فصل المقال في شرح كتاب الأمثال
أبو عبيد البكري
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق 1 - توطئة: يقول الميداني في مقدمة كتابه " مجمع الأمثال " عند الحديث عن المصادر التي جمع منها كتابه: " فطالعت من كتب الأئمة الأعلام ما امتد في تقصيه نفس الأيام مثل كتاب أبي عبيدة وأبي عبيد، والأصمعي وأبي زيد، وأبي عمرو وأبي فيد، ونظرت فيما جمعه المفضل بن محمد والمفضل بن سلمة، حتى لقد تصفحت أكثر من خمسين كتاباً..... وذكرت في كل مثل من اللغة والإعراب ما يفتح الغلق، ومن القصص والأسباب ما يوضح الغرض ويسيغ الشرق مما جمعه عبيد بن شرية وعطاء بن مصعب والشرقي بن القطامي وغيرهم " (1) . وإذا نحن تجاوزنا عما في هذا النص من ميل إلى السجع، ومن مستلزمات أخرى أوجبت بعض التقديم والتأخير، وحاولنا أن نعيد ترتيب هذه المصادر بحسب التاريخ الزمني وجدنا أن العناية بالأمثال نشأت في عهد مبكر، وكان من أول القائمين عليها؟ بين من ذكرهم الميداني؟ عبيد بن شرية الذي تحدثت المصادر عن صلته بمعاوية بن أبي سفيان؛ وقد ذكر له ابن النديم كتاباً في الأمثال (2) وذكر من بين من روى عنهم علاقة بن كرشم (كريم في الفهرست) الكلابي ونسب له أيضاً كتاباً في الأمثال في نحو خمسين ورقة؛ وقد دلت نقول البكري في غير
موضع أنه ينقل عن كتاب ابن كرشم هذا (1) ؛ كذلك أشار البكري إلى الشرقي بين القاطمي في موضعين أحدهما في تفسير المثل " وافق شنّ طبقة " حيث انفرد الشرقي بتفسير مناسبة هذا المثل (2) ، ولكن ليس هناك ما يدل دلالة قاطعة على أنه كان للشرقي كتاب مفرد في الأمثال، ولم يذكر له ابن النديم كتاباً بهذا الاسم، أما عطاء ابن مصعب فلم نجد أحداً تصدى لذكره غير الميداني، وإذا لم يكن في الاسم تصحيف أو تحريف فإنه يبدو أنه كان من تلك الطبقة المبكرة من الرواة التي اهتمت برواية ما تتصل به بعض الأمثال من أخبار وأساطير، ولولا أن ابن نديم ذكر أنه رأى كتاب ابن كرشم في الأمثال لقدرنا أن هؤلاء الثلاثة هم مصدر الأخبار الأسطورية لا غير، بل ربما ذهبنا إلى الظن بأن كتاب ابن كرشم إنما يمثل تصنيفاً متأخراً في الزمن جمعه شخص آخر أو تفرد بروايته. وبعد هؤلاء يجيء طبقة ممن استع لهم باع التأليف في هذا الموضوع وهم أبو عمرو (ولعلّ الذي يعنيه الميداني هو أبو عمرو بن العلاء) (- 154) والمفضل بن محمد الضبي (- 170) وأبو فيد وهو مؤرخ بن عمرو السدوسي (- 193) وأبو عبيدة بن المثنى (- 210) والأصمعي عبد الملك بن قريب (- 213) وأبو زيد الأنصاري (- 215) ؛ وربما كان كتاب المفضل الضبيّ صورة شاملة لجهود الرواة الذين سبقوه، وذلك لأنه اهتم على وجه الخصوص بالأمثال التي تستند إلى أساطير وقصص؛ وكان كاتب أبي عبيد القاسم بن سلام (- 224) توسيعاً لطبيعة المثل وتجديداً في تقسيم الأمثال بحسب الموضوعات، إذا قيس بما تم قبله (3) ؛ وقد كثر التأليف في الأمثال بعد أبي عبيد وخاصة في القرن الثالث، فألف في الأمثال كلّ من ابن الأعرابي (- 231) وابن السكيت (- 244) وابن حبيب (- 248)
والجاحظ (- 255) وابن قتيبة (- 276) والمفضل بن سلمة (- 290) ؟ الذي أفرده الميداني بالذكر دون الآخرين؟ وكتابه مطبوع باسم فاخر؛ وثعلب (- 291) . 2 - هجرة كتب الأمثال إلى الأندلس: نحن مدينون لأبي بكر ابن خير الاشبيلي بمعرفة عددٍ من كتب الأمثال المشرقية التي دخلت إلى الأندلس واشتغل بها طلاب العلم، وقد كانت هذه الكتب نوعين: نوع من الأمثال الواردة في القرآن والحديث؟ وليس من الضروري التصدي لذكرها هنا؟ ونوع في الأمثال عامة، وأهم ما وصل إلى الأندلس منها: 1 - أمثال المفضل بن محمد الضبي: وفي سند روايته نفطوية عن ثعلب عن الأحوال عن ابن الأعرابي عن الفضل (1) . 2 - أمثال أبي زيد الأنصاري: وهو برواية أبي علي القالي عن أستاذه ابن دريد عن أبي محمد التوزي عن أبي زيد الأنصاري (2) . 3 - أمثال الأصمعي: وهو أيضاً برواية القالي عن ابن دريد عن أبي حاتم السجستاني عن الأصمعي (3) . 4 - أمثال أبي عبيدة معمر بن المثنى: وفي سنده أبو عبد الله اليزيدي عن أبي العباس ابن دينار عن سعدان بن المبارك عن أبي عبيدة؛ وقد دلنا ابن خير أن هذا الكتاب كان يسمى " المجلة في الأمثال " (4) . 5 - كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام (5) .
هذا هو ما عده ابن خير، ولكن إشارات البكري في " فصل المقال " تدل على أنه طلع على كتب أخرى في الأمثال مما ألف قبل كتاب ابن سلام وبعده، إلا أنه ليس من السهل أن نقطع بأن البكري ينقل عن تلك الكتب، حين نجده يشير مثلاً إلى ابن السكيت والمفضل بن سلمة وغيرهما. 3 - كتاب أبي عبيد ابن سلام في الأندلس: جاء في مخطوطة فيض الله (رقم: 1578) ؟ وهي التي رمزنا لها بالحرف (ف) " قال عليّ بن عبد العزيز كاتب أبي عبيد القاسم بن سلام: كتبت هذا الكتاب من نسخة أبي عبيد رحمه الله بخط يده، وعارضت بها حرفاً حرفاً، ثم قرأناه على أبي محمد بن عاصم النحوي (- 270) صاحب الفراء، فزادنا فيه أشياء ألحقتها في حواشي الكتاب؛ ثم قرأته على الزبير بن بكار (- 256) وهو قاضي أهل مكة فكتبت أيضاً ما زادنا فيه ونسبت ذلك إليه "؛ وبعد نصف قرن وقعت هذه النسخة في يد أبي بكر ابن الأنباري (- 327) فأضاف إليها تعليقات أخرى بخطه؛ هذه النسخة القيمة وصلت إلى الأندلس، وهناك مواضع عديدة في كتاب البكري تدل على أنه اطلع عليها وأفاد منها تعقبه لأبي عبيد ابن سلام (1) ؛ وقد أشرنا إلى ذلك في عدد من المواضع في الحواشي. ويقول البكري في أول شرحه: " حدثنا أبو مروان ابن حيان قال: أخبرنا أبو عمر أحمد بن أبي الحباب، قال: أنبأنا أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي قال: أنبأنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال: أنبأنا علي بن عبد العزيز وثابت ابن أبي ثابت قالا: أنبأنا أبو عبيد القاسم ابن سلام. فلأبي عبيد القاسم بن سلام في نقل كتاب الأمثال تلميذان أهمهما علي بن عبد العزيز؛ وعن الاثنين معاً أخذ إبراهيم بن محمد بن عرفة الشهير بنفطويه
(- 323) (1) وعن نفطويه أخذ الكتاب شيخ لغوية الأندلس أبو علي القالي (- 356) (2) وعن القالي أخذه تلميذه ابن أبي الحباب القرطبي (- 400) (3) وتلقاه عنه مؤرخ الأندلس أبو مروان ابن حيان (- 469) . وهناك ثلاث طرق أخرى في الأندلس لرواية كتاب الأمثال، أولاً: طريق ابن القوطية عن أبي الحسن طاهر بن عبد العزيز عن علي بن عبد العزيز نفسه، والثانية: طريق ابن الافليلي عن القاسم بن سعدان عن طاهر بن عبد العزيز عن علي بن عبد العزيز، والطريق الثالثة بسند يونس بن أحمد الحراني عن ابن أبي الحباب عن القالي عن ابن درستويه عن علي بن عبد العزيز (4) ، فكل الطرق تنتهي إلى علي بن عبد العزيز، ويمكن تصويرها في الجدول الآتي: يوجد هنا مخطط في ص 11 في الكتاب.
ومن هذا الجدول يتبين أن الأندلس مدينة بإشاعة هذا الكتاب وحمله ونقله إلى رجلين هما: القالي وطاهر بن عبد العزيز (- 304) وهذا الثاني رعيني قرطبي، رحل إلى المشرق والتقى بعلي بن عبد العزيز في مكة، ولم يقتصر على أخذ الأمثال عنه، بل روى أيضاً كتب أبي عبيد، وحين عاد إلى الأندلس سمعها الناس منه (1) وتاريخ وفاته يدل على أنه سبق القالي إلى تدريس كتاب الأمثال، وأثار حوله عناية كثير من المتأدبين. وقد ذكر البكري نفسه أن ابن عبد ربه قال: شهدت أبا محمد ابن بكار العامري الأعرابي في مجلس يزيد بن طلحة وكتاب الأمثال يقرأ؛ وأضاف أن العامري توقف عن المثل " شاكه أبا يسار ". كذلك فإن بن عبد ربه لخص كتاب الأمثال وأدرج هذا الملخص في كتاب العقد، وكل هذا تم قبل أن يصل القالي إلى الأندلس (330هـ؟) إذ توفي ابن عبد ربه قبل ذلك بحوالي عامين. واستمر الأندلسيون يولون كتاب أبي عبيد ابن سلام اهتماماً كبيراً في حياتهم الثقافية؛ إذ تسلسل الرواية بعد ابن القوطية حتى يصل الإسناد إلى الشلوبين في القرن السابع؛ وفي هذا القرن نفسه يحدثنا الرعيني في برنامجه أن ابن أبي عزفة سمع على أبي ذر الخشني كتاب الأمثال لأبي عبيد (2) ، ويبدو أن أبا ذر الخشني هو المشار إليه في نسخة فيض الله بالحرف (خ) حيث كتب هنالك بعض التعليقات؛ وكل هذه الحقائق تشير إلى ما أحرزه كتاب ابن سلام من مقام في نفوس الدارسين الأندلسيين. 4 - شرح البكري لأمثال أبي عبيد: تتبع البكري (3) بعض الأصول بالشرح والتعليق والنقد، هذا إلى جانب ما ألفه في موضوعات أخرى؛ وقد عرفنا من شروحه:
1 - اللآلي في شرح الأمالي، وقد نشر بعناية الأستاذ عبد العزيز الميمني. 2 - التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه، وقد طبع ملحقاً بالأمالي. 3 - كتاب صلة المفصول في شرح أبيات الغريب المصنف لأبي عبيد (1) . 4 - فصل المقال في شرح الأمثال (أبي أمثالابي عبيد ابن سلام) وهو هذا الكتاب. وقد بين البكري في فاتحة هذا الشرح منهجه في كتابه حين قال " أما بعد فإني تصفحت كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام فرأيته قد أغفل تفسير كثير من الأمثال فجاء بها مهملة، وأعرض عن ذكر كثير من أخبارها فأوردها مرسلة، فذكرت من تلك المعاني ما أشكل، ووصلت من تلك الأخبار بأمثالها ما فصل، وبينت ما أهمل ونبهت على ما ربما أجمل، إلى أبيات كثيرة غير منسوبة نسبتها، وأمثال جمة غير مذكورة ذكرتها، وألفاظ عدة من الغريب فسرتها "؛ وحين يتأمل القارئ هذا المنهج يجد أن البكري قد اضطلع بالتفصيل إذا وجد الاختصار غير واضح، وهذا التوضيح يتناول المعاني والأخبار، كما أنه قام بنسبة الشعر الذي أورده الملف الأول دون نسبة، وأضاف إلى ما ذكره أبو عبيد أمثالاً أخرى لم ترد في كتابه، واهتم بتفسير بعض الألفاظ الغربية. وقد أتاح له منهج ابن سلام نفسه أن يقوم بهذا القدر من العمل، وبما هو أكثر منه، إذ كان كتاب الأمثال يميل إلى شيء من الإيجاز، ولا يحتفل كثيراً بإيراد قصة المثل على طولها؛ وكان ابن سلام أيضاً قليل الاكتراث؟ فيما يبدو؟ بنسبة الشعر إلى أصحابه، أما لداعي الإيجاز والاستعجال وإما لجهله قائل البيت أو المقطوعة من الشعر. فمن أمثلة جهله أن يقول عند رواية بيت مشهور لأبي خراش الهذلي " يقول شاعر في سالف الدهر "، ومنها أيضاً قوله عندما روى البيت " فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر وهذا البيت يقول بعضهم إنه لعثمان بن عفان. وعند هذا الموقف يغضب البكري فيقول معلقاً: كيف جهل أبو عبيد أن هذا البيت من شعر الأبيرد اليربوعي وهو أشهر من أن يجهله أحد فكيف يجهله أحد الجلة من العلماء بفنون العلم؟ وهكذا
كان شأن ابن سلام أيضاً في مواطن تستدعي التوقف في النسب أو في صحة الأسماء، فقد تعقبه البكري في كل ذلك، وأبان عن الوجوه الصحيحة، أو قرن برواية أبي عبيد رواية غيره من العلماء في التوجيهات اللغوية، وفي فهم الأمثال والنصوص. وخطأه أيضاً في فهمه بعض الأمثال، من ذلك ما ورد في تفسير المثل " سوء الاستمساك خير من حسن الصرعة: فقد قال ابن سلام في تفسيره له: يقول لأن يزل الإنسان وهو عامل بوجه العمل وطريق الإحسان والعمل، خير من أن تأتيه الإصابة وهو عامل بالإساءة بالخرق، فقال البكري في تعليقه: " تفسير أبي عبيد يقتضيه لفظ المثل، ولا يصح عليه لأن الذي يعمل بوجه العمل وطريق الاستحسان ليس سيئ الاستمساك، كما أن العامل بالإساءة والخرق ليس بحسن الصرعة ". ويشعر القارئ أحياناً أن البكري يتحكم في بعض التخريجات، ويأخذ على أبي عبيد ما يقع فيه غيره منت العلماء. فقد فسر ابن سلام المثل: " عند فلان من المال عائرة عين " بأن لديه من كثرة المال يملأ العين حتى يكاد يعورها، فقال البكري: " قبح الله كل مال يكاد يفقأ العين حين النظر ... الخ " ولو تمهل البكري لوجد أن علماء آخرين قبلوا هذا التفسير، وأن أبا عبيد لم يزد على أن اختار توجيه أبي عبيدة في فهم المثل. وقد يتجاوز التدقيق عند البكري حده الطبيعي المقبول في بعض الأحيان فيؤاخذ ابن سلام على أشياء لم يقلها؟ قال ابن سلام في المثل " قد نفخت لو تنفخ في فحم " إن هذا المثل الأغلب في شعره، فتعقبه البكري بقوله: " أما قوله نفخت لو تنفخ في فحم وهو في شعر الأغلب فليس ما أورده شعراً ولا رجزاً "؟ والحق أن أبا عبيد ابن سلام لم يقل إنه يورد شعراً أو رجزاً، وكل ما قاله أن هذا المثل ورد " في " شعر؟ وحقه أن يقول في رجز؟ للأغلب العجلي. وقد مضى ابن سلام بدافع الإيجاز يحيل على أشياء ذكرها في كتابه غريب الحديث والغريب المصنف، مما جعل البكري يقف عند هذه المواطن ليشرحها منتقداً ابن سلام على موقفه هذا، لأن ابن سلام افترض أن قارئ كتابه لا بد من أن يكون قادراً على الرجوع إلى كتبه الأخرى. وثمة صفة أخرى في ابن سلام أتاحت للبكري أيضاً مجالاً من القول، تلك هي تحرج أبي عبيد من ذكر بعض الأسماء، أو رواية بعض القصص، كقوله " وذكر
عند عمر بن الخطاب فلان، قال ذلك رجل وفيه دعابة " فعند ذلك يورد البكري القصة ويذكر الاسم الذي كنى عنه ابن سلام بكلمة " فلان "؛ وصفة التحرج غالبة على ابن سلام في مواطن متفرقة من كتابه، أما البكري فإنه لا يرى بأساً يذكر ما يستحي أبو عبيد من روايته. وإذا اغتفرنا بعض هنات للبكري في تعقبه لأبي عبيد، وكلها مما يدل على اعتداد بالنفس، وجدناه قد أغنى شرحه بالتحقيقات الطيبة في اللغة والأنساب والشعر، وكان في شرحه هذا ذا شخصية قوية، كما كان في شرحه لأمالي القالي، واسع الإطلاع، جم المعارف وإن لم يخل من خطأ أو وهم. وقد تقيد بالشرح ولذلك فإنه لم يورد الأمثال التي لا يستطيع التعليق عليها أو التي لا تستحق منه تعليقاً، بل اختار منها ما يستطيع إخضاعه للتفسير والتعليق، ونحسب أن ما حذفه من الأمثال من أصل أبي عبيد أضعاف أضعاف ما زاده إليه أثناء الشرح لأنه في بعض الأحيان كان يغفل أبواباً كاملة. وعلى هذا فإن كتاب " فصل المقال " لا يضم إلا قدراً محدوداً من الأمثال، وكذلك كتاب أبي عبيد نفسه، لأن التبويب اتبعه مؤلفه يحدد طبيعة الأمثال التي أمكنه إدراجها فيه، ولهذا التقسيم عيوب ليس البكري مسؤولاً عنها، وإن التزم به في سياق شرحه. وعلى ما لهذا من قيمة علمية فإننا لم نجد عدداً كبيراً من العلماء قد أفاد منه واستغل ما فيه. وكل ما نعرفه في هذه الناحية أن تلميذين لأبي عبيد البكري روياه عنه وهما: الوزير أبو بكر محمد بن عبد الملك بن عبد العزيز اللخمي، ومحمد بن محمد بن عبد الرحمن القرشي المعروف بابن الأحمر، ونقل منه العيني مرة واحدة في قصة النعمان وسعد القرقرة (العيني 4: 55) وربما كان صاحب التاج أو شيخه مطلعاً على بعض ما جاء فيه، لأن هنالك إشارات إلى بعض تعليقات البكري وردوده.
تحقيق الكتاب
تحقيق الكتاب 1 - نسخ الكتاب: اعتمدنا في تحقيق هذه الطبعة من الكتاب على أربع نسخ: (1) نسخة مكتبة لاله لي (رقم: 1795) وقد رمزنا لها بالحرف (ص) ، وهي نسخة أصلها قديم يبدو، وتتألف من 160 ورقة، كتبت بخط نسخي، وفي كل صفحة من صفحاتها 21 سطراً، وربما كان أصلها يعود إلى القرن السابع أو الثامن، إلا أن الورقات (1؟ 47) فيها قد فقدت من الأصل، فأعاد أحد النساخ كتابتها بخط يرجع إلى القرن الحادي عشر أو ما بعده، وبما أنها كانت أكمل نسختين موجودتين لدينا عند تحقيق هذا الكتاب أول مرة فقد اعتبرناها أصلاً، وهذا هو سرّ اختيار حرف (ص) رمزاً لها، ولكنها في الحقيقة لا تستحق هذا التقدير، لأنها مليئة بالأخطاء، وأكثر أخطائها يعود إلى جهل الناسخ (1) . (2) نسخة مكتبة الفاتح (رقم: 4014) ومنها فيلم بمعهد المخطوطات بالجامعة العربية. ومن هذا المعهد حصلنا على صورة منها، عدد أوراقها 103 ومسطرتها 17 × 22 سم (انظر فهرست المخطوطات المصورة رقم: 634) ؛ وهذه
النسخة مكتوبة بخط مغربي رديء، يبدو عليه القدم، وهي ناقصة في عدة مواضع، وقد رمزنا لها بالحرف (ح) . (3) نسخة الاسكوريال (رقم: 526) وقد رمزنا لها بالحرف (س) ، وتتألف من 165 ورقة، في كل صفحة 21 سطراً، ومسطرتها 23 × 17. 5، وخطها أندلسي جميل؛ والضبط فيها؛ بوجه عام، جيد، وقد سقطت منها افتتاحية المؤلف، وقسمة الكتاب في أبواب، وجاء في آخرها: " تم فصل المقال في شرح الأمثال لأبي عبيد الله ابن سلام بتفسير غريبه ومعانيه وذكر الأمثال الواقعة فيه لأبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري، رحمه الله، والحمد لله على معونته، وصلى الله عليه وسلم "؛ وليس هناك تاريخ للنسخ. (4) نسخة الرباط (رقم: 158 ق) وقد رمزنا لها بالحرف (ط) وهي في 195 صفحة، في كل صفحة 19 سطراً، ومسطرتها 20. 5 × 16. 5 وخطها مغربي دقيق، وهي النسخة الوحيدة التي تحمل تاريخاً، فقد جاء في آخر ورقة من أوراقها " وكل الفراغ منه في الموفي عشرين من شهر شعبان من سنة ثمان وستمائة "، وعلى هذا فربما كانت أقدم نسخة بين هذه الأصول الأربعة؛ إلا أن الورقتين اللتين تحويان المقدمة وتقسيم الكتاب إلى فصول قد سقطتا منها. تلك هي النسخ التي اعتمدنا عليها من شرح البكري نفسه، ولكنا زيادة في التدقيق، رأينا أن الأصول المشروح وهو كتاب القاسم بن سلام في الأمثال لا بدّ من أن يكون بين أيدينا لدى القيام بالتحقيق، ولهذا يمكن أن يقال إنه كانت لدينا نسخة خامسة اعتمدناها، وربما كانت من أهم ما اعتمدناه: (5) كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام، نسخة فيض الله (رقم: 1578) وقد رمزنا لها بالحرف (ف) ، وهي تقع في 89 ورقة، يضاف إليها ورقة واحدة ليست من صلب الكتاب، وهي مكتوبة أيضاً بخط مغربي، وفي كل صفحة 19 سطراً، وهي جيدة الضبط والشكل، وعلى هامشها تعليقات مفيدة، وقد نقلت تلك التعليقات مع الأصل نفسه عن نسخة بخط علي بن عبد العزيز تلميذ ابن سلام وصححت على أصل المؤلف، ثم قرأها أبو بكر ابن الأنباري وكتب فيها حواشي بخطه، وللمهلبي اللغوي فيها حواش أخرى كتبها ابن
2 - منهجنا في التحقيق:
الأنباري جميعها بخطه من قراءته على أبي العباس الأحول اللغوي، ولعل الأصل المشار إليه هو الذي اطلع عليه ابن السيد البطليوسي (سنة 517) وعليه قرأه الفقيه المشاور أبو الحسن ابن النعمة، كما تدل الورقة الأولى من هذه النسخة؛ وليس في مقدورنا أن نغالي في تقدير قيمة هذه المخطوطة الهامة عندما قمنا بالتحقيق، ولكن يكفي أن نقول إنها كانت مرجعنا الأكبر عند قيام إشكال أو تعارض بين النسخ، كما أن هومشها كانت مصدراً لفوائد جليلة. 2 - منهجنا في التحقيق: إن دراسة النسخ الأربع التي اعتمدناها في التحقيق تدل على أننا أمام فئتين متفاوتتين من الأصول؛ الفئة الأولى تمثلها النسختان ص ح، فهما؟ وخاصة في الثلث الأول من الكتاب؟ تتفقان في زيادات كثيرة، لا وجود لها في النسختين الأخريين، ويبدو أن هذه الزيادات إنما كانت استداداً من أصل ابن سلام نفسه للتوضيح، وأنه لم يكن للبكري يد فيها؛ كذلك فإن هاتين النسختين تتفقان فيما ينقصهما عند المقارنة بالنسختين الأخريين؛ أما الفئة الثانية فتتمثل في النسختين س ط، رغم ما قد يكون بينهما من تفاوت، نعم إن القراءات في كلتا النسختين قد تكون أحياناً متباعدة، مما يدل على أنهما تنتميان إلى أصلين مختلفين، ولكن تلك الفروق جزئية، وليس بين النسختين اختلاف كبير في السياق العام نفسه. وعلى هذا وجدنا أنه لا بد لنا الأخذ بالأمور الآتية: 1 - أنه ليس هناك " نسخة أمّ " تتخذ حكماً عند التباين بين النسخ. 2 - أن زيادات ص ح قد وضعت في المتن بين قوسين بهذا الشكل 3 - أن زيادات س ط قد وضعت بين معقفين هذه صورتهما [] 4 - أننا حذفنا كثيراً من الفروق التي انفردت بها ص، لأنها في الأساس تعود إلى جهل الناسخ، وما كان خطأً واضحاً لا لبس فيه فلا يصح أن يثبت في الحواشي. 5 - أن ما زدناه من النسخة (ف) ؟ وهي أصل أبي عبيد ابن سلام؟ وضع بين
قوسين، هذه صورتهما () ؛ ولكنا في هذه الطبعة الثانية حذفنا من الزيادات التي أدرجناها من (ف) في الطبعة الأولى شيئاً كثيراً، لأن أصول فصل المقال؟ في هذه الطبعة الثانية؟ قد أصبحت تمكننا من الحسم في كثير من الأمور، دون الاعتماد الكبير على نسخة (ف) . 6 - أن هناك فروقاً كثيرة في القراءات قد أغفلناها لأنها لا تغير كثيراً في المبنيى والمعنى؛ ومن ذلك الأدعية مثل " صلى الله عليه وسلم " و " رضي الله عنه " و " رحمه الله "، فقد اتبعنا فيها منهجاً مناسباً، وإن تفاوتت النسخ في ذلك، كذلك قد نجد تفاوتاً بين النسخ في أمور صغيرة مثل " ومنه قولهم " بدلاً من " منه قولهم " وما أشبه من فروق مثل " وقال " " فقال "؟ ولو أنا أردنا أن نشير إلى أمثال هذه الخلافات في كل موطن لأثقلنا الحواشي بأمور لا ضرورة لها؛ كذلك فإنا على تمام الشعور بالمسؤولية العلمية حين نقول: إن الأخطاء التي لا تتحمل تأويلاً إلى جانب الصحة المحتملة يجب أن يغفل إثباتها، لأن ذلك يعد إثقالاً على القراء، دون ما داعٍ يدعو لذلك. 3 - شكر وتقدير: حين أصدرنا الطبعة الأولى من هذا الكتاب (سنة 1958) كان لجامعة الخرطوم الفضل الكبير في طبعه على نفقتها، تشجيعاً منها لإحياء التراث العربي، وتقديراً لعمل أستاذين من أساتذتها، وأظن أن كرور الأيام، لن ينسينا الاعتراف بالجميل لتلك الجامعة، ولما أدته في خدمة العلم؛ وقد حرصت الجامعة يومئذ أن يكون عملنا مسدداً بإرشاد عالم طويل الباع في ميدان التحقيق وفي سعة الاطلاع، وذلك هو صديقنا الأستاذ محمود شاكر الذي قرأ الكتاب قبل دفعه للمطبعة، وأرسل إلينا بتعليقات كثيرة مفيدة، أثبتنا ما يحتاج إليه القارئ منها في هوامش الكتاب؛ وقد عانينا في طبع الكتاب؟ في الخرطوم؟ ما لا قبل لنا بتصويره، ولم تستطع غيرتنا العلمية أن تبرئه من أخطاء، كنا نحن أشد الناس ألماً لوقوعها فيه، حتى لقد قلنا حينئذ في تقديم تلك الطبعة: " غير أن نقص الوسائل عامة، اضطرنا إلى قبول الأمر الواقع آسفين، فقد امتلأ الكتاب بالأخطاء، مع حرصنا على تصفيته منها ".
أما اليوم، فإننا نستطيع أن نقول بكل تواضع إننا نتقدم بالكتاب وهو لا يشكو من تلك العثرات، ويعود جانب كبير من الفضل في ذلك إلى صديقي العالم المحقق الأستاذ أحمد راتب النفاخ الذي أولى هذا الكتاب عناية خاصة، وقدم إليّ صوةرة من مخطوطة الاسكوريال لأستعين بها في العمل، وكانت أريحيته دائماً عوناً كبيراً لي في ما قمت به من تحقيقات. ولا أنس فضل أخ كريم هو الأستاذ مجير العمري الذي يعمل على إحياء التراث بغيرة صادقة، فهو الذي اضطلع بعبء هذا الكتاب، حتى خرج على النحو الذي يرتضيه المحقق والقارئ؛ فلهذين الصديقين شكري وتقديري. ولما تيسر لي إعادة النظر في الكتاب على ضوء مخطوطتين جديدتين أستأذنت صديقي الدكتور عبد المجيد عابدين في إعادة طبعه، فأذن في ذلك، ولم يكن في مقدوري أن أعرض عليه ما تمّ في هذا العمل لتباعد المسافة فيما بيننا، ولكنه أولاني مشكوراً ثقته، فعملت بوحي من هذه المسئولية في جميع أجزاء الكتاب، حتى انني أعدت النظر في المقدمة، ووضعتها على نحو جديد، مستفيداً من المعلومات التي وردت في مقدمة الطبعة الأولى، وقد حذفت منها ما كان مكرراً أو ما ظننته إمعاناً في التفصيلات، لا يفيد القارئ منه كثيراً. والله أسأل أن يوفقنا جميعاً ويسدد خطانا بمنه وكرمه. بيروت في 4 ذي الحجة 1390 30 - كانون الثاني (يناير) 1971 إحسان عباس
فصل المقال في شرح كتاب الأمثال
فصل المقال في شرح كتاب الأمثال
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي الحمد وأهله، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وصفوته من رسله. أما بعد: فإني تصفحت كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام فرأيته قد أغفل تفسير كثير من تلك الأمثال فجاء بها مهملة، وأعرض أيضاً عن ذكر كثير من أخبارها فأوردها مرسلة، فذكرت من تلك المعاني ما أشكل، ووصلت من تلك الأمثال بأخبارها ما فصل، وبينت ما أهمل، ونبهت على ما ربما أجمل، إلى أبيات كثيرة غير منسوبة نسبتها، وأمثال جمة غير مذكورة ذكرتها، وألفاظ عدة من الغريب فسرتها، وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وقد رتبته على عشرين باباً يتفرع منها أبواب في محالها: الباب الأول: في حفظ اللسان، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب الثاني: في معايب المنطق، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب الثالث: في جماع أحوال الرجال واختلاف نعوتهم وأحوالهم، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب الرابع: في تعاطف ذوي الأرحام وتحنن بعضهم على بعض، ويتفرع منه أبواب. الباب الخامس: في مكارم الأخلاق، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب السادس: في الجود والمجد. الباب السابع: في الخلة والصفاء، ويتفرع منه أبواب في معناه.
الباب الثامن: في المعاش والأموال، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب التاسع: في العلم والمعرفة، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب العاشر: في شواهد الأمور الظاهرة على علم باطنها، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب الحادي عشر: في الحوائج، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب الثاني عشر: في الظلم، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب الثالث عشر: في المعايب والذم، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب الرابع عشر: في الخطأ والزلل في الأمور، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب الخامس عشر: في البخل وصفاته وأشكاله، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب السادس عشر: في صنوف الجبن وأنواعه، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب السابع عشر: في مرازي الدهر، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب الثامن عشر: في الجنايات، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب التاسع عشر: في منتهى التشبيه، ويتفرع منه أبواب في معناه. الباب العشرون: في اللقاء والنفي للناس والطعام، ويتفرع منه أبواب في معناه. فأقول: حدثنا أبو مروان ابن حيان، قال: أخبرنا أبو عمر أحمد بن أبي الحباب قال: أنبأنا أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي قال: أنبأنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال: أنبأنا علي بن عبد العزيز وثابت بن أبي ثابت قالا: أنبأنا أبو عبيد القاسم بن سلام الخزاعي قال: هذا كتاب الأمثال وهي حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت فيها (1) . ع: المعارضة هنا من الذي ورد: في المعارض مندوحة عن الكذب (2) ،
وهي الكلام الذي يفهم عنك منه خلاف ما تضمره لاحتماله معنيين، وهذا هو اللحن عند العرب، تقول: لحنت له لحناً، إذا قلت له قولاً يفهمه عنك ويخفى على غيره، وقد لحنه إذا فهمه، وهو الذي أراد مالك بن أسماء بن خارجة بقوله (1) : وحديثٍ ألذه هو مما ... تشتهيه النفوس يوزن وزنا منطق صائب وتلحن أحيا ... ناً، وخير الحديث ما كان لحنا أي تعرض به في حديثها وتزويه (2) عن جهته لئلا يفهمه الحاضرون. ومن المعارض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) أنه حين هاجر إلى المدينة مخفياً لشأنه عن قريش نزل منزلاً، فمر به قوم يؤمون مكة ومعه أبو بكر، فقال لهما القوم: من أين أنتما؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء من المياه، فقال القوم: هما من بعض مياه العرب. وإنما أراد النبي عليه السلام قول الله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماءٍ دافق} (الطارق: 5) فلحن لهم بذلك ليخفى أمره، وصدق كما قال عليه السلام: إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً. وقال لامرأة من العرب (4) : " إن الجنة لا تدخلها العجز " ففزعت وبكت، أراد النبي عليه السلام قوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاءً، فجعلناهن أبكاراً، عرباً أتراباً} (الواقعة: 36) ، وأهل الجنة أجمعون/ شبان لا يهرمون (5) .
وحضر باب عبد الملك بن مروان (1) ناس من العرب فيهم تميمي ونميري، فمر عليهم رجل يحمل بازياً، فقال التميمي للنميري: انظر ما أحمق (2) هذا البازي، ففهم النميري ما أراد فقال له: نعم، وهو يصيد القطا: أراد التميمي قول جرير (3) : أنا البازي المطل على نميرٍ ... أتيح من السماء له انصبابا (4) وأراد النميري قول الطرماح (5) : تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت قال أبو عبيد: وكان ما دعانا إلى تأليف هذا الكتاب وحثنا عليه ما روينا من الأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم (6) .
ع: المأثورة هي المحمولة المروية، يقال هذا الحديث مأثور عن فلان، وهو يأثره عنه أي يحمله ويحكيه، وهو معنى قول الله تعالى: {أو أثارة من علم} (الأحقاف: 4) وروى الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال (1) : سمعني النبي صلى الله عليه وسلم أحلف بأبي فقال: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " فما حلفت بها ذاكراً ولا آثراً (2) ، يعني أنه لم يأثر ذلك عن غيره، أي يحيكه عنه، لئلا يجري على لسانه. وقال الأعشى (3) : إن الذي فيه تناويتما ... بين للسامع والآثر قال أبو عبيد: ومن أمثاله أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم (4) : " مثل المؤمن كمثل الخامة من الرزع تمليها الريح مرةً هاهنا، ومرةً هاهناك، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على الأرض حتى يكون انجعافها مرة ". ع: لفظ الحديث (5) تمليها الريح مرة هكذا ومرة هكذا، ويروى: تفيئها؛ والخامة: الغضة (6) من الزرع أول ما تستقل على ساق، وألفه (7) منقلبه عن ياءٍ.
وقال أبو عبيد: هي الغضة (1) الرطبة، وأنشد (2) : إنما نحن مثل خامة زرعٍ ... فمتى يأن يأت محتصده والبيت للطرماح، أخذه ابن مناذر (3) فقال: وأرانا كالزرع يحصده الده؟ ... ر فمن بين قائمٍ وحصيد وكأنا للموت ركب مخبو ... ن سراعاً (4) لمنهل مورود والأرزة: شجرة معروفة وهي من أصلب الخشب؛ قال أبو عبيد: وأهل العراق يسمونها الصنوبر، وإنما الصنوبر ثمر الأرز. والمجذية: الثابتة القائمة، وكل ثابت على شيء فقد جذا عليه وأجذى، قال الشاعر (5) : إذا شئت غنتني دهاقين قريةٍ ... وصناجة تجذو على كل منسم والانجعاف: السقوط والانقلاع معروف، يقال جعفت الرجل: إذا صرعته؛ ومعنى الحديث، والله أعلم، أنه شبه المؤمن بالخامة التي تمليها الريح لأنه مرزأ في نفسه وأهله، وولده وماله، وأما الكافر فمثل الأرزة التي لا تمليها الريح، والكافر لا يرزأ شيئاً حتى يموت، وإن رزئ لم يوجد عليه (6) ، فشبه موته بانجعاف تلك حتى يلقى الله بذنوبه كملا؛ ويروى حتى يكون انخعافها مرة، بالخاء المعجمة، والانخعاف والانخفاع: الضعف من جوع أو مرض (7) .
قال أبو عبيد: ومنها قوله: صلى الله عليه وسلم حين ذكر الفتن والحوادث التي تكون في آخر الزمان، فقال له حذيفة بن اليمان: أبعد هذا الشر خير؟ فقال: " هدنة على دخن وجماعة على أقذاءٍ "؛ (1) >. قال أبو عبيد: فقد علم أن الأقذاء إنما تكون في العين أو في الشراب، وأن الدخن إنما يكون (2) من الدخان، فجعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً لنغل القلوب وما فيها من الضغائن والأحقاد. ع: الدخن ليس في معنى الدخان كما قال أبو عبيد، وإنما الدخن فساد في القلب عن باقي عداوة، وبهذا فسر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مدخل هنا لاستعارة الدخان، والدخن لغة في الدخان وكذلك الدخ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد: " قد خبأت لك خبئاً فما هو؟ قال: الدخ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إخسأ فلن تعدو قدرك " وكان قبض من دخان مر به بيده. وقال الداوودي: ويقال إنه خبأ له سورة الدخان. قال أبو عبيد: ومنها حديثه صلى الله عليه وسلم حين ذكر الدنيا وزينتها فقال: " وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم " (3) أو جمال فقد تؤول بصاحبها إذا سلك بها غير القصد إلى سوء المغبة، كما أن آكلة الخضر من الماشية إذا لم تقصد في مراعيها آل بها ذلك إلى أن تستوبله (4) حتى تحبط منه بطونها فتهلك> (5) .
ع: فسره أبو عبيد ولم يبين معنى الحبط، وهو داء يصيب الماشية عن كثرة أكل الكلأ حتى تنتفخ بطونها فتمرض عنه. يقال منه: حبط بكسر الباء، يحبط بفتحها، حبطاً بفتح الباء أيضاً، فهو حبط، والحبط: لقب الحارث بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، وهو أبو الحبطات، قيل إنه لقب بذلك لعظم بطنه، وقيل إنه (1) كان في سفر فأصابه مثل هذا، وقوله: أو يلم، معناه أو يدني من الموت. قال الشاعر (2) : وزيد ميت كمد الحبارى ... إذا زارت قريبة أو ملم أي مقارب للموت (3) . قال أبو عبيد: ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن حرب: " أنت يا أبا سفيان: كما قيل: كل الصيد في جوف الفرإ " أي إنك في الرجال كالفرإ في الصيد، وهو الحمار الوحشي، قال له ذلك يتألفه على الإسلام. ع: استأذن أبو سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأخر أذنه فلما دخل عليه قال: ما كدت تأذن لي حتى أذنت لحجارة الجلهتين، ويروى الجلهمتين (4) ، فقال له رسول الله عليه السلام هذه المقالة استئلافاً له، وقد روي أن رسول الله إنما قال
هذا المثل لأبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب لا لأبي سفيان ابن حرب. وأصل هذا المثل فيما ذكر أبو عبيدة أن قوماً خرجوا يصيدون، فصاد أحدهم ضباً، وصاد الآخر يربوعاً، وصاد الثالث أرنباً، فجعلوا يفخرون بما صادوا وجاء أحدهم قد صاد جحشاً فقال: كل الصيد في جوف الفرا، قصور على مثال فرع وجمعه فراء بالمد على مثال فراع، قال الشاعر (1) : بضربٍ كآذان الفراء فضوله ... وطعن كإيزاغ المخاض تبورها (2) وقد تغفل الأصمعي أبا عمرو الشيباني فقال له (3) : ما معنى قول الشاعر: " بضربٍ كآذان الفراء فضوله ": ... وجعل يجر يده على فراء كانوا يجلسون عليها، فقال: هي هذه، فقال له الأصمعي: أخطأت يا أبا عمرو. قال أبو عبيد: ومنها قوله عليه السلام حين ذكر الضرائر قال (4) : " ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفيء ما في صحفتها "، فقد علم أنه لم يرد الصفحة خاصة، إنما جعلها ثلاً لحظها من زوجها (يقول: إنه إذا طلقها لقول هذه كانت قد أمالت نصيب صاحبتها إلى نفسها) . ع: يروى هذا الحديث لتكتفيء ما في صحفتها ولتكفأ ما في صحفتها، ويروى ما في إنائها، يقال: كفأت الإناء أكفؤ كفأ إذا قلبته، ويقال أيضاً
أكفأته، وكفأته أفصح، وأكفأت في الشعر لا غير، إذا قلت شيئاً مرفوعاً وآخر مخفوضاً. وهذا حديث صحيح، رواه مالك (1) عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح، فإنما لها ما قدر لها، ذكر ذلك في باب جامع ما جاء في القدر، والعرب تضرب انكفاء وإراقته مثلاً لخلو موضع صاحبه بذهاب أو موت، قال الأعشى (2) : رب رفدٍ هرقته ذلك اليو ... م وأسرى من معشرٍ أقتال الرفد: القدح العظيم، يقول: قتلت أربابها فكانت تلك إراقتها، وقيل إنه أراد ذهبت بإبلهم فصرفت أقداحهم من اللبن. وقال أبو قردودة يرثي ابن عمار وكان حذره صحبة النعمان بن المنذر، فقال لما قتله النعمان (3) : يا جفنةً كإزاء الحوض قد هدموا ... ومنطقاً مثل وشي اليمنة الحبره وهو معنى قول امرئ القيس في أحد الوجهين (4) : فأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركنه صفر الوطاب
قال النمر بن تولب (1) : فإن ابن أخت مصغىً إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بابٍ جلد (2) فضرب إصغاء الاناء للهضيمة والوضيعة. قال أبو عبيد: ومنها قوله عليه السلام حين ذكر الغلو في العبادة فقال: " إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " يقول إن هذا الذي كلف نفسه فوق طاقتها من العبادة، بقي حسيراً كالذي أفرط في إغذاذ السير حتى عطبت راحلته ولم يقض سفره. ع: أورد أبو عبيد هذا الحديث محذوف الصدر وبه يفهم معناه: روى غير واحد عن ابن المنكدر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفقٍ ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ". يقال: أوغل في الأرض يوغل إيغالاً إذا أبعد، ووغل بين الشجر إذا توارى يغل وغولاً، وكذلك إذا دخل بين قوم ليس منهم، وبذلك سمي الواغل وهو الذي يشرب مع القوم ولا ينفق ويقال لشربه الوغل، قال الشاعر (3) : إن أك مسكيراً فلا أشرب ال؟ ... وغل ولا يسلم مني البعير
وقد يسمى الواغل أيضاً وغلاً، وقال الآخر (1) : فجاء بها كيما يوفي حجة ... نديم كرامٍ غير نكسٍ ولا وغل وقال امرؤ القيس في الواغل (2) : فاليوم أشرب غير مستحقبٍ ... إثماً من الله ولا واغل وكل منقطع منبت، والبت: القطع، قال الشاعر (3) : فبت حبال الوصل بيني وبينها ... أزب ظهور الساعدين عذور والعذور: السيء الخلق. ومن هذا قولهم: طلق ثلاثاً بتاً امرأته. قال أبو عبيد: (4) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراء الدمن " قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت لسوء "؛ (5) فقد علم أنه ليس هناك قيد، ولكنه جعل منع الايمان إياه تقييداً، ثم قال: " الحرب خدعة ".
رأينا في الحاشية على كتاب الأمثال بخط المهلبي ما صورته: قال أبو محمد سلمة (1) من قال الحرب خدعة فمعناه أنه من خدع خدعةً فزلت قدمه عطب، فليس له إقالة، ومن قال خدعة أي أنها تخدع أهلها، ومن قال خدعة فهي تخدع، وإذا خدع أحد الفريقين صاحبه فكأنما خدعت هي. قال أبو عبيد الله الزبيري: هي عندنا خدعة، وحدثنا قال: حدثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال سمعت رسول الله عليه الصلاة السلام يقول: الحرب خدعة، قلت: أتراها محكية؟ قال: نعم> (2) . ع: الدمن جمع دمنة وهي المواضع الذي يجتمع فيه الغنم، فتتلبد فيه أبوالها وأبعارها، وقد دمنت الغنم المكان تدميناً إذا بولت فيه وبعرت، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم الدمنة مثلاً لخبث المنبت، وجودة النبات مثلاً لحسن المرأة، وكانت العرب تقول في النهي عن مثل هذا المنكح: لا تنكحها حنانة ولا منانة ولا أنانة ولا عشبة الدار ولا كية القفا (3) ، فعشبة الدار هي خضراء الدمن، لأن السوام من الإبل والبقر والغنم وغيرها إنما يكون مراحها بأفنية الدور، ومعنى حنانة أن يكون لها ولد من غيرك فهي تحن إليه، ومعنى أنانة أنها تئن شوقاً إلى زوجها الأول، ومعنى منانة أنها تملك عليك بمالها، ومعنى كية القفا أن زوجها يمر بالقوم فإذا وليّ قال أحدهم: فعلت بامرأة هذا، وكان من شأن امرأة هذا كذا (4) .
قال أبو عبيد: وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم (1) : " إن من البيان لسحرا ". ع: لما سأل النبي عليه السلام عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر فقال: هو مانع لحوزته، مطاع في أدنيه، فقال الزبرقان: أما إنه قد علم أكثر مما قال: ولكن حسدني شرفي، فقال عمرو: أما إذ قال ما قال فوالله ما علمته إلا ضيق الصدر، زمر (2) المروءة، لئيم الخال، حديث الغنى. فلما رأى أنه قد خالف قوله الآخر قوله الأول، ورأى الانكار في عيني رسول الله، عليه أكمل التحية (3) ، قال: يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما ذكبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن من البيان لسحراً. والناس يتلقون هذا الحديث على أنه في مدح البيان ويضمنونه كتبهم على هذا التأويل، وتلقاه العلماء على خلاف ذلك: بوب مالك (4) رحمه الله في موطأ " باب ما يكره من الكلام " ثم ذكر عن زيد بن أسلم أنه قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال التبي عليه السلام: " إن من البيان لسحراً "، أو إن بعض البيان لسحر، وهو الصحيح في تأويله لأن الله تعالى قد سمى السحر فساداً فقال: {ما جئتم به السحر إن الله سيبطله، إن الله لا يصلح عمل المفسدين} (يونس: 81) . قال أبو عبيد: ومنها قوله في أهل الإسلام وأهل الشرك: " لا تتراءى ناراهما " ع: أول هذا الحديث: " أنا بريء من كل مسلمٍ مع مشركٍ، لا تتراءى
ناراهما ". معناه بريء من كل مسلم يوالي مشركاً، وقوله: لا تتراءى ناراهما جملة مستأنفة منقطعة مما قبلها، ولفظها لفظ الخبر، ومعناها الإلزام والنهي كما قال زهير (1) : القائلين يساراً لا تناظره ... عشاً لسيدهم في الأمر إذ أمروا (2) أراد: لا تناظره، وجعل النهي للنار، وهو يريد أهلها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد نظر إلى جبل أحد: " هذا جبل يحبنا ونحبه " وهو يريد أهله (3) . وفي هذا الحديث وجوه من التأويل، أحدهما: أن معناه لا يستوي حكماهما. وقال بعضهم: معناه أن الله قد فرق بين دار الإسلام ودار الكفر، فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم، حتى إذا أوقدوا ناراً كان منهم بحيث يراها. وذكر بعض أهل العلم واللغة قال (4) : معناه لا يتسم مسلم بسمة المشرك، ولا يتشبه به في هديه وشكله، والعرب تقول: ما نار بعيرك؟ أي ما سمته، ومنه هذا قولهم: نجارها نارها أي ميسمها يدل على كرمها وعتقها. قال الراجز (5) : قد سقيت آبالهم بالنار ... والنار قد تشفي من الأوار يقول: لما عرفت سماتها سقيت لكرامة أهلها وعزهم. قال أبو عبيد: وقال عليه السلام: " للعاهر الحجر "، وقال: " لا ترفع عصاك عن أهلك "، فقد علم أنه لم يرد ضربهن بالعصا، إنما هو الأدب. وكذلك الحجر، إنما معناه أنه لا حق له في نسب الولد.
ع: قال النبي عليه السلام (1) : " الولد للفراش وللعاهر الحجر "، والفراش: الأم، يقال للنساء: المفارش، وفلان كريم المفارش أي كريم النساء، والعاهر: الزاني، والعَهْر والعَهَر والعهارة: الزنا، وللعاهر الحجر أي الخيبة، أي لا حظ له في الولد، يقال للخائب من الشيء يريده أو لمن يدعى عليه بالخيبة: بفيه الحجر وبفيه الكثكث والأثلب، أي التراب، وقال حميد بن ثور (2) : جلبانة ورهاء تخصي حمارها ... بفي من بغى خيراً لديها الجلامد وقال آخر: بفيك مما طلبت الترب والحجر ... قال أبو محمد: لم يرد عليه السلام أن يدفع إلى العاهر حجر، وإنما يريد أنه لا شيء له إلا ما يهينه ولا ينفع، فقيل له إذا طلب الولد: الحجر لك. قال: وعلى هذا يتأول قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب " معناه: أن يقال للمادح بالباطل: بفيك التراب، وعلى معنى التغليظ عليهم، والعصا كناية عن الأدب كما قال أبو عبيد، قال الراعي يصف راعيه (3) : ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أقحل الناس إصبعاً يعني أنه لين عليها، رفيق بها، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في أبي جهم: لا يرفع عصاه عن أهله (4) .
وتفاخر رجلان من بني هلال يصفان النعم فقال أحدهما: والذي لا إله إلا هو ما تخذت (1) فيها عصاً قط غير هذه منذ شببت، ولا فارقتني فما انكسرت، قال له صاحبه: تعسفت بها (2) ، والذي لا إله إلا هو ما اتخذت فيها عصاً غير يدي. وقال الراجز: دعها من الضرب وبشرها يدي ... ذاك الذياد لا ذياد بالعصي وقوله: " ترى له عليها إذا ما أقحل الناس أصبعاً " يعني أثراً حسناً يدل على حسن رعيته. قال أبو عبيد (3) وفي حديث مرفوع (4) : " وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ". ع: هذا من حديث شعبة (5) عن الحكم (6) ، سمعت عروة بن النزال يحدث عن معاذ بن جبل، قال: قلت يا رسول الله، إنا لنؤاخذ بما نتكلم به (7) ؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟ " قال الخليل: ويروى حصاة ألسنتهم.
الباب الأول
الباب الأول في حفظ اللسان 1 - باب المثل في حفظ اللسان. قال أبو عبيد: ومنها قول شداد بن أوس الأنصاري (1) : " ما تكلمت
بكلمةٍ منذ كذا وكذا حتى أخطمها وأمها ". (1) . ع: الزمام: ما تزم به الناقة عند المشي؛ والخطام ما تخطم به عند الامساك، فالخطام غير الزمام: قال امرؤ القيس في الزمام (2) : فقلت لها سيري وأرخى زمامه ... ولا تعبدينا من جناك المعلل قال أبو عبيد: ومنها قول عمر بن عبد العزيز " التقي ملجم ". ع: ضرب اللجام للتقي مثلاً، لأن التقي يمنعه من الكلام فيما لا يعنيه كما يمنع اللجام الدابة من الأخذ فيما لا يعني راكبها. قال الشاعر (3) : خل جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام إنما السالم من أل؟ ... جم فاه بلجام 2 - باب حفظ اللسان لما يخاف على أهله قال أبو عبيد:؛من أمثالهم في هذا مقالة أكثم بن صيفي التميمي " مقتل الرجل بين فكيه " يعني لسانه، والفكان: اللحيان>. وقال بعض العرب لرجل وهو يعظه في حفظ لسانه " إياك أن يضرب لسانك عنقك " رأيت اللسان على أهله ... إذا ساسه الجهل ليثاً مغيرا> ع: هكذا أورد أبو عبيد هذا الكلام وإنما هو " إياك وأن يضرب.. " بالواو، كما ورد في الحديث: إذا بلغ الرجل السبعين فإياه وايا الشوارب، وانظر عبد الله المعتز هذا المثل فقال (1) : يا رب ألسنة كالسيوف ... تقطع أعناق أصحابها وكم دهي المرء من نفسه ... فلا تؤكلن بأنيابها قال أبو عبيد: ومنه قول أكثم بن صيفي أيضاً " رب قولٍ أشد من صولٍ "
في الناس من يلتقطه فينميه (1) ويشيعه حتى يورط فيه قائله، فاحذره. وقال الأصمعي واسمه عبد الملك بن قريب: من أمثالهم في التحفظ " ربما أعلم فأذر " يريد أني قد أدع ذكر الشيء وأنا به عالم لما أحاذر من فتنته> (2) . ع: أي رب كلام يعاب به الإنسان هو أشد عليه من أن يصال به. وقد قال الشاعر (3) : وقد يرجى لجرح السيف برء ... وجرح الدهر ما جرح اللسان (4) : جراحات السنان لها التئام ... ولا يلتام ما جرح اللسان> ويروى: وجرح السيف تدمله فيبرا ... وجرح الدهر ما جرح اللسان وقال الآخر (5) : والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر ... وقالوا: اللسان أجرح جوارح الإنسان، وقال ابن عباد الصاحب: حفظ اللسان راحة الإنسان ... فاحفظه حفظ الشكر للإحسان فآفة الإنسان في اللسان ...
وقال امرؤ القيس (1) : إذا المرء يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان يقال: صال الرجل على قرنه، يصول صولاً إذا قهره. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً قال: " اللهم بك أصول، وبك أحل، وبك أسير ". قال أبو عبيد: ومن جناية اللسان على صاحبه قولهم: " محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا " وهو سالم بن دارة أحد بني عبد الله بن غطفان، وكان هجا بعض بني فزارة فاغتاله الغزاري حتى ضربه بالسيف. ع: دارة لقب، واسمه مسافع، وكانت امرأة من العرب تعشقه، فقيل لها: من هذا الذي تصبين إليه؟ قالت: لا أعلم، إلا أن وجهه كدارة القمر، فلقب بدارة. والدارة أيضاً الداهية، وذلك من قولهم: " دار الدهر بدوائره ". وقاتل ابن دارة زميل بن أبرد الفزاري (2) وكان يعرف بأمه، أم دينار، وهو القائل لما قتله ووداه: أنا زميل من بني فزاره ... أنا زميل قاتل ابن داره ثم جعلت عقله البكاره (3) ...
ولما عذل في فتكه به قال: فلا تكثروا فيه الضجاج فإنه ... محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا قال الزبير (1) : قال مسافع أبو سالم لزميل بعد أن أمن: ويحك يا زميل لم قتلت سالماً، قال أحرقتني بالهجاء، قال: أنت أشعر الناس حين تقول (2) : أجارتنا من يجتمع يتفرق ... ومن يك رهناً للحوادث يغلق ع: في هذا معنى لا يفهمه كثير من الناس، وإنما أراد مسافع بقوله أنت أشعر الناس في الكلمة المذكورة أن من كان هذا مقداره من الشعر ومنزلته من الاقتدار عليه قارض على الهجاء بأشد منه وأبلغ وانتصف من هاجيه هجواً بهجو، ولم يتعد إلى القتل، وبيت زميل أول القصيدة، وبعده: ومن لا يزل يوفي على الموت نفسه ... صباح مساء يا ابنة الخير يعلق ويفرق بين الناس بعد اجتماعهم ... وكل جميعٍ صالحٍ لتفرق فلا السالم الباقي على الدهر خالد ... ولا الدهر يستبقي حبيباً لمشفق يقول: الحوادث تفرق الناس بعد اجتماعهم. ويروى: ولا الدهر يستبقي جنيناً (3) لمشفق. وقد روى هذا الشعر لطارق بن صفوان الضبي (4) . قال أبو عبيد:
" إذا وقي الرجل شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي " قال: فاللقلق: اللسان، والقبقب: البطن، والذبذب: الفرج>. وفي بعض الأحاديث أن الإنسان إذا أصبح كفرت أعضاؤه اللسان، فتقول له: اتق الله فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا. (1) " من صدق الله عز وجل نجا " يكون في القول والعمل جميعاً. ويروى عن يونس بن عبيد أنه قال: " ليس خلة من خلال الخير تكون في الرجل هي أحرى أن تكون جامعة لأنواع الخير كلها فيه من حفظ اللسان " >. ع: التكفير هاهنا: الخضوع، وأصله الانحناء الشديد، كما تكفر النصارى لكبارهم، روى ابن علية عن أيوب عن أبي معشر أنه كان يكره التكفير في الصلاة، وهو الانحناء الشديد في الركوع، وقد ورد في ذلك النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تدبحوا كما يدبح الحمار "، وقال محمد بن عبد السلام الخشني (2) : أشهد لقد رأيت أبا حاتم يكفر بين يدي الرياش ويجله ويعظمه وهو أسن منه ولكنه كان يرى فضلاً.
3 - باب الاقتصاد في المنطق قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة واسمه معمر بن المثنى: من أمثالهم في هذا " من أكثر أهجر ". . ع: الهجر: القبيح من الكلام، يقال [منه] : أهجر، إذا أفحش وقال ما يقبح، ويقال هجر في منامه إذا تكلم بما لا يعقل، ويقال هجر المريض وأهجر إذا هذى. وقال ابن عباس: اشتد برسول الله عليه الصلاة والسلام وجعه فقال: ايتوني بكتاب أكتب لكم لا تضلوا بعدي فقالوا: ما شأنه أهجر (1) . وقرئ {سامراً تهجرون} وتهجرون (المؤمنون: 67) فمن قرأ بفتح التاء احتمل معنيين: معنى الهذيان ومعنى تهجرون الحق. وقال شبيب بن كريب (2) : صلاصل لو أدركتها لجزيتها ... بما جر مولاها عليها وأهجر وقال الشماخ بن ضرار (3) : كماجدة (4) الأعراق قال ابن ضرةٍ ... عليها كلاماً جار فيه وأهجرا
قال أبو عبيد: وقال أكثم بن صيفي " المكثار كحاطب الليل " قال: وإنما سبهه بحاطب الليل، لأنه ربما نهشته الحية أو لسعته (1) العقرب في احتطابه ليلاً، قال: فكذلك (2) هذا المهذار، ربما أصاب في إكثاره بعض ما يكره. (3) المحبة " وقال غيره من العلماء " الندم على السكوت خير من الندم على القول ". وقال الثاث " عي صامت خير من عي ناطق ". وقال بعض أشياخنا (4) : كان ربيعة الرأي (5) مكثاراً فسمعه أعرابي يوماً يتكلم، فلما كان عند انقضاء مجلسه، سأله رجل: ما تعدون العي بالبادية؟ فقال الأعرابي: ما هذا فيه منذ اليوم، يعني إكثاراً ربيعة>. ع: كان حكم هذا المثل (6) على تفسيره هذا أن يضعه في الباب الذي يقبل هذا وهو " باب حفظ اللسان لما يخاف على أهله من عقوبات الدنيا " لأن هذا المكثر يصيبه في إكثاره ما يكره، كما أن المحتطب ليلاً ربما أصابه من هذه الهوام حمامه أو ألم. وقال الفرزدق فبين معناه (7) : وإن امرءاً يغتابني لم أطا له ... حريماً ولا تنهاه عني أقاربه كمحتطب ليلاً أساود هضبة ... أتاه بها في ظلمة الليل حاطبه
وإنما يصلح وضع هذا المثل في الباب الذي أدخله فيه على تفسير آخر لم يذكره أبو عبيد، وهو أن المحتطب ليلاً يجمع بين شخت الحطب وجزله ويابسه ورطبه لا يختار، لظلام الليل، وكذلك هذا المكثر يجمع بين غث الكلام وسمينه، وجيده ورديئه، فأما قولهم: أيا موقداً ناراً لغيرك ضوءها ... ويا حاطباً في حبل غير تحطب فإن معناه أن حاطب الليل أيضاً يضع حبله ويحتطب ويأتي بما يجتمع له، ليضعه على الحبل، فربما وضعه على غير الحبل لظلام الليل، فإذا رأى أنه قد اكتفى، عمد إلى طرفي الحبل ليشده على الحطب فلم يجد فيه شيئاً أو وجد فيه بعض ما احتطب، فيأتي غيره نهاراً فيجد حطبه مجموعاً، فكأن احتطابه إنما كان في حبل ذلك الواجد لحطبه. قال أبو عبيد: ويروى في الحديث عن لقمان أنه قال: " الصمت حكم وقليل فاعله ". ع: روي أن داود عليه السلام كان يسرد درعاً ولقمان عنده فقال: ما هذا يا نبي الله؟ فسكت عنه حتى إذا فرغ داود من سردها لبسها فعند ذلك قال لقمان " الصمت حكم وقليل فاعله "، والسرد: سمر حلق الدرع، قال الله تعالى {وقدر في السرد} (سبأ: 11) أي لا تجعل المسمار دقيقاً فيقلق (1) ، ولا غليظاً فيقصم الحلقة. قال أبو عبيد: وقال علقمة بن علاثة الجعفري (2) وكان من حكماء العرب:
أول العي الاختلاط وأسوأ القول الإفراط ". ع: الاختلاط: التخليط في الكلام والإكثار من النطق، وكان أبو علي إسماعيل بن القاسم يقول (1) : أول العي الحتلاط بالحاء مهملة، وهو الغضب يقول: إن العيي بالمنطق لعجزه عن الكلام والعبارة عما في نفسه يرجع إلى الغضب والضجر، برماً بخصمه، والاحتلاط أيضاً: الاجتهاد؛ احتلط الرجل وأحلط إذا اجتهد في الشيء وجد؛ قال عمرو بن أحمر (2) : فألقى التهامي منهما بلطاته ... (3) وأحلط هذا لا أريم مكانيا أي جد واجتهد في يمينه ألا يريم مكانه، وكنا وهم كابني سباتٍ تفرقا ... سوى ثم كانا منجداً وتهاميا> (4) 4 - باب القصد في المدح وما يؤمر به من ذلك قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " من حفنا أو رفنا فليقتصد " (5) . ع: معنى الرفيف هنا النضارة، وهو معنى الإطراء في المديح، يقال: رف البيت يرف رفيفاً مثل ورف يرف وريفاً، ويقال: فلان يحف ويحف بفلان إذا
طاف به وألطفه وهو به حف وحفي، والحفان: الخدم، وقيل معنى من حفنا في هذا المثل (1) أي سمع له حفيفاً بالثناء (2) . وقال الأصمعي (3) : ومن أمثالهم " هو يحف له ويرف " أي يقوم له ويقعد، وينصح ويشفق، وأصل هذا المثل على ما ذكر ابن الأعرابي أن أعرابياً خرج فرأى نعامةً غصت بصعرور (4) - وهي الصمغة الجليلة؟ فثبتت قائمةً، فعدا إلى الحيّ ليجيء بشيء يشده في عنقها وهو يقول: من حفنا أو رفنا فليترك، وأخذ خمار أمة وأتى النعامة وهي قد أساغت الصمغة، وذهبت. فمعنى رفنا على هذا أنالنا وأعطانا. يقال: رففت الرجل أرفه: إذا أسديت إليه يداً. وقال ابن الأعرابي عن العقيلي: حفه إذا أطعمه قثدر الشبع ليس فيه فضل وهو الحفف في الطعام. وأنشد عمرو عن أبيه: أوفت له كيلاً سريع الإغدام (5) ... فيه غنىً عن حففٍ وإعدام في سنوات كن قبل الإسلام ... كانت ولا يبعد إلا الأصنام قال أبو عبيد: ومنه حديث مرفوع أن رجلاً جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: أنت أفضل قريش قولاً وأعظمها طولاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان. ع: معنى قوله عليه السلام لا يستجرينكم: لا يتخذنكم إجرياً أي وكلاء
على النطق بما لا يحسن، يقال: جريت جرياً؟ غير مهموز؟ أي اتخذت وكيلاً. قال الشاعر (1) : ولما أتى شهر وعشر لعيرها ... وقالوا تجيء الآن قد حان حينها أمرت من الكتان خيطاً وأرسلت ... جرياً إلى أخرى سواها تعينها فما زال يجري السلك في حر وجهها ... (2) وجبهتها حتى نفته قرونها قال أبو عبيد: وروينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلاً أثنى عليه في وجهه فقال له علي: أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك. ع: هذا الرجل هو الأشعث بن قيس بن معد يكرب. قال أبو عبيد: وكان المرؤخ العجلي (3) يقول: من أمثالهم في إفراط المادح أن يقولوا: " شاكه أبا فلان " قال: وأصل هذا أن رجلاً كان يعرض فرساً له، فقال له رجل: أهذه فرسك التي كنت تصيد عليها الوحش؟ فقال له رب الفرس: شاكه؟ أي قارب؟ في المدح، والمشاكه للشيء هو الذي يشبهه أو يدنو من شبهه. ع: المؤرخ هذا شاعر، وكنيته أبو الفيد، والفيد شعر الزعفران، والفيد
أيضاً الشعر الذي على الجحفلة، والفيد أيضاً الهلاك مصدر فاد يفيد فيداً، والفيد أيضاً أن يتبخر في مشيه من الخيلاء. قال حزرة الوالبي: يفيد في الجري إذا ما أعنقا ... فيد رئالٍ تستثير الصيقا والصيق: جمع صيق وهو التراب. وأسقط أبو عبيد من تفسير المثل ما يتم به معناه، قال عمرو بن أبي عمرو عن أبيه: أقام أعرابي فرساً يبيعها، وقال لصاحبه: امده (1) فرسي، فقال: إنها ليصاد عليها الوحش وهي رابضة. فقال له صاحب الفرس: لا أبا لك، اكذب كذباً مؤاماً به الدهر، والمؤام: الموافق المقارب، أي موافقاً به الدهر وأحواله، وما عسى أن يجوز فيه من الأفعال والأحوال. قال أبو جعفر في كتاب الاشتقاق: المؤام: المقارب، أخذ من الأمم وهو القرب، ومعنى شاكه: وافق، يقال: شاكهني الشيء شكاهاً ومشاكهة، أي وافقني، وتشاكه (2) الشيئان أيضاً إذا تشابها. وقال أبو عبيد: المشاكه للشيء هو الذي يشبه أو يدنو من شبهه، والصحيح ما فسرته به. قال أبو عبيد: والعامة تقول في مثل هذا المثل " دون هذا وينفق الحمار " وكلام العرب هو الأول. ع: قال أبو بكر (3) : أخبرنا أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه قال:
شهدت أبا محمد ابن بكار العامري الأعرابي في مجلس يزيد بن طلحة وكتاب الأمثال يقرأ عليه، فلما أتى هذا المثل قال ابن بكار: إنما كان بصدد فتى (1) يكنى أبا يسار، فأدخل رجل السوق حماراً فجعل أبو يسار يقول: إن حافره جلمد (2) وإن ظهره حديد، فقال له صاحب الحمار: " شاكه أبا يسار، دون ذا وينفق الحمار " (3) . 5 - باب الرجل يعرف بالكذب حتى يرد (4) صدقه لذلك قال أبو عبيد: من هذا قولهم: " إذا سمعت بسرى القين فإنه مصبح " وفسر معناه،. وأنشد في بعض الروايات (5) شاهداً على ذلك لنهشل بن حري الدارمي (6) :
وعهد الغانيات كعهد قينٍ ... ونت عنه الجعائل مستذاق (1) فما يقبل منه.> ع: وبعد البيت: كجلب (2) السوء يعجب من رآه ... ولا يسقي الحوائم من لماق الجعائل: جمع جعالة، وهو ما يجعل للعامل على العمل، والمستذاق: المتنقل الذي لا يقر بموضع، مستفعل من الذوق، يذاق حيثما حل. وقال الباهلي: مستذاق أي إذا أتى قوماً أصلح لهم عمله يذوقوه، ثم يفسده بعد ذلك. والجلب: السحاب الذي لا ماء فيه: قال الشاعر (3) : ولست بجلبٍ جلب ريحٍ وقرة ... ولا بصفا صلدٍ عن الخير معزل (4) يقول: لا يسقي ولا يروى الحوائم وهي العطاش التي تحوم حول الماء. ويقال: ما ذقت لماقاً، أي ما ذقت شيئاً، فمعناه ولا يسقي الحوائم من شيء من الغلة.
6 - باب الانتفاع بالصدق والمخافة من عاقبة الكذب قال أبو عبيد: من امثالهم فيما يخاف من مغبة الكذب، قولهم " ليس لمكذوبٍ رأي " وكان المفضل فيما بلغني عنه، يحدث أن صاحب هذا المثل (1) هو العنبر بن عمرو بن تميم بن مر قاله لابنته الهيجمانة. وذلك أن عبد شمس ابن سعد بن زيد مناة بن تميم كان يزورها، فنهاه قومها عن ذلك، فأبى حتى وقعت الحرب بين قومه وقومها، فأغار عليهم عبد شمس في جيشه، فعلمت به الهيجمانة، فأخبرت أباها، وقد كانوا يعرفون إعجاب الهيجمانة به كإعجابه بها. فلما قالت هذه المقالة لأبيها، قال مازن بن عبد الملك بن عمرو بن تميم " حنت فلا تهنت وأنى لك مقروع "؟ وهو عبد شمس بن سعد، كان يلقب به؟ فقال لها أبوها عند ذلك: أي بنية اصدقيني، أكذلك هو؟ فإنه لا رأي لمكذوب، فقالت: ثكلتك إن لم أكن صدقتك فانج ولا إخالك ناجياً " فذهبت كلمته وكلمتها وكلمة مازن أمثالاً. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم فيما يخاف من غب الكذب قولهم: " لا يكذب الرائد أهله " وهو الذي يقدمونه ليرتاد لهم كلأ أو منزلاً أو موضع حرز يلجأون إليه من عدو يطلبهم، فإن كذبهم أو غرهم صار تدبيرهم على خلاف الصواب، فكانت فيه هلكتهم. قال أبو عبيد: ومثل العامة في هذا قولهم " الكذب داء والصدق شفاء " وذلك أن المصدوق يعمل على تقدير يكون فيه مصيباً، وأن المكذوب على ضد ذلك>.
ع: هكذا روي الاسم عن أبي عبيد بلا اختلاف؟ عبد شمس بن سعد (1) - وأهل العلم بالنسب يجمعون على أنه عب شمس مخفف من لفظين، اختلفوا فيهما. فأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة يقولان: هو عب شمس قالا: وعب شمس: ضوءها. وقال ابن الأعرابي: هو عبء شمس؟ أي عدلها ونظيرها، وعبء الشيء مثله ونظيره، قالوا: والعب أيضاً البرد - بتشديد الباء؟ قال الشاعر (2) : وكأن فاهاً عب قر بارد ... أو ريح روضٍ مسه تنضاح رك وقد رواه بعضهم: وكأن فاها حب قر، يعني البرد، كما يقال له حب المزن، والمبرد يقول العبقر: البرد، اسم واحد، هكذا ذكره في أبنية الأسماء. ورأيت بخط ابن قتيبة في كتاب جماهير العرب لأبي حاتم اسم هذا التميمي المختلف فيه عبشمس بن سعد؟ هكذا ضبطه بتشديد الباء على أصله غير مخفف، كما ذكر أبو عمرو وأبو عبيدة. وقال قطرب في عبد شمس من قريش: ويقال عب شمس بالتخفيف. قال: والعب مثل الدم: ضوء الشمس وحسنها، يقال: ما أحسن عبها أي ضوءها. قال: ومن ثقل الشين قال: هذه عبشمس ورأيت عبشمس ومررت بعبشمس، وإن شئت صرفت شمس لأنه يريد عبد شمس فأدغم. قال: ومن العرب من يقول: هذه عبشمس، فيفتح الباء والشين في كل موضع، ويخفف الشين، وهي شائعة في قريش غير مدغمة. قال: ومن العرب من يقول: هذه عبشمس ومررت بعبشمس ورأيت عبشمس، فيتبع كما قالوا: هذه بلحارث ومررت ببلحارث ورأيت بلحارث، قال الشاعر (3) : إذا ما رأت حرباً عبشمس شمرت ... إلى رملها، والجلهمي عميدها ويروى: والجرهمي عميدها.
وسمي مقروعاً لأن القريع والمقروع: المختار، في كلام العرب. وأبوه سعد ابن زيد مناة بن تميم هو الذي يلقب بالفزر وهو من قولهم فزرت الشيء إذا صدعته، والقطعة منه فزرة، ورجل أفزر مطمئن الظهر، وهو الذي أتى بمعزاه سوق عكاظ لما أبى بنوه أن يرعوها فقال: ألا إن معزى الفزر نهب، جدع الله أنف رجل أخذ أكثر من شاة، فتفرقت في العرب، فصارت مثلاً لما لا يدرك. قال الشاعر (1) : ومرة ليسوا ناصريك ولا ترى ... لهم وافداً حتى ترى غنم الفزر وقيل إنما سمي الفزر لنهبه لمعزاه وتبديدها في العرب. والهيجمانة: الدرة بالفارسية، وكانت الفارسية ودين الفرس فاشياً في بني تميم، ولذلك سمي لقيط أيضاً ابنته دختنوس. وقول مازن: حنت ولا تهنت، أراد أن غرضها إنما كان ليجري اسمه على لسانها حنيناً إليه لا نصحاً لأبيها وتحذيراً، ولا تهنت على الدعاء أي لا هنأها الله ذلك، أراد لا تهنؤه فخفف الهمزة فالتقى ساكنان فحذف. ويحتمل أن يريد ولا هنا أي ليس أوان ذلك ولا حينه، كما قال الأعشى (2) : لات هنا ذكرى جبيرة أم من (3) ... جاء منها بطائف الأهوال أي ليس حين ذكرها، يأساً منها. وكما قال الراعي (4) : أفي أثر الأظعان عينك تطمح ... نعم لات هنا إن قلبك متيح وكما قال حجل بن نضلة الباهلي في نوار بنت كلثوم (5) ، وأصابها يوم طلح،
فركب بها الفلاة خوفاً من أن يلحق (1) : حنت نوار ولات هنا حنت ... (2) وبدا الذي كانت نوار أجنت لما رأت ماء السلى (3) مشروباً ... والفرث بعصر في الإناء أرنت (4) وألحقت التاء بهنا لتأنيث الكلمة كما يقال: رب وربت وثم وثمت. وقال أبو علي الفارسي: التاء تبدل منت الألف للسجع وعند الوقف وأنشد (5) : من بعد ما وبعد ما وبعد مت ... صارت نفوس الناس عند الغلصمت 7 - باب تصديق الرجل صاحبه عند إخباره إياه قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ومن أمثالهم في هذا " صدقني سن بكره " وأصله أن رجلاً ساوم (6) رجلاً ببكر أراد شراءه، فسأل البائع عن سنه فأخبره بالحق. فقال المشترى: صدقني سن بكره، فذهبت كلمته مثلاً.
وقد روي هذا المثل عن الأحنف بن قيس أيضاً أنه خرج من عند معاوية وهو يقول: صدقني سن بكره (1) ، وذلك لكلام كان معاوية كلمه به.> ع: روى الخليل وابن الأعرابي وغيرهما أن رجلاً ساوم رجلاً ببكر على أن يشتريه مسناً فقال البائع: هذا جمل؟ لبكر له؟ وقال المشتري: هذا بكر، فقال البائع: بل هو مسن. فبينما هما يتنازعان إذ نفر البكر، فقال صاحبه يسكن نفاره: هَدع هدع. فقال المشتري: صدقني سن بكره، وهدع كلمة للعرب تسكن بها صغار الإبل عند نفارها، ولا يقال ذلك لجلتها ولا مسانها. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في التصديق قولهم: " القول ما قالت حذام ". قال: وسمعت غير أبي عبيدة يقول وأحسبه ابن الكلبي إن هذا المثل للجيم ابن صعب والد حنيفة وعجل؟ ابني لجيم؟ وكانت حذام امرأته، وقال فيها زوجها لجيم: إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام (2) فقد صدق " فسمى بذلك الصديق ".> ع: حذام: أم عجل بن لجيم، وأن حنيفة البرشاء، سميت حذام لأن ضرتها البرشاء حذمت يديها بشفرة، وصبت حذام عليها جمراً فبرشت فسميت
البرشاء. ويقال: ما أدري من أي البرشاء هو (1) . والبرشاء: اسم لجميع البشر لاختلاف ألوانهم. قال ابن كرشم الكلبي: حذام هي بنت الريان بن جسر بن تميم بن يقدم بن عنزة وهي أم عجل بن لجيم، وكان عاطس بن جلاح الحميري (2) قد سار إلى الريان في جموع من العرب (3) : خثعم وجعفي وهمدان، فلقيهم الريان في عشرين حياً من أحياء ربيعة ومضر، فاقتتلوا وصبروا لا يولي أحد منهم دبره، ثم إن القيل الحميري رجع إلى معسكره، وهرب الريان تحت ليلته، فسار ليلته وفي الغد، ونزل الليلة الثانية، فلما أصبح عاطس الحميري ورأى خلاء معسكرهم أتبعهم جملةً من حماة رجاله وأهل الغناء منهم، فجدوا في اتباعهم، فانتبه القطا في اسرائهم من وقع دوابهم، فمرت على الريان وأصحابه عرفاً عرفاً، فخرجت حذام بنت الريان إلى قومها فقال: ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا ليلاً لناما فقال ديسم بن ظالم الأعصري: إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام فارتحلوا حتى اعتصموا بالجبل، ويئس منهم أصحاب عاطس فرجعوا عنهم. 6 - باب الرجل يعرف بالكذب تكون منه الصدقة الواحدة أحياناً
الهنة من الاحسان.> قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة: ومثله قولهم " مع الخواطي سهم صائب " ع: الخواطئ جمع خاطئة من خطيء، والفصيح هنا أخطأ لأن قولنا خطيء إنما هو في الدين وما أشبهه. وقد قيل إنهما لغتان، وصاب وأصاب لغتان، قال جميل (1) : وما صائب من نابل قذفت به ... يد وممر العقدتين وثيق 9 - باب الرجل يعرف بالاصابة (2) والصدق تكون منه الزلة والسقطة قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا قولهم " لا تعدم الحسناء ذاماً " (3) .
ومثله قول أبي الدرداء الأنصاري " من لك يوماً بأخيك كله " (1) وكذلك قولهم " أي الرجال المهذب "؟ ومنه قول النابغة الذبياني (2) : ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعثٍ، أي الرجال المهذب؟ قال أبو عبيد: معاني هذه الأمثال كلها أنه ليس أحد يخلو من عيب يكون فيه، فإذا كان الغالب على الرجل الإحسان اغتفرت سقطته، ومنه الحديث....> ع: أول من نطق بهذا المثل حبي بنت مالك بن عمرو العدوانية، وكانت جميلة، خطبها بعض ملوك غسان إلى أبيها وحكمه في مهرها، فأنكحه إياها، فلما أراد حملها قالت أمها لنسوتها: إن لها عند الملامسة رشحة لها قنمة (3) فإذا أردتن إدخالهات على زوجها فامسحن أعطافها بما في أصدافها، فلما أردن ذلك أعجلهن زوجها عن تطييبها، فافتضها فوجد لها رويحة. فلما أصبح قال له أصحابه: كيف وجدت طروقتك؟ (4) فقال: لم أر كالليلة (5) ، لولا رويحة أنكرتها، فسمعت قوله من خلف الستر فقالت: " لن تعدم الحسناء ذاماً " فأرسلتها مثلاً. وقال الشاعر في معنى هذا المثل ولفظه (6) :
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالناس أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغياً إنه لدميم قال الفراء: والذأم: الذم، يقال ذأمت الرجل أذأمه ذأماً، وذممته أذمه ذماً، وذمته أذيمه ذيماً فهو رجل مذؤوم ومذموم ومذيم بمعنى، قال الله تعالى: {أخرج منها مذؤوماً مدحوراً} (الأعراف: 18) ، وقال حسان (1) : وأقاموا حتى أبيدوا بجمعٍ ... في مقامٍ وكلهم مذؤوم وأنشد أبو عبيدة (2) : تبعتك إذ عيني عليها غشاوةٌ ... فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها قال: وذأمت أشد مبالغة من ذممت. قال أبو عبيد: ومنه (3) الحديث المرفوع: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم " وكذلك مقالة أبي عبيدة بن الجراح لعمر: ما سمعت منك فهةً في الإسلام قبلها، وكان عمر قال له: ابسط يدك أبايعك. ع: يقال فه الرجل يفه فهماً وفهة وفهاهة فهو: فه وفهيه وهو العيي، وأفهمني فلان عن الأمر: نسانيه، قال أبو قيس بن الأسلت (4) :
الحزم والقوة خير من ال؟ ... إشفاق والفهة والهاع؟ - باب إصابة الرجل في منطقة مرة وإخطائه مرة قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ومن أمثالهم في هذا (1) في الأرض. يضرب للرجل يخطئ مرة ويصيب. قال الأصمعي: ومثله قولهم> " هو يشوب ويروب ". ع: إنما قال الأصمعي في الأمثال: هو يشوب ولا يروب. وهو صحيح، معناه يخلط ولا يخلص، لأن الشوب: الحلط ومزج اللبن بالماء، والروب مصدر راب اللبن يروب روباً إذا خثر، وإذا خلص خثر وإلا فلا. وما ذكره أبو عبيد صحيح على ما عقد عليه الباب، معناه يشوب ويمذق مرة، ويأتي بالصريح الخالص مرة. ويقال: شوب من الناس وأوشاب وأوباش: أخلاط بمعنى، وهم الأشابة أيضاً، قال الشاعر (2) :
سجراء نفسي غير جمع أشابة ... حشداً ولا هلك المفارش عزل ويقال أيضاً بوش من الناس كما يقال شوب. وقال يونس: لا يقال شوب إلا أن يكونوا من قبائل شتى. قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم " يشج مرةً ويأسو أخرى (1) " أي ييفسد أحياناً ويصلح أحياناً. ع: قد نظمه الشاعر وهو صالح بن عبد القدوس (2) : قل للذي لست أدري من تلونه ... أناصح أم على غش يداجيني إني لأكثر مما سمتني عجباً ... يد تشج وأخرى منك تأسوني لو كنت أعلم منك الود هان له ... عليّ بعض الذي أصبحت توليني لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ... وما في ضميري لهم من ذاك يكفيني أرضى عن المرء ما أصفى مودته ... وليس شيء من البغضاء يرضيني لا أبتغي ود من يبغي مقاطعتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني قال أبو عبيد: قال الأحمر: يقال في نحو هذا (3) " اطرقي وميشي " وأصله خلط الشعر بالصوف. يقول: فكذلك هذا يخلط في كلامه بين صواب وخطأ. قال رؤبة العجاج (4) :
عاذل قد أولعت بالترقيش ... إليّ سرا فاطرقي وميشي ع: الميش: الخلط، يقال: مشت الشيء أميشه ميشاً إذا خلطته مثل الوبر والصوف، والطرق: هو ضربه بالمطرقة، وهي العصا التي يطرق (1) بها الصوف أي ينفض لينتفش ويتداخل. وذكر الحربي (2) أن رجلاً ذكر قوماً من أهل اللغة قال: أولئك طرقوا الكلام وماشوه، فأراد بهذه المقالة أنهم جمعوا مبدده (3) ، وخلطوا بين أنواعه ن نثر ونظم وجد وهزل. وهذا الأحمر الذي ذكر أبو عبيد: هو عليّ بن المبارك (4) وليس بأبي محرز خلف الأحمر. باب سوء المسألة والإجابة في المنطق قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في المجيب على غير فهم: " أساء سمعاً فأساء جابة ". قال أبو عبيد: هكذا تحكى هذه الكلمة؟ جابة؟ بغير ألف، وذلك لأنه اسم
موضوع، يقال: أجابني فلان جابة حسنة، فإذا أرادوا المصدر قالوا: أجاب إجابة بالألف. (1) : أين أمك؟ ؟ يريد أين تؤم؟ فظنه يقول: أين أمك، فقال: ذهبت لتشتري دقيقاً، فقال سهيل " أساء سمعاً فأساء جابة " فأرسلها مثلاً. فلما انصرف إلى زوجته أخبرها بما قال ابنها فقالت: أنت بتغضه، فقال: " أشبه امرؤ بعض بزه " فأرسلها مثلاً أيضاً (2) .> ع: قال أبو عمر المطرز (3) : ناديت فلاناً فأجابني: إجابة وجواباً وجابة وجيبة وجيبي، فالجابة اسم للجواب كالطاعة والطاقة فإن أردت المصادر قلت: إجابة وإطاعة وأطاقة، قال الشاعر (4) : وما من تهتفين (5) به للينصرٍ ... بأسرع جابةً لك كن هديل (6) وقال أبو العتاهية فنظم هذا المثل: (7) إذا ما لم يكن لك حسن فهمٍ ... أسأت إجابةً وأسأت سمعا
ولست الدهر متسعاً لفضلٍ ... إذا ما ضقت بالإنصاف ذرعا وقد ذكر الزبير فيما ثبت عنه في الكتاب أن المثل لسهيل بن عمرو، وذكر خبره. قال ابن دستويه: أصل الجابة من قولهم جاب البلاد يجوب إذا قطعها طوافاً، لأن الجواب هو ما يرجع من المجيب إلى السائل ومنه جوائب الأخبار وقولهم: هل من جائبة خبر، وهي الواحدة من الجوائب التي تؤوب وترجع. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في سوء المسألة إذا عجل بها قبل أوانها: " إليك يساق الحديث " وذكر الزبير حديثه (1) . ع: نظم بشار هذا المثل بمعناه واستوفى فحواه ونحواه فقال (2) : ومرت فقلت متى نلتقي ... فهش اشتياقاً إليها الخبيث وكاد يمزق سرباله ... فقلت إليك يساق الحديث قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في سوء السمع والإجابة: " حدث حدثين امرأةً فإن لم تفهم (3) فأربعة: ع: قد ذكر الزبير بن بكار خبره على ما ذكر عنه في الكتاب وفي آخره:
" حدث حديثين المرأة فإن أبت فعشرة "، إلا أن الذي روي فيه في غير هذا الكتاب " حدث حديثين المرة فإن أبت فعشرة ". يقال امرأة ومرأة ومراة ومرة أربع لغات. وذكر المفضل بن سلمة (1) فيه رواية ثالثة قال: " حدث امرأة (2) حديثين فإن أبت فاربع " وكذلك ذكره الخطابي. فاربع: أي قف وأمسك عن قولك. يقال: ربع الجرل يريع ربعاً إذا وقف. وربع بالمكان إذا أقام به وربع أيضاً إذا كف وأمسك، وهذه معان متقاربة، في قوله فاربع، يقول: إذا كررت الحديث فلم يفهم عنك فأسمك، ولا تتعب نفسك، فانه لا مطمع في إفهامها. وهذه رواية جلية المعنى، صحيحة الظاهر والمغزى. ورواية أبي عبيد تصح على حذف: يريد حدث حديثين المرأة فإن لم تفهم فأربعة لا تفهمها، وعلى الرواية الثانية: فعشرة لا تفهمها والأمثال مبنية على الإيجاز والاختصار، والحذف والاقتصار. 12 - باب الرجل يطيل الصمت ثمن ينطق بالزلل قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " سكت ألفاً ونطق خلفاً " ع: روى الأصمعي وغيره أن رجلاً من العرب جلس مع قوم فحبق فأشار بإبهامه إلى استه وقال: إنها خلف نطقت خلفا. فالخلف الرديء
من القول، والخلف: الرديء الساقط من الناس وغيرهم. وأنشد أبو عبيد شاهداً على هذا المثل قول الهيثم بن الأسود النخعي: وكائن ترى من صامتٍ لك معجبٍ ... زيادته أو نقصه في التكلم وذكر خبر عن الأحنف الذي كان يطيل الصمت وهذا البيت للهيثم بن الأسود (1) النخعي، وقيل للأعور الشني، وقبله: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم وقالوا: ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة. وقال الشاعر: المرء يعجبني وما كلمته ... (2) ويقال لي هذا اللبيب اللهذم فإذا قدحت زناده وسبرته ... في الكف زاف كما يزيف الدرهم وقال آخر (3) : ترى الناس (4) أشباهاً إذا جلسوا معاً ... وفي الناس زيف مثل زيف الدراهم وقال عدي بن الرقاع (5) : القوم أشباه وبين حلومهم ... بون كذاك تفاضل الأشياء
13 - باب الرجل يعرف بالصدق ثم يحتاج إلى الكذب قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " عند النوى يكذبك الصادق " ثم ذكر عن المفضل (1) حديث المثل بطوله (2) . قال: لأحملنك على الأدهم. قال: مثل الأمير حمل على الأدهم والكميت والأشقر. قال: إنه حديد، قال: لأن يكون حديداً خير من أن يكون بليداً> وفيه: فسقاه لبناً حليباً كان في سقاء حازر. ع: يقال حزر اللبن والنبيذ إذا اشتدت حمضته فهو حازر. قالالراجز، وهو العجاج (3) :
يا عمر بن معمرٍ لا منتظر ... بعد الذي عدا القروص فحزر فأخبرك انه تعدى القروصة إلى الحموضة. وفي الحديث: فسقوني لبناً لا محضاً ولا حقيناً، الحقين من اللبن: المحقون في الوطب. قال اللغويون: حقنت اللبان إذا صببت لبناً حليباً (1) في سقاء وقد كان فيه رائب فأخذ بعض طعمه، ومن أمثالهم " أبى الحقين العذرة " يقول بطل العذر مع حضور اللبن. وكل شيء جمعته من لبن أو شراب ثم شددته فقد حقنته، وبه سمي حابس البول حاقناً، فأما حابس الغائط فهو حاقب بالباء. قال الزبير: ومما يشبه هذا حديث أخبرني به محمد بن الضحاك عن أبيه قال: كان الحجاج قد حبس الغضبان بن القبعثري فدعا به يوماً وقال: زعموا أنه لم يكذب قط وليكذبن اليوم فقال له لما أتى به: سمنت يا غضبان، قال: القيد والرتعة والخفض والدعة وقلة التعتعة، ومن يك ضيف الأمير يسمن، قال: أتحبني يا غضبان قال: أو فرق خير من حبين ... إلى آخر الحديث. ع: أول من قال: " القيد والرتعة "، عمرو بن الصعق بن خويلد بن نفيل ابن عمرو بن كلاب، وكانت شاكر؟ قبيلة من همدان؟ أسرته، فأحسنت إليه، ورفهت عنه، وكان يوم فارق أهله نحيفاً، فهرب من شاكر، وصاد في طريقه أرنباً فشواها (2) ، فبينما هو يأكل منها أقبل ذئب فأقعى غير بعيد منه، فنبذ إليه من شوائه فولى عنه، فقال عمرو (3) : لقد أوعدتني شاكر فخشيتها ... ومن شعب ذي همدان في الصدر هاجس قبائل شتى ألف الله بينها ... (4) لها حجف فوق المناكب يابس
ونارٍ بموماةٍ قليل أنيسها ... أتاني عليها أطلس اللون يابس نبذت إليه حزةً من شوائنا ... حياءً وما فحشي على من أجالس فولى بها جذلان ينفض رأسه ... كما آض (1) بالنهب المغير المخالس فلما وصل إلى قومه قالوا: أي عمرو، خرجت من عندنا نحيفاً وأنت اليوم بادن، قال: القيد والرتعة، فأرسلها مثلاً. قال المفضل: الرتعة: الخصب، ومن ذلك قولهم هو يرتع في كذا، أي في شيء كثير لا يمنع منه ولا يثني عنه. وقال يحيى بن زياد: هو مثل تضربه العرب (2) للخصب، تقول: فلان يرتع، أي أنه في خصب لا يعدم شيئاً. ورتعت الماشية في المرعى رتوعاً: إذا جاءت وذهبت كيف شاءت. وفي التنزيل: {يرتع ويلعب} (يوسف: 12) قال أبو عبيد (3) : يرتع أي يلهو أو يلعب. وأما قوله: أتحبني يا غضبان؟ فإنما أراد الحجاج أن يكذبه لو قال أحبك، أبو يعاقبه لو أنكر ذلك. فحاد عن الجوابين وقال: أو فرق خير من حبين، فإنما أراد أمري حب أو فرق خير من حبين، فأتى بحرف الشك الذي لا يخلص بين أحد المعنيين وهو " أو ". ومن قرأه أو فرق على أن الهمزة للاستفهام فقد أخل وأحال، وإنما أراد الغضبان أن هيبته له وفرقه منه أنبل وأرفع من محبته إياه مرات لا مرتين. ويروى أو فرقاً خيراً (4) من حبين بالنصب لأنه لما استفهمه بالفعل اجابه به، وأضمره لما جرى من ذكره، وأقام المصدر مقامه، أراد أحبك أو أفرقك فرقاً خيراً من حبين، وقد ذكر ذلك سيبويه. وهذا (5) في المعنى كما تقول العرب: خشية
خير من ملء واد حباً، وكما تقول: " رهبوتي خير من رحموتي " (1) أي أن ترهب خير (2) من أن تحب وترحم. 14 - باب حفظ اللسان في كتمان السر وترك النطق به قال أبو عبيد: ومنه قول أكثم بن صيفي: " لا تفش سرك إلى أمة ولا تبل على أكمة " (3) : وقد أجود وما مالي بذي فنع ... وأكتم السر فيه ضربة العنق (4) > ع: وقد أحال أبو عبيد لفظ هذا المثل بعد هذا فقال في باب الدعابة والمزاح: " لا تفاكه أمة ولا تبل على أكمة " والنهي عن البول على الأكمة معناه لئلا يرجع بوله
عليه لانصبابها، فإن بال في أعلاها ردت الريح بوله عليه أو نضحته ببوله إن استدبرها، لاشتداد هبوبها في نشوز الأرض على أكثر المعهود، وأيضاً فإن البائل والمتغوط ينبغي ان يرتاد الوهاد وما ستر من غوامض الأرض، وهذا ضد الإشراف على الآكام. ونقل أبو علي (1) قال: كان رجل من بني أبي بكر بن كلاب يعلم بني أخيه العلم فيقول: افعلوا كذا وافعلوا كذا. فثقل عليهم، فقال بعضهم: قد علمتنا كل شيء، ما بقي علينا إلا الفعالة، لا يكني، فقال: والله يا بني ما تركت ذلك من هوان بكم علي، اعلوا الضراء وابتغوا الخلاء، واستدبروا الريح وخووا تخوية الظليم، وامشتوا بأشملكم. قال ابن الأعرابي: الضراء: ما انخفض من الأرض، وقال غيره: هو ما واراك من الشجر خاصة. فتراه قد وصاهم أن يأتوا ما انخفض من الأرض وأن يبتغوا مع ذلك الخلاء، ويقال: خوى الظليم إذا جافى بين رجليه، وقوله امتشوا: يريد امتسحوا واستنجوا بأشمل أيديكم، ولذلك سمي المنديل المشوش، قال امرؤ القيس (2) : نمش بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب (3) قال أبو عبيد: وقال قيس بن الخطيم الأنصاري (4) : إذا جاوز الإثنين سر فإنه ... بنث وتكثير الحديث قمين
ع: يقال: قمين وقمن أي خليق بذلك وجدير، ويثنى قمين وقمن ويجمعان، ويقال: قمن بفتح الميم ولا يثنى ولا يجمع، وبعد هذا البيت: وإن ضيع الإخوان سرا فإنني ... (1) كتوم لأسرار العشير أمين،احسن ما ورد في كتمان السر قول مسكين الدارمي (2) : وفتيان صدق لست مطلع بعضهم ... على سر بعض كان عندي جماعها يروحون مثنى في البلاد وسرهم ... إلى صخرة أعيى الرجال انصداعها وأمذل الناس بسر، القائل (3) : لا أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي وإن أضل الناس من بات ليله ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب وأحسن في الكتمان الآخر (4) : سأكتمه سري وأكتم سره ... ولا غرني أني عليه كريم حليم فينسى أو جهول يشيعه ... وما الناس إلا جاهل وحليم ومن أمثالهم في هذا: " سرك أسيرك فإن نطقت به فأنت أسيره "
أسيرك سرك إن صنته ... وأنت أسير له إن ظهر> قال أبو عبيد: وقال رجل من سلف العلماء: كان يقال " أملك الناس لنفسه من كتم سره من صديقه وخليله ". قال أبو عبيد: أحسب ذلك للنظر في العاقبة لئلا يتغير الذي بينهما يوماً ما فيفشي سره. (1) : أحذر عدوك مرة ... وأحذر صديقك ألف مره فلربما انقلب الصدي ... ق فكان أخبر بالمضره قال أبو عبيد: ومن أمثالهم " سرك من دمك " يقول: ربما أفشيته فيكون سبب حتفك.> ع: هذا الذي هو عند أبي عبيد حسبان هو يقين، وهو الذي عنى هذا الرجل المذكور، وقد نظمه الشاعر وبينه فقال (2) : إحذر مودة ماذق ... شاب المرارة بالحوه يحصي العيوب عليك أي ... أم الصداقة للعداوه وقال آخر (3) :
إن الكريم الذي تبقى مودته ... ويحفظ السر إن صافى وإن صرما ليس الكريم الذي إن زل صاحبه ... بث الذي كان من أسراره علما 15؟ باب إعلان السر وإبدائه [بعد كتمانه] قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا " صرح الحق عن محضه " أي انكشف بعد ستره (1) . ع: جميع العلماء إنما أوردوا هذا المثل " صرح الحقين عن محضه "، وقد تقدم آنفاً ذكر احقين وتفسيره (2) ، ومحضه: خالصه. قال أبو عبيد: ومثله قولهم " أبدى الصريح عن الرغوة " ع: ظاهر هذا اللفظ في هذا المثل انه مقلوب، والرغوة تبدي عن الصريح
أي تتكشف عنه لأنها فوقه، ولا يجوز أن ينكشف الصريح عن الرغوة، والرغوة تعلوه. ومعنى المثل: أبدى الصريح خلوصه أو صفحته عن الرغوة، والمفعول محذوف لأن أبدى لا بد له من مفعول، وهو المحذوف الذي دلّ عليه ما بعده. وهو كما تقول: أبدت وجهها عن القناع، وقال سلمة على ما ثبت عنه في الكتاب: الرغوة والرغوة لغتان، ع: في الرغوة لغات ضمّ الراء وكسرها كما قال، وفتح الراء، ذكره أبو عبيد في الغريب المصنف؛ يقال فيها أيضاً رغاوة ورغاوة ورغاوة. قال أبو عبيد: فإذا ظهر الأمر كله حتى لا يستتر قيل " قد بين الصبح لذي عينين ". ع: ذكروا أن بين هنا بمعنى بان وتبين، وإنما تأتي بمعنى واحد وقد أنشد بعض العلماء هذا المثل رجزاً ووصل به شطراً آخر وهو: قد بين الصبح لذي عينين ... أن الطريق قبل النشزين (1) فالصبح هو الذي بين موضع الطريق، فبين ليس بمعنى بان كما ذكروا. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا " قد أفرخ القوم بيضتهم " وأصله خروج الفرخ من البيضة، يقول: قد أبدى هؤلاء القوم أمرهم كما تفرخ الحمامة بيضها، قاله الأصمعي وأبو زيد. قال أبو عبيد: ومثل العامة في هذا " برح الخفاء ". ع: المحفوظ عن الغويين: أفرخت الحمامة إذا كانت ذات فراخ وأفرخت
البيضة، وهي بيضة مفرخ، إذا كان فيها فرخ، ويقال على ما ذكره أبو عبيد: أفرخت البيضة إذا فقأتها عن فرخ، فمعناه أبدى القوم من شأنهم ما كان مستوراً مجهولاً. كما أن البيضة تجن (1) الفرخ فلا يدري ما فيها حتى تفقأ عنه. فأما قولهم " أفرخ روعك " فقد قيل إنه من هذا، ومعناه انجلى وانكشف كما ينكشف ما في البيضة إذا تقوبت عن الفرخ. وقد قيل إن قولهم: أفرخ روعك ليس من لفظ فرخ الطائر ولا ما تصرف منه، ومعناه ذهب روعك، لأن الفراخ قد تسمى بها أشياء من غير الطير. الفراخ الأسنة العراض، والفراخ: صغار الشجر وغير ذلك. وقال أبو عبيدة: أفرخ الروع وكل شيء إذا سكن إلا الحرب فإنه إذا قيل أفرخت الحرب فإنما راد ذكاؤها واضطرامها وتهيجها. وقال رؤبة لبلال بن أبي بردة (2) : وفتنةٍ كالعنت المنهاض ... أفرخ قيض بيضها المنقاض ومن حديث الشعبي أن عروة بن مضرس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بجمع قبل أن يصلي صلاة الصبح، فقلت: يا رسول الله: طويت الجبلين (3) ، ولقيت شدة، فقال: أفرخ روعك، من أدرك إفاضتنا هذه فقد أدرك الحج " وقال أبو علي الفارسي في التذكرة: معنى أفرخ روعك صار له فرخ وإذا أفرخ الطائر لأنه قد فارق الحضن، وهذا قول مقبول ومعنى حسن جميل. وزعم ابن الأنباري أن أول من نطق بهذا المثل معاوية بن أبي سفيان قال: قلد
معاوية زياداً البصرة واستعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة، فلم يلبث أن مات المغيرة فتخوف زياد أن يستعمل معاوية مكانه عبد الله بن عامر فكتب إليه يشير عليه باستعمال الضحاك، فكتب إليه معاوية " أفرخ روعك " قد شممنا إليك الكوفة والبصرة. فكتب إليه (1) " النبع يقرع بعضه بعضاً " فذهبت كلمتاهما مثلين. قال: والروع بفتح أوله: الفزع، والروع بضمه: الخلد والنفس. ومن حديث عبد الله عن النبي عليه السلام أنه قال: إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب. وأما قولهم: برح الخفاء: فقال ابن دريد (2) : أول من قاله شق الكاهن، ومعنى برح: انكشف وظهر، والبراح من الأرض ما كان بارزاً مكشوفاً، ولذلك سميت الشمس براح، اسم معدول لا يجري، قال الراجز (3) : هذا مقام قدمي رباح ... غدوة حتى دلكت براح رباح: اسم ساق يستقي لابله، يريد أنه استقى من تلك الغدوة حتى مالت الشمس؟ وهي براح؟ للغروب، ودلوكها: ميلها، ويروى: حتى دلكت براح، يريد أنها تدلت للمغيب، فهو يحجبها عن عينه براحته إذا نظر إليها، كما قال العجاج (4) : والشمس قد كادت تكون دنفا ... أدفعها بالراح كي تزحلفا ويقال برح الخفاء، بكسر الراء، ومعناه زال وذهب، من قولهم: ما برحت
من مكاني أي ما زلت، وأكثر ما يستعمل في النفي، قال الله تعالى {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين} (الكهف: 60) وقد قالوا: برح كذا أي زال. وأنشد أبو بكر (1) : وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله منتطقاً مجيداً منتطقاً: عليه سلاح، ومجيداً: صاحب جواد، وأنشده أبو عبيدة لخداش بن زهير على حذف لا، مقل قول الله تعالى {تفتا تذكر يوسف} (يوسف: 85) قال: ومثله لخليفة بن براز (2) : وتزال تسمع ما حيي؟ ... ت بهالكٍ حتى تكونه وقال أبو إسحاق الحربي في قول النبي عليه السلام لعبد الله بن مسعود ليلة الجن، وخط عليه خطاً، وقال: لا تبرحن خطك، يقال: برح يبرح إذا تنحى وذهب، وبرح الخفاء: ذهب، وأبرحته أنا أي أذهبته، ويسمى الرجل الشجاع: حبل براح، هكذا ورد عن العرب أي كأنه قد شد بالحبال فلا يبرح ولا يزول. باب إسرار الرجل إلى أخيه بما يستره عن غيره قال أبو عبيد:: من أمثالهم في هذا " أفضيت إليه بشقوري " أي أخبرته بأمر، وأطلعته على ما أسره من غيره. قال العجاج (3) : جاري لا تستنكري عذيري ... سيري وإشفاقي على بعيري
وكثرة الحديث عن شقوري ... (1) ولا تستنكري عذيري وإشفاقي على بعيري. قال الأصمعي: ومثله قولهم " أخبرته بعجري وبجري " أي أظهرته من ثقتي به على معايبي، قال أبو عبيد: وأصل العجر: العروق المنعقدة، وأما البجر فهي أن تكون تلك في البطن خاصة. قال أبو عبيد: والعامة إذا أرادت مثل هذا المعنى قالوا " لو كان بجسدي برص ما كتمته ".> ع: هكذا روي عن أبي عبيد: أفضيت إليه بشقوري، بفتح الشين، وهو قول الأصمعي وحده، وقال أبو زي وغيره: أبث فلان فلاناً شقوره، بضم الشين، والعذير في قول العجاج: الحال، وجمعه عذر، يقول: لا تستنكري حالي من الهرم يا جارية، ولا كثرة ما أحدث به نفسي مما يقوم في بالي من الأسرار، وذلك من أحوال الشيوخ وتهاتر الهرمى. والعذير: في غير هذا، العذر، يقال: عذيرك من كذا أي هلم معذرتك منه، ويقال: العذير بمعنى العاذر، فعيل بمعنى فاعل، أي هلم من يعذرك من هذا. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الكتمان " الليل أخفى للويل " يقول: افعل ما تريده ليلاً فإنه أستر لسرك (2) . ع: أول من قال هذا سارية بن عويمر بن أبي عدي العقيلي، وسبب ذلك
أن توبة بن الحمير شهد قومه بني خفاجة وبني عوف يختصمون عند همام بن مطرف العقيلي، وكان مروان بن الحكم استعمله على صدقات بني عامر، فضرب ثور ابن سمعان بن كعب العقيلي توبة بجزر (1) ، وعلى توبة درع وبيضة، فجرح أنف البيضة وجه توبة، فأمر همام بن مطرف بثور فأقعد بين يدي توبة فقال: خذ حقك يا توبة فقال: ما كان هذا إلا عن أمرك، وما كان ليجترئ عليّ. فانصرف توبة ولم يقتص منه، وهو يقول: إن أمكن الدهر فسوف أنتقم ... أو لا فإن العفو أدنى للكرم ثم إن توبة بلغه أن ثوراً قد خرج في نفر من أصحابه يريد ماء بتثليث [لهم] ، فتبعهم في أناس من أصحابه، حتى ذكر له أنهم عند رجل من بني عقيل يقال له سارية ابن عويمر، وكان صديقاً لتوبة، فقال توبة: لا أطرقهم وهم عند سارية، ووكل بتفقدهم رجلين من أصحابه، فقال سارية للقوم العقيليين وقد أرادوا أن يخرجوا من عنده مصبحين: " ادرعوا الليل فإنه أخفى للويل فلست آمن عليكم توبة " فلما أظلم فغشيهم هناك، فلما أن رأوهم صفوا لهم رجالهم، فزحف توبة السيهم فارتمى القوم، ثم إن توبة قال لأخيه عبد الله: ترس لي فإني قد رأيت ثوراً يكثر رفع الترس عسى أو أوفق منه مرمى، فترس له ورماه توبة فأصابه على حملة ثديه فصرعه، وانهزم أصحابه، فوضعوا فيهم السلاح حتى أثخنوهم، ومضى توبة حتى طرق سارية بن عويمر من الليل فقال: إنا قد تركنا رهطاً من قومك بالسمرات من قرون بقر، فأدركوهم فواروا موتاهم واحتملوا جرحاهم، فلحق بهم سارية وقد مات ثور، وهذا اليوم جر مقتل توبة.
17 -؟ باب الحديث يستذكر به حديث غيره قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " الحديث ذو شجون " (1) يحدث بهذا المثل عن ضبة بن أد، قال: وكان بدء ذلك أنه كان له ابنان، يقال لأحدهما سعد والآخر سعيد، فخرجا في طلب إبل لهما، فرجع سعد لوم يرجع سعيد، فكان ضبة كلما رأى شخصاً مقبلاً قال " أسعد أم سعيد " فذهبت كلمته هذه مثقلاً. قال: ثم إن ضبة بينما هو يسير ومعه الحارث بن كعب، في الشهر الحرام، إذ أتيا على مكان (2) . فقال الحارث لضبة: أترى هذا الموضع فإني لقيت فيه فتى من هيئته كذا وكذا فقتلته وأخذت منه هذا السيف، فإذا هي صفة سعيد، فقال له ضبة: رني السيف أنظر إليه، فناوله فعرفه ضبة، قال: فعندها قال " إن الحديث ذو شجون " فذهبت كلمته الثانية مثلاً أيضاً. ثم ضرب به الحارث حتى قتله، قال: فلامه الناس على ذلك وقالوا: أتقتل في الشهر الحرام؟ فقال: " سبق السيف العذل " فذهبت كلمته الثالثة مثلاً أيضاً، ويقال إنما هو العذل، وإنما جاز في الشعر للضرورة (3) .> ع: قد ذكر أبو عبيد هذا المثل وأول من نطق به، وترك معنى قولهم: ذو شجون، ومعناه أن يدخل بعضه في بعض، ويجر بعضه بعضاً، مأخوذ من الشواجن فيها، وهي أودية كثيرة الشجر غامضة، يقال: أشجنت الأرض إذا كثرت الشواجن فيها، وهي الأودية، والشجون أيضاً الحاجات، واحدها شجن، قال الشاعر (4) :
والنفس شتى شجونها ... قال ابن الأنباري: معنى قولهم: ذو شجون أي ذو فنون وتمسك وتشبك من بعضه ببعض، يقال: شجر متشجن، إذ التف بعضه ببعض، وقال النبي عليه الصلاة والسلام " الرحم شجنة من الله " (1) ، ويقال: شجنة بالضم، قال أبو عبيد: معناه القرابة مشتبك بعضها ببعض كاشتباك العروق. قال: ثم استعملوا الشجن في معنى الحاجة والحب، لي في موضع كذا شجن أي حاجة وحب، قال (2) : إني سأبدي لك فيما أبدي ... لي شجنان: شجن بنجد وشجن لي ببلاد الهند ... وأنشد أبو عبيد في هذا الحديث للفرزدق (3) : فلا تأمنن الحرب إن استعارها ... كضبة إذ قال: الحديث شجون وقبله: وإن كنت قد سالمت دوني فلا تقم ... بأرض بها بيت الهوان يكون فلا تأمنن........... ... ............... هكذا روي عن أبي عبيد " إن استعارها " بالسين والعين المهملتين، ورواه ابن الأنباري: إن اشتغارها، بالشين والغين المعجمتين، قال: يريد هيجها وانتشارها من قولهم: شغر برجله إذا أمكن (4) . يقول: تفاجئك كما فاجأ ضبة الحارث، يريد أن قتل ضبة للحارث كان الكلام سببه، كما قال الآخر (5) :
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب يقدمها الكلام وقالوا: الحرب أولها نجوى، وأوسطها شكوى، وآخرها بلوى. ومن كتاب قاسم بن سعدان (1) بخطه، أخبرنا طاهر (2) قال سمعت علياً يقول: حدثني الزبير القاضي، قال حدثني مصعب، قال: بعث عامل معاوية بأحمال مال إلى معاوية، فمرت الإبل على الحسين بن علي، فأخذ منها عشرة أحمال فعزلها هذا من خقي ولقي (3) ، لي أكثر منه، فلما بلغ ذلك معاوية كتب إليه: يا حسين بن علي ذا الأمل ... لك بعدي وثبة لا تحتمل ليس بعدي لك من يحملها ... ليس بين المال والوثب عمل إنما أحذر أن تبلى بمن ... عذره: قد سبق السيف الهذل ويروى عن عبيد بن شربة أنه قال: أول من قال: سبق السيف العذل، حريم (4) بن نوفل الهمداني، وذلك أن النعمان بن ثواب العبدي كان له بنون سعد وسعيد وساعدة. فأما سعد فكان شجاعاً بطلاً، وأما سعيد فكان جواداً سمحاً ذا أحواز (5) وصنائع، وأما ساعدة فكان صاحب شراب وندمان، وكان أبوهم
النعمان ذا شرف وحكمة، وكان يوصيهم ويحملهم على أدبه، فقال لسعد؟ وكان صاحب حرب؟ إن الصارم ينبو، واجواد يكبو، والأثر يعفو، والحليم يهفو، فإذا شهدت حرباً فرأيت نارها تسعر، وبحرها يزجر، وبطلها يخطر، وضعيفها ينصر، فإياك أن تكون صيد رماحها، ونطيح نطاحها، وأعلم عند ذلك أنهم ينصرون، ثم قال لسعيد، وكان جواداً: يا بني، إنه قد يبخل الجواد، ويصلد الزناد، وتجمد الثماد، وتمحل البلاد، فلا تدع أن تجرب إخوانك وتبلو أخدانك. ثم قال لساعدة: يا بني إن كثرة الشرب (1) تفسد القلب، وتقل الكسب، وتحدث العب، فانظر نديمك، واحم حريمك، وأعن غريمك، واعلم أن الظمأ القامح، خير من الري الفاضح، وعليك بالقصد، فإن فيه بلاغاً. ثم إن النعمان توفي فقال سعيد، لآخذن بأدب أبي، وأبلو (2) أوثق إخواني في نفسي، فعمد إلى كبش فذبحه. ثم أضجعه في قبته، وغشاه ثوباً، ثم دعا رجلاً كان من أوثق إخوانه في نفسه فقال يا أبا فلان: إنما أخوك من صدقك بعهده، وحاطك برفد، وقام معك يجهده وسواك بولده، قال: صدقت. قال: إني قتلت فلاناً فما عندك؟ فقال: يا للسوأة السوءاء وقعت فيها وانغمست، فتريد ماذا؟ قال: أحب أن تعينني عليه حتى أغيبه وأجنه، قال: لست لك في ذلك بصاحب، ثك تركه وانطلق، فدعا سعيد رجلاً آخر من إخوانه يقال له حريم بن نوفل الهمداني، فقال: يا حريم ما عندك؟ قال: ما يسرك. قال: فإني قتلت فلاناً، قال: فتريد ماذا؟ قال: تعينني عليه حتى أغيبه قال: لهان ما فزعت فيه إلى أخيك؛ ثم قال؟ وعبد لسعيد عنده -: هل اطلع على هذا غير عبدك هذا؟ قال: لا. فأهوى حريم إلى العبد بالسيف فقتله، وقال " ليس عبد بأخ لك " ففزع لذلك سعيد وقال: ما صنعت؟ إنما أردت تجربتك، قال حريم " سبق السيف العذل ". قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في ذكر الشيء بغيره " ذكرتني الطعن وكنت
ناسياً " قال: وأصله أن رجلاً حمل على رجل آخر (1) ليقتله، وكان في يد المحمول عليه رمح فأنساه الدهش ما في يده فقال له الحامل: ألق الرمح، فقال الآخر: ألا أرى معي رمحاً ولا أشعر، " ذكرتني الطعن وكنت ناسياً ". ثم كر على صاحبه حتى طعنه فقتله أو هزمه. وقد يسمى هذان الرجلان فيقال الحامل: صخر بن معاةي السلمي، والمحول عليه: يزيد بن الصعق. قال أبو عبيد (2) : أبو الحسن قال: أخبرني أبو محمد قال: المحمول عليه أبو ثور ربيعة بن فلان الفقعسي، حمل عليه صخر فقال له: لق الرمح، فقال: " ذكرني الطعن وكنت ناسياً " فطعنه، فأدخل حلق الدرع في بطنه، فجوي منه فمات، قال الزبير: هو صخر بن عمرو أخو الخنساء (3) . ع: وهم أبو عبيد فيما أورده وهمين، أما أحدهما فإنه قوله: صخر بن معاوية وإنما صخر بن عمرو بن الشريد، وأما معاوية فهو أخو صخر، ابني عمرو. والوهم الثاني قوله: ثم كر عليه حتى طعنه فقتله أو هزمه على الشك منه، وإنما طعن صخراً طعنته (4) التي مات منها ربيعة بن ثور الأسدي بإجماع من أهل العلم بأيام العرب ومقاتل فرسانها لأنه غزا بني أسد، فالتقوا يوم الأثل فطعنه ربيعة فأدخل جوفه حلقاً من الدرع، فجوي صخر فكان يمرض قريباً من حول حتى مله أهله، فسمع صخر امرأة تسأل امرأته سلمى، كيف بعلك؟ قلت: لا حي فيرجى ولا ميت فينسى. فقال صخر: أرى أم صخر ما تمل (5) عيادتي ... وملت سليمى موضعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغتر بالحدثان لعمري لقد نبهت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان فأي امرئ ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في شقا (1) وهوان أهم بأمر الحزم لو ستطيعه ... (2) " وقد حيل بين العير والنزوان " فللموت خير من حياةٍ كأنها ... معرس يعسوب برأس سنان فلما طال عليه البلاء. وقد نتأت قطعة لحم مثل اليد من جنبه قالوا له: لو قطعتها لرجونا لك أن تبرأ فقال: شأنكم. وأشفق عليه بعض أهله فنهاه فأبى وقال: الموت أهون علي مما أنا فيه، فأحموا له شفرة ثم قطعوها، فيئس من نفسه، وسمع أخته خنساء تسأل عنه كيف صبره فقال: أجارتنا إن الخطوب تنوب ... على الناس، كل المخطئين تصيب فإن تسأليهم كيف صبري فإنني ... صبور على ريب الزمان صليب كأني وقد أدنوا إليّ شفارهم ... من الصبر دامي الصفحتين نكيب أجارتنا لست الغداة بظاعن ... ولكن مقيم ما أقام عسيب ثم مات. وقال غير أبي عبيد (3) : إن الذي حمل عليه صخر، وعلة الجرمي. 18 -؟ باب العذر يكون للرجل ولا يمكنه أن يبديه قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا " رب سامع خبري لم يسمع عذري "
أقدر أن أوسع الناس عذراً. قال الزبير: عذراً، وهي للجماعة واحدتها عذرة. ومن هذا قول أكثم بن صيفي " رب ملوم لا ذنب له "، يقول: قد ظهر للناس منه أمر أنكروه عليه، وهم لا يعرفون حجته وعذره، فهو يلام، وكذلك قول الآخر " كل أحد أعلم بشأنه " يقول: إنه لا يقدر على إظهار أمره كله وإبدائه، ومنهم قولهم " لعل له ... (الخ) ".> ع: قال أبو زيد: مثل لهم " رب سامع عذري (1) لم يسمع قفوتي " يقال قفوته أقفوه قفوة وقفواً إذا قرفته بشر، يضرب مثلاً لمن يعتذر من شيء لم يعلم منه فيكون اعتذاره من ذلك الشيء تسميعاً بنفسه. قال أبو عبيد: ومنه قولهم " لعل له عذراً وأنت تلوم " ع: هذا صدر بيت شعر لمنصور النمري (2) ، قال: لعل له عذراً وأنت تلوم ... وكم من ملوم وهو غير مليم (3)
غير مليم: أي لم يأت ما يلام عليه، قال الله تعالى {فالتقمه الحوت وهو مليم} (الصفات: 142. 19 -؟ باب الاعتذار في غير موضع العذر قال أبو عبيد: وروي عن إبراهيم النخعي (1) أنه اعتذر إليه رجل فقال: قد عذرتك غير معتذر،: إن المعاذير يشوبها الكذب (2) . ع: يريد قد عذرتك وأنت ممسك عن عذرتك غير معتذر فكأنه كان عنده أعذر قبل أن يعتذر فلذلك قال: إن المعاذير يشوبها الكذب. وقد قال الشاعر:
إذا اعتذر الجاني محا الذنب عذره ... وكل امرئ لا يقبل العذر مذنب وقال آخر (1) : إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائباً ... إليك ولم تغفر له فلك الذنب وقال محمود (2) الوراق في معنى قول النخعي: إذا كان وجه العذر ليس ببينٍ ... فإن أطراح العذر خير من العذر قال أبو عبيد: وقال مطرف بن الشخير: المعاذر مكاذب (3) ، قلت: والمحفوظ عن العرب: دعوا المعاذر فإن أكثرها مفاجر (4) . 20 -؟ باب التعريض بالشيء يبديه الرجل وهو يريد غيره (5) : كان رجل نزل بقوم ليلاً، فأضافوه وغبقوه، فلما فرغ قال: إذا صبحتموني غداً فكيف آخذ في حاجتي؟ فقيل عند ذلك " أعن صبوح ترقق "، والصبوح: هو الغداء، والغبوق هو العشاء، وإنما أراد الضيف بهذه المقالة أن يوجب عليهم الصبوح، فصار مثلاً لكل من كنى عن شيء وهو يريد غيره. وقد روي هذا المثل عن عامر الشعبي أنه قال لرجل سأل عمن قبل أم امرأته
فقال: " أعن صبوح ترقق "، حرمت عليه امرأته. قال أبو عبيد: ظن الشعبي؟ فيما أحسب؟ أنه أراد غير القبلة فكنى بها عن ذاك؟ فيما أحسب (1) -. وقال أبو زيد والأصمعي في مثل هذا " يسر حسواً في ارتغاء " قال الأصمعي: وأصله الرجل يؤتى باللبن فيظهر أنه يريد الرغوة خاصة ولا يريد غيرها فيشربها، وهو في ذلك ينال من اللبن، والارتغاء هو شرب الرغوة، يقال منه: ارتغيت ارتغاء.> قال أبو عبيد: ومن التعريض قولهم (2) " إياك أعني واسمعي يا جارة " ويروى عن بعض العلماء أن المثل لشهل بن مالك الفزاري قاله لأخت حارثة بن لام الطائي. ع: إنما نهشل بن مالك؟ وقيل سهل بن مالك (3) - وليس في العرب شهل بالشين إلا شهل بن شيبان، وهو الفند الزماني. وكان من خبر نهشهل بن مالك هذا أنه خرج يريد النعمان بن المنذر فمر ببعض أحياء طي، فسأله عن سيد الحي، فقيل له: حارثة بن لام، فأم رحله فلم يصبه شاهداً، فقالت له أخته: انزل في الرحب والسعة حتى يلحق حارثة، فنزل، فأكرمت مثواه، وأحسنت قراه. ورآها خارجة من خباء إلى خباء فرأى جمالاً بهره وكمالاً فتنه، وكانت عقيلة قومها، وسيدة نسائها، فجعل لا يدري كيف يعلمها بما في نفسه منها ولا ما يوافقها من ذلك، فجلس بفناء الخباؤ يوماً وجعل ينشد: يا أخت خير البدو والحضارة ... كيف ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى طفلةً معطاره ... إياك أعني واسمعي يا جاره فعرفت أنه يعنيها فقالت: ما هذا بقول ذي عقل أريب، ولا ذي رأي مصيب، ولا أنف نجيب. فأقم ما أقمت مكرماً، وارحل إذا رحلت (1) مسلماً، فاستحيا وقال: يا سوأتاه (2) ! قالت: صدقت. وارتحل وأتى النعمان فحباه وأكرمه فلما رجع نزل على أخيها؟ حارثة بن لام؟ فتبعته نفس الجارية، وكان جميلاً مقبولاًن فأرسلت إليه: إن كانت بك في حاجة فاخطبني إلى أخي فإني سريعة إلى ذلك، فخطبها وتزوجها، وسار بها إلى أهله. 21 -؟ باب حمد الإنسان قبل اختبار أنشد أبو عبيد في هذا الباب (3) : لا تمدحن امرءاً حتى تجربه ... ولا تذمنه (4) من غير تجريب
ع: وبعده: فرب خدن وإن أبدى بشاشته ... يضحي على خدنه أعدى من الذيب (1) وإن مدحك من لم تبله صلف ... وإن ذمك بعد المدح تكذيب 22؟ باب دعاء الرجل لصاحبه بالخير في الغيبة وغيرها قال أبو عبيد:: يقال في مثل هذا للقادم من سفر: " خير ما رد في أهل ومال " أي جعل الله ما جئت به خير ما قدم (2) به الغئب. ع: قال سلمة: الذي رويناه في هذا أن مجيئك بنفسك خير ما رد في أهلك ومالك. قال أبو عبيد:: ومن الدعاء قولهم " عرفتني نسأها الله " أي أخر الله في أجلها، وأطال عمرها. قال: وكان أصله أن رجلاً كانت له فرس، فأخذت منه ثم رآها بعد ذلك في ايدي قوم فعرفته فحمحمت حين سمعت كلامه، فقال عند ذلك هذه المقالة. ثم قال: وقال غير الأصمعي: هذا المثل لبيهس الذي (3) يعرف بنعامة وكان طويل الرجلين فرأته امرأته: بليل فقالت: نعامة والله، فقال: عرفتني، نسأها الله.
ع: لبيهس هذا أمثال جمة وكلمات حكمة سيورد منها أبو عبيد جملة، على ما كان فيه من اللوثة، وفي شأنه يقول المتلمس: في حذر الأيام ما حز أنفه ... قصير ولاقى الموت بالسيف بيهس واختلف في المعنى الذي لقب به نعامة فقيل: لقب بذلك لطول ساقيه، وقيل بل لقب نعامة لصممه، لأنه كان أصم أصلخ، والنعام صم لا تسمع فيما تزعم العرب وتذكره في أشعارها، وقيل إنما سمى نعامة بقوله: لأطرقن حصنهم صباحا ... وأبركن بركة النعامه فسمي نعامة، وهو من بني فزارة. وذكر علاقة الكلبي (1) عن عبيد بن شرية أن هذا لمثل لرجل من العرب كانت له فرس قد ترببها وتألفها، فبعثه طليعةً فمر بروضة فأعجبته والعدو قريب منه لا يراهم، فنزل، فخلع لجام فرسه، وحل (2) عنها ترعى، فبينا هو كذلك إذا طلعت عليه الخيل دوائس فأسروه، وطلبوا الفرس فسبقتهم، ولم يقدروا عليها فعجبوا من جودتها وقالوا: إن دفعتها إلينا نفاد نفسك بها، فدعاها فأجابت. فقال " عرفتني نسأها الله " فأرسلها مثلاً. قال أبو عبيد: (3) >، ومن دعائهم " بلغ الله بك أكلأ العمر " أي أقصاه، قال الزبير أكلأ لعمر: أحفظ العمر، يقال للرجل: كلأك الله أي حفظك الله، قال الشاعر:
كلاك الله حيث عزمت وجهاً ... وحاطك في المبيت وفي المقيل ع: ليس ما قال الزبير بالوجه الجيد ولكن وجهه ومعناه: بلغ الله بك أنسأ العمر أي أبعده، وكلأ الشيء يكلأ إذا تأخر، ومنه النهي عن الكالئ بالكالئ (1) وكلأ بمعنى حفظ صحيح، وليس له هاهنا وجه. قال أبو عبيد: ويقولون (2) للرجل الذي يعجب من كلامه أو غير ذلك من اموره " عيل ما هو عائله " أي غلب ما هو غالبه. . ع: وقال يعقوب في كتاب الدعاء: " عيل ما عاله " وقال أبو نصر عن الأصمعي: عال الأمر يعول عولاً إذا اشتد وتفاقم، وأنشد للنابغة (3) : لقد عالني ما سرها وتقطعت ... لروعاته مني القوى والوسائل ويروى: لروعته (4) مني القوى، ويروى: لقد سرها ما عالني: أي لقد سر هذه القبائل ما عالني من موت النعمان بن الحارث بن أبي شمر المرثي بهذه القصيدة.
ما عالني يقول: ما اشتد علي وعلني (1) . ع: قال الحربي: ومنه قولهم: عالت الفريضة أي ارتفعت. وروى ابن جريج عن ابن عباس قال: الفرائض لا تعول، ويقال معنى عالني: أثقلني، والقولان متقاربان. وقال النمر (2) : وأحبب حبيبك حباً رويداً ... فليس يعولك أن تصرما أي ليس يثقل عليك صرمه؛متى أحببت>. قال أبو عبيد:: ومن أمثالهم في الدعاء " نعم عوفك " وتأويله: نعم بالك وشانك ونحو هذا، قال: وكان بعض الناس يتأول العوف: الفرج فذكرته لأبي عمرو فأنكره. ع: العوف: الحال والبال كما ذكر أبو عبيد صحيح، يقال: بات فلان بعوف خير، وبعوف سوء أي بحال خير، وانفرد أبو عمرو بإنكار ما أنكر (3) لأنه جهله، وهذا الدعاء إنما يدعى به للمتزوج. روى الحكم عن سلمة بن جنادة الهذلي: كان الفتى من هذيل إذا كان يوم أسبوعه، دخل على سنان بن سلمة، قال أبي: فدخلت عليه يوم أسبوعي وعلي ثوبان موردان، فقال: نعم عوفك، فقلت: وعوفك فنعم، فالعوف في هذا الحديث الفرج، في قول جميعهم. والعرب تقول " لقي عوف توفاً " فالعوف فرج الرجل، والتوف فرج المرأة، والعوف أيضاً: الضيف، والعوف أيضاً عن
أسماء الأسد، والعوافة ما ظفر (1) به ليلاً، والعوف: شجر طيب الريح. قال الشاعر (2) : فلا زال حوذان وعوف منور ... سأتبعه من خير ما قال قائل قال أبو عبيد. ومنه قولهم " بالرفاء والبنين " وقد فسرناه في غريب الحديث. ع: قال أبو زيد: الرفاء والمرافاة: الموافقة (3) وأنشد (4) : ولما أن رأيت أبا رويم ... يرافيني ويكره أن يلاما فقولهم بالرفاء، دعاء بالاتفاق وحسن الحال، ومنه رفء الثوب يقال: رفأته أرفؤه، ورفوته أرفوه، قال أبو خراش (5) : رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم (6) قال الحسن: تزوج عقيل بن أبي طالب امرأة فقيل له بالرفاء والبنين، فقال، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: " إذا رفأ أحدكم أخاه فليقل: بارك
الله لك وبارك عليك ". قال الأصمعي: الرفاء على معنيين (1) ، يكون من الاتفاق وحسن التأليف، ومنه رفأت الثوب، ومعناه ضممت بعضه إلى بعض ولاءمت بينهما، قال ابن هرمة: بدلت من جدة الشبيبة والأبدال ثوب المشيب أردؤها ... ملاءة غير جد واسعة ... أخيطها تارةً وأرفوها والوجه الآخر: أن يكون الرفاء من الهدوء والسكون، يقال: رفوت الرجل إذا سكنته، وأنشد بيت أبي خراش: [رفوني وقالوا ... ] . وقال أبو زيد: الرفاء من المرافأة وهي الموافقة (2) ، واحتج بقول الشاعر: ولما أن رأيت أبا رويم ... البيت. وقال اليماني: الرفاء: الماء. قال أبو عبيد:: ومن دعائهم بالخير قولهم " هنيت ولا تنكه " أي أصبت خيراً ولا أصابك الضر. ع: هكذا روي عن أبي عبيد " هنيت " بفتح الهاء، والمعروف هنأني الطعام، وهنئته، بضم الهاء وكسر النون، وهنئته بتشديد النون وكذلك رواه الأصمعي وغيره " هنيت "، ولا تنكه أيضاً؟ بفتح التاء؟ وفي تنكه قولان: أحدهما أنه أراد ولا تنك من النكاية، ووقف بالهاء، وقيل إنما أراد ولا تنكأ
فأبدل من الهمزة هاء، يقال نكيت العدو نكاية، ونكأته نكأ، ونكأت القرحة، بالهمز لا غير. قال أبو عبيد: ومن دعائهم في موضع المدح " هوت أمه؛ وهبلت أمه " ومنه قول كعب بن سعد الغنوي (1) : هوت أمه ما يبعث الصبح غادياً ... وماذا يرد الليل حين يؤوب ع: يرثي كعب بهذا الشعر أخاه أبا المغوار، واسمه هرم، وقوله: ما يبعث الصبح غادياً، يريد من ذكراه والحزن عليه (2) ، لأنه وقت الغارات وحمايتهم من العاديات. وقوله: وماذا يرد (3) الليل يعني من ذكراه أيضاً لأنه وقت الضيفان وطروقهم للقرى، وهذا كقول (4) الخنساء: يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكل غروب شمس 23 - إنجاز الموعد والوفاء به قال أبو عبيد:. رووا عن عوف بن النعمان الشيباني أنه قال في الجاهلية الجهلاء: لأن أموت عطشاً أحب إليّ من أن أكون مخلافاً لموعدة.
وقال سلمة (1) : هي عندي " الموعد " بغير هاء. ع: والموعدة جيد، قال الله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبي إلا عن موعدة وعدها إياه} (التوبة: 14) . فالموعدة اسم للعدة، والموعد بلا هاء يحسن أن يكون مصدراً، وأن يكون ظرف زمان ومكان، وأحسن ما ورد في إنجاز الموعد، قول عوف بن محلم: ذكرت مواعيد الأمير ابن طاهر ... ومثل العطايا في الاكف عداته وزكيت ما لم أحوه من عطائه ... فكنت كمن حلت عليه زكاته قال أبو عبيد: وقال الحارث بن عمرو بن حجر الكندي " أنجز حر ما وعد " ع: قال الأصمعي: أراد، لينجز حر عدته (2) ، على معنى الأمر لا على
معنى الخبر. وقد ذكر أبو عبيد خبر المثل ذكراً ناقصاً وتمامه أن الحارث بن عمرو آكل المرار دل صخراً على ناس من أهل اليمن فأغار عليهم وملأ يديه (1) وأيدي أصحابه من الغنائم، فأراد صخر قومه على أن يعطوا الحارث ما جعل له فأبوا ذلك عليه (2) ، وفي ريقة ثنية متضايقة يقال لها: شجعات، فلما دنا صخر منها، سار حتى وقف على رأسها وقال: " أوفت شجعات بما فهين " (3) فقال حمزة ابن جعفر بن ثعلبة بن يربوع: والله لا نعطيه من غنيمتنا شيئاً. ثم مضى في الثنية فحمل عليه صخر بن نهشل فقتله، فلما رأى ذلك الجيش اجتمعوا ودفع إلى الحارث بن عمرو خمس الغنيمة، وقال في ذلك نهشل بن حري بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل: ونحن منعنا الجيش أن (4) يتناوبوا ... على شجعات والجياد بنا تجري حبسناهم حتى اقروا بحكمنا ... وأدي أنفال الجيوش (5) إلى صخر قال أبو عبيد: وروي عن عبد الله بن عمرو أنه كان وعد رجلاً من قريش أن يزوجه ابنته، فلما كان عند موته أرسل إليه فزوجه وقال: كرهت أن ألقى الله بثلث النفاق. ع: إنما قال ذلك لأنه هو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، وهذا من صحيح الحديث خرجه البخاري ومسملم وغيرهما
من حديث عبد الله بن عمرو (1) ، ورواه أبو إسحاق الحربي قال: حدثنا ابن نمر عن أبيه عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال: أربع من كن فيه كان منافقاً: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر، فزاد هذه الرواية رابعة، وجعل الحديث موقوفاً على عبد الله غير مرفوع. وأصل النفاق اختلاف السر والعلانية، وهكذا كان المنافقون على عهد رسول اله عليه الصلاة والسلام، ومن كانت فيه واحدة من هذه الخلال المذكور فقد أسر خلاف ما أظهر (2) .
فراغ
الباب الثاني
الباب الثاني جماع الأمثال التي في معايب المنطق ومساويه (1) 24 -؟ باب المثل في العار والقالة السيئة (2) وما يحاذر منها وإن كان (3) باطلاً قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " إن حسبك من شر سماعه " أخبرني هشام بن الكلبي أن المثل لأم الربيع بن زياد (4) ، وذكر خبرها (5) ثم قال: وأم الربيع هي فاطمة بنت الخرشب وهي أم أنمار.
ع: إنما فاطمة أنمارية، وأنمار أبو خثعم وبجيلة المتيامنين، ومن كان من أنمار (1) غيرهما فهو أنماري، وفاطمة هي أم الكملة من بني عبس، وكانت رأت في منامها قائلاً يقول لها (2) : أعشرة هدرة أحب إليك أم ثلاثة كعشرة؟ فلم تقل شيئاً، ثم عاد إليها في ليلة ثانية فأمسكت عن القول، وأخبرت زوجها برؤياها فقال لها: إن عاد الثالثة فقولي ثلاثة كعشرة، فولدتهم كلهم غاية: ربيع الحفاظ، وعمارة الوهاب، وأنس الفوارس، وهي إحدى المنجبات من العرب. قال أبو عبيد: ومن ذلك قولهم " قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً " ع: وذكر خبره محذوفاً ناقص المعنى (3) : كان بنو جعفر بن كلاب قد وفدوا على انعمان ورئيسهم يومئذ أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، عم لبيد بن ربيعة بن مالك. فحجبهم النعمان، ورأوا منه جفوة، وقد كان يقربهم ويكرمهم، وكان الربيع بن زياد جليسه وسميره فاتهموه بالسعي عليهم عند النعمان وتفاوضوا في ذلك، يشكوه بعضهم إلى بعض، وكان بنو جعفر له أعداء، وكان لبيد غلاماً في جملتهم يتخلف في رحالهم ويحفظ متاعهم، فأتاهم وهم يتذاكرون أمر الربيع فسألهم فكتموه فقال: والله لا حفظت لكم متاعاً أو تخبروني، وكانت أم لبيد تامر بنت زنباع العبسية، وكانت في حجر الربيع، فقالوا له: خالك غلبنا على الملك وصد عنا بوجهه، فقال لهم: هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه فأزجره بقول ممض لا يلتفت به النعمان بعدها أبداً، فقالوا: وهل عندك من شيء، قال: نعم، فتركوه ثم مروا به وقالوا: إن رأيناه لاهياً علمنا أنه ليس كما زعم، فإذا به قاعد على رحل وهو يكدمه (4) ، فأيقنوا عند ذلك أنه صاحبه،
فكسوه حلة ثم غدوا به على النعمان فوجدوه يتغدى مع الربيع بن زياد، ليس معهما ثالث، والدار والمجالس مملوءة من الوفودن فلما فرغ من غدائه أذن للجعفريين فذكروا الذين قدموا له من حاجتهم. فاعترض الربيع في كلامهم فقام لبيد فقال: أكل يومٍ هامتي مقزعه ... (1) يا رب هيجا هي خير من دعه يا واهب الخير الجزيل من سعه ... نحن بنو أم البنين الأربعة سيوف جن وجفان مترعة ... ونحن خير عامر بن صعصعة الضاربون الهام تحت الخيضعه ... (2) والمطعون الجفنة المدعدعه مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه ... إن استه من برص ملمعه وإنه (3) يدخل فيها إصبعه ... (4) يولجها حتى يواري أشجعه كأنما (5) يطلب شيئاً ضيعه ... فالتفت النعمان إلى الربيع وقال: أكذاك أنت يا ربيع، قال: لا والله لقد كذب ابن الأحمق اللئيم، فقال النعمان: أف لهذا طعاماً لقد بثت علي طعامي، وقام الربيع فانصرف إلى منزله وأمر له النعمان بضعف ما كان يحبوه وأمره بالانصراف فلحق بأهله، وأرسل إلى النعمان بأبيات منها: لئن رحلت جمالي لا إلى سعةٍ ... ما مثلها سعة عرضاً ولا طولا
فحيث لو وردت لخم (1) بأجمعها ... لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا فابرق بأرضيك بعدي واخل متكئاً ... (2) مع النطاسي طورا وابن توفيلا فأجابه النعمان: شرد برحلك عني حيث شئت ولا ... تكثر علي ودع عنك الأقاويلا قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا وسمويل (3) : أرض كثيرة الطير. 25 -؟ باب تعيير الرجل صاحبه بعيب هو فيه قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا " رمتني بدائها وأنسلت ". ع: وساق أبو عبيد خبره محذوفاً وتمامه: أن سعد بن زيد مناة بن تميم كان تزوج رهم بنت الخزرج بن تيم الله بن رفيدة بن كلب بن وبرة، وكانت من أجمل النساء فولدت له ملك بن سعد، وكان ضرائرها إذا ساببنها يقلن لها: يا عفلاء، فشكت ذلك إلى أمها فقالت: " اجبهيهم بعفال (4) ، سبيت " فأرسلتها مثلاً. فسابتها بعد ذلك امرأة من ضرائرها فقالت لها رهم: يا عفلاء؟ كما وصتها أمها؟ فقالت لها السابة: " رمتني بدائها وانسلت " فأرسلت مثلاً. وينو مالك بن سعد بن مالك بن سعد، رهط العجاج، وكان يقال لهم: بنو العفلاء، فقال اللعين المنقري، وهو يعرض بهم:
ما في الدوابر من رجلي من عقل ... عن الرهان ولا أكوى من العفل قال أبو عبيد: ومن ذلك قولهم (1) " عير بجير بجره، نسي بجير خبره " ع: معناه عير الأبجر آخر ليس به ببجره (2) الذي به ونسب إلى غيره داءه، ونسي خبره وأمره. وبجير تصغير أبجر كما أن زهيراً تصغير أزهر، ولما أسقط حرف الصفة من قوله عير بجير، عدى الفعل فنصب (3) . وكل ذي داء أو آفة هواه أن يكون بالناس مثل الذي به. ولذلك قال عثمان: ودت الزانية أن النساء كلهن زوان. وحكى الليثي (4) أنه قيل لأقرع (5) : ما كنت تتمنى؟ قال: أن يكون الناس قرعاً حتى أنظر إليهم بالعين التي ينظرون إليّ بها (6) . قال أبو عبيد: ومثله (7) المثل السائر في الناس للمتوكل الليثي (8) : لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم " ع: وقبله:
إبادأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك تقبل إن وعظت ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق....... ... ........................ ويروى هذا الشعر لسابق البربري (1) . قال أبو عبيد: ومنه قولهم " ومحترس من مثله وهو حارس " ع: هذا نصف بيت من شعر عبد الله بن همام السلولي (2) ، يقوله في الحمارس؟ رجل كان على شرط الكوفة للحارث بن عبد الله ن أبي ربيعة المعروف بالقباع؟ قال: أقلي علي اللوم يا بنت مالك ... وذمي زماناً ساد فيه الحمارس فساع مع السلطان يسعى عليهم ... ومحترس من مثله وهو حارس وكم قائل ما بال مثلك راجلا ... فقلت له من أجل أنك فارس إذا لم يكن صدر المجالس سيد ... فلا خير فيمن صدرته المجالس وخرج الحمارس هذا مع ابن الشعث فقتله الحجاج. ورأيت الليثي قد أنشد هذا البيت شاهداً على الفلنقس (3) - وهو الذي أمه عربية وأبوه عجمي (4) فقال: وذمي زماناً ساد فيه الفلاقس، جمع فلنقس والمذرع أيضاً مثل الفلنقس. فأما الذي أبوه عربي وأمه عجمية فهو الهجين.
واختلف في المقرف فقيل إنه من قبل الأب، وقيل إنه من قبل الأم، فإذا أحاطت به الأموة (1) فهو مكركس (2) ، وقد رأيت من يضبط هذا الاسم: وذمي زماناً ساد فيه الفلاقس بفاءين معجمتين من أسفل؟ مذا رواه ابن قتيبة (3) . قال أبو عبيد: وفي بعض الآثار " البلاء موكل بالمنطق " (4) ع: نظمه أبو تمام فقال: لا تنطقن بما كرهت فربما ... نطق اللسان بحادث فيكون قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا " لاتسخر من شيء فيحور بك (5) " ع: معنى يحور أي يرجع عليك ويحل بك، ومثله قولهم " لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك " وهذا كلام قد رفع إلى (6) النبي صلى الله عليه وسلم
26 -؟ باب رمي الرجل صاحبه بالمعضلات قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا أن يقولوا " رماه بأقحاف رأسه " ع: قحف الرأس: ما انفلق من جمجمته فبان، ولا يقال لجميع الجمجمة قحف إلا أن تنكسر فيقال للمنكسر قحف إذا بان، والجميع الأقحاف والقحوف. يقول: رماه بالدواهي المهلكة له، فكأنه قد رماه بافلاق رأسه لما رماه بما يؤول إلى ذلك به، وهذا كما تقول العرب: مشى بقدمه على دمه، إذا سعى سعياً فيه هلاكه. قال أبو عبيد: ومثله قولهم " رماه بثالثة الأثافي " وفسره، ثم قال: وقال خفاف بن ندبة (1) : رمته بثالثة الأثافي (2) . ع: هكذا أورده أبو عبيد، وهذه كلمات (3) لا تتسق في شعر، قال أبو بكر: وصحة إنشاد هذا (4) البيت: وإن قصيدة شنعاء مني ... إذا حضرت كثالثة الأثافي وندبة التي نسب إليها خفاف أمه، وهي ندبة بنت أبان من بني الحارث بن كعب، وقال أبو عبيدة: هي ابنة الشيطان الحارثية، سبية سباها جده الحارث بن الشريد في غارة أغارها على بني الحارث، ووهبها لابنه عمير، فأولدها خفافاً، فهو خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريد.
واختلف في وزن أثفية فقيل إنها أفعولة فالهمزة زائدة والياء أصلية، والحجة لهذا قول الشاعر (1) : وما استنزلت في غيرنا قدر جارنا ... ولا ثفيت إلا بنا حين تنصب وقيل إنها فعلية والهمزة أصلية، والحجة في هذا (2) قول الراجز، أنشده سيبويه وغيره لخطام المجاشعي (3) . وصاليات ككما يوثفين ... وذكر قوم أن يوثفين جاء مجيء أهرقت أهريق لأن الأصل فيه أرقت أريق فلما ابدلت الخاء من اهمزة صارت كأنها من نفس الحرف ثم أدخلت الألف بعد على الهاء وتركت الهاء عوضاً عن حذف العين لأن أصلها أريقت، ونظيره استطعت تستطيع، قا الفراء: توهموا أن قولهم اسطعت: أفعلت، إذ كانت بوزنها وإنما هو افتعلت، فحذفقت التاء لمكان الطاء بعدها، اه؟. ؟ 27؟ باب دعاء الرجل على صاحبه بالموبقات قال أبو عبيد: من أمثالهم في الدعاء قولهم: " فاها لفيك "، وفسره وأنشد لرجل من بلهجيم (4) : فقلت لها فاها لفيك فإنها ... قلوص امرئ قاريك (5) ما أنت حاذره
ع: يخاطب الذئب وكان تعرض له، وقبل البيت: تحسب هواس؟ وأقبل (1) - أنني ... بها مفتد من واحد لا أغامره هواس: اسم للأسد، لأنه يهوس كل شيء أي يدقه، يقول: حسب أني مفتد براحلتي وناج بنفسي ذعراً منه، وأني لا أغامره؟ من غمرات الحرب وهي شدائدها؟ فقلت: الخيبة لفيك أي جعل الله فاها لفيكن فإني مانعها منك، وقاريك، من القرى، ما تحذره من السهام والسلاح الكافة لك. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم ف نحو هذا " لليدين وللفم " وهذا الكلام يروى عن عائشة أنها قالته لرجل أصابته نكبه. ع: الرجل الذي قالت عائشة هذا فيه هو مالك الأشتر النخفي، وكان أشد الناس على عثمان، وكان أنجد الناس وأجرأهم، ولم يكن في حروب الجمل وصفين أحد أمضى منه، وكان مع علي وقال له علي يوماً: يا مالك من أشجع أنا أو أنت؟ فقال: أما قتل الأقران فأنت، وأما شق الصفوف (2) فأنا. ودس عليه معاوية من سمه فيشربة عسل فمات (3) فقال معاوية " إن لله جنوداً منها العسل " وقال علي لما بلغه موته: ذلك رجل كأنما قد مني قداً، لو كان حجراً لكان صلداً، ولو (4) كان حديداً لكان افرنداً (5) . قال أبو عبيد: ومثله قولهم " للمنخرين " وهذا يروى عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه قال لرجل أتي به سكران في رمضان فعاقبه وقال " للمنخرين " أولداننا صيام وأنت مفطر؟ ع: المحفوظ في هذا أنه لعلي بن أبي طالب، وأنه أتي بالنجاشي الشاعر سكران في رمضان، فأمر بجلده ثمانين وأن يزاد عشرين فقال له: ما هذه العلاوة يا أب الحسن؟ فقال: لا ستخفافك بحرمة الشهر وأن ولداننا صيام وأنت مفطر. قال أبو عبيد: ومن الدعاء قولهم (1) " عقراً حلقاً " قال: وأهل الحديث يقولون " عقرى حلقى " (2) . ع: من نون فإنها مصادر كما تقول: سحقاً وبعداً أي عقره الله وحلقه، والعقر معروف، والحلق يحتمل معنيين: حلق الشعر وإنما المراد به حلق المال وذهابه، والمعنى الثاني أن يصاب في حلقه وهو مقتل، يقال حلقت الرجل إذا أصبت حلقه. ومن قال: عقرى حلقى فإنه (3) يجعلها صفة لمحذوف أي رماهم بداهية تعقرهم وتحلق خيرهم، كما يقال داهية حالقة ويكتفى بذكر صفتها فيقال: اصابته حالقة. وقال محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه: عقرة حلقى لقة لقريش، قال رؤبة وذكر سنة جدب (4) :
حصاء تنفي المال بالتحريش ... دقاً كدق الوضم المرفوش أو كاحتلاق النورة الجموش ... التحريش: التمزيق. وقال أبو حنيفة (1) : هو ذهاب الشحم واللحم. والرفش: شدة الأكل، يقول: حلقت الأموال كما تحلق النورة الجموش الشعر، والجموش الشديدة احلق، ولهذا سميت المنية: حلاق. وقال مهلهل (2) : ما أبالي بالعيش بعد أناس ... كلهم قد سقي (3) بكأس حلاق قال أبو عبيد: ومن الدعاء عند الشماتة " به لا بظبي " أي جعل الله ما أصابه لازماص له، قال الفرزدق (4) : أقول له لما أتاني نعيه ... به لا بظبي بالصريمة أعفر ع: يقوله الفرزدق لما أتاه نعي زياد بن أبي سفيان ويرد على مسكين الدارمي في رثائه وتأبينه لزياد وذلك قوله: رأيت زيادة الإسلام ولت ... جهاراً حين فارقنا زياد فقال الفرزدق: أمسكين أبكى الله عينك إنما ... جرى في ضلال دمعها فتحدرا بكيت امرءاً فظاً غليظاً مبغضاً ... ككسرى على عدانه أو كقيصرا أقول له لما أتاني نعيه ... به لا بظبي بالصريمة أعفرا
قال أبو عبيدة: ومن دعائهم قولهم " لا لعاً لفلان " (1) أي لا أقامه الله، وأنشد للأعشى (2) : بذات لوث عفرناةٍ إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا وأنشد للأخطل (3) : فلا لعاً لبني ذكوان (4) إذ عثروا ... ع: ليس معنى لعاً: أقامه، كما ذكر أبو عبيدة، ولا قال ذلك أحد من اللغويين، وإنما تقال للعاثر لينتعش من عثرته، ولا تجيء في شعر ولا نثر إلا مقرونة بالعثار كما قال الأخطل، وقال الأعشى: كلفت مجهولها نفسي وشايعني ... (5) همي عليها إذا ما آلها لمعا بذات لوثٍ عفرناةٍ إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا قال اللغويون: لعا كلمة تقال للعاثر في معنى: اسلم، وكذلك دعدع، قال مالك ابن حريم: إذا وقعت إحدى يديها بثبرة ... تجاوب أثناء الثلاث بدعدعا (6)
وقد روي في حديث مرفوع أنه كره أن يقال للعاثر: دعدع، وليقل له اللهم ارفع وانفع. وتمام بيت الأخطل: فلا هدى الله قيساً من ضلالتها ... ولا لعاص لبني ذكوان إذ عثروا 28؟ باب الملاحاة والشتائم قال أبو عبيد: (1) قال الأصمعي: [يقال] " من نجل الناس نجلوه ". ع: معنى نجل: رمى وقذف، ومنه سمي الولد نجلاً لأن أباه قذفه في موضع التكون، ويقال: نجله بالرمح إذا رماه به، ويقال: معنى من نجل الناس نجلوه: أي [من] كشف عن مساوئهم ومعايبهم كشفوا عنها منه، واشتقاق الإنجيل من هذا لأن الله كشف بد دارساص من الحق، ويروى: من نحل الناس نحلوه؟ بالحاء المهملة. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا قولهم " سفيه لو يجد مسافيها " وهذا المثل يروى عن الحسن بن علي أنه قاله لعمرو بن الزبير. ع: وقال حاجب بن زرارة في معناه (2) :
أغركم أني بأحسن (1) شيمةٍ ... رفيق وأني بالفواحش أخرق وأنك قد فاحشتني فغلبتني ... هنيئاً مريئاص أنت بالفحش أرفق (2) (3) ومثلي إذا لم يجز أفضل سعيه ... تكلم نعماه بفيه (4) فتنطق قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة: إذا عرف الرجل بالشرارة (5) ثم جاءت منه هنة قيل " إحدى حظيات لقمان " (6) قال: وأصل الحظيات المرامي، واحدها حظية وتكبيها حظوة، وهي التي لا نصل لها من المرامي. ع: قال عبيد بن شربة: كان عمرو بن تقن (7) قد طلق امرأة فتزوجها لقمان، فكانت تلك المرأة تكثر أن تقول عنده: لا فتى إلا عمرو، وكان ذلك يغيظ (8) لقمان ويسوءه، فقال لقمان: والله لأقتلن عمراً، فقالت له امرأته، لئن تعرضت لذلك ليقتلنك؛ فصعد لقمان في سمرة عند مستقى عمرو لإبله واتخذ فيها عشاً رجاء أن يصيب من عمرو غرة، فلما وردت الإبل تجرد عمرو وأكب على البئر يسقي فرماه لقمان من فوقه بسهم في ظهره. فقال: حس، إحدى حظيات لقمان، فانتزعه ورفع بصره (9) إلى السمرة فإذا لقمان: ما ضحكي (10)
إلا من نفسي، أما إني قد نهيت عما ترى، قال: ومن نهاك؟ قال: فلانة، قال عمرو: فإن وهبتك لها لتعلمنها ذلك (1) ؟ قال: نعم، فخلى سبيله؛ فأتاها لقمان فقال: " لا فتى إلا عمرو " قالت: لقد لقيته؟ قال: نعم، فكان كذا وكذا وأسرني فأراد قتلي ثم وهبني لكن قالت " لا فتى إلا عمرو " قال: صدقت. ع: الحظوة؟ بفتح الحاء؟ السهم القصير بلا نصل، وبضمها وكسرها المنزلة والمكانة من الرفعة، يقال: حظي يحظى حظوة وحظوة. قال أبو عبيد: ويروى عن عاصم أن جاراً له نازعه في أرض ادعياها (2) - كلاهما؟ وذكر الخبر. ع: قال الزبير: بقيت تلك الأرض متروكة إلى قبيل زماننا هذا حتى تشور فيها بعض المتشورين (3) . قال أبو عبيد: ومن الأمثال المشهور في الشتم أن " يقال من سبك، فيقال: هو الذي أبلغك ". ع: قد نظم الشعراء (4) هذا فقال أحدهم (5) : لعمرك ما سب الأمير عدوه ... ولكنما سب الأمير المبلغ
قال آخر: ومن يخبرك (1) بشتم عن أخ ... فهو الشاتم لا من شتمك قال آخر (2) : وشاهد الهاجي شريك له ... ومطعن الخنزير كالآكل 29؟ باب المماكرة والخلابة قال أبو عبيد: من أمثالهم في المماكرة " ضرب أخماساً لأسداس ". وأنشد (3) : إذا أراد امرو مكراً جنى عللاً ... وظل يضرب أخماساً لأسداس ع: أرسل أبو عبيد هذا المثل إرسالاً من غير تفسير، وقال ابن الأعرابي: ضرب أخماساً لأسداس هو أن يظهر خلاف ما يكمن (4) . وأنشد: الله يعلم لولا أنني فرق ... من الأمير لعاتبت ابن نبراس في موعد قاله لي ثم أخلفه ... غدا غداً ضرب أخماسٍ لأسداس وقال محمد بن سهل راوية الكميت: إذا أراد الرجل سفراً بعيداً عود إبله أن
تشرب خمساً صم سدساً حتى إذا دفعت (1) في السير صبرت، ذكر ذلك قاسم بن ثابت عنه، والجلية في معناه أنه مثل مضروب لراعي الإبل، وأنه يوردها السدس برسم الخمس تغليطاً لصاحبها ومكراً عليه لؤونة إيرادها الماء وصروفها إلى المرعى، ومعنى يضرب هنا يجعل ويثبت، من قوله تعالى {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} (البقرة: 61) أي أثبتت ومنه ضرب المثل، وهو وضعه في موضعه وإثباته حيث يصلح له، والخمس نهاية الاظماء في الحضر، والسدس أول الاظماء عند الاضطرار والسفر، وإنما يتجاوزون الخمس إلى السدس اضطراراً. 30 -؟ باب اللهو والباطل وألفاظها قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " دهدرين سعد القين " ومعناه عندهم الباطل. قال الأصمعي: ولا أدري ما أصله. ع: هذا مثل قد اختلف فيه العلماء وكثر فيه القيل، وقلّ الانتقاد والتحصيل، فبعضهم (2) من يجعل " ده " منفصلاً من " درين " ومنهم من يجعله متصلا؟ ً مثنى من " دهدر " ومنهم من يجعله اسماً واحداً مبنياً. قال أبو علي في البارع: دهدر ودهدن؟ بالراء والنون؟ الباطل، قال الراجز (3) : لأجعلن لابنة عمرٍو فنا ... حتى يعود مهرها دهدنا (4) أي باطلاً.
وقيل أن معنى " ده ": بالغ في التداهي والكذب، كما يفعل القين المضرب به المثل في قولهم " إذا سمعت بسرى القين فإنه مصبح ". ونقل من دها إلى داه مثل هاد وهائد ولاع ولائع، ودرين من الدرور أي درّ بذلك ثم در (1) ، وثني كما يقال دواليك وهذا ذيك، وعلى هذا المعنى أيضاً ثني على قول من يجعل دهدراً اسماً واحداً. وقال أبو العلاء: دهدرين منصوب بفعل مضمر، وسعد القين يرتفع على أحد أمرين إما أن يكون نداء على قولك يا سعد القين فسعد منادى علم، والقين نعت له أي أنت عندي بمنزلة هذا الكذب، وإما أن يكون المعنى: أنت سعد القين، أي أنت مثله، وحذف (2) التنوين لكثرة الاستعمال كما قرأ بعضهم {قل هو الله أحد الله الصمد} (الإخلاص: 1) . وقال أبو علي الفارسي: دهدرين صوت لم يؤخذ من فعل وإنما هو كناية عنه وبدل منه، كما كانت هيهات وهلم ونحو ذلك من الأصوات، ودهدرين اسم للباطل وقع بطل، لتضمنه معناه ووقوعه موقعه، وهو مبني كما بنيت شتان لأنها في معنى افترق، وهيهات لأنها في معنى بعد. وإذا كان ذلك كذلك، فسعد القين مرتفع به كما يرتفع ببطل لو استعمل بدله، وكذلك ما أتى بعد هيهات من الأسماء مرتفع به ارتفاع ما بعد الفعل به. وقال غيره: دهدرين موضعه رفع لأنه خبر ابتداء محذوف كأنه قال: كلامك باطل أو فعلك (3) باطل، وكذلك سعد القين أي أنت سعد القين كما تقدم، والأمثال موضع إيجاز واختصار وقد ورد فيها من التوسع والحذف ما لم يجيء مثله إلا في أشعارهم. وقد اختلف الرواة في حكاية لفظ المثل اختلافاً شديداص فرواه ابن الأعرابي " دهرين سعد القين " وكذلك أورده المؤلف في المتن (4) " دهرين سعد القين "
- هو الباطل؟ وذكره أبو عمرو بن العلاء كما ذكره أبو عبيد " دهدرين سعد القين " نصبوا دهدرين بإضمار فعل ينصبه وتركوا تنوين سعد استخفافاً. وذكره أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب الأمثال " دهدرين وسعد القين " بالواو ونصب القين، قال: وبعضهم يرويه " دهدرى سعد القين " دهدرى مقصور بغير نون الاثنين، قال: وموضعه في ضرب المثل إذا رد على مخبر خبره أو على فاعل فعله أو حمق أحمق. ورواه أبو زياد الكلابي " دهدريه سعد القين " بالهاء ورواه يعقوب في كتاب الأمثال (1) عن الأصمعي عن خلف الأحمر: " دهدرين ساعد القين " قال خلف: كذا سمعت الأعراب يروونه. وقال أبو زيد في نوادره: يقال للرجل يهزأ منه: دهدرين وطرطبين ودهدرى، ودهدرى وسعد القين. وفي كتاب الألفاظ لابن السيكت يقال: دهدرين سعد القين (2) وساعد القين. وقال غيره: ودهدرين وسعد القين. وقال الطوسي: يقال للذي يكذب في حديثه: دهدريه سعد القين؟ بالهاء؟ فهذا جميع ما ورد فيه للعلماء لفظاً [ومعنى] وإعراباً وتأويلاً. قال أبو عبيد: قال الكسائي: " هو الضلال ابن فهلل والضلال ابن ثهللل ". ع: نقل أبو علي عن الأحمر: هو الضلال بن ثهلل وابن فهلل معرفة لا ينصرف. أراد أنه مسمى بالفعل. وقال اللغويون في ثهلان؟ اسم الجبل؟ إنه فعل ممات، ولا أدري لثهل ولا لفعل معنى. وقال أبو زيد في الضلال: ابن البهلل (3) . قال أبو عبيد: قال الكسائي من أسماء الباطل قولهم: " في السمه ".
ع: السمه والسمهى هو الكذب والباطل، وذكروا عن يونس أنه قال: السمهى هو الهواء بين السماء والأرض. وقال الأصمعي في قول رؤبة (1) : قال: يقال ذهبت (2) في السمهى؟ كذا يتكلم به؟ أي في الريح، قال: وجاء به رؤبة على حذف الألف. قال أبو عبيد: ومن أسماء الباطل عندهم " جاء فلان بالترهة " وهي واحدة الترهات وكذلك التهائه. قال القطامي (3) : ولم يكن ما اجتدينا من مواعدها ... إلا التهائه والأمنية السقما ع: وأول الشعر: بانت رميم وأمسى حبلها رمماً ... وطاوعت بك من أغوى (4) ومن صرما ولم يكن ما (5) بلونا من مواعدها ... إلا التهائه والأمنية السقما قولاً يكون من الإخلاف صاحبه ... غير المريح ولا الموفي بما زعما 31؟ باب الدعابة والمزاح ع: العرب تقول: لو كان المزاح فحلاً، لكان الشر له نسلا، وتقول أيضاً: لو كان المزاح فحلاً ما ألقح إلا جهلاً. ويقال: مزاح ومزاح؟ بكسر
الميم وضمها؟ وزعم بعضهم أن المزاح؟ بالضم؟ وزنه مفعل أي أنه مزاح عن الحق، معدول عنه. وكان ابن الماجشون كثيراً ما ينشد هذين البيتين: إنما للناس منا ... حسن خلق ومزاح ولنا ما كان فينا ... من فساد وصلاح قال أبو عبيد: جاءنا عن بعض الخلفاء أنه عرض على رجل خلتين فقال: " كلاهما وتمرا " فغضب عليه، وقال: أعندي تمزح، فلم يوله شيئاً. ع: أول من قال هذا عمرو بن حمران الجعدي (1) ، وكان في إبل لأهله يرعاها فمر به رجل قد جهده الجوع والعطش وبين يدي عمرو زبد وقرص وتمر، فقال له الرجل: أطمعني من زبدك أو من قرصك فقال له عمرو " كلاهما وتمراً " [أي كلاهما وأزيدك تمراً وقد يروى: كليهما وتمراً] (2) على إضمار الفعل في أول الكلام، ذكر ذلك سيبويه. وقال ابن كرشم الكلابي (3) : الرجل الذي مر بعمرو بن حمران هو عائذ بن يزيد اليشكري وقال في ذلك عائذ: إذا جاوزت مقفرةً رمتني ... إلى أخرى كتلك هلم جرا فلما لاحني سغب ولوح ... وقد متع النهار لقيت عمرا فقلت هلم زبداً أو سويقاً ... (4) فقال: كلاهما وتزاد تمرا
قال أبو عبيد: وقال بعض أهل العلم في شعر له (1) : أما المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرضاهما لصديق أني بلوتهما فلم أحدهما ... لمجاورٍ جاراً، ولا لرفيق ع: هذا الشعر لمسعر بن كدام الفقيه (2) ، قال ابن عيينة (3) : ما رأيت أحداً فضله عليه، قال: سمعته يخاطب ابنه كداماً في شعر له: أكدام إني قد بذلت نصيحةً ... فاسمع لقول أب عليك شفيق أما المزاحة وامراء....... ... .................. (البيتين) وقال أبو هفان: مازح صديقك ما أراد مزاحا ... فإذا أباه فلا تزده جماحا ولربما مزح الصديق بمزحةٍ ... كانت لبدء عداوةٍ مفتاحا وقال أبو تمام (4) : نفسي فداء أبي علي إنه ... صبح المؤمل كوكب المتأمل فكه يجم الجد أحياناً وقد ... ينضى ويهزل عيش من لم يهزل وقال الحكيم: الإفراط في المزاح مجون والاقتصاد فيه ظرف والتقصير عنه فدامة.
قال أبو عبيد: وذكر عند عمر بن الخطاب فلان فقال: ذلك رجل فيه دعابة. ع: لما طعن عمر رضي الله عنه دخل عليه ابن عباس فرآه مغتماً بمن يستخلف (1) ، فجعل ابن عباس يذكر له أصحابه: فذكر عثمان فقال: هو كلف (2) بأقاربه. قال فعلي، قال: ذاك رجل فيه دعابة، قال فطلحة، قال: لولا بأو فيه، قال فالزبير، قال: وعقة لقس (3) ، قال فعبد الرحمن بن عوف قال: أوه ذكرت رجلاً صالحاً ولكنه ضعيف، وهذا الأمر لا يصلح له إلا اللين في غير ضعف والقوي في غير عنف، قال: فسعد، قال: ذلك يكون في مقنب من مقانبكم. قوله: وعقة لقس معناها الشراسة وشدة الخلق؛ فلم يستخلف عمر رضي الله عنه واحداص منهم وجعلها شورى بينهم. والدعابة أيضاً نملة سوداء. 32 -؟ باب الخلف في المواعيد قال أبو عبيد: من أمثالهم في خلف (4) الموعد " إنما هو كبرق الخلب " وهو الذي لا مطر معه (5) .
ع: قال الزبير (1) : أخبرني عتبة بن حمزة اللهبي (2) قال: عندنا بمكة موضع يقال له الخلبة، يكذب برقه، فلذلك شبه الناس به البرق الكاذب فقالوا: برق الخلب. والصحيح أن الخلب إنما هو مشتق من الخلابة وهو الخداع، وفي الحديث: لا خلابة. ومن أمثالهم: " إذا لم تغلب فاخلب " فكأن البرق الخلب يخدع (3) ، يطمع بالمطر ولا مطر فيه. وقال الكميت أو غيره: بخلابة العينين كذابة المنى ... وهن من الأخلاف والولعان قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا " مواعيد عرقوب " وذكر أنه كان رجلاً من العماليق، وذكر خبره ثم قال: وفيه يقول الأشجعي: وعدت وكان الخلف منك سجية ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب ع: هكذا ثبتت الرواية عن أبي عبيد؟ بيثرب (4) ؟ يعني المدينة، وقد تقدم له أن المثل لرجل من العماليق، ولم يكن قط أحد من العماليق بيثرب ولا سكنها، وإنما هو " بيترب "؟ بالتاء المعجمة باثنتين من فوقها وبفتح الراء؟ وهكذا أنشد أبو عبيدة معمر بن المثنى البيت المذكور؟ وهو لعلقمة؟ بيترب، وقال: من أنشده بيثرب فقد أخطأ. والعماليق إنما كانت من اليمامة إلى وبار، ويترب هناك، وبيت علقمة لم يأت على هذا اللفظ، وصلة بيت علقمة وصواب إنشاده (5) :
وما أنت أم ما ذكرها ربعية ... تحل بإبرة أو بأكناف شربب أطعت الوشاة والمشاة بصرمها ... (1) فقد أنهجت حبالها للتغضب وقد وعدتك موعداً لو وفت به ... كموعد عرقوب أخاه بيثرب هكذا رواه الأصمعي وابن الأعرابي وقالا: عرقوب رجل من الأوس أو من الخزرج استعراه (2) أخ له نخلة فوعده إياها وقال حتى تزهي، فلما أزهت قال حتى ترطب، فلما أرطبت حتى تجف شيئاً ويمكن صرامها؛ ثم أتاها ليلاً فصرمها فضربته العرب مثلاً. وقال قطرب (3) : يترب قرية بين اليمامة والوشم وأنشد للجعدي (4) : وقلن لحا الله رب العباد ... جنوب السخال (5) إلى يترب لقد شط حي بجزع الأغر ... (6) حياً ترفع بالشربب ويقال لهذه القرية أيضاً أترب بالهمزة (7) . وقال أبو بكر ابن دريد (8) : اختلفوا في عرقوب فقيل هو من الأوس فيصح على هذا أن يكون بيثرب، وقيل إنه من العماليق فعلى هذا القول يكون بيترب -
هكذا قال في باب " بجبج " (1) ، وقال في باب يترب (2) : عرقوب بن معيذ (3) ويقال ابن معبد (4) من بني عبشمس بن سعد ويقال يترب أرض ببني سعد. قال غيره: وعرقوب جبل مكلل بالسحاب أبداً ولا يمطر فضرب به المثل في الخلف فقيل مواعيد عرقوب، وقال كعب بن زهير في مواعيد عرقوب (5) : كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل 33؟ باب إظهار البر باللسان والفعل لمن تراد به الغوائل قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا " شر يوميها (6) وأغواه لها " قال: وأصله أن امرأة من طسم يقال لها عنز أخذت سبية فحملوها في هودج وألطفوها بالقول (7) فعند ذلك قالت " شر يومها وأغواه لها " تقول: شر أيامي حين صرت أكرم للسباء، وفيه بيت سائر (8) : شر يوميها وأغواه لها ... ركبت عنز بحدج جملا
ع: لما ذكره أبو عبيد خبر طويل أنا أختصر (1) لفظه وأورد فائدته (2) وأصل هذا البيت بما (3) يصلح أن يوضع هنا: كانت طسم وجديس من العرب العاربة والأمم الخالية وكان المملك عليهم رجلاً من طسم فجار على جديس وأساء السيرة فيهم، وكانت لا تزف امرأة من جديس إلى زوجها حتى يؤتى بها إليه ليفتضها، فتمالأت جديس على الفتك به وبقومه وكان سيدهم الأسود بن عفار (4) فقال لهم (5) : إني لا آمن الظفر بنا عند المناهضة فنصير خولاً وعبيداً، ولكني أكتب إلى الملك أني قد تزوجت أختي فليحضرني الملك وجميع أهله ومن أحب إلى طعامي، فإذا أتوكم قام كل رجل منكم على رأس رجل منهم وقد وارى سلاحه تحت رجليه، فإذا قرب الطعام أخذ كل رجل منكم ما تحت رجليه فقتل من يليه. ونقيم مكامن من أهل الشدة وكتمان السر فيقتلون كل من يجيب الصارخ، فأنفذوا تدبيرهم هذا وقتلوا الملك وقومه طسماً (6) عن آخرهم إلا رجلاً يقال له رياح (7) بن مرة فإنه أفلت فأتى حسان بن تبع صاحب اليمن يستعديه على جديس ويذكر له استئصالهم لقومه وعظيم ما غلبوهم عليه من الأموال. فسار إليهم حسان في جيوش لا تحصى عدتها كثرة، فلما أصحروا قال لهم رياح: إن فيهم امرأة يقال لها اليمامة تبصر (8) الراكب من مسيرة ثلاثة أيام فاقطعوا الشجر وليضع كل رجل (9) منكم بين يديه غصناً من أغصانه ليشتبه عليها الأمر (10) . فقامت اليمامة؟ ويقال إن اسمها عنز؟ على رأس حصن لهم يقال له البتيل (11)
فقالت: أي قوم، زحفت إليكم الشجر أو أتتكم حمير، إني أرى شجراً وخلفها بشراً، فكذبوها، ثم رجعت بصرها فوضح لها تصديق ما رأت فقالت (1) : خذوا (2) حذاركم يا قوم ينفعكم ... فليس ما قد أرى بالأمر يحتقر إني أرى شجراً من خلفها بشر ... وكيف تجتمع الأشجار والبشر إني أرى رجلاً في كفه كتف ... أو يخصف النعل خصفاً ليس يقتدر فكذبها بعضهم وقال بعضهم: لعلها أمة طلبت غيرنا، لم نبدؤهم (3) بالمناهضة فنشب بيننا وبينهم حرباً. فما لبثوا أن صبحهم حسان بعد ثالثة فقتل الرجال وسبى النساء وقلع عيني اليمامة فوجد فيها عروقاً سوداً، فسأل ما كانت تكتحل به فقيل له حجر يقال له الإثمد، فاستعمل الإثمد من حينئذ، وصلبها على باب جو فسميت بذلك اليمامة. وأكثر الشعراء من ذكر عنز هذه في أشعارهم لحدة نظرها، قال المسيب بن علس (4) : لقد نظرت عنز إلى الجزع نظرةً ... إلى مثل موج (5) المفعم المتلاطم إلى حمير إذ وجهوا من بلادهم ... تضيق بهم لأياص فروج المخارم وقال النمر بن تولب (6) : (7) وفتاتهم عنز غداة تبينت ... من بعد مرأى في الفضاء ومسمع
قالت أرى رجلاً يقلب نعله ... (1) تقليب ذي وصلٍ له ومشع ورأت مقدمة الخميس ودونها ... ركض الجياد إلى الصباح بتبع (2) وقال الأعشى (3) : قالت أرى رجلاً في كفه كتف ... أو يخصف النعل لهفي أية صنعا فكذبوها بما قالت فصبحهم ... ذو آل حسان يزجي الموت والشرعا (4) فعنز هي الزرقاء المعروفة بحدة النظر وهي المصلوبة على باب جو فسميت بها اليمامة، بشهادة هذه الأشعار. والتي تحمل حسان إلى اليمن واختارها من نساء جديس غيرها وهي عبرى (5) - هكذا قال الهمداني؟ قال: ولم ير قط مثلها جمالاً وكمالاً. فلما ارتحل حسان من اليمامة قرب إليها جمل لتركبه فلم تدر كيف تركبه ولا من أين تأتيه فذكرها حسان في قصيدته المشهورة (6) : أخلق الدهر بجو طللا ... مثل ما أخلق سيف خللا كان طسم وجديس إخوة ... صالحاً أمرهما فاقتتلا فبغى ذاك على هذا فلم ... أرض من أمرها ما فعلا [يقول فيها] : ولقد أعجبني قول التي ... ضربت للقوم سيري مثلا شربت طسم يميناً وجرت ... لجديس الكاس عنها شملا قول عبرى واستوت راكبةً ... فوق صعب لم يقتل ذللا
شر يوميها وأخزاه لها ... ركبت عبرى بحدج جملا وحملنا بعدها أخرى على ... فاطر الناب وما إن بزلا ضجر المركب يبغي سفرا ... وهو في معطنه ما انتقلا يعني اليمامة التي صلبها. ينشد شر يوميها بالنصب، وشر بالرفع. فمن نصب فعلى الظرف ومن رفع فعلى تقدير محذوف كأنه قال: ركبت أو ركبته كما قالوا [" شهر ثرى و] شهر ترى، وشهر مرعى " أي ترى فيه النبات. وأما قوله يوميها وكان ينبغي أن يقول شر أيامها فإن للعلماء فيه جوابين: قال أصحاب المعاني: أراد يوم سبيها وحملها عن أهلها سبية، ويوم موتها وقد أودت بها المنية، فشر هذين اليومين عندها يوم سبيها وهو أغواه لها، ويروى أخزاه لها. وقال أصحاب العربية؟ أبو علي الفسوي (1) وغيره؟ يعني بشر يوميها شر أيامها فأوقع الاثنين موقع الجميع كما قال الله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} (الملك: 4) معناه ثم ارجع البصر كرات لأن البصر لا يحسر من كرة ولا من كرتين. وأما قوله: وأغواه وكان حقه أن يقول وأغواهما فإنه ينبئ عن توهم ما، كأنه قال شر ما يكون من أيامها وأغواه كما تقول: زيد أجمل الفتيان وأحسن، وقيل أراد أغوى ذلك الشر فرد الهاء على الشر كما قال الفرزدق: وجدي خطيب المشرقين وشاعره ... فرد الهاء على الخطيب، وقيل أراد وشاعر ما نذكره.
قال أبو عبيد: (1) ومن أمثالهم القديمة قولهم " الذئب يكنى أبا جعدة " قال ويقال إنه لعبيد بن الأبرص قاله للمنذر حين أراد قتله (2) : هي الخمر يكنونها بالطلا (3) ... كما الذئب يكنى أبا جعده يضرب لمن يظهر إكراماً وهو يريد غائلة لأن الذئب وإن كانت كنيته حسنة، فإن عمله ليس بحسن (4) . ع: هكذا روي عن أبي عبيد هذا البيت. وقال أبو بكر ابن دريد (5) ، وقد أنشد هذا البيت على خلاف هذا: هي الخمر تكنى الطلا ... كما الذئب يكنى أبا جعده فقال هذا البيت ناقص وهكذا روي. وقال الخليل: إنما كني الذئب أبا جعدة لبخله. قال الحربي: لأن البخيل يقال له جعد البنان وجعد اليدين، وأنشد أبو علي: أخشى أبا الجعد وأم العمر ... يعني الذئب والضبع. وقال حمزة الأصبهاني: جعدة: الشاة، وكني الذئب بها لكثرة افتراسه لها،
ويكنى أيضاً أبا جعادة، قال الشاعر (1) : فقلت له يابا جعادة إن تمت ... تمت سيء الأخلاق لا تتقبل 34؟ باب اليمين الغموس قال أبو عبيد: وفي الحديث المرفوع " إن اليمين الغموس تذر الديار بلاقع " (2) ع: كانت اليمين الغموس عند أهل الجاهلية التي تغمس صاحبها في العار، وصارت في الإسلام التي تغمسه في النار، فذلك معنى الغموس في الجاهلية والإسلام. ومن أمثالهم " حلف له بالمحرجات " أي بالإيمان التي تحرج، أي تدخله في الحرج (3) .
فراغ
الباب الثالث
الباب الثالث في جماع أحوال (1) الرجال واختلاف نعوتهم وأحوالهم 35 -؟ باب المثل في الرجل البارع المبرز في الفضل قال أبو عبيد: من أمثالهم في (2) " ما يشق غباره " وأصله في الخيل، قال: وكان المفضل يخبر بهذا المثل عن قصير بن سعد اللخمي، وكان نهى جذيمة الأبرش أن يصير إلى الزبى فعصاه حتى إذا صار في سلطانها ندم فقال له قصير عند ذلك: اركب فرسي هذا فانج عليه " فإنه لا يشق غباره " فذهبت كلمته مثلاً (3) . ومنه قول النابغة الذبياني لزرعة بن عمرو بن الصعق (4) : أعلمت يوم عكاظ حين لقيتني ... تحت العجاج فما شققت غباري
ع: كثير من العلماء يغلط في جذيمة المذكور فيظنه جذيمة الوضاح (1) ، وهو غيره، وجذيمة الوضاح سمي بذلك لوضوح لونه، وهو ابن الحارث بن زرعة بن ذي غيمان بن أخنس بن كبرال بن أصبح بن زيد بن قيس بن صيفي بن زرعة، وهو حمير الأصغر، وهذا نسب عال قديم جداً، والزبى بنت عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوثر؟ بالثاء المثلثة؟ بن غريب بن مازن ابن لأي بن عملية (2) بن هوثر بن العمالق (3) . وهؤلاء عمالقة حمير الذين خرجوا حرجاً (4) من البغي في الحرم لما حاربت قنطورا جرهماً فلحقوا بالشام فتملكوا بها، وأما جذيمة الأبرش فهو ابن مالك بن فهم بن غنم بن دوس الأزدي، كان به نمش وبرص، وهو من ملوك الحيرة، وأول من ملكها من الأزد أبو مالك ثم أخوه عمرو بن فهم ثم ابنه جذيمة بن مالك الأبرش هو الذي ناصب عمرو بن الظرب أبا الزبى فظفر به وقتله، فلم تزل بنته تنصب له الحبائل وتطعمه في نكاحها وترغبه في ملكها مجموعاً إلى ملكه، وقصير ينهاه ويحذره مكرهاً ويذكره وترها، فأبى إلا اتباع هواه في شأنها والنهوض إلى دار سلطانها وذلك بتدمر فلما صار ببقة وكانت الفرز (5) ما بين المملكتين شاور رجاله في المضي لنيته والاستمرار لطيته، فكلهم صوب ذلك إلا قصيراً فإنه استمر على نهيه عنه، قال نهشل بن حري بن ضمرة (6) : ومولى عصاني واستبد بأمره ... كما لم يطع بالبقتين قصير وقال عدي بن زيد (7) : دعا بالبقة الأمناء يوماً ... جذيمة ينتحي عصباً ثبيناً
فطاوع أمرهم وعصى قصيراً ... وكان يقول؟ لو نفع - اليقينا فلما صار جذيمة في بلاد الزبى قال القصير: ما الرأي؟ قال " ببقة تركت الرأي " فذهبت مثلاً. وقال له: ستلقاك الخيول فإن صارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أحاطت بك فالقوم غادرون، فاركب العصا " فإنه لا يشق غباره " فإني راكبه ومسايرك عليه، فلقيته الخيول والكتائب فأحاطت به وحالت بينه وبين العصا، ونظر الأبرش إلى قصير على ظهر العصا فقال " ويل أمه حزماً على ظهر العصا " فأرسلها مثلاً، فلما وصل جذيمة إلى الزبى كشفت له عن شوارها وقد ضفرت شعرته فقالت: يا جذيمة أشوار عروس ترى؟ قال: ما أرى إلا شوار لخناء. فأمرت الزبى بفصاده في طست ذهب، تفاؤلاً أن ثأره قد ذهب، وقد قيل لها: إن سقط من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه فلما ضعفت يده سقطت فقطر أمه في غير الطست. وقال سويد بن أبي كاهل (1) : وأبو مالك الملك الذي ... قتلته بنت عمرو بالخدع وخلف جذيمة في ملكه عمرو اللخمي؟ ابن أخته؟ ولم يكن لجذيمة ولد، وهو الذي يقال له فيه " شب عمرو عن الطوق " فانتقل ملك الحيرة من الأزد إلى لخم، فقال قصير لعمرو تأهب واستعدد ولا تطل دم خالك. ولم يزل قصير يعمل الحيلة ويزاول المكيدة؟ في خبر طويل؟ حتى أدرك عمرو بثأر خاله. والزبى على وزن فعلى مقصور وقد رد العلماء فيه لأنه تأنيث زبان؟ الاسم المستعمل؟ فأما زباء ممدود فإنما تأنيث أزب ولم يستعمل اسماً وإنما هو صفة للكثير شعر البدن، وإذا وصفت الداهية بالشدة قيل داهية زباء. (2) والشاهد لما
قلناه قول عدي بن زيد: فأضحت من مدائنها كأن لم ... تكن زبى لحاملة جنينا وقال أبو عبيد في البيت الذي تقدم إنشاده للنابغة: فما شققت غباري، قال: ويروى: فما حططت غباري، قلت: وهذا يروى بالحاء والخاء فما خططت غباري؟ بالخاء المعجمة؟ معنى شققت، أي لم تلحق بغباري حتى تدخله فتشقه بدخولك فيه أو تحطه بلحاقك بي، ومن رواه بالحاء المهملة فإن معناه لم يرتفع غبارك فوق غباري فتحطه (1) ، وذكر ذلك ابن السيرافي. قال أبو عبيد: ومن ذلك [قولهم] " جري المذكي حسرت عنه الحمر " أي كمات يسبق الفرس القارح الحمر. وقال زهير (2) : فضل الجياد على الخيل البطاء ولا ... (3) يعطيك ذلك ممنوعاً ولا نزقا ع: يمدح زهير هرم بن سنان، وقبل البيت (4) : ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... (5) ما كذب الليث عن أقرانه صدقا يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا (6) فضل الجياد................. ... .......................
ويروى: ممنوناً ولا نزقا. قال أبو عبيد: وقال قيس بن زهير لحذيفة بن بدر: " جري المذكيات غلاب ". ع: قوله غلاب أي كأنها تغالب الجري مغالبة. ويروى: غلاء أي مغالاة في السير. ولما تراهن قيس بن زهير العبسي وحمل بن بدر الفزاري؟ لا حذيفة ابن بدر كما قال أبو عبيد؟ فأرسلا فرسيهما: فرس قيس داحس، وفرس حمل الغبراء وقيل غير ذلك، فلما أحضرا خرجت الغبراء على داحس فقال حمل بن بدر: سبقتك يا قيس. فقال قيس " رويداً يعدوان الجدد " فأرسلها مثلاً، فلما أوغلا عن الجدد وخرجا إلى الوعث (1) برز داحس إلى الغبراء فقال قيس " جري المذكيات غلاب " فذهبت مثلاً، وهذا الرهان جر الحرب بين عبس وذبيان أربعين سنة، والله تعالى أعلم. 36 -؟ باب الرجل النابه الذكر الرفيع القدر قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " ما يوم حليمة بسر ". وكان هشام بن الكلبي يخبر أنها حليمة بنت الحارث بن أبي شمر الغساني. وكان من حديثها أن أباها وجه جيشاً إلى المنذر بن ماء السماء فأخرجت لهم طيباً في مركن فطيبتهم. ع: الحارث هذا هو الحارث الأعرج ويكنى أبا جبلة، وكان المنذر ابن ماء السماء [اللخمي] غزاه في مائة ألف فرأى الحارث أنه لا قبل له به، فأعمل الحيلة
والمكيدة في أمره، فبعث إليه غلام من أبناء العرب فيهم لبيد بن ربيعة (1) وبعث معهم هدايا وأظهر أنه حباء للمنذر وأن الحارث قد بخع (2) بطاعته، فأحاطوا برواقه، فلما استنام (3) إليهم وغفل، وثبوا عليه فقتلوه وجالوا في متون خيلهم، فنجا أكثرهم وحمل الحارث على العسكر فحطمه، وكانت حليمة بنته قد دلته على هذا الرأي ونبهته على هذه المكيدة فنسب ذلك اليوم إليها. ويقول من لا علم له إنها طيبت المائة الغلام، والملوك لا تمتهن حرمهم هذا الامتهان، بل السوقة (4) تأنف من ذلك وتأباه، فكيف الملوك؟ قال أبو عبيد: ومن أمثالهم فيه: " وهل يخفى على الناس النهار ". ع: هذا عجز بيت للقتال (5) وهي أبيات، قال (6) : أنا ابن المضرحي أبي سليل ... وهل يخفى على الناس النهار علينا سبره ولكل فحلٍ ... على أولاده منه نجار يقول: يلوح علينا كرم نجارنا وشبه آبائنا. قال أبو زيد: السبر ما عرفت به لؤم دابة من كرمها، وأصله من قولهم: سبرت الجرح إذا عرفت مقداره بالميل وهو السبار. وفي الحديث أن أبا بكر قال للنبي عليه الصلاة والسلام في حديث الهجرة: لا تدخل الغار حتى أدخله فأسبره قبلك.
37 -؟ باب الرجل العزيز المنيع الذي يعز به الذليل (1) قال أبو عبيد: (2) من أمثالهم في هذا " إن البغاث بأرضنا يستنسر " والبغاث: الطير الذي يصاد، واحدته بغاثة. وقال الزبير: البغاث ذكر الرخم، قال الشاعر (3) : كأن بني مروان إذ يقتلونه ... بغاث من الطير اجتمعن على صقر ع: حكى أبو حاتم هذا المثل عن الأصمعي " إن البغاث؟ بكسر الباء؟ بأرضنا تستنسر "؟ بالتاء؟ فقال: هكذا قاله الأصمعي، وذكر ذلك أبو علي في البارع (4) . وقول الزبير: البغاث ذكر الرخم، قول غريب، وإنما البغاث كل ما يصاد من الطير، والجوارح منها كل ما صاد، والرهام ما لا يصيد ولا يصاد كالخطاف والخفاش، وقول الشاعر: كأن بني مروان إذ يقتلونه، يعني قتل عبد الملك بن مروان لعمرو بن سعيد بن العاص. قال أبو عبيد: فإن أرادوا أن كل من ناوأنا ذل عندنا قالوا: " لا حر بودي عوف " يقول: كل من صار بناحيته خضع وذل، وذكر (5) عن المفضل خبره.
ع: الذي ذكر أبو عبيد عن المفضل خلاف ما رواه أكثر العلماء وذلفك أن مروان القرظ بن زنباع العبسي الذي يقال فيه: " أعز من مروان القرظ " غزا بكر بن وائل فقصوا أثر جيشه، فأسره رجل منهم يقال له زهير بن أمية بن جشم بن تميم الله بن ثعلبة وهو لا يعرفه فأتى به أمه، فلما رأته يسوق أسيره قالت: إنك لتختال بأسيرك كأنك قد جئت بمروان القرظ. فقال لها مروان: وما ترتجين من مروان؟ قالت: كثرة فدائه، قال: وكم مبلغ رجائك من فدائه، قالت: مائة بعير. قال مروان: لك عندي مائة بعير على أن تؤديني إلى خماعة بنت عوف ابن محلم. قالت: ومن لي بالإبل، فأخذ عوداً من الأرض وقال: هذا لك، فمضت به إلى خماعة (1) فبعثت به إلى أبيها. ثم إن عمرو بن هند بعث إلى عوف أن يأتيه بمروان وكان عليه واجداً. فقال عوف لرسول الملك: إن خماعة بنتي قد أجارته، فقال: إن الملك قد آلى أن لا يعفو عنه أو يضع كفه في كفه. فقال عوف: على أن يكون كفي بين أيديهما. ثم حمله إليه على هذه الشريطة، فعفا الملك عنه وقال: " لا حر بوادي عوف ". ووهم أبو عبيد فيما أورده فقال: إن الذي كان يطلبه المنذر بالذحل زهير بن أمية وإنما المطلوب بذلك مروان القرظ، وأسره زهير بن أمية. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في العزة (2) قولهم " تمرد مارد وعز الأبلق " وكان المفضل يقول (3) : هذا المثل للزبى الملكة وكانت سارت إلى مارد، حصن دومة الجندل، وإلى الأبلق، حصن تيماء، فامتنعا عليها فعندها قالت " تمرد مارد وعز الأبلق ". ع: هذا الحصنان كانا للسموأل بن عاديا، وكان مارد مبنياً بحجارة
سود، والأبلق مبني (1) بحجارة سود وبيض فلذلك سمي الأبلق. ودومة الجندل بضم الدال؟ قال أبو بكر ابن دريد: وأصحاب الحديث يقولون بفتحها، وهو خطأ. وقد حكاه غيره؟ وهو على عشر مراحل من المدينة وعشر من الكوفة وثمان من دمشق واثنتي من مصر. 38 -؟ باب الرجل الصعب الخلق الشرس الطبيعة، الشديد اللجاجة قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: " لتجدن فلاناص ألوى بعيد المستمر " قال: المفضل فيما بلغني عنه يذكر (2) أن المثل للنعمان بن المنذر، قاله في خالد بن معاوية السعدي، ونازعه رجل عنده فوصفه النعمان بهذه الصفة، فذهبت مثلاً. ع: الذي نازع خالد بن معاوية بنو غنم، وهو غنم بن دودان بن أسد، وسنذكر خبره بعد هذا إن شاء الله تعالى. وهذا المثل في رجز لأرطاة بن سهية مشهور، قال (3) : إذا تخازرت وما بي من خزر ... ثم كسرت العين من غير عور ألفيتني ألوى بعيد المستمر ... أبذى إذا بوذيت من كلب ذكر
أحمل ما حملت من خيرٍ وشر ... وهي طويلة. قال أبو عبيد: (1) من أمثالهم في هذا: " ما بللت منه بأفوق ناصل " وأصله (2) السهم المكسور الفوق، الساقط النصل، يقول: فهذا ليس كذلك في الرجال. ع: لم يفسر أبو عبيد قولهم: بللت، يقال: بللت به؟ بكسر اللام؟ أبل، وقال أبو نصر: بللت به فأنا أبل به إذا ظفرت به. قال ابن أحمر (3) : فبلي إن بللت بأريحي ... من الفتيان لا يضحي بطينا وأنشد أيضاً: ولو ببني ذبيان بلت رماحنا ... لقرت بهم عيني وباء بهم وتري وقال غيره: بلت بمعنى منيت بهم، وعلقتهم، يقال فيه: بلت تبل بلالةً وبلولا، ويقال أيضاً: بللت بفلان بلالةً: منيت به. قال أبو عبيد: ومثله قولهم: " وما تقرن بفلان الصعبة " أي أنه يذل من ناوأه. ع: الذي قاله الأصمعي وغيره في هذا المثل " بفلان تقرن الصعبة ".
وهو الصحيح لا غير، وكذلك رواه الأصمعي، أي أن صعاب الأمور تراض به وتذل بتدبيره كما قال: إذا القوم قالوا من فتىً لعظيمةٍ ... فما كلهم يدعى ولكنه الفتى قال أبو عبيد: عن الأصمعي: ومثله " لقد كنت وما يقاد بي البعير ". ع: قال محمد بن حبيب: أول من قال هذا المثل سعد بن زيد مناة من تميم وهو الفزر، وكان له بنون: هبيرة وعبشمس وصعصعة أبو عامر بن صعصعة وأمه الناقمية، فكبر سعد حتى كان لا يطيق ركوب البعير، ولا يملك رأسه إلا أن يقاد به فقال يوماً وصعصعة يقوده: " لقد كنت وما يقاد بي البعير ". قال المخبل (1) : كما قال سعد إذ يقوم به ابنه ... كبرت فجنبني الأرانب صعصعا (2) وكان سعد كثير الشاء فقال يوماً لابنه هبيرة: يا بني، اسرح في معزاك، فقال: " لا أرعاها حتى يحن الضب في آثار الإبل الصادرة " فقال لعبشمس: ارعها، قال: " لا أرعاها سبعين خريفاً " فقال لصعصعة: ارعها، فقال: لا أرعاها ألوة (3) أخي هبيرة "؟ أراد يمين أخي هبيرة؟ فذهبت أقوالهم أمثالاً. فغضب سعد وكظم على ما نفسه (4) ثم ذهب بشائه إلى سوق عكاظ والناس مجتمعون، فنادى: ألا إن هذه معزاي فلا يحل لأحد أن يدع أخذ شاة منها ولا يحل
لرجل (1) أن يجمع (2) بين ساتين، فانتهبها الناس. وحكى الكلبي أنه قال: من أخذ منها واحدة فهي له ولا يحل لأحد أن يأخذ منها فزراً، وهو الاثنان، فبهذا لقب الفزر وضرب به المثل فقيل: " لا أفعل ذلك معزى الفزر " أي حتى تجتمع. قال شبيب بن البرصاء (3) : ومرة ليسوا نافعيك ولن ترى ... لهم مجمعاً حتى ترى غنم الفزر وقال السعدي: وقد أنهب المعزى فبرت يمينه ... وما ضر سعداً ماله المتنهب وقد تقدم في اشتقاق الفزر غير هذا. 39 -؟ باب الرجل النجيد يلقى قرنه في البسالة والنجدة قال أبو عبيد: ومنه قولهم " الحديد بالحديد يفلح " قال الشاعر: قومنا بعضهم يقتل بعضاً ... لا يفل الحديد إلا الحديد ع: لما خرج الوليد بن طريف الشيباني الشاري على الرشيد اشتدت شوكته فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فقتله، فقال الشاعر، وهو بكر بن النطاح: وائل بعضها يقتل بعضاً ... لا يفل الحديد إلا الحديد لو تلقى الوليد غير يزيد ... لغدا ظاهراً عليه الوليد
ورثته أخته فارعة بنت طريف على ما يأتي ذكره بعد هذا. قال أبو عبيد: وكذلك قولهم " النبع يقرع بعضه بعضاً " وهذا المثل لزياد قال في نفسه وفي معاوية. ع: كان زياد على البصرة والمغيرة بن شعبة على الكوفة. فتوفي المغيرة فخاف زياد أن يولي معاوية مكانه عبد الله بن عامر (1) - وكان لذلك كارهاً؟ فكتب إلى معاوية يخبره بوفاة المغيرة ويشير عليه بولاية الضحاك بن قيس مكانه، ففطن له معاوية وعلم ما أراد فكتب إليه: قد فهمت كتابك فأفرخ روعك أبا المغيرة، لسنا نستعمل ابن عامر على الكوفة، قد ضممناها إليك مع البصرة. فلما ورد الكتاب على زياد قال: " النبع يقرع بعضه بعضاً " يثبت بذلك زياد نسبه في بني حرب وأنه ومعاوية من نجار واحد يفهم كل واحد منهما غرض صاحبه ومغزاه. والنبع من أفضل (2) العيدان وأصلبها، وأكرم القسي ما كان من النبع؟ انتهى. 40 -؟ باب الرجل تكون له نباهة الذكر ولا منظر عنده (3) قال أبو عبيد: [قال الكسائي] (4) : من أمثالهم في هذا " أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ". قال أبو عبيد: كان الكسائي يدخل فيه " أن " والعامة لا تذكر فيه " أن " ووجه الكلام ما قال الكسائي (5) .
قال: وأخبرني [ابن] الكلبي أن هذا المثل إنما ضربوه للصقعب بن عمرو النهدي، قاله فيه النعمان بن المنذر، وهذا على معنى من قال: قضاعة من معد لأن نهداً من قضاعة. ع: حذف " أن " من المثل أشهر عند العلماء، فيقولون: تسمع بالمعيدي؟ بضم العين؟ وتسمع؟ بنصبها؟ على إضمار أن، وأكثرهم أيضاً يقول: لا أن تراه. والصقعب لقب واسمه جشم بن عمرو، والصقعب: الطويل. وقول أبي عبيد: وهذا على معنى من قال قضاعة من معد يريد لقولهم أن تسمع بالمعيدي، وضرب مثلاً أول ما نطق به لنهدي، ونهد من قضاعة. وأهل العلم بالنسب مجمعون (1) على أن معد بن عدنان ولد من المعقبين أربعة: قضاعة وقنصاً وإياداً ونزاراً. فصارت قضاعة إلى اليمن وقالوا: نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر ... نحن بنو قضاعة بن حمير النسب المشهور فير المنكر ... والصقعب هذا هو الذي يضرب به المثل فيقال " أقتل من صيحة الصقعب " وزعم ابن النحاس فيما رواه عن رجاله أنه صاح في بطن أمه صيحة سمعت، وأنه صاح بقوم فهلكوا عن آخرهم. قال أبو عبيد: وأما المفضل (2) فحكي عنه أن المثل للمنذر بن ماء السماء قاله لشقة بن ضمرة التميمي، وكان سمع بذكره، فلما رآه اقتحمته عينه فقال " أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " قال فقال شقة: إن الرجال ليسوا
بجزر تراد منهم الأحجام (1) : " إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه ". ع: إنما قال له شقة بن ضمرة: أيها الملك إن الرجال لا تكال بالقفزان، ولا توزن بالميزان، وليست بمسوك يستقى بها الماء، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إن قال قال ببيان، وإن صال صال بجنان. ويروى: وإن صمت صمت بجنان، فأعجب المنذر ما سمع منه وقال: أنت ضمرة بن ضمرة (2) . ومن ولده نهشل بن حري بن ضمرة بن ضمرة شاعر مجيد. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في نباهة الذكر من غير قديم قولهم: " نفس عصام سودت عصاماً (3) . ع: هو عصام بن شهبر حاجب النعمان الذي يقول له النابغة الذبياني: فإني لا ألام على دخول ... ولكن ما وراءك يا عصام وبعد الشطر الذي أنشده: وعلمته الكر والإقداما ... وصيرته ملكاً هماما فكل من كان لخارجية ليس له قديم فشرف بنفسه قيل له عصامي. وقال المأمون لرجل سمعه يفخر وهو ناقص: أنت عظامي لا عصامي؛
أراد المأمون قول الشاعر: نفس عصام سودت عصاماً ... وقول الآخر: إذا ما الحي عاش لعظم (1) ميت ... فذاك العظم حي وهو ميت وقال أبو الطيب (2) : إذا لم تكن نفس النسيب كأصله ... فماذا الذي تغني كرام المناصب (3) وقال البحتري: إن النجابة لا يكون تمامها ... لنجيب قوم ليس بابن نجيب وقال الصابي: وأحق من نكسته ... بالصغر من درجاته من مجده من غيره ... وسفاله من ذاته قال أبو عبيد: [و] من أمثالهم في الدميم الذي لا منظر له غير أن فيه خصالاً محمودة " هو قفا غادر شر " وذكر خبره. ع: ويروى " هي قفا غادر شر " لأن القفا يؤنث ويذكر، وكذلك اللسان والمتن والإبط والعاتق والعنق والضرس، فأما الذراع عند بعضهم فيجوز فيها التذكير، ولا يرى ذلك سيبويه ولا يجيزه، والقفا مقصور وقد يمد، قال الشاعر:
قفاؤك أحسن من وجهه ... وأمك خير من المنذر وقفا غادر في موضع نصب على الحال (1) أراد هو شر إذا كان قفا غادر أو إذا صار قفا غادر أي قبح المنظر مع قبح المخبر شر، فهو مبتدأ وشر خبره، وقفا غادر في موضع نصب على الحال، كما تقول: زيد قائماص أحسن منه جالساً. ويحتمل أن يكون " هو " ضمير الأمر والشأن فهو مبتدأ وما بعده جملة في موضع الخبر عنه والتفسير له، أي الأمر الصحيح قفا غادر شر من قفا واف. ويجوز أيضاً على هذا التقدير " هي " على معنى القصة، كما قال تعالى {فإنها لا تعمى الأبصار} (الحج: 46) . قال الأصمعي: والمثل لعبيد بن شجنة، قاله في الجاهلية، وقال غيره: المثل لأبي حنبل جارية بن مر الطائي (2) - كان من حديثه أن امرأ القيس نزل به (3) ومعه أهله وماله وسلاحه ولأبي حنبل امرأتان جدلية وثعلية، فقالت (4) الجدلية: رزق الله أتاك، لا ذمة له عليك ولا عقد ولا جوار، فكله وأطعمه قومك. وقالت الثعلية: رجل تحرم بك واستجارك فأرى أن تحفظه وتقي له ماله (5) . فقام أبو حنبل إلى جدعة من الغنم فاحتبلها وشرب لبنها ثم مسح بطنه وقال: لقد آليت أغدر في جداع ... وإن منيت أمات الرباع لأن الغدر في الأقوام عار ... وأن الحر يجزأ بالكراع فقالت الجدلية: ما رأيت كاليوم قفا واف، فقال: " هو قفا غادرٍ شر ".
41 -؟ باب الرجل ذي الدهاء والأرب قال أبو عبيد: قال أبو زيد: من أمثالهم في هذا " إنه لهتر أهتار وإنه لصل أصلال " وأصله من الحيات. شبه الرجل بها. ع: أما قولهم: هتر أهتار، فإن العرب تقول: فلان هتر أهتار إذا وصف بالنكر أو الدهاء، والهتر: العجب، قال أوس بن حجر: يراجع هتراً من تماضر هاترا ... وقال اللحياني: يقال إنه لصل أصلال، وضل أضلال؟ بالضاد المعجمة؟ والصل من الحيات: التي لا يبل سليمها، قال الشاعر: والحية الصل لا تغررك هدأته ... فكم سليم وموقوذ لنكزته وقال ابن أخت تأبط شراً (1) : مطرق يرشح موتاً كما أطرق أفعى ينفث السم صل ... وأما قولهم ضل أضلال؟ بالضاد؟ فمعناه أنه يضل خصمه وقرنه فلا يهتدي من حيث يأتيه ولا يتجه معه لوجه يخلصه منه. وذلك من قولهم: أرض ضل إذا ضللت سالكها، وضل الشيء إذا خفي وغاب وبذلك فسر قوله تعالى {أإذا ضللنا في الأرض} (السجد: 10) وقيل: معناه إذا هلكنا، وإذا قالوا: فلان ضل؟ بالضم؟ فإنما به المنهمك في الضلال، وهو ضل بن ضل. فأما شطر بيت أوس بن حجر فإن صلته (2) :
ألم خيال موهناً من تماضرا ... (1) هدوا لم يطرق من الليل باكرا وكان إذا ما التم منها بحاجة ... يراجع هتراص من تماضر هاترا التم: أي ألم، يقول: إذا ألم به الخيال عاوده الخبال (2) فاضطرب لبه. وقال ابن الأعرابي: الهتر والهتر؟ بالكسر والضم؟ ذهاب العقل. قال أبو عبيد: قال أبو زيد: ومن أمثالهم في هذا أيضاً " إنه لداهية الغبر ". قال الحرمازي للمنذر بن الجارود: داهية الدهر وصماء الغبر ... ع: قال محمد بن حبيب: الغبر: الماء الذي قد غبر زماناً غير مورود ولا يقربه أحد من أجل هذه الحية. يقول الحرمازي لابن الجارود في سنة أصابتهم (3) : أنت لها منذر من دون مضر ... [أنت لها منذر من بين البشر] داهية الدهر وصماء الغبر ... قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا " فلان أعلم من حيث تؤكل الكتف ". ع: معناه أن لحم الكتف إذا أكل من أعلاه تناثر، وإذا أكل من قبل
الغضروف لم يتأت لآكله، وقيل: إن آكل الكتف إذا أمسك منها بطرف الغضروف ربما سقطت فتربت، وإذا أمسكها بالطرف الذي فيه الحق أمن ذلك، فيضرب مثلاً لمن حرب الأمور ودرى مآخذها وعلم مواردها ومصادرها. قال ابن الأعرابي: للكتف مأتى، إذا قشرتها من أسفلها جامعتك (1) وإذا قشرتها من أعلاها تقطع لحمها، وأنشد لأوس بن حجر (2) : أم دلكم بعض من يرتاد مشتمتي ... فأي أكلة لحمٍ تؤكل الكتف يقول: أنا أعلم كيف أنالكم (3) ، والإكلة: الحال التي يؤكل عليها مثل الجلسة والركبة، وأنشد: إني على ما ترين من كبري ... أعلم من حيث تؤكل الكتف 42؟ باب الرجل الفهم العالم بمغمضات الأمور قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " إنه لنقاب " والنقاب: الرجل الفطن الذكي الفهم، ومنه قول أوس بن حجر (4) : كريم (5) جواد أخو مأقط ... نقاب يحدث بالغائب ع: قولهم نقاب (6) أصل هذه الصفة من التنقيب في البلاد والتجريب للأمور.
ومن كلامهم في المجرب الداهي " فلان قد ركب ظهري البر والبحر، وعرف حالي الخير والشر، وذاق طعمي الحلو والمر "، وقال بعض (1) البلغاء: لا ينال أحد الحكمة حتى ينسى الشهوات ويجوب الفلوات ويحالف الأسفار ويقتات القفار ويصل الليلة باليوم ويعتاض السهر من النوم (2) . وقال أبو الأشعث: النظر كالسيف والتجارب كالمسن. وقيل: مرآة العواقب في يدي ذي التجارب. وقال أبو تمام يصف نفسه بالتنقيب وشدة التجريب (3) : سلي هل عمرت القفر وهو سباسب ... وغادرت ربعي من ركابي سباسبا وغربت حتى لم أجد ذكر مشرق ... وشرقت حتى قد نسيت المغاربا وقال ايضاً (4) خليفة الخضر من يربع على وطن ... في بلدة فظهور العيس أوطاني بالشام (5) أهلي وبغداد المنى وأنا ... بالرقمتين (6) وبالفسطاط إخواني وكذلك قولهم " فلان باقعة " إنما أصله من حلول البقاع وتطلع البلاد وأهلها. وقول أوس: أخو مأقط، المأقط: موضع الحرب ومكان رحاها، وقوله: نقاب يحدث بالغائب، يصفه بالذكاء وجودة الحدس وإصابة الظن، كما قال في صفته في موضع آخر (7) : الألمعي الذي يظن لك الظن كأن قد رأى وقد سمعا.
وقال بلعاء بن قيس (1) : وأبغي صواب الظن أعلم أنه ... إذا طاش ظن المرء طاشت مقادره وقال آخر: بصير بأعقاب الأمور إذا التوت ... كأن له في اليوم عيناً على غد وقال شاعر عصره (2) : تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى ... إلى قول قوم أنت بالغيب عالم [وقال ابن الرومي: كمال وافضال وبأس ونجدة ... وظن يريه الغيب لا رجم راجم] (3) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من لم ينتفع بظنه لم ينتفع بيقينه. وقال عبد الملك بن مروان: ما فرق بين عمر وعثمان إلا اختلاف الظن، ظن عمر فأصاب فتحفظ، وظن عثمان فأخطأ فأهمل. قال أبو عبيد: ويقال في نحو منه " إنه لعض " قال القطامي (4) : أحاديث من عاد وجرهم ضلة ... يورثها العضان زيد ودغفل ع: العض: الرجل المنكر الداهية، وأصله من العض على النواجذ، يقال: عض الرجل على نواجذه إذا صبر على الأمر. وفي تحريض علي رضي الله تعالى عنه لأصحابه يوم صفين: عضو على النواجذ من الأضراس فإنه أبر للسيوف
على (1) الهام. والنواجذ أقصى الأضراس وآخرها نباتاً، وهي أربعة، ناجذ في أقصى (2) كل فك. والعرب تسمي الناجذ سن الحلم (3) حتى قالوا: نبت حلمه إذا نبت ناجذه، قال الشاعر وهو النمر بن تولب: على أنها قالت عشية زرتها ... هبلت ألم ينبت لذا حلمه بعدي وكذلك تسميها الفرس خوذدندان (4) . وزعم قوم أن النواجذ إنما هي الضواحك واحتجوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ضحك حتى بدت نواجذه، وأقصى الأضراس لا تبدو عند أشد الضحك، فكيف والرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان ضحكه تبسماً. ومنه قولهم: قد نجذت فلاناً الخطوب إذا أحكمته التجارب. وقال الحارث بن وعلة (5) : الآن لما ابيض مسربتي ... وعضضت من نابي على جذم (6) ويروى في بيت القطامي: أحاديث من عاد وجرهم جمة (7) . ويروى يثورها وينورها. ومعنى ضلة: لا يهتدى لها. قالت السلكة أم السليك (8) : ليت شعري ضلةً ... أي شيء قتلك
ومعنى يشورها: يبعثها من مكامنها، ويبرزها من مظانها، ومعنى ينورها: يبين وجوهها ويكشف ما استتر منها، مأخوذ من النور الذي يجلو الظلمات. وزيد أحد بني هلال بن ربيعة وهو الكيس النمري وكان من أعلم الناس. ودغفل من بني ذهل بن ثعلبة وكان عالماً بأنساب العرب. وقبل البيت: ألا عللاني كل حي معلل ... ولا تعداني الشر والخير مقبل فإنكما لا تدريان أما مضى ... من العيش أم ما قد تأخر أطول أحاديث من عاد وجرهم جمة. قال أبو عبيد: وقال أعرابي لعيسى بن عمر " شهدت عليك بالفقه ". ع: يريد بالفقه هنا الفطنة من قولهم قد فقه الرجل عنه إذا فهم وفطن لمراده، يقال منه قد فقه؟ بكسر القاف؟ يفقه؟ بفتحها -. وقوله شهدت عليك يريد: شهدت لك. وفي حديث مولد النبي عليه الصلاة والسلام: ثلاث يشهدن عليه منها أنه طلع نجمه البارحة، ومنها أن اسمه محمد، ومنها أنه ولد في صيابة قومه: يعني يشهدن له، ذكر ذلك أبو محمد بن قتيبة. 43 -؟ باب الرجل الجزل الرأي الذي يستشفى برأيه (1) قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا " عنيته تشفي الجرب ".
ع: هكذا قال أبو عبيد، تشفي الجرب؟ بفتح الجيم والراء؟ فيكون انتصابه على إسقاط حرف الصفة، فلما سقط أوصل الفعل فنصب وإنما هو تشفي من الجرب. والذي رواه غيره " عنيته تشفى الجرب " ورواه قوم تشفي الجرب. قال أبو عبيد: ويقال في مثل هذا " إنه نهاض ببزلاء " ومنه قول الشاعر (1) : إني إذا شغلت قوماً فروجهم ... رحب المسالك نهاض ببزلاء ع: وقولهم " إنه لذو بزلاء " فسره العلماء على وجهين. قالوا: البزلاء: الرأي الجيد الذي ينشق عن الصواب. مأخوذ من بزل ناب البعير إذا انشقت عنه لثته. قال الراعي (2) : من أمر ذي بدوات لا تزال له ... (3) بزلاء يعيى بها الجثامة اللبد ويقال: رجل بازل إذا احتنك، تشبيهاً بالبازل من الإبل الذي كملت سنه واستوفى قوته. والوجه الثاني: أن البزلاء الداهية العظيمة يقال: فلان نهاض ببزلاء إذا كان مطيقاً للشدائد.
قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ومن أمثالهم [في هذا] (1) قولهم: " لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما " وذكر خبره وأنه يقال في عامر بن الظرب العدواني، ويقال في أكثم بن صفي، ويقال أول من قرعت له العصا سعد بن مالك الكناني (2) : ع: البيت الذي أنشده للمتلمس جرير بن عبد المسيح الضبعي، سمي المتلمس بقوله (3) : فهذا أوان العرض حي ذبابه ... (4) زنابيره والأزرق المتلمس وذكر الرواة فيمن قرعت له العصا رابعاً لم يذكره أبو عبيد وهو عمرو بن حممة الدوسي، وهو (5) من حكام العرب وكهانها وذوي الرأي منها، وقيل إن الذي كان يقرع للرابع منهم المجن.
وبعد بيت الملتمس (1) : ولو غير أخوالي نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما وكان الملتمس قد نشأ في أخواله؟ بني يشكر؟ حتى كادوا يغلبون على نسبه، فسأل عمرو بن هند الحارث بن قتادة بن التوأم اليشكري عن نسب الملتمس فقال: أواناً يزعم أنه من ضبيعة أضجم، وأواناً يزعم أنه من بني يشكر فقال عمرو: ما هو إلا كساقط بين الفراشين. فبلغ ذلك الملتمس فقال في ذلك هذه الكلمة، وفيها: أحارث إنا لو تشاط دماؤنا ... تزايلن حتى ما يمس دم دما (2) 44؟ باب الرجل يصيب بالظنون حتى كأنه يرى الظن عياناً قال أبو عبيد: من أمثالهم [في هذا] " إنه لألمعي "، وأنشد بيت أوس بن حجر وقد تقدم إنشاده. ع: اشتقاق الألمعي من اللمعان كأن الأمور تلمع له وتبين، وكأن مغيبها يشف له (3) ويظهر. قال أبو عبيد: ويروى في حديث مرفوع: لم تكن أمة إلا وفيها (4) محدث
فإن يكن في هذه الأمة محدث فهو عمر بن الخطاب (1) . ع: ويروى من طرق مختلفة عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون؟ وفي رواية: رجال يكلمون؟ من غير أن يكونوا أنبياء. فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر. ويروى: لم تكن أمة إلا وفيها مروعون فإن يكن في هذه الأمة مروع فإنه عمر بن الخطاب. المروع: الذي يلقى الصواب والحق في روعه إلهاماً من الله تعالى. من ذلك أن سارية بن زنيم كان في جيش للمسلمين في بعض ثغورهم فألقى الله تعالى في روع عمر وهو يخطب بالناس بالمدينة أن العدو قد نهد إلى المسلمين، واشتد الخطب عليهم، وكان المسلمون بحضرة جبل، فقطع عمر الخطبة ونادى: يا سارية الجبل الجبل. فأسمع الله سارية (2) ، وانحاز بالمسلمين إلى الجبل فتخلصوا. وقد قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله، لو تطوقنا بين الصفا والمروة فأنزل الله {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} (البقرة: 158) ، وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب. واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة فقلت: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} عنزلت هذه الآية (التحريم: 5) ؟ رواه (3)
حميد عن أنس عن عمر. وقد تقدم من ذكر الإصابة بالظن قبل هذا ما أغنى عن الإعادة. قال أبو عبيد: ومن هذا مقالة عمرو بن العاص وقد اعتزل الناس آخر خلافة عثمان، فلما بلغ (1) حصره ثم قتله قال: أنا أبو عبد الله " إذا (2) حككت قرحةً أدميتها ". ع: المعروف من الرواية في هذا: إني إذا نكأت قرحة أدميتها. وكان سبب حقد عمرو بن العاص على عثمان رضي الله عنه أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري كان من فرسان قريش المعدودين فيهم، وكان على ميمنة عمرو بن العاص في افتتاحه مصر وفي حروبه كلها هنالك، فلما عزل عثمان عمراً عن مصر ولاها عبد الله بن سعد؟ وكان أخا عثمان من الرضاعة أرضعت أمه سبع وعشرين، فاعتزل عمرو بن العاص بفلسطين وجعل يطعن على عثمان ويؤلب عليه ويسعى في إفساد أمره ولا يألو في ذلك جهداً، فلما بلغه قتل عثمان [رضي الله عنه] قال: أنا أبو عبد الله إني إذا نكأت قرحة أدميتها. قال أبو عبيد: ومن أمثال أكثم بن صيفي في نحو هذا " الأمور تشابه مقبلة ولا يعرفها إلا ذو الرأي؛ فإذا أدبرت عرفها الجاهل كما يعرفها العاقل ". ومن قول الشاعر:
تشابه أعناق الأمور بوادياً ... وتظهر في أعقابها حين تدبر (1) ع: ومن هذا قول الشاعر وهو يبين الغرض فيه (2) : لا يحذرون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الأمر إلا تدبرا يقول: بعد إدباره، وهذا هو الرأي الدبري عندهم وهو الذي لا يظهر إلى صاحبه إلا بعد إدباره الأمر، وأحسن من البيت الذي أنشده أبو عبيد وأسير ي الأمثال قول الشاعر (3) : تبين أعجاز الأمور مواضيا ... وتقبل أشباهاً عليك صدورها 45؟ باب الرجل المجرب الذي قد جرسته (4) الأمور وأحكمته قال أبو عبيد: قال أبو زيد والأصمعي جميعاً في مثل هذا " إنه لشراب بأنقع " أي أنه معاود للخير والشر. قال: وأخبرني بعض علمائنا أن ابن جريج قاله في معمر بن راشد. ع: قال أبو محمد: الصحيح في تفسير هذا المثل أن الطائر إذا كان حذراً منكراً (5) لم يرد المياه التي يردها الناس لأن الأشراك تنصب بحضرتها وإنما يرد
المناقع التي في الفلوات. والأنقع: جمع نقع وهو الماء المستنقع. وقال طاهر بن عبد العزيز: حدثنا الكشوري (1) عبيد بن محمد حدثنا محمد ابن عبد الله بن القاسم أخبرنا عبد الرزاق عن رباح بن زيد قال: سألت ابن جريج عن آية وقلت إن معمراً أخبرني بكذا فقال: " إن معمراً شرب العلم بأنقع ". قال عبد الرزاق: الأنقع الصفا الذي يصيبه الغيث فيكون هاهنا ماء وهاهنا ماء (2) . قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ويقال في نحو منه " فلان مؤدم مبشر ". وهو الذي قد جمع ليناً وشدة مع المعرفة بالأمور. قال: وأصله من أدمة الجلد وبشرته، فالبشرة ظاهره، وهو منبت الشعر، والأدمة باطنه وهو الذي يلي اللحم، والذي يردا به أنه قد جمع لين الأدمة وخشونة البشرة. ع: اختلف العلماء في الأدمة والبشرة فقال الأصمعي ما ذكره أبو عبيد، وقال أبو زيد: البشرة باطن الجلد، وقال ابن الأعرابي: البشرة والأدمة جميعاً ظاهر الجلد. نقل ذلك عنهم ثابت بن عبد العزيز. وقال أبو حاتم أيضاً في معنى المثل يقال: " إنما امرأة فلان المؤدمة المبشرة " يراد به التامة في كل وجه، وقال ابن الأعرابي: هي التي حسن منظرها وصح مخبرها، نقل ذلك عنه أبو علي (3) .
؟ 46؟ باب الرجل الذي قد حنكته السن مع الحزامة والعقل قال أبو عبيد: وذكر رهان قيس [وحذيفة؛ قال: و] حذيفة القائل في هذا الرهان: خدعتك يا قيس، فقال قيس: " ترك الخداع من أجرى من المائة ". ع: قد تقدم ذكري لهذا الرهان وأن المشهور عند العلماء أن الرهان بين قيس وحمل بن بدر؟ لا حذيفة أخيه؟ وقوله: من أجرى من المائة، يريد: مائة غلوة، والغلوة من موقف الرامي إلى مسقط سهمه، يريد أن من أرسل من مائة غلوة فقد كشف أمره ولم يخادع. قال الأصمعي: وأصل ذلك أن أحد المخاطرين في غبراء وداحس قال لصاحبه: الغاية على (1) حكمي، قال: نعم، قال: فالغاية مائة، قال: تخدعني (2) ؟ قال " ترك الخداع من أجرى من المائة ". قال أبو عبيد: قال حارثة بن سراقة الكندي حين منعوا الصدقة أيام الردة (3) : ؟؟؟؟ يمنعها شيخ بخديه الشيب ... لا يحذر الريب إذا خيف الريب فامتدح هاهنا بالسن، وقال آخر في طعنة طعنها: فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت ... فطعنة لا غس ولا بمغمر
فالغس: اللئيم، والمغمر: الذي لا تجارب له ولا سن. ع: قوله أيام الردة: هكذا رويت بالكسر، وقال أبو جعفر ابن النحاس سمعت الأخفس يقول: أختار (1) الفتح في ذلك لأن العرب لم يكن ارتدادها إلا مرة، فالفتح أجود. وقوله: فامتدح هاهنا بالسن: للعرب في ذلك مذهبان: فإذا أرادوا الحزامة وحسن التدبير في الحروب وثبات الأقدام والوطأة إذا اشتدت الخطوب، فإنما يذكرون أهل السن والتجربة، لأنهم أهل الحفائظ والاستبصار وهم أجدر بالحياء من الأغرار (2) ولذلك قال علي بن أبي طالب؟ رضي الله عنه؟ رأي الشيخ خير من مشهد الغلام. وقال أبو الطيب (3) : سأطلب حقي بالقنا ومشايخٍ ... كأنهم من طول ما التثموا مرد وإذا أرادوا شدة المسارعة وحدة المضاربة والإعراض عن ذكر العواقب واطراح ذلك بجابن، ذكروا أهل الشباب والفتوة (4) ، كما قال عامر بن الطفيل للنبي صلى الله عليه وسلم: والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً. فأما قول قطري (5) : ولقد أراني للرماح دريةً ... من عن يميني مرةً وأمامي حتى خضبت بما تحدر من دمي ... (6) أكناف سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام فإنه يحتمل معنيين (1) : أحدهما ظاهر جلي، والثاني غامض خفي. أما الجلي فإنه يقول إنه انصرف جذع البصيرة مستمر المريرة لم يفل عزمه ولا ضعفت نيته بما أصيب من جسمه من الخيل الذي كملت سنه وتناهت قوته، وأما المعنى الخفي فإنه يقول: ثم انصرفت وقد أصبت؟ أي قتلت أعدائي ونكيت؟ ولم أصب أي لم ألف على هذه الحال، أي لم ألف جذع البصيرة قارح الإقدام بل ألفيت قارح البصيرة جذع الإقدام لأن بصيرة القارح المجرب المنجذ هي التي لا تستحيل ولا تضطرب. وأما بصيرة الجذع أي الصبي فلا تثبت ولا تدوم، وألفيت جذع الإقدام أي شديده ماضيه، لا ينثني ولا يردعه شيء على نحو ما قدمان من مذهب من ذكر الشباب وأهل الغرارة في الحروب. ويعضد هذا المعنى على [المعنى] الأول الجلي ويؤيده أنه يستحيل أن يقول: ولم أصب أي لم ينل مني (2) وهو قد قال قلبه: حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أكناف (3) سرجي أو عنان لجامي فهذا نقض وإبرام ونفي وإيجاب وسوفسطانية صحيحة. والحجة للقول الأول أنه أراد بقوله: لم أصب: لم أقتل أي انصرفت وقد قتلت فيهم وسلمت منهم كما تقول: أصيب فلان يوم كذا أي قتل، يريدون: أصيبت نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لجيش الأمراء: أميركم زيد فإن أصيب فجعفر فإن أصيب فعبد الله ابن رواحة، فأصيبوا كلهم. وحجة أصحاب المقالة الثانية: وكيف يسوغ له أن يقول ولم أقتل وهو ينشد شعره ويخاطبهم بلفظه. والعرب تقول: أصيب
فلان، في كل ما يكره أن يناله. قال الله تعالى {ما أصابكم من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} (الحديد: 22) وقال: {الذي إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} (البقرة: 156) . وقول الشاعر الذي أنشده أبو عبيد: فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت ... .......... (البيت) الشاعر [هو] زهير بن مسعود، وقبل البيت (1) : عشية غادرت الحليس كأنه ... على النحر منه لون برد محبر جمعت له كفي بلدنٍ يزينه ... سنان كمصباح الدجى المتسعر فلم أرقه.............. ... ....................... كانت العرب تزعم أن الرجل إذا طعن آخر فنفث عليه الطاعن ورقاه، أن المطعون يبرأ من طعنته، قال عنترة (2) : فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقود وقال آخر، وهو ثعلب بن عمرو الشيباني (3) : فأتبعته طعنةً ثرةً ... يسيل على النمحر منها صبيب فإن ينج منها فلم أرقه ... وإن قتلته فجرح رغيب
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في نعت الرجل الحازم " إذا تولى عقداً (1) أحكمه " ومنه قول الشاعر: وما عليك أن يكون أزرقا ... إذا تولى عقد شيءٍ أوثقا ع: هذان الشطران للأحنف بن قيس، والعرب تكني بالزرقة عن اللؤم، يقول: وما عليك أن يكون لئيماً ولكنه إذا تولى عقداً أحكمه. وقال الشاعر في زرقة اللئيم (2) : لقد زرقت عيناك يابن مكعبرٍ (3) ... كذا كل ضبي من اللؤم أزرق وقال الشماخ، وقيل أخوه مزود، يرثي عمر بن الخطاب (4) [رضي الله عنه] وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتى أزرق العين مطرق (5) 47؟ باب ذكر الغيران الدافع عن حرمته مع ذكر ما يخاف من الفتنة فيهن قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة (6) : من هذا قولهم: " الخيل تجري على مساويها " يقول: إنها وإن كانت بها أوصاب وعيوب فإن كرمها مع هذا
يحملها على الجري فكذلك الحر من الرجال يحمي حريمه على ما فيه من علة. ع: قال أبو بكر ابن القوطية: المساوئ جمع سوء على غير قياس، وقال غيره: لا واحد لها. وقال الأصمعي: يراد بهذا المثل أن الرجل ربما استمتع (1) به، وفيه الخصال المكروهة. قال أبو عبيد: قال أبو زكريا الفراء: من أمثالهم في الحمية عند ذكر الحرم (2) " كل شيءٍ مهه ما النساء وذكرهن " أي أن الحر يحتمل كل شيء حتى يأتي ذكر حرمته، ومعنى المهه: اليسير وفيه لغتان: مهه ومهاه، قال: وهذه هاء، فإذا (3) اتصلت بالكلام لم تصر تاء. إنما تكون تاء في الاتصال إذا أرادوا بالمهاة: البقرة، قال عمران بن حطان (4) : ليس لعيشنا هذا مهاه ... وليست دارنا هاتا (5) بدار ع: قوله كل شيء مهه ما النساء يريد ما خلا النساء، فنصب على هذا واكتفى بذكر ما عن ذك خلا. ونقل أبو علي في الكتاب البارع قوله: كل شيء مهه إلا النساء، يريد كل شيء يسير إلا النساء. فنصب على هذا التأويل، والهاء في مهه ومهاه أصلية ومعناه اليسير كما قال أبو عبيد، قال أبو بكر ابن دريد: ويقال ما لهذا الأمر مهه ومهاه، أي ليس عليه حلاوة (6) ، وهذا هو الذي أراد
عمران بن حطان في البيت الذي أنشده أبو عبيد وليس هو من المهه الذي أنشده عليه في شيء. وقال ابن درستويه: أخبرنا محمد بن يزيد قال: المهه: الرفق واللين بالإبل في الرعي وغيره، ويقال: سرت سيراً مههاً أي رفيقاً، ويقال: مههت يا رجل أي لنت، ومنه قول الشاعر وأنشد البيت. ويروى بيت عمران بن حطان أيضاً " وليس لعيشنا هذا مهاة " بالهاء المندرجة تاء، أي ليس له صفاء ولا رونق، مأخرذ من المهاة وهي البلورة. وبعد بيت ابن حطان: وإن قلنا لعل بها قراراً ... فما فيها لحي من قرار فلا تبقى ولا نبقى عليها ... ولا من الأمر نأخذ بالخيار قال أبو عبيد: قال عمر بن الخطاب: " لا يخلون رجل بمغيبةٍ وإن قبل حموها، ألا حموها الموت ". ع: قال الأصمعي (1) : امرأة مغيبة بالهاء إذا كان زوجها غائباً، قال أبو زيد: أو أخوها أو أبوها أو عمها أو وليها، أغابت فهي مغيبة. وقال أبو حاتم قلت للأصمعي: لم أثبت الهاء في هذا وحذفتها من قلوك امرأة مشهد إذا كان زوجها شاهداً؟ فذهب مذهب الحكائة عن العرب لا مذهب القياس، وقال أرأيت: ناقة عاسر وضامر وناقة فاعلة في ألف شيء بالهاء، أي شيء فرق بينهما؟ نقله أبو علي عنهم. وقال غير الأصمعي: قالوا امرأة مغيبة وامرأة مشهد بغير هاء، كأنهم جعلوا الهاء في مغيبة عوضاً من ذهاب حركة الغين. وقال أبو بكر ابن دريد: يقال: امرأة مغيب؟ بغير هاء؟ ومغيبة، وقالوا: مغيبة ولم يقولوا مغيبة، وهذا
يقوي قول من قال: إن الهاء تثبت فيها عوضاً من ذهاب حركة الغين. ومثل قول عمر رضي الله عنه: لا يخلون رجل بامرأة وإن قيل حموها، قال الشاعر: لا يأمنن على النساء أخ أخاً ... ما في الرجال على النساء أمين قال أبو عبيد: ويقال: " كل ذات صدارٍ خالة " وكان المفضل يقول: إن صاحب هذا المثل همام بن مرة الشيباني. ع: قال يعقوب: كانت أم همام بن مرة، امرأة من بني أسد ثم من بني كاهل، فأغار همام على بني أسد فأصاب فيهم، فقالت له امرأة منهم؟ وهي لبنى بنت الحرمز؟ أبخالاتك تفعل هذا؟ فقال " كل ذات صدار خالة " أي لا تعتدي علي بالخئولة فليس ذلك بمانعي من الإغارة عليك. فكل امرأة يجب على الغيور من الكف عن محارمها ما يجب للخالة أخت الأم، ولا يجب الكف عن مالها كما تذهبين إليه. وإنما قالت له: أبخالاتك تفعل هذا على سبيل ما يقول بنو زهرة: نحن أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصدار ثوب لا كمين له تتبذل فيه المرأة في بيتها وكذلك اشوذر والقرقل والمجول (1) . قال أبو عبيد: وقال عبادة بن الصامت: ألا ترون أني لا أقوم إلا رفداً ولا آكل إلا ما لوق لي، وإن صاحبي لأعمى أصم (2) وما يسرني أني خلوت بامرأة. ع: قوله لوق لي يريد لين [لي] (3) . قال رجل من عذرة؟ وهو عبد الملك
ابن عبد الله بن عباس (1) : وإني لمن سالمتم لألوقة ... وإني لمن عاديتم سم أسود ويقال للزبد بالرطب: ألوقة ولوقة (2) ، ومن هذا قيل: ليقة الدواة لأنها تلين بالمداد. قال أبو عبيد: ويروى عن عمر أنه قال: ما بال أحدكم لا يزال كاسراً وسادةً عند امرأة مغزية يتحدث إليها وتتحدث إليه " عليكم بالجنبة فإنها عفاف ". ع: الجنبة: الاجتناب. وقال أبو عبيد: الجنبة: الناحية، يقول: تنحوا عنهن، وكلموهن من خارج الدار ولا تدخلوا عليهن. وقال أبو بكر ابن دريد: الجنبة هنا الاعتزال. 48 -؟ باب الرجل يدخله الأنف من مصاحبة من يرغب عن صحبته (3) قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا " خل سبيل من وهي سقاوه " أي إذا ترك صحبتك ولم يستقم لك فدعه وازهد عنه (4) .
ع: قال غيره: إنما يضرب هذا المثل في إفشاء السر، يقول: إذا مذل صديقك بسرك كما ينضج هذا السقاء الواهي بالماء فدعه ولا تؤاخه، فلا خير لك فيه، وهذا المثل قد روي في أشطار رجز خل سبيل من وهى سقاوه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه قال أبو عبيد: وكذلك قولهم " خله درج الضب ". ع: قال أبو عمر المطرز: الدرج: الطريق البين، ومعناه عندي الذهاب، يقول: خله يذهب ذهاب الضب، أي خله ضالاً كضلال الضب، لأن الضب أسوأ الحيوان هداية، ولذلك تضرب به العرب المثل فتقول " ضل من ضب، وأضل من ورل " قالوا: ولذلك لا يخلو من حجر عند باب حجره يهتدي به إليه. فقالوا في المثل السائر أيضاً: " كل ضب عند مرداته " يضرب مثلاً لحضور حوادث الزمان وأن الإنسان لها غرض، كما أن الضب لا يعدم محترشه بحضرة حجره حجراً يضربه به. وأنشد أبو عبيد في مثل هذا للبيد (1) : فاقطع لبانة من تعرض وصله ... ولخير واصل خلة صرامها ع: قوله من تعرض وصله يقول: من تعوج وصله ولم يستقم. ومثاله قول امرئ القيس: إذا ما الثريا في السماء تعرضت ...
يقول: اعوجت في رأي العين عن هيئتها وقت الطلوع، لأنها إذا طلعت استقبلتك بأنفها، فإذا كبدت أو كادت رأيتها جانحة. وقوله: ولخير واصل خلة صرامها، يقول: من صرمها وقد استحقت الصرم وكانت أهله فذلك الذي يصل من يستحق الوصل ويستوجبه، لأن من صرم الكريم يوشك أن يصل اللئيم، وكذلك من لم يميز الفضيلة يوشك أن يلتبس بالرذيلة، كما قال الشاعر (1) : [وقائل فيم تفرقتما ... فقلت قولاً فيه إنصاف] (2) لم يك لي شكلاً ففارقته (3) ... والناس أشكال وألاف وقال الراجز: وتلك قربى مثل أن تناسبا ... أن تشبه الضرائب الضرائبا والخارب اللص يحب الخاربا ... وإلى هذا المعنى ذهب أبو الطيب في قوله فاحسن (4) : فمن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم وقال عدي بن زيد (5) : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي وبعد البيت لبيد: واحب المجامل بالجزيل وصرمه ... باق إذا زاغت وزاغ قوامها يقول: احبه بأكثر من مودته وأبق له صرمك إذا لم يستقم وصله، وزاغت:
أي مالت خلته فلم تستقم (1) ، ويقال قوام الأمر وقوامه، وملاكه وملاكه، يقول: لا تصرمه عند [أول] عوج. وروى محمد بن حبيب: ولشر واصل خلة صرامها، والأولى رواية الأصمعي، والخلة: الصديق، والخلة: الصداقة. قال أبو عبيد: والعامة تقول في هذا " لو كرهتني يميني ما صحبتني ". ع: هذا المثل منظوم لشاعر جاهلي وهو المثقب العبدي، قال (2) : فلو أني تعاندني شمالي ... عنادك (3) ما وصلت بها يميني إذا لقطعتها ولقلت بيني ... كذلك أجتوي من يجتويني 49؟ باب الرجل يأبى الضين فيأخذ حقه قسراً [إذا أعياه الرفق] قال أبو عبيد: قال بعض الأعراب يمدح رجلاً: " فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف " ع: ليس كما قال أبو عبيد، إنما هذا البيت لفارعة بنت طريف ترثي أخاها الوليد بن طريف الشيباني، وكان خرج على الرشيد فاشتدت شوكته، فبعث إليه
يزيد بن مزيد الشيباني فقتله، وقد تقدم ذكر ذلك، فقالت أخته ترثيه (1) : أيا شجر الخابور ما لك مورقاً ... كأنك لم تحزن على ابن طريف فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ................. (البيت) وقال كراع: ويروى، أيا شجر الخافور، بالفاء، وهو شجر، وهذا تصحيف صراح لأن الخابور الذي ذكر ونسب إليه الشجر إنما هو نهر بالجزيرة، وهناك قتل الوليد بن طريف، قال الأخطل (2) : فأصبحت منهم سنجار خالية ... فالمحلبيات فالخابور فالسرر هذه كلها بالجزيرة. وظن كراع أن الخابور شجر فقال: ويروى شجر الخافور؟ بالفاء؟ الخافور ليس من الشجر وإنما هو من النجم وهو ضرب من الحبق، وهو المرو العريض الورق، والعرب تسميه أيضاً: الزغبر والزبعر (3) قال الشاعر: والشاهد الإسفنط يوم لقيتها ... والضومران تمله بالزغبر (4)
قال أبو عبيد: وقال زهير بن أبي سلمى (1) : ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم ع: لم يرد بقوله يظلم الناس، يبدأهم بالظلم، إنما يريد من لم يحم نفسه من الظلم كما قال، ومن لا يذد عن حوضه، ومن لا يعاقب ويجاز على ظلمه بمثله لم يزل يهتضم ويظلم، فلما كان جزاء على الظلم سماه ظلماً، كما قال الله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة: 194) . وكما قال الله تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40) وكما قال الله تعالى {ومكروا ومكر الله} (آل عمران: 54) . وقال {إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم} (البقرة 14؟ 15) ، ومعنى هذا يجزيهم جزاء المكر. وجزاء الاستهزاء. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم إن فلاناً هجاني، وهو يعلم أني لست بشاعر، اللهم فاهجه والعنه عدد ما هجاني؛ المعنى: فجازه على هجوه، وهذا هو المذهب القصد. وكان للعرب مذهب في المدح بالاستعلاء وظلم الأقران. قال النجاشي في هجوه (2) [بني] عجلان (3) : قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل فقال: إنهم لضعفهم وقلتهم ومهانتهم لا يقدرون على [الغدر و] الظلم، هم أذل من ذلك وأقل. وقال آخر (4) :
إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ... يرجى الفتى كيما يضر وينفعا قال أبو الطيب (1) : من أطاق التماس شيء غلاباً ... واقتدارا لم يلتمسه سؤالا 50؟ باب الرجل يطيل الصمت حتى يحسب مغفلا وهو ذو نكراء قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا " مخزنبق لينباع " والمخزنبق: المطرق الساكت، لينباعك ليثب إذا أصاب فرصة، فمعناه أنه سكت لداهية يريدها. ع: قال أبو محمد بن قتيبة عن أبي حاتم عن الأصمعي: المخزنبق: اللاطئ بالأرض، قال: ومثل هذا المثل قولهم " تلبدي تصيدي " يقول: إنما تلبدك لشر (2) . يقال: لبد وتلبد إذا انضظ بعضه إلى بعض. وقال أبو علي: مخرنبق لينباق. يقال: باق يبوق بوقاً. مثل صام يصوم صوماً إذا ظهر، والمخرنبق: الساكت على السوءة. وقال بعضهم: لينباع، والمنباع: الذي ينباع بالشر الذي في طيه ليظهره. قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ومثله أو نحوه " تحسبها حمقاء وهي باخس ".
ع: يريد تبخس الناي حقوقهم أي تنقصهم وتظلمهم، قال الله تعالى {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} (الشعراء: 183) ، وقال الشاعر: فأكرمه لدى اللزبات جهدي ... وأعطي الحق مني غير بخس وكان الأصل " باخسة " ولكن ربما حذفوا الهاءات في مواضع إثباتها، قالوا: ناقة عاسر وجمل عاسر، وكذلك ناقة ضامر وناقة مغذ؟ من السرعة؟ وناقة بازل. قال أبو عبيد: قال الأمر: وتقول في مثله " تحقره وينتأ " أي أنك تزدريه لسكوته وهو يجاذبك (1) . ع: يقال نتأ الشيء ينتأ ونتا ينتو؟ يهمز ولا يهمز؟ إذا انتبز وانتفخ، والمصدر: نتأ ونتوءاً ونتواً ونُتُواً. 51 -؟ باب الرجل الجلد المصحح الجسم قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في جلادة الرجل " أطري فإنك ناعلة ". وأصل هذا أن رجلاً قال لراعية له وكانت ترعى في السهولة وتترك الحزونة " أطري؟ أي خذي طرر الوادي وهي نواحيه؟ فإنك ناعلة " [أي فإن عليك نعلين] (2) . قال أبو عبيد: أحسبه يعني بالنعلين غلظ جلد قدميها.
ع: طرر واحد وجمعه أطرار وهي النواحي، وقال أبو بكر: أطرار الطريق: نواحيه، واحدها طر وطرة، قال: وطرة كل شيء حرفه، وطرة الثوب: موضع هدبه، وقال أبو زيد: طر الإبل طراً إذا طردها، يقول: أطري الإبل واجمعيها فإنك ذات نعلين؟ هكذا قال: طر الإبل ثم فسر به المثل أطري، وأطري إنما هو من أطر مثل أمر ولعلها لغتان. وقال الخليل: الطر كالشل (1) ، وهذا المثل يضرب لمن ينصر من لا يستنصره، وكذلك قال أبو زيد في تفسيره. قال ابن دريد، قال قوم: أظري فإنك ناعلة؟ بالطاء المعجمة؟ أي اركبي شدائد الأمور من الظرر وهو المحدد من الصخر الذي يصعب المشي عليه، قال امرؤ القيس (2) : اطاير ظران الحصى بمناسم ... صلاب العجى ملثومها غير أمعرا (3) وفي الحديث الإباحة أن يذبح بالظرر. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الجلاد " لألحقن قطوفها بالمعناق " يعني في شدة السير. ع: قلت هكذا أورده أبو عبيد لألحقن بالنون الشديدة [وحكاه الأصمعي عن أبي عمرو: لألحقن بالنون الخفيفية (4) ] ويورى لألحقن قطوفها بالوساع، وهو الواسع الخطو.
قال أبو عبيد: ومثله قولهم " بيدين ما أوردها زائدة ". ع: روى الأصمعي هذا المثل " بيدين ما أوردها "؟ ما زائدة؟ تم المثل في قوله " ما أوردها " ثم قال: ما زائدة، وكلاهما صحيح، والله أعلم كيف كان أصل [هذا] المثل (1) . وقوله: بيدين أي بجد وقوة وشدة لأن يتولى عملاً بيديه معاً أقوى على عمله وأجد فيه، وقد يحتمل أن يريد بقوله " بيدين ما أوردها " تثنية يد، وأيد، والأيد: القوة فثناهما على الأخف، كما قال أصحاب المعاني في قول النابغة الجعدي في صفة سيف (2) : يصمم وهو مأثور جراز ... (3) إذا جمعت بقائمه اليدان قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في التجلد " ليتني وفلاناً يفعل بنا كذا حتى يموت الأعجل " والمثل للأغلب العجلي في شعر له قال: ضرباً وطعناً أو يموت الأعجل ... وقد تكلم به بعض الصحابة في كلام له. ع: قوله " أو يموت الأعجل " يعني الأعجل منية والأقرب أجلاً فإن الأجل لا يستأخر عنه ولا يستقدم، والذي تكلم به من الصحابة عمار بن ياسر في شأن عثمان بن عفان.
وروى يوسف بن الماجشون عن صالح بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الرحمن ابن عوف قال: كنت يوم بدر بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أصلع منهما، فقال لي أحدهما: يا عماه أتعرف أبا جهل؟ قلت: ما حاجتك إليه؟ قال: أخبرت أنه سب رسول الله عليه السلام، والذي نفسي بيده لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل. فأريتهما أبا جهل فقتلاه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لهما، ويقال إنهما ابنا عفراء. قال أبو عبيد: وقد حكى بعض العلماء [أن من أمثالهم] (1) " الشجاع موقى " ويقال إنه لحنين (2) بن خشرم السعدي. ع: أسقط أبو عبيد نصف المثل، إنما هو " الشجاع موقى والجبان ملقى "، وهذا كما روي عن أبي بكر أو عن علي رضي الله عنهما: احرص على الموت توهب لك الحياة، وقال الشاعر (3) : تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما قال أبو عبيد: ويقال للشاب القوي " كأنما قد سيره (4) اليوم " أي كأنما ابتدأ في شبابه اليوم. ع: ذكر أبو علي إسماعيل بن القاسم عن شيوخه أن هذا المثل إنما يضرب
للشيخ إذا كان في خلقه الأحداث، وهذا أقرب إلى الصواب بلفظ المثل لأن الشاب القوي هو الذي ابتدأ (1) شبابه وعنفوانه فكيف يقال فيه؟ على ما ذكر أبو عبيد؟ كأنما ابتدأ شبابه اليوم وإنما يقال للشيخ إذا تزيا بزي الأحداث وكان في خلقهم: كأنما ابتدأ شبابه اليوم. 52 -؟ باب الرجل المقدام على الأهوال والمخاوف والحث على ذلك قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " اكذب النفس إذا حدثتها " ثم فسره وقال: ومنه قول لبيد (2) : اكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل (3) ع: وقبله ما يكشف معناه ويعضد وهو قوله: وإذا رمت رحيلاً فارتحل ... واعص ما يأمر توصيم الكسل (4) واكذب النفس.... ... ...................... يقول: اعص أسباب الكسل وامض على ما خيلته الأماني والأمل، وقال آخر في مثل هذا:
إذا ازدحمت همومي في فؤادي ... طلبت لها المخارج بالتمني وقيل لابنة الخس: ما ألذ شيء؟ قالت: أماني تقطع بها أيامك (1) . قال أبو عبيد: ومثله قول الآخر (2) : إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... وأعرض عن ذكر الحوادث جانبا سأغسل عني العار بالسيف جالباً ... علي قضاء الله ما كان جالبا ع: الشعر لسعد بن ناشب، وبعد البيت الأول في معناه: ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا قال أبو عبيد، وقال الثالث: أمض الهموم ورام الليل عن عرضٍ ... بذي سبيب يقاسي ليله خببا ع: الشعر لعبادة بن بجير الغنوي (3) ، وبعد البيت: ملء الحزام إذا ما شد محزمه ... (4) ذي كاهل ولبان يملأ اللببا
كالسمع لم ينقب البيطار سرته ... (1) ولم يدجه ولم يلمس له عصبا حتى يصادف مالاً أو يقال فتىً ... لاقى التي تشعب الفتيان فانشعبا لا يحملنك إقتار على زهد ... ولا تزال في عطاء الله مرتغبا إذا قتيبة مدتني حوالبها ... (2) بالدهم تسمع في حافاتها لجبا لا يمنع الناس مني ما أردت ولا ... (3) أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا 53؟ باب الرجل يكون ذا عز ثم يحور عنه قال أبو عبيد: ومنه قولهم " حور في محاورة ". ع: قد روي هذا الحرف " حور في محارة " وحور في محارة، وبالفتح صح، لأنه هو قياس مصدر حار يحور حوراً أي نقص، ومحارة أيضاً مفعلة منه، قد قيل إن الأكثر في الكلام ضم الحاء في حور، قال الشاعر: والذم يبقى وزاد القوم في حور ... كأنه نقصان على نقصان، قال اللغويون: ومثل العرب " الحور بعد الكور "
أي النقصان بعد الزيادة. قال أبو عبيد: وقال بعض المعمرين يذكر ما صار إليه: والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا ع: الشعر للربيع بن ضبع الفزاري، وهي أبيات، قال (1) : أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه........ ... ................ (البيت) ها أنا ذا آمل الخلود وقد ... أدرك عمري ومولدي حجرا أبا امرئ القيس قد (2) سمعت به ... هيهات هيهات طال ذا عمرا والربيع هذا من المعرمين، عمر أربعمائة سنة، وهو القائل (3) : إذا بلغ الفتى مائتين عاماً ... (4) فقد ذهب اللذاذة والفتاء ثم عمر بعد أن قال هذا البيت مائتين عاماً أخريين. قال أبو عبيد: ومن أمالثهم في الذل بعد العز: " الحمى أضرعتني إليك " إذا ذل للحاجة تنزل به.
ع: قال ابن حبيب البصري: أول من قال هذا المثل قرين بن مصاد (1) الكلبي، وكان له أخوان: مرارة ومرة. وكان قرين لصاً عياراً (2) يقال له الذئب لشدة لصوصيته، وإن مرارة أخاه خرج يتصيد الأروى في يقال له ابلى (3) ، فاختطفته الجن، فانطلق أخوه مرة في أثره حتى إذا كان بذلك الموضع (4) اختطف، وكان قرين غائباً، فلما قدم أقسم لا يشرب خمراً ولا يمس رأسه غسل حتى يطلب بأخويه. فتنكب قرين قوسه وانطلق إلى ذلك الجبل فمكث به سبعة أيام لا ينام ولا يرى شيئاً حتى إذا كان في اليوم الثامن إذا هو بظليم فرماه فأصابه واستقل الظليم حتى صار في أسفل الجبل، فلما وجبت الشمس، بصر بشخص قائم على صخرة، ينادي: يا أيها الرامي الظليم الأسود ... نبت (5) مراميك ولما ترشد فأجابه قرين: يا أيها الهاتف فوق الصخره ... كم عبرةٍ هيجتها وعبره بقتلكم مرارةً ومره ... فرقت جمعاً وتركت حسره فتوارى الجني عنه هوياً من الليل، وأصابت قريناً حمى فغلبته عيناه (6) فنام، فأتى الجني فاحتمله وقال: ما أنامك وقد كنت حذراً، قال " الحمى أضرعتني للنوم " فذهبت مثلاً. ثم أتى به حاضر الجن، فلما كان فيوجه الصباح خلى سبيله، فقال قرين: ألا من مبلغ فتيان قومي ... بما لاقيت بعدهم جميعا
غزوت الجن أطلبهم بثاري ... لأسقيهم به سماً نقيعا فيعرض لي ظليم بعد سبعٍ ... فأرميه فأتركه صريعا وكنت إذا القروم تعاورتني ... جريء الصدر معتزا منيعا بنى لي معشري وجدود صدقٍ ... بذورة شامخ بيتاً منيعا وعزاً سامقاً ثبت الرواسي ... ترى شم الجبال له خضوعا قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الذي قد أدبر وتولى ولم يبق من عمره إلا اليسير " وما بقي منه إلا ظمء الحمار ". وهذا المثل يروى عن مروان بن الحكم أنه قاله في الفتنة " الآن نفد عمري ولم يبق منه إلا ظمء الحمار (صرت) (1) أضرب الجيوش بعضها ببعضها (2) " قال: ويقال إنه ليس شيء من الدواب أقصر ظمأ من الحمار. ع: قاله مروان يوم مرج راهط في حرب الضحاك بن قيس. والأظماء: هي الأيام التي تظمأ فيها الإبل؟ أي تعطش ولا ترد الماء؟ قالوا: والحمار لا يصبر أكثر من غب، لا يربع، والغب بعد الظاهرة (3) والربع بعد الغب، والخمس بعده، وكذلك فيما بعد الخمس إلى العشر، فإذا زادت الأظماء على العشر قيل عشر وغب وعشر وربع، وعشر وخمس إلى العشرين، ثم هي إبل جوازئ، وقد جزأت لأن الإبل لا تنتهي أظماؤها إلى هذا العدد إلا وقد جزأت بالرطب عن الماء.
54 -؟ باب الرجل يكون ذا مهانة ثم ينتقل إلى العز قال أبو عبيد: قال الأصمعي في مثله " لكن بشعفين أنت جدود " وهي القليلة اللبن. وأصله أن امرأة أخصبت بعد هزل (1) ، فذكرت درة لبنها ففخرت به فقيل لها: لكن بشعفين لم تكوني كذلك، وهو اسم موضع كانت فيه. ع: قال أبو حاتم: أتان جدود قد عز درها وذهب لبنها. وأصل هذا المثل أن عروة بن الورد سبى جارية فجعل يغذوها وكانت بضر فسمنت وحسنت حالها، فسمعها تقول لجوار لها: احلبنني فإنني خلفة، فقال لها: لكن بشعفين أنت جدود (2) وشعفين موضعها الذي أخذها منه (3) . قال أبو عبيد: ومثله " صار خير قويسٍ سهماً " أي صار إلى الحال الجميلة بعد الخساسة. ع: قالوا (4) : أول من نطق بهذا المثل خالد بن معاوية بن سنان السعدي، وذلك أنه تساب مع بني غنم (5) بن المنذر، فقال خالد يرجز بهم (6) :
دوموا بني غنمٍ ولن تدوموا ... لنا ولا سيدكم مرحوم إنا سراة وسطها قروم ... قد علمت أحسابنا تيمم في الحرب " حين حلم الأديم " (1) ... فذهب قوله " حلم الأديم " مثلاً. وقال لهم: إنا لنا يا آل غنمٍ ... أفواه أفراس أكلن هشما أستاه آمٍ يغتذين لحما ... " تركتهم خير قويس سهما " فرجز شاعر غنم بخالد، ومع خالد أخ له، فاستعدوا عليهما (2) النعمان فقال خالد: أبيت اللعن، أنا [إذا] أركب لهم أنا وأخي ناقة ثم نتعرض لهم فإن استطاعوا فليعقروا بنا، فأعجب ذلك النعمان وقال: قد أعطوكم بحقكم، قالوا: قد رضينا فقال النعمان " أما والله لتجدنه ألوى بعيد المستمر " فأرسلها مثلاً. ثم اكتفل خالد وأخوه ناقتهما بكفل وتأخر أحدهما إلى العجز وجعل وجهه مما يلي الذنب وتقدم الآخر إلى الكتف وجعل كل [واحد] منها يذب بسيفه فلم يخلصوا [إلى] أن يعقروا بهما. وقوله: لنا ولا سيدكم مرحوم، هكذا ورد هذا هاهنا، ولا أدري ما صحته، وأما الذي في عبد القيس فإنما هو مرجوم؟ بالجيم؟ قال لبيد (3) :
رهط مرجوم ورهط ابن المعل ... سمي بذلك لأنه فاخر رجلاً عند النعمان، فقال له النعمان: رجمك بالشرف فسمي مرجوماً، واسمه عامر، والمذكور في هذا الخبر إنما هو من بني غنم بن دودان بن أسد. قال أبو حاتم: القويس صغرت بغير هاء وترك القياس في أحرف معها مثل قولهم: حريب في تصغير حرب ونحوه. قال: وفي مثل " كونوا خير قويسٍ سهماً " وسهماً تمييز. ومن أمثالهم " أعلاها ذا فوق " يريد (1) أعلى القوم سهماً في الخير. وروى ابن أبي خيثمة عن يونس بن بكير عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن المهلب بن أبي صفرة قال: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لأي شيء قلتم لعثمان: ولم نأل خيرنا ذا فوق، فقالوا: لأنا لا نعلم أحداً أرسل ستره على بنتي نبي غيره. يعني بقولهم: ذو فوق، السهم التام ذو الحظ الوافر الكامل لأنه قد يسمى سهماً وليس له فوق فكأنهم قالوا: لم نأل خيرنا نصيباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فسروا النصيب بما هو، وذا فوق منتصب على التمييز. وروى ابن أبي خيثمة وغيره أن ابن مسعود سار من الكوفة ثمانياً حين قتل عمر رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (2) : أيها الناس، إن أمير المؤمنين قد مات، فلم ير يوم كان أكثر نشيجاً من ذلك اليوم (3) ، قال: ثم اجتمعنا أصحاب محمد فلم نأل خيرنا ذا فوق فبايعناه، يعني عثمان.
55 -؟ باب الرجل المسن يؤدب بعد العسو [أو يكون مذموماً يخلف بعد الرجل المحمود] (1) قال أبو عبيد: وفي مثله " ومن العناء رياضة الهرم "، قال: ومثله قولهم " عود يعلم العنج ". ع: أما الأول فإنه بيت شعر ومثل سائر (2) : أتروض عرسك بعدما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم وأما الثاني فإن أبا زيد رواه على العنزيين (3) " عود يعلم (4) العنج ". قال أبو عبيد: وقال الشاعر (5) : " إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قومتها الخشب " ع: قبل هذا البيت وبه يفهم معناه: قد ينفع الأدب الأحداث في مهل ... وليس ينفع بعد الكبرة الأدب وقد مر هذا الشعر (6) ، وهو في ديوان شعر سابق البربري من قصيدة له.
قال أبو عبيد: قال أبو زيد في مثله " أعييتني بأشر فكيف أرجوك بدردر "، يقول: لم تقبلي الأدب وأنت شابة [ذات أشر] فكيف الآن وقد أسنت [وبدت درادرك وهي مغازر الأسنان؛ والأشر تحدد ورقة، يكون ذلك في الأحداث] . ع: قال الأصمعي (1) : أول من نطق بهذا المثل زوج دغة وهي مارية بنت مغنج، ومغنج هو ربيعة بن عجل، وكانت حمقاء يضرب بها المثل، فيقال: أحمق من دغة " ونظرت يوماً إلى زوجها يقبل بنته منها ويقول: بأبي دردرك؟ وهو مغرز (2) الأسنان؟ فذهبت ودقت أسنانها بفهر ثم جاءت زوجها وقالت: كيف ترى دردري. فقال: " أعييتني بأشر فكيف بدردر " أي إنما كان أحسن شيء فيك أسنانك. ومن حمق دغة هذه أنها زوجت في بني العنبر بن عمرو بن تميم، فلما مخضت ظنت أنها تريد الخلاء فبرزت إلى بعض الغيطان فولدت، فاستهل الوليد، فانصرفت إلى الرحل تقدر أنها أحدثت، فقالت لضرتها: يا هنتاه، هل يفتح الجعر فاه؟ فقالت: نعم ويدعو أباه، فمضت ضرتها وأخذت الوليد، فبنو العنبر يدعون لذلك بني الجعراء. [قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في المذموم يخلف بعد المحمود " بدل أعور " ومنه قول ابن همام السلولي لقتيبة بن مسلم وولي خراسان بعد يزيد بن المهلب: أقتيب قد قلنا غداة أتيتنا ... بدل لعمرك من يزيد أعور (3) ]
56 -؟ باب الرجل الذليل المستضعف قال أبو عبيد: (1) من أمثالهم في الذليل " لقد ذل من بالت عليه الثعالب ". قال: وبلغني أن رجلاً من العرب كان يعبد صنماً، فنظر إلى ثعلب جاء حتى بال عليه (2) فقال (3) : أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان (4) من بالت عليه الثعالب ع: قيل إن هذا البيت لعباس بن مرداس السلمي، وقال كراع في كتابه المنضد (5) : إن البيت لأبي ذر الغفاري، قاله في الجاهلية، في صنم كان لهم وقد رأى ثعلباً يبول عليه. قال أبو عبيد: قال أبو زيد: ومن هذا قولهم " أهون مظلوم سقاء مروب " [وأصله السقاء يلف حتى يبلغ أوان المخض] . ع: معنى المظلوم (6) هنا أن يشرب قبل أن يروب وأصل الظلم وضع الشيء
في غير موضعه. ومن هذا قولهم " من أشبه أباه فما ظلم " أي فما وضع الشبه في غير موضعه. قال أبو عبيد: ونحو منه قولهم " أهون مظلوم عجوز معقومة ". ع: هذا وهم من أبي عبيد إنما هو " أهون هالك عجوز معقومة "، لأنها إذا هلكت لم يفقدها فاقد، لأنها عقيم، وقد بلغت من السن ما ليس يهابه الطرف الآخر، فهي فريدة (1) . ومنه قولهم: " أهون هالك عجوز في عام سنت (2) " أي في عام جدب ومسغبة. قال أبو عبيد: ويقال " فلان لا يعوى ولا ينبح " يقول: من ضعفه ليس يعتد به ولا يكلم في خير ولا شر (3) . ع: العواء للذئاب والنباح للكلاب، فلا أدري أي خير فيهما، فيكنى بأحدهما عن الخير وبالثاني عن الشر، كما قال أبو عبيد، وإنما معنى المثل عندي أن هذا لضعفه وقتله كأنه غير محسوس به. فليس يعوبه ذئب ولا ينبحه كلب، كما تقول العرب " هو أقل من خشاشة وأحقر (4) من فراشة " والخشاشة لا ينبحها كلب. وقال أبو الطيب (5) :
وإن من العجائب أن تراني ... فتعدل بي أقل من الهباء وقال آخر (1) : ألام على أخذ القليل وإنما ... أصاحب أقواماً أقل من الذر فإن أنا لم أقبل قليلاً حرمته ... ولا بد من شيء يعين على الدهر وقال الأصمعي: قولهم: فلان لا يعوى ولا ينبح أي لا يتعرض لشره، مثل قولهم لا يصطلى بناره، وليس ينبغي على هذا التأويل أن يدخل في هذا الباب. 57 -؟ باب الرجل الذليل يستعين بمثله في الذل قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في العبد " هو العبد زلمة "، ومعناه اللئيم، قال الزبير: زنمة عندي أشبه، لقول الله تعالى {عتل بعد ذلك زنيم} (ن: 13) (وهو في القوم وليس منهم) . ع: قال أبو محمد: يقال هو العبد زلمة وزنمة وزَنَمة، وزلمة وَزَلَمَة. وقال غيره: من قال زلمة يريد قُدّ قَدّ العبد، من قولهم: زلمت القدح إذا بريته، ومن قال: زنمة يريد ما قال الزبير أو يريد أنه موسوم بالذلة من الزنمة التي توسم بها الشاة. وفي كتاب الأصمعي: زلمة معرفة لا تكون نكرة (2) .
58 -؟ باب الرجل الأحمق المائق قال أبو عبيد: من أمثالهم السائرة قولهم " معاداة العاقل خير من مصادقة (1) الأحمق ". ع: نظمه الشاعر فقال (2) : ولأن يعادي عاقلاً خير له ... من أن يكون له صديق أحمق والبيت لصالح بن عبد القدوس، أخذه أبو الطيب فقال: ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الأحمق قولهم " خامري أم عامر " وهي لضبع، يشبه بها الأحمق، [ويروى عن علي رحمه الله أنه قال: لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم فتخرج فتصاد؛ وهي زعموا من أحسن الدواب يدخل عليها يقال: ليست هذه أم عامر حتى تجر رجلها وتؤخذ] . ع: من حمقها الظاهر أن الصائد يدخل عليها وجارها، والوجار: الجحر هذا كان على وجه الأرض، وإذا كان في الجبل فهو مغار، فيقول لها " خامري عن عامر "؟ ومعناه: استتري وتواري، مأخوذ من الخمر وهو ما وارى وستر؟ لنقبض، ويقول: أم عامر ليست في جارها، ويقول: أم عامر أبشري بشاء زلى، وجارد عظلى، حتى يأخذ بيديها ورجليها فيوثقها، ولو شاءت أن تقتله
لأمكنها، قال الكميت (1) : فعل المقرة للمقا ... لة خامري يا أم عامر ويزعم العرب فيما يذكرون من رموزهم أن أحد الضباع وجد تودية في غدير فجعل يشرب الماء ويقول: حبذا طعم اللبن، وينادي: واصباحاه حتى انشق بطنه ومات. والتودية: خلال عود يشد على رأس الخلف لئلا يرضع الفصيل أمه. 59 -؟ باب الرجل الضعيف العزم الواهن الرأي (2) قال أبو عبيد: من أمثالهم في الواهن الضعيف قولهم " ماله بذم وماله صيور ". ع: يقال رجل ذو ذم إذا كان قوياً شديداً، وثوب ذو بذم إذا كان كثير الغزل والبذم والبذامة: القوة على احتمال مئونة السؤدد، وقولهم: ماله صيور، أي ماله عقل ولا رأي يرجع ويصير إليهما. قال أبو عبيد: من أمثالهم في وصف الرجل بضعف الرأي " هو إمعة " وكذلك " هو إمرة " [من أغرب ما جاء في هذا الباب " هو بنت الجبل " ومعناه الصدى يجيب المتكلم بين الجبال، يقول: هو مع كل متكلم كما أن الصدى يجيب كل ذي صوت بمثل كلامه] . ع: الإمعة الذر لا رأي له من قبل نفسه، هو تابع أبداً. قال السيرافي في
شرحه الكتاب: إمرة وزنها فعلة، فإن قيل: لم جعلتم الهمزة أصلية ولم تكن افعلة؟ قيل: ليس في النعوت افعلة، وقد جاء في الأسماء نحو إوزة، وأيضاً فإنه ليس في الأسماء ما عينه وفاؤه من جنس واحد إلا أحرفاً يسيرة نحو أول وكوكب، فعدلنا به إلى الأكثر وهو فعّل نحو: قنّب وهيّج؟ وهو الجمل الهائج -. وزعم الخليل أن قياس مفعلة من الإوز مأوزة فهذا على أن الهمزة أصلية، ويقوي ما ذهب إليه أبو سعيد؟ وهو قول المازني؟ قول الأعشى (1) : ترى الاوزين في أكناف دارتها ... فوضى وبين يديها التبن منثور فقال الاوزين كما قال (2) الاحرين لجمع الحرة. وأما إمرة فإنه الذي يأتمر لكل أمر. وأما قوله " هو بنت الجبل " فإن المعروف من أمثالهم: " ما أنت إلا كابنة الجبل مهما يقل تقل " يضرب مثلاً للإمعة التابع (3) هذا وذاك. ويقولون (4) عند سماع ما يسوء استكفافاً لشره " صمي ابنة الجبل " فأما قولهم " صمي صمام "، فإن صمام اسم للداهية. قال الكميت في قولهم صمي ابنة الجبل (5) فإياكم إياكم وملمة ... يقول لها الكانون صمي ابنة الجبل أي الذين (6) يكنون عنها. وقال غيره في صمي صمام: أيدفع مشربي عن حوض سعدٍ ... ويشرب مالك، صمي صمام
وسيعاد القول في هذا كافياً، في آخر الكتاب عند ذكر القتل والدواهي إن شاء الله. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في المخلط " كل نجار إبل نجارها " يعني أن فيه كل لون من الأخلاق (وليس له رأي يثبت عليه) (1) . ع: هذا رجز يروى لبان بن لقيط، وكان لصاً خارباً (2) : تسألني الباعة ما نجارها ... إذ زعزعوها فسمت أبصارها فقلت دار كل قومٍ دارها ... كل نجار إبلٍ نجارها وكل نار العالمين نارها ... يقول: فيها من كل نجار ومن كل نسل ومن كل نار ومن كل وسم فيضرب مثلاً للمتلون الخلق المضطرب الحال. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم " قد استنوق الجمل " وهو الرجل يكون في حديث ثم يخلط ذلك بغيره وينتقل إليه، وكان بعض العلماء يخبر أن هذا المثل لطرفة بن العبد وكان عند بعض الملوك شاعر ينشده شعراً في وصف جمل ثم حوله إلى نعت ناقه، فقال طرفة عندها " استنوق الجمل "، وقد يقال للرجل يظن به أن عنده غناء من شجاعة وجلد ثم يكون الأمر على خلاف ذلك، وأنشد للكميت (3) :
هززتكم لو أن فيكم مهزة ... وذكرت ذا التأنيث فاستنوق الجمل ع: هذا الشاعر الذي لم يذكر اسمه هو المسيب بن علس، وقيل هو الملتمس، أنشد شعره الذي يقول فيه (1) : وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناجٍ عليه الصيعرية مكدم وذلك عند عمرو بن هند، فقال طرفة " استنوق الجمل " لأن الصيعرية سمة لا تكون إلا للإناث خاصة. وأما قول الكميت " وذكرت ذا التأنيث فاستنوق الجمل ": قيل إنما كان (2) حد الكلام وصوابه أن يقول: وأنثت ذا التذكير فاستنوق الجمل، أو يقول: وذكرت ذا التأنيث فاستجملت الناقة، ولم أر لأحد فيه شيئاً إلا لأبي الحسن بن سيده فإنه قال في بعض كتبه: هذا على القلب، أراد: فاستجملت الناقة، فقلب. ولم ينسب هذا القول إلى أحد، وهذا ليس بشيء، لأن هذا الشعر قاله الكميت يمدح مسلمة بن هشام بن عبد الملك ويهجو خالد بن عبد الله القسري، يقول بعد البيت: وقرظتكم لو أن تقريظ مادحٍ ... يواري عواراً من أديمكم النغل (3) غسلنا وجوهاً من بجيلة لاصق ... (4) بها حمم لم ينقها قبله الغسل وإنما أراد أن تقريظه ومديحه لم يغن عنهم شيئاً ولا وارى عواراً ولا أنقى ذكراناً ولا ذكر مؤنثاً بل زادهم استئناثاً وأنث ذكراناً، وفيها يقول (5) :
فصرت كأني وامتداحي خالداً ... وأسرته حادٍ وليست له إبل وبنو قسر من بجيلة (1) . 60 -؟ باب الرجل يكون ضاراً ولا نفع فيه قال أبو عبيد: قال أبو زيد: من أمثالهم في هذا: " المعزي تبهي ولا تبني ". وفسره ثم قال: يقال (2) أبهيت البيت أبهيه إذا خرقته فهو مبهىً، فإذا أردت أنه انخرق قلت: بيت باه. ع: فعل باه بهي، بكسر الهاء، يبهى بهاء، فهو باه إذا انخرق. قال أبو علي وكراع: والعرب تقول في ذد هذا المثل، وهو النافع الذي لا ضر عنده " هو السمن لا يخم (3) " وهذا مثلهم في النافع الذي لا يضر وهو خالص من كل شر. قال أبو عبيد: وكان بعض علمائنا ينشد هذا البيت (4) : إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ... يرجى الفتى كيما يضر وينفعا ع: ومثله (5) :
إذا أنت لم تنفع بودك أهله ... ولم تنك بالبوسى عدوك فابعد وهو لعدي بن زيد، وله في هذه القصيدة عدة أمثال وحكم. ولأبي عبد الله اليماني (1) : إذا كنت مذموماً وأنت قدير ... وخيرك ممنوع ووعدك زور فمت عاجلاً لا عشت في الناس ساعةً ... فموتك عند العالمين سرور ونقيض هذا قول مسلم بن الوليد: عند الملوك منافع ومضرة ... وأرى البرامك لا تضر وتنفع وإذا جهلت من امرئ أعراقه ... وقديمه فانظر إلى ما يصنع 61؟ باب ذكر الجليس السوء وما يتقى منه قال أبو عبيد: من (2) حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري وأهل البصرة في صبيغ " أن لا تجالسوه ". ع: وكان من شأن صبيغ أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن {الذاريات} و {النازعات} ونظائرها من القرآن، فبان له فيه الزيغ فضربه حتى أدبر ظهره، وكان من أهل البصرة، وكتب إلى أميرهم وإليهم أن لا تجالسوه. وهو صبيغ بن غسل (3) بن عمرو بن يربوع، وزعموا أن غسلاً هو الذي ولدته السعلاء لعمرو بن يربوع، وأخاه ضمضماً ابني عمرو، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له حين بان له الزيغ: اكشف رأسك، فإذا فيه ضفائر،
فقال له: لو كنت محلوقاً ما شككت؟ يعني ما شككت أنك من الخوارج، قال الراجز (1) : يا قبح الله بني السعلاة ... عمرو بن يربوع شرار النات (2) يريد الناس. 62 -؟ باب الرجل يكون ذا منظر ولا خير عنده قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم: " ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل ". ع: ذكر محمد بن حبيب أن أول من نطق بهذا المثل عثمة بنت مطرود البجلية، وكانت ذات عقل ورأي مستمع في قومها. وكانت لها أخت يقال لها خود، ذات جمال وكمال، وأن خمسة إخوة من غامد؟ بطن من الأزد؟ خطبوا خوداً إلى أبيها، فقدموا عليه لابسي الحلل اليمنية، على النجائب المهرية، والرحال العلافية، مكسوة بالثياب العبقرية، فأنزلهم وأكرمهم وغدوا عليه خاطبين، معهم الشعثاء، كاهنة لهم، فقال لهم مطرود: أقيموا حتى نرى رأينا، ثم دخل إلى بنته فقال: ما ترين؟ فقالت: أنكحني على قدري، ولا تشطط في مهري، فإن تخطئني أحلامهم لا تخطئني أجسامهم، لعلي أصيب ولداص وأكثر عدداً، فخرج بوها فقال: أخبروني عن أفضلكم، فقالت الشعثاء: اسمع أخبرك عنهم، هم إخوة، كلهم أسوة، أما الكبير: فعمرو، بحر غمر، سيد صقر، يقصر دونه الفخر. وأما الذي يليه فعاصم، جلد صارم، أبي حازم،
جيشه غانم، وجاره سالم، وأما الذي يليه فوثاب، ليث غاب، سريع الجواب، عتيد الصواب، كريم النصاب. وأما الذي يليه فمدرك، بذول لما يملك، عزوف عما يترك، يغني ويهلك، وأما الذي يليه فجندل، مقل لما تحمل، يعطي ويبذل، لقرنه مجدل، لا يخيم ولا ينكل، فأبلغها أبوها ذلك، فشاورت أختها عثمة فيهم فقالت لها: " ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل " اسمعي كلمة ناصحة لك: إن شر الغريبة يعلن، وخيرها يدفن، فانكحي في القرباء ولا تغررك أجسام الغرباء. فلم تقبل منها وبعثت إلى أبيها: أنكحني (1) مدركاً، فأنكحها منه على مائة ناقة برعاتها، فحملها مدرك، فلم تلبث معه إلا قليلاً حتى أغار على غامد فوارس من بني مالك بن كنانة فاقتتلوا ساعة، ثم انكشف زوجها وقومه، فسباها بنو مالك فيمن سبوا، وجعلت تبكي، فقيل لها: ما يبكيك؟ أعلى فراق زوجك؟ قالت: قبحه الله، قالوا: لقد كان جميلاً، قالت: قبح الله جمالاً لا منعة معه، إنما أبكي عصياني أختي، وأخبرتهم خبرها، فقال لها رجل منهم يكنى أبا نواس أسود (2) أفوه مضطرب الخلق: أترضين بي على أن أمنعك من ذؤبان العرب؟ قالت لأصحابه: أكذلك هو؟ قالوا: نعم إنه مع ما ترين ليمنع الحليلة وينقب القبيلة، قالت: هذا أجمل جمالاً وأكمل كمالاً، قد رضيته فزوجوها إياه. وقال الشاعر في هذا المثل (3) : ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما الدخل وكل في الهوى ليث ... وفيما نابه فسل وليس الشان في الوصل ... ولكن أن يرى الفصل وأنشد أبو علي لهند بنت الخس: وقالت قولة أختي ... وحجواها لها عقل
ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما الدخل يعني بأختها عثمة بنت مطرود المذكورة. حجوى: فعلى من المحاجاة. 63 -؟ باب [ذكر] أخلاق الناس في اجتماعهم وافتراقهم قال أبو عبيد: قال الأصمعي: يقال في أمثالهم " لن يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا ". قال الأصمعي، وقال أبو عمرو بن العلاء: ما أشد ما هجا القائل: سواسية كأسنان الحمار ... ع: قد فسر أبو عبيد قولهم: فإذا تساووا هلكوا أنه يعني به تساويهم في الشر حتى لا يكون فيهم خير. وقوله: سواسية كأسنان الحمار، هذا عجز بيت لا أدري صدره ولا رأيته، وإنما المحفوظ (1) : سواء كأسنان الحمار فلا ترى ... لذي شيبةٍ منهم على ناشئ فضلا وسواسية جمع سواء على غير قياس. وفي نحو هذا المعنى قول أعرابي يهجو بني جوين من طيء (2) : ولما أن رأيت بني جوينٍ ... جلوساً ليس بينهم جليس يئست من التي أقبلت أبغي ... لديهم، إنني رجل يئوس
إذا ما قلت أيهم لأي ... تشابهت المناكب والرؤوس يقول: هؤلاء قوم لا ينتجع الناس معروفهم فليس فيهم غيرهم، وهذا من أقبح الهجاء. قال أبو عبيد: ومثله قولهم " هم سواء كأسنان المشط ". ع: أما قولهم: كأسنان المشط؛ فإنه يقع على كل استواء في أي حال كان. قال الشاعر: أناس هم المشط استواءً لدى الوغى ... إذا اختلف الناس اختلاف المشاجب وقال أبو عبيد: قال أبو زيد، ومن أمثالهم في هذا أيضاً قولهم (1) : " الناس إخوان وشتى في الشيم ... وكلهم يجمعهم (2) بيت الأدم " [قال: ومعناه أنهم وإن كانوا مجتمعين بالشخوص والأبدان فإن شيمهم وأخلاقهم مختلفة، وقوله " بيت الأدم " قالوا: هو الأرض، وقالوا: آدم، إليه يلتقون في النسب، وقالوا: بيت الاسكاف فيه من كل جلد رقعة] . ع: قال أبو علي: بيت ا>م، يريد القبة بباب الملك يجتمعون فيها فتجمع من كل قبيل ومن كل أمة، وهذا تفسير على اللفظ، وهو أصح ما قيل فيه (3) .
وقال أبو زيد: يقال إخوة وأخوة وإخوان وأخوان (1) ، قال: وسمعت من العرب مثلاً " القوم أخوان وشتى في الشيم " بضم الهمزة. قال أبو عبيد: وإذا جاء القوم كلهم قالوا: " جاووا قضهم بقضيضهم ". ع: ويقال: قضهم بقضيضهم بالنصب، والقض والقضض: الحصى الصغار، وأقض الطعام: إذا كان فيه حصى صغار، وقض المضجع، وأقض: إذا خشن، والقضاض والقضيض: صخر يركب بعضه بعضاً مثل الرضاء، فكأنه قال: جاء القوم صغارهم وكبارهم. 64 -؟ باب الرجلين يكونان متساويين في خير أو شر قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في التساوي بين الاثنين: " هما زندان في وعاء " ولا يكاد يوضع في المدح، إنما هذا في موضع الحساسة والدناءة. ع: لا أعلم وجهاً لم جعل في موضع الدناءة إلا أن يتأولوا فيه قولهم: اللئيم مزند، والتزنيد أيضاً التضييق، يقال: بئر مزندة أي ضيقة. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الرجلين يسقطان [متساويين " وقعا] كعكمي عير " (2) .
ع: إنما يقال ذلك في الرجلين إذا اصطرعا فوقعا معاً، لم يصرع أحد منهما صاحبه، هكذا قال أبو علي في البارع. 65 -؟ باب الرجلين يكونان ذوي فضل غير أن لأحدهما فضيلة على الآخر قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم " مرعى ولا كالسعدان " ومثله " ماء ولا كصدى " يضرب للرجل يحمد شأنه ثم يصير إلى أكثر منه وأعلى [وحكي عن المفضل أنه كان يخبر عن المثلين فقال: الأول منهما لامرأة من طيء وكان تزوجها امرؤ القيس بن حجر الكندي وكان مفركاً، فقال لها: أين أنا من زوجك الأول، فقالت: " مرعى ولا كالسعدان " والمثل الآخر للقذور بنت قيس بن خالد الشيباني وكانت زوجة لقيط بن زرارة التميمي ثم تزوجها بعد رجل من قومها فقال لها: أنا أجمل أم لقيط؟ فقالت: " ماء ولا كصداء " أي أنت جميل ولست مثله، قال المفضل: وصداء ركية لم يكن عندهم أعذب من مائها، وفيها يقول ضرار السعدي: وإني وتهيامي بزينب كالذي ... يطالب من أحواض صداء مشربا ع: كان أبو العباس محمد بن يزيد يقول (1) : " ماء ولا كصداء " على مثال صدعاء. وحكى أبو بكر: ماء ولا كصيداء بالياء. وقال الخليل: منهم من يضم أول صدا فيقول: صدى.
وبعد البيت الذي أنشده أبو عبيد (1) لضرار، وهو ضرار بن عتبة السعدي: يرى دون برد الماء هولاً وذادة ... (1) إذا شد صاحوا قبل أن يتحببا وأنشد ابن الأعرابي وابن السكيت في صداء (3) : وإني وهجراني عوادة بعد ما ... تشغب أهواء الفؤاد المشاعب كصاحب صداء الذي ليس رائياً ... كصداء ماءً ذاقه الدهر شارب قال يعقوب: كانوا مجتورين (4) في ربيع، فلما جاء القيظ وصاروا إلى محاضرهم تشعبت أهواؤهم أي تصرفت، وإنما سميت صداء لطيب مائها وأن من شربه صده عن غيره ولا يستمرئه. وقال أبو عبيد: إن المثل المضروب في صداء (5) للقذور بنت قيس بن خالد. : سميت المرأة قذور بصفتها وهي التي تجتنب الأقذار كما قيل متحرج للذي يجانب الحرج، ومتأثم للذي يجانب الإثم، ومتهجد للذي يتجنب الهجود، وهو النوم، ومتحنث للذي يتجنب الحنث ويتوخى البر، وكان يقال دابة ريض للتي لم ترض وهي الصعبة (6) ، ولها نظائر في الكلام. وقال أبو بكر: ناقة قذور: عزيزة النفس لا ترعى مع الإبل ولا تبرك معها، وبها سميت المرأة قذور.
وذكر محمد بن يزيد (1) أن ابنة هانئ بن قبيصة كانت تحت لقيط بن زرارة ابن عدس، فلما قتل عنها تزوجها رجل من أهلها، فكان لا يزال يراها تذكر لقيطا، فقال لها: ما استحسنت من لقيط؟ قالت: كل أموره حسن، ولكني أخبرك أنه خرج مرة إلى الصيد وقد انتشى، فرجع وبقميصه نضح من دم صيده، والمسك يضوع من أعطافه، ورائحة الشراب من فيه، فضمني ضمة، وشمني شمة، فليتني كنت مت ثمة، قال: ففعل زوجها مثل ذلك ثم ضمها إليه وقال: أين أنا من لقيط: قالت: " ماء ولا كصداء " وزنها فعلاء، وموضع اللام همزة، عن الأصمعي وأبي عبيدة. هكذا قال محمد بن يزيد. وقال ابن الأعرابي عن المفضل (2) : إن زرارة بن عديس بن زيد بن عبد الله ابن دارم بن مالك بن حنظلة رأى ابنه لقيطاً يوماً مختالاً، فقال: والله إنك لتختال كأنك قد أصبت ابنة قيس بن خالد ذي الجدين ومائة من هجائن المنذر بن ماء السماء، فقال لقيط: إن الله علي أن لا يمس رأسي غسل ولا أشرب خمراً حتى أجيء بابنة قيس بن خالد وبمائة من هجائن المنر، وأبلي في ذلك عذراً، وسار حتى أتى قيساً؟ وكان سيد ربيعة؟ وكان على قيس يمين أن لا يخطب إليه أحد علانية إلا أصابه بشر. فلما أتاه لقيط وجده جالساً في نادي قومه فسلم عليه وعليهم وخطب إليه ابنته. فقال له: من أنت؟ قال: أنا لقيط بن زرارة. فقال: ما حملك على أن تخطب إليّ علانية؟ قال: لأني قد علمت أني إن أعالنك لا أشنك، وإن أناجك لا أخدعك. قال: كفء كريم، لا جرم والله لا تبيت عندي عزباً ولا محرماً. وأرسل إلى أم الجارية: إني قد زوجت لقيط بن زرارة القذور بنت قيس، فاصنعيها حتى يبيت بها، ففعلت وساق عنه قيس، وابتنى لقيط، وأقام فيهم ما شاء أن يقيم. ثم احتمل بأهله إلى المنذر، فذكر له ما قال أبوه، فأعطاه مائة من هجانه فانصرف إلى أبيه بابنة قيس وهجائن المنذر. فلما قتل عنها لقيط تزوجها رجل من قومها، وذكر باقي الحديث كحديث محمد بن يزيد وقو أبي عبيد.
وحكي عن المفضل أنه كان يخبر أن المثل الأول لامرأة من طيء، وكان تزوجها امرؤ القيس بن حجر فقال لها: أين أنا من زوجك الأول، ولم يسمه، وهو قيس بن مسعود بن قيس بن خالد؟ وقيس هو ذو الجدين سمي بذلك لأنه كان ذا جد عند الملوك وجد في الحرب؟ وقيل: إنما سمي ذا الجدين لأنه أسر أسيرين شريفين كان لهما فداء كير، ولم يأسر أحد في زمانه أشرف منهما ولا أكثر فداء، فسمي ذا الجدين، قال الشاعر (1) : أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي الجدين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي قصياً كريماً أو قريباص فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي اشترط الكرم في القصي، لأن قريبه لا يكون إلا كريماً. قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا قولهم " فتى ولا كمالك "، قال الأصمعي: ولا أدري من مالك. ع: قال محمد بن يزيد: هو مالك بن نويرة، وقال غيره: هو مالك بن قيس بن زهير. قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ومن أمثالهم في تفضيل بعض أهل الفضل (2) على بعض " في كل شجر نار واستنجد المرخ والعفار " وقال غيره: واستمجد المرخ والعفار: يعني (3) اتخذا من النار ما هو حسبهما، يقال: أمجدت الدابة علفاً إذا أكثرت لها منه.
ع: روى طاهر: " واستمجد المرخ والعفار " أي اخترهما على سائر الزناد، وفضلهما. ومن روى " استنجد "؟ بالنون؟ فمعناه: قوى واستكثر من النار، قال أبو علي: استمجد بالميم لا غير. وقال الأعشى (1) : زنادك خير زناد الملوك ... صادف منهن مرخ عفارا وقال أبو زيد: يقال " اقدح بدفلى في مرخ " فإنهما (2) أسرع الخشب وريا، يضرب مثلاً للرجل الكريم الأبوين وهو أيضاً كريم. وقال أبو بكر: ومن أمثالهم " اقدح بعفار أو مرخ، ثم اشدد إن شئت أو أرخ " (3) . وقال الراجز: " أرخ يديك واسترخ ... إن الزناد من مرخ " 66؟ باب الرجل يعجب بالفضيلة تكون فيه ولا يعرف فضل غيره عليه قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " كل مجر في الخلاء (4) يسر " وفسره، ومعناه ظاهر.
ع: قال أبو الطيب، فنظم هذا المثل بأحسن لفظ (1) : وإذا ما خلا الجبان بأرضٍ ... طلب (2) الطعن وحده والنزالا 67؟ باب مساواة الرجل صاحبه فيما يدعو إليه قال أبو عبيد: قال ابن الكبي: من أمثالهم: " أنصف القارة من راماها "، قال هشام: والقارة عضل والديش ابنا الهون بن خزيمة، سموا قارة لاجتماعهم والتفافهم. ع: قال أبو عبيدة: ويروى " أنصف القارة من راداها " والمراداة: المراماة، يقال: رادأته بالحجر وراديته؟ يهمز ولا يهمز؟ إذا رميته. والهون ابن خزيمة؟ بفتح الهاء؟ مشتق من الشيء السهل من قولهم: مر على هونه أي على سكون وهدء (3) ، أما الهون؟ بالضم؟ فالهوان، من قوله تعالى {أيمسكه على هون} (النحل: 59) . وقال أبو بكر: إنما سموا القارة لأن القارة أكمة سوداء فيها حجارة، وكان بعض بني كنانة؟ وهو الشداخ؟ أراد أن يفرقهم في كنانة فقال شاعرهم (4) : دعونا قارة لا تنفرونا ... فنجفل مثل إجفال الظليم وهم اليوم في اليمن، وينسبون إلى أسد.
وزعموا (1) أن رجلين التقيا، أحدهما قاري والآخر من حي غيرهم فقال القاري: إن شئت صارعتك، وإن شئت سابقتك، وإن شئت راميتك، فقال الآخر: قد اخترت المراماة، فقال القاري: وأبيك لقد أنصفتني، ثم أنشأ يقول (2) : قد أنصف القار من راماها ... إنا إذا ما فئة نلقاها نرد أولاها على أخراها ... ثم انتزع القاري بسهم فشك فؤاده، وكانوا رماة الحدق. 68 -؟ باب المساواة في التكافؤ والأفعال (3) قال أبو عبيد: قال مؤرخ: من أمثالهم في هذا " أضيء لي أقدح لك " ويقال: أكدح لك، أي كن لي أكن لك. ع: قوله أقدح لك، هو من قدح النار، ويريد بقوله: أضئ لي: أسرج لي إذا احتجت، أقدح لك ناراً إذا احتجت. فأما من روى أكدح لك. فإن معناه أسعى لك، وكدح الرجل لمعيشته: سعى واكتسب. وقوله تعالى {إنك كادح إلى ربك كدحاً} (الانشقاق: 6) أي عمله الذي يعمل من خير وشر لنفسه. وقال أبو زيد، قال العقيلي: إذا طلب الرجل إلى الرجل حاجة فلم يعرف وجهها قال: أضئ لي أقدح لك، أي بين لي أجبك.
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في المكافأة " إنما يجزي الفتى ليس الجمل " قالها لبيد (1) في شعره. ع: قال لبيد (2) : " فإذا أقرضت قرضاً فاجزه ... إنما يجزي الفتى ليس الجمل (3) " " وإذا رمت رحيلاً فارتحل ... واعص ما يأمر توصيم الكسل " " واكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزرى بالأمل " وهذه كلها أمثال. قال أبو عبيد: من أمثالهم في المكافأة " هذه بتلك فهل جزيتك ". وحكى عن المفضل (4) أنه كان يخبر عن قائله أنه يزيد بن المنذر، قاله لعمرو ابن فلان، وهما من بني نهشل في فعلة فعلها به عمرو فجزاه يزيد بمثلها فقال هذه المقالة. ع: كانت عند عمرو بن جابر بن سلمى بن جندل بن نهشل (5) امرأة له معجبة جميلة، وكان ابن عمه يزيد بن المنذر بن سلمى بها معجباً، فدخل عمرو
ذات يوم بيته فرأى منه ومنها شيئاً كرهه، فطلق المرأة، فمكث يزيدبن المنذر ما شاء الله لا يقدر أن ينظر في وجه عمرو من الحياء، ثم أغير عليهم (1) فركب عمرو فيمن ركب فصرع، وتنازلوا عليه ليأسروه، ورآه يزيد بن المنذر، فحمل عليهم، فصرع بعضهم وأخذ فرس عمرو فاستنقذه، وقال: اركب فانج. فلما ركب، قال: " هذه بتلك، عمرو، فهل جزيتك ". قال أبو عبيد: في بعض الحديث المرفوع " من أزلت إليه نعمة فليكافئ عليها (2) ، فإن لم يقدر فليظهر (3) ثناء حسناً ". ع: وقد روى مكحول عن عروة عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم كثراً ما يقول: ما فعلت أبياتك؟ فأقول: أي أبيات يا رسول الله؟ فيقول في الشكر، فأقول نعم قوله (4) : إرفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوماً فتدركه العواقب قد نمى يجزيك أو يثني عليك وكل (5) من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى إن الكريم إذا أردت وصاله ... لم يلف رثاً حبله واهي القوى فيقول: يا عائشة، إذا حشر الله الخلائق يوم القيامة فرأى العبد من عباده
اصطنع إليه آخر من عباده معروفاً فيقول: عل شكرته؟ فيقول: يا رب (1) ، علمت أن ذلك كان منك فشكرتك، فيقول: لم تشكرني إذا (2) لم تشكر الذي أجريت ذلك على يديه.
الباب الرابع
الباب الرابع الأمثال في الأقربين من أسرة الرجل وعترته 69 -؟ باب المثل (1) في تعاطف ذوي الأرحام وتحنن بعضهم على بعض قال أبو عبيدة: قال ابن الكلبي: من أمثالهم في عطف ذوي الرحم قولهم: " يا بعضي دع بعضاً " وأول من قاله زرارة بن عدس. ع: كان أبو عبيدة يقول: هو عدس؟ بفتح الدال على وزن عمر؟ وقال محمد بن حبيب في هذا: إنه عدس؟ بضم الدال؟ قال: وكل عدس في العرب غيره فإنه بفتح الدال. وذكر أبو عبيد في هذا الباب قولهم " أسعد أم سعيد ". ع: قد تقدم خبره وما فيه (2) .
قال أبو عبيد: وقد وضعه الناس في موضع الاستخبار عن الأمرين من الخير والشر، والأصل ما ذكرناه. ع: روى يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن عبد المطلب بن ربيعة قال: بعثني أبي وبعث العباس ابنه الفضل إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسأله أن يجعل لنا السقاية فلما أتيناهم منصرفين قالوا: ما وراءكما، أسعد أم سعيد؟ قلنا: سعد. وذكر أيضاً خبر بيهس نعامة وقد مر القول فيه (1) ، ووفى أبو عبيد هنا خبره، ولم يذكر أبو عبيد من كان قاتل إخوة بيهس، وقال الزبير: قتلهم نصر بن دهمان الأشجعي. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في التحنن على الأقارب: " وابابي وجوه اليتامى " وذكر خبر سعد القرقرة محذوفاً، وأنشد له (2) : نحن بغرس الودي أعلمنا ... منا بركض الجياد في السلف ع: قال عبيد بن شرية: أتي النعمان (3) بحمار وحش فدعا بسعد القرقرة، فقال: احملوه على اليحموم وأعطوه مطرداً وخلو عن هذا الحمار حتى يطلبه سعد ليصرعه (4) ، فقال سعد: إني إذاً أصرع عن هذا الفرس فمالي ولهذا؟ قال النعمان: والله لتحملنه. فحمل على اليحموم ودفع إليه المطرد، وخلي عن الحمار، فنظر سعد إلى بعض بنيه قائماً في النظارة فقال " وابأبي وجوه اليتامى " فأرسلها مثلاً، وركض الفرس، وألقى (5) المطرد، وتعلق بمعرفة الفرس فضحك به
النعمان، ثم أدرك فأنزل، فقال سعد في ذلك: نحن بغرس الودي أعلمنا ... منا بركض الجياد في السلف (1) يا لهف نفسي وكيف أطعنه ... مستمسكاً واليدان في العرف قد كنت أدركته فأدركني ... للصيد عرق من معشر عنف قوله: أعلمنا: لغة معروفة أي أعلم منا، وهي لغة يمانية، أنشد قاسم بن ثابت في مثله: مجرب قد حلبت الدهر أشطره ... لنافع أحوجي منه (2) لتعليم يريد أنا إلى النفع أحوج مني إلى التعليم. فقامت اللام مقام إلى كما تقول: أنا أحوج الناس لكذا؟ تريد إلى كذا -. وأنشد ابن الأعرابي في ذلك أيضاً (3) : يا رب موسى أظلمي وأظلمه ... فاصبب عليه ملكاً لا يرحمه والسلف: الأرض يقال: أرض مسلوفة أي مكنوسة، ويروى: في السدف، هكذا قال قاسم بن ثابت في السلف. 70 -؟ باب احتمال الرجل لذي رحمه يراه مضطهداً ع: الاحتمال: الغضب، يقال: احتمل فلان إذا غضب له، قال الأعشى (4)
لا (1) أعرفنك إن جدت عداوتنا ... والتمس النصر منكم عوض تحتمل قال الأموي، عبد الله بن سعيد: العرب تقول جاء فلان محتملاً من الغضب أي مستخفاً، قال الجعدي (2) : كلباً من حس ما قد مسه ... وأفانين فوادٍ محتمل أي مستخف. قال أبو عبيد: ومنه قولهم: " لا يمبك مولىص نصراً " وكان المفضل فيما روي عنه يقول (3) : إن أول من قاله انعمان بن المنذر وذلك أن العيار بن عبد الضبي كان الذي بينه وبين ضرار بن عمرو سيئاً، وذكر خبرهما مختصراً. ع: كانا وفدا على النعمان فأجرى عليهما نزلاً، وكان العيار بطالاً يقول الشعر يضحك النعمان، وكان قد قال: لا أذبح البازل الشبوب ولا ... أسلخ يم المقامة العنقا وكان منزلها واحداً، وكان النعمان بادياً، فأرسل إليهما بجزر فيها تيس فقال ضرار للعيار: لوسخلت هذا التيس، قال: ما أبالي، فذبحه ثم سلخه، وانطلق ضرار إلى النعمان فقال: أبيت اللعن، هل لك في العيار يسلخ تيساً؟ قال النعمان: أبعد قوله؟ قال: نعم، فأرسل إليه النعمان فوجده يسلخه فأتي به فضحك معه ساعة، فعرف العيار أن ضراراً دهاه فأصر عليها. وكان النعمان يجلس في الهاجرة في ظل سرادقه ويؤتى بطعامه، وكان كسا ضراراً حلة من حلله، وكان ضرار شيخاً أعرج، فلما كانت الساعة التي يجلس
فيها النعمان لطعامه، لبس العيار تلك الحلة، وخرج يتعارج، فلما رآه النعمان قال: هذا ضرار. فلما صار بحيال النعمان كشف عن عورته فخرئ، ثم أحضر (1) يتعارج منصرفاً، فقال النعمان: ما لضرار قاتله الله يستقبلني بهذا عند طعامي ولا يهابني! وغضب وهم به، فقال ضرار: أبيت اللعن، إن كنت فعلت فعلي وعلي ولكنه العيار لما ذكرت لك من سلخه (2) التيس. فصدقه النعمان وأنكر العيار، وتسابا عند النعمان، ثم افترقا. ووقع بين أبي مرحب اليربوعي وبين ضرار شر فذكره أبو مرحب عند النعمان والعيار حاضر. وضرار غائب، فأمضه، فشم العيار أبا مرحب وذكره وقال: مثلك يشتم ضراراً؟ فقال النعمان: ويلك، ألم أسمعك تقول في ضرار أخبث مما قال؟ فقل العيار " إني آكل لحمي (3) ولا أدعه لآكل ". قال النعمان: " لا يملك (4) مولى نصراً ". قال أبو عبيد: ومن هذا مقالة عثمان بن عفان لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، حين كتب إليه وهو محصور، وكان علي، رضي الله عنه، غائباً: إذا أتاك كتابي هذا فأقبل إليّ، كنت لي أم علي (5) : فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق ع: هذا البيت لشأس بن نهار العبدي من عبد القيس وبه لقب الممزق، وفي شعر ابنه عباد أنه هو الممزق؟ بكسر الزاي؟ قال عباد بن شأس بن نهار: أنا الممزق أعراض اللئام كما ... كان الممزق أعراض اللئام أبي
فسمي بهذا البيت: الممزق بن الممزق. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في مثل هذا " الحفائظ تحلل الأحقاد " ومنه قول القطامي: وترفض عند المحفظات الكتائف ... يقول: إذا رأيت قرني (1) يضطهد، وأنا عليه واجد، خرجت تلك السخيمة من قلبي له لم أدع نصره. ع: صدر بيت القطامي (2) : أخوك الذي لا تملك الحس نفسه ... وترفض عند المحفظات الكتائف الحس: الرقة. ومثله ما أنشده يعقوب عن الأصمعي (3) : إذا المرء ذو القربى وذو الذنب (4) أجحفت ... به نكبة حلت مصيبته حقدي يقول: إذا وقع في شدة تحلل ما في صدري عليه ونصرته. ومثله قول عبدة ابن الطبيب (5) : ودعوا الضغينة لا تكن من شأنكم ... إن الضغينة للقرابة توضع
أي تطرح. وقال مالك بن أسماء (1) : لما أتاني عن عيينة أنه ... (2) أمسى عليه تظاهر الأقياد نخلت له نفسي النصيحة إنه ... (3) عند الشدائد تذهب الأحقاد قال أبو عبيد: ومثله قولهم: " انصر أخاك ظلماً أو مظلوماً ". ع: هذا حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذد ذكره أبو عبيد فيما يأتي بعد، وذكر معناه. وأما محمد بن حبيب فغنه ذكر أن أول من قال هذا المثل جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، وكان رجلاً دميماً فاحشاً، وأنه جلس مع سعد بن زيد مناة يشربان، فلما أخذ الشراب منهما قال جندب: يا سعد، لشرب لبن اللقاح، وطول النكاح، وحب المزاح، أعجب إليك من الكفاح، ودعس الرماح، وركض الوقاح، فقال سعد: كذبت والله، إني لأعمل العامل، وأنحر البازل، وأسكت القائل، والله لتعلم أنك لو فزعت لدعوتني عجلاً، ولرأيتني بطلاً، وما ابتغيت بي بدلاً. ثم قال سعد، وكان عائفاً: أما والذي أحلف به لتأسرنك أمية، بين الدفين والقرية
ولقد أخبرتني طيري، أنه لا يغيثك غيري؟ الدفين: واد معلوم (1) ، قال جميل (2) : نعاج إذا استعرضت يوماً حسبتها ... قنا الهند أو بردي بطن دفين وافترقا على ذلك، فغبرا حيناً، ثم خرج جندب على فرس له يطلب القنص، فأتى على أمة لبني تميم ترعى غنماً، وهي تحمل وطباً من لبن، فقال: لتمكنني من نفسك مسرورة، أو لتقهرن مجبورة (3) ؟ فقالت: مهلاً فإن المرء من نوكه، يشرب من سقاء لم يوكه. ونزل عن فرسه فدنا منها، فقبضت على يديه قبضة لم يقدر معها على حراك، ثم شدته بوتر قوسه، ثم شدت عنان فرسه في جيده، وركبت الفرس، وراحت بجندب مع غنمها، تحدو به وتقول: لا تأمنن بعدها الولائدا ... فسوف تلقى للبلا مواردا وحيةً تضحي بجو راصدا ... فمر بسعد في إبله، فقال: يا سعد أغثني، فقال سعد: إن الجبلان لا يغيث، فقال جندب: يا أيها المرء الكريم المعلوم ... " انصر أخاك ظالماً أو مظلوم " فأقبل إليه سعد فأرسله، وقال للأمة: لولا أن يقال قتل سعد امرأة لقتلتك. فقالت: كلا لم تكن لتكذب طيرك وتصدق غيرك. 71 -؟ باب استعطاف الرجل صاحبه على أقربيه قال أبو عبيد: قال الأصمعي: منه قولهم (4) " ومنك ربضك وإن كان
سماراً ". وأصل السمار: اللبن الممذوق، وشبه القريب به في رداءته. ع: قال ابن الأعرابي: الربض: أهل البيت، فكأنه قال: أهل بيتك منك، وإن كانت أخلاقهم مشوبة بما تنكره، كما أن اللبن الممذوق، وهو السمار، مشوب بالماء. وقال أبو زيد: معناه منك فصيلتك؟ وهم بنو أبيه؟ وإن كانوا قوم سوء لا خير فيهم (1) . قال أبو عبيد: وقال الأحمر في مثله: " منك أنفك (2) وإن كان أجدع ". ع: أول من قاله قنفذ بن جعونة المازني، وذلك أن الربيع بن كعب المازني دفع إلى أخيه كميش فرساً كان أبر على الخيل كرماً وجودة؟ وكان يسمى هجلا؟ ليأتي به أهله، وكان كميش أنوك. وقد كان رجل من بني مالك يقال له قراد بن جرم قدم عليهم ليصيب منهم غرة فيأخذ الفرس وكان داهية، فمكث فيهم لا يعرفون نسبه، ولا يظهر أمره، فلما نظر إلى كميش راكباً للفرس، ركب ناقته ثم عارضه، فقال: يا كميش هل لك في عانة لم ير مثلها ومعها عير من ذهب، أما الأتن فتروح بها إلى أهلك فتفرج صدورهم، وتمتلئ قدورهم، وتشبع خصورهم، وما العير فلا افتقار بعده، فقال كميش: وكيف لنا به، فقال قراد: أنا لك به، ليس يدريك إلا على فرسك. قال: فدونكه، قال: نعم، وأمسك أنت علي راحلتي وانتظرني في هذا المكان، قال: نعم، وركب قراد الفرس، فلما توارى أنشأ يقول:
ضيعت في العير ضلالاً مهركا ... فسوف تأتي بالهوان أهلكا وقبل هذا ما خدعت الأنوكا ... فلم يزل كميش في انتظاره حتى أمسى، فانصرف إلى أهله، وقال في نفسه: إن سألني أخي عن الفرس أقول: تحول ناقة، فلما رآه أخوه، قال: أين الفرس؟ قال: تحول ناقة، فعلم أنه خدع فجعل يوجعه ضرباً، فقال له قنفذ بن جعونة: اله عما فاتك " فإن أنفك منك وإن كان أجدع ". وقدم قراد بالفرس على أهله وقال في ذلك: رأيت كميشاً نوكه لي نافع ... ولم أر نوكاً قبل ذلك ينفع يؤمل عيراً من نضار وعسجد ... وهل كان في عير كذلك مطمع وقلت له أمسك قلوصي ولا ترم ... خداعاً له مني وذو الكيد يخدع فأصبح يرمي الخافقين بطرفه ... واصبح تحتي ذو أفانين جرشع 72؟ باب عجب الرجل برهطه وعترته قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " كل فتاة بأبيها معجبة " قال: وهذا المثل يرويه بعضهم للأغلب العجلي في شعر له، وقال بعضهم: هذا المثل لامرأة من بني سعد يقال لها العجفاء بنت علقمة. ع: المشهور فيه أنه للأغلب العجلي، وقبله: فانصرفت وهي حصان مغضبه ... ورفعت من صوتها هيا أبه " كل فتاةٍ بأبيها معجبه " ... قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا " زين في عين والدٍ ولده ".
ع: هذا مشهور من قول الشاعر (1) : نعم ضجيج الفتى إذا برد اللي ... ل سحيراً وقرقف الصرد زينها الله في الفؤاد كما ... زين في عين والدٍ ولد وقال أبو تمام في نحوه: ويسيء بالإحسان ظناً لا كمن ... هو بابنه وبشعره (2) مفتون 73؟ باب تشبيه الرجل بأبيه قال أبو عبيد: الأصمعي وأبو عبيدة وابن الكلبي كلهم قالوا: من أمثالهم في التشبيه " شنشنة أعرفها من أخزم " وهذا المثل يروى أن عمر بن الخطاب قاله في ابن عباس رضي الله عنهما يشبه في رأيه بأبيه. ع: أخزم هو جد حاتم بن عبد الله الطائي، وهو حاتم بن عبد الله بن سعد ابن الحشرج بن أخزم، وقيل بل هو جد عقيل بن علفة. والشنشنة: النطفة من شنشنت إذا أرقت، يراد ما أراق من النطفة في الرحم. قال أبو بكر، قال قوم: الشنشنة الغريزة والطبيعة، فمن جعل أصل المثل لأخزم الطائي قال: كان أخزم جواداً، فلما نشأ حاتم وعرف جوده قال الناس: شنشنة من أخزم، أي قطرة من نطفة أخزم. وذكر علي بن الحسين (3) أن عقيل بن علفة بن الحارث المري أتى منزله،
فإذا بنوه مع بناته وأزواجه مجتمعون فشد على عملس منهم، فحاد عنه، وتغنى ابنه علفة: قفي يا ابنة المري أسألك ما الذي ... تريدين فيما كنت منيتنا قبل فإن شءت كان الصرم ما هبت الصبا ... وإن شئت لا يفتى التكارم والبذل فقال عقيل: يا ابن اللخناء، متى منتك نفسك هذا؟ وشد عليه بالسيف، فحال عملس بينه وبينه، وكان أخاه لأمه وأبيه، فشد على عملس بالسيف وترك علفة، ولم يلتفت إليه. فرماه عملس بسهم فأصاب ركبته، فسقط عقيل، وجعل يتمعك في دمه ويقول: إن بني سربلوني بالدم ... من يلق أبطال الرجال يكلم ومن يكن ذا أود يقوم ... " شنشنة أعرفها من أخزم " قال المدائني: " شنشنة من أخزم " مثل ضربه، وأخزم فحل كان لرجل من العرب، وكان منجباً، فضرب في إبل رجل آخر، ولم يعلم صاحبه، فرأى بعد ذلك من نسله جملاً فقال " شنشنة أعرفها من أخزم ". قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من هذا قولهم " ومن عضة ما ينبتن شكيرها " (والشكير: الورق الصغار تنبت بعد الكبار) (1) . ع: من هذا قول زهير (2) : وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل وقال جميل (3) :
أرى كل عود نابتاً في أرومة ... أبى منبت العيدان أن يتغيرا بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء صدق يلقهم حيث سيرا قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ومنه قولهم " العصا من العصية "، قال أبو عبيد: هكذا قال وأنا أحسبها العصية من العصا إلا أن يكون أراد أن الشيء الجليل إنما يكون في بدئه صغيراً، كما قالوا " إنما القرم من الأفيل (1) " فيجوز حينئذ على هذا المعنى أن يقال " العصا من العصية ". ع: حذف أبو عبيد بعض هذا المثل واختزله وإنما تقول العرب " العصا من العصية والأفعى بنت الحية ". وقال الرياشي: إن العصية فرس كريمة نتجت مهراً جواداً فقيل العصا من العصية. وأشهر أفراس العرب المسماة بالعصا فرس جذيمة الأبرش صاحب الزبى فهذا طبق لما بعده. والذي ذهب أبو عبيد إليه من أن الشيء الجليل إنما يكون في بدئه صغيراً، وجه؟ كما قال عدي بن زيد (2) -: شط وصل الذي تريدين مني ... وصغير الأمور يجني الكبيرا وقال الحارث بن وعلة (3) : لا تامنن قوماً ظلمتهم ... (4) وبدأتهم بالشتم والظلم أن يأبروا نخلاً لغيرهم ... والشيء تحقره وقد ينمي (5)
وقال أبو تمام (1) : رب صغيرٍ (2) جنى كبيرا ... كم مطرٍ بدوه مطير وكما قال آخر (3) : فإنما القرم من الأفيل ... وسحق النخل من الفسيل وأتى بالأول أبو عبيد كلاماً منثوراً. 74 -؟ باب إدراك ولد الرجل وبلوغهم في حياته قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في ولد الشبيبة وما يحب من ذلك: إن بني صبية صيفيون ... أفلح من كان له ربعيون والولد الصيفي هو الذي يولد للرجل بعد السن، والربعي هو الذي يولد له في عنفوان الشباب، وهذا المثل يروونه عن سليمان بن عبد الملك، وكان أراد أن يجعل الخلافة في ولده، فلم يكن له من ولد يومئذ ولد له في الحداثة، وكانوا صغاراً إلا ما كان من أمهات الأولاد، فقد كان فيهم من قد بلغ، إلا أنهم كانوا لا يعقدون إلا لأبناء المهائر. ع: قال الزبير: كانت عندهم رواية أن ملكهم يذهب على رأس ابن أمة، فكان كذلك. والشطران لأكثم بن صيفي، وقيل لسعد بن مالك بن قيس بن ضبيعة بن ثعلبة،
قالهما سليمان متمثلاً. وروى أبو بكر (1) أن عمر بن عبد العزيز قال لسليمان وهو يجود بنفسه: استخلف يا أمير المؤمنين، فقال: إن بني صبية صيفيون ... أفلح من كان له ربعيون فقال عمر؟ رحمه الله؟ {قد أفلح من تزكى} (الأعلى: 14) . وقال سعد بن مالك أيضاً في معناهما: إن بني صبية صغار ... أفلح من كان له كبار 75؟ باب تبني الرجل والمرأة ولد غيرهما قال أبو عبيد: من أمثالهم " ابنك ابن بوحك " أي ابن نفسك الذي ولدته: ليس من تبنين، وكذلك قولهم " ابنك من دم عقيبك ". وكان المفضل (2) يخبر بهذا المثل عن امرأة الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهي امرأة من بلقين، فولدت عقيل بن الطفيل فتبنته كبشة بنت عروة بن جعفر ابن كلاب، فعزم عقيل على أمه يوماً فضربته فجاءتها كبشة فمنعتها، وقالت: ابني ابني، فقالت القينية " ابنك من دمي عقبيك " تعني الذي نفست به حتى أدمى النفاس عقبيك. ع: وتمام هذا الحديث أن كبشة الجعفرية لما قالت لها القينية تلك المقالة انثنت مكسورة (3) مغمومة إذ لم يكن لها ولد. وربت عليها ضرتها القينية بولدها،
فاشتملت على عامر بن الطفيل في تلك الليلة فولدته أسود أهل زمانه، وأنجد أهل زمانه، وأفرس أهل زمانه. وكان مناديه ينادي بعكاظ هل من راجل فأحمله، أو من خائف فأؤمنه، أو ذي خلة فأجبره. وقوله: فعزم عليها: يقال عزم، وعزم، والفتح أجود لقولهم عازم. وقوله: يعني التي نفست به، يقال: نفست المرأة؟ بضم النون؟ على ما لم يسم فاعله ونفست؟ بفتح النون وكسر الفاء؟ وكذلك: مخضت ومخضت. وأما قولهم: ابنك ابن بوحك، فساق أبو عبيد المثل على أن أصله مخاطبة لامرأة، وليس كما قال. وأول من نطق بهذا المثل: الأخزر بن عوف العبدي، وذلك أن الأخزر كانت عنده الماشرية بنت نهس من بني بكر، فطلقها وهي نسيء بأشهر (1) ، فتزوجها عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. فقالت لعجل حين تزوجها: احفظ علي ولدي. قال: نعم، وسماه عجل سعداً وشب (2) ، فخرج به عجل ليدفعه إلى الأخزر بن عوف أبيه، وأقبل حنيفة ابن لجيم أخو عجل، فتلقاه بنو أخيه فلم ير فيهم سعداً. فسألهم فقالوا: انطلق به أبونا إلى أبيه. فسار حنيفة في طلبه، فوجده راجعاً قد وضع الغلام في يد أبيه، فقال: ما صنعت يا عشمة (3) ، وهل للغلام أب غيرك؟ وجمع إليه بني أخيه، وسار إلى الأخزر ليأخذ سعداً، فوجده مع أبيه ومولى له. فاقتلوا فقال الأخزر لسعد: يا بني ألا تعينني على حنيفة؟ فكع الغلام عنه. فقال الأخزر " ابنك ابن بوحك، الذي يشرب من صبوحك ". فذهبت مثلاً. وضرب حنيفة الأخزر بالسيف فجذمه، فسمي جذيمة، وضرب الأخزر حنيفة على رجله فحنفها فسمي حنيفة، وكان اسمه أثال بن لجيم، وأخذ حنيفة سعداص فرده إلى عجل. وبوح: اسم للذكر قاله اللحياني، وبوح أيضاً اسم من اسماء الشمس؟ هكذا
نقله يعقوب عن العرب؟ ونقله كراع: يوح بالياء أخت الواو. وقال أبو بكر: ومثل هذا المثل قولهم " ابنك ابن أيرك، ليس بذي أبٍ غيرك " ويقال " ليس لك ابن غيرك ". وقال أبو بكر أيضاً: باحة الدار وسطها، وجمعها: بوح، ومن كلامهم " ابنك ابن بوحك يشرب من صبوحك " ولم يزد على هذا. 76 -؟ باب التشابه في غير ذوي الرحم قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم " أشبه شرج شرجاً لو أن أسيمراً ". وكان المفضل يحدث (1) أن صاحب المثل لقيم بن لقمان، وكان هو وأبوه قد نزلا منزلاً يقال له شرج، وذكر باقي الخبر. ع: شرج: موضع بعينه كما قال (2) ، ولم يرد بشرج في هذا المثل إلا واحد الشراج، وهي مجاري الماء من الحرار إلى السهولة، ولذلك قال " أشبه شرج شرجاً " (3) ، ولم يفسر أبو عبيد قوله " لو أن أسيمراً "، وأسيمر تصغير أسمر جمع سمر لأن التصغير إنما يلحق أدنى العدد، وهو من شجر الطلح، قاله يعقوب في إصلاح المنطق، وقال: يضرب مثلاً للشيئين يشتبهان ويفارق أحدهما صاحبه في بعض الأمور، وخبر أن محذوف، كأنه قال هنالك أو ثم. وخبر لقمان على تمامه أنه كان إذا اشتد الشتاء وكلب، كانت له راحلة
موطأة لا ترغو ولا يسمع لها صوت، فيشدها برحله ثم يقول للناس حين يكاد البرد يقتلهم: ألا من كان غازياً فليغز، فلا يلحق به أحد، فلما شب لقيم ابن أخته اتخذ راحلة، فوطأها، فلما كان حين نادى لقمان من كان غازياً فليغز، قال لقيم: أنا معك إذا شئت، فلما رآه شد رحلها ولم يسمع لها رغاء، قال لقمان: " كأن برحلها باتت فقم " وفقم اسم ناقة لقيم، ثم إنهما سارا فأغارا فأصابا إبلاً ثم انصرفا نحو أهلهما، فنزلا فنحرا ناقة، فقال لقمان للقيم: أتعشي أم أعشي، فقال لقيم: أي ذلك شئت. قال لقمان: إذهب فعشها حتى ترى النجم قمة رأس، وحتى ترى الجوزاء كأنها قطار (1) ، وحتى ترى الشعرى كأنها نار، فإلا تكن عشيت فقد آنيت أي أخرت. وقال له لقيم: واطبخ أنت لحم جزورك فأز ماء واغله (2) حتى ترى الكراديس كأنها رؤوس رجال (3) صلع، وحتى ترى الضلوع كأنها رؤوس نساء حواسر، وحتى ترى الودك (4) كأنه قطا نوافر وكأن قدرك تدعو غنياً وغطفان؟ يعني من شدة غليها؟ فإن لم تكن أنضجت فقد آنيت. ثم انطلق لقيم في إبله يعشيها، ومكث لقمان يطبخ لحمه، فلما أظلم، وهو بمكان يدعى شرجاً؟ هو اليوم لبني عبس؟ قطع سمرة ثم حفر دونه خندقاً فملأه ناراً ثم واراها، فلما رجع لقيم إلى مكانهما عرفه وأنكر ذهاب السمر فقال " أشبه شرج شرجاً لو أن أسيمراً " فذهب (5) مثلاً، ووقعت ناقة من إبله في تلك النار فنفرت، وعرف لقيم أن لقمان إنما فعل ذلك ليصيبه، حسداً منه له، فسكت، ووجد لقمان قد نظم في سيفه لحم الجزور وكبداً وسناماً حتى توارى سيفه وهو يريد إذا ذهب لقيم ليأخذه أن ينحره بالسيف، ففطن لقيم وقال له: " في نظم سيفك ما يرى لقيم " فأرسلها مثلاً، وقسما الإبل وافترقا.
قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم " ما أشبه الليلة بالبارحة " فهذا التشبيه يكون في الناس وغيرهم. ع: أول من قاله طرفة، حين كتب عمرو بن هند بقتله إلى عامله بالبحرين، وأوهمه بأنه كتب إليه بأن يصله، فقال طرفة يلوم أصحابه في خذلانهم له (1) : كل خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحة (2) كلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحة
فراغ
الباب الخامس
الباب الخامس الأمثال في مكارم الأخلاق 77 -؟ باب المثل في الحلم والصبر على كظم الغيظ قال أبو عبيد: من أمثالهم في الحلم وما يؤمر به (منه) (1) " إذا نزل بك الشر فاقعد " أي أحلم ولا تسارع (إليه) (2) . ع: هكذا روي عن أبي عبيد: إذا نزل بك الشر، ورواه غيره: إذا نزا بك الشر فاقعد، وهو أحسن وأشبه بكلامهم، ومنه قولهم " تطأطأ لعها تخطئك "، والتطأطؤ في هذا المثل بإزاء القعود في المثل الذي قبله. قال أبو عبيد: ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه أتى برجل كان واجداً عليه فأمر بضربه، ثم قال: لولا أني غضبان لضربتك وخلى سبيله.
ع: قد ورد النهي أن لا يحكم الحاكم وهو غضبان، لأن كل غضبان لا بد له من الانتقال عن حال الاعتدال وقد قالوا: ثلاثة يصيرون أجن المجانين، وإن كانوا أعقل العقلاء: الغضبان والغيران والسكران. قال أبو عبيد: ويروى في حديث مرفوع (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له: أوصني، قال: " لا تغضب " فأعاد عليه فقال: " لا تغضب ". ع: هذا حديث مرفوع (2) خرجه المشترطون للصحة ورواه أبو حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: " لا تغضب " فرد مراراً فقال: " لا تغضب ". 78 -؟ باب الأعضاء على المكروه واحتمال الأذى قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " طويت فلاناً على بلاله " " وطويته على بلوله " " وبللته " أي احتملت إساءته وأذاه. ع: هكذا روي عن أبي عبيد بللته؟ بفتح اللامين؟ وقال أبو زيد: بللة؟ بضم الباء واللام؟ وجماعها: البللات وهي بقية المودة والحب، ويقال: يا فلان اطو صاحبك على بللته أي على بقية ما بقي من وده، وقال سلمة: وعلى بلته وبلته؟ بضم أوله وكسره؟ وهو الثرى، يضرب مثلاً للمودة وكذلك البلة.
قال جرير (1) : ولا توبسوا بيني وبينكم الثرى ... فإن الذي بيني وبينكم مثر وقال الراجز (2) : اقصد وكل وادعٍ لم يجهد ... والود باق والثرى جعد ند وقال آخر: فلا والله يا ابن أبي عقيل ... تبلك بعدها عندي بلال وقيل: فيه معنى آخر، قال أبو بكر ابن دريد: طويت فلاناً على بللته وبلالته وبلته إذا طويته على ما فيه من عيب. قال الشاعر (3) : ولقد طويتكم على بللاتكم ... وعرفت ما فيكم من الأذراب وقال آخر (4) : طوينا بني بشر على بللاتهم ... وذلك خير من لقاء بني بشر وأنشد أبو عبيد: أعرض عن العوراء إن أسمعتها ... واقعد كأنك غافل لم تسمع ع: وبعده: لا تقنعن ومطلب لك ممكن ... فإذا تضايقت المطالب فاقنع
والمحفوظ في البيت الذي أنشده: واسكت كأنك غافل لم تسمع. وأنشد أبو عبيد لمسكين (1) : لقد رأيت الشر بين الحي يبدأه صغاره ... ع: وقبله: سائل شبابي هل أسأ ... ت مساكه أو ذل جاره ما إن ملكت المال إلا ... كان لي وله خياره ولقد رأيت الشر. وأنشد أبو عبيد لعدي بن زيد (2) : شط وصل الذي تريدين مني ... وصغير الأمور يجني الكبيرا وبعده: إن للدهر صولةً فاحذرنها ... لا تبيتن قد أمنت الدهورا قد يبيت الفتى صحيحاً فيردى ... الزم (3) البر في في الفؤاد ضميرا لا أرى الموت يسبق شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا قال أبو عبيد: وفي حديث مرفوع أو عن بعض الصحابة: " مكارم الدنيا (4) والآخرة أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك ".
ع: هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، روي عنه أنه قال: أمرني ربي بتسع خصال: الإخلاص في السر والجهر، والعدل في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبرةً. قال أبو عبيد: وفي حديث: " ما عفا رجل عن مظلمةٍ إلا زاده الله بها عزة (1) : وقال الشاعر: فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها (2) الكلام ع: قال أبو بكر ابن القوطية: لا تقول العرب مظلمة؟ بفتح اللام؟ إنما هو مظلمة؟ بكسرها -. والبيت الذي أنشده هو لنصر بن سيار، وكان صاحب خراسان في آخر الدولة المروانية، فلما أدبر أمرهم ظهور الشيعة الهاشمية قال (3) : أرى خلل الرماد وميض جمرٍ ... فيوشك أن يكون له ضرام فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام فإن كانوا لحينهم نياماً ... فقل هبوا فقد طال المنام
79 -؟ باب رتق الفتوق وإطفاء النائرة قال أبو عبيد: " صار الأمر إلى النزعة " إذا قال بإصلاح أهل الأناة والحلم. ع: إنما هو " صار الأمر إلى الوزعة وصار الرمي إلى النزعة ". والوزعة جمع وازع وهو الذي يكف الناس عن المناكر. والوازع: الذي يتقدم الصف في الحرب فيصلحه ويرد المتقدم إلى مركزه. وفي الحديث: لا بد للحاكم من وزعة، أي من يكف الناس عنه. والنزعة جمع نازع وهو الذي ينزع في قوسه إذا جذب الوتر بالسهم، وبعيد أن يكون المثل صار الأمر إلى النزعة، لإشكال هذا اللفظ والتباسه، فإن النازع يقع على معان كثيرة، فإذا قال: صار الرمي، تخلص المعنى وانجلى. والنازع في القوس. والنازع: المقصر عن الشيء، والنازع: المشوق إلى الشيء. والنازع: الطالع، يقال: نزع النجم إذا طلع. والنازع: الذي يكون في علز الموت، وهي الحركة الشديدة، والنازع: الذي ينزع الشيء عن الشيء، يقال في جمعها نزع؟ بفتح الزاي؟ ينزع؟ بكسرها. 80 -؟ باب العفو عند المقدرة قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا قولهم " المقدرة تذهب الحفيظة " وقولهم " إذا ارجحن شاصياً فارفع يدا ". ع: الحفيظة هنا الغضب، يقال: أحفظني الشيء إحفاظاً إذا أغضبك، والحفيظة أيضاً في غير هذا: الحمية. ومن أمثالهم " إن الحفائظ تنقض الأحقاد " ومعنى هذا أنه إذا كان في قلبك على ابن عمك حقد ثم رأيته يظلم، حميت له
ونصرته، ونسيت ما في قلبك، والحفظة نحو الحفيظة، قال العجاج (1) : وحفظة أكنها ضميري ... مع الجلاء ولائح القتير (2) ومعنى قوله إذا ارجحن الأمر: وقع بمرة غير مستمسك (3) ، وارجحن في غير هذا الموضع: اهتز، ومنه قولهم: شاب مرجحن. 81 -؟ باب مياسرة الإخوان وترك الخلاف عليهم قال أبو عبيد: قال الأصمعي وعدة من علمائنا: من أمثالهم السائرة في هذا " إذا عز أخوك فهن " وذكر خبره. ع: هكذا صحت روايته (4) عن أبي عبيد فهن، بضم الهاء (5) ، وكذلك رويناه في كتاب أحمد بن يحيى الذي سماه بفصيح الكلام (6) ، وعلى هذا فسره أبو عبيد في كتابه هذا وذلك قوله: إن مياسرتك لصديقك ليس بضيم ركبك فتدخلك الحمية، والضيم: هو الهوان بعينه. وقال إبراهيم بن السري في رده على أبي العباس ثعلب: وقلت " إذا عز أخوك فهن " والكلام " فهن "؟ بكسر الهاء من هان يهين إذا لان، ومنه قيل هين لين؟ لأن هن من هان يهون من الهوان، والعرب لا تأمر بذلك، ولا معنى لهذا الكلام يصح لو قالته، ومعنى عز ليس من العزة التي هي القدرة والرفعة، وإنما
هي من قولك عز الشيء إذا اشتد، وكذلك تعزز واستعز ومنه العزاز من الأرض وهو الصلب الذي لا يبلغ أن يكون حجارة، ويقال: عز يعز إذا صار عزيزاً، وعز يعز عزاً إذا غلب، قال زهير (1) : تميم فلوناه (2) فأكمل خلقه ... فتم وعزته يداه وكاهله (3) ومعنى الكلام: إذ صلب أخوك واشتد فذل له من الذل؟ بالكسر؟ ولا معنى للذل هنا، كما تقول: إذا صعب عليك أخوك فلن له. قال الله عز وجل: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} (الفرقان: 63) أي على سكون وطمأنينة. وقال ابن درستويه في تفسير المعنى الذي ذهب إليه أبو عبيد: معنى " إذا عز أخوك فهن " إذا صار عزيزاً ملكاً قوياً عليك فأطعه وتذلل له، واخضع تسلم عليه، ولا يظلمك بعزه. والحجة لهذا المذهب قول عمرو بن أحمر (4) : وقارعة من الأيام لولا ... سبيلهم لزاحت عنك حينا دببت لها الضراء وقلت أبقى ... إذا عز ابن عمك أن تهونا هكذا صحت رواية هذا البيت، دون اختلاف بين الرواة (5) : وقال محمد بن علي الباقر في المعنى الذي ذهب إليه ابن درستويه: بني إذا ما سامك الذل قادر ... عزيز فلن فاللين أولى وأحزر ولا تسم في كل الأمور تعززا ... فقد يورث الذل الطويل التعزز
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في المياسرة " لولا الوئام هلك اللئام " وفسره وقال: هذا قول أبي عبيدة، قال: وأما غيره من علمائنا فإن المثل عندهم " لولا الوئام هلك الأنام " إلى آخر ما ذكره. ع: قال أبو زيد: واءمني الرجل مواءمة على مثال واعمني مواعمة إذا تبع أمرك (1) وفعل ما تفعله من خير وشر. قال: " لولا الوئام هلك الأنام "، وأنشد مرة: " لولا الوئام هلكت جذام " أي ليست لهم عقول تدلهم على شيء إنما يحكمون غيرهم، هكذا أورده على أنه رجز وفسره بما ذكرته (2) . 82 -؟ باب مداراة الناس والتودد إليهم قال أبو عبيد: قال أبو زيد في مثله " إلا حظية فلا ألية (3) ع: فسره أبو عبيد وبقي أن أبين إعرابه (4) ، فإنه يقال بالنصب والرفع، فمن نصب فمعناه إلا أكن عندك أيها البعل حظية فلا أكون ألية أي مقصرة فيما أتحبب من تحسين خلق وخلق، وألوت بمعنى قصرت. قال أبو زيد: ألا تحظى فإنها لا تألوا. ومن رفع فإنها تعني بالحظية غير نفسها، والمعنى الآخر (5) : لك في
الناس حظية تحظى عندك فإني غير مقصرة في طلب الحظوة، هكذا فسره سيبويه وغيره. وتفسير أبي عبيد الأول على أن الحظية الحظوة (1) وأن فعلة من الحظ وفعلية بمعنى. قال أبو عبيد: قال أبو زيد في نحو هذا " سوء الاستمساك خير من حسن الصرعة " يقول: لأن يزل الإنسان وهو عامل بوجه العمل، وطريق الإحسان والصواب، خير من أن تأتيه الإصابة وهو عامل بالإساءة والخرق. ع: تفسير أبي عبيد لا يقتضيه لفظ المثل ولا يصح عليه لأن الذي يعمل بوجه العمل وطريق الاستحسان ليس سيء الاستمساك كما أن العامل بالإساءة والخرق ليس بحسن الصرعة. والذي نقله أبو علي وغيره أن معناه: لأن يستمسك ولا يصرع وإن كان سيء الاستمساك، خير من أن يصرع صرعة حسنة ولا تضره. يقال في هذا المثل " خير من حسن الصرعة؟ بالفتح؟ ومن حسن الصرعة؟ بالكسر؟ أي هيئة الانصراع ". قال أبو عبيد: وفي حديث مرفوع " نصف العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس ". ع: قد قال الشعراء في هذا المعنى فأكثروا، قال أبو سليمان الخطابي (2) :
ما دمت حيا فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة وقال آخر: بالمداراة ما تساس الأمور ... ما لحب البثور تطلى البثور ومن حكم الفرس: " من لم يلن للأمور عند التوائها، تعرض لمكروه بلائها ". 83 -؟ باب مخالقة الناس بالأخلاق مع التمسك بالدين ع: المخالقة هي موافقة الناس على أخلاقهم، وخلق الإنسان هو الذي طبع عليه، وفلان كريم الخليقة والجميع الأخلاق والخلائق، فالمخالقة؟ بالقاف؟ هي ضد المخالفة؟ بالفاء؟ فحق على العاقل أن يخالق من لقيه، وأن يتزيا بزي من ساكنه، وقد قال (1) بعض الشعراء: إن جئت أرضاً أهلها كلهم ... عور فغمض عينك الواحده وقال آخر: ومن حق من يمشي مع العور أن يرى ... وإن لم تخنه عينه متعاورا قود قالوا: كل من الطعام ما تشتهي، والبس من الثياب ما يشتهي الناس. قال أبو عبيد: وفي حديث مرفوع أن رجلاً استأذن عليه صلى الله عليه وسلم فقال: " بئس ابن العشيرة " ثم أذن له فدخل عليه، فقربه وأدناه، فلما خرج قال: " إن من شر الناس من أكرمه الناس اتقاء لسانه "، أو كلام هذا معناه.
ع: هذا الرجل هو عيينة بن حصن الفزاري، روى مالك هذا الحديث، ولم يذكر من الرجل أيضاً، قال: بلغني عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه في البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بئس ابن العشيرة هو " ثم أذن له. قالت عائشة رضي الله عنها: فلم أنشب أن سمعت ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فلما خرج، قلت: يا رسول الله: قلت فيه ما قلت ثم لم تنشب أن ضحكت معه، فقال: " إن من شر الناس من أتقاه الناس لشره. قال أبو عبيد: ومنه حديثه عليه السلام في العباس بن مرداس يوم قال تلك الأبيات يوم حنين، فقال النبي عليه السلام: " اقطعوا عني (1) لسانه ". أراد أن يعطى حاجته ليسكت. ع: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى المؤلفة قلوبهم من نفل حنين مائة مائة، وأعطى العباس بن مرداس أباعر، فتسخطها (2) وقال (3) : أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهم ... ومن تضع اليوم لا يرفع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقطعوا عني لسانه، فزادوه حتى رضي.
84 -؟ باب اكتساب الحمد واجتناب المذمة قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا قولهم " الحمد مغنم والمذمة مغرم " ومن هذا قول الأول (1) : بذلك أوصاني خريم بن مالك ... وإن قليل الذم غير قليل ع: الرواية عن أبي عبيد: خريم بن مالك، وهو خطأ (2) ، والبيت لمالك ابن حريم بن مالك بن حريم؟ بالحاء المهملة والراء المهملة والحاء المفتوحة والراء المكسورة. قال ابن الدمينة الهمداني: مالك هذا شاعر همدان وفارسها، وقبل البيت: أوجد على العافي وأحذر ذمه ... إذا ضن بالمعروف كل بخيل بذلك أوصاني....... ... ................ (البيت) قال أبو عبيد (3) ومن اجتناب الذم قولهم: " والشر أخبث ما أوعيت من زاد " وبعضهم يرويه في شعر لعبيد بن الأبرص. ع: الشعر لعبيد بإجماع من الرواة، وصلة البيت (4) :
أبلغ أبا كربٍ عني وإخوته ... قولاً سيذهب غورا بعد إنجاد لا أعرفنك بعد (1) اليوم تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي إن أمامك يوماً أنت مدركه ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد يقال: وعيت العلم، وأوعيت المتاع، وفي مثل آخر: العلم خير (2) ما وعيت، والشر أخبث ما أوعيت ". 85 -؟ باب الصبر عند النوازل والمرازي قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: " هون عليك ولا تولع بإشفاق ". ع: هو نمن شعر تأبط شراً، وصلته (3) : إني أقول إذا ما خلة صرمت ... هون عليك ولا تولع بإشفاق ويروى: ولا أقول إذا ما خلة صرمت ... يا ويح نفسي من شوق وإشفاق (4) لكنما عولي إن كنت ذا عول ... (6) على أمير (5) بكسب الحمد سباق
سدد خلالك من مال تجمعه ... حتى تلاقي الذي كل امرئ لاق (1) لتقرعن علي السن من ندمٍ ... إذا تذكرت يوماً بعض أخلاقي قال أبو عبيد: روي عن عبد الرحمن بن أبي بكرة: " من حدث نفسه بالبقاء، فليوطن نفسه على المصائب ". ع: أبو بكرة: هو نفيع بن مسروح، كني بأبي بكرة لأنه تدلى على بكرة من سور الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معدود في مواليه. قال الشاعر فيه وفي أخويه لأمه سمية: إن زياداً ونافعاً وأبا بكر ... ة عندي من أعجب العجب ثلاثة من ثلاثة خلقوا ... في رحم أنثى مخالفي النسب ذا قرشي فيما يقول، وذا ... مولى، وهذا ابن عمه عربي ومثل قول عبد الرحمن قول الشاعر: إن تبق تفجع بالأحبة كلهم ... أو تردك الأحداث إن لم تفجع قال أبو عبيد: وقال بعض الحكاء " إن شرا من المرزئة سوء الخلف ". ع: هذا كلام لأوس في وصيته لمالك ابنه وفي معلومة، قال في آخرها: وكيف بالسلامة لمن ليست له إقامة، وشر من المصيبة سوء الخلف، وكل مجموع إلى تلف، حياك إلاهك.
وفي مثل آخر: " [فقد] الصبر أدهى المصيبتين ". وقال أبو الفضل الميكالي في هذا المعنى فأحسن: يصاب الفتى في أهله برزيةٍ ... وما بعدها منها أجل وأعظم فإن يصطبر فيها فاجر موفر ... وإن يك مجزاعاً فوزر مقدم قال أبو عبيد: قال الأصمعي في نحو منه " إن في الشر خياراً "، قال: ومعناه: " إن بعض الشر أهون من بعض ". ع: قال أبو خراش فنظمه (1) : حمدت الاهي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشر أهون من بعض (2) بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... (3) نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي 86؟ باب [ترك] الأسف على الفائت قال أبو عبيد: في حديث مرفوع أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر " ما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه وتموله، وما لا فلا تتبعه نفسك ". ع: قوله ما لا: فمعناه ما لا يجيئك فلا تتبعه نفسك، فحذف الفعل لدلالة الأول عليه. وما: شرط، كما تقول العرب ليس إلا، أي ليس إلا ذاك.
الباب السادس
الباب السادس أبواب أمثال الجود والمجد 87 -؟ باب الحض على البذل والافضال قال أبو عبيد: قال الأموي " إنما سميت هانئاً لتهنأ " [قال] : ويقال " لتهنأ " أي لتفضل على الناس. والهانئ: المطعي، يقال: هنأت الرجل هناءً إذا وهبت له ورفدته، والاسم: الهنء. ع: قال يحيى بن زياد: هنأت القوم إذا علتهم، ويقال: هنأهم شهرين أي عالهم شهرين، يهنؤهم هنأً وهنأة. قال الشاعر (1) : هنأتهم حتى أعان عليهم ... سوافي السماك ذي السلاح السواجم
يريد الرامح. وقال الكسائي: سمعت أعرابياً يقول " إنما سميت هانئاً لتهنئ " أي لتعول وتكفي، يقال: هنأت: أهنئ واختلف في يهنأ، فأجيزت وانكرت، والهَنء والهِنء؟ بالفتح والكسر؟ العطية، وبه سمى هنأة بن مرداس (1) . قال أبو عبيد: ومنه مقالة أبي ذكر: " إن لك في مالك شريكين: الحدثان والوارث، فإن استطعت أن لا تكون أخسهما حظاً فافعل " (2) . ع: أصل الخسيس: القليل، يقال: هذا أخس من هذا أي أقل، وخسست النصيب أخسه خساص، قللته. وأنشد أبو عبيد للحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس ع: صلته، وهو من شعر يقوله في هجاء الزبرقان (3) : لما بدا لي منكم عيب أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم آس أزمعت يأساً مريحاً من نوالكم ... ولن ترى طارداً للحر كالياس جار لقومٍ أطالوا هون منزله ... وغادروه مقيماً بين أرماس ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنياب وأضراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس قال أبو عبيد: وروينا في حديث مرفوع: " إن الله جواد يحب الجود ومعالي الأمور ويكره سفسافها ". ع: كل عمل سفساف فهو دون الإحكام، يقال: سفسف عمله إذا لم يبالغ في إحكامه، وأسف الرجل: إذا طلب الأمور الدنية، وفي رواية: إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها ". قال أبو عبيد: وفي بعض الحديث: " اصطناع المعروف يقي مصارع السوء ". ع: هذا قد رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى عن أبي بكر رضي الله عنه وقال الأوزاعي في معناه: العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، فإن صرع وجد متكأً ليناً. قال أبو عبيد: وجاءنا عن ابن عباس أنه قال: إن ابن أبي العاصي مشى القدمية، وإن ابن الزبير لوى ذنبه. ع: القدمية: يكون إما من القدوم وهو المضي أو من الإقدام والتقدم وهو التقحم، وقوله: لوى ذنبه يقوي أنه أراد المضي، لأن كل رابض من السباع يلوي ذنبه، يقال: رجل قدوم ومقدام (1) بمعنى.
قال أبو عبيد: وقال ابن عباس في معاوية: " لله در ابن هند كان الناس يردون منه أرجى واد رحبٍ " (1) . ع: قال عبد الرزاق، حدثنا معمر عن همان بن منبه سمعت ابن عباس يقول: " ما رأيت رجلاً كان أخلق للملك من معاوية، كان الناس يردون على أرجى (2) وادٍ رحبٍ، ليس بالضيق الحصر، العصعص المتغضب (3) - يعني ابن الزبير؟ " قال أبو عبيد: يقال: " أعطاه بقوف رقبته " وذلك إذا أعطاه بعينه (4) ، ولا يأخذ له ثمناً ولا أجراً. ع: الضمير في أعطاه للشيء المعطى، أي أعطاه بجملته، كما يقال: أعطاه برمته. والقوف والطوف والقاف ما سال من الشعر في (5) نقرة القفا وأصله في الحيوان، ويريد أبو عبيد بقوله " ولم يأخذ له ثمناً ولا أجراً " يريد: عطاء جود وبر لا عطاء بيع وتعويض.
88 -؟ باب اصطناع المعروف وإن كان يسيراً قال أبو عبيد: وروي في الحديث: " لا تحقرن شيئاً من المعروف، ولو أن تعطي صلة الحبل ". ع: " أن " في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه وعند غيره، بإضمار فعل، أي: لول كان أن تعطي. قال أبو عبيد: قال أبو زيد (1) : ومن أمثالهم في اليسير من البر: " إن الرثيئة تفثأ الغضب " وذكر معناه. ع: إنما ذكر (2) أبو زيد: " إن الرثيئة مما تقثأ الغضبا " ... - موزوناً؟ عجز بيت. 89 -؟ باب جود الرجل بما فضل عن حاجته من ماله قال أبو عبيد: من أمثالهم في نحو هذا " يكفيك ما بلغك المحلا " ومنه قول الشاعر:
من شاء أن يكثر أو يقلا ... يكفيه ما بلغه المحلا ع: المشهور في هذا قولهم " شرعك ما بلغك المحلا " أي حسبك. وقال آخر في هذا المعنى (1) : حسب الفتى من دهره ... زاد يبلغه المحلا خبز وماء بارد ... والظل حين يريد ظلا والمحل: هي الآخرة، الدار الباقية. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يا ابن آدم ارض من الدنيا بالقوت، والقوت كثير لمن يموت ". نظمه الخليل فقال (2) : يكفي اللبيب خلق (3) وقوت ... ما أكثر القوت لمن يموت قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا قول الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي يقول: قد رضيت من المكارم أن لا تفضل على أحد إلا ما ينفق عليك في طعامك وكسوتك، ومثله قول الآخر (4) : إني وجدت من المكارم حسبكم ... (5) أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا
ع: البيت الأول الذي (1) للحطيئة يهجو به الزبرقان بن بدر وخبرهما مشهور، وفيه سؤال: وذلك أن ظاهره أن المكارم لا ينالها إلا من رحل في بغائها، ولا ينالها المتودع المقيم في منزله، وإنما أراد الشاعر أن المكارم قد فاته نيلها ونأى عنه شأوها فلا يدركها أبداً، وضرب لذلك الارتحال والبغاء مثلاً، كما قال الآخر: دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من أوفى ومن صبرا وليس هناك جري ولا حركة، ولكنه مثل لنيل المجد بالجهد وامتناعه من أن يناله أكثرهم. ومثل قول الحطيئة قول ابن زيابة التيمي (2) : إنك يا عمرو وترك الندى (3) ... (4) كالعبد إذ قيد أجماله فهذا ذاك، يقول: إنك متودع غير جاهد في طلب المجد، كالعبد إذ وجد موضع الكلأ والخصب فثبت به ولم يحتج إلى ارتياد مرعى. وأما قوله: إني وجدت من المكارم حسبكم ... فإنه لعبد الرحمن بن حسان،
وفيه محذوف مضمر، إنما يريد: إني وجدت عندكم من المكارم اكتفاءكم بلبس حر الثياب والشبع، فحذف عندكم. 90 -؟ باب العادة في الجود والخير قال أبو عبيد: ومن عادة الخير قول الأعشى (1) : عودت كندة عادةً فاصبر لها ... اغفر لجاهلها ورو سجالها ع: يقوله لقيس بن معد يكرب الكندي. وقال أبو بكر ابن دريد: وفد رجل من بني ضنة (2) ، وبنو ضنة من سعد هذيم؟ وفي العرب ضنتان: ضنة هذا، وضنة بن عبد الله بن نمير؟ فوفد هذا الضني إلى عبد الملك بن مروان، فقال: والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلب إليك من الذي نتطلب فلقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحداً سواك إلى المكارم ينسب فاصبر لعادتنا التي عودتنا ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهب فقال عبد الملك: إليّ إليّ، وأمر له بألف دينار. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم المشهورة " العود أحمد ". ع: قال أبو علي: أخبرنا الحسن (3) بن البراء، قال: حدثني أبي قال قال
عبد الملك بن مروان يوماً لحاجبه: هات بدرة، فجاء بها فوضعها بين يديه، وقال لمن حضره من وجوه العرب: أيكم أنشدني صدر هذا البيت " والعود أحمد " فله هذه البدرة. فلم يكن فيهم من يعرفه. فقال لحاجته: أخرج فانظر من بالباب من العرب، وقل لهم من ينشد صدر هذا البيت " والعود أحمد " فله جائزة، ففعل الحاجب، فقام شاب من العرب فقال: أنا، قال الحاجب: فأنشدني، قال: لا، إلا أن أشافعه أمير المؤمنين. فدخل الحاجب فأخبره، فقال عبد الملك: هذا رجل قد طال مقامه بالباب وله حاجة، والله لئن دخل علي ولم ينشدني لأعاقبنه، أدخله. فلما دخل وسلم، قال عبد الملك: أنشدنا صدر بيتنا، فقال: يا أمير المؤمنين، حاجتي. قال: وما هي؟ قال: بنو عم لي باعوا ضيعتهم بالسواد، فأدخلوا ضيعتي في ضيعتهم. قال له عبد الملك: فإن أمير المؤمنين قد رد عليك ضيعتك، فأنشدنا صدر بيتنا. قال: نعم، يا أمير المؤمنين، قالت تميم إنه بيتها، قال أوس بن حجر: جزينا بني شيبان صاعاً بصاعهم ... وعدنا بمثل البدء والعود أحمد قال: أخطأت. قال: يا أمير المؤمنين، أبلغني ريقي، قال: قد فعلت، قال: قالت اليمن إنه بيتها، قال امرؤ القيس: فإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فعودي كما نهواك فالعود أحمد قال: أخطأت، قال: يا أمير المؤمنين، قالت ربيعة إنه بيتها، قال المرقش: وأحسن فيما كان بيني وبينه ... وإن عاد بالإحسان فالعود أحمد قال: أصبت، وإنك لظريف، فمن أنت؟ قال: أنا زيد بن عمرو، قال: ممن (1) ؟ قال: من حي جانب عجرفية قيس وعنعنة تميم وكشكشة (2) ربيعة وصأصأة اليمن وتأنيث كنانة، أنا امرؤ من عذرة، فأمر له بالبدرة.
قلت: البيت الذي أنشده لأوس بن حجر إنما هو لمالك بن نويرة. وقد قال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير فأحسن: بني دارم إن يفن عمري فقد مضى ... شبابي لكم مني ثناء مخلد بدأتم فأحسنتم فأثنيت جاهداً ... وإن عدتم أحسنت، والعود أحمد 91؟ باب الصبر على مقاساة الأمور لما في عواقبها من المحامد قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم: " عند الصباح يحمد القوم السرى " ع: قد فسرعه أبو عبيد (1) ، وبعده: عند الصباح يحمد القوم السرى ... وتنجلي عنهم غيابات الكرى وهذا الرجز لخالد بن الوليد، وقيل للجليح بن شريد (2) التغلبي وقد ذكرته بكماله وبخبره في " باب الجد في طلب الحاجة وترك التفريط فيها "، فقد تكرر هذا المثل هناك وسبق وضع خبره في ذلك الباب (3) : ومن أمثالهم في هذا " لا تدرك الراحة إلا بالتعب " نظمه أبو تمام فقال (4) :
على أنني لم أحو وفراً مجمعاً ... ففزت به إلا بشمل مبدد ولم تعطني الأيام نوماً مسكناً ... ألذ به إلا بنوم مشرد قال أبو عبيد: ومثله قولهم " غمرات ثم ينجلين " (1) ع: [وقال أبو حاتم] زعموا أن صبياً من العرب نظر إلى قوم يطعمون فأرادهم فجاء سيل، فحال بينه وبينهم، فألقى نفسه في الماء، فهو ينغط مرة ويرتفع أخرى (2) ويقول " غمرات (3) ثم ينجلين (4) "، حتى تخلص ووصل إلى حاجته. والغمرات على هذا جمع غمرة الماء، وكذلك غمرة الدنيا: ما غمر القلب منها. قال الله عز وجل {بل هم في غمرة ساهون} (الذاريات: 11) وغمرات الحروب والفتن والخصومات. ويقال: فلان مغامر أي يلقي نفسه في الغمرات. قال مالك بن نويرة: أعللهم عنه (5) لنغبن دونهم ... وأعلم؟ غير الظن؟ أني مغامر وقد ورد هذا المثل في رجز لبعضهم، قال: نقارع السنين عن بنينا ... والغمرات ثم ينجلينا
فراغ
الباب السابع
الباب السابع أبواب أمثال الخلة والصفاء 92 -؟ مثل المتخالين المتصافيين اللذين لا يفترقان ذكر أبو عبيد خبر ندماني جذيمة وأنشد بيتي متمم: وكنا كندماني جذيمة حقبة.. قال: وفي هذين النديمين يقول الشاعر في سالف الدهر: ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... خليلا (1) صفاء مالك وعقيل قال: ومن هذا، البيت السائر في العالم (2) : وكل أخٍ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان ع: قول متمم لطول اجتماع: اللام بمعنى مع، يريد: مع طول اجتماع. ذكر ذلك القتبي. والبيت الذي قال، يقوله الشاعر في سالف الدهر لشاعر أدرك
الإسلام وهو أبو خراش الهذلي، قال أبو خراش يرثي أخاه عروة (1) : تقول أراه بعد عروة لاهياً ... وذلك رزء؟ لو علمت - جليل فلا تحسبي أني تناسيت عهده ... ولكن صبري يا أميم جميل ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... .................. (البيت) وقوله: إلا الفرقدان: [الفرقدان] في موضع النعت لكل وإلا في موضع غير كأنه قال: غير الفرقدين. والبيت لعمرو بن معد يكرب، هكذا قال الجرمي في كتاب سيبويه. وقال أبو الحسن: هو لسوار بن المضرب (2) وقد نسب إلى عامر الأسدي الحضرمي، ولم يقع فيما رويناه من شعر عمرو بن معد يكرب، ومثله قول الآخر (3) : وكل أخ مفارقه أخوه ... فراق الشحط (4) إلا ابني شمام (5) وأصح من هذين البيتين قول الشاعر في الإسلام (6) : ولم أر ما يدوم له بقاء ... سيفترق اجتماع الفرقدين وقال العتابي:
قلت للفرقدين والليل ملقٍ ... سود أكنافه على الآفاق ابقيا ما بقيتما سوف يرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق قال أبو عبيد: ومنه قولهم في ابني شمام وهما جبلان. ع: المثل المعروف في هذا " أطول صحبة من ابني شمام ". والأفصح فيه شمام، معدول مثل قطام، وقد أنشدنا البيت الشاهد عليه. 93 -؟ باب عناية الرجل بأخيه وإيثاره إياه على نفسه قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا " لك ما أبكي ولا عبرة بي " يضرب للرجل يشتد اهتمامه بشأن أخيه. ع: قال أبو زيد: معناه أبكي من أجلك، ولا حزن بي في خاصة نفسي. قال أبو عبيد: ومن الإيثار قول الشاعر (1) : أرد شجاع الجوع قد تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطعم ع: البيت لأبي خراش الهذلي. وشجاع الجوع: أشده مأخوذ من الشجاعة، وهي شدة القلب. وقيل: يريد بشجاع الجوع: حية البطن التي تهيج على صاحبها
إذا جاع وهي الصفر. وقبل البيت: وإني لأطوي الجوع حتى تملني ... (1) حياتي لم تدنس ثيابي ولا جسمي أرد شجاع الجوع قد تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطعم مخافة أن أحيا برغمٍ وذلة ... وللموت خير من حياة على رغم (2) 94؟ باب صفة الأخ المستمسك (3) بإخاء صديقه قال أبو عبيد: فإذا أرادوا به أنه لا يخالفه في شيء قالوا " هو على حبل ذراعك " (4) والحبل: عرق في اليد. ع: قال أبو بكر وغيره: العرب تقول: الأمر على حبل ذراعك، أي ممكن لك كما تقول: هذا الأمر على طرف الثمام إذا كان ممكناً قريباً. وكل عرق غليظ يسمى حبلاً. قال الله تعالى {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} (ق: 16) (5) .
95 -؟ باب سرعة اتفاق الأخوين (1) في التحاب والمودة قال أبو عبيد: قال أبو زيد: من أمثالهم في نحو هذا: " كانت لقوة صادفت قبيساً " وقال سلمة: هي عندنا لقوة؟ مفتوحة -. ع: لقوة ولقوة؟ بالكسر والفتح؟ لغتان فاشيتان فصيحتان، حكاهما يعقوب وغيره. قال أبو عبيد: ومنه حديث عبد الله " الأرواح جنود مجندة فما تعاف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ". ع: ذكر أبو عبيد أن هذا الحديث لعبد الله؟ يعني ابن مسعود؟ وهو حديث مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود قال: نا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء قال: نا أبي نا جعفر بن برقان عن يزيد عن أبي هريرة يرفعه: " الأرواح جنود مجندة ". وقد أسنده البخاري في كتابه الصحيح وغيره، ولا شك أنه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والتقاؤها حين يتوفاها الله عز وجل في منامها فتلتقي حينئذ وإن لم تلتق أجسامها فتعارف وتناكر. وإلى هذا المعنى أشار أبو الطيب بقوله: أصادق نفس المرء من قبل جسمه ... وأعرفها في فعله والتكلم
وقال آخر؟ وهو طرفة؟ في أبيات كلها حكم وشواهد (1) : وأنت امرؤ منا ولست بخيرنا ... جواد على الأقصى وأنت بخيل وأنت على الأدنى شمال عرية ... (2) شامية تزوي الوجوه بليل وأنت على الأقصى صباً غير قوة ... (3) تذاءب منها مرزغ ومسيل وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... (4) إذا ذل مولى المرء فهو ذليل فإن لسان المرء ما لم تكن له ... (5) حصاة على عوراته لدليل وإن امرءاً لم يعف يوماً فكاهةً ... (6) لمن لم يرد سوءاً به لجهول تعارف أرواح الرجال إذا التقت ... فمنهم عدو يتقى وخليل قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في نحو " وافق شناً طبقه " وذكر في تفسيره قولين. ع: القول الذي نسبه إلى بعض أهل العلم هو قول ابن الكلبي، زعم أنه شن بن أفصى بن عبد القيس وأن طبقاً حي من إياد، أوقعت شن بطبق ثم أوقعت طبق بشن وقعة انتصفت منها، فقال الشاعر (7) :
لقيت شن إياداً بالقنا ... ولقد وافق شن طبقه وذكر فيه علي بن عبد العزيز قولاً ثالثاً قال: أخبرني إبراهيم بن عبد الله الهروي (1) أن قولهم " وافق شن طبقه " كانا رجلين كاهنين في الجاهلية، سئل كل واحد منهما بغير محضر صاحبه عن شيء فاتفقا فقيل " وافق شن طبقه ". وذكر الشرقي بن القطامي فيه قولاً رابعاً: زعم أن شناً كان من دهاة العرب وعقلائها فجعل يضرب في الأرض رجاء أن يظفر بامرأة مثله في العقل والدهاء فيتزوجها، فبينما هو في مسيره وافقه رجل اتفقت نيتهما على إتيان موضع ما، فأقبل شن على الرجل في طريقه فقال له: أتحملني أم أحملك؟ فاستجهله الرجل في قوله وقال له: أنت راكب وأنا ركب فكيف أحملك أو تحملني؟ فسكت شن عنه، وسارا، حتى قربا من قرية فإذا زرع قد استحصد، فقال شن لرفيقه: أأكل هذا الزرع أم لا؟ فقال له: قد جئتنا أيضاً بمحال، فسكت عنه ولم يجبه، [وسارا حتى قربا من قرية] (2) فدخلا القرية فتلقتهما جنازة فقال شن لرفيقه: أحياً ترى من على هذا النعش أو ميتاً؟ فأمسك عن جوابه استجهالاً له، وعدل إلى منزل به، وكان للرجل بنت تسمى طبقة، فسألت أباها عن ضيفه، فقال: هو أجهل من لقيت من الناس، وقص عليها خبره فقالت: يا أبة، ما هذا إلا عالم فطن ولكل ما قاله معنى. أما قوله: أتحملني أم أحملك فإنه أراد: أتحدثني أم أحدثك حتى نميط عنا (3) كلال السفر. وأما قوله: أأكل هذا الزرع فإنما يريد: هل باعه أصحابه فأكلوا ثمنه أم لا. وأما قوله في الجنازة أحياً تراه أم ميتاً فإنما أراد: هل له عقب يحيا به ذكره أم لا. فخرج الرجل إلى شن وفسر له ما كان رمز له به فقال شن: ما أنت بصاحب هذه الفطنة فأنبئني من صاحبها. قال: بنت لي. فخطبها فأنكحها منه، وكانت
تسمى طبقة، فقال الناس: " وافق شن طبقة، وافقه فاعتنقه ". قال أبو عبيد: يقال: " وقعت عليه رخمته " إذا وافقه وأحبه. ع: الرخمة: المحبة واللين، ومنه كلام رخيم أي سهل لين، وقال الخليل: رخمت فلاناً رخمة بمعنى رحمته سواء. 96 -؟ باب الإفراط في التواد وما يكره منه ويحب من الاقتصاد قال أبو عبيد: [ومنه الحديث] : " أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ". ومنه قول النمر بن تولب (1) : وأحبب حبيبك حباً رويداً ... فليس يعولك أن تصرما ع: الحديث الذي ذكره مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه هارون بن محمد الأهوازي عن ابن سيرين عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأسقط أبو عبيد البيت الثاني الذي به يقوم معنى الحديث المتقدم، وهو:
وأبغض بغيضك بغضاً رويداً ... إذا أنت حاولت أن تحكما قوله: أن تحكما أي أن تكون حكيماً، يقال: حكم يحكم: إذا صار حكيماً، ومنه قول الذبياني (1) : احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد أي كن حكيماً. وروى أبو عبيد: إذا أنت حاولت أن تحكما، وقال هدبة بن خشرم (2) : وأحبب إذا أحببت حباً مقارباً ... فإنك لا تدري متي أنت نازع وأبغض إذا أبغضت بغضاً مقارباً ... فإنك لا تدري متى أنت راجع 97 - باب اقتداء الرجل بخليله وقرينه قال أبو عبيد: ومن أمثال أكثم بن صيفي (3) " من فسدت عليه بطانته كان كم غص بالماء " يعني أنه لا دواء له، من أجل أن الغاص بالطعام إنما غياثه الماء فإذا كان الماء هو الذي يغصه فلا حيلة له. قال عدي بن زيد (4) : لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
ع: يقوله عدي بن زيد في سجن النعمان بن المنذر يخاطبه، وقبله: أبلغ النعمان عني مالكاً ... أنني قد طال حبسي وانتظاري لو بغير الماء حلقي شرق ... ........................... يقول: لو شرقت بغير الماء أسغت شرقي الماء، فإذا غصصت بالماء فبم أسيغه؟ والاعتصار: الملجأ والحرز وهو العصر والعصرة. قال أبو زبيد (1) : ولقد كان عصرة المنجود (2) ... يقول: فأنت ملجأي وحرزي من الناس فإذا أتيت من قبلك فإلى من ألجأ؟ ومن أمثالهم: " يا ماء لو غصصت بغيرك أجزت بك ". وقال إبراهيم بن العباس فأحسن (3) : وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت فيك أذم الزمانا وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا غيره (4) : كنت من محنتي أفر إليهم ... فهم محنتي فأين الفرار
98 -؟ باب تخويف الرجل صديقه بالهجران قال أبو عبيد: قال الأموي: من أمثالهم في هذا قول الرجل لأخيه: " والله لئن فعلت كذا وكذا لتكونن بلدة ما بيني وبينك ". ع: البلدة هنا القطيعة، مأخوذة من بلدة الحاجبين؟ وهي فرجة ما بينهما؟ وانقطاع شعر أحدهما من الآخر. وهي البلجة، والبلدة: فرجة ما بين النعائم وسعد الذابح؟ وليس بكوكب؟ إنما هو موضع صغير خال ليس فيه كوكب، شبه بالبلدة التي بين الحاجبين. وهكذا صحت روايته عن أبي عبيد " وبينك "؟ بالنصب؟ وهو معطوف على ما، وموضعها جر، كما أنشد سيبويه (1) : فإن لم تجد من دون عدنان واحداً ... (2) ودون معد فلتزعك الأوائل قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هجر (3) الرجل صاحبه " تركه ترك الظبي ظله " وذلك أنه إذا نفر من شيء لم يرجع إليه أبداً. ع: نقل أبو علي عن أبي زيد " لأتركنك ترك ظبي ظلاً " يريد كما
استظل ظبي بخمر ثم تركه. ورأيت في كتاب الأمثال للأصمعي، أن الظبي إذا استظل بظل فنفره منه منفر أو أفزعه مفزع لم يعد إليه أبداً. قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ومنه قولهم " ضرب في جهازه ". ع: العرب تقول للبعير إذا شرد، " ضرب في جهازه " فيضرب هذا المثل لمن صرف عن وجهه الذي يريده، وكذلك الشارد من الإبل يعدل عن طريقه ويركب غير الطريق. قال الأصمعي: إذا أرادوا أنه نفر فلم يعد قالوا: ضرب في جهازه. وأصله في البعير الذي يسقط عن ظهره القتب بأداته فيقع بين قوائمه فينفر منه حتى يذهب في الأرض، ذكر هذا التفسير عن الأصمعي أبو عبيد في باب الجبن، ومعناه خولف وصرف عن وجهه الذي يريده. 99 -؟ باب استعانة (1) الرجل بإخوانه قال أبو عبيد: ومنه قول القطامي (2) : وإذا يصيبك والحوادث جمة ... حدث حداك إلى أخيك الأوثق ع: وبعده: وهم الرجال وكل ذلك منهم ... تجدن في رحب وفي متضيق إن الرجال إذا طلبت إليهم ... منهم خليل ملاذةٍ وتملق
وأخو مكارمةٍ على علاته ... فوجدت خيرهم خليل المصدق قال أبو عبيد: يقال في نحو منه: " لمثل هذا كنت أحسيك الحسا " ع: هكذا أورد أبو عبيد المثل عهذا على أنه غير موزون ولا شطر من رجز، وفسره. وقد أتى في رجز الأغلب العجلي موزوناً، قال: يذكر شأن مسيلمة الحنفي وامرأته سجاح المتنبئين (1) : كأن عرق فعله إذا ودى ... حبل عجوز ضفرت سبع قوى يمشي على قوائم خمسٍ (2) زكا ... يرفع وسطاهن من برد الندى قالت متى كنت أبا الخير؟ متى؟ ... قال: حديثاً لم يغيرني البلى ولم أفارق خلةً لي عن قلى ... فانتفشت فيشته ذات الشوى كأن في أجيادها سبع كلى ... ما زال عنها بالحديث والمنى والخلق السفساف يردي في الردى ... قال: ألا ترينه؟ قالت: أرى قال: ألا ألحمه (3) ؟ قالت: بلى ... فشام فيها مثل محراث الغضا تقذف عينه بمثل المصطكى ... يقول لما غاب فيها واستوى " لمثلها كنت أحسيك الحسا " ... وأنشد أبو عبيد لمسكين الدارمي (4) : أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
ع: نسبه أبو جعفر ابن النحاس في كتابه الذي عمله في أبيات كتاب سيبويه إلى ابن هرمة. 100 -؟ باب مشاركة الرجل أخاه في الرفاهية وخذلانه إياه في الشدائد قال أبو عبيد: ومن أشعارهم في هذا، قولهم (1) : " موالينا إذا افتقروا إلينا ... وإن أثروا فليس لنا موال (2) " ع: ومثله قول الآخر (3) : إذا ما علوا قالوا أبونا وأمنا ... وليس لهم عالين أم ولا أب وأنشد يعقوب في مثله (4) : أبو راشد مولاي ما طل حقه ... وإن كانت الأخرى فمولى بني سهم وقال أبو بكر الخوارزمي في ضد هذه الصفة، يمدح: أراك إذا أيسرت خيمت عندنا ... لزاماً وإن أعسرت زرت لماما فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه ... أغب وإن زاد الضياء أقاما
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار بنحو هذه الصفة فقال: " إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع ". وقال عنترة (1) : يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم قال أبو عبيد: وإذا ضيع الرجل حق أخيه في حياتهن ثم بكاه بعد موته فإن مثلهم السائر في هذا قول الشاعر: " لأعرفنك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي " ع: البيت لعبيد بن الأبرص، ويروى: لا أعرفنك. ولا زائدة مؤكدة كما قال الله تعالى لا قسم، وقرأ ابن كثير: لأقسم، ويحتمل أن يريد: لا أعرفن ندبتك لي بعد موتي ولا بكاءك علي إن فعلت ذلك، ولا يصل إليّ، وأما في حياتي فلم تصلني بل ضيعت حق إخائي وودي. وروى ابن أبي أويس: قال حدثني محمد بن طلحة قال: قال طلحة بن عبيد الله: خرجت مع عمر في بعض أسفاره، فإذا براكب على الطريق فقال: ما وراءك؟ قال: أمر جليل. قال: ويحك! ما هو؟ قال: مات خالد بن الوليد. فاسترجع عمر رضي الله عنه استرجاعاً طويلاً. فقلت له: يا أمير المؤمنين: ألا أراك بعيد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي فقال: يا طلحة لا تؤنبني. قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم " من فاز بفلان فاز بالسهم
الأخيب " وهذا المثل يروى عن علي رضي الله عنه في بعض ما كان يستبطئ من أصحابه. ع: ويروى: فاز بقدح الأخيب، أي الخيبة كما قال العجاج: رمى سواداً فأصاب الأخيبا ... يريد الخيبة. 101 -؟ باب معاتبة الإخوان وفقدهم قال أبو عبيد: إذا استعتب الأخ فلم يعتب فإن مثلهم في هذا " لك العتبى بأن لا رضيت ". وهو محول عن موضعه لأن أصل العتبى رجوع المستعتب إلى محبة صاحبه، وهذا على ضده، يقول: أعتبك بخلاف رضاك. ومنه قول بشر ابن أبي خازم (1) : غضبت تميم أن تقتل عامر ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم ع: إنما معنى المثل: الذي يقوم لك مقام العتبى أن لا ترضى وأن يقال لك: لا رضيت أبداً، كما قال تعالى {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران: 21، والتوبة: 34، والانشقاق: 24) أي الذي يقوم لهم مقام البشارة للمبشرين، العذاب الأليم. وأما قول بشر وهو أسدي: فإنه كان من شأن يوم النسار (2) ، وذلك أن أسداً وطيئاً غطفان احتلفت وغزت بني عامر يوم النسار فقتلوا بني عامر قتلاً
شديداً، فغضبت تميم لبني عامر، فتجمعوا معهم حتى لقوا الأحلاف أسداً وطيئاً وغطفان يوم الجفار، فقتلت تميم أشد مما قتلت عامر، فقال بشر بن أبي خازم (1) : غضبت تميم أن تقتل عامر ... يوم النسار فأعتبوا بالصليم كانوا إذا نعروا لحربٍ نعرةً ... يشفى صداعهم برأس مصدم فقال ضمرة بن ضمرة النهشلي: الخمر علي حرام حتى يكون يوم يكافئه، فأغار ضمرة على الأحلاف يوم ذات الشقوق فقتلهم وقال يرد على بشر بن أبي خازم (2) : الآن ساغ لي الشراب ولم أكن ... (3) آتي التجار ولا أشد تكلمي حتى صبحت على الشقوق بغارةٍ ... (4) كالتمر ينثر من جرين الجرم ومشت نساء بالنساء عواطلاً ... (5) من بين عارفة النساء وأيم ذهب الرماح بزوجها فتركنه ... في صدر معتدل القناة مقوم قال أبو عبيد: (6) ومن أمثالهم في ترك العتاب قول الشاعر: " وليس عتاب الناس للمرء نافعاً ... إذا لم يكن للمرء لب يعاتبه " ع: البيت لبشار بن برد، وقبله (7) :
إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرةً ومجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه وليس عتاب الناس للمرء نافعاً ... ..................... قال أبو عبيد: وقال آخر (1) : ودع العتاب فرب شر هاج، أوله العتاب ... ع: ضمنه بعض المحدثين شعراً أوله: هبوا إلى حلب الكرو ... م مزاجها حلب السحاب ودعوا العتاب فإنه ... وقت يضيق عن العتاب ما العيش إلا في المدا ... م تحثه نعم الكعاب وقال ابن الرومي في هذا فأحسن: ترددت حتى لم أجد متردداً ... وأمللت أقلامي عتاباً مرددا كأني أستدني بك ابن حنيةٍ ... إذا النزع أدناه إلى الصدر أبعدا 102؟ باب نصيحة الرجل أخاه قال أبو عبيد: رووا (2) عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: رحم الله رجلاً
أهدى إلينا عيوبنا. ع: قد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا خرج من المدينة فأقام قال لأصحابه: من بدا جفا فرحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا. قال أبو عبيد: وفي بعض الحديث " المؤمن مرآة أخيه ". ع: نظمه ابن الرومي فقال: أنا كالمرآة ألقى ... كل وجه بمثاله وقال منصور الفقيه: إن المرائي لا تريك خدوش وجهك في صداها ... وكذاك نفسك لا تريك عيوب نفسك في هواها ... نظم قول الحكيم: ما أبين وجوه الخير والشر في مرآة العقل إذا لم يصدئها الهوى. وقال الخليل: عقل من يعقل مرآ ... ة يرى فيها فعاله فإذا أخلصها الله ... صفاءً وصقاله فهي تعطي كل حي ... ناظر فيها مثاله وأنشد أبو عبيد في (1) قول الشاعر (2) :
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كف تبدل الأبيات الثلاثة (1) . ع: وهي لمعن بن أوس المزني.
الباب الثامن
الباب الثامن أبواب الأمثال في المعاش والأموال 103 -؟ باب المثل في الخصب والسعة [قال أبو عبيد] قال أبو عبيدة والأصمعي جميعاً: من أمثالهم في ثرة الخصب والخير قولهم " هم في عيش (1) لا يطير غرابه "، قالا: وقد يضرب هذا المثل في الشدة أيضاً. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الخير قول النابغة (2) : " ولرهط حراب وقد سورة ... في المجد ليس غرابها بمطار " (3)
ع: يريد النابغة سعة مجدهم وتمكنه، والسورة: المنزلة الرفيعة، وكانوا إذا وصفوا المكان بالخصب وكثرة الشجر يقولون " لا يطير غرابه " يريدون أنه إذا وقع في مكان وجد ما يحسبه فلا يحتاج أن يتحول ولا يطير إلى غيره، ويكون أيضاً أن أهل ذلك الموضع المخصب لا يطيرون عما يقع عليه لكثرة الشيء عندهم وهوانه عليهم. وأما قول أبي عبيد: إن هذا المثل أيضاً يضرب في الشدة فلأن الزمان إذا اشتد والجدب إذا أفرط هلك المال وجيف فيقع الغراب منه حيث يشاء ويأكل هو وسائر سباع الطير وغيره كيف أحب، لا يطار منه شيء ولا يهاج، وعلى هذا المعنى قالوا: " نعيم كلب في بؤس أهله "، وقال الشاعر: أراني إذا ما الكلب أنكر أهله ... أفدى وحين الكلب جذلان نابح إذا أنكر الكلب أهله: إذا لبسوا السلاح للحرب لم يعرفهم الكلب، كما قال طفيل (1) : أناس إذا ما أنكر الكلب أهله ... حموا جارهم من كل شنعاءً مضلع (2) يقول الشاعر: أفدى في ذلك الوقت لأني أقاتل عنهم، وحين الكلب جذلان في الجدب إذا موتت الإبل أكل وفرح، أفدى لأني أفضل وأطعم. قال أبو عبيد: قال أبو زيد: من أمثالهم في الخصب " وقع في سن (3) رأسه " أي فيما شاء واحتكم.
قال أبو زيد: تفسير سن رأسه: عدد شعره من الخير. [ع] : قال يعقوب: يقال في سي رأسه من الخير أي فيما يغمر رأسه من الخير. وقال الكسائي: وقع فلان في سواء رأسه؟ بكسر السين؟ والناس كلهم على فتحها، والقياس ما قال الكسائي، لأنه مصدر ساوى سواء. قال أبو عبيد: ومنه قولهم " وجدت الدابة ظلفها " أي ما يوافقها، وتكون فيه إرادتها، وكذلك الإنسان. ع: هذا من قولهم: ظلف فلان نفسه عن كذا إذا نزه نفسه وكفها عنه، فهو ظلف النفس وظليفها، وكذلك قولهم: وجدت الدابة (2) ظلفها أي ما يكفيها ويكفها عن طلب غيره. 104 -؟ باب كثرة المال والخير يقدم به الغائب قال أبو عبيد: يقال: " جاء فلان بما صأى وصمت " يعني بما نطق وسكت (2) .
ع: يقال: صأى الفرخ وغيره يصأى صأياً، وصاء يصيء صيأً إذا صوت. وقال المؤلفون لكتب الفروق من اللغويين: الصأي أكثر ما يقال للفيل والجرذ. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم قولهم " عند فلان من المال عائرة عين " (1) ومعناه أنه من كثرته يملأ العين حتى يكاد يعورها أي يفقأها. ع: عبارة أبي عبيد في تفسير هذا المثل فاسدة. قبح الله كل مال يكاد يفقأ العين، وإنما معناه أن هذا المال لكثرته وحسنه صار قيد الناظر وشغل العين عن النظر إلى سواه (2) ، فكأنه قد عارها عنه، كما قال أبو تمام في النسيب (3) : لها منظر قيد النواظر لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب وقال أبو الطيب في نحوه (4) : وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا وقالوا: معنى عائرة عين أي يعير فيه البصر هكذا وهكذا لكثرته كما تعير الدابة إذا أفلتت من صاحبها وأخذت حيث شاءت، وكذلك عار الفحل إذا ترك شوله وند.
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في المال قولهم " لفلان كحل " و " لفلان سواد ". ع: فسر أبو عبيد لفلان سواد (1) ، ولم يفسر " لفلان كحل "، وقال أبو حنيفة: اكحالت الأرض، وذلك أول ما يبدو نبتها. قال أبو عبيد: ومن أسماء المال عندهم " النشب " يقال: " فلان ذو نشب " ع: اختلف في النشب فقيل إنه يقع على الصامت والناطق، هكذا قال ابن دريد. وقال ابن النحاس: النشب: المال الأصلي كالدار وما أشبهها، ولذلك فرق الشاعر بينهما في قوله (2) : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب كأنه من نشب الشيء إذا احتبس، ويروى ذا مال وذا نسب؟ بالسين المهملة (3) .
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في كثرة المال يأتي به الرجل " جاء فلان بالطم والرم " ع: أحسن ما قيل فيه أن الطم ما حمله الماء والرم ما حملته الريح، وقال أبو محمد: الطم البحر والرم الثرى ". وقد قال بعضهم: إن الطم إذا أفرد ولم يذكر الرم، فتح فيل: جاء بالطم، كما يقال: هنأني الطعام ومرأني، فإذا أفردوا لم يقولوا إلا أمرأني. 105 -؟ باب استصلاح المال وترك إضاعته قال أبو عبيد: من هذا قول أحيحة بن الجلاح (1) " التمرة إلى التمرة تمر والذود إلى الذود إبل " وهو القائل (2) : استغن أو مت لا يغررك ذو نشب ... من ابن عم ولا عم ولا خال إني مقيم على الزوراء أعمرها ... إن الحبيب إلى الإخوان (3) ذو المال ع: وبعدهما وهي كلها أمثال حكيمة: يلوون ما عندهم من حق أقربهم ... ومن عشيرتهم والمال بالوالي
كل النداء إذا ناديت يخذلني ... إلا نداي إذا ناديت يا مالي قال أبو عبيد: ومنه البيت السائر في العالم (1) : قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد ع: البيت للمتلمس، وقبله: وأعلم علم حق غير ظن ... وتقوى الله من خير العتاد لحفظ المال أيسر من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد قليل المال............ ... ................. (البيت) 106؟ باب عذر الرجل في إمساك ماله قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في المنع: " ليس في كل حين: أحلب فاشرب "، قال: وهذا المثل يروى عن سعيد بن جبير أنه قاله في حديث سئل عنه. ع: روى أبو محمد الأصلي قال: نا النقاش، نا أبو يعلى أحمد بن علي [بن المثنى] ، نا أبو الربيع الزهراني، نا حماد بن زيد، نا أيوب قال: حدثنا سعيد بن جبير يوماً حديثاً أعجبنا، فاتبعته، فقلت: الحديث الذي حدثتناه أعده علي، فقال لي: " ما كل ما تشاء أحلب فاشرب " (2) .
107 - باب الجد يعطاه الإنسان قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الجدود " عارك بجد أو دع " أي من لم يكن له ذلك في شيء فليدعه. ومنه قول الشاعر: عش بجد لا يضرك النوك ما أعطيت جدا ... ع: عارك أي عارك أخدانك وزمانك من قولهم: تعارك القوم في الحرب عراكاً ومعاركةً. وأما البيت الذي أنشده فإن بعده (1) : والموت خير في ظلال العيش ممن عاش كدا ... وقال آخر في معناه (2) : عش بجد ولا يضرك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود عش بجد وكن هبنقة القي ... سي نوكاً أو شيبة بن الوليد وقال محمد بن حازم الباهلي (3) : لا تعجبن لأحمق ... نال العلى من غير كده ولعاقل ما يستثيب ... فكلهم يسعى بجده وقال أبو تمام: ولو كانت الأرزاق تجري على الحجى ... فلكن إذا من جهلهن البهائم
وقال أبو الطيب (1) : هو الجد حتى تفضل العين أختها ... (2) وحتى يكون اليوم لليوم سيدا وقال الأول: والسبب المانع حظ العاقل ... هو الذي سبب رزق الجاهل قال أبو عبيد: [ومنه قولهم] " جدك لا كدك ". أي إنما تنتفع بالجد لا بالكد. ع: أول من قاله حاتم بن عميرة الهمداني، وكان بعث ابنيه: الحسل وعاجنة أخاه، في تجارة لوجهين مختلفين، فلقي الحسل قوم من بني أسد، فأخذوا ماله وأسروه، وسار أخوه أياماً حتى وقع على مال الحسل، فاتبعه حتى بلغ نجران، فنادى في قومه همدان، فانتشطه من أيدي سالبيه قبل أن يبلغ إلى موضع متجره، وكانت الإبل موسومة بسمة أبيهما، وعرفوا أن ما كان عليها من المتاع له، فأخذه ورجع إلى أهله، فقال في ذلك: كفاني الله بعد السير أني ... رأيت الخير في السفر القريب وهذا القرب نلنا فيه خيرا ... ولم نلق الخسارة في الدءوب فلما رجع تباشر به أهله، وانتظروا الحسل. فلما أبطأ عليهم رابهم أمره، وبعث (3) أبوه أخاً له يقال له " شاكر " في طلبه والبحث عنه. فلما دنا شاكر من الأرض التي فيها الحسل، وكان الحسل عائفاً يزجر الطير، قال الحسل:
تخبرني بالنجاة القطاة ... وقول الغراب لها شاهد تقول ألا قد دنا نازح ... فداء له الطارف التالد أخ لم تكن أمنا أمه ... ولكن أبونا أب واحد تداركني رأفةً حاتم ... فنعم المربب والوالد تداركني بك يا شاكر ... ومن بك الملك الماجد ثم إن شاكراً سأل عنه فأخبر بمكانه فاشتراه منهم بأربعين بازلاً. فلما رجع به وأخبره بما لقي من البلاء، قال له أبوه: " اسع بجدك لا بكدك ". قال أبو عبيد: ومن هذا قول الشاعر (1) : هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها فليس بآتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها ع: بين البيتين: فمنه إذا شاء تيسيرها ... ومنه إذا شاء تعسيرها وبه يتم المعنى. والشعر للأعور الشني (2) ، قال سيبويه: رفع، فقال: " ولا قاصر " لأنه جعل المنهي من سبب الأمور ولم يجعله من سبب المنهي. وجره قوم، فجعلوا المأمور للمنهي، والمنهي من الأمور، فهو بعضها، فأجراه كما قال جرير (3) : إذا بعض السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فقد أبي اليتيم
108 -؟ باب المال يضيعه من لم يكسبه قال أبو عبيد: [المثل] في اكتساب المرء مال غيره " رب ساع لقاعد ". ع: أول من قال ذلك النابغة الذبياني، وكان وفد على النعمان بن المنذر في وفود العرب، منهم رجل من عبس يقال له " شقيق " فمات عنده، فلما حبا الوفود بعث إلى أهل شقيق بمثل ما حبا به الوفود [فقال النابغة: رب ساعٍ لقاعد] وقال النابغة للنعمان: أبقيت للعبي فضلاً ونعمةً ... ومحمدة من باقيات المحامد أتى أهله منه حياء ونعمة ... ورب امرئ يسعى لآخر قاعد وذكر أبو محمد الهمداني أن أول من قال " رب ساع لقاعد " معاوية أبي سفيان، وكان من خبر ذلك أنه قال لابنه يزيد: هل بقي في نفسك أرب من الدنيا؟ قال: نعم، أم خالد امرأة عبد الله بن عامر بن كريز. وكان عبد الله عامل معاوية على البصرة، فأمر عمرو بن العاص أن يكتب إليه يشير عليه بالوفادة على أمير المؤمنين معاوية لعله يعمل له في تزويج هند بنت معاوية. فخف لذلك ابن عامر حتى وصل إليه. فأزلفه معاوية وقربه، ثم غفل عنه، فساء ذلك عبد الله بن عامر، وشكا أمره إلى عمرو بن العاص. فقال له عمرو: إنه كره أن يدخل ابنته على ضرة فطلق أم خالد، فطلقها، وأقام أياماً؛ فقال له معاوية: غن أهل البصرة تواترت كتبهم يذكرون اضطراباً في البلد، وأمره بالعود إلى عمله، ووعده بإنفاذ ما ابتدأه، فانصرف ابن عامر. فلما انقضت عدة أم خالد بعث معاوية أبا هريرة إلى المدينة يخطبها على يزيد. فلما دخل المدينة بدأ بالمسجد فصلة، وألم بالقبر فسلم ودعا ثم مال إلى حلقة الحسن والحسين فسلم وقعد. فسألوه: فيم قدمت؟ فأخبرهم، فقال له الحسن: اذكرني لها، فمضى حتى استأذن على أم خالد، وخبرها بما بعث له، وبما أوصاه به الحسن. فقالت: بأيهم تشير يا عماه؟ قال: أرددت الأمر إليّ؟ قالت: نعم. قال: فأرى أن لا تؤثري أحداً على
من رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح فاه ويلثم ثناياه، يعني الحسن رحمه الله. وبلغ الخبر معاوية فقال (1) : " رب ساعٍ لقاعد ... واسلمي أم خالد " 109؟ باب عناية الرجل بماله دون غيره قال أبو عبيد: وقال أبو عبيد في نحو هذا: لبث قليلاً يلحق الداريون ... أهل الجباب البدن المكفيون " ع: هذا الرجز لمالك بن المنتفق (2) ، وذلك أن بسطام بن قيس أغار على إبله واستاقها، فكلما اعتاصت عليه ناقة عقرها لجده في السير بها، فقال له مالك: دعها إما لنا وإما لك ثم ارتجز: لبث قليلاً يلحق الداريون ... أهل الجباب البدن المكفيون سوف ترى إن لحقوا (3) ما يغنون ...
110 -؟ باب صيانة الحر نفسه عن خسيس المكاسب قال أبو عبيد: من أمثال أكثم بن صيفي " تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها ". قال: وهذا مثل قديم. ولكن العامة ابتذلته وحولته فقالت: لا تأكل ثدييها. قال بعض العلماء: ليس هذا بشيء، وإنما هو بثدييها، ومعناه عندهم الرضاع، يقول: لا تكون ظئراً لقوم على جعل تأخذه منهم. ثم قال: وذكر بعض أهل العلم أن المثل للحارث بن السليل الأسدي، قاله لامرأته ريا (1) بنت علقمة الطائي وذكر خبره. ع: ذكر أبو محمد ابن قتيبة هذا المثل في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الحجاج (2) سأله: ما يذهب عني مذمة الرضاع. قال: غرة: عبد أو أمة. قال: يعني ذمام المرضعة برضاعها، وكانوا يستحبون أن يرضخوا للظئر شيئاً عند فصال الصبي سوى الأجر. وأما العرب فكانوا يعدون أخذ الأجر على الرضاع سبة، ولذلك قيل: تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها. وقال العلماء: بثدييها، والقولان صحيحان، لأنها إذا أكلت ثمن لبنها فكأنها قد أكلت ثدييها، كما قال الراجز (3) : إن لنا أحمرة عجافا ... يأكلن كل ليلةٍ إكافا أي نبيع كل يوم إكافاً من آكفتها ونعلفها ثمنه، وكذلك قول الآخر في وصف إبل (4) : نطعمها إذا شتت أولادها ...
أي أثمان أولادها. وريا بنت علقمة التي ذكر، هي القائلة لزوجها (1) : " مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ ". قال أبو عبيد: وقال أوس بن حارثة لابنه مالك سفينما يوصيه به: " يا مالك، المنية ولا الدنية، وشر الفقر الخضوع، وخير الغنى القنوع ". ع: الخضوع: التذلل للمسئول وهو ذد المعنى الذي أراد أبو عبيد والقنوع ": ضد القناعة. قال الشماخ (2) : لمال المرء يصلحه فيغني ... (3) مفاقره أعف من القنوع يعني بذلك السؤال. وإنما قال أوس لابنه: شر الفقر الضراعة، وخير الغنى القناعة. قال أبو عبيد: وقال الشاعر (4) : فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما استغنى ويبعده الفقر قال: وهذا البيت يقول بعضهم إنه لعثمان بن عفان رضي لله عنه.
ع: كيف جهل أبو عبيد أن هذا البيت من شعر الأبيرد اليربوعي، وهو أشهر في الناس من أن يجهله أحد، فكيف يجهله أحد الجلة من العلماء بفنون العلم؟ يقوله الأبيرد في رثاء أحيه بريد. وبعده: فتىً لا يعد الرسل يقضي مذمةً ... إذا نزل الأضياف أو تنحر الجزر وسامي جسيمات الأمور فنالها ... على العسر حتى أدرك العسرة اليسر وإنما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال البيت متمثلاً. ولله در إبراهيم ابن العباس الصولي في قوله (1) : أسد ضارٍ إذا استنجدته ... وأب بر إذا ما قدرا يعرف الأبعد إن أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقر وقال أيضاً في هذا المعنى فأحسن (2) : ولكن الجواد أبا هشام ... نقي الجيب مأمون المغيب بطيء عنك ما استغنيت عنه ... وطلاع عليك مع الخطوب 111 - باب المال يملكه من لا يستوجبه قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم " عبد وخلي في يديه " ع: هكذا أورده أبو عبيد، وإنما يخرج على تقدير مضمر كأنه قال: وخلي في يديه مال أو ما يعيث فيه. ورواه غيره: " عبد وخلي في يديه " والخلى: الرطب من النبات، يكنى به عن المال.
112 -؟ باب احتفاظ الرجل بالعلق الكريم قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة في المال الكثير يكون عند الرجل، وليس عنده من ينفقه عليه، فيقال في هذا " نرهى ولا أكولة " ومثله: " عشب ولا بعير " ع: قال الشاعر: أمرعت الأرض لو أن مالا ... لو أن نوقاً لك أو جمالا وقال آخر (1) : فجنبت الجيوش أبا زنيب ... وجاد على مسارحك السحاب دعا عليه بذهاب إبله وماله، فلا يقصد جيش ليغير عليه، فإنه لا مال له، ولا شيء يؤخذ. ثم دعا لمسارحه بالسقي لتمرع فيكون أشد لحزنه وأبلغ في أسفه، إذ لا راعية له. ويتوجه أيضاً أن يكون دعا له، والوجه الأول أبين. قال أبو عبيد: من الأمثال في الشيء يحض صاحبه على التمسك به: " أشدد يديك بغرزه ". ع: قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الحديبية (2) : أيها الرجل، إنه لرسول الله فاستمسك بغرزه، فوالله إنه لعلى الحق. والغرز: ركاب الإبل (3) . وقد غرزت رجلي في الغرز، واغترزت إذا ركبت.
113 -؟ باب اكتساب المال والحث عليه قال أبو عبيد: من ذلك قولهم: " ألق دلوك في الدلاء " وقال الشاعر (1) : وليس الرزق عن طلب حثيث ... ولكن ألق دلوك في الدلاء تجئك بملئها طوراً، وطوراً ... تجئك بحمأة وقليل ماء ع: الشعر لأبي الأسود الدؤلي يقوله لابنه أبي حرب. وكان أبوه عذله على توكله وقلة تصرفه، فقال له: إن كان لي رزق فسيأتي، فقال البيتين، والرواية عن أبي عبيدة: ما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء قال أبو عبيد: من ها قولهم " كلب عس خير من كلب ربض " ع: المعروف في المثل: كلب اعتس خير من كلب ربض. ومعنى اعتس جاء وذهب. ومن هذا قيل للحراس عسس. قال أبو زيد: ويقال جيء به من عسك وبسك. والعس التطوف وجيء به من حسك وبسك، بالفتح والكسر. وحكى الفراء: جيء به من عشك وبسك؟ بالشين معجمة في عشك. قال أبو عبيد: ومنه قولهم " يا حرزا وأبتغي النوافلا " أي أدركت
ما أريد وأنا أبتغي الزيادة. ع: الحرز: الشيء المحروز، كالقبض وهو الشيء المقبوض. أراد يا حرزي فعوض من الياء ألفاً في النداء لخفتها. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن أبا بكر رضي الله عنه كان يوتر من [أول] الليل (1) ، ويقول: يا حرزا وأبتغي النوافلا [وفي رواية أخرى: أحرزت نهبي وأبتغي النوافل] (2) يريد أنه قد قضى الواجب من الوتر، وأمن فواته، وأحرز أجره فإن استيقظ من الليل تنفل، وإلا فقد خرج من ضمان الواجب وتخلص من عهدته. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في المال قولهم " في وجه الما تعرف إمرته " يعني كثرته وزيادته. ع: قال يعقوب: يقال: في وجه مالك تعرف إمرته بكسر الهمزة وتثقيل الميم، وأمرته بفتجح الهمزة وتخفيف الميم، أي نماءه وكثرته.
الباب التاسع
الباب التاسع أبواب الأمثال في العلم والمعرفة 114 -؟ باب المثل في معرفة الأخبار وصحتها قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في صحة الخبر (1) : " عند جفينة الخبر اليقين " وذكر قول الأصمعي في خبر المثل وقول ابن الكلبي (2) إلى آخرهما. ع: قال ابن الأنباري: وذكر عن أبي عبيدة حفينة بالحاء المهملة. وقال ابن السكيت في كتاب إصلاح المنطق: جفينة اسم خمار، بالجيم والفاء. وذكر عبيد بن شرية أن هذا المثل للحمام السهمي أبي الحصين بن الحمام، وأن
هاشم بن حرملة أحد بني ضمرة بن مرة جمع على بني سهم بن مرة. فلما رأى ذلك الحصين سار ببني سهم، وبالحرفة، وهم حي من بني وداعة (1) بن جهينة. وإنما سموا الحرقة لأن رجلاً منهم يقال له حميس (2) انطلق يتصيد، فرمى ظبياً وهو في يبيس على شفير واد عظيم، فأصاب سهمه مروة، فأورت ناراً في ذلك اليبيس فاحترق ذلك الوادي، فسموا الحرقة. فسار بهم الحصين حتى نزل دارة موضوع؟ وهو فضاء بين جبال (3) - وكان الحمام شيخاً كبيراً لا يمر به أحد إلا سأله هل التقى القوم. فالتقى القوم واقتتلوا قتالاً شديداً، وظهرت سهم وأسر الحصين أسارى كثيرة، فخرج رجل من الحرقة، حتى أتى الحمام فبشره فقال: أسائل كل ركب عن حصينٍ ... وعند جهينة الخبر اليقين قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الخبر " كفى قوماً بصاحبهم خبيرا " ع: تمام البيت على ما أنشده سلمة عن الفراء (4) : إذا لاقيت قوماً فاسأليهم ... كفى قوماً بصاحبهم خبيرا ويروى " كفى قوماص بعالمهم خبيراً ".
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في المعرفة والعلم قولهم " هو ابن بجدتها " وأصله الرجل يكون هادياً (1) خريتاً في الأرض ثم صار ذلك مثلاً لكل عارف ماهر. ع: يقال فلان ابن بجدة هذا الأمر إذا كان عالماً به. وأصله من بجد بالمكان بجوداً إذا أقام به، والمقيم بالموضع الساكن فيه هو العالم به. وقال كراع: يقال فلان من أهل البجد إذا كان من أهل البادية. قال: ومن هذا قالوا: فلان ابن بجدتها. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم " على هذا دار القمقم " أي إلى هذا صار معنى الخبر. ع: إن كان يريد القمقم المستعمل فهو رومي معرب، وقد تكلمت به العرب. قال عنترة (2) : حش الإماء به جوانب قمقم (3) ... ولا أدري ما معنى دوران هذا القمقم (4) . وحكى أبو حاتم عن العرب: القمقم طرف الحلقوم، وهذا المراد في المثل، والله أعلم، لأنه يدور عند الكلام ويتحرك، وخروج الصوت عليه، فمعنى المثل إلى هذا صار الكلام وعليه دار.
115 - باب الحذق بالأمور وحسن المعاناة لها (1) قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ومن أمثالهم في الحذق بالأمر والترفق فيه قولهم: " أنا منه كحاقن الإهالة " والاهالة: الودك المذاب، وليسي يحقنها العالم بها حتى يعلم أنها قد بردت لئلا تحرق السقاء. ع: كل شيء جمعته من لبن أو شراب ثم شددته في سقاء فقد حقنته. ومنه المثل " أبي الحقين العذرة " أي بطل العذر مع حضور اللبن. وبذلك سمي حابس البول حاقناً والحواقن من البطن ما حقن الطعام. والعرب تقول: لا تحقن حواقنك بذواقك. والذواقن: الذقن وما تحته. قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم " أعط القوس باريها " أي استعن على عملك بأهل المعرفة والحذق. ع: أول من نطق بهذا المثل الحطيئة. وذلك أنه دخل على سعيد بن العاص وهو يغدي الناس فأكل أكلاً جافياً. فلما فرغ الناس من طعامهم وخرجوا أقام مكانه فأتاه الحاجب ليخرجه، فامتنع وقال: أترغب بهم عن مجالستي؟ إني بنفسي عنهم لأرغب. فلما سم7ع سعيد ذلك منه وهو لا يعرفه، قال: دعه. وتذاكروا الشعر والشعراء. فقال لهم: أصبتم جيد الشعر، ولو أعطيتم القوس باريها لوقعتم على ما تريدون. فانتبه له سعيد، ونسبه فانتسب له، فقال: حياك الله يا أبا مليكة! ألا أعلمتنا بمكانك ولم تحملنا على الجهل بك فنضيع حقك
ونبخسك قسطك. وأدناه وقرب مجلسه واستنشده ووصله وحباه. وقال الشاعر: يا باري القوس برياً ليس يحسنه ... لا تظلم القوس أعط القوس باريها قال أبو عبيد: ومن أمثال أكثم بن صيفي: " المرء يعجز لا المحالة ". يقول: إنما يجيء الجهل متن الناس، فأما العلم والحيل فكثيرة. ع: العرب تقول: ماله حيلة ولا محالة ولا حول ولا حويل بمعنى. وقال أبو الأسود في نظم هذا المثل (1) : أعصيت أمر ذوي النهى ... وأطعت أمر ذوي الجهاله فاحتلت (2) حين صرمتني ... والمرء يعجز لا المحاله والعبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه المقاله وكان من خبر هذا الشعر (3) أن ابن عم لأبي الأسود دنيةً كان سيء الخلق، وكان بينهما باب يتطرقون منه. وكان مما يرفق بأبي الأسود ذلك الباب، وأن ابن عمه أراد سده، فقال له بعض بني عمهم: لا تشقن على ابن عمك. دع الباب، فأبى إلا سده، ثم ندم وأراد أن يفتحه لأن الباب كان يرفق بهما جميعاً، فأبى أبو الأسود إلا سده، وقال هذا الشعر، وقال أيضاً: لنا جيزة سدوا المجازة بيننا ... وإن ذكروك السد فالسد أكيس ومن خير ما ألصقت بالدار حائط ... يزل به سفع الخطاطيف أملس
116 -؟ باب الاستخبار عن علم الشيء ومعرفته قال أبو عبيد: وإذا أخبر الرجل بالخبر من غير استخبار ولا ذكر كان لذلك، قيل: " فعل ذلك قبل عيرٍ وما جرى ". ع: قال المفضل الضبي وغيره: العير إنسان العين، وأنشد لتأبط شراً (1) : سوى تحليل راحلةٍ وعيرٍ ... أكالئه مخافة أن يناما ويروى سوى ترحيل. قال: ومنه قولهم: " قبل عير وما جرى "، أي قبل لحظة إنسان بعير عينه، وهو أحد الأقوال في بيت الحارث بن حلزة، وذلك قوله (2) : زعموا أن كل من ضرب العير موالٍ لنا وأنى الولاء ... يعني: أن كل من أطبق جفناً على عين. وقال المفضل: العير في قولهم: " قبل عير وما جرى " المثال الذي في الحدقة، يقال له اللعبة. وما جرى: أي وجريه. يريد قبل أن يطرف الإنسان. وقال الشماخ (3) : تعدو القبصى قبل عيرٍ وما جرى ... (4) ولم تدر ما بالي ولم أدر بالها
القبصى: ضرب من العدو فيه نزو. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في قديم الدهر وحديثه: " ويأتيك بالأخبار من لم تزود ". ع: هذا يروى لطرفة، وقد أنكره بعض الرواة. قال (1) : ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود ويأتيك بالأنباء من لم تبع له ... بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد قوله: لم تبع يريد لم تشتر، والبتات: الزاد. قال الأصمعي (2) : لم يأت بهما أحد عن طرفة غير جرير بن الخطفى. 117 -؟ باب الانتهاء إلى غاية العلم قال أبو عبيد: قال أبو زيد: من أمثالهم في هذا أن يقال " بلغ فلان من العلم أطوريه " بكسر الراء. أي بلغ أقصاه. وسمعت غيره من علمائنا يقول: أطوريه بفتح الراء. ع: هكذا حكاها أبو زيد وغيره. الطور: الحد. ومنه قولهم: تعدى فلان طوره، وملكت الدار بطورها وطوارها، أي بمنتهى حدودها. ومنه قولهم
لا تطر حرى (1) فلان، أي لا تدخل طوار داره. وحكى اللحياني أو غيره هذه الدار أطور من هذه، أي أوسع حدوداً وساحة. فأطوريه جمع أطور. يراد بلغ من العلم أقصى حدوده. ومن قال أطوريه فإنه تثنية أطور يعني حدي الطول والعرض. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في العلم " إن العالم كالحمة يأتيها البعداء ويزهد فيها القرباء ". ع: تمام هذا الحديث ويروى عن بعض السلف (2) : العالم كالحمة يأتيها البعداء ويزهد فيها القرباء، قال: فبينما هم كذلك إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم، وبقي قوم يتفكنون؟ أي يتندمون؟ تفكن تفكناً إذا تندم. وقرأ أبو حزام العكلي: {فظلتم تفكنون} (الواقعة: 65) وقال: إنما تفكهون من الفاكهة. 118 -؟ باب ادعاء الرجل علماً لا يحسنه قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " لا تعطيني وتعظعظني "، أي لا توصيني وأوصي نفسك. ع: قال أبو محمد: إنما يكون التضعيف إذا كان آخره مشدداً مثل حث، يقال منه: حثحث. وكذلك رق، يقال منه: رقرق. قال: ولا أعلم لتعظعظني مثلاً. وقد وجدت أنا حروفاً مثله منها قولهم فعطعطوا به من قولهم عيط عيط.
ومنها قوله (1) : ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يتركرك أي لم يتحرك من قولهم لم يرم. 119 -؟ باب انتحال الرجل العلم وليس عنده أداته قال أبو عبيد: ومنه قولهم " إنباض بغير توتير " يقول: إنه ينبض القوس من غير أن يوترها. ع: الانباض أن يجذب الرجل الوتر بإبهامه وسبابته ثم يرسله فتسمع لها (2) صوتاً. وإنما هو مأخوذ من نبض العرق وهو حركته، ولا يكون النبض إلا للعرق خاصة فاستعير للوتر. ويشبه وميض البرق بنبض العرق، قال الشاعر سرى مثل نبض العرق والليل ضارب ... بأرواقه والصبح قد كاد يسطع قال الكميت في قولهم: " كالحادي وليس له بعير " فصرت كأني وامتداحي خالداً ... وأسرته (3) حادٍ وليس له إبل
120 -؟ باب شواهد الأمور الظاهرة على علم باطنها قال أبو عبيد: منه " أراك بشر ما أحار مشفر "، يقول: قد أغناك ما ترى من ظاهر أمره عن سؤاله. ع: معنى المثل أنك ترى في بشرة البعير أو الدابة ما زد مشفره إلى جسمه من جودة أكله وخصب مرعاه أو ضده. والحور: الرجوع؟ حار يحور حوراً إذا رجع. وأحرته رجعته. قال تعالى {إنه ظن أن لن يحور} (الانشقاق: 141) أي أن لن يرجع وأن لن يحشر، كما قال تعالى {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاص وأنكم إلينا لا ترجعون} (المؤمنون: 115) . ويروى: أراك بشراً ما أحار مشفر، بالنصب، والمعنى أراك هذا المرئي في بشر ما أحار مشفر. قال أبو عبيد: ويقال في نحو هذا أو مثله (1) " نجارها نارها " والنار في هذا الموضع السمة. ع: لما كانت الإبل وغيرها لا توسم إلا بالنار سمي الوسم ناراً، قال الراجز (2) : قد سقيت آبالهم بالنار ... والنار قد تشفي من الأوار يقولون إن هذه الإبل لعزة أهلها سقيت لما عرفت سماتها، قم ألغز فقال: والنار قد تشفي من الأوار.
121 -؟ باب استقامة الأمور واعوجاجها قال أبو عبيد: من أمثالهم " الأمور سلكى وليست بمخلوجةٍ " قال: والسلكى: المستقيمة، والمخلوجة المعوجة، وأصله في الطعن. قال امرؤ القيس (1) : نطعنكم سلكى ومخلوجة ... (2) لفتك لامين على نابل وحكي عن أبي عمرو بن العلاء انه ذكر هذا الشعر فقال: ذهب من يحسنه (3) : ع: أول من قال " الأمور مخلوجة وليست بسلكى "؟ وهكذا ورد المثل لا كما ذكره أبو عبيد؟ الحارث بن عباد، وذلك أن مهلهلاً لما قتل ابن أخيه بجيراً في الحرب التي كانت بين بكر وتغلب ابني وائل، وهي حرب البسوس؟ وبلغ ذلك الحارث، وكان قد تخلف عن حربهم؟ قال: نعم القتيل قتيلاً، أصلح الله به بين ابني وائل، فقيل له: إن مهلهلاً لما قتله قال: بؤ بشسع نعل كليب، فعندها قال الحارث: الأمور مخلوجة وليست بسلكى، ثم قال: قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال لم أكن من جناتها علم الله ... وإني بحرها اليوم صال
وتجرد لحرب تغلب فأبارهم حتى فر مهلهل، فهلك غريباً في غير دياره. وأما بيت امرئ القيس ففيه أقوال، قال الأصمعي: أراد ردك سهمين على رامي نبل. واللفت: الرد واللي، قال الشاعر: " أسرع من لفت رداء المرتدي " ... وقال غيره: أراد بقوله " لامين " الريش اللؤم، أي ردك هذين اللامين على نابل بريش سهامه. وقد ذكر أن امرأ القيس فسر بيته بهذا. وقيل: إنما هو " لفت كلامين على نابل " تثنية كلام، يريد قولهم للرامي: ارم ارم. قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة، من أمثالهم في الاستقامة قولهم " محسنة فهيلي "، وأصله أن امرأة كانت تفرغ طعاماً من وعاء في آخر، فقيل لها: ما تصنعين؟ قالت: أهيل من هذا في هذا، فقيل: محسنة فهيلي (1) . ع: قال أبو بكر ابن دريد: أصل هذا المثل للهائلة بنت منقذ من بني عمرو ابن سعد بن زيد مناة أم جساس بن مرة وأختها البسوس بنت منقذ التي كانت الحرب على رأسها بين ابني وائل أربعين سنة. وذلك أن ضيفاً نزل بالهائلة ومعه سلف فيه دقيق، فأخذت وعاء فيه دقيق كان عندها لتأخذ من دقيق الضيف، فجاء الضيف، فلما رأته جعلت تأخذ من وعائها فتهيل في وعاء الضيف، فقال لها: ما تصنعين؟ قالت: أهيل من هذا في هذا، فقال: محسنة فهيلي. فسميت الهائلة. والسلف: الجراب. وقال ابن دريد: السلف: الأديم الذي لم يحكم دباغه.
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الاستقامة والحذق " هو يرقم الماء " أي قد بلغ من حذقه أنه يرقم حيث لا يثبت الرقم. ع: وقال أوس بن حجر في هذا المعنى (1) : سأرقم في الماء القراح إليكم ... على نأيكم إن كان للماء راقم (2)
فراغ
الباب العاشر
الباب العاشر الأمثال في أهل الألباب والحزم وفي السلامة من الزلل والجهل 122 -؟ باب الأخذ بالثقة والاحتياط في الأمور قال أبو عبيد: من أمثالهم في الاحتياط " اشتر لنفسك وللسوق " ع: وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إذا اشتريت بعيراً فاجعله ضخماً، فإن أخطأك خير لم تخطئك سوق. قال أبو عبيد: (ومنه الحديث) " الإثم ما حك في الصدر وإن أفتاك الناس عنه وأفتوك " (1) . قال: ومنه قول ابن مسعود: الإثم حواز القلب.
ع: الأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم. يقال: حك في نفسي الشيء إذا لم تكن منشرح الصدر به، وكان في قلبك منه شيء. وكذلك حديث ابن مسعود: والإثم حواز القلب، يعني ما حز في القلب أي أثر فيه، فاجتنبه. يقال: حز الشيء يحز حزاً إذا ثر فيه بسكين أو غيرها، ووجد في قلبه حزحزة. وهو الألم من خوف أو حزن، وهو قريب المعنى من حك. وروى معاوية بن أبي صالح عن عبد الرحمن ابن جبير بن نفير عن أبيه عن البراء بن سمعان أنه سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: " البر حسن الخلق والإثم ما حك في نفسك وكرهت أن يطلع الناس عليه ". 123 -؟ باب التقدم في الأمر والأخذ فيه بالحزم قال أبو عبيد: ومنه قول النجاشي أحد بني الحارث بن كعب يذم قوماً: ولا يردون الماء إلا عشيةً ... إذا صدر الوراد عن كل منهل ع: هجا بهذا الشعر بني العجلان، قال: إذا الله عادى أهل لؤمٍ ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقيل قبيلة لا يغدرون بذمةٍ ... ولا يظلمون الناس حبة خردل ولا يردون الماء إلا عشيةً ... إذا صدر الوراد عن كل منهل تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... ويأكلن من كعب وعوف ونهشل وما سمي العجلان إلا (1) لقولهم ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل فاستعدى عليه بنو عجلان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما قال
فيكم؟ فأنشدوه: إذا الله عادى أهل لؤم ودقة. فقال: إنما دعا فإن كان مظلوماً استجيب له وإن كان ظالماً لم يستجب له. قالوا: وقد قال: قبيلة لا يغدرون بذمة ... البيت، فقال عمر رضي الله عنه: ليت آل الخطاب هكذا (1) . قالوا: وقد قال: ولا يردون الماء ... البيت، فقال عمر رضي الله عنه: ذاك أقل للكاك (2) . قالوا: وقد قال: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم.. البيت، فقال عمر رضي الله عنه: أجن القوم موتاهم ولم يضيعوهم. قالوا: وقد قال: وما سمي العجلان إلا لقيلهم (3) ... البيت. فقال عمر رضي الله عنه: خير القوم خادمهم. وأنشد ثعلب في ضد قول النجاشي (4) : كرام ينال الماء قبل شفاههم ... لهم عارضات الورد شم المناخر 124؟ باب الاستعداد للنوائب قبل حلولها قال أبو عبيد: ومنه قولهم " دمث لنفسك قبل النوم مضطجعا " ع: وأسير ما قيل في هذا من الشعر قول تأبط شراً (5) : ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلاً ... به الأمر إلا وهو للقصد مبصر
قال أبو عبيد: ويروى عن عائشة أنها ذكرت عمر، فقالت: كان والله أحوذياً نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها. ع: روى محمد بن وضاح، حدثنا الأنباري، حدثنا هشام بن القاسم عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الواحد بن أبي عون عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: من رأى ابن الخطاب عرف أنه خلق غناء للإسلام؛ كان والله أحوزياً نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها. ع: قال عبد العزيز: الأحوزي الذي يحتاز الأمور برأيه فيكتفي بما عنده. وقال اللغويون: الأحوذي والأحوزي: الحسن السياسة وبما وليه، وقيل هو الجاد فيما يأخذ فيه من عمل. وقال الراجز (1) : يحوزهن وله حوزي ... كما يحوز الفئة الكمي (2) ويروى [وله] حوذي بالذاك، كما يحوذ. قال أبو حاتم: حوزي أي حائز من قلبه، أي مزعج. قال أبو عبيد: قال الأثمعي: ومن أمثالهم في نحو هذا " في بطن زهمان زاده " يقول: مع فلان عدته التي يحتاج إليها وبتاته وما يصلحه. ع: قال الرياشي: زهمان وزهمان بالفتح والضم: اسم كلب. وقال أبو بكر أيضاً: هو اسم كلب. وذكر أبو علي عن أبي زيد زَهمان وزُهمان أيضاً.
قال أبو زيد: وإذا قسم قوم جزوراً فأعطوا رجلاص منهم حظه ثم جاءهم بعد ذلك فقال لهم: أطعموني، قيل له: " في بطن زهمان زاده " أي قد أكلت وأخذت حظك. 125 -؟ باب الحزم في تعجيل الفرار ممن لا يدي لك به قال أبو عبيد: وقال الذي قتل محمد بن طلحة بن عبيد الله يوم الجمل: " يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم " ع: اختلف في قائله، وقائله هو قاتل محمد بن طلحة رضي الله عنهما، قتله يوم الجمل، فقيل هو عصام بن المقشعر، وقيل [بل] هو شريح بن أوفى العبسي، وقيل: هو الأشتر النخعي (1) . وقبل البيت (2) : وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم هتكت له بالرمح حضني قميصه ... فخر صريعاً لليدين وللفم على غير شيء غير أن ليس تابعاً ... علياً ومن لا يتبع الحق يظلم يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم وكان محمد من الخيار الصالحين، وإنما قتله وحمله على الخروج بره بأبيه لأنه رأى أن التخلف عنه عقوق. وكذلك كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ذاك الذي قتله بره بأبيه.
وأنشد أبو عبيد (1) : " أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً ... وأنجو إذا لم ينج إلا المكيس " ع: هذا البيت لزيد الخيل، ويروى " حتى لا أرى لي مقاتلا " يعني قرناً يقاتله. ومن رواه بفتح التاء فيحتمل أن يكون مصدراً وأن يكون أراد به موضع قتال. ويروى: " أقاتل ما كان القتال حزامة (2) . وقال أوس بن حجر في مثله (3) : وليس فرار اليوم عاراً على الفتى ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس وقال عمرو بن معدي كرب (4) : ولقد أجمع رجلي بها ... حذر الموت وإني لفرور ولقد أعطفها كارهةً ... حين للقوم (5) من الموت هرير 126؟ باب النظر في العواقب وما فيه من الأخذ بالثقة قال أبو عبيد: ومن هذا فٍعْل الطائي الذي نزل به امرؤ القيس بن حجر
فهم أن يغدر به فأتى الجبل وقال: إن فلاناً غدر؛ وساق الخبر محذوفاً غير منسوب. ع: كان أبو حنبل (1) جارية بن مر الطائي عزيزاً منيعاً وفياً، فنزل به امرؤ القيس بن حجر ومعه أهله وماله وسلاحه. ولأبي حنبل امرأتان جدلية وثعلية، فقالت الجدلية: رزق الله أتاك به لا ذمة له عليك ولا عقد ولا جوار، فأرى أن تأكله وتطعمه قومك. وقالت العلية: رجل تحرم بك واستجارك، فأرى أن تحفظه وتفي له، فقام أبو حنبل إلى جذعة من الغنم فاحتلبها وشرب لبنها، ثم مسح بطنه وقال: لقد آليت أغدر في جداع ... (2) وإن منيت أمات الرباع لأن الغدر في الأقوام عار ... وأن المرء يجزأ بالكراع فقال الجدلية؛ ورأت ساقيه حمشتين: تالله ما رأيت كاليوم ساقي واف. فقال أبو حنبل: " هما ساقا غادرٍ شر " ويروى: " لم ار كاليوم قفا وافٍ ". ويقال: إن صاحب هذا الخبر عامر بن جوين الطائي، وهو الذي أتى الجبل فقال: إن فلاناً غدر، فأجابه الصدى. 127 -؟ باب التوقي من الأمور وما فيه من السلامة قال أبو عبيد: من أمثال أكثم بن صيفي " من سلك الجدد أمن العثار " ع: قال أبو بكر ابن دريد: من أمثالهم " من تجنب الخبار أمن العثار "
قال: والخبار أرض (1) تتعتع فيه الدواب. قال أبو عبيد: من أمثالهم في ذلك (2) " جروا له الخطير ما انجر لكم " ومعناه: اتبعوه ما كان فيه موضع متبع. قال: والخطير هو زمام الناقة وجديلها. وهذا المثل يروى عن عمار بن ياسر قاله في فلان. ع: قاله عمار في عثمان رضي الله عنه حين أنكر الناس عليه ما أنكروه. وإنما قيل لزمام الناقة خطير لاهتزازه عند مشيها كما قيل للرمح اللدن (3) خطار للينه واهتزازه. ومنه قيل: هو يخطر في مشيته إذا تبختر. وإذا كان الحبل من جلود فهو جديل وجرير، وإذا كان من خوص فهو شريط، وإذا كان من كتان فهو مرس، وإذا كان من ليف فهو مسد. 128 -؟ باب توسط الأمور بين الغلو والتقصير قال أبو عبيد: قال أبو زيد: من أمثالهم في هذا: " لا تكن حلواً فتسترط ولا مراً فتعقى " أي تلفظ من المرارة. يقال: قد أعقى الشيء إذا اشتدت مرارته. ع: فسره أبو عبيد على خلاف ما أورده فقال: فتعقى أي تلفظ، ثم قال: يقال أعقى الشيء إذا اشتدت مرارته. وحده إذا كان قوله فتعقى من
شدة المرارة أن يكون بكسر القاف. قال أبو علي: هذه رواية أبي زيد وتفسيره. وإن كان معناه فتلفظ أن يكون فتعقى بفتح القاف وصحة تفسيره وبيان معناه أن يقال فتعقى معناه فتلفظ بالعقوة، والعقوة ساحة الدار (1) . قال أبو عبيد: ومنه قول مطرف بن الشخير: " الحسنة بين السيئتين، وخير الأمور أوساطها وشر السير الحقحقة ". ع: قال مطرف يوصي ابنه: يا عبد الله إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك فإن الحسنة بين السيئتين، وخير الأمور أوساطها، وشر السير الحقحقة، وإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. ومن قوله: إن هذا الدين متين ... إلى آخر الحديث، يروى عن النبي عليه السلام. وأسير بيت في هذا قول الشاعر: عليك بأوساط الأمور فإنها ... نجاة ولا تركب ذلولاً ولا صعبا ومن أمثالهم: " لا تكن رطباً فتعصر، ولا يابساً فتكسر ". 129 -؟ باب حذر الإنسان على نفسه قال أبو عبيد: ومنه قولهم " حلأت حالئة عن كوعها " قال: وأصله أن تحلأ المرأة الأديم وهو نزع تحلئته يعني باطنه، فإذا رفقت سلمت، وإن خرقت أخطأت، فقطعت بالشفرة كوعها (2) .
ع: التحلئة، هو ما يبقى من الصفاق على باطن الجلد عند سلخه، والكوع رأس الزند الذي يلي الإبهام، والكرسوع: رأس الزند الذي يلي الخنصر. 130 -؟ باب المحاذرة للرجل من الشيء قد ابتلي بمثله قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في نحو هذا " كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع " وأصله الرجل يمشي في الوقع؟ وهي الحجارة؟ حافياً، فيصيبه الوجى، فهو يحاذر على رجليه من كل شيء ومنه قول الشاعر (1) : يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... ع: أوله (2) : داوية شقت على اللاعي الشكع ... (4) وإنما (3) النوم بها مثل الرضع يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... وشركاً من استها لا تنقطع كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع ... الشكع: جزع الإنسان من طول المرض أو التعب. والوقع: أن يشتكي الرجل لحم رجليه من المشي. وقد وقع يوقع وقعا. هكذا صحة تفسيره، يقال
منه: وقع [الرجل يوقع وييقع فهو وقع] (1) ، ويقال: حفى الرجل حفاية إذا مشى بلا نعل ولا خف. وحفي حفى وحفوة وحفية إذا رقت قدماه من المشي، وحفيت بالرجل حفاوة إذا عنيت (2) به. قال أبو عبيد: ويقال في نحو: " من يشتري سيفي وهذا أثره " يضرب للرجل الذي يقدم على الأمر الذي قد اختبر وجرب. ويقال غن المثل للأغلب العجلي (3) . ع: روى عبيد بن شرية الجرهمي عن مالك بن جبير العامري أن أول من قال: من يشتري سيفي وهذا أثره، الحارث بن ظالم المري، وكان من شأنه أنه كان للحارث (4) سيف لا يوضع على شيء إلا أثر فيه، وأنه كان بعاقته منه أثر، وكان قد عرضه للبيع وجعل يقول: " من يشتري سيفي وهذا أثره ". 131 -؟ باب الحذر من اتباع الهوى وما يؤمر به من اجتنابه قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة من أمثالهم في هذا: " أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك " أي أطلع من يأمرك بما فيه رشادك وصلاحك وإن كان
يبكيك ويثقل عليك، ولا تطع أمر من يأمرك بما تهوى ويضحكك بما فيه شينك. ع: قال عبيد بن شرية: كان أصل هذا المثل أن فتاة من العرب كان لها خالات وعمات، فكانت إذا زارت عماتها ألهينها، وإذا زارت خالاتها أبكينها. فقالت لأبيها: إن عماتي يلهينني وإن خالاتي يبكينني إذا زرتهنن فقال لها أبوها: أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك. فذهبت مثلاً (1) . قال أبو عبيد: ومن ذمهم الهوى قولهم " حبك الشيء يعمي ويصم " وهذا يروى عن أبي الدرداء. ع: بل هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: وقال أبو العتاهية ف معناه: ؟؟ المرء يعمى عمن يحب فإن ... أقصر شيئاً عما به أبصر وفي حديث مرفوع: " جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم ". وقال الشاعر (2) : إذا طالبتك النفس يوماً بشهوةٍ ... وكان عليها للخلاف طريق فخالف هواها ما استطعت فإنما ... هواك عدو والخلاف صديق وقال آخر (3) : وفي الحلم والإسلام للمرء وازع ... وفي ترك طاعات الفؤاد المتيم
بصائر رشدٍ للفتى مستبينة ... وأخلاق صدق علمها بالتعلم [وهذا الشعر لزياد الأعجم] . 132 -؟ باب التحذير من المعايب والشين قال أبو عبيد: قال مؤرخ: من أمثالهم في نحو هذا: " نزو الفرار استجهل الفرارا " قال: وولد بقر الوحش يقال له: فرار وفرير نحو طوال وطويل. ع: قال سيبويه: فرار جمع فرير في نظائر ذكرها نحو ظئر وظؤار، ورخل ورخال، وشاة ربى وشاء رباب. وأورد يونس هذا المثل: " فرارة قد سفهت (1) فرارا ". والفرار صنف من الضأن (2) . وذلك أن الفرار إذا رأى الغنم قصد إليها فتبعتها البقية. ومن أراجيز العرب في الضبع: أفرعت في فراري ... كأنما ضراري أردت يا جعار والافراع: إراقة الدماء. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في كراهة المعايب " الملسى لا عهدة له " أي أنه قد خرج من الأمر سالماً لا عليه ولا له (3) ، وفي بعض النسخ عن علي بن
عبد العزيز أو غيره الملسى: الشيء ينساب ويتلمس ويتسرب. ع: ومن هذا قولهم: ناقة مسلى إذا كانت تمر مراً سريعاً، والملسى أيضاً: ضرب من عدو الإبل، والعهدة: العيب، والعهدة: الدرك، فمعنى المثل: ذو الاملاس والتخلي عن الشر وأهله لا يلحقه عيب ولا درك. لمبياينته لذلك وانتزاحه منه. والملسى أيضاً: بيعة إلى أجل، فيكون المعنى على هذا: البائع إلى أجل على ما ينبغي لا درك عليه؛ ثم ضرب مثلاً. وذكره أبو عبيد أيضاً في باب الغيبة التي لا يرجى لها إياب: الملسى لا عهدة له. أي إذا انقضى الشأن فلا عليك ولا لك. وقال أبو العباس المبرد: وبيع الملسى هو بيع لا توقف فيه، وإنما هذا كالمثل أي ليست فيه عقدة تحبسه ومنه قولهم رمان إمليسي، إذا لم يكن فيه عجم، فكأنه لا تعقد فيه. 133 -؟ باب التحذير من الأمر يخاف منه العطب قال أبو عبيد: من أمثالهم في التحذير من الأمرين يخافان " الليل وأهضام الوادي " وأصله أن يسير الرجل ليلاً في بطون الأودية، فيقول: أحذر لعل هناك من لا يؤمن اغتياله (1) . ع: الاهضام من الأرض: كل مطمئن غامض، واحدها هضيم ويجمع هضيم على هضم، وهضم على أهضام (2) ، ويقال أيضاً " الليل وأهضام
الوادي "؟ بالرفع؟ على تقدير: ملجؤك الليل، والنصب خير (1) . قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في التحذير مما يخاف " إن السلامة منها ترك ما فيها ". ع: هذا من شعر لسابق البربري (2) : النفس تكلف بالدنيا وقد علمت ... أن السلامة منها ترك ما فيها والله ما قنعت نفس بما رزقت ... من المعيشة إلا سوف يكفيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها قس بالتجارب أحداث الزمان كما ... تقيس نعلاً بنعل حين تحذوها والله ما غبرت في الأرض ناظرة ... إلا ومر الليالي سوف يفنيها قال أبو عبيد: والحطيئة هو القائل عند موته " ويل للشعر من الرواة السوء ". ع: حدث أبو غسان، دماذ (3) ، عن أبي عبيدة قال: لما حضرت الحطيئة الوفاة، اجتمع إليه قومه، فقالوا: يا أبا مليكة أوص. فقال: " ويل للشعر من الرواة السوء " قالوا: أوص يرحمك الله، قال: من الذي يقول (4) :
إذا أنبض الرامون عنها ترنمت ... ترنم ثكلى أوجعتها الجنائز قالوا: الشماخ، قال: أبلغوا غطفان أنه أشعر العرب. قالوا: ويحك، أهذه وصية؟ قال: أبلغوا أهل ضابيء أنه شاعر حيث يقول (1) : لكل جديد لذة غير أنني ... وجدت جديد الموت غير لذيذ قالوا: اتق الله ودع عنك هذا، قال: أبلغوا الأنصار أن صاحبهم أشعر العرب حيث يقول (2) : يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل قبل: إن هذا لا يغني عنك شيئاً، فقل غير ما أنت فيه، فقال: الشعر صعب (3) وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به إلى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه قيل: يا أبا مليكة ألك حاجة؟ قال: لا والله، ولكن أجزع على المديح الجيد يمدح به من ليس له أهلاً. قالوا: فمن أشعر الناس؟ فأومأ بيده إلى فيه، وقال: هذا الجحير إذا طمع، قيل له: قل لا إله إلا الله، فقال (4) : قالت وفيها حيدة وذعر ... عوذ بربي منكم وحجر قيل له: فما تقول في عبيدك، قال: هم عبيد قن (5) ما عاقب الليل النهار، قيل: فأوص للفقراء بشيء، قال: أوصيهم بالإلحاف في المسالة فإنها تجارة لا
تبور، واست المسؤول أيضق. قيل: فما تقول في مالك؟ قال: للأنثى من ولدي مثل حظ الذكر. قالوا: ليس هكذا قضى الله. قال: لكني هكذا قضيت. قالوا: فماذا (1) توصي لليتامي؟ قال: كلوا أموالهم ونيكوا أمهاتهم. قالوا: فهل لك شيء تعهد فيه غير هذا؟ قال: نعم، تحملوني على أتان وتتركوني راكبها حتى أموت فإن الكريم لا يموت على فراشه، والأتان مركب لم يمت عليه كريم قط. فحملوه على أتان وجعلوا يذهبون به ويجيئون حتى مات وهو يقول: لا أحد ألأم من حطيئه ... هجا بنيه وهجا المريئه من لؤمه مات على فريئه ... قال أبو عبيد: من التحذير قولهم " قد أعذر من أنذر ". ع: قال الفراء: أعذر: بلغ أقصى العذر، يقول: من أنذرك فقد بلغ أقصى العذر، قال الطائي (2) : على أهل عذراء السلام مضاعفاً ... (3) من الله ولتسق الغمام الكنهورا ولاقى به حجر من الله رحمة ... فقد كان أرضى الله حجر وأعذرا (4) ويقال: عذر فهو معذر إذا اعتذر ولم يأت بعذر. وكان ابن عباس يقرأ {وجاء المعذرون} (التوبة: 90) ، ويقول: لعن الله المعذرينن وفي المعذرين
وجهان إذا كان من عذر فهم لا عذر لهم، وإذا كان أصله المعتذرون فألقيت فتحة التاء على العين وأبدل منها ذال وأدغمت في الذال التي بعدها، فلهم عذر. قال الفراء: قد اعتذر الرجل إذا أتى بعذر، وقد اعتذر إذا لم يأت بعذر، قال الله سبحانه: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} (التوبة: 94) ، ثم بين تعالى أنه لا عذر لهم فقال {قل لا تعتذروا} (التوبة: 94) . وقال لبيد (1) : فقوما فقولا بالذي قد علمتما ... ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر إلى الحول ثم اسم (2) السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر أي أتى بعذر. 134 -؟ باب الأمر بحسن التدبير قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: " وجه الحجر وجهةً ما له " ويقال: وجهة؟ بالرفع؟ وتكون " ما " مبهمة في تأويل الصفة. وفي كتاب المعاني
للفراء (1) قال: سمعتهم يقولون وجه جهة ما له، ووجه ما له، ومعناه وجه الحجر فله جهة. يقول: إذا رأيت الحجر في البناء لم يقع موقعه، فأدره، فإنه سيقع على جهته. قال: ولو نصبوا على قولك: وجه جهة، كان صواباً. قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم: " أجر الأمور على أذلالها "، يقول: على وجوهها واستقامتها. ع: قال بعض العلماء: الأذلال جمع لا واحد له، وقال أبو بكر: الذل وجمعه أذلال، من قولهم: إن أمور الله تعالى تجري على أذلالها، أي على مسالكها. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم قولهم: " السعيد من وعظ بغيره "، قال: وهذا يروى عن عبد الله بن مسعود. ع: تمام المثل " والشقي من وعظ بنفسه "، وقال الشاعر (2) : إن السعيد له في غيره عظة ... وفي التجارب تحكيم ومعتبر قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا " ول حاترها من تولى قارها " وهذا المثل يروى عن عمر بن الخطاب أنه قاله لعتبة بن غزوان أو لأبي مسعود الأنصاري. ع: روى ابن وهب عن أشهل بن حاتم عن ابن عون قال قال عمر رضي الله
عنه لأبي مسعود عقبة بن عمرو: ألم أنبأ أنك تفتي الناس، ول حارها من تولى قارها. وهذا المثل قد قاله الحسن بن علي لأبيه. وذلك أن الوليد بن عقبة لما شهد عليه عند عثمان، حمران ورجل آخر، بشرب الخمر وصلاته بالناس سكران، وهو أمير الكوفة، عزله واستحضره وأمر علياً بحده، فقال علي للحسن ابنه: تول ذلك منه غضباً لله وانتهاك محارمه، فقال له ابنه: ول حارها من تولى قارها، فأمسك، فقال علي لعبد الله بن جعفر: أقم عليه الحد، فأخذ السوط وجلده، وعلي يعد، حتى بلغ أربعين، فقال: حسبك، جلد النبي عليه السلام أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة. قال الخطابي: معنى ول حارها من تولى قارها: ول العقوبة والضرب من تولى العمل والنفع. قال أبو عبيد: وفي بعض الآثار " الرفق يمن، والخرق شؤم ". ع: قال النابغة الذبياني، فجمع ثلاثة مثال في بيت (1) : الرفق يمن والأناة سعادة ... فاستأن في رفق تلاق نجاحا فقوله " الرفق يمن " مثل، و " الأناة سعادة " مثل ثان، وقوله: " فاستأن في رفق " مثل ثالث، وتمم المعنى وحسنه بقول: تلاق نجاحاً، وكذلك قول زهير (2) : وفي الحلم إدهان في العفو دربة ... وفي الصدق منجاة من الشر فاصدق (3)
فهذه ثلاثة أمثال في بيت، وتمم المعنى بقوله " من الشر فاصدق " ووفى به وزن البيت، وأوقع القافية أحسن موقع. وكذلك قول صالح بن عبد القدوس (1) : كل آت لابد آت وذو الجهل معنى بالغم، والحزن فضل ... ولا يعلم بيت جمع ثلاثة أمثال إلا هذه الثلاثة الأبيات (2) . قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في التحذير: " رب أكلة تمنع أكلات " ع: قال ابن هرمة فأحسن: وكم من طالب يسعى لأمر ... وفيه هلاكه لو كان يدري وربت أكلة منعت أخاها ... بلذة ساعة أكلات دهر 135؟ باب الأخذ في الأمر بالمشورة والنظر قال أبو عبيد: يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " الرجال ثلاثة: رجل ذو عقل ورأي، ورجل إذا حزبه أمر أتى ذا رأي فاستشاره. ورجل حائر (3) بائر لا يأتمر رشداً ولا يطيع مرشداً "
ع: ذكر أن ملك الروم بعث إلى معاوية يسأله عن هذه المسائل: يسأله عن رجل سار به قبره، وعن رجل لا قبلة له، وعن خمسة أكلوا في الدنيا وحيوا لم يخلق واخد منهم في رحم، وعن شيء ونصف شيء ولا شيء. وبعث بوفد يسمعون الجواب عنها، فاستنظرهم معاوية وبعث إلى ابن عباس يسأله عنها، فقال ابن عباس: أما من سار به قبره فيونس حين التقمه الحوت، وأما من لا قبلة له فمن صعد فوق الكعبة فلا قبلة له حتى ينزل، وأما الخمسة الأنفس الذين أكلوا في الدنيا وعاشوا لم يخلق واحد منهم في رحم فآدم وحواء وكبش إبراهيم أخرجه الله عز وجل من الجنة، وناقة ثمود أخرجها الله من صخرة صماء، وعصا موسى ألقاها من يده فانقلبت (1) حية تسعى، والتقمت ما ألقى السحرة. وأما الشيء فالرجل العاقل العالم ترد عليه الأمور فيدبرها بعقله ويمضيها بعلمه. وأما نصف الشيء فالرجل الممضي لما علم المتثبت فيما جهل ترد عليه أمور يعجز عنها علمه ويقصر فهمه فيلجأ إلى ذوي العقول فيستشيرهم فلا تنتشر قواه ولا يتبع هواه. وأما لا شيء فالرجل الذي لا علم له ولا عقل، ترد عليه الأمور فيتبع فيها هواه، فيحل به رداه، فلا تلقاه إلا حائراً، ولا تجده إلا بائراً. فأخبرهم معاوية بذلك فقالوا: ما خرج هذا إلا من أهل نبي، فقال معاوية: أجل، هذا من كلام ابن عم نبينا صلى الله عليه وسلم. قالوا: فأذن لنا نأته، فأذن لهم فأتوه فقال: أأنتم أصحاب السائل؟ قالوا: نعم، فقال: إن صاحبكم ذكر أنكم أفضل أهل دينكم، قالوا: إن قومنا ليقولون ذلك. قال: فقد سألتمونا فأجبناكم، فهل تجيبوننا إن سألناكم؟ قالوا: سل. قال: أخبرونا عن موضعين أحدهما سهل والآخر جبل، السهل لم تطلع عليه الشمس إلا ساعة من الدهر، والجبل رفعه الله عز وجل عن الأرض بلا عمد تمسكه، ولا سبب يحبسه. قالوا: ما لنا بذلك علم فأخبرنا. قال: السهل منفلق البحرين (2) لما فرقه الله تعالى لموسى، لم تصل إليه الشمس قط إلا تلك الساعة، والجبل هو الذي نتقه الله عز وجل فوق بني إسرائيل كأنه ظلة، قالوا: صدقت، وانصرفوا مغلوبين.
الباب الحادي عشر
الباب الحادي عشر الحوائج وما فيها من الأمثال 136 -؟ باب المثل في الأعذار في طلب الحاجة وما يحمد عليه أهله من ذلك قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم " افعل كذا وكذا وخلاك ذم " يقول: إنما عليك أن تجتهد في الطلب وتعذر لكيلا تذم، وإن لم تنقض الحاجة. ع: قال يعقوب: المعنى خلا منك الذم، أي لا تذم، فأسقط حرف الصفة وعدى الفعل، كما قال سبحانه {واختار موسى قومه سبعين رجلاً} (الأعراف: 155) أي من قومه.
137 -؟ با الجد في طلب الحاجة (وترك التفريط فيها) (1) قال أبو عبيد: من مثالهم إذا أمروا الرجل بالجد قولهم " جمع له جراميزك ". قال أبو زيد: ويقال في مثل هذا: " قرب ضرب عليه جروته " أي قد وطن عليه نفسه، قال الأصمعي وكذلك قولهم " شد له حزيمه " أي تشدد له واستعد، ومنه الحديث الذي يروى عن علي رضي الله عنه: " أشدد حيازمك للموت فإن الموت آتيك ". قال ومثله قولهم: " قرع له ساقه " يعني إذا قامت الحرب على ساقها (2) . ع: أما قولهم جمع جراميزك، فإن الجراميز: القوائم، اليدان والرجلان، ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأخذ بيده اليمني أذنه (3) اليسرى ثم يجمع جراميزه ويثب (4) كأنما خلق على ظهر فرسه. وأما قولهم: قد ضرب له جروته، فقال اللغويون: ألقى الرجل جروته إذا ربط جأشه وصبر على الأمر وجد فيه؛ وأما قولهم شد له حزيمه فإن الحزيم الصدر وهو الحيزوم أيضاً، تقول: شددت لهذا حزيمي وحيزومي ويحازيمي أي وطنت عليه نفسي. وأما ما ذكره عن علي رضي الله عنه فإنه بيت موزون، روي عنه أنه قال: حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا ولا تجزع من الموت ... إذا حل بواديكا
وقد روي أنه كان ينشده بزيادة جزء، وهو (1) : أشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا [وهذا هو الخزم] . وأما قوله: قرع له ساقه، فإن المثل المحفوظ عن العلماء " قرع للأمر ظنبوبه " إذا جد فيه ولم يعثر، والظنبوب: مقدم عظم الساق؛ قال سلامة بن جندل (2) : كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب وقيل إن الظنبوب هنا مسمار الرمح، أي أصلحت الرماح وشدت أسنتها للإغاثة، وقيل إنه أراد بالظنابيب الإبل تقرع سوقها لتبرك وتشد عليها الأكوار فيركبونها ويجنبون الخيل، ويقوي هذا قوله بعد البيت: وشد كورٍ على وجناء ناجيةٍ ... وشد سرجٍ على جرداء سرحوب (3) وقيل: إن معنى قرع الظنابيب: الازدحام، فيقرع بعض أسؤقهم بعضاً من ازدحامهم وتتابعهم للإغاثة، كما قال أبو الطيب (4) : يدمي بعض أيدي الخيل بعضاً ... (5) وما بعجايةٍ أثر ارتهاش يعني من ازدحامهم. قال أبو عبيد: ويقولون " اتخذ الليل جملاً " قالوا: ولهذا قالوا
" عند الصباح يحمد القوم السرى ". ع: ذكر أبو عبيد أن هذا المثل للأغلب العجلي، وقال محمد بن حبيب وغيره من علماء البصريين: إن أول من قال ذلك خالد بن الوليد لما بعث إليه أبو بكر رحمه الله وهو باليمامة أن صر (1) إلى العراق فأراد سلوك المفازة، فقال له رافع بن عمير الطائي: قد سلكتها في الجاهلية، وهي خمس للإبل الواردة، وما أظنك تقدر عليها، إلا أن تحمل الماء، فتحمل الماء واشترى مائة شارف (2) فعطشها ثم سقاها الماء حتى رويت ثم كعم أفواهها لئلا ترعى، ثم سلك المفازة، حتى إذا مضى يومان وخاف العطش على الناس والخيل نحرها وسقى الإبل والخيل فظوظها (3) ، فلما كان في الليلة الرابعة قال رافع: انظروا هل ترون سدراً عظاماً، فإن رأيتموها وإلا فهو الهلاك، فنظر الناس فرأوا السدر، فكبر وكبر الناس معه، ثم تجمعوا (4) على الماء، فقال خالد (5) : لله در رافع أنى اهتدى ... فوز من قراقر إلى سوى خمساً إذا صار بها الجيش (6) بكى ... ما سارها من قبله إنس يرى " ند الصباح يحمد القوم السرى ... (7) وتنجلي عنهم غيايات الكرى "
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم " خذ كذا وكذا ولو بقرطي مارية " وهي أم ولد جفنة. ع: [قال أبو عبيدة: هي مارية بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة] وقال ابن الكلبي: هي مارية بنت ظالم وهي أم ملك غسان الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن عمرو بن عدي بن حجر، وهو الذي يقول فيه النابغة (1) : والحارث الأعرج خير الأنام ... وإياها عنى حسان بقوله (2) : أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل 138؟ باب التأني في طلب الحاجة (وترك الخرق فيها) (3) قال أبو عبيد: من أمثالهم في ذلك " رب عجلة تهب ريثاً " يضرب للرجل يشتد حرصه على حاجته ويخرق فيها حتى تذهب كلها. ع: أول من نطق بها المثل مالك بن عوف بن أبي عمرو بن عوف بن محلم الشيباني، وكان سنان بن مالك بن أبي عمرو بن عوف بن محلم شام غيثاً، فأراد أن يرحل بامرأته خماعة (4) بنت عوف بن أبي عمرو. وقال ابن السكيت في
الأمثال: إن ليث بن عمرو بن عوف بن محلم تزوج ابنة عمه خماعة بنت عوف، فأراد أن يرحل بها، فقال له مالك بن عوف بن محلم: أين تظعن بأختي؟ قال: أطلب موقع هذه السحابة، قال: لا تفعل فإنه ربما خليت ولم تمطر، وأنا أخف عليك بعض مقانب العرب (1) ، قال: لكني لست أخاف ذلك، فمضى وعرض له مروان القرظ بن زنباع بن جذيمة، فأخذ خماعة وانطلق بها وجعلها بين بناته وأخواته، ولم يكشف لها ستراً، فقال مالك بن عوف لليث: ما فعلت أختي؟ قال: نفتني عنه الرماح، قال مالك: " رب عجلة تهب ريثاً، ورب فروقة يدعى (2) ليثاً، ورب غيث لم يكن غيثاً " فذهبت كلماته أمثالاً. ثم إن مروان بعث بها إلى أبيها عوف بن محلم (3) ، وأتى على ذلك ما شاء أن يأتي، ثم إن مروان أغار على بكر بن وائل فأسره زهير بن أمية بن جشم من بني تيم الله بن ثعلبة، فلما أتى به أهله، قالت له امرأته: لكأنما جئت بمروان القرظ. فقال لها مروان: وما تريدين منه؟ قالت: أريد منه مائة من الإبل. قال: لك مائة من الإبل على أن تذهبي بي إلى خماعة بنت عوف، فقالت: ومن لي بالإبل؟ فأخذ عوداً فرهنه إياها على مائة من الإبل وأتت به خماعة فأرسلت إلى أبيها، فأعلمته بمكان مروان عندها، وضمته إلى صدرها، وكان المنذر يطلبه بذحل، فبلغه أن زهير بن أمية أسره، فأرسل إليه فيه، فلم يجده عنده، وأخبروه بمكانه فأرسل المنذر فيه إلى عوف فأبى عوف أن يدفعه إليه حتى أمنه المنذر، فجاء به عوف حتى وضع يده في يد المنذر، وبينهما يد عوف، فقال المنذر " لا حر بوادي عوف "، فأرسلها مثلاً. وأخطأ أبو عبيد في سياقة خبر هذا المثل وهو قولهم " لا حر بوادي عوف " وقد تقدم ذكر ذلك (4) .
قال أبو عبيد: وروي في الحديث " إذا أراد أحدكم أمراص فعليه بالتؤدة ". ع: التؤدة: الرفق، واصله من وأدت الشيء إذا أثقلته، والتاء بدل من واو، مثل تكأة ونظائرها. قال أبو عبيد: ومنه قولهم: " ضح رويداً " أي لا تعجل في الأمر. ع: يقال: ضحيت الإبل إذا أخذت في رعيها من أول النهار، ويقال للراعي ضحها: أي ارعها في الضحى، وهو أول النهار عند الشروق، فيراد بهذا المثل التمهل في الأمر والتؤدة، كما يؤمر الراعي أن يضحي إبله رويداً مترفقاً. قال أبو عبيد: ومنه قول زيد الخيل (1) : فلو أن نصراً أصلحت ذات بينها ... لضحت رويداً عن مطالبها عمرو قال: وهما حيان من بني أسد: نصر وعمرو ابنا قعين. ع: وبعد البيت: ولكن نصراً (2) أدهنت وتخاذلت ... وكانت قديماً من خلائفها الغفر (3) أي النكس، هكذا أنشده ابن الأعرابي وفسره. وسبب الشعر أن مكنف بن
زيد الخيل كانت قد أسرته بنو أسد، فأجاره لزيدٍ أبو شريح بن أوفى بن الأغر النصري فاستبطأه زيد فقال الشعر، وهي أبيات. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في التأني قولهم " الرشف أنقع " يعني (1) أن الشراب الذي يرتشف رويداً أقطع للعطش وأجع وإن كان فيه بطء، قال: وقال الصمعي: قولهم أنقع يعني أروى، يقال: شرب حتى نقع، ونقعته أنا أيضاً أي أرويته، وأنشد للجعدي: فقلت له انقع لي صداي بشربةٍ ... تدارك بها منا علي وأفضل ع: هكذا في النسخ، وهو خطأ والشعر قافيته ميم، وصواب إنشاده (2) : فقلت له انقع لي صداي بشربةٍ ... تدارك بها منا علي وأنعم فقال تجاوزت الأحص وماءه ... وبطن شبيث وهو ذو مترسم قال أبو عبيد: ومنه قولهم " رويد الغزو يتمرق (3) " وهو مثل امرأة كانت تغزو، فحبلت، فذكر لها الغزو فقالت هذه المقالة، أي انتظر الولادة. ع: يقال: مرق السهم إذا خرج، ورده ابن السراج " يتمزق "؟ بالزاي؟ وبالراء أصح من قولهم مرق السهم إذا خرج.
وقال محمد بن حبيب: كانت امرأة من طيء يقال لها رقاش كاهنة تغزو ويتيمنون برأيها، فأغارت طيء على إياد بن نزار بن معد فظفرت بهم وغنمت وسبت، فكان فيمن أصيب من إياد فتى شاب جميل، فاتخذته رقاش خادماً، فأعجبها فدعته إلى نفسها، فوقع عليها فحملت، فأتيت في إبان الغزو لتغزو بهم، فقالت: " رويد الغزو يتمرق "؟ فذهبت مثلاً -. ثم جاءوا لعادتهم فوجدوها نفساء قد ولدت (1) غلاماً، فقال بعض شعراء طيء (2) : نبئت أن رقاش بعد شماسها ... (3) حبلت وقد ولدت غلاماً أطحلا فالله (4) يحظيها ويرفع بضعها ... (5) والله يلقحها كشافاص مقبلا كانت رقاش تقود جيشاً جحفلا ... فصبت وحق لمن صبا أن يحبلا وقول أبي عبيد: رقاش الكنانية، وهم أو تصحيف، أراد الكاهنة وإنما هي طائية. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم " إن الليل طويل وأنت مقمر " وذكر خبره عن المفضل (6) ، وأنه لسليك بن السلكة إلى قوله: الليل طويل. ع: وحذف باقي الخبر: فأخرج السليك يده فضمه إليه ضمة أضرطته فقال " أضرطاً وأنت الأعلى "؟ فأرسلها مثلاً. ثم قال له السليك: من أنت؟
قال: رجل افتقرتن فخرجت أطلب الرزق. قال: انطلق معي، فلقيا ثالثاً في مثل حالهما. فاصطحبوا حتى أتوا جوف مراد، فرأوا نعماً ملء الأرض، فهابوا أن يغيروا فيلحقهم الطلب، فقال سليك: كونا قريباص حتى آتي الرعاء، فأعلم لكما علم الحي، وألحن لكما به، ثم أتى الرعاء فلم يزل يتسقطهم حتى أخبروه ببعد الحي عنهم، فقال لهم سليك: ألا أغنيكم؟ قالوا: بلى. فتغنى ورفع صوته (1) : يا صاحبي ألا لا حي بالوادي ... (2) إلا عبيد وآم بين أذواد أتنظران قليلاً ريث غفلتهم ... أم تغدوان فإن الربح للغادي فلما سمعا ذلك أتياه، فاطردوا الإبل، فذهبوا بها. 139 -؟ باب مطلب الحاجة المتعذرة قال أبو عبيد: من أمثالهم، إذا طلب الرجل من صاحبه حاجة عسيرة " تسألني برامتين سلجما " واصله أن امرأة تشهت هناك على زوجها السلجم (3) وهي ببلاد السباسب المقفرة فعندها قال هذا. ع: قال أبو حنيفة: هو الشلجم، بالشين معجمة، عرب فقيل: سلجم، قال الراجز (4) : تسألني برامتين سلجما ... يا مي لو سألت شيئاً أمما
جاء به الكري (1) أو تجشما ... وقال الأصمعي (2) : قيل لرجل من أهل رامة: إن أرضكم هذه لطيبة (3) فلو زرعتموها، قال: قد زرعناها سلجماً، قال: فما حداكم (4) على ذلك؟ قال: معاندة لقول القائل " تسألني برامتين سلجماً " والسلجم هو البوسار (5) بالفراسية. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في نحوه " شر ما رام امرؤ ما لم ينل " ع: هذا مقلوب من قول امرئ القيس (6) : وخير ما رمت ما ينال ... وقال عمر بن معد يكرب (7) : إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع وقال القطامي في نحوه (8) : وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا
قال أبو عبيد: ومنه المثل السائر (في العامة) (1) : " من سأل صاحبه فوق طاقته فقد استوجب الحرمان " ع: المثل المنظوم في هذا المعنى قول الشاعر: أنك إن كلفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرك مني من خلق 140؟ باب قناعة الرجل ببعض حاجته قال أبو عبيد: قال أبو زيد: ومثله قولهم: " قد تبلغ القطوف الوساع " وكذلك قولهم: " قد يبلغ الخضم القضم ". ع: القطوف: من الدواب المتقارب الخطو، والوساع: الواسع الخطو، ولذلك قالوا في المثل: " لألحقن قطوفها بالمعناق "؟ وقد تقدم ذكر ذلك. وأما قولهم: قد يبلغ الخضم القضم، فإن الخضم: أكل الرطب، والقضم: أكل اليابس، خضمت الدابة الرطب تخضم، وقضمت الشعير تقضم، وقيل: القضم بمقدم الأسنان، والخضم بجميعها، ومن حديث أبي ذر رحمه الله: نرعى الخطائط، ونرد المطائط (2) ، ونأكل قضماً، وتأكلون خضماً، والموعد الله. قال أبو عبيد: [من أمثالهم] " الثيب عجالة الراكب "
ع: هذا حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الثيب عجالة الراكب تمر أو سويق (1) ، والعجالة ما يتعجله الراكب مما لا يتعب آكله نحو التمر والسويق وشبههما. قال أبو عبيد: وكان الكسائي يحكي عنهم " خذ ما طف لك واستطف لك " أي ارض بما أمكنك منه. ع: ليس طف من أمكن، إنما معنى طف وأطف واستطف، دنا وقرب، يقال: ما يطف له شيء إلا أخذه، قال علقمة (2) : وما استطف من التنوم مخذوم ... ويقال: خذ ما طف لك واستطف أي ما دنا، ويقال: أخذت من متاعي ما خف وأطف، وكل شيء أدنيته من شيء فقد أطففته منه، قال عدي بن زيد (3) : أطف لأنفه الموسى قصير ... وكان بأنفه حجناً ضنينا قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم " خذ من جذع ما أعطاك " ع: قد أتى أبو عبيد بخبره كاملاً في باب الاغتنام لأخذ الشيء من البخيل وإن كان نزراً.
141 -؟ باب النيقة في الحاجة واحتمال التعب فيها قال أبو عبيد: قال الأصمعي في هذا " الحسن أحمر " إنما يعني أنه من أراد الحسن والجمال: صبر على أذاه (ومشقته) (1) في الحمل على البدن والمال وذلك لقولهم (2) : الموت أحمر. ومنه قول علي رضي الله عنه: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن أحد أقرب إلى العدو منه. ع: ذهب أبو عبيد في تفسيره إلى الشدة وهو قول الأصمعي، وذهب غيره إلى أن الحسن في الحمرة من الألوان، وأنشد (3) : وإذا خرجت تقنعي ... بالحمر إن الحسن أحمر وخذي (4) ملابس زينةٍ ... (5) ومصبغات فهي أشهر وهذا هو الذي اختاره أبو محمد ابن قتيبة، قال: وقال المفسرون في قوله سبحانه {فخرج على قومه في زينته} (القصص: 79) أي أنه خرج في ثياب حمر. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في شدة الحرص " جاء تضب لثته ولثاته على كذا وكذا "، ومنه قول بشر بن أبي خازم: خيل تضب لثاتها للمغنم ...
ع: تضب لثته: أي يتحلب ريقها طمعاً، قال الشاعر (1) : أبينا أبينا أن تضب لثاتكم ... على خردٍ مثل الظباء وجامل وتمام بيت بشر (2) : وبني تميم قد لقينا منهم ... خيلاً تضب لثاتها للمغنم والضب والبض متقاربان، واحتاجت امرأة إلى اللبن وحيها خلوف وكانت نساء العرب تعاب بالحلب، فجعلت يد طفلها على الضرع، وحلبت فوق يده، وقالت: يحلب ابني وأضب على يده (3) . قال الشاعر في هجو النساء بالحلب (4) : كم عمةٍ لك يا جرير وخالةٍ ... فدعاء قد حلبت علي عشاري (5) 142؟ باب إتمام قضاء الحاجة والحث على ذلك قال أبو عبيد: إذا أرادوا إتمام قضاء الحاجة وقد قضيت إلا أقلها قالوا: " أتبع الفرس لجامها "؟ وذكر خبره -. ع: العرب تقول في هذا " أتبع الفرس لجامها والناقة زمامها "
وقالوا في مثل ذلك: " أتبع الدلو رشاءها "، قال قيس بن الخطيم (1) : إذا ما شربت أربعاً حط مئزري ... وأتبعت دلوي في السماح رشاءها (2) متى يأت هذا الموت لا يلف حاجةً ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها 143؟ باب تعجيل الحاجة وسرعة قضائها قال أبو عبيد: من أمثالهم في ذلك قولهم " النفس مولعة بحب العاجل " وهذا المثل لجرير بن الخطفي في شعر له (3) : ع: هو قوله: إني لأرجو منك خيراً عاجلاً ... والنفس مولعة بحب العاجل وكتب رجل إلى أبي عبد الله معاوية بن عبد الله (4) وزير المهدي يستنجزه في وعد تقدم له، ونزع بهذا البيت، فوقع في كتابه: " لكن العقل موكل بحب الآجل، مستصغر لكل كبير زائل " وهذه بلاغة وإصابة، وكان أبو عبد الله من البلغاء، ومن حكمة كلامه قوله: العالم يمشي البراز (5) آمناً، والجاهل يخبط الغيطان كامناً، وقوله: لا يكسد رأس صناعة إلا في أرذل زمان وأخس سلطان. وهو القائل: الصبر على حقوق الثروة، أشد من الصبر على ألم الحاجة (6) .
144 - باب إدراك الحاجة بلا تعب ولا مشقة قال أبو عبيد: قال الأصمعي، من أمثالهم في هذا " أوردها سعد وسعد مشتمل ". يعني أورد إبله شريعة الماء ولم يوردها على بئر يحتاج فيه إلى الاستقاء لها فيتعنى فيها، ولكنه اشتمل بكسائه ونام وإبله في الورد. ع: ليس هذا معنى المثل وخبره، وما بعد الشطر الذي ساقه يدل على خلافه وأنه يضرب للمقصر. قال غير واحد من الرواة: إن مالك بن زيد مناة بن ميم كان آبل أهل زمانه، ثم أنه تزوج ودخل بامرأته، فأورد الإبل أخوه سعد، ولم يحسن القيام عليها ولا الرفق بها، فقال مالك: أوردها سعد وسعد مشتمل ... يا سعد ما تروى بهذاك الإبل ويروى: " ما هكذا تورد يا سعد الإبل " فقال سعد مجيباً له (1) : تظل يوم وردها نزعفرا ... وهي خناطيل تجوس الخضرا وأنشد أبو علي: لو أن سعدا أورد الماء سدى ... بغير دلوٍ ورشاء لاستقى وقد أورده أبو عبيد على صحته في شرح حديث علي فقال: وأصله أن رجلاً أورد إبله ماء لا يصل إليه بالاستقاء، ثم اشتمل ونام وتركها لم يستق لها، فهذا
الفعل لا تروى به الإبل حتى يستقى لها، ضربه علي مثلاً لبعض قضايا شريح. قال أبو عبيد: ومن تسهيل الحاجة قولهم " هذا على طرف الثمام " قال أبو عبيد: وذلك أن الثمام لا يطول فيشق على المتناول. ع: قال أبو بكر: ويقال " ذلك على طرف الثمة "؟ بضم الثاء وتشديد اميم؟ يضرب مثلاً للنجاح، والثمة القبضة بالأصابع من الحشيش والثمام. قال أبو عبيد: (1) ومنه قولهم " كلا جانبي هرشى لهن طريق " يضرب إذا سهل الأمر من وجهين. ع: قال الشاعر في [مثل] هذا المثل (2) : خذوا وجه هرشى أو قفاها فإنه ... (3) كلا جانبي هرشى لهن طريق 145؟ باب الحاجة يسألها الرجل فيمنعها فيسأل غيرها قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم: " إلا دهٍ، فلا ده "
ع: قد ذكر أبو عبيد ما قال فيه أبو عبيدة وابن الكلبي والأصمعي (1) ، وأن الأصمعي قال: لا أدري ما أصله. وذكر أبو الحسن أنه دهى يدهى إذا غشي فهو ده مثل حذر، لأن أصل دهى دهي ففتحوا حرف الحلق. قال: فمعنى المثل إن لم يكن هذا الأمر غشي فلا يغشى. وهذا التفسير في معنى تفسير الأصمعي، لأن الأصمعي قال: معناه إن لم يكن هذا الأمر الآن فلا يكون بعد الآن (2) ، وأنشد أبو عبيد لرؤبة: " وقول إلا ده فلا ده " ... وقبل هذا الشطر (3) : فاليوم قد نهنهني تنهنهي ... وأول حلم ليس بالمسفه وقول إلا ده فلا ده ... أول حلم: أي رجوع حلم، وقوله إلا ده فلا ده: أي يقلن إلا يفلح الآن فليس يفلح بعده. وحكى الحربي (4) عن عمرو عن أبيه في قولهم " إلا ده فلا ده " قال: معناه ألا تفعلوه الآن لا تفعلوه أبداً: قال أبو عبيدة وقد أنشد شطر رؤبة (5) : يقول إن لم تترك هذا اليوم فلا تتركه أبداً، وإن لم يكن ذاك الآن لم يكن أبداً (6) .
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا قولهم " لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا " أي أنه لا يدع حاجة إلا سأل أخرى، وأصل هذا في الحرباء يشتد عليه حمي الشمس فيلجأ إلى شجرة يستظل بساقها، فإذا زالت عنه تحول إلى أخرى. ع: هذا المثل عجز بيت لكعب بن زهير، قال (1) : أنى أتيح له حرباء تنضبةٍ ... لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا (2) والحرباء دويبة كالعظاءة، وهو ذكر أم حبين، في صدره استرخاء وقرب من الأرض. وإذا حميت الأرض بالشمس خاف على صدره أن تحرفه الأرض للزوقه بها، فصعد على عود شجرة، فالتزمها بيديه وجعلها بينه وبين الشمس، ودار كلما دارت الشمس، قال ذو الرمة (3) : يصلي (4) بها الحرباء للشمس ماثلاً ... على الجذل إلا أنه لا يكبر إذا حول الظل العشي رأيته ... حنيفاص وفي قرن الضحى ينتصر قال أبو عبيد: ومن أمثالهم " اسق أخاك النمري " وهذا المثل لكعب ابن مامة (5) ، وذلك أنه سافر سفراً في حمازة القيظ فأعوزهم الماء إلا يسيراً يقتسمونه بالحصاة، وذكر الخبر إلى آخره.
ع: هذه الحصاة التي يقسم بها الماء تسمى " المقلة " وإن كانت من ذهب أو نحوه فهي " البلدة ". وقال الشاعر في شأن كعب (1) : ما كان من سوقةٍ أسقى على ظمأ ... (2) خمراً بماءٍ إذا ناجودها بردا من ابن مامة كعب يوم عي به ... (3) زر المنية إلا حرةً وقدى أوفى على الماء كعب ثم قيل له ... رد كعب إنك وراد، فما وردا وقدى على زنة فعلى من التوقد، ويقال: فلان زر فلان إذا لزق به، والشعر لأبي دواد الإيادي. 146؟ - باب الحاجة تطلب فيحول دونها حائل قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " سد ابن بيضٍ (4) الطريق "، وذكر خبره (5) . ع: ذكر غير أبي عبيد (6) أن ابن بيض لما حضرته الوفاة قال لابنه: لا تقارب لقمان في أرضه، فسر بأهلك ومالك حتى إذا كنت بثنية كذا فاقطعها بأهلك ومالك، وضع فيها للقمان حقه فإن له عندنا في كل عام حلة وجارية
وراحلة، فإن هو قبله فهو حقه، عرفناه له، فجارته وخفارته، وإن هو لم يقبله وبغى، أدركه الله تعالى بنقمته، ففعل الفتى ما أمره به أبوه، فأتى لقمان الثنية فأخذ حقه وانصرف وقال: " سد ابن بيض الطريق ". وقال عمرو بن الأسود (1) الطهوي في ذلك (2) : سددنا كما سد ابن بيض سبيلها ... فلم يجدو عند الثنية مطلعا وقال عوف بن الأحوص (3) : سددنا كما سد ابن بيضٍ فلم يكن ... سواها لذي أحلام ثقومي مذهب وقال المخبل السعدي (4) : لقد سد السبيل أبو حميدٍ ... (5) كما سد المخاطبة ابن بيض فإن تمنع سهول الأرض مني ... (6) فإني سالك سبل العروض وقاتل بشامة بن الغدير (7) :
فإنكم وعطاء الرهان ... إذ جرت الحرب خطباً جليلاً كثوب ابن بيض وقاهم به ... فسد على السالكين السبيلا أراد أنه وضع الاتاوة التي كانت عليه في ثوب، ووضعه على طريق لقمان، فأخذه لقمان وانصرف. قال أبو عبيد: من أمثالهم في الحاجة يعوق دونها عائق " أخلف رويعياً مظنه (1) " ع: المظن والمظنة: المعلم الذي كان يعلمه وهذا من الظن الذي هو اليقين لأن الظن من الأضداد، يكون الشك ويكون اليقين. قال دريد بن الصمة (2) : فقلت لهم ظنوا بألفي مدججٍ ... سراتهم في الفارسي (3) المسرد (4) أي أيقنوا. 147 - باب اليأس من الحاجة والرجوع عنها قال أبو عبيد: من أمثالهم في ذلك: " أسائر اليوم وقد زال الظهر " يقول: أتطمع فيما بعد وقد بان لك اليأس.
ع: هكذا أورد أبو عبيد هذا المثل على أنه لفظ منثور وإنما أحفظه شطرين موزونين، قال: أسائر اليوم وقد زال الظهر ... دونك فاربع إن ذا سير نكر والظهر: جمع ظهير، وهو ما قوي واشتد ظهره من الدواب. قال أبو عبيد: ومن أمثال العوام في هذا " رجع فلان من حاجته بخفي حنين "؟ وذكر خبره عن بعض العلماء -. ع: اختلف العلماء في هذا الخبر، فقال أبو اليقظان (1) : كان حنين رجلاً قد ادعى في قريش وانتمى إلى أسد بن هاشم، فجاء إلى عبد المطلب وعليه خفان أحمران وقال: يا عم، أنا ابن أخيك أسد بن هاشم، فقال عبد المطلب: لا وثياب هاشم، ما أعرف فيك شمائل هاشم، فرجع عنه خائباً إلى قومه، فقالوا: رجع حنين بخفيه، أي رجع لم يقبل فيلبس خف أبيه. وقال الشرقي بن قطامي أو غيره: هو حنين العبادي من أهل دومة الكوفة المغني المشهور وهو الذي يقول: أنا حنين وداري النجف ... وما نديمي إلا الفتى القصف وكان من قصته أن دعاه قوم من أهل الكوفة إلى الصحراء ليغنيهم فمضى، فلما سكر سلبوه ثيابه وتركوه عرياناً في خفيه. فلما رجع إلى أهله وأبصروه بتلك الحال قالوا: جاء حنين بخفيه، ثم قالوا: " أخيب من حنين " فصار مثلاً لكل خائب. وقالوا أيضاً: " أخلف من خفي حنين "؛ وقال الشاعر (2) :
؟؟؟؟؟ وما زلت أقطع عرض البلاد ... من المشرقين إلى المغربين وأدرع الخوف تحت الرجا ... وأستصحب الجدي والفرقدين وأطوي وأنشر ثوب الهموم ... إلى أن رجعت بخفي حنين وقال كراع في المنضد (1) : ليس في الكلام صفة على مثال إفعال (بكسر الهزة) إلا رجل إسكاف وماء إسكاب وسمن إذواب؛ [يقال: إن حنيناً كان إسكافاً] (2) . 148 -؟ باب طلب الحاجة من غير موضعها قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا قولهم " لم أجد لشفرة محزا " (3) أي ليس لي متقدم في طلب الحاجة؛ قال أبو عبيدة: وفي مثل هذا " كدمت غير مكدم " ونحو هذا قولهم: " قد نفحت لو تنفح في فحم " وهذا المثل للأغلب في شعر له (4) . ع: قوله " لم أجد لشفرة محزأ " يعني موضع حز، أي يمضي فيه حزه بها هو القطع، من ذلك قولهم " فلان يقل الحز ويصيب المفصل "، وقال أبو الطيب في معنى هذا المثل فأجاد (5) :
وقد يكهم السيف المسمى منية ... وقد يرجع المرء المظفر خائبا (1) فآقة ذا أن لا يصادف مضرباً ... وآفة ذا أن لا يصادف ضاربا وأما قوله " كدمت غير مكدم " فإن الكدم العض بالفم كله، يقول: عضضت في غير موضع عض، وقد يكون العاض يؤلم نفسه بما عض عليه ولا يألم المعضوض كما قال الأعشى (2) : كناطح صخرة يوماً ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل ومن هذا قولهم " عهو يعض عليه الأرم " في تفسير من قال: الأرم الحصى. وقال الأعشى أيضاً في مثله (3) : فعص حديد الأرض إذ كنت ساخطاً ... (4) بفيك وأحجار الكلاب الرواهصا وأما قوله " مفخت لو نفخ في فحم "، وهو في شعر الأغلب، فليس ما أورده شعراً ولا رجزاً، وهو شطر من رجز قاله الأغلب يوم الزويرين (5) ، وهو يوم كان لبكر على بني تميم، وأول الرجز (6) : جاؤوا بزوريهم (7) وجئنا بالأصم ... (8) شيخ قديم العهد من عهد ارم
يقول فيه: نفختم لو تنفخون في فحم ... وكانت بنو تميم أتوا ببعيرين وعقلوهما، وقالوا: هذان زويرانا لا نفر حتى يفر هذان، فهزمتهم بنو بكر وأخذوا الزويرين. وكل شيء يعقل عند الحرب من ردجل أو دابة فيقال: لا نفر حتى يفر هذا، يقال له وزير (1) . وفي اشتقاقه قولان: أحدهما أنه زار وأزار قومه الموت، والثاني أن اشتقاقه من اللزوم لموضعه، ولذلك سمي ملازم النساء ومحادثهن زيراً. وممن جعل نفسه زويراً من المشهورين: حرب بن أمية، يوم الفجار الأكبر، عقل نفسه ذلك اليوم فكان لقومه الظفر، وحضير الكاتب (2) الأوسي، عقل نفسه وجعلها زويراص يوم بعاث، وجعل الناس جمل عائشة رضي الله عنها يوم الجمل زويراً فأناخوه وهي عليه وقالوا: لا نفر حتى يفر هذا، فلم يصبر أحد في الحروب صبرهم، ورمي هودج عائشة رضي الله عنها بالسهام حتى صار كالفرخ المقضب (3) ، وكان قد حصن عليها (4) غاية التحصين. 149 -؟ باب التفريط في الحاجة وهي ممكنة ثم تطلب بعد الفوت قال أبو عبيد: من أمثالهم ف التفريط " الصيف ضيعت اللبن " قال:
وصاحبه عمرو بن عمرو بن عدس، - وذكر القصة إلى قوله " الصيف ضيعت اللبن ". ع: وتمام الحديث على ما رواه ابن الأعرابي فبعث إليها بلقوحين وراوية من لبن، فأتاها الرسول وقال: إن أبا شريح بعث إليك بهذا، ويقول لك " الصيف ضيعت اللبن " فقالت وعندها عمير وحطأت (1) بين كتفيه " هذا ومذقة خير "؟ فأرسلتها مثلاً؟ يضرب للشيء القليل المعجب الموافق للمحبة دون الكثير المبغض، هكذا أورد ابن الأعرابي تمام الخبر عن المفضل (2) ، الذي أورد أبو عبيد أوله عنه. وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فذكر أن دختنوس بنت لقيط، كانت تحت عمرو بن عمرو بن عدس، وكان شيخاً أبرص، فوضع رأسه ذات يوم في حجرها فأغفى فسال لعابه فانتبه فألفى دخنتوس تأفف، أي تقول: أف أف، فقال: أيسرك أن أفارقك؟ قالت: نعم، فطلقها فنكحت فتى ذا جمال وشباب من بني زرارة، ثم إن بكر بن وائل أغارت على بني دارم فأخذوا دخنتوس سبية وقتلوا زوجها فأدركهم الحي، فقتل عمرو بن عمرو ثلاثة منهم وكان في السرعان (3) وسل منهم دختنوس وجعلها أمامه وهو يقول: أي خليليك رأيت خيرا ... أألعظيم فيشة وأيرا أم الذي يأتي العدو سيرا ... وردها إلى أهلها فتزوجت بشاب آخر منهم وهو عمير بن معبد بن زرارة، ثم إنهم أجدبوا فبعثت دختنوس إلى عمرو خادمها وقالت لها: قولي لأبي شريح يبعث إلينا حلوبة، فقال لها عمرو " الصيف ضيعت اللبن " فذهبت مثلاً،
فقالت حين سمعت ذلك وضربت بيدها على منكب زوجها " هذا ومذقة خير "؟ فذهبت مثلاً -. وذكر أبو سليمان أن هذا المثل يروى " الصيف ضيحت اللبن "؟ بالحاء بدلاً من العين؟ من الضياح والضيج، وهو اللبن الممذوق الكثير الماء، يريد: الصيف أفسدت اللبن وحرمته نفسك. وقد ذكر أبو عبيد في الكتاب وجهين في تخصيص الصيف، وهما صحيحان. وقالت دخنتوس ترثي عمير بن معبد بن زرارة ابن عمها الذي خلف عليها بعد عمرو (1) بن عمرو بن عدس (2) : أعين ألا فابكي عمير بن معبد (3) ... وكان ضروباً باليدين وباليد تعني بالسيف والقداح (4) . 150 -؟ باب إبطاء الحاجة وتعذرها حتى يرضى صاحبها بالسلامة قال أبو عبيد: من أمثالهم المشهور: " ليت حظي من أبي كرب ... سد عني خيره خبله " قال: ويقال إنه لامرأة من الأوس، قالته في تبع أبي كرب حين قدم المدينة فأطمعت أن تنال من خيره فقالت هذه المقالة.
ع: ويروى أن يسد خيره خبله، وكان من خبر هذه المرأة أن الفطيون (1) صاحب زهرة من ناحية المدينة كان قد ملك أهل يثرب حتى لا تدخل عروس على زوجها حتى يؤتى بها فيفتضها، فزوج مالك بن العجلان أختاً له فلما أقعدت في منصتها خرجت على نادي قومها كاشفة عن ساقيها (2) ، فقام إليها مالك أخوها فقال: ويحك، لقد فضحتني، فقالت: ما تريد أنت في أعظم (3) من ذلك، يضهب بي إلى غير زوجي فيعتذرني فقال: صدقت وأبيكن لذلك أعظم من هذا، فلما أمسى توشح بسيفه ثم خرج مستخفياً مع النساء اللواتي يذهبن بها إلى الفطيون، حتى أدخلتها على الفطيون ثم خرجن (4) عنها، وكمن مالك في ناحية من نواحي البيت، فلما أغلق عليهما، خرج مالك فضربه بالسيف حتى برد وقال: إني امرؤ من بني سالم ... وأنت امرؤ نجس من يهود فلا تحسبن طلابي إليك ... كالخطب خطب اللئيم الزهيد ثم لحق باليمن فساق تبعاً أبا كرب إلى يثرب، فلما نزل تبع بقرب فنائه (5) طرق مالك قومه، وقال: جئتكم بعز الدهر، بأبي كرب، فقالت عجوز من بني سالم: ليت حظي من أبي كرب ... سد عني خيره خبله فأثخن تبع في يهود حتى ذلوا لأهل يثرب من الأوس والخزرج. وقال ابن إسحاق: الفطيون هو من بني قريظة، والصحيح أنه عامر بن عامر ابن حارثة بن عمرو بن الحارث محرق بن عمرو مزيقيا، وعامر بن حارثة هو أخو الأوس والخزرج ابني حارثة، ولكن عامراً منهم تهود ورأس يهود.
151 -؟ باب الحاجة تؤدي صاحبها إلى تلف النفس قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا " كطالب القرن فجدعت أذنه " أي جاء يطلب زيادة فأتلف ما عنده. ع: أكثر استعمال الجدع في الأنف وأما في الأذن فالصلم، وفي القرن العضب. وقد جاء الجدع في الأذن، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطب على ناقته الجدعاء، وهي المقطوعة الأذن، وهي العضباء والقصواء أيضاً (1) ، فكل ذلك قد ذكرت وهي كلها في الأذن إلا أن القصواء أقلها قطعاً، ثم الجدع، فإذا جاوز القطع الربع فهو لعضب. وهذا المثل إنما أصله للنعمان، يقال: كالنعامة ذهبت تطلب قرنين فرجعت مصلمة الأذنين؛ وقال أبو العيال (2) : أو كالنعامة إذ غدت من بيتها ... لتصاغ قرناها، بغير أذين فاجتثت الآذان (3) منها فانثنت ... صلماء ليست من ذوات قرون ولذلك تسميها العرب سكاء ومصلمة، قال زهير (4) : أسك مصلم الأذنين أجنى ... (5) له بالسي تنوم وآء وقالت أخت عمرو بن معد يكرب (6) :
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فمشوا بآذان النعام المصلم (1) وقال الشاعر في معنى هذا المثل (2) : طلبت بك التكثير فازددت قلةً ... وقد يخسر الإنسان في طلب الربح قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم (3) " كالباحث عن الشفرة " أي أنه يبحث ليطلب معاشاً فسقط على شفرة فعقرته أو قتلته. ع: قال الفرزدق في هذا المثل (4) : وكان يجير الناس من سيف مالك ... فأصبح يبغي نفسه من يجيرها فكان كعنز السوء قامت بظلفها ... إلى مدية تحت الثرى تستثيرها قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم " سقط العشاء به على سرحان " قال: وأصله أن رجلاً خرج يطلب العشاء فوقع على ذئب فأكله، وقال المفضل (5) : دابة [خرجت] تطلب العشاء. ع: وقال ابن السكيت: كان سرحان بن معتب بن الأجب (6) بن الغوث بن
عتريف الغنوي قد حمى مكانه فمر رجل من بني أسد بذلك المكان، وهو مكلئ (1) ، فقال: أشهد أن لا يمنعني خوف سرحان من أن أعثى إبلي الليلة، فرعاها، فمر به سرحان فقتله فقال: هزلة بن معتب أخوه لامرأة الأسدي المقتول، وكان يقال لها نصيحة (2) : أبلغ نصيحة أن راعي (3) إبلها ... سقط العشاء به على سرحان سقط العشاء به على متقمر ... (4) لم يثنه خوف من الحدثان قوله: متقمر أي يرعى إبله في القمر. قال أبو عبيد: ومنه قولهم " كمبتغي الصيد في عريسة الأسد " ع: البيت لابن الرقاع، وصدره: إنك والشعر إذ تزجي قوافيه ... كمبتغي الصيد في عريسة الأسد 152؟ باب الحاجة يقدر عليها صاحبها متمكنا قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة: من أمثالهم السائرة في هذا: " خلا لك الجو فبيضي واصفري " قال: وهذا المثل يروى عن ابن عباس أنه قاله لابن الزبير حين خرج الحسين بن علي إلى العراق فلقي ابن عباس ابن الزبير فقال:
" خلا لك الجو فبيضي واصفري، هذا حسين يخرج إلى العراق ويخلي لك الحجاز " ن قال أبو عبيد: وهذا مثل في شعر قديم. ع: هذا المثل لكليب بن ربيعة وهو كليب وائل، كان له حمى لا يقرب، فباضت فيه قبرة فأجارها، وقال يخاطبها (1) : (2) يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري ... وإنما يصفر الطائر ويتغنى في الخصب، فدخلت ناقة البسوس الحمى، فوطئت بيض الحمرة، فكسرتهان فرمى كليب ضرعها، فقتل كليب جساس وهاجت من أجلها حرب البسوس، فركدت بين ابني وائل أربعين عاماً (3) . وقال الشاعر (4) : كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم رمى ضرع ناب فاستحر (5) بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليماني المسهم ومن كتاب ابن كرشم: أن أول من قال " خلا لك الجو فبيضي واصفري " طرفة، وذلك أنه قال لأمه، وهو غلام: إني أريد صيد القنابر فابعثي أمتك
مع البهم، فقالت له أمه: يا بني، إن المضيع من وكل ماله وأضاع عياله، وإنها أرسلت أمتها مع البهم، وخرج طرفة وصاحب له معهما فخ حتى أتيا مكاناً كانا يعهدان به القنابر كثيرة، فنصبا الفخ، وتنحيا غير بعيد، فجعلت قبرة تحوم على الفخ فأخطأها، فأقبل طرفة نحو فخه وهو يقول: قد يعثر الجواد ... وتمحل البلاد وتنهب التلاد ... ويضعف الجلاد والفخ قد يعاد ... ثم نصب فخه، فوقعت القنابر حول فخه، وأقبلن يحدن عنه ويلقطن ما أصبن، فلما طال به ذلك ضجر وانتزع فخه وهو يقول: قاتكلن الله من قنابر ... مهتديات بالفلا نوافر ولا سقيتن معين الماطر ... ولا رعيتن جنوب الحاجر (1) وانصرف هو وصاحبه راجعين، ونظر فإذا بالقنابر قد سقطن بالمكان الذي كان نصب فيه فخه ليلتقطن فقال: يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري ... فلما أتى منزله ورأته أمه لم يصنع شيئاً قالت: لقد حدك حاد وصدك صاد، فقال لها طرفة (2) : ما كنت (3) محدوداً إذا غدوت ... وما رأيت مثل ما لقيت من طائر ظل بنا يحوت ... ينصب في اللوح فما يفوت (4)
فقالت له أمه: إني لأرجو أن تكون شاعراً وأن تشبه خالك. يقال: حتا يحتو وحات يحوت: إذا أسرع. 153 -؟ باب الحاجة يحملها الرجل صاحبه المستغني عن الوصية قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " الحريص يصيدك لا الجواد " (1) ع: قوله: يصيدك، يريد: يصيد لك، قال سليك بن السلكة (2) : ويحضر فوق نص (3) الحضر نصاً ... يصيدك قافلاً والمخ رار وهي أبيات؛ وأنشد أبو عبيدة شاهداً على " كالوهم أو وزنوهم " أي كالوا لهم، قول خفاف بن ندبة: (4) إذا طابقن لا يبقين زخا ... يصيدك قافلاً والمخ رار (5) يعني فرسه. يقول: يصيد لك ما شئت بعد الأين والإعياء وأنت قافل به من سفرك، أي صادر. ويقال: مخ رار ورير إذا كان رقيقاً، ومخ الهزيل يرق، فإذا خرج المخ بدقةٍ واحدة فهو " دالق " وإذا لم يخرج إلا بدقات فهو " قصيد " وإذا لم يخرج إلا بخلال فهو " مكاكة ".
154 -؟ باب قضاء الحاجة قبل سؤالها قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم " عينه فراره " يقول: منظره يغنيك عن مسألته، والفرار: اختبار الشيء ومعرفة حاله كما تفر الدابة. ع: قال الباهلي (1) : معناه لا تفره عن نسب أو خبر، فإنه إذا رئي دلت عليه رؤيته، وأعربت عن كرمه حضرته، ولم يحتج أن يفر عن شيء، وعينه: نفسه، كقولهم: لا أقبل إلا درهمي بعينه. وقولهم " لا أطلب أثراً بعد عين " أي لا أطلب أثر الشيء بعد الشيء نفسه. قال أبو عبيد: وقال أبو الأسود الدؤلي يمدح المعطي قبل المسألة: " وإن أحق الناس إن كنت مادحاً ... بمدحك من أعطاك والوجه وافر " هـ: دخل أبو الأسود الدؤلي على بعض إخوانه (2) فرأى عليه ثوباً قد خلق، فقال له: يا أبا الأسود: أما آن لهذا الثوب أن يبدل؟ فقال: " رب مملول لا يستطاع فراقه " فبعث إليه صديقه ذلك بعد أثواب، فقال أبو الأسود يمدحه (3) :
كساك ولم تستكه فشكرته ... (1) أخ لك يعطيك الجزيل وناصر وإن أحق الناس، إن كنت شاكراً ... بشكرك من أعطاك والعرض (2) وافر قال أبو عبيد: وقال الآخر (3) في المعطي قبل المسألة: " أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال " ع: قبل هذا البيت: وفتى خلا من ماله ... ومن المروءة غير حال أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال والشعر لصريع الغواني، يقوله في مدحبعض البرامكة، ولله أبو تمام في قوله: وما أبالي القول أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي وقال الآخر: أحسن المعروف ما لم ... تبتذل فيه الوجوه
155 -؟ باب انصراف الرجل عن الحاجة وهي مقضية أو غير مقضية قال أبو عبيد: قال أبو زيد: يقال " جاء فلان من حاجته وقد لفظ لجامه " إذا انصرف عنها مجهوداً من الأعياء والعطش. قال: ومثله " جاء وقد قرض رباطه ". ع: المحفوظ عن أبي زيد " جاء فلان وقد دلق لجامه "، وأما قولهم " قد قرض رباطه " فإن أكثر ما يكنى به عن الرجل إذا مات، تقول العرب للرجل إذا مات: " ضحى ظله " " ولعق إصبعه " و " قرض رباطه " و " عطست به اللجم ". قال أبو عبيد: قال الأحمر: فإن جاء ولم يقدر على شيء قيل " جاء على غبيراء الظهر ". ع: قال أبو زيد " ترك فلان أباه على غبيراء الظهر " و " تركه باست الأرض " إذا تركه وليس له شيء. وقال غيره: تركه على غبيراء الظهر. ومعناه: أنه لما لم ينجح سعيه ولا ظفر بحاجته، كان كمن ارتاد مرعى، فصادف أرضاً غبراء الظهر قليلة الماء، وعلى هاهنا بمعنى عن، كما قال القحيف (1) :
إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها والتصغير في المثل بمعنى التعظيم، كما قال الشاعر (1) : وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل قال أبو عبيد: فإن جاء بعد الشدة قيل " بعد اللتيا والتي " يريد الشدة العظيمة والصغيرة، ومنه قول الشاعر يذكر قبيلة: وكفيت جانيها اللتيا والتي ... ع: تصغير التي: اللتيا واللتيا؟ بالفتح والضم؟ وكذلك تصغير الذي؟ اللذيا واللذيا، والشاعر الذي ذكره هو سلمي (2) بن ربيعة الضبي، قال (3) : ولقد رأبت ثأى العشيرة بينها ... (4) وكفيت جانيها اللتيا والتي وصفحت عن ذي جهلها ومنحتها ... حلمي (5) ولم تصب العشيرة زلتي
قال الخليل: لفظ التصغير على أربعة أنحاء: تصغير وتعظيم وتقريب وتحنين، وأنشد (1) سلمة عن الفراء للكميت: فإن أدع اللواتي من أناسٍ ... أضاعوهن لا أدع الذينا فان (2) " الذين " هنا لا صلة لها، يقول: إن أدع ذكر النساء لا أدع ذكر الرجال. 156 -؟ باب اغتنام الفرصة عند إمكان الحاجة قال أبو عبيدة: من أمثالهم في ذلك " من عال بعدها فلا اجتبر " وهذا المثل لعمرو بن كلثوم في شعر له. ع: يقول عمرو بن كلثوم، وقد أراد الغارة على بني حنيفة ورأى كثرة نعمهم، فقال (3) : من عال مني بعدها فلا اجتبر ... (5) ولا سقى ولا رعى (4) الشجر بنو لجيم وجعاسيس مضر ... (6) بجانب الدو يدهدون العكر
157 -؟ باب تيسير الحاجة على قوم بضرر آخرين قال أبو عبيد: من أمثالهم في نحو هذا " نعم كلب في (1) بؤس أهله " يريد أن الكلب ينعم لأن إبلهم تسقط وتتماوت. ع: نقل أبو علي ذلك فقال: يقال في مثل: " نعيم كلب في بؤس أهله، وفي بئيس أهله "؟ لغتان؟ يضرب هذا للإنسان إذا سمن وأكل من مال غيره. وأصل هذا أن كلباً سمن من أكل جيف الأنعام، ونعم وأهله بائسون.
الباب الثاني عشر
الباب الثاني عشر باب جامع أمثال الظلم وأنواعه 158 -؟ باب المثل في الظلم وما يخاف من غبه قال أبو عبيد: وقولهم " اليوم ظلم " يرى أنه من هذا، ومعناه أنه ظلم بأن وضع الشيء في غير موضعه (1) ، يضرب للرجل يؤمر أن يفعل شيئاً قد كان يأباه ثم يفعله. ع: حفظي: ألا بلى يا مي واليوم ظلم ... سوف أواتيك وإن لج القسم وذكر أبو علي عن أبي زيد " قدم فلان واليوم ظلم "؟ بفتح الظاء واللام؟ أي قدم فلان حقاً، وأنشد (2) : قالت له مي بأعلى ذي سلم ... أما تزورنا إن الشعب التأم
ألا بلى يا مي واليوم ظلم (1) ... ويقال: خرجنا فأول ظلم لقيناه فلان؟ أي شخص -. ويقال: لقيت فلاناً أدنى ظلم، إذا كان أول شيء لقيته، كلها بفتح الظاء واللام. 159 -؟ باب الظلم في الخلتين من الإساءة تجمعان (2) على الرجل قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: " أحشفاً وسوء كيل " ع: قال أبو بكر: يقال كلت الشيء أكيله كيلاً، وأوفاني كيلة حسنة، ومن أمثالهم " أحشفاً وسوء كيلة "، هكذا أتى المثل كيلة لا كيلٍ. قال أبو عبيد: ومثله قولهم: " أغدةً كغدةِ البعير وموتاً في بيت سلوليةٍ " وذكر أصله (3) . ع: كل غدة في بدن البعير أطاف بها ورم فهي غدة. يقال: أغد البعير إغداداً فهو مغد، ولا يقال مغدود، إذا أصابته غدة وهو داء قتول. ويروى " أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية " بالرفع. وكان عامر بن الطفيل وأربد أخو لبيد لأمه قد خرجا حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما لصاحبه: اشغله أنت بالكلام حتى أضربه أنا بالسيف. فقال أربد: أنا أضربه، وكلمه أنت. فجعل عامر يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: أبايعك على أن
لي الوبر ولك المدر، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل تبايع على أن لك أعنة الخيل فإنك رجل فارس، فيقول عامر: لا إلا أن يكون لي الوبر ولك المدر، وانتظر أن يضربه أربد فلم يصل إلى ذلك، فانصرفا وعامر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأملأنها عليك خيلا جرداً ورجالاً مرداً. فقال عامر لأربد: ما منعك من أن تضربه؟ فقال: ما هممت بذلك إلا رأيتك بيني وبينه، أفكنت أعلوك بسيفي؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يئس من إسلامهما: اللهم اكفنيهما. فأصابت أربد صاعقة قتلته، وأصابت عامراً غدة قتلته، واضطره الوجع إلى بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول " أغدةً كغدة البعير وموتاً في بيت سلولية " (1) فنزلت في هذا {له معقبات من بين يديه ومن خلفه، يحفظونه من أمر الله} (الرعد: 11) ، وقال في شأن أربد: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء} (الرعد: 13) . قال ابن إسحاق: والغدة طاعون أصابه في عنقه. قال أبو عبيد: ويقال في نحوه: " أكسفاً وإمساكاً " وأصله الرجل يلقاك بعبوس وكلوح مع بخل ومنع. ع: الكسف هنا كناية عن تغير الوجه واللون من العبوس. قال القطامي (2) : أنسى ابتسامتك والألوان كاسفة ... تبسم البرق في داج من الظلم يعني كاسفة متغيرة من شدة الحال وضيق المقام. يقال: كسفت الشمس
وكسفت (1) . قال جرير: فالشمس طالعة ليست بكاسفةٍ ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا قال أبو عبيد: في نحو منه: " كأشقر إن تقدم نحر وإن تأخر عقر " ع: يقوله لقيط بن زرارة جبلة لفرسه (2) : " أشقر، إن تقدم تنحر وإن تأخر تعقر " وكان أشقره يومئذ مجففاً (3) بالديباج. وهو أول عربي جفف. وقتل يومئذ، قتله جعدة بن مرداس النميري (4) . قال أبو عبيد: ومنه قولهم في الأرقم " إن يقتل ينقم وإن يترك يلقم " يقول: إن قتله كان له من ينتقم [له] منك، وإن تركته قتلك. ع: صح من حديث أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته. قال: فسمعت تحريكاً تحت سريره فإذا حية، فقمت لأقتلها، فأشار إليّ أبو سعيد أن أجلس. فجلست. فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ قلت: نعم. قال: فإنه كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، وكان ذلك الفتى يستأذنه بأنصاف النهار ليطلع أهله، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: خذ سلاحك فإني أخشى عليك بني قريظة. فأخذ الفتى سلاحه ثم ذهب، فإذا امرأته بين البابين فأصابته غيرة وهيأ لها
الرمح ليطعنها به، فقالت: اكفف رمحك حتى تنظر ما في بيتك، فدخل فإذا بحية منطوية على فراشة فركز فيها رمحه فانتظمها فيه، ثم خرج فنصبه في الدار، فاضطربت الحية في رأس الرمح، وخر الرجل صريعاً فما يدري أيهما كان أسرع موتاً: الفتى أم الحية. فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك، وقلنا يا رسول الله، ادع الله يحييه. فقال: استغفروا لصاحبكم، فقلنا: يا رسول الله، ادع الله يحييه، فقال: استغفروا لصاحبكم. ثم قال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فإذا رأيتم منها شيئاً فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في نحو ذلك " كالمستغيث من الرمضاء بالنار " ع: أصل هذا المثل وأول من نطق به التكلام الضبعي وذلك أن جساس ابن مرة لما طعن كليباً، وهو كليب وائل، استسقى عمرو بن الحارث ماء فلم يسقه وأجهز عليه، فقال التكلام في ذلك (1) : المستغيث بعمرو عند كربته ... كالمستغيث من الرمضاء بالنار وربما أنشدوه " كالمستغيث من الدعصاء بالنار "، والدعصاء: الأرض السهلة المستوية تصيبها الشمس فتحمى فتكون رمضاؤها أشد حراً من غيرها. وقال أبو الفرج الأصفهاني (2) إن قائداً من قواد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف هرب إلى عمرو بن الليث وهو يومئذ بخراسان فغم ذلك أحمد وأقلقه، فدخل عليه أبو نجدة لخيم (3) بن ربيعة بن عوف من بني عجل وكان شاعراً فأنشده: يا ابن الذين سما كسرى لجمعهم ... فجللوا وجهه قاراً بذي قار دوخ خراسان بالجرد العتاق وبالبيض الرقاق بأيدي كل مسعار
يا من تميم عمراً يستجير به ... أما سمعت ببيت فيه سيار المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار فسر أحمد، وسري عنه، وأجزل صلة أبي نجدة. ومثله قولهم: " فر من القطر ووقع تحت الميزاب: قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الحلة غير المحمودة (1) : " عوير وكسير وكل غير خير " ع: أول من قال ذلك أمامة بنت نشبة بن مرة وكان تزوجها رجل من غطفان يقال له خالد بن رواحة وكان أعور، فمكثت عنده زماناً وولدت له خمسة، ثم نشزت عليه فطلقها. وخطبها رجل من بني سليم؟ وقيل من بني شيبان؟ يقال له خالد بن مرة إلى أبيها، وأحسن العطية. وكان أعرج مكسور الفخذ، فلما دخلت عليه قالت: " عوير وكسير، وكل غير خير ". 160 -؟ باب الظلم فيمن حمل رجلاً مكروهاً ثم زاده أيضاً قال أبو عبيد: قال أبو زيد: يقال " وقع القوم في أم جندب " إذا ظلموا. ع: لم يبين أبو عبيد معنى أم جندب. وقال غير واحد من اللغويين: أم جندب
الغثم والظلم، يقال: وقع القوم في أم جندب. وأم جندب أيضاً اسم من أسماء الداهية. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم أكثم بن صيفي في نحوه " إنك لا تجني من الشوك العنب ". يقول: إذا ركبت رجلاً بظلم وترته وحملته المكروه فانظر كيف يكون حالك. ع: قد نظمه صالح بن عبد القدوس فقال (1) : إذا وترت امرءاً فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا إن العدو وإن أبدى مجاملة ... إذا رأى منك يوماً فرصةً وثبا 161؟ باب الظلم في مطل الحقوق قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " الأكل سلجان والقضاء ليان " ع: السلج: سرعة الابتلاع، يريدون بهذا المثل أنه يسهل عليه الأخذ، ويصعب عليه القضاء. قال يعقوب: ومثله قولهم " الأكل سريطى والقضاء ضريطى " قال أبو عبيد: قال ابن مسعود: " لو كان المعك رجلاً لكان رجل سوءٍ "
ومنه قول زهير بن أبي سلمى: " إن الغادر المعك " ع: صدره (1) : فاردد يساراً ولا تعنف عليه ولا ... تمعك بعرضك إن الغادر المعك يقوله (2) للحارث بن ورقاء الصيداوي من بني أسد. وكان أغار على بني عبد الله بن غطفان واستخف إبل زهير (3) وراعيه يساراً. 162 -؟ باب الظلم في إدعاء الباطل قال أبو عبيد: قال أبو زيد: من أمثالهم " إذا طلبت الباطل أنجح بك "، معناه أن نجح الدعوى يكون عليه لا له. ع: معنى أنجح به ظفر به ولم يظفر هو بشيء. وقال أبو زيد: أنجح بك بفتح الهمزة والجيم معناه صرعك؛ وصله لفتاة من العرب كانت تحت (4) شيخ منهم. فكانت تراه إذا أراد أن ينتعل قعد فانتعل فكانت تقول " يا حبذا المنتعلون قياماً " فذهبت مثلاً، فسمعه منها مرة فذهب ينتعل قائماً فضرط فقال: " إذا طلبت الباطل أنجح بك " فذهبت مثلاً (5) .
قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في الباطل " قد اتخذ فلان الباطل دغلاً " ع: يقال: دغل المكان يدغل دغلا فهو دغل. وأدغل إدغالاً فهو مدغل إذا كثر نبته والتف. وقال بعض اللغويين: لا يكون إلا من الحمض إذا كان مخالطاً له الغرين (1) . ويقال أيضاً: دغل الرجل وأدغل إذا فسد قلبه وخان؛ فإن كان المراد في المثل دغل النبات فمعناه أنه اتخذ الباطل دغلاً يجنه ويستره عن أداء الحقوق، وإن كان من دغل النفس فمعناه أنه أشرب الباطل نفسه حتى فسد قلبه. 163 -؟ باب الكريم يظلمه الدنيء الخسيس قال أبو عبيد: وقال الأصمعي: من أمثالهم في هذا قولهم: " لو ذات سوار لطمتني ". يقول: لو كان هذا الذي ظلمني نداً لي وكان له شرف احتملته ولكنه ليس بكفء فهو أشد علي. ع: قال الفرزدق في هذا المعنى بعينه: وإن حراماً أن أسب مقاعساً ... بآبائي الشم الكرام الخضارم أولئك أحلاسي فجئني بمثلهم ... وأعبد (2) أن أهجو عبيداً بدارم
ولكن نصفاً لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من مناف وهاشم 134؟ باب الانتصار من الظالم (1) قال أبو عبيد: قال الزبير: من هذا الباب قولهم " يوم بيوم الحفض المجور " (2) ،. ع: قال الأصمعي: زعموا أن رجلاً كان بنو أخيه يؤذونه فدخلوا بيته فقلبوا متاعه. فلما أدرك ولده صنعوا مثل ذلك بأخيه. فشكاهم إلى أبيهم. فقال: يوم بيوم الحفض المجور " والحفض: متاع البيت. وقيل الحفض: البيت من الشعر بعمده وأطنابه. وإنما سمي البعير الذلول حفضاً لأنهم كانوا يختارون لحمل بيوتهم أذل الإبل لئلا ينفر، فسمي كل ذلول [من الإبل] حفضاً. وقد نزع مروان بن الحكم بهذا المثل عند قتل الحسين بن علي رضوان الله عليهما فقال: " يوم بيوم الحفض المجور، يوم بيوم عثمان " قال أبو عبيد: ومنه قول الشاعر (3) : وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يال همدان ظالم البيتان (4) .
ع: هذا الشعر لابن براقة الهمذاني وهو (1) عمرو بن براقة بن منيه بن زيد ابن عمرو بن منبه بن شهر بن نهم (2) من قصيدة أولها (3) : تقول سليمى لا تعرض لتلفةٍ ... وليلك عن ليل الصعاليك نائم قال أبو عبيد: وقد تمثل الشعر الحجاج يوسف على المنبر. قلت (4) : وقد تكلم (5) به علي بن أبي طالب رضي الله عنه من قبل. 165 -؟ باب الظلم والإساءة ترجع عاقبتهما على صاحبهما قال أبو عبيد: ومن ذلك قوله: " ويعدو على المرء ما يأتمر " ع: هذا البيت من أول قصيدة لامرئ القيس، وأنكر الأصمعي أن تكون له. وقال: هي لربيعة بن جشم النمري (6) وأولها عند الأصمعي (7) : أحار بن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر (8)
وقال المفضل: أولها (1) : لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر ويقال لمن فعل الشيء من غير مشورة: قد ائتمر، وبئس ما ائتمرت لنفسك. قال النمر بن تولب (2) : اعلمي أن كل مؤتمر ... مخطئ في الرأي أحيانا ويقال: الرجال ثلاثة: رجل ذو عقل ورأي، ورجل ذو مشورة إذا حزبه أمر، ورجل حائر لا يأتمر رشداً، ولا يطيع مرشداً، أي لا يأتي برشد من ذات نفسه. وقالوا في قول الله عز وجل {وائتمروا بينكم بمعروف} (الطلاق: 6) أي هموا به واعزموا عليه. وذكر أبو عبيد بعد هذا في (3) الباب الذي يليه (4) خبراً لبيهس الملقب بنعامة وقد مضى ذكره وأقوالهم في تلقيبه نعامة. وقال أبو عبيدة في كتابه " التاج ": لقب بذلك لأنه كان جسيما طويلاً. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا " لو ترك القطا ليلاً لنام " وذكر خبره. ع: أنشد أبو علي:
ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا ليلاً لناما وقد ذكرت خبر هذا المثل عند ذكر أبي عبيد قولهم: إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام وقال ابن الأنباري: أول من قاله علباء بن الحارث أحد بني كاهل، وهو الذي قتل حجر [بن الحارث] بن عمرو أبا امرئ القيس. وأقبل امرؤ القيس في جموع من اليمن إلى بني أسد يقصد لعلباء ولا يعلم الناس به، فلما كانت الليلة التي يصحبهم بادر مخافة أن يخبروا فسار مسرعاً فجعل القطا ينفر فيمر على علباء، وكان منكراً، فقالت ابنته: ما رأيت كالليلة ذا قطا، فيقول لها علباء " لو ترك القطا ليلاً لينام " ثم ارتحلوا فصبحهم امرؤ القيس فألفى بني كنانة في ديارهم فأوقع فيهم وهو يظن أنهم بنو أسد. فلما عرفهم كف عنهم وقال (1) : ألا يا لهف نفسي إثر قومٍ ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا وقاهم جدهم ببني أبيهم ... (2) وبالأشقين ما كان العقاب وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركنه صفر الوطاب 166؟ باب الظلم في عقوبة البريء قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " ما لي ذنب إلا ذنب صحر " وذكر خبره عن المفضل (3) .
ع: وقال الليثي خلاف ذلك (1) - ذكر أن نساء لقمان خنه فقتلهن ولقيته ابنته صحر فقال: وأنت أيضاً امرأة. فقتلها. فقيل: " ذنب صحر ". وذكر أبو عبيد قولهم " جزاء سنمار " وقد تقدم ذكره والشاهد عليه (2) . 167 -؟ باب الظلم في عقوبة الإنسان بذنب غيره قال أبو عبيد: روينا في حديث مرفوع أنه قال لرجل وابنه " لا يجني عليك ولا تجني عليه " ع: قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة التميمي (3) واسمه رفاعة بن يثربي. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في اخذ البريء بذنب صاحب الجناية قول النابغة الذبياني (4) : حملت علي ذنبه وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع (5)
ع: العر بضم العين قروح في مشافر الإبل، وكانوا يزعمون ان الصحيح إذا كوي بحضرة ذي العر برأ. وقال أبو بكر: العر داء يصيب الإبل في رؤوسها فتكوى الصحاح منها لئلا تعديها المراض. فذلك عنى النابغة. ومن روى " كذي العر " بفتح العين فهو خطأ، لأن العر الجرب ولا يكوى منه. قال أبو عبيد: " كالثور يضرب لما عافت البقر ". يعني عافت الماء وفيه قال أنس بن مدرك (1) : إني وقتلي سليكاً ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عاقت البقر (2) ع: هذا يقوله أنس بن مدرك الخثعمي قاتل سليك بن السلكة، وبعد البيت: غضبت للمرء إذ نيكت حليلته ... وإذ يشد على وجعائها الثفر إني، تفاسؤ هامات بمخرؤة، ... لا يزدهيني الليل والخمر أغشى الحروب وسربالي مضاعفة ... تغشى البنان، وسفي صارم ذكر التفسؤ: التهتك والتفسخ. وهامات جمع هامة. وجعلها بمخرؤة لأن ذلك أرذل لها. ونصب تفاسؤ على الذم. وقال أبو علي القالي: أراد يا قوماً يتفاسؤن تفاسؤ الهام. وقال أبو حاتم: أراد يا تفاسؤ هامات. والحقيقة ياهامات يتفاسأن. والثور على تفسير أبي عبيد وغيره واحد الثيران يضرب ليقتحم الماء فتتبعه البقر. وقد بين ذلك الأعشى بقوله (3) :
لكاثور والجني يضرب ظهره ... وما ذنبه أن عافت الماء مشربا (1) وقال الحربي في بيت أنس: الثور ما علا وجه الماء من عرمض، وإذا عافت البقر الماء من أجله ضربه الراعي ففرقه. وقال الخليل، الثور: الطحلب. وقال الزبير: الثور ثور الماء وهو ثورانه. 168 -؟ باب التبرؤ من الظلم والإساءة قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا " لا ناقتي في هذا ولا جملي " قال: والمثل للحارث بن عباد وذكر خبره (2) : ع: روي أن يزيد بن معاوي سأل صحار بن عياش (3) العبدي عن هذا المثل فقال صحار (4) : أول من قاله الصدوف بنت الحليس العذرية وكانت تحت زيد ابن الأخنس الطائي، وكانت له ابنة يقال لها الفارعة وأن زيداً أخدم ابنته الفارعة وأحسن إليها وعزلها عن امرأته الصدوف وخرج إلى الشام فغاب حيناً، وأن فتى من بني عذرة يقال له شبث (5) هلق الفارعة وعلقته، فكانت تأمر راعي أبيها أن يعجل لها ترويح إبله وأن يحلب لها حلبة إبلها قيلا (6) لتشرب اللبن نهاراص. فإذا أمست وهدأ الحي رحل لها جملاً ذلولاً كان لأبيها، وتوافي به العذر فينطلقان إلى تيه من الأرض في عزلة، فإذا كان وجه الصبح أقبلا، ذلك دأبهما حتى أقبل
أبوها آتياً (1) إلى أهله، وكان شديد الغيرة، فمر بكاهنة في طريقه فقال له: يرحل جملك ليلاً، وحلبة أهلك تحتلب (2) قيلاً، وكان ثم حدث، فأقبل لا يلوي، ودخل الحي ليلاً فبدأ بامرأته فوجدها مع عياله مقبلة على ما يصلحها، فخرج إلى خباء ابنته فاستقبلته خادمها. فقال لها: ثكلتك أمك أين الفارعة؟ قالت: خرجت تمشي مع فتيات الحي لعيادة بعضهن وهي عائدة الساعة. فانتقل عنها إلى امرأته ما يشك أنها مريبة، فقالت له: إني لأعرف الشر في وجهك فلا تعجل واقف تر (3) " لا ناقة لي فيما تكره ولا جمل " (4) فسار قولها مثلاً. ثم رجع إلى خباء ابنته لخادمها: والله لا ينجيك مني إلا الصدق، وسل سيفه فصدقته الخبر. قال: فأين أخذا؟ قالت: هذا الوجه. فأتبعهما، فلما صار منها غير بعيد وجد الجمل ريح مولاه فتزحزح. فقال العذري: أما ترين الجمل وحال؟ فقالت: ما كان يصنع هذا إلا إذا رأى مولاه، أو كان قريباً منه. وجعل الجمل يريد ينبعث، وهو معقول فلا يقدر على القيام. فقالت الفارعة: لقد أوجست أمراً، أو آنست ذعراً، أو رأيت شراً، فليته غاب دهراً. فسمعها أبوها فقال: قد غبت دهراً، فحلبت شراً، وأتيت نكراً. قم انتضى سيفه ففلق به هامة شبث، وقتل الجارية وانصرف بجمله وهو يقول: لا تأمنن بعدي الجواريا ... عوناً من النساء أو عذاريا أخافها والعار والمساويا ... وقال الراعي: وما هجرتك حتى قلت معلنةً ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل (5)
فراغ
الباب الثالث عشر
الباب الثالث عشر الأمثال في المعايب والذم 169 -؟ باب الذم لسوء معاشر الناس قال أبو عبيد: جاء في الحديث عن أبي الدرداء الأنصاري " وجدت الناس أخبر تقله " ع: قال أبو عمرو: يقال الخبر تقله وتقله لغتان فصيحتان. ذكر ذلك في كتاب الياقوت. والكلام على لفظ الأمر ومعناه الخبر، يريد أنك إذا خبرتهم قليتهم؛ وهذا الحديث رواه عقبة عن أبي بكر بن أبي مريم عن عطية بن قيس عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اخبر من شئت تقله ". نظمه أبو العتاهية فقال: أبل من شئت تقله ... عن قليل لفعله وتبدله هجرة ... بعد ود ووصله
ضاع معروف واضع ال ... عرف في غير أهله 170؟ باب سوء الجوار وما فيه من المذمة قال أبو عبيد: وجاءنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الجار ثم الدار والرفيق قبل الطريق ". ع: هكذا رواه أبو عبيد مرفوعاً والنصي جيد. أي التمس الجار قبل الدار والتمس الرفيق قبل الطريق. أخذه أبو تمام فقال يمدح أحمد بن أبي داود (1) : بوأت رحلي في المراد المبقل ... ورتعت في أثر الغمام المسبل من مبلغ أفناء (2) يعرب كلها ... أني ابتنيت الجار قبل المنزل وقال آخر: يلومنني أن بعت بالرخص منزلي ... ولم يعلموا جاراً هناك ينغص فقلت لهم: بعض الملام فإنما ... بجيرانها تغلو الديار وترخص وقال آخر: يقولون قبل الدار جار موافق ... وقبل الطريق النهج أنس رفيق فقلت وندمان الفتى قبل كأسه ... فما حث كأس الخمر مثل صديق
171 -؟ باب سوء الموافقة في الأخلاق قال أبو عبيد: قال أبو زيد في قلة الموافقة يقال: " لا يلتاط هذا بصفري " أي لا يلصق بقلبي ولا يوافق شيمتي (1) ولا خلقي. ع: يقال هذا الأمر ألوط بقلبي أي ألزق به وأقرب منه. وقال الفراء: إنما يقال: هو أليط بقلبي وإن كان من ذوات الواو ليفرقوا بينه وبين المعنى الآخر، يعني عمل (2) قوم لوط. وفي الحديث أن أبا بكر قال لعمر رضي الله عنهما: إنك لأحب الناس إليّ، ثم قال: اللهم أعز، والولد ألوط بالقلب (3) . وأصل يلتاط يلتوط. وقال أبو بكر قولهم: لا يلتاط بصفري، لا يلزق بوهمي أو بقلبي أو بخاطري. وقال أبو زيد: يقال لا يلتاط هذا بصفري ولا يلتاق (4) بصفري أي لا يوافق خليقتي، ومثله: ولا يليق صفري، أي لا يلزق بكبدي كلزرق الصفر، وهو دابة رقيقة بيضاء تعض الكبد. وقال أبو عبيدة: الصفر بفتح الفاء والصاد العقد، ويقال: ما يليق هذا بصفري. هكذا نقله أبو علي عن أبي عبيدة: الصفر العقد، وأنا أراه الصفر العقل باللام. قال أبو عبيد: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أنا من ددٍ ولا الدد مني " (5) ع: الدد: اللهو، وفيه ثلاث لغات. يقال: هذا دد على مثال يد ودم.
وهذا دداً على مثال قفاً وعصاً. وهذا ددن على مثال سكن ووسن. قال الأعشى (1) : أترحل من ليلى ولما تزود ... وكنت كمن قضى اللبانة من دد وقال عدي بن زيد (2) : أيها القلب تعلل بددن ... إن همي في سماع وأذن قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في قلى الاتفاق قولهم: " لا يجتمع السيفان في غمد "، ومنه قول أبي ذؤيب (3) : تريدين كيما تجمعيني وخالداً ... وهل يجمع السيفان ويحك في غمد ع: يقال: " لا يجمع سيفان في غمد ولا فحلان في ذود ". وكان لأبي ذؤيب ابن أخت يقال له خالد، وكان رسول خاله أبي ذؤيب إلى صديقته أم عمرو. فلما شب خالد أفسدها عليه. وكانت هذه المرأة صديقة عبد عمرو بن مالك. وكان أبو ذؤيب رسوله إليها، فلما كبر عبد عمرو أفسدها عليه أبو ذؤيب ومالت إليه. فجاءت أم عمرو إلى أبي ذؤيب تعتذر من أمر خالد فقال: تريدين كيما تجمعيني وخالداً ... وهل يجمع السيفان ويحك في غمد أخالد ما راعيت من ذي قرابة ... فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي دعاك إليها مقلتاها وجيدها ... فملت كما مال المحب على عمد فآليت لا أنفك أحدو قصيدة ... أدعك وإياها بها مثلاً بعدي
وقال أبو ذؤيب أيضاً (1) (يعاتب خالداً) : رعى خالد سري ليالي نفسه ... توالى على قصد السبيل أمورها فلما تراماه الشباب وغيه ... وفي النفس منه فتنة وفجورها لوى رأسه عني ومال بوده ... أغانيج خود كان قدماً يزورها وهي أبيات ... فأجابه خالد: لعلك أما أم عمرو تبدلت ... سواك خليلاً شاتمي تستحيرها فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ... فاول راضٍ سنةً من يسيرها قوله: أحدو قصيدة: يريد أغني بها. وقوله: تستحيرها، يريد تستعطفها حتى ترجع إليك، يقال: حار إذا رجع. 172 -؟ باب سوء المشاركة في اهتمام الرجل بشأن صاحبه قال أبو عبيد: قال أبو زيد من أمثالهم في هذا " ما يلقى الشجي من الخلي " يقول إنه لا يساعده وهو مع ذلك يعذله. ع: معنى قولهم: " ويل للشجي من الخلي " ويل للمهموم من الفارغ. والشجي الذي كأن في حلقه شجى من الهموم (2) ، وهو الغصص. يقال: قد شجي شجى. قال صريم (3) :
إني أرى الموت مما قد شجيت به ... إن دام ما بي ورب البيت قد أفدا وقال أكثر أهل اللغة: يقال: ويل للشجي من الخلي بتخفيف الياء من الشجى وبتثقيلها من الخلي. ويروى عن الأصمعي أنه حكى " ويل للشجي من الخلي " بتثقيل الياء فيهما. وأنشد (1) : ويل الشجي من الخلي فإنه ... نصب الفؤاد بحزنه مهموم وكذلك ورد في شعر أبي تمام (2) . 173 -؟ باب نظر الرجل إلى نفسه وإقباله على شهوته وهواه قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: " ذهبت هيف لأديانها " قال: واصل الهيف شدة السموم، وعادتها أنها تجفف كل شيء وتوبسه. ع: الأديان جمع دين. والدين: العادة. قال (3) : تقول وقد درأت لها وضيني ... (4) أهذا دينه أبداً وديني أي عادته وعادتي. والهيف ريح حارة بين الجنوب والدبور يهيف بها الشجر أي يسقط ورقه. وقال أبو بكر، من أمثالهم: ذهبت هيف لأديانها، يقال ذلك للشيء إذا انقضى.
174 -؟ باب عادة السوء يعتادها صاحبها قال أبو عبيد: منه قولهم " أعطي العبد كراعاً فطلب ذراعاً " وكان ابن الكلبي يخبر (1) أن هذا المثل لجارية يقال لها أم عمرو، وكانت لمالك وعقيل ابني فارج (2) من بلقين ندماني جذيمة، فمر بهما عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة وذكر الحديث إلى آخره، وقول عمرو: تصد الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكاس مجراها اليمينا ع: ذكر العلماء أن هذا البيت لعمرو بن جذيمة (3) ذي الطوق هذا فنقله عمرو بن كلثوم التغلبي في قصيدته التي أولها ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... وكان بينهما دهر طويل. ومثل قولهم " أعطي العبد كراعاً فطلب ذراعاً " قولهم " أجلست عبدي فاتكأ " 175 -؟ باب عادة السوء يدعها صاحبها ثم يرجع إليها قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة: من أمثالهم في هذا قولهم: " عادت لعترها لميس "، قال: والعتر هو الأصل وكذلك العكر، يضرب للذي يرجع
إلى خلق قد كان تركه. قال الأصمعي ومثله: " رجع فلان على (1) قرواه " ع: قال سلمة الذي أحفظ عن الفراء أنه روى حديثاً فقال: " لا ترجع هذه الأمة على قروائها " أي على أمرها الأول. وروى ابن ولاد في كتابه المقصور والممدود (2) يقال: رجع فلان على قرواه مقصور، أي رجع إلى خلق قد كان تركه. قال ابن ولاد: وحكى سلمة عن الفراء: لا ترجع هذه الأمة عل قروائها بالمد. أي على أول أمرها. وقال أبو علي في كتابه الممدود، حكى الفراء: " لا ترجع أمتي على قروائها أبداً " كذا حكى عنه ابن الأنباري في كتابه ولم يفسره، واستفسرناه عنه فقال: على اجتماعها. فلا أدري أشتقه أم رواه. قال أبو عبيد: وأما قولهم " النقد عند الحافر " فإنه النقد الحاضر عند البيع، وبعضهم يقول بالهاء: الحافرة. ع: أما قولهم عند الحافر فإنهم يعنون عند حافر الدابة المبيعة. وكان هذا أصله في الدواب ثم صار مثلاً لكل نقد حاضر. ومن قال: عند الحافرة بالهاء فمعناه في أول التبايع (3) كما فسر أبو عبيد في قولهم: عاد فلان في حافرته، أي إلى طريقه الأول. قال الشاعر (4) : أحافرة على صلع وشيبٍ ... معاذ الله من سفه وعار يعني أرجوعاً إلى الصبا والباطل بعد الصلع.
176 -؟ باب قلة عناية الرجل واهتمامه بشأن صاحبه قال أبو عبيد: يقال: " همك ما أهمك ". قال: يضرب لمن لا يهتم بشأن صاحبه [أي] إنما اهتمامه بغير ذلك. ع: هكذا أورده أبو عبيد وفسره. والمحفوظ فيه عن غيره " همك 0 بفتح الميم؟ ما أهمك " معناه: أذابك ما حزنك. يقال: همه الحزن والمرض إذا أذاباه. وهممت الشحمة في النار إذا أذبتها، وما خرج منها فهو الخاموم، قال الراجز (1) : وإنهم هاموم السديف الواري ... قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في قلة الاهتمام " إنك لتشكو إلى غير مصمت " ع: مصمت من الصمت، أي أنك تشكو إلى غير مسكت لك بإشكالئه إياك أو بتسليته لك إن عجز عن الإشكاء، كما قال الشاعر: ولابد من شكوى إلى ذي حفيظة ... يواسيك أو يسليك أو يتفجع وقال الأول (2) : ولابد من شكوى إلى ذي حفيظةٍ ... إذا جعلت أسرار نفسي تطلع وقال الشاعر فنظم المثل (3) :
إنك لا تشكو إلى مصمت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت والصمة والسكتة؟ بضم أولهما؟ ما أسكت به الصبي. وقال الآخر (1) : يا أيها الفصيل المغني ... إنك ريان فصمت عني أي صمت عني الأضياف بما أسقيهم من اللين الذي تريد رضاعه. قال أبو عبيد: ومن قلة المبالاة قولهم: " الكلاب على البقر " واصله أن يلخى بين الكلاب وبقر الوحش. ع: قال الخليل وابن دريد: ومنهم من يقول " الكراب على البقر " وكراب الأرض: حرثها، أي حرث الأرض وإثارتها على البقر (2) . وذكر سيبويه في المنصوبات قول العرب " الظباء على البقر " أي خل الظباء على البقر ومن نصب قولهم: الكلاب على البقر فعلى هذا التقدير. 177 -؟ باب استهانة الرجل بصاحبه قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " ما أباليه عبكة وعبكة " وهي الوذحة واحدة الوذح، وهي ما يتعلق بأصواف الضأن من بعرها وأبوالها. ع: فأما قولهم: " ما ذقت عنده عبكة ولا لبكة " فإن العبكة ملء الكف من السويق، واللبكة: اللقمة من الثريد. والعبك: خلط الشيء بالشيء: عبكته عبكاً.
178 -؟ باب تمدح الرجل بالشيء وهو من غير أهله قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا: " حن قدح ليس منها " (1) ع: هذا المثل يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قاله. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل عقبة بن أبي معيط (2) قال: أقتل من بين قريش؟ فقال عمر بن الخطاب " حن قدح ليس منها "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل أنت إلا يهودي من صفورية. وذكر الكلبي أن أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام وأقام بها عشر سنين فوقع على أمة يهودية للخم من أهل صفورية يقال لها " ترنى " (3) فولدت له ذكوان فاستلحقه أمية وكناه أبا عمرو فهو أبو أبي معيط. قال أبو عبيد: وكذلك قولهم: " كالفاخرة بحدج ربتها " والحدج هو المركب، وجمعه أحداج وحدوج. ع: الحدج: مركب من مراكب النسا. يقال منه حدجت البعير أحدجه حدجاً، إذا وضعت عليه الحدج. وقالت دخنتوس بنت لقيط بن زرارة (4) للنعمان
ابن قهوس التيمي، وكان فر يوم جبلة وهو اليوم الذي قتل فيه أبوها، وكان مع ابن قهوس لواء من شهد ذلك اليوم منهم (1) : فر ابن قهوس الشجاع بكفه رمح متل (2) ... يغدو به خاظي البضيع كأنه سمع أزل (3) ... إنك من تيم فدع ... غطفان إن ساروا وحلوا لا منك عزهم ولا ... إياك إن هلكوا وذلوا فخر البغي بحدج ربتها إذا ما الناس شلوا (4) ... تقول: لا تفخر بغطفان فإنك في ذلك كالأمة البغي تفخر بحدج ربتها، ودخنتوس أول من نطق بهذا المثل وتبعها الشاعر فقال: فإنك والفخار بأم عمرو ... كمن باهى بثوب مستعار كذات الحدج تبهج أن تراه ... وتمشي أو تسير على حمار أي تفخر وتفرح بحدج ربتها وليس لها منه إلا النظر. قال أبو عبيد: ومنه قولهم: " استنت الفصال حتى القرعى " وأصله من القرع. وهو قرح يظهر في أعناق الفصلان فتسحب في التراب لتبرأ. ومنه قول أوس بن حجر:
يجر كما جر الفصيل المقرع ... يقال: قرعت الفصيل إذا جررته. قال أبو عبيد: وهذا معنى قولهم للشيء الذي يوصف بالحرارة: " هو أحر من القرع " تأويله هذا الداء الذي وصفنا. وأما قول العامة: " أحر من القرع " بجزم (1) الراء على معنى القرع الذي يؤكل، فليس بشيء. ع: معنى " استنت الفصال " أخذت في سنن واحد من المرح والنشاط، حتى نشطت القرعى لنشاطها. وإنما تسحب القرعى في أرض سبخة، أو في أرض قد صب عليها ملح، بعد أن تنضح الفصال بالماء، والقرع لا يصيب إلا الفصال دون المسان. ومام البيت الذي أنشده (2) : لدى كل أخدود يغادرن فارساً ... يجر كما جر الفصيل المقرع وأنكر أبو عبيد أن يقال: " هو أحر من القرع " بإسكان الراء. وقال محمد ابن حبيب: إنه هو الصحيح، ليس على معنى القرع الذي يؤكل، ولكن يراد بعه قراع الميسم بالنار. 179 -؟ باب الممتدح (3) بما ليس عنده يؤمر بإخراج نفسه منه قال أبو عبيد: قال الأصمعي وغيره في هذا المثل: " ليس هذا بعشك فادرجي " أي ليس هذا من الأمر الذي لك فيه حق فدعه. وقد يضرب مثلاً للرجل ينزل المنزل لا يصلح له.
ع: قال ابن قتيبة: يضرب مثلاً للرجل المطمئن المقيم وقد أظله أمر عظيم يحتاج إلى نباشرته والخفوف فيه. وقد أتى به الحجاج في خطبته حين دخل العراق فقال: " إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، كأني انظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ليس أوان عشك فادرجي، ليس أوان يكثر الخلاط ". وإنما حضهم يومئذ على اللحاق بالمهلب لقتال الأزارقة. والخلاط: السفاد. قال أبو عبيد: ومنه قولهم: " هذا أوان الشد فاشتدي زيم " وهذا المثل قاله الحجاج بن يوسف على المنبر. وزعم الأصمعي أن زيم في هذا الموضع اسم فرس. قال: والزيم في غير هذا: الشيء المتفرق. وإنما تكلم الحجاج بهذا حين أزعج الناس لقتال الخوارج. ع: المثل الذي ذكره شطر من رجز اختلف في قائله، فنسبه أبو تمام إلى رشيد ابن رميض وهو (1) : هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم بات يراعيها غلام كالزلم ... (2) خدلج الساقين خفاق القدم وقد نسب هذا الرجز إلى شريح بن ضبيعة من بني قيس بن ثعلبة (3) ، وهو الملقب بالحطم. وقيل إنه لقب الحطم بقوله: " قد لفها الليل بسواق حطم " ...
وذكر المدائني أن معاوية بن أبي سفيان جمعه الطريق مع عبد الله بن الزبير من مكة إلى المدينة ومعاوية خليفة، فنزل عبد الله بن الزبير يحدو ويقول (1) : قد لفها الليل بعصلبي ... أروع خراج من الدوي مهاجرٍ ليس بأعرابي ... يعرض بمعاوية أنه ليس من المهاجرين، فقال معاوية لابنه يزيد: انزل فاحد بنا. فنزل يزيد وجعل يقول: قد لفها الليل بسواقٍ حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم ... يعرض بالزبير بن العوام لأنه كان جزاراً. فلما انتصف من ابن الزبير قال له أبوه معاوية: اركب فداك أبوك. وليس هذا الباب الذي أدخل فيه أبو عبيد هذا المثل بمطابق له ولا أدي من حيث يلتقيان. 180 -؟ باب الشره والجشع ومسألة الناس قال أبو عبيد: من أمثال أكثم بن صيفي: " غثك خير لك من سمين غيرك "، يقول فاقنع به ولا تمدن عينيك إلى ما في أيدي الناس. ع: هذا المثل لمعن بن عرفطة، ويقال ابن عطية، المذحجي، وذلك أنه كان بينهم وبين حي من أحياء العرب المجاورين لهم حرب شديدة فمر معن في حملة حملها برجل من ذلك الحي وهو صريع مرمل بالداء بين القتلى فاستغاثه فأغاثه معن، واستقل به حتى أبلغه مأمنه. وقال معن بن عرفطة:
ما فرج الكرب امرؤ ... إلا وعنه سوف يفرج إني امرؤ سمح الخلي ... قة وساط في آل مذحج ثم عطف أولئك على مذحج فهزموهم وأسروا معناً وأخاً يقال له روق، وكان يضعف، وأسروا رئيس مذحج. فلما صار المأسورون في حي أعدائهم إذا صاحب معن الذي نجاه أخو رئيس القوم، فناداه معن بهذا الشعر (1) : يا خير جازٍ بيد ... أوليتها نج منجيكا هل من جزاءٍ عندك اليوم لمن رد عواديكا (2) ... ويروى " لمن يرجو أياديكا " فعرفه صاحبه وقال لأخيه: هذا المان علي ومنقذي بعدما اشرفت على الموت فهبه لي، فوهبه له فخلى سبيله، وقال له: إني أحب (3) أن أضعف لك الجزاء فاختر أسيراً فاختار معن أخاه روقاً ولم يلتفت إلى سيد مذحج وهو في الأسرى، ثم انطلق فسئل عن أمرهما فحدث قومه بخبرهما فأتوه وعنفوه وشتموه وقالوا: هلا أنقذت رئيسنا وتترك أخاك الفسل الذي ما نكأ قط جرحاً، ولا أعمل رمحاً، ولا ذعر سرحاً، وإن لقبيح المنظر لئيم المخبر، فقال معن: " غثك خير من سمين غيرك " فأرسلها مثلاً. قال أبو عبيد: يقال " جدح جوين من سويق غيره " ع: جدح (4) الرجل السويق: إذا دافه بماء أو لبن أو غيرهما ثم حركه
بالمجدح وهي الخُشيبة التي يعرض رأسها. والشراب المخوض مجدوح، والمجدوح أيضاً شيء كان يتخذ في الجاهلية في الجدوب (1) . وهو أن يعمد إلى الناقة فتفصد ويخلط دمها بما قدروا عليه من دقيق أو سويق أو غير ذلك فيأكلونه (2) . قال أبو عبيد: ومن أمثال أكثم بن صيفي في نحو هذا: " المسألة أخر كسب المرء " ع: هذا من كلام قيس بن عاصم لا من كلام أكثم. قال لبنيه: إياكم ومسألة الناس فإنها أخر كسب الرجل، كذلك ذكر غير واحد من الرواة، وهو أخر على وزن فعل، ومعناه أبعده من الخير وأرذله. ومن حديث الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب أن رجلاً من أسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الأخر زنى أي الأبعد، والأخر أيضاً على وزن فعل الغائب. ولا يحسن هنا أن يقال " آخر كسب المرء " بالمد الذي هو نقيض أول لأن ذلك إباحة للمسألة وأن تكون من آخر ما يتكسب به المرء. والمسألة مكروهة منهي عنها في الجاهلية والإسلام. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحتطب على ظهره ولا يسأل الناس. قال أبو عبيد: وقال أبو الأسود الديلي يصف رجلاً بالأخلاق الدنيئة فقال: " إذا سئل أرز وإذا دعي انتهز " ع: قال غيره: " الكريم إذا سئل اهتز واللئيم إذا سئل أرز " اهتز أي استبشر، ومعنى أرز تقبض، وقد تقدم القول في أرز. وقوله أبو الأسود الديلي: هذا قول محمد بن حبيب إنه الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهم رهط
أبي الأسود الديلي، والناس على خلافه. قال سيبويه ومحمد بن سلام وابن الكلبي وأبو بكر ابن دريد: هو الدئل مضموم الأول مهموز على مثال فعل وفتحت الهمزة في النسب كما فتحت الميم من نمر فقيل نمرى. وقال أبو بكر: هما لغتان دؤل ودئل وهي دويبة معروفة لطيفة، قال الشاعر (1) : جاءوا بجيش لو قيس معرسه ... ما كان إلا كمعرس الدئل والديل بكسر الدال على بناء قيل في عبد القيس وفي الأزد وفي إياد. وأما الدول بضم أوله على مثال دور ففي بني حنيفة، وفي الرباب وفي عنزة. قال محمد بن حبيب: الذي في بني حنيفة هو الدول على لفظ الذي ذكرنا في كتابه، وهو الدول بن حنيفة بن لجيم. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الطمع والجشع قولهم: " تقطع أعناق الرجال المطامع " ع: هذا عجز بيت من شعر البعيث قال (2) : طمعت بليلى أن تريع وإنما ... تقطع أعناق الرجال المطامع 181؟ باب الشره للطعام والحرص عليه قال أبو عبيد: قال بعض حكماء العرب " شدة الحرص من سبل
المتالف "، وقال آخر: " والمرء تواق إلى ما لم ينل ". ع: هذا من رجز للأغلب العجلي، وأحسن ما قيل في هذا قول الشاعر (1) : وللنفس ملهى في (2) التلاد ولم يقد ... هوى النفس شيء كاقتياد الطرائف وقال آخر (3) : لا يصلح النفس إذا كانت مصرفة ... إلا انتقالك من حال إلى حال قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في ذم الشره قولهم: " الرغب شؤم " ع: هذا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم. روى أبو الرجال عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى غلاماً نوبياً فألقى بين يديه تمراً فأكثر الأكل فقال: " الرغب شؤم " ورده. وروي عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن، حسب الرجل من طعامه ما أقام صلبه، فإن أبى فثلث طعام وثلث شراب، وثلث نفس ". ويروى عن معاوية أنه قال: " البطنة تأفن (4) الفطنة " أي تنقص. ورجل مأفون: ناقص العقل. وقال عمرو لمعاوي يوم الحكمين: أكثر لهم من الطعام، فوالله ما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم، يقال: رغب ورغب ورغبى ورغبة ورغبوت ورغبوتى (5) . وكذلك رعب ورهب ورهبة ورهبوت ورهبوتى بمعنى.
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في ذلك " لا تجعل شمالك جردبانا " وهو الذي يستر الطعام بشماله لكي لا يراه أحد فيتناوله من بين يديه. ع: يقال منه جردبت الطعام (1) . قال الشاعر (2) : إذا ما كنت في قوم شهاوى ... (3) فلاتجعل شمالك جردبانا 182؟ باب التثقيل على الناس قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: " لا تبطر صاحبك ذرعه " (يقول: لا تحمله ما لا يطيق) . ع: يقال: ضاق بالأمر ذرعاً وذراعاً بمعنى، إذا لم يطقه. وليس البطر هنا الذي هو كالأشر وغمط النعمة، إنما هو بمعنى الحيرة والدهش، قاله الخليل. وقال الأصمعي: بطر الرجل إذا بهت. وقال رجل لصاحبه: لا يبطرنك جهل فلان حلمك، أي لا يدهشنك عنه، وكذلك هو بمعنى المثل: لا تدهش وتحير صاحبك عما يحتمله ذرعه ويدركه وسعه. قال أبو عبيد: وفي بعض الحديث " ازهد فيما في أيدي الناس يحببك الناس "
ع: هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم. رواه سفيان الثوري عن أبي حازم المدني عن سهل بن سعد الساعدي. قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخبرني بعمل إذا أنا عملته أحبني الناس. قال: " ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ". قال أبو عبيد: وفي حديث مرفوع: " استغنوا عن الناس ولو عن قصم السواك ". ع: هكذا أورده أبو عبيد، والمعروف أن القصم مصدر قصمت الشيء أقصمه قصماً إذا كرسته (1) والقصمة بكسر القاف: القطعة منه، والجميع قصم، ورجل أقصم إذا ذهبت إحدى ثنيتيه أو رباعيتيه. وقال بعض اللغويين: يقال في القطعة قصمة وقصمة؟ بالكسر والفتح؟ والذي أحفظه في حديث مرفوع: " ليجتزئ أحدكم ولو بضوز سواكه " والضوز: اللوك، ضازه يضوزه مثل لاكه يلوكه. والرجل يضوز التمرة في فيه لتلين، قال (2) : فظل يضوز التمر والتمر ناقع ... دماً مثل لون الأرجوان سبائبه (3) وروى الحربي من طريق الأعمش عن سعيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك ". قال الحربي: الشوص: الاستياك عرضاً (4) . وقد شاص فاه بالسواك. فمعنى الحديث: استغنوا عن الناس
ولو بسواك الشوص كما نهى عن غبيراء السكر (1) يريد سكر الغبيراء. وأنشدنا عمرو (2) : فلا زال يسقي ما مفداة حوله ... أهاضيب مستن الصبا ومسيلها يعني ما حول مفداة. 183 -؟ باب الذم لمخالطة الناس وما يحب من اجتنابهم قال أبو عبيد: قال أبو زيد: من أمثالهم في هذا: " خلاؤك أقنى ليحائك " أي أنك إذا خلوت في منزلك كان أحرى أن تقنى (3) الحياء وتسلم من الناس. ع: وقال أبو زيد: قنا الرجل حياءه يقنوه قنواً إذا أصابه استحياء. قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ومن أمثالهم في نحو هذا: " من يسمع يخل "، يقول: من يسمع أخبار الناس ومعايبهم (4) يقع في نفسه عليهم المكروه. ع: قال أبو زيد: قولهم من يسمع يخل هو من خلت الشيء أخاله بمعنى ظننته، يقول: من سمع بشيء ظن وقوعه إن لم يتيقنه، قال: وذلك يكون في الخير والشر.
الباب الرابع عشر
الباب الرابع عشر أمثال الخطأ والزلل في الأمور 184 - باب مثل الخطأ في القياس والتشبيه قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: " مذكية تقاس بالجذاع " يضرب لمن يقيس الكبير بالصغير. ع: المذكي من الخيل الذي قد جاوز القراح بعام، والجذاع جمع جذع وهو أقل الأسنان ومثله أو نحوه قولهم: " جري المذكيات غلاب " وقد تقدم ذكره وتفسيره. 185 -؟ باب الخطأ في نقل الأشياء من الأماكن التي تعز فيها إلى الأماكن التي تكثر فيها قال أبو عبيد: من أمثالهم [في هذا] : " كمستبضع التمر إلى هجر "
ع: نظمه الشاعر فقال (1) : فإنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضع تمراً إلى أهل خيبرا قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في وضع الأشياء في غير موضعها قولهم: " خلع الدرع بيد الزوج ". وكان المفضل فيما يحكى عنه يخبر أن المثل لرقاش بنت عمرو بن تغلب بن وائل وذكر الخبر (2) : ع: ذكر غير واحد أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما تزوج نائلة بنت الفرفصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن الحصين الكلبي؟ وهذا هو الفرافصة، بفتح أوله، وكل اسم في العرب غيره فرافصة؟ بضم أوله؟ وساقها إليه أخوها فأدخلت عليه وخلا بها فقال لها: أتقومين إليّ أم أقوم إليك. فقالت: ما قطعت إليك عرض السماوة (3) وأنا أحب أن تقطع إليّ عرض البساط. فقامت إليه فجلست إلى جنبه فقال لها: لا يسوءنك ما ترين من سيبي، قالت: إني لمن نسوة أحب رجالهن إليهن السيد الكهل. قال لها: ضعي الخمار، فوضعته، فقال لها: اخلعي الدرع، فخلعته، فقال لها: اخلعي الإزار، فقالت: ذاك إليك. فلما دخل على عثمان رضي الله عنه يوم الدار أكبت عليه وجعلت تنافح بيديها حتى أصيبت بجراحات. فلما قتل رضي الله عنه رثته فقالت (4) :
ألا إن خير الناس بعد ثلاثةٍ ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر ومالي لا أبكي وتبكي قرابتي ... وقد حجبت عنا فضول أبي عمرو فلما انقضت عدتها خطبها معاوية فامتنعت فألح عليها (1) فقالت لنسوتها: ما يعجب الرجال مني؟ قلن: ثناياك. فعمدت إلى فهر ودقت به ثنيتها وبعثت بها إلى معاوي، فكف، ولم تزل تحد بعد قتل عثمان حتى لحقت به. وقال ابن كرشم: أول من قال " التجريد لغير نكاح مثلة " رقاش بنت عمرو بن تغلب، وزاد زيادة على أبي عبيد (2) ، قال: وكانت من أجمل النساء فتزوجها كعب بن مالك بن تيم الله، فقال لها: اخلعي درعك، وكانت امرأة شريفة عاقلة، فقالت: " خلع الدرع بيد الزوج " قال: اخلعي درعك لأنظر إليك، فقالت: يا بن عم " إن التجريد لغير نكاح مثلة " فأرسلتها مثلاً، فطلقها مكانها، فتحملت إلى أهلها، فمرت بذهل بن شيبان بن ثعلبة فسلم عليها وخطبها إلى نفسها. فقالت لخادمها، انظري إذا بال أيبعثر أم يقعر، فنظرت الأمة فقالت لمولاتها: يقعر، فتزوجته. 186 -؟ باب الخطأ في وضع الإنسان بحيث لا يستوجب قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " متى كان حكم الله في كرب النخل " وهذا المثل لجرير بن الخطفى يقوله لرجل من عبد القيس شاعر كان قال في جرير:
أرى شاعراً لا شاعر اليوم مثله ... جرير ولكن في كليب (1) تواضع فقال جرير: متى كان حكم الله في كرب النخل ... وذلك أن بلاد عبد القيس بها النخل كثير فلهذا قاله. ع: هذا الرجل الذي لم يسمه هو الصلتان العبدي، حكم بين جرير والفرزدق في قصيدة، يقول فيها البيت الذي أنشده، ويقول (2) : أنا الصلتاني الذي قد علمتم ... متى ما يحكم فهو بالحق صادع لئن كان بحر الحنظليين واحداً ... فما تستوي حيتانه والضفادع وما يستوي صدر القناة وزجها ... ولا تستوي في الراحتين الأصابع يفضل الفرزدق على جرير، وتمام بيت جرير (3) : أقول وقد فاضت دموعي بعبرةٍ ... متى كان حكم الله في كرب النخل فرد عليه خليد عينين (4) : وهل كان رسل الله إلا من القرى ... وود أبوك الكلب لو كان ذا نخل قال أبو عبيد: ومنه قول ابن هرمة: " كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا "
يعني الحمامة التي تحضن بيض غيرها وتترك بيض نفسها. ع: قبل البيت بيت يتعلق به ولا يفهم معناه إلا منه وهو (1) : وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زنداً شحاحا كتارجكة بيضها بالعراء ... وملحفة بيض أخرى جناحا وذكر أبو عبيد أن ابن هرمة عنى بالحمامة، وهو قول أبي عبيدة، وقال غيره من العلماء: إنما يعني النعامة. وذلك أنها تنتشر للطعم فربما رأت بيض نعامة أخرى قد ذهبت لما ذهبت هي له فتحضن بيضها وتترك بيض نفسها وتنساه، ثم تجيء الأخرى فترى غيرها على بيضها فتمر لطيتها. ولذلك تقول العرب " أحمق من نعامة " وهذا معهود فيها معلوم، ولا يعلم في الحمام. وقال ابن الأعرابي " بيضة البلد " التي سار المثل بها هي بيضة النعامة المتروكة لا يهتدى إليها فتفسد. والنعام موصوف بالموق والشراد والنفار، وإنما توصف الحمام بالخرق وسوء النظر لأنها تضعه على غير تحصين فيسقط وينكسر كما قال عبيد بن الأبرص (2) : عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامه جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامه فشبههم في عيهم بأمرهم وخرقهم فيه بالحمامة في خرقها ببيضها، ولهذا المعنى الذي نسبوا فيه النعام إلى الموق والحمق ضربوا بها المثل لحضنها بيض غيرها. وقالوا " أحمق من جهيزة " وهي أنثى الذئاب لأنها تدع ولدها وترضع ولد الضبع. قال ابن جذل الطعان في ذلك (3) :
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بنيها فلم ترقع بذلك مرقعا 187؟ باب الخطأ ف مكافأة المحسن بالإساءة والمسيء بالإحسان قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم " خير حالبيك تنطحن " قال [أبو عبيد] : وأظن أصله أن شاة أو بقرة كان لها حالبان، وكان أحدهما أرفق بها من الآخر، فكانت تنطح الرافق بها وتدع الآخر. ع: إنما كانت شاة تسمى هيلة من أساء إليها درت له، ومن أحسن إليها نطحته فضربت مثلاً، قال الكميت: فإنك والتحول عن معد ... كهيلة قبلنا والحالبينا وإلى هذا ذهب الآخر في قوله: كعنز السوء تنطح من خلاها ... وترأم من يحد لها الشفار من خلاها: يريد من أطعمها الخلى، وهو الرطب من الكلأ، وحشها إذا أطعمها الحشيش وهو اليابس، ومنه قولهم في المثل " أحشك وتروثني " قال أبو عبيد: وكذلك قولهم " يحمل شن ويفدى لكيز " وشن ولكيز ابنا أفصى بن عبد القيس، كانا مع أمهما في سفر، وهي ليلى بنت قرآن بن بلي. ع: رواه علي بن عبد العزيز: ليلى بنت قران بضم القاف وتشديد الراء، ورواه الخشني: فران (1) بالفاء مفتوحة وتخفيف الراء، وهو الصحيح على ما ذكر محمد بن حبيب.
وقال أبو بكر ابن دريد: إنما هو فران، بفتح الفاء وتشديد الراء، قال وهو فعلان من فررت الدابة إذا رفعت جحفلته لتعرف سنه، أو من قولهم: هذا فر بني فلان أي الذي فر منهم. قال أبو عبيد: ومنه قول الشاعر (1) : " وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب " ع: صلة هذا البيت: أمن السوية أن إذا استغنيتم ... وأمنتم فأنا البعيد الأجنب وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب هذا وجدكم الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب وهذه الأبيات لرجل من مذحج. 188 -؟ باب الخطأ في كفران النعمة قال أبو عبيد: من أمثالهم السائرة في قولهم: " أسمن كلبك يأكلك "؟ وذكر حديثه عن المفضل (2) .
ع: وقالوا في نقيض هذا: " جوع كلبك يتبعك " قال محمد بن حبيب: وأول من قاله ملك من ملوك حمير كان عنيفاً على أهل مملكته يغصبهم أموالهم ويسلبهم ما في أيديهم، وكانت الكهنة تخبره أنهم سيقتلونه، ولا يحفل بذلك. وإن امرأة له سمعت أصوات السؤال فقالت: إني لأرحم هؤلاء لما يلقون من الجهد ونحن في العيش الرغد وإني لأخاف أن يكونوا عليك سباعاً، وقد كانوا لنا أتباعاً. فرد عليها " جوع كلبك يتبعك " فأرسلها مثلاً، فلبث كذلك زماناً ثم أغزاهم مع أخيه فغنموا ولم يقسم فيهما شيئاً. فقالوا لأخيه: قد ترى ما نحن فيه من الجهد، ونحن نكره خروج الملك عنكم إلى غيركم، فساعدنا على قتل أخيك واجلس مكانه، وعرف أخوه بغيه واعتداءه. فأجابهم إلى ذلك، فوثبوا عليه وقتلوه، فمر به عامر بن جذيمة وهو مقتول، وقد سمع قوله " جوع كلبك يتبعك " فقال: " ربما أكل الكلب مجوعه إن لم ينل شبعه ". وقال المنصور أبو جعفر لقواده: صدق الأعرابي حيث يقول " أجع كلبك يتبعك " فقال له أبو العباس الطوسي منهم: يا أمير المؤمنين أخشى أن يلوح له رجل برغيف فيتبعه ويدعك. قال أبو عبيد: ومن هذا المعنى مثلهم المشتهر (1) في العالم: أعلمه الرماية كل حين (2) ... فلما اشتد ساعده رماني " ع: هذا البيت لمالك بن فهم الدوسي ثم الأزدي، وكان ابنه سليمة بن مالك رماه بسيف فقتله، فقال أبوه مالك هذا البيت لما رماه. قال أبو بكر: يروى استد ساعده واشتد؟ بالسين مهملة وبالشين معجمة؟ قال: وكان مالك بن فهم بن غنم بن دوس الأزدي هذا قد تنحى في قومه بعين
هجر، وتحالفوا هناك، واجتمعت إليهم قبائل من العرب، فنزلوا الحيرة فوثب سليمة بن مالك بن فهم على أبيه فرماه فقتله، فقال أبوه: أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني فتفرق بنو مالك، وكانوا عشرة، ولحقوا بعمان، وملك جذيمة ابنه منهم وهو الأبرش عشرين ومائة سنة، وذلك في أيام ملوك الطوائف، وقد تقدم خبر جذيمة هذا. 189 -؟ باب اختلاط الرأي وما فيه من الخطأ (1) قال أبو عبيد: ومنه قولهم " اختلط الخاثر بالزباد ". ع: الزباد: ضرب من النبات كانوا يضعون ورقه على ظروف اللبن ويقال أيضاً: زبدت المرأة الصوف والشعر إذا نفشته، فيحتمل أن يراد في المثل: إن خاثر اللبن اختلط بمنفوش الصوف فلا يؤكل (2) . قال أبو عبيد: وكذلك قولهم: " اختلط الحابل بالنابل " (3) ع: الحابل: الذي يصيد الوحش بالحبالة، والنابل: الذي يصديها بالنبل، والحبالة: شرك الصائد، والجمع الحبائل، والصيد محبول ومحتبل إذا وقع في
الحبالة، وقال أبو زيد يقال: " ثار حابلهم على نابلهم " إذا أوقدوا الشر بينهم و " حولت حابله على نابله " إذا حولت أعلاه على أسفله. قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم " ما يدري أيخثر أم يذيب " وأصله في الزبد يذاب فيفسد على صاحبه فلا يدري أيجعله سمناً أم يتركه زبداً، ومنه قول بشر بن أبي خازم (1) : وكنتم كذات القيدر لم تدر إذ غلت ... أتنزلها مذمومة أم تذيبها ع: هذا تفسير لم يتابع عليه أبو عبيد، وإنما معنى تذيبها ليس من الإذابة على النار، يقال: أذاب بنو فلان على بني فلان إذا أغاروا عليهم وأخذوا مالهم. يقول بشر: لما رآنا تحيروا فلم يدروا ما يصنعون كسالئة فسدت عليها إذ لا يصلح ما تصنع، أتنزل القدر مذمومة لم تحسن سلاها سمناً أم تقسم ما فيها، إذ لا يصلح للادخار، وكيف يكون قوله أو تذيبها من ذوب الشيء الجامد والقدر على النار راهنة مقيمة. قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم " قد ترهيأ القوم " وذلك أن يضطرب عليهم الرأي فيقولوا مرة كذا ومرة كذا. ع: المرهيأ من الرجال: الضعيف المنزعة، المائق، قال الراجز (2) : قد علم المرهيئون الحمقى ...
190 -؟ باب الخطأ في سوء التدبير قال أبو عبيد: من أمثالهم في نحو هذا وليس هو منه بعينه قولهم: " لا أبوك نشر، ولا التراب نفد " وكان المفضل (1) يذكر أصل هذا أن رجلاً قال: لو علمت أين قتل أبي لأخذت من تراب موضعه فجعلته على رأسي فقيل له هذه المقالة، أي أنك لا تدرك بذلك ثأر أبيك ولا تقدر أن تنفد التراب. ع: انظر كيف جعل تفسير قولهم في المثل: لا أبوك نشر: أي أنك لا تدرك ثأر أبيك، وذلك أن العرب كانت ترى أن المقتول إذا أدرك بثأره فكأنه قد أحيي، ولذلك قال جرير (2) : إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يريد أن الثأر لا يؤخذ منهن ولا يدين من قتلنه، ولولا هذا التأويل لم يكن لقوله " ثم لم يحيين قتلانا " معنى. وقال الأخطل (3) : وكم قتلت أروى بلا ديةٍ لها ... وأروى لفراغ الرجال قتول والقول الصادع في هذا قوله سبحانه {ولكم في القصاص حياة} (البقرة: 179) .
191 -؟ باب الخطأ في اتهام النصيح (1) قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في التهمة قولهم: " عسى الغوير أبؤساً " وقد فسرناه في غريب الحديث. ع: قال الصمعي: أصل هذا أنه كان غار فيه ناس، فانهار عليهم وأتاهم فيه عدو فقتلوهم، فصار مثلاً لكل شيء يخاف أن يأتي منه شر، ثم صغر الغار فقيل غوير. وقال ابن الكلبي: الغوير، ماء لكلب معروف، وهو بناحية السماوة، وهذا المثل إنما تكلمت به الزبى (2) ، وذلك أنها لما وجهت قصيراً اللخمي بالعير، ليحمل لها عليها من بز العراق وألطافه، وكان يطلبها بذحل جذيمة الأبرش، فجعل الأحمال صناديق، وجعل في كل واحد منها رجلاً معه السلاح، ثم تنكب بهم الطريق المنهج (3) ، وأخذ على الغوير، فسألت عن خبره، فأخبرت بذلك، فقالت: " عسى الغوير أبؤساً " تقول: عسى أن يأتي ذلك الطريق بسوء (4) ، واستنكرت شأنه حين أخذ على غير الطريق. وتشبه عسى بكان لأنها فعل مثلها فتقول: عسى زيد قائماً، كما تقول: كان زيد قائماً، وعلى هذا أتى المثل. قال أبو عبيد: وإذا أتهم الرجل رجلاً فقيل: من أين هو؟ قال: من بلاد كذا، فقل له " أعرضت القرفة " معناه أن هذا مطلب عريض لا يقدر عليه ولا يحاط به.
ع: هذا مثل لا يفهم معناه بتفسير أبي عبيد، وقال الأصمعي: معنى أعرضت القرفقة: أخطأت لأنك عممت بتهمتك ولم تخص فتبين، والقرفة: التهمة، تقول: فلان قرفتي من القوم، أي موضع تهتمتي، وقال غيره، ويقال: أعرضت القرفة ويعني بالقرفة لحاء الشجر، وهو إذا عرض وخشن صعب على قارفه واشتد عليه قرفه، يقول: فهذا صعب عليك شديد كصعوبة قرف العريض الخشن من القرفة. 192 -؟ باب الخطأ في سوء الرعي قال أبو عبيد: ويقال في مثله " رعى فأقصب " قال: وذلك أنه إذا أساء رعيها ولم يشعبها من الكلأ تركت شرب الماء فلم تشرب لأنها لا تشرب إلا علف في أجوافها. يقال من ذلك: بعير قاصب، إذا امتنع من الورد، ورجل مقصب إذا فعلت إبله ذلك. ع: أصل القصب: القطع، وإنما يقال: قصبت الإنسان أو الدابة أقصبه قصباً إذا قطعت عليه شربه قبل أن يروى. وأنشد أبو حاتم عن الأصمعي: وهن مثل القاصبات القمح (1) ... وسمي الجزار قصاباً لقصبه اللحم، وقد قصبت الرجل إذا عبته. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في سوء الرعي قولهم: " شر الرعاء الحطمة " ع: هذا كلام يروى (2) في حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحسن:
دخل عائذ بن عمرو المزني وكان من صالحي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على عبيد الله بن زياد فقال: أي بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن من شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم ". فقال له عبيد الله: اجلس فما أنت إلا (1) من نخالة أصحاب محمد. فقال: وهل كانت لهم نخالة؟ إنما نخالة بعدهم في غيرهم. وإذا كان راعي الإبل يخرق في إيرادها وإصدارها قيل له: حطمة، لأنه يحطمها، وإذا كان رفيقاً بها عالماً بمصالحها قيل له ترعية. 193 -؟ باب الخطأ في رفع الشيء وادخاره عند وقت استعماله والحاجة إليه قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم: " لا مخبأ لعطر بعد عروس "؟ وذكر معناه؟ ثم قال: وكان المفضل يعرف الحديث ويقول: عروس اسم رجل والعامة تذهب إلى أن العروس هو المبتني بأهله. ع: قال ابن كرشم: إن عروساً رجل من العرب كانت عنده ابنة عم له فمات عنها فتزوجها بعده ابن عم لها آخر وهي كارهة، وانطلق بها إلى أهله وقد زودها طيباً في سفط فسار بها، فمر بقبر عروس وبه حي حلول فأقبلت تبكيه وترفع صوتها: يا عروس الأعراس، ويا شديد الباس، مع أشياء لا يعلمها الناس، فغضب زوجها فانتهرها وقال: ما تلك الأشياء؟ فقالت: عن المكارم غير نعاس، يعمل السيف صبيحات الباس، ثم قالت: يا عروس الأعراس الأزهر، الكريم المحضر، مع أشياء كانت تذكر. فازداد زوجها غضباً وقال: ما هي تلك الأشياء
التي كانت تذكر؟ قالت: كان عيوفاً للخنا والمنكر، طيب النكهة غير أبخر. ثم أخذت السفط فكسرته على قبر عروس، ثم قالت " لا عطر بعد عروس " فذهبت مثلاً. فقال زوجها: إلى أهلك فأنت طالق، فقالت: إذن أنصرف مغتبطة. وروى محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس أن عروساً هذا رجل من هذيل، وامرأته أيضاً هذلية اسمها أسماء. قال أبو عبيد: ويروى عن محكم اليمامة أنه كان يقول فيما يحض به قومه يوم مسيلمة: " الآن تستحقب الحرائم غير حظيات، وينكحن غير رضيات، فما كان عندكم من حسب فأخرجوه ". ع: محكم اليمامة هو محكم بن الطفيل الحنفي سيد أهل اليمامة، قتل يومئذ وكان أشرف من مسيلمة. وفي كتاب " النسب " للكلبي: قيل له محكم لأنهم جعلوه حكماً وحكموه. قال أبو عبيد: في كتاب " الأموال " يقال: محكم ومحكم؟ بالكسر والفتح؟ والحرائم جمع حريمة يريد الحرم، وقوله: غير حظيات هو جمع حظية من الحظ، وكيف تكون حظية وهي مقهورة مسبية. وكذلك قوله: غير رضيات، جمع رضية من الرضى. وقوله ما عندكم من حسب فأخرجوه، يعني من حمية، لأن الحفيظة والحمية إنما تكون على مقدار الحسب والشرف. 194 -؟ باب التدبير يصاب فيه مرة ويخطأ أخرى ع: كل ما أورده أبو عبيد في هذا الباب من مثل فهو متكرر، وقد مضى فيما سلف من الكتاب، وقد تقدم تفسيره والقول فيه، ووصلت المصراع الذي أنشد:
يد تشج وأخرى منك تأسوني ... وذكرت أنه لصالح بن عبد القدوس، وتمام البيت: إني لأكثر مما سمتني عجباً ... يد تشج وأخرى منك تأسوني (1)
الباب الخامس عشر
الباب الخامس عشر الأمثال في البخل وصفاته وأشكاله 195 -؟ باب ذكر البخيل وما يوصف من أخلاقه قال أبو عبيد: من أمثالهم في نعت البخيل " ما عنده خل ولا خمر " أي ما عنده من الخير شيء. وقال النمر بن تولب العكلي (1) : هلا سألت بعادياء وبيته ... والخل والخمر التي لم تمنع (2) ع: هو عادياء أبو السموأل الغساني، وقوله: لم تمنع أي لم يمنعها هو ولم
تمنعه، والخل والخمر مثلان للخير والشر، يقال في المثل " ما فلان بخل ولا خمر " أي لا خير فيه ولا شر عنده، وأنشدوا على هذا بيت النمر المتقدم إنشاده، وقيل: هما مثلان مضروبان لقلي الخير وكثيره، ولا شر هناك، وإلى هذا أشار أبو عبيد فيما تقدم من كلامه؛ قال أبو علي: وأما قول العرب في أمثالها " ليس بخلةٍ ولا خمرةٍ " فهو كقولهم: سويقة ودقيقة وعسلة وضربة. قال أبو عبيد: وكذلك قولهم " سواء عليك هو والقفر " يقول: إذا نزلت به فكأنك بالقفار الممحلة. قال: ومنه قول ذي الرمة في بيت عاب فيه قوماً، إلا أنا نكره ذكره. ع: ليس فيه شيء من الاقذاع فيكره ذكره، وقد أنشد عدة أبيات هي في الهجو أشد منه، قال ذو الرمة يهجو المرئيين (1) : تخط إلى القفر امرأ القيس إنه ... سواء على الضيف امرؤ القيس والقفر يحب امرؤ القيس القرى أن يناله ... ويأبى مقاربها إذا طلع النسر وطلوع النسر في أول الليل يكون عند كلب البرد وشدة الزمان. 196 -؟ باب صفة البخيل مع السعة والوجد قال أبو عبيد: من أمثالهم في ذلك " رب صلف تحت الراعدة (2) " قال: والراعدة هي السحابة ذات الرعد، والصلف قلة النزل والخير.
ع: قد أنكر كثير من اللغويين النزل (1) وإنما يقال: طعام قليل النزل، بفتح النون والزاي، أي قليل الريع والنماء، ويقال: فلان صلف أي قليل الخير وامرأة صلفة: لم تحظ عند زوجها، وقال غير أبي عبيد: هذا المثل يضرب للرجل يكثر الكلام والمدح لنفسه ولا خير عنده، وهذا هو الصحيح لأن السحابة إذا كانت كثيرة الماء لم يقل لها صفة. قال أبو عبيد: وقال الأموي في مثله أو نحوه " إنه لنكد الحظيرة " إذا كان منوعاً لما عنده، قال: وجمع النكد: أنكاد ونكد، ومنه قول الكميت (2) : نزلت به أنف الربيع وزايلت نكد الحظائر ... قال: أراه سمى مواله حظيرة لأنه حظرها عنده ومنعها فهي حظيرة في معنى محظورة. ع: قوله في جمع نكد نكد وهم، إنما يجمع نكد أنكاد كما قال، وأما نكد فإنه جمع نكود، يقال: ناقة نكود إذا كانت قليلة الدر. وأصل هذا اللفظ من العسر والضيق، وقوله: أراه سمى أمواله حظيرة لأنه قد حظرها عنده ومنعها، وإنما الحظيرة والحظار ما حظرته على غنم أو غيرها لتأوي إليه ويمنعها من الخروج وهذا كما تقول " فلان ضيق العطن " يضرب أيضاً مثلاً للمنع وضيق الخلق، وإنما العطن موضع مبارك الإبل حول الماء، فهذا ذاك. 197 -؟ باب البخيل يعطي على الرهبة ع: قد تقدم ما في هذا الباب من الأمثال إلا قول أبي عبيد، قال أبو زيد:
يقال " رهباك خير من رحماك (1) " يقول: فرقه (2) خير من حبه لك وأحرى أن يعطيك عليه. ع: هكذا حكاها أبو زيد وصح عنه رهباك ورحماك بفتح أولهما والضم فيهما فصيح. وإلا قول أبي عبيد: إذا أعطى البخيل شيئاً مخافة ما هو أشد منه قالوا: " قد يضرط العير والمكواة في النار " وهذا المثل يروى عن عمرو بن العاصي أنه قاله في فلان. ع: قال العلماء بالأخبار: إن أول من نطق بهذا المثل مسافر بن أبي عمرو وكان يهوى هنداً بنت عتبة أم معاوية وكانت تهواه، فقالت له: إن أهلي لا يزوجوني منك لأنك معسر، فلو وفدت على بعض الملوك لعلك تصيب مالاً فتتزوجني، فدخل إلى الحيرة وافداً على النعمان، فبينما هو مقيم عنده إذ قدم عليه قادم من مكة فأخبره بأشياء كانت بعده منها أن أبا سفيان تزوج هنداً، فسقي بطنه من الغم، فأمر النعمان أن يكوى فأتى الطبيب بمكاويه فجعلها في النار ثم وضع عليه منها مكواة، وعلج من علوج النعمان واقف، فلما عاين ذلك ضرط، فقال مسافر: قد يضرط العير والمكواة في النار. ومات مسافر من علته (3) ، وقد قيل في المثل غير هذا، والذي ذكرناه أحرى واصح. 198 -؟ باب البخيل يعتل بالإعسار قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم " قبل البكاء كان وجهك عابساً "
ع: من جيد ما ورد في هذا من الشعر قول الصاحب في هجائه قابوس بن وشمكير: قابوس ويحك ما أخسك ما أخصك بالعيوب ... وجه قبيح في التبسم كيف يحسن في القطوب (1) ... 199؟ باب ما يؤمر به من الإلحاح في سؤال البخيل قال أبو عبيد: ومن ذلك قولهم " إن جرجر فزده ثقلاً " ع: جرجر الفحل جرجرة إذا تضور وتشكى، قال الراجز: جرج لما عضه الكلوب (2) ... وفحل جراجر: كثير الجرجرة، ومعنى المثل: إن ضج بعيرك وتشكى ثقل حمله بجرجرته، فزده ثقلاً. قال أبو عبيد: ومثله قولهم: " إن أعيا فزده نوطاً " ع: النوط جلة صغيرة يكنز (3) فيها التمر، يقول: إن أعيا فزده في حمله جلة. وأصل النوط التعليق، نطت الشيء نوطاً إذا علقته.
قال أبو عبيد: وقال أبو عبيدة في نحو منه: " دقك بالمنحاز حب الفلفل " ع: المنحاز: المدق، وهو كل ما دققت به، والنحز الدق، يقال: نحزت الشيء نحزاً، والمنحاز: الهاوون؟ وبعضهم يقول الهاون؟ وهكذا أنشده أبو عبيد: " حب الفلفل " وأنشده غيره حب القلقل وهو ثمر شجرة من العضاعه يخبط بالمنحاز لكثرة شوك شجره فيسقط. 200 -؟ باب استخراج الشيء من البخيل أحياناً قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " إن الضجور قد تحلب العلبة " وفسره (1) . ع: روي أن عمرو بن العاصي قال لمعاوية: إن الضجور قد تحلب العلبة. فقال له معاوي: وتزبن الحالب فتدق أنفه وتكفأ إناءه، الزبن: الدفع، يقال ناقة زبون إذا زبنت حالبها فدفعته برجلها، يقال: زبن البعير برجله ونفح بيده. 201 -؟ باب الاضطرار إلى مسألة البخيل قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذ " شر ما أجاءك إلى مخة عرقوب "
ع: قال يحيى بن زياد: طرح الباء من جاء بك وأوصل الفعل بالهمزة فقال: أجاءك كما قال الله سبحانه {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة} (مريم: 23) وقال غيره: يقال أجاءك وأشاءك بمعنى ألجأك، وإنما خص العرقوب لأنه لا مخ فيه، وإنما هو شيء رقيق كالاهالة فليس يحتاج إليه إلا من لا يقدر على شيء، ولذلك قال الأخطل لكعب بن جعيل (1) : وسميت كعباً بشر العظام ... وكان أبوك يسمى الجعل قال أبو عبيد: وفي نحو منه وليس هو بعينه " الذئب يغبط بذي بطنه " قال أبو عبيد: وذلك أنه ليس يظن به أبداً الجوع، إنما يظن به أبداً البطنة لعدوه على الناس والماشية، وربما كان مجهوداً من الجوع، قال الشاعر (2) : " ومن يسكن البحرين يعظم طحاله ... ويغبط بما في بطنه وهو جائع " ع: في هذا المثل وإيراد أبي عبيد له في باب مسألة البخيل سؤال، وما الذي يؤلف بينهما، وإنما التقاؤهما من جهة أن البخيل إذا سئل الجود وهو غير مجبول عليه لبخله فكأنه سئل شيئاً ليس لديه ولا يقدر عليه، فهو كالرجل يغبط بالمال وليس عنده، كالذئب يغبط بذي بطنه وهو جائع. وقال الأصمعي: إنما يضرب هذا المثل للرجل يتهم بالمال وليس عنده.
202 -؟ باب البخيل يمنع الناس ماله وهو جواد (به على نفسه) (1) قال أبو عبيد: ومنه قولهم " سمنكم هريق في أديمكم " أي مالكم ينفق عليكم. ع: يحمل الناس هذا المثل على أن معناه: سمنكم هريق في جلدكم؟ وهو الأديم؟ وقد فسره بذلك بعضهم، وهو خطأ. إنما الأديم هنا طعامهم المأدوم؟ فعيل بمعنى مفعول؟ أي خيرهم راجع إليهم وفيهم، كذلك فسره أبو علي وغيره. وباقي ما في هذا الباب من الأمثال قد تقدم ومضى القول فيه. 203 -؟ باب موت البخيل وماله وافر لم يعط منه شيئاً قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " مات فلان ببطنته لم يتغضغض منها بشيء "، قال: وهذا المثل لعمرو بن العاصي في بعضهم. ع: هذا الذي روى عنه قد صرح باسمه في آخر الباب فقال: ولعل هذا المعنى أراد عمرو بن العاصي حين قال لعبد الرحمن بن عوف: هنيئاً لك ابن عوف خرجت من الدنيا ولم تتغضغض منها بشيء، أي خرجت منها سليماً لم تثلم دينك ولم تكلمه (2) .
204 -؟ باب إعطاء البخيل مرة في الدهر الطويل قال أبو عبيد: من أمثالهم في البخيل مرة ثم لا يعود (1) " كانت بيضة الديك " فإن كان يعطي شيئاص ثم قطعه قبل للمرة الآخرة " كانت بيضة العقر ". ع: أما بيضة الديك فإنهم يزعمون أن الديك يبيض بيضة واحدة في عمره [بيضة] صغيرة شديدة البياض محددة الطرفين، قال بشار بن برد: قد زرتنا زورةً في الدهر واحدةً ... ثني ولا تجعليها بيضة الديك وأما بيضة العقر فإن فيها قولين: أحدهما الذي أشار إليه أبو عبيد أنها آخر بيضة تكون في الدجاجة وذلك إذا عقرت فصارت لا تلد، والقول الثاني: أن بيضة العقر هي البيضة التي تجرب بها الجارية البكر من قولك: عقرها إذا افتضها والعقر: الفضة، قال الشاعر: فإن أنفلت من عمر صعبة سالماً ... تكن من نساء الناس لي بيضة العقر قال السرقسطي (2) : أما بيضة العقر فيقال إنها بيضة الديك، وإنما نسبت إلى العقر لأن الجارية إذا افتضت إنما يبلى ذلك منها ببيضة الديك فتضرب ببيضة العقر لكل شيء لا يستطاع مسه رخاوة وضعفاً (3) . والعقر: دية فرج المرأة إذا غصبت نفسها، وبيضة الإسلام: جماعتهم ومعظمهم. ومنه الحديث: ولا تسلط عليهم عدواً من غيرهم يستبيح بيضتهم. وبيضة القيظ معظمه، قال الشماخ (4) :
طوى ظمئها في بيضة القيظ بعدما ... جرى في عنان الشعريين الأماعز (1) فأما قولهم " فلان بيضة البلد " فمن أراد به المدح فهو من هذا، ومن أراد به الذم ذهب إلى التريكة من بيض النعام لأنه لا منفعة فيها كما يقال " فقع القرقر ". قال الراعي (2) : لو كنت من أحد يهجى هجوتكم ... يا ابن الرقاع ولكن لست من أحد تأبى قضاعة أن تدري لكم نسباً ... وابنا نزار فأنتم بيضة البلد وقد يضرب مثلاً للمنفرد عن أهله وأسرته فلا يكون مدحاً ولا ذماً، قال الشاعر (3) : لو كان حوض حمار ما شربت به ... إلا بإذن حمار آخر الأبد لكنه حوض من أودى بإخوته ... ريب الزمان فأضحى بيضة البلد يقول: لو كان أنصاري أحياء ثم كان حوض حمارٍ من الحمر ما شربت به إلا بإذن ذلك الحمار (4) .
الباب السادس عشر
الباب السادس عشر ذكر الأمثال في صنوف الجبن وأنواعه 205 -؟ باب المثل في الجبان وما يذم من أخلاقه قال أبو عبيد: وأما قول عمرو بن أمامة: لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه قال: أحسبه أنه أراد حذره وجبنه ليس بدافع عنه المنية إذا نزل به قدر الله. ع: هذا يقوله عمرو بن أمامة يوم قتلته مراد بواد يقال له قضيب (1) وصاحبهم هبيرة بن عبد يغوث المكشوح (2) خرج عليهم عمرو (3) بسيفه وهو يقول (4) لقد عرفت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مقاتل عن طوقه ... والثور يحمي جلده بروقه قوله من فوقه: أي من السماء بقدر وهو معنى قول أبي بكر لعائشة حديث الإفك: إن الله قد أنزل عذرك من فوق رأسك، أي من السماء، قاله قاسم بن ثابت. وذكر أبو عبيد خبر خالد بن الوليد عند موته وقوله: " ها أنذا أموت حتف أنفي كما يموت البعير " ع: هكذا رواه أكثرهم عن أبي عبيد. وفي كتاب قاسم بن سعدان " كما يموت العنز " والصحيح كما يموت العير لأن البعير والعنز من السائمة المأكولة وأكثر ميتتها بالنحر والذبح لا حتف أنوفها. والعير من الحمر الأهلية، وأكلها محجر منهي عنه، فإنما منيتها حتف أنوفها. ومن جيد الشعر في هذا المعنى قول الشاعر، ويقال إنه لمعاوية بن أبي سفيان (1) : أكان الجبان يرى أنه ... يدافع عنه الحذار الأجل فقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشجاع البطل قال أبو عبيد: ومنه الشعر الذي تمثل به سعد بن معاذ يوم الخندق (2) : لبث قليلاً يلحق الهيجا حمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل ع: يعني حمل بن بدر الفزاري الذي يقول فيه قيس بن زهير (3) :
شفيت النفس من حمل بن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني قتلت بإخواتي سادات قومي ... وهم كانوا لنا حلي الزمان فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناتي وأما قولهم: " ما أحسن الموت إذا حان " فإنه من رجز آخر للضبي الذي يقول (1) : نحن بني ضبة أصحاب الجمل ... ننعى ابن عفان بأطراف الأسل ردوا علينا شيخنا ثم بجل ... لا عار بالموت إذا حم (2) الأجل الموت أحلى عندنا من العسل ... وهذا المذكور هو حمل، بفتح الحاء والميم، على لفظ ولد الضأن. وفي همدان حمل بن زياد بن حسان من ذي شعبين بفتح الحاء وضم الميم، وفي مذحج جمل بالجيم على لفظ الواحد من الجمال، وهو جمل بن كنانة بن ناجية بن مراد. وفي كنانة خمل (3) بضم الخاء المعجمة وإسكان الميم وهو خمل بن شق بن رقبة بن عامر ابن علي بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الجبن قولهم: " عصا الجبان أطول " قال: وأحسب أنه إنما يفعل هذا لأنه من فشله يرى أن طولها أشد ترهيباً لعدوه من قصرها. ع: إذا أخبر الفارس من العرب عن طول قناته فإنما يريد قوة ساعده وشدة
أيده واقتداره على تصريفها بثقلها وحسن ثقافته بها على طولها. وإذا أخبر عن قصرها أو عن قصر سيفه فإنما يريد أن ذراعه وباعه يطولان بهما، كما قال كعب بن مالك (1) : إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب وأحسن مقادير القناة عندهم إحدى عشرة ذراعاً. قال عتبة بن مرداس: واسمر خطياً كأن كعوبه ... نوى القسب قد أرمى ذراعاً على العشر وقال البحتري: كالرمح أذرعه عشر وواحدة ... فليس يزري به طول ولا قصر 206؟ باب فرار الجبان وخضوعه واستكانته قال أبو عبيد: قال الأصمعي ومنه قولهم: " بصبصن إذ حدين بالأذناب " ع: يقال: بصبص الكلب والفحل وغيرهما إذا حرك ذنبه. قال الراجز: " بصبصن [بالأذناب] (2) إذ حدينا " هكذا أنشده اللغويون، وحدين من الحداء
الذي يبعث نشاط الإبل. وقد روى بعضهم في كتاب " الأمثال ": " بصبصن إذ حذين بالأذناب " بالذال المعجمة من المحاذاة. قال أبو عبيد: وكذلك قولهم: " دردب لما عضه الثقاف " ع: لا أعلم لدردب في كلام العرب معنى إلا دردبة الطبل وهو صوته. وأما طرطب فهو دعاء النعجة يكون بالشفتين، يقال: طرطب بنعجتك. قال أبو عبيد: وكذلك قولهم: " ودق العير إلى الماء " كل هذه الثلاثة عن الأصمعي. ع: ودق: دنا، يقال: ودق مني الشيء أي دنا. والمودق موضع دنو الشيء، يراد في المثل: دنا العير إلى الماء. ولا أدري كيف يرتبط هذا المثل بعقد الباب ولا من حيث يلتقيان. وأنشد أبو عبيد على الإيغار (1) قول الشاعر (2) : ولقد رأيت فوارساً من قومنا ... غنظوك غنظ جرادة العيار ولقد رأيت مكانهم فكرهتهم ... (3) ككراهة الخنزير للإيغار ع: قال قاسم بن ثابت: سألت الهجري عن قول جرير:
لقد لقيت فوارساً من عامر ... غنظوك غنظ جرادة العيار ويروي: " لو أنهم ثقفوك يوم محجر غنظوك " فقال: كان العيار رجلاً من بني عليم وكان أفرق الثنية، فأكل جراداً فنشبت جرادة في فرق ثنيته فلم يشعر بها حتى تكلم في نادي قومه فنبه عليها. وقال الخليل: إن العيار صاد جراداً فدسهن في رماد وجعل يخرج واحدة بعد واحدة ويأكل من شدة الجوع. فأخذ جرادة منهن فطارت فقال لها: والله إن (1) كنت لأنضجهن. فضرب ذلك مثلاً لكل من أفلت من كرب. وقد فسر أبو عبيد الغنط. قال أبو عبيد: ومثله " حال اجريض دون القريض " وهذا المثل لعبيد بن الأبرص قاله للمنذر حين أراد قتله. فقال له: أنشدني قولك: " أقفر من أهله ملحوب "، فقال عبيد عند ذلك " حال الجريض دون القريض " (2) والجريض: هو الغصص عند الموت. ع: الصحيح أن صاحب يوم النعيم ويوم البؤس وأول من سنهما يومين في السنة هو النعمان الأكبر باني الخورنق وهو ابن الشقيقة، وهو المتأله والمتخلي عن ملكه آخر أمره. وسنذكر السبب في أمريه إثر هذا. فوفد إليه عبيد في يوم بؤسه، وقد كان قبل ذلك امتدحه فوصله وأكرمه فقال له: ما أخرجك ثكلتك أمك! فقال حضور أجلي وانقطاع أملي. وكان من لقيه في يوم بؤسه لم يخلصه من القتل شيء فاستنشده قوله: أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب فقال له: حال الجريض دون القريض. فعزم عليه أن ينشده فأنشده (3) :
أقفر من أهله عبيد ... فليس (1) يبدي ولا يعيد ثم قال: اختر إن شئت أخرجت نفسك من الأبجل وإن شئت من الأكحل، وإن شئت من الوريد. فقال عبيد (2) : خيرتني بين سحابات عاد ... فردت من ذلك شر المراد وكان سبب اتخاذه يوم البؤس من عامه أنه كان له عمرو بن مسعود وخالد ابن نضلة (3) نديمين يستلذ حديثهما. فبينما هو ذات يوم يشرب معهما جرت على لسانه أبيات شعر. فقال: قولا على هذه العروض، فقالا، فساء الملك بعض قولهما وقد سكر فقلهما. فلما صحا دعا بهما وأخبر بشأنهما فاشتد ندمه وكثر أسفه عليهما واتخذ يوم قتلهما يوم البؤس من عامه. وأما السبب الثاني في تألهه فإنه خرج يوماص في صيد، فهاجت ريح رعبت الناس وخلعت القلوب وانقطع من أصحابه وألجأه المبيت إلى رجل من طيء يقال له عمرو ابن الأخنس (4) فلم يأله إكراماً لما رأى من جماله وشارته وتضوع من طيب رائحته ولم يعرفه حتى إذا أصبح غشيته الخيل فارتاع الرجل فقال: لا ترع، أنا النعمان فأقدم علي أمولك. فتوانى الرجل وألحت عليه امرأته فخرج يريد النعمان فصادفه يوم بؤسه وقد ركب فأمر بذبحه، فقال له (5) : أنا الطائي أبو مثواك ليلة الريح وإنما جئت لوفاء موعدك. فأدناه النعمان ورحب به وقال: أوصني بكل أرب لك ووطر، غير أنه لابد من القتل. فقال له الطائي: ما لي حاجة ولا أرب دون نفسي فهب لي نفسي. فقال: لابد من القتل، فقال الطائي: إن لي وصايا وديوناً وعندي ودائع لا يعلمها أحد غيري فدعني حتى ألحق بأهلي وأوصيهم بما أريد وأرجع إليك، قال: فمن يكفل بك؟ فسأل الطائي عن أكرم الناس عليه، فقيل له: شريك بن
عمير، وهو ابن عمه وصهره، فنادى بأعلى صوته (1) : يا شريك بن عمير ... يا أخا من لا أخا له يا شريك بن عمير ... اكفل المرء وآله ريث أوصي وأؤدي ... مال من أودعت ماله يا شريك بن عمير ... هل من الموت محاله فاهتز لذلك شريك ومضى إلى النعمان فكفل له به، فأجل له النعمان وضمنه شريكاً بدمه، فانطلق الطائي إلى أهله وأوصاهم وودعهم ولبس أكفانه وتحنط وأقبل يريد النعمان. وإنه لما أصبح النعمان يوم أجل الطائي دعا شريك ليقتله فقال له: أيها الملك اجعل لي يومي هذا إلى انقضائه، ووطن نفسه شريك على القتل وودع أهله، فلم يلبثوا أن طلع عليهم الطائي في أكفانه متحنطاً، فاشتد تعجب النعمان منه وقال: ما أدري أيكما أكرم، فأخبرني يا طائي ما حملك على الوفاء وأنت تعلم أنك مقتول، قال: حملني على ذلك ديني، قال: وما دينك؟ قال: النصرانية، فوصف له الدين وتوحيد الله تعالى، فظهر له صحة ما وصف، وقبله بفطنته وتنصر، وقال: لا بؤس ولا يوم بؤس بعد هذا، ووصل الطائي وأحسن إليه، وكان ذلك سبب تزهده حتى انخلع من ملكه وساح في الأرض، وثبت الملك في ولده. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الجبان يشتد فزعه: " اقشعرت منه الذوائب " ع: الذوائب: هو شعر مؤخر الرأس واحدتها ذؤابة، وشعر مقدم الرأس الناصية. وبعضهم يقول " اقشعرت منه الدوائر ".
207 -؟ باب إفلات الجبان وغيره من الكرب بعد الاشفاء عليه قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم " أفلت وانحص الذنب " وذكره خبره (1) . ع: وأسقط منه ذكر السبب الذي من أجله جعل معاوية للغساني ثلاث ديات على أن ينادي بالأذان عند ملك الروم، وذلك أن معاوية لما كبر كانت توقظه النواقيس ولا يسوغ له بها نوم، فأراد بهذه الحيلة أن يجد السبيل إلى الراحة منها وهدم كنائسها. يقال: انحص الشعر والريش إذا ذهب وانجرد وحص شعره فهو محصوص إذا حصه غيره. قال أبو قيس بن الأسلت (2) : قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاع وفرس حصيص إذا قل شعر ثنته وهو عيب، والحصص قلة الشعر، ورجل أحص. قال أبو عبيد: فإذا أرادوا أنه نفر. فلم يعد يقال: " ضرب في جهازه " وفسره (3) إلا الجهاز.
ع: والجهاز متاع البيت وهذا أصله، ثم قيل لأداة القتب جهاز، وكذلك ما جهزت به التاجر والمسافر، قال الله تعالى {فلما جهزهم بجهازهم} (يوسف: 70) وتوسع في ذلك حتى قيل لفرج المرأة جهازها. 208 - باب الجبان يتوعد صاحبه بالإقدام قال أبو عبيد: أمثالهم في هذا: " الصدق ينبي عنك لا الوعيد " يقول: إن صدقك في الأمور واللقاء هو الذي يدفع عنك عدوك لا المقال من غير فعل. قال وقوله: ينبي ليس بمهموز لأنه من نبا الشيء ينبو وقد أنبيته عني دفعته ع: أراد أنه لا يقال هنا ينبئ عنك بالهمز بمعنى يعلم عنك كما تقول أنبأته أي أعلمته، إنما هو من بنا الشيء ينبو إذا تجافى عن الشيء فلم يعمل فيه، ولم يطمئن عليه، يقال: نبا السيف عن الضريبة إذا كل عنها فلم يعمل فيها شيئاً، ونبا جنبي عن المضجع إذا لم يظمئن عليه. قال الشاعر (1) : إن جنبي عن الفراش لناب ... كتجافي الأسر فوق الظراب (2) الأسر: البعير الذي به السرر (3) وهو داء يصيب الإبل في صدورها لا تقدر معه على البروك ولا الطمأنينة. يقول في المثل: فصدقك في دفاع عدوك تجافيه عنك ولا وعيدك إياه. قال أبو عبيد: ومثله قولهم: " أسمع جعجعةً ولا أرى طحناً "
ع: الطحن؟ بكسر أوله؟ ما طحن من دقيق وغيره والطحن؟ بفتح أوله؟ مصدر طحنت طحناً. والطحين أيضاً الشيء المطحون. قال الشاعر: " رحى جيزومها كرحى الطحين " ... فمعنى المثل: أسمع صوت رحى ولا أرى ثمرة ما تطحنه. فالجعجعة للرحى خاصة، والقلقلة للقفل، والوسواس للحلي، والدرداب للطبل، والنشنشة للمقلى، والغرغرة والغطغطة للقدر إذا غلت، والكلحبة للنار إذا توقدت، والمعمعة صوت لهبها إذا استوى توقدها، والهيقعة صوت ضرب السيوف. 209 -؟ باب تخويف الجبان وإجابته عند إيعاده قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: " برق لمن لا يعرفك " ع: يقال: برق الرجل وبرق، وقد قيل: أبرق إذا أوعد وتهدد. ويقال: إنك لتبرق وترعد إذا جاء متهدداً. قال المتلمس: إذا جاوزت من ذات عرق ثنيةً ... فقل لأبي قابوس ما شئت فارعد أي تهدد ما شئت. قال أبو عبيد: وإذا أرادوا أن يأمروه بالتبريق قيل " خش ذؤالة بالحبالة " ع: ذؤالة: اسم للذئب سمي بذألاته وه ضرب من المشي، ويقال: ذألت الناقة أيضاً تذأل ذألاً وذألاناً، وهو ضرب من مشي الإبل أيضاً. قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم: " جاء فلان ينفض مذرويه "
أي يتوعد ويتهدد. قال: وهذا المثل يروى للحسن البصري قاله في بعض أولئك الذين يطلبون الملك. والمذروان: فرعا الأليتين (1) ولا يكاد يقال هذا إلا لمن يتوعد (2) من غير حقيقة. ع: المحفوظ عن الحسن أنه قال في يوم عيد ورأى الناس يلعبون (3) : تلقى أحدهم أبيض بضاص يملخ في الباطل ملخاً، ينفض مذرويه ويضرب أصدريه، يقول: ها أناذا فاعرفوني. قد عرفناك فمقتك الله ومقتك الصالحون. قال أبو بكر في كلام الحسن: يملخ في الباطل ملخاً كأنه يلح فيه. وقال أبو إسحاق الحربي: الملخ التثني والتكسر، يقال: ملخ، إذا لعب ومرح. وقد فسر أبو عبيد المذروين، قال عنترة يخاطب عمارة بن زياد العبسي (4) : أحولي تنفض استك مذرويها ... لتقتلني فها أنا ذا عمارا والأصدران: عرقان في الصدغين. ويقال: هما المنكبان، يقال للرجل إذا جاء فارغاً: جاء يضرب أصدريه. وقال بعض أهل اللغة: إنما هو يضرب بأصدريه بحرف الجر كما يقال: جاء ينظر في عطفيه (5) ، ولم يرد في حديث الحسن إلا يضرب أصدريه دون باء.
قال أبو عبيد: ومنها قولهم: " ارق على ظلعك " ع: المحفوظ (1) عن العرب " أربع على ظلعك " والظلع: الميل، والظالع المائل، واربع أي كف. 210 -؟ باب كشف الكرب عند المخاوف عن الجبان قال أبو عبيد: من أمثالهم المنتشرة عند الناس: " أفرخ روعك " يقول: ليذهب روعك وفزعك، فإن الأمر ليس على ما تحاذر. ع: قد تقدم القول في هذا المثل بأتم ما يمكن أن يكون من الكلام وأبينه وأحفله. وذهب أبو عبيد هنا أن يكون الفعل الماضي في قوله: أفرخ روعك بمعنى الأمر كما جاء في الحديث: اتقى الله منافق على دمه، أي ليتق الله. وقد ذكرنا فيما سلف أن المثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاله لعروة بن مضرس حين قدم عليه بالمزدلفة، وذكرنا قول من قال إن المثل لمعاوي بن أبي سفيان وسقنا خبره بأتم مما ذكره أبو عبيد هنا (2) . 211 -؟ باب الرضا بالحاضر ونسيان الغائب قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: " من غاب غاب حظه "
ع: المحفوظ في هذا " من غاب خاب، وأكل نصيبه الأصحاب " وقال الشاعر في معناه: حكم سمعت به وليس بقاصد ... جوع الجماعة لانتظار الواحد
الباب السابع عشر
الباب السابع عشر في الأمثال في مرازي الدهر 212 -؟ باب المثل في الأقدار والنوازل قال أبو عبيد: قال شريح في الذين فروا من الطاعون: إنا وإياهم من طالب القريب " ع: فر قوم من أهل الكوفة من الطاعون إلى النجف فقال شريح: " إن من بالنجف من ذي قدرة لقريب "، هكذا لفظ الرواية عن شريح؛ والنجف غلظ في الأرض مرتفع، وبه سمي هذا الموضع وهو على مقربة من الكوفة. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا: " كيف توقى ظهر ما أنت راكبه " ع: الشاعر وهو المتلمس (1) :
فإن لا تجللها يعالوك فوقها ... وكيف توقى ظهر ما أنت راكبه يقول: كيف تتوقى مما أنت محمول عليه وراكب له. ومثله لأفنون (1) : لعمرك ما يدري الفتى كيف يتقي ... إذا المرء (2) لم يجعل له الله واقيا وقال أبو فراس في نحوه (3) : إذا كان غير الله لمرء عدة ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد كما جرت الحنفاء حتف حذيفة ... وكان يراها عدة للشدائد وقال ابن الرومي: طامن حشاك فإن دهرك موقع ... بك ما تحب من الأمور وتكره وإذا حذرت من الأمور مقدراً ... ففررت منه فنحوه تتوجه 213؟ باب الحين يجتلبه القدر على الإنسان قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: " إن الشقي راكب البراجم ". وهذا المثل لعمرو بن هند وذكر خبره. ع: كل من روى هذا الخبر من العلماء إنما قال: " إن الشقي وافد
البراجم " وهو المعلوم، وبتحريق عمرو بن هند لبني تميم سمي محرقاً (1) ، وقال أبو عبيد في آخر الحديث: ثم تحلل ابن هند عن يمينه بالحمراء بنت ضمرة النهشلية تمام المائة. وإنما هي الحمراء بنت نظلة، كذلك قال ابن الكلبي وغيره من الأخباريين وصح لي بعد هذا أن الصواب ما ذكره أبو عبيد لأن عمرو بن هند لما آلى ليحرقن مائة من بني دارم حرق تسعة وتسعين ووفى العدد بامرأة (2) . فلما قدمت قال: من أنت؟ قالت الحمراء بنت ضمرة بن جابر، ساد كابراً عن كابر، وأنا أخت ضمرة بن ضمرة، السريع الكرة، البطيء الفرة. قال عمرو: لولا مخافة أن تلدي مثلك لصرفت النار عنك. قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم: " لا تكن كالعنز تبحث عن المدية " ع: نظم هذا المثل أبو الأسود الدؤلي فقال (3) : فلا تك مثل التي استخرجت ... بأظلافها مديةً أو بفيها فقام إليها بها ذابح ... ومن تدع يوماً شعوب يجيها وقال الفرزدق (4) : فكان كعنز السوء قامت بظلفها ... إلى مدية تحت الثرى تستثيرها وقال أيضاً (5) :
رأيت ابن دينار يزيد رمى به ... إلى الشام يوم العنز والله شاغله بعذراء لم تنكح حليلا ومن تلج ... ذراعيه تخذل ساعديه أنامله قوله: يوم العنز أراد أنه جلب حينه على نفسه، وعذراء يعني جامعة (1) . قال أبو عبيد: ومثله قولهم: " حتفها تحمل ضأن بأظلافها " وهذا المثل تمثل به حريث بن حسان الشيباني بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لقيلة التميمية (2) ، وكان حريث حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ع: وكان من من حديثهما أن قيلة لما أراد عم بناتها أن يأخذهن منها خرجت تريد النبي صلى الله عليه وسلم فبكت بنية منهن هي أصغرهن. قالت قيلة: (حديباء) كانت قد أخذتها الفرصة (3) فرحمتها فحملتها معها. فبينما هما يرتكان (4) إذ انتفجت (5) أرنب فقالت الحديباء: الفصية (6) والله لا يزال كعبك عالياً (7) ، فأدركني عمهن بالسيف فأصابت ظبته طائفة من قرون رأسه وقال: ألقي إليّ ابنة أخي يادفار (8) ، فألقيتها إليه. ثم انطلقت إلى أخت لي ناكح في بني شيبان أبتغي الصحابة إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم: فبينما أنا عندها ليلة تحسب عيني (1) نائمة إذ دخل زوجها من السامر (2) فقال: وأبيك لقد أصبت لقيلة صاحب صدق، حريث بن حسان، فقالت أختي الويل لي، لا تخيرها فتتبع أخا بكر بين سمع الأرض وبصرها ليس معها رجل من قومها. قالت: فصحبته صاحب صدق، فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصليت معه الغداة، حتى إذا طلعت الشمس، دنوت فقال رجل: (السلام عليك يا رسول الله) [فقال رسول الله: وعليك السلام] وهو قاعد القرفصاء، قال: فتقدم صاحبي فبايعه على الإسلام ثم قال: يا رسول الله اكتب (لي) (3) بالدهناء، فقال: يا غلام اكتب له. قالت: فشخص بي (4) ، وكانت وطني وداري، فقلت: يا رسول الله، الدهناء مقيد الجمل (5) ، ومرعى الغنم، وهذه نساء بني تميم وراء ذلك. قال: صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتان (6) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيلام ابن هذه أن يفصل الخطة وينتصر من وراء الحجزة (7) ؟ قال أبو سليمان الخطابي: أصل هذا المثل أن النعمان بن المنذر عمد إلى كبش فعلق في عنقه مدية، ثم أرسله ونذر أن يقتل من عرض له، فكان الكبش يسرح ولا يمس. ثم مر على أرقم بن علباء اليشكري وقيل على علباء بن أرقم اليشكري، فقال كبش يحمل حتفه بأظلافه، ثم وثب عليه فذبحه واشتواه، وقال شعراً طويلاً فيه: أخوف بالنعمان حتى كأنني ... ذبحت له خالاً كريماً أو ابن عم
214 -؟ باب الشماتة بالجاني على نفسه الحين قال أبو عبيد: ويقال في مثله " يداك أوكتا وفوك نفخ " وذكر أصله عن المفضل. ع: وقال صاحب " العين " (1) خلاف ما ذكر، قال: كان من شأن هذا المثل أن شاباً انتهى إلى جوار يستقين بالقرب فكان يلاعبهن ويأخذ بعض القرب فينفخ فيه ثم يوكئه فاطلع عليه أخ لجارية منهن فقتله غيرةً، فجاء أخو المقتول فوجده قتيلاً، فأخبر بما كان يصنع من ملاعبة الجواري فقال: يداك أوكتا وفوك نفخ؛ وعزى نفسه ورجع. 215 -؟ باب الحين والشؤم يجلبه الإنسان أو غيره على من سواه قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الشؤم والحين قولهم: " كانت عليهم كراغية البكر " يعني بكر ثمود حين رماه صاحبهم فرغا عند الرمية فأنزل الله بهم سخطه. قال النابغة الجعدي لرجل من الأشعريين: رأيت البكر بكر بني ثمود ... وأنت أراك بكر الأشعرينا ع: هذا الرجل هو أبو موسى الأشعري، وقال علقمة بن عبدة في ذلك أيضاً (2) :
رغا فوقهم سقب السماء فداحص ... (1) بشكته لم يستلب وسليب قال أبو عبيد: وكذلك عاقر الناقة نفسه صار مثلاً في الشؤم عند العرب، قال زهير بن أبي سلمى: فتنتح لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطم ويروى: فتنتح لكم، يقال: أنتجت الناقة فهي منتج ونتوج. وأراد أحمر ثمود فلم يكنه الشعر فقال: أحمر عاد. وقد قال بعض النساب إن ثموداً من عاد. ع: أحمر ثمود هو قدار بن قديرة وهي أمه، وأبوه سالف، وهو الذي عقر ناقة صالح النبي صلى الله عليه وسلم فأهلك الله بفعله ثمود، فقالت العرب: أشأم من أحمر عاد. وقول زهير: غلمان أشأم، يعني غلمان شؤم، كما قال علي رضي الله عنه: من فاز والله بكم فاز بسهم الأخيب، يعني بسهم الخيبة. وقال معن بن أوس المزني (2) : لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنية أول يعني: وإني لوجل. قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة: ومن الأمثال في جلب الشؤم والحين قولهم: " على أهلها دلت براقش " قال: وبراقش اسم كلبة نبحت على جيش مروا ولم يشعروا بالحي الذي فيهم الكلبة، فلما سمعوا نباحها علموا أن
أهلها هناك، فعطفوا عليهم فاستباحوهم، فذهبت مثلاً. ع: وقال أبو محمد بن [ذي] الدمينة إن براقش حصن باليمن معروف وهو الذي يقول فيه النباغة الجعدي (1) : تستن بالضرو من براقش أو هيلان أو ناضر من العتم (2) ... قال (3) : وكان لأهل براقش بئر خارج الحصن لا منهل لهم سواها، وكان من داخل الحصن إليها نفق، قال: فحصرهم عدو وحل على الماء دونهم وطال حصاره لهم وهو لا يدري من أين يشربون وهم يختلسون شربهم ليلاً واستراقاً حتى نزلت كلبة لأهل الحصن في البستج لتشرب فرآها بعض من يستقي من العدو فأنزل صاحب الجيش الرجال فدخلوا الحصن من النفق وأهله غارون فقتلوهم وافتتحوا الحصن وسمي الحصن براقش باسم الكلبة. قال أبو عبيد: قال مؤرخ ومن هذا قولهم: " عير عاره وتده " عاره أهلكه. كما يقال: لا أدري أي الجراد عاره، أي ذهب به وأتلفه. ع: قال غير أبي عبيد: قولهم " عاره وتده " هو من العور في العين. يقال: عرت عينه وعارها غيري، وهو أشبه بالمثل لأن الوتد قد يصيب العين فيعورها ولا وجه للإهلاك هنا.
216 -؟ باب دول الدهر الجالبة للمحبوب والمكروه قال أبو عبيد: من أمثالهم [في دول الدهر] : " من ير يوماً ير به " وبعضهم يقول: " ير يوماً تر به ". ع: أول من قاله (1) كلحب بن شؤبوب الأسدي، كان خباً خبيثاً يغير على طيء وحده، وإن حارثة بن لأم الطائي دعا رجلاً من قومه فقال له: أما تستطيع أن تكفيني هذا الخبيث؟ قال: نعم. ثم أرسل عشر عيون عليه فعلموا مكانه فانطلق عليه فاستيقظ فزعاً وقبض على حلق أحدهما (2) فقتله، وبادر الباقون إليه فأخذوه وشدوه وثاقاً. وقال ابن المقتول واسمه حوذة: دعوني أقتله بأبي، قالوا: لا حتى نأتي به حارثة، فأتوه به فقال له حارثة: يا كلحب إن كنت أسيراً فطالما أسرت، فقال: " من ير يوماً ير به " وقال حوذة لحارثة: أعطنيه أقتله بأبي، قال: دونكه، وجعلوا يتكلمون وهو يعلك كتافه حتى انحل ثم وثب وهو يحاصرهم وتواثبوا على الخيل فأعجزهم على رجليه. وقال الراجز: من ير يوماً ير به ... والدهر لا يغتر به 217؟ باب حؤول الدهر وتنقله بأهله قال أبو عبيد: ومن أمثال أكثم بن صيفي: " كل ذاتن بعلٍ ستئيم "
ع: قال يزيد بن الحكم الثقفي (1) في قصيدته الأدبية الحكمية التي يعظ فيها ابنه بدراً ويوصيه (2) : كل امرئ ستئيم من ... هـ العرس أو منها يئيم (3) ما علم ذي ولد أيث ... كله أم الولد اليتيم قال أبو عبيد: ومن هذا قولهم: " أتى أبد على لبد " يعني نسر لقمان السابع، وفيه يقول النابغة الذبياني (4) : أضحت خلاءً وأضحى أهلها احتملوا ... (5) أخنى عليها الذي أخنى على لبد وقد ذكره لبيد في شعره أيضاً. ع: بيت لبيد هو قوله (6) : لما رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل (7) والعرب تزعم أن النسر يعيش خمسمائة عام ويزعمون أن لقمان بن عاد عاش عمر سبعة أنسر، كلما مضى عمر نسر منها أخذ فرخ نسر آخر، وأن آخرها (8)
كان يسمى لبد وإنه لما استوفى سنيه فمات قال لقمان " أتى الأبد (1) على لبد: ثم مات لقمان بعده. ولقمان أحد وفد عاد، وكان قد خير بين عمر سبعة أظب عفر في بلد (2) وعر، وبين عمر سبعة أنسر كلما مر نسر عاد عمره إلى نسر، فاختار عمر الأنسر في حديث طويل. قال أبو عبيد: قال الأصمعي في نحو منه: " انقطع السلى في البطن " أي فات الأمر وانقضى وكذلك: " انقطع قوى من قاويه " (3) ع: السلى للماشية وهو الوعاء الذي يكون فيه الولد وهو من الناس المشيمة. وقال أبو زيد: هما للناس وإذا انقطع السلى في البطن هلك الحامل والمحمول به، وأما قوله " انقطع قوى من قاويه " فقول يخالفه فيه أهل اللغة إنما هو " انقطع قوب من قائبة " يعنون فرخاً من بيضة. وكذلك يقولون في الدعاء لا والذي أخرج قوباً من قائبة، أي فرخاً من بيضة، سميت قائبة لتقوبها أي تفرقها عن الفرخ. ولذلك سميت القوباء لتقشر الجلد عنها على وزن " فعلاء " فإن قيل على وزن " فعلاء " ذكر وصرف (4) . قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الذي ينزل به الأمر الشديد الذي يحتاج أن ينصب فيه ويتعني: " إحدى لياليك فهيسي هيسي ".
ع: هذه كلمة للعرب، يقولون للرجل: هيس هيس عند إمكان الأمر والإغراء به، قال رجل من طسم حين أوقعت بها جديس، وقد تقدم خبرهم موفى (1) : يا طسم ما لاقيت من جديس ... إحدى لياليك فهيسي هيسي لا تنعمي الليلة بالتعريس (2) ... يخاطب ناقته وهو فار من جديس. قال الأموي: الهيس يفتح الهاء: السير أي ضرب كان، وأنشد الشطر (3) . قال أبو عبيد: ومن ذلك قولهم: " عش رجباً تر عجباً " ع: كان أهل الجاهلية يرفعون مظالمهم إلى رجب ثم يأتون فيه الكعبة فيدعون الله عز وجل فلا تتأخر عقوبة الظالم، فكان المظلوم يقول للظالم: " عش رجباً تر عجباً "، فسئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ذلك، وقيل نحن اليوم مع الإسلام ندعو على الظالم فلا نجاب في أكثر الأمر، فقال عمر رضي الله عنه: إن الله عز وجل لم يعجل العقوبة لكفار هذه الأمة ولا لفساقها فإنه تعالى يقول {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} (القمر: 46) . ويروى " عش رحباً " بالحاء المهملة أي وقتاً واسعاً. قال أبو عبيد: ومن الشدائد قولهم " رأى فلان الكواكب مظهرا " أي أظلم عليه يومه حتى رأى الكواكب عند الظهر.
ع: قد ذكرت ذلك الشعراء وأكثرت، قال طرفة (1) : إن تنوله فقد تمنعه ... وتريه النجم يجري بالظهر وأصل هذا أن اليوم الشديد العماس (2) في الحرب يثور فيه النقع ويرتفع الغبار فإذا اتفق أن تجذبه الريح تلقاء الشمس وهي مشرقة أو مغربة ظهرت الكواكب في الأفق الآخر لأن الرهج (3) يستر نور الشمس المانع من بدو الكواكب [فتظهر] (4) في الأفق النائي عنها، وقد زعموا أن الكواكب ظهرت يوم حليمة فضرب ذلك مثلاً لكل شدة. 218 -؟ باب اصطلام الدهر الناس بالجوائح (5) قال أبو عبيد: فإذا كثر أمر الجوائح عليه وطال حتى يمرن عليه ويبسأ به قيل: " أساف حتى ما يشتكي السواف " والإسافة ذهاب امال، يقول: قد اعتاده حتى ليس يجزع. ع: يقال: بسأت بالرجل أبسأ به بسأ وبسوءاً، وبهأت به أبها بهأ وبهوءاً وهما واحد، وهو استئناسك به، والسواف: الهلاك، عام في كل شيء. يقال: رماه الله بالسواف أي بالهلاك.
219 -؟ باب هلاك القوم بالحوادث قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في الهلاك قولهم: " وقع القوم في وادي جذبات " [قال] : وقد يقال ذلك فيهم أيضاً إذا جاروا عن القصد. قال الكسائي: ويقال أيضاً: " وقع القوم في وادي تضلل، وفي وادي تهلك وفي وادي تخيب " كله مثل المعنى الأول. ع: أما قولهم في وادي تجذب فإنه الذي يجذبهم هكذا وهكذا بضلاله لا يهتدون فيه لوجهة فطوراً يشرقون وطوراً يغربون، وتارة يأخذون ذات الجنوب وتارة ذات الشمال. وأما قولهم: وادي تهلك ووادي تضلل ووادي تخيب فذلك من الضلال والهلاك والخيبة. وفي " البارع " عن أبي الصقر: سلك فلان في وادي تضلل؟ بكسر التاء والضاد؟ إذا تكلم فأخطأ أو عمل شيئاً فلم يصب وجهه وجار (1) عنه. قال أبو عبيد: قال الأصمعي ومنه قولهم: " أخذوا طريق العيصين " (2) ع: هكذا رواه أبو عمر ابن احباب وغيره عن أبي علي العيصين؟ بالياء أخت الواو؟ كأنه تثنية عيص وهو الشجر املتف. ووقع في كتاب قاسم بن سعدان أخذوا طريق العبصين بالباء المعجمة بواحدة وكذلك قال علي بن عبد العزيز. قال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن قولهم سلك طريق العنصلين، إذا أخطأ الطريق، والصاد مفتوحة ولا تكون مضمومة؟ وقد حكى غيره فيها الضم كما قال:
عنصل وعنصل ومنصل؟ فقال الأصمعي: ذكر الفرزدق إنساناً في شعره فقال (1) : أراد طريق العنصلين فياسرت ... به العيس في نائي الصوى متشائم فظنت العامة أن كل من ضل ينبغي أن يقال له هذا. وطريق العنصلين حق وهو طريق مستقيم والفرزدق وضعه على الصواب (2) . وقال الزبير أو غيره من الرواة: طريق العنصلين طريق كثيراً ما يقتل فيه من سكله، وطريق العنصلين هو المعروف عند اللغويين، وأما طريق العيصين فلا أذكره إلا في كتاب أبي عبيد هذا. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الهلاك: " أوت بهم عقاب ملاع " يقال ذلك في الواحد وفي الجميع. ع: يعني أنه لا يقال عقابا ملاع وعقبان ملاع. وقال الزبير: ملاع موضع وقال اللغويون في قول امرئ القيس (3) : كأن دثاراً حلقت بلبونه ... عقاب ملاع لا عقاب القواعل (4)
إن تفسير عقاب ملاع: سريع لأن الملع السرعة [يقال] : ناقة ملوع ومليع أي سريعة، فمعنى عقاب ملاع أن كلما علت في الجبل كان أسرع لانقضاضها يقول: فهذه عقاب ملاع، أي العالي، أي تهوي من علو، وليس بعقاب القواعل وهي الجبال القصار. هذا قول أبي بكر وروايته (1) ، وكذلك رواه محمد بن حبيب وغيرهما. وزعم قوم أن ملاع؟ لا يجرى؟ اسم للصحراء. وإنما قالوا ذلك لأن عقاب الصحراء أسرع وأبصر من عقاب الجبال. ورواه الأصمعي عقاب تنوفى، وهي ثنية من جبل طيء مشرفة. قال أبو عبيد: وهذا مثل قولهم: " في الدهيم " أن أصلها كان إخوة قتلوا فحملوا على ناقة يقال لها الدهيم فجعلتها العرب مثلاً في البلايا العظام. ع: كان من خبر الدهيم أن مالك بن كومة الشيباني لقي كنيف بن عمرو، وكان مالك نحيفاً وكان كنيف ضخماً، فلما أراد مالك أسر كنيف اقتحم عن فرسه لينزل إليه مالك فيبطش به فأوجره مالك السنان وقال: والله لتستأسرن أو لأقتلنك، فأدركهما عمرو بن الريان (2) فاحتق فيه هو ومالك بن كومة؟ أي اختصما؟ فقالا: قد حكمنا كنيفاً، من أسرك يا كنيف؟ فقال: لولا مالك بن كومة لكنت في أهلي. فلطمه عمرو بن الريان فغضب مالك بن كومة وقال: أتلطم أسيري. إن فداك يا كنيف مائة بعير وقد وهبتها لك بلطمة عمرو وجهك، وجز ناصيته وأطلقه (3) . ول يزل كنيف يطلب عمراً باللطمة حتى دله عليه رجل من عقيلة وقد ندت له إبل فخرج عمرو وإخوته في طلبها فأدركوها وذبحوا حواراً
واشتووه وجعلوا يأكلون فغشيهم كنيف في ضعف عددهم، فلما حسر كنيف عن وجهه قال له عمرو: يا كنيف إن في خدي وفاء من خدك (1) وما في بكر بن وائل أكرم من خدي فلا تشبب الحرب بيننا وبينك. قال: كلا أو أقتلك وأقتل إخوتك، فقتلهم وجعل رؤوسهم في مخال وعلقها على ناقة لهم يقال لها الدهيم، فجاءت الناقة إلى الحي والريان جالس أمام بيته حتى بركت فقال: يا جارية هذه ناقة عمرو وقد أمطى (2) هو وإخوته، فقامت الجارية. فجست مخلاة فقالت: أصاب بنوك بيض نعام فأدخلت يدها، فأخرجت رأس عمرو أول ما أخرجت ثم رؤوس إخوته (3) فضرب حمل الدهيم مثلاً في البلايا العظام. قال أبو عبيد: وقد روي هذا المثل عن حذيفة حين ذكر الفتن فقال: أتتكم الدهيم ترمي بالنشف، والتي بعدها ترمي بالرضف (4) ... ع: النشف: هي الحجارة التي يقذف بها البركان، وهي التي تحك بها الأقدام واحدتها نشفة، ويقال لها أيضاً نسفة؟ بالسين مهملة مفتوحة؟ لأنها تنسف ما على الأقدام من الدرن أي تسقطه ولذلك سمي أثر رجل الراكب من مركوبه النسيف لسقوط الشعر عنه، قال العبدي (5) : وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها ... نسيفاً كأفحوص القطاة المطرق
والرضف: الحجارة المحماة. قال أبو عبيد: وفي حديث آخر عن حذيفة " الدهيما " وفي بعضه: " الرقطاء ". ع: روى الشعبي عن صلة عن حذيفة: تكون أربع فتن آخرها الرقطاء المظلمة تسوقهم إلى الدجال. قال الحربي: أي شهرت في الفتن كشهرة الدجاجة الرقطاء في الدجاج. 220 -؟ باب بلوغ الشدة ومنتهى غايتها في الجهد قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم: " عدا القارص فحزر " أي تفاقم الأمر واشتد. ع: أصل هذا المثل قول الراجز؟ والراجز معلوم لكني لا أذكره الآن (1) - يا عمر بن معرم لا منتظر ... بعد الذي عدا القروص فحزر يقول: لا منتظر بعد أن بلغ الأمر هذا المبلغ من الشدة. يقال: حزر اللبن والنبيذ، إذا بلغ الغاية من الحمضة.
قال أبو عبيد: ومثله قولهم: " هذا أجل من الحرش " وأصله في احتراش الضباب. ع: تزعم العرب أن الضب بينا هو يوماً يوصي ولده ويقول: يا بني إذا أتاك الحارش فافعل كذا، فإن فعل الحارش كذا فافعل كذا، إذا بحافر يحفر عنه جحره، فلما سمع ولد الضب وقع المحفار، قال: يا أبتي أهذا الحرش؟ قال: يا بني " هذا أجل من الحرش " والحرش صيد الضباب خاصة على وجه معروف عندهم. يضربونه مثلاً لكل من كان يخشى شيئاً فوقع فيما هو أشد منه. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الشدة قولهم: " القوم في أمر لا ينادى وليده " أي بلغ من الجهد أن يذهل المرأة عن صبيها أن تدعوه. ع: الذي ذكره قول الأصمعي. وقال غيره: معناه أن هذا الأمر لعظمه لا ينادى فيه الصغار وإنما ينادى فيه الكبار الجلة. هذا قول أبي عبيدة. وقال غير هؤلاء: هذا المثل يضرب في موضع الكثرة والسعة أي متى أهوى الوليد بيده إلى أخذ شيء لم يزجر لكثرة الشيء عندهم، هذا قول الكلبي، قال: ثم جعلوا ذلك مثلاً لكل خصب وسعة. قال الشاعر (1) : فأقصرت عن ذكر الغواني بتوبةٍ (2) ... إلى الله مني لا ينادى وليدها ونحو منه قولهم: " هم في خير لا يطير غرابه " يقول: يقع الغراب ولا ينفر لكثرة ما عندهم.
وقال أبو العميثل الأعرابي (1) : الصبيان إذا رأوا عجباص تحشدوا له مثل القرد والحاوي فلا ينادون ولكن يتركون يفرحون والمعنى أنهم في أمر عجب. وقال الفراء: هذه لفظة تستعملها العرب إذا أردت الغاية وأنشد: لقد شرعت كفا يزيد من مزيد ... شرائع جود (2) لا ينادى وليدها وقال ابن الأعرابي: معناه أمر كامل ليس فيه خلل ولا اضطراب قد قام فيه الكبار واستغني بهم (3) عن نداء الصغار. قا أبو عبيد: وقد روينا قولهم: " قد بلغ الماء الزبى، وقد تجاوز الحزام الطبيين " عن عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب بهما إلى علي رضي الله عنه وكان غائباً، وعثمان محصور في كلام قد ذكرناه في غريب الحديث. ع: كتب عثمان إلى علي رضي الله عنهما: أما بعد قد بلغ الماء الزبى وتجاوز الحزام الطبيين وطمع في من كان لا يدفع عن نفسه: فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق وقد فسر أبو عبيد معنى المثلين. وقد ذكرنا فيما تقدم من الكتاب هذا البيت وقائله وما اتصل بمعنى ذلك (4) . قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الأمر إذا انتهى فساده: " كدابغة وقد حلم الأديم " ثم قال: وقال المفضل إن المثل الخالد بن معاوية السعدي.
ع: قد ذكرنا خبره كاملاً عند ذكر أبي عبيد: " هم خير قويس سهماً " وهو خبر يجمع أمثالاً فأنظره هناك (1) . 221 -؟ باب الغيبة التي لا يرجى لها إياب قال أبو عبيد: قال ابن الكلبي من أمثالهم في هذا قولهم: " إذا ما القارظ العنزي آبا " (2) . قال: وهما قارظان كلاهما من عنزة، فالأكبر منهما هو يذكر (ابن عنزة والأصغر هو رهم بن عامر من عنزة) وذكر أبو عبيد خبره وأنشد في الخبر لخزيمة بن نهد (3) : إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا ع: وهذا بيت يحتاج إلى تفسير وتبيين معناه. وقوله أردفت: صارت ردفاً لها، يقال: ردفت الرجل وأردفته، أي صرت له ردفاً، فإن أردت أنك أركبته خلفك قلت: ارتدفته، يقول: إذا أردفت الجوزاء الثريا: [أي] إذا طلعت
الجوزاء إثر الثريا عند الفجر ثم لم يردفها نجم آخر لغلبة نور الشمس على النجوم فلذلك خص اجوزاء بالارداف دون غيرها. فإذا كان في ذلك الوقت رجع أهل البوادي إلى مياههم لانقطاع الحر وحاجتهم إلى المياه، قال: فعند ذلك أظن بآل فاطمة الظنون لأني لا أدري أين ينزلون معنا أم مع غيرنا، وقال قوم أراد بقوله: إذا الجوزاء أردفت الثريا جعلتها خلفها، وهذا لا يكون لأن الجوزاء لا تتقدم الثريا، فهذا كقولهم " حتى يشيب الغراب " و " حتى يبيض القار "، يقول: أنا لا أظن الشر بآل فاطمة أبداً. ذكر هذا المعنى الآخر محمد بن يزيد وصلة بيت خزيمة وهو أول الشعر: ظننت بهم وظن المرء حوب ... وإن أوفى وإن سكن الحجونا (1) وحالت دون ذلك من همومي ... هموم تخرج الشجن الدفينا أرى ابنة يذكر رحلت فحلت ... جنوب الحزن يا شحطاً مبينا 222؟ باب الإسراف في القتل قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: " صمت حصاة بدم " وذكر معناه (2) . ع: فأما قولهم: " صمي صمام " و " صمي ابنة الجبل " فإن أبا عبيدة قال: ابنة الجبل هي الحصاة فهو مثل قولهم " صمت حصاة بدم " ويقال: بنت الجبل الحية، فيقال صمي صمام أي لا تجيبي الرقاة، ولذلك يقال في الداهية:
صمي صمام تشبيهاً بالحية. قال القتبي: يقال صمي ابنة الجبل عند الأمر يستفظع. قال امرؤ القيس (1) : بدلت من وائل وكندة عدوان وفهماً صمي ابنة الجبل ... وقال الكميت: فإياكم إياكم وملمةً ... يقول لها الكانون صمي ابنة الجبل الكانون: الذين يكنون عنها، وقال ابن أحمر (2) : وردوا ما لديكم من ركابي ... ولما يأتيكم صمي صمام
فراغ
الباب الثامن عشر
الباب الثامن عشر ذكر الأمثال في الجنايات 23 -؟ باب الدواهي العظام يجنيها الرجل قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ويقال: " جاء بأم الربيق على أريق " و " جاء بإحدى بنات طبق " وأصلها من الحيات. ع: أم الربيق: اسم من أسماء الدواهي، وقولهم على أريق: قال الأصمعي: تزعم العرب أن رجلاً رأى الغول على جمل أورق فقال: جاء بأم الربيق على أريق. وأريق تصغير أورق، وكان أصله أن يقال: أويرق فحذف الواو وإن كانت أصلية لما كانت من حروف الزيادة ليزدوج الكلام. وقيل لابنة الخس أي الجمال شر؟ قالت الأورق؛ ويقال أيضاً للداهية أم أريق. وأم طبق ضرب من الحيات وهو حية صفراء بين السلحفاة والهرهير (1) . ومن طبعه أن ينام ستة أيام ثم ينتبه فلا ينفخ شيئاً
إلا أهلكه قبل أن يتحرك. وربما مر به الرجل وهو نائم فيأخذه كأنه سوار ذهب فإن اسيقظ في كفه خر الرجل ميتاً. وذكر أبو عبيد في هذا الباب بعض أسماء الدواهي وهي كثيرة؛ قال بعض اللغويين: جمع أسماء الدواهي من الدواهي، ومن كناها خمس عشرة كنية. وذكر أبو عبيد منها أم الربيق وأم جندب لا غير. وأم جندب أيضاً الظلم والغشم، قال الشاعر (1) : سيصلى بها القوم الذي صلوا بها ... وإلا فمعكود لنا أم جندب يعني الظلم، ومعكود مهيأ لنا مأخوذ من عكدة اللسان وهو أصله وكذلك عكدة الذنب وهو عكوته. وباقي كناها: " أم قشعم وأم خشاف، وأم خنشفير، وأم الرقوب، وأم الرقم، وأم أريق، وأم الربيس، وأم حبو كرى، وأم حبو كر، وأم أدراص، وأم نآد " وقد مضى القول في صمي صمام وصمي ابنة الجبل. 224 -؟ باب جناية الجاني التي لا دواء لها قال أبو عبيد: ومنه قولهم: " جرحه حيث لا يضع الراقي أنفه " أي لا دواء له. ع: قال ابن الكلبي في كتاب " النسب ": أول من نطق بهذا المثل جندلة بنت فهر (2) بن مالك بن النضر وكانت بجيلة الخلق (3) وكان زوجها حنظلة بن مالك
ابن زيد مناة بن تميم شيخاً كبيراً فأصابتهم ليلة ريح ومطر وبرق فخرجت تصلح طنب بيتها وعليها صدار فأكبت على الطنب وبرقت السماء برقة فأبصرها مالك بن عمرو بن تميم وهي مجبية (1) فشد عليها فخالطها فقالت (2) : يا حنظلة بن مالك لحرها ... شفى بها من ليلة وقرها فأقبل بنوها (3) وزوجها فقالوا لها: مالك؟ فقالت: لدغت، قالوا: أينه؟ قالت: " حيث لا يضع الراقي أنفه "؟ فذهبت مثلاً؟ ومات حنظلة بن مالك فتزوجها مالك بن تميم صاحب اللدغة فولدت له نفراً. 225 -؟ باب العداوة بين القوم وصفات الأعداء قال أبو عبيد: قال الأصمعي: من أمثالهم في نعت العدو قولهم: " هو أزرق العين " وكذلك قولهم: " هو أسود الكبد " (4) قال الشاعر: وما حاولت من أضغان قوم ... هم الأعداء والأكباد سود وقال ابن قيس الرقيات: " ونزالي في القوم صهب السبال ".
ع: البيت الذي أنشده محال مغير عن وجهه، وهو للأعشى يخاطب امرأة قال (1) : وما أجشمت من إتيان قومٍ ... هم الأعداء والأكباد سود فإن فارقتني فاستبدلي بي ... فتىً يعطي الجزيل ويستفيد هكذا صحة إنشاده ورواه أبو عبيد وما حاولت بضم التاء يعني نفسه وذلك هم. وإنما قيل للأعداء سود الأكباد كناية كأن العداوة ونيران الأحقاد قد أحرقت أكبادهم كما قال يزيد بن الحكم الثقفي (2) : تملأت من غيظ علي فلم يزل ... بك الغيظ حتى كدت بالغيظ تشتوي وتمام بيت ابن قيس: فظلال السيوف شيبن راسي ... ونزالي في الحرب صهب السبال هكذا صحة إنشاده: ونزالي في الحرب لا في القوم كما أنشده أبو عبيد، وقال ذو الرمة في معناه (3) : تسمي امرؤ القيس ابن سعد إذا اعتزت ... وتأبى السبال الصهب والآنف الحمر ولكنما أهل امرئ القيس معشر ... يحل لهم الخنازير والخمر يقول: يعتزون إلى سعد بن زيد مناة وهم عجم ولذلك جعلهم صهب السبال حمر الآنف. 226 -؟ باب إظهار العداوة وكشفها قال أبو عبيد: من أمثالهم هذا قولهم: " لبست له جلد النمر "
ع: العرب تكني بلبس هذه الجلود عن أحوال السباع التي هي عليها فإذا أرادوا الشدة والجرأة قالوا: جلد النمر لأنه أجرأ السباع وأعداها وأخفها وثباً وأذكاها قلباً وهو يقتل الأسد لأنه يجمع جراميزه فيثب على ظهره فينتهشه ويأكل لحمه وهي حي حتى يسقط لفيه، قال أوس بن حجر (1) : كأن جلود النمر جيبت عليهم ... إذا جعجعوا بين الإناخة والحبس (2) وإذا أرادوا الروغان والنكوص عن الأقران قالوا: " جلد ثعلب "، قال الشاعر (3) : أبينا أبينا أن تغنوا بعامرٍ ... كما قلتم زبان في مسك ثعلب (4) يعني كما قلتم إن زبان رواغ، وقال آخر: فطوراً ترانا في مسوك جيادنا ... وطوراً ترانا في مسوك الثعالب يقول: طوراً ترانا كجيادنا أي كخيلنا في الجرأة والإقدام إذا رأينا مقدماً، وطوراً ترانا كالثعالب في الروغان إذا رأينا أن الإحجام حزم والنكوص سياسة (5) كما قال زيد الخيل:
أقاتل ما كان القتال حزامة ... وأنجو إذا لم ينج إلا المكيس قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في العداوة: " هو يعض عليه الأرم " قال: يعني أصابعه. وقال مؤرخ: هو يحرق عليه الأرم، قال: وفي تفسيرها ثلاثة أقوال: يقال الحصى، والأضراس، ويقال: الأسنان وهي أبعدها، ولو كانت الأسنان لكانت بالزاي الأزم وإنما هي بالراء. ع: الأرم بالراء الأسنان هو قول ابن السكيت، وأما قول أبي عبيد: لو كانت الأسنان لكانت الأزم ابن قتيبة ذهب إلى الأزم وهو العض وأغفل الأرم وهو الأكل، يقال: أرم البعير يأرم أرماً، ومن قال الأرم: الأصابع فإنما سميت بذلك لأن الأكل يكون بها ومثله " فلان يكسر عليه أرعاظ النبل غضبا " والرعظ مدخل النصل في السهم. قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ومن أمثالهم في الشدة: " لقيت من فلان عرق القربة "، قال: ومعناه الشدة ولا أدري ما أصلها. قال أبو عبيد: وقد فسرناه في غريب الحديث. ع: ولعل قارئ كتابه هذا لم ير قط شرح الحديث له ولا هو في ملكه ولا في بلده. ومعنى المثل على ما ذكره هو وغيره، قال الكسائي في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تغالوا صدق النساء فإن الرجل يقالي بصداق المرأة حتى يكون ذلك لها في قلبه عداوة، يقول " جشمت إليك عرق القربة " يقول: نصبت وتكلفت حتى عرقت كعرق القربة، وعرقها: سيلان مائها. وقال أبو عبيدة: عرق القربة، يقول تكلفت إليك ما لم يبلغه أحد حتى تجشمت ما لا يكون لأن القربة لا تعرق، يذهب أبو عبيدة إلى مثل قول الناس " حتى يشيب الغراب "
و " حتى يبيض القار " وقال الأصمعي: عرق القربة كلمة معناها الشدة ولا أدري ما أصلها. ويروى عن أبي الخطاب الأخفش أنه قال: العرقة السفيفة التي يجعلها الرجل على صدره إذا حمل القربة تسمى عرقة لأنها منسوجة. وقال غيره: عرق القربة نقعها وهو ماؤها يعني في السفار، وأنشد للحارث بن زهير العبسي حين قتل حمل بن بدر وأخذ منه ذا النون سيف مالك (1) بن زهير الذي كان أخذه منه حمل يوم قتله (2) : سأجعله (3) مكان النون مني ... وما أعطيته عرق الخلال أي لم يعرق لي به عن مودة، يقال: خاللته مخالةً وخلالاً. 227 -؟ باب فساد ذات البين وتأريث الشر في القوم قال أبو عبيد: قال أبو زيد: يقال للقوم إذا أوفوا على الشر والفاد: " ثار حابلهم على نابلهم ". ع: قد مضى القول في الحابل والنابل في المثل المتقدم " هم بين حابل ونابل " قال أبو عبيد: وإذا نشب الشر بينهم وشملهم قيل: " شرق ما بينهم بشر "
ع: ما هاهنا بمعنى الذي وشرق هو من الشرق بالماء، وهو بمعنى الغصص قال عدي بن زيد (1) : لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري هذا كما تقول: غص المجلس بأهله، أي امتلأ ما بينهما بالشر حتى غص من كثرته وإنما هي كنايات واستعارات. قال أبو عبيد: فإن كانت بينهم معاملات من أخذ وعطاء لا غنى بهم عنها ولا تزال المشارة تكون بينهم فيها، قيل: " إن الحماة أولعت بالكنة وأولعت كنتها بالظنة ". ع: هذا شطر رجز ويروى: إن الحماة أولعت بالكنه ... وأبت الكنة إلا الظنة وقال عبد الصمد بن المعذل لأخيه أحمد بن المعذل الفقيه: أطاع الفريضة والسنة ... فتاه على الأنس والجنه كأن لنا النار من دونه ... وأفرده الله بالجنه وينظر مني إذا زرته ... بعيني حماة إلى كنه قال أبو عبيد: فإن كان لبعضهم فيه أدنى فضيلة على أنها خسيسة قيل " قبح الله معزى خيرها خطة " وخطة اسم عنز كانت عنز سوء. ع: قال الكسائي العرب، تقول " لعن الله غنماً خيرها خطة وكتة
وبطان " هذه شرار الغنم وهي أسماء معارف لا تنصرف. وقال أبو زيد: يقال: فلانة الخيرة من المرأتين بفتح الخاء وسكون الياء، قال: ويقال في مثل للعرب: " قبح الله معزى خيرتها خطة " [خطة] بغير صرف لأنها اسم العنز. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الشر " " بينهم عطر منشم " يراد به الشر العظيم. ع: للعلماء في تأويل هذا المثل وفي اللفظ به وفي اشتقاقه وفي سبب المثل به اختلاف كثير وأقوال جمة فأما اختلاف لفظه فإنه قد روى منشم ومنشم ومشأم ومن شم؟ مفصولة -، وأما اختلاف معناه فإن أبا عمرو زعم أن المنشم الشر نفسه، وزعم آخرون أن المنشم شيء يكون في سنبل العطر يسميه العطارون قرون السنبل وهو سم وحي وهو البيش، وزعم آخرون أن منشم اسم امرأة. وأما اختلافهم ف اشتقاقه فقالوا: إن منشم اسم موضوع كسائر الأسماء الأعلام وقال آخرون هو من نشم إذا بدا وأخذ في الشيء وذلك في الشر دون الخير ومنه الحديث: لما نشم الناس على عثمان رضي الله عنه أي طعنوا عليه، وقال آخرون منشم اسم وفعل جعلا اسماً واحداً وكان أصله من شم فحذفوا الميم الثانية وجعلوا الأولى حرف الإعراب. وأما من رواه مشأم فإنه يجعله اسماً مشتقاً من الشؤم. وأما اختلافهم في سبب المثل فزعم قوم أن منشم اسم امرأة وكانت عطارة تبيع الطيب فكانوا إذا أرادوا الحرب غمسوا أيديهم في طيبها وتحالفوا عليه بأن يستميتوا في الحرب ولا يولوا أو يقتلوا، فكانوا إذا دخلوا الحرب بطيب هذه المرأة يقول الناس: قد دقوا بينهم منشم، فلما كثر منهم هذا القول صار مثلاً للشر العظيم قال زهير: تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم وزعم آخرون أن منشم كانت امرأة تبيع الحنوط وإنما حنوطها عطر في قولهم دقوا بينهم عطر منشم لأنهم أرادوا عطر الموتى. وزعم من ذكر أن الاسم مركب
من اسم وفعل ان امرأة من العرب كانت تسمى خفرة تبيع الطيب فورد بعض أحياء العرب عليها فأخذوا طيبها وفضحوها فلحقهم قومها ووضعوا السيف وقالوا: اقتلوا من شم من طيبها. وزعم قوم أن هذا المثل إنما سار في الناس يوم حليمة وهو اليوم الذي قيل فيه " ما يوم حليمة بسر " وهو اليوم الذي كانت فيه الحرب بين الحارث بن أبي شمر ملك الشام وبين المنذر [بن المنذر] بن امرئ القيس ملك العراق فقتل فيه المنذر، وقد تقدم ذكره وإنما أضيف هذا اليوم إلى حليمة لأنها أخرجت إلى المعركة مراكن الطيب فكانت تطيب الداخلين في الحرب فقاتلوا من اجل ذلك حتى تفانوا. 228 -؟ باب مقلية القوم بعضهم بعضاً قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: " شاهد البغض اللحظ " ومثله في الحب: " جلا محب نظره " ومنه قول زهير (1) : فإن تك في صديقٍ أو عدو ... تخبرك العيون (2) عن القلوب ع: هكذا أورد أبو عبيد هذا المثل برفع محب ونصب نظره، والصواب جلا محباً أي أبدى لك نظره ما ينطوي لك عليه. وعلى هذا يصح أن يوضع مع المثل الذي قبله: " شاهد البغض اللحظ " والعرب تقول: " رب لحظ أنم من لفظٍ " وقال ابن أبي حازم (3) : خذ من العيش ما كفى ... ومن الدهر ما صفا
عين من لا تحب وص ... لك تبدي لك الجفا وقال شاعر عصره (1) : يخفي العداوة وهي غير خفيةٍ ... نظر العدو بما أسر يبوح وقالوا: يعبر عن الإنسان اللسان، وعلى المودة والبغض العينان. 229 -؟ باب توعد الرجل عدوه قال أبو عبيد: من أمثالهم في الوعيد: " لأمدن غضنك " (2) أي لأطيان عناءك. ع: قال أبو الجراح العقيلي: الغضن بفتح الغين والضاد، ما تغضن من باطن المرفق. قال أبو عبيد: ومن الوعيد قولهم: " لأشأنن شأنهم " ع: معناه: لأخبرن أمرهم، هكذا قال أبو علي، قال: وقال ابن الأعرابي: ما شأنت شأنه: معناه ما عرفت به ولا أردته، وقال الخليل: الشأن (3) الخطب وجمعه الشؤون.
قال أبو عبيد: من أمثالهم في الوعيد: " لألحقن حواقنك بذواقنك " والحواقن ما يحقن الطعام في بطنه، والذواقن [أسفل بطنه. قال أبو عبيد، قال أبو عمرو في الذواقن والحواقن غير هذا] (1) . ع: قول أبي عمرو هو قول أكثر العلماء وذلك أن باطن الترقوتين هما الحاقنتان، وهو هراء يفضي إلى الجوف، والذاقنة طرف الحلقوم ومنه حديث عائشة رضي الله عنها " قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي ". قال أبو عبيد: ويقولون أيضاً: " لأرينك لمحاً باصراً، أي صادقاً. عن أبي زيد. ع: معنى هذا المثل لأرينك من إيعادي لك أمراً واضحاً جلياً، وباصر في تأويل عيشة راضية أي مرضية، وماء دافق أي مدفوق، وكذلك قولهم: سر كاتم. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم " لتحلبنها مصرا "، يقول: لا تقدر على أن تنال منها شيئاً، وأصله قلة اللبن، يقال: مصرت الشاة أمصرها مصراً. ع: المصر في الحلب ألا تبقي شيئاً فيريد في المثل لتحلبنها ممصورة لا شيء فيها فوضع المصدر موضع المفصول، كما يقال: هذا درهم ضرب الأمير، ويحتمل أن يريد لتحلبنها حلباً مصراً، لأن قلة اللبن تحمل الحالب بالضرورة أن يجهدها بالحلب حتى يثير الدم.
قال أبو عبيد: قال الأحمر: ومن الوعيد " لئن التقى روعي وروعك لتندمن " ع: الروع: النفس وما خطر فيها، يقال: وقع في روعي أي في خلدي، وفي الحديث: إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب. 230 -؟ باب معاشرة أهل اللؤم وما ينبغي أن يعاملوا به قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا " أجع كلبك يتبعك " قال أبو عبيد: والعامة تقول: " ليس للئيم مثل الهوان ". ع: قد ذكرت هذا المثل وخبره وأول من نطق به عند ذكر المثل الآخر الذي في نقيض معناه وهو " سمن كلبك يأكلك ". وأما قولهم " ليس للئيم مثل الهوان " فأحسن ما ورد في ذلك قول أبي الطيب (1) : إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضر كوضع السيف في موضع الندى وقول الآخر: إن اللئام إذا أذللتهم صلحوا ... على الهوان وإن أكرمتهم فسدوا وأنشد أبو عبيد للفند الزماني (2) :
وبعض الحلم عند الجه ... ل للذلة إذعان وفي الشر نجاة حي ... ن لا ينجيك إحسان ع: أما البيت الأول فإن من جيد ما ورد في معناه وأبلغه قول النابغة الجعدي (1) : ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا وقد أنشدهما النابغة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا يفضض الله فاك، فعاش النابغة مائة وعشرين سنة لم تنغض له ثنية، أي لم تتحرك. وأما البيت الثاني فقد أحسن في معناه القتال الكلابي (2) : نشدت زياداً والسفاهة كاسمها (3) ... (4) وذكرته أرحام سعر وهيثم فلما رأيت أنه غير منته ... أملت لي كفي بلدن مقوم فلما رأيت أنني قد قتلته ... ندمت عليه أي ساعة مندم وقال الحصين بن الحمام المري (5) : ولما رأي الود ليس بنافعي ... عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما يفلقن (6) هاماً من رجال أعزةٍ ... علينا، وهم كانوا أعق وأظلما
الباب التاسع عشر
الباب التاسع عشر ذكر الأمثال في منتهى التشبيه 231 -؟ باب الأمثال في منتهى التشبيه قال أبو عبيد: من أمثالهم في أقاصي التشبيه قولهم " إنه لأحذر من غراب " وقال الفراء يقال: " إنه لأزهى من غراب ". وقال أبو زيد: يقال " إنه لأبصر من غراب ". ع: أما قولهم: أبصر من غراب فزعم ابن الأعرابي أن العرب تسمي الغراب " الأعور " لأنه مغمض أبداً إحدى عينيه مقتصر على الأخرى لقوة بصره. وقال غيره: إنما سمي أعور لحدة بصره على طريق التفاؤل، كما قالوا للفلاة مفازة. وأما قولهم " أحذر من غراب " فإنهم يحكون في رموزهم أن الغراب قال لابنه: إذا رميت فتلوص، قال: أنا أتلوص قبل أن أرمي. وأما قولهم " أزهى من غراب فلأنه إذا مشى [لا يزال] يختال وينظر إلى نفسه، قال الشاعر وهو خلف الأحمر في أبي عبيدة معمر بن المثنى (1) :
لنا صاحب مولع بالخلاف ... كثير الخطاء قليل الصواب ألج لجاجاً من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب قال أبو عبيد: وقال الفراء " أسمع من فرس " " وأسمع من قراد " ع: أما قولهم " أسمع من فرس " فإنهم يزعمون أنه ذكري الحس يسمع سقوط الشعرة تسقط منه، ويقولون في أسجاعهم: " أسمع من فرس بيهماء في غلس ". وأما قولهم " أسمع من قراد " فأنه يسمع صوت أخفاف الإبل من مسيرة يوم فيتحرك لذلك، وقد مكث زماناً غير متحرك. قال أبو عبيد: قال أبو زيد " أظلم من حية " وقال الأصمعي: " أمسخ من لحم الحوار " ع: أما قولهم " أظلم من حية " فلأنها لا تحتفر وإنما تجيء إلى حجر غيرها فتدخله فتغلب، قال الراجز في شيمة (1) الأفعى: وأنت كالأفعى التي لا تحتفر ... ثم تجي سادرة فتنجحر وأما قولهم " أمسخ من لحم الحوار " فإنه يقال أيضاً " أملخ من لحم الحوار " والمسيخ والمليخ الذي لا طعم له. قال الأشعر الرقبان يهجو ضيفاً ضافه (2) :
وقد علم المعشر الطارقون ... بأنك للضيف جوع وقر مسيخ مليخ (1) كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مر قال أبو عبيد: قال الفراء، يقال: " إنه لأعز من الأبلق العقوق " في الشيء الذي لا يوجد لأن العقوق إنما هو في الإناث دون الذكور. ع: ذكر ابن فارس في الأبلق العقوق أنه الفجر وأنكر التفسير الذي ذكره أبو عبيد وقال: ما الذي خص به ذكر الخيل بالامتناع من أن يكون عقوقاً وأفرده بذلك دون سائر ذكر الحيوان، ثم ما الذي عين الأبلق منها دون سائر الألوان؟ وقال غيره: الأبلق العقوق هو حصن السموأل بن عادياء الذي قي فيه " تمرد مارد وعز الأبلق " وكان مبنياً بحجارة بيض وسود، ولذلك سمي الأبلق، وعقاقه امتناعه، وأنه لا يسلم من فيه فكأنه حامل بهم أبداً لا يضعهم بأن يمكن عدوهم منهم فيخرجهم عنه. قال أبو عبيد: وقالوا: " أمنع من أم قرفة " ونسبها، وأنه كان يعلق في بيتها خمسون سيفاً كلهم محرم لها. ع: ذكر أبو عبيد في كتاب " الأموال " أن أم قرفة هذه ارتدت، فأتى بها أبو بكر رضي الله عنه فقتلها ومثل بها، حدثنا أبو مسهر حدثنا سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال: قال أبو مسهر: وأبي سعيد أن يخبرنا كيف مثل بها.
قلت: إنما مثل بها لما ذكره محمد بن حبيب البصري أنها جمعت النساء عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يضربن بالدفوف؟ لعنها الله -. قال أبو عبيد: قال الأصمعي: يقال " إنه لأجود من لافظة " وقال أبو زيد " أسمح من لافظةٍ " فيقال: إنها الرحى، سميت بذلك لأنها تلفظ ما تطحمه، ويقال: إنه العنز، وجودها أنها تدعى للحلب وهي تعتلف فتلقي ما في فيها وتقبل للحلب. ع: وقال بعضهم: هي الحمامة لأنها تخرج ما في بطنها لفرخها، وقال آخرون: هي الديك لأنه يأخذ الحبة بمنقاره فلا يأكلها ولكن يلقيها إلى الدجاجة، إلا المسن منها فإنه لاستغنائه عن الدجاج يأكل الحب دونها ويمنعها منه. وقال قوم: هي البحر لأنه يلفظ بالدرة الجليلة التي لا قيمة لها، والهاء للمبالغة، قال الشاعر (1) : تجود فتجزل قبل السؤال ... وكفك أسمح من لافظه قال أبو عبيد: قال الفراء: يقال " إنه لأكذب من الشيخ الغريب وقال أبو زيد: " إنه لأكذب من الأخيذ الصبحان " وقال: هو الفصيل الذي قد أتخم من اللبن. ع: أما قولهم: أكذب من الشيخ الغريب، فإنه يتزوج في غربة، وهو ابن سبعين سنة فيزعم أنه ابن أربعين سنة، وأما تفسير أبي عبيد في قولهم " أكذب من الأخيذ الصبحان " فلا يدرى له معنى، وأصله أن رجلاً كان خرج من حيه وقد اصطبح لبناً فلقيه جيش يريدون قومه فقالوا له: أين قومك؟ فقال: إنما بت
في فقر ولا عهد لي بقومي ولا أدري أين حلوا، فبينا هم ينازعونه غلبه البول، فبال، فعلموا انه ق اصطبح ولولا ذاك ما بال، وأيقنوا أن قومه قريب، فطعنه واحد منهم في بطنه فبدره اللبن، فمضوا غير بعيد فعثروا على الحي. وحكى أبو بكر ابن دريد " أكذب من الأخيذ الصبحان " بتحريك الباء. قال أبو عبيد: قال ابن الكلبي: ومنه " إنه لأحمق من دغة " قال: وهي امرأة عمرو بن جندب بن العنبر، وذكر ابن الكلبي من حمقها شيئاً يسمج ذكره. ع: دغة هي ماوية بنت مغنج، ومغنج هو ربيعة بن عجل، ومن حمقها (1) أنه تزوجت وهي صغيرة في بني العنبر كما قال فحملت، فلما ضربها المخاض ظنت أنها تريد الخلاء. فبرزت إلى بعض الغيطان، فولدت. فاستهل الوليد، فانصرفت إلى الرحل تقدر أنها أحدثت، فقالت لضرتها: يا هنتاه، وهل يفتح الجعر فاه فقالت: نعم ويدعو أباه، ومضت ضرتها فأخذت الوليد، فبنو العنبر تسب بها فتسمى بني الجعراء. قال أبو عبيد: قال الفراء: " إنه لأجبن من المنزوف ضرطا " ع: كان رجل من العرب تزوج في نسوة غرائب لم يكن لهن رجل فزوج إحداهن، وكان ينام الضحاء (2) ، فإذا أتينه بصبوحه قلن: قم فاصطبح، فيقول: لو لعادية تنبهنني؟ أي خيل عادية عليكن مغيرة فأدفعها عنكن؟ فلما رأين ذلك قال بعضهن لبعض: إن صاحبنا لشجاع، فتعالين حتى نجربه، فأتينه كما كن
يأتينه، فأيقظنه، فقال كما كان يقول " لو لعادية تنبهنني " قلن: فهذه نواصي الخيل، فجعل يقول: الخيل الخيل، ويضرط حتى مات، فقيل أجبن من المنزوف ضرطا. قال أبو عبيد: قال الأصمعي: " إنه لأجوع من كلبة حومل " ع: حومل: اسم امرأة من العرب كانت تجيع كلبة وهي تحرسها فكانت تربطها بالليل للحراسة وتطردها بالنهار، تقول: التمسي لا ملتمس لك، فلما طال عليها ذلك أكلت ذنبها من الجوع، قال الشاعر (1) : كما رضيت جوعاً وسوء ولايةٍ ... لكلبتها في أول الدهر حومل قال أبو عبيد: ومن أمثالهم: " إنه لأعيا من باقل " وهو رجل من ربيعة وكان عيباً فدماً، وإياه عنى الأريقط في وصف رجل أكثر من الطعام حتى منعه ذلك من الكلام (2) فقال: أتانا وما داناه سحبان وائلٍ ... بياناً وعلماً بالذي هو قائل فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل قال: وسحبان وائل هو من ربيعة أيضاً، كان لسناً بليغاً. ع: الصحيح أن باقلاص رجل من إياد، وقيل من بني مازن لا من ربيعة، ومن خبر عيه أنه اشترى ظبياص بأحد عشر درهماص فمر به يحمله على قوم فقالوا له: بكم اشتريت الظبي؟ فمد يديه ودلع لسانه يريد بأصابعه العشرة وبلسانه درهماً،
فشرد الظبي ومر حين مد يديه. والأريقط الذي ذكر هو حميد الارقط، قال [في هجو ضيف نزل به] (1) : أتانا ولم يعدله سحبان وائلٍ ... بياناً وعلماص بالذي هو قائل تدبل كفاعه ويحدر حلقه ... إلى البطن ما ضمت عليه الأنامل يقول وفد ألقى مراسي مقعد ... ابن لي ما الحجاج بالناس فاعل فقلت لعمري ما لهذا طرقتنا ... فكل؟ ودع؟ التسآل؟ ما أنت آكل فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي؟ لما أن تكلم - باقل وقد وهم أبو عبيد [أيضاً] في سحبان وائل فقال: إنه من ربيعة، ظنه وائل ابن ساقط بن هنب أبا بكر وتغلب، وإنما هو [من] وائل باهلة وهو وائل بن معن ابن أعصر بن قيس، وكان من خطباء العرب وبلغائها، وفي نفسه يقول: لقد علم الحي اليمانون أنني ... إذا قلت أما بعد أني خطيبها وهو القائل يمدح طلحة الطلحات الخزاعي: يا طلح أكرم من مشى ... حسباً وأعطاه لتالد منك العطاء فأعطني ... وعلي حمدك في المشاهد فقال له طلحة: احتكم، فقال: برذونك الورد وقصرك بزرنج (2) وغلامك الخباز وعشرة آلاف درهم، فقال طلحة: أف لك. لم تسألني على قدري وإنما سألتني على قدرك وقدر باهلة، والله لو سألتني كل قصر وعبد ودابة لأعطيتك. وسحبان وائل أول من آمن (3) بالبعث في الجاهلية، وأول من توكأ على عصا من العرب، وأول من قال " أما بعد " من العرب، وعمر مائة وثمانين سنة.
قال أبو عبيد: قال الأصمعي: يقال " هو أحلم من فرخ الطائر " ع: قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: " سنان ابن أبي حارثة أحلم من فرخ العقاب " فقلت: وما حمله؟ قال: يخرج من بيضة على رأس نيق، فلا يتحرك حتى يفي (1) ريشه. ولو تحرك لسقط من المهواة. قال أبو عبيد: يقال " أرمى من ابن تقن " (2) وهو عمرو بن تقن الذي قيل فيه " ى فتى إلا عمرو " ع: قد مضى القول في هذا وذكر الخبر في قولهم " لا فتى إلا عمرو "، وأول من قاله (3) . قال أبو عبيد: قال الفراء: " إنه لأصبر من ذي الضاغط " وهو البعير الذي قد حز مرفقه جنبه، ويقال أيضاً " أصبر من عود بدفيه الجلب " والدفان: الجنبان، والجلب: آثار الدبر، والعود: المسن. ع: المثل الأول لسعيد بن أبان بن عيينة بن حصن، والثاني لحلحلة بن قيس ابن أشيم وكلاهما عزاريان. وخبر ذلك (4) أن كلباص كانت أوقعت ببني فزارة وقتلوا منهم نيفاً وخمسين
رجلاً، فتلافى عبد الملك أمرهم وتحمل لبني فزارة نصف الحمالات فأداها إليهم، وضمن النصف الآخر إلى العام المقبل، ثم إن بني فزارة أخفرت ذلك، وغزت كلباً فلقوهم ببنات قين، فتعدوا عليهم في القتل، فغضب عبد الملك لإخفارهم ذمته، وكتب إلى الحجاج يأمره إذا فرغ من أمر ابن الزبير أن يوقع ببني فزارة، فلما فرغ الحجاج من أمر (1) ابن الزبير نزل ببني فزارة فأتاه حلحلة وسعيد المذكوران فأوثقهما وبعث بهما إلى عبد الملك، فلما مثلا بين يديه قال: من كان له عند هذين وتر فليقم إليهما، فقام ابن سويد الكلبي، وكان أبوه فيمن قتل ببنات قين فقال: يا حلحلة، هل أحسست سويداً؟ فقال: عهدي به يوم بنات (2) قين وقد انقطع خرؤه في بطنه. قال: أما والله لأقتلنك، قال: كذبت والله ما أنت تقتلني وإنما يقتلني ابن الزرقاء، والزرقاء إحدى أمهات مروان بن الحكم، يعابون بها، فنادى بشر بن مروان وأمه فزارية، فقال: صبراً حلحل، فقال حلحلة: أصبر من عود بدفيه الجلب ... قد أثر البطان فيه والحقب ثم التفت إلى ابن سويد فقال: يا ابن استها أجد الضربة فقد وقعت بأبيك مني ضربة أسلحته، فضرب ابن سويد عنقه. ثم قدم سعيد بن أبان لتضرب عنقه، فناداه بشر: صبراً يا سعيد، فقال (3) : أصبر من ذي ضاغط عركرك ... (4) ألقى بواني زوره للمبرك فضربت عنقه وألحق بصاحبه. قال أبو عبيد: قال الأصمعي: " إنه لأجبن من صافر " وهو ما صفر من الطير، ولا يكون الصفير في سباع الطير إنما يكون في خشاشها وما يصاد منها.
ع: ذكر محمد بن حبيب أن الصافر طائر يتعلق من الشجر برجليه وينكس رأسه خوفاً من أن ينام فيؤخذ فيصفر منكوساص طول ليلته. وزعم ابن الأعرابي أنهم أرادوا بالصافر المصفور به فقلبوه أي إذا صفر به هرب. كما يقال: ما بالدار صافر أي مصفور به، قال الشاعر (1) : خلت الديار (2) فما بها ... ممن عهدت بهن صافر وذكر أبو عبيدة (3) : أن الصافر هو الذي يصفر للمرأة بالريبة وهو وجل حذر مخافة أن يظهر عليه، قال الكميت (4) : أرجو لكم أن تكونوا في مودتكم ... كلباص كورهاء تقلي كل صفار (5) لما أجابت صفيراً كان (6) آتيها ... من قابس شيط الوجعاء بالنار وحديث ذلك أن رجلاً من العرب كان يعتاد امرأة وهي جالسة مع بينها وزوجها، فيصفر لها، فعند ذلك تخرج إليه عجيزتها من وراء البيت وهي تحدث ولدها، فيقضي منها وطره، ثم إن بعض بنيها أحس بذلك فجاء ليلاً وصفر بها، ومعه مسمار محمى. فأخرجت عجيزتها على عادتها فكوى بالمسمار صدعها، فأحسست بالموت وتجلدت، ثم إن الخل جاءها بعد ذلك فصفر بها فقالت: قد قلينا صفيركم، فضرب بها الكميت المثل. قال أبو عبيد: يقال: " اسرع من نكاح أم خارجة " قال: وهي بنت سعد بن قداد (7) من بجيلة.
ع: اسمها عمرة بنت سعد بن قداد بن ثعلبة بن معاوية بن زيد بن أنمار البجلية، وكانت من أجمل أهل زمانها، وولدت في قبائل من العرب في نيف وعشرين حياً، وكانت منجبة، وزعموا أن ابنها كان يسوق بها ذات يوم فرفع لهما راكب فقالت: من تراه؟ فقال: أظنه خاطباً، فقالت: يا بني أتراه يعجلنا ن يحل، ماله أل وغل. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم " هو أشأم من خوتعة " وهو رجل من بني غفيلة (1) بن قاسط أخي النمر بن قاسط. ع: اسم غفيلة عامر، وأما خوتعة فهو عبد الله بن صبرة الذي يقول فيه المرقش: لله دركما ودر أبيكما ... إن أفلت الغفلي حتى يقتلا ومن شؤمه أنه دل كنيف بن عمرو التغلبي على بني الزبان بن مجالد الذهلي لترة كانت لكنيف عند عمرو بن الزبان، فقتلهم كنيف أجمعين. قال أبو عبيد: ومن أمثالهم: " هو أصح من عير أبي سيارة "، وهو أبو سيارة العدواني؛ قال الصمعي: دفع الناس من جمع، أربعين سنةً، على حماره. ع: أبو سيارة (2) رجل من عدوان، اسمه عميلة بن عدوان بن خالد، وكان له حمار أسود، أجاز عليه بالناس من المزدلفة إلى منى أربعين سنة، وكان يقف فيقول: أشرف ثبير كيما نغير، ويقول:
خلوا الطريق عن أبي سياره ... وعن مواليه بني فزاره حتى يجيز سالماً حماره ... ويقول: اللهم حبب بين نسائنا، وبغض بين رعائنا، واجعل المال في سماحئنا،] قال أبو عبيد: من أمثالهم " هو أخيب صفقة من شيخ مهو " قال: وهم حي من عبد القيس كانت لهم في هذا المثل قصة يسمج ذكرها. ع: هذا الشيخ هو عبد الله بن بيدرة العبدي، ومن حديث أن إياداً كانت تعير بالفسو، وتسب به، فقام بسوق عكاظ ذات سنة رجل من إياد، ومعه بردا حبرة، ونادى: ألا إنني رجل من إياد، فمن يشتري الفسو مني ببردي هذين؟ فقام هذا الشيخ العبدي وقال: هاتهما، فأتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، وأشهد الأيادي أهل القبائل على العبدي أنه قد اشترى منه الفسو لقومه بالبردين فشهدوا عليه، وآب العبدي إلى أهله فقالواله: ما الذي جئتنا به من سوق عكاظ؟ قال: جئتكم بعار الدهر، فقالت عبد القيس لاياد: إن الفساة قبلنا إياد ... ونحن لا نفسو ولا نكاد فأجابتها إياد: يا للكيز دعوة نبديها ... نعلنها ثمت لا نخفيها كروا إلى الرحال فافسوا فيها ... وقال الراجز في عبد الله بن بيدرة، صاحب البردين: يا من رأى كصفقة ابن بيدره ... من صفقة خاسرة مخسره المشتري العار ببردي حبره ... تبت يمين صافق ما أخسره
وقال ابن دارة في وقعة مسعود بن عامر العتكي (1) : وإني إن صرمت حبال قيس ... وحالفت المزون على تميم لأخسر صفقة من شيخ مهوٍ ... وأجور في الحكومة من سدوم قال أبو عبيد: ومن أمثالهم " إنه لأشغل من ذات النحيين "، ولها حديث يسمج ذكره. ع: كان خوات بن جبير الأنصاري حضر سوق عكاظ فانتهى إلى امرأة هذلية تبيع السمن، وأخذ نحياً من أنحائها ففتحه ثم ذاقه ودفع فم النحي في إحدى يديها، ثم فتح آخر فذاقه ودفع فمه في يدها الأخرى، ثم رفع رجليها ودفع فيها وهي لا تدفع عن نفسها لحفظ أفواه النحيين، فلما قام عنها قالت: لا هناك، فرفع خوات عقيرته بهذه الأبيات (2) : وأم عيال واثقين (3) بكسبها ... خلجت لها جار استها خلجات فأخرجته ريان ينطف رأسه ... (4) من الرامك المخلوط بالمغرات شغلت يديها إذ أردت خلاطها ... (5) بنحيين من سمن ذوي عجرات وكان لها الويلات من ترك سمنها ... (6) ورجعتها صفرا بغير بتات
فشدت على النحيين كفا شحيحة (1) ... على سمنها، والفتك من فعلاني والرامك: ضرب من الطيب تتضيق (2) به المرأة. قال أبو عبيد: ويقال: " أشأم من البسوس " ع: قد تقدم ذكر البسوس وأنها المرأة صاحبة اناقة التي رمى كليب ضرعها عند ذكر المثل " خلا لك الجو فبيضي واصفري "، واسم الناقة سراب؟ معدول -. قال أبو عبيد: ويقال: " أجرأ من خاصي الأسد " وله حديث طويل. ع: تزعم العرب أن الاسد مر بحراث يحرث بثورين بادنين، فقال له: يا حراث ما أسمن ثوريك! فبماذا أسمنتها؟ وما الذي تطعمهما؟ قال له الحراث: إنما سمنا (3) لأني خصيتهما. فقال له الأسد: فهل لك في أن تخصيني عسى أن أصير بسمنهما. قال: نعم. فأمكنه من نفسه، فخصاه الحراث، ومر عنه، ودمه يسيل، فرقي إلى ربوة من الأرض واقعى كئيباً ممل حل به ينظر من الحراث، فإذا بثعلب قد مر به. فقال له: ما لي أراك حزيناً يا أبا الحارث؟ فذكر له خبره مع الحراث وما دهاه من الخصاء وآلمه. فقال له الثعلب: فهل لك في أن آتي الحراث وأستدير به عسى أن تمكنني فيه فرصة فاتئر لك؟ قال: نعم فداك أبي وأمي. فمضى الثعلب، فجعل يراوغ الحراث ويطيف به، فتناول الحراث حجراً وقذفه
به فدق فخذه، فأتى الأسد على ثلاث قوائم وأقعى معه على الرابية يشكوان بثهما، وما دهيا به من ذلك الحراث. فمرت بهما نعرة، فقالت: ما لكما على هذه الحال؟ فأخبراها خبرهما، فقالت: أنا آتيه فستدير به حتى أدخل (1) في أنفه وأنتقم لكما منه، فجزياها خيراً، ومضت فجعلت تستدير برأس الحراث وتروم الولوج في أنفه فتغافل لها حتى دنت فقبض عليها، وتناول عوداً ودسه في استها، وأرسلها فجاءت إلى الأسد والثعلب وهي في شر من حالهما، قد سد العود دبرها وأثقلها عن الطيران. فبينا هم على ذلك يتشاكون جاءت امرأة الحراث بغدائه، فتقدم الحراث إليها ورفع رجليها، وجعل يباشرها وهو بمراى من تلك الدواب. فقال الأسد: ما ترون هذا المشؤوم يفعل بهذه المرأة المسكينة؟ والله إني لأظنه يخصيها، فقال الثعلب: ما أراه إلا يكسر فخذها، فقالت النعرة: لا والله بل يدخل استها عوداً، فكانت النعرة أصدقهن ظناً. وقيل: إن خاصي الأسد هو الإصبع التي يفرس بها من براثنه، ذكر ذلك قاسم بن ثابت عن رجاله.
فراغ
الباب العشرون
الباب العشرون باب الأمثال في اللقاء وأوقاته 232 -؟ الأمثال في اللقاء (1) قال أبو عبيد: قال الأصمعي وأبو زيد جميعاً: " لقيته أول صوك وبوك " ع: لم يفسره أبو عبيد، ومعنى الصوك والبوك: الحركة، يقول: لقيته أول حركة الناس، يقال: ما به صوك ولا بوك، أي ما به حركة. قال أبو عبيد: فإن هجمت عليه هجوماً قلت: " لقيته التقاطا " ومنه قولهم في ورد الماء: ومنهل وردته التقاطا ... أي من غير طلب.
ع: هذا شطر من رجز لأبي محمد الفقعسي، أنشده اللغويون شاهداً على لقيته التقاطاً، إذا لقيته من غير طلب ولا تعمد ولا قصد للقائه، قال (1) : ومنهل وردته التقاطا ... (2) لم ألق إذ وردته فراطا إلا الحمام الورق والغطاطا ... (3) فهن يلغطن به إلغاطا قال أبو عبيد: فإن لقيته بالهاجرة قلت: " لقيته صحكة عمي " ع: قال أبو علي: قال أبو بكر ابن دريد: هذا على ما ذكره ابن الكلبي أن عمياص كان رجلاً من العماليق أوقع بقوم في الهاجرة، فأبادهم فلذلك قيل: لقيته صكة عمى؟ أي ذلك الوقت؟ ومن هذه الأمثال ألفاظ فسرها العلماء ومنها ما أهملوا ألفاظها وأتوا بمعانيها فإنما نقف حيث وقفوا. قال أبو عبيد: وأما الاعتمار (4) فهو وقت الزيارة متى كانت، قال ذلك الأصمعي، ومنه قول أعشى باهلة: وراكب جاء من تثليث معتمرا ... إنما الزائر، وقال أبو عبيدة: إنما هو المعتم بالعمامة، وقال الاسم منه العمار، قال: وكل شيء جعلته على رأسك من عمامة أو قلنسوة أو تاج أو إكليل فهو
عمار، ومنه قول الأعشى (1) : فلما أتانا بعيد الكرى ... سجدنا له ورفعنا العمارا (2) قال أبو عبيد: أما هذا البيت فإنه عندي كما قال أبو عبيدة، وأما بيت الباهلي فقول الأصمعي فيه حب إليّ أن يكون المعتمر هو الزائر. ع: أما قول أعشى باهلة فإن صلته وإصلاح إنشاده (3) : إنى أتتني لسان لا أسر بها ... من عل لا عجب فيها ولا سخر فبت موتفقاً للنجم أرقبه ... حيران ذا حذر لو ينفع الحذر وجاشت النفس لما جاء جمعهم ... وراكب جاء من تثليث معتمر بنعي من لا [تغب جفنته] ... إذا الكواكب أخطا نوءها المطر يقوله لما أتاه نعي المنتشر بن وهب الباهلي وقتل بني الحارث له. وأما بيت الأعشى فإن العمار المذكور فيه أكاليل من الريحان وضعوها على رؤوسهم، كما كانت العجم تفعل. وقال آخرون: رفعنا العمار (4) أي رفعنا أصواتنا بالدعاء، قال ابن أحمر (5) : يهل بالفرقد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر أي الرافع صوته بالدعاء.
وقيل إن المعتمر: الزائر للبيت، من عمرة الحاج، كما قيل في بيت أعشى باهلة. 233 -؟ باب الأمثال في ترك اللقاء ودهوره وأوقاته (1) قال أبو عبيد: وكذلك قولهم: " لا أفعله ما سمر ابنا سمير " ع: قال أبو بكر: السمير: الدهر وابناه الليل والنهار، فإذا قالوا: ابنا سمير فغنما يريدون الليل والنهار، والسمير: الدهر، لأبي زيد، وابنا جمير أيضاً: الليل والنهار، سميا بذلك للاجتماع، يقال: شعر مجمور إذا كان مضفوراً أو مجموعاً، فإذا قالوا: " السمر "، فإنما يريدون الليل خاصة، يقولون " لا آتيك السمر والقمر " أي ما أظلم الليل وطلع القمر، وأما " ابن جمير " على الإفراد، فهو الليل الذي لا يرى فيه القمر. قال الشاعر (2) : نهارهم ظمآن ضاح وليلهم ... وإن كان بدراً، ظلمة ابن جمير قال أبو عبيد: قال الأحمر، في مثل هذا: " لا آتيك سجيس الأوجس " قال: وكذلك " سجيس غبيس "، قال: ومعناهما الدهر.
ع: المحفوظ [في] هذا " سجيس عجيس "؟ بالجيم مكان الباء؟ قال أبو علي: هو من قولهم: عجس تعجيساً إذا أبطأ، أي لا آتيك طول الدهر لأنه يتعجس أي يبطئ فلا ينفد، وأما " غبيس " فإنما يأتي في قولهم " ما غبا غبيس " يقال: غبس الليل وأغبس: إذا أظلم، فكأنه قال: ما أظلم ليل، وأنشد الأموي (1) نعم وفي أم زبير كيس ... على الطعام ما غبا غبيس (2) وقد أنشده أبو عبيدة في هذا الباب مغبراً. قال أبو عبيد: ومن ذلك قولهم " لا أفعل ذلك معزى الفزر " قال: والفزر هو سعد بن زيد مناة بن تميم وكان وافى الموسم بمعزى فأنهبها هناك، فتفرقت هناك. فمعناهم في معزى الفزر أن يقولوا: حتى تجتمع تلك، وهي لا تجتمع الدهر كله. قال: وقال ابن الكلبي: إنما سمي " الفزر " لأنه قال: من أخذ منها واحدة فهي له، ولا يؤخذ منها فزر. قال: وهو الاثنان. وقال أبو عبيدة نحوه، إلا أنه قال: الفزر هو الجدي نفسه. ع: قد أثبت حديث الفزر وتواكل بنيه في رعي معزاه ونهبه لها في صدر الكتاب (3) على أتم الوجوه، ومعزى الفزر في هذا المثل اسم جعل ظرفاً لأنه قد علم المعنى. وقال أبو حاتم عن الأصمعي: إنما هو الفزر؟ بفتح الفاء؟ والعامة تقول الفزر؟ بكسرها -. وقال اللحياني: قال أبو ظبية: كان للفزر بنون يرعون معزاه فتواكلوا وأبوا
أن يسرحوها، قال: فساقها ثم قال للناس النهيبى؟ ويقال النهبى، بشديد الباء وتخفيفها؟ أي لا أحل لأحد أن يأخذها منها أكثر من واحد. قال أبو عبيد: " لا آتيك هبيرة بن سعد: وله حديث. ع: أسقط أبو عبيد من الكلام ما لا يصح له معنى إلا به وإنما هو " لا آتيك ألوة هبيرة بن سعد " (1) . وهبيرة هو ابن سعد الفزر هذا، وقد تقدم خبره مع خبر أبيه عند ذكر قولهم في المثل " لقد كنت وما يقاد بي البعير " وذلك أن الفزر قال لابنه هبير: اسرح في معزاك، فقال: لا أرعاها [سن] الحسل، فقال لابنه صعصعة: اسرح في غنمك، فقال: لا أسرح فيها ألوة هبيرة بن سعد؟ يعني يمين هبيرة أخيه -. 234 -؟ باب ما يتكلم به من النفي للناس خاصة (2) قال أبو عبيد: " ما بالدار أرم " ع: في " أرم " لغات، يقال: ما بالدار آرم، وما بها أريم وما بها أرمي، وما بها أيرمي. قال أبو عبيد: " وما بالدار تامور " ثم قال: كل هذا معناه: ما بها
أحد. ويقال أيضاً " وما بالركية تامور " أي ليس بها من الماء شيء. ع: التامور ينقسم في اللغة على ستة أقسام: أحدها أن يكون التامور موضع الأسد، قال عمرو بن معد يكرب لعمر رضي الله عنه وسأله عن [ابن] أبي وقاص " أسد في تامورته "، ويكون صومعة الراهب، قال (1) : لدنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولهم من تاموره يتنزل ويكون دم القلب، قال (2) : نبئت أن بني سحيم أدخلوا ... أبياتهم تامور نفس المنذر والعرب تقول: " حرف في تامورك خير من ألف في طومارك " ويكون التامور الماء، ويكون بمعنى أحد، ويكون الإبريق، أنشد أبو عبيد (3) : وإذا لها تامورة ... مرفوعة لشرابها 235؟ باب الأمثال في النفي لمعرفة الرجل قال أبو عبيد: من ذلك قولهم: " ما أدري أي الدهداء هو " ع: الدهداء يقال بالمد والقصر، أي الدهدى وأي الدهداء هو، وأما البرنساء فزعم ابن دريد أنها كلمة نبطية وأن البر: الولد، والنسا: الإنسان.
وقد ذكر أبو عبيد في آخر الباب الذي يلي هذا الباب أن حروفاً كثيرة من هذه التي أوردها لم يجد أحداً يدري أصولها. 236 -؟ باب الأمثال في نفي المال عن الرجل (1) قال أبو عبيد: ومن ذلك قولهم " ماله هارب ولا قارب " وكذلك قولهم " ماله عاطفة ولا ناطفة ". ع: الهارب: الصادر عن الماء، والقارب: الوارد للماء، قاله ابن السكيت. [والعاطفة] : العنز، وقد عفطت تعفط عفطاً، وهو ريح تخرجه من أنفها، تسمع لها صوتاً وليس بالعطاس. والعرب تقول " هو أهون علي من عفطة عنز "؟ هذا قول أبي بكر؟ وقال غيره: العفط: الضرط، والنافطة: الضائنة؟ زعموا؟ وقد فسره أبو عبيد ما في هذا الباب مما يعلم معناه. قال أبو عبيد: في قولهم: " ما له سعنة ولا معنة " ما وجدنا أحداً يدري أصولها، غير أن الأصمعي قال: معناه أنه لا شيء له، ويرون أن المعن: الشيء اليسير، وأنشد للنمر: فإن هلاك مالك غير معن ... أي ليس بهين، ولم يعرف السعنة. ع: حكى أبو علي عن قطرب أن السعي: الودك، والمعن: المعروف
قال، وقال غيره: السعنة: المشؤومة، والمعنة: الميمونة، وصلة شعر النمر (1) : يلوم أخي على إهلاك مالي ... وما إن عاله ظهري وبطني ولا ضيعته فألام فيه ... فإن هلاك مالك غير معن أي غير يسير ولا هين. قال أحمد بن يحيى: فدل ذلك على أن المعن القليل، والسعن الكثيرز 237 -؟ باب الأمثال في نفي العلم قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا " ما يعرف فلان الحو من اللو، والحي من اللي " ع: قال أبو بكر: معناه ما يعرف ما حوى مما لوى (2) . قال أبو عبيد: وكذلك قولهم: " ما يعرف هراً من بر " ع: قال الفراء: الهر: العقوق، والبر: اللطف، وقال خالد بن كلثوم: الهر: السنور، والبر: الجرذ، وقال ابن الأنباري: معناه هاراً من باراً؟ لو كتبا -. وقال أبو عبيدة: معناه، الهرهرة من البربرة، والهرهرة: صوت الضأن، والبربرة: صوت المعز.
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا " ما يدري أي طرفيه أطول " ومعناه: لا يدري أنسب أبيه أفضل أم نسب أمه. ع: هذا الذي ذكر (1) أبو عبيد هو الفراء وأنشد وكيف بأطرافي إذا ما شتمتني ... وما بعد شتم الوالدين صلوح وقال ابن الأعرابي: طرفاه: ذكره ولسانه، وقال بعض الشعراء: يجعل نمكان الطرفين الرجلين: أتيتك مرتاداً من العلم بلغةً ... لمن ليس يدري أي رجليه أطول يظن بأن الخمل في القطف ثابت (2) ... (3) وأن الذي في داخل التين خردل 238؟ باب الأمثال في الطعام (4) قا أبو عبيد: قال الأحمر: " العاشية تهيج الآبية ". يقول: إن الإبل التي تتعشى إذا رأتها التي لا تشتهي العشاء، اشتهت فأكلت معها. وكان المفضل يقول: المثل ليزيد بن رويم الشيباني.
ع: يضرب مثلاً للرجل ينشط بنشاط صاحبه، والدابة تسير بسير دابة أخرى. روى أبو بكر ابن الأنباري قال: حدثني أبي، حدثنا أبو بكر العبدي وأحمد ابن عبيد قالا: حدثنا ابن الأعرابي عن المفضل قال: خرج السليك يريد أن يغير في أناس من أصحابه، فمر على بني شيبان في ربيع والناس مخصبون في عشية فيها ضباب ومطر، فإذا هو ببيت قد انفرد من البيوت عظيم، وقد أمشى، فقال لأصحابه: كونوا بمكان كذا حتى آتي هذا البيت فعلي أصيب لكم خيراص أو آتيكم بطعام، فانطلق إليه وقد أمسى، فإذا البيت بيت يزيد بن رويم الشيباني وهو جد حوشب بن يزيد بن الحارث بن رويم، وإذا الشيخ وامرأته بفناء البيت فاحتال السليك حت دخل البيت من مؤخره. فلم يلبث أن راح ابن الشيخ بإبله فلما رآه الشيخ غضب وقال: هلا كنت عشيتها ساعة من الليل. قال ابنه: أبت العشاء. فقال الشيخ: " إن العاشية تهيج الآبية " فأرسلها مثلاً. ثم نفض الشيخ ثوبه في وجهها، فرجعت إلى متعها، وتبعها الشيخ، حتى مالت لأدنى روضة فرتعت فيها، وقعد الشيخ عندها، وقد خنس وجهه في ثوبه من البرد، وتبعه السليك، فلما رآه مغتراً ضربه بالسيف من ورائه فأطن رأسه وأطرد الإبل وقد بقي أصحاب السليك سئة ظنونهم، فإذا به يطرد الإبل، فاطردوها معه: وقال السليك في ذلك (1) : وعاشية رح بطان ذعرتها ... بثوب قتيل وسطها يتسيف كأن عليه لون برد محبر ... إذا ما أتاه صارخ متلهف فبات له أهل خهلاء فناؤهم ... ومرت لهم طير فلم يتعيفوا وباتوا يظنون الظنون وصحبتي ... إذا ما علوا نثزاص أهلوا وأوجفوا وما نلتها حتى تصعلكت حقبة ... وكدت لأسباب المنية أعرف وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني ... إذا قمت يغشاني ظلال فأسدف
الرح: الواسعة الأخفاف. وتتسف: تضرب بالسيف، وكذلك تتسوط: تضرب بالسوط، وتتعصى: تضرب بالعصى، لون برد محبر: من الدم، والمتلهف: الذي يتلهف عليه لما وقع به من القتل. وأهلوا: رفعوا أصواتهم. وأوجفوا: استحثوا إبلهم، ووجف البعير وأوجف: أسرع، ولأسباب المنية أعرف: أي أصبر، وما يكاد يجوع في الصيف لكثرة اللبن. وأسدف: يظلم بصري من شدة الجوع. قال أبو عبيد: " الماء ملك أمري " أي أن الماء ملاك الأشياء. ع: قال أبو وجزة في ذلك: ولم يكن ملك للقوم ينزلهم ... إلا صلاصل لا تلوي على حسب والصلاصل: جمع صلصلة، يقال: ما بقي من الماء إلا صلصلة أي شيء قليل، لا تلوي على حسب: أي لا تسقي لقلتها على أحساب الناس وشرفهم، بل يتواسى فيها ويتساوى رفيعهم ووضيعهم. تم كتاب فصل المقال في شرح كتاب الأمثال بتفسير غريبه ومعانيه وذكر الأخبار الواقعة فيه، والحمد لله ولي الحمد وأهله.