه إذا دخل على مكتب رئيس الشركة إلا أن يتكلم، فلا يجوز أن يقول: السلام عليكم؛ لأن الرسول نهى عن ذلك، وكذلك أيضًا لا يحييه بتحية تؤدي إلى إعزازه وإكرامه، لكن يقول: كلامًا يسلم به من شره ولا يقع فيما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أنهم إذا سلموا نرد عليهم؛ لأن النهي عن البداءة يدل على أن الرد عليهم جائز، فإذا سلموا فإننا نرد عليهم ولكن ماذا نقول؟

تشميت العاطس

أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقول: وعليكم، وقال: «إن اليهود يقولون: السام عليكم»، فإذا سلموا فقولوا وعليكم، قال بعض العلماء: وهذا يدل على أنه إذا سلموا بسلام صريح قالوا: السلام عليكم فلا حرج أن تقول: وعليكم السلام. ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن نتفسح لمن قابلنا من اليهود والنصارى بل نجعل الضيق عليهم؛ لقوله: «فاضطروهم إلى أضيقه» وغير النصارى من باب أولى، وهل يجوز لنا أن نضيق عليهم، بمعنى: أن نزحمهم حتى نلجئهم إلى الجدار؟ الجواب لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده اليهود في المدينة ولم ينقل أنهم إذا لاقوا اليهودي رصوه على الجدار ولا تليق هذه المعاملة بالمسلم، لكن المهم لا نكرمهم بالتفسح لهم. تشميت العاطس: 1388 - وعنه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل له: يهديكم الله، ويصلح بالكم». أخرجه البخاري. "العطاس": معروف، قال أهل العلم: العطاس ريح تتخلل البدن من نعمة الله على العبد أن يخرجها، فمن ثم صار يحمد الله هذا من وجه، من وجه آخر أن العطاس دليل على النشاط بخلاف التثاؤب، فالعطاس دليل على النشاط وهو إخراج ريح محتبسة بقاؤها يضر بالبدن فناسب أن يقول الإنسان: الحمد لله والحمد معناه: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم ولو مرة واحدة فإذا وصفت أحدًا بصفة كمال مع محبتك وتعظيمك له فإن هذا حمد فإن كرر الصوف - وصف الكمال - صار ثناء وبدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين قال: مجدني عبدي»، ففرق الله تعالى بين الحمد والثناء وإذا كان حمدًا بلا محبة ولا تعظيم ولكنه استجداء واستعطاف فهذا لا يسمى حمدًا وإنما يسمى مدحًا، وفي هذا دليل على عمق اللغة العربية فالحروف واحدة مدح حمد لكن بتقديم بعضها على بعض يختلف المعنى، وقوله الحمد لله "اللام" هنا هل هي للاستحقاق أو للاختصاص أو لهما جميعًا؟ لهما جميعًا فالحمد الكامل المطلق مستحق لله والحمد الكامل المطلق لا يكون إلا لله، فاللام إذن تحمل معنيين الاختصاص والاستحقاق، وليقل له أخوه: يرحمك الله، من أخوه؟

المسلم: إذن فالعاطس مسلم، فإذا عطس المسلم وقال: الحمد لله، فليقل له أخوه: يرحمك الله، يرحمك الله هذه جملة صيغتها صيغة الخبر، لكنها بمعنى: الطلب، أي: بمعنى الدعاء فقولك يرحمك الله، مثل قول: اللهم ارحمه، وقوله: "يرحمك الله" الرحمة بها حصول المطلوب وزوال المكروه، فإن قرنت بالمغفرة صار بها حصول المطلوب، وبالمغفرة زوال المكروه؛ لأن المغفرة في مقابل الذنب، "فإذا قال له: يرحمك الله فليقل له" أي: العاطس يقول لأخيه: "يهديكم الله ويصلح بالكم"، قوله: "يهديكم" أيضًا خبر بمعنى: الطلب، والهداية هنا تشمل الهدايتين: هداية الدلالة، وهداية التوفيق، فإذا قلت لأخيك: يهديكم الله، أي: يرشدكم بالعلم ويوفقكم للعمل ويصلح بالكم، أي يصلح شأنكم، أي: أمروكم، وهو عام لأمور الدين وأمور الدنيا، وبالتأمل لما أمامنا نجد أن المجيب أجاب بأحسن أو بأكثر مما دعي له به، حيث قيل له: يهديكم الله ويصلح بالكم. من فوائد الحديث: أولاً: مشروعية الحمد لله عند العطاس؛ لقوله: "فليقل" واللام هنا للأمر وهل هذا واجب أو سنة؟ جمهور العلماء على أنه سنة وقال بعض أهل العلم: إنه واجب لأنه في مقابل نعمة من الله عليك ولأن الإنسان إذا لم يحمد عوقب بحرمانه من الدعاء أي: أنه إذا لم يحمد الله فلا تقل له: يرحمك الله، وهذا يدل على وجوب قول الحمد لله؛ لأنه لا تعزيز إلا على ترك واجب، والقول بالوجوب قوي لكن يشكل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عطس أحدكم وحمد الله فشمته» كما مر علينا في أول حديث، فهذا يقال: إن ظاهر قوله وحمد الله يدل على أن العاطس قد وسع له أن يحمد الله وألا يحمد الله. ومن فوائد الحديث: أن العطاس من نعم الله عز وجل ولهذا شرع الحمد عليه كما شرع الحمد على الأكل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة ويحمده عليها»، فإن قال قائل: وهل مثل ذلك الجشاء؟ فالجواب: لا، مع أن الجشاء خروج ريح، لكنه لا يشرع له الحمد، وذلك لأن الجشاء كان موجودًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يشرع للأمة أن يحمدوا الله عنده والقاعدة الشرعية أن كل شيء وجد سببه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ فيه سنة فتركه أي: ترك الكلام عليه هو السنة وعلى هذا فالسنة ألا تحمد عند التجشي خلافًا لكثير من العامة، فإن كثيرًا من العامة إذا تجشأ قال: الحمد لله، نعم، لو فرض أن هذا التجشي على خلاف العادة بأن يكون الإنسان قد

احتبس تجشيه لمرض أصابه، ثم تجشأ يومًا من الأيام فهذا يعتبر تجدد نعمة، وإذا كان تجدد نعمة فإن النعم يشرع الحمد لها أما التجشأ العادي فلا يشرع الحمد فيه. ومن فوائد الحديث: أنه لا يشمت غير المسلم؛ لقوله: "فليقل له أخوه" وكان اليهود يتعاطسون عند الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل أن يقول لهم: يرحمكم الله، ولكنه لا يقول لهم ذلك. إذن ماذا نقول لو أن الكافر عطس فحمد الله؟ ندعو له بالهداية فنقول: هداك الله. ومن فوائد الحديث: أنه يجب على من سمعه يقول: الحمد الله أن يشتمه فيقول: يرحمك الله. وجه الدلالة من الحديث: أن هذا مكافأة على معروف ما هو المعروف؟ كونه دعا لك بالرحمة، هذا يدل على أن الدعاء له بالرحمة واجب، وذلك مكافأة له على حمده لله عز وجل، فيؤخذ منه فائدة أخرى وهي أن من قام بشيء من العبادة، فإنه ينبغي أن يشجع عليه بكل وسيلة. ومن فوائد الحديث: أنه يجب على من سمعه يحمد الله أن يقول له: يرحمك الله، وقد يقال: إنه فرض كفاية؛ لأن قوله: "فليقل له أخوه" إذا قال واحد من الناس. فقد قال له أخوه لكن هنا حديث يقول كان حقًا على كل من سمعه أن يقول له: يرحمك الله، ومن ثم قال بعض العلماء: إن تشميت العاطس فرض عين. ومن فوائد الحديث: أن العاطس يجيب بما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يهديكم الله ويصلح بالكم وهل الواجب أن يقول الكلمتين أو تكفي إحداهما؟ ظاهر الحديث أن الواجب أن يقول الكلمتين: يهديكم الله ويصلح بالكم. في هذا الحديث لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا حول ما يفعل العاطس لكن ورد حديث أنه ينبغي أن يضع يديه على وجهه؛ لئلا يرى، وبغض العلماء ذكر ما هو أعم فقال: ينبغي أن يغطي وجهه لأنه ربما خرج من أنفه شيء مستقذر تقزز النفوس منه.

حكم الشرب قائما

حكم الشرب قائمًا: 1389 - وعنه رضيه الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يشربن أحدكم قائمًا». أخرجه مسلم. قوله: "لا يشربن" هذا نهي مؤكد بنون التوكيد، وقوله: "قائمًا" حال من فاعل "يشرب"، يعني: حال كونه قائمًا، إذن فليشرب قاعدًا ومضطجعًا لا بأس، لكن الإنسان له ثلاثة أحوال: إما قائم أو قاعد أو مضطجع، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائمًا وورد في حديث جابر عند مسلم، زجر أن يشرب الرجل قائمًا، وهذا يدل على التحريم، ولكن قد وردت أحاديث تدل على أن النهي ليس للتحريم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب من ماء زمزم قائمًا، وثبت عنه أنه قام في الليل إلى شن معلق فشرب منه، قائمًا ومعلوم أن المحرم لا يستباح بمثل هذا الأمر السهل إذ إن المحرم لا تبيحه إلا الضرورة؛ لقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} ولهذا كان الصحيح أن الشرب قائمًا مكروه لكن كراهته شديدة وليس محرمًا بمعنى أن يأثم الإنسان به. فيستفاد من هذا الحديث: النهي عن الشرب قائمًا وقد علمتم الآن أن النهي هنا للكراهة فإن كان ثم حاجة فلا بأس مثل أن تكون الرادة مثلاً رفيعة وليس هناك إناء تتمكن من الشرب به وأنت قاعد فهنا لا بأس أن تشرب قائمًا للحاجة، ومثل ذلك إذا كان المكان ضيقًا وفيه زحام، كما يوجد في مواسم الحج، والجلوس ربما يؤذيك أو يؤذي غيرك فلا بأس أيضًا أن تشرب قائمًا، وهذا موجود بكثرة في المسجد الحرام. ومن فوائد الحديث: أن الشريعة الإسلامية ليست مقتصرة على العبادات كما زعمه بعضهم وقال: إن الشريعة الإسلامية تنظم الصلة بين الله والعبد، ولا تنظم الصلة بين العبد وبين الناس ولا تنظم حال الإنسان في أكله وشربه، فنقول: إن الشريعة الإسلامية شاملة لكل شيء، كل شيء يحتاج إليه الناس لمعاشهم ومعادهم فإن الشريعة بينته وفصلته، قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} [النحل: 89]. وهل بينت الشريعة آداب اللبس والخلع وغير ذلك؟ نقول: نعم، بينت هذا وسيأتي ذلك في الحديث القادم إن شاء الله - تعالى -.

استحباب التيامن في التنعل

استحباب التيامن في التنعل: 1390 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تنزع». أخرجه مسلم إلى قوله: «بالشمال» وأخرج باقيه مالك والترمذي وأبو داود. هذا من الآداب الشرعية في اللباس «إذا انتعل أحدكم» أي: لبس نعله "فليبدأ باليمين" "وإذا نزع فليبدأ باليسار"، والحكمة من ذلك أن الأصل هو البداءة باليمين إلا فيما هو نقص لها، فليبدأ باليسار، ولهذا أخذ العلماء من هذا قاعدة، فقالوا: تقدم اليسرى للأذى واليمنى لما سواه وقلنا: يقدم اليمين لما في ذلك من إكرامها بتقديمها باللباس تؤخر عند الخلع لما في ذلك أيضًا من إكرامها بإبقاء اللباس عليها، ويبدأ بالشمال من أجل تعريتها من اللباس قبل أن تتعرى اليمين وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولتكن اليمنى أولهما تنعل» قد يقول قائل: هل هذه الجملة مؤكدة لما سبق أو تفيد معنى آخر؟ والجواب: أن نأخذ بقاعدة معروفة، وهي إذا دار الكلام بين أن يكون توكيدًا أو تأسيسًا فالأصل أنه تأسيس؛ لأن التوكيد لا يفيد معنى جديدًا إذ هو المعنى الأول، لكنه مؤكدًا أما التأسيس فيفيد معنى جديدًا؛ إذن نقول: ولتكن اليمنى أولهما في النعل آخرهما تنزع فيه فائدة غير الأول وهو أنه يشير إلى أنه يلبس اليمنى لبسًا كاملا حتى وإن احتاجت إلى علاج كالربط ونحوه، فإن بعض النعال تحتاج إلى ربط لها سيور تربط بها، وإلا تسقط من الرجل، فإذا قدر أن هذه النعال تحتاج إلى عقد وربط نقول: لا تلبس اليسرى حتى تربط اليمنى، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل قائمًا أرأيتم لما؟ لأن النعال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم غالبها تحتاج إلى ربط، فإذا كان قائمًا انتعل قائمًا وأرد وأن يربطها إذا رفع رجله ربما يسقط على قفاه وإن خفض رأسه فكذلك أيضًا يكون على وجه غير مستطاع لذلك نهى - عليه الصلاة والسلام - أن ينتعل الرجل قائمًا أما مثل نعالنا اليوم التي لا تحتاج إلى المعالجة فليس فيه نهي، المهم أن قوله: «ولتكن اليمنى أولهما تنعل وأخراهما تنزع» فيه معنى جديد غير الأول وهو: أنك لا تلبس اليسرى حتى (تلبس) اليمنى نهائيًا ثم البس اليسرى، إن احتاجت إلى عمل، قلنا: كمل العمل مثل ذلك الجوارب مثلاً لا تلبس جورب اليسرى حتى تكمل جورب اليمنى بأن تشده حتى يصل إلى منتهاه في الساق ولا يكفي أن تلبسه حتى تغطي القدم.

ففي الحديث فوائد: أولاً: شمول الشريعة الإسلامية، حتى علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته كل شيء، وقد شهد الأعداء بذلك، قال رجل من المشركين لسلمان الفارسي: علمكم نبيكم حتى الخراءة قال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول وأن تستنجي باليمين وأن تستنجي بأقل من ثلاثة أحجار وأن تستنجي برجيع أو عظم، انظر إلى المشرك يقول: علمكم كل شيء وصدقه سلمان. ومن فوائد الحديث: تكريم اليمين بالتقديم، وانظر إلى الحكم الشرعي كيف وافق الحكم القدري فجعل الله تعالى اليمنى أقوى من اليسرى، هذا في غالب الناس وإن كان يوجد بعض الناس تكون يسراه أقوى، لكن هذا نادر بالنسبة للأكثر، فقدم الله اليمين قدرا وقدمها شرعًا. ومن فوائد الحديث: جواز ترك النعل لقوله: "إذا انتعل" ولكن هذه الفائدة فيها شيء من الخلفاء وقد تكون غير مقبولة؛ لأن قوله: إذا انتعل لا يدل على أن النعل واجب أو غير واجب إنما هو إذا فعل هذا الشيء، فهل الأفضل أن ينتعل الإنسان دائمًا أو الأفضل أن يحتفي دائمًا أو الأفضل أن يفعل ما هو الأرفق أو الأفضل أن يفعل هذا مرة وهذا مرة؟ الرابع والثاني يعني: مثلاً ينبغي للإنسان أن يحتفي أحيانًا، وينتعل أحيانًا لما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كثرة الإرفاه، ويأمرهم بالاحتفاء أحيانًا، لكن أيضًا يلاحظ الأرفق لو قال الإنسان: أحتفي وأمامه أرض بها شوك فيها حجر حاد، هل نقول: الأفضل أن تحتفي هنا؟ لا، لأن لنفسك عليك حقًا والله عز وجل يقول: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم} [النساء: 147]. فلا تعذب نفسك، لا تقل: والله أنا متعود على الخشونة وتمشي على أرض كلها شوك ما تخرج إلا وقدمك كلها مملوءة بالشوك، هذا غلط، لكن إذا كان لا يوجد ضرر، فالأفضل أن تحتفي أحيانًا وتنتعل أحيانًا. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان ينبغي له إحكام الشيء؛ لقوله: "أولهما تنعل" لأن معنى "تنعل" تصلح حتى تكون نعلاً مستقيمًا، وهذا شامل لكل اللباس، كل اللباس ينبغي للإنسان أن يتقنه إذا تلبس به، وهل من إتقانه أن يزر الإنسان إزراره؟ نعم، هذا من الإتقان، ولكن قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ذات يوم قد فتح إزاره، فهل نقول: إن هذا من السنة؟ الجواب: لا.

ظن بعض الناس أن هذا من السنة وصار يرى من التقرب إلى الله عز وجل والتعبد له أن يفك إزاره، ولكن هذا من سوء الفهم، وهذا من أكبر ما يكون ضررًا على الإنسان، يعني: أن يسوء فهمه للنصوص، فمثلاً هل من المعقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم يصنع أزارير لا يزرها؟ لأن الرسول ما وضع أزارير في قميصه إلا ليزرها وإلا فما الفائدة؟ فإذا رآه أحد في يوم من الأيام أنه فك إزراره فيغلب على الظن جدًا أن ذلك لسبب إما أن يكون من شدة الحرارة أو لحرارة في صورة يحتاج إلى ترويح وتبريد أو لنسيان، أو لغير ذلك من الاحتمالات الكثيرة وإذا وجد احتمال واحد سقط الاستدلال، فكيف إذا وجد احتمالات كثيرة، ونحن يغلب على ظننا أن الرسول وضع أزارير لمجرد النظر أن ينظر أن له أزارير بل يشدها، ولكن كما قلنا: إن بعض الناس يفهم النصوص على وجه ليس بصواب، إذن نقول: ينبغي للإنسان أن يتقن ما يلبس. من أين أخذناه؟ من قوله: "تنعل" يعني معناه أنها تنعل تمامًا هل يقاس على النعال ما سواها في مسألة البداءة باليمين عند اللبس وباليسار عند الخلع؟ الجواب نعم؛ لأن القياس هنا ظاهر جلي، البدء باليمين إكرامًا لها، وعند الخلع باليسار إكرامًا لليمين لتكون هي الآخرة في إزالة اللباس عنها مثل: ذلك، إذن لو أراد الإنسان أن يلبس القميص فبأي الأكمام يبدأ؟ باليمين وإذا أراد خلعه فليبدأ باليسار، والسؤال أهمس به في كل أذن واحد منكم هل أنت تفعل هذا؟ على كل حال الشيطان ينسي الإنسان كثيرًا، لكن من الآن - إن شاء الله - تفطن لهذا، إذا أردت أن تلبس ابدأ باليمين وإذا أردت أن تخلع اخلع اليسار، أنا أشاهد كثيرًا من الناس الآن عندما يريد أن يخلع نعليه لا يبالي يخلع اليمين يخلع اليسار، فكن منتبهًا عندما تريد خلع النعل ابدأ بالشمال وعندما تريد أن تلبس فابدأ باليمين، لكن هنا سؤال وهو إذا كان الإنسان يريد أن ينتقل من نعل إلى نعل، يعني: يريد أن يخلع نعل الوضوء ويلبس النعل الذي يخرج به إلى السوق، ماذا يصنع؟ هل نقول: ابدأ بالخلع باليسار حينئذ يدخل اليسار في النعل الأخرى قبل اليمين أو نقول بالعكس؟ إذا قلنا: ابدأ باليمين أخلع اليمين أولاً من أجل أن تلبسها أولاً في النعل الأخرى صار الآن فعل خلاف السنة لتحصيل السنة، لكن إذا قلنا: اخلع اليسرى أولاً فعل سنة مقصودة بذاتها ثم يكون عدم فعلة للسنة الثانية من أجل العجز فيبدأ أولاً بالسنة الأولى، وهي خلع الشمال ثم إن تيسر له أن يبدأ باليمين في لبس النعل الثانية كذلك، وإلا سقط عنه للعجز.

النهي عن المشي في نعل واحد

النهي عن المشي في نعل واحد: 1391 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمش أحدكم في نعلٍ واحدةٍ، ولينعلهما جميعًا، أو ليخلعهما جميعًا». متفق عليه. قال: "لا يمش .... " الخ هذا أيضًا من الآداب لا تمش في نعل واحدة ولكن إما أن تلبسها جميعا وإما أن تخلعهما جميعًا، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون مشيه في نعل واحدة عن قرب أو عن بعد، أحيانًا تكون النعل قد ضعفت قليلاً عن الأخرى، فيلبس النعل ويمشي خطوة أو خطوتين ليلبس الأخرى، ولكن الحديث يدل على أنه لا يفعل هذا. ففي الحديث فوائد: أولاً: النهي عن لبس النعل في رجل واحدة لقوله: «لا يمش أحدكم في نعل واحدة» ويستثنى من ذلك ما إذا كانت هناك ضرورة، مثل: أن تكون إحدى الرجلين فيها جروح لا يتمكن معها من لبس النعل، فهنا نقول: لا بأس أن تمشي في نعل واحدة؛ من أجل الضرورة؛ أو تكون الرجل الأخرى فيها جبس لا يمكن أن ينتعل نقول: هذا أيضًا للضرورة، فإن قال قائل: ما الحكمة من ذلك؟ نقول: ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحكمة من ذلك هو العدل بين أعضاء البدن، فلا يمكن أن تجعل بعض البدن منتعلاً وبعضه حافيًا. ومن فوائد الحديث: جواز الانتعال وعدمه تؤخذ من قوله: «ولينعلهما جميعًا أو ليخلعهما جميعًا» وهذه للتخيير فيجوز للإنسان أن ينتعل، ويجوز أن يمشي حافيًا فإن قال قائل: مشي الإنسان اليوم حافيًا يكون محل انتقاد، نقول: نعم هو يكون محل انتقاد من المترفين لكنه محل إعجاب من الحريصين على اتباع السنة، والمترف سوف ينظر إلى من يمشي حافيًا نظرة استنكار، لكن الذي يريد السنة ينظر إليه نظر إعجاب حيث طبق مما كان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهل مثل ذلك أن يلبس نظارة واحدة في عين الأخرى؟ قد يحتاج الإنسان لذلك، فقد تكون العين مريضة بحيث تحتاج إلى ما يحفظها من الهواء والشمس، والأخرى ليست كذلك، لكن إنسان يلبس نظارة مفتوحة من إحدى عينيه وثابتة من الثانية أنا عندي أنه أشد من الرجل؛ لأنك إذا مشيت بين الناس في هذه الحال فسوف ينتقدونك ويقولون هذا الرجل ما الذي بلاه؟ فلذلك لا يلبس نظارة واحدة في عين دون الأخرى وهل مثل ذلك سماعة إحدى الأذنين دون الأخرى؟ الظاهر لا، وإن كنا نميل إلى أنه ينبغي أن يساويهما، لكن ليس منهيًا عنه، وهل مثل ذلك ما تصنعه بعض النساء اليوم تجد إحدى اليدين مملوءة بالحلي والأخرى ليس فيها شيء أو ليس فيها إلا الساعة فقط؟

حكم إسبال الثياب

الجواب: الظاهر نعم؛ لأن العادة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الآن فيما نعلم أن الحلي يكون في البدين جميعًا أو في الرجلين جميعًا {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} [النور: 31]. لكن الآن اتخذ بعض النساء ما يسمونه بالموضة الجديدة فصار بعضهن مملوءة يدها بالحلي والأخرى ليس فيها شيء أو فيها الساعة، تكون الأخرى غنية جدًا، والثانية فقيرة معدومة، ولهذا لو أن هذا جرى في زمن سابق لقال الناس: إن هذه المرأة ليس عندها شيء فقيرة لم تقدر إلا على يد واحدة. حكم إسبال الثياب: 1392 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء». متفق عليه. "لا ينظر": يعني نظرة رحمة وعطف، وإن كان النظر العام شامل لكل أحد، لكن النظر الخاص - نظر الرحمة - ينتفي عن مثل هذا، "لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء" والثواب يطلق على كل ملبوس من إزار وسراويل وقميص وغيرها، وقوله: "خيلاء" أي: بطرًا وإعجابًا وفخرًا، وهذا النفي وعيد على من جر ثوبه خيلاء. فيؤخذ منه فوائد: أولاً: إثبات النظر لله عز وجل؛ لأن نفيه عمن اتصف بصفة يدل على ثبوته في خلاف ذلك كما استدل العلماء بقوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15]. على ثبوت النظر إلى الله عز وجل لأنه لما حجب هؤلاء في حال الغضب فإنه لن يحجب الآخرين في حال الرضا. ومن فوائد الحديث: أن جر الثوب خيلاء من كبائر الذنوب، وجهه: الوعيد؛ لأن كل ذنب ختم بوعيد فهو من كبائر الذنوب. ومن فوائده: أن من جره لغير خيلاء فإنه لا يستحق هذا الوعيد؛ لأن تقييد الحكم بوصف يستلزم انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم، إذا علق الحكم بوصف فإنه يستلزم انتفاء الحكم لإنتفاء ذلك الوصف، الحكم الموجود ما هو؟ نفي النظر عمن جر ثوبه خيلاء، والوصف أن يكون الجر خيلاء فإذا كان لغير خيلاء فإنه لا يستحق هذا الوعيد، ولكن وكما يبقى أن ننظر هل الإسبال حرام أو ليس بحرام؟ نقول: إذا كان من غير قصد وتعاهده الإنسان ورفعه فإنه ليس بحرام، دليل ذلك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يرتخي علي إلا أن أتعاهده، فقال:

«إنك لست مما يفعل ذلك خيلاء»، وإن كان عن قصد وليس خيلاء فعليه عقوبة لكنها دون انتفاء النظر وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين ففي النار»، وهذه عقوبة ليست كعقوبة انتفاء النظر بل هي أقل وأهون لأن هذا يقتضي أن يكون عذابه على ما حصل فيه المخالفة وهو ما كان أسفل الكعبين. إذن لدينا ثلاث حالات: الحال الأولى: أن يكون فوق الكعبين وهذا جائز، وأكمله أن يكون إلى نصف الساق، الثانية: أن يكون أنزل من الكعبين لغير خيلاء فهذا حرام بل من الكبائر، لكن العقوبة عليه أخف من العقوبة على من جر ثوبه خيلاء؛ لأنه يعذب قدر ما حصل من المخالفة، الثالثة: أن يجره خيلاء فهذا هو الذي عليه هذا الوعيد الشديد أن الله تعالى لا ينظر إليه، وفي حديث أبي ذر الذي رواه مسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» فذكر ثلاث عقوبات أن لا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم إضافة أنه لا ينظر إليهم، قالوا: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا، قال: «المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»، فإن قال قائل: ألا يمكن أن نقيد حديث «ما أسفل من الكعبين ففي النار» بحديث لا ينظر الله على من جر ثوبه خيلاء فالجواب لا يمكن؛ لأن المسألة هذه فيها اختلاف العملين واختلاف الحكمين وإذا اختلف العملان والحكمان فلا تقييد لأحدهما بالآخر؛ لأنه لو قيد لزم تكذيب أحدهما بالآخر وإنما يقيد إذا كان الحكم واحدًا وإن اختلفا في السبب، وعلى هذا فنقول: لا تقييد وأن ما أسفل من الكعبين ففي النار سواء كان خيلاء أو غير خيلاء؛ لأنك لو قيدته بأنه ما كان أسفل من الكعبين ففي النار إذا كان خيلاء تناقض الحديثان، كيف ذلك؟ هذا يقول: لا ينظر الله إليه، وهذا يقول: ما أسفل من الكعبين ففي النار، وإذا كان يختلف الحكم تعذر أن نحمل أحدهما على الآخر، إذ إنه يلزم منه التناقض بين الخبرين، ووجه ذلك ما ذكرت، لكن الآن ما أسفل من الكعبين ففي النار، العمل نزول الثوب عن الكعبين لغير خيلاء، ثانيا: الحكم في النار، من جره خيلاء هذا عمل غير الأول هذا جره خيلاء، الحكم: لا ينظر الله إليه: لو قلت: ما أسفل من الكعبين المراد إذا كان خيلاء معناه أن أحد الخبرين صار غير صحيح مناقض للآخر؛ لأن جزاء ما كان أسفل من الكعبين النار فقط ولم ينتف عنه النظر، وجزاء من جره خيلاء انتفاء النظر وهذا أشد، وعلى هذا فلا يمكن أن يقيد أحدهما بالآخر، بل كل واحد منهما عمل مستقل وعقابه مستقل، يستثنى

النهي عن الأكل والشرب بالشمال

من قوله: «من جر ثوبه خيلاء» النساء فقد رخص لهن بأن تجر المرأة ثوبها إلى زراع لئلا تتكشف أقدامهن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم روجع في ذلك فأذن إلى ذراع وكنا نعهد أن النساء يرخين أذيال ثيابهن إلى نحو ذراع، تجد المرأة ذيل ثيابها وراءها، أما الآن فالمرأة في بعض البلاد الإسلامية إلى نصف الساق ينكشف القدم ونصف الساق وربما ارتفع فوق ذلك أيضًا فصارت المسألة بالعكس مع أن بعض الرجال يجر ثوبه على شبر تقريبًا فصار لباس الرجال للنساء ولباس النساء للرجال، هل يقاس على الثوب ما سواه؟ مثلاً يكون خيلاء في العمامة؟ الجواب نعم، يقاس عليه وقد جاء فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالعمامة ممكن أن يكون فيها خيلاء بتكبيرها بحيث يجعلها عشر ليات أو عشرين لية، ثانيًا بتطويل الذؤابة، حتى تصل قريبًا من الأرض هذه خيلاء، وقد نص على ذلك أهل العلم، وهل يقاس على ذلك الأكمام؟ الجواب: نعم، فإن بعض الناس يكون عنده خيلاء في الأكمام نجد كمه واسعًا جدًا على سعة قميصه هذا خيلاء، إذن ما هو الضابط؟ الضابط ما خرج عن العادة فهو خيلاء سرف وخيلاء سواء في العمامة، أو في المشلح أو في الثوب أو في الإزار أو في القميص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر الإزار مثلا ليس معناه الاقتصار عليه بل هذا كالمثل، أو لأنه في عهده غالب الناس يلبس الإزار. النهي عن الأكل والشرب بالشمال: 1393 - وعنه رضي الله عنه، أن رسول الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله». أخرجه مسلم. قوله: "إذا أكل" الأكل هل الإنسان يتناوله بمقتضى الطبيعة؟ نعم، إذن فليس هناك سنة في نفس الأكل؛ لأن الإنسان يتناوله بمقتضى الطبيعة، لكن لو فرض أنه أضرب عن الطعام صار الأكل في حقه حينئذٍ واجبًا لإنقاذ نفس، وإذا مات في حال إضرابه فقد قتل نفسه، فيكون في النار خالدًا فيها مخلدًا، الأكل يكون بمقتضى الطبيعة ومقتضى الطبيعة ليس فيه تأس كما عرف ذلك من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون هذا الشيء الذي هو مقتضى الطبيعة والجبلة يكون له صفات مشروعة منها الأكل

باليمين؛ ولهذا قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه»، الشرب باليمين هذا سنة كونك تتناول الأكل باليمين والشرب باليمين، هذا من السنة المأمور بها، وسيأتي في الفوائد ثم علل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بذلك لأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، ونحن منهيون عن إتباع خطوات الشيطان {يأيها الذين ءامنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} [النور: 21]. {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} [البقرة: 168]. وإذا كان كذلك فلن يقدونا إلا إلى الشر. في هذا الحديث فوائد: أولاً: إكرام اليمين؛ لأننا أمرنا أن نأكل بها، ومعلوم أن الأكل غذاء للبدن، فيكون المتفضل بالغذاء هي اليد اليمنى، ثانيًا: وجوب الأكل باليمين، إذا قال قائلك من أين أخذت ذلك؟ قلنا: من كون الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، نقول: الأمر هنا للوجوب، ويؤيد ذلك أنه ورد بصيغة أخرى "لا يأكل بشماله ولا يشرب بشماله"، فاجتمع فيه الأمر بالأكل باليمين والنهي عن الأكل بالشمال، إذن الأكل باليمين واجب، الشرب باليمين واجب القاعدة الشرعية أن الواجب يسقط مع العجز فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يرفع يده اليمنى لشلل، أو مرض جاز له أن يأكل بالشمال للضرورة. ومن فوائد الحديث: تحريم الشرب بالشمال، وإذا كان كذلك فإن المحرم لا يرتفع التحريم فيه إلا للضرورة؛ لقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام: 119]. وعلى هذا يتبين خطأ أولئك القوم الذين إذا احتاجوا إلى الماء على الطعام أخذوه بشمالهم، هذا لا يجوز، يدعي أنه يلوث الكأس أو الإناء، جوابنا على هذا أن نقول: أولاً: يمكن أن تمسك باليمين بدون تلويث فالكأس مثلاً ممكن أن تجعله بين الإبهام والسبابة وتمسكه من أسفل، هذه واحدة، ثانيا في الوقت الحاضر كثير من الناس يشربون من كئوس لا يشرب منها غيرهم، وهي البلاستيك يشرب بها وترمى، وإذا لوثها يلوثها على من؟ لا أحد، ثالثًا: لو قدرنا أنك لوثتها فهل تتلوث بنجاسة؟

تتلوث بطعام، وليس في ذلك أكثر من المرأة أو الخادم تغسل الإناء، وهل تلوث الإناء بالطعام يضطر الإنسان إلى أن يشرب بالشمال؟ لا لكن التهاون تهاون الناس وتقليد بعضهم بعضًا هو الذي جعلهم يقدمون على هذا العمل المحرم. ومن فوائد الحديث: أن الشيطان يأكل ويشرب؛ لقوله: «فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله»: وهذا له أدلة كثيرة منها: أن الإنسان إذا لم يسم الله على الأكل والشرب شاركه الشيطان في ذلك، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قصة أبي هريرة مع الشيطان حين جاء وأكل من الطعام وقال: إنه ذو حاجة عيال، وينبي على هذه الفائدة أن الشيطان له جرم، وهو كذلك، فيشكل على هذا كيف يكون له جرم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنه يجري من ابن آدم مجرى الدم كيف ذلك؟ والإنسان لا يشعر بأن الجرم يجخل في عروقه، أجاب بعض العلماء الذين ينحون إلى تحيكم العقل قالوا: إنه لا يجري حقيقة في العروق، ولكنه يجري في الوساوس، يعني: يوسوس للإنسان، وأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم «يجري من ابن آدم مجرى الدم» يعني: يوسوس له حتى يصل إلى قلبه الذي يصل إليه الدم، ولكن هذا خلاف ظاهر اللفظ، ونحن نقول: يجري حقيقة أليس في الدم كريات تجري في الدم ألا يمكن أن الشيطان يتصاغر حتى يكون مثل هذه الكريات ويدخل؟ ممكن، فهذا غير مستحيل عقلاً، وعلى هذا فالشيطان يمكن أن يتلبس ويكون بصورة الآدمي، ويكون بصورة أخرى، ويكون صغيرًا بحيث يجري من العروق من غير أن يشعر به الإنسان. ومن فوائد الحديث: النهي عن التشبه بالكفار لأننا نهينا عن التشبه بالشيطان والشيطان رأس الكفر وهذا نقوله من باب تعدد الأدلة على النهي عن التشبه بالكفار، وإلا فقد وردت الأدلة صريحة في أن الرسول نهى عن التشبه بالكفار، وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم». ومن فوائد الحديث: نصح النبي صلى الله عليه وسلم للأمة حين أرشدهم إلى هذا الأمر الذي يخفى عليهم وهو أنه أمرهم أن يأكلوا باليمين ويشربوا باليمين، وأخبرهم أن الشيطان يأكل بالشمال ويشرب بالشمال، ونحن لا علم لنا في هذه الأمور إلا عن طريق الوحي.

النهي عن الإسراف في كل شيء

النهي عن الإسراف في كل شيء: 1394 - وعن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل، واشرب، والبس، وتصدق في غير سرفٍ ولا مخيلةٍ». أخرجه أبو داود، وأحمد، وعقله البخاري. "السرف" تجاوز الحد و"المخيلة" يعني: الخيلاء، وهي الإعجاب والبطر والأشر وما أشبه ذلك، قوله: «كل واشرب والبس وتصدق» محط الفائدة إلى الآن لم يأت، يقول: «في غير سرف ولا مخلية»، هذه محط الفائدة، لكن يمكن أن يكون فيه إسراف، وهل هو في زيادة المعروض أو زيادة المأكول أو فيهما جميعًا؟ فيهما جميعًا، قد يكون السرف في زيادة المعروض بحيث يدعو شخصين أو ثلاثة ويعرض ما يكفي لعشرين، هذا إسراف، وما أحسن ما وقع لي مع بعض الناس، كان عندنا أناس من علماء الباكستان فقدمنا الغداء على عادتنا، هم ثلاثة ونحن اثنان خمسة قدمنا ثلاثة (أطباق) رز فلما دنونا من السفرة أخذوا اثنين ووضعوهما في الخارج، لماذا؟ قالوا: إذا انتهينا من هذا أحضرناه، فتعجبنا، أناس من غير العرب يقتصدون هذا الاقتصاد، وهذا حقيقة، لماذا نحضر أطباقًا ثلاثة لخمسة نفر؟ ! لكن لا أدري لو أنا دعونا خمسة أنفار وأعطيناهم ثلاثة (أطباق) ماذا يكون؟ على كل حال الأكل من غير إسراف، الإسراف هنا مجاوزة الحد في المعروض أو في المأكول، في المأكول، أن الإنسان يأكل حتى يملأ بطنه ملأ شديدًا فإن بعض الناس يأكل حتى يملاً بطنه يكاد تنفجر، ثم إذا انتهى ماذا يعمل يقول: ابحث عن مهضم فيتعب في إدخاله ويتعب في إخراجه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» وشيخ الإسلام رحمه لله يقول: إن الأكل إذا خاف الإنسان أن يتأذى به صار حرامًا، وكذلك إذا خاف التخمة يعني: تغير المعدة برائحة كريهة من أجل إدخال الطعام بعضه على بعض فإنه يكون حرامًا، مع أنه من الطيبات لكن هذا يكون حرامًا لأنه إسراف وأذى، أيضًا، إلبس من غير إسراف في اللباس إما في سرعة اللبس يعني: أن الإنسان في الصباح له ثوب جديد وفي المساء له ثوب جديد هذا إسراف أو الزيادة في الثمن أو الزيادة في العدد هذا إسراف. ولكن لاحظوا أيضًا، لأن الإسراف في المأكول والمشروب والملبوس يختلف

باختلاف الناس والأوقات، ولهذا قد يكون الأكل إسرافًا في حق قوم وغير إسراف في حق آخرين، كذلك في الثياب قد يكون هذا الثوب، إذا لبسه شخص يكون إسرافًا وإذا لبسه آخر لم يكن إسرافًا، أيضًا يدخل في اللبس الإسراف في العدد مثلاً إنسان - وهذا أكثر ما يكون في النساء - يمكن أن يكفيها سوار أو سواران يحصل به التجمل، فتأتي بعشرة أسوار! ! هذا إسراف، وفيه أيضًا قلوب الآخريات الآتي لا يجدن من الذهب، وقوله: «تصدق في غير مخيلة» لأن الإنسان قد يتصرف خيلاء وإعجابا ورياء، لكن في غير سرف هل الصدقة إسراف؟ نعم كيف ذلك؟ أن يقصر في الواجب ويتصدق بالمندوب، نقول: هذا حق ولا نقول هذا إسراف نقول: هذا قدم النفل على الواجب، ولا بأس أيضًا أحيانًا أن يتصدق الإنسان بكل ما يملك إذا وثق بنفسه أنه لن يسأل الناس، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه لكن عندي - والله أعلم - أن يقال: إما أن المعنى أنه يزيد على حاجة المعطي هذا يكفيه، أو يقال أن قوله: "من غير سرف" عائدة على الأكل والشرب واللبس، أما الصدقة فيعود عليها قوله: "ولا مخيلة"، فتكون من غير سرف ولا مخيلة يعود على الأكل والشرب واللبس وأما الصدقة فتختص بالمخيلة أن يتصدق خيلاء وإلا فلاشك أن الإنسان ينبغي له أن يبذل من الصدقة، وكل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة. في هذا الحديث قاعدة مهمة جدًا في الاقتصاد، يعني: أن الإنسان يأكل ويشرب ويلبس ويتصدق لكن على وجه لا إسراف فيه ولا مخيله، ففيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يكون مقتصدًا في إنفاقه وهو كذلك، ولهذا يقال في المثل ما عال من اقتصد يعني ما افتقر من اقتصد، ويقال: الاقتصاد نصف المعيشة، وكثير من الناس لا يهتم بالإنفاق، متى وقع في يده قرش أنفقه، وهذا غلط؛ لأن الإنسان ينبغي أن يكون معتدلاً، {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يفتروا}، وفيه أيضًا الإشارة إلى الضروريات الدينية والدنيوية، الأكل والشرب واللبس من الضرورات الدنيوية والصدقة مما يحتاج إليه الإنسان في الآخرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة». والإنسان محتاج يوم القيامة إلى ظل. ومن فوائد الحديث: وجوب اجتناب الإسراف والخيلاء لقوله: «من غير سرف ولا مخيلة».

2 - باب البر والصلة

2 - باب البر والصلة البر للوالدين والصلة للأقارب والبر: كثرة العطاء، والصلة: مجرد وصول العطاء، إذن فالبر أعمق وأكثر؛ ولهذا خص بالوالدين، أما الصلة فهي ألا يكون هناك انقطاع وهي دون البر فصارت بالأقارب ثم من الأقارب الذين تطلب صلتهم؟ الأقارب هم من شاركك في الجد الرابع فما تحته، وهؤلاء هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة، وأما من قال: إن الأقارب هم فروع جدك أو فروع أبيك ففيه نظر؛ لأن هذا يجعل الأقارب قليلين جدًا، ومن قال: هم كل من ينتسب إليك فقد وسع الأمر، فأقرب شيء في هذا أن يقال: الأقارب من التقوا بك في الجد الرابع فما أدون. البركة في العمر والرزق بصلة الرحم: 1395 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأله في أثره، فليصل رحمه». أخرجه البخاري. "من": شرطية، وفعل الشرط "أحب" وجوابه: "فليصل رحمه". من "أحب أن يبسط"، يعني: من أحب أن يوسع، كما قال الله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [الرعد: 26]. "في رزقه" أي في عطائه، والمتبادر أنه زرق ما يقوم به البدن من طعام وشراب ولباس ومسكن ونحو ذلك، وربما يقال: إنه يشمل ما يقوم به البدن وما يقوم به الدين من علم نافع وإيمان وعمل صالح "وأن ينسأ له في أثره ينسأ" أي: يؤخر ومنه قوله تعالى: {إنما النسئ زيادة في الكفر} [التوبة: 37]. يعني: التأخير، "في أثره" أي: في أجله؛ لأن الأثر هو الأجل؛ لكونه يكون بعد موت الإنسان "فليصل رحمه"، وصلة الرحم أن يوصل إليها الخير، لكن لا على وجه السعة والتوسع، لأنه إذا كان كذلك صار برًا، هذا الحديث حث عظيم على صلة الرحم؛ لأن كل واحد من الناس بطبيعته وفطرته يحب أن يبسط له في الرزق وكل إنسان بطبيعته وفطرته يجب أن يؤخر موته ويمد له في الأجل، فهذا من أبلغ الترغيب والحث على صلة الرحم فيستفاد منه الترغيب في صلة الرحم. ومن فوائده أيضًا: أن صلة الرحم سبب لكثرة الرزق وطول الحياة؛ لقوله: «أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره». ومن فوائد الحديث: إثبات الأسباب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل سببا ومسببًا، السبب صلة الرحم والمسبب بسط الرزق وطول الأجل أو طول البقاء، فإن قال قائل: ما الجمع بين هذا

الحديث وبين قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34]؟ قلنا: أصلاً لا معارضة، ومراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحث على صلة الرحم، ثم إن وصل الإنسان رحمه علمنا أنه قد كتب أنه واصل وأن أجله إلى الأمد الذي قدره الله له بسبب صلة الرحم، وليس في هذا إشكال، والعجب أن كثيرا من العلماء أشكل عليهم هذا الحديث إشكالاً عظيمًا حتى أدى بعضهم إلى أن يقول: إن الأجل أجلان أجل للقاطع وأجل للواصل، وهذا غير صحيح بل نقول: أليس الرسول قد قال: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» فجعل للجنة سببًا وحث الناس عليه مع أن من كان من أهل الجنة فهو من أهل الجنة، لكن بهذا السبب، كذلك أيضًا الأجل إذا وفق الله هذا الرجل للصلة علمنا أن أجله قد امتد بسبب الصلة فمثلاً على فرض أن إنسانًا لم يصل رحمه وكان عمره خمسين سنة، إذا وصل رحمه يكون عمره أكثر مثلاً خمس وخمسين، هل في هذا معارضة في كون الإنسان إذا جاء أجله لا يتقدم ولا يتأخر؛ لأن أصل الأجل الذي هو خمس وخمسون أصله مكتوب من أول على أن هذا الرجل سوف يصل الرحم، ولا إشكال كذلك أيضًا يقال في الرزق: «ومن أحب أن يسبط له في رزقه فليصل رحمه» إذا قال: الرزق مكتوب يكتب على الجنين رزقه وأجله وعمله وشقي وسعيد وهو في بطن أمه قلنا: نعم، لكن قد كتب له هذا الرزق المعين وصلة الرحم كلاهما مكتوب لكن كون الإنسان قد كتب رزقه وأجله وكتب صلته هو لا يعلم بذلك إذن فمقصود الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحث على صلة الرحم، كذلك لو قلت من أحب أن يولد له فليتزوج، من يولد له بلا زوجة هل نقول مثلاً: إن كان الله قد قدر أنه يولد له فإنه سيولد له، نقول: لا، لا يولد له إلا أن يتزوج فالمسألة لا إشكال فيها إطلاقًا صحيح في أول وهلة قد يظن الظان أن الأجل يمتد وهو قدر أن الرزق يتوسع وهو قد قدر له رزق طيب نقول: لا هذا مرتبط بما في علم الله عز وجل، المهم: أن هذا في حث على صلة الرحم وأنها سبب لكثرة الرزق وطول الأجل.

النهي عن قطع الرحم

النهي عن قطع الرحم: 1396 - وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قاطع» يعني: قاطع رحمٍ. متفق عليه. المؤلف رحمه الله بدأ بالترغيب ثم بالترهيب وأيهما أولى: أن نبدأ بالترهيب ثم الترغيب أو العكس؟ الترغيب في الواقع البداءة به ينشط الإنسان ينشط على العمل؛ لأنه يرجو هذا الذي حصل من الثواب ثم يقال: احذر أن تخالف فيحصل لك العقوبة، لكن لو بدأته من أول بالعقوبة ربما يكون عنده شيء من النفور فيرغب أولا ثم يحذر من التقصير، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قاطع» أي: قاطع رحم، وهذا تحذير شديد من قطيعة الرحم، وأنه سبب لعدم دخول الجنة كما أنه سبب للعنة والطرد والإبعاد عن رحمة الله، قال الله تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} [محمد: 22، 23]. وقال تعالى: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} [الرعد: 25]. ففي الحديث إذن الترهيب من قطيعة الرحم، وما هي قطيعة الرحم؟ ألا يصل إليهم خير منه، فيشمل ما إذا لم يصل الخير، وما إذا وصل الشر، فالإنسان بالنسبة لأرحامه أي: لقرابته له ثلاث حالات إما أن يصل، وإما أن يقطع بلا إساءة، وإما أن يسيء أيهما أشد؟ المسيء والقاطع محروم من دخول الجنة، والواصل قد تكفل الله تعالى بصلته؛ لأنه تكفل للرحم أن يصل من وصلها. فإن قال قائل: ما هو الواصل وما هو القاطع؟ قلنا: قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم أتم بيان فقال: «ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل هو الذي إذا قطعت رحمه وصلها»: أما الذي يقول إن وصلوني وصلتهم وإن قطعتموني قطعتهم فهذا ليس بواصل إنما هو مكافئ؛ لأن كل إنسان بمروءته وطبيعته السليمة إذا وصله أحد من الناس ولو كان بعيدًا فإنه سوف يصله مكافأة، فإذا كان الرجل يقول: إذا لم يزرني لا أزوره وإذا لم يهد إلي لا أهدي إليه، وإذا لم يعدني وأنا مريض لن أعوده، وهو قريبه، نقول: أنت الآن غير واصل، إذا كنت واصلاً فصل الرحم سواء وصلوك أو قطعوك، فإن قال قائل: الحديث يدل على أن القاطع لا يدخل الجنة، والمعروف أن الخلود في النار لمن كان كافرًا، فهل القاطع كافر؟

النهي عن عقوق الوالدين

لا، إذن كيف يستقيم الكلام؟ يستقيم الكلام بأن نقول: دخول الجنة على وجهين: الوجه الأول: الدخول المطلق الكامل الذي لم يسبق بعذاب، والدخول الثاني: مطلق دخول، يعني: قد يسبق بعذاب إلى أجل، الله أعلم به فأيهما المراد هنا؟ الثاني، فالانتفاء هنا يعني: أنه لا يدخل الدخول المطلق الذي لم يسبق بعذاب، بل لابد أن يكون هناك عذاب على قطيعة الرحم، ثم ماله إلى الجنة، فإذا قال قائل: هل هذا الإطلاق مقيد؟ قلنا: نعم، مقيد بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 116]. وعلى هذا فمن الممكن أن يغفر لقاطع الرحم ويدخل الجنة، فإن قال قائل: إذا قلتم هذا بهذا الترتيب عدمت الفائدة من هذا الوعيد؛ لأنك إذا قلت: لا يدخل الدخول المطلق بل دخوله مقيد مسبوق بعذاب وهو مطلق الدخول ثم قلت: إن هذا الوعيد يمكن أن يرتفع بمغفرة الله لقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ... } الآية، إذن ما الفائدة؟ قلنا: الفائدة هي أن كون الذنوب التي دون الشرك تحت مشيئة الله فيها خطر على الإنسان، من الذي يضمن أن الله شاء أن يغفر له؟ لا أحد، إذن فالوعيد محقق والخطر محقق، لكن قد يعفو الله - تعالى - عن الإنسان بفضله وكرمه. في هذا الحديث: دليل على أن قطيعة الرحم من كبائر الذنوب؛ لأنه رتب عليها عقوبة في الآخرة. النهي عن عقوق الوالدين: 1397 - وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال» متفق عليه. ثلاث وثلاث، ثلاث عبر عنهن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله حرمها وثلاث بأن الله كرهها فهل هناك فرق في الحكم بين هذه وهذه؟ أو هو اختلاف في التعبير؟ الجواب: الثاني، اختلاف في التعبير؛ لأن الله إذا كره شيئًا فهو حرام، كما قال تعالى - حين ذكر كثيرًا من المحرمات: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهًا} [الإسراء: 38]. نقول: الحديث

يقول: «حرم عليكم عقوق الأمهات» فما عقوق الأمهات؟ نقول: هو عدم القيام ببرهن تجب لها النفقة فلا ينفق، تجب مساعدتها في حاجتها فلا يساعدها، يجب تمريضها فلا يمرضها، المهم: أن العقوق قطع الصلة وهو عدم القيام بمصالحهن. "الأمهات" جمع أم ويقال: في بني آدم أمهات، وفي غيرهم: أمات، وهذا من الفروق، وقد يقال: أمهات في غير بني آدم، فإن قال قائل: لماذا نص على الأمهات؟ نقول: لأن الغالب أن القطيعة تكون بالنسبة لهن؛ لأن الوالد رجل يأخذ حقه بيده لكن المرأة مسكينة فيكون العق بالنسبة لها، وعقوق الآباء حرام، ولا فرق لكن نص على الأمهات لما ذكرنا. كذلك أيضًا "وأد البنات": دفنهن وهن أحياء، وهذا يقع بل قد وقع من الجاهليين، كان الواحد منهم إذا بشر بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم، يسود وجهه - والعياذ بالله - ويغتم، فتظهر عليه علامة الاستياء في وجهه وفي قلبه ثم في فعله {يتوارى من القوم من سوء ما بشر به} يتوارى بمعنى: يختفي يقوم من المجالس من سوء ما بشر به ثم يتردد: أيمسكه على هون فيهينه ويدله يعني: المرأة يذلها ويهينها أم يدسه في التراب: يعني: الوأد، وكانوا يفعلون ذلك - والعياذ بالله - حتى قيل: إن بعضهم يذهب بابنته ليئدها فإذا قام يحفر لها وأصاب لحيته شيء من التراب جعلت تنفض التراب عن لحيته وهو يريد أن يدفنها، يعني قلوب أقصى من الحجارة، حرم الله وأد البنات لأن وأد البنات قطيعة وعقوق من أشد ما يكون، إذا كان قتل الأجنبي محرمًا فقتل القريب من باب أولى، وهل وأد الأبناء كذلك؟ نعم، لأن التقييد هنا باعتبار العادة فلا مفهوم له، فوأد الأبناء مثله فلو أن الإنسان قتل أبناءه خوفًا من ضيق المعيشة فهو مثل وأد البنات تمامًا. "ومنعًا وهات" يعني: لا يخرج شيئًا من ماله وبالنسبة لأموال الناس هات، مثل النار، كل من وجد يقول له: بارك الله فيك الصدقة محبوبة إلى الله وأنا رجل قليل ذات اليد وليس بيدي شيء، يعني: يده التي أمامه الآن لا يوجد فيها شيء، يستجدي الناس بمثل هذا، وربما يكذب يقول: لي أولاد ولي عائلة، وإذا أردنا أن نأخذ منه شيئًا لا يخرج بل تجده يقول: هذا ممنوع فهو - والعياذ بالله - جموع منوع. "وكره لكم قيل وقال" يعني: قيل كذا وقال فلان كذا هل المعنى: كثرة الخوض في الناس وماذا قيل في فلان وماذا قال الناس أو المعنى أن ينقل الشيء بدون تثبت؟ كلاهما؛ الإنسان كره الله له أن يكون ليس له هم إلا قيل وقال، ولاسيما إذا كان في أمور

التشديد في إضاعة المال

العقائد فإنه أشد وأقبح، كما يوجد الآن في كتب أهل الكلام والفلاسفة؛ ولهذا قال بعضهم: [الطويل] (نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال) (وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال) (ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال) هذا من كبرائهم ويقول هذا الكلام: ما استفدنا إلا قيل وقال! تأتي مثلاً كتب كثيرة كلها قال فلان، وقيل عن فلان، مع أنه يغني عنها قليل من القول. قال: "وكثرة السؤال" يعني وكره لكم كثرة السؤال، يدخل في هذا سؤال المال وسؤال العلم كما يدخل ذلك في قوله تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} [الضحى: 10]. فكثرة السؤال حتى فيما يحل لك لا ينبغي مكروهة، أما ما لا يحل فظاهر أنه حرام حتى وإن قل السؤال، لكن كثرة السؤال فيما يحل، كثرة السؤال في العلم أيضًا، لكن كثرة السؤال في العلم فيها تفصيل، أما إذا قصد الإنسان الاستزادة من العلم فهذا مطلوب، والحديث لا يدل على النهي عنه، وأما إذا كان المقصود بذلك الأغلوطات، وإحراج المسئول وإظهار أنه بحاثة فلا شك أنه داخل في الحديث، وأنه من أسباب الخطأ؛ لأن من كثر كلامه كثر خطؤه، ثم إن كثرة السؤال أيضًا تضجر المسئول، وتوجب أن يكون منه نفور من السائل، وهذا ضرر على الطرفين: على السائل والمسئول. التشديد في إضاعة المال: أما الثالث قال: "وإضاعة المال" وهو صرفه في غير فائدة لا دينية ولا دنيوية وذلك لأن الله تعالى جعل المال قيامًا للناس فقال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا} [النساء: 5]. قيامًا أي: تقوم به مصالح الدين ومصالح الدنيا، فإذا أضاعه الإنسان فقد صرفه في غير ما جعله الله للناس، وكم من إنسان أغناه الله فأسرف في الإنفاق الكثير وأضاع المال، وإذا هو

يصبح فقيرًا معدمًا، فيتمنى أن لم يكن أنفق ولكن هيهات، إذن يحرم إضاعة المال، لكن لاحظوا أن إضاعة المال قريبة من معنى الإسراف؛ لأن الإسراف محرم فبذل المال فيه محرم، لكن الإسراف يختلف قد يعد إسرافا لشخص وغير إسراف لشخص آخر، لو أن الفقير اشترى سيارة فخمة لا يشتريها إلا أكابر الناس وأغنى الناس عد ذلك إسرافًا، ولو أن الغني اشتراها لم يعد إسرافًا كل شيء يحسبه؛ لأن الإسراف تعريفه مجاوزة الحد؛ فإذا قيل: هذا إنسان مجاوز الحد فهو مسرف، صرف المال فيما لا فائدة فيه، لكن فيه تسلية وانشراح للصدر، ولكن ليس لشيء محرمٍ والإنسان مثلاً يسأم من الأعمال الجدية، ويحب أن يرفه عن نفسه بعض الشيء هل يعد هذا إضاعة؟ الجواب: لا، صحيح أن هذا الشيء في حد ذاته ليس مقيدًا لكنه مقصود لغيره من أجل أن يذهب الإنسان عنه السآمة والملل؛ لأن النفس تمل وتتعب تحتاج إلى شيء ينشطها ومن ذلك المنتزهات حيث يخرج كثير من الناس إلى المنتزهات، ومعلوم أن الإنفاق في المنتزهات فيه زيادة إنفاق، لكن فيها راحة وتسلية للنفس وإزالة للمل فيكون هذا من المقصود لغيره، ولا يعد هذا إضاعة للمال، وإن كان هو في حد ذاته ليس مفيدًا لكنه مفيد لغيره. في هذا الحديث فوائد: منها: أن التحليل والتحريم لله لقوله: "إن الله حرم" وإن كانت الدلالة على حصر التحريم في حق الله عز وجل ليست بذاك في هذا الحديث، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم حكى ذلك مقررًا له فيكون في هذا دليل على أن ما حرم الله فهو حرام، لكن هناك أصرح من هذا قوله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} [النحل: 116]. يتفزع على هذا مسألة أعظم منها أن التكفير والإدخال في الإسلام ليس إلى الخلق، ولكن إلى الله عز وجل فالخلق عبيد الله إذا حكم على أحد بأنه كافر فهو كافر ولو كان أباءنا أو إخواننا أو أبناءنا أو عشيرتنا، إذا لم يحكم على إنسان بأنه كافر فلن نكفره ولو عمل ما عمل، فكون الإنسان يجعل مسألة التكفير حسب العاطفة والمزاج غلط عظيم، ومسألة التكفير أعظم من مسألة التحليل والتحريم؛ لأنه متوقف عليها أحكام عظيمة تذكر في أحكام الردة، ويترتب على ذلك أيضًا أن من أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله فقد ضاد الله في أمره؛ لأن التحريم والتحليل لله وحده، فمن قال عن شيء حلال إنه حرام فهو مضاد لله ومن قال عن شيء حرام إنه حلال فهو مضاد لله عز وجل لكن ما صدر عن اجتهاد بعد البحث وطلب التدليل وأداة اجتهاده إلى شيء ما من هذا فهو معذور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر». ومن فوائد الحديث: تحريم عقوق الأمهات وهو من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين» فعقوق

الأمهات والآباء أيضًا من أكبر الكبائر، وبرهما من أفضل الأعمال، والإنسان مع والديه له ثلاث حالات بر، وقطيعة، ولا بر ولا طيعة، أما القطيعة فهي كبائر الذنوب، وأما البر فهو من أفضل الأعمال وأما ما لا بر ولا قطيعة فهذا محرم، لكن لا يصل إلى حد الكبيرة محرم لأنه ترك للواجب الذي أمر الله بهن وهو البر والإحسان، لكن لا يصل إلى حد الكبيرة؛ لأن الكبائر إنما هي في العقوق، فصارت معاملة الإنسان لوالديه على ثلاثة أحوال بر، وعقوق ولا بر ولا عقوق، فالبر واجب وإحسان وفضل وأجر، والعقوق كبيرة من كبائر الذنوب، وإساءة، وما لا هذا ولا هذا فهو حرام، لكنه لا يصل إلى حد الكبيرة، وإنما حرم الله العقوق لما فيه من جحد النعمة وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من صنع إليكم معروفًا فكافئوه» فأي معروف من الآدميين غير النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من معروف الوالدين؟ لا شيء؛ ولهذا قال الله تعالى: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا} [الإسراء: 24]. والكاف هنا للتعليل يعني: لأنهما ربياني صغيرا فلا نعمة من العباد بعد إنعام النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من نعمة الوالدين على الولد، وكان من الأمثال العامية إن البر أسلاف، يعني: إذا بررت بوالديك بر بك أولادك. ومن فوائد الحديث: تحريم وأد البنات، لقوله: "إن الله حرم"، ثم قال: "وأد البنات"، والأولاد من باب أولى، وهل وأد البنات والبنين من كبائر الذنوب؟ نعم؛ لأنها قطيعة رحم أم عقوق؟ قطيعة رحم؛ لأن العقوق خاص بالوالدين، إذن هي قطيعة رحم ولأنها قتل للنفس وقتل النفس {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها ... } [النساء: 93] الآية. وبما أن التحريم لله صار قتل الولد في بعض الأحيان قربة من قربات؛ لأن التحريم والتحليل لله. وذلك في قصة إبراهيم وإسماعيل فإن الله تعالى أمر إبراهيم بأن يقتل ولده إسماعيل، وولده إسماعيل هو أول أولاده {فأما بلغ معه السعي} وتعلقت به نفسه تعلقًا شديدًا لأن أكبر ما يتعلق الإنسان بولده إذا كان قد بلغ معه السعي، الصغير لا يلتفت إليه غالبًا والكبير الذي انفصل أيضًا لا يلتفت إليه لكن الصغير الذي يذهب معه ويرجع معه تتعلق به النفس أكثر، ومع ذلك أمر بأن يذبحه {إني أرى في المنام أني أذبحك} فتأمل الآن قتل الأولاد من كبائر الذنوب، وإذا أمر الله به صار قربة وطاعة، السجود لغير الله شرك وإذا أمر الله به صار قربة وطاعة: {وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لآدم فسجدوا} [البقرة: 34]. ومن فوائد الحديث: تحريم طلب ما لا يستحقه الإنسان؛ لقوله: "هات"، وتحريم منع ما يجب من قوله: "منعًا وهات"، هذه الحال كما قلنا تدل على أن الإنسان مجبول على البخل يمنعه وعلى الشح بطلبه.

ومن فوائد الحديث: أن من الأساليب العربية التي توجب الانتباه أن يختلف التعبير في أشياء حكمها واحد؛ لقوله: "حرم وكره"؛ لأن ما كرهه الله فهو حرام، لكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان التعبير من عند الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأصل وإنما قلت ذلك لأنه من الجائز أن يكون من تصرف الرواة لكن الأصل أنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم لكن الرسول عبر بهذا، وهذا من أجل أن ينتبه الإنسان، ومعلوم لنا جميعًا أن الكلام إذا كان على وتيرة واحدة فإن الإنسان المستمع لا ينسجم معه انسجامًا كثيرًا، بل المستمع يكون بارد الذهن، ولهذا بعض القراء الآن يستعملون التنبيه باختلاف الصوت، لا باختلاف التعبير، فتجده مثلاً قراءته واحدة على طريق واحد، ثم يرفع صوته أو يخفض صوتهن فيوجب لذلك الانتباه. ومن فوائد الحديث: أن الله يكره قيل وقال؛ ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت». من كمال إيمانك ألا تقول إلا خيرًا والعجب أن من كان هذا منهجه فإنه يسلم من شرور كثيرة، ومن كثر كلامه كثر سقطه لكن من قل كلامه وكان لا يتكلم غلا بخير فهذا هو المؤمن وهذا هو السالم، لكن إذا قال قائل: إذا كنا لا نتكلم إلا بالخير لزم أن نكون دائما في سكوت ندخل محلاً مثلا السلام عليكم كيف أصبحت ثم نسكت نقول الخير نوعان: خير مقصود لذاته وخير مقصود لغيره، والأول لاشك أنه أشرف لأنه غاية والثاني دونه لكنه خير، فإذا تكلم الإنسان بكلام هو في حد ذاته لغو لكن يريد أن يدخل الأنس والسرور على الحاضرين فهذا يعتبر خيرًا؛ لأن إدخال الأنس والسرور على مجالسك من الخير لاشك، لكن إذا حصل الأول وهو الخير لذاته فهو أفضل لاشك، ومن الخير لذاته تعليم العلم، أنا أظن أن الإنسان لو قام يحدث في مجلس غير معد للحديث ربما يكون ذلك ثقيلاً على النفس، لكن من الممكن أن يذكر مسائل فقهية طريفة توجب أن ينتبه الناس وتشتد أفكارهم إليه، مثل: أن يطرح مسألة غريبة، أو يتكلم في قصة مما ورد في الأحاديث من القصص، كأن يقول الرسول قص علينا كذا وكذا قص علينا قصة ثلاثة أبرص وأعمى وأقرع، أو ثلاثة انطبقت عليهم صخرة في غار، المهم أن الإنسان اللبيب يستطيع أن يدخل العلم على الناس بلا ملل بما أعطاه الله من حكمة. ومن فوائد الحديث: كراهة الله لكثرة السؤال، لكن هل المراد كثرة السؤال من واحد أو من متعدد؟ من واحد، فلو فرضنا أن إنسانًا عنده مائة طالب كل واحد حضر سؤالاً فتكون الأسئلة مائة، هل: نقول هذه كثيرة تكره؟ لا؛ لكن يأتي واحد يتصدر للأسئلة وكل ما أجاب المسئول عن السؤال، وإذا بالثاني على

بر الوالدين وضوابطه

إثره هذا منهي عنه، ولاسيما إذا كان هذا السائل يستأثر بالمسئول فهذا منهي عنه، وقد بينا أن كثرة السؤال تشمل كثرة سؤال المال وسؤال العلم، والمراد بسؤال المال ما يستحقه الإنسان، أما ما لا يستحقه فهو منهي سواء كان كثيرًا أو قليلاً. ومن فوائد الحديث: النهي عن إضاعة المال وهذه كلمة عظيمة جامعة كل ما يبذله فيما لا ينفع لا في دين ولا في دنيا فهو إضاعة، ومن هنا نأخذ تحريم الدخان أو لا؟ نعم، نأخذ ولو قلنا لنا صاحبه: يحدث لي انبساط وأنا أتناوله وغير ذلك نقول: نعم، ولكن آثاره الضارة تربو على منافعه والله عز وجل حرم علينا الخمر والميسر لأن إثمهما أكبر من نفعهما، فنقول: أنت إذا تلذذت به أو انشرح صدرك له لأنك اعتدته حتى الذين يشربون الشاهي إذا فقده يحتاج للشاهي سريعًا، وأظن أيضًا حتى إنك لو تأخرت في الغداء وأنت تشتهيه يضيق صدرك، فعلى كل حال نقول لهذا الذي يقول: إن الدخان يتلذذ به ويشرح صدره نقول: لا عبرة به لأن مضاره أكثر من منافعه وما كان مضاره أكثر من منافعه، فإنه محرم؛ لأن القاعدة الشرعية أنه إذا ربت المفاسد على المصالح صار الشيء حرامًا، هل من إضاعة المال أن تعطيه للسفهاء؟ نعم، لقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا} [النساء: 5]. ولا شك أن هذا من إضاعة المال يعطي الصبي يشتري مفرقعات يؤذي الناس هذا حرام. بر الوالدين وضوابطه: 1398 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين». أخرجه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم. الظاهر أن "في" في قوله: "في رضا الوالدين" للسببية، بمعنى: أن رضا الوالدين سبب رضا الله، وسخط الوالدين سبب لسخط الله، والرضا معروف أن يكون الإنسان مطمئنًا بالشيء منشرحًا به صدره وغير ذلك فإذا أطعت والدك أو والدتك تطمئن به نفسه ويشرح له صدره فهذا هو سبب الرضا، والمراد بالوالدين الأم والأب وهما أحق الناس بالبر. في هذا الحديث فوائد: أولاً: الحث على إرضاء الوالدين وجه ذلك أنه سبب لرضا الله عز وجل ولكن هذا ليس على إطلاقه فإن من الوالدين من يرضى بالفسوق ويسخط الصلاح فهل يكون

رضاهما في رضا الله؟ لا، إذن المراد رضا الوالدين إلا فيما يسخط الله، فإن رضا الله مقدم على رضا الوالدين. ومن فوائد الحديث: إثبات الرضا لله عز وجل، وأنه صفة حقيقية وهي غير رضانا، وهذا الذي عليه السلف الصالح وأهل السنة والجماعة، أي: أن الله تعالى يرضى ويغضب ويكره ويحب وأن هذه صفات كلها حقيقة، لكن من المعلوم أنها لا تشبه رضا المخلوقين أو محبة المخلوقين؛ لأنهما أكمل، وقد قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]. ومن فوائد الحديث: التحذير من سخط الوالدين؛ لأن ذلك سبب لسخط الله، فإن قال قائل: إذا سخطا شيئًا فيه مصلحة للابن، وليس فيه مضرة عليهما، فهل المرتضى هنا اتقاء سخطهما ولو خسر الولد هذه المنفعة أو بالعكس؟ يعني لو سخطا شيئًا فيه منفعة للولد في دينه أو دنياه، قالا: لا تفعله، مثل ما يفعله الآن بعض الناس يقول لولده: لا تطلب العلم، لا تتبع الشباب المتدين، إن فعلت سنغضب عليك هل يطيعهما في هذا؟ لا يطيعهما، وإن كان تركه ليس سخطًا مسخطًا لله، ولكنه ترك كمال وفي مصلحة للابن، وليس فيه مضرة على الوالدين، فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال ففيهما فجاهد، وأمر أن يدع الجهاد وهو فرض كفاية أو سنة كفاية أمره أن يدعه من أجل أن يبقى في شئون والديه؟ قلنا: بلى قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما قاله الرسول فهو حق والرسول حاكم وليس محكومًا عليه لكن إذا كان الوالدان محتاجين للولد والجهاد في حقه نفل فأيهما يقدم؟ يقدم حاجة الوالدين؛ لأن دفع حاجة الوالدين واجبة، وجهاد النفل ليس بواجب، ثم الجهاد أيضًا ليس كطلب علم أو مصاحبة الأخبار، الجهاد فيه عرضه للموت والقتل وقد يشق ذلك على الأب والأم فبينهما فرق، إذن رضا الله في رضا الوالدين ليس على إطلاقه وسخط الله في سخط الوالدين ليس على إطلاقه، لو أن الأب أو الأم طلبا من ولدهما أن يتزوج بنت عمه وقالا إن لم تفعل فسوف نسخط عليك ونغضب منك، وقال: لا، لا أريدها، نفسي لا تريدها فهل نجبره على أن يتزوجها؟ لا؛ لأن عدم زواجه بها لا ضرر على الوالدين فيه وتزوجه بها ربما يكون فيه ضرر عليه ربما تكون النتيجة عكسية ثم يطلقها بعد أن يدخل بها وتكون النفرة بينه وبين عمه أشد مما لو عدل عن تزوجه بابنة عمه إلى بنت غيره، فالمهم: أنه كما قال شيخ الإسلام: لا تجب طاعة الوالدين إلا فيما فيه نفع لهما ولا ضرر على الابن فيه، وإلا لكان بعض الوالدين يأمر ولده بما يضره ولاسيما الأمهات، الأم إذا رأت من ابنها أنه يجب الزوجة صارت الزوجة كأنها ضرة لها بعضهن يصرح يقول: إما أنا

حقوق الجار

أو الزوجة، تضيق عليه هل يلزمه أن يطلق زوجته؟ لا، ما دامت الأم لم تذكر سببًا شرعيًا يوجب أن يفارقها فلا يلزمه أن يطلقها، وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل أمره أبوه أن يطلق زوجته، قال له: لا تطلقها قال: كيف يا أبا عبد الله أليس النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمر أن يطلق امرأته لأن عمر أمره بذلك؟ قال: بلى ولكن هل أبوك عمر؟ الجواب: لا، عمر لا يمكن أن يأمر ابنه أن يفارق زوجته إلا لسبب شرعي لا يمكن تحمله؛ لأن من أكبر المحرمات أن يفرق الإنسان بين رجل وزوجته، ولاسيما إذا كان بينهما أولاد، لكن أبو هذا الرجل ربما يكون لهوى في نفسه، لا لمصلحة الزوج ولا لمصلحة الزوجة. حقوق الجار: 1399 - وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه». متفق عليه. هذا القسم بهذه الصيغة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم به كثيرًا، ومضمونه: أنني أقسم قسمًا إن كنت غير مصيب فيه فإني أهلك وأموت، يعني: قوله: "والذي نفسي بيد الله" كأنه يقول: إن كنت كاذبًا فليأخذ الله نفسي؛ لأن النفس بيد الله عز وجل فيكون هذا من أعظم القسم، والذي نفسي بيده وهو الله عز وجل: "لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره"، أو قال: "لأخيه ما يحب لنفسه"، "جاره" يعني: القريب منه في البيت والسكن سواء كان البيت والسكن من الحجر أو المدر أو الشعر، المهم أنه مسكنه قريب من جاره، ثم هل الجار كما جاء في بعض الأحاديث أنه أربعون دارًا أو أقل؟ الصحيح أن الجار ما عد جارًا في العرف وأربعون دارًا اليوم بعيدة جدًا، تسع مساحة كبيرة، لكبر المنازل، ربما كانت في العهد الأول، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حجرته التي هو ساكن فيها مع زوجته عائشة تسع ثلاثة قبور في ذلك العهد، وعليه نقول: يمكن أن يكون أربعون دارًا، يمكن أن يكونوا جيرانًا، لكن في الوقت الحاضر لا، إذن فيرجع فيه إلى العرف كما أن الطريق فيما سبق إذا تنازع فيه الجيران يجعل سبعة أذرع الآن سبعة أذرع تأخذ السيارة لكن مع الضيق على كل حال هذه مسائل يذكرها الشرع مقدرة بحسب العرف والحال التي كانوا عليها وليست محددة شرعًا، كمائة جلدة للزاني فإنها محددة لا تزيد ولا تنقص، لكن مثل هذه الأمور المقدرة التي يكون مرجعها العرف تبقى للعرف، إذن الجار كل من عده الناس جارًا، "حتى يحب لجاره"، وفي لفظ: "لأخيه المؤمن"، لا تؤمن حتى تحب لأخيك ما تحب لنفسك، أنت تحب لنفسك الخير وتكره لها الشر، فلو أحببت الشر لأخيك فلست بمؤمن، ولو أحببت منع

الخير عن أخيك فلست بمؤمن، فلابد أن تحب الخير لأخيك كما تحبه لنفسك، إن أحببت له الشر أو لم تحب الخير له فأنت لست بمؤمن، هذا الحديث يدل على الحث والترغيب في محبة الخير لإخوانك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أخبرنا أن الإيمان ينتفي لا لنعلم أنه ينتفي، لكن من أجل أن نحافظ على إيماننا، ونحب لإخواننا ما نحبه لأنفسنا. في هذا الحديث فوائد: أولاً: جواز القسم بهذه الصيغة وجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم به. ومن فوائده: جواز الإقسام بغير استقسام، يعني: بجواز أن يقسم الإنسان بغير ما يطلب منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب منه ذلك، إذا قال قائل: أليس هذا مخالف لقوله تعالى: {واحفظوا أيمانكم} [المائدة: 89]. يعني: لا تحلفوا إلا بسبب؟ فيقال: نعم نحفظ أيماننا، وهذا لا يعارض الآية؛ لأن هذا مهم جدًا أقسم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك م أجل قوة الحث على أن يحب لجاره ما يحب لنفسه فلأهمية الموضوع أقسم النبي صلى الله عليه وسلم عليه، أليس الله تعالى أمر نبيه أن يقسم؟ بلى في ثلاث آيات: الأولى: الحلف على أن الناس يبعثون: {قل بلى وربي لنبعثن} [التغابن: 7]. الثانية: الحلف على أن القرآن حق: {ويتنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق} [يونس: 35]. الثالثة: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب} [سبأ: 3]. والنبي صلى الله عليه وسلم أقسم في أكثر من ستين موضعًا لكنه لا يقسم إلا والمقام يقتضي القسم صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: انتفاء الإيمان عمن لا حب لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه. وهل هذا يعني الكفر؟ لا، لكنه ينتفي عنه كمال الإيمان، لأن أهل السنة أجمعوا على أن مالا يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ليس بكافر لكن انتفى عنه كمال الإيمان. ومن فوائده: أنه يجوز نفي الشيء لنفي كماله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة طعام»، هذا نفي للكمال، الصلاة لا تكون كاملة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان لكن لا ينفي شيء إلا لانتفاء واجب فيه، ومن ثم نأخذ أنه يجب علينا أن نحب لإخواننا ما نحبه لأنفسنا. ومن فوائد الحديث: أنه يصح أن ينفى الإيمان المطلق عمن عنده مطلق إيمان؛ لأن هذا الحديث نفى الإيمان المطلق الذي هو الكمال واستمع إلى قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون} [الأنفال: 2، 3]. إنما المؤمنون يعني: ما المؤمنون إلا هؤلاء لو قلنا:

أعظم الذنوب عند الله

إن المراد بهذه الآية مطلق الإيمان لا نتفى الإيمان عن كثير من الناس اليوم من الذين إذا ذكر الله توجل قلوبهم؟ قليل، قليل، قليل؛ وإذا تليت عليهم آياته زادهم إيمانًا هذه أيضًا قليل لكن المراد هنا المؤمنون الكمل الذين كمل إيمانهم، أما قوله تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة}، فالمراد: مطلق الإيمان؛ ولهذا يصح أن يعتق الإنسان عبدًا فاسقًا ليس بكافر؛ إذن نفي الإيمان هنا الإيمان المطلق يعني الكامل. أعظم الذنوب عند الله: 1400 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك». متفق عليه. ابن مسعود رضي الله عنه من طلبة العلم حقيقة يماثله أو يزيد عليه، أو هريرة رضي الله عنه من أكثر الصحابة سؤالاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما سأله، أي: سأل أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: «لقد ظننت ألا يسألني أحد غيرك - أو كلمة نحوها - لما أرى من حبك للعلم». ابن مسعود سأل مرة: "أي الذنب أعظم"، ومرة سأله: "أي العمل أحب إلى الله"، والصحابة يسألون عن ذلك لا لأجل أن يعرفوا أن هذا أحب إلى الله وهذا أعظم، لا، ولكن من أجل أن يجتنبوه إن كان ذنبًا، وأن يفعلوه إن كان طاعة، قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك"، هذا أعظم الذنوب وأشد الجنايات الذي خلقك أوجدك وأمدك وأعدك ورزقك في بطن أمك وهيأ لك الأبوين، ويسر لك الأمور، وأخرجك من بطن أمك لا تعلم شيئًا، وجعل لك السمع والأبصار والأفئدة ومع ذلك تجعل له ندًا؛ أي: نظيرًا ومشابهًا، هذا أعظم الذنب، الذين يعبدون اللات والعزى ومناة من هذا النوع؛ لأنهم جعلوا الله ندًا، الذين يقولون: إن أولياءهم يديرون الكون من هذا النوع، الأولون أشركوا بالألوهية وهؤلاء أشركوا بالربوبية، الذين يقولون: إن وجه الله ويدي الله كوجوهنا وأيدينا من هذا النوع، "أن تجعل لله ندًا"؛ أي: نظيرًا ومشابهًا، "وهو خلقك" يعني: ولم يخلقك غيره، فإذا لم يشركه أحد في خلقك فلا تجعل له شريكًا. الثاني قال: "ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك" الصغير أو الكبير الذكر أو الأنثى كلاهما، وهل الولد يشمل الأنثى؟ نعم، الدليل قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11]. وقوله: "حشية" أي: مخافة أن يأكل معك؛ إذن قتله لا كراهة له، لكن خاف أن يضيق رزقه عليه به.

قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك"، من حلية الجار؟ زوجته أو سريته، لكن الغالب أنها تطلق على الزوجة كما قال تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء: 23]. "حلائلهم" يعني: زوجاتهم، يقول: "أن تزاني بحليلة جارك" قد يتوقع الإنسان أن يقول لفظًا آخر وهو: "أن تزني"، فلماذا قال: "تزاني"؟ لأن "تزاني" فيه نوع معالجة، وهذه المعالجة يحتمل أن تكون معالجة على الفعل أو معالجة على الترك، أما المعالجة على الفعل فيعني أن الحليلة توافق على هذا وتنقاد، وأما المعالجة على الترك فيعني: أن الحليلة - حليلة الجار - تأبى، ولكن يكرهها أو يخدعها أو غير ذلك، وعلى كل حال فالمفاعلة تدل على اشتراك اثنين فأكثر فيها، والجار: ما عده الناس جارًا. في هذا الحديث فوائد: أولاً: حرص الصحابة رضي الله عنه على السؤال من أجل أن يقوموا بما يلزم، ليس من أجل أن يفهموا أن هذا حلال وهذا حرام، بل ليعملوا بما هو واجب ويدعوا ما هو محرم. ومن فوائد الحديث: حرص ابن مسعود رضي الله عنه على معرفة أكمل الأعمال وأكمل الآثام، ففي أكل الأعمال قال: "أي الأعمال أحب إلى الله"، وفي أكمل الآثام قال: "أي الذنب أعظم". ومن فوائد الحديث: أن الذنوب تتفاوت في العظم كما أن الأعمال الصالحة تتفاوت أيضًا في الفضل، يلزم من ذلك تفاوت العمال، فإذا تفاوت العمل لزم أن يتفاوت أيضًا في الفضل، يلزم من ذلك تفاوت العمال، فإذا تفاوت العمل لزم أن يتفاوت العامل، وعلى هذا فيمكن أن يكون في الإنسان خصال كبيرة من الذنوب وخصال صغيرة من الذنوب. ومن فوائد الحديث: أن الشرك أعظم الذنوب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك». ومن فوائد الحديث: سفاهة أولئك القوم الذين أشركوا بالله في عبادته؛ حيث أشركوا به في عبادته ولم يشركوا به في خلقه، ولهذا قال: "وهو خلقك"، المشركون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا من خلقهم قالوا: الله، {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87]. قال الله تعالى: {فأنى يؤفكون} أي: كيف يصرفون عن الحق وهم مقرون بما يقتضيه؟ ! ومن فوائد الحديث: أن الخالق هو الله وحده، فعلى الإنسان أن يتذكر من أوجده من العدم؟ الجواب: الله عز وجل لا الأبوان ولا غيرهما، لكن الأبوان سبب لاشك، وأما الذي خلقك فهو الله عز وجل، وقد أشار الله عز وجل إلى ذلك في قوله: {لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إنثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيمًا} [الشورى: 49، 50]. فالأقسام أربعة، كل هذا يعود إلى الله عز وجل، لا الأب يستطيع أن يجعل الجنين ذكرًا ولا الأم تستطيع أن تجعله أنثى.

ومن فوائد الحديث: عظم قتل الولد سواء كان ذكرًا أو أنثى؛ لأنه يلي الشرك بالله عز وجل. ومن فوائد الحديث: أن من قتل ولده لا لخوف أن يأكل معه فذنبه أهون، أو يقال: إن هذا القيد بناء على الغالب أن الذين يقتلون أولادهم في الجاهلية منهم من يقتل ابنته يئدها خوفًا من العار، ومنهم من يقتل الأولاد الذكور والإناث خوفًا من الإملاق، قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ} [الإسراء: 31]. إذن فيكون قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خشية أن يأكل معه» قيدًا أغلبيًا، والقيد الأغلبي ليس له مفهوم. إذن نقول: إن قتل الولد من أعظم الذنوب، وهو يلي الشرك بالله عز وجل، سواء قتله خوفًا أن يأكل معه أو لعداوة بينه وبينه أو لغير ذلك؛ لأنه في الواقع جمع بين العدوان بالقتل والعدوان بالقطيعة. الآن نسأل في القرآن الكريم يقول الله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وإياهم} [الأنعام: 151]. والآية الأخرى {خشية إملاقٍ نحن نرزقهم وإياكم} [الإسراء: 33]. فهل هذا يدل على أن قتلهم يكون إما من الفقر وإما من توقع الفقر؟ نعم، الآية التي تدل على المعنى الأول، قوله: {من إملاقٍ}، ولهذا قدم رزق القاتلين على رزق المقتولين، فقال: {من إملاقٍ نحن نرزقكم وإياهم}، وفي الآية الثانية قال: {خشية إملاقٍ} يعني: خشية الفقر المتوقع، فقدم رزق المقتولين على رزق القاتلين؛ لأن القاتلين لم يكونوا فقراء، لكن يخشون الفقر، فقال: {نحن نرزقهم وإياكم}. ومن فوائد الحديث: أن الزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا بالأجنبية؛ لأنه جعله صلى الله عليه وسلم بعد قتل الولد خشية الفقر، وجه ذلك: أن الجار في الحقيقة يرى أنه لائذ بجاره، وأن جاره سوف يدافع عن عرضه، فإذا خانه في موضع الائتمان كان أشد وأعظم، ولكن هل إذا ثبت الزنا بحليلة الجار هل يكون حده مخالفًا لحد الزنا بالأجنبية البعيدة أم لا؟ الجواب: لا. لكن لو زنى أحد بذات محرم منه، يعني: بامرأة يحرم عليه أن يتزوجها، فهل يحد كحد الزنا بالمرأة الأجنبية أو يختلف؟ هذه المسألة فيها خلاف؛ من العلماء من يقول: إن الزنا بذات المحارم كالزنا بغيرهن؛ يعني: البكر يجلد مائة جلدة ويغرب سنة، والثيب يرجم، ولكن القول الراجح: أن الزاني بذات محرم يجب أن يرجم ولو كان غير ثيب، أولا: ما هو الدليل في ذلك؟ حديثه أخرجه أهل السنن وهو صحيح، والثاني: التعليل؛ لأن فرج ذات المحرم لا يحل بأي حال، وفرج غير المحرم يحل بالعقد الصحيح، قالوا: فلما كان فرجًا لا يحل بحال صار كدبر الذكر؛ أي: كاللواط، واللائط يجب أن يقتل بكل حال، فصار هذا الحكم - أعني: وجوب قتل من زنى بذات المحرم - مؤيدًا بالدليل السمعي والنظري.

من الكبائر سب الرجل أبا الرجل

من الكبائر سب الرجل أبا الرجل: 1401 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من الكبائر: شتم الرجل والديه. قيل: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: نعم. يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه». متفق عليه. "من" للتبعيض، وعلامة "من" التبعيضية: أن يحل محلها "بعض"، هنا لو قال بعض الكبائر شتم الرجل والديه لاستقام، و"من" تأتي في اللغة العربية لمعان كثيرة ليس هذا الموضع ذكرها، لكن أضرب مثلاً قوله تعالى: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} [الزخرف: 60]. من هنا بدلية أي: ولو نشأ لجعلنا بدلكم ولا يمكن أن تكون للتبعيض لأنه لا يريد الله عز وجل أن يبين أنه لو شاء لجعل منا ملائكة، من الكبائر الكبائر جمع كبيرة فما هي الكبيرة؟ اختلف العلماء - رحمهم الله - فيها؛ فمنهم من عدها، ومنهم من حدها، والمحددون أيضًا اختلفوا؛ منهم من عدها وقالوا: الكبائر كذا وكذا وعددوها، فتكون هنا معينة بالعد، ومنهم من عينها بالحد، وقال: كل ذنب رتب عليه عقوبة في الدنيا كالحد أو في الآخرة كالوعيد بالنار أو حرمان الجنة أو لعنة أو غضب أو نفي إيمان فهو كبيرة، وحد شيخ الإسلام في بعض كتبه الكبيرة بأنها ما رتب عليه عقوبة خاصة؛ يعني: أنه ليس فيه: لا تفعلوا كذا، أو حرم عليكم كذا، بل فيه عقوبة خاصة سواء لعنة أو حرمان من دخول الجنة أو غير ذلك، وهذا لا شك أنه أقرب ضابط، ومن المعلوم أن الكبائر نفسها تختلف لحديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أكبر الكبائر»، فالكبائر بعضها قريب من الصغائر، وبعضها قريب من الشرك. هنا قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه» أي: أباه أو أمه، "قيل: وهل بسبب الرجل والديه؟ ". يعني: الصحابة تستبعد أن الرجل يشتم والديه، وهو كذلك بعيد أن الرجل يقول لأبيه أو أمه سبًا وشتمًا هذا من أبعد ما يكون، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعم"، إلا أنه من طريق غير مباشر، قال: "نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه، ويسب أمه فيسب أمه"، وهذا غير مباشر، أما أن يسبه سبًا مباشرًا فهذا بعيد، لكن في وقتنا الحاضر هل يسب أباه سبًا مباشرًا؟ نعم كثير، وكذلك يسب أمه، لكن في عهد الصحابة وفي عهد شيم العرب لا يمكن أن الرجل يسب أباه أو أمه. في هذا الحديث فوائد: منها: أن الذنوب قسمان: صغائر وكبائر. ومنها: أن شتم الرجل أباه أو أمه من كبائر الذنوب؛ لأنه عقوق.

ومنها: مراجعة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن صدره صلى الله عليه وسلم يتسع لذلك ويرحب به، وهكذا ينبغي للإنسان أن يكون صدره رحبًا في المراجعة، لكن بشرط أن يعلم حسن القصد من المراجع، أما إذا علم أنه تعنت أو إحراج فله الحق أن يغضب وله الحق أن يمنع الجواب؛ لأن الله قال للرسول صلى الله عليه وسلم: {فإن جاءوك فأحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42]. لأن اليهود يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم أسئلة تعنتٍ، فخيره الله بين أن يجيبهم أو لا، وكذلك الأئمة كانوا يغضبون على من سأل سؤالاً في غير محله، ماذا صنع مالك لما سئل السؤال عن العرش، وقيل له: كيف استوى؟ أطلق برأسه حتى علاه العرق، وقال للرجل: ما أراك إلا مبتدعًا وهذا سب له بالقول، ثم أمر به أن يخرج ويطرد من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن من علمنا منه حسن القصد وأنه يسأل الفائدة أو هو مستفيد لكن يريد أن يفيد غيره من الحاضرين فليكن صدرك رحبًا، والحمد لله فإن الحق قد يكون مع أصغر القوم، وإذا كان هكذا فالواجب أن يكون صدر الإنسان رحبًا، الصحابة - رضي الله عنهم - يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم أشياء ليتبين لهم الأمر، قالوا: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: نعم. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وكشفه للمسال الغامضة لقوله: "يسب أبا الرجل" بين وجهه ذلك بقوله: "يسب أبا الرجل ... الخ". ومن فوائد الحديث: أن الجواب بـ"نعم" جواب صحيح، والجواب بـ"إي" هل يكفي؟ نعم؛ لأنه في القرآن: {ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي} [يونس: 53]. فـ"إي" هنا هي هي، ولكننا ردنا عليها هاء السكت. ومن فوائد الحديث: أن الوسائل لها أحكام المقاصد، يؤخذ من كونه يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه ويسب أمه فيسب أمه. ومنها: سد الذرائع، يعني: ما كان ذريعة لمحرم فهو محرم، ويدل على سد الذرائع قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} [الأنعام: 108]. إذن نأخذ من هذا سد الذرائع، وقاعدة ثانية: الوسائل لها أحكام المقاصد، لكن هنا إشكال نرجوا الله تعالى أن يبين لنا وجهه، كيف يسوغ للإنسان إذا سب الرجل أبه أن يسب أبا الرجل؟ ! ولا تزر وازرة وزر أخرى. والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر هذا هل هو على سبيل الإقرار أو على سبيل بيان الواقع؟ الثاني، مثلاً: رجل جعل يسب أبا الرجل، والرجل الساب أبوه رجل صالح، فهل يليق بالذي سب أبوه أن

بماذا يزول التهاجر بين الأخوين؟

يسب أباه أبا الرجل؟ مشكل هذا، لا تزر وازرة وزر أخرى، فالظاهر لي - والله أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك إقرارًا للحكم الشرعي، ولكنه ذكر ذلك اعتبارًا بالواقع، أما الشرع فلا يجوز ذلكن نظير هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لتركبن سنن من كان قبلكم»، يعني: اليهود والنصارى، هل هذا إقرار شرعي أو إقرار بالواقع؟ الثاني لاشك، وأخبر أن الظعينة ترتحل من كذا إلى كذا ليس معها أحد، وهذا ليس إقرارًا شرعيًا، لأن المعروف في الشرع أن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم. بماذا يزول التهاجر بين الأخوين؟ 1402 - وعن أبي أيوب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام». متفق عليه. إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يحل" فالمعنى: أنها حرام، قال الله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة: 229]. وقال تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتم ما خلق الله في أرحامهن} [البقرة: 228]. يعني حرام وهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم»، قال: المسلم، والظاهر - والله أعلم - أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم: المسلم الذي هو مؤمن، بخلا المنافق الذي هو مستتر ظاهرًا، ويحتمل أن يكون المراد بذلك: المسلم ولو ظاهرًا، ولكن قوله: "أخاه" يمنع ذلك؛ أي: يمنع دخول المنافق فيه؛ وذلك لأن المنافق ليس أخًا للمسلمين. "أن يهجر أخاه" لم يقل: أن يهجر المسلم من أجل الاستعطاف؛ يعني: أخوك كيف تهجره، لو قال: يهجر المسلم المعنى صحيح، لكن إذا قال: أن يهجر أخاه فهو استعطاف له، لأن أخاه لا يمكن أن يهجره، والهجر هنا معناه الترك، وهو أقسام كثيرة، فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا» يعني: يلتقيان في الشارع أو المسجد، فيعرض كل واحد منهما عن الآخر، قال: «وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، "خيرهما" الضمير يعود على الملتقيين، خير الملتقيين من يبدأ بالسلام. فهذا الحديث فيه فوائد كثيرة: منها: أنه يجب على المسلمين أن يقوموا بما يجلب المودة والمحبة وهو إفشاء السلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشو السلام بينكم»، وضد السلام: عدم الإفشاء، ومنه الهجر.

ومن فوائد الحديث: تحريم هجران أهل المعاصي؛ لأن العاصي لا تنتفي بمعصيته الأخوة، أرأيتم قتل الإنسان عمدًا هذا من كبائر الذنوب العظيمة ومع ذلك قال الله عز وجل: {فمن عفى له من أخيه شيء} [البقرة: 178]. فجعل القاتل أخًا للمقتول، وكذلك قتال المؤمن سماه الرسول: كفرًا قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، ومع ذلك قال الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت أحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 10]. وهذه ذنوب عظيمة يكون بها الإنسان فاسقًا ومع ذلك لم يخرج عن الأخوة؛ إذن يحرم هجران أهل المعاصي، لكن يستثنى من ذلك إذا كان في هجرهم مصلحة بحيث يرتدعون عن المعصية فهنا يكون الهجر واجبًا؛ لأنه سبب لإزالة المنكر فيكون من باب النهي عن المنكر، أما إذا كان هجر أهل المعصية لا يستفيدون به شيئًا بل ربما يزدادون فرقه ونفورًا وكراهية للحق ولأهل الحق كما هو الواقع في كثير من الناس، كثير من أهل المعاصي إذا هجره أهل الخير كره الخير وأهله وازداد في إرغام أنوفنا؛ إذن نقول: الهجر دواء إن نفع فافعله وإن لم ينفع فلا نفعله، فإن ترددت فما الأصل؟ عدم الهجر. ومن فوائد الحديث: جواز هجر المسلم لأخيه في ثلاثة أيام فأقل؛ لقوله: "فوق ثلاث"، فدل ذلك بمفهومه على أنه يجوز هجره من ثلاث فأقلن كيف ذلك؟ لأن الإنسان قد يقع في نفسه على أخيه شيء: سوء تفاهم أو مخاصمة، فيحمل في نفسه عليه شيئًا، ويرى أن تبريد الأمر أن يهجره، وعندنا في اللغة العامية يغضب عليه ما يكلمه ويكون أول يوم من الغضب هجرًا، ثاني يوم يسكت الأمر ويبرد غضبه، ثالث يوم يقول: لا فائدة من الهجر، في الرابع يزول ذلك بالكلية، ولا يجوز أن يستمر أكثر من ثلاثة أيام، وهذه من حكمة الشرع أنه جعل الهجر الجائز ثلاثة أيام، فأول يوم لشدة الغضب، وثاني يوم للتأمل والتروي، وثالث يوم يزول الغضب، فلذلك جعلت ثلاثة أيام. ومن فوائد الحديث: أن الذي يبدأ بالسلام ولو كان الكبير على الصغير والكثير على القليل وهو خير الملتقيين لقوله: «خيرهما الذي يبدأ بالسلام». ومن فوائد الحديث: أن الهجر يزول بالسلام ووجه واضح لأنك ستقول: السلام عليك، فتخاطبه، فيزول بذلك الهجر، لكن ليعلم أن الناس يختلفون، من الناس من يكفيه أن تقول: السلام عليك، وتقول: عليك السلام ويذهب، ومن الناس من يحتاج إلى زيادة سؤال عن حاله:

كل معروف صدقة

كيف أنت، أرأيت الرجل العادي الذي يمر بك يكفي أن تقول: السلام عليك، ويقول: عليك السلام، لكن إذا كان من أصدقائك أو من أقاربك ما يكفي السلام عليك، وهو يقول: عليكم السلام، ولذلك لو أنك سلمت عليه ورد عليك وسكت لقلت إن الرجل في قلبه شيء، فهذه أيضًا مسألة يتفطن لها وإلا فالأصل أن السلام يزول به الهجر. قوله: "فيعرض هذا ويعرض هذا" شرط أنه لابد من الإعراض أو أن المراد بالإعراض: ترك السلام؟ الظاهر - والله أعلم - الثاني، لكن الإعراض زيادة على ترك السلام، إذا لاقاه صد عنه؛ لأن الغالب أن المقابلة تفرض على الإنسان أن يسلم؛ لأنه يخجل أن يقابله وجهًا بوجه ولا يسلم عليه، لكن الإعراض دليل على الهجر. كل معروف صدقة: 1403 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل معروفٍ صدقة». أخرجه البخاري. هذه من الكلمات الجامعة: "كل معروف فهو صدقة"، إن قابلت صاحبك بوجه طلقٍ فهو صدقة؛ لأنه معروف، كل يثني على ذلك إن أعطيته شيئًا ولو قليلاً فهو معروف، إن عفوت عنه فهو معروف، إن أنفقت على أهلك، إن أعرت صاحبك فهو معروف؛ إذن كل معروف فإنه صدقة، وكل منكر فإنه ليس بصدقة؛ لأنه منكر ويجب إنكاره. الغرض من هذا الحديث: هو أن النبي صلى لله عليه وسلم أراد من أمته أن يتعاملون بالمعروف، وكل معروف فإنه صدقة. 1404 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ». "لا تحقرن من المعروف" يعني: لا تستصغروه وتستهن به، وقوله: "شيئًا" نكرة في سياق النهي فيعم كل شيء، ثم قال مبينًا أقل شيء في ذلك: "أن تلقى أخاك بوجه طلق"، ومن أخوك؟ المسلم. ففي هذا الحديث فوائد: أولاً: ألا يحقر الإنسان من المعروف شيئًا، حتى لو أعطيت أخاك قلمًا يكتب به؛ لأنه ليس معه قلم فهذا من المعروف لا تحقرنه، حتى لو أمسكت بيده حينما رأيته يقع في الحفرة أو يصطدم بحجر فهذا من المعروف، لا تحقر شيئًا، حتى لو أعطيته

الإحسان إلى الجار ولو بالقليل

شيئًا يكتب به رقم تليفونك مثلاً لا تحقرنه، لا تحقر شيئًا أبدًا، حتى لو رأيت أنه يحب أن يطلع على شيء مما ينفعه وقد خفي عليه وأخبرته فإن ذلك من الصدقة؛ إذن تحرص على ألا تحقر شيئًا من المعروف، كل معروف فهو صدقة ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، وإن لقيت أخاك بوجه عبوس فلا ينبغي لك هذا، اللهم إذا اقتضت المصلحة ذلك لسبب من الأسباب، فلكل مقام مقال. الإحسان إلى الجار ولو بالقليل: 1405 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك». أخرجهما مسلم. "إذا طبخت مرقة" وقدرت أنها لاك ولأهل البيت، "فأكثر ماءها" وإن كان إذا كثر ماؤها سوف يقل طعمها، لكن المصلحة التي تترتب على كثرة الماء أنفع لك في الدنيا والآخرة، "تعاهد جيرانك" وظاهر الحديث ولو كانوا أغنياء؛ لأن هذا من باب الصلة، ليس من باب دفع الضرورة بل من باب التواصل. ففي هذا الحديث دليل على فوائد: منها: أن الإنسان ينبغي له أن يراعي جيرانه بالإحسان إليهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره». ومنها: أن خلط الشيء بما يضعف قيمته إذا كان لمصلحة فهو جائر، أما إن كان غشًا فإنه حرام، ولهذا لو كان عندك إناء من لبن إن صببت عليه الماء شرب منه الكثير وإلا لم يشرب منه إلا قليل، فما الأولى؟ الأولى: أن تصب عليه الماء حتى يتسع لعدد أكبر، لكن إذا كان للغش فهو حرام؛ يعني: لو كان يريد بيع هذا اللبن وصب عليه الماء فإنه غش، والغش حرام، ولهذا ورد أن ثلاثا فيهن البركة وذكر منهن خلط البر بالشعير للبيت لا للبيع؛ لأنه إذا كان للبيع ففيه غش. ومن فوائد الحديث: عناية الإسلام بالجار، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أن يكون [شريكك] في أكلك إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يكون دائمًا ذا حزم وفطنه لقوله: "وتعاهد"، وهذا التعاقد معناه: أن يكون الإنسان متأملاً في أحوالهم ينظر ماذا يحتاجون فيقضي حاجتهم. ومن فوائد الحديث: عظم حق الجار، ولنسأل هل الناس الآن ينفذون مثل ذلك؟ قليل جدا جدًا، أكثر الناس تجده متخمًا من الطعام واللحم وكل شيء، وجاره يبيت طاويًا، وهذا لا

الترغيب في التفريج عن المسلم والتيسير عليه

شك أنه ليس من خلق الإسلام، من خلق الإسلام هو أن الإنسان يحسن إلى جاره ويكرم جاره بكل ما يستطيع. الترغيب في التفريج عن المسلم والتيسير عليه: 1406 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا؛ نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر؛ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». أخرجه مسلم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة»، "نفس" بمعنى: وسع، والكربة: الضيقة من كرب الدنيا، "فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة"، وكرب يوم القيامة أشد من كرب الدنيا، والجزاء من جنس العمل، بل وأعظم "ومن يسر على معسر"، في أي شيء كان، سواء بالمال أو بالعمل أو بأي شيء من أنواع الإعسار، "يسر الله عليه في الدنيا، والجزاء من جنس العمل، بل وأعظم "ومن يسر على معسر"، في أي شيء كان، سواء بالمال أو بالعمل أو بأي شيء من أنواع الإعسار، "يسر الله عليه في الدنيا والآخرة"، ومن ذلك: إنظار المعسر وهو أن يكون لرجل على آخر دين، والمدين معسر فييسر عليه فإن الله ييسر عليه في الدنيا والآخرة، وكذلك من يسر عليه بمساعدته ومعاونته ونحو ذلك فهو داخل في الحديث. "ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة"، هذا أيضًا الجزاء من جنس العمل، إذا سترت المسلم أي: سترت عيوبه وآثامه ونقصه؛ فإن الله تعالى يستر عليك في الدنيا والآخرة"، وهذه قاعدة عامة، ويرويه بعض العوام ما دام العبد في عون أخيه وهذا غلط، والصواب "ما كان العبد" فهو لفظ الحديث وهو المطابق أيضًا؛ لأن "ما كان العبد" تدل على أن الله في عون الإنسان حسب عوه لأخيه، وأما "ما دام" فلا تدل على ذلك، وإنما تدل على أن الإنسان ما دام معينا أخاه فالله معينه، ولكن لا تدل على أن إعانة الله له من جنس إعانته لأخيه بخلاف اللفظ النبوي: "ما كان العبد في عون أخيه". من فوائد الحديث: الحث على تفريج كربات المسلمين. ومن فوائده: أن الجزاء من جنس العمل، بل أكبر من العمل؛ لأن من نفس على مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن فوائد الحديث أيضًا: التيسير على المعسر، وأن الجزاء من جنس العمل، وأن الله يستر عليه في الدنيا والآخرة بل هو أكثر؛ لأن الله ييسر عليه في الدنيا والآخرة، والتيسير على المعسر

الدال على الخير كفاعله

قسمان: قسم في طلب ما لا يستطيع من حقك فهذا حرام عليك أن تعسره بل يجب التيسير، كرجل له مال عند شخص والمدين لا يستطيع الوفاء، فهنا يجب أن تيسر عليه وجوبًا؛ لقول الله تعالى: {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةً إلى ميسرةٍ}. ولا يحل لك طلبه ولا مطالبته، بل الواجب الإنظار، وهناك تيسير ليس بواجب فهذا يندب إليه. فإن قال قائل: هل هذا الجزاء يشمل الواجب والمستحب؟ قلنا: نعم، يشمل هذا وهذا، بل التيسير الواجب أفضل من التيسير المستحب. ومن فوائد الحديث: أن من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، ففيه الحث على ستر المسلم، ولكن هذا ليس على إطلاقه، فالستر على حسب المصلحة، إن كان في ستره مصلحة عبارة عن شيء حصل ولن يعود إليه فيما نعلم من حاله فهنا الستر أفضل، وإذا كان العيب من شخص معروف بالشر والفساد فالواجب كشفه وبيانه حتى ينكف شره عن عباد الله، فهذا الحديث ليس على إطلاقه بل تقيده النصوص الأخرى، وهو أن الله لا يحب الفساد، وستر من عرف بالفساد سبب [لنشر] الفساد. ومن فوائد هذا الحديث: إثبات الآخرة والجزاء فيها، وهو ظاهر. ومن فوائد الحديث: القاعدة العامة: "أن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، والمراد بذلك: عونه على ما لا ضرر فيه، وأما عونه على ما فيه ضرر في الدين وفي الدنيا فليس الله في عون صاحبه؛ لأن هذا فساد والله لا يحب الفساد، ولا يمكن أن يعين الله تعالى من أراد الفساد؛ إذن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه على الخير أو على ما لا مضرة فيه وهذا أدق وأما ما فيه مضرة دينية أو دنيوية فإن الله تعالى لا يأذن به ولا يعين فاعله. الدال على الخير كفاعله: 1407 - وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خيرٍ؛ فله مثل أجر فاعله». أخرجه مسلم. هذا أيضًا من الأحاديث العظيمة المهمة: "من دل على خير" أي خير كان، لكن لما قال: "فله مثل أجر فاعله" علمنا أن المراد بذلك: ما كان خيرًا في الدين بحيث يثاب عليه العبد، فمن دل على خير فله مثل أجر فاعله، والدلالة نوعان: إما أن يدله بنفسه على الخير فيقول مثلاً: يسن لك أن تصلي ركعتين في الضحى، يسن لك أن تختم صلاة الليل بالوتر وما أشبه ذلك،

المكافأة على المعروف

هذه دلالة مباشرة، أو دلالة غير مباشرة بحيث يدله على من يدله على الخير مثل: أن يسألك إنسان عن مسألة دينية وأنت لا تعرفها فتقول: أسأل فلانًا من العلماء، هذا يكون قد دل على من يدل على الخير، ثم إن الدلالة على الخير تنقسم إلى قسمين: دلالة بالقول، ودلالة بالفعل، والناس يقتدون بالقول ويقتدون بالفعل، وربما كان اقتداؤهم بالفعل أكثر، فمثلاً: إذا اقتدى بك إنسان في التهجد في الليل أو في إعانة الضعيف أو في الصدقة على فقير اقتدى بك وأنت لم تقل له ذلك، فهذا يعتبر دلالة لكن دلالة فعلية، وكذلك أيضًا من دل على ترك المحذور وترك الشر بنية صالحة وتركه غيره بهذه النية فله مثل أجر فاعله. فمن فوائد الحديث: الحث على الدلالة على الخير إما بالقول وإما بالفعل، ومن الدلالة على الخير دلالة الخطباء في مساجدهم يوجهون الناس، ودلالة الوعاظ في أماكن الوعظ يدلون الناس، ودلالة المعلمين في فصول الدراسة يعلمون الناس، ويدلونهم على الخير وأبواب هذا كثيرة جدًا. ومن فوائد الحديث: أن الأسباب لها أحكام المقاصد، فالدلالة على الخير سبب للخير، فإذا فعل الإنسان الخير كان للدال مثل أجره، فدل على أن الوسائل لها أحكام المقاصد. ومن فوائد الحديث: أن الأجر الحاصل للدال لا ينقص أجر المدلول لقوله: "فله مثل أجر فاعله"، ولم يقل: فالأجر بينهما؛ أي: بين الدال والمدلول، بل قال: "مثل أجر فاعله"، وعلى هذا فإن أجر المدلول لا ينقص بإعطاء الدال مثل أجره، وفضل الله واسع. المكافأة على المعروف: 1408 - وعن ابن عمر رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استعاذكم بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن أتى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا، فادعوا له». أخرجه البيهقي. قوله: "من استعاذكم"، الاستعاذة معناها: الاعتصام بالشيء، والمعنى: من اعتصم بالله منكم فاعصموه، مثال ذلك: قال: أعوذ بالله منك فأعيذوه؛ لأنه استعاذ بمعاذ عظيم فيجب أن تعيذوه، وليس هذا من باب الاستشفاع بالله على خلقه؛ لأن الاستشفاع بالله على خلقه حرام. لو قال قائل: أتوجه بالله إليك أو أستشفع بالله إليك لكان هذا حرامًا؛ لأن منزلة الشافع أدنى من منزلة المشفوع إليه، فإذا جعلت الله شافعًا إلى مخلوق، جعلت الله في مرتبة دون المطلوب، فلا يجوز أن تقول: أشفع بالله إليك، ولا أتوجه بالله إليك؛ لأنك حينئذٍ جعلت مقام

الرب عز وجل دون مقام هذا البشر، لكن الاستعاذة بالله التجاء واعتصام بمن هو أقوى ممن يريدك بسوء فلذلك جاز، ولم يجز الاستشفاع بالله على خلقه. وقوله: "من استعاذكم بالله فأعيذوه" هذا مطلق، ظاهره حتى لو استعاذ منا بالله من شيء واجب عليه مثل أن آتي إلى شخص أطلبه فأقول: يا فلان، أعطني حقي وهو قادر، قال: أعوذ بالله من: هل يجب أن نعيذه؟ لا؛ لأني أعلم أن الله لا يجيبه؛ لأن استعاذته بالله عن حق واجب عليه، يعني: إقرار الله عز وجل الظلم وهذا مستحيل، فعلى هذا إذا استعاذ بالله تعالى من شيء واجب عليه فإننا لا نجيبه؛ لأننا نعلم أن الله لا يعيذه عز وجل، إذ إن الله يقول: {إنه لا يفلح الظالمون} [الأنعام: 21]. ويقول: {والله لا يحب الظالمين} [آل عمران: 57]. إذا استعاذ بالله من شخص في أمر مباح هل أعيذه أو لا؛ يعني: طلبت منه أن يعيرني شيئًا؟ فقال: أعوذ بالله منك، أعيذه لأنه استعاذ من شيء له أن يستعيذ بالله منه، فإن بعض الناس يلجئك ويضيق عليك في طلب إعارة شيء أو إعطاء مال أو غير ذلك فيريد أن يستعيذ بالله منك فأعذه، وقد وقع شيء فيه إشكال وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه ابنة ابن الجون فقالت: أعوذ بالله منك! فقال لها: «لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك»، وتركها مع أنها استعاذت من أمر كان واجبًا عليها وهو تمكين زوجها منها، لكن لكرم النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه أسقط حقه عليها وأعاذها، وإلا فلو أن أحدًا قالت له زوجته حين دعاها إلى فراشه: أعوذ بالله منك ماذا يعمل؟ كلما دنا منها قالت: أعوذ بالله منك؟ بماذا يجيبها؟ يقول: إن الله لا يعيذ الظالمين، ولا يلزمه أن يعيذها؛ لأنها استعاذت من حق واجب عليها، نعم لو كان مفرطًا هو في حقها ولا يعطيها حقها فلها أن نستعيذ بالله منه، وعليه أن يعيذها. "ومن سألكم بالله فأعطوه"، أختلف المفسرون - الشرح - في معناها هل المعنى: من سألكم بشرع الله؛ أي: من سأل سؤالاً يستحقه في الشرع فأعطوه، أو من قال: أسألك بالله أن تعطيني كذا؟ فيها قولان، والقاعدة أن النص القرآني أو النبوي إذا احتمل معنيين لا ينافي أحدهما الآخر فإن الواجب حمله عليهما، فنقول: من سأل بالله؛ أي: من سأل بدين الله؛ أي: سأل سؤالاً مشروعًا فأعطوه، مثال ذلك رجل فقير أتى إلي وقال: أسألك أن تعطيني من الزكاة فأعطيه هذا أحق من فقير لم يسألني، لأن هذا سأل فصار مستحقًا للإعطاء بحاله وسؤاله، أما إذا علمنا أنه سال ما لا يستحق فلا أعطيه بناء على تفسير من سال بالله؛ أي: بشرع الله، فإذا جاء يسألني من الزكاة وأنا أعرف أنه غني لكنه سأل تكثرًا فلا أعطيه، هذا وجه، الوجه الثاني: "من سألكم بالله" أي: من قال: أسألك بالله أن تعطيني، فهل تعطيه؟ هذا أيضًا يحتاج إلى تفصيل، إذا سأل ما لا يحل له فلا تعطه، مثال ذلك: جاءك إنسان وقال: أسألك بالله أن تشتري لي دخان فهل تعطيه؟ هذا

إنسان يشرب الدخان وليس معه نقود وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقال: الحمد لله عندي حديث عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: «من سألكم بالله فأعطوه»، فذهب إلى رجل وقال: أسألك الله أن تعطيني مائة ريال أشتري بها دخانا، فهل يجوز؟ لا، لا يجوز، لأن الله يقول: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. ولا أعطيه، لكن أعطيه ما هو خير من ذلك وهو النصيحة، وأقول: اتق الله، انظر ماذا حدث لك من الدخان؟ صرت تتكفف الناس، فأعطيه ما هو خير من المال. إذا سألني شيئاً مباحاً لكن تتعلق حاجتي به، مثل أن رأى معي ساعة أعجبته تماماً وهي تتعلق بها حاجتي فقال: أسألك بالله أن تعطيني الساعة هل يلزمك؟ لا يلزمك؛ لأننا لو فتحنا هذا الباب وقلنا: يلزم لا نكب الناس علينا، وكلما رأوا معنا شيئاً يعجبهم سألونا بالله أن نعطيهم إياه، وهذا لا تأتي به الشريعة، إذن هذه الإطلاقات تكون مقيدة بما علم من قواعد الشريعة وهي إتباع المصالح واجتناب المفاسد. «ومن أتى إليكم معروفاً فكافئوه» يعني: إذا أحسن إليك إنسان بصدقة أو هدية أو هبة أو كلمة طيبة أو غير ذلك فكافئوه؛ أي: أعطوه ما يكافئه، مثلا: أثنى عليك في مجلس كافئه، أثنى عليه بما هو فيه في مجلس آخر، أهدى إليك هدية قبل الهدية وكافئه، كذلك أيضا سعى لك في خير كافئه، فإن لم تجد ما تكافئه، فادع الله له، مثل رجل أهدى إليك هدية ضخمة ولا تستطيع أن تكافئه فادع الله له، وهذا الدعاء يقابل المعروف الذي أتى إليك، وكذلك أيضا إذا كان هذا الذي أتى إليك معروفاً تجري العادة بمكافأته مثل السلطان والأمير والابن وغير ذلك، هذا لم تجر العادة بمكافأته فماذا أصنع؟ أكافئه بالدعاء، فقول الرسول: «لم تجدوا» نقول: وكذلك إذا لم تجر العادة بمكافأته ورأى هو أنك إن كافأته لكان هذا يعني رد معروفه، فهنا أرشد النبي (صلى الله عليه وسلم) أن ندعو له. في هذا الحديث فوائد: منها: وجوب تعظيم الله (عز وجل) لقوله: «من استعاذكم بالله فأعيذوه». ومنها: جواز الاستعاذة بالله تعالى من كيد الأعداء؛ لقوله: «من استعاذكم بالله فأعيذوه»، وأما من استعاذ بالله لدفع واجب عليه فهذا لا يعاذ. ومنها: أن من سأل بالله على الوجهين [اللذين ذكرناهما] فإنه يعطى، ومن سأل على غير هذا الوجه فإنه لا يعطى. ومنها: مكافأة من أتى إليك معروفاً، وهل المكافأة واجبة؟ تقول: ظاهر الحديث الوجوب. ومنها: أن من عجز عن شيء فإنه قد يكون له بدل، وقد يكون ليس له بدل ومسألتنا هذه لها بدل، وهو الدعاء. ومنها: حسن الشريعة الإسلامية، حيث جعلت لمن صنع المعروف مكافأة لينشط فاعل المعروف على بذل المعروف.

3 - باب الزهد والورع

3 - باب الزهد والورع لابد أن نعرف الفرق بينهما؛ لأن عطف أحدهما على الآخر يدل على المغايرة، والفرق بينهما: أن الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة؛ يعني: يزهد في الدنيا ولا يأتي من الدنيا إلا ما ينفعه في الآخرة فقط، هذا لاشك أنه زهد في الدنيا؛ لأنه لا يريد أن يأتي إلا ما ينفعه في الآخرة، أما الدنيا فلا يريدها إطلاقاً، والورع: ترك ما يضر في الآخرة، أيهما أكمل؟ الزهد، لأن بين الذي لا ينفع والذي يضر واضح وهو ما لا نفع فيه ولا ضرر، فالزاهد يترك والورع لا يترك، ثم ذكر المؤلف حديث النعمان فقال: الحلال والحرام والمشتبهات: 1409 - عن النعمان بن بشير (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول -وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه: «إن الحلال بين، وإن الحرام بَين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب». متفق عليه. قوله: «وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه» تحقيقاً للسماع، وإصبع هذه من الكلمات التي لا يمكن الخطأ فيها من حيث الحركات؛ لان فيه عشر لغات يشير إليها قول الشاعر: (وهمز أنملة ثلث وثالثه ... التسع في إصبع واختم بأصبوع) فتكون اللغات تسع من ضرب ثلاثة في ثلاثة، و «التسع في إصبع» هو محل الشاهد، «واختم بأصبوع» فتكون اللغات في إصبع عشرة، أما «أنملة» ففيها تسع لغات، شرح هذا وإن كان ليس في الحديث لكن لا بأس أنه ينفع إن شاء الله؛ فنقول: لنأخذ الهمزة في أصبع على أنها مفتوحة والباء مثلثة نقول: أصُبع أصَبع أصِبع، لنأخذ الهمزة مضمومة والباء مثلثة أصُبع أصَبع أصبِع، لنأخذ الهمزة مكسورة والباء مثلثة إصبَع إصبُع إصبِع، كم هذه؟ هذه تسع، العاشر أصُبوع، أما أنملة فيقال فيها كما قلنا في أصبع، يقال: أنملة أنمُلة أَنملة، أنمُلة أنمَلة أُنملة، إنمَلة إنمُلة إنمِلة، الجميع تسع، الآن في بيت واحد حصلنا على تسع عشرة لغة، عشر في «إصبع» وتسع في «أنملة». «أهوى النعمان (رضي الله عنه) بأصبعيه إلى أذنيه» تحقيقاً للسمع، قال (صلى الله عليه وسلم): «إن الحلال بين والحرام بين

وبينهما مشتبهات ... إلخ» فقسم الرسول (صلى الله عليه وسلم) الحرام والحلال إلى قسمين: قسم بين ظاهر لا يخفى على أحد، وقسم مشتبه، والاشتباه إما أن يكون في الدليل أو في الاستدلال أو في المدلول، هذه ثلاثة أقسام، وأما البين فبين فمثلا حل الطيبات بين، تحريم الخبائث بين، الميتة تحريمها بين، الخنزير تحريمه بين، الزنا تحريمه بين، وأشياء كثيرة، والحلال أيضا بين، هناك أمور مشتبهات لم يذكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) الواجب؛ لأن الحديث موضوعه عن الأمور التي يتغذى بها الإنسان ويأكلها، وإلا فالواجب لاشك منه بين ما هو مشتبه. «بينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس»، و «يعلمهن كثير من الناس» يعني: الناس يختلفون فيه، الرسول لم يقل: لا يعلمهن أكثر الناس، بل قال «كثير»، أي: كثير من الناس يعلمهن، والكثير تطلق على هذا وهذا كما قال الله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18]. من الذي يعلمهن؟ يعلمهن أهل العلم الراسخون فيه الذين يعلمون نصوص الشارع، ويعرفون كيف يستدلون بها ويعرفون المدلول، مثلا: العلم بالدليل لابد أن يكون الإنسان يعرف الدليل؛ هذا حلال هذا حرام من القرآن أو من السنة أو منهما أو من إجماع السلف، الاستدلال يعرف العام الذي يتناول جميع الأفراد، يعرف الخاص الذي لا يتناول إلا شيئاً معيناً، يعرف المطلق من المقيد وما أشبه ذلك، يعرف المدلول؛ أي: يعرف أن الدليل أنطبق على هذا الشيء بعينه، مثال ذلك: إذا اختلط الخمر بشراب حلال ولكنه لم يؤثر فيه إسكاراً هل هو حلال أو حرام؟ حلال، اشتبه على بعض الناس فظن أنه حرام بحجة: «ما أسكر كثيرة فقليله حرام»، هنا الخطأ في الاستدلال، الدليل واضح صريح: «ما أسكر كثيرة فقليله حرام»، هؤلاء اشتبه عليهم الأمر فظنوا أن معنى قول (صلى الله عليه وسلم): «ما أسكر كثيرة فقليله حرام» ظنوا أن معناه: ما كان فيه شيء قليل من مسكر فهو حرام وليس كذلك؛ لأن معنى الحديث: أن هذا الشراب لو أكثرت منه لحصل الإسكار، ولو أقللت منه لم يحصل الإسكار، فهل يجوز القليل منه الذي لا يحصل به الإسكار؟ الجواب: لا، هذا معنى الحديث: وليس معنى الحديث ما كان فيه جزء يسير من الخمر فهو حرام، لأننا نقول: لو أن عندك ماء سقط فيه نجاسة يسيرة لم تؤثر فيه شيء ما حكمه؟ طهور تشرب منه وتتوضأ منه وتطهر منه الثوب والبدن مع أن فيه جزءاً يسيراً من النجاسة، لكن هل النجاسة انحلت فيه [وغيرته]؟ لا، فلم يبق لها حكم، كذلك الخمر لو سقطت نقطة في كأس لكنها لا تؤثر فيه إطلاقا، لو تشرب عشرين كأسا ما حصل الإسكار، إذن الدليل واضح، الاستدلال غير صحيح، ولهذا يحصل الاشتباه عند بعض الناس. كذلك أيضا قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام»، فقالوا: يا

رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام»، الضمير هنا يعود على البيع الذي هو موضع الحديث، أو يعود على الانتفاع بذلك بالاستصباح ودهن الجلود وطلي السفن؟ هذا أيضاً مما يشتبه في دلالة الحديث عليه؛ فمن العلماء من قال: يعود على البيع؛ لأن الصحابة أوردوا ذلك لعل النبي (صلى الله عليه وسلم) يجيز بيعها لهذا الغرض، ومن الناس من قال: إنه يعود على الانتفاع وأن شحوم الميتة لا تطلى بها السفن ولا تدهن بها الجلود ولا يستصبح بها الناس، والراجح: أنه يعود إلى البيع؛ لأنه هو محل الحديث، والرسول (صلى الله عليه وسلم) ما تحدث عن هذه المنافع، المهم: أنواع الاشتباه كثيرة. يقول: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»، «استبرأ»؛ أي: ابتغى البراءة لدينه ولعرضه، أما الدين فبينه الرسول (صلى الله عليه وسلم) كما سيأتي، وأما العرض؛ فلأن الإنسان إذا أتى المشتبهات فإن الناس يأكلون لحمه ويعرض نفسه للغيبة والسب وما أشبه ذلك. «ومن وقع في الشبهات وقع في الرحرام»، هل المحرم نفس المشتبه، أو أنه وقع في الحرام؟ يعني: صار وقوعه في المشتبه سبباً لوقوعه في الحرام؛ يعني: أنه إذا وقع في الشبهات فإنه يتوقع أن يقع في الحرام، هذا هو المراد، وليس المعنى: أن المشتبهات حرام، ولكن المشتبهات لاشك أن الورع تركها، أما اللزوم فلا يلزم إلا ما كان يقيناً، إذن من وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام، هذا معنى قوله: «وقع في الحرام»، مثل الرسول لذلك بقوله: «كالراعي يرعى حول الحمى»، «الراعي» أي: راعي الإبل، راعي الغنم، راعي البقر، راعي الظباء؛ أي راعٍ، «يرعى حول الحمى»، «الحمى» المكان الذي منع من الرعي فيه، وهذا يقع كثيراً من الأمراء أو الخلفاء، إما للمصالح العامة، وإما للمصالح الخاصة، مثلاً: هذه أرض مخصبة فيها العشب الكثير حماها أحد من الناس، بمعنى: أنه منع من الرعي فيها، ماذا تكون هذه الأرض؟ سيكون نباتها كثيراً؛ لأنه لا يرعى، وسيكون نضراً؛ لأنه ليس حوله غبار، إذا رعى الراعي حول هذا الحمى يوشك أن يقع فيه؛ لأن الغنم أو البقر أو الإبل إذا رأت هذا المكان النضر سوف ترتع فيه، إما أن تستغفل الراعي وإما أن تتمرد عليه ويعجز عنها، ولهذا قال: «كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه». ثم ضرب النبي (صلى الله عليه وسلم) مثلا تقريبياً فقال: «ألا وإن لكل ملك حمى»، وهذا إخبار عن الواقع وليس عن الشرع، إلا أن العلماء (سيأتي في الفوائد) ذكروا أنه يجوز لإمام المسلمين أن يحمى أرضاً لدواب المسلمين، كخيل الجهاد، وإبل الصدقة.

«ألا وإن لكل ملك حمى»، وهل ملك الملوك له حمى؟ نعم، ولهذا قال: «ألا وإن حمى الله محارمه»، كأنه يقول: ولله حمى، وحماه محارمه التي حرمها على العباد، فهي حمى تدعو النفوس إليها كالراعي الذي يرعى حول الحمى، لكن من اتقى ذلك سلم، مثال هذا: الربا، ونحن الآن نتكلم على هذا الحديث بناء على أنه يتعلق بالغذاء واللباس والطعام وغير ذلك، فالربا حرام، لكن إذا رأى هذا التاجر أن المرابين يكسبون كسباً عظيماً فإنه ربما ينجر إلى ذلك كالمواشي تنجر إلى حمى الملوك، كذلك أيضا في القمار فهو حرام، نجد بعض المقامرين يكون أغنى العالم في ليلة واحدة، هذا المحرم إذا رأى الإنسان أنه قد يكون سبباً للكسب الكبير البالغ في ليلة واحدة سوف ينجز إليه هذه محارم الله، الزنا -أعاذنا الله وإياكم منه- إذا رأى الإنسان أنه ستحصل له متعة بدراهم قليلة والمهور كثيرة ربما تجره نفسه إلى ذلك، فحمى الله محارمه، والمحارم يزينها الشيطان لنفس الإنسان فينتهكها. ثم قال: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»، كلمة «ألا» يكررها الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لأنها تفيد التنبيه، «ألا وإن في الجسد» أي: جسد الإنسان، فـ «أل» هنا للعهد الذهني؛ لأن العهود ثلاثة: ذكري. وحضوري، وذهني، ففي قول الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16، 15]. هذا ذكرى كأنه قال: فعصى فرعون هذا الرسول الذي أرسلناه، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. هذا حضوري، {اَليَوْمَ} يعني: هذا اليوم، وقوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93]. أيضا حضوري، قال النحويون: وكل ما حلى بـ «أل» إذا أتى بعد اسم إشارة فهو حضوري؛ لأن اسم الإشارة يدل على القرب، فإذا جاء بعد المحلى بـ «أل» فهو حضوري، الذهني: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 170]. هذا ذهني، {جَاءَكُمُ الرَّسُولُ} لو سئل أي إنسان من الرسول؟ لقال: محمد (صلى الله عليه وسلم)، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: 8]. من النور؟ القرآن؛ لأن الله أنزله، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174]. «ألا وإن في الجسد» أي: جسد الإنسان، «مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ... إلخ»، لو شاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) لقال. ألا وإن القلب في الجسد، إذا صلح صلح الجسد لحصل المقصود، لكن أتى به بهذه الصيغة من أجل الاهتمام به والعناية به وبيان أهميته، «ألا وهي القلب»، ومعنى المضغة: أي قطعة من اللحم بقدر ما يمضغه الإنسان، والإنسان ما قدر ما يمضغه من اللحم؟ من أشداقه واسعة فستكون مضغته كبيرة، ومن أشداقه ضيقة فستكون صغيرة، والوسط وسط.

على كل حال: كلما صغرت المضغة فهو أحسن، لأن الإنسان يستطيع أن يعالجها تماماً ويهضمها تماماً، لكن الغالب أن المضغة من البضة فأقل، ولا أعني بذلك: البيضة الكبيرة، ولكن بيضة الدجاج المعروف فأقل، هذه إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، فتبارك الله أحسن الخالقين، مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله، وهل المراد هنا بالصلاح: الصلاح الديني، أو الصلاح الجسدي؟ الديني، قد يقول قائل: كلاهما، لكن هذا لا يختص بالقلب، إذا صلح الدماغ أيضاً صلح الجسد كله، إذا صلحت القدمان صلح الجسد كله، المراد: الصلاح الديني. ففي هذا الحديث من الورع: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه». أما فوائده ففيه أولاً: أنه ينبغي لحامل الخبر أن يؤكده بالمؤكدات التي تقنع السامع، يؤخذ ذلك من قوله: «أهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه»، ومثل ذلك: حديث أبي شريح الخزاعي حيث قال: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قام فينا خطيباً غداة فتح مكة فحدثنا حديثاً سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به، كل هذا تأكيد للسماع، فينبغي للإنسان أن يؤكد خبره بما يفيد تأكده، لاسيما عند الشك فيه إما لغرابته أو لكون المخبر غير ثقة عند السائل فيؤكده بأنواع المؤكدات. ومن فوائد الحديث: أن المحرمات والمحللات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم حله بين، وقسم تحريمه بين، وقسم مشتبه، أما ما حله بين وتحريمه بين فأمره واضح، الحلال حلال، والحرام حرام، وأما المشتبه فما موقف الإنسان منه؟ موقفه: أن يتقيه، لأنه إن فعله فهو بين الإثم والسلامة، وإن تركه سقط عنه احتمال الإثم وتأكد السلامة، ومعلوم أنه إذا تأكد الإنسان السلامة من الإثم فهو خير له. ومن فوائد الحديث: أن الناس يختلفون في العلم لقوله: «لا يعلمهن كثير من الناس»، وهل يختلفون في الفهم؟ نعم، يختلفون في الفهم اختلافاً عظيماً، أما العلم فمعناه الاطلاع على الأدلة الشرعية وعلى أقوال العلماء، وأما الفهم فهو غريزة يجعلها الله (عز وجل) في الإنسان، وقد تكون مكتسبة فتزيد من التمرن وهذا أمر مشاهد، الإنسان كلما تمرن على تدبر النصوص وتفهمها؛ ازداد فهماً، وكم من إنسان أخذ من نص واحد عدة مسائل، وآخر لم يأخذ منه إلا مسألة واحدة، ففضل الله يؤتيه من يشاء، وقد سئل علي بن أبي طالب هل عهد إليكم النبي (صلى الله عليه وسلم) بشيء؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يؤتيه الله تعالى أحداً في كتابه، فقال: «إلا فهماً» دل ذلك على أن الإنسان قد يدرك بفهمه ما لا يدركه غيره.

ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يحرص على معرفة المشتبه حتى يكون على يقين من أمره، فإن دام الاشتباه ولم يصل إلى نتيجة فالورع ترك المشتبه. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يستبرئ لدينه وعرضه، فلا يقع في المشتبهات، ولا يصاحب من يشتبه فيه، ولا يتعرض لما يدنس عرضه؛ لقوله: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»، لا يتكل الإنسان على ثقة الناس به، فإن الأعداء كثيرون، قد يكون الإنسان يحس بنفسه أنه محل ثقة عند الناس في دينه وعلمه وخلقه، لكن كل إنسان له أعداء، ربما يشيع عنه الأعداء ما كان كذباَ فينحط قدره عند الناس، ولهذا يجب على الإنسان أن يستبرئ لدينه وعرضه حتى يسلم من الشر، لا يقول: الناس لا يظنون بي إلا خيراً، وكلن يجب أن يبين، ولقد رأى رجلان من الأنصار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الليل ومعه صفية، فأسرعا خجلاً من الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فقال: «على رسلكما إنها صفية بنت حبي» فقالا: سبحان الله! قال لهما: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً أو قال شيئاً»، مع أننا نعلم علم اليقين أن الصحابيين لا يخطر ببالهما شيء مما يظن، لكن الإنسان يدرأ عن نفسه ما يبرئ به دينه وعرضه. ومن فوائد الحديث: سد الذرائع، لقوله: «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام»، فكل ذريعة توصل إلى محرم فالواجب اجتنابها. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بضرب الأمثال المحسوسة ليتوصل بها إلى فهم المعاني المعقولة، بأن شبه النبي (صلى الله عليه وسلم) من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام بالراعي، الراعي كلنا يعرف أنه إذا رعى حول الحمى فإنه يوشك أن يقع فيه. وهل من فوائد الحديث: جواز الحمى في البر، أن يحمي الإنسان لنفسه مكاناً يرعى فيه إبله وغنمه وبقره وما أشبه ذلك؟ لا؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مثل بأمر واقع، أما هل يجوز أو لا يجوز فهذا شيء آخر يؤخذ من نصوص أخرى، لكن النبي (صلى الله عليه وسلم) يذكر الأمور الواقعة أحياناً لا لإقرارها ولكن لبيان أنها ستقع، إذن هل يجوز أن يتخذ الإنسان له مكاناً يحميه من المراعي الطيبة؟ نقول: أما إذا كان ذلك لخاصة نفسه فإنه لا يجوز، لأن الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار، وأما إذا كان لمصالح المسلمين العامة فلا بأس، لأنه لم يتخذه لنفسه، فإذا قدر أن هذا الأمير حمى أرضا مخصبة جيدة لإبل الصدقة مثلا أو لغنم الصدقة أو لبقر الصدقة فهذا جائز،

ولكن أيضا بشرط ألا يضر المسلمين الآخرين يعني: بأن تكون المراعي واسعة، أما إذا كان يضرهم مثل ألا يوجد في مراعي البلد إلا هذه القطعة؛ فإنه لا يجوز أن يحميها ولو لمصالح المسلمين؛ وذلك لأن المصالح العامة لا يمكن أن تقضي قضاء مبرماً على المصالح الخاصة؛ لأننا لو قلنا: لك أن تحمي إبل الصدقة، بقيت إبل الناس تموت جوعاً، فإذا كان يضرهم فهو ممنوع حتى وإن كان للمصالح العامة. ومن فوائد الحديث: أن حمى الله محارمه؛ يعني: أن المحارم جعلها الله تعالى بمنزلة الحمى لا تقرب، ولهذا قال العلماء: إذا قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]. فالمراد بالحدود: المحرمات، وإذا قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوها} [البقرة: 229]. فالمراد بها: الواجبات، لأن الله (عز وجل) جعل حدوداً لحفظ النفوس، وحدودا واجبات لتزكية النفوس، لأن النفوس محتاجة إلى تزكية وحماية. ومن فوائد الحديث: أن القلب هو المدبر للجسد لقوله: «إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب». ومن فوائده: الرد على من قال: إن المراد بالقلب هو العقل الذي محله في الدماغ على زعمه، فنقول: إن الرسول قال: «في الجسد مضغة» وهي القلب، وهذا ليس معقولا، بل هو شيء محسوس، ومن ثم وقع النزاع بين علماء الشريعة وعلماء الطبيعة والفلسفة هل العقل في الدماغ أو العقل في القلب؟ وطال النزاع من قديم الزمان، قال الإمام أحمد: العقل في القلب وله اتصال في الدماغ، وهذا هو ما دل عليه القرآن، قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وأين القلوب؟ في الصدور، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. فالقرآن والسنة كلاهما يدل على أن محل العقل وتدبير البدن هو القلب وهذا هو الذي دلت عليه النصوص. فإن قال قائل: أليس الرجل إذا اختل دماغه اختل عقله؟ قلنا: بلى، لكن لا مانع أن يكون أصل العقل في القلب، ثم يصدر الأوامر إلى المخ من أجل أن تدير هذه المملكة العظيمة، لأن جسد الإنسان مملكة عظيمة فيها من جميع الآلات، وأظن بعضكم يعرف أن في بدنه حديداً، كل المواد موجودة في البدن، وكل المعادن موجودة في البدن، ولهذا قال الله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21، 20]. هذا الجسد هو دولة في الواقع، فلابد للملك الذي يدير من جنود، فالمدبر الملك وهو القلب، والجنود الدماغ والأعضاء، فأقرب ما يقال في تصوير المسألة أن أصل التدبير في القلب والمخ مساعد.

مبحث حديث الحلال والحرام من جامع العلوم والحكم

فإذا قال قائل: التصور الآن المعروف أن التصور يكون في الرأس يكاد الإنسان يلمسه لمساً. فيقال: نعم، سكرتير الملك يعمل المعاملات ويمحصها ويدققها، ثم يبعث بها إلى الملك من أجل التوقيع فيوقع، ومن ينفذ؟ الجنود، فالمسألة تصورها في المحسوس أمر ظاهر، ونحن وإن لم ندرك الشيء بتصويره في الأمر الظاهر المحسوس يكفينا قول الله ورسوله: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. حدثنا شيخنا عبد الرحمن السعدي أنه في معركة الخلاف بين الناس كان يوجد أحد المعتزلة قال: إن العقل في القلب، وخصومه يقولون: العقل في الدماغ، المهم: أنه قضي عليه بالإعدام، فقال: إذا قصصتم رأسي إن كان عقلي في قلبي فأنا سأشير بأصبعي، وإن كان في رأسي فلا أستطيع أن أشير، فلما قطع رأسه أشار بأصبعه مما يدل على أن العقل في القلب. مبحث حديث الحلال والحرام من جامع العلوم والحكم: -عن النعمان بن بشير (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: - وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه-: «إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب». متفق عليه. هذا الحديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص، والمعنى واحد أو متقارب. وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وجابر، وابن مسعود، وابن عباس، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب.

*تعليق الشيخ: -قول العلماء أصح هذا الباب يريدون المسألة، وقد تكون جزءاً من باب، لكن لم يصح في هذا الباب شيء؛ يعني: في هذه المسألة. *قال ابن رجب: فقوله (صلى الله عليه وسلم): «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس» معناه: أن الحلال المحض بين لا اشتباه فيه، وكذلك الحرام المحض، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس، هل هي من الحلال أم من الحرام؟ وأما الراسخون في العلم، فلا يشتبه عليهم ذلك، ويعلمون من أي القسمين هي. فأما الحلال المحض: فمثل أكل الطيبات من الزروع، والثمار، وبهيمة الأنعام، وشرب الأشربة الطيبة، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان، أو الصوف أو الشعر، وكالنكاح، والتسري، وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع، أو بميراث، أو هبة، أو غنيمة. والحرام المحض: مثل أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، ونكاح المحارم، ولباس الحرير للرجال، ومثل الأكساب المحرمة كالربا والميسر، وثمن ما لا يحل بيعه، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس أو نحو ذلك. وأما المشتبه: فمثل أكل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه، إما من الأعيان كالخيل، والبغال، والحمير، والضب. *تعليق الشيخ: -المؤلف (رحمة الله) قرن بين أشياء بعضها واضح وأن الخلاف فيه ضعيف، فمراده (رحمة الله) مجرد الاختلاف، الخيل الخلاف في حلها أو تحريمها ضعيف والصواب أنها حلال؛ لأنه ثبت في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر أنهم نحروا في المدينة فرساً على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وأكلوا منه، وأما البغال فالخلاف في حلها ضعيف؛ أي: أنها حلال، أي: القول بأنها حلال ضعيف؛ لأنها متولدة من محرم، فإن البغل: ولد الحمار من الفرس، وأما الحمير فالخلاف في حلها أضعف؛ لأن القول بحلها شاذ، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) أعلن أنه حرمها ولم تحل بعد ذلك، وأما الضب فالخلاف في تحريمه ضعيف، فقد ثبت أنه أكل بحضرته وسئل أحرام هو؟ قال: «لا، ولكنه ليس في أرض قومي فأجدني أعافه»؛ إذن المؤلف (رحمة الله) لم يرد تساوي هذه الأشياء في الحل والحرمة، إنما أراد مجرد الاختلاف فيها.

*قال ابن رجب: وشرب ما اختلف في تحريمه من الأنبذة التي يسكر كثيرها، ولبس ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العينة. *تعليق الشيخ: -مسائل العينة ليست مسألة واحدة، حدها بعضهم بأنها كل ما يتوصل به إلى الربا عن طريق الحيلة، وعلى هذا فالتورق من العينة، وقد نص على ذلك الإمام أحمد، مسألة العينة المسألة المشهورة أن يبيع شيئاً بثمن مؤجل ويشتريه بأقل منه نقداً، مثاله: باع علي سيارة بخمسين ألفاً إلى سنة ثم اشتراها منه بأربعين ألفاً نقداً، وأخذ السيارة وأعطاه أربعين ألفاً، حقيقة الأمر أنه أعطاه أربعين ألفاً بخمسين ألفاً إلى سنة، ولهذا قال ابن عباس: إنها دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة. *قال ابن رجب: والتورق ونحو ذلك، وبنحو هذا المعنى فسر المشتبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة. *تعليق الشيخ: مسألة التورق أن يبيع عليه سلعة بثمن مؤجل أكثر من ثمنها نقداً، وقصد المشتري الدراهم ليس قصده السلعة، وسميت بذلك؛ لأن الإنسان احتاج فيها إلى الورق وليس عنده ورق، فاحتال إلى التوصل للورق بهذه الحيلة، وهي عند شيخ الإسلام محرمة مقطوع بتحريمها عنده، حتى نقل عنه ابن القيم في «إعلام الموقعين» أنه كان يسأل فيها مراراً فيأبى إلا أن تكون حراماً، وهي الآن شائعة بين الناس بكثرة، وأما إذا اشتراها بثمن أكثر لقصده عين السيارة لا يقصد قيمتها فهذا لا بأس به بالإجماع، وكذلك لو اشتراها يريد بها التكسب مثل: أن اشتراها بخمسين ألفاً مؤجلة إلى سنة يريد أن يبيعها في بلد آخر نقداً لا من أجل الدراهم لكن من أجل التجارة؛ هذا أيضا لا بأس به، وهل من ذلك أن يقول: أبيعها عليك بعشرة نقداً وعشرين نسيئة؟ لا، هذه جائزة ولا إشكال فيها، فليس هذا من باب بيعتين في بيعة كما توهمه بعض العلماء. قوله: «والمشتبهات».

-قاعدة المشتبه هي ما اختلف العلماء فيه هذا تفسير الإمام أحمد، فما كان بينا في حله أو تحريمه وما اختلف فيه العلماء فهو من المشتبه، لكنكم تعلمون أن الخلاف يكون ضعيفاً فيكون الاشتباه ضعيفاً، وقد يكون قوياً فيكون الاشتباه قوياً. *قال ابن رجب: وحاصل الأمر: أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب، وبين فيه للأمة ما يحتاج إليه من حلال وحرام، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. *تعليق الشيخ: -هذا هو الصحيح: أي: أن القرآن ما ترك شيئاً إلا بينه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}. {تِبْيَاناً} إما أن تكون مفعولاً لأجله وعاملها {وَنَزَّلْنَا}، وإما أن تكون مصدراً في موضع الحال من {الْكِتَابَ} أي: ميناً، وأيا كان فهذا هو الاستدلال على أن القرآن فيه بيان كل شيء، أما ما يستدل به كثير من الناس وهو قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. فهذا خطأ وتنزيل للآية على غير مراد الله، قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]. فالمراد بالكتاب هنا: اللوح المحفوظ وليس الكتاب العزيز. *قال ابن رجب: قال مجاهد وغيره: لكل شيء أمروا به أو نهوا عنه. *قال الشيخ: -وعلى هذا يكون من باب العام الذي أريد به الخاص على رأي مجاهد وغيره، والصواب من العام الذي مر على عمومه، لكن بيان القرآن إما أن يكون الشيء عينه، وإما أن يكون بجنسه، وإما أن يكون بقاعدة عامة يدخل فيها ما لا يحصى من المسائل، وإما أن يكون بالإشارة والدلائل، حتى ذكر أن بعض النصارى كان جالساً مع أحد العلماء المشهورين المذكورين العقلاء، فأتى إليه قال: أيها الشيخ، إن كتابكم تبيان لكل شيء، وبين أيدينا الآن خبز ولحم وما شاء الله، أين في القرآن كلمة سندوتش واللحم وغير ذلك، أين هو؟ كأن هذا النصراني يريد أن يكون القرآن دليل مطبخ! فقال له الرجل: هذا موجود في القرآن، قال: كيف موجود أين هو؟ فنادى صاحب المطعم فقال: تعال كيف تصنع هذا؟ قال: بكذا وكذا وبين، قال: هكذا جاء في القرآن، فاندهش الرجل كيف جاء أين هو؟ قال: إن الله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. فأرشدنا أن نسأل عن كل شيء يعلمه غيرنا إذا كنا لا نعلمه، فذلك كيف تصل إلى العلم، فالذي نرى أن الآية عامة: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} وليست خاصة فيما أمرنا به أو نهينا عنه.

*قال ابن رجب: وقال تعالى في آخر سورة النساء التي بين الله فيها كثيراً من أحكام الأموال والأبضاع: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]. *تعليق الشيخ: -سورة النساء كما قال المؤلف بين الله فيها كثيرا من أحكام الأموال والأبضاع فيه آية التحريم والتحليل لما يحل من الأبضاع: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]، والأموال حدث ولا حرج: أموال الأحياء، وأموال الأموات، وأموال العقلاء، وأموال السفهاء كلها موجودة في النساء، وهذا من فقه التفسير الذي لا يعلمه كثير من الناس، كثير من الناس يفسر السورة ولا يعرف مغزى السورة ومعناها ومجمعها وما الذي جمع فيها، وهذا فقه عظيم في التفسير ينبغي للإنسان ألا يهمله. *قال ابن رجب: وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115]. ووكل بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وما قبض (صلى الله عليه وسلم) حتى أكمل له ولأمته الدين، ولهذا أنزل عليه بعرفة قبل موته بمدة يسيرة: {لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقال (صلى الله عليه وسلم): «تركتكم على البيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك». وقال أبو ذر: توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علماً. *تعليق الشيخ: - «ذكر منه علماً» هل هو حلال أو حرام الذي يهمنا هو هذا، أما نوعه ما الذي قاله لنا؟ قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. ونهى عن كل ذي مخلب من الطير، ونهى عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد، فأنت تجد أن الحلال بين والحرام بين.

*قال ابن رجب: ولما شك الناس في موته (صلى الله عليه وسلم)، قال عمه العباس (رضي الله عنه): والله ما مات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً، وأحل الحلال وحرم الحرام، ونكح وطلق، وحارب وسالم، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاة بمخطبه، ويندر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان فيكم. وفي الجملة فما ترك الله ورسوله حلالاً إلا مبيناً، لكن بعضه كان أظهر بياناً من بعض، فما ظهر بياه، واشتهر وعلم من الدين بالضرورة من ذلك لم يبق فيه شك، ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام، وما كان بيانه دون ذلك، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة خاصة، فأجمع العلماء على حله أو حرمته، وقد يخفى على بعض من ليس منهم، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضا، فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب. *تعليق الشيخ: -الآن بين (رحمة الله) أن ما علم بالضرورة من دين الإسلام، فهذا لا يعذر أحد بجهله، لابد أن يكون عالماً به في بلد يظهر فيه أحكام الإسلام، والثاني ما اشتهر بين حملة الشرع، ولكنه يخفى على غيرهم إلا أنه واضح عندهم، وهذا أيضا مما أجمعوا عليه، والثالث: ما كان خفياً على بعض حملة الشرع وهو الذي وقع فيه الخلاف فصارت الأحوال ثلاثة. *قال ابن رجب: منها: أنه قد يكون النص عليه خفياً لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميع حملة العلم. *قال الشيخ: -هذا نقص في العلم، لأن الذي يخفى عليه هذا معناه أن علمه قاصر لم يحط علماً بنصوص الشريعة. *قال ابن رجب: ومنها: أنه قد ينقل فيه نصان: أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفة أحد النصين دون الآخرين، فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معاً من لم يبلغه التاريخ، فيقف لعدم معرفته بالناسخ. *قال الشيخ: وهذا أيضا مثل الأول سببه نقص العلم.

*قال ابن رجب: ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيراً. *قال الشيخ: وهذا لقصور في الفهم. *قال ابن رجب: ومنها: ما يكون فيه أمر، أو نهي، فيختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه، وأسباب الاختلاف أكثر مما ذكرنا. *تعليق الشيخ: -هذا الاختلاف في المنهج هل كلنا يريد التحريم، هل كل أمر للوجوب؟ اختلف العلماء والأسباب كثيرة، وقد ذكر شيخ الإسلام (رحمة الله) في كتابه «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» أسباباً كثيرة لاختلاف العلماء -رحمهم الله- ولخصناه في رسالة، فمن راجع الأصل والملخص يكون ذلك طيباً. *قال ابن رجب: ومع هذا فلابد في الأمة من عالم يوافق قوله الحق، فيكون هو العالم بهذا الحكم، وغيره يكون الأمر مشتبهاً عليه ولا يكون عالماً بهذا، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يظهر أهل باطلها على أهل حقها، فلا يكون الحق مهجوراً غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المشتبهات: «لا يعلمهن كثير من الناس»، فدل على أن من الناس من يعلمها، وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها، وليست مشتبهة في نفس الأمر، فهذا هو السبب المقتضى لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء. *تعليق الشيخ: -ملخص كلامه هنا انه لا يمكن أن يكون الحق مشتبهاً على جميع الأمة، بل لابد أن يكون في الأمة من هو عالم بالحق ولو واحداً، أما أن يشتبه الحق على جميع الأمة فهذا مستحيل؛ لأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولو اشتبه الحق على جميع الأمة لم يكن القرآن بياناً ولا السنة بياناً. *قال ابن رجب: وقد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر، وهو أن من الأشياء ما يعلم سبب حله وهو الملك المتيقن، ومنها: ما يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت

ملك الغير عليه، فالأول لا تزول إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه، اللهم إلا في الأبضاع عند من يوقع الطلاق بالشك فيه كمالك، أو إذا غلب على الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه. والثاني: لا يزول تحريمه إلا بيقين العلم بانتقال الملك فيه. *تعليق الشيخ: -والصحيح في هذه المسألة: أن نلزم الأصل، فإذا شككنا في وقوع الطلاق فمن العلماء من قال: نوقعه؛ لأنه أحوط وأورع، ومنهم من قال: لا، لا نوقعه؛ لأن الأورع أن ينفى النكاح؛ إذ إننا لو أوقعناه في ورطتين: الأولى: تحريمها على الزوج، والثانية: إباحتها لغيره، فإذا قلنا: الأصل بقاء النكاح بنينا على أصل ولم نتورط إن قدر أن هناك تورطا إلا في الإحلال لزوجها التي لا تحل له على التقدير، فالصواب في هذا: أنه لا يزول الشك ولو بغلبة الظن، فمثلا: لو قال لزوجته: إن كان هذا الطائر حماما فأنت طالق، وذهب الطير ولم ندر ما هو هل تطلق؟ الصحيح: أنها لا تطلق، هناك احتمال أن يكون حماماً ولكن الأصل بقاء النكاح حتى لو غلب على ظنه أن هذا الطائر حمام فإنه لا يقع على القول الراجح. *قال ابن رجب: وأما ما لا يعلم له أصل ملك كما يجده الإنسان في بيته ولا يدري: هل هو له أو لغيره فهذا مشتبه، ولا يحرم عليه تناوله؛ لأن الظاهر أن ما في بيته ملكه لثبوت يده عليه، والورع اجتنابه، فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها» خرجاه في الصحيحين. فإن كان هناك من جنس المحظور، وشك هل هو منه أم لا؟ قويت الشبهة. وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أصابه أرق من الليل، فقال له بعض نسائه: يا رسول الله! أرقت الليلة. فقال: «إني كنت أصبت تمرة تحت جنبي، فأكلتها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه». *قال الشيخ: -هذا من تمام الورع ولاشك فيه، الإنسان يبتعد عن المشتبهات خصوصاً في الأكل والشرب. *قال ابن رجب: ومن هذا أيضاً ما أصله الإباحة كطهارة الماء والثوب والأرض، إذا لم يتيقن زوال أصله فيجوز استعماله.

*قال الشيخ: -حتى لو غلب على ظنه النجاسة؛ لأن الأصل الطهارة، لكن إذا قوي الظن في النجاسة فالورع تركه، وعلى هذا فإذا تعارض ورع وواجب، مثل ألا يكون عندهم إلا هذا الماء المشتبه الذي يغلب على ظنه أنه تغير بنجاسة، فنقول: لدينا الآن اجتناب تورعاً، ولدينا استعمال وجوباً فأيهما نقدم؟ الثاني: أي: الاستعمال وجوباً، أما مع وجود غيره فلاشك أن الورع تجنبه، وعليه أن يتوضأ من الماء الذي لا إشكال فيه. *قال ابن رجب: وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان، فلا يحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد. *تعليق الشيخ: -ما أصله الحظر في الأبضاع؟ مثلا هذا الرجل إذا شك في المرأة هل عقد عليها عقداً صحيحاً أو لا فما الأصل؟ المنع حتى نتيقن أنه استباح هذا الفرج بعقد صحيح، كذلك اللحم، الأصل فيه التحريم ليس الحيوان، الحيوان الأصل فيه الحل، لكن اللحم الأصل فيه التحريم حتى نعلم أنه ذكي على وجه شرعي، لكن إذا علمنا أنه ذكي فهل الأصل أن المذكي سمى أو لا؟ نقول: الأصل أنه سمي؛ لما رواه البخاري عن عائشة (رضي الله عنها) أن قوماً أتوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: يا رسول الله: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سموا أنتم وكلوا» قالت وكانوا حديث عهد بكفر؛ لأن الأصل أن الفعل إذا صدر من أهله فهو صحيح حتى يقوم دليل الفساد. *قال ابن رجب: فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فبني عليه، فيبني فيما أصله الحرمة على التحريم، ولهذا نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه، أو كلب غير كلبه، أو يجده قد وقع في ماء، وعلل بأنه لا يدري: هل مات من السبب المبيح له أو من غيره؟ *تعليق الشيخ: -فإن علم أنه مات من السبب المبيح حل يعني: مثلا لو أن هذا الطائر رماه وهو على غصن شجرة تحتها ماء فسقط الطائر، وقد تمزق بدنه من الرصاص ثم أدركه ميتاً فهنا يحل أو لا؟ يحل، لأنني أدري أنه مات بالرمي، أما لو كان بالرصاصة في جانب من بدنه ثم وجدته ميتاً، فهذا لا يحل، لأني لا أدري أمات بالرمي أو مات بالماء؟

*قال ابن رجب: ويرجع فيما أصله الحل إلى الحل، فلا ينجس الماء والأرض والثوب بمجرد ظن النجاسة، وكذلك البدن إذا تحقق طهارته وشك: هل انتقضت بالحدث عند جمهور العلماء، خلافاً لمالك (رحمة الله)، إذا لم يكن قد دخل في الصلاة. *تعليق الشيخ: -مالك (رحمة الله) يفرق بين ما إذا شككت هل أحدثت وأنت تصلى، أو إذا شككت هل أحدثت وأنت لا تصلي، والصواب أنه لا فرق بين الحالين لأننا إذا أعملنا هذا الشك فلا فرق بين أن تكون في الصلاة أو خارج الصلاة؛ لأننا لو قلنا: إن هذا الشك يوجب الوضوء فلا فرق بين أن تكون في صلاة أو في غير صلاة فالصواب مع الجمهور، بمعنى: أن الإنسان إذا شك هل أحدث أم لا فبنى على الأصل وهو الطهارة حتى ولو حس بدبيب في ذكره، أو بريح في دبره مثلاً، ولم يتيقن فالأصل الطهارة. *قال ابن رجب: وقد صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم): أنه شكي إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: «لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» وفي بعض الروايات: «في المسجد» بدل الصلاة. وهذا يعم حال الصلاة وغيرها، فإن وجد سبب قوي يغلب معه على الظن نجاسة ما أصله الطهارة مثل: أن يكون الثوب يلبسه كافر لا يتحرز من النجاسات، فهذا محل اشتباه، فمن العلماء من رخص فيه أخذا بالأصل، ومنهم من كرهه تنزيها، ومنهم من حرمه إذا قوى ظن النجاسة مثل: أن يكون الكافر ممن لا تباح ذبيحته أو يكون ملاقياً لعورته كالسراويل والقميص، وترجع هذه المسائل وشبهها إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر، فإن الأصل الطهارة والظاهر النجاسة. وقد تعارضت الأدلة في ذلك. فالقائلون بالطهارة يستدلون بأن الله أحل طعام أهل الكتاب، وطعامهم إنما يصنعونه بأيديهم في أوانيهم، وقد أجاب النبي (صلى الله عليه وسلم) دعوة يهودي، وكان هو وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يجلب إليهم مما نسجه الكفار من الثياب والأواني، وكانوا في المغازي يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية والثياب، ويستعملونها، وصح عنهم أنهم استعملوا الماء من مزادة مشركة.

والقائلون بالنجاسة يستدلون بأنه صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه سئل عن آنية أهل الكتاب الذين يأكلون الخنزير، ويشربون الخمر، فقال: إن لم تجدوا غيرها، فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها. وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام: يعني الحلال المحض والحرام المحض، وقال: من اتقاها، فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام. ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثر ماله الحرام، فقال أحمد: ينبغي أن يجتنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا، أو شيئا لا يعرف، واختلف أصحابنا: هل هو مكروه أو محرم؟ على وجهين. وإن كان أكثر ماله الحلال، جازت معاملته والأكل من ماله. وقد روى الحارث عن علي أنه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام. *تعليق الشيخ: -بمعنى: إذا أعطاكم عشرة مثلاً وكان أكثر ماله الحلال كم أعطاكم من الحلال؟ ثمانية، ومن الحرام اثنان وأربعة أو ستة. *قال ابن رجب: وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا يجتنبون الحرام كله. وإن اشتبه الأمر فهو شبهة، والورع تركه. قال سفيان: لا يعجبني ذلك، وتركه أعجب إلي. وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه، فإن لم يعلم في ماله حرام بعينه، ولكنه علم أن فيه شبهة، فلا بأس بالأكل منه، نص عليه أحمد في رواية حنبل. وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان وغيرهما من الرخصة، وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ مما يقضي من الربا والقمار، نقله عنه ابن منصور. وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إن كان المال كثيراً، أخرج منه قدر الحرام، وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلاً، اجتنبه كله. وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئاً، فإنه تبعد معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير، ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم، وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قول الحنفية وغيرهم، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي.

ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه، كما تقدم عن مكحول والزهري، وروي مثله عن الفضيل بن عياض. وروي في ذلك آثار عن السلف، فصح عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية ولا يتحرج من مال خبيث يأخذه ويدعوه إلى طعامه، قال: أجيبوه، فإنما المهنأ لكم والوزر عليه. وفي رواية أنه قال: لا أعلم له شيئاً إلا خبيثاً أو حراماً، فقال: أجيبوه. وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود، ولكنه عارضه بما روي عنه أنه قال: الإثم حواز القلوب. *تعليق الشيخ: -فصار فيها لابن مسعود روايتان: الأولى: كل منه ولا نبالي مادمت أخذته بطريق مباح، وإن كان هو بنفسه كسبه عن طريق محرم، وهذا هو الذي لا يسع الناس غيره الآن؛ إذ إن الناس كثر فيهم الربا والعينة وكثر فيهم التحيل على الربا، فلو قلنا: إنك تتجنب دعواهم أو لا تجيبهم حصل في ذلك ضرر، وربما يحصل عداوة وبغضاء، فالناس الآن لا يسعهم العمل إلا بهذا القول الذي روي عن ابن مسعود بل صح عنه (رضي الله عنه). *قال ابن رجب: وروي عن سلمان مثل قول ابن مسعود الأول، وعن سعيد بن جبير، والحسن البصري، ومورق العجلي، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين وغيرهم، والآثار بذلك موجودة في كتاب «الأدب» لحميد بن زنجويه، وبعضها في كتاب «الجامع» للخلال، وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم. ومتى علم أن عين الشيء حرام، أخذ بوجه محرم، فإنه يحرم تناوله، وقد حكي الإجماع على ذلك ابن عبد البر وغيره، وقد روي عن ابن سيرين في الرجل يقضي من الربا، قال: لا بأس به، وعن الرجل يقضي من القمار، قال: لا بأس به، خرجه الخلال بإسناد صحيح، وروي عن الحسن خلاف هذا، وأنه قال: إن هذه المكاسب قد فسدت، فخذوا منها شبه المضطر. وعارض المروي عن ابن مسعود وسلما، ما روي عن أبي بكر الصديق أنه أكل طعاماً ثم أخبر أنه من حرام، فاستقاءه.

وقد يقع الاشتباه في الحكم، لكون الفرع متردداً بين أصول تجتذبه، كتحريم الرجل زوجته، فإن هذا متردد بين تحريم الظهار الذي ترفعه الكفارة الكبرى، وبين تحريم الطلقة الواحدة بانقضاء عدتها الذي تباح معه الزوجة بعقد جديد، وبين تحريم الطلاق الثلاث الذي لا تباح معه الزوجة بدون زوج وإصابة، وبين تحريم الرجل عليه ما أحله الله له من الطعام والشراب الذي لا يحرمه، وإنما يوجب الكفارة الصغرى، أولاً: يوجب شيئاً على الاختلاف في ذلك فمن هاهنا كثر الاختلاف في هذه المسألة من زمن الصحابة فمن بعدهم. *تعليق الشيخ: -ذكر فيها أكثر من عشرة أقوال هذه المسألة إذا حرم الرجل زوجته، هل هو ظهار هل هو طلاق بائن، هل هو طلاق رجعي، هل هو يمين هل هو لغو؟ هذا فيه خلاف عن العلماء، والصواب أن الأصل أنه يمين إذا حرم زوجته فقال: زوجتي على حرام أو قال: أنت علي حرام فالأصل أنه يمين، لقوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2، 1]. ولاشك أن الزوجة مما أحل الله له، فتدخل في العموم فإن أراد الطلاق صار طلاقاً وإن أراد أنها حرام في حكم الله وشرعه كان كاذباً؛ لأن الله ما حرمها، فعلى كل حال نأخذ بالأصل، والأصل أن قول الرجل لزوجته: أنت على حرام، الأصل أنه يمين ودليله ما سمعتم [آية التحريم]. *قال ابن رجب: وبكل حال، فالأمور المشتبهة التي لا يتبين أنها حلال ولا حرام لكثير من الناس، كما أخبر به النبي (صلى الله عليه وسلم)، قد يتبين لبعض الناس أنها حلال أو حرام، لما عنده من ذلك من مزيد علم. *قال الشيخ: ونضيف أيضا أو نزيد فهماً. *قال ابن رجب: وكلام النبي (صلى الله عليه وسلم) يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها، وكثير منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان: أحدهما: من يتوقف فيها، لاشتباهها عليه. الثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه، ودل كلامه على أن غير هؤلاء يعلمها، ومراده أنه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلف فيها واحد عند الله (عز وجل)، وغيره ليس بعالم بها، بمعنى: أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر، وإن كان يعتقد فيها اعتقاداً يستند فيه إلى شبهة يظنها دليلاً، ويكون مأجوراً على اجتهاده، ومغفوراً له خطؤه لعدم تعمده.

*تعليق الشيخ: -اعتماده بمعنى: تعمده وهذا لاشك فيه أن المصيب واحد، ولا يمكن أن يكون المصيب اثنين أبداً، والدليل على هذا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قسم المجتهد إلى مخطئ ومصيب، وكيف يمكن أن يكون أحدهما يقول: هذا حرام باجتهاده، والثاني يقول: حلال باجتهاده، نقول: كلاهما مصيب! لأن هذا جمع بين النقيضين، وأما من قال: المجتهد مصيب ولو أخطأ في مسائل الفروع ومخطئ إذا أخطأ في مسائل الأصول، فهذا لا دليل عليه، فالمجتهد مصيب في اجتهاده، وقد يصيب حكم الله وقد لا يصيبه. *قال ابن رجب: وقوله (صلى الله عليه وسلم): «فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام»، قسم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين، وهذا إنما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه، وهو من لا يعلمها، فأما من كان عالماً بها، واتبع ما دله علمه عليها، فذلك قسم ثالث، لم يذكره لظهور حكمه، فإن هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة؛ لأنه علم حكم الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس، واتبع علمه في ذلك. وأما من لم يعلم حكم الله فيه، فهم قسمان: أحدهما من يتقي هذه الشبهات، لاشتباهها عليه، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه. ومعنى «استبرأ»: طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين، والعرض: هو موضع المدح والذم من الإنسان، وما يحصل له بذكره بالجميل مدح، وبذكره بالقبيح قدح، وقد يكون ذلك تارة في نفس الإنسان، وتارة في سلفه، أو في أهله، فمن اتقى الأمور المشتبهة واجتنبها، فقد حصن عرضه من القدح والشين الداخل على من لا يجتنبها، وفي هذا دليل على أن من ارتكب الشبهات، فقد عرض نفسه للقدح فيه والطعن، كما قال بعض السلف: من عرض نفسه للتهم، فلا يلو منَّ من أساء به الظن. وفي روية للترمذي في هذا الحديث: «». والمعنى: أنه يتركها بهذا القصد وهو براءة دينه وعرضه من النقص، لا لغرض آخر فاسد من رياء ونحوه. وفيه دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدين، ولهذا ورد: «أن ما وقى به المرء عرضه، فهو صدقة».

وفي رواية في الصحيحين في هذا الحديث: «فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم، كان لما استبان أترك» يعني: أن من ترك الإثم مع اشتباهه عليه، وعدم تحققه، فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم، وهذا إذا كان تركه تحرزاً من الإثم، فأما من يقصد التصنع للناس، فإنه لا يترك إلا ما يظن أنه ممدوح عندهم تركه. القسم الثاني: من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده، فأما من أتى شيئاً مما يظنه الناس شبهة، لعلمه بأنه حلال في نفس الأمر، فلا حرج عليه من الله في ذلك، لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك، كان تركها حينئذ لستبراء لعرضه، فيكون حسناً، وهذا كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لمن رأياه واقفاً مع صفية: «إنها صفية بنت حيي». وخرج أنس إلى الجمعة، فرأى الناس قد وصلوا ورجعوا، فاستحيى، ودخل موضعاً لا يراه الناس فيه، وقال: «من لا يستحيي من الناس، لا يستحيي من الله». وخرجه الطبراني مرفوعاً، ولا يصح. وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال، إما باجتهاد سائغ، أو تقليد سائغ، وكان مخطئاً في اعتقاده، فحكمه حكم الذي قبله، فإن كان الاجتهاد ضعيفاً، أو التقليد غير سائغ، وإنما حمل عليه مجرد إتباع الهوى، فحكمه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه، والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه، فقد أخبر عنه النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه وقع في الحرام. *تعليق الشيخ: -القسم الأول من يأتي مسألة مشتبهة عند الناس، لكنه يعلم أنها حلال فهذا جائز عند الله (عز وجل) ولا حرج عليه في ذلك، لكن إذا خاف من ألسن الناس فينبغي تجنب ذلك، والثاني من يعتقد أنه حلال لكن لا يعلم ذلك، فهو يعتقد أنه حلال إما باجتهاد سائغ وإما بتقليد عالم والمجتهد -كما تعلمون- يمكن أن يخطئ أو يصيب، بخلاف الذي يعلم أنها حلال، فهذا حكمه حكم الذي قبله بمعنى: أنه يجوز له عند الله (عز وجل) ولا إثم عليه لكن إذا خاف من ألسن الناس فالأولى تجنب ذلك أو يختفي وأما إذا كان الاجتهاد ضعيفاً أو التقليد غير سائغ، ولكن قلد إتباعه لهواه؛ لأنه وجد أن هذا القول أهون فهذا لا يحل له ذلك، لأنه يقع في الحرام؛ لقوله: «من وقع في الشبهات وقع في الحرام» وما أكثر الذين يسلكون هذا المسلك اليوم تجده إذا استفتى عالماً ولم تعجبه فتواه ذهب إلى عالم آخر وهو كان يعتقد أن العالم الأول هو عمدته

وهذا حرام عليه، ولهذا قال العلماء -رحمهم الله-: من استفتى عالماً ملتزماً بفتواه لاعتقاده صحتها فإنه يحرم عليه أن يستفتي عالماً آخر لكن في هذه الحال لو أنه صادف مجلساً لعالم آخر تكلم في المسألة وبين أنها على خلاف ما أفتى به هذا المستفتي وذكر الأدلة واقتنع فهذا لا بأس أن يعدل عما أفتاه به الأول إلى ما سمع من الثاني، لكن في هذه الحال ينبغي أن يتكلم أو يناقش العالم الثاني إذا كان العالم الأول قد ذكر له الدليل فيقول له: أنت قلت أنه حلال فما تقول في هذا الدليل لأجل أن يكون على طمأنينة. *قال ابن رجب: وهذا يفسر بمعنيين: أحدهما: أنه يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح. وفي رواية في الصحيحين لهذا الحديث: «ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان». وفي رواية: «ومن يخالط الريبة، يوشك أن يجسر»؛ أي: يقرب أن يقدم على الحرام المحض، والجسور: المقدام الذي لا يهاب شيئاً، ولا يراقب أحداً، ورواه بعضهم: «يجشر» بالشين المعجمة، أي: يرتع، والجشر: الرعي، وجشرت الدابة: إذا رعيتها. وفي مراسيل أبي المتوكل الناجي عن النبي (صلى الله عليه وسلم): «من يرعى بجنبات الحرام، يوشك أن يخالطه، ومن تهاون بالمحقرات، يوشك أن يخالط الكبائر». والمعنى الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده، لا يدري: أهو حلال أو حرام، فإنه لا يأمن أن يكون حراماً في نفس الأمر، فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام. وقد روي من حديث ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، فمن اتقاها، كان أنزه لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام، كالمرتع حول الحمى، يوشك أن يواقع الحمى وهو لا يشعر». خرجه الطبراني وغيره. واختلف العلماء: هل يطيع والديه في الدول في شيء من الشبهة أم لا يطيعهما؟ فروي عن بشر بن الحارث، قال: لا طاعة لهما في الشبهة، وعن محمد بن مقاتل العباداني قال: يطيعهما، وتوقف أحمد في هذه المسألة، وقال: يداريهما، وأبي أن يجيب فيها.

وقال أحمد: لا يشبع الرجل من الشبهة، ولا يشتري الثوب للتجمل من الشبهة. *قال الشيخ: لا يشبع بمعنى: أنه يقتصر على أدنى شيء في المال المشتبه فيه. *قال ابن رجب: وتوقف في حد ما يؤكل وما يلبس منها، وقال: في التمرة. *تعليق الشيخ: -هل خوفاً من أن يكون الطير أخذها بغير إذن صاحبها؟ أرى إن كان محتاجاً للأكل أخذها، وكذلك إذا سقطت في طريق تسلكه الأقدام فإنه يأخذها يأكلها أو يضعها. *قال ابن رجب: وقال الثوري في الرجل يجد في بيته الأفلس أو الدراهم: أحب إلى أن يتنزه عنها. يعني: إذا لم يدر من أين هي؟ وكان بعض السلف لا يأكل إلا شيئاً يعلم من أين هو، ويسأل عنه حتى يقف على أصله. وقد روي في ذلك حديث مرفوع، إلا أن فيه ضعفاً. *تعليق الشيخ: -الحمد لله أنه ضعيف فإن الناي لو كلفوا أن يبحثوا في هذا لشق عليهم كثيراً لكن تقول: مثلا هذا الذي باعه عليك من أين أتى به هل هو مغصوب، هل هو مسروق، هل هو مبيع على وجه الجهالة؟ فلو بحثنا في ذلك فسنجد أن فيه مشقة عظيمة، بل لو قيل: إن هذا من باب التنطع في دين الله الذي نهى عنه الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأخبر بهلاك أهله لو قيل بذلك لم يكن بعيداً، وما علمنا أن أحداً من الصحابة يفعل بل الأصل أن ما بيد الإنسان فهو ملكه اللهم إلا من علم بسرقات أو غصب، فهذا قد يتوقف الإنسان فيه، وأما عامة الناس فالأصل أن ما في أيديهم ملكهم، ولا يحتاج إلى بحث. *قال ابن رجب: وقوله (صلى الله عليه وسلم): «كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه»: هذا مثل ضربه النبي (صلى الله عليه وسلم) لمن وقع في الشبهات، وأنه يقرب وقوعه في الحرام المحض، وفي بعض الروايات أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «وسأضرب لذلك مثلاً»، ثم ذكر هذا الكلام، فجعل النبي (صلى الله عليه وسلم) مثل المحرمات كالحمى الذي تحميه الملوك، ويمنعون غيرهم من قربانه،

وقد جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) حول مدينته اثنى عشر ميلاً حمى محرماً لا يقطع شجره ولا يصاد صيده، وحمى عمر وعثمان أماكن ينبت فيها الكلأ؛ لأجل إبل الصدقة. والله (عز وجل) حمى هذه المحرمات، ومنع عبادة من قربانها وسماها حدوده، فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ُ} [البقرة: 187]. وهذا فيه بيان أنه حد لهم ما أحل لهم وما حرم عليهم، فلا يقربوا الحرام، ولا يتعدوا الحلال، ولذلك قال في آية أخرى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]. *تعليق الشيخ: -وإذا قال الله (عز وجل): فلا تقربوها، فيعني: بالحدود المحرمات، وإذا قال: لا تعتدوها فيعني بها الواجبات، لأن الواجبات لا تتعدى ولا تتخطى، أما المحرمات فلا تقرب، وهذا ضابط جيد. *قال ابن رجب: حول الحمى وقريبا منه جديراً بأن يدخل الحمى ويرتع فيه، فكذلك من تعدى الحلال، ووقع في الشبهات، فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة، فما أخلقه بأن يخالط الحرام المحض، ويقع فيه، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات، وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزاً. وقد خرج الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن يزيد عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، قال: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس». وقال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي الله العبد، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراماً، حجاباً بينه وبين الحرام. وقال الحسن: مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام. وقال الثوري: إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى. وروي عن ابن عمر قال: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. وقال ميمون بن مهران: لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال.

وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه. *تعليق الشيخ: -هذا يريد بذلك المشتبهات وأن الحلال مبين فلاشك أن الإنسان يبلغ أن يكون من المتقين، وإن لم يدعه، ولكن يريد بذلك المشتبهات، وما روي من آثار السلف فهذا من باب الزهد، وهو تارك مالا ينفع في الآخرة. *قال ابن رجب: ويستدل بهذا الحديث من يذهب إلى سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها، ويدل على ذلك أيضا من قواعد الشريعة تحريم قليل ما يسكر كثيرة، وتحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم الصلاة بعد الصبح وبعد العصر سداً لذريعة الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، ومنع الصائم من المباشرة إذا كانت تحرك شهوته، ومنع كثير من العلماء مباشرة الحائض فيما بين سرتها وركبتيها إلا من وراء حائل، كما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يأمر امرأته إذا كانت حائضاً أن تتزر، فيباشرها من فوق الإزار. *تعليق الشيخ: -وسد الذرائع لابد أنه ثابت بالقاعدة الشرعية لأن الوسائل لها أحكام المقاصد ويدل لذلك قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. فنهى عن سب آلهة المشركين لأنها ذريعة لسب الله (عز وجل) فدل ذلك على أن سد الذرائع أمر معتبر شرعاً. *قال ابن رجب: ومن أمثلة ذلك وهو شبيه بالمثل الذي ضربه النبي (صلى الله عليه وسلم): «من سيب دابته ترعى بقرب زرع غيره، فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع، ولو كان ذلك نهاراً»، هذا هو الصحيح، لأنه مفرط بإرسالها في هذه الحال. وكذا الخلاف لو أرسل كلب الصيد قريباً من الحرم، فدخل الحرم فصاد فيه، ففي ضمانه روايتان عن أحمد، وقيل: يضمنه بكل حال.

*تعليق الشيخ: -ما ذكره من ضمان الزروع إذا أتلفته البهائم صحيح يعني: إذا أرسل بهيمته بقرب الزرع فإنه ضامن، لأنه أرسلها بقربه، ومعروف أن البهيمة إذا أرسلت بقرب الزرع سوف ترعى وتذهب إليه، سواء في الليل أو في النهار، لكن لو أرسلها بعيداً عن المزارع ثم هي مشت إلى المزارع وأكلت في النهار، فإنه ليس على صاحبها ضمان؛ لأن المزارع بالنهار على أصحابها أن يحفظوها ويحموها، والليل بالعكس، ووجه ذلك ظاهر؛ لأن الناس يطلقون مواشيهم في النهار توعى وتجول يميناً وشمالاً وأهل المزارع أيضا يقظون يشتغلون في مزارعهم يحمونها، أما في الليل فالأمر بالعكس ما أتلفت البهيمة من الزرع في الليل فهو على صاحبها ولو كان أرسلها بعيداً عن الزرع وذلك لأن أهل المزارع نائمون لا يستطيعون حمايتها، وأهل المواشي جرت العادة أنهم في الليل يحفظون مواشيهم. *قال ابن رجب: وقوله (صلى الله عليه وسلم): «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقاء للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه. فإن كان قلبه سليماً، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقى الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات. وإن كان القلب فاسداً، قد استولى عليه إتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب إتباع هوى القلب. ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم، كما قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (89) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89، 88]. وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول في دعائه: «أسألك قلباً سليماً». فالقلب السليم: هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبه الله، وخشية الله، وخشية ما يباعد منه.

وفي «مسند» الإمام أحمد، عن أنس، عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، قال: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه». والمراد باستقامته إيمانه: استقامة أعمال جوارحه، فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب: أن يكون ممتلئاً من محبة الله، ومحبة طاعته، وكراهة معصيته. قال الحسن لرجل: داو قلبك؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم. يعني: أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم، فلا صلاح للقلوب حتى تستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه، وتمتلئ من ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد، وهو معنى «لا إله إلا الله»، فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو الله وحده لا شريك له، ولو كان في السماوات والأرض إله يؤله سوى الله، لفسدت بذلك السماوات والأرض، كما قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معاً حتى تكون حركات أهلها كلها لله، وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته، وإرادته لله وحده، فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله تعالى، فسد وفسدت حركات الجسد بحسب حركة القلب. وروى الليث عن مجاهد في قوله تعالى: {لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]. قال: لا تحبوا غيري. *تعليق الشيخ: -ومعلوم أن الإرادة والحركة تتبع المحبة، حتى إن ابن القيم في كتابه «روضة المحبين» قال: إن كل شيء يدل على المحبة لا يمكن للإنسان أن يفعل ما يؤمر ولا يجتنب ما ينهى إلا بمحبة الله (عز وجل)، فكل الإرادات تابعة للمحبة، وإذا كانت كذلك فإننا نقول: إذا حرك القلب نحو الله وأحب الله فلابد أن تصلح إرادته، ولو صلحت إرادته، صلحت جوارحه، وأما تمثيل المؤلف بأن القلب كالملك، فقد سبق لنا في شرح الحديث أن هذا أنقص مما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: «إذا صلحت، صلح الجسد» وصلاح الملك قد لا يستلزم صلاح الرعية.

*قال ابن رجب: وفي صحيح الحاكم عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شيء من الجور، وأن تبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض؟ قال الله (عز وجل): {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. فهذا يدل على أن محبة ما يكرهه الله، وبغض ما يحبه متابعة للهوى، والمولاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي، ويدل على ذلك قوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فجعل الله علامة الصدق في محبته إتباع رسوله، فدل على أن المحبة لا تتم بدون الطاعة والموافقة. قال الحسن: قال أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم): يا رسول الله، إنا نحب ربنا حباً شديداً. فأحب الله أن يجعل لحبه علما، فأنزل الله هذه الآية: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. ومن هنا قال الحسن: اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته. وسئل ذو النون: متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر. وقال بشر بن السري: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك. *تعليق الشيخ: -ولذلك قال ابن القيم (رحمة الله): (أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبا له ما ذاك في الإمكان) فلا يمكن أن يدعي الإنسان حب الله وهو يحب أعداء الله هذا مستحيل. *قال ابن رجب: وقال أبو يعقوب النهر جوري: كل من ادعى محبة الله (عز وجل)، ولم يوافق الله، في أمره، فدعواه باطلة. وقال رويم: المحبة: الموافقة في كل الأحوال، وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده، وعن بعض السلف قال: قرأت في بعض الكتب السالفة: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من رضاه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه.

وفي «السنن» عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، فقد استكمل الإيمان». ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت لله فقد كمل إيمان العبد بذلك، ظاهراً وباطناً، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكفت عما يكرهه، وعما يخشى أن يكون مما يكرهه وإن لم يتيقن ذلك. قال الحسن: ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على معصية؟ فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت. وقال محمد بن الفضل البلخي: ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله -عز وجل. *تعليق الشيخ: -مثل هؤلاء يقولون عن أنفسهم ذلك قد يقول قائل: أليس في هذا تزكية للنفس؟ فيقال: الأعمال بالنيات، والقوم لم يريدوا أن يزكوا أنفسهم عند الناس أهم شيء أن تكون أنفسهم زكية عند الله، لكن يقولون مثل هذا ليقتدي الناس بهم هذا قصدهم وليس قصدهم أن يمتدحوا عند الناس وأن يزكوا أنفسهم، لأن هذا لا يمكن أن يقع من مثل هؤلاء الأتقياء. *قال ابن رجب: وقيل لدواد الطائي: لو تنحيت من الظل إلى الشمس، فقال: هذه خطأ لا أدري كيف تكتب؟ ! *تعليق الشيخ: -نقول: إنه لو تنحى من الظل إلى الشمس في أيام الشتاء لعلم أنها تكتب ماذا تكتب؟ تكتب حسنة؛ لأنه أراد بذلك الرفق بنفسه، والرفق بالنفس لاشك أنه خير وأنه جاءت به الشريعة، إن لنفسك عليك حقاً فهو -يرحمه الله- لا يفعل حتى الشيء المعلوم حسنة لا يفعله حتى يعرف كيف يكتب؟ ! *قال ابن رجب: فهولاء القوم لما صلحت قلوبهم، فلم يبق فيها إرادة لغير الله (عز وجل) صلحت جوارحهم، فلم تتحرك إلا لله (عز وجل) وبما فيه رضاه والله تعالى أعلم.

التحذير من حب الدنيا

*تعليق الشيخ: -أعلم أن هذا الحديث يرد على أولئك الأقوام الذين إذا نهيتهم عن معصية قالوا التقوى هاهنا وأشاروا إلى صدورهم، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) فعل ذلك وأشار إلى صدره فنقول لهم: لو كان ما ها هنا متقيا لاتقى الظاهر لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ يقول: «إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله» فساد الظاهر يدل على فساد الباطن، وأما صلاح الظاهر فلا يدل على صلاح الباطن لأنه قد يقع هذا من المنافق يصلح ظاهره ولكن باطنه خبيث. التحذير من حب الدنيا: 1410 - وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض». أخرجه البخاري. «تعس» أي: هلك وخاب وخسر، عبد الدينار، الدينار: هو السكة المضروبة من الذهب، والدرهم: السكة المضروربة من الفضة، «والقطيفة»: الفراش، ومعنى عبدها فسره النبي (صلى الله عليه وسلم) باللازم فقال: «إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» فلهذا صار عبداً لها لأن هذه الأشياء ملكته يرضى بحصولها ويغضب بفواتها، فصار عبداً ذليلاً لها، هذا من وجه، من وجه آخر أن هذه الأشياء ثلاثة، وقد جاء في حديث آخر أربعة هذه الأشياء ملكت قلبه واستولت عليه حتى كانت هي فكره وعقله وإرادته، وهذا هو حقيقة العبودية من وجهين: الوجه الأول: أنه قد ذل لها بحيث يكون رضاه وغضبه تبعاً لحصولها أو عدمه، ثانيا: أنها ملكت قلبه بحيث تكون هي فكرة وتفكيره وعقله وحركاته، لا يسعى إلا لها ولا يتوقف عن السعي إلا لها، وليس المعنى: أن الرجل ينصب الدينار ويسجد لها، لا، إن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يرد هذا. ففي هذا الحديث: دليل على أن من كانت همته الدنيا يرضى لحصولها ويغضب لفواتها فإنه خاسر ويشهد لهذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]. يظن أن رابح إذا ربح ديناراً أو درهماً ألهاه عن ذكر الله، ولكنه في الحقيقة خاسر {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وفي هذا الحديث: دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يخرج الدنيا من قلبه قبل أن تفجأه منيته، حتى لا يكون عبداً ذليلاً لها.

كن في الدنيا كالغريب

ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أن من تعلق بشيء تعلقاً تاماً صار له مثل العبد، ولذلك نجد العشاق يفخرون بأن يوصفوا بأنهم عبيد لمن عشقوهم، كما قال الشاعر: (لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي) لماذا؟ لأنه يتلذذ بكونه رقيقاً لها -والعياذ بالله-. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يكون رضاه فيما يرضي الله وسخطه فيما يسخط الله، لا أن يكون ذلك تبعاً للدنيا؛ لأن الدنيا فانية. إذن فالحديث هنا من باب الزهد والورع معاً؛ لأن ترك ما يضر ورع، وترك ما لا ينفع زهد. كن في الدنيا كالغريب: 1411 - وعن ابن عمر (رضي الله عنها) قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». -وكان ابن عمر (رضي الله عنها) يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك». أخرجه البخاري. «المنكب»: طرف الكتف، ولكل إنسان منكبان، أخذ بمنكبيه من أجل أن ينتبه لما يلقي إليه فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، أوصاه بهذه الوصية أن يكون في الدنيا كالغريب، الغريب: هو من أقام في غير وطنه، ومعلوم أن من أقام في غير وطنه لا تتم له الراحة، بل هو في قلق، لأنه يخرج إلى المسجد لا يرى أحداً يعرفه لأنه غريب، أو عابر سبيل وهذا أشد، عابر السبيل ليس له إقامة فهكذا تكون في الدنيا، وهو إشارة إلى أن الإنسان ينبغي أن يبتعد عن أهل الدنيا وأن يكون بينهم كالغريب أو كرجل عابر سبيل لا يريد المكث، ومما يذكر عن الشافعي: (ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها) (فلم أراها إلا غروراً وباطلاً ... كما لاح في ظهر الفلاة سرابها) (فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها) وهذا الأخير محط الشاهد، وهو حق، ألا ترى أنك إن اجتنبت الدنيا اجتنبك الناس، وليس

بينك وبينهم علاقة، وإن تجتذبها هل ستأتيك سهلة؟ لا، يقول: نازعتك كلا بها! فوصية النبي (صلى الله عليه وسلم) -في الحديث السابق- من أحسن الوصايا. فمن فوائد الحديث: حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) يستعمل ما فيه تأكيد الخبر، والالتفات إليه إما بالقول وإما بالفعل، ففي حديث النعمان بن بشير استعمل القول «ألا»، وأما هنا فقد استعمل الفعل، والنبي (صلى الله عليه وسلم) يستعمل ما يحصل به الانتباه إما يمثل بهذا وإما بأن يمسك بيدي الرجل بين كفيه، كما فعل مع عبد الله بن مسعود حين علمه التشهد، أمسك بيده ووضعها بين كفيه، وجعل يعلمه، فإذا استعلمت الأساليب التي توجب أن يرعى الإنسان انتباهك فإن هذا من الهدي النبوي. ومن فوائد الحديث: ألا يركن إلى الدنيا وألا يتخذها محل إقامة، لقوله: «كن في الدنيا كأنك غريب»، يعني: قلقاً لست مستأنساً أو عابر سبيل. ومن فوائد الحديث: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يأمرنا أن نجتنب الدنيا كلها وإنما أمر أن نكون منها بمنزلة الغريب الذي لا يأكل إلا ما اضطر إليه أو عابر سبيل، وهكذا ينبغي لنا ألا نجعل الدنيا أكبر همنا؛ لأننا إذا جعلناها أكبر همنا فإنها تفوتنا هي والأخرى، وإن جعلناها عوناً على الطاعة صارت هي لنا والأخرى أيضا، ولقد سمعت كلاماً لبعض العلماء يقول: اجعل المال لك كالحمار الذي تركبه، أو كالخلاء الذي تقضي فيه حاجتك، يعني: معناه لا يهمك منها إلا ما تقضي به حاجتك فقط. قال: وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، أخذه من وصية النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح: يعني أعمل عمل الجاد الذي يستحضر أن أجله قد حضر؛ ليكون مستعداً غاية الاستعداد، لا تقل: أفعل هذا غداً ربما لا تدرك غداً، وفي الصباح لا تؤخر إلى المساء؛ لأنك ربما لا تدرك المساء، وهذا أمر مشاهد، فالإنسان الحازم هو الذي ينتهز الفرص ويأخذ بالجد، ويقول: «خذ من صحتك لمرضك» كلمة حكمية، الإنسان الصحيح يسهل عليه العمل، وصدره منشرح، ونفسه طيبة، والمريض بالعكس، يصعب عليه العمل؛ ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لعمران بن حصين: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطيع فعلى جنب»، وكذلك أيضاً تضيق نفسك، ولا ينشرح صدرك ولا ينبسط؛ ولهذا تجد أحياناً أن لو أصابك مرض تود ألا يكلمك أحد من الناس، ولو أقرب الناس إليك، فخذ من الصحة للمرض حتى إذا أتاك المرض تكون قد سبق أن أخذت بحظ وافر من العمل الصالح في حال الصحة، قال: «ومن حياتك لموتك»، الإنسان ما دام حياً فإنه يمكن أن يعمل،

الترغيب في المتشبه بالصالحين

لكن إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، فخذ من حياتك الآن -مادمت حيا- لموتك؛ لأنك سوف تبقى أزماناً طويلة بعد الموت لا تستطيع أن تعمل، لكن ما دمت حيا فاعمل. وفي هذا الحديث فوائد: أولاً: الزهد في الدنيا، وأن الإنسان لا يتخذها موطناً بل معبراً، أو دار وحشة لقوله: «كأنك غريب أو عابر سبيل». ومن فوائد الحديث بالنسبة للموقوف -كلام ابن عمر-: الاعتبار بهذه الوصية إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء. ومن فوائده: أن الإنسان الحازم هو الذي يغتنم الفرص يأخذ من الصحة للمرض ومن الحياة للموت، وكذلك أيضا كما جاء في الحديث: اغتنم خمساً قبل خمس ومنها الفراغ قبل الشغل الإنسان ما دام متفرغاً فلينهز الفرصة وليتخذ الفراغ مملوء بالعمل الصالح قبل أن ينشغل، ولهذا يروى عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه قال: تفقهوا قبل أن تسودوا أي: قبل أن تتخذوا سادة لأن الإنسان إذا كان من السادات وسود وصار معروفاً بين الناس انشغل، وسمعت أحد الإخوة يقول: أنت لنفسك ما لم تعرف فإذا عرفت كنت لغيرك، هذا صحيح ولهذا تجد الإنسان في أول حياته وفي غفلة الناس عنه عنده أوقات يستطيع أن يراجع يستطيع أن يزور قريباً أو يعود مريضاً لكن إذا عرفه الناس انكبت الحوائج عليه وحينئذ ينشغل عما كان قادراً عليه بالأمس. الترغيب في المتشبه بالصالحين: 1412 - وعن ابن عمر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من تشبه بقوم فهو منهم». أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان. قوله: «من تشبه» أي: أتى ما يكون به متشابهاً لهم، وذلك بأن يفعل شيئاً من خصائصهم. والتشبه يكون بالعقيدة ويكون بالعبادة، ويكون باللباس ويكون بالعادات، الحديث عام وإذا كان عاماً فينزل قوله (صلى الله عليه وسلم): «فهو منهم» على ما تقتضيه الأدلة الأخرى فمثلا من تشبه بقوم في العقيدة فهو منهم، اعتقد ما يعتقدون سواء فيما يتعلق بالعبادة أو بالربوبية أو بالأسماء والصفات هو

منهم حتى لو نفى أن يكون منهم، نقول: أنت منهم، من تشبه بهم في العبادة فهو منهم لو أن إنساناً تشبه بأصحاب الطرق في عباداتهم، وقال: أنا من أهل السنة نعوذ بالله من البدعة وهو يفعل في العبادة ما يفعله أهل الطرق هل يقبل؟ لا هو منهم، من تشبه بهم في العادات فهو منهم، ولاسيما إن نهى الشرع عن ذلك بعينه، إنسان تشبه بالكفار في الأكل باليسار لأنه يوجد الآن أناس يرون أن الأكل باليسار تقدم وحضارة؛ لأن الذي يفعله الأمم المتحضرة على زعمهم فهو حضارة وتقدم فيكون منهم، تشبه بهم في اللباس صار يلبس مثل لباس الكفار نقول: هو منهم، المهم إذا تشبه بهم والتشبه أن يفعل ما كان مختصاً بالمتشبه به، أما ما كان مشتركاً فلا تشبه ثم قول (صلى الله عليه وسلم) «فهو منهم» هل المعنى أنه يكون كافر؟ نقول: هو على حسب الشبه أي: حسب ما تشبه به، إذا قلنا: تشبه بهم في لباسهم هل يكون مثلهم في الكفر أو هو مثلهم فيما تشبه بهم فيه؟ الثاني لكن قد يقال: إن قوله «فهو منهم» يعني يوشك أن يكون منهم، لأن التشبه بهم في الظاهر يؤدي إلى التشبه بهم في الباطن وعلى هذا فيكون منهم باعتبار المال لا باعتبار الحال. وإذا قلنا: إنه منهم في هذه الخصلة التي تشبه بها فهو باعتبار الحال أما إذا قلنا: فهو منهم أي: أن التشبه بالظاهر يؤدي إلى التشبه بالباطن فهذا يفسر قوله: «فهو منهم» في المال ولاشك أن التشبه بالقول يؤدي إلى محبتهم وتعظيمهم والركون إليهم وهذا قد يجر المرء إلى أن يتشبه بهم حتى في العبادة. ففي هذا الحديث فوائد: منها الحث على التشبه بالصالحين لقوله: «من تشبه بقوم فهو منهم» ويتفرع على هذه الفائدة الحث على إتباع السلف الصالح في العبادة وفي العقيدة وفي المنهج وفي كل شيء، ليكون الإنسان منهم، وهل يتشبه الإنسان بهم في ما لا يفعلونه على

حفظ الله بحفظ حدوده

وجه التعبد كهيئة المشي هيئة اللباس وغير ذلك، أو يقال: إن التشبه بهم في اللباس أنه يلبس الإنسان ما اعتاده أهل بلده ما لم يكن محرماً؟ الجواب الثاني، ولهذا نقول: إن إتباع العادة في اللباس هو السنة ما لم يكن ذلك حراماً. ومن فوائد الحديث: التحذير من التشبه بالكفار لقوله: «فهو منهم» وهل هذا على سبيل الكراهة أو على سبيل التحريم؟ الصواب: أنه على سبيل التحريم وأنه يحرم على الإنسان أن يتشبه بالكفار، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم: أقل أحوال هذا الحديث التحريم وإن كان ظاهراً يقتضي كفر المتشبه بهم. ومن فوائد الحديث: أنه متى حصل الشبه ثبت الحكم سواء كان بإرادة أم بغير إرادة. فلو قال قائل: إنه ليس ثياب الكفار لكن لم يقصد التشبه، قلنا: ولكن حصل الشبه والنية محلها القلب فننكر عليه ما أظهره من المشابهة، وأما فيما بينه وبين ربه فهذا ليس إلينا لأن بعضهم تنهاه عن شيء ويقول ما قصدت التشبه، تجده مثلاً يجعل شعره على صفة معينة معروفة أنها من حلى الكفار فإذا قلت له قال: أنا ما أردت شيئاً ماذا نقول له؟ نقول: التشبه حاصل والنية أمر خفي لا يطلع عليه، والنبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» فعلق الحكم على المشابهة. من فوائد الحديث: الحذر من متابعة أهل البدع لأنه إذا تابعهم فقد تشيه بهم فيكون منهم، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار». حفظ الله بحفظ حدوده: 1413 - وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: كنت خلف النبي (صلى الله عليه وسلم) يوماً، فقال: «يا غلام، أحفظ الله يحفظك، أحفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله». رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. يقول: «كنت خلف النبي (صلى الله عليه وسلم)»، هل هو خلفه يمشي أو راكباً؟ ليس فيه بيان اللهم إلا إذا كان في رواية لم نطلع عليها، ولكن الذي يظهر أنه كان راكباً فقال: «يا غلام» ناداه بهذا الوصف، لأنه كان صغير السن، «أحفظ الله يحفظك» أي: أحفظ دينه

فهو كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] وليس المراد أن تحفظ الله نفسه، لأن الله غني عن العالمين، لكن المراد حفظ دينه أي: القيام بشرائعه الواجبة والمستحبة وترك نواهيه المحرمة والمكروهة، «يحفظك» هذا هو جواب الأمر وهو الجزاء والثواب، يحفظك في دينك ودنياك في أهلك في مالك في بدنك في جميع أحوالك، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أطلق ولم يقيد، «أحفظ الله تجده تجاهك»، هذا أيضا فائدة عظيمة، «أحفظ الله» يحفظ دينه، «تجده تجاهك» أي: أمامك، وهذا يعني: أنه (عز وجل) يدلك على كل خير فإذا أحفظت دين الله دلك على كل خير؛ لأن الذي أمامك هو قائدك فيدلك على كل خير، «وإذا سألت فاسأل الله» لا تسأل الناس مهما كان اللهم إلا عند الضرورة القصوى فهذا حال آخر، لكن اسأل الله وحده وأنت إذا سألت الله بصدق ويقين فإن الله تعالى سوف يجيبك لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. وقال تعالى في آية أخرى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. وقد تستبعد أن يجيب لك مسألة لكن لا تستبعد هذا إن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3، 2]. «وإذا استعنت فاستعن بالله» يعني: إذا طلبت معونة فلا تلجأ إلى الخلق استعن بالله فإنك إذا استعنت بالله (عز وجل) استعانة حقيقية بإيمان وصدق أعانك. ففي هذا الحديث من الفوائد: أولاً: جواز الإرداف على الدابة بناء على قوله: «خلف النبي» ولكن هذا مشروط بأمرين. الأمر الأول: ألا يشق على الدابة فإن شق على الدابة فلا يجوز الإرداف. الأمر الثاني: ألا يخاف سقوطاً فإن خلف سقوطاً فقد قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} كيف يخاف السقوط؟ أحيانا يكون ردف البعير منزلقاً فإذا ركبه الإنسان فربما يسقط على ظهره، فهنا نقول: لا تردف وهذا مراعاة لحال الراكب والأول لحال المركوب. ومن فوائد الحديث: تواضع النبي (صلى الله عليه وسلم) بإرداف الصغار وهذا أمر لا يحتاج إلى إقامة البينة عليه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) عنده من التواضع الجم للحق وللخلق ما ليس عندنا، وإن شئتم دليلاً على ذلك فمن الذي أردفه النبي (صلى الله عليه وسلم) في رجوعه من عرفة؟ أسامة بن زيد مولى من الموالي وصغير السن أيضاً، ومن الذي أردفه حين ذهابه من مزدلفة إلى منى؟ الفضل بن العباس صغير لكنه من أقاربه فراعى النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا، وهذا الفضل بن العباس من أشرف الناس نسباً وأسامة مولى من الموالي ولكن كل منهما صغير، فالمهم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا حاجة إلى إقامة البينة على تواضعه لأن هذا أمر متواتر.

ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي في الحديث الهام أن تنادي الإنسان ولو كان أقرب قريب إليك، أن الرسول يكلم ابن عباس وهو رديفه على الدابة قريباً جدا لكن الحديث مهم. ومن فوائد الحديث: هذه الوصايا العظيمة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحفظ الله ... إلخ. ومن فوائد الحديث: أن من حفظ حدود الله وشرائع الله حفظه الله في دينه وبدنه وماله وأهله وعرضه أيضا {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]. ومن فوائد الحديث: أن الجزاء من جنس العمل وأن الإنسان لما حفظ ربه حفظه الله. ومن فوائد الحديث: أنه من الحزم أن يحفظ الإنسان ربه ولا يبالي بأحد يعني: يعبد الله لا يبالي بالناس يتجنب الحرام وإن انتهكه الناس لا يبالي «أحفظ الله يحفظك». ومن فوائد الحديث: أن أهم من يوجه إليه هذا ولاة الأمور الصغير والكبير كل منهم يحب أن يحفظ في ماله وبدنه وعرضه، نقول: إذا كنت تريد ذلك فهناك مفتاح واحد وهو أن تحفظ الله. ومن فوائد الحديث: أن من حفظ الله كان الله دليله ومن كان الله دليله فهو مهتد لقوله: «أحفظ الله تجده اتجاهك» هنا إشكال تجده تجاهك إذا قال قائل: ألا يدل ذلك على ما ذهبت إليه الجهمية الحلولية من أن الله تعالى في كل مكان لأنه قال: «تجاهك» أي: مقابل وجهك يدلك، فهل تقول: إن هذا يدل على ما ذهب إليه هؤلاء الملحدون الذين يقولون إن الله في كل مكان؟ الجواب: لا، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: «تجده تجاهك» وقال في المصلى: إن الله قبل وجهك ونهى عن التمخط والإنسان يصلي قبل وجهه، وهذا لا يلزم منه أن الله تعالى في الأرض، قد يكون الشيء أمامك وهو عال جداً عنك، أرأيت نجماً قارب الغروب هو أمامك وأين هو؟ في السماء بعيداً عنك فلا يلزم من كون الله تجاه الإنسان أن يكون الله تعالى في مكانك، ولكن الله (عز وجل) جعل في أدلة شريعته ما هو مشتبه امتحاناً واختباراً للعباد بأن هذه الأدلة المشتبهة يميز الله بها الخبيث من الطيب {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} وأما الراسخون في العلم فيقولون: آمنا به. إذن الجواب عن الإشكال أنه لا يلزم من كون الشيء تجاه الإنسان أن يكون في مكانك بل يكون تجاهك وهو فوق. ثانيا: أننا لو قلنا بذلك لأبطلنا النصوص الصريحة الواضحة بأن الله فوق كل شيء. ثالثا: أنه لو قدر أن بين كون الشيء تجاهك وكونه في السماء تعارضاً بالنسبة للمخلوق فلا يلزم ذلك بالنسبة للخالق لأن الله -تعالى- ليس كمثله شيء.

كيف يكون العبد محبوبا عند الناس؟

فائدة: الاستعانة والسؤال لله وحده. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يعلق حاجاته بربه لقوله: «إذا سألت فأسأل الله»، وهل اسأله في كل شيء؟ نعم، لكن السؤال يكون بلسان المقال، ويكون بلسان الحال، أما بلسان الحال فهو أن يفوض الإنسان أمره إلى ربه وأما بلسان المقال كقوله الإنسان: اللهم ارزقني. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان ينبغي له إذا استعان أن يستعين بالله، وأن من الحزم أنك مهما استغنيت عن الناس فافعل، ولو شق عليك ذلك لو كبر عليك فافعل، لئلا يكون لأحد عليك منه فاجعل المنن لله (عز وجل) هذه وصايا نافعة من الرسول (صلى الله عليه وسلم) لمن هو أقرب الناس إليه وهو ابن عباس. كيف يكون العبد محبوباً عند الناس؟ 1414 - وعن سهل بن سعد (رضي الله عنه) قال: «جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس. فقال: أزهد في الدنيا يحبك الله، وأزهد فيما عند الناس يحبك الناس». رواه ابن ماجه، وسنده حسن. «دلني على عمل»، «دلني»: مأخوذ من الدلالة وهي الإرشاد إلى الشيء، على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس يعني: حصل به محبة الله لي ومحبة الناس، فيحصل له محبة من جانب الخالق وجانب المخلوق، كل إنسان يحب ذلك، كل إنسان يحب أن يحبه الله وكل إنسان يجب أن يحبه الناس، أما الأول فخاص بالمؤمنين، والثاني عام يعني حتى الكفار يحبون أن يحبهم الناس، وهذا سؤال عظيم فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): «أزهد في الدنيا» يعني: اتركها لا تتعلق بها إن جاءتك فقد أتت وإن فاتتك فلا تعلق نفسك بها، أزهد في الدنيا يحبك الله؛ لأنه من لازم الزهادة في الدنيا الرغبة في الآخرة، وإذا رغب الإنسان في الآخرة فسوف يعمل ما يرضي الله ويكون سبباً لمحبته فصارت محبة الله للإنسان في الدنيا من باب اللزوم لأنه متى زهد في الدنيا لابد أن يرغب الآخرة، وحينئذ يحبه الله (عز وجل): «وأزهد فيما عند الناس يحبك الناس» هذه أيضا من الوصايا العظيمة، لا تنظر إلى ما في أيدي الناس أزهد فيه لأنه ليس ملكك ولا ينفعك فأزهد فيه من أجل أن يحبك الناس.

في هذا الحديث فوائد: أولاً: حرص الصحابة رضي الله عنهم على الاستقامة والسؤال عن سبلها لأن الرجل سأل عن شيء يكون فيه محبة الله ومحبة الخلق. ومن فوائد الحديث: أن كلمات النبي صلى الله عليه وسلم كلمات جامعة "ازهد في الدنيا" هذه كلمة موجزة ازهد في الدنيا يشمل الزهادة المال والزهادة في الجاه، والزهادة في المركوبات، الزهادة في المسكن، والزهادة في كل شيء، ولو أردت أن تعدد ما يتعلق بالدنيا لتعبت لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جمعها في كلمة واحدة. ومن فوائد الحديث: إثبات محبة الله عز وجل لقوله: "يحبك الله"، وأهل السنة والجماعة يثبتون أن الله يحب محبة حقيقية، وأهل التعطيل يقولون إن الله لا يحب وأن محبته كناية عن ثوابه فيفسرون الشيء بلازمه مع إنكاره. ومن فوائد الحديث: أن من لم يزهد في الدنيا وتعلق بها وصارت أكبر همه، فإن ذلك من أسباب انتفاء محبة الله عنه وهذا من المفهوم. ومن فوائد الحديث: الحث على الزهد في الدنيا لأنها إذا كانت سبباً لمحبة الله فلا ينبغي للعاقل أن يفوت هذا. ومن الفوائد الحديث: الحث على الزهد فيما أيدي الناس لماذا؟ لأجل أن ينال محبة الناس، أما الإنسان لو لم يزهد فيما في أيديهم فإن الناس سوف يستقلونه ولا يحبونه، مثلاً إنسان كلما رأى شخصاً ما يعجبه يقول: هذا جيد، ويرده يقول هذا لعل صاحبه يقول: تفضل، إذا لم يقل هذا ترقى إلى درجة أخرى يقول: هذا زين أعطني إياه وهكذا حتى يعطيه إياه ولا شك أن كثيراً من الناس إذا رأى من شخص أنه يحب ما في يده يعطيه إياه إذا لم يكن لضروراته لكنه سوف يستثقل هذا الرجل، وربما يكرهه حتى لو كان ذا عبادة وأحبه لله فستنقص محبته، كذلك ايضاً بعض الناس لا يطلب أموالهم على سبيل التملك لكن على سبيل الاستعارة يستعير، ربما وهو في غير حاجة لكن مرض في القلب أنه يطمع فيما في أيدي الناس، هذا لا شك أن الناس تقل محبتهم له. من فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يسعى فيما يكون سبباً لمحبة الناس له دليل هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر الرجل على قوله بحب الناس وإلا لقال له: ما يهمك من حب الناس أحبوك أم كرهوك، لكن ينبغي للإنسان أن يفعل بكل ما يستطيع كل وسيلة توجب أن يحبه الناس وفضل الله يؤتيه من يشاء، أحياناً لا يملك الإنسان حتى يفعل ذلك لكن ينبغي للإنسان إذا لم يكن ذلك من طبيعته أن يتطبع به.

كيف يكون العبد محبوبا من الله؟

كيف يكون العبد محبوباً من الله؟ 1415 - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي". أخرجه مسلمٌ. "إن الله يحب": هذه جملة مؤكدة بـ "إن" والمحبة صفة حقيقة ثابتة لله عز وجل فهو -سبحانه وتعالى- يحب من شاء من الأشخاص والأعمال والأزمان والأماكن، محبة الله تتعلق بهذا كله، "أحب البلاد إلى الله مساجدها" هذه متعلقة بالأماكن، في الأزمان "أحب العمل إلى الله تعالى الصلاة على وقتها" هذا يتعلق بالأعمال والأزمان؛ لأن أول الزمن محبوب إلى الله عز وجل الأشخاص إن الله يحب المتقين هذا عموم هناك خصوص "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله وبحبه الله ورسوله"، هذه مقيدة بشخص، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي كان يقرأ ويختم "بقل هو الله أحد" لأنها صفة الرحمن، قال: "اخبروه بأن الله يحبه"، هنا يقول: إن الله يحب العبد هل العبودية الكونية أو الشرعية؟ العبد بالعبودية الشرعية؛ لأن العبد بالعبودية الكونية دون الشرعية لا يحب الله، كالكافر عبد الله -تعالى- بالعبودة الكونية؛ لأن الله تعالى يفعل فيه ما شاء. إذن العبد بالعبودية الشرعية، الصفة الثانية التقي يعني: متق لله عز وجل والتقوى: هي فعل ما يقي من عذاب الله بطاعة الله -تعالى- بأوامره واجتناب نواهيه، هذا أجمل ما قيل في التقوى، "الغ ني" يعني: الغني عن غير الله هو غني بنفسه قانع بما أعطاه الله لا يسأل الناس ولا يلحف في المسألة، والوصف الرابع: "الخفي" إنسان خفي لا يحب الظهور، ولأن أهم ما عنده هو محبة الله له ورضا الناس عنه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رُب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" هذا الأشعث الأغبر المدفوع بالأبواب خفي ما يُعرف ولا يؤذن له فيدخل، وقال صلى الله عليه وسلم: "طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله إن كان في الساقة كان في الساقة وإن كان الحراسة كان في الحراسة ولا يبالي بنفسه -أي مكان يوضع فيه- إن شفع لم يشفع وإن سأل لم يعط" فالإنسان الخفي الذي لا يحب أن يتظاهر أمام الناس هذا هو الذي يحبه الله، أما الذي يحب أن يظهر وتجده إذا جلس في المجلس قام يتحدث وكأن لم يكن في المجلس سواه أو إذا جلس في مجلس قام يلحف في المسألة إذا

من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

كان حوله طالب علم ما تقول كذا ثم كيف تجمع بين هذا وبين هذا وكأنه يفصل ويبين أنه من أكبر العلماء، كن خفياً تكن عند الله تعالى عظيماً رفيعاً في هذا الحديث فوائد: منها: إثبات محبة الله عز وجل لقوله: "إن الله يحب" ومنها الحث على هذه الأوصاف الأربعة وهي تحقيق العبودية لله عز وجل، والثاني التقوى والثالث الغني عما في أيدي الناس، والرابع الخفاء، هذه الصفات يحبها الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخبرنا بها إلا حثاً عليها. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يستغني عما في أيدي الناس بل ويستغني عن الناس فلا يطلبنّ من أحد شيئاً إلا عند الضرورة لا يطلب مالاً ولا يطلب مساعدة ولا يطلب شفاعة ولا يطلب أي شيء إلى عند الضرورة؛ لأنه لا يتحقق كونه غنياً إلا بهذا. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يكون خفياً لكن هل يلزم من ذلك أن نأمره بالعزلة؟ الجواب: لا، لا نقول: اعتزل الناس، لكن نقول: لا تحرص على إبراز نفسك، ثم اعلم أنك إذا أخفيت نفسك وكنت أهلاً لأن تظهر وتبرز فإن الله سوف يظهرك ويبرزك ويعلم الناس بك، أما العزلة فأصح الأقوال فيها أنها إذا كانت دفاعاً عن الدين فهي خير، وإلا فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم. إذن خالط الناس واصبر على أذاهم، وقول الرسول: "ويصبر على أذاهم" يدل على أن هذا الرجل كان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر؛ لأن الذي لا يتعرض للناس لا يؤذونه، لكن الذي يتعرض هو الذي يؤذى، وقد قال لقمان لابنه: {يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} [لقمان: 17]. من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه: 1416 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". رواه الترمذي، وقال حسنٌ. "من" هنا للتبعيض، وهي خبر مقدم، وتركه مبتدأ مؤخر، "ترك ما لا يعنيه" أي: ما لا يهمه ولا تتعلق به حاجته ولا ضرورته بل لا شأن له به، فإذا رأيت الرجل يترك هذا الشيء ولا يتعرض للسؤال عما لا يعنيه فاعلم أنه حسن الإسلام لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".

النهي عن الإسراف في الأكل

ففي الحديث فوائد: أولاً: أن الإسلام منه حسن ومنه ما ليس بحسن، وأن لحسن الإسلام علامات منها هذه العلامة. ومن فوائد الحديث: الحث على ترك الإنسان ما لا يعنيه، وجه ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ذلك من حسن إسلام المرء، وبه نعرف أن أولئك القوم الذي يسألون الناس إذا رأوهم يتكلمون بكلام سر ماذا قال لك؟ وماذا أجبت؟ هل هذا يعنيك؟ أو يتحسسون على الناس ليسمعوا ما قالوا هل هذا يعنيك لا يعنيك، فالذي يعنيك ابحث عنه والذي لا يعنيك اتركه وأنت إذا سلكت هذا المسلك فإنك سوف تستريح؛ لأن الإنسان إذا بحث عن الأشياء التي لا تعنيه فقد يسمع ما لا يسره بل قد يسمع ما يسوءه. ومن فوائد الحديث: أن ما يعني المرء فإن عليه أن يبحث عنه، ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله" وهل من ذلك أي: من ترك ما لا يعني ألا يتكلم إلا بخير؟ الجواب: نعم، إذا كان لا يتكلم إلا بخبر فقد تركت ما لا يعنيك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت". فإذا جمعت هذا الحديث مع الحديث الذي معنا صار في ذلك انضباط الأقوال وانضباط الأفعال. النهي عن الإسراف في الأكل: 1417 - وعن المِقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه". أخرجه الترمذي وحسنه. "يكرب" مجرورة بالفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه مركب تركيباً مزجياً، يعني: مزج أحد الاسمين بالآخر مثل حضرموت مركباً تركيباً مزجياً، وهناك تركيب يسمى تركيباً إسنادياً، مثل الشنفري وأصله: الشن فري، ومثل رجل يسمى شاب قرناها جاء شاب قرناها هذا مركب تركيباً إسنادياً، هناك تركيب إضافي مركب من مضاف ومضاف إليه مثل كتاب محمد، وهناك تركيب عددي يعني: يركب أحد العددين مع الآخر مثل ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، على كل حال هذه الأنواع تختلف من حيث الإعراب، المركب تركيباً مزجياً يرفع بالضمة وينصب بالفتحة ويجر بالفتحة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ" ما: نافية وملأ فعل ماضي ووعاء مفعول ملأ، وشراً صفة ومن بطن واضح. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أن يملأ الإنسان الآنية حليباً" بملأ الإنسان حليباً ليشربه الناس هذا طيب،

يملأه طعاماً يأكله الناس هذا طيب لكن هذا الوعاء الذي ذكر الرسول -وهو البطن- هذا لا يملأه فما ملأت وعاء شراً منه، والبطن وعاء لأنه مقر الطعام والشراب، ويسمى المعدة يقول الرسول: "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه" أي: من معدته؛ لأن ملأ البطن سبب للغفلة وكثرة النوم وسبب لأمراض تأتي من تركيب الغذاء وكثرته، والمعدة ليست كيساً يمتلأ طعاماً ثم يفرغ، المعدة معمل يعني: يشتغل بالطعام الذي يوضع فيه هذا المعمل إذا أثقلت عليه فلابد أن يتعب؛ ولهذا قال بعض الناس: لا تأكل طعاماً على طعام فإن إدخال الطعام على الطعام من المهلكات، ومثل لذلك قال: لو أعطيت رجالاً يعملون عملاً وقلت لهم: اعملوا هذا وهو عمل مؤلم ثم أتيت لهم بعمل آخر قلت لهم اعملوه ماذا يكون؟ سيتعبون إما أن يدعو العمل الأول على عَجِرَه وإما أن يتعبوا تعباً عظيماً، هكذا المعدة ولهذا نقول: لا تملأ المعدة، وما الأمراض الحديثة الأخيرة كمرض السكر ونحوه إلا بأسباب الكثرة - كثرة الأكل، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد أن الأمراض المركبة من الغذاء المركب الآن كم يقدم على الغداء من نوع؟ بعض الناس يقدم ثمانية أو تسعة أصنافاً هذه الأغذية تختلط ويختلط الغذاء بالدم جسم مركب من عدة أغذية ويطلب علاجاً، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله وهو حق: ولذلك كانت البادية أقل الناس أمراضاً مركبة وأسهلهم معالجة؛ لأن معالجتهم لا تحتاج إلى تعب. هذا الحديث في آخره: "فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"، وهذا هو العدل، الطعام يحتاج إلى شراب، ولهذا يقول الله: {وكلوا واشربوا} [الأعراب: 187]. اجعل الطعام له الثلث والشراب الثلث وثلث للنفس لتتنفس ويتسع نفسك، وهذا لو أننا مشينا عليه ما أصبنا بالأمراض إلا أن يشاء الله، لكن هذا من أسباب الوقاية ويذكر أن بعض الأوروبيين لا يشبعون في الأكل، لكن يكثرون عدد الوجبات، نحن نأكل ثلاث مرات هم يأكلون خمس مرات، لكنهم لا يكثرون الأكل وهذا هو الترتيب الصحي كُل قليلاً وإذا جعت فكل. في هذا الحديث فوائد: منها أن الشريعة الإسلامية جاءت بدواء القلوب، ودواء الأبدان. وجه ذلك: أن هذا القدر من الغذاء هو المناسب للطلب تماماً. ومنها: أن الشريعة الإسلامية جاءت بتوقي الأسباب الموجبة للأذى تؤخذ من النهي على ملء البطن لأنه موجب للأذى، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا يحل للإنسان أن يأكل أكلاً يتأذى به، بعض الناس الآن ما شاء الله يأكل كثيراً ويملأ بطنه حتى إنه لا يكاد يستطيع القيام من ملأ البطن ثم بعد ذلك يطلب أشربة تهضم، الواحد يلطخ بدنه بالنجاسة ثم يبحث ما يطهرها به؟ من الأصل لا تفعل.

التوبة فضلها وشروطها

فإن قال قائل: اليس أبو هريرة رضي الله عنه قد شرب لبناً حتى لم يجد له مكاناً؟ قلنا: بلى لكن النادر لا حكم له، وهذا شيء نادر والرسول صلى الله عليه وسلم عذره من أجل أنه كان جائعاً من قبل حتى يعرف قدر نعمة الله، وهذا من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أحياناً يجعل للمرء ما يقابل حاله التي كان عليها حتى يعرف حكمة الله ونعمته كما فعل مع جابر في جمله. جابر كان معه جمل قد أغيا وأراد جابر أ، يتركه فلحقه النبي صلى الله عليه وسلم فضرب الجمل ودعا له فانطلق الجمل يمشي حتى كان في أوائل القوم، وكان في الأول في أخريات القوم، وكان جابر سيسيبه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ببركة دعائه صار الجمل على هذا الوجه ثم قال: بعنيه بأوقية فقال: لا، كان في الأول يريد أن يسيبه والآن امتنع أن يبيعه على أشرف الخلق، والرسول هو السبب أيضاً في أنه صار يمشي قوياً ومع ذلك أبى، لكنه قال: بعنيه فلما رأى النبي صلى الله وسلم متمسكاً به يعني لما رأى جابر النبي صلى الله عليه وسلم متمسكاً به باعه عليه، لما وصلا المدينة أعطاه الثمن، وقال له: "أتراني ماسكتك لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك" هذا الكرم وهذا الامتحان أراد أن يمتحن هذا الرجل، كان بالأول كارهاً لهذا الجمل ثم صار راضياً به ثم باعه ثم جاءه الجمل والثمن، وأصل شراء النبي صلى الله عليه وسلم له من أجل الاختبار والامتحان إذن نقول: مما ينبغي للإنسان أن يأكل ثلثاً ويشرب ثلثاً ويتنفس في ثلث، هذا الذي ينبغي أن يكون عليه غذاؤك دائماً لكن النادر لا حكم له يعني: لو جاز لك الطعام أو الشراب وملأت بطنك منه أحياناً فلا بأس أما أن تجعل هذا ديدنك فلا. التوبة فضلها وشروطها: 1418 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاءٌ، وخير الخطائين التوابين". أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وسنده قويٌّ. "كل" مبتدأ و"خطَّاء" خبره، أي: كثير الخطأ، لأنه لم يقل: كل بني آدم يخطء، قال: "خطاء" أي كثير الخطأ وما أكثر خطأنا، والخطأ يدور على شيئين: إما ترك واجب وإما فعل محرم، وأينا سلم من ترك الواجب؟ نسأل الله العفو، أينا يسلم من ترك المحرم كذلك "وخير الخطائين التوابين" أي: الرجَّاعون عن خطئهم إلى الله عز وجل حتى لو تكرر؛ لأن كلمة خطاء تدل على الكثرة وخير الخطائين التوابون كلما أخطأ تاب، وشيء الخطائين هو الذي لا يتوب ولا يبالي ولا يهتم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون

ويستغفرون الله فيغفر لهم"، أنت وإن كثر خطؤك لا تيأس تُب إلى الله ويمحى الخطأ حتى ولو تكرر، واعلم أن التوبة هي: الرجوع إلى الله عز وجل من معصيته إلى طاعته وشروط قبولها خمسة: الأول: إخلاص النية لله، والثاني: الندم على ما وقع، والثالث: الإقلاع عنه في الحال والرابع: العزم على ألا تعود، والخامس: أن يكون هبل رد التوبة. الأول: الإخلاص لله وهذا أساس كل عمل صالح لابد فيه من الإخلاص لله وإلا كان مردوداً كما قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه". الثاني: الندم بحيث يتحسر ويتأسى، والا يكون فعله للذنب وعدمه سواء. والثالث: الإقلاع عن الذنب. والرابع: العزم على ألا يعود. والخامس: أن يكون قبل وقت رد التوبة، لو تاب الإنسان إرضاءً لوالده لا تقرباً إلى الله تعالى أتقبل التوبة؟ لا، لابد من الإخلاص لله عز وجل لو تاب بلا ندم وأقلع عن الذنب لكن كأن الذنب لم يمر عليه ولا نَدِمَ ولا تأثر هذا أيضاً لا تقبل توبته؛ لأنه لابد من أن يشعر الإنسان بأنه مذنب. والثالث: لو تاب الإنسان من السرقة، إنسان سرق وتاب من السرقة، ولكن المال المسروق لم يرده إلى صاحبه أيقبل؟ لا، لأنه لم يقلع. إذا قال قائل: الإقلاع بالنسبة للأموال واضح أن الإنسان يرد الأموال إلى أهلها، لكن إذا كان الإنسان لا يعلم أهلها بأن كان قد أخذ دراهم من إنسان وتاب ولكن لا يدري وهذا يقع أحياناً، مثلاً يأخذ من صاحب الدكان حاجة وينتقل صاحب الدكان ولا يدري أين ذهب ماذا يصنع؟ يتصدق بها تخلصاً منها لصاحبها، فإن تصدق بها تقرباً إلى الله لم تنفعه ولم تنفع صاحبها، لأنها لا تقبل حيث إنها حرام، ولن تنفع صاحبها لأنه لم ينوها له فيطالبه صاحبها بها يوم القيامة، إذا كانت المظلمة غير مال، مثلاً إنسان اغتاب شخصاً فكيف يتخلص؟ قال العلماء: يذهب إلى هذا الرجل الذي اغتابه ويقول: سامحني حللني، وإذا قال سامحني حللني هل من المستحسن أن يقول: ما الذي قلت فيَّ؟ لا. إذن يسامحه عن حق مجهول ولا يضر ولا يسأل لأنه ربما لو سأله وأخبره كان ذلك عظيماً في نفسه ثم لا يسامحه، لكن إذا قال: أنت مسامح فهذا طيب ولو كان مجهولاً.

وقيد بعض العلماء ذلك بأن كان صاحبه الذي اغتابه قد علم بالغيبة فليتحلل منه وإن لم يعلم ووثق أنها لم تبلغه فالأولى الا يتحلل منه؛ لأنه ربما لو تحلل منه لأبى ولكن يستغفر الله كما جاء في الحديث كفارة من اغتبته "فاستغفر له" ويثني عليه بالخير في المجالس التي كان يغتابه فيها، لكن لا شك أن الذي تطمئن إليه النفس هو أن يذهب ويصارحه فإن هداه الله فهذا المطلوب وإن لم يسمح له فإذا علم الله من نية هذا التائب صدق فإن الله جل وعلا يتحمل عنه. الرابع: وأن يعزم على ألا يعود أو الشرط ألا يعود؟ أن يعزم على ألا يعود؛ لأنك لو قلت: شرط ألا يعود ثم عاد مرة ثانية بطلت نوبته الأولى لكن إذا قلت: العزم على ألا يعود صحت التوبة، ثم إن عاد مرة ثانية احتاج إلى تجديد توبة للذنب الثاني، إذن إذا عزم على ألا يعود صحت التوبة وإن كان متردداً هل تقبل توبته؟ لا، لأنه لم يعزم على ألا يعود ولا بد أن يعزم على ألا يعود. الخامس: وهو أمهما بعد الإخلاص أن تكون التوبة في وقت لا ترد فيه التوبة، والوقت الذي ترد فيه التوبة نوعان: خاص وعام، فالخاص حضور أجل كل إنسان كل من حضر أجله وتاب بعد حضور الأجل لم يقبل منه لقوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18] وانظر إلى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب قال: "قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله"، قد تنفع وقد لا تنفع ولقد غرق فرعون وأحسن بالهلاك ماذا قال لما أدركه الغرق قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين} [يونس: 90]. فقيل له: {ءآلآن} يعني: الآن تسلم {وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية} [يونس: 91، 92]. يعني: بدنك يظهر ويبرز لأن فرعون قد أرعب بني إسرائيل، وربما إذا لم يروه ويشاهدوه ربما يكون في نفوسهم أنه لعله نجا، أو لعله ينجو لكن إذا راوه ميتاً طابت نفوسهم؛ ولهذا قال: لتكون لمن خلفك آية، أما النوع الثاني من الوقت الذي ترد فيه التوبة فهو العام وذلك عند طلوع الشمس من مغربها هذه الشمس العظيمة تشرق من المشرق فتغرب من المغرب فإذا أذن الله تعالى في انقطاع التوبة خرجت من المغرب وحينئذٍ يؤمن كل إنسان ويتوب كل إنسان لكن يقول الله عز وجل: {يوم يأتي بعض آيات ربك} وهو طلوع الشمس من مغربها {لا ينفع نفساً إيماناً لم تكن آمن من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً} [الأنعام: 158]. إذن خير الخطائين التوابون أي: كثيروا الخطأ كثيروا التوبة، والتوبة عرفتم شروطها.

فضل الصمت وقلة الكلام

فضل الصمت وقلة الكلام: 1419 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصمت حكمةٌ، وقليلٌ فاعله". أخرجه البيهقي في الشعب بسندٍ ضعيفٍ، وصحح أنه موقوفٌ من قول لقمان الحكيم. "الصمت" يعني: السكوت، "حكمة" يعني: وضع للشيء في موضعه، "وقليل فاعله" قليل خير مقدم، و"وفاعله" مبتدأ مؤخر يعز أن قليل، ولا شك أن الصمت أسلم من الكلام المتكلم به أمرين إما مفيد وإما باطل، وهذا هو الغالب، لكن الصامت سالم فالصمت حكمة ولكن هذا كما قال المؤلف ليس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي من قول لقمان الحكيم أو غيره ما ندري هل تصح عن لقمان أو لا؛ لأن لقمان الحكيم ذكر الله عنه أشياء من سورة لقمان. واعلم ان كل ما ينقل عن الأمم السابقة إذا لم يكن في القرآن أو في صحيح السنة فإنه لا يقبل لأن الله تبارك وتعالى قال: {ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوحٍ وعادٍ وثمود والذين من بعده لا يعلمهم إلا الله} [إبراهيم: 9]. إذن علم الأمور السابقة لابد أن يكون في القرآن أوفي السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لننظر في هذا الكلام هل الصمت حكمة في كل حال؟ لا، قد يكون الصمت سفهاً إذا رأى الإنسان منكراً هل نقول: اسكت؟ لا، نقول: السكوت هنا سفه وحرام أيضاً؛ لأن من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار وعلى هذا فليس هذا القول على إطلاقه بل فيه تفصيل أما قليل فاعله يعني: قليل من يسلك هذا السبيل وهو السكوت هذا صحيح أكثر الناس يحبون الكلام ويتكلمون حتى إنك تجد المسألة توضع أو تطرح ويتكلم عنها من ليس من أهل الكلام فيها ربما يأتي الإنسان بقول ماذا نقول في رجل صلى وهو آكل لحم إبل جاهلاً ويوجد طلبة علم ويوجد عوام قال لك العامي: ما يضر هذا ما يخالف، الله يقول في محكم كتابه: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. هذا نقول: الصمت في حقه حكمة والكلام سفه، لكن قليل من يفعل هذا أي: أن كثيراً من الناس يتكلمون في موضع لا ينبغي أن يتكلموا فيه. * * *

4 - باب الترهيب من مساوئ الأخلاق

4 - باب الترهيب من مساوئ الأخلاق لما كانت الأمور لا تتم إلا بإثبات ونفي جعل العلماء -رحمهم الله- باباً للترغيب وباباً للترهيب ليكمل سير الإنسان وأخلاق الإنسان؛ لأن الأخلاق قسمان: أخلاق مطلوبة يرغب فيها، وأخلاق غير مطلوبة يرهب منها، ولهذا قال: باب الترهيب من مساوئ الأخلاق، والأخلاق جمع خلق وهي الصورة الباطنة أي: ما يتخلق به الإنسان، لأننا نقول: خَلق وخُلُق، الخَلق الصورة الظاهرة والخُلُق الصورة الباطنة أي: ما يتخلق به الإنسان، الأخلاق منها سيئ ومنها حسن ومنها ما لا يوصف بسوء ولا حسن. النهي عن الحسد: 1420 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل الناء الحطب". أخرجه أبو داود. - ولابن ماجه: من حديث أنسٍ نحوه. قوله: "إياكم والحسد" الجملة هذه جملة تحذيرية أي: أحذركم الحسد، لكن قدم الضمير اهتماماً بالأمر. تعريف الحسد وأقسامه: والحسد هو: تمني زوار نعمة الله من غيرك، بأن يتمنى الإنسان أن يزل الله النعمة عن غيره سواء تمنى أن تزول النعمة إليه أو أن تزول النعمة عن غيره لا إليه، أو ان تزول النعمة عن غيره إلى غيره بالأقسام ثلاثة، كل هذا من الحسد هذا هو المعروف عند جمهور العلماء في تعريف الحسد، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الحسد كراهة نعمة الله على الغير أن يكره أن ينعم الله على غيره وهذا أعم، فإذا رأيت نفسك تكره أن ينعم الله على غيرك بعلم أو مال أو خُلُق أو صحة أو ما أشبه ذلك فاعلم أن فيك شيئاً من الحسد حاول أن تقضي عليه؛ ولهذا قال الله عز وجل: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيبٌ مما اكتسبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله} [النساء: 32]. لكن لا تتمن أن نعمة الله على فلان تأتي إليك بل اسال الله من فضله فالذي أعطاه قادر على أن يعطيك، وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" أي: الحسد يأكل حسنات الحاسد كما تأكل النار الحطب، والنار وإذا أوقدت على الحطب أكلته، وهذا تعليل بالحكم فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن في الحسد ذهاب الحسنات كيف تذهب الحسنات؟

ذم الغضب

نعم، للمفاسد العظيمة التي تحصل بالحسد فمنها اعتراض الحاسد على حكمة الله عز وجل لأنك إذا كرهت ما أنعم الله به على غيرك فهذا اعتراض، كأنك تقول: هذا الرجل لا يستحق هذه النعمة، ففيه اعتراض على القدر، كذلك أيضاً الحسد لا يخلو غالباً من البغي على المحسود فنجد الحاسد يبغي على المحسود إما بلسانه أو بفعاله من أجل أن تزول هذه النعمة ومنها أيضاً أن الحاسد دائماً يكون قلياً ضيق الصدر حتى إنه ربما لا يطيب له الأكل ولا النوم وكلما ازدادت نعمة الله على المحسود ازداد نكداً وهمًّا وغمًّا، ومعلوم أن النكد والهم والغم يوجب انقباض النفس وعدم انشراح الصدر بالطاعات وغيرها، حتى إنه ربما يكون يصلي وقلبه يفكر فيما أنعم الله به على المحسود فيقل ثواب الحسنات. ومنها: أن الحاسد ينحسر أن يسبق المحسود بما أنعم الله به عليه فمثلاً إذا رأى طالب علم قد فضله في العلم تجده يقول: ليس لي حاجة أن أتعب لأنني لن أصل إلى درجة فلان فيتوقف عن الخير بسبب الحسد، وأول من حسد فيما نعلم إبليس، فيكون الحسد إذن من اتباع خطوات الشيطان والتأسي بالشيطان وهذا من مفاسده، وله مفاسد كثيرة لكن هذا الذي يحضرني منها الآن، فالحسد فيه شر كثير. فإذا قال قائل: الحسد في الواقع غريزة كل إنسان يعرف نعمة الله على أحد يتمنى أن يكون له مثلها. قلنا: هذا ليس الحسد المذموم هذا الحسد يسمى حسد غبطة ولا بأس به، ولكن احمل نفسك على أن تصل إلى ما وصل إليه هذا الإنسان إن كنت تحسده على علم فاحمل نفسك على طلب العلم حتى تصل إلى ما وصل إليه، إن كنت تحسده على جاه فاحمل نفسك على أن تكون حسن الأخلاق سليم الصدر محسناً إلى الناس باذلاً نفسك لهم وحينئذٍ يكون لك عندهم جاه وهلم جرا، وهذا ليس الحسد المذموم هذا يسمى حسد الغبطة، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا حسد إلا في اثنتين". ذم الغضب: 1421 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". متفقٌ عليه. "ليس الشديد" يعني: ليس القوي بالذي يصرع الناس، والصرعة في صيغ المبالغة أي كثير الصرع قوي الصرع، مثل: همزة لمزة يعني: كثير الهمز واللمز فالصرعة هو كثير الصرع قوي

الصرع، والمصارعة المغالبة أيهما يصرع صاحبه ويضرب به على الأرض، وهذه المصارعة لها أساليب ليست مبنية على قوة الشخص، قد يكون الشخص قوياً فيصرعه من هو دونه، فلها أساليب معينة وهي عند الناس الآن فن من فنون الرياضة ولها عشاق لكنهم في الواقع يضيعون أوقاتهم في غير فائدة، فهل الشديد القوي هو الذي يغلب الناس إذا صرعهم؟ لا، ويذكر أن ركانة بن يزيد كان قوياً شديداً لا يصرعه أحد حتى إنه من قوته قالوا: إنهم يضعون جلد الثور تحت قدميه ويأتي أقوى الرجال ويجر الجلد من تحت قدمه فيعجز ويتقطع الجلد دون أن تزول قدماه، وهذا يدل على أنه قويٌّ جداً، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسم وطلب من الرسول أن يصارعه قال: إن صرعتني يا محمد عرفت أنك نبي وأسلمت فصارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم فلما صرعه آمن، وهذا لا شك انه من فوائد قوة الجسم وحنكته، وقوله: "وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، القوي الذي يملك نفسه عند الغضب، والغضب هو جمرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "جمرة يلقيها الشيطان في قلب الإنسان" ولهذا تجده يحتمي ويظهر دمه على جسمه يحمر وجهه وعيناه وترتعد أطرافه وينتفش شعره من قوة ما يجري، "الشديد هو الذي يملك نفسه إذا غضب" ولا ينفذ مقتضى غضبه. ولهذا جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال أوصني قال: "لا تغضب" قال أوصني، قال: "لا تغضب" قال أوصني، قال: "لا تغضب". * والغضب ثلاثة أقسام: القسم الأول: مبتدأ الغضب وهذا يعتري كل إنسان ولا يمنع تصرف الإنسان في نفسه. والثاني: منتهى الغضب وهذا هو الذي يستولي على الإنسان حتى لا يدري ماذا يقول ولا ماذا يفعل ولا هل هو في الأرض أو في السماء وهذا يقع. والثالث: وسط بين هذا وهذا وهذا الغضب شديد لكنه يحس بنفسه ولكن الغضب يضغط عليه، فأما الأول وهو الغضب في ابتدائه فحكم تصرف من اتصف به النفوذ، تصرفه نافذ في كل شيء إن حكم بين الناس فحكمه نافذ إن طلق زوجته فطلاقه نافذ إن أعتق عبده فعتقه نافذ كل تصرفاته نافذة هذا متى؟ مبتدأ الغضب، وهذا بإجماع العلماء ولم يختلف فيه أحد وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم القضاء وهو غضبان في قصة الزبير وصاحبه الأنصاري. الثاني: الغضب الذي يصل بصاحبه إلى حد لا يشعر بنفسه فهذا لا عبرة بتصرفه باتفاق العلماء لأنه ذهب عن وعيه ولذلك تجده ربما يضرب أولاده بعضهم ببعض يأخذ الولد الصغير يجعله عصاً يضرب به الكبير، أشياء عجيبة تذكر عن بعض الغاضبين أشد من المجنون هذا

النهي عن الظلم والشح

حكمه لا ينفذ، إن قال قولاً لم يعتبر وإن فعل فعلاً لم يعتبر إلا فيما لا يشترط فيه العقل كالجناية على الآدمي، هذا لو جنى لابد أن يؤخذ منه حق الآدمي. الثالث: الوسط وسط بينهما فهذا اختلف العلماء فيه -رحمهم الله- هل يعتبر بقوله أو لا؟ والصحيح أن قوله غير معتبر؛ لأنه يقول القول وهو غير مريد له، ومن ذلك إذا طلق زوجته وهو غضبان بهذا الغضب فإن الصحيح أن طلاقه لا يقع، وكذلك لاو أعتق عبده فإن العتق لا يقع ولو أوقف أملاكه فإنه لا ينفذ ولو باع شيئاً لم ينفذ، المهم القاعدة أن من كان هذا غضبه فإنه لا ينفذ تصرفه، هذه أقسام الغصب وقد تبين هذه الأقسام ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان -غير الكتاب الكبير المعروف- في عدم وقوع طلاق السكران. من فوائد الحديث: الثناء على من يملك نفسه عند الغضب لقوله: "إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". ومن فوائده: الحث على ضبط النفس عند وجوب ما يثيرها لأن الإنسان عندما يحصل له ما يثير نفسه ربما يتكلم بكلام لا يجوز، أو يفعل أفعالاً غير جائزة. ومن فوائد الحديث: أن من يملك نفسه عند الغضب أشد ممن يصارع فيصرع لقوله صلى الله عليه وسلم ليس الشديد بهذا ولكن كذا وكذا مع أن المصارع الذي يصرع الناس شديد قوي لكن حقيقة الأمر أن الذي يضبط نفسه عند الغضب هو أشد منه وأقوى. ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث بين للناس الحكم أو الحال بأشياء محسوسة لأن كل واحد من الناس يعرف أن الذي يصارع الناس فيصرعهم يعرف أنه قوي شديد فبين الرسول صلى الله عليه وسلم من هو أحق منه بأن يوصف بالشدة، وهو الذي يملك نفسه عند الغضب. النهي عن الظلم والشح: 1422 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الظلم ظلماتٌ يوم القيامة". متفقٌ عليه. 1423 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشح، فإنه أهلك من كان قبلكم". أخرجه مسلمٌ. في هذين الحديثين: التحذير من الظلم فما الظلم؟

تعريف الظلم لغة وشرعا

تعريف الظلم لغة وشرعاً: الظلم: في الأصل هو النقص، ومنه قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أُكلها ولم تظلم منه شيئاً} [الكهف: 33]. أي: لم تنقص منه شيئاً بل أتت به كاملاً، أما في الشرع فهو العدوان على الغير وعلى النفس أيضاً إما بالتفريط فيما يجب، وإما بالتعدي فيما يحرم عليه يدور الظلم ويكون في المال والنفس والعرض لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرم كحرمة يومكم هذا" الحديث، فمثال الظلم في المال أن يدعي الإنسان على شخص ما ليس له أو أن ينكر ما كان واجباً عليه، الأول ادعى على شخص أنه يطلبه كذا وكذا ثم اقام بينة زور وأخذه هذا تعدٍّ في أخذ ما ليس له، والثاني الذي أنكر ما يجب عليه تعدي فيما عليه وكلاهما ظلم، كذلك أيضاً لو أن إنساناً أخذ مال شخص سرقةً أو غصباً فهذا ظلم؛ لأنه عدوان على الغير، الظلم في النفس أن يعتدي على نفسه إما بقطع عضو أو جرح أو إهانة كرامة بزنا أو لواط أو ما أشبه ذل، وأما العرض فأن ينتهك عرضه فيغتابه أو يقذفه أو غير ذلك، المهم أن الظلم له ثلاثة أشياء المال، والنفس، والعرض، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ظلمات يوم القيامة"، يكون عقوبة الظالم أن يسلب منه النور فلا يكون له نور، فيكون بمنزلة الكفار والمنافقين؛ لأن المؤمنين يسعى نورهم بين أيديهم وأيمانهم أما الكافر فليس له نور وأما المنافق فيعطى نوراً ثم ينزع منه هذا الذي يظلم يكون ظلمه ظلمات عليه يوم القيامة. في الحديث: التحذير من الظلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر الوعيد على عمل فإنه يكون أشد مما لو نهى عنه فقط؛ لأن النهي عن الشيء بدون ذكر الوعيد يجعله من صغائر الذنوب، وذكر الوعيد يجعله من كبائر الذنوب. وعلى هذا فنقول في هذا الحديث: تحريم الظلم. وفيه أيضاً: أن الجزاء من جنس العمل لما ظلم الناس في الدنيا أظلم الله عليه يوم القيامة. وفي الحديث أيضاً: إثبات يوم القيامة وهو اليوم الذي يبعث فيه الناس لله عز وجل وسمي يوم القيامة لأمور ثلاثة: الأول أن الناس يقومون فيه من قبورهم لله عز وجل دليل قوله تعالى: {ليومٍ عظيمٍ * يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المنافقون: 5 - 6]. الثاني: أنه تقام فيه الأشهاد كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر: 51]. الثالث: انه يقام فيه العدل: لقوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً} [الأنبياء: 47].

ويستفاد من حديث جابر: وجوب اتقاء الظلم؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب لا سيما وأنه علله بقوله: "فإن الظلم ظلمات يوم القيامة". فيكون حينئذ من الكبائر. ومن فوائد حديث جابر: أن التقوى ليست خاصة بالله عز وجل بل تكون لله وللمخلوقات فهنا اتقوا الظلم وجهت إلى الظلم، وهو عمل من أعمال الإنسان وفي قوله: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281]. أضيفت إلى زمن، وفي قوله تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 131]. أضيفت إلى مكان، وفي قوله تعالى: {واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} [الممتحنة: 11]. أضيفت إلى الله عز وجل لماذا؟ لأن أصل التقوى اتخاذ وقاية والإنسان يتخذ وقاية من الرب عز وجل ومن عقوباته وعذابه. ومن فوائد الحديث: أن الظلم من كبائر الذنوب كما سبق وقوله: "واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم" الشح: الطمع فيما عند الغير، فهو محاولة اخذ ما ليس له، والبخل منع ما يجب عليه بذله وتارة نسمع الشح والبخل فنقول: الشح الطمع فيما عند الغير والبخل منع ما يجب بذلك من علم أو مال أو عمل. وفي الحديث: "البخيل من إذا ذكرت عنده لم يصل عليّ" فهذا بخل بعمل، وإذا قلت: سألت فلاناً من العلماء ولم يجبني، فهذا بخل بالعلم وإذا قلت: سألت فلاناً مالاً ولم يعطني فهذا بخل بالمال، أما الشح فهو الطمع فيما عند الغير وأيهما أشد؟ الشح، لأن منع ما عندك أهون من طلب ما ليس عندك، قال: "فإنه أهلك من كان قبلكم" أهلكهم إهلاكاً حسياً لأنهم بذلك سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم. ففي هذا الحديث أيضاً: تحريم الشح لقوله: "اتقوا الشح". فإن قال قائل: إن الله -تعالى- جعل الشح في كتابه من طبائع النفوس فقال تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح} [النساء: 128]. فكيف ندفع ما كان من طبيعة النفوس؟ قلنا: هو كسبيٌ، الشح أمر كسبي والأمر الكسبي يمكن للإنسان أن يحترز منه ويتخلى عنه وإن كانت النفوذ مجبولة على محبة المال لكن الإنسان يغلبه دينه حتى يطفئ عنه حرارة الشح. ومن فوائد الحديث: الاعتبار بمن خلال من الأمم لقوله: "فإنه أهلك من كان قبلكم". ومن فوائده: أن ما كان سبباً للعقوبة في الأمم الماضية فإنه يكون سبباً للعقوبة في هذه الأمة، بل لو قال قائل: إنه يكون في هذه الأمة أعظم لأنها أكرم الأمم عند الله، وإذا كانت أكرم

الرياء

وجب عليها من الشكر لله ما لا يجب على غيرها، وانظر إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم: {من يأت منكن بفاحشة مبينةٍ يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30]. {* ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صلحاً نؤتها أجرها مرتين} فلكرمهن عند الله ضوعف لهن في الثواب وضوعف عليهن في العقاب وهذا هو الموافق للفطرة؛ لأننا لو فرضنا أن رجلاً صديقاً لك يظهر المودة في قلبه ولسانه فأساء إليك أدنى إساءة تجد أن هذه الإساءة في حقه عظيمة جداً، لكن لو أساء إليك بها أو بما هو أعظم منها شخص آخر لكان ذلك عندك أهون؛ فلهذا نقول: إذا كان الشح سبباً لإهلاك من قبلنا فإنه سيكون سبباً لإهلاكنا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: فإنه أهلك من كان قبلكم عبر الخاطر، بل قال ذلك تحذيراً. إذن يستفاد منه: أن ما جرى على من سبقنا بعمل فإنه يوشك أن يجري علينا بعمل آخر، إلا أنه يستثنى من ذلك مسألة واحدة وهي أن الله -تعالى- أجاب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل الله ألا يهلك أمته بسنة عامة، فهذه الأمة لن تهلك على سبيل العموم كما هلك من هلك من الأمم السابقة. الرياء: 1424 - وعن محمود بن لبيدٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر: الرياء". أخرجه أحمد بسندٍ حسنٍ. لماذا لم يقل: الشرك؟ لأن الشرك خبر إن، وأما قوله: "ما أخاف" هذه صلة الموصول يقول صلى الله عليه وسلم: "أخوف ما أخاف عليكم من الأعمال الباطنة هو الشرك الأصغر" المؤلف رحمه الله اختصره فقال: الرياء والحديث بطوله فسئل عنه فقال: الرياء، قال الرياء: هو أخوف ما يخاف علينا من الشرك الأصغر". تعريف الرياء لغة وشرعاً: والرياء: مصدر راءى يرائي يرياءً كجاهد يجاهد جهاداً، هل هناك مصدر آخر لراءى؟ نعم مراءاة كما أن جاهد له مصدر آخر وهو مجاهدة فما هو الرياء؟ الرياء: أن يحسن الإنسان عبادته ليراه الناس فيتقرب إليهم بذلك، وإن شئت فقل: أن يظهر الإنسان عبادته ليراه الناس فيمدحوه بذلك سواء أظهرها على وجه حسن أو على وجه عادي وسمي رياء؛ لأن الإنسان يراعي فيه رؤية الناس، وهل إذا كان يقول قولاً فيظهره للناس من أجل أن يمدحوه عليه هل يدخل في هذا؟ نعم يدخل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به".

في هذا الحديث: شفة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته لقوله: "أخوف ما أخاف عليكم". وفي أيضاً: أن السيئات تختلف بعضها أشد خطراً من بعض لقوله: "أخوف ما أخاف" لأن أخوف اسم تفضيل واسم التفضيل لابد فيه من مفضل ومفضل عليه فالرسول صلى الله عليه وسلم يخاف منا أن نعمل عملاً سيئاً لكن يختلف خوفه بعضه أشد من بعض. ومن فوائد الحديث: انقسام الشرك إلى قسمين أصغر وأكبر فهل هناك ضابط؟ نقول: الضابط إن أردت ضابطاً حكمياً فهناك ضابط وإن أردت ضابطاً ذاتياً يعني حداً فهناك أيضاً ضابط، أما الضابط الحكمي فيقال: الشرك الأكبر ما يخرج به الإنسان من الملة وهذا يسمى تعريفاً بالحكم، والتعريف بالحكم عند أهل الكلام معيب ومردود كما قال الناظم: (وعندهم من جملة المردود ... أن تدخل الأحكام في الحدود) وأما التعريف بالحد الذاتي فيقال: الشرك الأصغر ما كان وسيلة لأكبر غالباً، الرياء وسيلة للشرك الأكبر؛ لأنه يتدرج بالإنسان حتى يصل إلى عبادة الناس، هو الآن يعبد الله لكن يزين العبادة ليمدحه الناس عليها فيتقرب بالعبادة إلى الناس، لكنه يجره الأمر إلى أن يعبد الناس، فلهذا نقول: هو شرك أصغر، ورأيت ابن القيم رحمه الله يعبر عن الشرك الأصغر بما يتعلق بالرياء فيقول: يسير الرياء؛ لأن الرياء الكثير الأكبر هذا يحبط العمل، فإذا كان الإنسان يرائي في كل عبادة لم يبق عنده عبادة. إذن نأخذ من هذا الحديث: انقسام الشرك إلى أكبر وأصغر، والضابط في الحكم أن الشرك الأصغر ما لا يخرج به من الملة، والأكبر ما يخرج به من الملة، في الحد الذاتي نقول: الشرك الأصغر ما كان وسيلة وذريعة إلى الشرك الأكبر، من الشرك الأصغر تعليق التمائم لماذا؟ لأنه وسيلة إلى الإشراك في الربوبية حيث يعتقد أن التمائم سبب لمنع الضر أو الشفاء من المرض فيتعلق قلبه بها وربما يتدرج حتى يعتقد أن السبب نفسه هو الذي يكشف الضر فيكون شركاً أكبر. ومن فوائد الحديث: تحريم الرياء؛ لأنه من الشرك الأصغر، ولكن هل يدخل في الذنوب التي هي تحت المشيئة أو نقول لابد من المجازاة عليه ما لم يتب منه؟ فيه خلاف فمن العلماء من يقول: إن قول الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. يراد به الشرك الأكبر لقوله تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 72]. وأما الشرك الأصغر فإنه داخل

في المشيئة، فتكون كل الذنوب وإن عظمت ما عدا الكفر والشرك داخلة تحت المشيئة، ومنهم من يقول: الشرك أعظم من الكبائر قال ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً، مع أن الحلف بالله كاذباً من كبائر الذنوب فتكون سيئة الشرك سيئة قبيحة لا يمكن أن تدخل تحت المشيئة، ويؤيد هؤلاء قولهم بنفس الآية {إن الله لا يغفر أن يشرك به} قالوا: إن "أن" هنا مصدرية يؤول ما بعدها بالمصدر فيصير تقدير الآية إن الله لا يغفر شركاً به، ويكون شركاً هنا نكرة في سياق النفي فتعم، وعلى كل حال الشرك ولو كان أصغر صاحبه في خطر يجب عليه أن يتوب منه ومن جميع الذنوب، لكنه يتأكد في حقه لأنه ليس داخلاً تحت المشيئة على رأي بعض العلماء، هذا بالنسبة لحكم الرياء لكن ما حكم العبادة إذا اقترن بها الرياء وهذا مهم جداً؟ نقول: إن اقترن الرياء بالعبادة من أصلها فهي باطلة لا تقبل من الإنسان لا فريضة ولا نافلة لقول الله -تعالى- في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" حتى لو كانت صدقة، إنسان رأى الناس يتصدقون فقام يتصدق مراءاة نقول: هذا غير مقبول، أو صلاة رأى الناس ينظرون إليه فقام يصلي هذا لا تقبل صلاته فإن رآءي في وسط العبادة بأن زين صلاته ولكن أصل العبادة لله فهل تبطل العبادة أو يبطل الثواب الحاصل بتحسينها؟ الثاني هذا مقتضى عدل الله أن يحفظ العمل الذي حل فيه الرياء، وأما الأصل فلا يحبط عمله لأنه فعله لله، الآن إذا كان الرياء مشاركاً للعبادة من أصلها فهي باطلة، إذا طرأ عليها يعني أن الرجل قام يصلي لله لكن لما رأى الناس حوله شعر بأنه طرأ عليه الرياء في أثناء العبادة فهل تبطل العبادة؟ نقول: في ذلك تفصيل إن كانت العبادة يتعلق آخرها بأولها بطلت، وإن كان لا يتعلق آخرها بأولها لم تبطل، مثال الأول: الصلاة طرأ الرياء عليه في أثناء الصلاة يبطلها كما لو أحدث في أثناء الصلاة فإنه يبطلها، فهنا وجد المبطل في أثناء الصلاة والصلاة آخرها يتبع أولها فنقول: إن الصلاة كلها باطلة، أما إذا كان لا ينبني آخرها على أولها فإنه يبطل ما حصل

خصال النفاق

فيه الرياء فقط كرجل أعد ألف ريال للصدقة وتصدق بخمسمائة بنية خالصة ثم طرأ عليه الرياء حين الصدقة فيما بقي فما الذي يبطل؟ الثاني الأخير أما الأول فلا يبطل لأنه وقع بإخلاص. خصال النفاق: 1425 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذبن وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". متفق عليه. "آية" أي: علامة، لكن الآية لا تطلق إلا على العلامة الدالة دلالة لا إشكال فيها؛ وذلك لأن الدليل قد يكون دالاً على المدلول دلالة ظنية، لكن الآية تكون دلالتها قطعية لا يتخلف مدلولها، "أية المنافق" المنافق: هو الذي يبطن الشر ويظهر الخير. من أين أخذ؟ قالوا: إنه مأخوذ من نافقاء اليربوع، اليربوع دويبة أكبر من الفأر قليلاً، ولكن أرجلها طويلة وأيديها قصيرة هذه الدويبة أعطاها الله -تعالى- ذكاء تحفر لها بيتاً في الأرض جحراً وتجعل له باباً ثم إذا انتهت إلى ما تريد حفرته صاعدة إلى ظهر الأرض حتى إذا لم يبق إلا قشرة رقيقة توقفت لفائدة وهي أنه إذا هاجمها أحد من باب الجحر خرجت من عند هذه القشرة الرقيقة هكذا المنافق {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم} [البقرة: 14]. فلهم بابان لهم وجه مع المؤمنين ووجه مع الكافرين، إذن المنافق بالمعنى العام: كل من أبطن شراً وأظهر خيراً، أما بالمعنى الخاص: الذي هو النفاق الذي صاحبه في الدرك الأسفل من النار فهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، ولم يكن معروفاً إلا بعد أن ظهر الإسلام واعتز المسلمون في بدر وصار الغلبة، بزغ نجم النفاق فصار الواحد إذا لقي المؤمنين يقول: آمنا وصدقنا بأن محمداً رسول الله، ويأتون للرسول ويقولون: نشهد إنك لرسول الله ويذكرون الله لكن لا يذكرون الله إلا قليلاً. "آية المنافق" أي: علامته، "ثلاث إذا حدث كذب" حدث أي: أخبر عن أمر واقع أو أمر سيقع كذب أي: أخبر بالشيء على خلاف وجهه، هذا هو الكذب الإخبار بالشيء على خلاف وجهه، "وإذا وعد أخلف" يعني: إذا وعد إنساناً بشيء أو على شيء أخلف ولم يف، "وإذا ائتمن خان" سواء ائتمن على النفس أو على المال أو العرض فإنه يخون، والخيانة هي أن يتوصل إلى الشيء على وجه خفي فإن كان بحق فهو مكر وليس بخيانة، وإن كان بغير حق فهو

خيانة ولهذا المكر ليس مذموماً ولا ممدوحاً، والخيانة مذمومة على كل حال، المكر إذا كان في موضعه فهو مدح، ولهذا أثبته الله لنفسه ولم يثبت الخيانة فقال: {ويمكرون ويمكر الله} [الأنفال: 30]، وقال: {فقد خانوا الله من قبل فأمكن منه} [الأنفال: 71]. ولم يقل: فخانهم لأن الله لا يوصف بالخيانة، إذ إن الخيانة هي الخديعة في موضع الائتمان، والمكر هو الخديعة في غير موضع الائتمان. ولهذا صار المكر في محله كمالاً، هذه علامات المنافق فيه علامة رابعة لم تذكر في هذا الحديث وهي: "إذا خاصم فجر" في هذا الحديث التحذير من هذه الخصال الثلاث الكذب في الحديث، وجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك من علامات النفاق محذراً أمته من ذلك، وظاهر الحديث أن الكذب محرم على أي صورة كانت فهو كذب، وقسم بعض العلماء الكذب إلى قسمين: كذب أبيض وكذب أسود ولا شك أن هذا التقسيم باطل، والصواب أن الكذب كله أسود، لكن ما يظن أنه كذب وليس بكذب هذا لا يكون كذباً كالتورية مثلاً التي حصلت لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فإن هذا ليس بكذب في الواقع لكنه كذب صورة فيما يظنه السامع، وهو حقيقة ليس كذباً، يشمل الكذب هنا الكذب في الخصومة بأن يدعي الإنسان ما ليس له أو ينفي ما عليه، فإن هذا كذب، يشمل الكذب ليضحك به الناس، وما أكثر هذا بين الناس يأتي بقصة كذب ما لها أصل لكن من أجل أن يضحك الناس وقد جاء في الحديث "ويل لمن حدث فكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له"، واعلم أن الكذب يطلق في اللغة العربية على الخطأ، وإن لم يتعمده الإنسان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو السنابل"، أبو السنابل ابن بعكك مر على سبيعة الأسلمية وقد مات زوجها ونفست بعد موت زوجها بليال قصيرة، يعني: وضعت حملها فجعلت تتجمل للخطاب فمر بها أبو السنابل فنهاها عن ذلك

وقال: إنه لا يمكن أن تتزوجي حتى يمضي عليك أربعة أشهر وعشر، فلفت عليها ثيابها وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله، وأخبرته بما قال أبو السنابل بن بعكك فقال: "كذب أبو السنابل" أي أخطأ لأن أبا السنابل ما تعمد الكذب ولكنه أخطأ في كونه أخبرها بحكم ليس شرعياً. ومن فوائد الحديث: تحريم إخلاف الوعد، وجهه أنه من آيات النفاق، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون بإخلاف الوعد ضرر على الغير أو لا يكون، وهذا هو الصواب أن الوفاء بالوعد واجب سواء تضمن ضرراً أم لم يتضمن، أما إذا تضمن ضرراً فلا شك في تحريمه مثل أن يأتينا رجل يستقرض مني مالاً ليشتري به حاجة سيارة أو بيتاً أو غير ذلك فيقول لي: أنا الآن ليس عندي شيء، أقول: لا توفيني إلا بعد سنة فالآن وعدته أنني لا أطالبه إلا بعد سنة، ولما مر أشهر طالبته، قلت: أعطني قرضي، هذا إخلاف فيكون حراماً، ولهذا كان القول الراجح أن القرض إذا أجل يتأجل وأنه لا يجوز للمقرض أن يطالب به حتى يتم الأجل، وذهب كثير من العلماء إلى أن الوفاء بالوعد سنة، لكن لا وجه لما قالوا، وكيف نقول: إن الكذب حرام والإخلاف ليس بحرام مع أن الحديث واحد وهو آية النفاق. ومن فوائد الحديث: الرد على أولئك الذين يتبجحون بالغربيين ويقولون: هم أهل الوفاء بالوعد وإذا أراد أحدهم أن يؤكد الوفاء قال: وعد إنجليزي يعني: الإنجليز هم أهل الوفاء والمسلمون ليسوا أهل الوفاء، وهذا واقع من بعض المسلمين -نسأل الله لنا ولهم الهداية- واقع أن بعض المسلمين لا يهمه أن يوفي بالوعد أو لا سواء وقع ضرر بأخيه أو لم يقع، لكن كوننا نقول: الوعد إنجليزي هذه غفلة وهضم للإسلام، الوعد الذي لا يخلف هو وعد المؤمن والشريعة التي جاءت بالوفاء هي الدين الإسلامي، كل الشرائع جاءت بالوعد، لأن هذا من الأمور العامة، إذن الإخلاف بالوعد حرام سواء تضمن ضرراً وصورته في القرض التي ذكرناها، أو لم يتضمن ضرراً كما لو أخلفه في موعد على أنهم يسيروا في أطراف البلد فأخلفه هذا قد لا يتضرر به صاحبه ولكنه حرام لابد أن يفي بالوعد. الخصلة الثالثة: وهي أشدها وأعظمها إذا ائتمن خان ولم يؤد الأمانة، وهذا يشمل الائتمان على العرض وعلى المال وعلى القول أي شيء يؤتمن عليه فإنه إذا خان فهو من المنافقين أو فقد اتصف بصفات المنافقين، مثال ذلك: رجل وضع عند آخر دراهم وديعة فاحتاج المودع إلى هذه الدراهم وأنفقها بناء على أنه سوف يردها على صاحبها هذه خيانة، لو قال: إن صاحبها يأذن لي قلنا: إن كنت صادقاً استأذن منه إنسان ائتمنك على حديث وقال: هذا بيني وبينك، ثم إن هذا المخاطب أفشى الحديث وأظهره، هذا اتصف بصفة من صفات المنافقين هذا ائتمن

النهي عن السباب

فخان، لكن لو قال: أنا لم أخن؛ لأن الرجل قال: هذا بيني وبينك وهو كذلك وحدثني وليس عندنا أحد، لكن لم يقل لي: لا تحدث به أحداً ماذا نقول؟ نقول: كل إنسان يعرف أن المحدث إذا قال: بيني وبينك فيعني لا تخبر أحداً، ومن ذلك أيضاً ما ذكره بعض العلماء أن الإنسان إذا صار يحدثك ويلتفت هل حولنا أحد فقد ائتمنك فلا يجوز أن تفشي سره. ومن الخيانة أن يكون الإنسان عنده أجير استعمله لمدة شهر أو أكثر أو أقل ثم عند المحاسبة خانه ولم يبين له أنه لا يستحق الأجرة سواء أيام العطل أو غير أيام العطل فهذه أيضاً خيانة، والمهم أن الخيانة هي الغدر في موضع الائتمان. النهي عن السباب: 1426 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". متفق عليه. "سباب": مصدر سب يسب سباً وسباباً، و"المسلم": هو من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والتزم بأحكام الإسلام، والفسوق: هو الخروج عن الطاعة مأخوذ من قولهم فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها، "وقتاله" أي: قتال المسلم كفر، والكفر هو: الردة أو ما يقاربها، يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سب المسلم فهو فاسق، سباب المسلم فسوق أي: إذا سب أحد من المسلمين أخاه فقد فسق أي: انتقل من وصف العدالة إلى وصف الفسق، وإن قاتله فقد كفر أي: فَعَل فِعل الكافرين؛ لأنه لا يمكن أن يحمل السلاح على أخيه من كان مسلماً حقاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس منا". في هذا الحديث فوائد: منها: وجوب احترام عرض المسلم وجه الدلالة أن سبه فسوق ويستثنى من ذلك ما إذا سبه رداً على سبه فإنه ليس فسقاً، لقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126]. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم". ومن فوائد الحديث: أن الفسق دون الكفر، وجه ذلك أن الفسق صار جزاء للسب والسب أهون من القتال وعظم العقوبة يدل على عظم العمل والذنب. ومن فوائد الحديث: أن قتال المسلم كفر، ولكن هل هو الكفر المخرج عن الملة؟ نقول: لا ليس الكفر عن الملة، والدليل على هذا قول الله -تبارك وتعالى-: {وإن طائفتان من

التحذير من سوء الظن

المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 9، 10]. وهذا صريح فسمى الله تعالى الطائفتين المقتتلتين إخوة للطائفة التي تصلح بينهما فدل هذا على أن القتال كفر لا يخرج عن الملة، ولهذا لم يقل: قتاله كفر قال: كفر أي: من خصال كفر؛ لأنه لا يمكن أن يحمل السلاح على المسلم إلا من كان كافراً. فإن قال قائل: فما تقولون في قتله؟ قلنا: كذلك القتل أشد من القتال ومع ذلك لا يخرج به الإنسان من الإيمان، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عُفي له من أخيه شيء} [البقرة: 178]. فجعل الله المقتول أخاً للقاتل وهذا يدل على أنه لا يخرج بذلك من الإيمان، ذكرنا الآن أن القتل أشد من القتال، وأن القتال أهون، لأن القتال يجوز فيما لا يجوز فيه القتل، ذكر العلماء -رحمهم الله- أنه لو اتفق أهل بلد على ترك الأذان أو على ترك صلاة العيد فإنهم يقاتلون ولكنهم لا يقتلون، ولو امتنعوا عن الزكاة فإنهم يقاتلون ولكن لا يقتلون، ولو بغوا على الإمام وخرجوا عليه فإنهم يقاتلون ولكن لا يقتلون، بمعنى: أننا نقاتلهم حتى نكف شرهم ولكن لا نقتلهم، الكفار إذا قتلناهم ثم صارت لنا الغلبة عليهم فلنا أن نقتل مقاتلتهم لكن هؤلاء الذين يقاتلون من المسلمين لا يجوز أن نقتلهم إذا قدرنا عليهم، بل ولا يجوز أن نلحق من ولى منهم وأدبر، ولا يجوز أن نجهز على جريحهم؛ لأنهم معصومون وقتالنا إياهم قتال مدافعة ليس قتالاً نريد منهم شيئاً آخر سوى المدافعة. ومن فوائد الحديث: تحريم سب المسلم وتحريم قتاله، والقتال أعظم، إذا كان كذلك فإن الفائدة المنهجية في هذا الحديث أن يتجنب بعضنا سب بعض سواء كانت المقابلة وجهاً لوجه، وهذا سب، أو في غيبته وهذا غيبة فكلاهما حرام كبيرة من كبائر الذنوب، وإذا كان كذلك فإنه لا يحل لنا أن يسب بعضنا بعضاً لا في مقابلة ولا في غيبة، ولاسيما إذا كانوا طلبة علم، فإن الواجب على أهل العلم في هذه الأمور أكثر من الواجب على غيرهم، وإذا كنا نقول لعامة الناس: إن الغيبة من كبائر الذنوب فإننا نقول لطلبة العلم الذين يغتاب بعضهم بعضاً: إنها من كبائر الذنوب وزيادة. التحذير من سوء الظن: 1427 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث". متفق عليه.

"إياكم والظن": هذا من باب التحذير، والظن: هو اعتقاد شيء ليس له أصل، أن تظن في نفسك شيئاً لا أصل له وهو حديث النفس، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الظن أكذب الحديث" وظاهر الحديث العموم أنه يجب علينا أن نحذر الظن، لكن الآية الكريمة بينت أنه لا يجب علينا أن نحذر جميع الظن حيث قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12]. وعلى هذا فتكون هذا الآية مقيدة الحديث بأن المراد: الظن الذي يكون إثماً، أما الظن الذي ليس بإثم فلا يجب علينا أن نتجنبه، والظن الذي ليس بإثم وهو أن نقوي القرينة جداً جداً حتى كأن الإنسان يشاهد الشيء ويتيقنه، فهذا لا يحرم لأن هذا أمر يفرضه الواقع، الأمر الذي يفرضه الواقع يشق التحرز منه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. ومن فوائد الحديث: التحذير من الظن والمراد: الظن الذي ليس عليه قرائن فأما ما عليه قرائن فإنه لا يحرم، ولهذا قال العلماء -رحمهم الله-: يحرم ظن السوء في مسلم ظاهره العدالة قيدوا ذلك أما إذا كان ظاهره خلاف العدالة فلا بأس أن تظن به ما يليق بحاله. ومن فوائد الحديث: أن حديث النفس يطلق عليه الحديث لقوله: "فإن الظن أكذب الحديث" وهو كذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" وهذا الحديث من أعظم الحديث -الذي سقته الآن- استشهاداً لحديث الباب، ما أكثر الأحاديث التي تحدثنا به أنفسنا فيما يتعلق بالله أو يتعلق بعباد الله أو يتعلق بخاصة النفس! أحاديث كثيرة لكنها-والحمد لله- لا أثر لها لأنها مما عفي عنه، يأتي الشيطان إلى بني آدم ويحدثهم في ذات الله عز وجل بما لا يليق بالله فهل يأثم؟ لا يأثم ما لم يركن إلى هذا الحديث ويصدق به، فإن ركن إليه وصدق به حكم عليه بما يقتضيه ذلك، وأما إذا كان مجرد طارئ على النفس ولكنه دافعه أو أعرض عنه فإنه لا (يأثم به). ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه لما ذكر الحكم، ذكر العلة. ذكر العلة يقتضي تنشيط النفس على قبول الحكم، لأن الإنسان يطمئن إلى ما يعرف علته أكثر مما يطمئن إلى ما لا يعرف علته، وإن كان تمام العبودية لا يكون إلا إذا استسلم الإنسان لما يعلم علته وما لا يعلمه، لكن لا شك أنه إذا ذكرت العلة، ازداد الإنسان طمأنينة ولا حرج على الإنسان أن يزداد طمأنينة فيما يكون فيه ذلك فها هو إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- قال لله تعالى: {رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260].

التحذير من الغش للرعية

التحذير من الغش للرعية: 1428 - وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعيته، يموت يوم يموت، وهو غاشٌ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة}. متفق عليه. هذا حديث عظيم يجب على الإنسان أن يكون نصب عينيه دائماً وأبداً "ما من عبد يسترعيه الله رعية" هل هذا يختص بالإمام الأعظم أو بمن هو نائب عنه كالوزراء والأمراء أو هو عامٌ؟ هو عامٌ، الدليل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". الرجل راع في أهله استرعاه الله عليهم إذا مات وهو غاشٌ لهؤلاء الأهل فإن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول حرم الله عليه الجنة". ومن الغش في رعية الناس اليوم نصب هذه الدشوش التي أفسدت العقائد والأخلاق ودمرت الأمة فإن الذي ينصبها ستكون عليه وبالا وهو في قبره -والعياذ بالله- ويكون ميتاً وهو غاشٌ لأهله ولرعيته؛ ولهذا يجب الحذر من أن يخلف الإنسان في أهله شيئاً محرماً عليهم. فإن قال قائل: وهل يدخل في ذلك مدير المدرسة؟ نعم، يدخل في ذلك فإذا مات وهو غاش لمن تحت يده فإن الله يحرم عليه الجنة، يدخل في ذلك المدرس؟ نعم، إذن عام وهو في الحقيقة عام حتى المرأة في بيت زوجها تدخل في ذلك إذا غشت الزوج وصارت تنفق ما لا يحتاج إيه وتعطي مما لم يأذن لها فيه فهذا غش إن ماتت على هذا فإن الله يحرم عليها الجنة. ففي هذا الحديث فوائد: الفائدة الأولى: أن الأمور كلها بيد الله، وأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى سلطة قليلة كانت أو كثيرة إلا بإذن الله، دليل ذلك "ما من عبد يسترعيه الله رعية". ومن فوائد الحديث: أنه لو تاب هذا الغاش ومات وهو ناصح فإنه لا يلحقه هذا الوعيد وعلى هذا فالحمد لله لكل داء دواء. ومن فوائد الحديث: وجوب النصح على الولي إذا ولاه الله تعالى على رعيته وجه ذلك الوعيد الشديد على هذا. ومن فوائد الحديث: أن غش من استرعاك الله عليه من كبائر الذنوب، وجهة الوعيد وكل ذنب فيه وعيد في الآخرة فإنه من كبائر الذنوب. وهل من فوائد الحديث: أن هذا الغش كفر؛ لأنه يحرم عليه الجنة، إذا حرمت عليه الجنة أين يكون؟

في النار، هل يكون فيها أبداً؟ ظاهر الحديث أنه يخلد في النار ولا نعلم أحداً يخلد في النار دائماً إلا إذا كان كافراً لكن مذهب أهل السنة والجماعة أن مثل هذه النصوص الوعيدية يحملونها على النصوص الأخرى ولذلك انقسم أهل القبلة في أحاديث الوعد والوعيد فمنهم من غلب جانب الوعد ونسي جانب الوعيد وقال: كل نص ورد في الوعيد إنما هو في الكافرين، وأما المسلمون فإنه لا يلحقهم، فالمسلم عندهم مهما عمل من المعصية فإنه لا يلحقه إثم هذه المعصية ولو من كبائر الذنوب وهؤلاء هم المرجئة، وهذا لا شك أنه فتح بابٍ بل كسر بابٍ للعصاة، العاصي إذا اعتقد هذه العقيدة سيعمل أي معصية دون الكفر ويقول: الحمد لله الإيمان كامل، والإثم مرفوع ولا شك أن هذا باطل. على العكس من ذلك قوم أخذوا بنصوص الوعيد وقالوا: إن نصوص الوعيد مطبقة على إطلاقها وليس فيها تقييد ولا رد للنصوص الأخرى وهؤلاء هم المعتزلة والخوارج فقالوا: كل نص وعيد فإنه نافذ، وإذا اقتضى الخلود في النار، فمن عوقب به فهو في النار لا يخرج منها أبداً وعلى هذا ينزل ظاهر الحديث الذي معنا الآن: أن من مات وهو غاشٌ لرعيته فهو مخلد في النار، لأنه ليس هناك إلا داران: إما الجنة وإما النار، فإذا حرمت الجنة لزم أن يخلد في النار وهذان طرفان كلاهما على غير الصواب، والصواب أن هذه النصوص الوعيدية مطلقة تقيد بالنصوص الأخرى الدالة على أن من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فإنه لا يخلد، وبذلك نعمل بين النصوص. واعلم أن هذا هو شأن كل خلاف يقع في الأمة على طرفي نقيض فإن سببه أن الناظر ينظر من جانب واحد أي: ينظر أعور فينظر من جانب واحد ويحمل النصوص على هذا الجانب. فإذا قال قائل: على مذهب أهل السنة كيف نخرج هذا الحديث وأمثاله؟ نقول: إن دخول الجنة دخولان: دخول مطلق لم يُسبق بعذاب، ودخول مقيد نسميه: مطلق الدخول وهو الذي يسبقه العذاب، فما المراد بالدخول هنا؟ يعني: أن الله يحرم عليه أن يدخل الجنة دخولاً مطلقاً لم يسبق بعذاب. إذن لابد أن يعذب ثم يدخل فيكون إلا حرم الله عليه الجنة يعني: إلا حرم الله عليه الجنة حتى يعاقبه. فإذا قال قائل: إذا قلتم هكذا فهل تكون مثل هذه النصوص مخصصة لعموم قول الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]؟ وأن يقال لمن يشاء إلا من ورد أنه لابد أن يعذب ولو لم يكن مشركاً فإنه لا يغفر له؟ نقول: هذا الاحتمال وارد وأننا نقول: إن النصوص الدالة على تعذيب فاعل شيء من الأعمال تخصص قوله: {ويغفر ما دون

أمر الوالي بالرفق برعيته

ذلك لمن يشاء} فيكون المعنى: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا إذا ورد أنه لابد أن يعاقب عليه كما في هذا الحديث وهذا وجه قوي. وقال بعضهم: إن هذا الحديث يخصص بالآية فيكون هذا مطلقاً ويخصص بالآية ويقال: إن فاعله داخل تحت المشيئة وعلى هذا التقدير -يعني لو أننا تنزلنا جدلاً لهذا الاحتمال وهو خلاف الظاهر- فإننا نقول: وفاعل المعصية التي لا تغفر في الحسنات مخاطر من يضمن أنه يدخل في قوله تعالى: {لمن يشاء}؟ لا أحد يضمن. إذن الإنسان مخاطر على كل حال. ومن فوائد الحديث: إثبات الجنة ولا يقال هذا كقول القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا أو قول الآخر: كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم الماء؛ لأن هذا أمر معلوم بالضرورة فيقال: إن زيادة الأدلة يزداد بها اليقين لكن نحن عندنا علم يقيني بوجود الجنة والنار. أمر الوالي بالرفق برعيته: 1429 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فشق عليهم، فاشقق عليه". أخرجه مسلمٌ. قد يكون هذا الحديث ضد الأول "من ولي من أمر أمتي شيئاً" شيئاً نكرة في سياق الشرط فيعم أي شيء يكون، "فشق عليهم" أي: حملهم ما يشق عليهم فاشقق عليه وهذا الذي دعا بهذا الدعاء من؟ الرسول صلى الله عليه وسلم وهو دعاء بما تقتضيه حكمة الله عز وجل فإن الجزاء من جنس العمل فكما أن الإنسان شق على عباد الله فإن الله تعالى يشق عليه، ومن جملة المشقة عليه أن يتمادى فيما شق على المسلمين فإن الله يشق عليه فيكون ذلك من عقوبته -والعياذ بالله-، وقوله: "فشق عليهم" هذا مستثنى منه المشقة التي أمر بها فمثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروا أبنائكم بالصلاة لسبعٍ واضربوهم عليها لعشر". والضرب قد يشق على الإنسان لكن هذا أمر مما أذن فيه وقال تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدةٍ ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين الله} [النور: 2]. وهذه مشقة لكنها مشقة مأمور بها وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الزاني المحصن يرجم"، وهذه مشقة لكنها مأمور بها، فالمهم أن قوله: "فشق عليهم" أي: مشقة لم يؤمر بها أما إذا أُمر بها فإن الله يقول في الزاني والزانية: {ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين الله}.

من فوائد الحديث: أنه يجب على من تولى شيئاً من أمور المسلمين أن يرفق بهم من استطاع لأنه إذا رفق بهم، رفق الله به وإذا شق عليهم، شق الله عليه. ومن فوائد الحديث: حرص النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته وجه الدلالة أنه دعا على من ولي من أمر أمته شيئاً فشق عليهم. ومن فوائده: أن الجزاء من جنس العمل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب شيئاً أكثر مما عمل هذا الرجل. ومن فوائده: أنه يجوز للإنسان أن يأخذ بحقه ممن اعتدى عليه، وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على من شق على الأمة بأن الله يشق عليه وذلك لأن المشقوق عليه من المولى عليه لا يستطيع الدفاع عن نفسه، لأنه مأمور تحت أمير، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كفاه المؤونة بدعوة الله تعالى أن يشق عليه. فإن قال قائل: أفلا يحتمل أن الله لا يجيب دعوته؟ ذكرنا قبل قليل أن هذا مقتضى حكمة الله، فإذا كان الرسول دعا بما تقتضيه الحكمة فإننا نعلم أنه سيجاب لأن هذا مقتضى حكمة الله عز وجل وإلا فمن المعلوم أن كل شيء دعا به الرسول يحتمل أن يجاب ويحتمل ألا يجاب لكن أولاً: أن الأصل هو أن الرسول مجاب الدعوة، وثانياً: إذا كان هذا الدعاء تقتضيه حكمة الله فإنه سيجاب بناء على اقتضاء الحكمة. النهي عن ضرب الوجه: 1430 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قاتل أحدكم، فليجتنب الوجه". متفق عليه. "إذا قاتل": يشمل القتال الأعظم المؤدي إلى الموت والهلاك، ويشمل القتال الذي دون ذلك، مثال الذي دون ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبي فليقاتله". -ليس هذا هو القتال الذي يؤدي إلى الهلاك- فإنما هو شيطان، المهم إذا قاتل قتالاً يؤدي إلى الهلاك وقد أذن له به أو قتالاً دون ذلك فإنه يجب عليه

أن يتقي الوجه، لأن الوجه مجمع المحاسن وفيه ما هو أرق الأشياء كالعينين فيكون ضربه أشد من ضرب الظهر أو ضرب الصدر أو ضرب العضد أو ضرب الفخذ، وقوله: "فليتق الوجه" ورد في أحاديث أخرى غير هذا أن الله تعالى خلق آدم على صورته، يعني على صورة الوجه؟ لا، لا يستقيم لأنه لو كان كذلك لكن كل المخلوقات خلقت على صورة وجهه، ولكن على صورة الرحمن عز وجل وقد أنكر بعضهم حديث الصورة وقال: إنه لا يصح وإنه منكر؛ لأنه لو كان كذلك، لزم أن يكون الله تعالى مماثلاً للخلق! خلق آدم على صورته وإذا كان هذا اللازم باطلاً فالملزوم باطل. وذهب بعضهم إلى تأويله بتأويلات مستنكرة بعيدة. وقال بعض العلماء: إما أن يبقى الحديث على ظاهره ويقال: إن الله خلق آدم على صورته، لكن لا يلزم من كونه على صورته أن يكون مماثلاً له بدليل أن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ومع ذلك فليست مماثلة له، وقال آخرون: على صورته كقوله: ناقة الله وبيت الله وما أشبه ذلك أي: على صورته التي اختارها عز وجل لهذا البشر الذين منهم الأنبياء والأولياء والأتقياء فاعتنى -سبحانه وتعالى- بهذا الوجه أو بهذا الإنسان فأضافه إلى نفسه ويكون هذا من باب إضافة التشريف وهذان القولان هما اللذان يتوجهان في الحديث، أما ما سواهما فهو باطل. في هذا الحديث دليل على فوائد: منها: وجوب اتقاء الوجه عند المقاتلة، ويتفرع على هذا جواب سؤال، سألني عنه بعض الإخوة اليوم وهو ما يسمى بالملاكمة والمصارعة سألني عن الملاكمة والمصارعة هل تجوز؟ فقلت: أما المصارعة فهي جائزة بشرط ألا تكون على عِوض يعني: بشرط ألا يقول أحدهما للآخر: إن غلبتك فعليك كذا وكذا والعكس، أما الملاكمة فلا تجوز، لأنها خطيرة وأخبرني هو أن الملاكمة من قواعدها: أن يكون الضرب على الوجه خاصة. إذن لا تجوز فهي محرمة من وجهين: أولاً: أنه يقصد بها الوجه قصداً أولياً وقد نهي عن ذلك، والثاني: أن فيها خطر لو ضرب هذا الملاكم أخاه على صدره أو على كبده أهلكه لاسيما وأنهم كما وصف يضربون بشدة وكأنهم يريدون أن يقفز بعضهم على بعض إذن فهي خطيرة. ومن فوائد الحديث: أن الوجه هو جمال الإنسان، ولهذا أمر باتقائه عند المقاتلة، يتفرع من

النهي عن الغضب

هذا مسألة الحجاب، الحجاب الآن لا شك أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها عن الرجال الأجانب الذين ليسوا من محارمها، وأن هذا مقتضى الحكمة، وأنه ليس من مقتضى الحكمة إطلاقاً أن يقال للمرأة: يجب عليك أن تستري قدميك ولا يجب أن تستري وجهك أيهما أشد فتنة؟ الوجه أشد فتنة، وأولى بالستر، والإنسان إذا خطب امرأة لا يقول للغير: ابحث لي عن قدمها وإنما يقول: عن وجهها، أما القدم فهو أمر ثان، صحيح أنه يقصد أن يكون جميلاً لكنه ليس هو الأولى، فكيف يقال: إن الوجه الذي هو محل الرغبة ومحط الفتنة لا بأس من كشفه وأما القدم يجب أن تستر كيف تأتي الشريعة بهذا؟ فإذا قالوا: جاءت الشيعة بهذا من أجل أن تهتدي المرأة إلى طريقها قلنا: هذه علة عليلة، لأنه ممكن أن تهتدي إلى طريقها بالنقاب أو بالخمار تضعه على نصف الوجه مثلاً، وأما أن تكشف هذا الوجه هذا حرام، ثم إن المرأة في الحقيقة قاصرة إذا أذن لها في كشف الوجه أتظنون أنها ستقتصر على الوجه بطبيعتها؟ أبداً، هي تريد أن تكون زهرة تدخل على الوجه تحسينات تحمر الشفاة وتشجير الحواجب ومكاييج وهلم جراً وهذا شيء مجرب تسمع عنه كثيراً فلو لم يكن من القول بوجوب ستر الوجه إلا أنه سد للذريعة لكان كافياً. النهي عن الغضب: 1431 - وعنه رضي الله عنه، أن رجلاً قال: "يا رسول الله، أوصني. قال: لا تغضب، فردد مراراً وقال: لا تغضب". أخرجه البخاري. هذا الحديث كان ينبغي أن يجعله المؤلف بعد قوله: "ليس الشديد بالصرعة" أوصاه الرسول قال: لا تغضب، والنبي صلى الله عليه وسلم يوصي كل إنسان بما يناسب حاله وهذا الرجل يظهر -والله أعلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أنه يغضب، سريع الغضب، فلهذا لم يوصيه بتقوى الله ولم يوصه بترك الكذب ولم يوصه بكثرة الطاعة بل أوصاه قال: "لا تغضب" مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن هذا الرجل كان غضوباً فقال له: "لا تغضب" ومعنى لا تغضب: ليس المعنى ألا تغضب، الغضب الطبيعي الذي لابد لكل إنسان منه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن ينهي عن هذا وينزه كلامه صلى الله عليه وسلم عن هذا الإيراد! لكن يريد أحد أمرين إما أن المعنى لا تسترسل مع الغضب بل اكتمه بقدر الإمكان، وإما أن المعنى لا تنفذ مقتضى الغضب الأول واضح أن الإنسان يسترسل ويزداد غضباً وشيطة، وأما الثاني فينفذ مقتضى الغضب، وأما مجرد الغضب فلابد لكل إنسان حيي القلب أن يغضب عند وجود السبب ولا يمكن أن يتخلف غضبه.

فإن قال قائل: ما دواء الغضب؟ قلنا: له أدوية أولاً: أن يكون الإنسان قوياً يغلب نفسه ولا تغلبه؛ دليل هذا إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. ثانياً: أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي رآه غاضباً قال: "إني أعلم كلمة لو قالها، لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". ومناسبة الاستعاذة عند الغضب ظاهرة جداً، لأن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم. ثالثاًً: أن يتوضأ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الغاضب أن يتوضأ ووجه ذلك أن الوضوء فيه تبريد الأعضاء وفيه أن الإنسان يشتغل عن الغضب بعمل وهو الوضوء ربما يكون محتاجاً إلى أن يأتي بالماء ويقرب الإناء وغير ذلك، وهذا الاشتغال يبرد عليه الغضب فصار الوضوء يبرد الغضب من وجهين: الوجه الأول: ببرودته فيبرد الأطراف والأعضاء التي تكاد تنفجر من الغضب، والوجه الثاني: أنه يوجب اشتغال النفس بهذه الأعمال فيهدأ الغضب. رابعاً: إذا كان قائماً فليجلس وإذا كان جالساً فليضطجع هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه إذا تغير حاله هدأ غضبه، وأحياناً ترى الإنسان إذا غضب وهو جالس من شدة الغضب يقوم فيقال: إذا غضبت وأنت واقف فاجلس إن هدأ الغضب فذاك وإلا اضطجع، ولا شك أن الإنسان إذا فعل ذلك سوف يزول الغضب، لأن هذه الحركات توجب اشتغال النفس عن تنفيذ الغضب هذه أشياء جاءت بها السنة. هناك شيء آخر وهو مغادرة المكان، يعني: إذا غضبت على أهلك فاخرج من البيت حتى يهدأ الغضب، وكم من إنسان إذا بقي في مكانه يخاصم ويضاد فإنه لا يزداد بذلك إلا غضباً لكن إذا انصرف وترك المكان هدأ غضبه. من فوائد الحديث: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم حيث يوصي كل إنسان بما يليق بحاله. ومن فوائده: أنه ينبغي للمجيب أن ينظر إلى حال السائل فيخاطبه بما يليق بحاله، الإنسان العامي تخاطبه بماذا؟ بلغة عامية واضحة ليس فيها تعقيد لو سألك سائل عامي قال: ما تقول فيمن أكل لحم إبل أيصلي بلا وضوء أم لابد أن يتوضأ؟ فقلت لا، لابد أن يتوضأ هل من المستحسن أن نقول: لابد أن يتوضأ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "توضؤوا من لحوم الإبل" وقد اختلف

مسألة مهمة

العلماء -رحمهم الله- في هذا أله حكمة أم لا؟ فقال بعض العلماء: إنه تعبدي لأن كل حكم شرعي لا نعقل معناه فهو تعبدي، وقال بعض العلماء: بل فيها حكمة، والحكمة أن الرسول أمر بذلك وامتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم حكمة، وقال آخرون: بل الحكمة أن الإبل خلقت من الشياطين كما جاء في الحديث، وقال آخرون: بل الحكمة إن لحم الإبل يثير الأعصاب ولهذا نهى الأطباء عن كثرة أكل لحم الإبل لمن كان عصبياً أنتهى الجواب ماذا يعمل؟ الجواب الأول الذي هو محط الفائدة يضيع عليه، فأنت كلم كل سائل بما يتحمله عقله وبما يناسب حاله. مسألة مهمة: لكن هنا مسألة مهمة وهي: أن الإنسان إذا جاءك يسأل ورأيت عليه معصية ولنفرض أنها حلق اللحية أو إسبال الثوب فمن المستحسن أن تعرض عليه النصيحة لأنه جاء إليك كالمضطر، ولأن هذه طريق الرسل، يوسف لما جاءه صاحبي السجن ماذا قال لهما عند استفتاءهما قال: {يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39]. وهذه تفوت كثيراً من طلبة العلم تجد السائل يسأل ويتصرف لكن إذا حصل لك فرصة أن تمسك هذا الرجل إن كان عندك أحد اهمس في أذنه وانصحه ففي هذا خير كثير وتأثير بليغ. ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للسائل أن يردد السؤال استثباتاً للأمر لا اعتراضاً عليه؛ لأن هذا الرجل كان يقول: أوصني يقول: لا تغضب، أوصني لا تغضب، وكأن هذا الرجل استهان بهذه الوصية العظيمة كأنه يريد شيئاً آخر، لكن وصاه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية، فعلى هذا نقول: يجوز أن يكرر السائل السؤال إذا كان يترقب جواباً آخر، أما إذا كان لا يترقب جواباً آخر فلا حاجة للتكرار. ومنها: أن من الآداب ألا يغضب الإنسان وأن يكتم غضبه ويكظم غيظه بقدر المستطاع، وكم من إنسان غضب ونفذ غضبه وندم، ما أكثر الذين يسألون الآن عن الطلاق ويقولون: نحن طلقنا على غضب. النهي عن التخوض في أموال الناس بالباطل: 1432 - وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق؛ فلهم النار يوم القيامة". أخرجه البخاري. خولة امرأة فكيف قبلنا خبرها وهي امرأة والله عز وجل يقول: {فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان} [البقرة: 282]. والنبي صلى الله عليه وسلم جعل شهادة المرأتين بشهادة رجل؟

الجواب: أن هذا من باب الإخبار الديني، والإخبار الديني يستوي فيه المرأة والرجل، حتى لو أن المرأة شهدت بغروب الشمس فإن للصائم أن يفطر، ولو شهدت برؤية الهلال فإن على الناس أن يصوموا وهي امرأة، قالوا: لأن هذا خبر ديني فقبلت فيه المرأة يقول صلى الله عليه وسلم: "إن رجالاً" ورجال هذه نكرة في سياق الإثبات والنكرة في سياق الإثبات تدل على الإطلاق لا تدل على العموم، فكأنه قال: إن من الرجال، لأن النكرة في سياق الإثبات تدل على الإطلاق إلا في موضع واحد إذا كانت في سياق الإثبات على وجه الامتناع فإنها تكون للعموم، "إن رجالاً بتخوضون" هذه من الخوض، والخوض هو: الشيء الباطل الذي يتصرف فيه الإنسان تصرفاً أهوج كما قال الله تعالى: {الذين هم في خوضٍ يلعبون} [الطور: 12]. والتخوض في المال نوعان: سابق ولاحق فأما التخوض السابق فمعناه: أن يكتسب الإنسان المال من أي وجه كان حلالاً أو حراماً، المهم أن يجمع المال هذا تخوض، نقول: إنه تخوض سابق على كسب المال، والتخوض اللاحق هو الذي يكون بعد كسب المال لا يحسن التصرف فيه يتخوض فيه يميناً وشمالاً بالملاهي والملذات وغيرها من الأشياء التي لا تنفع بل هي إضاعة للمال، وقوله: "بغير حق" الظاهر أنها صفة كاشفة وليست صفة مقيدة أي: تبين أن كل خوض في المال فإنه بغير حق وليست صفة مقيدة لأنها لو كانت صفة مقيدة لكان الخوض ينقسم إلى قسمين: حق وباطل وهذا ليس بوارد، التخوض كله باطل، فعلى هذا يكون قوله: "بغير حق" صفة كاشفة والصفة الكاشفة لا تفيد التقييد وإنما تفيد التعليل، مثال ذلك {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21]. لو جعنا الذي خلقكم والذين من قبلكم صفة مقيدة لكان لنا ربان: أحدهما الذي خلقنا والذي من قبلنا، والثاني لا، ولكنها صفة كاشفة أي: مبنية للواقع وتفيد التعليل أي: من أجل كونه هو الخالق يجب أن تتقوه، قوله: "في مال الله". قد يقول قائل: إن المراد به التخوض في الأموال الشرعية كالزكاة والغنيمة والفيء والخراج وما كان في بيت المال، نقول: هذا احتمال وارد لا شك، والتخوض في هذه الأموال أشد من التخوض في مال الفرد الحر، لأن التخوض في مال الفرد الحر، يمكن للإنسان أن يبدأ منه يطلب المسامحة أو المعاوضة أو ما أشبه ذلك، لكن المشكل أن يتخوض في مال عام كأموال الزكاة والغنيمة والفيء، اقول: إن هذا وارد أن يكون قوله: "في مال الله" أي: الأموال الشرعية ويحتمل أنه عام كما في قوله تعالى: {وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33]. وهذا ليس المراد به الأموال الشرعية، وعلى هذا فيكون قوله: في مال الله: يشمل جميع الأموال الشرعية والمكتسبة، وقوله: "فلهم النار يوم القيامة" وهذا وعيدٌ والجملة هنا مربوطة بالفاء. في هذا الحديث فوائد: أولاً: تحريم التخوض في المال وأن ذلك من الكبائر وجه الدلالة

حرم الله الظلم على نفسه وعلى عباده

أنه توعد عليه بالنار، يتفرع من هذه الفائدة: أنه يجب على الإنسان حماية ماله من التخوض فيه وهذا بمعنى النهي عن إضاعة المال. ومن فوائده: أنه يحرم على الإنسان أن يكتسب المال إلا من وجه حلال بحق بناء على ما قلنا التخوض يكون سابقاً ولاحقاً وهو كذلك، فالواجب على الإنسان أن يحتاط احتياطاً تاماً فيما يكتسبه من المال وألا يأخذ كل ما هب ودب بل يتقي الشبهات. ومن فوائد الحديث: إضافة ما بأيدينا إلى ربنا عز وجل لقوله: "من مال الله". فإذا قال قائل: أليست الأموال لنا؟ فالجواب: بلى، أضافها الله عز وجل إلينا: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء: 5]. {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}، لكن إضافتها إلينا إضافة تصرف لا إضافة خلق وإيجاد، يعني: الذي أوجدها وخلقها هو الله عز وجل، ثم إن تصرفنا فيه مقيد بما أذن الله فيه فليس لنا أن نعمل كما شئنا، إذن وجه الإضافة ظاهر أن الله هو الذي خلقها وهو الذي رزقنا إياها وهو الذي شرع لنا أن نتصرف فيها كما شاء. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا ذكر الحكم أن يذكر العلة لاطمئنان النفس لقوله: بغير حق. ومن فوائد الحديث: إثبات النار وإثبات يوم القيامة لقوله: "فلهم النار يوم القيامة". حرم الله الظلم على نفسه وعلى عباده: 1433 - وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه -سبحانه وتعالى- قال: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا". أخرجه مسلم. اقتصر المؤلف رحمه الله على الشاهد منه، وهنا نبحث هل يجوز للراوي أن يختصر الحديث؟ وأما الراوي الناقل كالمصنف نقله من الاصل -صحيح مسلم- وصحيح مسلم موجود لمن أراد الرجوع إليه، لكن إنسان يروي الحديث عن شيخه يريد أن ينقله للأمة فهذا لابد أن يتمه لكن يجوز حذف شيء منه بشرط ألا يتعلق به ما قبله فإن تعلق به ما قبله فالحذف حرام ومع قولنا بأنه يجوز حذف الحديث فإن الأولى عدم الحذف حتى لو طال الحديث لو كان صفحة أو صفحتين. في هذا الحديث يقول: فيما يرويه عن ربه، من الذي يرويه؟ الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه هذا منتهى السند وهو الله عز وجل، وهذا الحديث الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه يقول: قال الله تعالى، مثل حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم ذات يوم صلاة الصبح في الحديبية

على إثر سماء كان في الليل فقال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أصبح من عبادي مؤمن وكافر" نسمي هذا الحديث من رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه ويسمى عند العلماء حديثاً قدسياً، وهو في مرتبة بين الحديث النبوي والقرآن الكريم وفيه أي: في الحديث القدسي فيه الصحيح وفيه الحسن وفيه الضعيف وفيه الموضوع، أما القرآن فكله صحيح متواتر ليس فيه كلمة ولا حرف إلا وهو متواتر، وهذا من الفروق العظيمة بين الحديث القدسي والقرآن الكريم، يقول جل وعلا: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" حرمت: أي منعت الظلم على نفسي ولله تعالى أن يحرم على نفسه ما شاء وله أن يوجب على نفسه ما شاء فقد حرم الله على نفسه أشياء وأوجب على نفسه أشياء قال الله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم} [الأنعام: 54]. قال: "كتب على نفسه الرحمة" وهنا نقول: هل هناك شيء واجب على الله؟ نعم، لكن هو الذي أوجبه على نفسه إذا أوجب على نفسه شيئاً نقول هو ربنا عز وجل يفعل ما يشاء فعلى الله واجبات أوجبها على نفسه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في النونية: (ما للعباد عليه حق واجب ... هو أوجب الأجر العظيم الشان) (كلا ولا عملٌ لديه ضائعٌ ... إن كان بالإخلاص والإحسان) يعني: لا يمكن أن يضيع عند الله عمل إطلاقاً بهذين الشرطين إن كان بالإخلاص، والإحسان يعني المتابعة، المهم، أن الله يوجب على نفسه ما شاء، ويحرم على نفسه ما شاء، ولهذا قال: "حرمت الظلم على نفسي"، والظلم يدور على شيئين: إما عُدوان، وإما نقص حق، فمن سطا على مالك وأخذه فهذا من العدوان، ومن جحد حقك فهذا من النقص، فالرب عز وجل لا يمكن أن ينقص إنساناً حسنة عملها أبداً، ولا يمكن أن يضيف إليه عقوبة سيئة لم يعملها قال الله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} [طه: 112]. "وجعلته بينكم محرماً" هذا الشاهد بينكم أي: بين الناس محرماً حتى بين المسلمين والكافرين نعم الظلم حرام، ألسنا نقول للكافر: إما أن تسلم وإلا قاتلناك أو تبذل الجزية أليس هذا ظلماً؟ لا، لأننا نفعل ذلك لحق الله لا لحقنا أما فيما بيننا وبينهم من الحقوق فلا نظلمهم، ولهذا يجب أن توفي بعقد البيع بينك وبينه، وبعقد الإجارة بينك وبينه وبحق الشفعة إلى هذا الحد على رأي بعض العلماء الذي يقول: إن حق الشفعة حق ملك لا مالك، فيقول: إنه لو كان شريكك كافراً، وبعت نصيبك على مسلم فللكافر أن يأخذه بالشفعة؛ لأن هذا حق ملك لا مالك، والشاهد أن الظلم محرم بين العباد حتى بين المسلم والكافر.

فإذا وأورد علينا الكافر فقال: أنتم ظلمتوني، أنا حر في الدين حرية الأديان فهل نقول: دعوه يكون يهودياً نصرانياً ليس لكم شأن ماذا نقول؟ هذا حق لله لازم علينا وعليك نحن ما ظلمناك في حقك الخاص إنما عاملناك بما أمرنا الله به وهو ربك وهذا ليس بظلم، "فلا تظالموا" تأكيد لقوله: "وجعلته بينكم محرماً"، فقال: "لا تظالموا" أي: لا يظلم بعضكم بعضاً حتى الأب مع ابنه، هذا هو الأصل يعني: فإذا كان أنت ومالك لأبيك وأخذ أبوك من مالك ما لا ترضى بأخذه فليس هذا بظلم لأنه أخذه بأمر الله فوجب عليه هو أيضاً أن يستسلم لأمر الله عز وجل المهم أن الظلم حرام بين العباد حتى بين الأب وابنه والأم وولدها. في هذا الحديث فوائد: منها: رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن الله فيكون النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للحديث القدسي كرجل من الإسناد بالنسبة للحديث النبوي. ومن فوائد الحديث: إثبات الكلام لله عز وجل أن الله يتكلم لقوله: إن الله قال "يا عبادي"، وكلام الله تعالى صفة من صفاته يتكلم -جل وعلا- حقيقة لا مجازاً وكلامه صفة من صفاته وهل هو من الصفات اللازمة كالعلم والقدرة أو من الصفات اللازم أصلها دون آحادها؟ الثاني لأن الله يتكلم كما قال أهل السنة يتكلم متى شاء بما شاء كيف شاء يتكلم كلاماً حقيقياً مسموعاً بحرف وصوت ليس كلام الله هو المعنى القائم بالنفس، من قال: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه فإنه لم يثبت كلام الله وإنما أثبت علم الله، والعجب أن مذهب الأشاعرة في هذا الباب مذهب غير معقول حيث يقولون: إن الله يتكلم وكلامه هو المعنى القائم بنفسه فإذا قيل لهم: هل سمعه جبريل من الله؟ قالوا: هذا صوت خلقه الله في الجو فسمعه جبريل، وقالت المعتزلة: كلام الله مخلوق لكنه صفة من صفاته فأي فرق بين المذهبين؟ لا فرق، ولهذا قال بعض المحققين: الواقع أنه لا فرق بيننا وبين المعتزلة فكلنا متفقون على أن ما بين أيدينا من المصحف مخلوق كلنا متفقون على أن ما سمعه جبريل من الله مخلوق، نقول: هذا قول باطل أعني: القول بأن كلام الله هو المعني القائم بنفسه فإذا قيل لهم: هل سمعه جبريل من الله؟ قالوا: هذا صوت خلقه الله في الجو فسمعه جبريل، وقالت المعتزلة: كلام الله مخلوق لكنه صفة من صفاته فأي فرق بين المذهبين؟ لا فرق، ولهذا قال بعض المحققين: الواقع أنه لا فرق بيننا وبين المعتزلة فكلنا متفقون على أن ما بين أيدينا من المصحف مخلوق كلنا متفقون على أن ما سمعه جبريل من اله مخلوق، نقول: هذا قول باطل أعني: القول بأن كلام الله هو المعني القائم بنفسه وأن ما سمعه جبريل -عليه السلام- أو موسى -عليه الصلاة والسلام- أو محمد صلى الله عليه وسلم- فإنه مخلوق للتعبير عما في نفس الله، إذن فيه إثبات كلام الله عز وجل وكلام الله إذا أردنا أن نقوله على سبيل الإجمال صفة من صفاته يتعلق بمشيئته متى شاء تكلم ويتكلم بما شاء وكيف شاء. ومن فوائد الحديث: إثبات أن جميع الخلق عباد الله لقوله: "يا عبادي" ولا شك أن الأمر كذلك {إن كل ما في السماوات والأرض إلا ءاتى الرحمن عبداً} [مريم: 93]، كل شيء، {ألم تر أن

الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} [الحج: 18]. كلها تسجد لله عز وجل تعبداً له {تسبح له السماوات والأرض ومن فيهن وإن من شيءٍ} يعني: ما من شيء {إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]. كل الخلق عباد لله عز وجل، لكنه يخاطب من هو مكلف ومن تحمل الأمانة وهو الإنسان وكذلك الجن هم مخاطبون بالشريعة كالإنس. ومن فوائد الحديث: أن الظلم في حق الله تعالى ممكن لكن الكمال عدله حرمه على نفسه وجهه أنه قال: إني حرمت الظلم على نفسي ولو كان من الأمور المستحيلة لم يتمدح الله به أن حرمه على نفسه وهذه مسألة مهمة يجب أن نعرف الفرق بين هذا وبين ما قالته الجهمية من أن الله -سبحانه وتعالى- لا يمكن أن يظلم، الظلم عنده المحال لذاته نحن نقول: بإمكان الله تعالى أن يهدر حسنة عملها الإنسان ولا يثيبه عليها وبإمكانه أن يضع عليه وزراً دون أن يعمل سيئة، هذا ممكن لكن لكمال عدله صار ممتنعاً عليه عز وجل، لأنه كامل العدل، أرأيت مثلاً عليه -والله المثل الأعلى- رجل ملك يأخذ من أموال الناس ظلماً بغير حق ثم من الله عليه بالتوبة فترك ذلك يحمد أو لا يحمد؟ يحمد، الرب عز وجل يحمد حيث حرم الظلم على نفسه ولو كان غير ممكن ما كان هناك حمد وثناء على الله تعالى بذلك. ومن فوائد الحديث: أن لله تعالى أن يحرم على نفسه ما شاء، أما نحن فلا نحرم على الله فإن قال قائل: هل أنتم تجيزون الظلم على الله عز وجل أو تمنعونه؟ قلنا: نمنعه بمقتضى الرحمة والحكمة لكن نظراً إلى أننا نمنعه بمقتضى صفاته التي اتصف بها أما من حيث العموم فإنه لا شك أنه يمكنه أن يظلم لكنه حرمه على نفسه لكمال عدله وحكمته ورحمته. ومن فوائد الحديث: إثبات النفس لله عز وجل وهذا ثابت لله أثبته هو عز وجل فقال تعالى: {ويحذركم الله نفسه} وكذلك أنبياؤه أثبتت ذلك فقال عيسى -عليه الصلاة والسلام-: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116]. وهنا وصف الله نفسه بذلك فقال: "حرمت الظلم على نفسي" فهل النفس شيء زائد على الذات أو هي الذات؟ الجواب: هي الذات، "على نفسي" أي: علي "يحذركم الله نفسه" أي: يحذركم الله ذاته، "تعلم ما في نفسي" أي: ما في ذاتي "ولا أعلم ما في نفسك" وليس هو صفة زائدة على الذات بل هو بمعنى الذات تماماً وهذا هو مقتضى اللغة العربية ولا يمنعه الشرع. ومن فوائد الحديث: تحريم التظالم بين الناس؛ لقوله: "وجعلته بينكم محرماً".

الغيبة وتغليظ النهي عنها

ومن فوائد الحديث: تحريم ظلم الكفار لأنهم داخلون في عباد الله في العبادة الكونية فظلمهم حرام. إذا قال قائل: ومن اعتدى عليك فاعتديت عليه أتكون ظالماً؟ نقول: هو ظالم أما أنت فلست بظالم، إذا لم تعتد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما" أي: على البادئ منهما إثمه ما لم يعتد المظلوم فإن اعتدى صار عدوانه على نفسه. الغيبة وتغليظ النهي عنها: 1434 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته". أخرجه مسلم. "أتدرون" أي: أتعلمون، والاستفهام هنا استفهام استعلام يعني: يسألهم لكن المراد به أن ينتبهوا وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لا علم لهم بمثل هذه الأمور الشرعية، أو يعلم أنهم يعلمونها لكن أراد التقرير، ما الغيبة؟ "الغيبة": فِعلة من الغيب وليست كما ينطقه بعض الناس الغيبة بالفتح هذا لحن مخل للمعنى والمراد: الغيبة يعني: الفعلة من الغيب وهي الهيئة، قالوا الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره" هذه كلمات جامعة مانعة، يقول الصحابة: الله ورسوله أعلم: يعني: أعلم منا وهذا الواجب على كل من لا يعلم أن يقول: الله ورسوله أعلم وهنا إشكال في قوله الله ورسوله مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي قال: ما شاء الله وشئت قال: "أجعلتني لله نداً". حيث أتى بالواو، فالجواب أن يقال: الأمور القدرية لابد أن تأتي بما يدل على الترتيب والأمور الشرعية لا تحتاج إلى أن تأتي بما يدل على الترتيب؛ لأن ما شرعه الرسول فهو ما شرعه الله من يطع الرسول فقد أطاع الله، ولهذا قال تعالى في الإثبات الشرعي: {ولو أنهم رضوا ماءتاهم الله ورسوله} [التوبة: 59]. هذا إثبات شرعي لا بأس لكن أمر كوني لا يمكن أن يشرك الله مع غيره بالواو مثل ما شاء الله وشئت وقوله: "الله ورسوله أعلم"، أعلم هل هي اسم تفضيل أو اسم فاعل؟ اسم تفضيل، وهل هي على بابها أو بمعنى عالم؟ نقول: هي على بابها والعجب أن بعض العلماء -عفا الله عنا وعنهم- يفسرون أعلم المضاف إلى الله بعالم، فيقولون في قوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124].

يقولون معناها: الله عالم حيث يجعل رسالته قالوا: لئلا يكون بين الخالق والمخلوق مفاضلة، فنقول: إذا قلت الله عالم صار بينه وبين المخلوق مساواة ولو قلت: الله أعلم صار بينهما مفاضلة أيهما أولى؟ لا شك أن أعلم أولى، فانظر إلى من حكم العقل ورجع إليه في باب الصفات كيف ينغمس فيما قررناه فيقال: الله ورسوله أعلم على بابها أنها اسم تفضيل قال: "ذكرك أخاك بما يكره" الرسول صلى الله عليه وسلم يميل في كلماته الجامعة إلى الاختصار ذكرك أخاك هذه مختصرة، وأصلها هي ذكرك أخاك، لأن ذكر هذه خبر لمبتدأ محذوف، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم عبر بهام مراعاة للاختصار ذكرك أخاك بما يكره وهنا نسأل عن قوله: "أخاك" ما الذي جعلها بالألف أهي على اللغة المعروفة التي تلزم الأسماء الخمسة الألف مطلقاً أم بسبب؟ أخاك مفعول به للمصدر "ذكر" فالمصدر هنا مضاف للفاعل وأخاك مفعولٌ به ويدلك لهذا أنك لو قلت: هي أن تذكر أخاك تنصبها، تقول: ضربك زيداً تأديب له، زيداً ما الذي نصبها؟ ظرف مصدر مضاف للفاعل، والدليل أنك تقول: أن تضرب زيداً تأديباً له، ذكرك أخاك وهو المسلم بما يكره، "بما" أي بالذي يكرهه، من خلقه أو خلق أو عمل، خلقة مثل أن تقول: هو قصير هو ضخم هو بطين وما أشبه ذلك مما يكره أن يوصف به، أو خلق بأن تقول: هذا الرجل سيئ الأخلاق غضوب انفعالي هذا يكرهه من ناحية التخلق به، أو عمل بأن تقول فلان فاسق يتعامل بالربا ويترك صلاة الجماعة، فهي إذن ذكرك أخاك بما يكره كلمة عامة بما تقتضي من خلقة أو خلق أو عمل، فقيل له: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول يعني: أنا وصفته بما هو متصف به، قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" يعني: إن كان فيه ما تقول فهذه غيبة وإن لم يكن فيه ما تقول فهو بهتان وغيبة، مثال ذلك: رجل قال: فلان عصبي يغضب لكل شيء وهو غير حاضر، هذه غيبة وهو حاضر هذه سب وهو بريء من ذلك هذه بهتان وغيبة إذا كان في غيبته، فإن قيل: هل جرى من الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هذا التعبير بأن يذكر الأهم ويحذف ما دونه؟ قلنا: نعم، وذلك فيما صح عنه أنه قال: "ليت أنا نرى إخواننا قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني". فقال: أنتم أصحابي هل معناه: ولستم إخواني؟ المعنى: أن صحبتكم أخص من الأخوة؛ لأن الصحابي من اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم مؤمناً به

فكأنه قال: أنتم أصحابي وإخواني أيضاً لكن الذين آمنوا بي ولم يروني هم إخواني وليسوا بأصحابي، هنا فقد بهته لأن البهت أعظم من الغيبة، فيكون المعنى فقد بهته مع الغيبة. من فوائد هذا الحديث: أولاً حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يلقي المسائل الخبرية بصيغة الاستفهام من أجل استرعاء الانتباه يؤخذ من قوله: "أتدرون" وهذا من حسن التعليم أن يلقي الإنسان الكلام على وجه يسترعي الانتباه. ومن فوائد الحديث: حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم حيث قالوا: الله ورسوله أعلم، وهذا واجب على كل من لا يعلم أن يقول: الله ورسوله أعلم، يجب وجوباً؛ لأنه لو اقتحم وأجاب بشيء لا يعلمه صار من القائلين على الله بلا علم، ولهذا قال العلماء: من العلم أن يقول الإنسان: لا أعلم فيما لا يعلم. ومن فوائد الحديث: جواز التشريك بالواو بين الله ورسوله فيما كان من الأمور الشرعية بخلاف القدر؛ لأن الربوبية لا دخل للإنسان فيها، ولذلك كان الناس باعتبار عبودية الربوبية كانوا كلهم سواء الكافر والمؤمن باعتبار عبودية الربوبية التي نسميها: العبودية الكونية. فإن قال قائل: هل تعدون ذلك إلى أن يقول الناس: الله والعالم الفلاني أعلم؟ الجواب لا؛ لأن هذا العالم ليس مشرعاً، الرسول صلى الله عليه وسلم يشرع ويقول عن الله والعالم ليس بمعصوم، ولهذا لا يجوز إذا سألك سائل عن مسألة دينية أن تقول: الله والشيخ أعلم لا يجوز؛ لأن الشيخ غير مشرع بخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: وهل نقول: مثل هذه العبارة بعد موت الرسول؟ نقول: مادام الأمر شرعياً فالله ورسوله ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم ميتاً أعلم منا بلا شك، وإن كان الآن لا يمكن أن نعرف ما عند الرسول لكن هو أعلم منا بشريعة الله بلا شك. ومن فوائد الحديث: مراعاة الاختصار في الكلام؛ حيث حصر المبتدأ؛ لأن الاختصار أقرب إلى الحفظ والجمل المختصرة تشتمل على معان كثيرة يكون لها رونقاً في النفس وبقاء في النفس. ومن فوائد الحديث: الاستعطاف يعني: استعمال الاستعطاف في الكلام لقوله: "أخاك لأنك" إذا شعرت بأنه أخاك فلن تغتابه، فهذه من الأساليب الاستعطافية انظر إلى قوله -تبارك وتعالى-: {والنجم إذا هوى* ما ضل صاحبكم وما غوى} [النجم: 1، 2]. يعني: الذي تعرفونه فهذه من الأساليب التي تستعطف المخاطب حتى يستقيم. ومن فوائد الحديث: جواز غيبة الكافر لقوله: "ذكرك أخاك" لكننا إذا قلنا بهذا صار معارضاً لما قررناه في الحديث الأول "وجعلته -أي الظلم- بينكم محرماً فلا تظالموا" نقول لا

شك أن غيبة الكافر ليست كغيبة المسلم وحرمة الكافر ليست كحرمة المسلم، لكن متى كانت غيبته ظلماً فهو داخل في الأول أي: تحريم الظلم ووجه ذلك أن دلالة الحديث الأول بالمنطوق ودلالة هذا بالمفهوم، والمعروف عند العلماء في أصول الفقه أن دلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم. ومن فوائد الحديث: أن الغيبة أن تذكر أخاك بما يكره ولو كان غيره لا يكره، هل نعتبر العرف العام أو الخاص؟ الخاص مادام الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ذكرك أخاك بما يكره"، بعض الناس يقول العجوز أبي عجوز أنا أقول هذا تناقض قل: وأمي عجوز وأبي شيخ {وأبونا شيخٌ كبيرٌ} [القصص: 23]. وقال: {ياويلتي ءألد وأنا عجوزٌ} [هود: 72]. إذا كان يكره أن تقول له: يا عجوز لا تقل له حتى إذا كان الناس متعارفين بينهم بإطلاق العجوز وهو يكره فلا تغتابه بهذا، ذكرك أخاك بما يكره. إن قال قائل: نجد في علماء الحديث من يسمى الأعرج والأعمى والأحول وما أشبه ذلك وهذه يكرهونها؟ نقول: الجواب أن هذا من باب التعريف الذي لا تمكن معرفة المذكور إلا به فإذا كان من باب التعريف الذي لا يمكن معرفة المذكور إلا به صارت هذه المصلحة راجحة على مفسدة الغيبة على أن الذي يقول ذلك لا يقصد غيبه وإنما يقصد التعريف به والنية لها آثر في ذلك. ومن فوائد الحديث: سعة صدر النبي صلى الله عليه وسلم للمناقشة، تؤخذ من قول الصحابة "أفرأيت إن كان في أخي ما أقول" وهذا من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتحمل المناقشة لأن المناقشة في الحقيقة تزول بها إشكالات كثيرة، لكن إذا علمت أن المناقش متعنت فهل تستمر معه؟ لا إذا عرفت أنه متعنت فامنعه؛ لأن الله قال للرسول صلى الله عليه وسلم في الذين يستفتونه من أهل الكتاب متعنتين قال: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42]. ومن فوائد الحديث: أن الغيبة محرمة ولو كان في المغتاب -وأريد اسم المفعول- ما يذكره المغتاب- وأريد اسم الفاعل- لأن كلمة المغتاب تصلح لهذا ولهذا فلابد من أن تبين مثل المختار تصلح لهذا وهذا، كيف نقدر المغتاب إذا كانت اسم فاعل؟ نقول المغتيب والمختار إذا كانت اسم مفعول المغتيب وفي المختار المختير هذا هو الأصل، لكن اللغة العربية تأبى عليك هذا نقول: إذا تحركت الياء وانفتح ما قبلها أقبلها ألفاً المختير قل: المختار، المختير قل المختار، أقول: إذا كان في المغتاب اسم مفعول ما قاله المغتاب اسم فاعل فهل تكون غيبة؟ نعم تكون غيبة، وإذا لم يكن فيه ما يقوله يكون بهتاناً.

النهي عن أسباب البغض بين المسلمين

ومن فوائد الحديث: أن أوصاف الذم إذا تعددت فإن الإنسان يعاقب عليها جميعها ولا تتداخل لقوله: "فقد بهته" ولو تداخلت لاكتفى بعقوبة ذنب واحد. ومن فوائد الحديث: التعبير بالأخص وطي ذكر الأعم، لقوله: "فقد بهته" وطوى ذكر الأعم وهو الغيبة، لكن للعلم به لأنه ليس من المعقول أنك إذا ذكرت شخصاً بما يكرهه وهو موجود فيه أن يكون غيبة، وإذا ذكرته بشيء غير موجود فيه لا يكون غيبة، هذا غير معقول. فإن قال قائل: ماذا تقولون في الغيبة أكبيرة هي أم من الصغائر؟ قلنا استمع إلى قول ابن عبد القوي رحمه الله قال: (وقد قيل صغري غيبةٌ ونميمةٌ ... وكلتاهما كبرى على نص أحمد) والصواب أن الغيبة من كبائر الذنوب، وأن النميمة من كبائر الذنوب أما النميمة فجاء فيها "حديث لا يدخل الجنة قتات" أي: نمام وأما الغيبة فيدل على أنها من كبائر الذنوب أن الله تعالى قال في كتابه: {ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} [الحجرات: 12]. هل أحد من الناس يقدم له أخوه ميتاً ليأكله هل يمكن أن يأكله؟ لا وهذا يدل على أن هذا من أقبح الأعمال حتى قال بعض العلماء: إن معنى الآية أن هذا الذي اغتيب يقدم ميتاً يوم القيامة ويوجب هذا الذي اغتابه على أن يأكله تعذيباً له كما يكلف الذي يكذب في الرؤية أن يعقد بين شعيرتين كل من يقول: رأيت كذا وكذا كذباً يوم القيامة يعطي شعيرتين ويقاول: اعقد بينهما هل يمكن العقد بينهم؟ ! ! النهي عن أسباب البغض بين المسلمين: 1435 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرامٌ دمه، وماله، وعرضه". أخرجه مسلمٌ. هذه كلها آداب عالية حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم بما سمعتم قال: "لا تحاسدوا" المعنى: لا يحسد بعضكم بعضاً، وليس المعنى لا تحاسدوا من الطرفين بل الحسد مذموم ولو من طرف

واحد، وليس بشرط أن يكون بين اثنين، وسبق لنا أن الحسد عرفه بعض العلماء بأنه أن يتمنى زوال نعمة الله على غيره، وعرفه شيخ الإسلام رحمه الله بأنه كراهة ما أنعم الله به على غيره وهذا أعم وأقرب، "ولا تناجشوا" أي: لا ينجش بعضكم على بعض في البيع، والشراء والمناجشة فسرها العلماء بأنها: أن يزيد في السلعة -أي: في ثمنها- وهو لا يريد شراءها وإنما يريد مضرة المشتري أو منفعة البائع أو الأمرين جميعاً، أما الأول: فأن ينظر إلى الذي سامها فإذا هو من أعدائه سامها بمائة فقال هذا الرجل: أنا أشتريها بمائة وعشرة هذا نجش الإضرار بالمشتري، الصورة الثانية: صاحبه يريد أن يبيع شيئاً فعرضه في المزايدة فزاد في ثمنه وهو لا يريد شراءه لكن يريد منفعة البائع. الصورة الثالثة: مركبة من الأمرين أن يكون السائم عدواً له والبائع صديقاً له فينجش من أجل الأمرين منفعة البائع، ومضرة المشتري، هناك شيء رابع ولكنه قليل الوقوع وهو أن يزيد في السلعة ليزداد الثمن له وذلك فيما إذا كان هو صاحب السلعة أو هو شريك فيها فتعرض للبيع في المزايدة ويزيد وهو صاحب السلعة من أجل منفعة نفسه، وإذا قيل: لماذا تزيد والسلعة لك؟ قال: إني موكل، ومعلوم أن الوكيل له أن يزيد وهو في قوله موكل كاذب، أو تكون السلعة مشتركة بينه وبين غيره له نصفها وللآخر نصفها، فيزيد من أجل زيادة سهمه أما لو كان يزيد في السلعة المشتركة لأنه يريد شراءها حقيقة فهذا لا بأس به، "ولا تباغضوا" أي لا يبغض بعضكم بعضاً، والغالب أن البغضاء متبادلة كالمحبة بمعنى أنك إذا كنت تبغض شخصاً فهو يبغضك، ولهذا من الأمثال المضروبة السائرة القلوب (شواهد) ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في رجز: (وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه) ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة مغيث وبريرة قال لأصحابه: "ألا تعجبون من حب مغيث لبريرة وبغض بريرة لمغيث" بريرة أمة عتقت فصارت حرة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت الآن بالخيار إن شئت أن تبقي مع زوجك فهو زوجك وإن شئت أن تفسخي النكاح فالأمر إليك" فقالت: أريد فسخ النكاح ففسخ النبي صلى الله عليه وسلم النكاح فتأثر بذلك زوجها تأثراً شديداً حتى جعل يلحقها في أسواق المدينة يبكي من شدة محبته لها وهي رضي الله عنها تبغضه بغضاً شديداً ولم ترحمه وهو يلاحقها، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع إليها وكان النبي صلى الله عليه وسلم سمحاً حسن الأخلاق فشفع لهذا الرجل إلى امرأته قال: "ارجعي إليه" قالت: يا رسول الله: إن كنت تأمرني فسمعاً وطاعةً تقدم أمر الله ورسوله، وإن كانت تشير فلا حاجة لي فيه فقال: "بل أنا مشير" فقالت: لا حاجة لي فيه [المقصود من سياق هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ألا تعجبون من حب مغيث لبريرة وبغض

بريرة لمغيث، والغالب أن القلوب تتبادل البغضاء والمحبة، "ولا تدابروا" أي: لا يولي أحدكم أخاه دبره وهذا يشمل التدابر المعنوي والتدابر الحسي، التدابر المعنوي: أن تختلف وجهات النظر وأن يبتعد كل وا حد منهما عن الآخر وأن يفسقه ويضلله ويبدعه هذا تدابر، والذي ينبغي من المسلمين أن تكون وجهتهم واحدة وأنه إذا خالف أحد في الرأي حاولوا أن يجذبوه إليهم فإن أبى فإنه لا يضر يجب ألا يؤثر اتجاه بعضهم إلى بعض، أما التدابر الحسي فمعناه أن كل واحد يولي الآخر دبره، ولهذا وصف الله أهل الجنة بأنهم على سرر متقابلين، فالتدابر منهي عنه، وعندي وإن كنت لا أجزم به كثيراً أن منه ما يفعله بعض الناس الآن إذا انتهى من الصلاة وسلم تقدم على الصف فاستدبر إخوانه، ثم إنك تشعر بأن هذا الذي تقدم يشعر بأنه يرى في نفسه شيئاً من الزهو، هذه الجلسة تدل على أن الإنسان عنده شيء من الغرور، وإن كنا لا نتهم أحداً بما في قلبه، القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، لكن لماذا بعض الناس يقول: تعبت والصف متراص؟ نقول: الأمر واسع قم إلى مؤخر المسجد أو مقدم المسجد واجلس كيف شئت أما أن تتقدم شبراً أو نحوه وتولي إخوانك ظهرك فهذا ثقيل عليهم، ولهذا بعض الناس شكا إليّ هذا الأمر قال: أنا أتضايق من هذا إذا صلى جنبي وتقدم عليَّ أتضايق، إذن التدابر ينقسم إلى حسي ومعنوي. "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" هذا أيضاً من الآداب ألا يبيع الإنسان على بيع أخيه بأن يقول لمن اشترى شيئاً بعشرة: أنا أعطيك مثله بتسعة، إنسان اشترى هذه بعشرة فذهب واحد من الناس فقال: أنا أعطيك مثلها بتسعة أو أعطيك أحسن منها بعشرة، فإن قلت: أنا أعطيك مثلها بعشرة هل هو بيع على بيعه؟ لا لأن الأول لا يردها على صاحبها هذا زيادة تكلف، لكنه لا يكون بيعاً على بيع إلا إذا كان أنقص ثمناً أو كانت السلعة أجود صفة هذا حرام وظاهر الحديث أنه لا يبيع على بيع أخيه سواء كان بعد لزوم البيع أو قبل لزوم البيع، بمعنى أنه لا فرق بين أن يكون في مدة الخيار أو بعد لزوم البيع، أما إذا كان في مدة الخيار فالتحريم ظاهر. مثل ذلك اشترى سلعة بمائة ريال وجعل الخيار له لمدة يومين فذهب إنسان إلى المشتري وقال: أنا أعطيك مثلها بتسعة أو خيراً منها بعشرة هذا واضح أنه حرام لماذا؟ لأن المشتري سوف يسرق البيع مباشرة يذهب إلى البائع ويقول: رجعت، لكن إذا كان بعد زمن الخيار يعني: بعد لزوم البيع حيث لا خيار فهل يحرم البيع على بيع أخيه؟ قال بعض العلماء إنه لا يحرم لأنه لو أراد أن يفسخ البيع لم يتمكن ولكن الصحيح أنه عام، والضرر من البيع على بيع أخيه بعد لزوم البيع هو أن يقع في قلب المشتري حسرة وندم، وهذا قد يولد في قلبه بغضاً للبائع، ويقول: غلبني خدعني ثم ربما يحاول أن يجد عيباً في السلعة ليردها على صاحبها؛

لذلك القول الراجح في هذه المسألة أنه يحرم البيع على بيعه سواء كان بعد لزوم البيع أو قبل لزوم البيع، وهل الشراء على شرائه مثله؟ نعم مثل أن يذهب إلى شخص باع سلعة بعشرة ويقول: بعتها بعشرة؟ قال: نعم، قال مغلوب: أنا أعطيك خمسة عشر هذا حرام، لأن هذا البائع إن كان قبل لزوم البيع سيذهب فوراً ويفسخ البيع، وإن كان بعد لزوم فسيقع في قلبه شيء على المشتري ويقول: خدعني غلبني، ويحاول أن يردها، هل مثله الإجارة على إجارته؟ نعم، وهل مثله الخطبة على خطبته؟ نعم وهذا أيضاً جاء في الحديث "لا يخطب على خطبة أخيه" مثاله سمع أن فلاناً خطب امرأة فذهب إلى ولي المرأة وخطبها، منه، وهو يعلم أنه إذا خطب سوف يزوجونه دون الأول فهنا حرام، فإن خطب وهو دون الأول مقاماً وشباناً ومالاً فهل يحرم؟ يحرم حتى وإن كنا نعلم أنهم لن يقبلوه. والمسألة إن أخذنا بالظاهر قلنا: حرام اصبر أنت حتى ترى وإن أخذنا بالمعنى قلنا خطبة هذا الرجل لا تؤثر شيئاً على الأول إلا إذا علمنا أنها قد تؤثر يعني غلب على ظننا أن الخطبة تؤثر؛ لأن بعض النساء ترغب في الرجل الكبير أو الرجل المعوق ابتغاء وجه الله تتزوج إنساناً معوقاً تقول: لأنني أعرف أنه لو خطب لا يريده أحد وأنا أريد أن أتزوجه رحمة به هذا ممكن، على كل حال نقول: السلامة أسلم ألا تخطب على خطبة أخيك. ومتى تجوز الخطبة؟ نقول: تجوز إذا رد الخاطب الأول، هذه واحدة يعني: علم أن فلاناً خطب وردوه فله أن يخطب فلا يقال: لا تخطب؛ لأنه ربما أعاد الخطبة مرة ثانية لأن بعض الناس إذا خطب ورد يمر شهر أو شهران ثم يرجع ويخطب مرة ثانية، فإذا علمت أنه رد فلا بأس أن تخطب، كذلك إذا أذن الخاطب الأول بمعنى أنك علمت أن فلاناً خطب المرأة فذهبت إليه فقلت: أريد منك أن تتنازل لأني أريدها فتنازل فيجوز ما لم تعلم أنه تنازل حياء أو خجلاً، فإن علمت ذلك فلا تقدم على الخطبة؛ لأن هذا الإذن ليس عن رضا، يقول: "وكونوا عباد الله إخواناً" "كونوا" فعل أمر عباد هل هي خبر كان أو هي منادى؟ تحتمل أن تكون منادى وتكون جملة معترضة بين اسم كان وخبرها وتكون إخواناً هي الخبر أي: كونوا يا عباد الله إخواناً ويحتمل أن تكون عباد خبر لكان وإخواناً خبراً ثانياً أي: كونوا عباداً لله أي: متعبدون لله على عبادة واحدة، إخواناً أي: متآخين يحتمل هذا وهذا وكل منهما صحيح، وقوله "لا" يخذله" أي: هو أن يذله في موضع يحب الانتصار فيه ترى مثلاً شخصاً متسلطاً

على آخر والثاني المتسلط عليه يحتاج إلى نصر (فيتركه) فهذا خذلان ولاسيما إذا كان الثاني يحتاج إلى نصر كأن يكون رجلاً من أهل الحسبة الذي يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فترى شخصاً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وقد سلط عليه رجل من الفساق سبه أو ضربه أو غير ذلك فتعين هذا الفاسق على خذلان هذا الآمر الناهي يكون هذا أشد، ومن ذلك أيضاً أن تكتم الشهادة في موضع يحتاج أخوك إلى أن تقيمها فإن هذا خذلان له، "ولا يحقره" يحقره: يعني يراه حقيراً سواء رأى ذلك في قلبه أو في كلامه، فإنه لا يحل للإنسان أن يحقر أخاه بل الواجب عليه أن يعليه لكن لا يرفعه فوق منزلته، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "التقوى ها هنا ويشير إلى صدره، التقوى ها هنا ثلاث مرات"، وها هنا: إشارة لكنها إشارة للمكان قال ابن مالك رحمه الله: (وبهنا أوها هنا أشر إلي ... داني المكان وبه الكاف صلا) ونقول: هناك للبعيد، هنا للقريب ها هنا للقريب؛ لأن ها هنا هي هنا، لكن دخلت عليها هاء التنبيه كما دخلت هاء التنبيه على ذا في قولك "هذا فلان" وأقلها ذا فلان، يقول: التقوى ها هنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات ثم قال: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" بحسب أي: كافٍ والباء هنا حرف جر زائد لتحسين اللفظ وهو خبر مقدم والتقدير: حقران الأخ المسلم كافٍ في الشر، وإن شئت فاجعل حسب مبتدأ، وأن يحقر خبره يعني: لك أن تجعل حسب مبتدأ، وأن يحقر خبره، وأن تجعله خبراً مقدماً وهذا هو الأصل لأن الزيادة -زيادة الحرف- في الخبر أكثر من زيادتها في المبتدأ، لا بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، وإن لم يتكلم حتى لو اعتقد بقلبه أن هذا الرجل المسلم حقير، فإن هذا يكفيه من الشر- والعياذ بالله- فكيف إذا أضاف إلى ذلك أن يتكلم بما يحقره مثل أن يقول مثلاً: أنت لا تعرف؟ أمثلك يتكلم؟ ومثل ذلك من الكلمات التي يحقر بها أخاه يقول: "كل المسلم على المسلم حرام" ثم فسر هذه الكلية بقوله: "دمه وماله وعرضه" دمه يعني: أن يعتدي عليه بالقتل أو الجرح، وماله أن يعتدي على ماله بالسرقة أو بدعوة باطلة، وعرضه أن ينتهك عرضه أمام الناس بالغيبة، ويشمل أيضاً العِرض يعني: ما يتمتع به الإنسان من الأخلاق فيأتي ويعيبه في هذا، وأعظم شيء في العرض أن يقذفه بالزنا واللواط، فإن هذا من أعظم ما يكون من انتهاك العرض. في هذا الحديث فوائد عظيمة وآداب جليلة منها: النهي عن الحسد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا"، وهل الحسد من المحرمات الصغائر أو من الكبائر؟ هو من الكبائر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والعقوبة قد تكون لحصول العقوبة أو بحصول مكروه وقد تكون بفوات محبوب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب هذا فوات

محبوب، من أقتنى كلباً إلا كلب ماشية أو حرث أو صيد انتقص كل يوم من أجره قيراط هذا أيضاً فوات محبوب، أو حصول مكروه كتوعد بالعذاب أو باللعن أو غير ذلك. ومن فوائد الحديث: تحريم المناجشة وقد سبق معناها في الشرح ولكنها ليست من الكبائر لأنه لم يرد فيها عقوبة خاصة. ومن فوائده: النهي عن التباغض وهذا يعني الأمر بالتحابب ولا يمكن أن تقوم الأمة وتتحد كلمتها إلا بالمحبة ولا يمكن لأي إنسان أن يدعي أنه مع أخيه وأنه ولي له إلا إذا كان يحبه. ومن فوائد الحديث: النهي عن التدابر لقوله: "ولا تدابروا" وهذا يقتضي أن نكون متجهين اتجاهاً واحداً وأن نتأدب في الجلوس بحيث لا يكون أحدنا مولياً ظهره لأخيه. ومن فوائد الحديث: أن هذا الدين الإسلامي أكمل الأديان في المعاملة حيث نهى عن هذه الأخلاق التي توجب الافتراق. ومن فوائد الحديث: تحريم بيع المسلم على بيع أخيه لقوله: "ولا بيع بعضكم على بيع بعض". فإن قال قائل: إذا ثبت ذلك فهل يفسخ البيع الثاني وتعاد السلعة للأول؟ الجواب نعم إذا علمنا أن هذا إنسان معتدٍّ ة وأنه باع على بيع أخيه قلنا: نفسخ البيع ونرد الصفقة إلى الأول ولكن إذا سمح من بيع على بيعه فهل يسقط الإثم ويمتنع الفسخ؟ الجواب: أما امتناع الفسخ فلا شك فيه أنه إذا سمح الذي بيع على بيعه وقال: أنا لا يهمني اشتري سلعة أخرى من مكان آخر فلا شك أن العقد يبقى، وأما الإثم، فإن قلنا: لحق الآدمي المحض فإنه يسقط الإثم وإن قلنا إنه لحق الآدمي لكنه تعلق به حق الله لكون الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقد ارتكب النهي وثبت الوزر. قلنا: إنه لا يسقط الإثم فالله أعلم. ومن فوائد الحديث: أن الواجب علينا أن نكون عباداً لله وهذا يقتضي أن نتوحد في العبادة وألا نختلف، وأن الواجب أيضاً أن نكون إخواناً وعلى هذا فلا يحل لنا أن نفرط في دين الله وعبادة الله بحيث يضلل بعضنا بعضاً ويبدع بعضنا بعضاً، بل إذا رأينا من أخينا مخالفة لنا في العقيدة أو في العمل القولي أو الفعلي فإن الواجب أن ننصحه إن كان دوننا ونناقشه إن كان مثلنا لا أن نذهب ونتكلم فيه عند الناس فيبقى هو في ضلاله وتحصل التفرقة بين الأمة، ونحن نأسف كثيراً مما حدث بين بعض الشباب حيث نرى أن بعضهم يحمل على الآخر حملاً عظيماً بدون أي مبرر لاختلاف في رأي اختلاف الرأي لا يستلزم اختلاف القلب بل يجب إذا خالفهم في رأي متبعاً للدليل يجب أن أشعر بأنه لم يخالفني السبب؟ لأنه عمل كعملي

بالضبط ولو أنني شعرت في هذه الحال أنه على باطل لكنت قد ادعيت لنفسي مقام الرسالة والنبوة، وأنه يجب عليه أن يتبع ما أقول. ومن فوائد الحديث: استعمال ما يحصل به الألفة حتى في الألفاظ وذلك بأن تستعمل الألفاظ والتي فيها الاستعطاف والحنو ولقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم". فائدة: هل يجوز أن تقول للكافر: يا أخي؟ لا تجوز المؤاخاة بين المسلم والكافر فلا يجوز أن تقول للكافر إنه أخوك، اللهم إلا في أخوة النسب فالأمر ظاهر لكن في غير أخوة النسب لا يجوز أن تقول: إنه أخي. فإن قال قائل: إن الله تعالى قال في الرسل -عليهم الصلاة والسلام- {وإلى عاد أخاهم هوداً}، {وإلى ثمود أخاهم صالحاً}، {وإلى مدين أخاهم شعيباً} قلنا الجواب: إن المراد بذلك أخوة النسب لأنه منهم ويدل لهذا قوله تعالى: {كذب أصحاب الأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيبٌ ألا تتقون} [الشعراء: 176، 177]. ولم يقل أخوهم لأن أصحاب الأيكة قوم آخرون غير أصحاب مدين، ولهذا لم يقل أخاهم. فإذا قال قائل: وهل يجوز أن أصف الكافر بأنه صديق؟ نقول: أما إذا كانت كلمتك تعني مدلولها فلا يجوز؛ لأن الله تعالى قال في القرآن: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1]. وإن كان مجرد مجاملة ولا تعني: أن القلب يعطفهم عليه ويتولاهم، فالأمر في هذا واسع، ومن ذلك الآن ما يستعمله كثير من الناس، يجد العامل البوذي الكافر أو النصراني ويقول له: صديق، لكن هذه الكلمة قد انتزع معناها، لكن الناس يستعملونها كثيراً. ومن فوائد الحديث: أن مقتضى الأخوة انتفاء هذه الأمور الثلاثة وهي الظلم والخذلان والاحتقار، وأن وجودها ينافي الأخوة الإسلامية. ومن فوائد الحديث: أن احتقار المسلم من كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم توعد عليه وقال "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"، وهذا يتفرع عليه مسألة أخرى وهي أن الواجب للمسلم على أخيه أن يراه في منزلة معظمة لا محقرة بدون مغالاة. ومن فوائد الحديث: أن مدار العمل على القلب، وأن التقوى مصدرها من القلب لقوله: "التقوى هاهنا" ويشير إلى صدره الذي فيه القلب. ومن فوائده: ما أشرنا إليه سابقاً أنه يدل على أن العقل في القلب.

استعاذة الرسول صلى الله عليه وسلم من سوء الأخلاق والأعمال والأهواء

ومن فوائده: تكرار الحديث سواء كان جملة أو كلمة أو أكثر إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأنه كرر التقوى هاهنا ولم يكرر غيرها من الألفاظ ليبين أهمية كون القلب متقياً. ومن فوائد الحديث: تحريم المسلم على أخيه من ماله ودمه وعرضه، وغير المسلم ينقسم إلى أربعة أقسام: معاهد وذمي ومستأمن ومحارب، فالثلاثة الأصناف الأولى هؤلاء محترمون معصومون وهم المعاهد والذمي والمستأمن، وأما المحارب فليس معصوماً لا في دمه ولا في ماله. ومن فوائد الحديث: تحريم هذه الأمور الثلاثة من المسلم على أخيه المسلم وأما على الكافر فكما عرفتم. استعاذة الرسول صلى الله عليه وسلم من سوء الأخلاق والأعمال والأهواء: 1436 - وعن قُطبة بن مالكٍ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم جنبني منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء، والأدواء". أخرجه الترمذي، وصححه الحاكم واللفظ له. "اللهم" أصلها: يا الله، فحذفت ياء النداء منها؛ لكثرة الاستعمال، وعوض عنها الميم؛ لأنها دالة على الجمع، فكأن الداعي يجمع قلبه على أن الله عز وجل، وأُخرت الميم تيمناً بالبداءة بذكر الله عز وجل، وهذه الكلمة "اللهم" تغني عما نسمعه من أفواه المطوفين: يا الله يا ألله، اللهم إني أسألك يا الله، اللهم ارحمني يا أله، اللهم اغفر لي يا الله، وكأن الله تعالى لا يسمعهم حتى يكرروا هذا النداء الذي لم تسمع منه في السنة أن الرسول دعا بمثل ذلك وإنما يدعو بقوله: "اللهم جنبني منكرات الأخلاق" أي: اجعلني في جانب وهي في جانب، والمراد: المباعدة؛ أي: باعد عني منكرات الأخلاق؛ أي: ما ينكر منها، وعلى هذا فتكون منكرات من باب إضافة الصفة إلى موصوفها؛ أي: الأخلاق المنكرات، والأخلاق جمع: خُلق، وهي صورة الإنسان الطبيعية لا الجسمية؛ لأن الخَلق هو الصورة الجسمية الظاهرة، والخُلُق: الصورة الباطنة المعنوية، وهي - أي: الأخلاق - جمع خُلُق، والأعمال يعني: ما يفعله الإنسان بجوارحه كالضرب والقتل والنهب وما أشبه ذلك، وكذلك الأعمال السيئة كالمعاصي والأهواء، والمراد بها: الأهواء المتصلة لأن الهوى هو الإرادة يقال: هويت كذا بمعنى: أردته، وهي - أي: الأهواء - منها ما هو منكر، ومنها ما ليس بمنكر، والذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه -إن صح الحديث- هو أن يجنبه المنكرات من الأهواء؛ لأن كل إنسان لابد له من هوى والأدواء جمع داءٍ وهو الأمراض، والأمراض بمقتضى هذا الحديث إما أمراض منكرة وهي ما خرج عن العادة سواء كانت أدواء قلبية أو أدواءً جسدية، وأما ما تجري بالعادة ويحصل للناس جميعاً من الأمراض الجسدية فهذا ليس من

المنكرات، يقول: أخرجه الترمذي وصححه الحاكم، والترمذي رحمه الله دائماً يعتني بأحاديث الأخلاق والآداب حتى إنه ينفرد بكثير منها وكذلك أيضاً الرقائق واليوم الآخر وما أشبه ذلك. من فوائد هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشرٌ مفتقرٌ إلى ربه عز وجل لا يستطيع أن يكمل نفسه، ولا أن يدفع عنها ما ينقصها، وجه الدلالة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ربه ولو كان يملك ذلك ما احتاج إلى الدعاء. ومنها: أن الأخلاق تنقسم إلى منكر ومعروف، فما كان محموداً عند الله وعند عباد الله فهو معروف، وما كان مذموماً عند الله وعند الناس فهو مذموم؛ ولهذا يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ما عده المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما عدوه قبيحاً فهو عند الله قبيح. ومنها حرص النبي صلى الله عليه وسلم على البعد عن منكرات الأخلاق وإذا أثبتنا الضد صار معناه حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التزام محاسن الأخلاق، وكذلك ينبغي لكل مسلم أن يكون حسن الأخلاق يعامل الناس بخُلق حسن. ومن فوائد الحديث: أيضاً سؤال الله أن يجنب العبد منكرات الأعمال سواء كانت من الأعمال التعبدية أو من الأعمال الاجتماعية المنكرات، التعبدية كالشرك بجميع أنواعه صغيرة وكبيرة جلية وخفية كالزنا واللواط والسرقة والسحر وشرب الخمر إلى غير ذلك، ومن الأعمال غير التعبدية ما يعده الناس فحشاً ومنكراً غير معروف بينهم فإن اللائق بالمؤمن أن يبتعد عن ذلك، ولا يقول: هذا أمر ليس بمحرم ولا أبالي بالناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال محذراً من مثل هذا المنهج: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت"؛ فالإنسان لابد أن يكون له صلة بالله عز وجل وهذا في العبادة ولابد أن يكون له صلة مع الناس؛ لأنه مدني بالطبع فلا يفعل ما ينكر عند الناس وإن كان لا ينكر عند الله. ومن فوائد الحديث: أن الأهواء نوعان: منكر، ومعروف، فمن كان هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهواه مع الله، وما كان مخالفاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهواه منكر، وقد جعل الله تعالى المتبع لهواه جعله عابداً لهواه فقال تعالى: {أفرءيت الذي اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهديه من بعد الله} [الجاثية: 23]. ومن فوائد الحديث: جواز سؤال المرء ألا يصيبه الله تعالى بمرض منكر، وهذا نوع من الدفع، فإذا نزل المرض وسألت الله أن يشفيك فهذا نوع من الرفع، والإنسان مأمور بدفع الأذى عن نفسه ورفعه عن نفسه.

المزاح بين المسلمين وضوابطه

فإذا دعاء الإنسان ألا يصيبه الله تعالى بمرض منكر ليس مخالفاً للسنة ولا مخالفاً للقدر بل هو من القدر لأن الإنسان إذا مرض فاته شيء كثير من الأعمال الجلية النافعة وضاقت عليه نفسه، وصار لا ينشرح صدره لعبادة ولا لخلق فإذا رزقه الله تعالى الصحة صار نشيطاً منشرح الصدر مطمئن القلب، المهم أنه ينبغي أن ندعو الله تعالى بهذا الدعاء تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم. المزاح بين المسلمين وضوابطه: 1437 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده موعداً فتخلفه". أخرجه الترمذي بسندٍ فيه ضعفٌ. الفرق بين المجادلة والمماراة: "المماراة" المجادلة انتصاراً للنفس، أما المجادلة: انتصار للحق فهذا ليس من المماراة المذمومة، وقوله: "أخاك" يعني: المسلم، وقوله: "ولا تمازحه" أي: لا تكثر معه المزاح وربما يقال: ولا تمازحه حين يتأذى بالمزاح، وذلك لأن المزاح مذموم في حالين: الأولى إذا كان كثيراً فإن بعض الناس لا يكاد يتكلم بكلمة إلا مازحاً وهذا غلط لأنه يذهب ويميت هيبة العبد، والثاني: المزاح المؤذي لأن بعض الناس لا يحب أن تمازحه ولو مرة واحدة بل يريد أن يكون كلامك معه على سبيل الجد، فالنهي إذا صح الحديث محمول على أحد الأمرين: الأول: إذا كان كثيراً لأن من كثر مزاحه، قل قدره في أعين الناس، أو إذا كان يؤذي صاحبه ولو مرة واحدة فلا تمازحه، وذلك حسب التجارب أن من الناس من لا يحب أن تمزح معه ولو مرة واحدة أو أن الإنسان يكون كثير المزاح كلما تكلم إنسان حوّله إلى مزح أو كلما كلم إنساناً كلمه يمزح فهذا غلط، وقد قيل: المزاح في الكلام كالملح في الطعام إن خلا الطعام عن الملح فهو فاسد وإن كثر فيه الملح فسد، "ولا تعده موعداً فتخلفه" موعداً: هنا نكرة في سياق النهي فتعم أي موعد لا تواعد أي موعد فتخلفه سواء كان يتضرر بالإخلاف أو لا يتضرر وقوله فتخلفه منصوبة بأن مضمرة بعد فاء السببية أي: فأن تخلفه. هذا الحديث يقول المؤلف: سنده ضعيف ومعلوم أن السند إذا كان ضعيفاً لزم من ذلك ضعف المتن لأن المتن صحة وضعفاً مبني على السند. وعلى هذا فتقول: السند ضعيف ويلزم من ضعف السند ضعف المتن ولكن لننظر المتن جملة جملة هل معناه صحيح؟ قوله: "لا تمار أخاك" معناه: صحيح المماراة من أجل الانتصار للنفس هذه منهي عنها؛ لأن المماراة تتطور حتى تكون ملاحاة، والملاحاة تترتب عليها العداوة

والبغضاء والكراهة حتى إن الإنسان إذا نظر إلى صاحبه أو صادفه يجد نفسه مشمئز منه وأنت في غنى عن هذا. إذن الجملة الأولى صحيحة المعنى فنأخذ بها، لا على أنه ثابتة عن الرسول بلفظها، ولكن لأن معناها تشهد له الأدلة العامة، الثاني "لا تمازحه" هذا على إطلاقه غير صحيح؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمزح ولا يقول إلا حقاً فقد جاءه رجل يطلب منه بعيراً يحمله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا حاملوك على ولد الناقة"، ولد الناقة: الفصيل الصغير يعني: الذي يرضع هل هذا يحمل عليه؟ ! الرجل استنكر قال: كيف يا رسول الله؟ قال: وهل تلد الإبل إلا النوق؟ ! الإبل: الجمال الكبار الشديدة القوية ما هو ولدها؟ الناقة فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم ولد الناقة صحيح أو لا؟ صحيح لكن على سبيل المزح قال: حاملوك على ولد الناقة، وولد الناقة لو حمل عليه الإنسان يبرك لا يستطيع المشي، لكن الرسول لم يرد هذا بل أراد أن يمازح الرجل. كذلك امرأة جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم نسيت ماذا تسأله لكنه قال: "لا تدخل الجنة عجوز" إن صح الحديث فهي كلمة عظيمة توجب للمرأة أن تتأثر تأثراً عظيماً هي عجوز لا تدخل الجنة عجوز فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: {إنا أنشأناهن إنشاءً * فجعلناهن أبكاراً} والبكر: صغيرة، المهم أن النهي عن المزح على سبيل الإطلاق لا يصح، فالحديث في هذا اللفظ لا يصح لكن هل المزح ممدوح مطلقاً أو مذموم مطلقاً؟ نقول: في ذلك تفصيل إذا كثر فهو مذموم من حيث كونه خُلُقاً سيئاً، كثير المزاح لا قيمة له ويضجر الناس ويسقط من أعينهم، وإن قل نظرنا إن خوطب به منيكره ذلك ويتأذى به فإنه منهي عنه؛ لأن إيذاء المؤمن حرام. وبقي عندنا قسم ثالث: ألا يكون كثيراً وألا يتأذى به من خوطب به، ولكن يقوله الإنسان من أجل أن يذهب الهيبة من قلوب الحاضرين ويدخل السرور عليهم؛ لأن الإنسان إذا كان يمزح زالت الهيبة الشديدة التي تحول بينه وبين الناس وصار الناس يحبونه. الثالث: "لا تعده موعداً فتخلفه" هذه جملة مطلقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آية المنافق: "إذا وعد أخلق" نحن درجنا في هذا الحديث على ما سمعتم وهكذا ندرج في كل حديث سنده ضعيف على ما سمعتم بمعنى أن توصله جملة جملة وننظر ما الذي تدل عليه الأدلة من هذه الجمل فنقبله لكن لا يحل لك أن تنسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأن سنده ضعيف. * * *

ذم البخل وسوء الخلق

ذم البخل وسوء الخلق: 1438 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق". أخرجه الترمذي، وفي سنده ضعفٌ. "خلصتان" أي: خُلقان، لا يجتمعان في مؤمن هما: البخل وسوء الخلق والبخل: منع ما يجب بذله من مال أو جاه أو عمل، وهو في الأصل منع ما يجب بذله من المال لكن يتعدى إلى ما يجب بذله من العمل ومنه "البخير من إذا ذكرت عنده فلم يصلِّ عليّ" أو من "من إذا ذُكرت عنده لم يصلِّ عليّ" فهنا ليس بُخلاً بالمال ولكن في العمل، البخيل أيضاً من يبخل بجاهه عند حاجته إليه هذا بخيل، "سوء الخلق" الخلق كما ذكرنا الجبلة والتطبع، سوء الخلق بالنهر والزجر وما أشبه ذلك، ولهذا كان المؤمن لايمكن أن يبخل بالمال مع سوء الخلق، لأنه إن وجد بذل، وإن لم يجد قال قولاً ميسوراً كما قال تعالى: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمةٍ من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً} [الإسراء: 28]. مثال ذلك رجل غني جاره إنسان يسأله شيئاً من المال فقال له: اذهب ما عندنا شيء هل هذا مؤمن؟ ليس بمؤمن كامل الإيمان، آخر غني جاءه سائل قال: الآن ليس بيدي شيء تأتيني مرة أخرى يحضر الله لك هذا بخيل لكن خُلقه حسن، قد يكون المؤمن كامل الإيمان ويبخل ولا يعطي، لكنه يقول قولاً ميسوراً، إلا أنه مع ذلك ناقص عن الكمال أن الكمال مع الغنى أن يبذل ويعطي، إنسان فقير جاءه سائل قال: اذهب ليس عندي ما أشبعت عيالي حتى أعطيك، هذا فقير لكنه أساء الخُلُق لأن منعه الإعطاء بحق؛ لأنه لا يجد لكنه سيء الخلق، آخر فقير سُئل فقال للسائل: يا أخي: أما ما عندي شيء عيالي أحياناً يبيتون جياعاً ليس عندي شيء لعل الله يرزقك من غيري هذا لا يذم بل يُحمد أنه رد رداً ميسوراً، المهم أن هاتين الخصلتين البخل وسوء الخلق لا يجتمعان في مؤمن كامل الإيمان، يقول: في سنده ضعف كأن المؤلف رحمه الله هوّن ضعف هذا الحديث بالنسبة للحديث الأول؛ لأن الأول قال بسند ضعيف فجزم بضعف السند على سبيل الإطلاق، أما هذا فقال: في سنده ضعف وهذا أهون تضعيفاً من الأول، لكن مع ذلك هذا الحديث ليس على إطلاقه لأننا لو أخذنا بإطلاقه قلنا: إن المؤمن لا يمكن أن يكون بخيلاً سيء الخلق مع أن هذا قد يكون في المؤمن وحينئذٍ يجب حمل النفي هنا على نفي الكمال.

1439 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المستبان ما قالا، فعلى البادئ، ما لم يعتد المظلوم". أخرجه مسلمٌ. "المستبان": على وزن المفتعلان وأصل المستبان: المستبان أي: اللذان يسب بعضهما بعضاً، والسبب: ذكر المخاطب بما يكره، والغيبة: ذكر الغائب بما يكره، فإذا استب الرجلان صار أحدهما يشتم الآخر قال: أنت بخيل قال البخيل: أنت أنت فاسق، قال الفاسق: أنت، أنت ظلوم، قال الظلوم: أنت، هذا سب فمن الإثم عليه؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما قالا فعلى البادئ" الإعراب المستبان مبتدأ، ما اسم موصول مبتدأ ثان، "وقالا" الجملة صلة الموصول والعائد محذوف والتقدير ما قالاه، فعلى البادئ، الفاء: رابطةً لخبر المبتدأ الثاني وعلى البادئ جار ومجرور متعلق بمحذوف التقدير فهو: على البادئ والجملة خبر المبتدأ الثاني فعلى البادئ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول الذي هو المستبان يعني: أن ما قال المستبان مما يوجب الإثم فإثمه على البادئ -على الأول- لأنه هو السبب حتى وإن كان ذلك قد انتصر لنفسه وأعاد عليه ما قال، فإن الإثم على الأول، وجه ذلك ظاهر، الأول قال ما لم يؤذن له فيه، بل قال ما نهى عنه، والثاني قال ما أُذن له فيه لأن رد السبب من قسم المباح لقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194]. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من لعن والديه" قالوا يا رسول الله: أيلعن الرجل والديه؟ قال: "نعم يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" وقوله: "ما لم يعتد المظلوم" أي: فإثمه على الظالم؛ لأن الظالم هو السبب فيكون له إثم المباشر والسبب، فالظالم هو المعتدي فعليه إثم المباشرة وهو العدوان الأول، والسب وهو العدوان الثاني؛ لأن الرد هذا من المباح بالنسبة للمراد لكن بالنسبة للمتسبب يكون إثمه عليه. يُستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: أنه لا ينبغي السب بين المسلمين، وأن من سبك فبين له أنك قادر على الرد ولكن تركته لله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصائم إن سابه أحد أن شاتمه فليقل: إني صائم لا يسكت فيظن الساب أنه ضعيف عاجز عن الرد، لكن يتكلم ويبين سبب الرد حتى يجمع بين الحسنين بين إظهار القوة، والحزم والقدرة على الرد وبين ترك هذا الشيء لله عز وجل. ومن فوائد الحديث: أن المتسبب له إثم المباشر لقوله: "ما قالا فعلى البادئ" فالراد مباشر لكن سببه البادئ أولاً، ولهذا جعل إثمه عليه.

ويؤخذ من هذا: أن المباشرة إذا كانت مبنية على السب فالضمان على المتسبب، ولهذا لو حكم الحاكم على شخص بالقتل بشهادة رجلين ثم قتل ثم قال الرجلان الشاهدان: إننا كذبنا ولكننا لم نرد قلته ولم نجد شيئاً نتوصل إليه إلا بالشهادة فشهدنا فهنا من الذي يقتل؟ يقتل الشاهدان إذا شهدا بأمر يتحتم قتله، القاضي هو المباشر بل رجال القاضي هم المباشرون بوكالة القاضي وهم مأمورون بامتثال أمر القاضي فقد فعلوا ما أُذن لهم فيه. القاضي أيضاً قد فعل ما أُذن له فيه، بل وجب عليه، لأنه يجب عليه إذا تمت البنية أن يحكم بمقتضاها فقد فعل ما يجب عليه، الآن سلسلة رجال القاضي الذين نفذوا القتل مباشرة أطلقوا الرصاص أو سلوا السيف على المقتول هؤلاء باشروه وهل أذن لهم شرعاً؟ نعم بقوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]. القاضي الذي حكم بالقتل ونفذ حكمه هل هو آثم؟ لا، بل واجب عليه أن يحكم لوجود البينة التامة عاد الأمر الآن إلى الشهود فصار الحكم كله مبيناً على شهادتهم، ولهذا قال العلماء: إذا شهد اثنان على شخص بما يوجب قتله ثم قتل ورجعا وقالا تعمدنا قتله فإنهما يقتلان. وهذا الحديث يدل على: أنه إذا كانت المباشرة مبنية على السب كان الضمان على المتسبب إلا أنهم استثنوا من ذلك ما إذا كانت إحالة الضمان على المباشرة ممتنعة فإنها تكون على المتسبب مثل أن يلقى شخص بين يدي الأسد فيأكله الأسد فهنا هل الضمان على الذي ألقى الرجل بين يدي الأسد أو على الأسد؟ على الرجل لأنه يتعذر الضمان على الأسد، كذلك إذا كانت المباشرة مبنية على السبب لأن السبب ملجئ للمباشرة، فمثلاً القاضي إذا حكم بشهادة الشهود وتنفيذ رجال القاضي ما أمر به القاضي فهنا الضمان على المتسبب لأن هذا السبب ملجئ للحكم بالقتل، القاضي لا يسعه أن يتخلف إذا ثبت عنده القتل ببينة ورجال القاضي كذلك لا يسعهم التخلف. إذن هذه المباشرة مبنية على السبب، رجل حفر بئراً في الشارع ووقف عليها رجال يشاهدونها فجاء شخص من ورائهم فدفعهم في البئر على من الضمان؟ على المباشر هو الدافع. إذا قال قائل: لولا هذه البئر لكان الذي دفعهم سقطوا على الأرض ولم يموتوا أليس كذلك؟ بلى، لكن هو دفعهم على محل يموتون فيه كما لو ألقاهم في النهر -انتبهوا وأنا أكرر دائماً أنا طالب العلم ليس الذي يكدس المسائل لكنه الذي يقرر القواعد والضوابط، لأن القاعدة تحمل فروعاً كثيرة، والضوابط تحمل جزئيات كثيرة -هذا الحديث لو قال قائل: ما مناسبته لمساوئ الأخلاق؟ نقول: لأن الحديث يدل على التحذير من البدء بالسباب. ومن فوائد الحديث: بيان حكمة الله تعالى في جزائه وعدله فيه، لقوله: "ما لم يعتد المظلوم"

النهي عن مضارة المسلم

يعني: بين الجزاء: فعليه إثم ما اعتدى به أو عليه إثم ما قاله؟ فيه احتمال، فإن قوله: "ما لم يعتد المظلوم" يحتمل أن المعنى فإن اعتدى فعليه إثم العدوان، ويحتمل أنه إذا اعتدى ارتفع إثم الرد عن الأول لقوله: "ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم" فإذا اعتدى ارتفع إثم الرد عن الأول لقوله: "ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم" فإذا اعتدى فعلى كل إثم ما قال هذا ظاهر الحديث ووجه ذلك أن الذي رد صار ظالماً لعدوانه، فلم يتحمل الأول إثم رده المستبان ما قالا فإثمه على البادئ ما لم يعتد المظلوم فإن اعتدى فهل على المعتدي إثم العدوان فقط لأنه هو الذي تجاوز به الحد، أو عليه إثم ما قال حتى فيما لم يعتد به؟ الحديث ظاهره الثاني أنه اعتدى المظلوم ارتفع إثم سبه عن الأول، مثال ذلك: رجل قال لآخر: يا فاسق! قال: أنت فاسق كافر اعتدى بقوله: كافر، فهل إثم الأول في قوله: يا فاسق فقط والثاني آثم في قوله: يا فاسق ويا كافر؟ أو نقول: إثم الأول في قوله: يا فاسق عليه وإثم الثاني في قوله يا فاسق عليه أيضاً لأنه في قوله: يا فاسق لم يعتد أما يا كافر فإثمها على الثاني لكن الذي يظهر لي أن الإثم يرتفع عن الأول باعتداء الثاني، وجه ذلك أولاً: أنه ظاهر الحديث ما لم يعتد المظلوم. وثانياً: أن المظلوم لما اعتدى تعدى ما أذن له فيه فسقطت الرخصة في حقه وصار آثماً في الكل، نظير هذا من بعض الوجوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر". فهل يعني ذلك أنها إذا فعلت الكبيرة لم تكن هذه العبادات مكفرة؟ فالجواب: نعم هذا ظاهر اللفظ لكن جمهور العلماء يقولون: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إلا الكبائر، وبين المعنيين فرق، فجمهور العلماء على الثاني أي: أنه يكفر الصغائر حتى مع غشيان الكبائر لكن الكبائر لا تكفرها هذه الصلوات. النهي عن مضارة المسلم: 1440 - وعن أبي صرمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضار مسلماً ضاره الله، ومن شاق مسلماً شق الله عليه". أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه. قوله: "من ضار مسلماً" أي: فعل ما يضر أخاه المسلم عمداً، ولهذا جاءت كلمة ضار الدالة على المفاعلة في غالب معانيها وقوله: "مسلماً" قد يقال: إنه احتراز من الكافر وأنه لا بأس بمضارة الكافر، كما سيأتي في الأحكام -إن شاء الله- وقد يقال: إن هذا بناء على الأغلب "ضارة الله" أي: ألحق به الضرر، "ومن شاق مسلماً شق الله عليه"، "شاق مسلماً" أي: فعل ما يشق عليه، شق الله عليه أي أصابه بما فيه المشقة.

وهذا الحديث فيه التحذير من هذين الخلقين وهما مضارة المسلم سواء في ماله أو بدنه أو عرضه أو أهله أو غير ذلك، المهم أن يلحقه الضرر وفيه أيضاً التحذير من المشقة على المسلمين وأن من شاق. شق الله عليه. ففي هذا الحديث فوائد: أولاً: احترام أعراض المسلمين، وجه أن منتهك أعراض المسلمين مضار بهم. ومن فوائده: أن الجزاء من جنس العمل، وأن من ضار بإخوانه المسلمين ضار الله به ولكن هل المراد ضار الله به في نفس القضية أم مطلقاً؟ الثاني هو المراد، لأن هذا المضار قد لا يتضرر بهذه القضية لكن يلحقه ضرر فيما بعد، مثال ذلك البيع على بيع أخيه المسلم مع تضرره بذلك، هذه مضارة هل يلزم من هذا الحديث أن يتضرر المسلم في نفس السلعة بمعنى أن تتلف عليه أو تنقص قيمتها أو ما أشبه ذلك؟ الجواب: لا يلزم، المهم أنه عرضة لأن يلحق الله به الضرر. ومن فوائد الحديث: حماية الله -سبحانه وتعالى- لعباده المسلمين وأنه هو نفسه يدافع عنهم؛ لقوله: "ضار الله به" ولو لم يكن من هذا -أي من الإسلام والإيمان- إلا هذه الخصلة لكانت كافية مثل قول الله تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} يعني لو لم يكن من فوائد الإيمان إلا أن الله يدافع عن المؤمن يدافع عن المؤمن يدافع عن عرضه عن ماله عن أهله عن كل ما يضره [لكان فيه كفاية]. ومن فوائد الحديث: أن الأحكام قد تقيد بالأغلب لقوله: "من ضار مسلماً" فإنه لا يعني: أنه يجوز أن يضار غير المسلمين؛ لأن غير المسلم إن كان حربياً فلا حرمة له أصلاً وإن كان معاهداً أو مستأمناً أو ذمياً فله حرمة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وحرم أذية المعاهدين". إذن يؤخذ من هذا الحديث أنه قد تقيد الأحكام بالأغلب ولا ينافي ذلك الإطلاق. ومن فوائد الحديث: إثبات علم الله وقدرته عز وجل وحكمته ورحمته وعدله، لأن مضارة الله للإنسان المضار تستلزم أن الله عليم، إذ لو لم يعلم لم يتبين له حال هذا الرجل وأنه حكيم وأنه رحيم، المهم أن هذا الفعل وهو مضارة الله يدل على عدة صفات لله. ومن فوائد الحديث: تحريم مشاقة المسلم أي: فعل ما يشق عليه، وجهة الوعيد على من شاق مسلماً، يتفرع عن ذلك أنه يجب على المؤمن سلوك الأهون في معاملة المسلمين، لأنه إذا حرم الضد وجب ضده، وهذا تحقيقه أول من يخاطب به من ولاهم الله أمور المسلمين سواء كانت الولاية عامة أم خاصة فمثلاً الأب هل يجوز أن يكلف أبناءه أو بناته ما يشق عليهم؟ لا يجوز لأنه عرضة لأن يشق الله عليه، مدير المدرسة هل يجوز له أن يلزم من تحت

المسلم ليس بذيئا ولا فاحشا ولا لعانا

يده من المدرسين والمراقبين وغيرهم بما يشق عليهم؟ لا، أمير البلدة لا يجوز أمير المنطقة لا يجوز، الأمير العام لا يجوز متى أمكن السهولة في معاملة الناس فهي الواجبة. ومن فوائد هذه الجملة ما سبق في الجملة قبلها، وهو أن الجزاء من جنس العمل. ومن فوائدها: أن من عام الناس بالسهولة، عامله الله تعالى بمثلها، وقد جاء في الحديث ما سبق، "من يسر على مسلم، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة"، وعلى هذا فينبغي لنا أن نسلك سبيل التيسير على المسلم حتى في الأحكام الشرعية إذا لم يتبين أن الاشد هو الأصوب ولهذا ذكرنا لكم قاعدة فيما سبق أنه: إذا تعارض الدليلان تعارضاً تاماً ولم يكن لأحدهما مرجح من الشرع فالأفضل أو فالأولى اتباع الأيسر وكذلك ذكرنا في خلاف العلماء إذا تعارضت أقوالهم ولم يكن لأحدها مرجح فخذ بالأيسر. المسلم ليس بذيئاً ولا فاحشاً ولا لعاناً: 1441 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبغض الفاحش البذيء". أخرجه الترمذي، وصححه. "يبغض": البغضاء ضد المحبة وهي أرق من الكراهة، وقوله: "إن الله يبغض" يعني: أنه -سبحانه وتعالى- موصوف بهذا البغض الذي يترتب عليه المجازاة والعقوبة، "الفاحش البذيء" الفحش يكون بالقول وبالفعل قد يكون الإنسان فاحشاً بفعله عندما يؤدب يوجع، عندما يمشي على شيء، يُفسد، كرجل مشى في زرع الناس فجعل يبطش بخطواته، يركض الأرض برجله حتى يفسد الزرع، أما الفحش باللسان فظاهر أن يكون الإنسان في أقواله فاحشاً جهوري الصوت غليظاً، والفحش بالقول لا شك أنه خلق ذميم، البذيء يعني: الذي له أو منه عدوان على غيره؛ ولهذا حتى في اللغة العامية الآن "مخرج" يعني: مفسد، والبذاءة بمعنى: الإفساد، تختلف بعضه شديه وبعضه يسير. من فوائد الحديث: أولاً: إثبات البغض لله لقوله: "إن الله يبغض" ومذهب أهل السنة والجماعة والسلف الصالح إثبات أن الله يبغض كما يثبتون أن الله يحب، وذهب أهل التعطيل من المعتزلة والجهمية والأشاعرة ونحوهم إلى أن الله لا يوصف بذلك وفسروا البغضاء بلازمها وهي العقوبة وقالوا: معنى يبغض أي: يُعاقب. فجوابنا على ذلك أولاً: أنهم جنوا على النص من وجهين: الوجه الأول: إخراجه عن ظاهره، والوجه الثاني: إثبات معنى له لم يدل عليه الظاهر إلا بطريق اللزوم، ثم إنهم جنوا على النص من وجه آخر من حيث التحريف وهو صرفا للفظ عن معناه بلا دليل.

ثم يقال لهم: هب أن معنى البغضاء: العقوبة فإن العقوبة لا تأتي إلا عن بُغض غذ لا يمكن أن يعاقب من كان محبوباً أبداً، وهل يقال لشخص أمسك رجلاً وجعل يضربه ضرباً شديداً وذاك يصيح: اتق الله، فيقول: الله إني أحبه كل ما تألم ضربه أكثر وقال: أنا أحبك ماذا يقول المضروب؟ يقول: إذا كان هذا مقتضى المحبة عندك فأبغضني من أجل أن يرتفع عني الضرب، هل يمكن أن الله يعاقب من لا يبغض أبداً ما يمكن. البغضاء تدل على الكراهة؛ إذا لا يمكن أن يعاقب الله على ما يحب، فصار الأمر لازماً لهم حتى لو فروا منه فإنهم لا يسلمون من ظعن الحق بظهوره. ومن فوائد الحديث: الحذر من الفُحش، وأن الإنسان ينبغي أن يكون رقيقاً طاهر القلب طاهر اللفظ. ومن فوائده أيضاً: تحريم البذاءة والحذر منها، وأنه لا يجوز للإنسان أن يكون بذيئاً، بل يكون لطيفاً حنوناً رقيقاً مألوفاً عند الناس، يألفونه ويألفهم. 1442 - وله من حديث ابن مسعودٍ رفعه: ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء". وحسنه، وصححه الحاكم، ورجح الدارقطني وقفه. قوله: "رفعه" يعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم والحديث إما مرفوع وإما موقوف وإما مقطوع، الحديث المرفوع ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف ما أضيف إلى الصحابي ولم يثبت له حكم الرفع، والمقطوع ما أُضيف إلى التابعي فمن بعده وهو غير المنقطع، المنقطع من أوصاف السند، والمقطوع من أوصاف المتن، والمنقطع يلزم منه الضعف لانقطاع سنده والمقطوع لا يلزم منه الضعف قد يكون صحيحاً بالنسبة إلى من أُضيف إليه، المهم أن قوله: رفعه يعني: إلى النبي صلى الله عليه وسلم لماذا قال هذه الكلمة رفعه؟ نقول كأن الراوي -والله أعلم- صار عنده تردد هل قاله ابن مسعود مضافاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، لكن هل قاله الرسول -عليه السلام- باللفظ نفسه، أو قاله بغير هذا اللفظ، لكن الراوي فهم أنه مرفوع، "ليس المؤمن بالطعان" هذه جملة سلبية وقوله: "المؤمن أي: الكامل الإيمان، وقوله: "بالطعان" صيغة مبالغة من طعن يطعن فهو طاعن والمراد بالطعان الذي يطعن في الناس إما بأنسابهم، وإما بأشكالهم، وإما بأعمالهم، المهم أن الطعان هو الذي يطعن في الناس أي يعيبهم، "ولا باللعان" كثير اللعن كل ما يتكلم يقول: لعنك الله أعطني القلم لعنك الله، أعطني الكتاب وإذا تأخر عليه قال له: الله يلعنك لماذا لم

النهي عن سب الأموات

تحضر؟ وهذا يوجد في بعض الناس يكون اللعن على لسانه أسهل من الذكر -نسأل الله العافية- فتجده دائماً لعاناً. كذلك "الفاحش" سبق أن الله تعالى يبغض الفاحش، "ولا البذيء" سبق أيضاً أن المؤمن ليس بالبذيء. وقوله: رجح الدارقطني وقفه أي: أنه من قول عبد الله بن مسعود، وإذا كان من قول عبد الله بن مسعود لم يكن حجة، لكن يعرض على النصوص من حيث صحة معناه، فلنعرضه: الطعان لا يقع من مؤمن كامل الإيمان، المؤمن لا يطعن في النسب ولا في الأعمال ولا في القبيلة ولا في الخلقة ولا في الخلق، المؤمن قد سلم الناس من لسانه ويده، اللعان صحيح، المؤمن ليس لعاناً قد يقع منه اللعن مرة أو مرتين لكن ليس لعاناً، والحديث في اللعان، الفاحش، المؤمن أيضاً ليس بفاحش كلامه نور هين يسير. كذلك البذيء، المؤمن ليس ببذيء والمؤمن يتحمل ما أوذي، فصار معنى الحديث صحيحاً بشهادة الأدلة له أما كونه موقوفاً أو مرفوعاً فهذا لا يضر مادام المعنى صحيحاً. النهي عن سب الأموات: 1443 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا". أخرجه البخاري. الخطاب في قوله: "لا تسبوا" يعود إلى كل الأمة، الصحابة ومن بعدهم، والأموات جمع ميت ولم يقيده النبي صلى الله عليه وسلم لا بمؤمن ولا بكافر وقوله: "فإنهم قد أفضوا" أي: وصلوا وانتهوا إلى ما قدموا من العمل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضوا إلى العمل، لأن الإنسان ينقطع عمله بموته، إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا مما استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو صدقة جارية، والعلم الذي ينتفع به، والولد الصالح الذي يدعو له، "أفضوا إلى ما قدموا" يجد ما قدمه من حين يموت بل قبل أن يموت يبشر إما بالخير- جعلنا الله وإياكم منهم- وإما بالشر- أعاذنا الله وإياكم منهم- إذن إلى ما قدموا من الأعمال، وحينئذ لا حاجة لسبهم، والمراد بذلك السب المتعلق بأعيانهم لا بأقوالهم أما بأقوالهم، فلابد أن يبين الخطأ من الصواب، ولو كان قول ميت قد مات لكن المقصود عمله بأن نقول لرجل ميت: هذا الرجل الذي مات كثير الكذب كثير السرقة، لا نقول ذلك؛ لأنه أفضى إلى ما قدم، وما الفائدة من أننا نقدح فيه؟ ! أما إذا كان قد قال وحكم حكماً شاع في الأمة فلابد أن يبين بطلان قوله، ولهذا كان العلماء يردون على من أخطأ في العقيدة أو في الفقه وإن كانوا أمواتاً.

النميمية

في بعض الروايات لهذا الحديث «فتؤذوا الأحياء»، يعني: إذا سببتم الميت آذيتم الحي وهم أهله وأقاربه يتأذون بذلك، فيكون تعليل هذا الحكم بأمرين: الأول أنه لا فائدة من ذمه وسبه لأنه أفضى إلى ما قدم، التعليل الثاني: مضرة يعني في التعليل الأول ثبتت عدم الفائدة وبالتعليل الثاني تثبت المضرة وهي إيذاء الأحياء. كأقاربه ونحوهم وقد يكون أقاربه من عباد الله الصالحين فيتأذون بذلك. من فوائد الحديث: النهي عن سبَّ الأصوات والمراد سب أعمالهم الخاصة بهم مثل أن يقول: فلان قليل الصلاة بعدما مات، فلان يرتاد بيوت الدعارة، فلان يشرب الخمر ما الفائدة؟ لا فائدة، لكن إذا كان قال قولاً خطأ فالواجب بيانه لاسيما إذا كان ممن يعتبر بقوله وينتشر بين الناس فإن الواجب بيانه حتى لا يغتر به أحد ومن فوائد الحديث: مراعاة خواطر الناس فيما يتأذون به وان كان ليس فيهم على وجه المباشرة بناء على الرواية الأخرى: «فتؤذوا الأحياء». ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يقول ما لا فائدة منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيراً أو ليصمت». لأنه لا فائدة من سب الأموات فيما يتعلق بالأمور الشخصية. لو قال قائل: أيجوز لي أن أسب رئيساً من رؤساء الكفر قد مات كأبي لهب؟ فالجواب: لا، الحديث يدل على أنه لا يسبهم باعتبار عمله الشخصي أما باعتبار إيذائه للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا نعم، يقال: هذا الرجل كان يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم لينتهي غيره عن أذية الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك يقال في كل كافر سبه العائد إليه شخصياً لعله: فنهاه عنه وأما ما كان يعود إلى المصلحة العامة كالنيل من أقواله. أو من أفعاله التي قد يُقتدى به فيها فإنه لا بأس لأن السب هنا ينصبُّ على القول أو الفعل لا على الميت. النميمية: 1444 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة قتات». متفق عليه. "القتات": النمام فقوله: «لا يدخل الجنة» أي الدخول المطلق الذي لم يسبق بعذاب وذلك أن دخول الجنة نوعان: دخول بلا حساب ولا عقاب، كما في الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن من أمتي سبعين ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب» ودخول مقيد يسبقه حساب

وعذاب، والمراد في هذا الحديث هو المطلق يعني: لا يدخل الدخول المطلق الذي لم يسبق بعذاب وقوله: «قتات» أي: نمام. - فما هي النميمة؟ النميمة: مأخوذة من نم الحديث فهي فعلية بمعنى مفعولة أي منمومة ومعنى نم الحديث أي: عزاه إلى قائله، والمراد بذلك النم الذي يقصد به التفريق بين الناس وإلقاء العداوة بينهم مثلاً: يقول فلان قال فيك كذا وكذا، وحينئذ نقول: النمام من ينقل الكلام للناس بعضهم لبعض على جهة الإفساد ينهم والتحريش والتباغض، هذا هو النمام، ووجه ذلك أن النميمة سب لإلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين، وهذا مما ينهي عنه الإسلام أشد النهي، حتى إنه حرم المعاملات التي تؤدي إل ذلك غالبا مثل: الغش والخداع والظلم والبيع على بيع المسلم والشراء على شرائه وما أشبه ذلك، والغالب أن النمام يكون كاذباً يزيد أو ينقل الحديث على غير وجهه، ولهذا قال الله تعالى: {ولا تطع كل حلاف مهين (10) هماز مشاء بنميم} [البقرة: 10، 11]. والإنسان الذي ينم إليك كلام الغير، سوف ينم عنك كلامك إلى الغير، ولذلك يجب الحذر من النمام. وقولنا في التعريف (على وجه الإفساد) يخرج به نمَّ الحديث على وجه النصيحة لأنّ ذلك ليس داخلاً في هذا الوعيد، مثال ذلك أن ترى شخصاً قد اغترَّ بشخص واصطحبه وصار يُفضي إليه أسراره وهذا الشخص يفشي أسرار صاحبه وينشرها بين الناس ويتكلم فيه، فهنا لا نقول هذه نميمة بل يجب أن تبلغ هذا المغتر بما يفعله به صاحبه وهذا من باب النصيحة وليس من باب النميمة، حتى لو أفضى إلى التفريق بينهما فإنه لا بأس به لأنه مصلحة. في هذا الحديث فوائد: أن هذه الشريعة مبنية على كل ما يكون فيه التآلف بين المسلمين، وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد بهذا الوعيد الشديد على من نَم، والنميمة سببٌ للتفريق وإلقاء العداوة. ومن فوائد الحديث: أن النميمة من كبائر الذنوب وجهه أن فيها هذا الوعيد الشديد وكل ذنب فيه وعيد في الآخرة أو حدٌ في الدنيا فإنه من كبائر الذنوب بل إن الكبيرة حدها أوسع من هذا وهي أن يقال: كل معصية رُتب عليها عقاب خاص فهي من كبائر الذنوب، أما المعاصي التي ليس فيها إلا: لا تفعل كذا، اجتنبوا كذا، حرم الله عليكم، كذا بدون ذكر عقوبة خاصة فإنها من الصغائر. فإن قال قائل: أرأيت لو أن شخصاً سألك وقال: هل قال في فلان كذا فهل يلزمك أن تخبره إذا كان قد قال فيه قولاً يؤدي إلى التنافر؟ الجواب لا، لا يلزمك، ووجه ذلك أنك منهي

كف الغضب

عن النميمة، وان سؤاله إياك خطأ أن يسألك ماذا قال في فلان؟ لقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: «لا يحدثني أحد عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر». فكيف يبحث هذا الرجل ويقول هل قال في فلان كذا؟ إذن لا يلزمك إلا إذا كان في كتمانك ضرر على هذا السائل، فهنا يتعين البيان كما لو كان هذا الرجل أسرّ إليك بأنه سوف يؤذي صاحبه أو يقتله أو يتهمه بشيء يقوم في عرضه فحينئذ لابد من البيان. كفُّ الغضب: 1445 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كف غضبه؛ كف الله عنه عذابه» أخرجه الطبراني في الأوسط. - وله شاهد: من حديث ابن عمر عند أبن أبي الدنيا. «من كف غضبه» أي: منعه، والمراد: منع ما يترتب على الغضب، وذلك لأن الغضب غريزة في الإنسان، كل إنسان يغضب، لكن من الناس من يمن الله عليه فيملك نفسه عند الغضب، وقل سبق أن النبي صلى الله سمى هذا شديداً، ومن الناس. من ينساب وراء غضبه فيحصل له بذلك شر كثير. فمن كفَّ غضبه، «كف الله عنه عذابه»، والمراد: من كفه غضبه امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا تغضب» أما من كف غضبه ترويضاً لنفسه على حسن الخلق وضبط النفس فهذا قد لا يثُاب هذا الثواب، لأن كفَّ الغضب إما أن يكون رجلٌ يريد أن يمرن نفسه علن التحمل وعدم الغضب فهذا لا شك انه خير وأنه أراد أن يمرن نفسه علن الخير، وإما أن يكف غضبه امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب» فهذا هو الذي له هذا الوعد الذي اخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه. في هذا الحديث فوائد: أولاً: الحثَّ على كف الغضب فإن انساب الإنسان مع غضبه فهل ينفذ قوله أو فعله؟ نقول: أما الفعل فينفذ فلو غضب على إنسان وضربه حتى كسر عضواً من أعضائه مثلاً فإنه يضمنه، ولو غضب فأتلف مالاً لغيره فإنه يضمنه. أما القول فإذا كان الغضب شديدا لا يملك الإنسان نفسه فيه فإنه لا يؤاخذ به ويكون قوله هذا كعدمه، وعليه فلو أن الإنسان غضب على زوجته غضباً شديداً فطلقها فإنها لا تطلق. وقد قسم العلماء - رحمهم الله - الغضب إلى ثلاثة أقسام: الغاية والبداية والوسط. أما

البداية فبالاتفاق أن قول الغاضب نافذ وأن الغضب لا يمنع نفوذ قوله، وأما الغاية فإنه لا ينفذ قوله بالاتفاق وغاية الغضب: ألا يحس الإنسان بنفسه ولا يدري أفي الأرض هو أم في السماء ولا يدري أهو ذكر الله تعالى أم سبه لا يدري. هذا نقول: حكمه أنه لا يؤاخذ بقوله إطلاقاً لأن هذا يشبه حال السَّكر. وحال الجنون، أما الثالث وهو الوسط فهذا محل نزع بين العلماء فمنهم من ألغى قوله، ومنهم من اعتبره، والظاهر إلغاؤه، وأن الإنسان إذا غضب غضباً لا يملك نفسه لكنه يدري انه في الأرض ويدري أنه يتكلم لكن شيئاً عقره حتى قال: فهذا لا عبرة به. ومن فوائد الحديث: وصف الله تعالى بالكفَّ؛ لقوله: {كف الله عنه} وهذه أعني: الصفة من صفات الأفعال، وصفات الأفعال لا حصر لها، لأن أفعال الله لا تنتهي فلك أن تصف الله تعالى بكل ما يمكن أن يقع منه - جل وعلا. فمثلاً نقول: الله مدبر متكلم باطش وما أشبه ذلك من الأفعال التي يمكن أن يتصف الله بها، أما ما لا يمكن أن يتصف الله به فهذا لا يجوز، فلا يمكن أن نقول: إن الله يخون؛ لأن الله تعالى منزَّه عن الخيانة، لكن كل ما يمكن أن يتصف الله به من أفعاله فإنه يجوز أن نصف الله به، وإن لم يرد نصه في القرآن والسُّنة. فمثلاً الكفُّ لو قال قائل: هل الله يكف؟ الجواب: نعم؛ لأنه يمنح والكف منع، وعلى هذا فقس لكن الضابط في هذا النوع أن يكون مما يمكن أن يتصف به أما ما لا يمكن فهذا لا يُوصف الله به ما لا يمكن عقلاً كالعزق مثلاً أو ما لا يمكن شرعاً كالظلم فإنه لا يمكن أن نقول: إن الله يظلم مع أنه قادر على ذلك لكنه حرمه على نفسه - تبارك وتعالى. وقوله: وله الشاهد، اعلم أن الأحاديث الضعيفة تحتاج إلى تقوية، والتقوية إما أن تكون للمتن وإما أن تكون للسند فإن، كانت للمتن سُمَّيت شاهداً بمعنى: أن يأتي هذا الحديث أو هذا المتن من طريق آخر يقوي الطريق الأول هذا يسمى شاهداً. وأما أن، تكون، في السند فهذا يُسمى متابعة بمعني: أن راوياً ضعيفاً يروي عن شخص ثم وجدنا آخر ضعيفاً يروي عن هذا الشخص أيضاً نسمي هذا متابعاً ونسمي الموافقة متابعة، ثم إن كانت من أول السند فهي متابعة تامة يعني: أن هذا روي عن شيخه الضعيف مباشرة ثم ساق السند نُسمي هذه متابعة تامة؛ لأنه تابع الضعيف في كل الإسناد وإن كانت فيمن فوق شيخه فهي متابعة قاصرة، لكن على كل حال نحن لا نحتاج في قوة الحديث أو تصحيحه إل شاهد أو متاح إلا عند الضعف.

ذم الخداع والبخل

ذم الخداع والبخل: 1446 - وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة خب، ولا بخيل، ولا سياء الملكة». أخرجه الترمذي، وفرقه حديثين، وفي إسناده ضعف. أبو بكر هو عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة رضى الله عنه وسُمَّي صديقاً لأنه صدّقّ النبي صلى الله عليه وسلم بدون أي تردد من حين ما دعاه إلى الحق لم يكن في قلبه أي تردد صدقّ وآمن وتابع رضي الله عنه. وقيل إنه سُمي صديقاً لأنه صدّقّ النبي صلى الله عليه وسلم حين تحدث عن المعراج والإسراء فإن النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة المعراج صار يحدث الناس فاجتمعت قريش إليه وقالت: سبحان الله كيف يزعم محمد أنه وصل إلى يبت المقدس في ليلة واحدة ورجع مع أنه لا يُقطع إلا في شهرين! هذا كذب ثم زد على ذلك أنه ادَّعى أنه وصل إلى السماء السابعة، وصاروا يكذبونه وصارت هذه فرصة لهم وصارت فتنة فبلغ ذلك الصديق رضي الله عنه: فقال: إن كان قاله فقد صدق فسُمَّي صدَّيقاً من ذلك اليوم، ولكن المعنى الأول أبلغ أنه ما من إنسان دعاه الرسول إلا صار في قلبه شيء إلا أبا بكر رضي الله عنه. وإذا كان أبو بكر أفضل هذه الأمة وكانت هذه الأمة أفضل الأمم صار أفضل الصَّدَّيقين منذ آدم إلى قيام الساعة. أبو بكر رضي عنه هو أفضل الصَّدَّيقين على الإطلاق، نقول في كلمة لا يدخل الجنة كما قلنا في قوله: «لا يدخل الجنة قتات» وقوله: «خب» أي: خداع، فالخدَّاع لا دخل الجنة، وقوله: «ولا بخيل» أي مانع ما يجب بذله من مال أو جاه أو علم أو عمل كما سبق، ولا سيئ الملكة أي: سير المعاملة والمراد: لا يدخل دخولاً مطلقاً فهو وعيد وقوله: «خب» قلنا: الخب هو الخداع؛ ولهذا قال: عمر لست بخبَّ ولا يخدعني الخب يعني: أنا لست خدَّاعاً ولكن عندي حزم وكياسة وفطنة لا يخدعني الخبٌ. من فوائد الحديث: تحريم الخدع بل دليل على أنه من كبائر الذنوب، فهل الخداع كله مذموم يسحق هذا الوعيد؟ لا، الخداع في موضع الائتمان هذا هو الذي عليه الوعيد يأتمنك الإنسان فتخدعه يأتمنك على سر أفضاه إليك ثم تصبح وتنشره بين الناس، يعاملك فيخدعك في العاملة، يقول: إن السلعة بُذل فيها كذا وكذا وهو كاذب، يقول: إذ السلعة طيبة الأوصاف وهو كاذب. أما الخداع في موضعه فهو محمود ويمدح الإنسان عليه، واستمع إلى قول الله تعالى: {إن

تحريم التجسس

المتفقين يخدعون الله وهو خدعهم} [النساء: 142]. والحرب خدعة. فالخدع في موطنه محمود، ودليل علن أن المخادع كان أعظم من مخادعه، ذكروا أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراد أن يبارزه رجل يسمى: عمرو بن ودّ والمبارزة مشهورة عند القتال يعني: إذا التقى الصفان؛ صف المسلمين وصف الكفار قد تطلب المبارزة أحياناً، فيطلب كل من الصفين من الآخر أن ينتخب رجلاً يقاتل خصمه وفيه فائدة وهي: أنه إذا قُتل أحد الرجلين، صار في ذلك كسر لقلوب أصحابه وتقوية لقلوب الآخرين، فطلب المبارزة عمرو بن ودّ وكان رجلاً شجاعاً، فخرج إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما أقبل عمرو صرخ علي قائلاً: ما خرجت لأبارز رجلين! هذا ذكاء فالتفت عمرو بن ودّ ظن أنه تبعه أخد، ولما التفت قضى عليه عليٌ بضربه حتى أبان رأسه عن جسده، هذا خداع لكنه محمود. لأنه في محله. هذا الرجل الذي خرج، خرج ليقتل علياً لكن عليَّا قتله بهذه الخديعة، فالخديعة في موضعها صفة محمودة لكنها في موضع الائتمان مذمومة وفيها وعيد. قال: «ولا بخيل» هذا أيضاً فيه هذا الوعيد وسبق لنا بيان البخل وأن البخل كله مذموم، «سيئ الملكة» كذلك سيئ المعاملة لا يدخل الجنة، ولكن هذا أيضاً ليس على إطلاقه لأن سوء المعاملة جائز إذا قابل به من أساء إليه؛ الدليل قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194]. {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126]. فالذي أساء معاملتك فلا حرج عليك أن تسيء معاملته. تحريم التجسس: 1447 - وعن ابن عباس رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تسمع حديث قوم وهم له كارهون؛ صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، يعني: الرصاص». أخرجه البخاري. هذا وعيد شديد - والعياذ بالله - على من قام بهذا العمل «تسمّع حديث قوم» «تسمّع» أي: صار يسارقهم السمع بمعنى: ينصت وهم يظنون أنه لا يسمع لكنه يتصيد ماذا يقولون، وقوله: «حديث قوم» المراد بقوم هنا الذين يتسارون فيما بينهم، أما الذين يجهرون فهؤلاء لم يحتاطوا لأنفسهم فلا حرج على من سمع كلامهم وهؤلاء الذين يجهرون لا يقال: لا تستمع كلامهم أو لا تستمع، ولكن يقال استمع. لكن هؤلاء القوم يسرون فجعل ذلك يتصنت عليهم من أجل أن يأخذ ما عندهم، وقوله: {وهم له كارهون} الجملة في موضع نصب على الحال من قوم حديث قوم يعني: والحال أنهم

له كارهون، ولولا الواو لقلنا: إن الجملة صفة لقوم لأنها نكرة "صب في أذنيه"، هذه جواب "من" من الصاب؟ الصاب من أمرهم الله تعالى أن يصبوا ذلك عليه، وقد قال الله تعالى. {خذوه فاتلوه إلى سواء الجحيم (47) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم} [الدخان: 47، 48] وقوله: {الآنك} يعني: الرصاص، ولا يكون صباً للرصاص إلا إذا كان مذاباً وعليه فالمراد: الرصاص المذاب. في هذا الحديث فوائد: منها: تحريم التسمع إلى قوم يكرهون أن يسمعهم أحد سواء تصنت عن طريق مكبر الصوت - لأنه توجد أشياء تكبر الصوت ويسمع الصوت من بعيد - أو من طريق الباب كأن يجلس إلى الباب يتسمع، أو يجلس قريباً منهم يتظاهر انه يقرأ يأخذ مثلاً كتاباً أو القران الكريم ويحرك شفتيه علن أنه يقرأ، فإذا رأوه يقرا ربما يأمنون ويقولون: هذا لاه عنّا وليس له حاجة بنا. ومن ذلك أيضاً أن يضع مسجلاً - بل قد يكون أبلغ لأن هناك مسجلات صغيرة علن قدر علبة الكبريت يضعها - في أماكن جلوسهم المعتاد وهم لا يعلمون، فيه أيضاً مسجلات غريبة تأتمر بأمرك إذا أمرتها، لها ذبذبات خاصة أن تكلم حولها أحد سجلت، وإن لم يكن كلام لم تسجل، فيجعل مثل هذا عندهم حتى يسترق السمع. والمهم أن طرق التسمُّع كثيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلق ولم يقل: من تسمع كذا، فيكون عاماً بكل سمع. ومن فوائد الحديث: أن التسمّع بحديث قوم يكرهونه من كبائر الذنوب، وجهه الوعيد الشديد أنه يصب في أذنيه الآنك يوم القيامة، وهل يستثنى من ذلك شيء؟ ، نعم، يستثنى من ذلك التسمع إلى العدو، فإن التسمع إلى العدو جائز، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الجواسيس (العيون) ترى ماذا يصنع العدو، فيكون الحديث ليس على عمومه، بل هو مخصوص بما إذا تسمع إلى العدو بالتحرز من خداعه ومكره. ومن فوائد الحديث: أنه لو تسمع إلى حديث قوم وهم يسرون بذلك فلا شيء عليه؛ لأنه زادهم سروراً، فلو فرضنا أن قوماً يتناجون بينهم في مسائل علمية دينية وإنسان يتسمع لهم ليستفيد ثم يخبرهم بعد ذلك انه استفاد منهم فهذا لا بأس به. ومن فوائد الحديث: أن الجزاء من جنس العمل، وجهه أنه لما كان التسمع بالأذن كان العذاب علي الأذن، ولهذا نظائر، مر علينا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أصحابه لا يسبغون الوضوء وأنهم اخلوا به في بعض الأعضاء فنادى بأعلى صوته، "ويل للأعقاب من النار"، فجعل العذاب على الأعقاب لأنها هي التي حصل بها المخالفة، وكذلك قال: "ما أسفل من الكعبين ففي النار" فجعل

العقوبة ما كانت فيه المخالفة، هنا العقوبة على ما كانت فيه المخالفة، هل يقاس على التسمع النظر؟ الظاهر نعم، فلو أن إنساناً كان بعيداً عن قوم وفي يده منظار فجعل يوجهه عليهم من أجل أن يراهم، وهم طبعاً يكرهون أن، يراهم أحد، قد يكون الإنسان مع زوجته لا يحب أن يطلع عليه أحل فهذا أيضا مثله، لكن لا أجزم أن عينيه تكحل بالرصاص يوم القيامة. لأن العذاب لا يمكن القياس فيه، أما الحكم فنعم لا شك أن هذا محرم وأنه من كبائر الذنوب. وهل مثل ذلك أن يلتقط صورتهم وهم جلوس؟ نعم وهذا أيضا قد يكون من باب أولى. لأن الصورة تحفظ وتنشر فيكون البلاء والفتنة أعظم وأكبر، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يلتقط صورة أحد إلا بإذنه، حتى لو كان يعرف أن هذا الرجل يقول بجواز التقاط للصور فإنه لا يجوز أن يلتقطه إلا بأذنه، لاسيما إذا كان يعلم أنه يكره أن تلتقط صورته. ومن فوائد الحديث: كما عدل الله هز وجل وأنه - جل وعلا - يؤاخذ المذنب بحسب ذنبه، ظاهر الحديث أن مجرد التسمع تحصل به هذه العقوبة وان لم يكشف سره فهل هذا صحيح؟ نعم صحيح فان افشي السر كان أعظم وأشد. 1448 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس» أخرجه البزار بإسناد حسن. المؤلف رحمه الله وجزاه الله خيراً ينقب عن الأحاديث من أى كتاب، البزار ليس مسنده كمسند الأئمة المشهورين، لكن جاء بهذا الحديث «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس» «طوبى» قيل: انه اسم لشجرة في الجنة، وقيل: أنه طوي فغلى من الطيب، أي: الخصلة الطوبي، أي الطيبة لمن فعل كذا وكذا، وهذا الأخير أعم من الأول، وهو أقرب. والمعنى: أن من شغله عيبه عن عيوب الناس فهذا هو الذي نال الطيب، والمعنى صحيح هل أنت سالم من العيوب؟ لا الدليل: «كل بني أدم خطاء وخير الخطائين التوابون» لا أحد يسلم من العيوب، بل من ادعى أنه سالم من العيوب فهو معيب بدعواه هذه، فهل من العقل والحكمة أن، تشتغل بعيوب الناس وتقول: ماذا قال فلان أو غير ذلك مما نهي عنه؟ نهي عن قيل وقال - أو الأولى أن تشتغل بعيوب نفسك؟ الثاني أول، اشتغل بعيوب نفسك وستجد عيوباً كثيرة، ثم ان عيوب النفس أيضا هل تشتغل بها وتيأس من رحمة الله وتستحسر ولا تحاول أن تنزع عنها أم أن المراد بالاشتغال بعيوب النفس محاولة التخلي عنها؟ الثاني يعني: أنك إذا نظرت الى عيوبك لا تنظر إليها نظر

التحذير من الكبر

إقرار أو نظر استيئاس من الإصلاح؟ لا، انظر إليها نظر مريد للإصلاح والحلي عنها، وإذا نظر الإنسان إلي عيوبه هذا المنظار فسوف يوقف، أما أن ينظر إليها ويسكت فهذا غلط، أو ينظر إليها ويقول: إصلاحها غير ممكن ويقول كلمات بها يأس هذا غلط، حاول الإصلاح ما استطعت، واعلم أنك لن تستطيع أن تصلح ما كان فاسداً بمجرد التفكير بل لابد من عمل وممارسة، وكون الإنسان أيضاً يصمد، لأن بعض الناس إذا عجز في أول مرة قال ليس هناك إصلاح ثم يستيأس ويبقي على عيوبه ولا يحاول أن يصلح، وهذا من الغلط. العيوب كل ما يعاب عليه الإنسان من حلقة أو خلق أو عمل، والإنسان لا يخلو من عيب في خلقه من عيب في خلقته من عيب في عملة، فاشتغل بعيبك عن عيوب الناس ودع عيوب الناس للناس. التحذير من الكبر: 1449 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعاظم فى نفسه، واختال في مشيته؛ لقي الله وهو عليه غضبان». أخرجه الحاكم، ورجاله ثقات. «تعاظم» أي: نزل نفه منزلة العظيم، وهدا كبر ظاهر، «واختال في مشيته» أي: مشى مشية المختال المفتخر، وهذا كبر ظاهر، فقوله: «تعاظم» هذا الكبرياء في القلب «واختال في مشيته» هذا الكبرياء في العمل في الظاهر "لقي الله - تعالى - وهو عليه غضبان" لقي الله يعني: يوم القيامة وهو أي الله عز وجل عليه أي: على هذا المتعاظم المختال "غضبان" الجملة في قوله: "وهو عليه غضبان" حال من لفظ الجلالة، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن التعاظم في النفس والاختيال في المشية إذا اجتمعا استحق فاعلهما هذا الوعيد وهو غضب الله عز وجل. ففيه فوائد منها: تحريم التعاظم في النفس، وليعلم أن الإنسان كلّما تعاظم في نفسه ازداد ضعفاً عند الله وعند الناس، وهذا من الجزاء الذي يكون من جنس العمل وكلّما ذل الإنسان في نفسه وتواضع ازداد رفعةً، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «من تواضع شه رفعه». وجاء في الحديث الصحيح: "الكبر بطر الحق وغمط الناس". إذن فالواجب أن يذل الإنسان في نفسه، لكن هل يجوز أن يُذل نفسه أمام الناس؟ لا، يذل في نفسه ولا يذل نفسه بمعنى: لا يكون أمام الناس ذليلاً فيتعرض لما لا يمكنه دفعة، يعني: من أسباب الذل أن يتعرض الإنسان لشيء لا يمكنه دفعة، فليكن عزيزاً يبتعد عن أماكن الذل، أما ان يعلو في نفسه فلا.

من فوائد الحديث أيضاً: تحريم الاحتيال في المشية كأن يمشي مثلاً متعكساً مرة يكون علن رجل ومرة يكون على رجل ومرة يكون على رجل، وتجده ينظر في كتفيه في عطفيه، وما أشبه ذلك، ففيه: تحريم الاحتيال في المشية، والاحتيال في المشية واللباس والصوت والهيئة كله حرام {إن الله لا يُحب كل مختال فخور} [لقمان: 18] من فوائد الحديث: إثبات لقاء الله عز وجل وهو لكل أحد لقوله تعالى: {يأيها الإنسن إنك كادح إلى ربك كدحاً ملقيه} [الانشقاق: 6] ويقول عز وجل: {واتقوا الله واعلموا أنكم ملقوه} [البقرة: 223]. ومن فوائد الحديث: إثبات الغضب لله عز وجل لقوله: "وهو عليه غضبان"، والغضب: صفة تحمل الغاضب علن الانتقام من خصمه: فهي صفة قوة وليست صفة نقص. واعلم أن أهل السنة والجماعة طريقتهم في هذه الصفة وأمثالها أن يثبتوها لله على وجه الحقيقة دون المماثلة، وأن أهل التعطيل كالأشعرية والمعتزلة والجهمية ينكرونها، لكن إنكار جحد بل إنكار تأويل؛ لأنهم لا يجحدون أن الله يغضب لو جحدوا ذلك لكفروا، لكنهم يثبتون الغضب إلا أنهم يؤولونه وحقيقة تأويلهم أنه تحريف للكلم عن مواضعه. يقولون: الغضب هو الانتقام أو إرادة الانتقام، انظر التفسير العجيب! فعندنا غضب وإرادة وانتقام، هم ينكرون الأول يقولون: لا يوجد غضب، فيفسرون غضب الله إما بالانتقام وإما بإرادة الانتقام، أتدرون لماذا؟ لأن الانتقام فعل بائن من الله ينزل بالمنتقم منه، فهو كالخلق فلا ينكرونه، أو إرادة الانتقام، لأنهم كانوا يثبتون الإرادة كما قال السفاريني في عقيدته: يثبتون الكلام والحياة والبصر والسمع والإرادة، يثبتون الإرادة. ونحن نقول: أخطأتم، بل الإرادة والانتقام من اثر الغضب، ودليل ذلك قوله - تبارك وتعالى: {فلما ءاسفونا انتقمنا منهم} فجعل الانتقام غير الغضب، والأسف لا يمكن أن يراد به الحزن بل هو الغضب؛ لأن الأسف يطلق على الغضب يقال: فلان آسف أي: غاضب. إذن القول الحق: أن الله موصوف بالغضب، قالوا: لا يمكن أن يوصف بالغضب؛ لأن الغضب غليان دم القلب لإرادة الانتقام. وجوابنا على هذا أن نقول: هذا الغضب هو غضب المخلوق، أما الخالق فهو وصف يليق بجلاله وعظمته لا نعلم كيفيته.

ذم العجلة

ذم العجلة: 1450 - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العجلة من الشيطان» أخرجه الترمذي، وقال: حسن. «العجلة»: الأقدام على الشيء من غير تفكير ولا تأمل، وسواء كانت عجلة في الاعتقاد أو في القول أو في الفعل، كل من يقدم على الشيء بدون تروّ فهو عجول، والعجلة من طبيعة الإنسان، لقوله تعالى: {خلق الإنسن من عجل} [الأنبياء: 37]. كأنه مكون من العجل، كما في قوله: {خلق من طين} مكون من الطين، ثم العجلة هي وصفه، {وكان الإنسن عجولاً} [الإسراء: 11]، فإذا اجتمع الأصل والوصف والشيطان - كما في الحديث - من الشيطان - صارت المسألة تحتاج الى موافقة قوية، وأن الإنسان لا يتعجل، والعجلة - كما قلنا من الشيطان: هي المبادرة بالإقدام بدون تفكير ولا تروّ، وكم من إنسان تعجل بدون تفكير ولا ترو فندم ولهذا من الأمثال المضروبة: في التأني السلامة وفي العجلة الندامة ويقول الشاعر: [البسيط] (قد يُدرك المتأني بعض حاجته .... وقد يكون مع المستعجل الذلل) (وربما فات قوماً جل أمرهم ..... مع التأني وكان الرأي لو عجلوا) إذن العجلة قد تكون محمودة، وقد تكون مذمومة، إذا كانت العجلة في موضعها فهي من المسابقة إلى الخير، وإذا كانت في غير موضعها فهي المذمومة، وهي التي تكون من الشيطان: في هذا لحديث - إن صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: دليل على أنه ينبغي للإنسان التأني في الأمور وألا يتعجل وما أكثر المستعجلين الذين إذا قصصت عليهم الحديث قالوا: كذا وكذا وردوا عليك الجواب قبل أن تستكمل هذا غلط. بل انه كان ابن عمر رضي الله عنه يحدث بحديث مع صاحب له وفي أثناء الحديث قال: ما معنى كذا وكذا: فقال له ابن عمر: انك لضخم يعني: كبير الجسم، - ولا نقول: إن كبير الجسم في العادة يكون عجلاً - قال: ما قصصت عليك إلا لأخبرك وهذا يقع كثيراً أن بعض الناس يتعجل، وعندنا من الأمثال المضروبة إذا تعجل قال له: كم بقيت في بطن أمك؟ الغالب تسعة أشهر فيقول: انتظرني تسع دقائق أو أقل.

الشؤم سوء الخلق

الشؤم سوء الخلق: 1451 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشؤم سوء الخلق». أخرجه أحمد، وفي إسناده ضعف. هنا لابد أن نعرف إعراب الجملة، «الشؤم»: خبر مقدم؛ لأن المعنى: أن سوء الخلق من الشؤم، وليس المعنى: أن الشؤم من سوء الخلق هذا هو الظاهر، لكن لو قال قائل بالعكس فله وجه، على كل حال، أن الشؤم يعني: كون الإنسان مشئوماً هو الذي يكون شيء الخلق، فسوء الخلق من الشؤم، وكم من إنسان حصل له من النكبات والبلاء بسبب اقترانه بسوء الخلق، وكم من إنسان حصل له البلاء والشر والفتنة بسبب سوء الخلق، وليس المراد بهذا: الحصر بل المراد: أن هذا من النوع، يعني: أن سوء الخلق من نوع الشؤم بدليل أن مثل هذه الصورة ترد، ولا يراد بها الحصر، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي يتردد على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان» المراد: المسكين الذي يطلق علية لفظ المسكنة وهو الذي يتعفف، قال الرسول: «إنما المسكين الذي يتعفف ... » الحديث. إذن في هذا الحديث: التحذير من سوء الخلق، وانه شؤم، ضد ذلك حسن الخلق وإذا كان شؤم الخلق محذراً منه كان حسن الخلق مأموراً به ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق»، قاله لوابصه بن معبد، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم كم من إنسان حسن الخلق واسع الصدر منشرحه، تجده يحصل له خير كثير في معاملة الناس ومعاملة الله عز وجل إن أصابه بلاء من الله صبر وصار حسن الخلق مع الله، وإن أصابه أذى من الناس صبر وصار حسن الخلق مع الناس، وكم من إنسان سيء الخلق يحصل عليه نكبات عظيمة سواء فيما يتعلق بمعاملة الله أو معاملة الخلق. التحذير من كثرة اللعن: 1452 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إن اللعانين لا يكونون شفعاء، ولا شهداء يوم القيامة» أخرجه مسلم. اللعان: صيغة مبالغة، والمراد باللعانين: كثيرو اللعان، يعني: الذي يلعن دائماً، لسانه رطب من اللعان - والعياذ بالله - هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يكونون شفعاء» أي: لا يشفعون في أحد من الناس، «ولا شهداء» أي: لا تقبل شهادتهم يوم القيامة.

ففي هذا الحديث فوائد: منها: التحذير مز كثره اللعن، لأنه ورد فيه هذا العقاب. وفيه أيضاً من الفوائد: أن كثره اللعن من كبائر الذنوب، وجه ذلك: انه استحق الوعيد بهذا الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: إثبات يوم القيامة لقوله: «يوم القيامة» وهو يوم البعث، وسمي يوم القيامة لرجوه ثلاثة: الأول: ان الناس يقومون فيه من قبورهم لرب العالمين ودليله قوله تعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 6]. الثاني: أنه تقام فيه الأشهاد لقوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهد} [غافر: 51]. الثالث: أنه يقام فيه العدل لقوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيمة} [الأنبياء: 47] ومن فوائد الحديث: إثبات الشفاعة لغير النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لو لم تثبت الشفاعة لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان اللعانون وغيرهم سواء، ولكن ليعلم أن الشفاعة العظمى خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وله شفاعات ثلاث خاصة به: الأولى: الشفاعة العظمى وهى أعظمها وأعمها وأشملها؛ وذلك أن الناس يوم القيامة في الموقف من الكرب والغم ما لا يطيقون، فيستشفعون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، إلى أن تصل إل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفع، هذه خاصة به، وهي داخلة في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} [الإسراء: 79]. الثانية: الشفاعة فى أهل الجنة أن يدخلوها، وهذه لا ينالها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثالثة: شفاعته في عمه أبي طالب، وهي الشفاعة لكافر، ولا تكون لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الكفار لا تنفع فيهم الشفاعة، لكن أبا طالب نفعت فيه الشفاعة لما حصل منه من تأييد النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته إياه والدفاع عنه، من أجل ذلك أذن الله لنبيه أن يشفع لعمه أبي طالب، ولكن هل خريج من النار؟ لا، لأن الله قال: {وما هم منا بمخرجين} [الحجرات: 48]. لكنة وضع في ضحضاح من نار علبة نعلان من نار يغلي منهما دماغه، دماغه أعلى ما في جسده ومع ذلك يغلي من نعال في أسفل جسده، وإذا كان الدماغ يغلي فما بالك بما دون الدماغ سيكون أشد غلياناً، ثم مع هذا العذاب العظيم الدائم المستمر يرى أنه أشد الناس عذاباً؛ لأنه لو رأى أنه أهون الناس عذاباً لاقتنع، لكن يري انه أشدهم عذاباً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإنه لأهونهم عذاباً»

النهي أن يغير المسلم أخاه

ومن فوائد الحديث: إثبات الشهداء يوم القيامة، والشهداء يوم القيامة أربع أنواع الملائكة والنبيون والعلماء والجوارح: الملائكة: قال الله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18) جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (19) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد (20) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (21) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (22) وقال قرينه هذا ما لدي عتيد} [ق: 17 - 23] هذا ما عندي حاضر. النبيون: قال تعالي: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة: 143]. العلماء: قال الله تعالي: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة: 143]. هذه الأمة شاهدة على من قبلها؛ لأن عندها علماً ممن سبق. الرابع: الجوارح تشهد أيضا: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24] هل هولا، اللعانون يكونون شهداء يوم القيامة؟ لا، لا نقبل شهادتهم، وهل هذا الوعيد نافذ فيمن تابوا ومن لم يتب؟ لا، من تاب تاب الله علية، التوبة تهدم نهدم ما قبلها، وهكذا جميع أنواع الوعيد من آيات وأحاديث، إذا تاب الإنسان مما فيه الوعيد فإنه يرتفع عنه، الكفار لهم نار جهنم خالدين فيها أبداً وإذا تابوا فالله يتوب عليهم، والدليل قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 28]. وما دون الكفر كذلك، وعلى هذا فكل نص فيه وعيد فهو مقيد بما إذا لم يتب منه، فان تاب منه تاب الله علية، فهؤلاء اللعانون إذا تابوا عن كثره اللعن فأنهم يكونون كغيرهم يوم القيامة، من أذن له في الشفاعة شفع، ومن أذن له في الشهادة شهد. النهي أن يغير المسلم أخاه: 1453 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله» أخرجه الترمذي وحسنه، وسنده منقطع. "عير" بمعنى: عاب، والذنب: المعصية أو مت يكون به الإثم، وقد يقال: إنه أعم من ذلك فيكون من عيره بذنب أو خلقة أو خلق لم يمت حتى يعمله جزاء وفاقاً، أي: أن هذا الذنب يدرك هذا المعيب [فلا يموت حتى يعمله]، لكن الحديث يقول: إسناده منقطع، والذي إسناده

التحذير من الكذب لإضحاك الناس

منقطع يكون ضعيفاً؛ لأن من شرط صحة الحديث: أن يكون متصل السند، وكذلك من شرط كونه حسناً: أن يكون متصل السند، فإذا كان منقطعاً فإنه يكون ضعيفاً، لكن هل المعنى صحيح؟ قد يبتلى الإنسان يما عير به أخاه وقد لا يبتلى، والواقع ليس شاهدا لا لهذا ولا لهدا لآن الإنسان أحياناً يعير آخاه بذنب أو بذنوب ثم لا يكون عليها - أي- لا يأتيها، وأحياناً يبتلى بذنوب بدون تعيير، ومن أجل ذلك نقول: الحمد لله أن الحديث ضعيف لا في مرتبة الصحة ولا مرتبة الحسن، لكن لا شك أن تعيير أخيه بذنب عدوان عليه وإيذاء له، وقد توعد الله تعالى الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا بأنهم قد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً. التحذير من الكذب لإضحاك الناس: 1545 - وعن بهر بن حكيم، عن أبيه، عن جده: قال: قال رسول الله صلى الله «ويل للذي يحدث فيكذب؛ ليضحك به القوم؛ ويل له؛ ثم ويل له». أخرجه الثلاثة، وإسناده قوي. "ويل": هذه كلمة دعاء ووعيه؛ ولهذا جاز الابتداء بها وهي نكرة، كقولك: سلام عليك، لما كانت دعاء صح الابتداء وهر نكرة، وكذلك "ويل" صح الابتداء بها وهي نكرة؛ لأنها كلمة وعيد ودعاء، وقيل: إنه واد في جهنم، ولكن هو يستعمل في هذا، وفي هذا قد يكون وادياً في جهنم إذا عوقب به شخص معين، وأما إذا كان على سبيل العموم فالظاهر أنها كلمة وعيد مطلقا. وقوله: "الذي يحدث" أي: يحدث الناس، فالمفعول به محذوف، "فيكذب" الكذب: بالإخبار بخلاف الواقع، «ليضحك به القوم» يعني: ليس لحديثه أصل، ولكن من أجل أن يضحك به القوم، فيقول: «ويل له تم ويل له». ففي هذا الحديث. دليل على أن الكذب لإضحاك القوم محرم، بل من كبائر الذنوب؛ لأنه توعد عليه بالويل. ومن فوائد الحديث: أن ما يقع قي التمثيليات من ذكر أشياء لا حقيقة لها وتُنسب الى شخص فإن هذا داخل في الحديث. ومن فوائد الحديث: تكرار الكلام للتوكيد؛ لقوله: «ويل له ثم ويل له» وهذا التوكيد توكيد لفظي؛ لأنه إذا أعيد التوكيد بلفظ مؤكد فهو لفظي، وأن أعيد بمعناه أو بالأدوات المعروفة

كفارة الغيبة

فهو معنوي، [والكذب منه ما هو خير] ومنة ما هو شر، من كذب ليصلح بين الناس فهو خير، ومن كذب في الحرب وموه على العدو بأن الجمع كثير والعدة قوية فهو خير، ومن كذب على امرأته بشيء لا يمكن أن تطلع فيما بعد أنه كذب من أجل الإلفة والقربة منها فهو خير، ولهذا أبيح الكذب في هذه الثلاث، ثم إن الكذب قد يكون أشد ذكر في هذا الحديث إذا تضمن أكل مال بالباطل فإنه يكون فيه مفسدتان: المفسدة الأولى: مفسدة الكذب، والمفسدة الثانية: مفسدة الأكل بالباطل؛ إذن العموم ليس له مفهوم. كفارة الغيبة: 1455 - وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كفارة من اغتبته أن تستغفر له» رواه الحارث بن أبي أسامة بسندٍ ضعيف. "كفارة" الكفارة بمعنى: الساترة، يعنى: ستر الذنب الذي ارتكبه من اغتاب صاحبه أن يستغفر له؛ أي: لمن اغتابه، فيقول: اللهم اغفر له. وهذا الحديث - كما ذكره المؤلف - إسناده ضعيف، ولكن معناه له وجهة نظر إلا أنه لابد من التفصيل، فيقال: إذا اغتاب شخصاً فعلم فلابد أن يستحله؛ بأن يذهب إليه ويقول: إني اغتبتك وأطلب منك أن تُحللني؛ لأنه لما علم به صار متعلقاً به ولابد ان يستحله، وأما إذا لم يعلم به وليس مظنة أن يعلم به في فهنا يستغفر له، وجه ذلك: أن هذا الذي اغتاب ارتكب ذنباً فجزاؤه أن يستغفر لأخيه عن ذنوبه حتى يكافئه، ثم هناك أيضاً شيء آخر من الكفارة وهو: أن يذكره بالخير في المجالس التي اغتابه فيها أخذاً بقوله تعالى: {ن الحسنت يذهبن السيئات} [هود: 114]. 1456 - وعن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه: «أبغض الرجال إلي الله الألد الخصم» أخرجه مسلم. "أبغض الرجال": هذه صيغة تفصيل من البغض وهو: الكراهة، وقوله: "الرجال" هذا من باب التغليب، وإلا فالمرأة مثله، لكن لما كانت المرأة ضعيفة في الخصومة كما قال الله تعالى

5 - باب الترغيب في مكارم الأخلاق

عنها: {أومن ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف: 18] كان ذكر الخصومة في جانبها لا حاجة له، وقوله: "الألد" يعني: الصعب الذي كلما ذكرت له شيئاً حملة على محمل أخر، أو قال: نعم هذا صحيح لكن ربما، فهذا الألد مأخوذ من لدودة الوادي؛ أي: جانبية؛ لأنه كلما حملته على جانب حوله الى جانب آخر و "الخصم" يعني: الذي يخصم غيره لكن بالباطل، وأما الذي يخصم غيره بحق فهذا حق وليس مبغوضاً الى الله عز وجل، وهذا يقع كثيراً خصوصاً فيمن أعجبوا بأنفسهم ورأوا أنهم أصحاب الرأي والعقل والعلم، فتجدهم إذا حاجهم أحد في ذلك جعلوا يأتون بالأشياء البعيدة والاحتمالات البعيدة من أجل إقحام الخصم والانتصار لأنفسهم. ففي هذا الحديث فوائد: أولاً: إثبات البغض لله عز وجل، وأن بغض الله تعالي يتفاوت لقوله: "أبغض"، وقد مر علينا أن البغضاء ثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة، ومنه: {كبر مقتاعند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 3]. ومنها: أن الأعمال السيئة تتفاوت بالقبح لقوله: "أبغض" كما أن الأعمال الصالحة تتفاوت في الحسن والمحبة. ومن فوائد الحديث: أن اللدود الخصم مكروه عند الله، وهذا يقتضي أن يكون الاتصاف بهذه الصفة حراماً. فإن قال قائل: إذا كان هذا يحاج لإثبات الحق وإبطال الباطل؟ قلنا: هذا محبوب عند الله، وليس هذا ممن يتصف بهذه الصفة. لأنه ليس ألد خصم، ولكنة يريد الوصول الى الحق. 5 - باب الترغيب في مكارم الأخلاق أردف هذا الباب بما قبلة؛ لأن الأولى تقديم التخلية على التحلية. بمعنى: أن ننظف المكان ثم نأتي بالصفات الطيبة، فليتخلى الإنسان أولاً عن مساوئ الأخلاق ثم بعد ذلك يتحلى بالمكارم حتى ترد المكارم على محل خالٍ من المساوئ. الترغيب في الصدق: 1457 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند

الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلي النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً». متفق عليه. قوله: «عليكم بالصدق»، يسميه أهل النحو بالإغراء، أي: الحث بشدة، الصدق في العقيدة، الصدق في القول، الصدق في العمل، فهو شامل لهذه الأقدم الثلاثة. الصدق في العقيدة: هو إخلاص العبادة لله وحده، والبعد عن الشرك خفيه وجلية، وكذلك إتباع السلف بما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات. الصدق في الفعل: أن يكون مطابقاً لما جاءت به الشريعة. الصدق في القول: أن يكون مطابقا للواقع، إذا حدث عن شيء حدّث عن أمر واقع لا يتغير. ثم قال: "فإن الصدق يهدي إلي البر" هذه الجملة تعليل لما قبلها؛ يعني: أنه حث على الصدق، لأنه يهدي الى هذه الغاية الحميدة، وهي البر، والبر جماع الخير كله، "وان البر يهدي إلي الجنة" وهذه المرحلة الثانية؛ يعني: أن الإنسان إذا كان من الأبرار كان مستحقاً لدخول الجنة، وكل إنسان مؤمن فان غايته الوصول إلي جنات النعيم -حقق الله لنا ولكم ذلك. "وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق"، "ما يزال" هذه من أفعال الاستمرار؛ يعني: أنه إذا استمر يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وقوله: "يصدق" أي: يقول الصدق: اليقين، "يتحرى الصدق" أي: يلتمس الصدق فيما يغلب على ظنه؛ لأن التحري هو سلوك الطرق التي توصل إلى غاية الظن، "حتى يكتب عند الله صديقاً" أي: يكتب من الصديقين عند الله عز وجل، واعلم أن الصدوق يكون مقبولاً عند الناس معتبراً بينهم لا يحتاجون إلي تفكير في قوله، بل يقبلونه ولا يردون شيئاً منه؛ لأنه معروف بالصدق، وهذا من الجزاء العاجل. "وإياكم والكذب" هذا تحذير من الكذب، "فإن الكذب يهدي إل الفجور" والفجور ضد البر، قال تعالى: {كلا إن كنت الفجار لفى سجين} [المطففين: 7]. وقال في مقابلة ذلك: {كلا إن كنت الأبرار لفى عليين} [المطففين: 7] "فإن الكذب يهدي إل الفجور، وإن الفجور يهدي إلي النار" كما قال تعالى: {وإن الفجار لفى جحيم} [الانفطار: 14] فالفجور يوصل إلي النار، "وما زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" من الكذابين، والكذابون جزاؤهم النار.

في هذا الحديث: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مكارم الأخلاق وعلى التحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن مساوي الأخلاق، فيستفاد الحكم الأول من قوله: "عليكم بالصدق"، ويستفاد الحكم الثاني من قوله: "إياكم والكذب" ومن فوائد الحديث: فضيلة الصدق وأنة يهدي إلى البر وهو ظاهر من الحديث، والإنسان الصدوق معتبر عند الناس حتى إنه ليبقى ذكره بين الناس وان كان قد مات منذ أمد بعيد. ومن فوائد الحديث: أن الأعمال الصالحة يقود بعضها إل بعض لقوله: "يهدي إلي البر" وهو كذلك، ووجهة: أن الإنسان إذا صبر على الطاعة تمرن عليها وصارت كالغريزة له وسهل عليه أن يسابق في الخيرات. ومن فوائد الحديث: إثبات الجنة لقوله: "يهدي إلي الجنة". ومن فوائد الحديث: أن للجنة أعمالاً توصل إليها، ويُعرف ذلك بالكتاب والسنة. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان كلما كان صدوقاً متحرياً للصدق كتبه الله تعالى صديقاً، وكما نعلم جميعاً أن الصديقية أعلى مراتب الخلق ما عدا النبوة؛ يعني: يكون في الطبقة الثانية من طبقات الذين أنعم الله عليهم. ومن فوائد الحديث: التحذير من الكذب لقوله: "وإياكم والكذب". ومن فوائده: أن عاقبه الكذب وخيمة وهو يؤدي إلي الفجور. ومن فوائده أيضا: ان الفجور طريق إلى النار كما قال صلى الله عليه وسلم: "وإن الفجور يهدي إلي النار". ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا تعودّ الكذب وتحرى الكذب كتب عند الله من الكذابين ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا تحرى الصدق فإنه لا يأثم وإن تبين أنه مخالف للصواب لقوله: "يتحرى"؛ وهذا عام في كل شيء حتى في الأيمان والطلاق وغير ذلك، إذا تبين أن كلامه على خلاف الواقع وهو يظن أنه خلاف الواقع فإنه لا يترتب عليه إثم ولا حكم شرعي، مثال ذلك: رجل طلّق زوجته بناء على أنها كلمت أجنبياً وتبين أنها لم تكلم أجنبياً فلا شيء عليه؛ يعني: لا طلاق عليه، رجل آخر قال: والله ليقدمنّ فلان غداً، يخبر عما في قلبه وعما في ظنه، ثم لم يقدم فلا حنث عليه ولا شيء عليه؛ لأنه بنى على غالب ظنه وظن أن هذا هو الصدق، ومن ذلك أيضا إذا قال لامرأته: إن كلمت فلاناً فأنت طالق، في فكلمت رجلاً يظنه إياه، فقال لها: كلمت من علقت طلاقك عليه أنت طالق، ثم تبين أنها كلمت غيره فإنه لا طلاق عليه. الهم: ان كل من أخبر بشيء يظنه صدقاً فهو قد تحرى الصدق فلا إثم عليه ولا كفارة

حقوق الطريق

فيما إذا بان خلاف ظنه، في الكذب نفس الشيء نقول: الإنسان إذا حدث بكذب يعلم أنه كذب أو يغلب على ظنه أنه كذب فإنه واقع في الإثم. 1458 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث». متفق عليه هذا الحديث سبق في باب الترهيب من مساوئ الأخلاق، ولا أدري ما وجه سياقه له مرة أخرى، وهو أيضاً في باب الترغيب في مكارم الأخلاق، لكن لعل المؤلف رحمه الله ذهب وهمة حين ذكر: : «إياكم والكذب» وهذا من مساوئ الأخلاق ذكر بعده: «إياكم والطن»، وإلا فالعهد قريب، كونه رحمه الله يعيده مع قرب العهد فيه نظر. لكن الظاهر - والله أعلم، أن هذا واقع في هذا المكان على سبيل الوهم. حقوق الطريق: 1459 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إياكم والجلوس على الطرقات. قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا نتحدث فيها. فال: فأما إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حقه؟ قال: غض البصر، وكف الأذى, ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر». متفق عليه. "وإياكم والجلوس" هذا من باب التحذير، وقوله: "على الطرقات" جمع طريق، وهو أخص من الأسواق. لأن الأسواق تشمل الطرق وغير الطرق، أما الطرق فهي للأسواق المسلوكة، وقوله: "الجلوس على الطرقات" يشمل ما إذا كان جالساً وحده أو جالستا مع غيره، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها"، "ما": نافية، و "لنا بد" مبتدأ وخبر، ولا نقول: إنه خبر "ما" أو اسم "ما"؛ لأن ما هنا لا تعمل، لماذا؟ لعدم الترتيب، و "ما" الحجازية لا تعمل إلا إذا تقدم اسمها على خبرها، ومعنى: "ما لا بد" أي: لا مناص لنا ولا مفر من الجلوس، وقالوا ذلك ليس اعتراضيا على تحريم النبي صلى الله عليه وسلم من الجلوس على الطرقات، ولكنة بيان للحاجة إلى الجلوس، لعل النبي صلى الله عليه وسلم يذكر حالاً أخرى تهون ما أراد، فلما فهم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأنة لابد لهم منها قال: "فإما إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقه"، لم يقل: فأما إذا أبيتم فقد عصيتم، لأن الأمر الأول للإرشاد؛ يعني: التحذير الأول للإرشاد، "فإذا أبيتم" أي: امتنعتم "فأعطوا الطريق حقه"، وبهذا علم أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الجلوس على الطرقات خوفاً من عدم إعطاء الطريق حقه،

ووجه النهي: أن الإنسان إذا جلس على الطرقات فإنه يتعرض للفتنة، قد تمر في الطريق امرأة حسناء فتتعلق نفسه بها، قد يمر رجل معه حاجة لأهله يكره ان يطلع عليه أحد فيطلع عليه هذا الرجل، قد يمر به أعرج أو أعمى أو أبكم أو أصم فيؤدي ذلك إلى الاستهزاء والسخرية به، المهم: أن الجالس على الطريق معرض نفسه لأشياء كثيرة، كذلك أيضاً إدا جلس وحده فإنه عرضة لان ينتهك عرضة؛ لان الناس سيقولون: لماذا هو جالس هنا؟ أهو جاسوس أم هو يترقب النساء أو غير ذلك؟ لهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الجلوس على الطرقات. قال: "فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: غض البصر، أن يغض الإنسان بصره عن المارة سواء كان رجلاً أو امرأة، صغيراً أو كبيراً، معه حاجة أم لم يكن معه حاجة، غض البصر ومن مر بك لا تلتفت إليه لا تتبعه بصرك، خلافاً لبعض الناس تجده إدا جلس في الطريق من أول ما يقبل الرجل وعينة به وهو ماشٍ معه حتى يخجله، هذا أساء إلى المارة، كل من يرى أن شخصاً قد ركز عينية فسوف يخجل، وربما إذا أصيب بشيء يقول: هذا الرجل قد عاينني، ولو لم تكن هناك هذه الاحتمالات فإن غض البصر أمر لابد منه. الثاني: "كف الأذى" القولي والفعلي، القولي: بأن يعيره إذا مر، والفعلي: أن يمد رجله ليعثر بها أو يأخذ حصاة يضعها في طريقة أو غير ذلك، أو إذا مر به وعلية مشلح مثلاً جذب طرف مشلحه، المهم: الأذى يشمل الأذى التولي والأذى الفعلي. ومن ذلك: أن يقول إذا مر عليه احد: عرفناك يا فلان معك اليوم كذا وكذا من الحاجات، معك لحم، معك خبز، معك كذا، هذه أيضا من الأذية القولية. "ورد السلام" لم يقل: والسلام، لأن الجالس يسلَّم عليه ولا يسلم، وإذا مر بك أحد سلم، فمن حق الطريق أن ترد عليه السلام، وقد سبق ذكر كيفية الرد مفصلاً تفصيلاً لا حاجة لإعادته هنا، فإذا لم يسلم فهل من حق الطريق أن أسلم عليه؟ لا، من حق الطريق أن أنصحه وأقول: سلّم يا فلان، فأذا مر بي ولم يسلم قلت: سلم يا فلان. قال: السلام عليكم هل يجب علي الرد أو لي أن اعذره بترك الرد؟ نقول: رد، وحينئذ تكون قد تألفته بالرد. "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وهذا من أهم حق الطريق: الأمر بالمعروف، إذا رأيت ماراً متجاوزاً للمسجد مره وتقول له: يا أخي، أدخل المسجد صل، ولكن أنت جالس على الطريق تنتظر الإقامة والإنسان لا حرج عليه أن يجلس ينتظر الإقامة إذا لم يكن في ذلك مفسدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالسعي إلي الصلاة إذا سمعنا الإقامة، فهذا إنسان مثلاً جالس على الطريق يجلى ينتظر الإقامة فمر به رجل وذهب عن المسجد وهو يعرف أن هذا الرجل

لن يصلي، فتقول له: يا فلان، ادخل ومن الأمر بالمعروف ما سبقت الإشارة إليه أن تأمره بالسلام إذا لم يلم، والنهي عن المنكر مثل: أن يمر إنسان في الطريق وقد أسبل ثوبه، فهذا منكر من حقه عليك ومن حق الطريق عليك أن تنكر عليه، لكن هل أصرخ في وجهة: يا مسبل، ومعلوم لو قلت هكذا فلن ينظر الله إليك؟ الجواب: لا أقوم معه وأتكلم برفق وأقول: هذا حرام عليك، وكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين رأى شاباً من الأنصار جر ثوبه قال: "يا أبن أخي، ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأبقى لثوبك" هذه كلها من الحقوق الواجبة. هناك حقوق أخرى لكنها على سبيل التطوع وهي إعانة المستعين بقوله أو بحاله، مثلاً سيارة مرت بالطريق وتعطلت هذا يحتاج إل مساعدة إما دفع أو أي شيء أخر هذا من حقه، ولكن هذا ليس خاصاً بالطريق أو غيره، إعانة المستعين بمقاله أو حالة هذه من الأمور المطلوبة وهي من حق المسلم على المسلم، هداية الأعمى من حق الطريق، رأيت رجلاً أعمى أتى وتجده يتلمس ولا يهتدي للطريق. فمن حقه أن تهديه إلي الطريق، وأنت في ذلك مأجور، المهم: له حقوق كثيرةء وكان الرسول صلى الله عليه وسلم اقتصر على هذه؛ لأنها أمور واجبة. ما وجه كون هذا الحديث داخلاً في مكارم الأخلاق مع أن فيه التحذير: 0"إياكم والجلوس"؟ الجواب: إذا قام الإنسان بهذه الحقوق فهي من مكارم الأخلاق. فإن قال قائل: الأفضل لي أن أبقر في بيتي أو ان أجلس في السوق؟ قلنا: إذا كان يمكنك البقاء في البيت فهو أفضل؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - إنما أذن لهم حين قالوا: "ما لنا بدٌ من مجالسنا"، أما من كان لا يبالي جلس في السوق أو في بيته فبيته أفضل وأبرأ لذمته؛ لأنه ربما يجلس في الطريق ولا يعطيه حقه، وربما يتهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما لا يغض البصر، تمر به امرأة جميلة شابة لا يملك نفسه، فبيته أسلم، لكن إذا كان لابد فلابد من إعطاء الطريق حقه. وإذا جلس في الطريق هل له أن يأكل ويشرب في الطريق؟ هذا حسب العرف، العرف الآن بالإمكان أن يأكل ويشرب، تجدهم على عتبات الدكاكين جالسين يشربون الشاي، وربما يكون معه ما يؤكل من بسكوت أو غيره هذا لا بأس به. ومن فوائد الحديث: حرص النبس صلى الله عليه وسلم على السلامة والبعد عن الفتنة وجهه: التحذير من الجلوس على الطرقات.

ثانيا: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على كف الأذى، لأن من الحكمة عند النهي عن الجلوس في الطرقات ألا يتأذى أو يؤذي. ومن فوائده: جواز مراجعة العالم فيما يقوله، وجهة: أن الصحابة راجعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو المطاع في أمره صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك راجعوه. ومن فوائده: أن الإنسان إذا راجع في أمر فإن المشروع في حقه أن يبين العذر والسبب لقولهم، "ما لنا بد من مجالسنا". ومن فوائد الحديث: حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث علم أن هذا إباء مفهم لكنة مبرر بالحاجة لقوله: "فأما إذا أبيت"، وهذا لا شك أنه من حسن الخلق، وإلا لأكد عليهم وقال حذرتكم فلا تجلسوا، لكن من حسن خلقه قال هذا. ومن فوائد الحديث: مراعاة الأحوال، وأن الأحكام قد تختلف بحسب الأحوال؛ حيث قالوا: "ما لنا بدٌ من مجالسنا" فرخص لهم، مثلاً: إذا قلت هذا حرام، ثم رأيت أن من الضرورة أن تحله لهذا الشخص في نطاق الشريعة فلا بأس حلله ولو كنت في الأول حرمته. ومن فوائد الحديث: أنه إذا تنازل الإنسان عن مفسدة فلا بد أن يذكر ما تخف به هذه المفسدة أو تزول، وجهة. أنه قال: "إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه: حتى تزول المفسدة. ومن فوائد الحديث: أنه يجب على من جلس على الطرقات أن يغض بصره عن الناس خوفاً من أن يفتتن أو يؤذي غيره. لأنه إن كان الشيء فاتناً فإنه يخشى عليه من الفتنة، وان لم يكن فاتتا فإنه يخشى عليه أن يؤذي غيره، ومن فوائد الحديث: وجوب كف الأذى على الجالس في الطرقات كغيره، لكن لما كان الجلوس على الطريق مظنة الأذى نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وكف الأذى"، وإلا فالأذى واجب كفه على كل حال. ومن فوائد الحديث: أن من حق الطريق رد السلام لقوله: "ورد السلام". فإن قال قائل: لو ان المار قال: مرحباً بكم أيها الجلوس فما الجواب؟ الجواب: مرحباً بك أيها المار، قال الله تعالي: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها} [النساء: 86] لكن هنا ينبغي أن يقال له: السنة السلام دون الترحيب، سلم ثم رحب إن شئت. ومن فوائد الحديث: أنه يجب على الجالس في الطريق ألا يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقوله: "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". *****

الترغيب في الفقه

الترغيب في الفقه: 1460 - وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله خيراً؛ بفقهه في الدين». متفق عليه. "من" شرطية، فعل الشرط: "يرد" وهو مجزوم، لكن حُرك بالكسر لالتقاء الساكنين، وجواب الشرط: "يفقه في الدين"؛ يعني: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين؛ أي: جعله فقيهاً في الدين؛ أي في أحكام الدين؛ وهذا يشمل أحكام الدين العقدية والفرعية التي هي القول والعمل، بل الفقه في الدين المتعلق بأعمال القلوب وأحوال القلوب هو الفقه الأكبر ولهذا سمي أهل العلم العلم بالتوحيد، والعقيدة: الفقه الأكبر؛ لأن الفقه الأصغر الذي هو المتعلق بأفعال المكلفين وسيلة للأكبر المتعلق بذات الله وصفاته؛ فلهذا كان الفقه الأكبر هو معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته. في هذا الحديث: إثبات الإرادة لله عز وجل لقوله: "من يرد الله خيراً" وأعلم أن الإرادة نوعان: - أعني: إرادة الله - إرادة شرعية، وإرادة كونية، فالإرادة الكونية هي التي بمعنى المشيئة؛ فقد أراد الله أي: شاء، والإرادة الشرعية هي التي بمعنى المحبة، أراد بمعنى: أحب، هذا الفرق بين حقيقتيهما، أما الفرق بينهما من حيث الحكم والأثر المترتب عليهما: أن الإرادة الكونية لابد من وجود المواد الذي أراده الله يتعين أن يقع ويتعلق فيما يحبه وما لا يحبه، يعني: لا يلزم ان يكون المراد محبوباً إلى الله لكن يلزم من هذه الإرادة الوقوع. والإرادة الشرعية لا يلزم فيها وقوع المراد، وتختص بما أحب، ولا علاقة لها بما كره، فقول الله تبارك وتعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. هذه شرعية، {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن ليطهركم} [المائدة: 6]. شرعية، {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها} [الإسراء: 16] كونية، {ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253]. كونية، إذن فهمتم الفرق. فإذا قال قائل: هل الله يريد الشر؟ فالجواب أن نقول: أما شرعاً فلا، وأما كوناً فنعم. ولكن اعلم أن الشر الذي يريده الله كوناً هو شر إضافي. وليس شراً محضاً، شر إضافي باعتبار المراد، أما باعتبار إرادة الله له فليس بشر كالجدب والقحط والمرض والصوت والفقر وما أشبه ذلك، هذا شر لكن كون الله يريده خيراً، لا شك أن المطر خير، لكن قد يكون شراً إذا هدم البناء وأغرق صار شراً، لكن هو نسبي، وإلا فالأصل فيه أنه خير، لكن قد يقدر الله فيه هذا الشر لحكمة.

الفساد في الأرض شر هل يحيه الله؟ لا، وهل يريده كوناً؟ الجواب: نعم {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا} [الروم: 41]. ولهذا جاء في الحديث: «تؤمن بالقدر خيره وشره»، وجاء في الحديث: «والشر ليس إليك»، ولا تناقض بينهما؛ لأن الشر في القدر هو في المقدور فقط، أما في التقدير فلا؛ ولهذا بجب علينا ان نرضى بقضاء الله وإن كان المقضي شراً؛ وأما المقدور فعلى حسب الحال نرضى أن الله قدر المعاصي؛ لأنه رب يفعل ما يشاء، لكن لا نرضى بالمعاصي؛ ولهذا أعجبني كلما قالها شيخ الإسلام رحمه الله لما ذكر حكم السلف في أهل الكلام، ومن أشد من حكم فيهم الشافعي رحمه الله قال: حكمي في أهل الكلام - يعني: الأشعرية والمعتزلة والجهمية - أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام، عقوبة شديدة؛ يعني: يؤتى بأكبر عالم منهم طويل العمامة كبير الهامة ويطاف به في العشائر والأسواق ويُضرب بالجريد والنعال نكايه به، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة أقبل على علم الكلام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهم مستحقون لما قاله الشافعي رحمه الله من وجه/ الوجه: مخالفتهم للشرع، فيستحقون التأديب حتى ينكل بهم، لكن من نظر إليهم بعين القدر رق عليهم ورحمهم، مساكين ضلوا، فيرق لهم ويرحمهم، لكن في دين الله لا يرحمهم، قال الله عز وجل: {الزانية والزانى فاجلدوا كل وحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور: 2]. أما من نظر من ناحية القدر فقد يرأف بهم، يقول: مساكين غلبهم الشيطان ولعب بهم، اتبعوا الشهوات فيرق لهم، لكن، لا ترحم أحداً في دين الله رحمة الإنسان في دين الله أن تعاقبه على شريعة الله. إذن نقول: الإرادة الكونية لابد فيها من وقوع المراد، وتتعلق فيما يحبه الله وما لا يحبه، انظر قول الله تعالي: {ولو شاء الله اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينت ولكن اختلفوا فمنهم من ءامن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولمن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253]. وهو عز وجل لا يريد القتال، لكن لابد أن يقع مراده - جل وعلا. الإرادة الشرعية تتعلق بما أحبه، ولا يلزم منها وقوع المراد، فالله يريد منا أن نستقيم وأن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونطيعه في كل ما أمر يريد منا ذلك إرادة شرعية، لكن هل كل واحد منا فعل ذلك؟ الجواب: لا.

في هذا الحديث من الفوائد: إثبات الإرادة لله عز وجل وأنه يفعل ما يريد لقوله: "من يرد الله به خيراً يفقهه". ومن فوائد الحديث: أن الإنسان ينبغي له أن يتعرض للخير بالتفقه في دين الله؛ لأن كل إنسان يحب أن يريد الله به خيراً، فنقول: الوسيلة والطريق هو أن تتفقه في دين الله. ومن فوائد الحديث: الحث على التفقه في الدين؛ لأنه وسيلة إلي هذا الخير الذي يريده الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: أن لإرادة الله تعالى علامات ظاهرة، فمن علامة الخير: أن يفقه في الدين. ومن فوائد الحديث: أن الفقه في غير الدين لا يُحمد ولا يُذم، يعني: كالعلم بالصنائع وغيرها هذا لا يحمد ولا يذم، بل إن كان وسيلة لمحمود كان محموداً، وإن كان وسيلة لغير المحمود لم كن محموداً؛ ولهذا نقول: المفهوم في قوله: "في الدين" لا عموم له. هل يؤخذ من الحديث: أن من لم يفقه الله في الدين لم يُرد به خيراً؟ هذا مفهوم الحديث، ولكن فيه تفصيل؛ أما الخير المطلق فلا شك أن من حرم الفقه ني الدين فإنه محروم منه، وأما بعض الخير فقد يكون من شخص لم يتفقه في الدين، هذا إن صح هذا التعبير، وإلا فلا أظن أحداً يفعل الخير في دين الله إلا وقد كان فيه فقيهاً؛ إذ لولا فقهه إياه ما عمل به، وعلى هذا فالخير المطلق إنما يكون لمن فقه في دين الله، والخير غير المطلق يكون لمن توسع ني الفقه ولم يقتصر فقهه في دين الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: البشارة العظيمة لمن رزقه الله الفقه في الدين وهي أن الله أراد به خيراً. فيكون هذا داخلاً في قوله تعالى: {لهم البشرى في الحيوة الدنيا وفى الأخرة} [يونس: 64]. فإذا رأيت الله قد منَّ عليك بالفقه في دينه فاعلم أن الله أراد بك خيراً. لكن قد يقول قائل: إننا نرى بعض العلماء عندهم علم بالفقه العقدي والعلمي ومع ذلك هم على جانب كبير من المعاصي والفسوق. نقول: هؤلاء ليسوا فقهاء، بل هم قراء، وهناك فرق بين الفقيه والقارئ؛ ولهذا قال ابن مسعود: كيف بكم إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم، الفقيه في الدين هو الذي يعلم الأحكام وأسرار الشريعة وحكمها، ويعبد الله عز وجل بمقتضاها، وإلا فليس بفقيه. ****

الترغيب في حسن الخلق

الترغيب في حسن الخلق: 1461 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق». أخرجه أبو داود، والترمذي وصححه. ما الذي رفع "أثقل"؟ الذي رفعها: "أن من" في قوله: "من شيء" حرف جر زائد، وعلى هذا يكون التقدير: ما شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق. وإذا أخذنا بظاهر الحديث فإنه يبقى مشكلاً؛ لأن كلمة التوحيد أثقل ما يكون في الميزان كما في حديث صاحب البطاقة الذي أخرج له يوم القيامة سجلات كثيرة من الذنوب ثم وزنت بلا إله إلا الله فرجحت بها لا إله إلا الله فكيف يمكن الجمع بين هذا وما جاء في هذا الحديث؟ الجواب: أولاً: إن صح هذا الحديث فإن قول: "لا إله إلا الله" من توحيد الله، بل هي توحيد الله، ولا شك ان اعتقاد مقتضاها من حسن الخلق؛ لأن حسن الخلق لا يراد به أن يكون الإنسان مع الناس واسع الصدر منطلق الوجه فقط، ليس الأمر كذلك، إنما حسن الخلق يشمل حسن الخلق مع الله ومع عباد الله، ومع ذلك يبقى في هذا الجواب إشكال؛ لأننا إذا قلنا: إن حسن الخلق هو حسن الخلق مع الله ومع عباد الله شمل الدين كله، وحينئذ ليس هناك شيء أثقل من شيء، فالحديث مشكل، ولهذا لابد أن يخرجه لنا أحد منكم. على كل حال: حسن الخلق أمر مطلوب، والمقصود بالخلق الحسن، أو حسن الخلق: هو أن يكون الإنسان دائماً راضياً، فهو إذا كان عنده حسن خلق يصبر على الأذى ويتحمل المشاق ويأخذ بالعفو كما قال الله عز وجل: {خذ العفو وأمر بالمعروف} [الأعراف: 199] يعنى: خ ما ظهر من الناس وما حصل من أخلاقهم ولا تكلفهم الكمال؛ لأن من أراد الكمال حرم الكمال. الترغيب في الحياء: 1462 - وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله: «الحياء من الإيمان» متفق عليه. الحياء: صفة خلقية تعتري الإنسان، ولا يستطيع أن يعبر عنها تعبيراً يكون تفسيراً لحقيقتها، ولكنها تعرف بآثارها، فهي: خلق يعتري الإنسان يمنعه أن يتكلم أو يفتل ما يخجل منه وما يوبخ عليه، وهو من الإيمان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»

وهنا قال: «الحياء من الإيمان» من هنا للتبعيض، أي: بعض من كل، ثم اعلم أن الحياء يكون من المخلوق ويكون من الخالق، فالحياء من الخالق: أن تستحيي من الله أن يفقدك حيث أمرك، أو ان يراك حيث نهاك، وعلى هذا التفسير فإن الحياء يستلزم القيام بالمأمور واجتناب المحذور، أمرك الله عز وجل أن تزكي فلم تزك، استحي من الله نهاك أن تشرب الخمر فشربته. نقول. استحي من الله. كيف يراك الله حيث نهاك. وكيف يفقدك حيث أمرك! ! هذا الحياء من الله وهو يستلزم القيام بأوامر الله واجتاب نواهيه، أما الحياء من المخلوق فهو آن يتجنب الإنسان كل آمر يعاب عليه ويذم عليه. وهذا عائد الى المروءة، تجد بعض الناس لا يستحيي ولا يبالي ان يخرج على الناس بصفة مكروهة أو بصفة مرغوبة سواء حصل ذلك على وجه يخالف العادة أو على وجه لا يخالف العادة، حصل علن وجه تكون به الشهرة وعلى وجه لا تكون به الشهرة. يخرج مثلاً في أي هيئة تكون عليه لباسه، وفي أي حال من أحواله لا يبالي بالهيئة ولا بالأحوال! لكن العسر لا يمكن ان يأتي خصلة يذمه الناس عليها ويعيبونه بها. ثم اعلم ان من الحياء، ما يظن أنه منه وليس كذلك، بعض الناس يستحي أن يسأل عما يجب السؤال عنه وهذا ليس حياة ولكنة خور، فالحياء من الحق خور وجبن وعدم قدرة على الانتفاع بذلك الحق، وبهذا قال الله تعالى: {فإذا طمعتم فانتشروا ولا مستئين لحديث إن ذلكم كان يؤدي النبي فيستحى منكم والله لا يستحى من الحق} [الأحزاب: 53]. وقال تعالى: {وإن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضه} [البقرة: 26]. وقالت: أم سليم - وقد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عما يتعلق بطهارتها - يا رسول الله، ان الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من الغسل إذا احتلمت، فالحياء الذي يمنعك من قول الحق أو طلب الحق هذا نسميه خوراً وجنباً، ليس حياء، لا تستحي من الحق، لا تقل: أنا أستحي أن أسأل هذا السؤال؛ لأنني أخشى أن يكون سهلاً، فيقول الناس: هذا طالب علم ضعيف، أو أخشى أن يكون صعباً، فيقال: هذا متعنت، وهذا يريد الإعنات والإشقاق على المسئول، إذا كان الأمر لابد منه فلابد أن نسأل ولا نهتم. إذن الحياء من الأيمان سواء مع الله أو مع الخلق، لكن هناك ما يظن انه حياء وليس بحياء، وهو الحياء من الحق، فإن هذا ليس حياء محموداً بل هو خور وجبن مذموم.

1463 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستبح، فاصنع ما شئت» أخرجه البخاري. "إن مما"، "من" هنا للتبعيض و "ما" اسم موصول؛ أي: إن من الذي أدرك الناس، وقوله: "الناس" المراد به: أهل الجاهلية إلى وقت البعثة، هذه الكلمة العظيمة: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، وقوله: "من كلام النبوة الأولى"، "الأولى" مؤنث أول، فيكون ظاهر الحديث أن هذه الكلمة من أول النبوات، أي: أنها متوارثة من جميع الأنبياء: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، والأمر هنا للإباحة أو للتهديد؛ وذلك بناء على معنى قوله: "إذا لم تستح"، هل المعني: إذا لم يكن بك حياء فاصنع ما شئت، أو المعنى: إذا لم تأت فعلاً يستحيا منه فاصنع ما شئت؟ الحديث يحتمل المعنيين، المعنى الأول: أنه إذا لم يكن بك حياء فإنك سوف تصنع ما شئت ولا تبالي، المعنى الثاني: إذا أردت فعل شيء أو قول شيء لم يستحيا منه فافعله، فعلى الأول يكون الأمر هنا للتوبيخ، وإن شئت فقل: إنه أمر بمعنى الخبر؛ أي: إذا لم يكن بك حياء صنعت ما شئت، وعلى الثاني يكون الأمر للإباحة، يعي: إذا أردت ان تفعل فعلاً لا يستحيا منه فاصنعه ولا تبال، وعلى كل حال: فإنه يدل على فوائد هو والذي قبلة. من فوائد الحديثين: أولاً: ان الإيمان له خصال متعددة، وجه ذلك: قوله: "الحياء من الإيمان"، و "من" للتبعيض. ومن فوائد الحديث: الحث على الحياء. له من ما لم يكن خوراً أو جبناً. ومن فوائد ذلك: أن الإيمان له أثار حميدة ومنها الحياء، فإن الحياء خلق محمود عنه كل الناس وهو من آثار الإيمان. أما الحديث الثاني ففيه: أن الناس قد يتوارثون كلمة حق من النبوات السابقة. لقوله: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأول". ومنها: أن الكلمات المتوارثة إذا كانت حقاً فإنه ينبغي العناية بها؛ لأن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم إياها لا شك أنه من العناية بها. ومن فوائد الحديث: ان الفعل إذا كان لا يستحيا منه فإنك تصنعه ولا تبالي، لكن هل هذا على إطلاقه أو يقال: هو مباح، ثم المباح قد يكون من الحسن أن يفعل، وقد يكون من الحسن ألا يفعل، فهو على حسب ما تقتضيه الحال؟ الثاني؛ لأن المباح ليس معناه أنه مطلق، بل قد يكون المباح واجباً، وقد يكون حراماً، وقد يكون مكروها، وقد يكون مستحثاً فهو على حسب ما يوصل إليه.

ومن فوائد الحديث: أن الذي لا يستحي - بناء على الوجه الثاني في المعنى - يصنع ما يشاء ولا يبالي بالناس، وهذا لا شك أنه ذم، فيستفاد منه: أنه ينبغي للإنسان مراعاة الناس وألا يفعل ما يستحيا منه بينهم، أرأيت مدّ الرجل في المجالس هل هو مما يستحيا منه؟ نعم، لاسيما في المجتمع المسلم، لو مد الإنسان وجله فإن الجالسين حوله سيقولون: إن هذا لا يستحي؛ لان الذي لا يستحيي يصنع ما شاء، رجل يكلم الناس وهو معرض عنهم! هذا أيضاً لا يستحيي، وهذا الثاني فيه نوع من الكبر، فالمهم: أن هذا لا يحتاج لأمثلة لوضوحه. ومن فوائد الحديث: أن الأمر قد يأتي بمعنى الخبر على أحد الوجهين في تغير الحديث، وهو قوله: "فاصنع ما شئت"، والأمر يأتي بمعنى الخبر في اللغة العربية، وقوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين امنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطيكم} [العنكبوت: 12]. هذا ليس أمراً ولكنة خبر، أي: ونحن نحمل خطاياكم، إلا أنه خبر مؤكد حيث جاء بصيغة الأمر. الترغيب فى القوة في الدين: 1464 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان». أخرجة مسلم. "المؤمن القوي" في إيمانه. وإنما اخترنا ذلك لئلا يقول قائل: إن المواد به: المؤمن القوي في بدنه وليس كذلك، بل الصحيح أن المواد في الحديث: المؤمن القوي في إيمانه، لأن الوصف يعود على ما سبق، وما سبق اسم مشتق وهو "المؤمن"، لو قال: الرجل القوي لربما نقول: إن المراد القوي في جسمه، كما يمكن أن نقول: القوي في الرجولة، لكن إذا قال: المؤمن فهو وصف، فيكون الوصف الذي وصف به هذا عائداً عليه، يعني: المؤمن القوي في إيمانه، أي: في إيمانه في قلبه، وكلمة قوي الإيمان في القلب كثرت الأعمال الصالحة: لأن الإيمان يحمل صاحبة على الهدي. "خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف"، فذكر في المؤمن القوي خصلتين عظيمتين الأولى: أنه خير من ضده، والثاني: أنه أحب إلى الله عز وجل "من المؤمن الضعيف" يعني: في إيمانه، ولا شك أن الناس يختلفون في الإيمان قوة وضعفاً، وقوله: "وفي كل خير" هذه الجملة فيها احتراز؛ لأنه لما قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" قد تهون قيمة

المؤمن الضعيف عند الإنسان، فقال: "وفي كل خير"، ولهذا نظائر منها قوله تعالى: {ولا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقتل أولئك أعظم درجة من الذين انفقوا من بعد وقتلوا} فذكر هنا مفضلاً ومفضلاً عليه ربما يكون في النفوس أن المفضل عليه نازل المرتبة، فقال بعد ذلك: {وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95]. ومن ذلك قوله تعالى: {وداود وسليمن إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غني القوم وكنا لحكمهم شهدين (78) ففهمنها سليمن} أثني على سليمان بأن الله فهمه الحكم الصحيح الموافق للصواب، ثم قال: {وكلا ءايتنا حكماً وعلماً} [الأنبياء: 78، 79]. لأن هذا الاحتراز ضروري، لأنه إذا قال فهمناها سليمان وبما يفهم السامع أن ذلك يعني: حجبناها عن داود، فقد يكون في قلب الإنسان تنقص لداود - عليه الصلاة والسلام، فقال: "المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير"، لئلا يظن الظان أن المؤمن الضعيف لا قيمة له، وقوله: "وفي كل خير" يعني: كل مؤمن فيه الخير. "احرص عن ما ينفعك"، "احرص" بكسر الراء، وحرص يفتح الراء، وأظنه فيها لغة لكنها قليلة: حرص، لكن المشهور حرص بالفتح، قال الله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103]. وقال تعالة: {إن تحرص على هداهم} [النحل: 37]. فهنا فعل الأمر هل تبع الماضي أو المضارع؟ المضارع؛ إذ لو تبع الماضي لقال: احرص، وذلك للقاعدة النحوية التي تقول: إن فعل الأمر فعل مضارع مجزوم حذف منه أداة الجرم وحرف المضارعة، وهذا يفيدك فيما لو قلت: صغ فعل أمر من نام ماذا نقول؟ نم وليس نم، طبقها على القاعدة تقول: لم ينم، لو حذفت لم ثم ياء المضارعة تبقى نم، كيف تصوغ فعل الأمر من خاف؟ خف الله، نقول: لم يخف الله، احذف لم ثم الياء صارت خف، صغ فعل أمر من رأي، تقول: رء؛ لأنك تقول: لم يرء، احدف لم، ثم احذف الياء، رء، صغ فعل أمر من وقى؟ ق هذه خرجت عن بنية الكلمة. لأنك تقول: لم يق، احذف لم وياء المضارع تبقى ق، هذا ضابط مفيد للإنسان، يقول الإنسان: فعل الأمر من خاف خف يا فلان، نقول: هذا غلط الصواب أن نقول: خف؛ لأن فعل الأمر مضارع حذف منه أداة الجرم وياء المضارعة. إذن نقول: احرص ولا نقول: احرص على ما ينفعك في الدين، وفي الدنيا والأشياء ثلاثة: نافع وضار، وما لا نفع فيه ولا ضر، فما اله ي يؤمر الإنسان بالحرص عليه؟ هو النافع، أما الضار فينهى عنه؛ وأما ما لا نفع فيه ولا ضرر فلا يؤمر به، وينظر ما نتيجته قد تكون خيراً وقد تكون شراً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك" هذا مما لك به قدرة، ولكن هل تعتمد على نفسك؟ لا، ولهذا قال: "واستعن بالله" لا تعتمد على نفسك، قال الشاعر: [الطويل]

(إذا لم يكن هون من الله للفتى .... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده) استعن بالله مع الحرص، ويفهم منه ان الإنسان مطالب بأن يبذل ما هو في استطاعته وهو الحرص، ويفوض الأمر إلي الله فيما لا يستطيع، وهذا هو الاستعانة بالله. وقوله: "ولا تعجز" ليس معناه: ولا يكن فيك عجز؛ لأن المعجز ليس بقدرة الإنسان، فقد يمرض الإنسان ويعجز وقد يشق عليا الشيء ويعجز عنه، لكن المراد بقوله: "لا تعجز": لا تكسل، فتفعل فعل العاجز؛ لأن الإنسان إذا كسل تراخى عن الفعل ومار فعلة فعل العاجز، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاثة أمور: الحرص، والاستعانة، وعدم الملل والكسل، وكل ذلك داخل في قوله: "ولا تعجز". وإن أصابك شيء" يعني: بعد أن تبذل ما تستطع بعد الحرص والاستعانة بالله والثبات على الأمر، "إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا"، الإنسان يؤمر بالشيء ثم بعد أن يؤمر بالشيء يكل الأمر إلى الله، إذا فعلت ما يلزمك من الحرص على الناقع والاستعانة بالله والثبات على الأمر ثم اختلفت الأمور فهل تلام، لا تلام، حينئذ فوض الأمر إلى الله، أما أن تفرض الأمر إلى الله بدون أن تفعل الأسباب فهذا لا شك أنه خطأ، افعل الأسباب كلها، ثم إذا كانت الأمور على خلاف ما تريد فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، لا تقل هذا؛ لأن الله لو أراد ذلك لفعلته، ولكن الله لم يرد، ولا يمكن تغيير ما كان عما كان؛ أي: لا يمكن رفعه، ولكن يمكن مداواته، "ولكن: قل: قدر الله وما شاء فعل"، تربية نفسية عظيمة ورضا بالقدر ما فوقه شيء، "قل: قدر الله" "قدر" تروى بوجهين: الأول: بتشديد الدال وفتح القاف يكون المعنى: قدر الله؛ أي: قل: قدر الله ذلك وليس بإرادتك وما شاء فعل، الوجه الثاني - وهو أولى - قدر الله أي: هذا قدر الله، هذا الذي وقع قدر الله وليس باختياري، "وما شاء فعل" هذه جملة شرطية فإن "ما" هنا اسم شرط، وفعل الشرط: "شاء"، وجواب الشرط: "فعل"؛ أي: أي شيء يشاؤه الله فلابد أن يفعله. هذا الحديث فيه: حث على مكارم الأخلاق، أولاً: قوله: "لو تفتح عمل الشيطان" أي: فإن قول الإنسان "لو" في الأمر المقدر تفتح عمل الشيطان، فما هو عمل الشيطان؟ عمل الشيطان ما يحدثه في قلب الإنسان من الندم والحسرة، وهي لا تفيد؛ لأن ما وقع لا يمكن رفعه. ففي هذا الحديث فوائد منها: أن الأيمان يتفاوت، يؤخذ ذلك من قوله: "المؤمن القوي خير وأحب، إلى الله من المؤمن الضعيف"، فإن قال الإنسان: بماذا يتفاوت الإيمان؟ قلنا: يتفاوت بأسباب متعددة؛ أولاً: يتفاوت باليقين، فبعض الناس يكون إيمانه إيمان يقين كأنما يرى الجنة

والنار واليوم الآخر، بل قد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه"، وهذا أعلى ما يكون من درجات اليقين هذا من الأسباب، وهل لهذا - أي: زيادة اليقين - دليل على أنه ربما يزداد وينقص؟ نقول: نعم فيه دليل من القرآن: {وإذ قال إبرهيم رب أرني كيف تحيى الموتي قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى} [البقرة: 260] أي: ليزداد ثباتاً، وله دليل من الواقع أيضاً، فمثلاً: إذا أتاك رجل ثقة بحبر تثق بخبزه لصدقه وأمانته وإدراكه الأمور على ما هي عليه أتاك بخبر صار عندك إيمان، أتاك رجل آخر بنفس الخبر فيزداد الأيمان، وكلما كثرت طرق الخبر ازداد الإنسان قوة، كذلك أيضاً يقوى الإيمان بكثرة اللجوء إلي الله عز وجل، بمعنى: أن يكون قلبك دائماً متعلقا بالله، إن ذكرت الله تذكره في قلبك قبل ان تذكره بلسانك، إن تركت شيئاً لله تذكر الله تعالى بقلبك قبل أن تتركه، وهكذا يكون قلبك دائماً مع الله، حتى في لبس الثوب، تذكر أن الله هو الذي أنعم به عليك ويسره لك، وكذلك الأكل والشرب والنكاح والمسكن، كل ذلك اذكر الله عز وجل يزداد بذلك اليقين، مما يزيد اليقين: العمل الصالح. لقوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتهم تقواهم} [محمد: 17]. وكلما كثر العمل الصالح ازداد الإيمان قوة، ولهذا يقال: إن الأعمال الصالحة بمنزلة الماء للشجرة كلما أكثرت من سقيها ازدادت نمواً وحياة. ومن فوائد الحديث: إثبات تفاضل الناس حسب قوة إيمانهم، يؤخذ ذلك من قوله: "خير"، هذا عائد على المؤمن. ومن فوائد الحديث: إثبات محبة الله عز وجل لقوله: "أحب إلى الله" ومن فوائده أيضاً: أن محبة الله تعالى تتفاوت بحسب أعمال العبد؛ لأن الله علق زيادة المحبة بقوة الإيمان. ومن فوائد الحديث: حسن التعبير في حطاب النبي صلى الله عليه وسلم كما هو في كلام الله لقوله: "وفي كل خير". ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يفاضل بين شخصين وفي كل منهما خير أن يذكر الخير في الجميع حتى لا تهبط قيمة الأخر من قلوب الناس. ومن فوائد الحديث: إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرص على ما ينفع؛ لقوله: "احرص على ما ينفعك" وهو لما قلنا في الشرح شامل لما ينفع في الدين أو في الدنيا. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يحرص على ما لا نفع فيه، يؤخذ ذلك من قوله: "على ما ينفعك" يعنى: وأما ما لا ينفعك فلا تحرص عليه، ولكن هل يجوز ذلك أن تمارسه أولاً؟ ينظر، فإن كان شيئاً محرماً فإنه لا يجوز، وان كان لغواً فإن الأولى حفظ النفس واللسان عنة.

ومن فوائد الحديث: وجوب الاستعانة بالله عز وجل مع فعل الأسباب، أين السبب؟ قوله: "احرص على ما ينفعك"، الاستعانة "واستعن بالله". ومن فوائده: أن فعل الأسباب مقدم على التوكل والاستعانة؛ لأنه قال "احرص" "واستعن". فإن قال قائل: لا نسلم لهذه الفائدة؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب. قلنا: نعم هي لا تقتفي لكنها لا تنافي الترتيب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]. قال حين دنا من الصفا: "أبدأ بما بدأ الله به"، قررنا أن الفعل يتقدم على الاستعانة لئلا يكون الإنسان متواكلاً لا متكلاً، يعني: لو قدم الاستعانة بالله على شيء لم يفعله فإنه لا يستقيم ولكن يقال: الأولى أن تكون الاستعانة مقارنة للفعل، بمعنى: أنه من حين أن يقوم بالفعل ينوي الاستعانة بالله لئلا يعجب بنفسه في أول الفعل، فالاستعانة - إذن - إما أن تسبق أو تتأخر أو تقارن، فأيهما المطلوب؟ المقارنة. ومن فوائد الحديث: أنك إذا حرصت على ما ينفعك فلا تستعن يغير الله، نعم يقال: إنك إذا استعنت بغير الله فغيه تفصيل: إن كان لا تمكن الاستعانة به كما لو كان ميتاً أو غائباً فهذا لا يجوز، وهو من الشرك، وأن كان تمكن الاستعانة به فهذا دخل في قوله: "احرص على ما ينفعك"، فيكون من السبب، والاستعانة إنما هي لله عز وجل. ومن فوائد الحديث: النهي عن الكسل والخمول، وهو يستلزم الثبات والاستمرار، يؤخذ من قوله: "لا تعجز" أي: لا تفتر عن العمل، وتترك العمل بل اثبت واستمر، ولهذا قال الله عز وجل: {يأيها الذين امنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلم تفلحون} [الأنفال: 45]. ومن فوائد الحديث: ان الإنسان إذا فعل ما يلزمه من الأسباب النافعة واستعان بالله ثم صار الأمر على خلاف ما أراد، فهنا يجب عليه التفويض المطلق، وإلا فالواجب أن يفعل السبب، فمثلاً: لو إن أناساً يقاتلون عدواً ونفدت أجهزة القتال معهم أو تكسرت فهنا. ما بقي عليهم إلا التفويض الى الله عز وجل، يفوضون تماماً؛ لأنهم ما يستطيعون أن يفعلوا الأسباب، أما مع إمكان فعل الأسباب فإن الواجب فعل السبب؛ ولهذا نقول: إن من الاستهتار أن يذهب إنسان يقاتل بعصاه آو بسكين مطبخه مع أناس يقاتلونه بالدبابات والرشاشات ويقول: أنا متوكل على الله! ! هذا غلط، نعم لو أنك حوصرت ولم تستطع الفرار حينئذ قاتل ما استعطت بأي سلاح معك.

ومن فوائد الحديث: النهى عن قول: "لو" يعنى: إذا فعلت الأسباب ولكن لم يحصل المقصود لا تقل: لو، وكما تعلمون أن الحديث يدل على ان النهي عن قول: "لو" إنما هو ني هذه الصورة المعية، وهي أن يكون الإنسان قد حرص على ما ينفع وبذل الأسباب واستعان بالله ثم اختلفت الأمور، منها لا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا مثال ذلك: رجل سافر إلي مكة لأداء العمرة واستعان بالله عز وجل، ثم أصيب بحادث قي أثناء الطريق فهل له أن يقول: لو أني ما سافرت لسلمت؟ لا؛ لأن الرجل ما ذهب ليصاب بالحادث، إنما ذهب لفعل ينفعه مستعينا بربه مستمراً على ما أراد، فحصل الأمر على خلاف المراد، فحينئذ يفوض الأمر إلى الله ولا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، وأما استعمال لو من حيث هو ففيه تفصيل: إن استعملت لمجرد الخبر فهي جائزة وليس فيها شيء مثل: أن تقول لصاحبك: لو جئتني لأكرمك، هذا ليس فيه شيء، بل خبر محض ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لو استقبلت من أمر ما استدبرت ما سقت الهدي"، الثاني: أن يقولها - أي: له - للتمني، فهذا على حسب ما تمناه، مثل أن يقول: لو أن لي مثل مال فلان لعلمت فيه مثل عمله، فهذا الذي تمناه إن كان خيراً فقول: "لو" خير وإن كان شراً فقول: "لو" شر، الثالث: أن يقولها على سبيل التحسر والندم، فهذه منهيٌ عنها كما في هذا الحديث. ومن فوائد الحديث: أن قدر الله 0 تبارك وتعالى 0 فوق كل الأسباب، وأنها قد تأتي الأسباب تامة؛ ولكن قدر الله يحول بينها وبين مسبباتها؛ لقوله: "ولكت قل قدر الله". ومن فوائد الحديث: إثبات القدر، وأنه سابق لإرادات كل مريد؛ لقوله: "ولكن قل قدر الله"/ وهل القول هنا باللسان ـو باللسان والقلب؟ باللسان والقلب. ومن فوائد الحديث: إثبات الهيئة لله عز وجل وإثبات الفعل؛ لقوله: "وما شاء فعل"، واثبات الفعل لله عز وجل هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، فهم يثبتون لله الأفعال الاختيارية ويقولون: إن الله يفعل ما يشاء، والذين ينكرون الأفعال الاختيارية يقولون: لو قام بالرب فعل لكان حادثاً؛ لأن الفعل حادث، والحادث لا يقوم إلا بحادث، فيقال لهم: من قال لكم هذا بل قيام الأفعال بالله عز وجل تدل على كماله، وأنة يفعل ما يريد ويرزق، ويحيي ويميت ويعز ويذل، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل. ومن فوائد الحديث: أن الشيطان قد يسلط على الإنسان لقوله: "فإن لو تفتح عمل الشيطان"، ولا شك أن الشيطان يسلط على المرء في إدخال الأحزان عليه وإدخال التحسر عليه وتشتيته في أمور لا أصل لها وتخيله أموراً لا حقيقة لها، كل ذلك من أجل إدخال الحزن على الإنسان، وإلي هذا يشير قوله تعالى: (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين امنوا وليس

الترغيب في التواضع

بضارهم شيئاً} [المجادلة: 10]. ومنه: الحلم في المنام, فقد يرى الشيطان حلماً يكدره وينغص عليه حياته ويأتيه التعبير من كل وجه يكدره في نفسه, وكل هذا من الشيطان. ومن فوائد الحديث: بيان شدة عداوة الشيطان للإنسان حيث يفتح عليه باب اللو. الترغيب في التواضع: 1465 - وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إن الله أوحى إلىَّ أن تواضعوا, حتى لا يبغي أحد على أحدٍ, ولا يفخر أحد على أحدٍ». أخرجه مسلم. الوحي في اللغة: الإعلام, وفي الشرع: هو إعلام بالشرع يوحيه الله عز وجل إلى نبي من الأنبياء أو إلى رسول من الرسل, وقد يكون إلهاماً كقوله تعالى: {وأوحي ربك إلى النخل} [النحل: 68]. وكقوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى} [القصص: 7]. فإن هذا ليس الوحي المراد بمثل هذا الحديث, بل هذا وحي إلهام. «إن الله أوحى إلىَ أن تواضعوا» , هل يوجد آية بهذا المعنى في القرآن؟ نعم, وهو قوله تعالى: {ولا تصعر خدك للناس} [لقمان: 18]. وقوله: «حتى لا يبغي أحد على أحد» هذا النهي عن البغي أيضًا موجود, كما في قول الله -تبارك وتعالى-: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} [الشورى: 42]. وقال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق} [لأعراف: 33]. وقد يقول القائل: «إن الله أوحى إلىَ» هذا الحديث نفسه يكون هذا من الأحاديث التي أوحاها الله تعالى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وحياً خاصاً. وقوله: «حتى لا يبغي أحد على أحد» يعني: لا يعتدي عليه, وهذا اعتداء بالفعل, «ولا يفخر أحد على أحد» هذا اعتداء بالقول, وذلك بأن يقول مثلاً: أنا خير منك, أنت من القبيلة الفلانية, وغير ذلك. في هذا الحديث فوائد: منها: الحث على التواضع وهو من الخلق الحسن. وفيه أيضًا: النهي عن البغي والنهي عن الفخر. ومن فوائد الحديث: إثبات الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم من الله لقوله: «إن الله أوحى إليَ» وهذا أمر لا إشكال فيه, لكن نريد أن نأخذ الفائدة. ومن فوائد الحديث: العناية بما تضمنه من الأخلاق؛ لأن كون الرسول يعبر بهذا التعبير مع أنه ليس من عادته يدل على العناية بهذا الخلق الحميد.

فإن قال قائل: إذا كان التواضع يخشى منه الإنسان أن يذل نفسه. قلنا: هذا من إيحاء الشيطان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تواضع لله رفعه». فإن قال قائل: رجل مبتدع يجادلني هل أتواضع له في المجادلة أم أشعره بأني فوقه في ذلك؟ الجواب: الثاني؛ لأنه لا يمكن أن تقضي عليه إلا إذا أشعرته أنك أقوى منه فإذا شعر أنك أقوى منه, حينئذ تغلبه. فضل من رد عن عرض أخيه: 1466 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي قال: «من رد عن عرض أخيه بالغيب؛ رد الله عن وجهه النار يوم القيامة». أخرجه الترمذي, وحسنه. -ولأحمد, من حديث أسماء بنت يزيد نحوه. قوله: «من رد عرض أخيه» أي: سمع شخصاً يغتاب أخاه, فرد عن عرضه لكن بحق, بأن يقول: إن فلاناً لم يقل كذا, وإن هذا كذب عليه وما أشبه ذلك, فإن الله تعالى يرد عن وجهه النار يوم القيامة جزاء وفاقاً. ففي هذا الحديث: الحث على الرد عن عرض أخيك, وهذا يحتاج إلى تفصيل فإنه إذا كان الرجل الذي جعل الناس يتحدثون به صاحب بدعة أو صاحب فكر منحرف وذكر في المجلس فلا ترد عنه؛ لأن هذا كذب, إذ إن هذا المبتدع وصاحب الفكر المنحرف ليس له عرض فيما كان يذهب إليه فلا ترد عن عرضه, قد يكون من المستحسن أن تزيد في ذلك وأن تبين خطأه في بدعته أو انحرافه في منهجه. ومن فوائد الحديث: أن الرد المحمود إذا كان بالغيب, أي: في حال غيبة أخيك أما في حال حضوره فإنه لا ينال هذا الثواب؛ لماذا؟ لأنه قد يرد عن عرض أخيه رياء ومنة على هذا الشخص لكن إذا كان في غيبته دل ذلك على أن الرجل كان سليماً. فإن قال قائل: إذا أراد شخص أن ينتهك عرض أخيك مع حضوره فهل يجب عليك أن ترد عنه؟ نعم؛ لأن هذا من باب إعانة المسلم على من يريد إذلاله واحتقاره. ومن فوائد الحديث: أن الجزاء من جنس العمل, لأن هذا رد عن عرض أخيه فرد الله عن وجهه النار يوم القيامة.

الترغيب في الصدقة

ومن فوائد الحديث: إثبات النار وإثبات يوم القيامة. قوله: «ولأحمد من حديث أسماء نحوه» ماذا نسمي هذا؟ نسميه شاهداً؛ لأن الصحابي مختلف. الترغيب في الصدقة: 1467 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «ما نقصت صدقةٌ من مالٍ, وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا, وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله تعالى». أخرجه مسلمٌ. "ما" نافية, و"صدقة" فاعل, و"من مال" جار ومجرور متعلق بـ"نقصت" يعني: أن الصدقة لا تنقص المال, وقد يرويه بعض العامة بلفظ: "بل تزده" وهذا اللفظ منكر؛ أولاً: لأنه لم يرد في الحديث, وثانياً: أنه خطأ من جهة العربية, يقول: "بل تزده" فجزم الفعل بدون جازم, على كل حال: هو ليس من الحديث. وقوله: "ما نقصت صدقة من مال", إنما نفى النبي صلى الله عليه وسلم نقص المال بالصدقة؛ لأن الإنسان قد يظن أن النقص هو النقص الحسي, والحقيقة: أن النقص المعنوي, ولنضرب مثالاً: رجل عنده مائة ريال تصدق منها بعشرة كم صارت؟ تعين ريالاً, نقصت, إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد هذا؛ لأنه يعلم أنه لابد أن ينقص العدد لكنه لم ينقص من حيث المعنى, وذلك أن الله تعالى ينزل البركة فيما بقي من المال وبقي المال الآفات التي قد تحدث للمال نفسه أو لمالك المال, أرأيت لو كان عند إنسان مائة ريال مثلاً وأصيب بمرض واحتاج المائة للمعالجة ذهبت المائة, فإذا تصدق من هذا المال فإنه من أسباب وقايته, أي: وقاية ما يتلفه سواء كان في مرض الإنسان أو في مرض أهله أو في ضياع أهله أو في سرقته, إذن ما نقصت صدقة من مال معنى «وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا» الإنسان إذا جنى عليه شخص وضربه فعفا عنه ابتغاء وجه الله, قد تقول له نفسه: إن عفوك عنه يعني: أنك ضعفت أمامه وذللت أمامه؟ أليس هذا وارداً؟ بلى وارد, لكن الرسول رخص في العفو وقال: إنه عز, وإن الإنسان الذي يظن أنه في العفو يكون ذليلاً سوف يعزه الله ويزيده عزا. وقوله: «وما تواضع لله» هل المراد «تواضع لله» أي: لأمر الله فأقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله, أو تواضع لعباد الله إخلاصاً لله؟ يشمل المعنيين جميعاً؛ لأن القاعدة أن النص من القرآن والسنة إذا كان يحتمل معنيين على السواء ولا منافاة بينهما فالواجب أن يحمل عليهما جميعاً, فعلى الوجه الأول «ما تواضع أحد» أي: لأوامر الله عز وجل «إلا رفعه»؛

لأن من بني آدم من يستكبر, قال الله تعالى: {ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً} [النساء: 172]. وقال تعالى: {فبئس مأوى المتكبرين} [الزمر: 72]. فإن من الناس من بتكبر على أوامر الله ولا يتواضع, المعنى الثاني: تواضع لعباد الله لرضا الله عز وجل, فتكون اللام على هذا الوجه لتعليل, أي: لأجل الله عز وجل رفعه وذلك أن المتواضع للعباد قد يقول: إني إذا تواضعت وكلمت الفقير وسلمت على الصغير وانشرح صدري لجلسائي فإن ذلك يقتضي أن أنزل في أعينهم, نقول: هذا من وحي الشيطان, وأنت كلما تواضعت لله رفعك الله ولهذا قال بعض العامة كلمة طيبة, قال: إنك في أعين الناس بمقدار الناس في عينك, فإذا كنت تجل الناس وهم عندك بمنزلة عالية فأنت كذلك عندهم, وإذا كان العكس فالعكس, ولهذا تجد الناس يحتقرون المتكبر حتى وإن نفخ نفسه وأصلح ثوبه وركب السيارة الفخمة يكرهونه, لكن المتواضع يحبونه ويجلونه ويقدرونه, وفرق بين من يجل الإنسان خوفاً منه, ومن يجل الإنسان محبة وتعظيماً له. في هذا الحديث فوائد أولاً: الحث على الصدقة, لقوله: «ما نقصت صدقة من مال» , وإنما قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يمتنع أحد عن الصدقة؛ حيث أن الصدقة تنقص المال نقصاً حسياً, بأن يكون النقص حاصلاً في عدد المال. ومن فوائد الحديث: أن الصدقة سبب لحماية المال وزيادة البركة فيه, لأننا نعلم أن المال ينقص عدداً بلا شك للصدقة, لكن نفى الرسول صلى الله عليه وسلم النقص عنه؛ يعني: أنه سيكون محمياً من الآفات, ولا يسلط الله على صاحبه ما ينفق المال فيه. ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي الاعتماد على الأمور المادية؛ لأن هناك أشياء وراء الأمور المادية وهو قدر الله عز وجل, فلا تقل: أنا إذا أنفقت عشرة من مائة نقص مالي, وإن أنفقت عشرة أخرى نقص, نقول: هناك شيء وراء ذلك, ومن هذا ما يجري لبعض الناس حيث يقول: أنا لا أحب أن يكثر أولادي؛ لأنهم إذا كثروا طلبوا مني نفقات أكثر, إذا كانوا ثلاثة كم يحتاجون من الأرغفة؟ ثلاثة أرغفة, إذا كانوا أربعة يحتاجون أربعة أرغفة, من أين يأتي الرغيف الرابع؟ نقول: الأمر بيد الله عز وجل, وقد قال الله تعالى: {وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها} [هود: 6]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم» , قلنا: إن العفو ليس على إطلاقه ولكنه مقيد بالإصلاح: {فمن عفى وأصلح} [الشورى: 40]. أما إذا لم يكن في عفوه إصلاح فإنه لا ينبغي العفو, بل أحياناً يجب الأخذ. ومن فوائد الحديث: الحث على العفو: لقوله: «وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزا» , وهذا لا شك أن المراد به الحث على العفو.

من أسباب دخول الجنة

ومن فوائده: أن الإنسان لا يعتمد على الأشياء المادية الحسية كما قلنا في الصدقة, فإن العافي قد يظن في نفسه أو يتخيل أن هذا ذل له. ومن فوائده: أن الله سبحانه يعز الإنسان الذي يعفو عن إخوانه لله, فمن عفا؛ عفا الله عنه, وإذا عفا الله عن العبد فهذا سبب لعزته. ومن فوائد الحديث: الحث على التواضع لله, وذكرنا أن له معنيين. ومن فوائده: مراعاة الإخلاص, وأن الإخلاص له أثر كبير في حصول الثواب لقوله: «من تواضع لله رفعه الله عز وجل». ومن فوائد الحديث: أن الإنسان كلنا ازداد طاعة لله وانقياد لأمر ازداد رفعة ولهذا قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11]. ومن فوائد الحديث: أن الأمر كله لله وأن من رفعه الله فل خافض له ومن وضعه فلا رافع له لقوله: «إلا رفعه الله». من أسباب دخول الجنة: 1468 - وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس, أفشوا السلام, وصلوا الأرحام, وأطعموا الطعام, وصلوا بالليل والناس نيام, تدخلوا الجنة بسلام» أخرجه الترمذي وصححه. صدر قوله: «يا أيها الناس» إشارة إلى الاعتناء بما سيقول؛ لأن النداء يستلزم التنبيه, فكأنه يقول: انتبه, وهذا كثير في اللغة العربية, استمع إلى قول الله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له} [الحج: 72]. هنا قال الرسول: «يا أيها الناس» إشارة إلى أهمية ما يريد أن يخاطب به الناس. «أفشوا السلام» أي: انشروه وأكثروا منه, وإفشاء السلام له معنيان: المعنى الأول: الإكثار منه؛ أن يسلم الإنسان على كل من لقيه عرفه أم لم يعرفه, وسلام المعرفة فيه نقص في الإخلاص؛ يعني: الذي لا يسلم إلا على من عرف هذا إخلاصه ناقص, بل المخلص هو الذي يسلم على من عرف ومن لم يعرف, النوع الثاني: من إفشاء السلام: إظهاره باللفظ؛ بمعنى: أن تسلم سلاماً يسمعه من تسلم عليه, لا تسلم سلاماً لا يسمعه من في جنبك, بل سلم سلاماً يسمعه المسلم عليه وهل الأفضل أن يكون بصوت أكثر مما يسمع أو بصوت بقدر ما يسمع؟ الظاهر الأول, إلا إذا كان رفعاً خارجاً عن الأدب, فهنا لا ينبغي بعض الناس إذا دخل المجلس.

رفع صوته رفعاً خارجاً عن الأدب! هذا لا يجوز, ولا ينبغي أيضًا الإخفاء, واستثنى العلماء من الصورة الثانية -وهي رفع الصوت بالسلام- ما إذا سلم على قوم بينهم أناس نيام مثل: أن تدخل على حجرة فيها أناس مستيقظون وأناس نائمون فهنا لا ترفع صوتك سلم بقدر ما يسمع اليقظان ولا يوقظ النائم, وهذا من حسن الخلق وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك, إذا دل على قوم فيهم نيام فإنه يرفع صوته رفعاً يسمعه اليقظان ولا يحس به النائم, ويستثنى من قوله: «أفشوا السلام» وهو لفظ مطلق, فـ"أفشوا السلام" مطلق وكذا كل الأفعال لا تكون للعموم إنما هي تكون للإطلاق إذا لم تقيد, وهذا مما يفرق بين الأسماء والأفعال, الأسماء تكون للعموم لكن الأفعال لا تكون للعموم وإنما تكون للإطلاق فقوله: "أفشوا" هذا مطلق لكنه مقيد بما إذا كان المسلم عليه أهلاً للسلام عليه فأما إذا كان كافراً فلا تفشي السلام عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام» , وهل يدخل فيه الرد؟ أما الابتداء فظاهر, وأما الرد فيحتمل أن يكون داخلاً فيه وحينئذٍ نقول يؤمر الراد بأن يرفع صوته بحيث يسمعه المسلم. الثاني: قال: «صلوا الأرحام» الأرحام جمع رحم وهم القرابات, قال أهل العلم: والقرابة من الجد الرابع فما دونه, والنصوص لصلة الأرحام لم تعين صلة معينة, وعلى هذا فيرجع فيه إلى العرف كما قيل في القواعد: (وكل ما أتى ولم يحدد ... بالشرع كالحرز فبالعرف أحدد) لم يبين كيف تكون الصلة, وعلى هذا فيرجع فيها إلى العرف, وإذا رجعنا فيها إلى العرف صارت تختلف باختلاف القرابة, فصلة الأقرب أوكد من صلة الأبعد, ثانياً: للحاجة, فصلة المحتاج أوكد من صلة المستغني, ثالثاً: بالحال النفسية, بعض القرابات لا يهمه أن تصله في الشهر مرة أو في السنة مرة, وبعض القرابات يريد أن تصله كل أسبوع, ولهذا إذا فقدك في أسبوع قال: لماذا لم تزرني؟ فهو أذن يختلف باختلاف ما يتعلق بالنفوس, فعليه يقول: كلما كان هناك صلة حسب الاختلاف الذي ذكرنا فهو داخل في قوله: «صلوا الأرحام» , وهل من الأرحام الأصهار؟ لا, الأصهار يعني: أقارب الزوج أو الزوجة, ليسوا من الأرحام إلا أن يكونوا من بني العم فحينئذٍ يكونون من الأرحام. قال: «وأطعموا الطعام» يعني: من يحتاج إليه, فيشمل هذا إطعام الجائع, وإطعام من تجب

عليك نفقته, وإطعام المساكين في الكفارات ونحوها, فهو عام شامل لإطعام الطعام الواجب, وإطعام الطعام المستحب, وقوله: «الطعام» هل المراد بالطعام: الشراب, أو ما يؤكل؟ يشمل هذا وهذا؛ لأن ما يُشرب يسمى طعاماً, قال الله تعالى: {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} [البقرة: 249]. ولأن الشراب له طعم, لكن الأكل والشرب يختلفان, فالشرب يون في المائعات, والأكل في الجامدات. وقوله: «وصلوا بالليل والناس نيام» يشمل الفريضة والنافلة, فمن الفريضة صلاة العشاء ولاسيما إذا أخرت عن أول الوقت, وصلاة الفجر أيضًا؛ ولهذا كانت هاتان الصلاتان أثل الصلوات على المنفقين؛ لأنهم ينامون ولا يقومون لهما, وقوله: «والناس نيام» من المراد بالناس؟ المراد بهم: الذين لا يصلون, سواء كانوا من المسلمين أو كانوا من الكافرين لأنه يوجد بعض المسلمين لا يصلون الصبح إلا إذا قام ولو بعد طلوع الشمس, وكذلك في العشاء ينامون عنها. وقوله: «تدخلوا الجنة بسلام» «تدخلوا» أين النون؟ حذفت للجزم لأنها جواب الأمر, فقوله: "أفشوا" أمر, وما عطف عليه فهو أمر, فيكون "تدخلوا" جواباً للأمر, وجواب الأمر يكون مجزوماً, وهل هو مجزوم بصيغة الأمر أم بشرط مقدر؟ بعض النحويين يقول: إنه مجزوم بشرط مقدر, والتقدير: إن تفعلوا تدخلوا, وبعضهم يقول: إنه مجزوم بنفس الفعل فعل الطلب, والخلاف قريب من اللفظ؛ لأنهم متفقون على أن الفعل إذا وقع جواباً للطلب فهو مجزوم, وقوله: "الجنة" يعني: جنة الخلد التي وعد المتقون, وقوله: "بسلام" يحتمل أن يكون المعنى: أن تدخلوا الجنة أنتم سالمون ويحتمل أن يكون معنى بسلام: أنه يسلم عليكم, فتكون الباء للمصاحبة؛ لأن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون: سلام عليكم بما صبرتم, وإذا كان اللفظ يحتمل معنيين لا منافاة بينهما فيحمل عليهما جميعاً, فهم يدخلون الجنة سالمين من كل سوء ومن كل عيب, حاضراً ومستقبلاً, وهم أيضاً يدخلون الجنة الملائكة يتلقونهم بالسلام. في هذا الحديث فوائد منها: إثبات الأسباب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر إفشاء السلام, وصلة الأرحام, وإطعام الطعام, والصلاة بالليل, أربعة أسباب لدخول الجنة, فيكون في هذا إثبات الأسباب, وهو أمر معلوم بالشرع ومعلوم بالفطرة والحس ولا أحد ينكره, وقد اختلف الناس في الأسباب, فمنهم من أنكرها مطلقاً, ومنهم من أثبتها مطلقاً ومنهم من أثبتها وجعلها تابعة لمشيئة الله وهذا الأخير هو الحق, أما من أنكر الأسباب فإن قوله منافٍ للشرع وللفطرة وللحس, ولا حجة له إلا شبهة يلقيها الشيطان في قلبه يقول لو أنا أثبتنا أن الأسباب تؤثر لأثبتنا

خالقاً مع الله لو قلنا: إنك لو ضربت الزجاجة بالحجر انكسر من الحجر لكان في ذلك إثبات خالق مع الله, وهذا لا صحة له؛ لأني أقول: انكسرت الزجاجة بالحجر بإذن الله وإرادة الله, لو وضعت شيئاً في النار يحترق بالنار, لكن ما الذي جعل النار تحرقه؟ هو الله عز وجل, ولهذا لما وضع إبراهيم فيها قال الله تعالى: {كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} [الأنبياء: 69]. فكانت برداً وسلاماً, ولم تؤثر فيه شيئاً إذن القول بعدم إثبات الأسباب لكونها تؤدي إلى إثبات خالق مع الله قول مخالف للشرع والفطرة والحس, أما الذين يقولون: إن الأسباب مؤثرة بنفسها ولابد فهؤلاء أيضًا أخطئوا, هؤلاء هم الذين أثبتوا مع الله خالقاً ونقول: إن هذا الدعوى يبطلها الواقع؛ فإن النار تحرق بلا شي ومع ذلك نجا منها إبراهيم بإرادة الله -سبحانه وتعالى-, فالصواب: أن الأسباب ثابتة وأنها مؤثرة, لكن بما أودع الله فيها من القوة المؤثرة. ومن فوائد الحديث: الحث على إفشاء السلام, وجه ذلك: أن إفشاء السلام من أسباب دخول الجنة. ومن فوائد الحديث: الحث على صلة الأرحام, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعلها من أسباب دخول الجنة إفشاء السلام واجب أو سنة؟ سنة ما لم يكن هجراً, فإن كان هجراً فإنه لا يزيد على ثلاثة أيام, صلة الأرحام واجبة -فرض عين- على الإنسان لأن الله تعالى توعد من لم يصل الرحم فقال تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (22) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} [محمد 22 - 23]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قاطع»؛ يعني: قاطع رحم, فصلة الأرحام إذن واجبة, وتعتبر فرض عين. ومن فوائد الحديث: الحث على إطعام الطعام؛ لأن الرسول جعله من أسباب دخول الجنة ثم هل هو واجب أو لا؟ نقول: يكون أحياناً واجباً سنة, فيكون واجباً في إطعام الجائع إذا وجدت جائعاً إن لم تطعمه هلك وجب عليك إطعامه, ثم اختلف العلماء في هذه الحال إذا لم تطعمه فهلك هل تضمنه أم لا؟ فقال بعض العلماء: إنك تضمنه؛ لأنك تركت

واجباً أوجبه الله عليك فكنت معتدياً, والمعتدي ضامن لظلمه, وهذا كما قال الله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة: 91]. فيكون معنى الآية: على المسيئين سبيل, والقول الثاني: أنه لا يضمنه؛ لأنه لم يهلك بسببه بخلاف ما لو أخذ طعامه منه حتى هلك فهنا رجل وجد مع شخص طعاماً فأخذه منه فجاع صاحب الطعام وهلك فهنا يضمن؛ لأنه تسبب في قتله, ومن الإطعام الواجب إذا كان يتوقف عليه إكرام الضيف فهنا إطعام الضيف واجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» , ومن الإطعام الواجب: إطعام الإنسان من تجب عليه نفقته من زوجة أو قريب, ومن الإطعام الواجب: الإطعام في الكفارات عشرة مساكين, تسعة مساكين, ستين مسكيناً, والباقي-يعني: ما عدا الواجب-فهو سنة, ولا يدخل في ذلك الإطعام الذي يكون إسرافاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأمر بما لا يحبه الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لمن أطعم الطعام أن ينوي بذلك امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأن بعض الناس قد يطعم الطعام لأنه كريم, والكريم يحب الكرم, فينبغي أن يلاحظ أنه يطعم الطعام امتثالاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون بذلك حائزاً على العبادة وعلى الخلق الحسن. ومن فوائد الحديث: فضيلة قيام الإنسان بالعبادة على حين غفلة الناس لقوله: «صلوا بالليل والناس نيام»؛ لأن جملة "والناس نيام" هذه حال. ومن فوائد الحديث أنه من المعلوم أن الليل محل النوم لقوله: "والناس نيام", وهذا هو الموافق للفطرة, ولما خلق الله عز وجل من اختلاف الزمان, ولكن مع الأسف أن الناس في عصرنا هذا -ولاسيما من قريب- جعلوا ليلهم نهاراً ونهارهم ليلاً, حتى الصبيان الصغار الذين كانوا ينامون من حين صلاة المغرب صاروا الآن يبقون إلى الفجر ما ناموا, ثم إذا جاء النهار ناموا, وهذا خلاف ما تقتضيه حكمة الله عز وجل, حيث جعل الليل لباساً والنوم سباتاً. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للمتكلم إذا أراد أن يتكلم في أمر مهم أن يذكر ما يوجب الانتباه لقوله: «يا أيها الناس». ومن فوائد الحديث: جواز السجع في الكلام, فإننا إذا تأملنا الجمل وجدناها سجعاً "السلام", "الأرحام", "الطعام", "نيام", "سلام", وقد جاء ذلك أيضًا في أحاديث أخرى مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق» , ولا شك أن السجع يزين الكلام ويرغب في الاستماع إليه, لكن بشرط ألا يكون متكلفاً, وضابط السجع المتكلف أن يعذب الإنسان الألفاظ ويأتي بألفاظ غريبة صعبة الفهم, أو بألفاظ يحصل بها مع ما إلى جانبها من الكلمات تناقض فهنا لا ينبغي السجع, أما إذا جاء عفواً بمقتضى الطبيعة هذا طيب لاشك ولذلك إذا قرأ الإنسان في كتاب البصرة لابن الجوزي -رحمه الله- يجد لذة, لأن الله أعطاه قدرة

النصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولكل مسلم

بالغة على السجع, وكتابه البصرة ليس موجوداً فيما نعلم لكن الموجود مختصر البصرة لكن نجد كلاماً مسجعاً أو مسجوعاً, ولكنه لا يمله السامع لأنه ليس فيه تكلف. النصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولكل مسلم: 1469 - وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «الدين النصيحة -ثلاثاً- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». أخرجه مسلم. كلمة "الدين" اسم معرف بـ"أل" و"النصيحة" كذلك اسم معرف بـ"أل" وقد ذكر علماء البلاغة أنه إذا صار المبتدأ والخبر معرفتين فالجملة تفيد الحصر, كأنه قال: الدين هو النصيحة, وأي دين يريده الرسول صلى الله عليه وسلم؟ يريد الرسول صلى الله عليه وسلم بالدين ما رضيه الله لنا في قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3]. إذن الدين الذي رضيه الله لنا هو النصيحة, والنصيحة معناها الإخلاص في القصد, لكنها هنا تشمل ما سيذكره الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة ثلاثاً» "ثلاثاً" هذه متعلقة بـ"النصيحة" أو متعلقة بـ"قال"؟ بـ"قال" يعني: قال ذلك ثلاثاً: الدين النصيحة, الدين النصيحة, فأكد اللفظ مرتين بمؤكدات لفظية, قال ابن مالك رحمه الله: (وما من التوكيد لفظي يجي ... مُكرراً كقولك ادرجي ادرجي) كرر هذه لأهمية الأمر وتنبيه السامع, «قلنا: لمن هي يا رسول الله؟ » لما قال: الدين النصيحة الصحابة يعرفون معنى النصح لكن لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» , خمسة أشياء. النصيحة لله ما هي؟ فما هي النصيحة لله؟ النصيحة لله على رأسها عبادته وحده لا شريك له, لأنك في هذا نصحت لله عز وجل فلو عبدت معه غيره ما نصحت له؛ لأنك ساويته بمن هو دونه في حق يختص بالله عز وجل, ومن النصح لله عز وجل: المحبة والتعظيم, وإن كان هذا -أعني: المحبة والتعظيم- هما ركنا العبادة, لكن زيادة على مجرد التعبد بأن يكون في قلبك محبة لله عز وجل, ومن أكبر أسباب محبة الله التي تحدث من العوام وطلبة العلم أن يتذكر الإنسان نعم الله عز وجل, فإذا تذكر النعم أوجب ذلك له أن يحب اله عز وجل يعني: المؤمن العالم قد تزداد محبته لله بمعرفته لآياته الشرعية وآياته الكونية, لكن عامة الناس وكل أحد يعرف أنه يعرف الله بالنعم متى ذكرت الله

كيف تكون النصيحة لكتاب الله؟

ذكرت نعم الله فأحببت الله, ولهذا جاء في الأثر: «أحبوا الله لما يغزوكم به من النعم» , أنت الآن قد يسر الله لك الأكل والشرب واللباس والسكن والأمن, كل هذه يبذل الإنسان فيها الشيء الكثير ولا تحصل له إذا كان الله منعها إياه, فإذا كان الله قد منحك إياها فإنك إذا تفكرت تحب الله عز وجل لن هناك محبة أعظم وهي محبة الله تعالى لما يعرفه الإنسان من آياته الكونية وآياته الشرعية, كذلك أيضًا من النصح لله عز وجل أن تعظمه ولا تستهزئ ولا تسخر به ولا تنتهك حرماته, وعلى هذا فتكون النصيحة لله متضمناً لجميع أنواع العبادة لله عز وجل, ومن النصيحة لله أيضًا: أن تؤمن بما له من الأسماء والصفات, فإن ذلك من أعظم النصيحة لله, لكن من لم يرمن بذلك فهو بين أمرين: إما مكذب وإما معتدٍ, كل من لم يؤمن بما سمى الله نفسه به ووصفها به فهو بين أمرين إما مكذب وإما معتدٍ لا يمكن أن يخرج عن هذا, إما مكذب فيقول مثلاً: ليس لله وجه, وليس لله عين, وليس لله يد, وإما معتدٍ بأن يصرف اللفظ عما أراد الله إلى ما لم يرد الله, وهذا يكون معتدياً من وجهين: الوجه الأول: صرف اللفظ عما أراد الله كالذي يلوي عنق البعير إلى جهة غير الاستقامة والثاني: إثبات ما لم يرد الله؛ لأن هؤلاء المعطلة الذين يقولون: أراد الله باليد كذا وأراد الله بالوجه كذا نقول لهم بكل سهولة: ما دليلكم على هذا وهل الله عاجز على أن ينطق بما قلتم إنه مراده؟ الجواب: ليس بعاجز, وقد قال: إنه له يد وله وجه, وكيف نقول: أنه لم يرد اليد والوجه, ولهذا نقول: كل من أنكر اسماً من أسماء الله أو صفه من صفاته فإنه لا يخرج عن إحدى الدائرتين وهما التكذيب أو العدوان, التكذيب: بأن يقول ليس لله وجه, أو العدوان, وذكرت لكم العدوان يكون بأمرين: الأول: صرف اللفظ عما أراد الله, والثاني: إثبات معنى لم يرده الله عز وجل: وكلاهما ليس من النصح لله في شيء. كيف تكون النصيحة لكتاب الله؟ قوله: "لكتابه", النصح لكتاب الله هو: أن تؤمن أنه كلام الله حقاً حروفه ومعانيه, هذا من النصح لكتاب الله؛ لأن الإنسان إذا لم يعتقد هذه العقيدة صار كلام الله وكلام الناس عنده على حد سواء, لكن لو اعتقد أنه كلام الله عز وجل وأنه تكلم به لفظاً ومعنى لاشك أنه يكون في قلبه من تعظيم هذا الكتاب ما لم يكن لو لم يعتقد ذلك, ولهذا نقول: القائلون بأنه مخلوق لم يعظموا هذا القرآن؛ لأنهم جعلوه كسائر المخلوقات, بل أبطلوا الأمر والنهي؛ لأنك إذا قلت: إنه مخلوق صار معنى أقيموا الصلاة حروفاً مخلوقة على هذا اللفظ على خط مستقيم طولي, ثم دائرة, ثم ياء معكوفة, ثم ميم مدورة, ثم واو مقوسة, فصار ليس له معنى إطلاقاً؛ ولهذا قال علماء السنة: من قال: إن القرآن مخلوق فقد أبطل الأمر والنهي, مثلاً: لا تشركوا, ماذا تكون إذا قلنا: إنها مخلوقة صار المعنى أن الله خلق شيئاً على هذه الصورة لا يدل على معنى, الآن نجد

النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم كيف تكون؟

في النجوم ما يسمى بالقوس نجوم منحنية كأنها قوس, لو أن الإنسان قال: هذه علامة استفهام هل أحد يطيعه على ذلك؟ وهي في السماء يشاهدونها بعد العشاء على صورة استفهام, لو قال قائل: هذه استفهام من الله عز وجل فلا يصح هذه, لأن هذه مخلوقات خلقها الله على هذا الوجه, كذلك إذا قلنا: القرآن مخلوق صار معناه أنها أشكال خلقها الله على هذا الشكل. إذن النصيحة لكتاب الله: أن يؤمن الإنسان بأنه كلام الله حقيقة تكلم الله به حرفاً ومعنىً, ومن النصيحة لكتاب الله التصديق بكل ما فيه من الأخبار سواء كان عن الله, أو عن اليوم الآخر, أو عن الأمم الماضية, أو عن الأحوال المستقبلية, بل كل خبر في القرآن فإن من النصيحة أن يؤمن الإنسان به وألا يتردد في قبوله, حتى لو فرضنا أن العقل قد يستبعده فلا يجوز أن تحكم بالعقل على ما في كتاب الله, بل يجب أن نؤمن وإن كان العقل يستبعده, ومن النصيحة لكتاب الله: امتثال أوامر القرآن سواء كانت أدبية أم خلقية أو تعبدية, يجب أن تمتثل أوامر القرآن على حسب ما يقتضيه النص, لأن هذا من النصيحة لكتاب الله, والاجتناب لما نهى عنه القرآن, فمن لم يفعل ذلك فليس بناصح للقرآن. النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم كيف تكون؟ النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد بقوله: "ولرسوله" فيما يظهر العموم, وإن كان يحتمل أن يكون المراد الخصوص, لأن ظاهر قوله: "لكتابه" أنه القرآن, فلنقل أن المراد به الخصوص, فكيف النصيحة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؟ أولاً: التصديق أنه رسول من عند الله, تصديقاً جازماً لا يعتريه شك, ثانياً: الإيمان بأنه بشر لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا يملك لغيره نفعاً ولا ضراً, فمن قال: إنه يملك النفع والضر فإنه لم ينصح للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول قال: «ما أحب أن تنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله» , فإذا غلوت فيه فما نصحت له؛ لأنك فعلت ما لا يحبه. ومنها -أي: من النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم: الإيمان بأنه عبد الله, وكفى به شرفاً أن يكون عبد الله عز وجل, فتؤمن بأنه عبد لا حق له في الربوبية إطلاقاً, وحينئذٍ يبطل تعلق الناس بالرسول ج في دفع ضرر أو جلب نفع إلا ما كان قادراً عليه في حياته فهذا شيء آخر من النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم أن تؤمن بكل خبر أخبر به لتكون ناصحاً له لكن هذا الحكم فيما علمنا أنه قاله؛ لأن بيننا وبين الرسول واسطة, قد يعزى للرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقله, ولهذا ليس الخبر الذي جاء في السنة كالخبر الذي جاء في القرآن, لأن الخبر الذي جاء في السنة يحتاج إلى النظر أولاً في سنده هل صح أم لا, لكن إذا علمت علماً يقينياً أو ظننت ظناً قوياً أن الرسول قاله, فإن من النصيحة له

أن تصدقه وتؤمن بخبره حتى وإن استبعده عقلك؛ لأنك لو أنكرت ما يستبعده عقلك لم تكن مؤمناً في الواقع بل متبعاً لهواك, ومن النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم: طاعته فيما أمر؛ فإن ذلك من النصيحة له, ولا يرد على هذا أن الصحابة -رضي الله عنهم- أحياناً يعارضون الرسول صلى الله عليه وسلم لكن إذا انكشف لهم الأمر سلموا واستسلموا غاية الاستسلام, مثال ذلك: لما أمرهم حين طاف وسعى في البيت في حجة الوداع أمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة فناقشوه في ذلك فقالوا: يا رسول الله قد سمينا الحج كيف تجعلها عمرة؟ وقالوا: يا رسول الله, أنحل الحل كله؟ قال: "نعم", قالوا: يا رسول الله نأتي النساء؟ قال: "نعم", قالوا: نذهب إلى منى وذكر أحدنا يقطر منياً", إلى هذا الحد وهي كلمة قد يستحي منها كثير من الناس, لكن كل هذا يريدون من الرسول أن ينسخ ما أمرهم به لكنه حتم عليهم, قال: افعلوا ما أمرتكم به, فهل فعلوا؟ الجواب: فعلوا, فلا يعد هذا من ترك النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المراجعة في وقت التشريع جائزة, إذ قد يختلف الشرع, ولهذا لما أثر النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم لحوم الحمر أمر أن تكسر القدور, لأن الحمر الأهلية قد حرمت وهي تفور على النار, قد ذبحوها وقطعوا لحمها وجعلوها في قدور فحرمت وأمر أن تكسر القدور فقالوا: يا رسول الله أونغسلها؟ فقال: "أغسلوها" هنا الأمر نسخ بالثاني, فالصحابة يراجعون الرسول صلى الله عليه وسلم لعل الأمر ينسخ, ومثل ذلك أيضًا تأخرهم عن الحلق في صلح الحديبية حيث تأخروا يرجون النسخ, فلما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بمشورة أم سلمة إليهم دعا بالحلاق وحلق رأسه جعلوا يحلقون رءوسهم حتى كاد بعضهم يقتل البعض غما. المهم: أن من النصيحة للرسول طاعته فيما أمر, ولا يرد على ذلك أن الصحابة -رضي الله عنهم- أحياناً يناقشونه؛ لأنهم يناقشونه لا عصياناً, ولكن يرجون النسخ, وقد وقع النسخ بعد مراجعتهم إياها كما في حديث تكسير القدور. النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم أن يجتنب الإنسان ما نهي عنه, فإذا نهي عن شيء فليجتنبه حتى وإن هوته نفسه؛ لأن الخير فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأعلم أن العافية ستكون حميدة إذا نصحت للرسول صلى الله عليه وسلم, وقد أشار الله إلى النصح له ولرسوله في قوله: {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة: 91]. فلابد من النصح للرسول. ومن النصح للرسول صلى الله عليه وسلم: الذب عن سنته, لأن النبي صلى الله عليه وسلم له أعداء, قال الله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} [الفرقان: 31]. فله أعداء, فمن النصيحة له: أن تذب عن سنته

النصح للولاة وللعلماء

صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والإقرارية, وهذا أمر ظاهر, فالسكوت عن الذب عن سنته ليس من النصيحة بل عليك أن تذب عن سنته صلى الله عليه وسلم كلما دعت الحاجة إلى ذلك. ومن النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم: إعانته ومشاركته في الجهاد في سبيل الله كما وقع للصحابة -رضي الله عنهم-, فإنهم قاتلوا معه ولم يتخلف عنه عاتبهم الرسول صلى الله عليه وسلم أشد عتاب ككعب بن مالك وصاحبه حتى تابوا إلى الله عز وجل فمحا الله عنهم ما جرى. النصح للولاة وللعلماء: النصح لأئمة المسلمين, "أئمة": جمع إمام والمراد به: كل من يقتدي به, فيشمل الأمراء, ويشمل العلماء, ويشمل أئمة المساجد, ويشمل نظراء المدارس وغيرهم؛ لأن قوله: "الأئمة" جمع إمام, المراد: كل من يؤتم به سواء الإمامة الكبرى أو الصغرى وسواء إمامة دينية أو إمامة أميرية, النصح لولاة الأمور أو لأئمة المسلمين أمر مهم, وهو أهم نم النصح لعامتهم ولكن كيف يكون ذلك؟ لابد من سلوك الحكمة في النصيحة لهم, فالعلماء لهم نصيحة خاصة والأمراء لهم نصيحة خاصة والطرق الموصلة إليهم تختلف أيضاً باختلاف الأحوال. فالنصيحة للعالم أولاً: أن يحمل الإنسان ما أخطأ فيه على حسن النية بقدر الإمكان؛ لأن العالم لابد أن يفتي إلا أن يشاء الله وكل إنسان معرض للخطأ, فتحمل خطيئته على أحسن المحامل متى وجدت لذلك مساغاً. ثانياً: أن تناقشه فيما ترى أنه أخطأ فيه, لكن قد تكون المناقشة علانية وقد تكون سرية, فيتبع الأصلح في ذلك, فإن أشكل عليك بالسرية فلا بأس بالعلانية, السرية في الغالب أنفع وأجدى. النصيحة للأمراء: أولاً: أن تعتقد وجوب طاعتهم في غير معصية الله؛ لأنك إذا لم تعتقد ذلك فلن تطيعه, ومن الذي أوجبها؟ الله عز وجل في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]. وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا» وفي مبايعة الصحابة له على ذلك كما في حديث عبادة بن الصامت: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ويسرنا وعسرنا وأثرة علينا». ثالثاً: أن تطيع أوامره, هذا من النصيحة لهم إلا في معصية الله, وإن عصوا نطيعهم إلا في معصية الله, يعني: لو كانوا فساقاً يشربون الخمر ويلعبون القمار يجب علينا طاعتهم حتى في هذه الحال؛ لأنه يجب أن نطيعهم وإن عصوا, لكن في المعصية لو يأمروننا بأدنى معصية ولو لم تكن كبيرة, فإنه لا يجب علينا أن نطيعهم وإن عصوا, لكن في المعصية لو يأمروننا بأدنى معصية ولو لم تكن كبيرة فإنه لا يجب علينا أن نطيعهم, ولكن هل ننابذ أو أن نقول: لا نستطيع أن نفعل

نقابلهم بهدوء لعلهم يرجعون؟ الثاني يتعين؛ لأن منابذتهم قد تؤدي إلى أن يركبوا رؤوسهم وأن يلزموك ويكرهوك على الشيء لكن إذا أتيت بهدوء ونصيحة وقلت: ربنا وربك الله, والله عز وجل نهى عن هذا, والذي أوجب علينا طاعتكم هو الله, لكن في غير المعصية وتهادنه فإن اهتدى فهو المطلوب, وإن لم يهتد فأنت معذور لأنك مكره. الثالث: من نصيحتهم: ألا نثير الناس عليهم, وإثارة الناس عليهم ليس معناها أن نقول: يا أيها الناس ثيروا على أمرائكم هذه ما أحد يقول هكذا, لكن ذكر المساوئ وإخفاء المحاسن توجب إثارة الناس؛ لأن الإنسان بشر, وإذا ذكر لشخص المساوئ دون ذكر المحاسن سوف يمتلئ قلبه بغضاً لهذا المذكور, أما إن ذكر محاسنه ولم يتعرض لمساوئه فسوف يمتلئ قلب الإنسان بفضائله فهذا أيضًا من نصيحتهم, وقد جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين. الأمر الرابع: إبداء خطأهم فيما خالفوا فيه الشرع, بمعنى: ألا تسكت, ولكن على وجه الحكمة والإخفاء, ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الإنسان من الأمير شيئاً أن يمسك بيده وأن يكلمه فيما بينه وبينه, لا أن تقوم في الناس وتنشر معايبه؛ لأن هذا يحصل به فتنة عظيمة, السكوت على الباطل لا شك أنه خطأ, لكن الكلام في الباطل الذي يؤدي إلى ما هو أشد هذا خطأ أيضًا, فالطريق السليم الذي هو النصيحة, وهو من دين الله عز وجل, هو أن يأخذ الإنسان بيده ويكلمه سراً أو يكاتبه سراً, فإن أمكن أن يوصله إياه فهو المطلوب وإلا فهناك قنوات الإنسان البصير يعرف كيف يوصل هذه النتيجة إلى الأمير بالطريق المعروف, الخامس: احترامه الاحترام اللائق به, وليس احترام ولي الأمر كاحترام عامة الناس, ربما يأتيك فاسق من عامة الناس لا تبالي به ولا تكلمه, ولكن ولي الأمر على خلاف ذلك, ولاسيما إذا كان أمام الناس, لأنك إذا ظهرت أنك غير مبال به فإن هذا ينقص من قدره أمام الناس ونقصان قدر الأمير أمام الناس, لأنك إذا ظهرت أنك غير مبال به فإن هذا ينقص من قدره أمام الناس ونقصان قدر الأمير أمام الناس له سلبيات خطيرة جداً, ولاسيما إذا كثرت البلبلة وكثر الكلام فإنه يؤدي إلى مفاسد عظيمة, وكما تبين لمن كان منكم متأملاً أحوال الناس اليوم. السادس: من النصيحة له: ألا تكذب عليه ونظهر له أن الأمور على ما ينبغي وهو خلاف الواقع؛ بمعنى: أن نبين له حقائق الأمور على ما هي عليه إن سيئة أو صالحة؛ وذلك لأن بعض الناس-والعياذ بالله- يغش الأمير, يذكر له أن الأشياء على ما يرام زعماً منه أنه يريد إدخال السرور على الأمير وهذا غلط عظيم, الواجب أن تذكر الأمور على ما هي عليه؛ لأنه لا يمكن لإنسان أن يداوي جرحاً حتى يعرف مادته ويستخرجها, وإلا فكم قال الشاعر: [الوافر] (إذا ما الجرح ضمَّ على فسادٍ ... نبين فيه إهمال الطبيب)

أعظم نصيحة النصح للعلماء

فليس من النصيحة أن نقول: أدخل السرور عليه ويفرح، والأمور على ما ينبغي، أمن تام ورخاء تام، ونعمة تامة، والشعب كله شبعان، والشعب كله يشكر لك، والأمر بخلاف هذا فذلك ليس بصحيح، ولهذا من أخطر الناس وأغش الناس أولئك الصحفيون الذين إذا سمعت الصحف الأجنبية في مدح رؤسائهم قلت: هؤلاء من أحسن الرؤساء وهم من أسوأ الرؤساء، لكن هؤلاء ليس عندهم نصح، فالواجب في نصيحة ولي الأمر أن يبين له الحقيقة حتى يسير على منهج سليم، هذه الأمور الستة لابد أن يلاحظها الإنسان إذا كان ناصحاً لولاة الأمور. من النصح لولاة الأمور أيضاً: القيام بالوظائف التي تحت إمرتهم -أو هذا هو السابع-؛ لأن بعض الناس يكون موظفاً عند أمير وسواء كان الأمير السلطان الأعلى أمن دونه ولكنه لا يقوم بالوظيفة على ما ينبغي إما بقصد شيء؛ ليظهر فشل الأمير، وأن الأمير غير قادر على تدبير ما تحت يده أو بغير قصد سيء لكنه متهاون، فهذا لم ينصح لأئمة المسلمين، وعلى هذا يكون ناقصاً في دينه، إذن كل الذين يتهاونون في أداء الواجب في الوظائف يعتبرون غير ناصحين لأئمة المسلمين؛ لأن النصح أن تعمل وكأنك أنت المسئول الأول؛ يعني: لو أن الموظفين عملوا وكان الواحد منهم هو المسئول الأول لصارت الأمور على ما ينبغي، لكن كثير من الموظفين إنما يستبقون الوظائف من أجل الرغبات الخاصة، ولذلك قل أن تجد الناصح، هذه سبعة أمور كلها تدخل تحت قول الرسول: "لأئمة المسلمين" وربما تكون هناك أشياء عند التأمل لا تحضرني الآن. أعظم نصيحة النصح للعلماء: لكن نرجع الآن إلى الأئمة الآخرين وهم العلماء، وما أدراك من العلماء؟ العلماء: مصابيح الدجى ومنارة الهدى، العلماء هم المسئولون الأولون عن هذه الأمة؛ لأنهم يحملون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في صدروهم يؤدونها إلى الناس، فعليهم مسئولية الأمة وهم أشد الناس مسئولية، لأن الأمراء يتوجهون بتوجيه من العلماء، العامة يتوجهون بتوجيه العلماء فالنصيحة لهم من أوجب الواجبات، وهي داخلة في النصيحة لكتاب الله ورسوله. النصيحة للعلماء أولاً: أن تسأل الله لهم التوفيق للصواب؛ لأن العلماء إذا ضلوا أضلوا، فينبغي أن نسأل الله دائماً لعلماء المسلمين أن يوفقوا للصواب؛ لأن هذا من الأمور المهمة، وكذلك أيضاً ألحقوا هذا بالنصح لولاة الأمور من الأمراء بالدعاء لهم بالتوفيق والسداد، وأن يصلح لهم البطانة ويعيذهم من سوء البطانة. ثانياً: من النصيحة للعلماء إذا أخطأ العالم -وكل عالم معرض للخطأ- فالنصيحة حقيقة للعالم ولدين الله عز وجل أن تتصل بالعالم وتخاطبه مخاطبة الأخ لأخيه إن كان مساوياً لك، أو

مخاطبة الابن لأبيه إن كان أعلى منك، وتناقشه بأدب واحترام وهدوء فيما كان مخطئاً فيه في ظنك حتى يتبين هل هو أخطأ أم لم يخطئ، وعلى العالم ألا يستنكر من بيان الخطأ ممن دونه، فكم من إنسان دون غيره وفق للصواب ولم يوفق من هو أعلم منه، تناقشه بهدوء حتى تبين له الحق ويرجع. ومن النصيحة للعلماء: ألا تنشر أخطاءهم بين الناس، مع العلم بأنهم قد يكونوا هم على الصواب، لكن بعض الناس إذا رأى خطأ في ظنه من عالم طار به فرحاً ونشره بين الأمة؛ لأنه يحب أن يذل هذا العالم يشمت فيه الناس، وهذا -والله- من النصيحة، النصيحة إذا أخطأ العالم أن يوجه -وكما قلنا في الفقرة الماضية- بهدوء وإرادة الصواب، ومن العجب أن بعض الناس من غشه للعلماء أنه إذا كتب الإنسان مقالاً فيه حرف فيه خطأ وفيه صواب، يأخذ الخطأ ويترك الصواب، وربما كان هذا الصواب الذي حذفه مقيداً للخطأ، فيكون هذا مثل الذي يقول فويل للمصلين، أو يقول: لا تقربوا الصلاة، وهذه جناية -والعياذ بالله- وخيانة، وليست من النصيحة، لكن مع الأسف الشديد أن الحسد بين العلماء أكثر منه في غيرهم نسأل الله السلامة، مع أن الواجب على العلماء هو أن يكونوا يداً واحدة؛ لأنهم يحملون الشريعة، ثم إذا أتى الله أحداً منهم فضلاً فقد قال الله عز وجل: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعضٍ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله} [النساء: 32]. أنت إذا رأيت الله قد من على شخص بعلم ودين وجاه فلا تحسده، بل قل: اللهم زده حتى ينفع الناس؛ لأن الإنسان إذا كان له جاه صار انتفاع الناس به أكثر فقل: اللهم زده وكما أعطيته فأعطني أسأل الله من فضله ولا تتمنى ما فضل الله به غيرك عليك. رابعاً: من النصيحة للعلماء: نشر ما يبثونه من العلم بشريعة الله، وهذه مساعدة للعلماء؛ يعني مثلاً: عالم حضر عنده عشرون طالباً، إذا نشر كل واحد من هؤلاء علمه لعشرة أنفار كم يكونون؟ مائتين بالإضافة إلى العشرين، وهذه لا شك أنها من النصح للعلماء أن تنشر، علمه وسواء أضفت هذا إليهم فقلت: قال العالم الفلاني كذا أم لم تضفه؛ لأن الذي يعطي الأجر الله سبحانه، وهو عالم -سبحانه وتعالى- بمن نشر هذا العلم؛ ولهذا لا ينبغي للإنسان مثلاً أن يجزع إذا قال أحد بقوله ولم ينسبه إليه؛ لأن يقول: الحمد لله أنت لا تريد أن تشتهر عند الناس، ولا تريد رضا الناس، ولا تريد ثواب الناس إنما تريد ثواب الله عز وجل، فإذا نشر قولك سواء نسبه إليك أو لا فهذه من نعمة الله عليك ومن بركة علمك. الخامس: من النصيحة للعلماء: أنك إذا رأيت العالم فعل ما يزدريه الناس به أن تنصحه وتقول: الناس انتقدوك في كذا حتى وإن لم يكن مسألة شرعية؛ لأنكم تعلمون أن العوام

النصح للعامة كيف يكون؟

وصفوا بأنهم هواك يأتون الناس من تحت ثوبهم فأنت إذا رأيت من عالم ما ينقد عليه وإن لم يكن على وجه شرعي تبين له، والعالم يجب عليه أن يبين للناس ما اشتبه عليهم مما فيه ريبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر الرجلان الأنصاريان به وهو معه صفية قال: إنها صفية؛ لأن الناس قد يشمتون بالعالم لكونه فعل ما لا يعرفونه لكنه سنة، مثلاً: رأى إنسان شخصاً يمشي حافياً، المشي عند الناس حافياً من أكبر العيوب حتى ربما يقف الناس ينظرون إليه، هذا يبيبن أن من السنة أن يمشي الإنسان حافياً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كثرة الإرفاد ويأمر بالاقتفاء أحياناً، هذه أيضاً من النصيحة للعلماء، وهذا ما يحضرني الآن. النصح للعامة كيف يكون؟ أما النصيحة للعامة، فالنصيحة للعامة لا تتكلف كما يتكلف الإنسان النصيحة للعلماء؛ لأن العامي عامي، ممكن أن تنكر عليه بدون ذكر الدليل وبدون مناقشة، لأنه عامي، أحياناً العامي يطلب الدليل، فمن النصيحة له أن تبين له الدليل، وأن تنزله منزلته، وقد يكون بعض العوام من المستحسن أن تقابله ببشاشة حتى يقبل، وبعض العوام يقتضي خلاف ذلك، المهم: أن تعامل العامي بما يجعله منقاداً للحق مطمئناً به، هذا هو الضابط في نصيحة العامة، هذا الحديث في الحقيقة من أعظم الأحاديث وأعمها، وأنفعها؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الدين نصيحة" لهؤلاء الخمسة، نسأل الله أن يوفقنا لذلك. الترغيب في تقوى الله: 1470 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «أكثر ما يدخل الجنة: تقوى الله وحسن الخلق» أخرجه الترمذي، وصححه الحاكم. "أكثر ما يدخل الجنة" يعني: هناك أسباب لدخول الجنة كما مر علينا في حديث عبد الله بن سلام، لكن أكثر ما يدخل هذان الشيئان: "تقوى الله وحسن الخلق"، وأنتم تعلمون كثرة النصوص الواردة في التقوى حثاً وترغيباً وأمراً، وتقوى الله عز وجل يجمعها شيئان هما امتثال أمر الله واجتناب نهي الله على علم وبصيرة، أما حسن الخلق فسبق الكلام عليه، ولا حاجة إلى إعادة الكلام عليه لئلا يتكرر.

حسن الخلق

حسن الخلق: 1471 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق». أخرجه أبو يعلى، وصححه الحاكم. وما أجدر هذا الحديث بالتصحيح: "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم"، هذا صحيح، الإنسان لا يمكن أن يسع الناس بماله ولو كان عنده أموال الدنيا كلها؛ يعني: أنك لابد أن تعطي كل الناس إذا أردت رضاهم عنك تعطيهم دراهم، فتأتي لتعطي أحدهم عشرة ريالات فيقول: ما أرضى أريد عشرين، هل يمكن أن تسع الناس بمالك؟ لكن تسعهم وتجذبهم وتحببهم إليك بشيئين: "بسط الوجه"، وبسطه: توسيعه؛ بأن يكون الوجه منبسطاً، وضده أن يعبس الإنسان، الإنسان إذا عبس ضاق وجهه، والثاني: "حسن الخلق" بالمقال والفعال، فإذا استعملت هذا فثق بأنك ستسع الناس وستملك قلوبهم، وكم من إنسان ليس إلى ذاك في الجود والكرم لكن عنده حسن خلق وبشاشة وبساطة وجه، فتجده محبوباً إلى الناس كثيراً لما عنده من البشاشة وبسط الوجه وحسن الخلق، مثلاً: تعين من احتاج إلى معونة، تمازح من احتاج إلى مزح، وتضحك إلى من احتاج إلى ضحك، إن النبي صلى الله عليه وسلم -كما مر علينا- كان يمزح من أجل أن يدخل السرور على صاحبه حتى لا يبقى مغتماً خائفاً هائباً، إذن استعمل هذا مع الناس إذا أردت أن تسعهم. المؤمن مرآة أخيه: 1472 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «المؤمن مرآة أخيه المؤمن». أخرجه أبو داود بإسنادٍ حسنٍ. "المؤمن مرآة أخيه"، وهذا أيضاً حديث جيد في المعنى، "المؤمن مرآة أخيه"، تصور الآن أنك تنظر في مرآة، المرآة لا يمكن أن تكتمك محاسنك ولا مساوئك، إن كان في الوجه لطخة من أذى رأيتها فيه، إذا كان الوجه نظيفاً رأيته فيها نظيفاً، المؤمن لأخيه بهذه المنزلة لا يمكن أن يكتمه خلقاً كان عليه، إن رأى منه حسناً بينه له وشجعه عليه ورغبه فيه، وقال: أنت على خير وعلى أجر وثواب، وإن رأى سوءاً بينه -أيضاً- له حتى يكون صريحاً معه، فيحذره من هذا السوء ويبين لع عاقبته، حتى يرى الإنسان خلقه الباطن في فكر أخيه، كأنما ينظر إلى خلقته الظاهرة بالمرآة، وهذا هو الناصح وهذا هو الأخ، أما من يكتم المساوئ ويبين المحاسن وربما

مخالطة الناس والصبر على أذاهم

يزيد عليها كاذباً، فهذا ليس بمؤمن، وهذا ناقص الإيمان، المؤمن حقاً هو الذي يكون لأخيه بمنزلة المرآة؛ ولهذا قال: "المؤمن مرآة أخيه". لو قال قائل: أخشى إن بينت لأخي المساوئ أن يغضب. فنقول: نعم هذا وارد، لكن لا تبين المساوئ وتكتم المحاسن، قل: والله أنت فيك الخلق الفلاني وهذا خلق طيب، ولكن لابد لكل جواد من كبوة، ولكل سالم نبوة، وربما يستنكر بعض الناس منك فعل كذا وكذا فلو تجنبته لكنت أكمل وأحسن، وتأتي به بهدوء، حينئذٍ تكون بينت المحاسن والمساوئ. مخالطة الناس والصبر على أذاهم: 1473 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم». أخرجه ابن ماجة بإسناد حسنٍ، وهو عند الترمذي، إلا أنه لم يسم الصحابي. وعدم تسمية الصحابي لا تضر؛ لأن الصحابة كلهم عدول، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم"، يخالطهم يعني: يذهب معهم، ويجيء معهم، ويجلس إليهم، ويتكلم معهم، وضده من لا يخالط الناس وهو المعتزل للناس، يقول صلى الله عليه وسلم: "ويصبر على أذاهم"؛ لأن الإنسان الذي يخالط الناس لابد من أذية، لابد أن يسمع كلاماً يؤذيه، لابد أن يرى فعلاً يؤذيه، لابد أن يهان، المهم هذا شيء معروف، لكن يصبر على أذاهم ويصابر، ويقول: الذي لا يأتي اليوم يأتي غداً، ويستحضر دائماً قول الله عز وجل: {خذ العفو} [الأعراف: 199]. هذه الآية اجعلها دائماً أمامك في معاملة الناس لك {خذ العفو} أي: ما عفا وسهل فخذه، وما لا فلا تهتم به؛ ولهذا قال: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199]. كذلك يقول: "خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس"، وعلى هذا فقوله: "من الذي"، "الذي" صفة لموصوف محذوف والتقدير من المؤمن، دليل ذلك وجودها في الجملة الأولى: "الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"، ثم إن المؤمن الذي يخالط الناس يعرف الناس ويعرف أحوالهم ويعرف ما أخطأوا فيه، فيحاول أن يعدله، ويعرف مشاكل الناس، ويحاول أن يحلها، فمخالطة الناس فيها خير، وربما يستغني عن مخالطة الناس بتوكيل وتعميد من يخالط الناس ويخبره بأحوالهم حتى يكون على بصيرة من الأمر ويستطيع أن يعالج مشاكل الناس.

الدعاء بحسن الخلق

في هذا الحديث فوائد: منها: تفاضل الناس في الإيمان، وجه الدلالة قوله: "خير". وفيه أيضاً: أن الأعمال تزيد بالإيمان، لأن الخيرية التي تثبت بأفعال وهي مخالطة الناس والصبر على أذاهم، إذن الأعمال من الإيمان يزيد بزيادتهم وينقص بنقصانها. ومن فوائد الحديث: أن الخلطة مقدمة على العزلة؛ يعني: لو قال قائل: هل الأفضل أعتزل في بيتي ولا أخرج من بيتي إلى المسجد ولا أكلم الناس ولا أخالطهم، أو الأفضل أن أخالط الناس؟ قلنا: ظاهر الحديث أن الأفضل المخالطة والصبر على أذاهم، ولكن في هذا تفصيل: إذا كانت مخالطة الناس تؤدي إلى الوقوع في المحرم مثل ألا أجد مخالطة إلا مع قوم يلعبون القمار أو مع قوم يشربون الخمر فهنا لا شك أن العزلة عنهم واجبة؛ لأن البقاء معهم بقاء على منكر، والبقاء على المنكر محرم، وعلى هذا فيقال: الخلطة أفضل من العزلة هذا من حيث الأصل، لكن قد يكون هناك أحوال يفضل فيها العزلة على الخلطة؛ فلا يقال: إن الخلطة أفضل مطلقاً، ولا العزلة أفضل مطلقاً، لكن عند الموازنة بينهما بقطع النظر عن العوارض نقول الخلطة أفضل. ومن فوائد الحديث: حث النبي صلى الله عليه وسلم على الاختلاط بالناس؛ حتى يعرف الإنسان أحوالهم ويكون منهم على بصيرة، أنت إذا لم تخالط الناس لا تدري ما الذي يحدث في المجتمع، ولا تدري ما مشاكل الناس حتى تحاول حلها، ولا تدري حال الرجل المعين حتى تعامله بما تقتضيه حاله، فلابد من الاختلاط. الدعاء بحسن الخلق: 1474 - وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «اللهم كما أحسنت خَلقي، فحسن خُلقي». رواه أحمد، وصححه ابن حبان. هذا الحديث أيضاً جدير بالصحة: "اللهم كما حسنت خلقي"، يقوله الآدمي أيا كان قدره حتى لو كان من أشد الناس دمامة فهو حسن الخلق، فإنه لا شيء من مخلوقات الله -فيما نعلم- أكمل من خلقه الإنسان، فالإنسان بخلقته مكمل مفضل على غيره، خلقته أحسن خلقة، قال الله عز وجل: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4]. وقال: {لقد خلقنا الإنسان في كبدٍ} [البلد: 4]. أي: في ارتفاع وعلو على غيره، وقيل: {في كبدٍ} مكابدة الأمور، وكلا المعنيين صحيح، لكن على كل حال الإنسان خلقته محسنة على كل الحيوانات.

6 - باب الذكر والدعاء

نقول: "كما حسنت خَلقي فحسن خُلقي"، والخُلق: هو الصورة الباطنة، كم من إنسان جميل الخلقة من أحسن الناس لكن خلقه سيئ، فيغطي سوء خلقه محاسن خلقته، وكم من إنسان دميم الخلقة ولكنه حسن الخلق، فيغطي حسن خلقه دمامة خلقته، فإذا اجتمع الأمران صار هذا خيراً، لكن على كل حال: قل: اللهم كما أحسنت خَلقي فحسن خُلقي. ففي هذا الحديث فوائد منها: جواز التوسل بأفعال الله عز وجل لقوله: "كما حسنت خلقي فحسن خلقي" كقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم"، والتوسل إلى الله بأفعاله توسل شرعي. ومن فوائد الحديث: الثناء على الله عز وجل، والاعتراف له بالنعمة بتحسين الخلقة. ومن فوائده: حث الإنسان على سؤال الله تعالى أن يحسن خلقه؛ لأنه إذا حسن الله خلقه استراح واطمأن، وصار دائماً في رضا لا يغضب، وإذا غضب فهو سريع القيئة، ولا يعيش في وجه أحد تجده دائماً راضياً مرضياً عنه. * * * * 6 - باب الذكر والدعاء لما انتهى رحمه الله من ذكر الأخلاق ومحاسنها ومساوئها، ثم ختم كتابه بهذا العنوان العظيم الذكر والدعاء. حقيقة الذكر وأنواعه: الذكر باللسان بكسر الذال وبالقلب بضم الذال، فإذا كان بمعنى التذكر فهو بضم الذال نقول: نسيت فلاناً بعد الذكر هذا ذكر القلب، ولا تقول: بعد الذكر؛ لأن الذكر هو قول الإنسان كما ذكره أهل اللغة، وقيل: إنه يجوز الكسر في المعنيين جميعاً؛ يعني: يجوز أن تجعل ذكر القلب وذكر اللسان بالكسر، أما ذكر اللسان فلا يقال بالضم، فصار عندنا ذكر اللسان بالكسر، وذكر القلب بالضم، هذا هو الأفصح، وبعض علماء اللغة يقول: لا يجوز غيره، ولكن بعضهم قال: إنه يجوز الكسر، وما المراد بالذكر؟ المراد به ذكر الله عز وجل، ثم اعلم أن ذكر الله تعالى يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالجوارح، إذن متعلقاته ثلاثة: القلب، واللسان، والجوارح، وأهمها ذكر القلب، ولهذا قال الله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} [الكهف: 28]. ولم يقل: من أغفلنا لسانه أو جوارحه، بل قال: {قلبه}، ولذلك يكون الذكر باللسان والجوارح دون القلب قشوراً بلا لب، تجد الإنسان لا يزداد به إيماناً ولا ينتفع به ذلك الانتفاع، لكن إذا اجتمع ذكر القلب واللسان والجوارح هذا أعلى الذكر، فعليك أن تذكر الله دائماً بقلبك، واحرص على أن يكون قلبك حاضراً عند الذكر باللسان والجوارح، الذكر باللسان:

حقيقة الدعاء وشروط الاستجابة

هو قول اللسان وهو معروف: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، الذكر بالجوارح: العمل بطاعة الله، قال الله تعالى: {اتل مآ أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45]. ذكر الله بعد الصلاة أكبر، وقال تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9]. وهذا أمر بالسعي إلى الخطبة وهي من ذكر الله وإلى الصلاة أيضاً، لكن إذا ذكرت أفعال الجوارح والذكر صار خاصاً باللسان؛ يعني مثلاً، ذكرت الصلاة وبعدها ذكر مثل: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله} [النساء: 103]. فجعل الذكر بعد القضاء من الصلاة، فنقول: المراد بالذكر هنا: ذكر اللسان المعروف، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وذكر القلب: التفكر في آيات الله هو ذكر القلب، عندما نقول: لا إله إلا الله نتفكر في معناها هذا ذكر القلب، وقد لا يكون هناك ذكر باللسان أو الجوارح، لكن ذكر القلب كالتفكر في خلق السموات والأرض. حقيقة الدعاء وشروط الاستجابة: الدعاء: دعاء الله عز وجل، ودعاء الله تعالى يكون بلسان المقال، وبلسان الحال، فإذا قلت: اللهم اغفر لي، فهذا دعاء بلسان المقال، وإذا قرأت القرآن فهو دعاء بلسان الحال؛ لأن قارئ القرآن ماذا يريد؟ يريد الثواب، فكأنه يقول بلسان حاله: اللهم أثبني؛ ولهذا نقول: الدعاء عبادة، والعبادة دعاء، الدين دعاء، والدعاء دين، قال الله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي} [غافر: 60]. قال {ادعوني} ثم قال: {يستكبرون عن عبادتي}، فدل هذا على أن الدعاء عبادة، والدعاء دين أو من الدين، قال الله -تبارك وتعالى-: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} [لقمان: 32]. هل هم يركعون ويسجدون؟ لا، هم يسألون الله أن ينجيهم، فسمى الله دعاءهم ديناً؛ إذن الدعاء من الدين والدعاء من العبادة، والعبادة دعاء، والدين دعاء؛ لأن كل إنسان يدين بالله إنما يريد الثواب فهو دائم بلسان الحال، لكن إذا ذكر الذكر والدعاء هنا يفترقان يكون الذكر ما أشرنا إليه أولاً، والدعاء دعاء السؤال بلسان المقال أن نقول: اللهم اغفر لي وارحمني ... إلخ، واعلم أن الدعاء هو إظهار العبد افتقاره إلى الله عز وجل، واستغاثته به، واعتماده عليه، فهو في الحقيقة يمثل حقيقة العبودية، وأن الإنسان مضطر ومفتقر إلى ربه، ولهذا كلما اشتدت الحاجة إليه كان الإنسان إلى ربه أخبت وأطوع؛ لأنه يعلم أنه لا ينجيه إلا الله عز وجل، لكن له شروط وآداب، من أهم شروطه: أن يكون الإنسان معتقداً أنه عاجز عن حصول مطلوبه إلا بالله، يعني: أن يعرف أنه عاجز مفتقر إلى الله غاية الافتقار، أما أن يدعو وهو يشعر بأنه مستغنٍ عن الله فهذا لا يجاب، وكيف يجيب الله عز وجل، شخصاً يدعو الله وهو يرى أنه غير محتاج إلى الله؟ !

آداب الدعاء

ثانياً: أن يعتقد أن الله -سبحانه وتعالى- لا يخيب سؤاله، بل هو قادر على إجابته؛ ولهذا لو دعا ويشك هل يجيب الله دعاءه أو لا؟ لا يجاب، وفي الحديث: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة". الثالث: أن يتجنب أكل الحرام، فإن أكل الحرام من أكبر موانع الإجابة، واستمع إلى الحديث العظيم وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين"، فقال تعالى: {يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً} [المؤمنون: 51]. وقال تعالى: {يأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله} [البقرة: 172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطمعه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأني يستجاب لذلك"، هذا الرجل جمع أسباب الإجابة وهي إطالة السفر، والثاني أشعث أغبر مهتم بالعبادة دون هندام نفسه، يمد يديه إلى السماء، ومد اليدين من أسباب الإجابة، يقول: يا رب يا رب، يتوسل إلى الله تعالى بربوبيته التي بها يكون الخلق والتقدير والأمر والتدبير، ومع ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فأني يستجاب لذلك"؛ لأنه كان يأكل الحرام ويشرب الحرام ويتغذى بالحرام فأنى يستجاب لذلك، الشرط الرابع: ألا يدعو بإثم فإن دعا بإثم أو قطيعة رحم فإنه لا يجاب لو سأل ما لا يمكن شرعاً فإنه لا يجاب، لو سأل الله أن يجعله نبياً، مسكيناٌ ما رضي أن يكون عالماً فقال: اللهم اجعلني نبياً فلا يجاب لو سأل أن يجمع الله تعالى بين النقيضين لا يجاب هذا الثاني: لو سأل ما لا يمكن عقلاً وقدراً، فمن شرط إجابة الدعاء ألا يدعو بإثم أو قطيعة رحم، وإن شئت فقل: ألا يعتدي في دعائه، وهذا أعم وأشمل لقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً إنه لا يحب المعتدين} [الأعراف: 55]. آداب الدعاء: وللدعاء آداب كثيرة منها: رفع اليدين عند الدعاء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حييٌّ كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً"، فقوله: "إذا رفع إليه يديه" يدل على أن رفع اليدين من أسباب إجابة الدعاء، إلا في المواطن التي جاءت السنة فيها بعدم الرفع إما صريحاً وإما ظاهراً، فهنا لا ترفع إما صريحاً كرفع اليدين من الخطيب في خطبة الجمعة، فإن الرسول كان لا يرفع يديه إلا في الاستسقاء أو الاستصحاء، ومن ذلك أيضاً الدعاء في الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في دعاء الصلاة لا يزيد على الاستفتاح وهو قوله: "اللهم باعد

فضل المداومة على ذكر الله

بيني وبين خطاياي ... إلخ"، ولا في الدعاء بين السجدتين، ولا في التشهد، لا يرفع يديه إلا في القنوت؛ فإنه كان يرفع يديه إذا قنت لقوم أو على قوم، وما عدا ذلك فإنه لا رفع لليدين في الصلاة في الدعاء، وإما ظاهراً مثل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل"، فإن ظاهر الحديث أنه كان لا يرفع يديه. فالمهم: أن الأصل في الدعاء رفع اليدين إلا إذا أوردت السنة بعدم الرفع ظاهراً أو صريحاً فلا يرفع، قو المصلي بعد السلام: "أستغفر الله" هذا دعاء، لكن هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرفع يديه؟ لا، ظاهر السنة ألا يرفع؛ لأن الذين يصفون صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لا يقولون أنه كان يرفع يديه عند الاستغفار. من آداب الدعاء: ألا يخص الإمام نفسه بالدعاء الذي يجهر به ويؤمن عليه الناس في دعاء القنوت، قنوت الوتر، لا يقل: اللهم اهدني فيمن هديت، مع أن الواجب في السنة الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم للحسن: اللهم اهدني، لكن الإمام لا يقل: اللهم اهدني، وقد جاء في الحديث: "إذا خص الإمام نفسه بالدعاء فقد خانهم" يعني: المأمومين؛ لأنك أنت تقول: اللهم اهدني، والناس يؤمنون على دعائك لنفسك، فإذا كان وراءك أناس قل: اللهم أهدنا فيمن هديت ... إلخ، ولهذا جاء الدعاء في الفاتحة بلفظ الجمع: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين} [الفاتحة: 6، 7]. فقد استشكل بعض العلماء قال: كيف يكون الدعاء بلفظ الجمع، ولفظ الجمع للمفرد يدل على التعظيم، والداعي في مقام الذل ليس في مقام العظمة ولهذا علم النبي صلى الله عليه وسلم الحسن دعاء القنوت فقال: اللهم أهدني، فكأن الحكمة -والله أعلم- أن هذه السورة سوف تقرأ من المسلمين عموماً، فيكون الذي يقول: {أهدنا الصراط المستقيم} مستحضراً أنه يدعو للمسلمين عموماً، ولاسيما إذا كان إماماً؛ لأنه لو كان إماماً؛ لأنه لو كان إماماً ولفظ الآية {اهدني الصراط المستقيم} صار في هذا اختصاص مع أنه يدعو للعموم. فضل المداومة على ذكر الله: 1475 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله سبحانه وتعالى-: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه». أخرجه ابن ماجه، وصححه ابن حبان، وذكره البخاري تعليقاً.

قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى"، إذا قال قائل: أين قال الله تعالى ذلك، ليس في القرآن أن الله قال ذلك، فكيف يصح أن يقول: قال الله؟ نقول: هذا مما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، ويسمى الحديث القدسي، وهو في مرتبة بين القرآن وبين الحديث النبوي. يقول الله تعالى: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه"، مع تقييد المصاحبة والمقارنة هذا على وجه الإطلاق، فهي في اللغة للمصاحبة والمقارنة، ولكنها تختلف بحسب ما تضاف إليه؛ أي: أن مقتضى المعية يختلف بحسب ما تضاف إليه، وإلا فالمعنى الشامل العام هو المصاحبة والمقارنة، وقوله: "ما ذكرني"، "ما" هذه يسميها النحويون مصدرية ظرفية؛ أي: مدة دوام ذكره لي وتحركت بي شفتاه، هذا يشعر بأن المراد ذكر اللسان. ففي هذا الحديث: إثبات رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه لقوله: "يقول الله تعالى"، وإثبات رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تحتاج أولاً إلى صحة السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من الأحاديث التي يدعى أنها قدسية أحاديث ضعيفة بل موضوعة، بخلاف القرآن، القرآن محفوظ لا يستطيع أحد أن يزيد فيه أو ينقص، لكن الأحاديث القدسية فيها الصحيح، وفيها الحسن، وفيها الضعيف، وفيها الموضوع، ويُعلم ذلك من كتب السنة. ومن فوائد الحديث: فضيلة ذكر الله عز وجل، وجه ذلك: أن الله تعالى يكون مع الذاكر طال ذكره أم قصر لقوله: "ما ذكرني"، إن شئت أن تذكر الله دائماً فالله تعالى يذكرك دائماً، ولهذا جاء في القرآن الكريم: {يأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون" [الأنفال: 45]. فأمر الله تعالى بذكر الله كثيراً عند ملاقاة العدو؛ لأن هذا يستلزم أن يكون الله معه، ومن كان الله معه فهو غالب ولابد، ولهذا أمر بالثبات الذي هو نتيجة الصبر والله مع الصابرين، وأمر بذكر الله، والله تعالى مع الذاكرين، فصار مقتضى المعية في هذه الآية شيئين: الصبر الذي نتيجته الثبات: ذكر الله عز وجل، وكلاهما يقتضي النصر وأن يكون مع المقاتلين. ومن فوائد الحديث: إثبات المعية الخاصة؛ لأن قوله: "أنا مع عبدي ما ذكرني" مفهومه: إذا لم يحصل الذكر فإن الله ليس معه، ولكن هذا في المعية الخاصة، فالمعية الخاصة لها أسباب توجدها وتنتفي بانتفائها؛ ولهذا لو سألنا سائل هل المعية صفة ذاتية لازمة لله أو هي صفة فعلية توجد بوجود أسبابها؟ نقول: في هذا تفصيل، أما المعية العامة وهي التي تقتضي العلم والإحاطة بالخلق سمعاً وبصراً وسلطاناً وتقديراً، وغير ذلك فهذه معية عامة وصفة ذاتية، وأما الخاصة التي لها سبب فهي معية خاصة وصفة فعلية؛ لأنها توجد بوجود أسبابها وتنتفي بانتفاء أسبابها.

فإذا قال قائل: كيف تصح المعية مع أن أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله تعالى فوق كل شيء، فهو على العرش استوى؟ فالجواب عن ذلك أولاً: أن الله تعالى لا مثيل له في جميع الصفات، فإذا قلنا: إنه يتعذر أن يكون الإنسان في السطح وهو معك وأنت في الأسفل فإن ذلك في حق الله لا يتعذر؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته فيكون الله معك وهو عالٍ فوق كل شيء، ولا يلزم من معيته أن يكون مصاحباً لك في المكان، بل هذا متعذر غاية التعذر. ثانياً: أن الله أثبت لنفسه أنه مع الخلق وأثبت لنفسه أنه فوق كل شيء، ولا منافاة بينهما، فيجب أن نثبت لله ما أثبته لنفسه وننفي ما نفاه عن نفسه، نثبت له العلو المطلق ونثبت له المعية، ونقول: إن الله ليس كمثله شيء، ولهذا قال شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية: وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكره من علوه وفوقيته؛ فإنه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو قريب في علوه علي في دنوه، فالله تعالى ليس كمثله شيء حتى نقول: إن حقيقة المعية تنافي حقيقة العلو. الوجه الثاني: أنه لا منافاة بين العلو والمعية حتى في حق المخلوق، وقد ضرب شيخ الإسلام رحمه الله مثلاً لذلك في العقيدة الواسطية -وهي من أكثر كتب العقيدة بركة- قال: القمر آية من آيات الله مخلوق من مخلوقاته وأين موضعه في السماء والناس يقولون: هو معنا، يقول المسافر: ما زلت أسير والقمر معي حتى غاب، فإذا كان هذا ممكناً في حق المخلوق بأن يكون عالياً وأن يكون مع الإنسان حقيقة فذلك في حق الخالق من باب أولى، وعلى هذا التقرير الذي ذكره الشيخ رحمه الله يطمئن الإنسان ويسلم من اعتراض أهل التعطيل الذين أولوا الصفات ثم احتجوا علينا بتأويل المعية، نقول: نحن لا نؤولها، نقول: هي حق على حقيقها، ولا منافاة بين كون الله معنا وهو في السماء، أما أن نقول كما قالت الجهمية: إن الله في الأرض؛ فهذا نرى أنه كفر، وأن من قاله فهو مباح الدم ومباح المال؛ لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين- يعني: إجماع سلف الأمة- ومخالف للعقل، وكيف يصح أن يكون الله عز وجل معنا في أمكنتنا أيزيد بزيادة الأمكنة وينقص بنقصها، أيكون مع الإنسان في الحش والأماكن القذرة، أيكون في أذن الكلاب والخنازير، نسأل الله العافية، هذا قول منكر من أعظم ما يكون، وقد صرح بعض السلف أنه من قال ذلك فهو كافر وهذا هو الحق إلا أن يكون جاهلاً لم يبلغه الحق، فهذا قد يعذر بجهله، لكن بعد أن يتبين له الحق فإن: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيراً} [النساء: 115]. على هذا القول أنت الآن في المسجد أين الله؟ في المسجد، ذهبت إلى السوق في السوق، في

البيت في البيت، في الغرفة في الغرفة، في الحجرة أسفل في الحجرة، في الحمام في الحمام، على قولهم في كل مكان، نسأل الله العافية، من يقول هذا يلزم منه إما التعدد وإما التجزئة، إما أن يكون الله ملايين الملايين، وإما أن يكون متجزئاً بعضه هنا وبعضه هناك، فعلى كل حال: نحن نقول: المعية الحقيقية لا تنافي العلو، وقد ذكرنا أن الله أثبت لنفسه هذا وهذا فالواجب إثباته. ثانياً: أن الله لا مثيل له، فلو قدر أن العلو والمعية متناقضان في حق المخلوق فهما ممكنان في حق الخالق. الوجه الثالث: أنه لا تناقض بينهما في الواقع، فقد يكون الشيء عالياً وهو معنا كما ذكرنا لكم كلام شيخ الإسلام رحمه الله، لكن قال: إنه يصان عن الظنون الكاذبة، من الظنون الكاذبة ما ذهب إليه هؤلاء الجهمية الحلولية الذين يقولون: إن الله معنا في كل مكان، هذا ظن كاذب يصان الله عنه، ويصان كلامه عن هذا المعنى. إذن المعية تنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة، العامة: هي الشاملة لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، ومنها قول الله -تبارك وتعالى-: {ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7]. {من نجوى ثلاثةٍ} هذه نكرة في سياق النفي تفيد العموم: أي أي نجوى أي: متناجين {ثلاثةٍ إلا هو رابعهم ولا خمسةٍ إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا} [المجادلة: 7]. كل الخلق هذه معية عامة، وقال تعالى: {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيامٍ ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4]. لكن هذه تقتضي الإحاطة بالخلق علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وغير ذلك من مقتضيات الربوبية، ولا فيها نصر ولا تأييد أحد. القسم الثاني: خاصة، هذه الخاصة: خاصة بوصف، وخاصة بشخص، الخاصة بالوصف مثل: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} من هم؟ كل من اتصف بالتقوى والإحسان فالله معه جعلني الله وإياكم منهم، {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال: 46]. والأسئلة على هذا كثيرة هذه خاصة بوصف، خاص بشخص وهي أخص من الأولى، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبه: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40]. هذه ليست عامة لكل مؤمن، بل هي خاصة بهذين الرجلين نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم والصديق أبو بكر رضي الله عنه هذه خاصة بشخص، وكقوله تعالى لموسى وهارون: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46]. الخطاب لمن؟ لموسى وهارون، إذن هو خاص بشخص، ولا شك أن الإنسان إذا شعر أن الله معه فسوف ينشط على العمل ويقوى ويقدم حيث أمر بالإقدام، ويحجم حيث أمر بالإحجام.

لنرجع إلى الحديث الذي معنا هل هو من خاصة الخاصة أو خاصة غير الخاصة؟ الخاصة غير الخاصة؛ لأنه يقول: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه"، فهو خاص لكنه ليس من خاص الخاص؛ لأنه مقيد بوصف. ومن فوائد الحديث: أن معية الله للذاكر تكون إذا اتفق القلب واللسان لقوله: "وتحركت بي شفتاه"، وليت المؤلف رحمه الله أتى بالحديث الذي هو أصح من هذا، وهو أن الله قال: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"؛ لأن هذا فيه تفصيل، وفيه أيضاً البشارة بأن الله عند ظن عبده به، ولكن لاحظ أن الظن لابد أن يكون له سبب، إذا لم يكن سبب فالظن وهم وخيال؛ يعني مثلاً: ظن أن الله يغفر له بدون أسباب المغفرة، هذا الظن وهم وخيال لا محل له، لكن إذا عمل صالحاً فليظن بالله خيراً، إذا دعا الله فليظن بالله خيراً؛ لأن الله قال: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60]. فأحسن الظن بالله لابد له من سبب يقتضيه، أما بدون سبب إنسان يعمل عملاً سيئاً ويقول: أنا أحسن الظن بالله أن الله يغفر لي؟ لا، لابد من فعل السبب، لو أن إنساناً أحسن الظن بالله أن الله سيرزقه ولدا قلنا له: تزوج، قال: لا إن ظني بالله خير، من أين يأتي الولد؟ فهذا وهم، كذلك الأمور المعنوية التي جعلها الله تعالى أسباباً لابد من وجودها؛ ولذلك بعض الناس قد يعتمد ويغلب عليه الرجاء فيقول: إن الله يقول: "أنا عند ظن عبدي بي"، نقول: افعل ما يكون سبباً لحسن الظن، فإذا فعلت السبب فلا تظن أن الله يخيبك؛ ولهذا قال بعض السلف: ما ألهم عبد الدعاء إلا وفق للإجابة؛ لأن الله يقول: {وقال ربكم أدعوني أستجب لكم} [غافر: 60]. 1476 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله». أخرجه ابن أبي شيبة، والطبراني بإسنادٍ حسنٍ. 1477 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما جلس قوم مجلساً يذكرون الله فيه؛ إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده». أخرجه مسلم. 1478 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما قعد قوم مقعداً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على النبي؛ إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة». أخرجه الترمذي، وقال: "حسنٌ".

فضل "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" ومعناها

فضل "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" ومعناها: 1479 - وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مراتٍ؛ كان كمن أعتق أربعة أنفسً من ولد إسماعيل». متفقٌ عليه. ذكرنا فيما سبق من قال بلسانه مخلصاً بها في قلبه، وليس مجرد القول، بل من قال بلسانه معتقداً ذلك بقلبه. "له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، "كل شيء" فالله قدير عليه ولا يعجزه؛ يعني: ليس قادراً مع الضعف، لا هو قادر مع القوة، قال الله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيءٍ في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 44]. فنفى عنه العجز، وعلل ذلك قال: لأنه كان عليماً قديراً، والعاجز عن الشيء إما أن يكون لجهله بكيفية عمله، وإما أن يكون لعجزه عن تنفيذ عمله، لو قال لك قائل: اصنع لنا الآن مسجلاً هل تقدر وأنت لم تتعلم؟ لا تستطيع، المانع الجهل، ولو أن إنساناً عنده علم كيف يصنع هذا المسجل لكنه لا يقدر كأن يكون أشل أو مريضاً فأمرته أن يصنع مثل هذا هل يقدر؟ لا؛ لأنه عاجز، ولهذا قال: "إنه كان عليماً قديراً" إشارة إلى أن العجز سببه أحد أمرين: إما الجهل، وإما العجز، فالقدرة تنافي الجهل والعجز؛ إذن هو على كل شيء قدير، كل شيء موجود يمكن أن يعدمه الله، وكل شيء معدوم يمكن أن يوجده الله، ويقال: إن الشيطان أراد أن يختبر جنوده حين قالوا له: ما لنا نراك إذا مات العالم فرحت فرحاً عظيماً وإذا مات العباد لا يهمك، قال: لأن العابد صلاحه على نفسه ولا يفيد غيره، ولا يهمني ذهب واحد أو عشرة، لكن العالم يصلح أمة؛ فلذلك يفرح بموته فرحاً كبيراً، ثم أراد أن يختبرهم فقال: اذهبوا إلى فلان العابد الذي هو مقيم على عبادته ليلاً ونهاراً وقولوا له: هل يستطيع الله أن يجعل السموات والأرض في بيضة أو لا؟ فذهبوا إلى العابد وسألوه: هل يستطيع الله أن يجعل السموات والأرض في بيضة أو لا؟ العابد مباشرة قال: لا أبداً، ما البيضة بالنسبة للسموات والأرض، فأنكر قدرة الله، ذهبوا إلى العالم وقالوا: هل يستطيع الله أن يجعل السموات والأرض في بيضة؟ قال: نعم، إذا أراد ذلك قال له: كن فيكون، فقال لهم الشيطان: انظروا إلى هذا وهذا، فالمهم: أنه ينبغي أن نقيد القدرة بشيء، نقول: هو قدير على كل شيء، لكن متعلق العلم أوسع من متعلق القدرة، لأن العلم يتعلق بالواجب والمستحيل والممكن،

فالله تعالى يعلم أنه لا إله إلا الله، وهذا علم بالواجب، وهو يعلم أنه لو وجد مع الله إلهاً آخر لفسدت السموات والأرض، وهذا متعلق بالمستحيل، والباقي الممكنات كثيرة، لكن القدرة لا تتعلق بما ليس بشيء؛ لأن الله قال: على كل شيء قدير، وما ليس بشيء فإنه لا تعلق للقدرة به؛ لأنه ليس بشيء؛ وقد انتقضوا على الجلال السيوطي حين قال في قوله تعالى في سورة المائدة: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيٍ قدير} [المائدة: 120]. فقال: الأخصائيين الاجتماعين العقل ذاته فليس عليها بقادر، وهذا غلط عظيم، هو يريد الخير نعم ولكنه أساء في التعبير، يقول: إن الله عز وجل مثلا لا يقدر على أن يفني ذاته وهذا خطأ؛ لأن إفناء الذات العلية مستحيل، والمستحيل ليس بشيء، والآيات الكريمة تقول: {وهو على كل شيء قدير} والمستحيل إنما هو مفروض في الذهن وليس موجوداً في الواقع، لكن مع ذلك نقول: هذه العبارة خطأ، ثم قد تكون ترمي إلى معنى فاسدٍ وهو نفي الأفعال الاختيارية لله؛ لأن الأفعال الاختيارية تتعلق بمشيئته وهو الذي يفعلها، فإذا قال: ليس عليها بقادر، فيوهم أنه لا يقدر أن يستوي على العرش، ولا أن ينزل إلى السماء الدنيا، ولا يستطيع الفصل بين عباده، ولا أن يضحك إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، وعلى هذا فنقول: وهو على كل شيء قدير كل شيء هو قدير عليه، يقدر عز وجل، على أن يفني العالم بكلمة واحدة كما هو قادر على أن يخلقهم بكلمة واحدة: {ومآ أمرنأ إلا واحدة كلمح بالبصر} [القمر: 50]. مهما كان الشيء إذا أراد الله وقال له: كن كان في لمح البصر، قال الله عز وجل: {فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 13، 14]. كل المدفونين في الأرض والغائصين في البحار كلمة واحدة فإذا هم على ظهر الأرض، مع أن الأمم لو جعلت تحضر هذه القبور لاستخراج ما فيها تبقى أزمنة لا يعلمها إلا الله، لكن الله بكلمة واحدة يخرجهم جميعاً، ويقول عز وجل: {إن كانت إلا صيحةً واحدةً فإذا هم جميع لدينا محضرون} [يس: 53]. كلهم محضرون عند الله عز وجل صيحة واحدة إذن العقل يحار حيرة عظيمة في كمال قدرة الله عز وجل، إذن أنت إذا كان فيك شيء أو تحتاج إلى شيء لا تستبعده على قدرة الله، لا تقل: أنا لا أدعو بذلك؛ لأنه غير حاصل، بل أدع الله فإن الله تعالى على كل شيء قدير، إن كان فيك ضيقة نفس فالذي جعل هذه الضيقة قادر على أن يرفعها وأن يعيد الأمر كما كان، إن كان عندك فقد مال فالذي أعطاك المال أولاً قادر على أن يرده عليك ثانياً لكنك تستعجل، فالمهم: أن الله على كل شيء قدير. خطأ شائع: توجد عبارة يقولها بعض الناس: "إنه على ما يشاء قدير"، هذه الكلمة غلط أولاً: أنها تقييد لما أطلقه الله ما الذي أطلقه؟ كل شيء وثانياً: أنها توهم معنى فاسداً وهو أن ما لا يشاؤه لا

الفرق بين القدرة والقوة

يقدر عليه، والمعتزلة يقولون: أفعال العباد غير مشيئة لله؛ يعني: أن الله لا يشاؤها، وعلى هذا فلا يقدر عليها، وحينئذٍ يتفرع على ذلك أنه لا يقدر أن يهدي ضالا ولا أن يضل مهتدياً، فصارت هذه الكلمة التي يتزين بها بعض الناس ويختم بها كلامه أو دعاءه كلمة غلط، أولاً: لمنافاتها ما أطلقه الله، وثانياً: لإيهامها لمعنى فاسد. فإن قال قائل: بماذا تجيبون عن قوله تعالى: {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} [الشورى: 29]. قلنا: المشيئة هنا مقيدة للجمع لا للقدرة؛ ولهذا جاءت بعد ذكر الجمع لا بعد ذكر القدرة، ويقال: وهو على جمعهم إذا شاء قدير إذا شاء الجمع قدير، خلافاً لمن قال: إن الله لا يقدر على البعث وقال: {من يحى العظام وهي رميم} فيقال: إذا أراد الله عز وجل وشاء فالأمر عليه هين، {وهو الذي يبدؤا الخلق يعيده، وهو أهون عليه} [الروم: 17]. إذن القدرة على كل شيء لا تقيد، بل قل: وهو على كل شيء قدير. الفرق بين القدرة والقوة: القدرة ما ضدها؟ العجز، والقوة؟ الضعف، أيهما أعم؟ بينهما عموم وخصوص من وجه؛ لأن القوة تشمل من له شعور ومن ليس له شعور؛ يعني: الحي الجماد يقال للحي قوي ويقال للجماد قوي الحديد قوي وهو جماد، والإنسان خلق من ضعف، ثم من بعد ضعف قوة ثم من بعد قوة ضعفاً وشيبة، وهي للحي، وهي أخص من جهة أنها قدرة وزيادة؛ لأن كل قوي من الحي قادر وليس كل قادر قوي، من جهة أخرى القدرة أخص من جهة متعلقها لأنها لا تكون إلا من حي؛ ولهذا لا يمكن أن نقول للحديد: إنه قادر ونقول للحي، إنه قادر فالإنسان قادر والحيوان قادر، وكل ذي روح يوصف بأنه قادر، ولنضرب مثلاً يتبين به الأمر: رجل قيل له: احمل هذه الصخرة فحملها بسرعة ووضعها فوق رأسه ماذا نقول لهذا؟ قادر وقوي مثال آخر: قيل لهذا الرجل: احمل الصخرة فجاء يحملها فثقلت عليه ثم تعصب وتلون وجهه واشتدت عضلاته ما هذا؟ قادر وليس قوياً، وقيل للثالث: احمل الصخرة فجاء يزحزحها فعجز لم يستطع رفعها قدر شعرة ما نقول؟ نقول: عاجز، إذن هذا هو الفرق بين القوة والقدرة بينهما عموم وخصوص وجهي. ثم قال: "من قالها عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل"، "كان كالذي أعتق" أي: حرر من الرق، "أربعة أنفس من ولد إسماعيل" أربعة أنفس، ولم يقل: أربع أنفس مع أن النفس مؤنثة: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]. مؤنثة، لكن لما كانت أنفس بمعنى رجال صار العدد المضاف إليها مؤنثاً، "أربعة أنفس من ولد إسماعيل"، من إسماعيل؟ إسماعيل بن إبراهيم أبو العرب، وإنما خص ولد إسماعيل؛ لأن أفضل أجناس بني

آدم هم العرب هم بنو إسماعيل نحن لا نقول لأننا عرب، بل نقوله؛ لأن هذا هو الواقع بدليل قوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 24]. أين جعل الرسالة؟ الرسالة العظمى في العرب، إذن هم أهل الرسالة العظمى فهم أفضل من غيرهم ولهذا وهبهم الله عز وجل من العلم والفهم والشجاعة والعزم ما لم يهب غيرهم وأقول هذا باعتبار الجنس لا باعتبار الشخص؛ لأنه قد يوجد في غير العرب من هو أفضل بكثير من العرب لكن العبرة بالجنس، فجنس العرب أفضل من غيرهم، ولذلك كان هذا الذي يقول: لا إله إلا الله عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل. في هذا الحديث فوائد: منها: فضيلة هذا الذكر: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". ومنها: أنه لا زيادة فيه؛ أي: ليس فيه زيادة: "يحيي ويميت"، لكنها وردت في الذكر الذي بعد المغرب والعشاء، أما هذه العشر فليس فيها: "يحيي ويميت". ومن فوائد الحديث: انفراد الله تعالى بالألوهية، وانفراده بالملك، وانفراده بالحمد، انفراده بالألوهية تؤخذ من قوله: "لا إله إلا الله" وانفراده بالملك من قوله: "له الملك"، ويقال كذلك في الحمد. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي في الأمور المهمة أن تؤكد سواء كانت إثباتاً أو نفياً من قوله: "وحده لا شريك له". ومن فوائد الحديث: أن الله له الملك المطلق، ويتفرع على هذه الفائدة: أنه لا اعتراض عليه، حتى كان بعض السلف يقول: أخشى أن أكون آثماً لو قلت: لو أنزل الله المطر لكان أنفع للناس، لماذا؟ كأنه فيه اعتراض، يعني: إلى هذا الحل؛ وذلك لأن الله -سبحانه وتعالى- له الملك المطلق، كل ما حصل في الأرض أو في السماء من خير أو شر فهو ملك لله لا منازع له فاعلم أنه هو الخير. ومن فوائد الحديث: أن الله له الحمد المطلق أيضاً: لقوله: "له الحمد" فيحمد الله عز وجل على كمال صفاته، وعلى كمال إحسانه، وعلى كمال حكمته ورحمته، وغير ذلك من مقتضيات الأسماء والصفات. ومن فوائد الحديث: عموم قدرة الله؛ لقوله: "وهو على كل شيء قدير". ومن فوائد الحديث: اعتبار العدد، العدد يختلف تارة مرتب الحكم على عدد عشر، وتارة على سبع وهو أكثر الأحكام، وتارة على ثلاثٍ، وتارة على خمسٍ، ومثل هذه الأحكام المرتبة على الأعداد هي في الحقيقة تعبدية محضة، ومن حاول أن يلتمس لها علة فإنه لن يستطيع إلا

أن يتكلف مكروهاً لا تقبله النفس، مثلاً: الصلوات المفروضة سبعة عشر ركعة موزعة على أوقاتها، هل تستطيع أن تعلل لماذا كانت الظهر والعصر والعشاء أربعاً أربعاً؟ لا؛ لأن هذه الأعداد لا نستطيع أن نعرف الحكمة منها، وحينئذٍ فيكون ترتيب الأحكام ثواباً كان أو عقاباً على عدد معين مما لا مجال للعقل فيه، لكن من أكثر الأحكام ما رتب على الثلاث والسبع، وظاهر الحديث "عشر مرات" أنه لا فرق بين أن يأتي بها متتابعة أو متفرقة تؤخذ من الإطلاق، وهذه قاعدة تفيدك أن المطلق يبقى على إطلاقه وله أمثلة قوله تعالى في صيام التمتع: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196]. هل يجب التتابع في الثلاثة والسبعة؟ لا يجب لو صام أول يوم قدم مكة وهو محرم بالعمرة صام يوماً، هذه ثلاثة، ولما رجع صار يصوم كل أسبوع يوماً جائز لأن الله لم يقيد ولهذا قال سبحانه: {تلك عشرة كاملة} حتى لا يتوهم الإنسان أنها بالتفريق ينفرد كل يوم عن الآخر، ولما أراد الله تعالى التتابع في صيام الظهار وفي صيام كفارة القتل قال: {فصيام شهرين متتابعين} [النساء: 92]. في كفارة اليمين من أخذ بالقراءة غير السبعية فصيام ثلاثة أيام متتابعة قراءة ابن مسعود من أخذ بالقراءة وهو الحق قال: إن صيام في كفارة اليمين ثلاثة أيام متتابعة، المصحف الذي معنا ليس فيه متتابعة، ولكن أخذت من قراءة ابن مسعود. المهم: أن ما أطلقه الله ورسوله فهو على إطلاقه، وعلى هذا فإذا قلت في أول النهار: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وفي الساعة العاشرة قلتها، وفي الساعة الحادية عشرة قلتها حتى أتممت عشراً في يوم الحديث مطلق، والمراد: كل يوم، فإنها تكون كمن أعتق أربعة أنفس من بني إسماعيل. من فوائد الحديث: إثبات جريان الرق على العرب؛ لأنه لا عتق إلا بعد رق، ويمكن أن يسترق العرب، فالكفار من العرب إذا قوتلوا وسبيت النساء والذرية صاروا أرقاء كغيرهم من الناس، وليس هذا على سبيل المبالغة وأنه المراد به ضرب المثل بل هو حقيقة، فإن العرب قد يسترقون إذا وجد سبب الرق. ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى فضيلة العرب، لماذا؟ لأنه قال: "من ولد إسماعيل"، ولم يقل: كمن أعتق أحداً من الأرقاء، قال: "من ولد إسماعيل"، وهذا أمر ذكرنا الإشارة إليه في الشرح أن العرب هم أفضل أجناس البشر، إذا كانوا هم أفضل أجناس البشر وقد جبلوا على اللغة العربية، فأي اللغات أفضل؟ اللغة العربية، ومع الأسف أن المخدوعين بالكفار يحاولون أن يجعلوا لساناً أعجمياً، حتى الصغار يعلمونهم اللغة الإنجليزية؛ فتجده يعرف من

فضل "سبحان الله وبحمده" ومعناها

اللغة الإنجليزية أكثر ما يعرف من العربية، وكان أمير المؤمنين عمر لعلمه بخطر اللغات غير العربية كان يضرب على الرطانة، يعني: إذا سمع أحداً يتكلم بغير اللغة العربية يضربه لئلا يعود الناس اللسان غير العربي، وفينا من يعلم أبناءه حتى السلام يعودهم كلمات غير عربية. فضل "سبحان الله وبحمده" ومعناها: 1480 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة؛ حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر». متفق عليه. قوله: "من قال" هذه جملة شرطية جوابها "حطت"، وقوله: "من قال" أي: بلسانه معتقداً معناها بقبله، "سبحان الله"، "سبحان" يقولون: إنها اسم مصدر من سبح، وهي منصوبة على المفعولية المطلقة دائماً، ولا يذكر معها العامل دائماً، يعني: لا يصح أن نقول: أسبح سبحان، بل يتعين أن تكون هكذا سبحان الله، ولا يقال: إنها مصدر؛ لأن مصدر سبح تسبيح، وكل ما لاقى المصدر في معناه وخالفه في لفظه فهو اسم مصدر، إذن هذا تصريف الكلمة من حيث اللغة، فما معناها؟ أي: تنزيها لله عن كل عيب ونقص، وحينئذٍ يتبين أن الله تعالى هو السلام القدوس. "وبحمده"، "الواو" للمعية أو للحال، والباء للمصاحبة؛ أي: وأقرنوا ذلك بحمده، فيجمع الإنسان بين التنزيه عن المعايب وإثبات الكمالات، التنزيه يؤخذ من سبحان الله، وإثبات الكمالات من الحمد، "وبحمده ومائة مرة" ونقول في مائة مرة، من حيث تعيين العدد ما قلناه في "عشر مرات" إن هذا أمر توقيفي لا تعلم حكمته، ونقول فيها من حيث الإطلاق ما قلناه في "عشر مرات" أي: أنه لا يشترط أن تقولها في مجلس واحد، بل لو فرقتها حصلت لك هذا الأجر. وقوله: "مائة مرة" هل هي وصف لقوله: "سبحانه الله وبحمده"، أو هي مقول القول، هل المعنى: من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة بهذا اللفظ حطت خطاياه؟ لا؛ لأنه ما قال: غير مرة واحدة؛ ولهذا كان القول بأن الطلاق الثلاث الموجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هو أن يكون أنت طالق ثلاثاً فيه نظر؛ لأن الطلاق المعروف في عهد الرسول أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، والدليل على هذا: أن الذين ردوا على القائلين بأنه لا يقع قالوا: إن الجملة الثانية توكيد للأولى، وهذا يدل على أن العلماء -رحمهم الله- لا يفرقون بين أن يقول: أنت طالق ثلاثا، ولا أن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؛ إذ لو أنهم يفرقون ما صح الجواب في قولهم إن

هذا من باب التوكيد، أو هذا في غير المدخول فيها؛ لأنها تبين بالأولى فتقع الثانية على امرأة بائن، إذن من قالها مائة مرة يعني: أن القول يكون مائة مرة وليس المعنى: سبحان وبحمده حال كونها مائة مرة، بل المراد من قال: مائة مرة سبحان الله وبحمده. ومن فوائد الحديث: أن من قالها تحط خطاياه ولو كانت كثيرة؛ لقوله: "ولو كانت مثل زبد البحر"؛ لأن زبد البحر كثير لا يحصيه إلا الله عز وجل، وهل نقول: ولو كانت كبيرة؟ الحديث ولو كانت كثيرة، لكن هل نقول: يلزم من الكثيرة أن تكون كبيرة؟ ولذلك اختلف العلماء -رحمهم الله- هل هذا الذكر يقتضي مغفرة جميع الخطايا ولو كانت كبيرة، أو أنها خاصة بالصغائر؛ لأنه إذا كانت العبادات العظيمة مثل الصلوات لا تكفر إلا الصغائر فهذه من باب أولى. ولو قال قائل: ليس لنا أن نخوض فيها، بل نقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر"، ونوصي من أتى بكبيرة أن يتوب منها، ولا حاجة لنا إلى أن نتعمق في هذا الباب، هل هذا يشمل الكبائر أو الصغائر؟ بل نقول: هذا الحديث يدل على أن الخطايا تكفر أو تحط ولو كانت كثيرة جداً، أما الكبائر فإننا ننصح من فعلها بأن يتوب، قال أهل العلم: وينبغي أن يقول هذا الذكر في آخر اليوم، ولولا أني أخشى أن أبتدع لقلت: يقولها إذا أوى إلى فراشه؛ لأن عند النوم هو آخر عمل اليوم، فإذا قالها عند آخر عمله اليومي صارت تكفر كل ما سبق؛ يعني مثلاً: لو قالها في الصباح ما جاء في النهار لا يدخل في الحديث؛ ولهذا قال العلماء: ينبغي أن تكون هذه من أذكار المساء حتى تحط خطاياه التي فعلها في النهار. في هذا الحديث ما يدل على الرد على الجبرية لقوله: "من قال". 1481 - وعن جويرية بنت الحارث رضي الله عنه قالت: قال لي رسول الله: "لقد قلت بعدك أربع كلماتٍ، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنه عرشه، ومداد كلماته". أخرجه مسلم. جويرية هي إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، كانت تسبح وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندها وهي تسبح ورجع وهي تسبح، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يختصر لها الوقت فعلمها كلمات أكثر أجراً مما قالت من أجل أن تتفرغ للعبادات الأخرى من شئون البيت وغيرها، يقول: "أربع كلمات لو وزنت ... الخ" كلمات: جمع "كلمة"، لها اصطلاحات، اصطلاح نحوي، واصطلاح لغوي

وشرعي، الاصطلاح النحوي: يقولون: الكلمة لفظ مفرد غير مركب، فزيد مثلاً كلمة، وعمرو كلمة، وبيت كلمة، واو كلمة، لكنها في اللغة العربية، وكذلك في الشريعة لا تطلق إلا على القول المفيد سواء كان طويلاً أم قصيراً، فإذا قلت: إن قام زيد فأكرمه، فهذا كلمة في اللغة العربية، وعند النحويين كلام، ولهذا قال ابن مالك: (وكلمة بها كلامٌ قد يؤم) وانظر إلى قول الله -تبارك وتعالى-: {حتى إذا جآء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلى أعمل صالحاً فيما تركت}، قال الله تعالى: {كلا إنها كلمة هو قآئلها} [المؤمنون: 99، 100]. مع أنها كلمات، {رب ارجعون * لعلى أعمل صالحاً فيما تركت} كلمات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصجق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. هذه أصدق كلمة من كلمات الشعراء، إذن قول الرسول: "أربع كلمات سبحان الله وبحمده"، لغة وشرعاً، لكن عند النحويين كلام، وقوله: "عدد خلقه" هل الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل سبحان الله وبحمده عدد خلقه، أو يجعل أن كل مخلوق من مخلوقات الله فهو ناطق بلسان الحال بالتسبيح والتحميد؟ الثاني هو المراد، وليس الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يقول: أن سبحان الله وبحمده عدد الخلق، إذا قدرنا عند مائة رجل فيقول: "سبحان الله وبحمده عدد خلقه" كأني قلتها مائة مرة فيما كان حاضراً ومن كان غائباً لا يحصيهم إلا الله؟ لا، المراد أن الخلق عددهم كل واحد فإنه ناطق بتسبيح الله وبحمده. الثالث قال: "ورضاء نفسه"، ما الذي يبلغ رضا الله إلا شيء عظيم، والمعنى: سبحان الله وبحمده حتى يرضى عز وجل، وهذا لا يمكن أن يبلغه أحد، لكن المعنى: أنني مأمور بأني أسبح الله وأحمده حتى يرضى. "وزنة عرشه" أيضاً العرش من يقدر زنته؟ لا أحد يستطيع؛ لأنه لا يقدر قدره إلا الله عز وجل وكما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويدلك لذلك أن عرش الرحمن عز وجل كما جاء في الحديث: "ما السموات السبع والأرضون السبع بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض" حلقة الدرع إذا ألقيت في فلاة من الأرض كم تشغل من مساحة؟ لا شيء، قال: "وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الأرض"، إذن لا يمكن أن يقدر الإنسان قدره.

"ومداد كلماته" {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} [الكهف: 109]، {ولو أنما في الأرض من شجرةٍ أقلام} يعني: لو كان كل الأشجار أقلام {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} [لقمان: 27]. إذن أي مداد يكون لكمات الله؟ مداد عظيم لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، فيكون هذا التسبيح الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم تسبيحاً عظيماً في الكمية، وعظيماً في الكيفية، الكمية عدد خلقه، والكيفية: رضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته. في هذا الحديث فوائد منها: أن اللفظ القليل قد يغني عن اللفظ الكثير، وجهه: "لقد قلت بعدك كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن". ومن فوائده: أن الكلام يتفاضل، بعضه أفضل من بعض، وتفاضل الكلام له عدة جهات، إما من حيث المتكلم به، وإما من حيث مدلوله، وإما من حيث البلاغة، وإما من حيث التأثير، المهم أن جهات تفاضل الكلام كثيرة. ولنسأل القرآن يتفاضل أو لا؟ الجواب: أن القرآن من حيث المتكلم به لا يتفاضل؛ لأن المتكلم به هو الله عز وجل وهو واحد، أما من حيث المدلول والتأثير فإنه يتفاضل؛ ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي، وأن فاتحة الكتاب هي أفضل سورة في كتاب الله، ونحن نشاهد الآن أن من الآيات ما يؤثر تأثيراً بالغاً إذا ورد على القلب، وبعض الآيات دون ذلك. فعلى كل حال: القرآن إن قلت: إنه يتفاضل على الإطلاق أخطأت، وإن قلت: لا يتفاضل أخطأت، فمن حيث المتكلم به لا يتفاضل، ومن حيث المعنى والموضوع يتفاضل بلا شك، وأما جنس الكلام عموماً فلا شك أن الكلام يتفاضل من حيث الأسلوب والفصاحة والبلاغة وغير ذلك، لو أن واحداً قام يتكلم وصار يرفع المنصوب وينصب المرفوع، ويجر المجزوم، ويجزم المجرور، ويقدم ما يمتنع تقديمه، وما أشبه ذلك، ماذا يكون كلامه؟ ورجل آخر تكلم بأعظم فصاحة والمعنى واحد والكلمات واحدة يتفاضل أم لا؟ يتفاضل. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من هذا الذكر: "سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته". ومن فوائد الحديث: إثبات الرضا لله لقوله: "ورضاء نفسه"، وهو صفة زائدة على المحبة، وأنكر ذلك أهل التعطيل، وقالوا: إن الله لا يرضى؛ لإن الرضا صفة حادثة، والحادث لا يقوم إلا بحادث، والحق: أن الله تعالى يوصف بالرضا ويوصف بالغضب. ومن فوائد الحديث: إطلاق النفس على الله لقوله: "ورضاء نفسه"، وليست النفس صفة زائدة على الذات بل هي الذات. ومن فوائد الحديث: أن العرش له جرم وثقل لقوله: "وزنة عرشه".

الباقيات الصالحات

ومن فوائده: عظمة العرش بإضافته إلى الله عز وجل، وهذه الإضافة إضافة خاصة كإضافة البيت إليه، وإضافة الناقة إليه، وإضافة المساجد، وغير ذلك. ومن فوائد الحديث: أن كلمات الله عز وجل لا حصر لها لقوله: "ومداد كلماته". ومن فوائده: أن الله تعالى يتكلم، وقد اتفقت الأمة على كلام الله، حتى أهل التعطيل قالوا: إن الله يتكلم، لكن الأصول في هذا ثلاثة: قول المعتزلة والجهمية: أن الله يتكلم وكلامه مخلوق، وقول الأشاعرة ومن سلك سبيلهم: أن الله يتكلم وكلامه هو المعنى القائم بنفسه وليس شيئاً يسمع، والثالث: قول أهل السنة يقولون: إن الله يتكلم بحروف وأصوات مسموعة سمعها من شاء من خلقه، وهذا هو الحق أن الله تعالى يتكلم بما شاء بمن شاء وكيف شاء، كلاماً حقيقياً بحروف وأصوات، وهو -سبحانه وتعالى- ناجى موسى صلى الله عليه وسلم: {وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاى أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مئارب أخرى * قال ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى} فخاف، فقال الله له: {خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} [طه: 17 - 21]. مناجاة مع الله بكلام يسمعه موسى ويفهمه ويعرفه ويجيب عليه، ولا أدل على أن كلام الله تعالى بحرف وصوت من مثل هذه المحاورة. الباقيات الصالحات: 1482 - وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «الباقيات الصالحات: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله». أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان والحاكم. قوله: "الباقيات الصالحات" كأنه يشير إلى قوله تعالى: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا} [الكهف: 46]. فهذا تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم للباقيات الصالحات المذكورات في هذه الآية الكريمة، وسميت باقية؛ لأنها تبقى مدخرة للعبد عند الله عز وجل ينتفع بها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وسميت صالحة؛ لأنها من أفضل الكلام وأطيبه: "لا إله إلا الله"، يحتمل أن تكون "لا إله إلا الله" وما عطف عليها مبتدأ والباقيات الصالحات خبر، ويحتمل العكس، وكلاهما صحيح، لكن جملة "لا إله إلا الله" يحسن أن تكون خبراً؛ وذلك لأن المعروف أن الذي يكون جملة هو الخبر، أما وجه كونها مبتدأ وما قبلها خبر فتكون هذه الجملة مؤولة بهذا اللفظ: يعني: كأنه قال: هذا اللفظ الباقيات الصالحات، فصار لنا في إعرابها

وجهان: الوجه الأول: أن تكون "الباقيات الصالحات" خبراً مقدماً، و"لا إله إلا الله" جملة مبتدأ مؤخر على تقديرها باللفظ كما قال المعربون في قول ابن مالك: (قال محمدٌ هو ابن مالك ... أحمد ربي الله خير مالك) قالوا: "أحمد" إلى آخر الألفية مقول القول، فالجمل كلها قامت مقام المفرد؛ أي: قال ابن مالك هذا القول، هنا نقول: إن "لا إله إلا الله" إذا جعلناها مبتدأ صارت على تأويل هذا اللفظ، أما إذا جعلنا "الباقيات" مبتدأ و"لا إله إلا الله" خبر فلا إشكال؛ لأن جملة "لا إله إلا الله" خبر وهو لا غرابة فيه؛ إذ إن الخبر يقع جملة ويقع مفرداً، ويقع شبه جملة، وسبق الكلام على معنى "لا إله الله الله" و"سبحان الله"، أما قوله: "الله أكبر" فهو حقيقة، ومعناه: فالله تعالى أكبر من كل شيء في علمه وقدرته وسمعه وبصره وسلطانه، وغير ذلك، أكبر من كل شيء، وهو -سبحانه وتعالى- ذاته أكبر من كل شيء؛ لأن السموات السبع والأرضين السبع في كف الرحمن كخردلة في كف أحدنا؛ ولأن الله سبحانه يقول: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} [الرمز: 67]. ويقول: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلقٍ نعيده، وعداً علينا إنا كنا فاعلين} [الأنبياء: 104]. فالله أكبر من كل شيء في أسمائه وصفاته، وكذلك في ذاته، ولا يقدر أحد قدره إذا كان العرش يقول فيه ابن عباس: لا يقدر قدره إلا الله فما بالك بخالق العرش، إذن عندما نقول "الله أكبر" لابد أن نشعر بأنه أكبر من كل شيء علماً وقدرة وسلطاناً وحكمة وتدبيراً وغير ذلك، كما أن ذاته تعالى أكبر من كل شيء. يقول: "والحمد لله" سبق لنا معنى الحمد وأنه وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، ولا يشترط التكرار؛ لأنك كررت الحمد صار ثناء، وقوله: "الحمد" قال العلماء: إن "أل" في الحمد للاستغراق؛ أي: كل حمد، وأن اللام في قوله: "الله" للاستحقاق والاختصاص، فالذي يستحق الحمد كله هو الله والحمد كله خاص بالله لا أحد يحمد الحمد كله، وإنما يُحمد فاعل الإحسان على شيء معين مخصوص وصغير. "والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله"، "لا حول" هذه "لا" تسمى عند النحويين النافية للجنس، ومعنى كونها نافية للجنس أنها شاملة لجميع أفراد المنفي على التنصيص؛ وذلك لأن العموم قد يكون شاملاً لجميع أفراد العام بحسب الظاهر، لكن "لا حول" تنص على جميع أفراد العام نصاً قطعياً، إذن لا حول إلا بالله، ومعنى لا حول؟ الحول قيل معناه: التحول من حال إلى

حال؛ يعني: لا تتحول الأحوال من حال إلى حال إلا بالله، ولا يستطيع أحد أن يحول الرخاء إلى شدة والشدة إلى رخاء إلا الله عز وجل، فيكون "حول" بمعنى: تحول أو بمعنى تحويل، تحول إذا كان التحول بذات الشيء تحويل إذا كان بفعل فاعل. وقوله: "ولا قوة" أي: لا قوة على هذا التحول إلا بالله عز وجل، يعني: لا أحد يقوى على تحويل شيء إلى شيء أو التحول من شيء إلى شيء إلا بالله عز وجل، وعلى هذا فيكون معنى هذه الجملة العظيمة التبرؤ من الحول والقوة، وتفويض ذلك إلى الله عز وجل وحده؛ ولهذا كانت هذه الكلمة كلمة استعانة، والذين يأتون بها في محل كلمة الاسترجاع إنما يقصدون بذاك الاستعانة على الصد على هذه المصيبة، أعنى: أن كثيراً من الناس إذا أصيب بمصيبة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا قيل له: حصل كذا وكذا من المعاصي وغيرها يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولكن المشروع أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا هو ذكر المصائب، لكن من قال: لا حول ولا قوة إلا بالله عند المصائب له وجه، وهو أنه قصد الاستعانة على الصبر الذي هو مأمور به، نحن إذا سمعنا المؤذن يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح، نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، استرجاعاً أو استعانة؟ استعانة؛ لأن المؤذن دعاك: حي على الصلاة أقبل، حي على الفلاح الذي يكون بالصلاة، فنقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا الذكر متضمن لقول السامع سمعنا وأطعنا. في هذا الحديث: الحث على قول هذه الأذكار وهي: "لا إله إلا بالله، وسبحان الله، والله أكبر، والحمد لله، ، ، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، وهل يشترط أن يقولها جميعاً وإلا لم تكن من الباقيات؟ الجواب: لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: الباقيات الصالحات أن يقول كذا وكذا حتى مقول: إن الكلام جملة واحدة، ولكنه قال: الباقيات هذه وهذه وهذه وهذه، وعلى هذا فيكون كل واحدة من الباقيات الصالحات. ومن فوائد الحديث: أن الذي يبقى للإنسان هو العمل الصالح، وأما المال والبنون فإن استعان بذلك على طاعة الله صارت من الباقيات وإلا فهي من الفانيات، تفنى بفناء الدنيا. ومن فوائد هذا الحديث: تفسير القرآن بالسنة، وهذا له أمثلة كثيرة، وقد قال العلماء -رحمهم الله-: إن الواجب في التفسير أن ترجع أولاً تفسير الله عز وجل، ثم إلى تفسير الرسول، ثم إلى تفسير الصحابة، ثم إلى تفسير علماء التفسير من التابعين، فهذه أربع رتب: الرتبة الأولى: الرجوع إلى تفسير الله، فالله تعالى أعلم بمراده، فإذا فسر شيئاً بشيء فلا عدول عنه، مثال ذلك: {القارعة * ما القارعة * وما أدراك ما القارعة * يوم يكون الناس ... } [القارعة: 1 - 4]. وأمثلته كثيرة، ثم تفسير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أعلم الخلق بمراد الله كما معنا في هذا الحديث: الباقيات

الصالحات هي كذا وكذا، هذا من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، وله أمثله مثل قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ} الأنفال: 60]. قال: القوة الرمي، {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]. قال: الزيادة هي النظر إلى وجه الله، {الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] قال: الظلم الشرك. ومن فوائد الحديث: إثبات انفراد الله تعالى بالألوهية في قوله: "لا إله إلا الله". ومن فوائده: تنزيه الله عن كل ما لا يليق به، في قوله: "وسبحان الله". ومن فوائده: بيان عظمة الله عز وجل وكبريائه في قوله: "والله أكبر". ومن فوائده: أن أفعال الله تعالى كلها متضمنة للحمد محمود عليها؛ لأنها كلها حكمة لقوله: "والحمد لله". ومن فوائد الحديث: تفويض الحول والقوة إلى الله عز وجل في قوله: "ولا حول ولا قوة إلا بالله"، ويتضمن هذا التفويض إثبات قدرة الله عز وجل وقوته على تحويل الأمور من حال إلى حال، وعلى هذا فلا نلجأ إلى تغييرها إلا إلى الله عز وجل. فإن قال قائل: الصلاة من الباقيات الصالحات لا شك وهي لم تأت في الحديث؟ فالجواب من أحد وجهين: إما يقال: إن الحديث ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التمثيل لا الحصر، وإما أن يقال: الصلاة فيها ذكر: تسبيح وحمد وقرآن. وإذا قال قائل: والزكاة من الباقيات الصالحات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة"، وهذا لم يذكر في الحديث؟ فالجواب أيضاً من وجهين: إما أن يقال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر هذا على سبيل التمثيل، وإما أن يقال: إن دفع الزكاة تقرباً إلى الله عز وجل متضمن لمعنى قوله: "لا إله إلا الله"، أي إنسان يدفع ما يحبه والمال محبوب للنفوس تقرباً إلى الله إلا وهو يعتقد أنه لا إله إلا الله. أحب الكلام إلى الله: 1483 - وعن سمرة بن جندبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "أحب الكلام إلى الله أربعٌـ لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". أخرجه مسلمٌ. قوله صلى الله عليه وسلم: "أحب الكلام إلى الله" أي: ما يتكلم به الإنسان، والظاهر أنه لا يشمل القرآن؛ لأن القرآن كلام الله عز وجل، والإنسان إذا تلاه فإنه لا ينسب إليه إلا تلاوة ولا ينسب إليه ابتداء؛ لأن

الكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدأ لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً أو تاليا غير ذلك، فإما أن يقال: "أحب الكلام" أي: ما يتكلم به الإنسان، فيخرج من ذلك القرآن الكريم فإنه أحب ما يتقرب إلى الله به ما خرج منه وهو القرآن. وقوله: "إلى الله أربع لا بأيهن بدأت"، هذا من أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في التعليم، أحياناً يذكر الأشياء محصورة بعدد من أجل تقريبها للحفظ؛ لأن الشيء إذا كان محصوراً كان أقرب إلى الحفظ والإدراك وإن كان هناك أشياء أخرى توافق هذا الحكم، فمثلاً: "سبعة يظلهم الله في ظله"، هناك أناس يظلهم الله في ظله غير هؤلاء السبعة، "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم"، هناك آخرون لا ينظر الله إليهم، يقول: "لا يضرك بأيهن بدأت" يعني: أن الترتيب ليس بشرط، ممكن أن نقول: الله أكبر، ولا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله، أو تخالف بينهن، المهم أن تقولها، وإنما نص الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك لئلا يكلف الإنسان نفسه في مراعاة الترتيب، يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فيستفاد من الحديث: أولاً: إثبات محبة الله عز وجل، وأن الله تعالى موصوف بالمحبة، وهو سبحانه يحب ويحب، والدليل قول الله تعالى: {فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة: 45]. فأثبت عز وجل أنه يحب وأنه يحب، وهذا هو مذهب السلف الصالح وعليه أهل السنة، وقال بعض أهل البدع: إنه لا يحب ولا يحب، وأن محبته ثوابه، ومحبة الإنسان إياه قيامه بطاعته، ففسروا المحبة بآثارها، وقال آخرون: إنه يحب ولا يحب، وهذا أيضاً باطل، والصواب أن الله عز وجل يحب ويحب، ومحبة الله عز وجل تكون معلقة بالوصف، وتكون معلقة بالشخص، فمن تعلقها بالوصف قوله تعالى: {إن الله يحب الذين يقتلون في سبيله صفاً} [الصف: 24]. {إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195]. {إن الله يحب المتقين} [التوبة: 7]. هذا عام بالوصف، ومن تعلقها بالشخص قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي كان يقرأ ويختم بقل هو الله أحد ويقول: إنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه"، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية غدا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" هذا أثبت المحبة من الطرفين فأعطاها علي بن أبي طالب، ومن ذلك أيضاً -وهي أخص- إثبات الخلة لشخصين فقط -فيما نعلم- لمن؟ لمحمد وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- أما إبراهيم فقد قال الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} [النساء: 125]. كذلك أيضاً محبة الله تتعلق بالأعمال: "أحب الكلام إلى الله أربع، وأحب الأعمال الصلاة على وقتها" وهي كثيرة، علقت هنا بالأعمال، وقد تتعلق بالأمكنة مثل: "أحب البقاع إلى الله مساجدها"، فهنا تعلقت بالأمكنة، إذن في هذا الحديث: إثبات محبة الله.

فضل لا حول ولا قوة إلا بالله

ومن فوائده: إثبات أن محبة الله تتفاضل ليست على مستوى واحد أخذت من اسم التفضيل، فإذا قال: أحب فهناك فاضل ومفضول. ومن فوائد الحديث: شرف هذه الكلمات الأربع، وأنها أحب ما قاله العبد إلى الله عز وجل وهي كما سمعتم. ومن فوائد الحديث: الحث على لزوم هذه الكلمات الأربع؛ لأن المؤمن إذا علم أن الله تعالى يحب هذا الشيء، فإنه يحرص على أن يفعله من أجل أن ينال محبة الله لقول الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} [آل عمران: 31]. فضل لا حول ولا قوة إلا بالله: 1484 - وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله: "يا عبد الله بن قيسٍ، ألا أدلك على كنزٍ من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله". متفقٌ عليه. - زاد النسائي: "ولا ملجأ من الله إلا إليه". قوله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله بن قيس" هذا اسم أبي موسى رضي الله عنه، وقد اشتهر بكنيته، وقوله: "يا عبد الله بن قيس" بدأ الخطاب بالنداء من أجل أن ينتبه لما يلقي إليه، وقوله: "ألا أدلك"، "ألا" أداة استفتاح الغرض منها أيضاً تنبيه المخاطب والاعتناء بما سيلقى إليه، وعلى هذا سيكون هذا الكلام فيه ما يدل على الاعتناء من وجهين: أولاً: النداء الموجه للمخاطب، والثاني: أداة الاستفتاح والتنبيه، "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة" يعني: أن من قاله فقد دفع الثمن إلى دخول الجنة، وليس المعنى أنه ثمرة من ثمار الجنة؛ لأن ثمرات الجنة في الجنة، حتى إن الرسول في الكسوف أراد أن يتناول قطفاً من عنب الجنة، لكن بدا له ألا يفعل؛ لأن ما للآخرة يكون للآخرة لكن المراد بـ"كنز" أنها توصل إلى الجنة كما قال الرسول: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، وقوله: "لا حول ولا قوة إلا بالله" هي خبر المبتدأ محذوف، التقدير هو؛ أي: الكنز لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد سبق شرحها. في هذا الحديث فوائد منها: أنه ينبغي للمتكلم أن يأتي بما ينبه به المخاطب إما بالصيغة، وإما بكيفية النطق؛ يعني مثلاً: يجهر بالكلمة ليتنبه المخاطب، أو نخفضها ليتنبه المخاطب؛ لأنه كلما تغير الأسلوب ولو بالصوت أدى ذلك إلى الانتباه. ومنها: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث يأتي بكل خطاب بما يناسبه.

الدعاء هو العبادة

ومنها: فضيلة عبد الله بن قيس؛ حيث إن الرسول خصه بهذا النداء اللطيف الحبوب إلى النفس: "يا عبد الله بن قيس ... إلخ". وهكذا ينبغي للإنسان في ملاطفة إخوانه وأصحابه أن يأتي بأساليب المحبة التي تؤلف بين القلوب، لاسيما إذا كان المخاطب أهلاً لذلك. ومن فوائد الحديث: أن للجنة كنوزاً غير لا حول ولا قوة إلا بالله، وجه ذلك التبعيض كنز من كنوز الجنة. ومن فوائد الحديث: التبرؤ من الحول والقوة وتفويض الأمر إلى من بيده الحول والقوة في قول القائل: لا حول ولا قوة إلا بالله. ومن فوائده: استحباب هذا الذكر وإن لم يكن عند المشاق، يعني: أن الإنسان ينبغي له أن يكون دائم الذكر بلا حول ولا قوة إلا بالله وإن لم يكن يريد الاستعانة على شيء. وفي رواية النسائي: "لا ملجأ من الله إلا إليه"، الملجأ: الملاذ والمعاذ، ومنه الملاجئ التي تكون تحت الأرض، والمعنى: لا شيء تلجأ إليه من الله إلا إلى الله، من ينجيك من الله إذا أرادك الله بسوء؟ الجواب: لا أحد، {وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مرد له} [الرعد: 11]. إذن تلجأ إلى الله، فهو عز وجل، مستعاذ به منه، كما جاء في دعاء القنوت: "أعوذ بك منك"؛ لأنه هو الذي بيده الأمر، هو الذي بيده العقوبة لو شاء أن يعاقب، وهو الذي بيده رفع العقوبة لو شاء أن يرفع العقوبة، وهذا بالمعنى لقول لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأن حقيقته تفويض الأمر إلى الله والتبرئ من كل أحد سواه، فلا يلجأ الإنسان إلا إلى ربه، ولهذا كان الإنسان بطبيعته البشرية عند الشدائد لا يلجأ إلا إلى الله، المشركون الذين يعبدون الأصنام ليلاً ونهاراً إذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين يعرفون أنه لا يمكن أن يجيرهم من هذا إلا الله عز وجل. الدعاء هو العبادة: 1485 - وعن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه عن النبي قال: «إن الدعاء هو العبادة». رواه الأربعة، وصححه الترمذي. بدأ المؤلف رحمه الله في الدعاء؛ لأن الباب ذكر ودعاء، وقد سبق شيء من الكلام على الدعاء وعند الكلام على الترجمة، يقول: "إن الدعاء هو العبادة"، ظاهر الحديث الحصر، وأن الدعاء هو العبادة، ووجه ذلك: أن العابد إذا استعبد لله بعبادة ليس فيها دعاء، فهو داعٍ بلسان الحال،

إذا قال: لا إله إلا الله لا يوجد دعاء، ولكن هو داعٍ بلسان الحال، وهذا وجه الحصر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الدعاء هو العبادة» يعني: كل إنسان يدعو فهو عابد، وكل إنسان يعبد فهو داع]، فصدقت الكلمة سواء كذا أو كذا، يعني: سواء قلت: كل داعٍ عابد، أو كل عابد داعٍ فهو صحيح. في هذا الحديث: الحث على الدعاء؛ حيث جعله النبي صلى الله عليه وسلم من العبادة، وعلى هذا فداعي الله رابح على كل تقدير إن أعطاه الله سؤاله فقد ربح ربحين، أولاً: العبادة، وثانياً: حصول مطلوبه، وإن منعه إياه وكف عنه شراً فهو أيضاً رابح ربحين، الأول: العبادة، والثاني: دفع المكروه عنه، وإن لم يكن هذا ولا هذا لكن ادخره ثواباً له إلى يوم القيامة فهو أيضاً رابح؛ حيث إنه سيجده مدخراً عند الله عز وجل، لأنه عبادة، وهنا هل نقول: إنه ربح ربحين أو ربح واحداً؟ كل عبادة لها ثواب هو رابح؛ لأنه سوف يثاب على هذه العبادة الحسنة بعشر أمثالها، إذن أكثر من الدعاء سواء أجبت أم لم تجب، لكن إذا دعوت ثم دعوت ثم دعوت ولم يستجب لك هل تقول: لو كان في هذا خير لأعطاني الله إياه ثم تستحسر وتترك؟ الجواب: لا، لا يجوز، كرر الدعاء؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت ودعوت فلم يستجب لي" كرر، والحمد لله ما دام عبادة فكرر، ربما يكون من حكمة الله أن الله أخر إجابتك من أجل أن تكثر عبادتك وهذا خير لك. - وله من حديث أنسٍ رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: «الدعاء مخ العبادة». أي: لبها، وهذا الحديث بهذا اللفظ في صحته نظر، لكن يكفي أن يكون الدعاء هو العبادة. - وله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» وصححه ابن حبان، والحاكم. الظاهر -والله أعلم- أن قوله: «ليس شيء- أي: من مطلوبات الإنسان- أكرم على الله من الدعاء؛ لأن الداعي -أعني: داعي الله- إنما دعا ربه؛ لأنه يؤمن بأنه كريم، وإذا كان يؤمن بأنه كريم صار وصفاً لله عز وجل بالكرم بلسان الحال، وهذا لا شك أنه من أكرم الأشياء على الله عز وجل، والحديث يحتاج إلى النظر في صحته. * * *

فضل الدعاء بعد الأذان

فضل الدعاء بعد الأذان: 1486 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد». أخرجه النسائي وغيره، وصححه ابن حبان وغيره. إجماليات عجيبة من المؤلف رحمه الله أخرجه النسائي وغيره. إذا قال قائل: غيره يدخل فيه البخاري ومسلم؟ نقول: لا يدخل البخاري ومسلم، وإن كان لفظ الغير يدخل فيه، لكن لا يدخل من حيث استعمال المحدثين واصطلاحهم؛ لأنهم لا يذكرون الأدنى مع رواية الأعلى، ولا شك أن رواية النسائي أدنى من رواية البخاري ومسلم، فلما لم يذكر البخاري ومسلم عُلم أن المراد بغيره ما كان مساوياً للنسائي أو دونه، أما أعلى فلا، وكذلك صححه ابن حبان وغيره يقتضي أيضاً أنه صححه الأئمة كالإمام أحمد والبخاري وغيرهما، فيقال في ذلك مثل ما قيل في الأول، يقال: غيره ممن يساوي ابن حبان في التصحيح أو دونه. على كل حال نقول: "الدعاء" مبتدأ، و"لا يرد" خبره، و"بين الأذان والإقامة" معروف، وذلك أنه من حين يفرغ المؤذن يشرع الإنسان في الدعاء يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل له الوسيلة ثم يدعو بما شاء، ومن ذلك إذا قام يصلي فإنه يدعو. فمن فوائد الحديث: أن للدعاء زمناً يكون فيه أقرب للإجابة، وذلك بين الأذان والإقامة. ومن فوائده: من الأزمنة التي يكون فيها الدعاء أقرب للإجابة: الثلث الأخير، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: «من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له»، ومن ذلك أيضاً عند لقاء العدو، فإن الدعاء مستجاب قال الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} [الأنفال: 45]. ولعل من الذكر الدعاء، وكذلك أيضاً الدعاء عند الإفطار للصائم، وهناك أيضاً أمكنة أو أحوال يكون الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة كما سبق في أول الترجمة. استحباب رفع اليدين في الدعاء: 1487 - وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً». أخرجه الأربعة إلا النسائي، وصححه الحاكم.

"إن ربكم" الخطاب للصحابة -رضي الله عنهم-، وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة شامل لمن بعدهم، وليس غريباً أن يخاطب أول الأمة، ويراد جميع الأمة بل إن الله أحياناً يخاطب آخر الأمة بما كان لأولها، بنو إسرائيل يخاطبهم الله تعالى دائماً بأمر كان فعله أسلافهم. "إن ربكم حيي كريم" "حيي" غير حي؛ لأن "حي" من الحياة، وحيي من الحياء؛ أي: أنه -جل وعلا- موصوف بالحياء، "كريم" أي: ذو عطاء كثير، "يستحي من عبده" هذا من أمثلة حيائه -جل وعلا- يستحي من عبده، والمراد بعبده هنا العبودية الخاصة وهي عبودية الشرع إذن، وإنما قلنا: عبودية الشرع؛ لأن العبودية نوعان: عبودية الكون وهي عامة لكل من في السموات والأرض، قال الله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا ءاتى الرحمن عبداً} [مريم: 93]. وعبودية خاصة وهي عبودية الشرع؛ أي: التي يتعبد لله تعالى بشرعه، وهذه العبودية الخاصة هي التي يمدح عليها الإنسان ويثاب عليها ويعاقب بتركها. "إذا رفع يديه إلى الله"، "يديه" يعني: عند الدعاء، ولم يذكر هنا كيفية الرفع، فيجوز أن ترفع على كل صفة إلا أن العلماء -رحمهم الله- قالوا: ينبغي أن يرفع يديه إلى صدره وأن يضم بعضهم إلى بعض هكذا، إلا عند الابتهال والمبالغة في الدعاء فإنه يرفع يديه حتى يبدو بياض إبطيه كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل، ويزداد في المبالغة في الدعاء في الاستسقاء، فإن الرسول دعا ورفع حتى كانت ظهور يديه إلى السماء من شدة الرفع. وقوله: "أن يردهما صفراً"، الصفر: هو الخالي الذي ليس فيه شيء، وهذا يعني أنه لابد أن يعطيه الله شيئاً حسب ما تقتضيه الحكمة. في هذا الحديث فوائد: أولاً: إثبات ربوبية الله عز وجل، وهذا شيء لا يحتاج إلى إقامة الدليل، قال الله تعالى: {رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً} [مريم: 65]. من قوله: "إن ربكم". ومنها: إثبات صفة الحياء لله لقوله: "إن ربكم حيي"، والذي وصفه بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به، ويأتي قوم محدَثون محدِثون فيقولون: إن الله لا يوصف بالحياء؛ لأن الحياء: انكسار يعتري الإنسان عند فعل ما يكون به الخجل، وهذا لا يليق بالله، نقول: هذا الحياء الذي ذكرتموه حياء المخلوق، أما حياء الله فليس انكساراً، ولكن لكرمه يستحي أن يرد هذا الداعي وليس كحيائنا، بل هذا الحياء كسائر الصفات {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. لا أدري ماذا يجيبون ربهم يوم القيامة إذا سألهم، هل يمكنهم أن يقولوا: يا رب، لا نثبت لك الحياء؛ لأن الحياء لا يليق بك، والله لو أجابوا بهذا الجواب لم ينفعهم؛ ولهذا كان واجباً على كل مؤمن أن يثبت لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات وما أثبته له رسوله.

ومن فوائد الحديث: إثبات الكرم لله لقوله: "كريم"، والكريم كثير العطاء والخيرات. بقي أن يقال في هذا الحديث: إثبات اسمين، نحن ذكرنا إثبات الحياء، وإثبات الكرم، ولعلنا قصرنا فيه بعض الشيء نقول: إثبات اسمين من أسماء الله وهو أنه حيي وأنه كريم، وهما يتضمنان: صفتين الحياء والكرم. ومن فوائد الحديث: أن حياء الله تعالى قد يحدث عند مقتضيه من قوله: "يستحي من عبده إذا رفع يديه"، فهذا حياء مقيد حصل بعد رفع العبد يده إلى الله، فيكون الحياء إذن من الصفات [الفعلية]. ومن فوائد الحديث: أنه كلما أظهر الإنسان الافتقار إلى الله والتعبد له كان أرجى وأقرب إلى الإجابة لقوله: "من عبده"، والعبد وإن كان ظاهره اسماً جامداً لكنه في الواقع مشتق من العبودية، وعلى هذا فإذا كان الاستحياء من الداعي بوصفه عبداً فقد علق الحكم بوصف، ومن القواعد أن الحكم إذا علق بوصف ازداد قوة بقوة ذلك الوصف، هذه قاعدة مفيدة للطالب، وأنا دائماً أكرر عليكم أن الاعتناء بالقواعد هو العلم، أما المسائل فيشترك فيها العامي وطالب العلم. ومن فوائد الحديث: استحباب رفع اليدين في الدعاء تحرياً للإجابة لقوله: "إذا رفع يديه". ومن فوائده: أن رفع اليد الواحدة يختلف فيه الحكم، فإن كان اقتصاره على رفع يد واحدة تكبراً فهذا لا خير فيها، ولن يجاب له، لكن لا أعتقد أن داعياً يرفع يده الواحدة تكبراً، لكن نقولها من باب تتميم التقسيم، وإذا رفع الواحدة لعذر كما لو كانت إحدى اليدين شلاء أو اشتغل بها بشغل لابد منه فلا بأس؛ ولهذا لما سقطت زمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة أمسكه بيدٍ وهو رافع اليد الأخرى. ومن فوائد الحديث: إطلاق رفع اليدين، وقد سمعتم في الشرح أن الفقهاء قالوا: ينبغي أن تكون مبسوطة إلى حذاء الصدر، ولكن قلنا: ما لم يكن الدعاء ابتهالاً إلى الله فهنا يكرر الدعاء ويرفع أكثر. ومن فوائد الحديث: أن الإشارة بالفعل لما في القلب أمر مشروع وارد؛ لأن الإنسان إذا قال: اللهم أعطني كذا وكذا وهو لم يرفع يده هو لا شك أنه يسأل الله، لكن إذا رفع يديه كالمستجدي صار أبلغ في ارتفاع القلب إلى الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: أن الأصل في الدعاء هو رفع اليدين هذا هو الأصل، لكننا ذكرنا ما لم ترد السنة بعدم الرفع تصريحاً أو ظاهراً، فإذا كان ظاهراً لسنة أو صريح السنة أن لا رفع فلا ترفع الأيدي، لكن إذا لم يكن هذا هو الظاهر فإن الأفضل أن يرفع الإنسان يديه إلى الله عز وجل.

حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء

حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء: 1488 - وعن عمر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مد يديه في الدعاء، لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه». أخرجه الترمذي. - وله شواهد منها: حديث ابن عباسٍ عند أبي داود ومجموعها يقتضي أنه حديث حسن. هذا الحديث حديث عمر كما سمعتم أن له شواهد، وقول المؤلف: له شواهد يفيد أن فيه ضعفاً؛ لأننا لا نحتاج إلى الشواهد غالباً إلا لتجبر النقص، وهذا الشاهد يقول: عن ابن عباس وغيره. وفي هذا الحديث دليل على أنه إذا فرغ من الدعاء وقد رفع يديه أنه ينبغي أن يمسح بهما وجهه، وإذا ثبت هذا الحديث فإنه من باب التعبد؛ لأنه لو كان يسمح جميع البدن لقلنا: هذا من أجل أن تكون بركة الدعاء لجميع البدن كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك عند النوم يمسح وجهه وبعض بدنه، لكن الوجه فقط لا نعلم، أنا لا أعلم الحكمة في ذلك، والله أعلم، لكن الحديث يقول ابن حجر رحمه الله مجموع الشواهد يقتضي بأنه حديث حسن، لكنه حسن لغيره، وأنت إذا تأملت المواضع التي كان الرسول يدعو فيها وجدت أن الأحاديث الصحيحة لم يذكر فيها المسح إطلاقاً، رفع النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع في الخطبة عند الاستسقاء، وكذلك في عرفة، وكذلك في مزدلفة، وكذلك على الصفا، وغير ذلك، كل هذه الأحاديث الصحيحة على كثرة ما ورد من رفع اليدين لمي نقل أنه كان يمسح وجهه في الأحاديث الصحيحة إلا في هذا الحديث، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن مسح الوجه باليدين بعد الدعاء بدعة، وأن الشواهد الواردة كلها ضعيفة لا ينجبر بعضها ببعض، وعلى هذا فالمسألة تكون اجتهادية، من رأى أن هذه الشواهد يجبر بعضها بعضاً قال: إنه سنة أن الإنسان إذا فرغ يمسح وجهه، ومن رأى أنه لا يجبر بعضها بعضاً لشذوذها، وكثرة الأحاديث التي فيها أن الرسول كان يدعو ولم ينقل أنه يمسح وجهه، قال: إنه ليس بسنة، ثم قال: إنها بدعة كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ولعل قائلاً يقول: نحن لا ننكر على من مسح ولا ندعو إلى المسح، ولا نفعله؛ يعني: لا تمسح لعدم ثبوت السنة عندنا، ولا ننكر على من مسح اتباعاً لبعض العلماء الذين جعلوا

فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

مجموع هذه الأحاديث يرفع الحديث إلى درجة الحسن مع أنه حسن لغيره ليس لذاته، فالله أعلم. فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: 1489 - وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أولى الناس بي يوم القيامة، أكثرهم علي صلاةً». أخرجه الترمذي، وصححه ابن حبان. قوله: "إن أولى الناس بي" أي: أقربهم مني وأولاهم بي في الشفاعة وغير الشفاعة، "يوم القيامة" يعني: يوم يقوم الناس لرب العالمين، "أكثرهم علي صلاة" فكل من كان أكثر صلاة كان أولى بالرسول صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك ظاهر؛ لأن المكثر للصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً في قلبه، ولهذا يكثر الصلاة عليه، أما من كان في ذكر الله تعالى دائماً في قلبه فسيكثر ذكر الله عز وجل، فإذا كان ذكر النبي صلى الله عليه وسلم دائماً في قلبه فإنه سيكون أولى الناس به يوم القيامة لقوة صلته به. في هذا الحديث فوائد: منها: أن الناس يختلفون يوم القيامة في ولايتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجه ذلك لقوله: "أولى" اسم تفضيل واسم التفضيل يدل على مفضل ومفضل عليه. ومن فوائد الحديث: إثبات يوم القيامة، والإيمان به أحد أركان الإيمان الستة. ومن فوائد الحديث: استحباب كثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "أكثرهم علي صلاة"، ولكن يجب أن نبتعد ابتعاداً تاماً عن أن تكون محبة الرسول أعظم من محبة الله، فإن هذا شرك في المحبة، ولا شك أننا إنما أحببنا رسول الله؛ لأنه رسول الله، فمحبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله عز وجل، ولا يمكن أبداً أن نجعلها أكثر وأقوى من محبة الله عز وجل، بل ولا مساوية إلا في الأمور الشرعية، فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كطاعة الله تعالى تماماً ولا فرق. سيد الاستغفار ومعناه: 1490 - وعن شداد بن أوسٍ رضي الله عنها: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الاستغفار، أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذني، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». أخرجه البخاري. قوله: "سيد الاستغفار" يعني: أشرف، والاستغفار هو طلب المغفرة بأي صيغة تكون سواء

كانت بقول: اللهم اغفر لي، أو بقول: أستغفر الله، أو بقول: اللهم يا غفار، وغير ذلك، وما هي المغفرة؟ المغفرة: هي طلب العفو والتسامح عن الذنب وستر الذنب أيضاً، أخذنا هذين المعنيين -وهما العفو والستر- من الاشتقاق؛ لأن المغفرة مشتقة من المغفر، والمغفر هو ما يوضع على الرأس من حديد، أو نحوه لاتقاء السهام، ففيه ستر وفيه وقاية، "أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت" هذا فيه إثبات الربوبية، وإثبات الألوهية: "خلقتني" هذه نوع أو فعل مقتضى الربوبية؛ لأن معنى الربوبية: أنه خالق مالك مدبر، فيقول العبد: أنت ربي، ثم يقول: خلقتني، ثم يقول: وأنا عبدك، عبدك كوناً وشرعاً؛ لأن هذا القول من مؤمن، فأنا عبدك كوناً تفعل بي ما شئت، وأنا عبدك شرعاً أقوم بأمرك وأدع نهيك، "وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت"، "على عهدك": أي: ميثاقك، "ووعدك": أي: وعدك للثواب، ففي الأول التزام بالعمل، والثاني: إيمان بالجزاء، العهد أنا على عهدك التزام بالعمل؛ لأن الله أخذ علينا العهد والميثاق بما أعطانا من العلم والعقل، وبما بعث إلينا من الرسل أن نؤمن به ونعبده، "على وعدك" بالثواب والجزاء؛ أي: أني مصدق بالوعد، ففي هذا إيمان وعمل صالح، العهد يتضمن العمل الصالح، والوعد يتضمن الإيمان، ولكنه قال: "ما استطعت" أي: مدة استطاعتي أو مهما استطعت، فعلى الأولى تكون ما مصدرية ظرفية، وعلى الثاني تكون ما شرطية؛ أي: ما استطعت فأنا فاعله، والاستطاعة هي القدرة، ومنه قوله تعالى عن الحواريين حيث قالوا لعيسى: {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدةً من السماء} [المائد: 112]. وهي مأخوذة من الطاعة؛ لأن الطاعة معناها فعل الشيء عن انقياد واختيار. وقوله: "ما استطعت"، قد يقول قائل: هل هذه تعطي ترخيصاً أو تعطي التشديد، فما الجواب؟ يحتمل هذا وهذا، إنما هي تدل على أن الإنسان لابد أن يقوم بالعهد بقدر الاستطاعة، وأن ما وراء الاستطاعة ليس مكلفاً به، ومثله قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. هي هيئة من وجه وشديدة من وجه آخر، من جهة أن الإنسان لابد أن يستنفذ جهده في فعل الطاعة تكون شديدة، ومن جهة أنه لا يكلف فوق طاقته تكون يسيرة. "أعوذ بك من شر ما صنعت" بضم التاء، "أعوذ بك" أي: أعتصم بك، "من شر ما صنعت": أي: من الذنوب؛ فإن الذنوب كلها شر وموجبة للعقوبة، إلا أن يعفو الله عز وجل، "أبوء" بمعنى:

أعترف، "لك أي: لله عز وجل، "بنعمتك علي"، وقوله: "أبوء لك" أبلغ من قوله: "أبوء بنعمتك"؛ لأن هذا خصيص وتنصيص على الشكر لله عز وجل والاعتراف بنعمه، "وأبوء بذنبي" أعترف لك بذنبي، و"ذنب" هنا مصدر مضاف، فيكون عاماً لكل الذنوب، والاعتراف بالذنب يعني: سؤال المغفرة؛ ولهذا قال: "فاغفر لي لا يغفر الذنوب إلا أنت"، "فاغفر لي": أي اعف عن عقوبة واستر علي؛ لأن المغفرة مأخوذة من المغفر وهو متضمن لشيئين: الستر والوقاية، "فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"، هذا إقرار واعتراف بأن الخلق مهما اجتمعوا على أن يغفروا ذنباً واحداً ما استطاعوا؛ لأن الأمر إلى الله فلا يغفر الذنوب إلا الله، وهذا كقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران: 135]. أي: لا أحد يغفرها إلا الله عز وجل. ففي هذا الحديث فوائد: منها: فضيلة هذه الصيغة من الاستغفار، من أين تؤخذ؟ من قوله: "سيد الاستغفار". ومنها: أن صيغ الاستغفار تختلف فبعضها أشرف من بعض؛ وذلك لأنها لو كانت سواء لم يكن هناك سيد ومسود ولكنها تختلف. ومنها: بيان وجهة هذه الصيغة هي سيد الاستغفار؛ لأنها تتضمن أشياء كثيرة أوجبت أن تكون هذه الصيغ سيد الاستغفار. ومنها: الإقرار بربوبية الله عز وجل في قوله: "اللهم أنت ربي". ومنها: أن صيغة "اللهم" أفضل من صيغة "يا الله" التي يدندن بها المطوفون الذين يطوفون بالكعبة يغرون الناس، حتى إنك تسمع أنهم يقولون: اللهم اغفر لي يا الله، ارحمني يا الله، اللهم ارزقني يا الله، هذه صيغ بدعية لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، و"اللهم" خير من كلمة "يا الله"، ولا أعلم بأنها وردت بهذا القدر الذي يقوله هؤلاء المطوفون. ومن فوائد الحديث: الإقرار بأنه لا إله إلا الله، وهنا نقول: الإقرار بتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية والإقرار بتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، يعني: أن من أقر بتوحيد الألوهية فقد أقر بتوحيد الربوبية ضمناً؛ لأنه لن يعبد ولن يتآله إلا إلى ربه، وأما من أقر بالربوبية ولم يقر بالألوهية فإنه متناقض؛ لأن إقراره بالربوبية يستلزم أن يقر بالألوهية، ولهذا يحتج الله دائماً على أولئك الذين ينكرون توحيد الألوهية بأنهم يقرون بتوحيد الربوبية، ويقول: كيف تقرون بأن الله هو الرب وأنه المدبر لجميع الأمور ثم تصرفون عن الحق مع ظهوره وبيانه؟ !

ومن فوائد الحديث: إقرار العبد بالربوبية على وجه التفصيل لقوله: "خلقتني"، وبالألوهية على وجه التفصيل بقوله: "وأنا عبدك". ومن فوائد الحديث: تجديد العبد لما عاهد الله عليه، وأنه على عهده الذي عاهد الله عليه، وهو أن يقوم بطاعته وشريعته. ومن فوائد الحديث: أن من تمام الإيمان بالله عز وجل أن يؤمن بوعده؛ ولهذا قال أولو الألباب: {ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} [آل عمران: 194]. ولولا إيمان العبد بوعد الله ما عمل عملاً صالحاً، لكنك لو تسأل أي إنسان لماذا تعمل العمل الصالح؟ لقال لك: أرجو بذلك ثواب الله وأخشى عقاب الله. ومن فوائد الحديث: أن العبد ملتزم بأن يكون على عهد الله ما استطاع، ففيه إقرار واعتراف بأن العبد يجب عليه أن يقوم بعهد الله تعالى بقدر استطاعته، وهو كذلك، ولكن كما ذكرنا في الشرح هذه الجملة يمكن أن تكون تشديداً ويمكن أن تكون تيسيراً. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان يعتصم بالله من شر ما صنع، وذلك على وجهين: الوجه الأول: أن يعفو الله عنه، وذلك بعد وقوعه، والوجه الثاني: أن الله تعالى يوفقه للتوبة من هذا الذي صنع؛ لأن الإنسان إذا تاب وقاه الله شر ما صنع، فهذا الدعاء يتضمن الأمرين جميعاً، إما أن العبد يقول: أعوذ بك من شر ما صنعت فوفقني للتوبة منه، أو اعف عني، وكلاهما حق. * فائدة في أنواع النعم: ومن فوائد الحديث: اعتراف العبد بنعمة الله، ونعمة الله تعالى على العبد نوعان: نعمة عامة تشترك فيها الخلائق، وهي التي أشار الله إليها بقوله: {وما من دآبةٍ في الأرض إلا على الله رزقها}. وهذه النعمة تكون للمؤمن والكافر والبر والفاجر والآدمي وغير الآدمي، كل الخلق غافلون بنعمة الله عز وجل، والنعمة الأخرى هي النعمة الخاصة التي يمن الله فيها على عبده وهي نعمة الدين والدنيا، واستمع إلى قوله تعالى: {اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3]. فجعل الله تعالى إكمال الدين من إتمام النعمة، وهذا النوع من النعمة هو النعمة الحقيقية؛ لأنه لا أحد أنعم بالا ولا أشد انشراحاً في الصدر ولا أطيب نفساً من المؤمن، وكلما ازداد الإنسان إيماناً ازداد صدره انشراحاً وقلبه طمأنينة، وصار لا يرى شيئاً يحزنه إلا وفرح به رجاء ثواب نعمة الله عز وجل؛ إذن النعمة التي يعترف بها العبد تشمل النعمة العامة والخاصة، مثال النعمة العامة: الصحة والرزق والنعم التي يتنعم بها البدن وهذا كثير، وقلت لكم: إنه يشير إلى هذا قوله

تعالى: {وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها} [هود: 6]. فالرزق نعمة، وقال عز وجل في آل فرعون: {كم تركوا من جناتٍ وعيونٍ * وزروعٍ ومقامٍ كريمٍ * ونعمةٍ كانوا فيها فاكهين} [الدخان: 25 - 27]. أي: تنعم، الثاني: النعمة الخاصة وهي نعمة الدين، فالإنسان المؤمن يعترف بنعمته العامة والخاصة. ومن فوائد الحديث: الاعتراف بالذنب، وأن الاعتراف بالذنب لله عز وجل ليس من المجاهرة؛ لقوله: "أعترف بذنبي"، أما الذي يعترف بالذنب عند الناس فهذا من المجاهرة؛ ولهذا جاء في الحديث: «كل أمتى معافى إلا المجاهرون»؛ الذي يفعل الذنب في السر وقد ستره الله ثم يصبح يحدث به الناس هذا مجاهر. ومن فوائد الحديث: التوصل إلى الله تعالى بحال العبد لقوله: "أعترف بذنبي"؛ يعني: وإذا اعترفت بذنبي فأنا محتاج إلى مغفرة. ومن فوائد الحديث: إقرار العبد بأنه لا يغفر الذنوب إلا الله. فإن قال قائل: أليس الرجل يستغفر لأخيه فيغفر له باستغفاره؟ الجواب: بلى، لكن هل استغفاره أن يغفر له أو أن يسأل الله أن يغفر له؟ الثاني بلا شك؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب: «لأستغفرن لك ما لم أنهى عنك» فنهي عن الاستغفار له. ومن فوائد الحديث: التوسل إلى الله تعالى بصفته لقوله: "إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"، وقد ذكرنا فيما سبق ونعيده للفائدة: أن التوسل بالدعاء توسل إلى الله تعالى ينقسم إلى قسمين: ممنوع وجائز، وأن الجائز أنواع: الأول: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه عموماً، والثاني: التوسل إلى الله تعالى باسم خاص من أسمائه، والثالث: التوسل إلى الله تعالى بصفاته عموماً، والرابع: التوسل إلى الله تعالى بصفة من صفاته، والخامس: التوسل إلى الله بفعل من أفعاله بالعمل الصالح، والسادس: التوسل إلى الله تعالى بحال العبد الداعي، والسابع: إلى الله تعالى بدعوة من ترجى إجابة دعوته. أما التوسل الممنوع فهو التوسل الشركي كفعل المشركين الذين يعبدون الأصنام ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فجعلوا الشرك وسيلة إلى الله عز وجل، أي: وسيلة إلى قرب الله، وهذا من أكبر الظلم، والثاني: أن يتوسل إلى الله تعالى بما ليس وسيلة؛ لأن التوسل إلى الله تعالى بشيء ليس منه وسيلة عدوان على الله وقول على الله بلا علم وفضل على الله تعالى أن يجيب بأمر ليس سبباً للإجابة، ومنه التوسل إلى الله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن جاه النبي صلى الله عليه وسلم ليس

سؤال العافية في الدين والدنيا والأهل والمال

وسيلة إلى أن يغفر الله لك أو يجيب دعاءك؛ لأن وجاهة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما تكون له هو وحده، نعم الناس في الدنيا يتوسلون إلى الملوك بجاه من حولهم، أما الله عز وجل فإنه لا يتوسل إلي بجاه أحد. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يحرص على دعاء الله تعالى به؛ لأنه سيد الاستغفار. سؤال العافية في الدين والدنيا والأهل والمال: 1491 - وعن بن عمر رضي الله عنه قال: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في ديني، ودنياي، وأهلي، ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي». أخرجه النسائي وابن ماجه، وصححه الحاكم. "لم يكن يدع هؤلاء الكلمات .... إلخ"، "يدع هؤلاء" في هذا الاستعمال أطلق "هؤلاء" في غير من يعقل وهو نادر في اللغة لكنه ثابت ومنه قول الشاعر: ] الكامل [ (ذُمَّ المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام) فأشار إلى غير العاقل بـ"أولئك" وهو قليل، فما هو الكثير إذن؟ الكثير أن يشير إلى جمع غير العاقل باسم إشارة المؤنث المفرد، فيقول مثلاً في هذا الحديث: يدع هذه الكلمات أو تلك الكلمات، وقوله: "هؤلاء الكلمات" سبق لنا أن الكلمات جمع كلمة، وأن الكلمة في اللغة العربية وفي الخطاب الشرعي ليست هي الكلمة المعروفة في اصطلاح النحويين، وقوله: "حين يمسي وحين يصبح" أي: حين يدخل في الصباح فمن يدخل في الصباح؟ يدل في الصباح إذا دخل الفجر؛ ولهذا تسمى صلاة الفجر صلاة الصبح، وفي المساء يدخل إذا صلى العصر، فإن صلاة العصر بها يدخل المساء، إلى متى ينتهي الصباح، ومتى ينتهي المساء؟ ينتهي الصباح إلى وقت الإضحاء، بمعنى: أن تنتشر الشمس وتعم أرجاء الأرض، وحينئذ يكون الصباح انتهى، وقال بعضهم: إلى الزوال، أما المساء فينتهي حينما يغيب بياض النهار في الأفق، وهو أقرب ثلث الليل، وقال بعضهم: إنه ينتهي المساء بدخول وقت العشاء حينما يغيب

الشفق الأحمر، وعلى كل حال: الأمر في هذا واسع، وإذا أردت أن تحاط فبادر الأمر من أوله حتى تحتاط لنفسك، لكن هناك أشياء أذكار وأوراد قيدت في الليل وبعضها قيدت في النهار أو قيد بع صلاة الصبح مثلاً، فما قيد بشيء من هذا وجب أن نتقيد به. قوله: "اللهم إني أسألك العافية في ديني"، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبا ربه: "أسألك العافية في ديني"، والدين: كل ما يتقرب به العبد إلى ربه عز وجل والعافية في الدين تشمل شيئين: الشيء الأول: العافية من الشبهات، والشيء الثاني: العافية من الشهوات، فأما العافية من الشبهات فنعني أن الله تعالى يمنّ عليك بالعلم الذي هو نور تهتدي به، ولا يلتبس عليك الحق بالباطل؛ ولهذا جاء في الحديث: «اللهم أرني الحق حقاً وارزقني إتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً عليّ فأضل». أما الثاني: لعافية من الشهوات فهو أن يسأل ربه أن يعافيه من الإرادات السيئة؛ لأن الإنسان قد يكون عنده علم، لكن ليس عنده إرادة حسنه، يعرف أن هذا باطل ولكن لا يمتنع منه، يعرف أن هذا حق ولكنه لا يفعله، فعندنا الآن مثلان: المثل الأول: رجل وقع في باطل وهو لا يعلم فما نوع بلائه هذا؟ من الشبهات، ورجل آخر وقع في باطل يعلم أنه باطل لكن نفسه دعته إليه هذا بلاؤه من الشهوات، إذن مدار الضلال على هذين الأمرين، إما الجهل وإما الهوى، فإذا سألت الله العافية فإنك تسأل الله في الواقع علماً وتسأله هدىً وتوفيقاً، العافية في ديني ودنياي، العافية في الدنيا أن الله تعالى يعافيك من الأسقام والأمراض الجسدية حتى تصبح معافى تستطيع أن تقوم بطاعة الله عز وجل "وأهلي ومالي" هذا من عافية الدنيا أن يعافيك الله في أهلك؛ بمعنى: أن يجعل أهلك في طاعتك وفي توجيهك وأن يبقيهم لك، وألا يكدر صفوك فيهم بمرض أو عاهة، أو ما أشبه ذلك، المال أيضا يسأل الله أن يعافيك في مالك بأن يحفظه ويقيه الآفات سواء كانت الآفات بفعل الله عز وجل أو بفعل مخلوق، يسرق ويخون وما أشبه ذلك. وقوله: "اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي"، "استر" بمعنى: غط، والعورة ما يقبح من قول أو عمل، وسترها أن يواريها الله عز وجل عن أنظار الناس فلا يسمعونه قولا يسوؤه ولا يرونه فعلا بسوؤه، "وآمن روعاتي": أي: اجعلني آمن عند الروع، والروع هي الخوف، لقول الله تعالى: } فلما ذهب عن إبراهيم الروع {] هود: 74 [. والإنسان لا شك أنه يقع في قلبه مخافة طبيعية عادية فيسأل الله تعالى أن يؤمن هذا الروع، إبراهيم أصيب بالروع، وموسى-عليه الصلاة والسلام-

أصيب بالروع، ومحمد صلى الله عليه وسلم أصيب بالروع أول ما جاءه الوحي وضمه جبريل، ولكن هذا الخوف والروع ليس خوف العبادة ولا الخوف الذي يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله، "وآمن روعتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي" كم جهة هذه؟ خمسة، السادسة قال: "وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي"، وهذا يدل على أن العذاب الذي يأتي من تحت أشد وأعظم؛ ولهذا اعتصم النبي صلى الله عليه وسلم بعظمة الله أن يغتال من تحته من الشياطين من الجن من الخسف، ومعنى "أغتال" يعني: أهلك، والاغتيال هو القتل بغير استعداد له بأن يقتله على غفلة، ووجه ذلك: أن الإنسان إذا جاءه الشر من بين يديه أو من خلفه أو عن يمينه أو عن شماله أمكنه الفرار من فوقه أيضا ربما يمكنه إذا شاهد أسباب العذاب أن يختبئ، لكن إذا جاءه من تحت وخسف به غافل لا يحس بشيء صار هذا أشد، على كل حال كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الكلمات. فيستفاد من الحديث: أولاً: المحافظة على هذه الكلمات اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فوائده: أن هذه الكلمات مقيدة بالصباح والمساء كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقولها في الصباح والمساء، ولكن لو قالها في غير ذلك مثل وسط الليل وسط النهار، هل نقول إنك مبتدع لأنك أتيت بالعبادة في غير وقتها؟ الجواب إن أراد التعبد بذلك قال: إني أتعبد بها في وسط الليل والنهار قياسا على وقت المساء والصباح، قلنا: هذا مبتدع، أما إذا قالها بقلبه وفكره دون قصد اختيار هذا الوقت فلا بأس. ومن فوائد الحديث: أن كل إنسان عرضة للآفات في الدين والدنيا والأهل والمال، وجهه: طلب العافية من ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أشرف بني آدم، ولذلك إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أن يصاب بذلك فمن دونه من باب أولى. ومن فوائد الحديث: أن البلاء يكون في نفس الإنسان، وفي دينه، وفي أهله، وفي ماله، وهو كذلك، بلاء الدين ذكرنا أنه ينقسم إلى قسمين: شبهات، وشهوات. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان كما أنه مأمور بسؤال العافية في الدين فهو مأمور بسؤال العافية في الدنيا أيضا؛ لأن الإنسان كما أنه مأمور بسؤال العافية في الدين فهو مأمور بسؤال العافية في الدنيا أيضا؛ لأن الإنسان قد يبتلى بمرض حسي في بدنه، وقد يبتلى بتسلط الناس عليه وأكل لحمه وسبه حاضرا وإيذائه، كل هذا داخل في قوله: "ودنياه". ومن فوائد الحديث: أنه لا حرج على الإنسان أن يسأل الله تعالى العافية في المال، ولا يقال: إن الورع ألا يتعلق قلبك بمالك هذا خطأ؛ لأن سيد الورعين محمد صلى الله عليه وسلم ومع ذبك سأل الله أن يعافيه في ماله.

ومن فوائد الحديث: أن العافية في الأهل مقدمة على العافية في المال، وعلى هذا أيهما أولى بالمراعاة أن تراعي أهلك وتحفظهم من الشرور وتحافظ على مصالحهم، أو أن تراعي مالك؟ الأول؛ ولهذا من السفه في العقل والضلال في الدين أن بعض الناس اليوم يراعي مالهم مراعاة كبيرة ويحافظ عليه وأهله غير مبال بهم. ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم له عورات لقوله "استر عوراتي"، وهل يمكن أن يؤخذ من هذا، أو قال: "استر عوراتي" إن كانت؟ يحتمل هذا وهذا، والنبي صلى الله عليه وسلم ليس معصوما من الخطأ في غير الوحي قد يجتهد ويخطئ، ولكن الله تعالى لا يقره على خطئه، وهذا من ستر ذلك، أليس يقول له: } عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين {] التوبة: 43 [. ويقول له عز وجل: } وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك وأتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه {] الأحزاب: 37 [. ويقول له: } يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم {] التحريم: 1 [. على كل حال لنا أن نقول: إن الرسول لم يسأل ستر عوراته إلا وهو محتاج إلى ذلك، ولكنه لا يقر صلي الله عليه وسلم على خطأ، ويمكن أن يقال: استر عوراتي إن كانت، ولا يلزم من ذلك الوقوع كما لم يلزم وقوع الشرك منه في قوله تعالى: } لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين {] الزمر: 65 [. ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر يلحقه الروع لقوله: "وآمن روعاتي"، وهل نقول: إن هذا دعاء بأن يجعل في قلبك أمانا إذا حصل الروع، أو هو دعاء برفع الروع وتخفيفه إذا وقع؟ الظاهر: الأمران يعني: آمن من الروعات، أو ارفع عني الروع إذا نزل، والإنسان محتاج إلى هذا وهذا. ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مفتقر إلى حفظ الله عز وجل، لقوله: "أحفظني من بين يدي"، وهذا يرد دعوى الذين يدعون أن النبي صلى الله عليه وسلم قادر على حفظهم، ولهذا يستغيثون به ويستعينون به ويستعيذون به، ويعتقد الواحد منهم أنه في حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نفسه محتاج إلى حفظ الله. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي التبسط في الدعاء لقوله: "أحفظني من بين يدي .... إلخ"؛ إذا بإمكانه أن يأتي بهذا مجملاً فيقول: أحفظني من كل نازلة، أو من كل جهة، لكن التبسيط في الدعاء أفضل لوجوه ثلاثة: الوجه الأول: طول مناجاة الله عز وجل، كلنا يعلم أن الإنسان يحب أن

الاستعاذة من سخط الله

يطيل المناجاة مع حبيبه، والرب عز وجل أحب شيء إلى المؤمن، الوجه الثاني: أن التبسيط يؤدي إلى الاستحضار؛ استحضار ذنوبه إذا كانت ذنبا، استحضار الحاجات إذا كانت حاجة، ولا شك أن التفصيل في ذلك أولى من الإجمال؛ لأنه عند الإجمال قد يغيب عنك شيء مما تريد أن تدعو الله من أجله؛ ولهذا جاء في الحديث: "اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، علانيته وسره، وأوله وآخره"، مع أنه يكفي أن يقول: اللهم اغفر لي ذنبي كله، وكذلك في دعاء الميت: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا"، هذا أيضا يعني عنه: اللهم اغفر لحينا وميتنا عن كل ذلك، لكن التفصيل فيه مصلحة. الوجه الثالث: كثرة الثواب؛ لأن كل جملة تدعو الله بها فإنك مثاب عليها لامتثالك أمر الله تعالى في قوله: } ادعوني أستجب لكم {، وإن شئت زد واجهاً رابعاً: وهي التأسي برسول الله صلي الله عليه وسلم، ولكن هذا لا يعني أن نأتي بالألفاظ المتكررة التي ليس فيها إلا الإطالة بدون فائدة فإن هذا ينهي عنه، كما يوجد عند بعض الناس في دعاء القنوت في ليالي رمضان تجده يأتي بأشياء طويلة مملة غير واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا مكررة تكريرا إما لفظيا وإما معنوياً. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان يخاف من العذاب أو الانتقام يأتيه من أسفل أكثر مما يخاف أن يأتيه من بقية الجهات، يشير إلى ذلك: "أعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي". ومن فوائد الحديث: جواز السجع في الدعاء؛ لأن في هذا الحديث سجع وهو: "استر عوراتي وآمن روعاتي"، وكذلك أيضا يوجد سجع في بقيته لكنه ليس سجعا ظاهرا، إنما السجع في الدعاء لا بأس به بشرط ألا يكون متكلفا. الاستعاذة من سخط الله: 1492 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك». أخرجه مسلم. يقول: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك"، أي النعم؟ عام يشمل نعم الدين ونعمة الدنيا، وقوله: "وتحول عافيتك"، وتحول العافية يعني: إلى مرض سواء كان مرضا دينياً أو مرضاً دنيوياً سواء كان مرضاً في البدن أو مرضاً في المال أو مرضاً في الأهل، المهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من تحول العافية يعني: تغيرها من حال إلى حال، "وفجاءة نقمتك" يعني:

أن تفاجئني نقمتك، والله عز وجل ينتقم من عصاه وربما يأتي الأمر مفاجئ كما في قول الله - تبارك وتعالى-: } أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهو نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون {] الأعراف: 97 - 98 [نائم قائم فيفاجأ بالانتقام، لاعب بالضحى فيفاجأ بالانتقام. وقوله: "فجاءة نقمتك" هل يمكن أن نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى أن ينتقم منه، أو يقال: فجاءة تهتك التي تكون من فعل غيره؛ لأن نقمة الله تكون للمخطئ وغير المخطئ كما قال تعالى: } واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة {] الأنفال: 25 [. الذي يظهر لي، الثاني؛ وأن الرسول صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله من مفاجأة النقمة؛ لأنه عز وجل ينتقم من الناس عموما وإن كان فيهم الصالحون، "وجميع سخطك" أي: كله، كل السخط سواء على المعاصي القوليه أو على المعاصي الفعلية، والسخط ضد الرضا. ففي هذا الحديث دليل على فوائد: منها: افتقار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، وجه ذلك أنه استعاذ به -عليه الصلاة والسلام-. ومن فوائد الحديث: أن النعم قد تزول حتى عن الأنبياء، لكن نعم الدنيا ممكن، لكن نعم الدين لا تزول؛ لأنه لا يمكن أن يرتد أحد من الأنبياء، فلا يمكن أن تزول نعمة الله عليهم، نعم إن أريد من زوال نعمتك العموم فهذا قد يقع، قد ينقص المسلمون ويرتد بعضهم. ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعاذ من تحول العافية، وهذا يتضمن بقاء العافية، إذن فالإنسان ما دام في عافية فلا ينبغي أن يتحول عنها، بل يبقى على ما هو عليه ما دام في عافية فإن أصيب فليلجأ إلى الله عز وجل. ومن فوائد الحديث أيضا: تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من مفاجأة الانتقام، وهل يشمل هذا لو جاء الانتقام شيئا فشيئا؟ نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم إنما تعوذ من مفاجأة الانتقام؛ لأنه أشد مما لو كان يأتي بالتدريج؛ إذ إنه إذا أتى بالتدريج ربما يكون الإنسان منتبها فيستعتب، ويسأل الله العافية ويرفع عنه. ومن فوائد الحديث: إثبات السخط لله لقوله: "وجميع سخطك" أي: كل ما يسخطك، فيكون في هذا استعاذة بالله من الأعمال الموجبة للسخط ومن السخط.

الاستعاذة من غلبة الدين والعدو وشماتة الأعداء

الاستعاذة من غلبة الدين والعدو وشماتة الأعداء: 1493 - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العدو، وشماتة الأعداء». رواه النسائي، وصححه الحاكم. قال: "من غلبة الدين"، ولم يقل: من الدين، "غلبة" يعني: تراكمه وكثرته؛ ولهذا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مدينا أحيانا وأحيانا لا يوفي، فكان مدينا لجابر بن عبد الله بثمن جمله؛ لأنه اشترى منه الجمل ولم ينقده الثمن، وقصة الجمل مشهورة، فكان ثمن الجمل دينا على رسول الله، لكنه دين ليس غالبا والحمد لله أوفاه، وقد لا يوفي الدين، وذلك الطعام الذي اشتراه لأهله من اليهودي، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى طعاما لأهله من يهودي وأرهنه درعه، ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند هذا اليهودي بهذا الطعام، إذن مات مدينا، ولكن هذا الدين لم يغلبه؛ لأن الدين موثق الدرع، والذي يبدو أن هذا الدرع يكفي دينه؛ لأن اليهود لا يمكن أن يتهاونوا في أمكر المال، فهذا الدرع يوفي، فصار الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغلب في دينه، إذن استعاذ من "غلبة الدين" فأجاب الله دعائه، كذلك أيضا "غلبة العدو"؛ أن يغلبني العدو، استعاذ أن يغلبه العدو، ولا شك أن النبي صلي الله عليه وسلم كانت العاقبة له حتى وإن كان في بعض المواطن يحصل ما يحصل من الهزيمة، إلا أن العاقبة للرسول صلي الله عليه وسلم ولذلك قضى والحمد لله على العرب، ومنهم من أسلم، ومنهم من أذل، فصارت العاقبة للرسول صلي الله عليه وسلم، ولا أعجب من قضية حنين فإن هوزان غلبوا الصحابة -رضي الله عنهم- حتى فر الصحابة وهم اثنا عشر ألفا ولم يبق مع الرسول صلي الله عليه وسلم إلا نحو مائة رجل من اثني عشر ألفا، ثم كانت العاقبة والحمد لله للنبي صلي الله عليه وسلم حتى غلبهم وغنم منهم مغانم كثيرة، كذلك أيضا شماتة الأعداء: يعني: فرح الأداء، ومنه قول هارون لأخيه موسى: } فلا تشمت بي الأعداء {] الأعراف: 150 [أي: لا تفرحهم علي، ولا شك أن شماتة العدو إنما يكون بما يسوء الإنسان؛ لأن عدوك يفرح بما يسوءك ويحزن بما يسرك، ولهذا لما تكلم الفقهاء على أن العدو لا تقبل شهادته على دعوه قالوا: من سره مساءة شخص وغمه فرحه فهو عدو، هذه كلها أدعية منها ما يكون في المال، ومنها ما يكون في الحياة والشرف والسيادة، ومنها ما يكون في أمر خارج، "غلبة الدين" تتعلق بالمال، "غلبة العدو" تتعلق بالشرف والسيادة والعزة، "شماتة الأعداء" بأمر خارج يشمل المال ويشمل البدن؛ لأن المقصود بشماتة الأعداء: فرحهم.

معنى الصمد

فيستفاد من الحديث: أولا: افتقار رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى ربه في كل حال، وهذا الافتقار ينفي أن يكون له حظ من الربوبية وبه يبطل تعلق هؤلاء المساكين الذين يتعلقون برسول الله صلي الله عليه وسلم في كشف الشدائد وجلب المنافع، وهو نفسه محتاج إلى الله. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يدعو به تأسيا برسول الله صلي الله عليه وسلم وابتغاء فيما يحصل فيه من صرف المساوئ التي تسوء العبد في ماله أو جاهه أو ما هو أعم. ومن فوائد الحديث: أن مطلق الدين لا حرج فيه، لكن هل الأفضل أن يعرض نفسه للدين أو لا؟ نقول: في ذلك تفصيل؛ إذا كان الوفاء قريبا والدين قليلا فلا بأس، وأما إذا كان الوفاء غير مرجو أو كان دينا كثيرا قد يثقل كاهل الإنسان فإنه لا ينبغي للإنسان أن يتعرض له؛ ولهذا نحن على خطر بالنسبة لشبابنا الذين انحرفوا فيما يسمونه بالتقسيط يشتري الشاب السيارة فخمة لا يركبها إلا الملوك وأبناء الملوك، والوزراء وأبناء الوزراء، وهو ليس عنده شاء، ولكن تغلبه الشركات، وتقول: خذ هذه السيارة بمائة ألف ريال وأعطنا كل شهر من معاشك كذا وكذا، المسكين يأخذها، فكون هذا الجزء الذي أخذ من معاشه يسير لكنه سوف يندم فيما بعد إذا طالبت هذه الشركات بحقوقها، وسوف يعلم أن هذا أسوء تصرف وأخطر تصرف، ولا ينبغي للإنسان أن يتهاون بالدين، على كل حال: من الدين الذي قلنا يكون قليلا ووفاؤه قريب أن يكون على الإنسان عقيقة ولد، له ولدان يحتاج إلى أربع عقائق، لكنه وظف وليس له إلا معاشه وسوف يوفي آخر الشهر فهل يقترض، أو نقول انتظر حتى تحصل الراتب ثم عق؟ الأول، ولهذا قال الإمام أحمد رحمة الله: يعق -يعني: المدين- أرجو أن يخلف الله عليه. معنى الصمد: 1494 - وعن بريدة رضي الله عنه قال: «سمع النبي صلي الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم أني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. فقال: لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب». أخرجه الأربعة وصححه ابن حبان. هذا الذي سمعه الرسول صلي الله عليه وسلم إنما هو التوسل فقط، ولم يذكر في الحديث ماذا سأل الرجل إنما ذكر التوسل قال: "اللهم أني أسألك"، ولم يذكر المسئول وهي حاجة الداعي "بأني

أشهد أنك أنت الله"، الباء هنا للمصاحبة؛ يعني: أسألك سؤالا مصحوبا بهذه الشهادة العظيمة، "بأني أشهد" أي: ناطقا لسانا موقنا بقلبي، "بأنك أنت الله لا إله إلا أنت"، وهذا شهادة له بالألوهية وانفراده بها بقول: "لا إله إلا أنت"، "الأحد" يعني: الذي لا نظير له، بل هو متوحد في الكمال والجمال والعظمة والإحسان، وغير ذلك، "الصمد" أجمع ما قيل في معناه: أنه الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، فالذين فسروه بأنه السيد الكامل في سؤدده، الكامل في حلمه، الكامل في علمه ... إلخ، هذا داخل في قولنا: الكامل في صفاته، وتفسير بعضهم إياه بأن الصمد عليه الخلائق في حوائجها داخل في قولنا: الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، فعليه نقول: الصمد هو الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، ومن ذلك استغناؤه - تبارك وتعالى - عن الأكل والشرب وغير ذلك. "الأحد" قلنا: المتفرد بكماله وجلاله وكذلك في ذاته، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن ذات الله تعالى تخالف كل ذوات المخلوقين، ولا يمكن أن تصور يعني: تخالف الجن والإنس، والسماء والنجوم؛ لأنه لا نظير له، فهذه الذات العلية مخالفة لجميع الذوات؛ لأنه الله تعالى أوحد متوحد في كماله وجلاله وصفاته، "الصمد": الذي لم يلد ولم يولد، لم يلد: لكماله؛ لأنه مستغن عن الولد، والحيوان ناقص يكمل في الولد من وجه، ناقص يستمر بقاء النوع بماذا؟ بالولد، الرب عز وجل غني عن هذا، فهو لم يلد، وقد أنكر الله ذلك بأدلة عقلية، قال: } أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء {] الأنعام: 101 [فالخالق لا يحتاج أن يتولد منه شيء أو يولد منه شيء، ولم يولد؛ لأنه عز وجل هو الخالق وما سواه مخلوق؛ ولأنه الأول الذي ليس قلبه شيء؛ ولأنه لو كان مولودا لافتقر إلى الوالد، وكل هذا منتف في حق الله؛ فلهذا انتفت عنه الولادة. فإن قال قائل: الوالد سابق للمولود، لماذا يدع له المولود قبل الوالد. نقول: نعم؛ لأنه ادعي أن الله له ولد ولمن يدع أحد أن الله له والد، فقدم ما أدعاه المبطلون في حقه، قدم نفيه اهتماما به وردا لقول هؤلاء، فمن الذين قال إن لله ولد؟ النصارى واليهود والمشركون، النصارى قالوا: المسيح ابن الله، واليهود قالوا: عزير ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله، ولم يكن له كفواً أحد، "كفوا" مكافئا، و "أحد" هذه اسم "يكن" مؤخر؛ يعني: لم يكن لله أحد يكافؤه أبداً لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أسمائه ول في أفعاله. هذا الدعاء تضمن الإقرار بأنواع الربوبية بل بأنواع التوحيد: "أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت" هذا الألوهية، "الأحد الصمد" الربوبية؛ لأننا قلنا: إن الصمد هو الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع المخلوقات، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، هذه الأسماء

والصفات: يعني المتوحد بصفاته وأفعاله، فلا يشابهه أحد ولا يماثله أحد، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى"، "باسمه" ليس المراد هنا: الاسم الواحد بل بما ذكر من أسمائه؛ وذلك لأن "اسم" مفرد مضاف فيعم، وعلى هذا فيكون باسمه؛ أي: بما ذكر من أسمائه، وهذه الصيغة فيما ذكر الله والأحد والصمد، فيكون المراد باسمه: العموم؛ أي: عموم ما ذكر باسمه الذي سئل به أعطي، وذلك لمحبته -تبارك وتعالى- بما تضمنته هذه الصيغة، "وإذا دعي به أجاب"، والفرق بين السؤال والدعاء: أن الدعاء أن تناجي الله عز وجل، والسؤال أن تطلب منه شيئا، فإذا قلت: اللهم، فهذا دعاء، أغفر لي هذا سؤال؛ ولهذا جاء في حديث النزول أن الله عز وجل يقول: "من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه ... ". في هذا الحديث فوائد: أنه ينبغي أن يتوسل الإنسان في دعائه بهذه الصيغة، وجهة: أن النبي صلي الله عليه وسلم أثنى عليها، وبين أنها الاسم الذي إذا سئل الله به أعطى وإذا دعي به أجاب. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان قد يلهم ما يكون محبوبا إلى الله ورسوله؛ لأن الظاهر أن هذا الإنسان الداعي قال ذلك من عند نفسه، ويحتمل أن الرسول صلي الله عليه وسلم علمه إياه، ثم سمعه من هذا الداعي، لكن ظاهر الحديث الأول. ومنها: تأييد من قال بالحق، وإن كان دون المؤيد، وجهة: أن الرسول صلي الله عليه وسلم أيد هذا الداعي مع أنه دون الرسول صلي الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: التوسل إلى الله عز وجل بكمال صفاته؛ لأن كل ما ذكر من كمال الصفات، ولعلكم تذكرون أننا ذكرنا في عهد قريب أنواع التوسل. ومن فوائد هذا الحديث: انفراد الله تعالى بالألوهية والأحدية والصمدية؛ لأنه قال: "أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد"، أما "لا إله إلا أنت" فواضح، وأما "الأحد الصمد" فلأنهما معرفان، يعني: المعني أشهد أنك الأحد الصمد، فهما من خصائص الرب عز وجل. ومن فوائد الحديث: إثبات كمال الله عز وجل لقوله: "لم يلد يولد"، "ولم يلد" نفي للولادة في المستقبل، "ولم يولد" نفي التسلسل في الماضي؛ أي: أن الرب عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء. ومن فوائد الحديث: إثبات الصفات التي تسمى الصفات السلبية؛ أي: المنفية من قوله: "لم يلد ولم يكن له كفواً أحد" واعلم أن الله تعالى موصوف بصفات نفسي وصفات إيجاب وأيها أفضل؟ الصفات الإيجابية أفضل؛ لأنه كلما تعددت صفات الكمال ظهرت من كمال الموصوف ما لم يكن معلوما من قبل، أما صفات النفي فإنها جاءت مجملة غير مفصلة؛ لأن

التفصيل في صفات النفي عيب غير لائق، والإجمال هو الكمال، لو أنك أردت أن تعظيم أميرًا من الأمراء فقلت: إنك أمير لا يساويك أحد في الحزم والقوة والرأي والحكمة، مثلاً ماذا يكون؟ هذا طيب، لكن لو قلت: إنك أمير ولست ببخيل ولا جبان ولا فراش ولا كسّاح ولا منظف للأسواق ماذا يقول؟ يرى أنك عبته ويأمر بتأديبك؛ لأن هذا غير لائق؛ ولهذا قال العلماء: من الحكمة أن الله تعالى يذكر الصفات المنفية على سبيل الإجمال؛ لأنّ ذلك أبلع في الكمال، لكن قد تذكر الصفات المنفية على وجه التفصيل لسبب، إما لكون السامع قد توهمها، وإما لكون هذه الصفة المنفية قد قيلت في الله عز وجل، فمن الأول قوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيامٍ وما مسنا من لغوبٍ} [ق: 38]. هذا نفي لصفة خاصة لكنه نفي في محله؛ لأن السامع قد يظن أن هذه المخلوقات العظيمة تعي الله عز وجل فنفى ذلك عنه، ومثال نفي ما ادعاه المبطلون هذه الدعاء: "لم يلد ولم يولد" فهذا نفي خاص؛ لأنه دعي في جانب الله عز وجل، ثم اعلم أن جميع الصفات المنفية ليس المراد بها مطلق النفي، لماذا؟ لأن مطلق النفي العدم، والعموم ليس بشيء، والله يقول عن نفسه: ولله المثل الأعلى أي الوصف الأكمل، فإذا وصف بعدم فأين الكمال، إذن إذا كان يمتنع المراد بالصفات المنفية مطلق النفي، فما المراد؟ المراد: إثبات الكمال، فكأننا نقول: {وما مسنا من لغوبٍ} [ق: 38]. لكمال قوته، {وما ربك بغافلٍ عما يعملون} [البقرة: 132]. لكمال علمه وإحاطته ومراقبته، هذا هو المراد، إذن المراد بالصفات المنفية إثبات ضدها على وجه الكمال، ولو لم نقل ذلك لكان يحتمل أن يراد بالصفات المنفية القدح والعيب؛ لأنه قد ينفي الشيء المعيب لعيب من نفي عنده، ومنه قول الشاعر: [الطويل] (قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل) نمدحهم بالوفاء وعدم الاعتداد، الوفاء لا يغدرون بذمة، وعدم الاعتداد ولا يظلمون الناس حبة خردل، إذا سمعت هذا الكلام تقول: أثنى عليهم أم عابهم؟ أثنى عليهم، أوفياء عدلاء، لكن الواقع أنه أراد ذمهم، ويدل لهذا التصغير في أول قبيلة، وكذلك أيضًا قول الشاعر: [البسيط] (لكنَّ قومي وإن كانوا ذوي عددٍ ... ليسوا من الشَّرفي شيءٍ وإن شانا) (يجزون من ظلم أهل الظُّلم مغفرةً ... ومن إساءة أهل السُّوء إحسانًا)

أي: أنهم إذا ظلمهم أحد غفروا له، وإذا أساء إليهم أحسنوا إليه، صفة جميلة: إذا ظلموا عفروا وإذا أسيء إليهم أحسنوا، أي إنسان يسمع هذا الكلام يقول: إنه مدح لكنه في الواقع ذم بدليل ما قبله وما بعده. ثم قال: (فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا ... شنُّوا الإغارة فرسانًا وركبانًا) يعني: ناس شجعان يركبون الخيل ويشنون الغارات، فتبين بهذا الآن أن نفي العيب قد يكون عيبًا، كذلك نفي العيب قد يكون لعدم قابلية الشيء لذلك العيب، ليس لكماله لكن لعدم قابليته له، ومنه أن تقول: إن جدارنا لا يظلم من استظل به هذا نفي؛ لأنه غير قابل للظلم أو العدم، فلذلك لم يكن نفي الظلم في حقه مدحًا، إذن الصفات المنفية عن الله عز وجل المراد بها إثبات صفة كمال، الكمال ما ندري ما هو، لكن بضدها تتبين الأشياء، إذا انتفى هذا الشيء فالضد هو الثابت، لا يظلم ربك أحدًا انتفى الظلم ما ضده؟ العدل، إذن هو عادل عدلاً ليس فيه ظلم بوجه من الوجوه، وعلى هذا فقس. من فوائد الحديث: أنه كلما قويت الوسيلة حصل المقصود لقوله: "إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب"، وهل هذا يشمل الأمور الشرعية والأمور القدرية الكونية؟ أي نعم، كلما قويت الوسيلة حصل المقصود، إلا إن كان فيه مانع أقوى من ذلك، فلا يحصل، فمثلاً لو قال قائل: أرأيت لو دعا داع بهذا الدعاء وهو يأكل الحرام ويتغذى به هل يدخل في الحديث أو لا؟ نقول: لا يدخل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم استبعد أن يجاب لمن تغذى بالحرام فكان مطعمه ومشربه حرامًا، وهذه قاعدة ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها، أن الأسباب لا تؤثر في مسببها حتى تنتفي موانعها، وإن شئتم تقريب ذلك لكم ويكون على أذهانكم، اذكروا أسباب المواريث وموانع المواريث، أسباب الميراث: قرابة ونكاح وولاء، إذا وجدت هذه الأسباب يثبت الإرث، لكن قد توجد هذه الأسباب ولا إرث لوجود مانع، ومنه اختلاف الدين، فمثلاً: لو أن رجلاً تزوج يهودية وماتت عنه أو مات عنها هل يقع بينهما توارث؟ لا، مع أنها زوجته، والله يقول: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم}، {ولهن الربع مما تركتم} [النساء: 12]. ومع ذلك نقول: لا توارث بينهم لوجود المانع وهو اختلاف الدين، هذه القاعدة مفيدة لطالب العلم

دعاء الصباح والمساء

تتجلى بها إنكالات كثيرة، فكل الأسباب التي جعلها الله تعالى أسبابًا سواء كانت قدرية أم شرعية لابد من انتفاء موانعها وإلا فلا تكون أسبابًا. دعاء الصباح والمساء: 1495 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح، يقول: "اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور"، وإذا أمسى قال مثل ذلك؛ إلا أنه قال: "وإليك المصير". أخرجه الأربعة. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى بهذا الدعاء صباحًا ومساءً، إلا أن الصيغة تختلف لاختلاف الزمان، "فإذا أصبح يقول"، "إذا أصبح" أي: دخل في الإصباح، وذلك بعد طلوع الفجر، يقول: "اللهم بك أصبحنا" يعني: أنت الذي أبقيتنا حتى أدركنا الصباح، "بك أصبحنا" باعتبار الجو والفلك، فالذي أتى بالإصباح الله، والذي أبقى الإنسان إلى الصباح الله، إذن فيكون معنى قوله: "بك أصبحنا" باعتبار بقاء الإنسان للصبح وباعتبار الإتيان بالإصباح، يقول الله عز وجل: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه} [القصص: 72]. وقال الله عز وجل: {فالق الإصباح} [الأنعام: 96]. إذن "بك أصبحنا" تشمل معنيين هما: إبقاء الإنسان إلى الصباح، والإتيان بالصباح؛ يعني: لولا أنت ما بقينا إلى الصباح، ولو أنت ما جاء الصباح. "وبك أمسينا" نقول مثله، "وبك نحيا وبك نموت"، حياة الإنسان في الصباح أو في المساء أو فيما بين ذلك بالله عز وجل، لولا إمداد الله بالغذاء والهواء واللباس ما بقينا، فبقاؤك بالله عز وجل، وكذلك "وبك نموت" أنت الذي تميتنا. فإن قال قائل: لو قتل الإنسان؟ فنقول: حتى إذا قتل، من أخرج روحه؟ الله عز وجل، وكم من إنسان أصيب في حادث مميت ومع ذلك يبقى الموت بيد الله والحياة بيد الله. "وإليك النشور" يعني: نشور الخلائق يوم القيامة، ننشر إلى لله ونحشر إلى الله عز وجل، وذكر النشور هنا مناسب؛ وذلك لأن الإنسان إذا أصبح فقد بعث من موت، قال الله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجلٌ مسمىً} [الأنعام: 60].

الدعاء بالحسنة في الدنيا والآخرة

فكان ذكر النشور هنا مناسبًا تمامًا، وإذا أمسى مثل ذلك إلا أنه يقول: "بك أمسينا ... الخ"، "المصير": المرجع؛ لأن آخر النهار كآخر الدنيا، الإنسان يكون مقبلاً على موت النوم أو على وفاة النوم على الأصح، وهذا يشبه مصير الإنسان إلى ربه تعالى عند موته. في هذا الحديث فوائد: أولاً: أنه ينبغي للإنسان أن يدعو بهذا الدعاء صباحًا ومساءًا تأسيًا بالرسول صلى الله عليه وسلم وابتغاءً لثواب الله بهذا التأسي وثناء على الله عز وجل بأن الأمور بيده- تبارك وتعالى-. ومن فوائد الحديث: أن الإصباح والإمساء بيد الله، وأن الحياة والموت بيد الله، وأن النشور بيد الله، وأن المصير إلى الله عز وجل وبيد الله أيضًا. ومن فوائد الحديث: عموم ربوبية الله عز وجل في كل وقت صباحًا ومساءً وما بين ذلك لقوله: "بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور". الدعاء بالحسنة في الدنيا والآخرة: 1496 - وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: "كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النَّار}. متفق عليه. لا يخفى علينا جميعًا أن قول القائل: "ربنا آتنا" يعني: نداء، وقوله: "آت" بالمد بمعنى: أعط، وهو ينصب مفعولين: الأول: "نا" والثاني: "حسنة" وقوله: "وقنا"، فهل الفعل هو الواو والقاف، أو الواو عاطفة؟ الجواب: الواو عاطفة، والقاف هي الفعل؛ لأنها من وقى، وإذا صيغ من وقى فعل أمر وجب حذف حرف العلة وهي الواو في أوله والألف في آخره فنقول في "وقى": ق، وفي "وعى" ع، وفي "في" ف، ولذلك لو قال لك قائل: ما وزن ع من وعى؟ نقول: وزنها ع، ووزن ق ع ووزن ف ع، الميزان عبارة عن كلمات تقابل بميزان مكون من الفاء والعين واللام، ونقول وزن ضرب فعل، ووزن سمع فعل، ووزن يفرح يفعل، ووزن يضرب يفعل، إذن ق فعل أمر على وزن ع. في هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من هذا الدعاء لقوله: "كان أكثر دعاء الرسول"، وفي كلام شيخ الإسلام رحمه الله في منسكه ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم يختم به الدعاء حيث علل، يكون الطائف يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة"، قال: لأن هذا هو ختام الشوط، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختم دعاءه بـ"ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي

الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، لكن لم أطلع حتى الآن على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يختم بذلك الدعاء، لكنه يكثر منه، ولهذا نحتاج إلى البحث عن هذه المسألة. يقول: "ربنا آتنا في هذه الدنيا حسنة"، الدنيا هي هذه الدار التي نحن الآن نعيش فيها، والدنيا اسم تفضيل مذكره أدنى، كعليا مذكرها أعلى، قصوى مذكرها أقصى، إذن دنيا اسم تفضيل، فما معنى الدنو الذي هو اسم تفضيل؟ نقول: له معنيان: المعنى الأول التقدم؛ لأنها أدنى من الآخرة من حيث الزمن، المعنى الثاني من الدناءة؛ لقوله- تبارك وتعالى- {وللآخرة خيرٌ لك من الأولى} [الضحى: 4]. ولقوله تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خيرٌ وأبقى} [الأعلى: 16 - 17]. فهذه الدنيا وصفت بهذا الوصف لهذين السببين؛ أولاً: لقربها، والثاني: لدنوها؛ أي: تنقصها، فهي ناقصة عن الدار الآخرة، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها"، وموضع السوط حوالي متر، "خير من الدنيا"، أي دنيا؟ الدنيا كلها من أولها إلى آخرها، وتشتمل على دنيا الملوك، ودنيا الأمراء، ودنيا الوزراء ودنيا المترفين، موضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، إذن الدنيا وصفت بذلك للوجهين المذكورين، "حسنة" كلمة مطلقة غير مبينة، ما هي حسنة الدنيا؟ المال الكثير، المراكب الفخمة، القصور المشيدة، البنون الكثر، الزوجات الحسان، كل شيء، ولهذا إذا وجدتم مثالاً على حسنة الدنيا فهذا على سبيل التمثيل، وليس على سبيل الحصر، كل ما يستحسن في الدنيا فهو داخل في قوله: "في الدنيا حسنة"، "في الآخرة" سميت آخرة؛ لأنها متأخرة الزمن؛ ولأنها آخر مرحلة للخلق ليس بعدها مرحلة، ولهذا يعبر الله عنها باليوم الآخر؛ لأنها آخر مرحلة. وقوله: "في الآخرة حسنة" ما هي حسنة الآخرة؟ الجنة، وبدخول الجنة ينجو الإنسان من النار، قال الله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]. "وقنا عذا النار" هذا من باب التبسيط في الدعاء، وإلا فمن المعلوم أننا إذا فسرنا حسنة الآخرة بالجنة، فإن من كان من أهل الجنة فقد وقاه الله عذاب النار، وقد يقال: إن الإنسان قد يكون من أهل الجنة، ولكن يعذب في النار بقدر ذنوبه، فيكون قوله: "وقنا عذاب النار" دعاء مستقلا ليس من لوازم الحسنة في الآخرة، والمعنى: آتنا في الآخرة حسنة ليس فيها سيئة؛ ولهذا قال: "وقنا عذاب النار". في هذا الحديث فوائد منها: أنه ينبغي الإكثار من هذا الدعاء تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

من صيغ الاستغفار

ومنها: أنه لا حرج على الإنسان أن يدعو الله تعالى بحسنة الدنيا، والذي يضر الإنسان أن يؤثر الدنيا على الآخرة، أما أن يطلب الخير في الدنيا والآخرة فلا حرج عليه، ها هو النبي صلى الله عليه وسلم سيد الورعين والزاهدين يقول: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة"، ولاشك أن الله إذا منّ على الإنسان بحسنة الدنيا والآخرة فإن حسنة الدنيا ستكون عونًا له على حسنة الآخرة؛ لأنه يتفرغ ويعمل عملاً صالحًا. ومن فوائد الحديث: إثبات الآخرة، وإثبات النار لقوله: "وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". ومن فوائد الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه لا يملك أن ينجي نفسه من النار، لقوله: "وقنا عذاب النار"، وهذا أمر لا يحتاج إلى تعمق أو تأمل لوضوحه، حتى إن الله تعالى أمره أن يقول معلنًا على الملأ: {إني لا أملك لكم ضرًا ولا رشدًا قل إني لن يجيرني من الله أحدٌ} يعني: لو أرادني بسوء لم يجيرني أحد، {ولن أجد من دونه ملتحدًا}؛ أي: لا أجد أحدًا ألجأ إليه دون الله. من صيغ الاستغفار: 1497 - وعن أبي موسي الأشعريَّ رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: "اللهمَّ اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منَّي، اللهمَّ اغفر لي جدَّي، وهزلي، وخطئي، وعمدي، وكلُّ ذلك عندي، اللهمَّ اغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به منَّي، أنت المقدَّم وأنت المؤخَّر، وأنت على كلَّ شيءٍ قديرٌ}. متفق عليه. هذا دعاء مفصل وجامع وكله في دفع ما يضر الإنسان؛ أي: كل هذا السؤال سؤال الله تعالى أن يدفع ما يضر الإنسان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لي خطيئتي" وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"، وقوله: "وجهلي" هذا مقابل الخطيئة، فالخطيئة ما فعله عن عمدٍ، والجهل ما فعله عن خطأ، وفرق بين الخطيئة وبين الخطأ؛ لأنه سيأتي الخطأ في قوله "وخطئي وعمدي"، فالخطيئة أن يرتكب الإنسان الخطأ عن عمد. فإن قال قائل: هل الرسول صلى الله عليه وسلم يتعمد الخطأ؟ نقول: لا يمكن أن يتعمده بقصد الخطأ، وإنما يتعمده لكونه يظن أن ذلك خير، ولكن يتبين أن الأمر بخلافه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر.

فإن قال قائل: كيف يقول: "اللهم غفر لي"، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فيمكن أن يجاب: بأن هذا قبل أن تنزل الآية، وهذا فيه شيء من الضعف؛ لأنه لا يمكن أن نجزم بذلك إلا بعد العلم بالتاريخ، وأبو موسي الأشعري من وفود الأشعريين المتأخرين، ولكن يقال: جواب أحسن من ذلك، وهو أن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالمغفرة من جملة أسباب مغفرة الله عز وجل، فيكون الله تعالى وعده بأن يغفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر لأسباب، ومنها: أن يستغفر الله عز وجل كما أن الله قال: {إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبي}، ثم قال: {يا أيها الذين آمنوا صلُّوا عليه} [الأحزاب: 56]. قد يقول قائل: ما الفائدة من صلاتنا عليه وقد أخبرنا الله بأنه يصلي عليه؟ نقول: من أسباب صلاتنا عليه: أن ندعو له بذلك، وعلى هذا فلا منافاة. وقوله: "خطيئتي وجهلي" أي: ما فعلت عن جهل؛ لأن الرسول لا يعلم الغيب، وقد يفعل الشيء يظنه صوابًا فيكون خطأ، إلا أنه يفرق بينه وبين غيره بأنه لا يقر على الخطأ. "وإسرافي في أمري"، الإسراف: مجاوزة الحد، والأمر هنا بمعنى الشأن؛ أي: إسرافي في كل شئوني، وهذا من كمال صفاته صلى الله عليه وسلم أنه يكره الإسراف ويسأل الله تعالى أن يغفر له ما أسرف، والإسراف كما سمعتم: مجاوزة الحد، والإنسان بشر قد يتجاوز الحد بمأكله أو مشربه أو ملبسه أو مسكنه أو مقاله أو فعاله، الإنسان معرض لهذا. "وما أنت أعلم به مني"، كيف يمكن أن نقول: إن الله أعلم بك منك في أفعالك؟ نقول: نعم، الله أعلم؛ لأن علمه بما فعلت ثابت لا يتطرق إليه نسيان، وعلمي أنا بما فعلت أنسى، وإلا فمن المعلوم أن ما لم أفعله لا أؤاخذ به، لكن ما فعلته فقد أنساه، وحينئذٍ أكل علمه إلى الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أنت أعلم به مني" ليس المراد الذنب في المستقبل؛ لأن الذنب ف المستقبل لا مؤاخذة فيه، المراد: الذنب الماضي الذي قد يكون الإنسان نسيه، فيسأل الله أن يغفر ما هو أعلم به منه. "اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي"، هذا الذكر سيكون فيه إشكال أولاً: جدّي الجد ضد الهزل، وهو ما قصده الإنسان بلفظه أو بفعله؛ لأن الإنسان قد يلفظ لفظًا يكون مازحًا هازلاً، وقد يفعل فعلاً يكون هازلاً مازحًا، وقد يكون جادًا في ذلك، فالمراد بالجد هنا: ضد الهزل، بدليل أنه عطف عليه قوله: "وهزلي". فإن قال قائل: وهل الهزل يؤاخذ به الإنسان؟ نعم يؤاخذ، أحيانًا يكون الهزل من كبائر الذنوب، وأحيانًا يكون الهزل مما يخرج الإنسان

من الإيمان، لو هزل بشيء من آيات الله أو بشيء من أحكام الله أو بشيء من صفات الله أو بالله عز وجل ماذا يكون؟ يكون كافرًا. يقول: "اللهم اغفر لي جدي وهزلي ... الخ"، الجد ضد الهزل، يعني: ما يفعله الإنسان حقيقة، والهزل ما يفعله هزلاً ومزحًا وما أشبه ذلك، والإنسان تارة يكون قوله هزلاً وتارة يكون قوله جدًا، وتارة يكون فعله هزلاً وتارة يكون فعله جدًا لو أنك أشرت بشيء بعصا تريد أن تضرب بها شخصًا تمزح معه صار هذا هذلاً، ولو أنك ضربته صار جدًا، والإنسان يفعل هذا مرة وهذا مرة، وقد يزلّ في هذا وهذا، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يغفر له الجد والهزل. "وخطئي وعمدي"، الخطأ: يعني ما أخطأ فيه الإنسان، وهو كقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 268]. فإن قال قائل: كيف يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يغفر خطأه مع أن الله تعالى قال: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال الله: قد فعلت، فما الجواب؟ قلنا: الجواب من وجهين: أولاً: قد يكون هذا الدعاء قبل نزول الآية؛ لأن الآية فيما تعلمون مدنية، وقد يكون هذا من أجل أن الإنسان قد يفعل الخطأ مع تقصير في معرفة الصواب، وهذا يقع كثيرًا؛ بمعنى: أن الإنسان يتهاون ولا يحتاط ولا يبحث بعمق عن معرفة الخطأ من الصواب، فيكون بذلك قاصدًا، "عمدي" ما فعلته عن عمد، وهنا نقول: كيف نقول "عمدي" يعني ما فعلته عن عمد مع أنا فسرنا "أغفر لي خطيئتي وجهلي" بأن الخطيئة: ما فعلته عن عمد؟ الجمع إما أن يقال: إن باب الدعاء لا بأس أن تكرر فيه الكلمات بمعنى واحد، وإما أن يقال: الخطأ الأول هو ترك الواجب، وفي الثاني فعل المحرم، الذي يخطئ فيه الإنسان كثيرًا. "وكل ذلك عندي" هذا إقرار واعتراف من العبد بأن كل هذه الأشياء التي سأل الله أن يغفرها له كلها عنده، والإقرار بالذنب بالنسبة لله عز وجل هو دعاء؛ يعني: أنت إذا أقررت عند الله عز وجل فإنك إذا أقررت بذنبك فكأنك تتوب كقوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي علمه أبا بكر رضي الله عنه قال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا"، هذا اعتراف بالذنب، وحقيقته: أنك تدعو الله عز وجل أن يعفو عنك ما ظلمت به نفسك. "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني" "ما قدمت" أي: مما يحتاج إلى مغفرة من تفريط في واجب أو فعل محرم، وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بذلك على سبيل التذلل لله عز وجل، وإلا فإنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على محرم، "وما أخرت" أي: ما

يأتي آخرًا؛ أي: بعد قولي هذا؛ لأن قول الإنسان محفوف بزمنين: زمن سابق، وزمن لاحق، فما فعله في الزمن السابق فهو ما قدم، وما يفعله في الزمن اللاحق فهو ما أخر، "وما أسررت وما أعلنت" أيضًا ما يفعله الإنسان إما أن يفعله سرًا، وإما أن يفعله علنًا، ولاشك أن ما يفعله جهرًا أشد عند الله تعالى مما يفعله سرًا، وهذا باعتبار الذنوب والمعاصي، فإن من أسر بالذنب ليس كمن أعلنه، الثاني أشد وأقبح، "وما أنت أعلم به مني" هذه مع الأول مكررة، لكن كما قلنا: الدعاء لا بأس فيه من التكرار، "وما أنت أعلم به مني" أي: مما فعلت. "أنت المقدم وأنت المؤخر"، أنت المقدم للأشياء وأنت المؤخر للأشياء، كم من شيء يتوقع الإنسان أن يقع ثم يتأخر، وكم من شيء لا يتوقعه الإنسان ثم يأتي، فالمقدم هو الله، يقدم ما شاء، مثلاً: يقدم فوز إنسان ويؤخر فوز إنسان، يقدم حياة إنسان ويؤخر حياة إنسان، يقدم موت إنسان ويؤخر موت إنسان، فالأمر كله بيده عز وجل "وأنت على كل شيء قدير"، وضد القدرة العجز وهو قوي على كل شيء وضد القوة الضعف وبينا شواهد ذلك من القرآن. في هذا الحديث فوائد: أولاً: فضيلة الدعاء بهذا لوجهين: الأول: ما يحصل به من فائدة للإنسان، والثاني: التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يقع منه الخطأ؛ ولهذا طلب المغفرة. فإن قال قائل: لعل النبي صلى الله عليه وسلم قصد بذلك التعليم، وأنه لم يقع منه الخطأ. فالجواب: هذا خلاف الظاهر؛ لأنه لو قصد التعليم لقال: استغفروا الله تعالى من الخطايا، أو قولوا: اللهم اغفر لي خطيئتي، ويرد على هذا أيضًا بأن الله تعالى صرح بأن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنبه وللمؤمنين، فقال: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19]. إذن لو قال قائل: إذا قررت هذا فما الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره من البشر؟ فالجواب: الفرق من عدة أمور، أولاً: النبي لا يمكن أن يقع منه الشين إطلاقًا، ثانيًا: لا يمكن أن يقع منه التكذيب، ثالثًا: لا يمكن أن يقع منه ما يخل بالشرف والأخلاق الفاضلة، رابعًا: أنه لا يقع منه شيء من الكبائر إلا عن اجتهاد، ثم يمنّ الله عليه بالتوبة، خامسًا: أنه لو قدر أنه حصل منه صغيرة من الصغائر فإنه لا يقرّ عليه لابد أن ينبَّه لها وأن يقلع عنها، أما غيره فكل هذا يمكن في حقه وكفى بذلك شرفًا- عليهم الصلاة والسلام- أن يكونوا منزهين عن مثل هذه الأمور. ومن فوائد الحديث: أن الإسراف عرضة للعقوبة لقوله: "وإسرافي في أمري"، ويدل لذلك

أن الله تعالى قال: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31]. فأمر بحفظ النفس والإبقاء عليها، ونهى عن الإسراف، والإسراف- كما شرحناه- هو مجاوزة الحد. ومن فوائد الحديث: إثبات أن الله تعالى أعلم بالإنسان من نفسه لقوله: "وما أنت أعلم به مني"، والإنسان إذا علم بذلك فسوف يستحي من الله تعالى أن يجده في محل نهاه عنه أو يفقده في محل أمره به، مادامت تعلم أن الله يعرف حالك السرية والجهرية، فإنك لابد أن تستحي من الله عز وجل. ومن فوائد الحديث: إثبات صيغة أفضل في علم الله لقوله: "أعلم"، وهذا واقع كثيرًا في القرآن، قال الله تعالى: {إن ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [القلم: 7]. والعجب الذي لا ينقضي أن بعض العلماء- عفا الله عنا وعنهم- قالوا: أعلم بمعنى عالم؛ لأن اسم التفضيل يستلزم المشاركة أو الاشتراك بين المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى، وإذا أثبت ذلك صار هذا نوعًا من الشرك، ولهذا يفسرون "أعلم" في القرآن بعالم وهذا من الخطأ المحض من جهتين: الجهة الأولى: أن هذا إبطال لما دل عليه القرآن، والقرآن نزل باللغة العربية، واللغة العربية تفرق بين أعلم وعالم، ثانيًا: أنك إذا جاءت آية بمعنى عالم فقد أثبت العلم لله ولغيره على حد سواء؛ لأن الله عالم، ونحن أيضًا عالمون، قال الله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للنَّاس وما يعقلها إلاَّ العالمون} [العنكبوت: 43]. لكن إذا قلت: الله أعلم، حينئذ نميز الخالق من المخلوق وهذا هو الأكمل، قال الله تعالى: {ولله المثل الأعلى} [النحل: 60]. ولهذا نقول: الله أعلم وأقدر وأبصر وأقوى ... الخ، الصفات التي يشترك في أصلها الخالق والمخلوق فله منها أكملها وأعلاها، هذه قاعدة معروفة عند الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان قد يؤاخذ على هزله كما يؤاخذ على جده لقوله: "اللهم اغفر لي جدي وهزلي"، وحينئذٍ يجب على الإنسان أن يحترز ويحترس من المزح، ولاسيما المزح الكثير، فإن المزح الكثير يوقع دائمًا في الخطأ، ولهذا يقال: المزح في الكلام كالملح في الطعام إن خلا منه الطعام فقد جزءًا كبيرًا من الطعم اللذيذ، وإن كثر أيضًا فسد، ولهذا اجعل المزح موزونًا في محله لا تمزح في موضع الجد، ولا تجد في موضع المزح، والإنسان الحكيم العاقل ينزل كل حال منزلتها. ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يغفر له ما قدم وما أخر، وهنا يوجد إشكال، كيف يسأل الرسول أن يغفر ما قدم له وما أخر، وقد قال الله له: {ليغفر لك الله ما تقدَّم من

ذنبك وما تأخر} [الفتح: 2]. والصحابة يقولون له: إن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويقرهم على ذلك؟ الجواب أن يقال: إن هذا الدعاء من باب التوكيد, وقد يكون من أسباب أن الله غفر له مات قدم من ذنبه وما تأخر هو الدعاء, ولهذا أخبرنا الله عز وجل أنه يصلي هو وملائكته على النبي, وقال لنا: {صلوا عليه} , يعني اسألوا الله أن يصلي عليه, فكيف يصح؟ نقول: نعم, هو يصلي عليه عز وجل, لكن لعل من أسباب الصلاة عليه أيضًا أن ندعوا له, وهذا كثير أن تكون الأسباب للشيء الواحدة متعددة. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان قد يسر, وقد يعلن في الذنوب, أما المعلن- والعياذ بالله- فهذا أسوة سيئة, ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة, فهو آثم من جهتين: من جهة أنه فعل معصية, ومن جهة أنه جهر بها, وحينئذٍ يتأسى الناس به من جهة وتهون المعصية في نفوس الناس؛ لأن الشيء إذا انتشر هان عند الناس؛ ولهذا يقول العامة كلاماً مضبوطاً يقولون: بكثرة الإمساك يقل الإحداث, وهذا مشاهد الإنسان إذا سمع المنكر أول ما يسمعه تجده يستنكر منك ويشوش به, لكن إذا فعل مرة بعد أخرى هان, فالمجاهرة بالمعاصي هو قد أساء إلى نفسه أولاً وأساء إلى غيره ثانياً, وأساء إلى الشريعة ثالثاً, أما من أسر فهو أهون يكون الأمر بينه وبين الله, وقد يتوب إلى الله, لكن من الناس من ير ثم يعلن, وهذا هو الذي فقد العافية كما جاء في الحديث: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» وهم الذين يفعلون المعاصي سراً ثم يصبحون يتحدثون بها. ومن فوائد الحديث: وصف الله تعالى بهذين الوصفين المقدم والمؤخر, وهل هما اسمان من أسماء لله أو وصفان من أوصافه؟ يحتمل هذا وهذا, يحتمل أنهما اسمان من أسماء الله؛ لأنهما جاءا معرفا باللام, يحتمل أنهما وصفان, ولكن على الاحتمال الأول يقال فيهما: هما اسمان مزدوجان مقترنان؛ بمعنى: أنه لا يصح إفراد أحدهما عن الآخر, لأنك إذا قلت: أنت المقدم فقد عرفنا أنه مقدم, لكن بقي شيء آخر وهو التأخير ضد التقديم, فلابد أن نقول وأنت المؤخر مثل هو الأول والآخر والظاهر والباطن, فلابد أن نقول: ما يقابل ذلك حتى تكون الإحاطة في الزمن السابق وفي الزمن اللاحق. ومن فوئد الحديث: إثبات اسم الله تعالى القدير, وسبق لنا البحث في هذه المسألة, وبيان أن قول بعض الناس: «إنه على ما يشاء قدير» غير سديد ولا ينبغي, وأنه يوهم معنى فاسداً وهو مذهب أهل الاعتزال, الذين يقولون: أن الله لا يشاء أفعال العباد, وإذا لم يشأها فليس قادراً إلا على ما يشاء, وحينئذٍ لا يكون قادراً على أفعال العباد فلا يقدر أن يهدي ضالاً ولا أن يضل مهتدياً.

الدعاء بخير الدارين

الدعاء بخير الدارين: 1498 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري, وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي, وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي, واجعل الحياة زيادة لي في كل خير, واجعل الموت راحة لي من كل شر». أخرجه مسلم. هذا أيضاً من الأدعية الجوامع التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بها, "اللهم أصلح لي ديني" وهو الإسلام والعبادة؛ لأن العبادة دين والإسلام دين أيضًا أما كون الإسلام ديناً فلقوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3]. وأما كون العبادة ديناً فلقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم إحداكن» , قالوا: وما نقصان دينها؟ قال: «إنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم» , والصلاة والصيام عبادة إذن "ديني" يشمل الإسلام والعبادات الأخرى, ومعلوم أن العبادات بمجموعها هي الإسلام. ومعنى: "عصمة أمري" أي: أن أعتصم به من النار, فإنه لا ينجي الإنسان من عذاب الله إلا التمسك بدين الله عز وجل, ثم هو أيضًا عصمة الإنسان من الزلل, فإن الإنسان كلما كان أتقى لله وأقوى ديناً لله كان أقل زللاً, ولهذا نجد أنه كلما كان وازع الدين للناس أقوى قلت فيهم المعاصي, وقل فيهم الفساد, وإذا نقص الوازع الديني كثر الفساد وكثر الظلم, إذن "عصمة أمري" أي: الذي أعتصم به من النار؛ وأعتصم به من الزلل في الحياة الدنيا. "وأصلح ل دنياي التي فيها معاشي", الدنيا حقيقة معاش وليست مقراً, وإنما هي متاع يتمتع به الإنسان ويعيش به من أجل أن يقوم بطاعة الله, والله ما متعنا بالدنيا من أجل أن نبني القصور, ونكنز المال, ولكن لعبادة الله فهي معاش فقط, عيش يتمتع به الإنسان, ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «وحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه» , فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» «وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي» , إليها المعاد أي: المرجع إصلاح الدنيا, بأن يمن الله عليك بكفاية تغنيك عن الناس, وغني لا يطغيك على أوامر الله, وأن يسهل لك فيها الأمر, وأن يرزقك ما يعينك على طاعة الله, وإصلاح الآخرة بشيئين: النجاة من النار, ودخول الجنة, فإن الإنسان إذا حصل له هذان الأمران فهذا إصلاح الآخرة, وقوله: "التي فيها معادي" يعني:

المعاد النهائي الذي هو المأوى الأخير, وأما القبور فليس إليها المعاد, القبور عبارة عن زيارة يقوم بها الإنسان حتى يُبعث. "واجعل الحياة زيادة لي في كل خير", لم يقل الرسول: أطل عمري: بل قال: "اجعل الحياة زيادة لي في كل خير", وهذه الحياة حقيقية أن يكتب الإنسان فيها خيراً, أما طول العمر فلا خير فهو إما لغو وإما إثم, ولهذا كره بعض أهل العلم الدعاء بطول البقاء, فمنهم من قال: إن هذا شيء فرغ منه فلا تدع بطول البقاء, لكن هذا التعليل عليل؛ لأن كل شيء فرغ منه حتى الرزق, لو قلنا: إن الشيء إذا فرغ منه فلا يدعي به لقلنا أيضًا لا تدع الله تعالى بعلم نافع, لأن هذا أيضًا فرغ منه! الملك الموكل بالأرحام يؤمر بكتب الرزق والأجل والعمل وشقي أو سعيد, لكن وجه الكراهة: هو أن طول البقاء قد يكون شراً «شر الناس من طال عمره وساء عمله» , ولهذا دعوت بالبقاء لأحد فقيده قل: أطال الله بقاءك على طاعة, ولهذا الرسول قال: «اجعل الحياة زيادة لي في كل خير» , ولا شك أن المؤمن كلما ازدادت أيامه في طاعة الله فإنه خير له, كم من إنسان بقي أياماً بعد غيره واكتسب بها درجات كبيرة فاق من سبقه. «واجعل الموت راحة لي من كل شر» يعني: إذا أمتني فاجعل في موتي مصلحة وهي الراحة من كل شر, ومن ذلك الفتن والشبهات التي تعتري القلوب, التي تعتري الإرادات وفي الحديث: «إن أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون». في هذا الحديث فوائد: منها: ما سبق أنه ينبغي للإنسان أن يدعو بهذا الدعاء السببين: الأول: ما فيه من الفائدة العظيمة العائدة للإنسان, والثاني: التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن فوائد الحديث: أن الدين أهم شيء على الإنسان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ به, ولهذا إذا أردت أن تدعو الله لشخص بصلاحه قل: أصلح الله لك الدين والدنيا, فابدأ بالدين؛ لأنه إذا صلح الدين صلحت الدنيا, دليل ذلك قوله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. فذكر الله له الجزاءين, جزاء في الدنيا وجزاء في الآخرة, وذكر العلماء عن السلف -رحمهم الله- أنهم يقولون: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه -يعني: من راحة البال وطمأنينة القلب وانشراح الصدر- لجالدونا عليه بالسيوف. ومن فوائد الحديث: أن الدين عصمة للإنسان يمنعه من الأعمال السيئة والأخلاق الرزيلة, وهو عصمة له في الآخرة يحصل به أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة.

ومن فوائد الحديث: أنه لا حرج على الإنسان أن يسأل الله تعالى إصلاح معاشه؛ لقوله: «أصلح لي دنياي التي فيها معاشي» , وكل إنسان يريد أن تصلح له الدنيا؛ لأنها لو فسدت لكان ذلك سبباً في فساد دينه؛ لأن الإنسان إذا اشتغل بتحصيل معاشه فربما يصده عن أشيا كثيرة من الدين, وإن كان تحصيل المعاش من الدين كما جاء في الحديث, «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في السبيل» أو قال: «كالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر». ومن فوائد الحديث: سؤال الإنسان ربه أن يصلح آخرته. ومن فوائده: أن الآخرة هي التي إليها المعاش, وبهذا نبين خطأ العبارات التي نسمعها كثيراً في الرجل إذا مات يقولون: عاد إلى مثواه الأخير, هذا غلط عظيم, ولو أن الإنسان اعتقد مقتضاه لكان كافراً؛ لأن مضمون قوله: "مثواه الأخير" أنه لا بعث, وإنكار البعث كفر. ومن فوائد الحديث: أن الإنسان ينبغي له أن يسأل الله أن يكون طول حياته زيادة له في الخيرات لقوله: «اجعل الحياة زيادة» يعني: طول الحياة زيادة لي في كل خير. ومن فوائده: أن الإنسان ربما يكون موته راحة له من شرور وفتن مقبلة, ولهذا يقول: «اجعل الموت راحة لي من كل شر». فإن قال قائل: هل في هذا تمني الموت؟ الجواب: لا؛ لأنه لم يقل: أمتني, وإنما قال: «اجعل الموت راحة لي من كل شر» , وكذلك الحديث الذي أشرنا: «إن أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون» , وكذلك: «توفني إذا علمت الوفاة خيراً لي» كل هذا مقيد. فإن قال قائل: يرد على قولك أنه لا يتمنى الموت إلا مقيداً قول مريم رضي الله عنها: {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً} [مريم: 23]. نقول: إن مريم لم تتمن الموت سبقاً, وإنما تمنت أنها ماتت ولم تحصل هذه الفتنة؛ لأن هذا الذي حصل لها أمر عظيم, ولهذا لما جاءت إلى قومها بابنها تحمله قالوا: {لقد جئت شيئاً فرياً (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كنت أمك بغياً} [مريم 27 - 28]. إشارة إلى أنها هي بغي, والقصة مكملة في القرآن.

ينبغي للمؤمن أن يسأل العلم النافع

ينبغي للمؤمن أن يسأل العلم النافع: 1499 - وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم انفعني بم علمتني وعلمني بما ينفعني, وارزقني علماً ينفعني». رواه النسائي والحاكم. 1500 - وللترمذي: من حديث أبي هريرة نحوه, وقال في آخره: «وزدني علماً, والحمد لله على كل حال, وأعوذ بالله من حال أهل النار». وإسناده حسن. هذا الحديث في سؤال العلم, والمراد به: العلم النافع, ولهذا قال: «اللهم انفعني بما علمتني وارزقني علماً ينفعني» , فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث مسائل: الأولى: "انفعني بما علمتني" وذلك أن الإنسان قد يعلم ولا ينتفع, فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن ينفعه بما علمه, أيضًا: "علمني ما ينفعني" وهذا سؤال للاستزادة من العلم, لكن الذي ينفع قال: "وارزقني علماً ينفعني" هذا المستقبل؛ لأن الماضي سبق سؤاله: "اللهم انفعني بما علمتني", والحاضر: "علمني ما ينفعني", والمستقبل: "ارزقني علماً ينفعني". وخلاصة هذا الدعاء: أن الإنسان محتاج إلى العلم, ومحتاج إلى الانتفاع بالعلم, فإن لم يعلم فهو جاهل, وإن لم ينتفع فهو مستكبر, فهو فضيلة الدعاء بهذا. وأما رواية الترمذي ففيها أيضًا زيادة قال: «وزدني علماً» يعني: علماً فوق علمي؛ لأن كل إنسان محتاج إلى زيادة العلم: {وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف: 76]. فإن قال قائل: هل يوصف الرسول بالجهل؟ نقول: قال الله تعالى -وهو أعلم به-: {ووجدك ضالاً فهدى} [الضحى: 7]. وقال: {وعلمك ما لم تكن تعلم}. وقال: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52]. وهذا من أعظم فضل الله عليه, أنه كان عليه الصلاة والسلام أمياً لا يقرأ ولا يكتب, وليس عنده شيء من علم الكتاب: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: 48]. لكن الله علمه علماً ينتفع به الأمم إلى يوم القيامة: {هو الذي بعث في الأمين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا} يعني: وإنهم كانوا من قبل {من قبل لفي ضلالٍ مبين} [الجمعة: 2]. الحمد لله على كل حال وهذه كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها إذا وجد ما يسوؤه.

من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

وإذا وجد ما يسره قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, وما يوجد الآن من عبارة بعض الناس "الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سوا" هذه عبارة مبتدعة وخير منها عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من حال أهل النار» أي: حالهم في الدنيا والآخرة, حالهم في الدنيا: الضلال والغي والفساد, حالهم في الآخرة: النار والعذاب: فأنت تستعيذ بالله من حال أهل النار في الدنيا والآخرة. من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: 1501 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها هذا الدعاء: «اللهم إني أسألك من الخير كله, عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم, وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم, اللهم أني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك, وأعو بك من شر ما عاذ منه عبدك ونبيك, اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ أو عمل, وأعوذ بك من النار وما قرب منها من قول أو عمل, وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً». أخرجه ابن ماجه, وصححه ابن حبان, والحاكم. عائشة أحب النساء إليه اللاتي مات عنهن؛ ولذلك سئل من أحب الناس إليك؟ قال: "عائشة" قيل: ومن الرجال؟ قال: "أبوها", فعائشة من النساء اللاتي شاركن مع غيرهن في الرسول صلى الله عليه وسلم, أما خديجة فلم يشاركها أحد في الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا لا تجزم أيهما أحب أعائشة أم خديجة؟ لكن بقية النساء لاشك أن عائشة أحب النساء إليه, علمها هذا الدعاء: "يعني إنما قدمت هذه المقدمة ليتبين لكم أهمية هذا الدعاء, فعلمها هذا الدعاء, وعلم أباها دعاء آخر يدعو به في صلاته وهو: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت ... إلخ" قال: «علمها هذا الدعاء: اللهم إني أسألك من الخير له عاجله» أي: مقدمه وآجله مؤخره ما علمت منه وما لم أعلم؛ لأن الخير قد يكون معلوماً وقد يكون مجهولاً, "اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك, وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك" وهذا مجمل, لكنه عند الله عز وجل معلوم, أسألك من ير ما سألك عبدك ونبيك, هل تعلم هي كلما سأله الرسول من خير؟

لا, ولكن الله يعلمه, وكذلك يقال في الشر ونحن أسقطنا جملة وهي "وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم" مقابل قوله: «اللهم إني أسألك من الخير كله» وكذلك قوله: "اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك, واللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل", أيضًا علمها أن تسأل الله الجنة وما قرب إليها, كل ما قرب من قول أو عمل, واعلم أن العمل إذا أطلق دخل فيه القول وإذا قرن بالقول صار المراد به الفعل. في هذا الحديث فوائد: أولاً حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأهله, حيث علم عائشة هذا الدعاء الجامع النافع, وقد قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي». ومنها: ينبغي للإنسان أن يعلم أهله ما ينفعهم في دينهم ودنياهم أولاً: ليكونوا على بصيرة في دينهم, وثانياً: ليجري أجره عليه بعد موته, وثالثاً: من أحق الناس بمنفعتك؟ أقاربك, قال الله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يدعو الله بهذا الدعاء للسببين السابقين: أولاً: ما فيه من المصلحة العظيمة, وثانياً: التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم, وهنا ليس من فعل الرسول لكنه من قوله. ومن فوائد الحديث: أنك تقول: أسألك الخير كله أو تقول: من الخير؛ لأن "من" هنا للتبعيض والخير كله لا يكون لأحد, الخير كله إنما هو بيد الله عز وجل, فلا يمكن أن يحصل للإنسان كل خير بل يحصل له من الخير. ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي البسط في الدعاء؛ لأن قوله: من الخير كله يغني عن قوله: عاجله وآجله, لكن البسط في الدعاء من الأمور التي جاءت بها الشريعة ما لم يخرج عن حده إلى الأسراف, ولهذا لو دعا دعاء مفصلاً خرج عن حده صار مكروهاً. ومن فوائد الحديث: أنه لا بأس أن يسأل الإنسان ربه سؤالاً مجملاً لقوله: "ما علمت منه وما لم أعلم", وقد يريد الإنسان خيراً معيناً يسأل الله إياه, وهذا أيضًا جائز, وقد يريد الإنسان شيئاً نافعاً لكن يتردد في منفعته هل يكون خيراً له أو لا؟ فهذا يؤمر بصلاة الاستخارة. ومن فوائد الحديث: الاستعاذة بالله تعالى من الشر كله عاجله وآجله, وهنا نقول: من الشر ليس للتبعيض, ولكنها للتعدية أي تعدية العامل؛ ولهذا نقول: إن الإنسان يستعيذ من الشر كله قليله وكثيرة, ففرق بينها وبين السؤال, أسألك من الخير, من هنا للتبعيض, أعوذ بك من الشر, قلنا هذه للتعدية أي تعدية الفعل ويقال في عاجله وآجله ما سبق.

ومن فوائده: أنه في قوله: "اللهم إني أسألك من خير ما سألك ... إلخ", أيضًا فيه جواز الدعاء بالإجمال, ولكن يقيد بمن يعرف بالصلاح لو قلت: اللهم إني أسألك من خير ما سألك فلان وأنت تعرف أن الرجل هذا يسأل الله الصلاح فالظاهر أنه لا بأس به, لكن نقول: إن خيراً من ذلك أن تقول: ما سأل نبيك. ومن فوائد الحديث: إثبات النبوة والعبودية للرسول صلى الله عليه وسلم ففيه إثبات نبوته رداً على من كذبه, وفيه إثبات عبوديته رداً على من غلا فيه صلى الله عليه وسلم, ويقال أيضًا في أعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدك ونبيك. ومن فوائد الحديث: سؤال الجنة وكل ما يقرب إليها من قول وعمل, ومن قول: يشمل قول اللسان, وقول القلب والعمل: يشمل عمل الجوارح وعمل القلب, فما هو قول القلب وما هو عمل القلب؟ قول القلب هو إيمانه واعترافه بالشيء, وعمله هو حركته محبة, يعني: أن يحب الشيء بغضاً يبغض الشيء, رجاء يرجو الشيء, خوفاً يعني: أن يخاف الشيء, خشية وما أشبه ذلك, المهم أن عمل القلب حركة القلب, أما قوله فهو إقراره وإيمانه أما عمل الجوارح فواضح, وقول اللسان واضح أيضًا. ومن فوائد الحديث: الاستعاذة بالله من النار وما قرب إليها من قول وعمل؛ لأن النار لها قوال تقرب إليها وأعمال تقرب إليها أما بقية الحديث وقال: "وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً" هذه كلمة جامعة, والله تعالى يقضي على العبد بما يضره وبما ينفعه بما يلائمه وبما لا يلائمه, فأنت تسأل الله أن يجعل قضاء قضاه خيراً لك أما قضاء ما يسر وما ينفع فظاهر أنه خير, ولكن ما يضر وما يسوء كيف يكون خيراً؟ إذا أصابك الله بضر وصبرت واحتسبت الأجر من الله ماذا يكون هذا الضرر؟ يكون خيراً؛ لأن ثواب الآخرة خير من الدنيا, كذلك أيضًا إذا جاء الأمر على خلاف ما تريد فهذا أيضًا قد يكون خيراً لك, قد يصرف الله عنك من السوء ما لا تعلمه وأنت تكره أن يقع, ولهذا جاء في القرآن الكريم: {كنت الله عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنت لا تعلمون} [البقرة: 216]. إذن يكون معنى: وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً سواء كان هذا القضاء مما يسر أو يسوء أو يضر أو ينفع.

1502 - وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن, خفيفتان على اللسان, ثقيلتان في الميزان, سبحان الله وبحمده, سبحان الله العظيم». قلنا فيما سبق الكلمة في اللغة العربية وفي لسان الشرع غير الكلمة في اصطلاح النحويين, تشمل الجملة والجمل, والكلمة الطويلة والكلمة القصيرة, وتشمل أيضًا الشعر والنثر, قال: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن" إلى الله عز وجل يعني: أن الله يحبهما, "خفيفتان على اللسان" هذا مقابل قوله: "ثقيلتان في الميزان" خفيفتان؛ لأنهما لا يتعبان, لو بقي إنسان يقولهما ليله ونهاره ولا يتعب لسانه, "ثقيلتان في الميزان" أي: ما توزن به الأعمال يوم القيامة, "سبحان الله وبحمده" هذه كلمة, "سبحان الله العظيم" هذه الكلمة الثانية, وسبق قول القائل: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم, وأنه تنزيه لله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته, هذا الحديث ختم به المؤلف كتابه رحمه الله تأسياً بالبخاري [الذي] ختم به كتابه الصحيح مع أنه ذكره في مواضع أخرى لكنه أختار رحمه الله أن يجعل هذا الحديث آخر كتابه, نسأله الله أن يحب الجميع. في هذا الحديث فوائد: أولاً: إثبات المحبة لله عز وجل أن الله يحب الأعمال لقوله: "حبيبتان إلى الرحمن" والله عز وجل تتعلق محبته تارة بالعمل مثل هذا الحديث, ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها» , «أحب الصيام إلى الله صيام داود» , والأمثلة كثيرة, وتارة تتعلق محبة الله تعالى بالعمل, لقوله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا} [الصف: 40]. {إن الله يحب المتقين} [التوبة: 7]. والأمثلة كثيرة, وتارة تعلق بالمكان مثل "أحب البقاع إلى الله مساجدها ومكة أحب البقاع إلى الله". أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله تعالى يحب محبة حقيقية ثابتة, وغيرهم يحرف المحبة ويقول المحبة عبارة عن الثواب, ولكن هذا وإن سلم لهم في قوله: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا} لا يسلم في قوله: «أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها» , لأن الصلاة نفسها لا تثاب بل يثاب فاعلها, وكذلك «أحب البقاع إلى الله مساجدها» فالمساجد لا تثاب إنما يثاب من صلى فيها.

ومن فوائد الحديث: إثبات اسم الرحمن لله عز وجل لقوله: «إلى الرحمن, ورحمة الله تعالى عامة وخاصة, فالعامة هي التي وسعت كل شيء كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156]. والخاصة هي التي للمؤمنين فقط, الرحمة العامة دليلها أيضًا {وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب} , والخاصة كقوله: {وكان بالمؤمنين رحيماً} [الأحزاب: 43]. وعلى هذا لو سألك سائل هل الله تعالى راحم الكافرين؟ الجواب: أن الرحمة العامة نعم, والخاصة لا. ومن فوائد الحديث: الترغيب في العمل, يعني: تقليل العمل في نفس الإنسان حتى ينشط عليه, لقوله: "خفيفتان على اللسان", ومن ذلك قول الله تعالى لما ذكر الصيام قال: {أياماً معدودات} [البقرة: 184]. يعني: ليس كل الوقت بل أياماً قليلة وعلى هذا فينبغي للإنسان عندما يخاطب الناس في موعظة أن يقلل لهم الكلفة في الأعمال الصالحة, حتى يقدموا عليها ولذلك في عدة المتوفى عنها زوجها قال النبي صلى الله عليه وسلم: حين سألته امرأة أن ابنتها توفي عنها زوجها وانها اشتكت عينها أفتكحلها؟ قال: لا, "لا تكحلها" ثم قال: «إنما هي أربعة أشهر وعشراً, وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول» يعني في الجاهلية. يشير إلى قصة غريبة في الجاهلية إذا مات الزوج عن المرأة صارت في خفي في أقصى خبائها ليس عندها أحد ولا يعطونها ماء ولا شيئاً [سوى] الأكل والشرب فقط, كل الروائح الكريهة عندها, روائح حيض, روائح البول, العذرة, كل شيء إلى سنة كاملة, بعد السنة الكاملة تؤثر بشيء طاهر أو ما أشبه ذلك, من أجل أن تدلك به حول الفرج, يقول فلما تفعل شيئاً من ذلك إلا هلكت من الرائحة الكريهة, ثم إذا خرجت أخذت بعرة-روثة البعير- من الأرض ثم رمت بها إثارة إلى أن كلما حصل لها أهون من هذه البعرة الجاهلية, كلها جهل. والإسلام خفف لها العدة إلى أربعة أشهر وعشرة أيام, المهم أن ذكر هذا من باب التسلية في الأمور التي يعتقد الإنسان أنها شاقة, ومن باب الترغيب في الطاعة. "ثقيلتان في الميزان" يعني ما توزن به الأعمال, وهذا فيه أن الذي يوزن هو العمل, وهذا هو ظاهر النصوص في الكتاب والسنة, وهنا يبقى إشكال, وهو كيف يوزن العمل وهو معنى قائم ببدن العامل وليس شيئاً محسوساً؟ فيقال: إن الله تعالى يجعل هذه المعاني أحياناً توزن وانظر إلى الموت هل هو جسم أو معنى؟ قولنا: "معنى" هنا معناه: فقد الحياة, يؤتي به يوم القيامة على صورة كبش ويذبح أمام أهل الجنة وأهل النار, ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت, ويقال لأهل النار يا أهل النار خلود ولا

موت, فالله تعالى على كل شيء قدير, فهو سبحانه يجعل المعاني أحيانا توزن, وقال بعض العلماء: إن الذي يوزن العامل, وقال آخرون: إن الذي يوزن صحائف الأعمال, وقد مر الكلام على هذا مبسوطاً والحمد لله. ومن فوائد الحديث: إثبات الميزان, والميزان جاء مفرداً وجاء مجموعاً قال الله تعالى: {فأما من ثقلت موازينه (6) فهو في عيشة راضية (7) وأما من خفت موازينه (8) فأمه هاوية} [القارعة: 6 - 9]. وجاء بلفظ الإفراد مثل: «ثقيلتان في الميزان» فقيل: إنه جمع لأن كل أمة لها ميزان خاص وهو مجموع باعتبار الأمم. وقيل مجموع باعتبار الإفراد لأن لكل فرد ميزاناً, وقيل إنه جمع باعتبار الموزون, فتعدد الميزان بتعدد الموزون, لأنك إذا جئت بميزان واحد وزنت به مال فلان ومال فلان ومال فلان صار كأنه موازين متعددة. والأقرب-والله أعلم- أن لكل أمة ميزاناً؛ لأن أعمال الأمم تختلف فيكون لها ميزان بحسب ما يعطيها الله تعالى من الثواب, فميزان هذه الأمة ميزان واحد وميزان الأمم الأخرى لكل أمة ميزان. ومن فوائد الحديث: فضيلة هذا الذكر: "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم", والله لو أفتى الإنسان دهره كله في هذا لكان الدهر رخيصاً؛ لأنهما ثقيلتان في الميزان, وحبيبتان إلى الرحمن, وخفيفتان على اللسان. ومن فواد الحديث: استعمال السجع في الكلام؛ لأن السجع في الكلام, ويشد المخاطب إليه ويسهل على اللسان ولكن بشرط ألا يكون متكلفاً. وبهذا انتهى كلامنا على بلوغ المرام, ونسأل الله تعالى أن يجعله نافعاً لعباده. يبقى الآن ماذا تريدون أن نقرأ بعد كتاب بلوغ المرام؟ والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ... * * * * تم بحمد الله

§1/1