فلسطين حتى لا تكون أندلسا أخرى

راغب السرجاني

المؤامرة

سلسلة فلسطين_المؤامرة مؤامرات أعداء الله على الإسلام وأهله كثيرة، وكل مؤامرة لها خطورتها على المسلمين، لكن أشد هذه المؤامرات خطورة على الإسلام وأهله المؤامرة الفكرية ثم المؤامرة الأخلاقية، فإن تأثر المسلمين بأفكار الغرب وأخلاقه أحد أسباب انهزام المسلمين نفسياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، فلابد من تصحيح المفهوم الإسلامي وحل قضايانا بسرعة قبل الزيادة في الألم، واستفحال سيطرة الكفر وأهله علينا.

علاقة احتلال فلسطين باحتلال الأندلس

علاقة احتلال فلسطين باحتلال الأندلس أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإنه في يوم 2/ربيع الأول/ 897هـ الموافق 2/ 1/1492م، وقع أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك الأندلس من المسلمين معاهدة الاستسلام، وذلك بعد قتل انتفاضة المسلمين التي قامت في ربوع غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وخرج أبو عبد الله الصغير من مدينة غرناطة، ووقف على تل من التلال القريبة من قصر الحمراء -قصر الحكم في غرناطة- وهو يبكي وينتحب، قالت له أمه عائشة الحرة: أجل! فلتبك كالنساء ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال. وخرج المسلمون بذلك خروجاً نهائياً من الأندلس بعد أن حكمت بالإسلام ثمانية قرون، غير أن الأيام تحمل معها مفاجآت كثيرة، فتلك البلاد التي حكمت بالإسلام هذه المدة الطويلة لا يعيش فيها الآن من المسلمين إلا حوالي مائة ألف مسلم فقط، وهي بذلك تكون من أقل دول العالم احتضاناً للمسلمين، وهو درس لا بد أن يفقهه المسلمون. وكأني ألحظ في وجوه الحاضرين دهشة وتساؤلات، أشعر أن الزملاء يقولون: يا دكتور! أنت نسيت مجموعة المحاضرات الخاصة بفلسطين وإلا ماذا؟ ما هي حكاية الكلام عن الأندلس؟ أبداً والله لم أنس، ولن أنسى قضية فلسطين، ولكن العلاقة وثيقة جداً بين قضية فلسطين الحالية وبين الأندلس الماضية. من جديد ألحظ دهشة في العيون تظهر -سبحان الله- مع تباعد الزمان، وتباعد المكان، فإن العلاقة وثيقة بين الأندلس وبين فلسطين!! نعم، وثيقة وسنرى الرباط بينهما بعد قليل. ملحوظة في غاية الأهمية لتاريخ الأندلس، لماذا لم يعد للإسلام ذكر في هذه البلاد إلا من آثار قديمة، وبعض المساجد التي حولت إلى كنائس، بينما احتلت بلاد إسلامية كثيرة غير بلاد الأندلس، ومع ذلك لم يخرج منها الإسلام، احتلت مصر والجزائر وسوريا والسودان وليبيا والعراق، ومعظم بلاد العالم الإسلامي، لكن البلاد ما زالت مسلمة بعد الاحتلال الطويل، أما أسبانيا فالوضع فيها مختلف، لماذا؟ ذلك أن الاحتلال الأسباني للممالك الإسلامية في الأندلس كان احتلالاً استيطانياً إحلالياً سرطانياً، بمعنى: أن الأسبان ما كانوا يدخلون مدينة إسلامية إلا ويقتلون أهلها جميعاً، مذابح جماعية في كل مكان، أو يطردونهم خارج البلاد، وهكذا مع الوقت يتحول سكان البلد المسلمون إلى شهداء أو لاجئين، ثم يأتون بالأسبان من كل مكان يستوطنون هذه البلاد، وهكذا مع مرور الوقت أصبح سكان الأندلس كلهم من الأسبان، وليسوا من المسلمين، واختفى المسلمون بالكلية من ساحة الأندلس. يا ترى كيف كان حال المسلمين حول بلاد الأندلس في البلاد المجاورة في تونس، في الجزائر، في المغرب، في مصر، في الشام؟ كيف كان حال المسلمين وقت سقوط الأندلس؟ كان المسلمون في فرقة شديدة وضعف، ولاشك أنهم فكروا مع هذا الضعف في استعادة بلاد الأندلس، ولكنهم لم يستطيعوا هذا؛ لضعف قوتهم، ومن المؤكد أن اللاجئين الذين خرجوا من بلاد الأندلس بعد السقوط فكروا يوماً ما في العودة، ولكن لم يستطيعوا؛ لضعف إمكانياتهم وقلة حيلتهم، وهكذا مر شهر وشهران، وعام وعامان، وقرن وقرنان، بل خمسة قرون، وضاعت الأندلس -أسبانيا والبرتغال- من ذاكرة المسلمين. من من المسلمين الآن يفكر في استعادة بلاد الأندلس؟ الأندلس الآن عبارة عن دولتين، تربطهما مع كل بلاد المسلمين علاقات حميمة، كان المؤرخون قديماً عندما يتحدثون عن الأندلس بعد سقوطها يقولون: أعادها الله للمسلمين، كما يتحدث مؤرخ فيقول: فتح طارق بن زياد رحمه الله بلاد الأندلس -أعادها الله للمسلمين- في سنة 92هـ؛ ذلك لأنها كانت دائماً في الذاكرة، أما مع تقادم العهد فقد اختفت كلمة: أعادها الله للمسلمين، اختفت من أفواه المؤرخين. انظروا إلى زيارة قام بها سفير مغربي للأندلس بعد سقوطها بأكثر من مائة عام، هذا السفير اسمه الغزال الفاسي رحمه الله، سفير سلطان المغرب إلى ملك أسبانيا كارلوس الثالث، زار في هذه السفارة مسجد قرطبة الجامع العظيم، فقال عنه: وهو من أعظم مساجد الدنيا في الطول والعرض والعلو، ومنذ عبرنا هذا المسجد لم تفتر لنا عبرة مما شهدنا من عظمته، وتذكرنا ما كان عليه في عهد الإسلام، وما قرئ فيه من العلوم وتليت فيه من الآيات، وأقيمت به من الصلوات، وقد تخيل في الفكر أن حيطان

تباين الآراء في كيفية حل قضية فلسطين

تباين الآراء في كيفية حل قضية فلسطين عندما تسأل المفكرين من أبناء الأمة المخلصين، أو تسأل عموم الناس، تكون الإجابات متباينة ومختلفة، وكثير منها جميل ورائع. هناك من يقول: إن الجهاد هو الحل الوحيد، وعلى الفلسطينيين أن يستمروا في مقاومتهم، وعلى الحكومات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها أن تفتح الأبواب لجهاد اليهود. وهناك من يقول: على العرب أن يتحدوا جميعاً في كلمتهم، ويقفوا أمام اليهود وقفة واحدة في مفاوضة واحدة، بدلاً من التشرذم في لقاءات متفرقة. وهناك من يقول: على السلطة الفلسطينية أن تضع يدها في يد الفصائل المختلفة داخل فلسطين، وأن يتعاونوا على طرد اليهود بدلاً من تركيز السلطة على تحجيم قوة المقاومين للاحتلال. هناك من يقول: لا بد من وقف التطبيع، وقطع العلاقات مع اليهود سواء كانت علاقات سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو ثقافية أو غيرها من العلاقات. هناك من يقول: لا بد من الضغط على مصالح الدول الغربية، وتوحيد الكلمة في اجتماعات الأمم المتحدة، والمحافل الدولية وغير ذلك. هناك من يقول: لا بد من تمويل المقاومة الفلسطينية بالسلاح الحقيقي، بدلاً من الحجارة؛ ليستكملوا جهدهم بصورة أكبر وأشد. هناك من يقول: لا بد من السعي لمحاكمة شارون كمجرم حرب، وفتح ملفات صبرا وشاتيلا، وهذا جميل، ولكن هذا يوحي بأن من كان قبله كانوا من الملائكة، سواء باراك أو نتنياهو أو رابين أو بيجن أو جلدا مائير أو غيرهم، كما نسي الناس أن شارون انتخب من عموم اليهود بأعلى نسبة إجماع من سنوات. حلول كثيرة جداً يذكرها المفكرون، ويشعر بها عموم الناس، لكن سبحان الله!! جميع هذه الحلول تتفق في شيء واحد، تتفق في أنه ليس في مقدور الشعوب أن تقوم بها، أنا لا أخاطب الحكومات والهيئات الرسمية في هذه المجموعة من المحاضرات، أنا أخاطب عموم المسلمين الغيورين على القضية، أخاطب الدكتور، والمهندس، والمحامي، ورجل الأعمال، أخاطب النجار، والحداد، والسواق، والحلاق، وأستاذ الجامعة، كما أخاطب الرجل البسيط الذي لا يحسن القراءة والكتابة، ولكن يتألم لفلسطين، أخاطب عموم الناس الذين ليس في أيديهم قرار تسيير الجيوش، ولا قطع العلاقات، ولا غلق السفارات، ولا وقف التطبيع، ولا محاكمة شارون، ولا وحدة قادة المسلمين. الرجل البسيط العادي الذي لا ينتمي إلى حزب من الأحزاب ولا إلى هيئة من الهيئات، ماذا يفعل لفلسطين؟ بمعنى مختصر ما هو دوري ودورك في قضية فلسطين؟ فمن أجل أن تنام في الليل مستريحاً تقول: يا رب! تألمت لما يحدث هناك، ففعلت ما في وسعي، ترى ما هو وسعك؟ وما هي طاقتك؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه في هذه السلسلة من المحاضرات إن شاء الله. مع ملاحظة أن الخطاب لأهل فلسطين سيكون مختلفاً بالكلية هذا الخطاب الذي أتحدث به الآن هو لمن لا يملك أن يجاهد في هذه الأراضي المقدسة، وإلا فلا شيء يعدل الجهاد ضد اليهود.

دراسة المؤامرة الضخمة على الإسلام وأهله

دراسة المؤامرة الضخمة على الإسلام وأهله إذا أردنا أن نتحدث عن دور المسلمين عموماً في حل قضية فلسطين حلاً على سنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من دراسة المؤامرة الضخمة الكبيرة المرتبة والخطيرة التي تدبر للإسلام وأهله، وتدبر بالتبعية لفلسطين، مؤامرة ذات جذور قديمة وطرق عديدة، وهي ذات المؤامرة التي حيكت للمسلمين على مدار العصور، منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الآن وحتى يوم القيامة، وعلى المسلمين أن ينتبهوا قبل أن أشير إلى هذه المؤامرة، أود فقط أن أشير إلى أنه ليس كل ما يصيب المسلمين يكون ناتجاً بالإجمال عن مؤامرة، فكثيراً ما يصاب المسلمون نتيجة تقصيرهم وإهمالهم لواجباتهم، فهي أشياء تكون مدبرة، لكن لضعف المسلمين تفلح هذه التدبيرات في إتيان مفعولها. مثلاً رجل يضيع صلاة الفجر كل يوم، نعم هناك جزء من المؤامرة أن يسهر حتى الساعة الثانية أو الثالثة، ثم ينام قرب الفجر فيضيع صلاة الفجر، فهو ولا شك في ذلك مخطئ، وعليه جانب كبير من التقصير، لكن ليست هي المؤامرة وحدها، مع أنني أعتقد أنه من الصعب جداً أن تفلح مؤامرة في دحر المسلمين أو هزيمتهم، إلا إذا كان المسلمون ضعفاء، نعم، لا ينصر الكافرون على المسلمين إلا بضعف المسلمين، وسيأتي إن شاء الله تفصيل لذلك في نهاية المحاضرات، لكن هذا لا يمنع من دراسة المؤامرة التي دبرها أعداء المسلمين بعناية، ولا بد للمسلمين أن يحذروا، هذه المؤامرة متنوعة ومتعددة، مؤامرة في كل المجالات، وهي مع ذلك متزامنة. مؤامرة على سبيل المثال سياسية عن طريق المفاوضات، والسفارات، والأحلاف، والهيئات، والقرارات، هناك مؤامرة عسكرية عن طريق الجيوش والصواريخ والطائرات والبوارج وإف16 وأباتشي وغيرها، مؤامرة اقتصادية عن طريق الحصار الاقتصادي وفرض القيود الاقتصادية، وتحديد سلع معينة للإنتاج، وتبوير الأراضي، مؤامرة تفريقية يفرقون فيها بين أقطار المسلمين عن طريق مؤامرات بين الشعوب، فلا تجد بلداً إلا وتختلف مع جارتها على الحدود والأفكار، مؤامرة أخلاقية عن طريق تمييع أخلاق المسلمين بالإعلام والدش والإنترنت والتلفزيون والصحف الصفراء والخضراء والبيضاء، كل أنواع الصحف، مؤامرة فكرية عن طريق تغيير أفكار المسلمين، وتبديل المعايير الصحيحة، وقلب الموازين العادلة، كل هذه المؤامرات مجتمعة وتجري في وقت واحد متزامن، وكل هذه المؤامرات خطيرة وقاتلة.

المؤامرة الأخلاقية والفكرية وخطورتهما على المجتمعات

المؤامرة الأخلاقية والفكرية وخطورتهما على المجتمعات يا ترى ما هي أخطر مؤامرة في هذه المؤامرات جميعاً؟ الواحد قد يقول: إذا لم يكن كل هذه المؤامرات خطيرة، فلماذا تحديد أي المؤامرات أخطر أو أقل خطورة مادمنا سندافع عنها جميعاً؟ لكن انظر، إذا همشت مؤامرة من المؤامرات، وقللت من قيمتها؛ ضاعت الأولويات عند المسلمين، فيصرفون الأوقات الكثيرة في رد كيد المؤامرات الضعيفة، ويتركون ما هو أشد؛ ولذلك يجب أن يبحث المسلمون عن أخطر المؤامرات، ويوجهوا إليها طاقتهم مع عدم إغفال الرد على المؤامرات الأخرى. نرجع هكذا مرة أخرى، وكل واحد يحاول أن يختبر نفسه، أي المؤامرات أشد على المسلمين؟ أتراها المؤامرة السياسية، أم العسكرية، أم الاقتصادية، أم التفريقية بين الشعوب والأفراد، أم الأخلاقية، أم الفكرية؟ كثير من الناس من الممكن أن يختار المؤامرة العسكرية؛ لأنها تبيد أعداداً كبيرة من البشر في وقت سريع، كلنا نجعل في بالنا قصف الأباتشي، وقتل العشرات أو المئات رقم يلفت الأنظار. وبعض الناس قد يختار المؤامرة السياسية التي تضيع الحقوق، وتضحك على الشعوب، وتقنع الشعوب أنها أخذت حقها وقد ضاع منها كل شيء. وقد يختارون المؤامرة الاقتصادية التي تجوع الأمم وتقتل الأفراد، لكن مع خطورة هذه المؤامرات جميعاً فإن أخطرها على الإطلاق هي المؤامرة الفكرية متبوعة بالمؤامرة الأخلاقية، وأنا أعلم أن الجميع يعلم خطورة المؤامرة الأخلاقية على الأمة الإسلامية، إلا أن المؤامرة الفكرية أشد وأنكى في المسلمين، يا ترى ما هو الفرق بين المؤامرة الفكرية والمؤامرة الأخلاقية؟ وما هو الذي يجعل المؤامرة الفكرية أشد، مع كون المؤامرة الأخلاقية من أبشع الأشياء أو المؤامرات التي يمكن أن توجه إلى قلب الأمة الإسلامية؟ سأعطيكم أمثلة على ذلك: السيدة التي تخرج بلا حجاب، وعلتها في ذلك أنها ترى نفسها أجمل بدون حجاب، أو تسعى للزواج، أو لا تجد القدرة على التغيير، أو مكسوفة من صديقتها، هذه المرأة تعاني من مشكلة أخلاقية، فهي تعلم أين الحق وتتبع غيره لضعف في نفسها، بينما السيدة التي تخرج بلا حجاب؛ لأنها ترى أن الحجاب موضة قديمة كما يقولون، ولباسه رجعية وتخلف وجمود، هذه المرأة تعاني من مشكلة فكرية. أي المشكلتين أخطر: الرجل الذي يأخذ رشوة، ويقول: آخذها لأن ظروفي صعبة، ولولا الظروف الصعبة لم أفعل ذلك. اللهم سامحني؟ هذا الرجل يعاني من مشكلة أخلاقية، بينما الرجل الذي يقول: لا، هذه ليست رشوة، هذه إكرامية، أو هذا حق مكتسب نتيجة مجهود معين فعلته، ويبدأ في تقنين الرشوة، هذه مشكلة فكرية. كذلك في أمور العبادات، الرجل الذي لا يصوم ويقول: والله أنا أجوع بسرعة، أو أنا لا أعرف أن أركز وأنا صائم، أو لا أستطيع أن أترك السجائر، أو أن أصحابي كلهم ليسوا بصائمين؟ فهذا رجل طبعاً عنده مشكلة أخلاقية خطيرة، لكن الرجل الذي يقول: إن الصيام هذا يقلل الإنتاج، أو إن الصيام فعل خطأ قد يؤخرنا إلى الوراء. تستغربون هذا الكلام، لكن هذا الكلام حصل، وقاله زعيم أمة عربية، زعيم توفاه الله، كان يقول: إن الصيام يقلل الإنتاج، ويضعف من الطاقة؛ ولذلك ينصح شعبه ألا يصوم، إي والله كان يقول ذلك. أو يقول: إن الصيام شرع لأجل الشعور بالفقراء وأنا أشعر بهم، فلماذا الصيام؟! هذا الرجل وأمثاله يعانون من مشكلة فكرية خطيرة جداً، حتى الفقهاء يقولون: إنه من ترك الصيام وهو يقدر عليه تكاسلاً فهو فاسق، أما من تركه إنكاراً له فهو كافر. أيضاً في قضية فلسطين قد يقول شخص: أنا أعرف كل الذي يحصل في فلسطين، وبودي أن أساعد، لكنني أرى كذا وكذا من الأمور، فلن أساعدهم، وربنا غفور رحيم، هذا الرجل له دور، لكنه لا يريد أن يقوم بهذا الدور، فهذه مشكلة أخلاقية، فهو رجل لا يوجد فيه نخوة، ولا يوجد فيه شهامة أو حمية لهذا الدين، لكن هناك رجل ثانٍ يقول: ما لنا ولفلسطين، نحن نعيش في بلد وفلسطين بلد ثانٍ، فهذا الرجل الأخير يعاني من مشكلة فكرية. إذاً المؤامرة الفكرية أعمق وأخطر من المؤامرة الأخلاقية وكلاهما خطير، المؤامرة الفكرية تقلب الباطل حقاً، وتقلب الحق باطلاً، فقد يقاتل المرء حتى الموت من أجل قضية خاطئة، ولو عبث العابثون بفكرك لضاعت حياتك وراء أهداف باطلة لا تساوي في ميزان الله ولا في ميزان الإسلام شيئاً، انظر إلى قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، سبحان الله! وشخص ينشر فساداً وإباحية وفسقاً ومجوناً ويشجع أفلام العري، ويسمح بظهور النساء شبه عاريات، ثم يظن أنه يقاتل من أجل تنوير الشعوب وتحرير الفكر، ومن أجل توسيع المدارك، بل قد يضحي من أجل ذلك بوقته، وصحته، ومجهوده وماله، هؤلاء هم {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]. هذه مشك

دور الأمة كأفراد في قضية فلسطين

دور الأمة كأفراد في قضية فلسطين نطرح هذا الأمر جانباً، ونعرض سؤالاً ذكرناه من قبل: ما هو دور الأمة كأفراد في قضية فلسطين؟ أول شيء يخطر على الذهن هو التبرع بالمال، والحق أن التبرع بالمال هام جداً، وهو يسهم بالقدر الأكبر في مجابهة المؤامرة الاقتصادية والعسكرية، وهذا شيء طيب جداً، لكن الحق أيضاً أن المال على أهميته ليس هو أهم الأشياء التي يحتاجها أهل فلسطين، بل يحتاجون أشياء كثيرة غيره وقبله، والآن سأقول هذه الأشياء مجملة ثم نفصل فيها تدريجياً إن شاء الله. الأمر الأول: الذي تحتاجه القضية الفلسطينية هو تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة، بمعنى الدفاع ضد المؤامرة الفكرية. الأمر الثاني: الدعاء لأهل فلسطين بالثبات والنصر، والدعاء على من ظلمهم بالهلكة والاستئصال، طبعاً بعض الناس قد يستغربون لماذا قدمت فهم القضية على الدعاء؟ أليس من الممكن أن تدعو بشيء لا يرضى عنه الله سبحانه وتعالى، أو تدعو بشيء ليس في مصلحة القضية؟ ألم تسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذاً: نكثر الدعاء -أي: نكثر من الدعاء- قال صلى الله عليه وسلم: الله أكثر)، هذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. فنحن قد ندعو بشيء فيه إثم يخص قضية فلسطين، مثلاً رجل يذهب ليبيع أرضه فتدعو له بالتوفيق، طبعاً هذا لا يستقيم، رجل يذهب ليقضي على من يجاهد في سبيل الله فتدعو له بالتوفيق، أيضاً هذا لا يستقيم، ذكرني هذا بحديث جاء في الصحيفة مع راقصة تقول: والله أنا بعد كل رقصة أدعو الله أن يوفقني في الرقصة الجديدة، فهي كذا تدعو الله، لكن الله سبحانه وتعالى لا يستجيب لهذا الإثم وهذه المعصية. أو كالذي يأخذ رشوة ويخاف أن يراه أحد، فيقول: اللهم استر، فهو يدعو الله سبحانه وتعالى أن يستره وهو يأخذ الرشوة ويرتكب المنكر ويفعل الفاحشة، إذاً: لا بد أن نفهم القضية أولاً ثم ندعو بالدعاء المناسب. إذاً: نرجع نحصي وسائل المساعدة إجمالاً ثم نفصل: أولاً: تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة. ثانياً: الدعاء لأهل فلسطين، وعلى اليهود ومن عاونهم. ثالثاً: قتل الانهزامية في نفوس المسلمين. كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يعتقدون أنه من المستحيل أن يهزم المسلمون اليهود، أو أن يستطيعوا أن يتحركوا قيد أنملة في القضية في هذه الآونة، فهذا إحباط شديد ويأس عند كثير من المسلمين، فدورنا في هذه الفترة أن نقتل هذه الانهزامية وأن نعلي من همة المسلمين وبأسهم. رابعاً: التبرع بالمال، وسيأتي حديث طويل عنه إن شاء الله. خامساً: المقاطعة الاقتصادية لكل ما هو يهودي أو من دولة تساعد اليهود. سادساً: إصلاح النفس والمجتمع. فالخمسة الأمور الأولى هي لحل القضية في هذا الوقت الراهن، والأمر السادس إصلاح النفس والمجتمع هو إصلاح القضية على المدى البعيد، إصلاح الأصل الذي بسببه هزم المسلمون، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في وصيته الجامعة لـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه: إنكم لا تنصرون على عدوكم بقوة العدة والعتاد، ولكن تنصرون عليه بطاعتكم لربكم، ومعصيتهم له، فإن تساويتم في المعصية كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العدة والعتاد. نعم الأصل الذي أدى إلى كل هذا الانهيار في مقاومة المسلمين، وأدى إلى انتصار ثلاثة ملايين أو أربعة ملايين، أو خمسة ملايين من اليهود في فلسطين على مليار وثلث مليار في أرض واسعة وبقاع مترامية الأطراف هو ضعف العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، وبعد الناس عن الطاعة وعن الكتاب الكريم والسنة المطهرة. فهذه وسائل ستة -وغيرها كثير- نفصل فيها إن شاء الله الواحدة تلو الأخرى في هذه المجموعة من المحاضرات.

تحريك قضية فلسطين بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة

تحريك قضية فلسطين بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة أولاً: تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة. هذه الجملة تشتمل على ثلاثة مقاطع، تحريك القضية المقطع الأول، بالمفاهيم الصحيحة المقطع الثاني، وبسرعة المقطع الثالث.

تحريك القضية

تحريك القضية تحريك القضية سبحان الله!! الله سبحانه وتعالى حركها لنا، تذكرون أن قضية فلسطين قد خمدت فترة من الزمان بعد معاهدة أوسلو حوالي سبع سنوات كاملة، لكن الله حركها بزيارة شارون للمسجد الأقصى في 28/ 9/2000م، وهو حدث مع عظمه أهون من أحداث سابقة كثيرة، هناك أحداث كثيرة جداً غير زيارة شارون لم يتحرك لها المسلمون هذا التحرك، هناك قتل للمسلمين وتدمير وتشريد، هناك مذابح مثل مذبحة صبرا وشاتيلا لم يتحرك لها المسلمون مثلما تحركوا لزيارة شارون وهي أهون من قتل المسلمين، لما زار شارون المسجد الأقصى، هذه الحركة للقضية فَعَّلها سبحانه وتعالى، ولابد أن نشكر هذه النعمة، نعمة تحريك القضية، وشكر النعمة يكون باستمرار تحريك القضية. فدورك أنت عندما تقابل شخصاً تكلمه عن قضية فلسطين، تتحدث في كل الدوائر المتاحة: دائرة البيت، دائرة الأهل والأقارب، دائرة الأصدقاء، دائرة العمل، كذلك بعض الدوائر السطحية التي تلتقي بها قدراً دون ترتيب، كأن تكون منتظراً في عيادة الطبيب، أو تكون جالساً فتتحدث مع الناس العاديين عن هذا الموضوع، أو راكباً (تاكسي) وتتحدث مع سائق التاكسي في هذا الموضوع، أو راكباً قطاراً أو حافلة، فتتحدث مع جارك في المقعد في هذا الموضوع. وبعض الناس لهم دوائر أوسع، فمن الممكن أن تكتب مقالاً في جريدة أو حتى خطاباً إلى بريد إحدى الصحف، أو تكتب مقالاً في مجلة حائط في مدرسة أو جامعة، أو تخطب خطبة في مسجد إن تيسر لك هذا الأمر، أو على الأقل توعز لخطيب بخطبة عن فلسطين، يذكر الناس فيها بالمفاهيم الصحيحة لقضية فلسطين، ومن الممكن أن تنظم ندوة، أو تشكل صالوناً ثقافياً، وتأتي بشخص يتكلم فيه عن القضية. وقد تكلمنا من قبل في السيرة عن دور أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه لما ذهب إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وكان ذلك في المدينة، فقد كان مصعب بن عمير هو القارئ الذي يعلم الناس، وأسعد بن زرارة رضي الله عنه كان يتعلم من مصعب بن عمير، ولا يملك القدرة على الخطابة التي يملكها مصعب بن عمير، فكان أسعد بن زرارة يهيئ المجالس لـ مصعب بن عمير ويدله على الرجال الذين يتوسم فيهم الخير، ولو سمعوا الدعوة لآمنوا بها واتبعوها، ولاتبع الدعوة بإيمانهم أفراد كثر، وهكذا كان لـ أسعد بن زرارة دور كبير مع أنه لم يكن يتكلم هو بذاته كما يتكلم مصعب بن عمير رضي الله عنهم أجمعين. هناك وسائل أخرى لتحريك القضية كالمظاهرات السلمية، إذ تعتبر وسيلة من وسائل التحريك، ولابد أن يكون لها سمت مختلف عن سمت البلاد الغربية الفاسدة التي ليس لها ضوابط من الأخلاق والشرع، فليس من اللائق أن تشكل مظاهرة من أجل تحريك قضية فلسطين، فتقوم بتكسير المحلات والإفساد في الأرض، أو بسباب لا يليق بالمسلم: (ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء)، لكن بوسائل متعددة في إطار الأخلاق الإسلامية الشريفة لتحريك قضية فلسطين. المقطع الثاني في الجملة: هو المفاهيم الصحيحة، أؤجله لأنه سيطول بنا.

ضرورة استغلال الوقت في تحريك القضية

ضرورة استغلال الوقت في تحريك القضية المقطع الثالث: وبسرعة. نقول: تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة، ماذا نقصد بقولنا: بسرعة؟ هناك أناس اشتهرت على ألسنتهم كلمة فيها نوع من الهروب. يقولون: الزمن جزء من العلاج، يعني: مع مرور الوقت ستحل القضية، وهذا يا إخوة! مخالف تماماً للواقع، فالوقت ليس في صالحنا كأفراد في الكيان الإسلامي الواسع المترامي الأطراف، وليس في صالح القضية الفلسطينية. هو ليس في مصلحة القضية الفلسطينية؛ لأنه مع مرور الوقت يزداد الألم الفلسطيني، وتزداد القوة اليهودية، ويزداد التبجح اليهودي، ومع مرور الوقت يزيد عدد الشهداء وهذا في حد ذاته ليس خسارة حقيقة، كما سيأتي الحديث بالتفصيل إن شاء الله، لأنهم فازوا بالشهادة، ولكن الخسارة الحقيقة هي استمرار الظلم دون رادع، استمرار قتل الأبرياء دون رادع، ومع مرور الوقت تهدم المنازل الواحد تلو الآخر، وتجرف الأراضي، ويتزايد عدد من لا مأوى لهم، وبذلك تزيد أوراق الضغط اليهودية. مع مرور الوقت يزداد تعذيب الأفراد بل الأطفال، واقرءوا مقالاً في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 19/ 7/2001م عن التقرير الذي أعدته المحامية السويدية برجيتا عن حجم الإرهاب الفظيع الذي تمارسه المحاكم الإسرائيلية بحق الأطفال الفلسطينيين، وعن الأعمال الوحشية التي لا تصدق في السجون الإسرائيلية، وبحكم القانون للضغط على أهالي الطفل، وذلك يشمل السجن لفترات طويلة، والجلد، والصعق بالكهرباء، والتقييد للأطفال، وما خفي كان أعظم. مع مرور الوقت تزداد المستوطنات، وتزداد الهجرة اليهودية للأراضي الفلسطينية، ويزداد الإحلال اليهودي للشعب الفلسطيني. مع مرور الوقت يتناقص الغذاء والدواء والكساء لغلق كل المعابر والحدود، وبذلك يموت الشعب جوعاً ومرضاً. مع مرور الوقت يزداد عدد اللاجئين والمشردين والفاقدين للمأوى. مع مرور الوقت يزداد التجرؤ اليهودي على المسلمين، فنسمع عن أشياء جديدة ما كنا نسمع عنها في القضية من قبل، نسمع عن حركات اغتيال متكررة لقادة بعينهم، نسمع عن عمليات اختطاف لأفراد بعينهم من عقر دارهم، نسمع عن ضرب للبيوت بالمروحيات والطائرات الأباتشي والأف16، بل نسمع عن حديث على الملأ يناقش: هل نقتل زعماء السلطة أم نتركهم هكذا؟ تبجح يهودي صارخ، ورعاية أمريكية وعالمية لهذا الإجرام، حتى إن نائب الرئيس الأمريكي شين يصرح بمنتهى الوقاحة بأنه لا يرى بأساً في عمليات الاغتيال ما دام هؤلاء الأفراد قنابل بشرية موقوتة. مع مرور الوقت يحدث شيء خطير اسمه إلف المأساة. يتعود المسلمون على منظر دماء الشهداء، ومنظر الجرحى بالمئات والآلاف، ومنظر الأمهات الثكالى، ومنظر الأطفال الباكية المشردة، يتعودون على منظر الهدم والتجريف والظلم والإبادة، فلا تتحرك القلوب كما كانت تتحرك، ولا تذرف الدموع كما كانت تذرف، ولا تتأثر المشاعر كما كانت تتأثر، الناس لا تشعر بقيمة الشمس؛ لأنها ألفت أن تراها كل يوم، الناس لا تشعر بجريمة ترك الصلاة؛ لأنها ألفت تركها كل يوم وهكذا، نحن نريد للقضية أن تحل قبل أن تحدث كل هذه الأمور، وقبل أن نألف مأساة فلسطين. إذاً: الوقت ليس علاجاً وليس مصلحة لقضية فلسطين، كما أن مرور الوقت ليس في صالحنا كأفراد، فالموت يا إخوة! يأتي بغتة، ومن مات قامت قيامته، وسيأتي والله يوم عسير نسأل فيه جميعاً ماذا فعلنا لفلسطين؟ يوم تقترب فيه الشمس من الرءوس، ويشتد فيه الزحام وتزل فيه الأقدام، ولا ينفعنا إلا العمل الصالح، سنسأل: ماذا فعلنا لهؤلاء الذين يقتلون صباح مساء على بعد أميال منك؟ ماذا فعلنا لأرض تغتصب، ودماء تراق، وحرمات تنتهك؟ ماذا فعلنا لتلك المساجد الطاهرة التي تشكو إلى ربها؟ يا ترى! ماذا سنعمل لو متنا في هذا الوقت، وسئلنا عن هذه الأشياء؟ أليس الأفضل أن نجهز إجابة لهذا الوقت وبسرعة؟ يا ترى! لو عرفت أن عصابة تدبر لقتل وسرقة جارك ألا تفعل شيئاً، ألا تتحرك، ألا تأخذك حمية؟ فما بالك لو كان تدبيراً لقتل أمة وسرقة شعب؟ يا ترى! إذا كنت ماشياً في الشارع، ومعك ابنك عمره 8 سنوات أو 10 سنوات، فجاء يهودي وأطلق رصاصة استقرت في قلبه أو في رأسه، فسقط بين يديك وسالت دماؤه وأنت لا تملك علاجاً حتى مات أمام عينيك، فترفع رأسك فتجد أكثر من مليار مسلم يشاهدون ولا يتحركون، ألا ترفع يدك إلى السماء تدعو على من شاهد ولم يتحرك، وتدعو على من سمع ولم يعقل، وتدعو على من قرأ ولم يفقه؟ يا ترى! لو وضعت أموالك كلها في بيت أثثته بتعب وكد وعرق وجهد، ثم جاءت دبابة فأضاعت جهد السنين، وهدمت أحلام المستقبل، فخرجت تحمل من بقي من أولادك مهرولاً؛ هرباً من حطام بيتك وقد اشتعلت به النيران، فإذا بك تعلم أن أكثر من مليار مسلم يشاهدون ولا يتحركون، ألا ترفع يدك إلى لسماء تشكو إلى خالقك ظلم القريب والبعيد، وتشكو ظلم العدو والصديق؟ يا أخي! ضع نفسك في مكانهم، أليس هؤلاء من المسلمين المشتركين معك في عقيدة واحدة؟ أليسوا من البشر الذين لهم أحلام كأحلامك، وآمال كآمالك، وآلام كآلامك، أم أننا لنو

مفهوم الأمة الإسلامية

مفهوم الأمة الإسلامية أنا أريد يا إخوة! في هذه المحاضرات أن أرسخ في الذهن مفهوم الأمة الإسلامية، فالأمة الإسلامية ليست مجموعة من الدول، تربطها علاقات سياسية واقتصادية وثقافية طيبة، لا، الأمة الإسلامية شيء آخر، الأمة الإسلامية كيان واحد وجسد واحد وروح واحدة: (مثل المسلمين في توادهم، وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى). تدبر قوله صلى الله عليه وسلم، يقول: (مثل المسلمين في توادهم) يقول: المسلمين لا يقول: المصريين، ولا السوريين، ولا الباكستانيين أبداً، الرابطة التي تجمعنا جميعاً هي الإسلام وليس محل الميلاد، هذا هو الرباط الحقيقي، هذا هو الرباط الاختياري، المرء يختار عقيدته ودينه، لا يختار محل ميلاده، فالأفغاني المسلم الملتزم بدينه وقواعد الإسلام والذي يعيش على بعد آلاف الأميال مني أقرب إلي من الجار في نفس المنزل إذا كان على غير المنهج الصحيح. أترانا لو ربطنا علاقتنا على كوننا فقط ولدنا على أرض واحدة، أيكون هذا رباطاً صحيحاً؟ ألمجرد أنه ولد على أرض مجاورة أصبح أخاً لي تقياً كان أو عربيداً، مؤمناً كان أو فاسقاً، مسلماً كان أو يهودياً؟ المسلمون يا إخوة جسد واحد، جسد يده في السودان ومصر والجزائر والمغرب، ورجله في سوريا ونيجيريا وباكستان والعراق، كبده في السنغال ومالي واليمن وقطر، عينه في الشيشان وكشمير والأردن وأندونيسيا، أذنه في البوسنة وتركيا والكويت والنيجر، قلبه في مكة والمدينة والقدس، (حسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، ليس معقولاً أن يكون القلب مريضاً، وتكون العينان مشغولتين برؤية الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، وفي لهو كامل عن القلب، ليس معقولاً أن يكون الكبد متهالكاً، وتكون الأذن مشغولة بسماع النكات والألحان والمباريات والمشاكل التافهة، ليس معقولاً أن تكون الرجل مقطوعة، وتكون اليدان مشغولتين بعد الأموال وكنز الذهب والفضة، (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً). أعداء المسلمين يريدون أن يرسخوا في أذهاننا حدوداً ليست بين الأراضي فقط، ولكن بين القلوب والعقول أيضاً، سياسة استعمارية مشهورة جداً، فرق تسد، وهذه المؤامرة التفريقية التي تكلمنا عليها في بداية الدروس، فقد أدخلوا في روع المسلمين أن يعتز كل بلد بقوميته، حتى يعتز الجزائري بنفسه، ويعتبر نفسه غريباً عن المصري، ويعتز الأردني بنفسه ويعتبر نفسه غريباً عن التركي وهكذا. أدخلوا الفرقة في قلوب المسلمين حتى أصبح المسلم في بلد إذا ساعد مسلماًَ في بلد آخر يعتبر ذلك تفضلاً منه ومنةً على الآخرين، أبداً يا إخوة! هذه والله حقوق وليست فضائل، كالذي يدفع زكاته للفقير هذا لا يجب أن يمن على الفقير بزكاته، فالزكاة حق مكتسب وشرعي للفقير، والله قسم الأرزاق، فجعل الناس بين غني يعطي، وبين فقير يأخذ، كذلك قسم الله الابتلاءات على بلاد المسلمين، هذا بلد ابتلي باليهودي فعليه أن يقاوم، وهذا بلد ابتلي بالأمن والمال والرخاء فعليه أن يساعد لا تفضلاً منه بل واجباً عليه وامتحاناً له. وبهذا المفهوم مفهوم الجسد الواحد تستطيع أن تفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني: (لا يقفن أحدكم موقفاً يضرب فيه رجل ظلماً، فإن اللعنة على من حضره، حين لم يدفعوا عنه)، ونحن والله في هذا الوقت لا توجد عندنا حجة، نرى ضرب الفلسطينيين بالرصاص والصواريخ والقنابل على شاشات التلفاز والإنترنت والصحف، نراه حال وقوعه فلا عذر لنا، الوقت يا أخي! ليس في صالحنا، الموت يأتي بغتة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11]. ثم يا أخي! أنت لا تنصر إخوانك في فلسطين بدافع المسئولية فقط، إنه والله لأجر عظيم وثوابٌ جزيل، ولا أقول: جنة بل جنان: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة). إذاً: على كل المسلمين عرباً كانوا أو غير عرب، قريبين من فلسطين أو بعيدين عنها، في بلد إسلامي أو في غيره من بلاد العالم غير المسلمة، عليهم جميعاً أن يحركوا قضية فلسطين وبسرعة، ولكن عليهم أن يحرصوا أن يحركوها بالمفاهيم الصحيحة، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ترى ما هي هذه المفاهيم الصحيحة التي نريد أن ترسخ في أذهان المسلمين؟ هذا

فلسطين إسلامية

سلسلة فلسطين_فلسطين إسلامية فلسطين أرض إسلامية، وهي تشكل بقعة مقدسة للأمة الإسلامية، فقد ميزها الله بمميزات على سائر البقاع، لكن هذه المميزات ليست سبباً رئيسياً لتحريرها من أيدي اليهود، إذ إن السبب الرئيسي لتحريرها هو أنها إسلامية، وهذه المميزات التي أعطاها الله لها حوافز تزيد محبة المسلمين لها.

إحساس المسلم بفلسطين إحساس نابع من القلب

إحساس المسلم بفلسطين إحساس نابع من القلب أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلنا من الذين حفظوا للقرآن حرمته، وممن عظموا منزلته، وممن تأدبوا بآدابه، وممن التزموا بأحكامه، وممن حللوا حلاله، وممن حرموا حرامه، وممن عمل بمحكمه، وممن آمن بمتشابهه. اللهم إنا نسألك إيماناً دائماً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، وعلماً نافعاً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على البلاء صابراً. آمين آمين، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. أما بعد: مع الحلقة الثانية من حلقات قضية فلسطين، تحدثنا في الحلقة الأولى عن ربط قضية فلسطين بالأندلس، وعن خطورة قضية فلسطين، وعن المؤامرات الكثيرة التي تحاك لأمة المسلمين، وبالتبعية لفلسطين، وعن دور الأمة إجمالاً في حل قضية فلسطين، وعن المؤامرة الفكرية التي ذكرنا خطورتها على الأمة الإسلامية، وتحدثنا أيضاً عن مفهوم الأمة الإسلامية، وعن الدور الأول تجاه قضية فلسطين، وهو تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة. قبل الحديث عن هذا الدور الكبير، دور تحريك القضية بالمفاهيم وبسرعة، أجيب عن سؤال جاء من أخ بخصوص الحلقة السابقة. أخ يسأل ويقول: تعليقاً على أن المسلمين كالجسد الواحد، وأنه ليس من المعقول أن يشتكي القلب أو اليد، وتظل العين لاهية برؤية المباريات والمشاكل التافهة والمسلسلات وما إلى ذلك هل تطلب منا أن نعيش في كآبة مستمرة تضامناً مع أهل فلسطين؟ A الحق أنا لم أقل: أنك ستعيش في كآبة تضامناً مع أهل فلسطين، أنا لا أطلب منك تمثيل الحزن أو تعمد البعد عن أماكن الفرح إمعاناً في الكآبة، لكن ما ذكرته هو أن هذا شعور ذاتي لا يحتاج من الإنسان أن يبذل له مجهوداً، شعور الجسد الواحد، إذا أصيب قلبك فهل تدعي العين الألم؟ أو تدعي القدم الألم؟ أم أنها فعلاً تشعر بالألم دون ادعاء؟ لو مات إنسان عزيز عليك، هل تحتاج إلى بذل مجهود لفصل نفسك عن أماكن اللهو، أم أن هذا شعور ذاتي تلقائي نتيجة الحزن الحقيقي؟! ما أريده هو أن تحس بالقضية إحساساً صادقاً، وساعتها سيأتي الحزن بشكل طبيعي، بل سيتبع الحزن عمل إيجابي، يبغي التغيير والإصلاح، وأضرب مثالاً يوضح الصورة: موقف مشهور جداً في التاريخ، موقف صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، عندما روي أمامه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فكان الرواة لهذا الحديث يضحكون عندما يذكرون ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما روي هذا الحديث أمام صلاح الدين الأيوبي لم يضحك، فسألوا عن ذلك فقال: كيف أضحك والأقصى أسير في أيدي الصليبيين؟ هو لا يستطيع أن يضحك؛ لأنه يحس فعلاً بالقضية، هو لا يفتعل الحزن تضامناً مع المشردين من أهل فلسطين، ولا يدعي الألم احتراماً لمشاعر الآخرين، ولكنه بالفعل يعاني كما يعانون، ويتألم كما يتألمون، هو جزء لا يتجزأ من الجسد الواحد، ولا بد أن يشعر بشعوره، ويتألم لآلامه، ويحزن لأحزانه، ويفرح لأفراحه دون تكلف ولا افتعال، فأنت إن أدركت القضية على حقيقتها، وأن لك دوراً فيها دخل الحزن في قلبك مؤكداً لا افتعال فيه ولا تكلف، هذا ما أريده، ولا أريد منك أن تفتعل الحزن لقضية فلسطين.

تحديد هدف ما لا بد أن يكون وفق منهجية صحيحة

تحديد هدف ما لا بد أن يكون وفق منهجية صحيحة في المحاضرة السابقة تحدثنا عن الدور الأول عن أهمية تحريك القضية وبسرعة، ووقفنا عند ذكر المفاهيم الصحيحة لقضية فلسطين، اليوم نبدأ في الحديث عن بعض هذه المفاهيم الهامة، الحق أن سوء الفهم لهذه المعاني أو المفاهيم قد يؤدي بنا إلى انحراف خطير بعيد تماماً عن جادة الطريق، سوء الفهم لهذه المعاني يعني انسياقاً وراء المؤامرة الفكرية. المفهوم الأول الذي نريد أن نناقشه في هذه المحاضرة هو تحديد الهدف، هل يستقيم أن تكون مسافراً فتعد العدة للسفر من سيارة ومتاع وأموال وميعاد وتجهيز وترتيب، ثم تأتي يوم السفر وتكتشف أنك لا تدري إلى أين تسافر، ما هي الوجهة! ما هو الهدف! هذا بالطبع لا يستقيم؛ لأن إعدادك لمدينة مجاورة غير الإعداد لمدينة بعيدة، فسفرك إلى الإسكندرية ليس مثل سفرك إلى أسوان، وليس مثل سفرك إلى مكة، وليس مثل سفرك إلى لندن، أو سفرك إلى أي مكان، كل مكان يتطلب إعداداً خاصاً، تحديد الهدف، وتحديد الوجهة. أترجم هذا الكلام إلى Q لماذا نحرر فلسطين؟ وهذا سؤال في غاية الأهمية. ما هي الدوافع وراء الحركة، وبذل الجهد والعرق والمال والنفس؟ مهم جداً أن نجيب باستفاضة عن هذا السؤال، وأن نفرغ له وقتاً وجهداً؛ لأن المؤامرة الفكرية التي تحدثنا عنها في الحلقة السابقة أول ما تضرب ستضرب الأهداف والدوافع، وهذا قد يحبط العمل. لماذا نحرر فلسطين؟ سأعرض لكم إجابات أعرف أنها تخطر في بال كثير من المسلمين، إجابات كثيرة متعددة، ولكني أشعر أن إجابة واحدة في هذه الإجابات تعد هي الإجابة الصحيحة. سأعرض هذه الإجابات الواحدة تلو الأخرى، وعلى المستمعين أن يحاولوا أن يلتقطوا من بينها إجابة يعتقدون أنها هي الإجابة الصحيحة. الإجابة الأولى: هل لأنها عربية ونحن عرب؟ الإجابة الثانية: هل لأنها القدس المدينة المقدسة المباركة؟ الإجابة الثالثة: هل لأن بها المسجد الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولى القبلتين وثالث الحرمين؟ الإجابة الرابعة: هل لحل مشكلة اللاجئين المشردين في بقاع العالم المختلفة؟ الإجابة الخامسة: هل لوقف نزيف دماء الفلسطينيين؟ الإجابة السادسة: هل لأنها فتحت بالإسلام وحكمت بالإسلام قديماً في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه؟ هذه ستة اختيارات، اختر من بينها واحدة، فكل الإجابات قد يصلح للإجابة، لكن ما هي أصح الإجابات على سؤال خطير: لماذا نحرر فلسطين؟ أنا أريد من الذي يسمع يحاول التفكير معي، نحن نعمل دراسة عن الدور الذي من الممكن أن نؤديه نحو قضية فلسطين، إن لم نفهم فعلاً لماذا نحرر فلسطين، سنخسر معظم الطريق، وسنتكسر، وستضعف الشوكة لا محالة. أعود وأذكركم مرة أخرى، هل لأنها عربية؟ هل لأن بها القدس؟ هل لأن بها المسجد الأقصى؟ هل لحل مشكلة اللاجئين؟ هل لوقف نزيف الدماء؟ أم هل لأنها فتحت بالإسلام وحكمت بالإسلام قديماً في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ أشعر أن قسماً كبيراً من الحضور مع كل إجابة من الإجابات، الجميع مقسمون بين هذه الإجابات، الاختلاف كبير؛ لأن الإعلان يشرح لنا في كل يوم هدفاً لتحرير فلسطين، مرة بالحديث عن كونها عربية، مرة من أجل القدس، مرة من أجل المسجد الأقصى، مرة من أجل إسلامية البلاد، وهكذا اختلف المسلمون كثيراً في الهدف الذي من أجله نحرر فلسطين، الحقيقة أنا من كل هذه الإجابات أختار الإجابة الأخيرة؛ لأنها فتحت بالإسلام وحكمت بالإسلام قديماً في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

موقف الشرع الإسلامي من فتح بلاد فلسطين وغيرها

موقف الشرع الإسلامي من فتح بلاد فلسطين وغيرها تذكرون عندما تحدثنا عن فتح بلاد الشام فتحت بلاد فلسطين في سنة 13هـ وأتم الفتح في سنة 18هـ، ومنذ ذلك الحين أصبحت فلسطين قطراً إسلامياً. يعني: أنا أحرر فلسطين ببساطة؛ لأنها إسلامية في المقام الأول، هذا بلا شك عليه تعليقات كثيرة: أولاً: ما موقف الشرع الإسلامي؟ نحن الآن مختلفون، أعلم أن الكثير يقولون: نحررها؛ لأنها عربية، وآخرين: لأن بها القدس، وآخرين: لأن بها المسجد الأقصى وهكذا اختلفنا، نرجع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه في المحاضرة السابقة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ). فالآن نحن اختلفنا ما بين إسلامية وعربية ووقف لنزيف الدماء وقضية القدس وغيرها، تعالوا نرجع إلى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تعالوا نرجع إلى الشرع الإسلامي وإلى الفقه الإسلامي، هناك باب كبير جداً في الفقه اسمه باب الأرض المغنومة، الأرض التي دخلها المسلمون بالفتح الإسلامي، ما هو موقفنا من هذه الأرض كأرض فلسطين أو كغيرها من الأراضي التي دخلها المسلمون فاتحين؟ فالأرض التي دخلها المسلمون فتحاً أو صلحاً وقف إسلامي، وعلى هذا اجتماع فقهاء المسلمين، لكن اختلفوا اختلافاً يسيراً في كيفية تصرف الحاكم المسلم في هذه الأرض المغنومة، فـ أبو حنيفة والشافعي وابن حنبل رحمهم الله جميعاً اتفقوا على أنه يجوز أن يفعل في الأرض المفتوحة أحد أمرين: إما أن يوزع أربعة أخماسها على الفاتحين ويضم الخمس الباقي إلى خزانة الدولة، كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أراضي خيبر. والرأي الثاني: أن يضمها كلها إلى بيت مال المسلمين، ولا يوزع منها شيئاً على الفاتحين، وذلك ليستفيد منها المسلمون إلى يوم القيامة، ولا تبقى حكراً على مجموعة الفاتحين الأوائل، ومرجعهم في هذا الأمر الأخير إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، روى البخاري عن أسلم مولى عمر قال: قال عمر رضي الله عنه: أما والذي نفسي بيده! لولا أن أترك آخر الناس بياناً -أي: فقراء- ليس لهم من شيء ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكن أتركها خزانة لهم يقتسمونها. فالإمام مالك لا يرى إلا هذا الرأي الأخير فقط، رأي عمر بن الخطاب بأن الأرض تكون لبيت مال المسلمين، ولا تقسم على الفاتحين. إذاً: الأرض التي فتحت بالإسلام، أصبحت ملكاً للمسلمين، ملكاً أبدياً لا تغيير له ولا تبديل، هذه الحقيقة الفقهية سيترتب عليها أشياء كثيرة هامة: أولاً: هل فتح المسلمون أرض فلسطين كلها، أم فتحوا جزءاً منها؟ فتحوها كلها. هذا معلوم. إذاً: أصبحت أرض فلسطين أرضاً إسلامية خالصة منذ أن فتحت ابتداءً من سنة 13هـ إلى سنة 18هـ، فكل أرض فلسطين من البحر إلى النهر كما يقولون، أي: من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن، ومن لبنان في الشمال إلى رفح وخليج العقبة في الجنوب، أعلم أن هذا في نظر الكثيرين كلام عجيب، وأنه أحلام وأوهام، لكنه شرع الله سبحانه وتعالى، وأبداً ما كان شرع الله أوهاماً ولا أحلاماً. ثانياً: يزداد العجب مع هذا الفقه عندما تنظر حولك في بلاد العالم بحثاً عن البلاد التي فتحت بالإسلام، فأصبحت بحكم الشرع الإسلامي بلاداً إسلامية. على سبيل المثال: بلاد الأندلس -إسبانيا والبرتغال- ونحن تكلمنا كثيراً في محاضرات سابقة عن فتح أسبانيا والبرتغال، هذه البلاد حكمت بالإسلام، ثم دارت الدورة وجاءت الدولة لغير المسلمين وانتزعت من أيدي المسلمين بالنصارى، وضاع الحكم الإسلامي هناك، لكن هذا الضياع للحكم الإسلامي في هذه البلاد لم يلغ إسلامية هذه البلاد، بل ستظل إسلامية إلى يوم القيامة. فمن شرع الله أنه إذا دخل الإسلام بلداً فلا يجب أن يخرج منها أبداً، بل وعليه أن يسعى للدخول إلى غيرها، هذه هي الرسالة الخاتمة، والمسلمون هم جند الله الناشرون لها، والمدافعون عنها، والشهداء في سبيلها؛ حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله. إن الله سبحانه وتعالى خلق العباد لغاية، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فهؤلاء الذين يعيشون في بلاد أخرى غير بلاد المسلمين لا يعبدون الله سبحانه وتعالى، ولا يؤدون ما خلقهم الله لأجله، وبذلك وجب على المسلمين أن ينطلقوا إليهم يعلمونهم هذا الدين، ويدخلونه في بلادهم، ويزيلون الطغمة الحاكمة التي تبعدهم عن شرع الله سبحانه وتعالى، وعن رسالته الخاتمة للبشرية، رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كنت أقول هذه المعلومات أمام رجل صديق فقال: يا أخي! وما شأنك أنت؟ اتركه يعبد ما يشاء، ويسجد لمن يشاء. لا حول ولا قوة إلا بالله العل

موقف الشرع الإسلامي من أرض إسلامية احتلها الكفار

موقف الشرع الإسلامي من أرض إسلامية احتلها الكفار لو احتل جزء من الأرض الإسلامية ماذا يكون الوضع؟ اجتمع فقهاء المسلمين على أنه يتعين الجهاد في سبيل الله لتحرير أي جزء محتل من بلاد المسلمين، ولو كان شبراً واحداً، يتعين الجهاد يا إخوة! أي: يصبح فرض عين كالصلاة والصيام في رمضان والزكاة. والفروض بصفة عامة إما فرض عين وإما فرض كفاية، ومعنى فرض عين: يتعين على الفرد المسلم أن يقوم به بنفسه، ولا يسقط بإقامة البعض له مثل الصلاة المفروضة، فلا يصح أن يصلي أحد بالنيابة عن الآخر، وكذلك الزكاة إن كان يمتلك الزكاة الذي وجب عليه نصاب وحال عليه الحول، وإذا لم يقم به الفرد المسلم أثم واستحق عقاباً من الله سبحانه وتعالى. أما فرض الكفاية: فهي الفروض التي تجب على بعض الناس دون البعض الآخر، ولو فعلوها وسدوا العجز لسقط الإثم عن الجميع، ولو لم يفعلها أحد أثم جميع المسلمين، كالأذان مثلاً، فإنه لا يجب على كل المسلمين أن يقوموا عند وقت الأذان ويؤذنون، وإنما يكفي المسلمين أن يقوم رجل ويؤذن للصلاة. كذلك صلاة الجنازة، ورد الشبهات عن الإسلام مثلاً، ومثل بعض الأمور التي تتصل بإصلاح النظام المعيشي، مثل الزراعة والطب والصناعة والهندسة، كثير من الأمور يكفي أن يكون فيها بعض المسلمين يقومون بها حتى يسقط الإثم عن بقية المسلمين. وبالنسبة للجهاد هو في الأصل فرض كفاية، إذا قام به بعض المسلمين وحصلت بهم الكفاية سقط الإثم عن بقية المسلمين؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً إلى بني لحيان فقال: لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما). إذاً: الجهاد في الأصل فرض كفاية، لكنه يتعين فيصبح مثل الصلاة المفروضة وصيام رمضان في أمور ثلاثة: أولاً: أن يحضر المكلف صف القتال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15]. ثانياً: إذا استنفر الحاكم أحداً من المكلفين، فمثلاً لو كان هناك خلافة إسلامية وكان هناك جهاد في بلاد الشام والحاكم استنفر رجالاً من اليمن تعين عليهم أن يتحركوا وللجهاد؛ لما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا). ثالثاًً: إذا احتل العدو جزءاً من أرض المسلمين، -وهذا شبيه جداً بالموقف الذي نحن بصدده الآن في فلسطين- فإنه يتعين على أهل البلد المحتل أن يخرجوا جميعاً للقتال إن كان دفع العدو لا يتحقق إلا بخروجهم جميعاً، فإن لم يكفوا عاونهم الأقرب فالأقرب من بلاد المسلمين، ولو أتى ذلك على مسلمي الأرض جميعاً. يقول أبو حنيفة رحمه الله: فإن غلب العدو على بلد من بلاد المسلمين أو ناحية من نواحيها ففرض عين -أي: الجهاد- فتخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن مولاه، وكذا يخرج الولد من غير إذن والديه، والغريم بغير إذن دائنه. ثم يقول: امرأة سبيت من الشرق وجب على أهل المغرب تخليصها. فسبحان الله! نفس الكلمات يا إخوة! تتكرر، ولكن بصيغ مختلفة في فقه المالكية والشافعية والحنابلة، فهذا أمر مجمع عليه، أنه إذا احتل جزء من أرض المسلمين ولو جزء يسير؛ وجب على المسلمين وتعين عليهم أن يحرروه. إذا: ً أي بلد فتح بالإسلام قتالاً أو صلحاً أصبح بلداً إسلامياً، وتعين على المسلمين تحريره إن احتل شبر منه، فلسطين أو غير فلسطين من البلاد الإسلامية المحتلة. لكن هناك أولويات، فليس من المعقول أن يكون الموقف ساخناً جداً في فلسطين والشيشان وكشمير، ونحن نقوم بتجميع الجيوش، ونذهب لتحرير إسبانيا مثلاً أو فرنسا أو اليونان، فلا بد أن يكون هناك أولويات عند المسلمين في القضايا الحادة الساخنة، مثل قضية فلسطين أو الشيشان أو كشمير أو البوسنة والهرسك أو كوسوفا، توجه إليها الجيوش وتوجه إليها الطاقات، ويوجه إليها الجهد. فقد يقول قائل: هذا كلام جميل، لكن ينافي الحلول الواقعية التي ذكرتها في البداية، ونحن قلنا في البداية: إننا نتحدث مع الطبيب والمهندس والنجار والسباك والحداد، ونتحدث مع عموم الأمة، ولا نتحدث مع من بيده أن يخرج الجيوش ويجهز الطاقات للحروب، فهل هذا فيه تعارض مع ما ذكرناه في بداية المحاضرات؟ A أولاً: نحن نتحدث عن مفاهيم أساسية: حتى تعمل لا بد أن تفهم أولاً، ولا بد أن تعرف حقوقك حتى تستطيع أن تقاتل من أجلها، وهذه المحاضرات يا إخوة! سيسمعها أحد رجلين، إما في داخل فلسطين وإما في خارج فلسطين، فلو كان السامع في داخل فلسطين ولديه الفرصة للجهاد لا بد أن يعلم أنه قد تعين عليه الجهاد، ولا بد أن يعلم حدود حقوقه التي لا يجوز له التنازل عنها، ولو كان السامع لهذه المحاضرات خارج بلاد فلسطين فعليه أن يعين على هذا الجهاد. روى البخاري و

بيان أهداف شريعة الحق وأهداف شريعة الباطل

بيان أهداف شريعة الحق وأهداف شريعة الباطل سؤال قد يطرح: هذا المنطلق للأراضي الإسلامية المحتلة بهذا الإدراك الشامل والمفهوم الواسع يتعارض مع ما يسمى بالشرعية الدولة، فإن الشرعية الدولية الآن فرضت حدوداً في كل دولة، فلا يجوز أن تعبر حسب قولهم. A هناك نوعان من الشرعية في العالم، هناك شريعة الحق، وشريعة الباطل، واصطلح المبطلون في هذا العصر على تسمية شريعة الباطل بالشرعية الدولية، فالشرعية الدولية هي شريعة الغاب القوي فيها يأكل الضعيف، ولا فرق في الشرعية الدولية بين صاحب الحق وبين مغتصب الحق، المهم من هو الأقوى، ولا فرق في الشرعية الدولية بين الظلم والعدل، المهم من الأقوى، ولا فرق في الشرعية الدولية بين الرحمة والقسوة، المهم من الأقوى. فالشرعية الدولية منعت دخول التطعيمات ولبن الأطفال للعراق إلى أن مات عشرات الألوف من الأطفال، الشرعية الدولية أجازت ضرب المدنيين في العراق والبنية التحتية غير العسكرية: محطات الكهرباء، المصانع، المدارس، المستشفيات، الشرعية الدولية أجازت ضرب مصنع الأدوية الوحيد في السودان؛ لأنها أعلنت تطبيق شرع الله ولو جزئياً في بعض الولايات، الشرعية الدولية أعطت كشمير للهند مع علمهم بغالبيتها المسلمة، الشرعية الدولية تركت الصين تأكل المسلمين في تركمانستان الشرقية، ولعلكم سمعتم بعشرات المسلمين الذين أعدموا قريباً، وأذاعت الخبر الـ BBC، وجاء الخبر في الديلي تلغراف البريطانية، أنه أعدم عشرات من المسلمين بعد أن أجبروا على أن يحتسوا الخمر في وجبتهم الأخيرة، وداروا بهم في كل بلاد تركمانستان حتى يكونوا عبرة لغيرهم، فالشرعية الدولية تركت الصين تأكل المسلمين ولم تحرك صاروخاً في اتجاه الصين، الشرعية الدولية تركت الصرب تذبح وتغتصب بالبوسنة والهرسك وكوسوفا، وبعد ذلك بتسع سنين يحاكمون ميلوسوفيتش، وكأنه انتصار كبير للعدالة الدولية! فالشرعية الدولية يا إخوة! ما هي إلا اصطلاح اجتمع عليه مجرمو الحرب في العالم؛ لتنفيذ رغبات الدول القوية. قل لي بالله عليك! لماذا هذا الشكل المتباين بين موقف أمريكا تجاه الكويت عند احتلال العراق لها، وبين موقف أمريكا من اليهود في فلسطين، والذين ظلموا في الكويت هم مسلمون، والذين ظلموا في فلسطين مسلمون أيضاً، فهذا احتلال ظالم وهذا احتلال ظالم. فلماذا تحركت الشرعية الدولية ولم يستطع بوش الأب أن ينام حزناً على مصائب المسلمين في الكويت، إلا عندما جمع أهل الأرض جميعاً بما فيهم المسلمين لتحرير الكويت، وهنا تحرك غالب المسلمين بشهامة لتحرير الكويت، وأخرج المصحف وقرأ العلماء: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]. لماذا ينام بوش الأب وكلينتون ثم بوش الابن ملء جفونهم! واحتلال إسرائيل لفلسطين مستمر بصورة أبشع بكثير من احتلال العراق للكويت؟! ثم أين شهامة المسلمين الذين تحركوا لنجدة الكويت؟ أين شهامتهم وجيوشهم في قضية فلسطين؟ لماذا لم يخرجوا المصحف، ولماذا سكت العلماء الذين روجوا لتحرير الكويت؟! أليس في المصحف آيات تحض على نجدة أهل فلسطين وعلى قتال اليهود؟! لماذا فرضت الشرعية الدولية في الكويت تحرك نصف مليون جندي وآلة عسكرية ضخمة جداً؟! ولماذا لم تفرض الشرعية الدولية في فلسطين إلا طاولة مفاوضة وأربعة أو خمسة كراسي حولها؟! فالشرعية الدولية اصطلاح لا يعرف حقاً ولا باطلاً، لا يعرف إلا القوة. أما شريعة الحق -شريعة الله- فهي أمر مختلف تماماً، هي شرعية تقوم في الأساس على احترام خالق هذا الكون، شرعية تعرف الحق كما عرفه مالك الملك ذو الجلال والإكرام، وتعرف الباطل كذلك كما عرفه مالك الملك ذو الجلال والإكرام، شرعية تقوم على أساس نشر العدل المطلق والرحمة المطلقة بين الخلق، شرعية تريد الخير للعالمين والرحمة لهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. والصراع قديم جداً بين الشرعية الدولية لأهل الباطل وبين الشرعية الإسلامية لأهل الحق، فقد اصطلح أهل مكة من الأشراف الكافرين على أن يعبدوا أصناماً من دون الله، يعني: قرار الأمم المتحدة في مكة زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبدوا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فهل هذا الاجتماع يعطي هذه العبادة صورة الحق؟ اصطلح أهل مكة من الأشراف الكافرين على أن يعذبوا المسلمين ويصادروا أموالهم وديارهم، وهي عملية تجميد أموال كما نسمع، اصطلحوا على أن يفرضوا آراءهم بسلاحهم، فهل هذا التعذيب حق؟ اصطلح أهل مكة من الأشراف الكافرين على أن يحاصروا المسلمين في شعب أبي طالب ثلاث سنوات كاملة، فهل كان هذا الحصار حقاً؟ اصطلح أهل مكة من الأشراف الكافرين على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حادثة الهجرة ل

تصحيح المفهوم حول السبب الدافع لتحرير فلسطين

تصحيح المفهوم حول السبب الدافع لتحرير فلسطين نراجع الاختيارات التي كنا قد طرحناها تحت Q لماذا نحرر فلسطين؟ الاختيار الأول: هل لأنها عربية؟ الاختيار الثاني: هل لأن بها القدس؟ الاختيار الثالث: هل لأن بها المسجد الأقصى؟ الاختيار الرابع: هل لحل مشكلة اللاجئين؟ الاختيار الخامس: هل لوقف نزيف الدماء؟ الاختيار السادس: هل لأنها فتحت بالإسلام فأصبحت أرضاً إسلامية؟! واخترنا الإجابة الأخيرة، واستنتجنا من ذلك بأن بلاد فلسطين بكاملها إسلامية، ولذلك نحررها، ولكن ما عيوب الإجابات الأخرى أم أنها صحيحة؟ تعالوا بنا نفصلها واحدة واحدة ونرى هل الإجابة سليمة أم غير سليمة؟

تحرير فلسطين لكون القدس فيها

تحرير فلسطين لكون القدس فيها نأخذ مثلاً إجابة أن بها القدس، هل نحرر فلسطين لأن بها القدس؟ القدس طبعاً مدينة شريفة ومباركة، وذات قيمة هامة جداً عند المسلمين، تأخذ موقعها المتميز مباشرة بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، وفوق القيمة الدينية العالية فهي ثغر قديم من ثغور الإسلام، وأرض جهاد دائم، وأهلها في رباط إلى يوم القيامة، لكن الحقيقة أن شيئاً خطيراً سيحدث إذا قلنا: إننا نحرر فلسطين من أجل القدس، فإنه سيأتي العدو عند لحظة من لحظات المساومة ويقول لك: خذ القدس واترك كذا وكذا من أرض فلسطين؛ ولذلك فالعدو نفسه سيعلي جداً من قيمة القدس في إعلامه وسفاراته ومفاوضاته حتى إذا سمح لك بأخذها فتح لك الطريق لتسلم غيرها بسهولة، والأمم المتحدة من شدة خبثها أنها لما قامت بمؤامرة تقسيم فلسطين عام 1947م فصلت القدس لوحدها وجعلتها تحت رعاية دولية، وبذلك رفعت من قيمتها جداً عند المساومة، فيأتي الفلسطيني المفاوض ويقول: لا بد أن آخذ القدس، سأقيم دولة فلسطينية عاصمتها القدس، فيوافقونه بعد جدال، ثم يكتشف وكأنه قد فقد بصره ساعة المفاوضات أنه لم يأخذ إلا 22% فقط من الأرض فيها القدس، وسلم 78% من الأرض خالصة لليهود، ثم يكتشف أيضاً كارثة أخرى بعد أيام أو شهور أن 60% من الضفة الغربية فيها مستوطنات يهودية، وفي النهاية يجد نفسه لا يملك إلا 10% أو أقل مهلهلة تماماً، لكن الحمد لله معه القدس!! ونحن متفقون أن أرض فلسطين بأكملها إسلامية محتلة واجبة التحرير، وهذا الذي كان المفاوضون ينادون به من قبل، نأخذ أرض فلسطين بأكملها، لكن سبحان الله! إنها المؤامرة، فهناك أناس يدبرون، وأناس لا يمانعون في الوقوع في المؤامرة، ثم هناك مرحلة أخطر في المساومات، فإنه عندما يشاهد ضعفاً أكبر في صف المفاوضين يبدأ بالمفاوضة في تقسيم القدس فتصبح هناك قدس شرقية وقدس غربية. والله أذكر عنواناً رئيساً في صحيفة عربية مشهورة يقول: لا تفريط في القدس الشرقية. والغربية؟ هل الغربية أصبحت ملك اليهود؟! وبقية فلسطين يجوز فيها التفريط؟! ثم بعد ذلك مرحلة أخطر وأخطر في المفاوضات، وهو ما تم في أوسلو في المفاوضات السرية، والتي ظهرت في الصحف بعدها بشهور، أن اليهود اتفقوا مع أبي مازن المفاوض الفلسطيني البارز على إنشاء أحياء جديدة في شرق مدينة القدس يطلقون عليها اسم القدس، ويأخذ اليهود مدينة القدس الأصلية، ويسمونها أورشليم، بينما يأخذ الفلسطينيون الأحياء الجديدة ويسمونها القدس، وحينذاك الحمد لله إسرائيل أخذت أورشليم، وفلسطين صارت عاصمتها القدس، والحمد لله سيأخذ الفلسطينيون مدينة في شرق القدس، وشيء طيب أنهم لم يعملوها في بلد أخرى، في الأردن أو في لبنان ويسمونها القدس. إذاً: شيء خطير جداً أن أقول: أنا أحرر فلسطين من أجل القدس، لكن أنا أحرر فلسطين من أجل فلسطين؛ لذلك أنادي أن تظهر دائماً الدعاية لفلسطين تحت عنوان فلسطين وليس القدس، مثلاً تقول: فلسطين إسلامية، ولا تقول: القدس إسلامية، تقول: فلسطين لنا، ولا تقول: القدس لنا، تقول: لا تفريط في فلسطين، ولا تقول: لا تفريط في القدس، وهكذا.

تحرير فلسطين لكون المسجد الأقصى فيها

تحرير فلسطين لكون المسجد الأقصى فيها الأخطر والأخطر والأخطر، أن نقول: إننا نحرر فلسطين من أجل الأقصى، وهذا كلام سيستغرب منه الكثيرون، لكن لنحلل هذا المنطلق: أولاً: ستتطور المساومة والفصال إلى حد خطير، سيقولون: لا مساس بالمقدسات الإسلامية، الأقصى وقبة الصخرة؛ ولذلك نعطيك الأقصى وقبة الصخرة ونأخذ فلسطين والقدس، ثم مرحلة أخرى من المساومات، يقولون: لضمان الأمان أكثر نجعل الأقصى تحت حماية دولية وليس تحت حماية المسلمين، فيفقد المسلمون ملكيتهم للأقصى ويصبحون زواراً له، نعم يزورونه بحرية كما يزورون مسجد قرطبة في إسبانيا اليوم، ثم مرحلة جديدة بعد ذلك، هكذا خطوة خطوة، وهي إعطاء الأقصى ولكن بدون جدار واحد فقط من جدرانه، يدعون أن هذا الجدار هو حائط المبكى وبقايا هيكل سليمان عليه السلام، ثم خطوة أخرى خطيرة جداً عندما يلاحظون موت الشارع الإسلامي، وهي هدم الأقصى وإقامة هيكل سليمان عليه السلام، ولكن من الممكن أن تحدث ثورة في العالم الإسلامي، فيقولون لهم: لماذا تثورون؟ سنعطيكم قبة الصخرة. وقبة الصخرة يا إخوة! أقل شرفاً من الأقصى، فيقولون: لماذا لا نقنع المسلمين أن المسجد الأقصى هو قبة الصخرة؟ فينشرون دعاية فيها أن قبة الصخرة الصفراء المشهورة وكأنها المسجد الأقصى، وكثير جداً من المسلمين كانوا يظنون أن هذه القبة الصفراء الذهبية المشهورة هي قبة الأقصى إلى وقت قريب، لكن الحمد لله مؤخراً بدأ بعض المسلمين يعلم أن الأقصى الحقيقي غير قبة الصخرة الصفراء المشهورة. إذاً: عندما نقول: نحن نحرر فلسطين لأن فيها الأقصى، فإنهم سيساومون على الأقصى الذي تريده، ويأخذون بقية البلاد، وليس هذا فقط، بل هناك أمور أخرى لا تقل خطورةً بالنسبة لفهم القضية، نحن قلنا: إنهم سيساوموننا على كل شيء ويعطوننا الأقصى، هذا لو أعطونا. ثانياً: هل الأقصى كبناء أغلى في القيمة، أم دماء المسلمين الذين يعيشون في مدن قد تبعد كثيراً عن الأقصى، في رام الله والخليل وغزة ونابلس وغيرها، حتى في غير فلسطين؟ أنا لن أتطوع بالإجابة ولكن أترك الإجابة إلى معلمي ومعلم الأجيال ومرشدي ومرشد العالمين رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده! لحرمة المؤمن أعظم عند الله منك، ماله ودمه وإن نظن به إلا خيراً). وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه نظر يوماً إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. سبحان الله! المؤمن أعظم حرمة عند الله من الكعبة، والكعبة بلا شك أعظم شرفاً من الأقصى. إذاً: خطأ كبير في الفهم ألا يتحرك المسلمون لقتل الأبرياء من الفلسطينيين بينما ينتفضون لزيارة شارون إلى الأقصى. أقول: جميل ولا شك أن ينتفض المسلمون لدخول شارون الأقصى، ولكن لا بد أن يكون رد الفعل أشد وأعنف عند المسلمين إذا قتل مسلم من مسلمي فلسطين، فما بالك بالمئات من أهل فلسطين؟! خطأ كبير في الفهم أن يهتم المسلمون وينتفضوا لحفر نفق تحت الأقصى، ولا يهتمون ولا ينتفضون لذبح ثلاثة آلاف من المسلمين في صبرا وشاتيلا، وما تحركوا إلا على استحياء بعد أن فتحت الموضوع إذاعة الـ BBC البريطانية بعد 19 عاماً من الحديث، ساعتها بدأنا نتكلم ونرفع قضايا في بلجيكا وغيرها، لكي نرجع حق المسلمين الذين ذبحوا منذ 19 عاماً. فدماء المسلمين غالية جداً، وإن هدم الأقصى فسيتجدد بناؤه إن شاء الله، لكن لو أريق دم المسلم من يعيده إلى أسرته في الدنيا، حرمة كبيرة وذنب عظيم أن يقتل المسلم ولا ينتفض المسلمون، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم يسمو بدم المسلم سمواً أعلى من الكعبة والأقصى، بل والدنيا جميعاً، فيقول في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)، هذا الحديث رواه أيضاً النسائي والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. فلا بد من ترتيب الأولويات، دماء المسلمين تأتي قبل مقدسات المباني. إذاً: اعتقاد المسلمين أننا نحرر فلسطين فقط لكونها تحتوي على المسجد الأقصى ينطوي عليه خطران كما ذكرنا: الخطر الأول: المساومة على الأقصى في مقابل بقية فلسطين. والخطر الثاني: تعظيم قيمة الأقصى أكثر من دماء المسلمين. والخطر الثالث: هو هل يلزم وجود مكان مقدس في البلد كالأقصى أو الكعبة حتى يتحرك المسلمون لتحريرها؟ هل تضعف حمية المسلمين عن مساعدة أهل الشيشان؛ لأنهم لا يمتلكون أقصى في بلادهم؟ هل لا تتفطر قلوب المسلمين على نساء البوسنة المغتصبات؛ لأنهن لا يمتلكن كعبة في بلادهن؟ هل لا تغلي

تحرير فلسطين لأنها مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم

تحرير فلسطين لأنها مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأشياء التي خص الله بها فلسطين كونها مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن نسأل أنفسنا: لماذا ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته العظيمة إلى السماء إلى القدس أولاً، كان من الممكن أن يأتي الله له بالأنبياء يصلون معه في مكة وهي أشرف بلا شك، أو يصلي بهم في السماء، ولكن سبحان الله! في ذلك إيحاءات كثيرة: أولاً: تسلم الرسول صلى الله عليه وسلم لقيادة البشرية من مركز القيادة القديم وآخر عهده أنبياء اليهود. ثانياً: إلقاء حب هذا المكان بصورة أكبر في قلوب المؤمنين. ثالثاً: جعل الله الأقصى القبلة الأولى للمسلمين، وظلت كذلك ستة عشر أو سبعة عشر شهراً في المدينة المنورة، كما جاء في رواية البخاري، ثم حولت القبلة بعد ذلك إلى الكعبة، فكان الأقصى هو أولى القبلتين، وبذلك يضاف شيء جديد بالإضافة إلى كونه مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيزداد المسلمون حباً له ولمحله القدس وفلسطين، والعلاقة بين القدس والكعبة وثيقة، فغير المسرى والقبلة هو التالي مباشرة في البناء على الأرض للكعبة. أخرج الإمام مسلم رحمه الله عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع على الأرض؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً، ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركت الصلاة فصل). ولهذه الميزات العظيمة جعل الله له مزية رابعة خاصة جداً، فالمسلم قد يشد الرحال من بعيد ليأتي ويصلي في المسجد الأقصى، فهذه مزية خاصة ليست إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، وذلك كما جاء في البخاري: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)، فلا يجوز لأحد أن يسافر من بلد إلى بلد -حتى ولو كان في نفس القطر- ليذهب ويصلي في مسجد ما، إلا في هذه المساجد الثلاثة. المزية الخامسة: يخبر صلى الله عليه وسلم أن أجر الصلاة فيه إلى خمسمائة صلاة، وهذه أيضاً مزية بالنسبة لغيره من المساجد. المزية السادسة: يبارك الله سبحانه وتعالى في الأرض التي تحيط بالأقصى، وهي أرض فلسطين، وأرض الشام بصفة عامة: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71]. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الطبراني وصححه الألباني: (الشام أرض المحشر والمنشر). المزية السابعة: أكثر من ذلك أن الله لا يبارك فقط في الأرض إلى يوم القيامة، بل يبارك في ساكني فلسطين أيضاً إلى يوم القيامة، روى الطبراني وصححه الألباني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالشام، فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من خلقه). وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، على من يغزوهم قاهرين، لا يضرهم من ناوءهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك. قيل: يا رسول الله! وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس). كل هذه الأمور ترفع جداً من قيمة فلسطين، لكن كما ذكرنا ليست هي المبرر الأول لتحرير فلسطين، بل المبرر الأول كون الأرض إسلامية، وهذه الميزات حوافز زائدة على المبرر الأول، وذلك كما تنقذ طفلاً من الموت فهذا واجب، لكن أن يكون الطفل ولدك هذا يضاف إلى كونه واجباً، فهو شيء فطري لا يستطيع الإنسان أن يتخلى عنه إلا أصحاب النفوس الخبيثة جداً. سؤال مهم: لماذا يعطي الله كل هذه المزايا لهذه الأرض، فيزيد حب المسلمين لها ويتحركون إليها أسرع مما يتحركون إلى غيرها، لماذا لم يجعل مثلاً المسجد الأقصى في الجزائر، فيسارع المسلمون إلى الجزائر إذا احتلت، أو في مصر فيبادر المسلمون إليها، أو في غيرها من البلاد، لماذا فلسطين بالذات؟ A لا أعتقد أن السبب فقط في كونها أرض ديانات سابقة ورسالات عديدة، ولكن أعتقد أن الله سبحانه وتعالى لما كان يعلم بسابق علمه للأحداث أن هذه البقعة من الأرض ستظل مكاناً لصراع دائم مستمر بين قوى الأرض المختلفة وبين المسلمين أراد أن يزيدها محبة في القلب؛ لأنه سوف يتكرر القتال فيها مرات ومرات، فقد أتاها الصليبيون من أبعد النقاط عنها في العالم المعمور وقت ذاك، واحتلوها 200 سنة كاملة، وكان من الممكن أن ينسى المسلمون القضية لتقادم الزمان، لكن أبداً ما نسيها المسلمون، ثم جاء اليهود من الشتات والتيه الحديث من كل بلاد العال

مفاهيم خاطئة

سلسلة فلسطين_مفاهيم خاطئة تحرير فلسطين ليس واجباً علينا لأنها أرض عربية، ولا نحررها من أجل إيقاف نزيف الدماء، أو من أجل حل مشكلة اللاجئين، إنما نحررها لأنها أرض إسلامية فتحت بالإسلام وحكمت بالإسلام، وفيها المسجد الأقصى، وهذا هو المعيار الصحيح الذي ينتصر به المسلمون على اليهود.

السعي إلى تحرير فلسطين من منطلق العروبة

السعي إلى تحرير فلسطين من منطلق العروبة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلنا لا نؤمن إلا بك، ولا نعبد إلا أنت، ولا نخلص إلا لك، ولا نتوكل إلا عليك، ولا نتوجه إلا إليك، ولا نجاهد إلا فيك، {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]. آمين آمين. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. أما بعد: فمع المحاضرة الثالثة من المحاضرات الخاصة بقضية فلسطين وعرضنا في المحاضرة السابقة سؤالاً هاماً هو: لماذا نحرر فلسطين؟ في محاولة لتحديد الهدف الذي من أجله تتحرك الطاقات والعقول والأيادي، لماذا نحرر فلسطين؟ ما هي الدوافع وما هي النيات وما هي الحقوق وما هو الطريق؟ وتحدثنا عن ستة اختيارات أو محاور يعتقد في صحة كل منها مجموعة من المسلمين، فصلنا في ثلاثة اختيارات في المرة السابقة الاختيار الأول: هل لأنها إسلامية؟ وقد اخترنا هذا التوجه، ووضحنا أسباب اختياره. الاختيار الثاني: نحررها لأن فيها القدس، وتحدثنا عن سلبيات هذا الاختيار وعن إيجابياته، وخلصنا أنه مع أهمية القدس إلا أننا لا نحرر فلسطين فقط من أجل القدس، ولكن من أجل كل فلسطين، بل إن الحديث عن القدس فقط قد يؤثر سلباً على قضية فلسطين. الاختيار الثالث: نحررها لأن بها الأقصى الشريف، وتحدثنا أيضاً عن السلبيات والإيجابيات في هذا الاختيار بتفصيل كبير يرجع له في مكانه، وبقيت لنا ثلاثة اختيارات لم نتحدث عنها ويعتقد في صحتها طائفة كبيرة من المسلمين. في محاضرة اليوم نتحدث عن هذه الاختيارات الثلاثة الباقية، الاختيار الأول الذي نتحدث عنه اليوم هو الاختيار الرابع من الاختيارات المطروحة في المحاضرة السابقة، وهو: هل نحرر فلسطين لكونها عربية ونحن عرب. ولعل هذا الاختيار هو الأكثر شيوعاً عند عموم المقاتلين من أجل القضية الفلسطينية، وهو الاختيار الذي تتولاه معظم دوائر الإعلام العربية، ومعظم الهيئات الرسمية في مختلف بلاد العالم العربي. والحق أني أرى أن هذا الاختيار هو منطلق خطير يغير كثيراً من الفهم الصحيح للقضية، ويضعف كثيراً من أوراق الضغط عندنا، بل ويتمشى تماماً مع المؤامرة الفكرية التي يتولاها الغرب والشرق ومن خدع بقولهم من المسلمين حتى لو كان هؤلاء المطالبون يطالبون بكامل فلسطين، ولكن من منطلق أنها عربية فهذا شيء غريب، مع أنه يمكن أن نأخذ كل فلسطين تحت هذا المنطلق، إلا أن هذا الأمر سيؤدي إلى كارثة كبيرة بأرض فلسطين، ونتذكر هنا ما قلناه في المحاضرة الأولى من أن بعض أخطاء الفهم قد تسقط الأمم. تعالوا بنا نرى ما هي عيوب الاختيار الذي نحن بصدده الآن.

القتال تحت راية العروبة بدلا من راية الإسلام

القتال تحت راية العروبة بدلاً من راية الإسلام أولاً: يقولون: إن فلسطين عربية؛ لأنه كان يعيش فيها قبل دخول اليهود فلسطين قبائل كنعان العربية؛ ولذا فهي عربية؛ ومن أجل ذلك ندافع عنها، وهم بذلك يربطون ملكية البلد بمن عاش فيها أولاً، وهذا مبدأ غير إسلامي كما ذكرنا في الدرس السابق، فإننا ذكرنا أن البلاد تصبح ملكاً للمسلمين بفتحهم إياها سواء كان ساكنوها من قبل عرباً أو غير عرب، مصر الآن دولة عربية، هل سكنها العرب أولاً ولذا فهي عربية، أم من الممكن أن يقوم القبط الآن ويقولوا: هذه بلادنا وعشنا فيها قبل المسلمين؟ وهذا صحيح، نعم. عاشوا فيها قبل المسلمين، لكن منذ أن فتحت بالإسلام أصبحت البلاد الإسلامية. الجزائر الآن دولة عربية، هل سكنها العرب أولاً، أم أنها كانت مسكونة بالبربر وهم ليسوا من العرب، هل فتح المسلمون بلاد فارس؛ لأنه كانت لهم جذور عربية في فارس؟ هل فتحوا بلاد الأندلس؛ لأنه كانت لهم جذور عربية في الأندلس؟ إذاً: لا يجب أن يجرنا اليهود إلى جدالات جانبية لإخراجنا عن المنهج السليم، فيأتي اليهود ويزورون التاريخ، ونظل في جدال كبير ورجوع للحفريات، فمن آخر ما سمعت أن شارون أعلن أنهم وجدوا آثاراً في الجولان تدل على أن اليهود سكنوا هذه البلاد قبل العرب، طبعاً هم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله، وتعالوا إذاً ندخل في جدل عقيم وطويل وحفريات مزورة وخروج عن شرع الله سبحانه وتعالى. لأننا نجر مع اليهود إلى جدالات خارج المنهج، فلو كان الأمر بهذه الطريقة فلنأت لنخرج الاستراليين من أستراليا مثلاً، ومن المعروف أن أهل أستراليا الحاليين ليسوا هم الأهل الأصليين، وأيضاً نخرج روسيا من الشيشان، فالجميع يعترف أن أهل الشيشان سكنوا في بلاد الشيشان قبل روسيا، بل فلنخرج الأمريكان أنفسهم من بلاد أمريكا، ونعطيها للهنود الحمر الذين لا ينكر الأمريكان أنهم سكنوا البلاد قبلهم. إذاً: ليس هناك داعٍ لأن نمشي مع اليهود في هذا الطريق، فهم قوم تمرسوا على الجدال وعلى تغييب الحق، وتمرسوا على إنكار الحقيقة ولو كانت مثل ضوء الشمس.

عدم تشرفنا بالانتماء إلى كنعان الوثني العربي

عدم تشرفنا بالانتماء إلى كنعان الوثني العربي ثانياً: هل يحرر المسلمون فلسطين لأن كنعان كان يسكن فيها أولاً؟ تعالوا بنا نفكر بهدوء، هل نتشرف بانتمائنا إلى كنعان؟ إن قبائل كنعان هذه كانت قبائل وثنية عربية تعيش في أرض فلسطين منذ قديم الزمان، وهم -أي: اليهود- يقولون: إن داود وسليمان عليهما السلام كانا يعيشان في هذه البلاد، ومن قبلهما يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم جميعهاً أفضل الصلاة والتسليم، والحق أقول: نعم. كان كنعان يعيش قبل هؤلاء الأنبياء في فلسطين، لكن ألا يشرفني الانتماء إلى هؤلاء الأنبياء المرسلين عن الانتماء إلى كنعان، فإن بيننا وبين هؤلاء الأنبياء أخوة العقيدة والإيمان بالله، بينما بيني وبين كنعان كره في الله، أكرهه لأنه كان يسجد لصنم من دون الله. وهكذا يكون الأساس الذي يبني عليه المسلم علاقاته، الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، لا نفعل مثلما فعل كاتب مصري مشهور، يكتب عموداً ثابتاً في صحيفة مشهورة من أن اليهود من طبعهم الغدر وإنكار الجميل، حتى إن موسى عليه الصلاة والسلام -والكلام للمؤلف- قد قتل المصري وهرب، ولم يراع حق المصريين الذين ربوه وأطعموه وحملوه فوق رءوسهم. يعني: هذا المؤلف يطعن طعناً مباشراً في نبي من أنبياء الله لأنه إسرائيلي. سبحان الله! هذا النبي من أولي العزم من الرسل، ولا يجوز أبداً أبداً أن يدفعنا كرهنا لليهود أن نكره أنبياءهم الذين هم رسل الله، هذا خطأ كبير جداً في الفهم، وأقل ما يوصف به فعل هذا المفكر أن هذا سوء أدب مع الأنبياء, ونسأل الله أن يكون قد ارتكبه عن جهل، وإلا فالعواقب خطيرة، بل خطيرة جداً. وسؤال يهمس في أذنك: أيهما أشرف لك أن تنتمي إلى أبي جهل العربي القرشي الكافر أم إلى بلال الحبشي المؤمن وليس بعربي؟ أيهما أشرف لك أن تنتمي إلى أبي لهب العربي القرشي الكافر، أم إلى طارق بن زياد البربري المؤمن وليس بعربي؟ أيهما أشرف لك أن تنتمي إلى الوليد بن المغيرة العربي القرشي الكافر، أم إلى صلاح الدين الأيوبي الكردي المؤمن وليس بعربي؟ طبعاً نحن لدينا خلفية أن صلاح الدين عربي؛ لأن الفيلم المشهور الذي عرضوه ويتكلم عن صلاح الدين الأيوبي جاءوا به وفيه كلمة مزورة على لسان صلاح الدين الأيوبي، أنه يقول: نحن العرب فعلنا كذا وكذا. والأصل أننا نحن المسلمون. أيهما أشرف لك أن تنتمي إلى أمية بن خلف العربي القرشي الكافر، أم إلى محمد الفاتح التركي فاتح القسطنطينية المؤمن وليس بعربي؟ أيهما أشرف لك أن تنتمي إلى النضر بن الحارث العربي القرشي الكافر أم إلى قطز المملوكي الشركسي المؤمن وليس بعربي؟ نعم، الآن اكتشفنا أن كثيراً من رموزنا الإسلامية العظيمة ليست بعربية، فنحن يا إخوة! لا نحرر فلسطين لكونها سكنت بـ كنعان الوثني أولاً، نحن نحررها لأنها بكاملها قطر إسلامي فتح بالإسلام كما ذكرنا.

نسيان المسلمين البلاد الإسلامية المحتلة غير العربية

نسيان المسلمين البلاد الإسلامية المحتلة غير العربية ثالثاً: من خطورة تكرار أن فلسطين عربية نسيان المسلمين البلاد الإسلامية المحتلة غير العربية، ونسيانهم هموم المسلمين غير العرب حتى وإن كانوا في بلاد غير محتلة، فالمسلمون في جمهوريات الإتحاد السوفييتي المحررة يحتاجون إلى عون المسلمين من العرب وغيرهم، مع العلم أن إسرائيل هي أول دولة ذهبت وأقامت علاقات وثيقة مع هذه الدول الإسلامية، والمسلمون في غياب عظيم عن هذا الدور الكبير، تخيلوا إسرائيل أول بلد يقيم علاقات مع تركمانستان وكازاخستان وأوزبكستان وطاجاكستان وكل هذه البلاد، ثروات ضخمة جداً في هذه البلاد وطاقات بشرية كبيرة جداً فيها؛ ولهذا أقامت معها إسرائيل هذه العلاقات ولم يتحرك لها المسلمون. كذلك المسلمون في بلاد أفريقيا يحتاجون إلى المسلمين في بلاد العرب، والمسلمون الأمريكيون والأوربيون يحتاجون إلى المسلمين في بلاد العرب، فالذي يجمعنا بهم هو رباط العقيدة وليس رباط العنصر والعرق.

فقدان الوحدة مع مليار مسلم غير عربي

فقدان الوحدة مع مليار مسلم غير عربي رابعاً: بمناداتنا بعروبة فلسطين تحذف ببساطة قوة مليار مسلم مساعد ومعين، فهو شيء شديد الحساسية يدخل في قلوب غير العرب عندما تتحدث عن عروبتك وكأنهم مسلمون من الدرجة الثانية، نلاحظ في بلاد العالم الغربي حيث تعيش جاليات مسلمة من شتى البقاع أموراً عجباً، تجد المسلمين مقسمين إلى مجموعات منفصلة بحسب العنصر، بل وقد يتنافسون فيما بينهم تنافساً يخل بالعلاقة بينهم، بل وقد يتصارعون في هذه الغربة، تجد على سبيل المثال تجمعاً عربياً ومجموعة باكستانية ومجموعة تركية، وهكذا بحسب العرق والعنصر. والله أذكر حديثاً مع باكستاني قال: إن في قلبه ألماً شديداً لإحساسه أن العرب ينظرون إليهم نظرة دونية، مع شدة العاطفة الإسلامية في قلوب الباكستانيين وفي قلوب الهنود وفي قلوب الأندونيسيين وفي قلوب الماليزيين، يقول: في قلوبنا عاطفة إسلامية شديدة، ويقول: ومع أنه قد خرج منا وممن حولنا من البلاد غير العربية البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه والبيهقي والغزالي والسرخسي والنيسابوري، كل هؤلاء وغيرهم كثير خرجوا من هذه البلاد غير العربية إلا أن العرب ينظرون إلينا نظرة دونية، ففي قلبه ألم شديد جداً. ولو نظرت في صلاة الفجر فإنك تجد نسبة الحضور في صلاة الفجر في هذه البلاد الغربية أكثر من 70% أو 75% من الجاليات الباكستانية والهندية والماليزية وغير العربية بصفة عامة. فهذه عاطفة كبيرة جداً، ونحن ببساطة حين نقول: نحن عرب ونحرر فلسطين لكونها عربية -نحذف كل هؤلاء من صف المسلمين ومن صف القوة المواجهة لإسرائيل ببساطة، بهذه الكلمة تحذف مائتي مليون أندونيسي، وتحذف مائة مليون باكستاني ومائة مليون بنغلاديشي ومائة مليون نيجيري وثمانين مليون تركي ومائة مليون هندي وغيرهم كثير. يا أخي! وسع مداركك وانظر ماذا أراد الله لك وتبتغي غيره، انظر إلى الأمر من منظور سياسي وعسكري واقتصادي، انظر إليه من باب المصالح؛ هل من المصلحة أن تواجه إسرائيل وأنت تبلغ من العدد مائتي مليون، أم من المصلحة أن تواجهها وأنت تبلغ من العدد مليار مسلم ومائتين أو ثلاثمائة مليون؟ فرق ضخم جداً، تخيل معي بدلاً من الجامعة العربية كيان آخر اسمه الجامعة الإسلامية، كما كان يريد السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله, آخر السلاطين المحترمين في الخلافة العثمانية. تخيل معي جامعة تكون قراراتها ليست لمجرد التنفيس عن الشعوب الإسلامية، ولكن أخذ قرارات واقعية مؤثرة تغير من مسار الشعوب تبعاً لمصلحة الشعوب، جامعة إسلامية موحدة تجمع بين طياتها طاقة بشرية هائلة وفيها تكنولوجيا ماليزيا وأندونيسيا، وفيها بترول الخليج والقوقاز، وفيها مزارع السودان والعراق، وفيها مناجم أفريقيا وفيها وصواريخ إيران، وفيها نووية باكستان ويورانيوم كازاخستان، وفيها قناة السويس وباب المندب ومضيق البسفور في تركيا. يا أخي! اعرف إمكانيات الأمة الإسلامية، ولا داعي لعنجهية العنصر والقومية والقبلية.

فقدان عنصر قوة العقيدة الإسلامية

فقدان عنصر قوة العقيدة الإسلامية خامساً: إن أخطر الآثار على المناداة بعروبة فلسطين هي تغير الغاية من القتال، وفقدان العنصر الحقيقي للنصر وهو قوة العقيدة الإسلامية، وطبق هذا الكلام معي على قضية فلسطين، فالسلطة العلمانية لا تربط منهجها بالله سبحانه وتعالى وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، بل تربطه فقط بالآباء والأجداد وكأن لسان حالهم يقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، هذه السلطة العلمانية تشعر أن قوتها قوة ذاتية في أفرادها، وليس في كونها تعمل لله عز وجل، بينما السلطة الإسلامية تشعر أن قوتها مستمدة من الله الخالق وليس من غيره من المخلوقات، وإن شعرت السلطة العلمانية بضعف وذل تلجأ إلى عموم البشر الأقوياء في نظرها، ولا تنظر إلى الدستور الصحيح الذي يحدد طريقة السير وطريقة الحياة، تلجأ إلى غيرها ممن يعتزون بآبائهم مثلما تعتز هي بآبائها، بل وقد تحارب من ينادون بإسلامية المنهج وإسلامية الطريق، قد تلجأ السلطة العلمانية إلى روسيا باعتبارها صديقاً قديماً، وتنسى أنهم لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، وتنسى أن روسيا لما واجهت مشكلة مع إخوان الفلسطينيين في الشيشان ما كان لها حل إلا القتل والإبادة، فكيف ترجو منها تأييداً في فلسطين لذات القوم الذين تقاتلهم في الشيشان؟! وقد تلجأ إلى بريطانيا وفرنسا، وتنسى أن بريطانيا هي التي زرعت إسرائيل في فلسطين بتأييد فرنسي كما سيأتي في تاريخ فلسطين، وتنسى أن طائرات بريطانيا ما زالت تقصف إخوانهم في العراق، بل وقد تلجأ وفي سفه شديد إلى أمريكا، مع علمها أنها المؤيد الأول والداعم والمستمر لكل ما تفعله إسرائيل، فإذا بحكام هذه السلطة يرسلون الرسائل إلى رؤساء أمريكا يطلبون منهم أن يوقفوا عنف إسرائيل، سبحان الله! بل والعجب العجاب أنهم قد يلجئون إلى إسرائيل ذاتها بتنسيقات أمنية وترتيبات عجيبة يدفع ثمنها الإسلاميون من أهل فلسطين، وهكذا يبحثون عن عزتهم في مناهج كثيرة وقوى متعددة، ولا يفكرون ما داموا ينطلقون من مبدأ عنصري وهو العروبة فقط في الذهاب إلى المنهج الإسلامي: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139]، ولو ذهبوا أحياناً إلى المنهج الإسلامي فإنه يكون على سبيل الاضطرار لا الرغبة، أحياناً يطلقون الإسلاميين لإرهاب العدو لا اقتناعاً بمنهجهم، أحياناً يزورون باكستان أو إيران لعلها تفعل ما لم يفعله أبناء العمومة من العرب اضطراراً غير مقصود لا يغني عند الله شيئاً. فإلى هؤلاء الذين يعتزون بعروبتهم بديلاً عن إسلاميتهم أنقل إليهم قولاً لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وهو قول مشهور: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، وإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، إن كنتم تشعرون بذل فاعلموا أنكم قد ابتغيتم العزة في غير موضعها، فنصر المسلمين يا إخوة! يستمد من نصر الله لهم، ونصر الله لهم يستمد من نصرهم لله: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وكيف ننصر الله؟ ننصره بتطبيق شرعه، نصره بطاعة أوامره، ننصره باجتناب نواهيه، ننصره بالالتزام بطريق نبيه صلى الله عليه وسلم، ننصره بالبعد عن العنصرية والفرقة. خبر قرأته في صحيفة أمريكية والله ظننته خبراً كيدياً وما ظننت أنه خبر صحيح حتى تيقنت من بعض الفلسطينيين هناك، تهنئة أمريكية للسلطة هناك في فلسطين بإنشاء أكبر مصدر من مصادر الاقتصاد الفلسطيني هناك، يا ترى! ما هو أكبر مصدر سيمد الدولة الفلسطينية الناشئة؟ ما هو المصدر الذي سيمدها بالمال والطاقة؟ المصدر هو إنشاء أكبر نادٍ للقمار في الشرق الأوسط في أريحا، نعم، والله يا إخوة! ولا حول ولا قوة إلا بالله، أكبر نادٍ للقمار، ولما سئلوا عن ذلك قالوا: إن القمار محرم في إسرائيل، لا يوجد نوادي قمار هناك في إسرائيل؛ ولذلك أنشئوا هذا النادي في أريحا، حتى يخدعوا اليهود، يجعلونهم يأتون إلى أريحا ليصرفوا نقودهم هناك، ويصبح المصدر الرئيسي للدخل الفلسطيني من القمار. فهذا منهج علماني بعيد تماماً عن أسباب النصر الحقيقية للمسلمين، كما أن معظم المطلوبين من قبل إسرائيل بتهمة أنهم يرهبون إسرائيل عاشوا شهوراً وسنوات في سجون السلطة العربية في فلسطين. شيء خطير جداً إلغاء إسلامية القضية وجعلها قضية عربية عنصرية فقط، والله شاهدت ملصقاً يوزع في المكتبات الإسلامية وهو عجيب جداً حيث إنه مكتوب عليه: القدس عربية، القدس عربية، يعني: أولاً: تكلمنا في الدرس السابق عن قضية القدس وفلسطين والفرق بينهما فهو يعني: صغر القضية جداً وجعلها القدس، ثم لم يقل إسلامية أيضاً، ضيع الوجهة أصبحت القدس عربية، وأشد من هذا أنك عندما تنظر إلى هذا الملصق تجد أنه قد رسم عليه قبة الصخرة ولم يرسم عليه المسجد الأقصى.

اعتماد اليهود على المنطلق الديني في سعيهم لإنشاء دولتهم

اعتماد اليهود على المنطلق الديني في سعيهم لإنشاء دولتهم وهذه النقطة تحدثنا عنها في الدرس السابق وما فيها من تمييع تام للقضية؛ وهدر كامل لأسباب القوة. إسرائيل كانت في منتهى الذكاء أن ضربت على هذا الوتر لما قامت، وأطلقت على نفسها اسماً قومياً عنصرياً إسرائيل وهو يعقوب عليه الصلاة والسلام، وهو منهم ومن أمثالهم بريء، وكأن كل الدولة تقوم على أكتاف أولاد إسرائيل، مع أن معظم اليهود في إسرائيل ليسوا من أبناء يعقوب ولا حتى من الأسباط، بل هم من الذين دخلوا اليهودية في أوروبا الشرقية وأفريقيا بعد ذلك. اليهود ثلاث طوائف ضخمة جداً، منشئوا الدولة اليهودية والذين يسيطرون على أعلى وأهم المناصب حتى الآن هم من طائفة يهودية تسمى الإشكانيزيين، والإشكانيزيون هؤلاء في اللغة العبرية تعني: الألماني؛ لأنهم كانوا يعيشون زماناً طويلاً يتكلمون لغة مكونة من خليط من الألمانية والعبرية، عاشوا في ألمانيا وشرق أوروبا وروسيا، وهم جميعاً من سلالات قبائل الخزر الوثنية الذين كانوا يسكنون في تلك المناطق، واعتنقوا اليهودية في القرن العاشر الميلادي يعني: في زمن حديث جداً، ولا يمتون بأي صلة عرقية لبني إسرائيل، ويطلق عليهم أحياناً اليهود الغربيون، هل تعلمون كم يمثلون هؤلاء من اليهود في العالم؟ قرابة 80%، 80% من يهود العالم ليسوا من أصل إسرائيل، ومنهم معظم يهود الولايات المتحدة الأمريكية الذين هاجروا إليها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ومن هؤلاء خرج معظم زعماء الحركة الصهيونية وقادة إسرائيل الآن. المجموعة الثانية من اليهود: هم اليهود الشرقيون، يطلقون عليهم اسم السفرديين، وهم الذين عاشوا فترات طويلة في بلاد المسلمين، سواء في الأندلس أو في شمال أفريقيا أو في مصر أو تركيا أو إيران، وهؤلاء يتكلمون إما العربية وإما لغة أخرى تعرف باسم اللدينو خليط بين العبرية والأسبانية، ولذلك سموا بالسفرديين، والسفردي بمعنى: أسباني، وهؤلاء معظم أبناء اليهود الذين شتتهم الرومان من فلسطين. المجموعة الثالثة: هي يهود الفلاشا المشهورة، وهم اليهود الذين يعيشون في أفريقيا وبالذات في أثيوبيا، إذاً: معظم يهود العالم ليسوا من أبناء إسرائيل، كما أنه ليس كل أبناء إسرائيل ظلوا على يهوديتهم، فكثير من أبناء إسرائيل دخلوا النصرانية على مدار عشرين قرناً سابقة، وكثير منهم أيضاً دخلوا الإسلام على مدار أربعة عشر قرناً سابقة، وهؤلاء النصارى أو المسلمون وإن كانوا من أبناء إسرائيل إلا أن اليهود لا يدينون لهم بأي ولاء، بل على العكس يكنون لهم كل الكراهية والبغض. إذاً: ما الشيء الذي جمع شتات اليهود من كل بلاد العالم؟ ما هو الشيء الذي ضم كل العنصريات المختلفة الأوربية والروسية والأفريقية، والعنصريات التي أصلاً من بني إسرائيل؟ هذا الشيء هو الديانة اليهودية وليس العنصرية الإسرائيلية. يعني: كلمة إسرائيل لا تمثل حقيقة الدولة، والتسمية الصحيحة المناسبة لهذه الدولة هي دولة اليهود، وهذه التسمية كانت تطرح في أروقة الأمم المتحدة قبل قيام إسرائيل (جيويش استيت) أو دولة اليهود، ومع ذلك لما قامت في سنة ثمانية وأربعين سمت نفسها إسرائيل؛ وذلك لأنها لو أطلقت على نفسها الدولة اليهودية كان بالتبعية أن يطلق على من حولها الدولة الإسلامية، وهذا شيء بالغ الخطورة على إسرائيل، فهي لا تريد استثارة النوازع الدينية عند المسلمين، فيصبح الإسلام في مقابلة اليهودية، ويفقه المسلمون المعركة كما فقهها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يعلمون مواطن القوة في جيش المسلمين، والمسلمون لا يعلمون مواطن القوة في جيشهم، هم يريدون أن يفهم المسلمون المعركة على أنها حرب بين عنصرين بين أبناء إسرائيل وبين أبناء يعرب العربي، فتصبح إسرائيل في مقابلة العرب، ويصبح الصراع اسمه الصراع العربي الإسرائيلي، وليس الصراع الإسلامي اليهودي. وشتان. وبالتأكيد فإن اليهود قد قرءوا جيداً تاريخ المسلمين، وعلموا أن لحظات الانتفاضة الحقيقة والنصر المبين للمسلمين لا تكون إلا تحت راية الإسلام، أما غيرها من الرايات فلا يتحقق تحته نصر، فقال اليهود: فليحاربنا المسلمون تحت أي راية، فسوف ننتصر عليهم. تحت راية العروبة أو تحت راية الاشتراكية أو تحت راية الرأسمالية أو تحت راية الفلسطينية أو الفرعونية أو الفينيقية أو أي راية، إن ذلك ليس مهماً، المهم عندهم عدم وجود راية الإسلام، انظر إلى كلام بن غوريون أول رئيس لإسرائيل: نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات، نحن فقط نخشى الإسلام هذا المارد الذي نام طويلاً، وبدأ يتململ من جديد. كذلك شيمون بيريز في مؤتمر انتخابه كان يقول: لا يمكن أبداً أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهراً سيفه، ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه، نسأل الله أن يخيب ظنه، ولن يغمد الإسلام سيفه أبداً. إذاً: القتال تحت راية العروبة بدلاً من راية الإسلام شيء خطير لما ذكرناه أولاً؛ لأنه لا يهمنا من عاش فيها أولاً، المهم متى فتحت؟ ثانياً: لأننا لا يشرفنا

جعل قضية إعادة اللاجئين القضية المحورية والهدف الأساسي

جعل قضية إعادة اللاجئين القضية المحورية والهدف الأساسي الاختيار الخامس وهو أمر يقاتل من أجله بعض المسلمين، ولكن ليس بالأمر المنتشر، فبعض المسلمين يقاتل فقط من أجل إعادة اللاجئين إلى أرض فلسطين. فأقول: إن هذا هو ما تريده إسرائيل تماماً، أن تجعل القضية قضية لاجئين، وهنا تتدخل إسرائيل وتعرض حلولاً بتعويض اللاجئين مالاً وإسكانهم في مكان خارج فلسطين، يعني مثلاً: في الأردن أو في لبنان أو في مصر أو في ليبيا أو في أي مكان، وقد عرض بالفعل هذا من قبل، وليس هذا بجديد. كان موشى ديان يتعجب قائلاً: يريدون إعادة اللاجئين إلى إسرائيل وهي تبلغ من المساحة 28 ألف كيلو متر مربع فقط -يقصد بذلك مساحة كل فلسطين- وعندهم من الأرض ما تبلغ مساحته أكثر من 14 مليون كيلو متر مربع. إشارة إلى مساحة الدول العربية المحيطة، وهو بذلك يريد أن يضيع القضية، ويشير إلى أن القضية ليست قضية أرض، إنما القضية قضية أناس لا يجدون مكاناً يسكنون فيه، فنحن سنسكنهم في أماكن أفضل من الأماكن التي سكنوا فيها من قبل، فتجد أنه بسهولة شديدة جداً يستطيع الفلسطينيون أن يهاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويحصلوا هناك على الجنسية الأمريكية، فيعيشون هناك في أمريكا ويتركوا أرض فلسطين. إذاً: هناك طرح إسرائيلي بعرض مال أو بدل أو تعويض للاجئين على أن يتركوا أرض فلسطين. البديل الآخر: أن يعودوا إلى فلسطين تحت الحكم اليهودي، وبذلك يصبحون مثل عرب إسرائيل الآن، وهم مجموعة من العرب مضطهدة تحت حكم اليهود، يعاملون بعنصرية واضحة وسيطرة كاملة، ولو سمح لهم برفع صوت فلن يكون إلا من خلال الأحزاب اليهودية الليكود أو العمل، ولو زاد الصوت عن حده لابد أن يكون العقاب إما قطع اللسان أو قطع العنق. هذا بلا شك تضييع كبير جداً لمفهوم القضية الصحيح، وهو أن يعود اللاجئون إلى الأرض حاكمين وليسوا محكومين بالحكم اليهودي، فلا يعيشون تحت وطأة اليهود هناك فيما يسمى بإسرائيل. إذاً: هذا الطرح غير مقبول بالمرة، ومع ذلك يردده بعض الناس، لكن لا نقبله لا شرعاً ولا عقلاً.

جعل قضية إنقاذ الفلسطينيين من الإبادة هي القضية الأساسية

جعل قضية إنقاذ الفلسطينيين من الإبادة هي القضية الأساسية الاختيار السادس والأخير: هل نحرر فلسطين لوقف نزيف الدماء؟ كثير من المسلمين يتحرك لحل قضية فلسطين بنية وقف نزيف الدماء، وهذا ولا شك هدف نبيل وعظيم وكريم، وقد تحدثنا من قبل عن حرمة دماء المسلمين، وأنها أغلى من الأقصى الشريف، ولكن ما الثمن الذي سيدفع لإنقاذ الدماء الطاهرة والأرواح الزكية؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، أسأل سؤالاً آخر: ما هي الأهداف التي من أجلها شرعت القوانين في الإسلام؟ وضعت الشريعة الإسلامية لحفظ خمسة أمور مرتبة بحسب الأهمية: الدين النفس النسل المال العقل. فأول هذه الأشياء الدين، ويبذل كل شيء للحفاظ على الدين، حتى النفس تبذل للحفاظ على الدين؛ ولذلك شرع الله الجهاد في سبيله، وحض الإسلام على التضحية بالنفس والمال من أجل حفظ الدين نشره وتعليمه، ثم النفس مقدمة على النسل؛ لذلك إن كانت حياة الأم مهددة بالخطر يضحى بالنسل من أجل الحفاظ على النفس، والنفس أيضاً مقدمة على المال؛ لذلك يبذل المال كله للحفاظ على نفس المؤمن، كذلك النفس مقدمة على العقل، فإن كاد الرجل أن يهلك عطشاً جاز له أن يشرب خمراً مع أن هذا سيذهب عقله لكن النفس مقدمة. إذاً: النفس مقدمة على كل هذه الأشياء، لكن ليست مقدمة على الدين، فلا يضحى بالدين من أجل النفس؛ لأن الدين هو المقصد الأول للشريعة. وفي قضية فلسطين ذكرنا أن تحرير أرض فلسطين فرض عين على المسلمين، فرض عين على المسلمين، نعم؛ لأنها أرض فتحت بالإسلام وحكمت بالإسلام، ثم احتلت من قبل اليهود؛ لتحكم بشرع غير شرع الإسلام، وبدين محرف وبقوانين علمانية وبتغييب للدين، وكون تحرير أرض فلسطين يأخذ هذا المنطلق يجعل هذا التحرير جزءاً من الدين. إذاً: إضاعة أرض فلسطين هي إضاعة للدين ومن أجل حفظ أرض فلسطين -أي: حفظ الدين- يبذل كل شيء حتى النفس، بل من أجل حفظ أشبار من أرض فلسطين تبذل النفس، فالدفاع عما تملك جزء من الدين، ومع أن المال مؤخر عن النفس لا يكون ذلك إلا عندما تنفقه مختاراً، لكن إذا أخذ رجل مالك عنوة شرع لك الله أن تقاتل دون مالك وقد تبذل النفس؛ لأن احتلال المال أو سرقة المال أصبحت تضييع للدين. روى الترمذي والإمام أحمد عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)، هذا للدفاع عن شيء تملكه، فما بالك بالدفاع عن أرض إسلامية محتلة؟ هذا أمر ليس لك أن تتركه ولست مخيراً في ذلك، بل هذا قد فرض فرضاً عينياً على كل أهل فلسطين، وإن لم يقفوا فرض على أمة المسلمين جميعاً. نرجع للسؤال الأول: كثير من المسلمين يتحركون لإنقاذ دماء فلسطين ترى ما هو الثمن الذي سيدفع لإنقاذ هذه الدماء؟ إن كنت ستدفع مالاً لإنقاذه فهذا مقبول، وإن كنت ستدفع عقلاً وفكراً ومجهوداً لإنقاذه فهذا أيضاً مقبول، وإن كنت ستبذل نفسك من أجل نفسه فهذا مقبول وهو من باب الإيثار، لكن أن تبذل أرضاً ولو شبراً من أرض المسلمين لإنقاذ الأرواح فهذا ليس بمقبول؛ لأن بذل الأرض تضييع للدين، وبذل النفس حفظ للدين. إذاً: لا يستقيم أبداً أن أحرك بسرعة مفاوضات السلام كما يقولون لإنقاذ أرواح الفلسطينيين الأبرياء في مقابل إعطاء 80% من أرض فلسطين لليهود، نعم يا إخوة! منتهى أحلام المفاوضين الفلسطينيين أن يحصلوا على 22% من أرض فلسطين، ويعترفون بعد ذلك لإسرائيل بـ78% من الأرض، وهذا في حال لو وافقت إسرائيل على ذلك، إذاً: نخرج بقاعدة من هذا الحوار وهي: يقدم الدين على كل شيء، ومن أجله يبذل الغالي والثمين وإن كان نفساً أو مالاً، غير أن لنا تعليقات أخرى على قضية دماء الفلسطينيين في الانتفاضة.

تعليقات على قضية دماء الفلسطينيين في الانتفاضة

تعليقات على قضية دماء الفلسطينيين في الانتفاضة

تحرير أرض فلسطين لا يكون إلا ببذل الدماء الزكية

تحرير أرض فلسطين لا يكون إلا ببذل الدماء الزكية أولاً: قد يقول قائل: أليس هناك طريقة لتحرير فلسطين من غير الدماء الكثيرة التي تبذل؟ وسبحان الله! الإجابة بمنتهى الأسف: لا، لا يمكن، سنة من سنن الله في الأرض أن الشعوب لا تحرر إلا بالدماء والتضحيات والبذل والعطاء، كل الشعوب حتى الشعوب غير الإسلامية، فيتنام لم تحرر من العدوان الأمريكي إلا بعد أن بذل شعب فيتنام دماءه من أجل تحرير أرضه، وهم ليسوا أصلاً على ملة من الملل، ولا يرجون أجراً ولا ثواباً، لكن ثمن الحرية عظيم، ولا يمكن أبداً أن يأخذ الناس حقوقهم من الطواغيت والجبابرة والمحتلين حول طاولة مفاوضات، فلو قعد الفيتناميون مع الأمريكان ألف سنة حول طاولة المفاوضات ما خرج الأمريكان من أرضهم، ولو قعد الليبيون مع الإيطاليين ألف سنة حول طاولة مفاوضات ما خرج الإيطاليون من ليبيا، ولو قعد الجزائريون مع الفرنسيين ألف سنة حول طاولة المفاوضات ما خرج الفرنسيون وهكذا. فلماذا ستشذ فلسطين عن القاعدة؟! لماذا يعتقد المفاوضون الفلسطينيون أن إسرائيل سوف تعطيهم حقاً حول طاولة مفاوضات، مع أنهم يعلمون أن اليهود أخس وأنذل ألف مرة من المحتلين السابقين سواء كانوا أمريكاناً أو إنجليزاً أو إيطاليين، وقد يقول قائل: مصر أخذت أرضها بالسلام، وأخذت سيناء بالسلام. سأقول له أيضاً: لا، فإن مصر بذلت الدماء الزكية في أكتوبر سنة 1973م وبذلك حركت الأمور خطوة، كما أن الجزء الذي حررته مصر بالسلاح تستطيع أن تدافع عنه بالسلاح، أما الجزء الذي أخذته مصر بالسلام في كامب ديفيد للأسف جزء ضعيف وهزيل، وليس فيه جيش مصري يدافع عنه، وهذا من العيوب الخطيرة في كامب ديفيد، وسيأتي الحديث عن ذلك بالتفصيل إن شاء الله في محاضرة لاحقة. ليس معنى هذا: أننا ضد السلام بل على العكس: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، لكن لا يكون الدين أبداً ثمناً للسلام، ولابد للسلام أن يرد الحقوق كاملة لأصحابها، وأول الحقوق هو حق الله عز وجل.

شهداء فلسطين لن يعدموا الأجر من الله

شهداء فلسطين لن يعدموا الأجر من الله التعليق الثاني على قضية الدماء في فلسطين: نقول: هل ضاعت الدماء التي بذلت في انتفاضة تهدف إلى تحرير فلسطين؟ أبداً والله، نحن لا نقول: ضاعت بل نقول: فازت، يا إخوة! إنها الشهادة، فلا تعتقد أبداً أن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله قد خسروا أرواحهم، وماتوا في عز شبابهم، وضاعت أحلامهم وآمالهم لا، إن هؤلاء بدءوا حياتهم بموتهم، وعجل لهم من الكرامة والفضل بمجرد موتهم ما يعجز عنه البيان، والحسابات عند الله يا إخوة! مختلفة تماماً عن حسابات البشر، لكن كثيراً من البشر ينظر إلى النتائج، والله سبحانه وتعالى ينظر إلى الأعمال والنيات ولا ينظر إلى النتائج، فكثير من الصحابة الصادقين ماتوا قبل أن يروا نصراً أو تمكيناً، ومع ذلك هم في أعلى عليين، فلم يحرم من الأجر ياسر وسمية رضي الله عنهما والدا عمار بن ياسر، وقد قتلا في فترة مكة دون نصر ولا تمكين، ومع ذلك يمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (صبراً آل ياسر! فإن موعدكم الجنة)، كذلك خبيب بن عدي ومصعب بن عمير وحمزة بن عبد المطلب وسعد بن الربيع وغيرهم، هؤلاء استشهدوا في أحد دون أن يشاهدوا دولة الإسلام قائمة، لكن ما ضاع أجرهم، فحسابات الله سبحانه وتعالى مختلفة تماماً عن حسابات البشر. رجل أنفق عاماً كاملاً لدعوة زميله إلى الصلاة وفعل الخيرات وترك المنكرات، ثم أبى ذلك الزميل إلا أن يستمر في شهواته -هل ضاع على الداعي هذا المجهود؟ أبداً والله ما ضاع؛ ذلك لأن الله يحاسب على العمل والنية، ولا يحاسب على النتيجة، فشهداء أحد يشبههم شهداء فلسطين الآن، فقد بذلوا أرواحهم دون نصر مادي ملحوظ، ومع ذلك اسمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى مسلم في صحيحه عن مسروق رحمه الله قال: (سألنا عبد الله عن هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم إطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا)، فهل تريد أن تحرم شباب فلسطين من هذا الأجر والنعيم؟ يؤكد المعنى السابق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا، إلا الشهيد فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة). روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعلمت أن الله أحيا أباك فقال له: تمن؟ فقال له: أرد إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى، قال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون). روى البخاري عن جابر قال: (لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تبكه. ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعت). إذاً: ملخص التعليقات التي ذكرناها على قضية وقف نزيف الدماء: أن هذه الدماء غالية جداً ولكن أولاً: الشعوب لا تحرر إلا ببذل الدماء، ثانياً: الدماء التي بذلت دماء طاهرة بذلت في سبيل الله ففازت بالنعيم، والله يحاسب على الأعمال والنيات، ولا يحاسب على النتائج.

شهداء فلسطين أعدادهم قليلة بالنسبة لمقاييس تغيير الأمم

شهداء فلسطين أعدادهم قليلة بالنسبة لمقاييس تغيير الأمم تعليق ثالث على بذل الدماء في فلسطين: كم من الشهداء سقط حتى الآن في أرض فلسطين؟ سبعمائة شهيد ثمانمائة شهيد ألف شهيد، فهذه يا إخوة أرقام لا تمثل شيء في مقاييس تغيير الأمم، وعلى سبيل المثال لا الحصر في مذبحة صبرا وشاتيلا قتل من المسلمين الفلسطينيين أكثر من ثلاثة آلاف في يوم واحد، وثورة سنة 1937م -كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله في الحديث عن تاريخ فلسطين- استشهد فيها من أهل فلسطين 12 ألف مسلم ولم يحن الوقت، الطريق طويل، 12 ألف مسلم في سنة 1937م قد لا نعلم عنهم شيئاً، لكن الله يعلمهم. مليون شهيد بذلوا في الجزائر لتحرر، ومليون شهيد بذلوا في أفغانستان لتحرر من روسيا كما تعلمون، ثم انظروا كم من القتلى يموتون دون هدف، مائة ألف قتلوا في زلزال الهند المدمر، ثمانون ألفاً من المدنيين قتلوا في هيروشيما على يد الأمريكان كما تعلمون في سنة 1945م وبعدها بثلاثة أيام قتل ثمانون ألفاً من المدنيين، في مدينة ناجازاكي، مع أن إمبراطور اليابان كان قد اتخذ قرار للاستسلام قبل ضرب أمريكا اليابان بهذه القنابل، كما أن اليابان لما ضربت أمريكا لم تضرب إلا أهدافاً عسكرية، كذلك مائتان وخمسون ألف مدني ولاجئ في مدينة برزبن تم حرقهم بقنابل فسفورية في ليلة واحدة في يوم 13 فبراير سنة 1945م، وذلك بقصف الطائرات الأمريكية والإنجليزية المتحضرة. مليونا شخص ماتوا في السودان من سنة 1973م إلى سنة 2001 نتيجة الحرب الأهلية والمجاعة والفيضانات، 22 مليون قتيل بالإيدز، هذا غير 37 مليون حامل للمرض، مع أن عمر الإيدز في الأرض لا يزيد على 20 سنة، خمسة ملايين منهم ماتوا في العام السابق فقط، أمريكا قتلت 20 مليوناً من الهنود الحمر؛ ليستوطنوا بعد ذلك في أمريكا هل تعرفون قدر ضحايا الحرب العالمية الثانية، وكانت حرباً بلا هدف نبيل، قتل في أقل تقدير في الحرب العالمية الثانية 50 مليوناً من البشر، وبعض التقديرات تقول: قتل في الحرب العالمية الثانية 65 مليوناً، وتعرفون طبعاً قضية نقل العبيد من أفريقيا إلى أمريكا التي قامت بها فرنسا وإنجلترا، وكانت لعملية النقل ضحايا ماتوا جراء هذا النقل، بلغ عددهم في أقل تقدير 100 مليون من البشر. لذلك لما أرادوا إثارة هذه القضية في أحد المؤتمرات رفضت فرنسا وإنجلترا والدول الغربية وأمريكا أن يدفعوا تعويضات لمائة مليون، وهابوا أن يكشفوا عن هذه الفضائح أمام العالم المتحضر، والكلام هذا ليس قديماً، بل هو من مائة وخمسين سنة أو مائتي سنة، مع أن فرنسا تسمى بلد الحرية والمساواة والنور كما يتحدثون عنها، هي التي قامت مع إنجلترا بهذا القتل البشع لمائة مليون من البشر في أفريقيا، فهذه أرقام ضخمة جداً كما ذكرنا، ورقم ألف لا يعني شيئاً أبداً في تغيير الأمم، لكنهم جميعاً يموتون في غاية نبيلة في أرض فلسطين.

اليقين الكامل أن العمر لا يزيد ولا ينقص عما قدره الله

اليقين الكامل أن العمر لا يزيد ولا ينقص عما قدره الله رابعاً: عند المسلمين يقين كامل أن العمر لا يزيد ولا ينقص عما قدره الله سبحانه وتعالى، وأن الأجل محتوم: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، محمد الدرة الطفل الشهيد الذي استشهد وهو يبلغ من العمر 12 عاماً في مشهد مأساوي مؤثر للغاية، هذا الغلام لو لم يخرج من بيته لمات في داخل بيته، ولكن الله قدر سبباً معيناً لموته فخرج لهذا السبب: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]، لكن انظر إلى فضل الله وكرمه، لو مات هذا الغلام في بيته لحزن عليه أبواه وإخوته فقط وإلى أجل محدود، أما باستشهاده بهذه الصورة فقد أحيا أمة، كاملة من أندونيسيا إلى المغرب وسيظل المؤرخون يؤرخون بموته بعد ذلك. فانظر إلى الفضل والكرم من رب العالمين سبحانه وتعالى لما شرع لنا الجهاد في سبيله. إذاً: نوجز الحديث السابق كله في أن السبب الرئيسي الذي من أجله نحرر فلسطين هو لأن فلسطين أرض إسلامية، أمر سبحانه وتعالى بتحريرها، وتحرير كل أرض إسلامية أخرى محتلة؛ ولا نحررها لكونها تحتوي في داخلها على القدس أو الأقصى فقط وإن كان هذا قد زادها شرفاً وعزاً، ولا نحررها لكونها عربية مع أن اللغة العربية قد زادتها قيمة وقدراً، ولا نحررها لمشكلة اللاجئين مع أن هذا أمر مهم، عليهم أن يعودوا حاكمين إلى البلاد، ولا نحررها لوقف نزيف الدماء وإن كانت هذه الدماء غالية وثمينة وطاهرة، ولا نحررها لأن فلاناً أمر أو فلاناً نصح أو فلاناً أشار، ولكن نحررها سمعاً لربنا وطاعة له، وامتثالاً لكتابه، وتطبيقاً لشرعه، نحررها أملاً في جنة الرحمن وهرباً من النيران. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وجزاكم الله خيراً كثيراً.

إسرائيل الكبرى

سلسلة فلسطين_إسرائيل الكبرى مفهوم إسرائيل الكبرى مقولة تظهرها كثير من وسائل الإعلام، يقصد بها تملك اليهود معظم الأراضي الإسلامية، فاليهود يملكون مكراً وخططاً خبيثة في تسيير مصالحهم وتحقيقها، وهذا هو دأبهم في كل الأزمان، يتجلى ذلك في جعلهم فلسطين وطناً لهم.

مفهوم إسرائيل الكبرى

مفهوم إسرائيل الكبرى أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، اللهم لا تجعل مصيبتا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، اللهم لا تجعل إلى النار مآلنا، واجعل الجنة هي دارنا ومستقرنا. آمين آمين. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فمع المحاضرة الرابعة من المحاضرات الخاصة بقضية فلسطين، وكنا قد تحدثنا في الحلقات الثلاث السابقة عن المؤامرة الضخمة التي تحاك ضد أمة الإسلام، وبالتبعية لفلسطين، وتحدثنا عن دور عموم الشعوب في هذه القضية، وذكرنا أن الدور الأول والأساسي هو تصحيح المفاهيم الخاصة بقضية فلسطين، وتحريك القضية بهذه المفاهيم وبسرعة. ثم أتبعنا ذلك بالحديث عن المفهوم الأول الهام: وهو لماذا نحرر فلسطين؟ وخلصنا إلى أن تحرير فلسطين يرجع إلى أنها أرض إسلامية فتحت بالإسلام وحكمت بالإسلام، ولا نحررها لاعتبارات أخرى كثيرة ذكرناها في موضعها. واليوم نتحدث عن مفهوم آخر أيضاً شديد الأهمية، وهو مفهوم إسرائيل الكبرى، يعني: ماذا تعني إسرائيل الكبرى؟ هناك مقولة تظهرها كثير من وسائل الإعلام، بل وتظهرها وسائل إعلام إسرائيل ذاتها، هذه المقولة هي: أن هناك ما يسمى بإسرائيل الكبرى، إسرائيل الصغرى هي فلسطين، أما إسرائيل الكبرى في زعمهم فهي فلسطين بكاملها بما فيها الضفة الغربية وغزة والأردن بكاملها ولبنان بكاملها، وسوريا بكاملها، وجزء كبير جداً من العراق يصل في بعض الخرائط الإسرائيلية إلى الفرات، وفي بعضها إلى دجلة، كذلك مصر حتى الفرع الغربي من النيل -يعني: أرض دلتا النيل كلها داخلة في أرض إسرائيل الكبرى، كذلك شمال السعودية حتى المدينة المنورة، بل في بعض الكتابات اليهودية يوضح اليهود أنهم يطمعون في أن تمتد حدودهم إلى حوالي (112) كيلو متراً جنوب المدينة المنورة -خيب الله ظنونهم- وبعض الخرائط أيضاً تضم جنوب تركيا إلى هذه الخريطة الواسعة.

شواهد توضح مفهوم إسرائيل الكبرى

شواهد توضح مفهوم إسرائيل الكبرى هل فعلاً قضية إسرائيل الكبرى هذه قضية تفكر فيها إسرائيل؟ أم أنها أسطورة ذكرت في بعض الكتب أو ذكرت في بعض الصحف أو المجلات؟ الحق أن هناك إشارات كثيرة تشير إلى أن إسرائيل تفكر فعلاً في موضوع إسرائيل الكبرى، على سبيل المثال: هناك خريطة كبيرة معلقة على باب الكنيست وحدود هذه الخريطة من دجلة في العراق إلى النيل في مصر، معلقة في منتهى الوضوح على باب الكنيست، كما أن في ظهر عملة الشيكل الإسرائيلية خريطة من دجلة إلى النيل. أيضاً: هناك أمر ثالث من الشواهد أو الإشارات وهو أن علم إسرائيل يحمل خطين أزرقين بينهما نجمة داود، الخط الأول منهما إشارة إلى نهر دجلة أو الفرات، والخط الآخر يشير إلى نهر النيل، لكن هذا الكلام ليس فقط بالإشارات، بل هم يصرحون به أحياناً، فمن أبسط الأمثلة على ذلك: مذكرات تيودور هرتزل، هذا رجل له باع كبير جداً في إنشاء الدولة اليهودية في داخل أرض فلسطين، وسيأتي الحديث عنه بالتفصيل، ذكر تيودور هرتزل في مذكراته: أن حدود إسرائيل الكبرى التي ينوي أن يقيمها هناك في أرض فلسطين تمتد من نهر دجلة إلى نهر النيل في مصر، حتى إنه كان في حيرة من أمره، يقول: هذه هي الحدود التي بين الشرق والغرب، فأين الحدود الشمالية الجنوبية، وذكر في مذكراته أنه التقى مع راهب إنجليزي وتناقشا سوياً في هذا الأمر، وخلص إلى أن الحدود الشمالية تصل إلى جبال في جنوب تركيا، وتصل في الجنوب إلى المدينة المنورة حيث كانت قبائل بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير في المدينة المنورة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهناك رجل اسمه روتشلد وهو من أثرى أثرياء اليهود وكان يعيش في زمن تيودور هرتزل في أوائل القرن العشرين، عثروا في خزانته على خريطة كتب عليها مملكة إسرائيل، وهي أيضاً تضم نفس الحدود التي تحدث عنها تيودور هرتزل من قبل. بل خطاب بن غوريون نفسه، وهو أول رئيس لإسرائيل، عندما كونت دولة إسرائيل في سنة 1948م خطب وقال: إن خريطة فلسطين الحالية إنما هي خريطة الانتداب وللشعب اليهودي خريطة أخرى يجب على شباب اليهود أن يحققوها وهي خريطة التوراة التي جاء فيها: وهبتك يا إسرائيل! ما بين دجلة والنيل. إذاً: هم يصرحون بهذا الأمر ويعلنونه، وليس مجرد خواطر أو أفكار يرهبون بها الناس.

شواهد علمية تثبت تحرك الصهاينة لتكوين إسرائيل الكبرى

شواهد علمية تثبت تحرك الصهاينة لتكوين إسرائيل الكبرى ترى هل هناك شواهد عملية تثبت تحركهم في هذا الاتجاه، أم أن هذه مجرد دعاية ضخمة جداً لإرهاب الدول المحيطة بإسرائيل؟ الحق أن هناك شواهد كثيرة تشير أنهم فعلاً يسيرون في هذا الاتجاه. الشاهد الأول: تأسيس دولة إسرائيل في داخل فلسطين، والحق أن هذا الأمر من أكبر الشواهد على أنهم يسيرون بالفعل في اتجاه إنشاء إسرائيل الكبرى، وهي خطوة في منتهى الصعوبة، ولكنها تمت على مدار خمسين سنة كما سيأتي بالتفصيل إن شاء الله. ثانياً: حرب سنة 1967م، ففي هذه السنة تقدمت إسرائيل من حدود فلسطين إلى قطاع غزة وإلى الضفة الغربية، وبذلك استحوذت على كل فلسطين، ثم تجاوزت ذلك إلى سيناء في مصر وإلى الجولان في سوريا، وهي أجزاء داخلة في حدود إسرائيل الكبرى، يعني: بدأت تأخذ بالفعل خطوات عملية لتكوين ما يسمى بإسرائيل الكبرى، بل إن موشي ديان وزير الدفاع في ذلك الوقت أعلن بمنتهى الوضوح أنه لما احتل اليهود القدس في سنة 1967م أصبح الطريق مفتوحاً إلى يثرب وإلى بابل هكذا قال، ثم قال أيضاً لما احتلت سيناء: لقد حررنا سيناء، وكأن سيناء أصلاً كانت ملكاً لليهود، ثم حررت بعد أن احتلها المصريون فترة من الزمان. ثالثاً: في سنة 1982م وقعت حرب احتلال لبنان، فلبنان داخلة أيضاً في حدود إسرائيل الكبرى، فقد انطلق اليهود من داخل فلسطين لاحتلال لبنان حتى وصلوا إلى حدود بيروت واستقروا هناك لمدة 19 سنة، ولم يخرجوا إلا رغماً عن أنوفهم كما سيأتي إن شاء الله في تفصيل تاريخ إسرائيل الحديث. رابعاً: حرب الخليج ذاتها هي إشارة كبيرة إلى ما تنوي أن تفعله إسرائيل في المنطقة، نزول هذه القوات الضخمة جداً للأمريكان في هذه المنطقة، والتي تعتبر في خريطة إسرائيل هي الحدود الجنوبية لدولة إسرائيل بالقرب من منطقة العراق، تدمير القوة العسكرية في دولة العراق، وهي الدولة التي يدخل كثير من أرضها داخل حدود إسرائيل الكبرى، واستقرار الجيوش الأمريكية في هذا المكان، كل هذه إشارات إلى تأمين هذه الحدود الشرقية لمملكة إسرائيل الكبرى.

تقسيم مملكة إسرائيل الكبرى إلى دوائر

تقسيم مملكة إسرائيل الكبرى إلى دوائر أنا أتخيل شكل إسرائيل الكبرى عبارة عن دوائر، كل دائرة أوسع من الدائرة التي قبلها، فالدائرة الصغرى هي أرض فلسطين ذاتها، وهذه الدائرة قد استطاع اليهود أن يسيطروا على معظمها، وبقيت بعض المناطق في الضفة الغربية وفي غزة، وهم يسعون إلى احتلالها وضمها وقد فعلوا ذلك من قبل في سنة 1967م. والدائرة الثانية هي الدائرة المحيطة الأوسع، دائرة مصر والأردن وسوريا ولبنان، وهذه الدائرة قد حاولوا من قبل أن يدخلوها بالسلاح، ولكنهم فشلوا وخرجوا من مصر سنة 1973م ثم بعد ذلك كانت المعاهدة، وإن كان هناك سلبيات كثيرة كما سيأتي في الحديث عن المعاهدة، وخرجوا أيضاً من لبنان سنة 2000م، ومن أجل تحقيق حدود هذه الدائرة من جديد بدأت إسرائيل في محاولة إنشاء علاقات طيبة في داخل هذه البلاد عن طريق أمريكا، وهم يحاولون بذلك القضاء على روح العداء لإسرائيل عند هذه الشعوب، فتصبح شعوباً صديقة، ومع مرور الوقت يحدث الأمان لإسرائيل، ثم يغدر اليهود كعادتهم ويهجمون حين لا يتوقع أحد الهجوم. إذاً: هذه الدائرة التالية لأرض فلسطين وقد تضم إليها دولة السعودية، فهي أيضاً على علاقات طيبة مع أمريكا، والعلاقة طيبة جداً كما سيأتي بين أمريكا وإسرائيل، بل هي أكثر من أن تكون طيبة، فهناك أمور أخرى نؤجل الحديث عنها إلى محاضرة لاحقة. الدائرة التي تتبع هذه الدائرة الملاصقة لدولة فلسطين هي دائرة تضم دولة العراق. وشاهدنا ما حدث في العراق في حرب الخليج، كذلك هناك دائرة تضم دولة السودان، وهناك مساعدات ضخمة جداً لـ جون قرنق بجنوب السودان للسيطرة على هذه المنطقة، ومنع المد الإسلامي من النزول إلى وسط أفريقيا، أيضاً هذه الدائرة الواسعة تضم ليبيا وعليها حصار اقتصادي ضخم من أمريكا، تضم أيضاً هذه الدائرة تركيا في الشمال، وهناك علاقات قوية جداً بين إسرائيل وتركيا، يعني: هناك ثلاث دوائر تقريباً، دائرة صغيرة حولها دائرة أوسع ثم دائرة أوسع مطلقاً، وكل هذه الدوائر تعمل فيها إسرائيل، سواء عن طريق العساكر، أو عن طريق المفاوضات، أو عن طريق الضغوط والحصار، لكن المهم أن هناك نشاطاً مستمراً في كل بلد من هذه البلاد على مدار السنوات لتحقيق ما يسمى بإسرائيل الكبرى. وأيضاً كل دولة موجودة في هذه المنطقة توقع على معاهدة لمنع نشر الأسلحة النووية أو الكيميائية أو البيولوجية أو أسلحة التدمير الشامل كما يقولون، إلا دولة إسرائيل لا توقع عليها، هكذا في منتهى الوضوح والصراحة، فإسرائيل تملك هذا السلاح ولا يتحرك أحد في العالم لأجل ذلك، أو لا تتحرك الأمم المتحدة المزعومة لإرغام إسرائيل كما أرغمت الآخرين على توقيع هذه المعاهدة، إذا كان هذا السلاح محرماً فعلاً على شعوب العالم فلا بد أيضاً من أن يحرم على دولة إسرائيل، لكن هذا لا يتم، وتوقيع الجميع على فقدان السلاح الأكبر في هذا الزمن وعدم توقيع اليهود فيه أيضاً إشارة إلى التفوق العسكري الملموس لهذه الدولة في هذا المحيط الواسع الذي سوف يصبح لاحقاً في ظنهم دولة إسرائيل الكبرى، ونسأل الله أن يخيب ظنونهم.

أهمية معرفة مفهوم إسرائيل الكبرى

أهمية معرفة مفهوم إسرائيل الكبرى لماذا من المهم أن نعرف قصة إسرائيل الكبرى؟ لماذا من المهم أن نعرف إن كان هذا حقيقة أم مجرد أسطورة لا يسعى إليها أحد ولكنها مجرد خيال؟ أولاً: معرفة ما في رأس العدو يحدد طريقة تحركه والخطوات التي من المتوقع أن يخطوها، وما يمكن أن يتنازل عنه، وما لا يمكن أن يتنازل عنه. ثانياً: أن تعلم خطورة القضية، وأنه لا يمكن فيها الانتظار، فالقضية ليست قضية فلسطين فقط، ولكنها خطة شيطانية لتدمير أكثر من قطر إسلامي، وأنا على يقين من أنه لو مكن لليهود من احتلال البلاد الداخلة تحت مسمى إسرائيل الكبرى فإنهم سوف ينشرون خريطة أخرى توسع أملاك اليهود، وتذكر آيات في التوراة تضم بها ليبيا أو السودان أو بقية السعودية أو اليمن أو إيران أو غيرها من البلاد: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]. ثالثاً: بمعرفة هذا المخطط سيسهل عليك أن تشعر بمشاعر الفلسطينيين، وما هم فيه من ألم ومصاب، فكونك تعلم أن الخطر قريب جداً منك يجعلك تتحرك بحمية وبسرعة، فلو عرفت مثلاً أن مدينة من مدن العالم بها وباء الكوليرا فإنك قد تتعاطف تعاطفاً وجدانياً أو مادياً مع هذه المدينة، ولكن إلى حد معين، أما إذا علمت أن الكوليرا في المدينة المجاورة، وأنه من الطبيعي جداً ومن السهل جداً ومن المتوقع جداً أن تكون في مدينتك بعد يوم أو يومين أو شهر أو شهرين -فإن استعدادك سيكون مختلفاً بالكلية، أيضاً لما تعلم أنه في تخطيط إسرائيل أن تكون في بلادك بعد يوم أو يومين أو شهر أو شهرين سيكون رد فعلك مختلفاً بالكلية من حيث مساعدتك لأناس يعيشون في بلد ما يحاربون اليهود. رابعاً: استراتيجياً ومن منطلق الأخوة والدين هل من المصلحة أن تكون الحدود الملاصقة لك مباشرة هي حدود دولة قوية يهودية نووية مسلحة بكل أنواع الأسلحة الحديثة، وفي قلبها كراهية معلومة لك، أم أن تكون حدودك مع دولة مسلمة شقيقة إن حدث خلاف بينك وبينها فإنه مهما تعاظم فإنه يكون إلى حدود، ومهما تباينت المواقف تبقى الشعوب يربطها رباط واحد وهو الإسلام؟ إذاً: قضية إسرائيل الكبرى قضية يدبر لها في خفاء وإعلان، بل لعلي لا أكون مبالغاً إن قلت: إن الجزء الأكبر والأهم والأصعب قد حدث بالفعل، وهو تأسيس دولة إسرائيل في داخل فلسطين، وهم على الجزء المتبقي أقدر إلا أن يمن الله على المسلمين بتوبة وطاعة وعمل وجهاد.

تاريخ إنشاء دولة إسرائيل المزعومة

تاريخ إنشاء دولة إسرائيل المزعومة تعالوا نرى تاريخ إنشاء دولة إسرائيل المزعومة، تعالوا أريكم العجب العجاب، تعالوا نرى كيف أن رجلاً يتبعه بعض الرجال أفلح في سنوات معدودات أن يغير من تاريخ المنطقة، بل ويغير من تاريخ العالم، هذا الرجل كما ذكرناه من قبل في أول المحاضرة هو تيودور هرتزل أول زعماء الصهيونية الذين سعوا إلى تكوين دولة في داخل أرض فلسطين. من هو تيودور هرتزل؟ هو يهودي مجري يعمل في صحيفة في النمسا من مواليد سنة 1860م، ففي سنة 1895م -كان عمره حينها 35 سنة- ألّف كتاباً سمّاه: كتاب الدولة اليهودية، وفي هذا الكتاب طرح فكرة إنشاء دولة لليهود في العالم، وكان اليهود في ذلك الزمن مشتتين في كل بقاع الأرض، يهود في روسيا، في انجلترا، في فرنسا، في ألمانيا، في شرق أوروبا، في الحبشة، في أمريكا، في البلاد العربية، في أماكن كثيرة جداً مشتتون تماماً، ويعاملون باضطهاد ملحوظ في معظم بلاد العالم، إلا في الدولة العثمانية، فإنهم لم يجدوا أماناً إلا في دولة المسلمين، لكن هناك معاناة ضخمة جداً في كل بقاع الأرض لليهود. ومعلوم أن كل الناس في الأرض يكرهون اليهود كراهية غريبة جداً متأصلة في قلوبهم وهذا من أفعالهم، فقد كتب الله عليهم الذلة والمسكنة، فهم يحاولون أن يتذللوا للناس ويتمسكنوا لهم حتى يمكن لهم في الأرض، فإن مكن لهم في مكان أذاقوا الناس الويلات وقاموا بالمؤامرات والمكائد، وخططوا لأشياء كثيرة في الخفاء، هذه الأشياء جعلت الكراهية لهم تدب في قلوب الجميع، حتى الأمريكان الذين هم أكثر الناس مساعدة لليهود، لو أخذت أمريكياً وكلمته في قضية اليهود، فإذا اطمأن أنه لا يسمع حديثه أحد فإنه سيبدأ يتحدث عن اليهود حديثاً غريباً جداً مما يجعلك تظن أنه ليس أمريكياً، يسب ويلعن كل ما هو يهودي، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113]، فالنصارى يعتقدون اعتقاداً جازماً -وهذا الاعتقاد بالطبع خاطئ- أن اليهود قتلوا المسيح، قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، لكن الحق أن اليهود حاولوا أن يقتلوا المسيح عليه السلام، ولكن الله رفعه، فهناك كراهية شديدة جداً في قلوب المسيحيين لليهود، وتاريخ المسيحيين مليء بكثير جداً من الكراهية لليهود، وكثير جداً من الخلافات والثورات من اليهود على المسيحيين، ومن المسيحيين على اليهود، لكن اجتماع المصالح كما سيأتي جمع بينهم في هذه الآونة بين الأمريكان واليهود. تيودور هرتزل لما وجد هذا التشتت وهذا الاضطراب والضياع في اليهود فكر في إنشاء دولة يهودية، لكنه كان محتاراً في أي مكان من الأرض ينشئ هذه الدولة، فبدأ تيودور هرتزل يفكر في الأماكن المتاحة التي من الممكن أن ينشئ فيها هذه الدولة، فكر في أماكن كثيرة وأحد هذه الأماكن كان فلسطين، لكن كان هناك خيارات كثيرة أخرى مطروحة، وانظروا إلى فعل هذا الرجل، فإني ذكرت هذا المثال لكي يتعلم المسلمون كيف يتحركون لقضيتهم، هذا الرجل كان علمانياً أصلاً، أي: ليس يهودياً ولا يؤمن بهذه اليهودية، كل ما يريد هو تكوين دولة علمانية صهيونية سياسية لليهود، لكن ليس له ارتباط وثيق بالتوراة كما سيأتي، هذا الرجل بذل مجهوداً يعجز عن بذله كثير من المسلمين مع أنهم يرجون جنة ويخافون ناراً، وهو لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً، فقد فكر على سبيل المثال في ليبيا، وكانت ليبيا في ذلك الوقت منفصلة عن الدولة العثمانية، وهي أقرب البلاد إلى إيطاليا، إذ إن إيطاليا في شمال ليبيا بعد البحر الأبيض المتوسط، فذهب تيودور هرتزل من النمسا إلى إيطاليا، وقابل ملك إيطاليا هناك، وطلب منه أن يساعده في تكوين دولة يهودية في أرض ليبيا، على أن يمنح بعد ذلك تسهيلات كثيرة للإيطاليين في أرض ليبيا كما يريد، لكن ملك إيطاليا فكر في الموضوع ورفض، ولم يدرك تيودور هرتزل في ذلك الوقت أن لإيطاليا أطماعاً كثيرة في ليبيا، فإنه بعد ذلك بسنوات أتت إيطاليا واحتلت ليبيا في سنة 1911م كما تعلمون. لم ييأس تيودور هرتزل ففكر في موزمبيق، وانظروا إلى أي حد تفكيره، كان تفكيره في أشياء بعيدة جداً عن أرض فلسطين، المهم مكان يضم اليهود ويجعل لهم دولة، وكانت موزمبيق في ذلك الوقت مستعمرة برتغالية، فذهب إلى ملك البرتغال، وطلب منه أن يساعده في إنشاء دولة يهودية في موزمبيق، وكان ملك البرتغال قد اضمحل ملكه في العالم، وكانت مملكة البرتغال في يوم من الأيام لها مستعمرات كثيرة جداً في كل أراضي العالم، ولم يبق لها إلا مستعمرات قليلة، منها موزمبيق وبعض المستعمرات في أمريكا الجنوبية، فرفض وقال له: لم أعد أملك شيئاً. ففكر في أوغندا، وأوغندا في ذلك الوقت كانت تحت الاحتلال الإنجليزي، فذهب إلى الإنجليز، وطلب منهم أن يساعدوه في إنشاء دولة في أوغن

أهمية فلسطين بالنسبة لإسرائيل

أهمية فلسطين بالنسبة لإسرائيل لماذا اختار اليهود أرض فلسطين لإنشاء دولتهم؟ السبب الأول: لكونها أرض المثوى لداود وسليمان عليهما السلام، وأرض الميعاد لليهود كما جاء في توراتهم؛ ولذلك فالفكرة دينية وعقائدية، لكننا نقول: إن تيودور هرتزل شخص علماني لا يتمسك أبداً باليهودية، حتى إنه في مذكراته يقول: عندما كنا في مؤتمر بال في سويسرا كنت أضطر إلى الذهاب إلى المعبد اليهودي حتى لا يشك فيّ رجال الدين الموجودون هناك في سويسرا، فما أهمية أن تعلن القضية من منطلق ديني، ولماذا القضية هامة جداً لـ تيودور هرتزل ولمن معه من المؤسسين لدولة إسرائيل؟ أولاً: من السهل أن يقنعوا اليهود في كل بقاع الأرض أن يتجهوا إلى هذه البقعة، خذ عندك مثلاً: رجل يعيش في فرنسا أو في أمريكا أو في انجلترا ظروفاً معيشية طيبة وعنده مال، فلماذا يترك هذه البلاد ويتجه إلى مكان آخر حتى يعيش فيه؟ لا بد أن يحرك عواطفه بشيء ما، هذا الشيء هو العقيدة اليهودية حتى وإن كان المتحدثون بها غير مقتنعين بهذه العقيدة، فقالوا: الدين هذا وسيلة طيبة جداً لتحريك اليهود أنفسهم من أجل أن يذهبوا إلى أرض فلسطين. الشيء الآخر: لما نأتي ونكلم النصارى أو نكلم المسلمين أو نكلم أي أحد في الأرض يكون لنا مرجعية لا نستطيع أن نغير فيها وهذا كلام الله الذي يقوله لنا في الكتاب. لا أستطيع أن أغير، الله قال لنا: من النيل إلى الفرات. لا أستطيع أن أغير، والله قال لنا: نرجع إلى أرض الميعاد. لا أستطيع أن أغير، فأنا مضطر لهذا الأمر، هكذا يقول تيودور هرتزل ومن معه: مرجعية إلى الله سبحانه وتعالى. إذاً: الأمر الديني هذا جعل لفلسطين موقعاً خاصاً عند اليهود. الأمر الثاني: أن فلسطين مركز لكل قوى العالم، وطريق للالتقاء بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وهي بذلك تعتبر مركزاً استراتيجياً هاماً للسيطرة على العالم، وهو حلم يهودي قديم. ثالثاً: كونها في مكان متوسط يسهل على الجميع القدوم من أي مكان للهجرة بعكس الأرجنتين وموزمبيق وأوغندا البلاد البعيدة. رابعاً: المناخ المعتدل في أرض فلسطين أيضاً يسهل للمهاجرين من أي مكان أن يأتوا إلى فلسطين سواءً من روسيا الباردة جداً أو من أوروبا وأمريكا الباردة نسبياً، أو من دول الشرق الأوسط المعتدلة الحرارة، أو من الحبشة الحارة وهكذا، فهو بلد يناسب كل التوجهات.

الخطط العملية المهمة لجعل فلسطين وطنا قوميا لليهود

الخطط العملية المهمة لجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود كانت فلسطين في ذلك الوقت يعيش فيها فقط 4500 يهودي موزعين في كل أرض فلسطين، فكيف نمكن من قيام دولة في هذا المكان وليس لنا فيها إلا 4500 رجل فقط؟ فأخذوا بعض القرارات المهمة لتنفيذ هذه الخطة الشيطانية. القرار الأول: تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومن الوسائل التي تشجع اليهود على الذهاب إلى فلسطين أمر الدين. فقد ذكرنا أن الدين كان العامل الأساسي لاختيار أرض فلسطين لتكون وطناً لليهود، لكن كيف تصل هذه الفكرة لكل يهود الأرض؟ فليس من المعقول أن نذهب لكل يهودي ونسر له في أذنه أننا نريد وطناً في فلسطين لا، ففكروا في أمر برعوا فيه ألا وهو الإعلام، فذهبوا إلى أشهر جريدة في لندن واشتروها بالمال شراءً كاملاً، وأطلقوا عليها بعد ذلك: (جيوش كرنكل) أو أخبار اليهود أو أنباء اليهود، وأنشئوا جريدة أخرى أطلقوا عليها: (فويس أوف جاكوب) أو صوت يعقوب، وبدءوا في هذه الجرائد -وغيرها كثير- ينشرون هذه الفكرة الدينية ويشجعون اليهود على التفكير في أرض الميعاد، بل ويبثون فيهم روح الاضطهاد، وأنهم مشتتون في بقاع الأرض وعليهم أن يجتمعوا. لكن الدين وحده ليس عاملاً كافياً عند كل اليهود، فهناك عامل مهم جداً يؤثر في معظم اليهود في الأرض وهو عامل المال، فأنشئوا بنكاً خاصاً لهذا الأمر، فالمؤتمر الذي كان في بال في سويسرا أتبع مباشرة بإنشاء بنك كبير، موّله روتشلد أثرى أثرياء اليهود في ذلك الوقت، كان رأس ماله 2. 000. 000 جنيه إسترليني، ولم يجدوا أنها كافية، فرفعوها إلى 5. 000. 000 جنيه إسترليني، وهذه مبالغ ضخمة جداً في ذلك الزمن، فنحن نتكلم عن أكثر من مائة عام سبقت، إذاً: هذه أول طريقة استخدموها لتحقيق الهدف وهي تشجيع الهجرة إلى أرض فلسطين. الأمر الثاني: تنظيم يهود العالم كافة وربطهم سوياً، لا بد أن نجمع كل اليهود في رابطة واحدة يفكرون سوياً كل عام، وفكروا في أن يكرروا هذه المؤتمر في كل عام مرة، وبالفعل من سنة 1897م والمؤتمر يتكرر في كل عام، يجتمع حكماء اليهود من كل بلاد الأرض، ويتفقون سوياً على الخطوات التالية لإنشاء دولة لهم في فلسطين. الأمر الثاني: الجمعيات السرية، جمعيات الماسونية اليهودية المشهورة، فكروا في إنشاء فروع كثيرة له في كل بلاد العالم، لكن قالوا: لو أنشأنا فروعاً، وأطلقنا عليها الماسونية اليهودية لن يشترك فيها كبار البلد، ومحركو السياسة في هذه البلاد، فأطلقوا عليها أسماءً أخرى، مثلاً: أندية الروتاري هي في الأصل فروع من الماسونية، وأندية الليونز مشهورة جداً وكثيرة في بلاد العالم الغربي والشرقي والإسلامي على حد سواء. الأمر الثالث الذي فعلوه لينظموا يهود العالم بجانب المؤتمرات والجمعيات السرية: أمر اللغة. وانظر إلى حكمة اليهود في ذلك، بدءوا يعلمون اليهود في كل بقاع الأرض اللغة العبرية، فيهود روسيا ويهود إنجلترا وكل اليهود لابد أن يتكلموا العبرية، فليتعلموا العبرية بجانب لغتهم الأصلية في بلادهم، حتى إذا اجتمعوا بعد ذلك في فلسطين إن استطاعوا تحدثوا جميعاً وتفاهموا ليكونوا دولة واحدة. إذاً: القرار الأول لمؤتمر بال: تشجيع الهجرة إلى فلسطين، القرار الثاني: تنظيم يهود العالم كافة عن طريق المؤتمرات والجمعيات السرية واللغة. الأمر الثالث وهو في غاية الأهمية: السعي إلى الاعتراف الدولي في العالم، كل هؤلاء اليهود ليس لهم أي شيء يجمعهم، وليس لهم أي كيان معلن، وليس لهم أي هيئة رسمية، فكيف يأخذون اعتراف العالم، لا بد من تثبيت أركان هذه الدولة، وجعلها دولة قوية لها باع في الأرض في ذلك الزمن، يا ترى! ما هي الدول المطروحة على الساحة في ذلك الزمن في أواخر التاسع عشر؟ أول دولة خطرت على أذهانهم هي إنجلترا، فقد ذهبوا إلى إنجلترا وفكروا أن يستعينوا بها في إقامة دولة لهم في فلسطين، مع أن إنجلترا لا تحكم فلسطين في ذلك الوقت، فلسطين كانت تابعة للدولة العثمانية، لكن إنجلترا قوة عظمى في ذلك الزمن، وتحاول أن تسيطر على العالم، ولها ممتلكات في كل بقاع الأرض، فوافقت إنجلترا على مساعدة اليهود في تكوين بلد لهم في داخل أرض فلسطين.

أسباب موافقة إنجلترا على مساعدة اليهود

أسباب موافقة إنجلترا على مساعدة اليهود لماذا توافق إنجلترا على مساعدة اليهود؟ ما هي وسائل الضغط التي يملكها اليهود حتى يؤثروا في دولة عظمى كبرى مثل إنجلترا في ذلك الزمان، وحتى تهتم بأمر هؤلاء المشتتين المشردين المكروهين من إنجلترا شخصياً؟ أولاً: عرض تيودور هرتزل على زعماء إنجلترا التحالف معهم في هذه البلاد بعد أن تحالف أعداء إنجلترا مع أصدقاء في هذه المنطقة نفسها، فروسيا في منطقة الشرق الأوسط تحالفت مع الأرثوذوكس الفلسطينيين النصارى في ذلك المكان، طبعاً روسيا في ذلك الزمن كانت قيصرية أرثوذوكسية متشددة جداً، فتحالفت مع الأرثوذكس في بلاد الشرق الأوسط، وبذلك استطاعت أن تنفذ إلى هذه البلاد، وفرنسا تحالفت مع الموارنة وبالذات في لبنان، أما إنجلترا فلم تجد لها حليفاً في هذه المنطقة، فقال تيودور هرتزل: سنكون نحن حلفاء لكم في هذه المنطقة يداً طولى وخادماً مطيعاً. الأمر الثاني غير المحالفة بينهم وبين إنجلترا: الأموال اليهودية من أكبر وسائل الضغط على إنجلترا، فأكبر بنك موجود في إنجلترا في ذلك الزمن هو بنك روتشلد، كان هذا البنك مشهوراً باسم روتشلد، هذا الرجل يهودي ومن أشد الناس حماسة لفكرة إنشاء دولة لهم في فلسطين، وكان هذا البنك من أكبر الدعائم الاقتصادية في داخل إنجلترا، ولكي تعرفوا حجم البنك اليهودي وقيمته في ذلك الزمن: لما طرحت أسهم قناة السويس للبيع، طرحها الخديوي إسماعيل، وذلك لما أفلس واستدان حتى ينشئ قصوراً لافتتاح قناة السويس، فطرح أسهم قناة السويس للبيع، فتنافست إنجلترا وفرنسا على شراء هذه الأسهم، وكان الخديوي إسماعيل يريد نقوداً لتسديد الديون، فأراد أن يبيع قناة السويس لتسديد هذه الديون. والعجيب أن إنجلترا وفرنسا الدولتين الكبريتين اللتين تحكمان العالم في ذلك الوقت لم يكن لديهما المال السائل الكافي لشراء قناة السويس، فأسرعت إنجلترا مباشرة كحكومة إلى روتشلد، وأقرضها مالاً سائلاً يكفي لشراء قناة السويس، حكومة دولة عظمى تقترض من رجل يهودي يعيش في إنجلترا. إذاً: هذا تأثير ضخم جداً يقوم به اليهود عن طريق هذا المال. إذاً: الأمر الأول: أنهم يشجعون إنجلترا على أن يكونوا حليفاً لها هناك في فلسطين. الأمر الثاني: يلوحون بالمال اليهودي الوفير لمساعدة إنجلترا. الأمر الثالث: أقنعوا إنجلترا أنه بإنشاء دولة لليهود في داخل أرض فلسطين يؤمّنون لإنجلترا طريقاً إلى مستعمرات الهند، والهند في ذلك الوقت كانت مستعمرة إنجليزية والطريق لها طويل وبعيد، فاليهود سيؤمّنون طريقاً عبر فلسطين، ثم ينشئون طريقاً حديدياً من فلسطين إلى الخليج العربي، ثم بعد ذلك تنتقل البضائع والجنود وغير ذلك من فلسطين إلى الهند، وبالتالي يسهلون لإنجلترا الطريق إلى مستعمرة من أكبر المستعمرات الإنجليزية في ذلك الوقت. الأمر الرابع: فلسطين استراتيجياً مكان رائع، فهو مدخل الشرق وقريب من قناة السويس ومضيق الدردنيل في الشمال عند تركيا، فبالسيطرة على هذا المكان وإنشاء دولة مرتكزة لإنجلترا في هذه المنطقة يعيش فيها أعوان وحلفاء يسيطر الإنجليز مستقبلاً على قناة السويس، وبالتالي على البحر الأحمر وعلى مضيق الدردنيل أو البسفور وبالتالي على البحر الأسود، أي: سيطرة على كل المنطقة. الأمر الخامس: قاله هرتزل في مقولة له مع وزير خارجية بريطانيا، قال: من أجل أوروبا سوف نبني هناك حاجزاً في مواجهة آسيا، وسنكون حراس المقدمة للحضارة ضد البربرية -يقصد بذلك: المسلمين- أي: يقول لهم: أنا سأكون خط الدفاع الأول لكم، فأول ضربة يتلقاها الغرب ستتلقاها إسرائيل، ثم بعد ذلك تصل الضربات إليكم، والحقيقة هذا واقع، فإسرائيل زرعت في هذا المكان لتتلقى ضربات المسلمين وتشغل المسلمين بحربها، وهناك إنجلترا وفرنسا وأمريكا وغيرهم يتحكمون عن بعد في أمن إسرائيل، وإسرائيل تواجه في مقابل إنشاء دولة لهم وكانوا قبل ذلك في الشتات. إذاً: إنجلترا عندها دوافع قوية وكثيرة لإنشاء دولة لليهود في داخل أرض فلسطين، ولا بد أن تسعى جاهدة لتحقيق مصالحها الشخصية أولاً، ثم لتحقيق مصالح اليهود الغير متعارضة بالمرة مع مصالح الإنجليز، هذا كان موقف اليهود من إنجلترا، وذكرنا أن إنجلترا كانت دولة عظمى في ذلك الزمن، تسيطر على بقاع كثيرة، وتغير من موازين الأرض في ذلك الوقت.

محاولات ثيودور هرتزل لإقناع دول عظمى أخرى في إنشاء دولة لليهود في فلسطين

محاولات ثيودور هرتزل لإقناع دول عظمى أخرى في إنشاء دولة لليهود في فلسطين كانت الدولة الثانية الكبرى العظمى في ذلك الزمن ألمانيا، وكانت على خلاف عميق مع إنجلترا، وبعد قليل كما تعلمون ستقوم الحرب العالمية الأولى، وستكون ألمانيا في فريق، وإنجلترا في فريق آخر، ومع ذلك ذهب تيودور هرتزل إلى ألمانيا يطلب منهم أن يساعدوهم في إنشاء دولة يهودية في فلسطين. سبحان الله! يتصرف في ناحيتين، يتكلم مع إنجلترا ومع عدو إنجلترا، والذي ينجح أولاً في تحريك القضية هو الذي يسير معه تيودور هرتزل، لا يوجد لهذا الرجل أي مبادئ، كل ما يحكمه فقط المصالح، وقد استغل تيودور هرتزل العلاقات الطيبة بين ألمانيا في ذلك الوقت وبين الدولة العثمانية، وعرض على الألمان أن يساعدوه في إنشاء الدولة اليهودية، وقابل قيصر ألمانيا في فلسطين، فقيصر ألمانيا كان يزور فلسطين، فذهب تيودور هرتزل إلى فلسطين وقابل قيصر ألمانيا، وعرض عليه الفكرة، لكن لم يجد حماساً كافياً من قيصر ألمانيا؛ وذلك لأنه كان يعيش عنده هناك في ألمانيا أعداد ضخمة من اليهود، وهو يكرههم كراهية شديدة كما ذكرنا وهو في نفس الوقت يريد إخراجهم، ويخشى أنه إن ساعد اليهود يشعرون أنهم تحت حمايته فلن يتركوا ألمانيا أبداً، لكن جاء بعد ذلك هتلر، ونفذ الذي كان قيصر ألمانيا يفكر فيه. إذاً: لم يفلح تيودور هرتزل في علاقاته مع ألمانيا وإن كان سعى لها. كانت الدولة الثالثة المتمكنة في الأرض في ذلك الوقت هي دولة روسيا، ودولة روسيا هذه عجيبة جداً، فقد كانت من أشد الدول اضطهادًا لليهود، ففي كل يوم في روسيا في ذلك الوقت يقتل عشرات من اليهود اضطهاداً؛ وذلك لأن روسيا في ذلك الوقت أرثوذوكسية متشددة يكرهون اليهود بشدة، وكان فيها 7. 000. 000 يهودي، وكان تعداد سكان روسيا في ذلك الوقت 136. 000. 000 روسي. أراد تيودور هرتزل مقابلة وزير المالية الروسي وكان اسمه ويت، وهو من أشد الناس كراهية لليهود، ومع ذلك بذل تيودور هرتزل مجهوداً ضخماً جداً في أن يقابله، وبالفعل قابله ودار بينهما حوار عجيب. فقد طلب تيودور هرتزل من وزير المالية الروسي أن يخلصه من يهود روسيا، قال له: ساعدني في أن أخلصك من الذين تكرههم، ساعدني في أن أضع هؤلاء الذين تكرههم في أرض فلسطين، وأخلصك من كل اليهود الذين أنت تكرههم. انظر كيف يفكر تيودور هرتزل، في كل بلد يسعى إلى تحقيق مصلحة ما، ويضرب على وتر ما. لكن وزير المالية الروسي رد عليه قائلاً: أنا في الحقيقة رأيي ألا أهجر اليهود، بل رأيي أن أغرق كل اليهود في البحر الأسود، وأتخلص منهم تماماً، فلا يبقى في روسيا ولا في فلسطين ولا في أي مكان في العالم يهود، لكن للأسف اليهود يملكون 50% من اقتصاد روسيا، ولن نستطيع أن نغرقهم، أي: لن أستطيع أن أساعدك في هذا الموضوع. ولم ييأس تيودور هرتزل من هذه المقابلة الجافة جداً من وزير المالية الروسي، بل أخذ يضرب على وتر آخر، فقال له: إن جنداً من الأتراك المسلمين يحرسون قبر المسيح عليه السلام في فلسطين، يعني: أنتم أرثوذوكس ومتشددون وتتركون المسيح عليه السلام يحرس بجند من المسلمين؟! لكن وزير المالية الروسي قال له: ربما يكون الأمر أكثر سوءاً لو كان اليهود هم حراسه، يعني: المسلمون أرحم من اليهود. ولم ييأس تيودور هرتزل، بل أخذ يقول له: أنا أريد منك بعض التشجيع على الهجرة، ليس كامل التشجيع، فقال: نحن نشجع اليهود على الهجرة بركلات الأقدام، فقال: لا أريد هذا النوع من التشجيع، ولكن بطلب من السلطان عبد الحميد أن يسمح لهم بشركة امتياز في فلسطين، وأن تفرض ضرائب على اليهود هناك في روسيا، والسبب العجيب في ذلك أنه يريد أن يضيق عليهم الخناق في روسيا فيجعلون يرغبون في الهجرة، ويعطي تسهيلات لهم حتى يتركوا هذه البلاد، ولا يبقى في روسيا إلا أهل الاقتصاد والمال! رفض وزير المالية الروسي كل هذه الاقتراحات، وطرد تيودور هرتزل وأعلن رفضه بالكلية كل هذه المطالب، بل بعدها بشهور قليلة أقام مذبحة ضخمة جداً لليهود هناك في أرض روسيا، ومن ساعتها واليهود يدبرون لقلب نظام الحكم في روسيا لأنها لم تقف معهم، إلى أن أفلحوا في ذلك في سنة 1917م بعد حوالي 17 أو 18 سنة من هذا اللقاء الذي تم بين تيودور هرتزل وبين وزير المالية، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله. إذاً: كانت الدول العظمى آنذاك ثلاثة دول: إنجلترا، وألمانيا، وروسيا، وكانت فرنسا دولة قوية، لكن كانت مصالحها تتماشى مع مصالح إنجلترا!

موقف الدولة العثمانية من اليهود بصفة عامة

موقف الدولة العثمانية من اليهود بصفة عامة الدولة الرابعة هي الدولة العثمانية، وهي دولة في غاية الأهمية؛ لأنها هي الدولة التي تمتلك فلسطين، الأرض التي يريد أن يقيم فيها اليهود دولة. يا ترى! ما هو موقف الدولة العثمانية من اليهود بصفة عامة؟ أولاً: الدولة العثمانية ضمت اليهود المشردين في العالم، وبالذات بعد سقوط الأندلس، فقد كانت الأندلس يعيش فيها أعداد كبيرة من اليهود تحت الحماية الإسلامية، ولما سيطر النصارى على هذه البلاد بعد سقوط دولة المسلمين في الأندلس، طردوا جميع المسلمين، وطردوا جميع اليهود، وأقاموا محاكم التفتيش للمسلمين ولليهود، وتخلصوا منهم بالكلية، وتشتت اليهود في بقاع الأرض، ولم يجدوا مكاناً يضمهم إلا عند الدولة العثمانية، فعاشوا في بلد في تركيا تسمى بلدة سالونيك، عاشوا فيها فترات طويلة من الزمان، وكونوا ما يعرف في التاريخ باسم يهود الدونمة، وهؤلاء لهم دور كبير في إنشاء دولة إسرائيل داخل فلسطين كما سيأتي. إذاً: الدولة العثمانية قدمت في البداية يداً كريمة إلى اليهود، لكنهم أبداً ما رعوا حقاً ولا جميلاً. الأمر الثاني: بدأ اليهود الذين يعيشون في الدولة العثمانية مع مرور الوقت يتقدمون بطلبات متكررة لشراء أرض في فلسطين، وللسماح لهم بالهجرة إليها، لكن رفضت تماماً وكان أشهرها المحاولة التي تمت في سنة 1876م -يعني: قبل مؤتمر بال بعشرين سنة- بواسطة حاييم جورديلا أحد أثرياء الصهيونيين في ذلك الوقت، لكن كل هذه المحاولات رفضت، بل لما شعرت الدولة العثمانية أن اليهود يريدون أن يستوطنوا في هذه البلاد عينوا رجلاً شديداً اسمه رءوف باشا حاكماً على القدس، وأرسلوا قوات كثيرة تبحث دائماً عن اليهود المقيمين هناك بطريقة غير قانونية، ويطردونهم خارج فلسطين؛ ليعيشوا في أي مكان في الدولة الإسلامية تحت رعاية الدولة العثمانية؛ لكونهم يعلمون أنهم -أي: اليهود- يريدون أن ينشئوا دولة في هذا المكان. في سنة 1888م قبل مؤتمر بال بتسع سنوات أصدرت الدولة العثمانية قوانين جديدة نصت على ضرورة أن يحمل الأجانب الذين يرغبون في زيارة فلسطين جوازات سفر توضح عقيدة حامليها أول مرة، سواء النصرانية أو اليهودية أو غيرها، حتى لا يتسرب اليهود باسم رعايا البلاد الأخرى، كما رفضت السلطات العثمانية في ميناء يافا السماح بدخول اليهود الذين لا يحملون سمات دخول، بل حتى الزيارات التي كانت تعطى أحياناً لليهود كانت تعطى لفترة محدودة ولأغراض دينية فقط، وكانوا يوقعون على تعهد بمغادرة البلاد بسرعة، وبلغ الأمر حدة أن الدولة العثمانية منعت نائب القنصل الإنجليزي في أنطاكية من دخول فلسطين ما لم يقم بالتعهد المطلوب وهو مغادرة البلاد بسرعة، وهو رجل كبير في القنصلية البريطانية، منعته الدولة العثمانية لأنه كان يهودياً؛ مما أدى إلى توتر شديد في العلاقات بين الدولة العثمانية وبريطانيا.

مقابلة ثيودور هرتزل للسلطان عبد الحميد الثاني والعروض التي قدمها له

مقابلة ثيودور هرتزل للسلطان عبد الحميد الثاني والعروض التي قدمها له في هذا الجو المتوتر تماماً والعصبي تماماً بين إنجلترا والدولة العثمانية، وبين اليهود والدولة العثمانية لم ييأس تيودور هرتزل من أن يقابل سلطان المسلمين في هذا الوقت عبد الحميد الثاني رحمه الله، فمع كل هذه الأمور إلا أنه ذهب ليقابله ويعرض عليه عرضاً عجيباً. يقول تيودور هرتزل في مذكراته: أنه ذهب بنفسه إلى السلطان عبد الحميد الثاني وحاول مرة وثانية وثالثة أن يقابله، حتى نجح في الأخيرة وعرض عليه عروضاً، انظر معي إلى عروض تيودور هرتزل على السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله؛ حتى تعلم عظمة هذا الرجل السلطان عبد الحميد الثاني، وحتى تعلم أيضاً مدى ثراء اليهود في ذلك الوقت. العرض الأول: مائة وخمسون مليون ليرة إنجليزية رشوة خاصة للسلطان عبد الحميد الثاني. العرض الثاني: سداد جميع ديون الدولة العثمانية البالغة ثلاثة وثلاثين مليون ليرة إنجليزية ذهبية. العرض الثالث: بناء أسطول لحماية الإمبراطورية العثمانية بتكاليف قدرها مائة وعشرون مليون فرنك ذهبي. العرض الرابع: تقديم قرض بخمسة وثلاثين مليون ليرة ذهبية دون فوائد لإنعاش مالية الدولة. العرض الخامس: بناء جامعة عثمانية إسلامية في القدس. العرض السادس: تهدئة الأوضاع في الغرب حول قضية اضطهاد العثمانيين للأرمن والتي أثيرت في فرنسا وإنجلترا، فرنسا وإنجلترا ادعتا أن الدولة العثمانية اضطهدت الأرمن، والحق أن الأرمن النصارى ثاروا على الدولة العثمانية التي تملك هذه البلاد في ذلك الوقت، لكن أشيع في فرنسا وإنجلترا أن الدولة العثمانية تضطهد الأرمن؛ حتى يكون هذا ذريعة لدخول الجيوش الإنجليزية والفرنسية لاحتلال الدولة العثمانية بهدف الدفاع عن الأرمن النصارى، فعرض عليه تيودور هرتزل أنه سيهدئ له قضية الأرمن في إنجلترا وفرنسا وأنه على ذلك قادر. ستة عروض ضخمة يسيل لها لعاب أي رجل من حكام الأرض في ذلك الوقت، لكن السلطان عبد الحميد رجل صالح وقليل ما هم، نظر السلطان عبد الحميد من أعلى إلى كل هذه العروض وقال: على تيودور هرتزل ألا يتقدم خطوة واحدة أخرى في هذا الشأن، لا أستطيع بيع بوصة واحدة من البلد؛ لأنه ليس ملكي بل ملك شعبي، لقد أوجد هذه الإمبراطورية وغزاها بدمه، وسنغطيها مرة أخرى بدمائنا قبل أن نسمح بتمزيقها، يستطيع اليهود أن يوفروا ملايينهم حين تقسم الإمبراطورية، قد يأخذون فلسطين مقابل لا شيء، لكن لن تقسم إلا على جثثنا؛ لأنني لن أسمح أبداً بتشريحنا ونحن أحياء. الله أكبر! هكذا كان رد السلطان عبد الحميد الثاني على تيودور هرتزل ثم طرده وطلب تيودور هرتزل مرة أخرى أن يقابله، فرفض رفضاً تاماً وأغلق باب اليهود تماماً. ولا بد أنه سيكون لليهود شأن مع السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله. أذكر مقولة قالها تيودور هرتزل بعد هذا الرفض وسجلها في مذكراته وعرضها في مؤتمرهم بعد ذلك على اليهود، قال: في حال استمرار رفض السلطان عبد الحميد للمطالب الصهيونية فإن تحطيم الإمبراطورية العثمانية شرط أساسي لإقامة حكومة صهيونية في فلسطين. يعني: بعد هذا اللقاء قرر تيودور هرتزل ومن معه في مؤتمراته أن يسقطوا السلطان عبد الحميد الثاني. إذاً: نلخص ما سبق. أن اليهود بدءوا ينظرون إلى قوى الأرض في ذلك الزمان، فوضعوا أيديهم في أيدي إنجلترا، وفشلوا أن يتعاهدوا مع ألمانيا، وفشلوا أيضاً أن يتعاهدوا مع روسيا، ولكن روسيا ردت رداً شديداً عليهم ففكروا في قلب نظام الحكم هناك، وأيضاً جوبهوا بمجابهة عنيفة شديدة من الخلافة العثمانية ففكروا أيضاً في قلب نظام الحكم في الخلافة العثمانية، يا ترى! كيف تحرك اليهود لتنفيذ هذه المخططات الخبيثة الكبيرة جداً وهم لم يكن لهم دولة في ذلك الزمن؟ يا ترى! كيف سعوا لإسقاط الدولة العثمانية؟ ويا ترى! كيف سعوا لإسقاط الدولة الروسية القيصرية؟ ويا ترى! كيف نفذت إنجلترا مخططات اليهود؟ هذا ما نتداوله وغيره إن شاء الله في المحاضرة القادمة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وجزاكم الله خيراً كثيراً.

اغتيال الخلافة

سلسلة فلسطين_اغتيال الخلافة إن سقوط الخلافة العثمانية أمر يوضح لنا مدى مكر أعداء الإسلام بالإسلام وأهله خاصة اليهود، فقد سقطت الخلافة العثمانية، وكان من أهم تداعيات سقوطها احتلال فلسطين من قبل الإنجليز وتسليمها لليهود، وذاق المسلمون بعد سقوط الخلافة ويلات، وعاشوا محناً لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.

مقدمة تلخص مفهوم إسرائيل الكبرى

مقدمة تلخص مفهوم إسرائيل الكبرى أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، حرباً لأعدائك سلماً لأوليائك، نحب بحبك من أطاعك ونعادي ونجاهد من خالفك، اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، مقبلين غير مدبرين، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. أما بعد: فمع المحاضرة الخامسة من المحاضرات الخاصة بقضية فلسطين. وتحدثنا في المحاضرة الرابعة عن مفهوم هام من المفاهيم الخاصة بقضية فلسطين، وهو مفهوم إسرائيل الكبرى، وذكرنا بعض الشواهد والقرائن والأقوال والأفعال التي تثبت أن هذا الفكر فكر حقيقي في أذهان اليهود، وأن الخطر عظيم، وأن الخطب جلل، وأنه إن لم يفق المسلمون فإن العواقب ستكون وخيمة جداً. وطفنا بكم في ذهن زعيم الصهيونية تيودور هرتزل، وكيف بزغت في ذهنه فكرة إنشاء دولة يهودية، وكيف بذل من أجلها مجهوداً ضخماً، وسافر وحاور وناور، ورغب أحياناً ورهب أحياناً أخرى، ووصل هو وشركاؤه في النهاية إلى فكرة إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:18 - 20]، نعم فكر في عملية قرصنة عجيبة، أن يخرج شعباً من أرضه ليستبدله بشعب آخر. وذكرنا في المحاضرة السابقة مؤتمر بال، وما انبثق عنه من مخططات محكمة لإرساء دعائم الدولة اليهودية من تشجيع للهجرة، وتنظيم لليهود، وسعي وراء الاعتراف الدولي. وأشرنا أيضاً إلى موقفه مع الإنجليز، وكيف اختارهم واختاروه لتنفيذ مصالح مشتركة. وأشرنا أيضاً إلى موقفه من ألمانيا، وكيف فتر القيصر الألماني عن مساعدته، ثم فصلنا الموقف المتشدد للقيصرية الروسية ورفضها التام لمساعدة اليهود، ومسارعتها إلى ذبحهم وتشريدهم واضطهادهم في روسيا. وختمنا بموقف الدولة العثمانية الرائع حيال محاولة تيودور هرتزل مع السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، وكيف رفض السلطان المسلم بشموخ وعزة العروض اليهودية المغرية، وأصبح من الواضح أن الخلافة العثمانية بقيادة السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله تقف سداً منيعاً أمام الأطماع الصهيونية، ومن ثم فكر اليهود في هدم هذا السد المنيع. وقبل أن أدخل في تفصيل الكيفية التي حاول بها اليهود هدم الخلافة العثمانية أجيب عن سؤالين خاصين بالحلقة السابقة.

الفرق بين اليهودية والصهيونية

الفرق بين اليهودية والصهيونية السؤال الأول: ما الفرق بين اليهودية والصهيونية، في الحلقة السابقة ذكرنا كثيراً اليهودية، وأحياناً نذكر الصهيونية؟ A اليهودية: هي دين من عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا الدين أنبياء كثر وأتباع كثر، وأنزل الله على موسى عليه السلام كتاب التوراة، وهو كتاب سماوي نؤمن أنه منزل من عند الله سبحانه وتعالى، لكن المشكلة الكبيرة أن هذه التوراة حرفت تماماً، وبدل فيها الكثير، ومن ثم أصبح من المستحيل معرفة ما جاء في التوراة إلا ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء في التوراة كذا أو كذا، واليهود الذين يدينون باليهودية مشتتون في بقاع كثيرة من الأرض، وابتلي المسلمون مؤخراً بتجمع بعضهم في فلسطين. أما الصهيونية: فهي حركة سياسية تهدف إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وتأخذ اسمها من جبل صهيون المقدس عند اليهود والموجود في فلسطين، والصهيوني: هو الذي يرغب في العودة إلى جبل صهيون أرض الميعاد حتى يقيم فيها دولة، ويرى المتطرفون من اليهود الصهاينة أنه لا يكفي مساعدة اليهود في الرجوع إلى فلسطين حتى تكون صهيونياً، بل لا بد من العودة بنفسك إلى فلسطين حتى تنال هذا اللقب، وكانت جولدا مائير تقول: ليس اليهودي الفرنسي واليهودي الأمريكي واليهودي الإنجليزي بصهيوني، إلا بعد أن يحزم حقائبه ويذهب إلى إسرائيل، ومن ثم فجميع اليهود الذين يستوطنون في فلسطين صهاينة، وكثير من اليهود الذين يعيشون خارج فلسطين لا يطلق عليهم صهاينة، حتى ولو كانوا يساعدونهم بالمال والرأي. ولذلك فمن الممكن أن تقول: إن كل الصهاينة يهود، وليس كل اليهود صهاينة.

اكتفاء هرتزل بمستوطنة صغيرة على أرض فلسطين مقابل كل العروض التي قدمها للخليفة العثماني

اكتفاء هرتزل بمستوطنة صغيرة على أرض فلسطين مقابل كل العروض التي قدمها للخليفة العثماني السؤال الثاني: ما هو المقابل الذي كان يريده تيودور هرتزل من السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله نظير هذه العروض المغرية والمتعددة، هل طلب فلسطين بكاملها، أم طلب القدس، أم طلب جزءاً من فلسطين؟ A إن الإجابة عن هذا السؤال توضح مدى ذكاء وإخلاص وعظمة السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، وفي نفس الوقت فهي تثبت أيضاً لـ تيودور هرتزل الدهاء والمكر والحيلة، تيودور هرتزل لم يطلب في مقابل هذه العروض المغرية إلا طلبين فقط: أولاً: مستعمرة صغيرة خارج القدس يستوطن فيها اليهود. ثانياً: السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين. فهو لم يطلب فلسطين بكاملها، ولا جزءاً منها، ولكنه طلب مستعمرة صغيرة فقط خارج القدس حتى يسهل على السلطان عبد الحميد الموافقة. كما طلب أن يسمح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، فقد كانت الخلافة العثمانية كما ذكرنا في الحلقة السابقة لا تسمح بذلك أبداً، مع العلم أن اليهود كانت لهم حرية الحركة داخل كل أملاك الخلافة العثمانية الواسعة الضخمة؛ وذلك لأن السلطان عبد الحميد رحمه الله لم يكن يخشى أن يقيم اليهود دولة في تركيا أو في سوريا أو في الحجاز، ولكنه كان يخشى أو يتوقع أن يقيم اليهود دولتهم في فلسطين. أيضاً لم يكن السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله يمنع اليهود من زيارة فلسطين للأغراض الدينية، ولكن يجب أن تكون الزيارة مؤقتة ومحددة بوقت ومكان معينين. إذاً: لم يفلح ذكاء تيودور هرتزل أمام إخلاص وذكاء السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، ورفض بيع فلسطين أو جزء منها ولو كان جزءاً بسيطاً. نعم، بيعت بعد ذلك لليهود، لكن البيع لم يسجل في صحيفة السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، بل سجل وما زال يسجل في صحائف آخرين ولا حول ولا قوة إلا بالله.

تاريخ يهود حافل بالمؤامرات والدسائس

تاريخ يهود حافل بالمؤامرات والدسائس نعود إلى موقف اليهود من هذا الجبل السلطان عبد الحميد الثاني ومن الخلافة العثمانية الجامعة للمسلمين، تعالوا نرى تخطيط اليهود، وهم قوم اشتهروا في كل تاريخهم بالدس والمؤامرة والتدبير والمكر: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46]. أولاً: حاولوا في البداية أخذ الطريق الأسرع في مؤامرات متعددة لاغتيال السلطان عبد الحميد الثاني، لكن بحمد الله فشلت، وهنا علم اليهود أن هذا الطريق السريع قد يغير من السلطان، لكن لا يغير من واقع الدولة وسياستها، فبدءوا في طريق آخر ولا شك أن هذا الطريق الذي سلكوه هو طريق ناجح، فقد قوض أركان الخلافة في سنوات معدودات سبحان الله!! ولكن قبل الحديث عن هذا الطريق الخبيث، دعونا نترك السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله ونترك تيودور هرتزل والإنجليز وفلسطين، ونسبح في أعماق التاريخ مئات السنين، نعود إلى أرقى عهود البشرية على الإطلاق، نعود إلى عهد قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. بعد الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة المنورة، وبعد المؤاخاة المشهورة بين الأوس والخزرج على ما كان بينهم من خلاف وشقاق وقتال قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد الائتلاف والمودة والرحمة، عاشت المدينة المنورة لحظات سعيدة بل لعلها أسعد اللحظات التي مرت بالأرض، وكيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وقد صفيت القلوب من الغل والحسد؟ لحظات سعيدة مرت على المدينة المنورة. غير أنه مع هذا الفضل الكبير كان هناك في المدينة تعساء، من هم؟ اليهود نعم. اليهود كانوا تعساء، أكل الغيظ قلوبهم، ونهش الحسد عقولهم، وأعمى الغل أبصارهم، وهم يشاهدون المدينة تجتمع بعد فرقة، وتتحد بعد اختلاف، وتتحاب بعد كراهية. فماذا هم فاعلون؟ اسمع وتدبر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، والتاريخ يتكرر مع شاس بن قيس، شاس بن قيس هذا هو شيخ يهودي كبير في السن، مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، فوجدهم يتكلمون ويتسامرون، وقد توطدت بينهم وشائج الأخوة فراعه ذلك، وزاد غيظه وحنقه على المسلمين، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة في هذه البلاد - يقصد الأوس والخزرج- لا والله! ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، انظر إلى رأي شاس بن قيس، لا قرار لليهود إذا اجتمع الأوس والخزرج وهو اعتقاد صحيح، هكذا أدرك شاس بن قيس عليه لعنة الله وأدرك من بعده اليهود مثل ما أدرك شاس بن قيس أن اجتماع المسلمين فيه هلكة لليهود. فأمر شاس بن قيس فتى من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم واجلس بينهم، ثم ذكرهم يوم بعاث -يوم تقابل فيه الأوس مع الخزرج وكان فيه قتلى كثر- قال شاس بن قيس: ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله من صراع وتشاحن بين الفريقين، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا به من الأشعار، ففعل الفتى. ماذا كان رد فعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج؟ لاحظوا يا إخوة أننا نتكلم عن الصفوة نتكلم عن الأنصار الأوائل. فتكلم القوم عند ذلك، وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، فتقاولا -يعني: تصارعا- ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها جذعة -أي: نرجع الحرب من جديد- فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الحرة -مكان اعتاد الأوس مع الخزرج القتال فيه- السلاح السلاح، فخرجوا إليها، سبحان الله!! كارثة عظيمة، وخطر كبير، وخطأ فادح. فهذا ما كنا نتحدث عنه في المحاضرة الثالثة لو تذكرون، هذه هي القومية والقبلية والعنصرية، هذا هو الفارق بين رباط العنصر وبين رباط الإسلام، لما كانوا مجتمعين على الإسلام كانت القلوب متحابة، والأيدي متصافحة، أما الآن وقد قبلوا بانتمائهم إلى آبائهم الأوس والخزرج فقد تنافرت القلوب وتعاركت الأيدي. قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً، وخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه، حتى جاءهم فقال: (يا معشر المسلمين! الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع عنكم الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟). انظروا يا إخوة! إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم). ما هي دعوى الجاهلية؟ هل سجدوا لصنم؟ أو ذبحوا لغير الله؟ أبداً، إنهم فقط تفاخروا بآبائهم، وتقاتلوا على أساس عنصريتهم وقبليتهم، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جاهلية. ثم كيف كان العلاج من سيد البشر والخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم؟ أولاً: ذكرهم بالرباط الذي يربط الناس جميعاً في هذا الكيان الجديد، فقال: (يا معشر المسلمين!)، ولم يقل: يا معشر الأوس

الأساليب التي انتهجها اليهود في سعيهم لتقويض بناء دولة الخلافة العثمانية

الأساليب التي انتهجها اليهود في سعيهم لتقويض بناء دولة الخلافة العثمانية هيا بنا الآن نعود من جديد إلى ما كنا عليه، هيا بنا نعود إلى السلطان عبد الحميد الثاني وإلى تيودور هرتزل وإلى اليهود وإلى أواخر أيام الخلافة العثمانية، ولننظر ماذا فعل شاس بن قيس الجديد تيودور هرتزل حتى يسقط الكيان الضخم للخلافة العثمانية؟

إثارة الجمعيات الماسونية العنصرية والقبلية بين الأتراك والعرب

إثارة الجمعيات الماسونية العنصرية والقبلية بين الأتراك والعرب كما أرسل شاس بن قيس فتى من يهود يزرع الفتنة بين الأنصار أرسل تيودور هرتزل أوامر إلى الجمعيات الماسونية السرية الموجودة في تركيا تحت ستار جمعيات خدمة البيئة والمجتمع وجمعيات الروتاري واللاينز وغيرها أن يفعلوا نفس الشيء، وشاركت في المؤامرة الكبرى قنصليات غربية كثيرة أشهرها إنجلترا وفرنسا وإيطاليا والنمسا، ذهبوا إلى مجموعة من الشباب المتحرر الانتهازي الطامح إلى الحكم الطامع في الملك، وبدءوا يزرعون الفتنة في قلوبهم زرعاً، ويقتلعون منها الإسلام اقتلاعاً. بدءوا يشجعونهم على الخروج عن المألوف ونبذ الواقع، والبعد عن العنصريات الداعية إلى التخلف -يقصدون عنصريات العرب- أدخلوا في أذهانهم: لماذا تشغلون أنفسكم بالعرب؟ لماذا المشاكل في العراق وسوريا وفلسطين ومصر والحجاز واليمن؟ لماذا معاداة القوى العظمى في العالم إنجلترا وفرنسا وروسيا وإيطاليا؟ لماذا السباحة ضد التيار؟ ثم أي العناصر أشرف هل أنتم أيها الأشراف الفاتحون العظماء القدراء البشوات والبكوات؛ أم أولئك العرب البدو والرحل؟ اتركوهم لشأنهم وانشغلوا بأنفسكم، انطلقوا إلى تحديث تركيا، انطلقوا إلى الحضارة الغربية، انطلقوا إلى التحرر من قيود التخلف والرجعية والجمود، وهم بذلك يقصدون الإسلام ولكنهم كانوا أذكى من أن يصرحوا بذلك. وهكذا بدءوا يتحدثون إليهم بحديث الشيطان، يدعون إلى فرقة بين المسلمين على أساس العنصر والقبلية، أتراك وعرب، ردة حديثة إلى جاهلية قديمة، دعوى الجاهلية كما سماها سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم، تسلطوا عليهم بهذه الأقوال، وكيد الشيطان وإن كان ضعيفاً على المؤمنين إلا أنه كان عظيماً وكبيراً على الذين يتولونه والذين هم به مؤمنون. وبدءوا يلمعون في هؤلاء الأفراد ويعظمونهم، ويرفعون من قدرهم، ويضعون صورهم في الصحف والمجلات العالمية، ويغدقون عليم بالجوائز القيمة، والتقديرات الدولية، وكان التركيز كبيراً على ضباط الجيش التركي بالذات، فالتأثير عليهم قد يؤثر على الخلافة بأكملها، ووجد هؤلاء أنفسهم في يوم وليلة بعد أن كان لا يسمع عنهم أحد ملء السمع والبصر، في كل يوم يقابلون سفيراً أو وزيراً أو ملكاً غربياً، وزاد الترغيب عندما وعدوا بحكم تركيا إن هم تخلصوا من العرب، واكتفوا بالأتراك فقط، وسال لعاب المخدوعين. فقد وعدوا بجزء من الدنيا فباعوا الدين بكامله، وقالوا: ماذا نفعل؟ وجاءت التوجيهات: أنشئوا ما يسمى جمعية الاتحاد والترقي، تهدف في ظاهرها إلى إعلاء شأن الأمة وخدمتها ورعاية مصالحها، ضموا إليها من استطعتم من رجال الجيش والحكم والمال والفكر، أعلنوا المبادئ الثلاثة الآتية: حرية، عدالة، مساواة. عظموا من القومية التركية، وذكروهم بآبائهم وأجدادهم الأتراك دون العرب، ارفعوا من قيمة الغرب ورجاله وإعلامه وحضارته، انتقدوا بهدوء أفعال السلطان ولا مانع أيضاً من انتقاد الإسلام ولكن بحذر. وهكذا أسست الجمعية العلمانية المشهورة جمعية الاتحاد والترقي، هل اكتفى شاس بن قيس الجديد تيودور هرتزل بذلك؟ أبداً ذهب إلى الجناح الآخر ليستكمل المؤامرة بإحكام، وليضيق الخناق على دولة المسلمين، ذهب إلى العرب، وفعل عن طريق الجمعيات السرية والقنصليات الغربية والعملاء والأتباع ما فعله مع الأتراك، وذهبت الجمعيات تحدث العرب المخدوعين: أنتم أيها العرب! أصحاب الشرف والمجد، أنتم يا أبناء الصحابة! ويا سلالة قريش! أنتم أيها الأشراف العظماء! ما لكم والأتراك، أولئك الذين احتلوا بلادكم ونهبوا ثرواتكم، وبددوا طاقاتكم وحكموا آباءكم وأجدادكم، أتريدون أن تتركوا لهم أبناءكم وأرضكم؟ ما لكم والأتراك، أولئك الذين لا يحسنون لغة، ولا يفقهون ديناً، ما لكم والأتراك، أولئك الذين ظلموا وتجبروا وتكبروا. وهكذا سبحان الله!! وجدوا آذاناً صاغية ولا عقول، وانتشرت أفكار القومية والعنصرية المفرقة في أرجاء العالم الإسلامي بأسره، ووقف تيودور هرتزل يتفرج بسعادة، ويصفق للمختلفين ويعين المتصارعين وعمت الفتنة الأرض، ولكن سبحان الله! أبى الله أن يريه نتائج مؤامرته، فمات وهو في 44 من عمره، ودخل قبره وقامت قيامته، ولقي ما هو مناسب لعقيدته وعمله، كان ذلك في سنة 1904م. لكن الحق أنه قد أرسى دعائم قوية لأفكاره ومعتقداته وخططه ما تبدلت كثيراً بموته وخلفه على زعامة الصهيونية حاييم وايزمن من زعماء اليهود المشهورين.

تغذية الثورات ضد السلطان عبد الحميد والسعي إلى عزله

تغذية الثورات ضد السلطان عبد الحميد والسعي إلى عزله حاول السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله أن يدعو الناس إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالالتفاف حول رابطة الإسلام لا رابطة العنصر، فدعا إلى إنشاء ما يسمى بالجامعة الإسلامية، كيان كبير ضخم يضم كل البلاد الإسلامية في العالم تحت رعاية الخلافة العثمانية، يتبادل فيها المسلمون الرأي والعون. لكن اعترضوا عليه، وازداد الموقف سوءاً، سواء في تركيا أو في بلاد العالم الإسلامي، وبدأت جمعية الاتحاد والترقي تشيع في الناس أن السلطان عبد الحميد هو سبب التخلف والرجعية، وأن أخطاءه كثيرة وأفعاله ذميمة، لكن لم يطعنوا في الخلافة بل قالوا: من الأنسب أن يعزل ويأتي غيره. فعلوا ذلك مدعمين بكل القنصليات الغربية القوية، وانساق الشعب وراءهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. لا شك أن الكلمات التي ألقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتهدئة الوضع في المدينة المنورة بعد حادثة شاس بن قيس وقعت في تربة طيبة فأنبتت نباتاً حسناً، ولو كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس قد ملأت الدنيا قلوبهم وعقولهم وتحكمت الأهواء بأفعالهم وأقوالهم ما سمع أحد نصحه، وما ارعوى أحد بكلامه صلى الله عليه وسلم، إذاً: في حادثة شاس بن قيس الأولى كان الشعب مهيأً تربوياً لتقبل نصح وإرشاد الدين؛ ولذلك لم تنجح معه الفتنة، بينما من الواضح في قصة شاس بن قيس الجديد أن الشعوب الإسلامية لم تكن مهيأة لاستقبال قول الله وقول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، لاشك أن الشعوب كانت مضللة، فالشعوب المبصرة لا تخدع بالغوغاء، والشعوب المتعلمة لا ترضى بديلاً عن دينها وقيمها، والشعوب الذكية لا تسمع لصوت أعدائها، فهذه الأخطاء التربوية القاتلة لا شك أنها من تراكمات السنين: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]. بعد أن تشبع المسلمون بالأفكار الانفصالية قامت ثورات عدة على السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، أشهرها ثورة في عام (1908) م، ثم ثروة أخرى في عام (1909) م، هذه الثورة الأخيرة طالبت بعزله، مؤيدة برجال حزب الاتحاد والترقي الكبراء الذين صنعوا على عين الغرب، ومؤيدة بقنصليات غربية وبشعب مقيد، ولقد كانت للثورة ما أرادت، وعزل السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله في سنة (1909) م. وولي الأمر من بعده محمد الخامس السلطان العثماني الضعيف، وأصبحت مقاليد الحكم الرئيسة في يد حزب الاتحاد والترقي، بل إن شئت فقل: في يد الإنجليز والفرنسيين، بل وفي يد اليهود، فقد تدخل اليهود بعد ذلك في حزب الاتحاد والترقي، ووصلوا إلى حدود بعيدة لدرجة أن الوفد الذي سلم السلطان عبد الحميد الثاني خطاب عزله كان مكوناً من ثلاثة رجال أحدهم كان يهودياً اسمه قره صو، انظر إلى السخرية والاستهزاء، سلطان المسلمين يتسلم قرار عزله على يد يهودي. بل تفاقم الأمر بعد ذلك من تعاون واضح صريح بين حزب الاتحاد والترقي وبين اليهود لدرجة أن السفير البريطاني في تركيا قال لوزير خارجيته في سنة (1910) م -يعني: بعد عام واحد فقط من عزل السلطان عبد الحميد - إن لجنة الاتحاد والترقي تبدي في تشكيلها الداخلي تحالفاً تركياً يهودياً مزدوجاً، وتأكيداً على ذلك فإن حزب الاتحاد والترقي قد أخذ قرارات جديدة وسن قوانين عديدة، ومن أوائل هذه القرارات والقوانين إلغاء الحضر المفروض على اليهود في دخول فلسطين، والسماح لهم بالهجرة، وعزل حكام فلسطين العثمانيين الذين كانوا معروفين بكرههم لليهود، وتولية آخرين يتفهمون السياسية الجديدة. وفتحت أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين وانحدرت الأمة في طريق الهاوية.

الزج بدولة الخلافة في الحرب العالمية الأولى

الزج بدولة الخلافة في الحرب العالمية الأولى تلاحقت الأحداث بسرعة، وتزامنت هذه الأحداث المتلاحقة في الخلافة العثمانية مع أحداث عالمية خطيرة، حديث بدأت نذر الحرب العالمية الأولى تظهر، وتحالفت إنجلترا وفرنسا وروسيا ضد ألمانيا، ثم دخلت إيطاليا في التحالف الإنجليزي على وعد إطلاق يد إيطاليا في ليبيا، ووجدت جمعية الاتحاد والترقي فرصة سانحة، أو قل: وجد اليهود الفرصة سانحة للإجهاز على الخلافة العثمانية، فدفعوها دفعاً للدخول إلى الحرب العالمية الأولى، وأخذت جمعية الاتحاد والترقي القرار بالانضمام إلى معسكر ألمانيا ضد إنجلترا وفرنسا وروسيا وإيطاليا، كل هذا وما زال هناك خليفة يحكم في الظاهر، بينما تدار الأمور في الخفاء بأيدي اليهود عن طريق جمعية الاتحاد والترقي، وبدأت الحرب العالمية الأولى في سنة (1914) م واستمرت إلى سنة (1918) م.

الأسس التي ساعدت على إنشاء دولة لليهود في فلسطين

الأسس التي ساعدت على إنشاء دولة لليهود في فلسطين وضعت السنوات الأربع التي استغرقتها الحرب العالمية الأولى علامات بارزة وأسساً قوية لإنشاء دولة اليهود في داخل فلسطين.

توالي الهزائم على الخلافة العثمانية

توالي الهزائم على الخلافة العثمانية أولاً: توالت الهزائم على الخلافة الإسلامية العثمانية بعد أن تولى قيادتها العلمانيون الأتراك، وانشغلت بنفسها تماماً وكانت الهزائم شديدة في كل الجبهات. في منطقة البلقان وشرق أوروبا تأثرت الخلافة العثمانية جداً بتحالف صربيا وبلغاريا واليونان والجبل الأسود، واستطاعوا هزيمتها والاستقلال عنها، مع العلم أن هذه الدول جميعاً كانت مجرد ولايات في الخلافة العثمانية، وبدأ الجيش الروسي يأكل آسيا الوسطى، ويسيطر على القوقاز. وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا يهاجمون تركيا، وإيطاليا تفترس ليبيا، وهكذا جرى تحطيم الخلافة العثمانية التي تحمي فلسطين. ومع ذلك فقد وجهت الخلافة العثمانية ثلاثة جيوش لحماية منطقة الشام وفلسطين، ولا يتسع المجال طبعاً لذكر تداعيات هذه الهزائم وتفصيلاتها، وسنفرد لها حديثاً آخر إن شاء الله في وقت لاحق، لكن المهم أن انهيار الخلافة العثمانية كان نذيراً ببدء ضياع فلسطين.

اتفاقية الشريف حسين حاكم مكة مع مكماهون الإنجليزي

اتفاقية الشريف حسين حاكم مكة مع مكماهون الإنجليزي ثانياً: مع كل هذه الكوارث إلا أن الأيام تحمل للمسلمين آلاماً أشد وجروحاً أعمق، فقد وقعت كارثة جديدة كبيرة، وهي اتفاقية الشريف حسين حاكم مكة العربي وليس التركي مع مكماهون الزعيم الإنجليزي، الشريف حسين عنده نوازع قومية عربية استقلالية، والحرب دائرة بين الخلافة العثمانية وإنجلترا، وهو يمثل معارضة ضد النظام الإسلامي الحاكم، فلماذا لا يضع الإنجليز أيديهم في يده؛ ليتعاونوا في هدف واحد وهو إسقاط النظام الحاكم المسلم، وتقاسم الكعكة بعد ذلك، والكعكة بكاملها إسلامية؟ اتفاقية الشريف حسين مع مكماهون الإنجليزي تمت بتدبير من ضابط المخابرات الإنجليزي الجنسية اليهودي الديانة لورانس، وهو ضابط مشهور جداً في تاريخنا، وتمت الاتفاقية في سنة (1915) م، وفيها عرضت إنجلترا على الشريف حسين وعوداً ضخمة جداً: 1 - إنشاء مملكة للعرب يكون الشريف حسين ملكاً عليها، هذه المملكة تضم الحجاز، والعراق، وسوريا، والأردن وعاصمتها مكة المكرمة زادها الله تكريماً وتعظيماً: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120]. 2 - استثناء بعض الأماكن في المملكة لا تعطى، ولا ندري هل ذكر سبب الاستثناء في الاتفاقية أم لا؟ ولكن الأيام وضحت لماذا تم الاستثناء؟ استثناء الإسكندرونة من سوريا؛ لأنها سوف تهدى إلى تركيا وحزب الاتحاد والترقي نظير المساعدة في إهلاك الخلافة العثمانية، كذلك لبنان تستثنى؛ لأنها ستحول إلى دولة موارنة تحت رعاية فرنسية، فلسطين المسلمة تستثنى أيضاًَ لا تدخل في المملكة العربية؛ لأنها تجهز لتكون وطناً لليهود. 3 - التعاون الاقتصادي بين المملكة العربية التي سوف تقوم، والمملكة البريطانية، يعني إنجلترا ستصنع والمملكة العربية تشتري. 4 - تعاون عسكري بين المملكتين. وطبعاً التعاون العسكري يعني: الحماية الإنجليزية للمملكة العربية في نظير حماية المصالح الإنجليزية في المنطقة الإسلامية، وإلا لا يتخيل أحد أنه لو حدث هجوم على لندن مثلاً أن يتحرك الشريف حسين بقواته لنجدة الإنجليز هناك. هذه العروض السخية من الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية في مقابل أن يحمل الشريف حسين سيفه ومدفعه، ويأخذ أحبابه وأصحابه وأهله وجيشه وقومه ويضرب الخلافة العثمانية الإسلامية في ظهرها، بينما الخلافة العثمانية تحارب في الغرب والشمال أوروبا الشرقية وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وتحارب في الشرق روسيا القيصرية، يأتي الشريف ويطعن في الجنوب ويضرب الجيش التركي المسلم في الشام وفلسطين. لكن لا يجب طبعاً أن يخرج في صورة الخارج عن النظام، والراغب في هدم الكيان والساعي إلى نصرة الصليبيين لا. فلنطلق على هذا الخروج اسمًا جميلاً حضارياً: الثورة العربية الكبرى، ثورة -كما يقولون- على الظلم والاستبداد واحتلال الأتراك للعرب. وتحركت الجيوش العربية بقيادة الأمير فيصل بن الشريف حسين إلى الشام لحرب الجيوش العثمانية المسلمة، وفي ذات الوقت تحركت الجيوش الإنجليزية والفرنسية لتساعد الثورة العربية الكبرى على زعمهم، إذاً في أيام الحرب العالمية الأولى حدثت أمور خطيرة، كما ذكرنا: أولاً: تدمير القوة العسكرية العثمانية في أوروبا وآسيا. ثانياً: معاهدة الشريف حسين مع مكماهون.

معاهدة سايكس بيكو المشهورة سنة 1916م

معاهدة سايكس بيكو المشهورة سنة 1916م ثالثاً: أمر جديد خطير بعد معاهدة الشريف حسين مع مكماهون، وكانت قد أثبتت هذه المعاهدة أن الإنجليز يتعاملون بدهاء شديد مع المسلمين، ويضربون على أوتار حساسة، بينما المسلمون غافلون عن أسباب قوتهم، لكن الإنجليز أثبتوا أنهم لا يتمتعون فقط بقدر عظيم من الدهاء، بل يتمتعون أيضاً بقدر أكبر من الخسة والنذالة والكذب والخداع، فبعد هذه الاتفاقية المشبوهة مع الشريف وبعد تحرك الجيوش العربية لضرب الجيوش العثمانية المسلمة، فعل الإنجليز فعلاً آخر أشد وأبشع ما هو؟ هذا الشيء يعرف في التاريخ باسم معاهدة سايكس بيكو المشهورة سنة (1916) م، بعد شهور قليلة من معاهدة الشريف حسين مع مكماهون تمت معاهدة سايكس بيكو في بطرسبرج بروسيا بين إنجلترا وفرنسا، مثل فيها إنجلترا مارك سايكس المندوب الثاني لشئون الشرق الأدنى، ومثل فيها فرنسا جورج بيكو قنصل فرنسا السابق في بيروت، واتفق الطرفان على تقسيم أملاك الخلافة العثمانية بينهما بعد أن يتم النصر عليها. فاتفقوا على أن تفرض إنجلترا حمايتها واحتلالها على العراق والأردن، وتفرض فرنسا حمايتها واحتلالها على سوريا ولبنان، بينما تصبح لفلسطين إدارة دولية باستشارة روسيا. وهكذا قسم الإنجليز والفرنسيون البلاد التي وعدت إنجلترا بإعطائها الشريف حسين. كانت معاهدة سايكس بيكو سرية غير معلنة، لكن روسيا سربت أخبارها، ولما وصلت الأخبار إلى الشريف حسين انزعج بشدة، وتحدث مع الإنجليز فقالوا له بمنتهى الثقة: لن يحدث شيء من هذا، ونحن على وعدنا معك، فما كان منه إلا أن اطمأن واستراح، إذ كيف يمكن أن يتخيل أن تخونه الدولة الصديقة إنجلترا؟ ونسي قول الله سبحانه وتعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100]. ونسي قوله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10].

الحرب العالمية الأولى وما حملت معها من الكوارث على الخلافة العثمانية

الحرب العالمية الأولى وما حملت معها من الكوارث على الخلافة العثمانية رابعاً: في سنة 1917م في أيام الحرب العالمية الأولى حدث معها كوارث جديدة كثيرة على المسلمين عددت منها أربعاً: الكارثة الأولى: وعد بلفور، وبلفور هذا هو وزير خارجية بريطانيا آنذاك، ووعده هذا عبارة عن خطاب أرسله إلى اللورد اليهودي روتشلد الممول اليهودي المشهور مؤرخاً بتاريخ 2/ 11/1917م، وهو مجرد خطاب لا يحمل أي صبغة قانونية، ومع ذلك أصبح الأصل الرئيسي الذي يعتمد عليه اليهود في إقامة دولتهم. قال بلفور في وعده: إن الحكومة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وسوف تبذل خير مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية. ثم انظروا إلى التحذير الرحيم من بلفور: وليكن معلوماً أنه لا يسمح بإجراء شيء يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين الآن. ما أعظم الرحمة الإنجليزية!! لا يمكن أبداً أن يضروا المدنيين والحقوق الدينية، وإنما سيرسلون البوارج لتدمر، والطائرات لتقصف، والمدافع لتدك، والجنود لتقتل وتذبح، لكن سيرسلون معها الغذاء والدواء والكساء رحمة، كل هذا من منظور الشيطان. ثم انظر إلى تضليلهم عندما قالوا: للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين، هذه الطوائف غير اليهودية هم أصحاب البلد الأصليين الآن، وهي تمثل 92% من سكان فلسطين، مع أن كلمة طوائف تعطي انطباعاً أنهم أقلية، لكنه خداع اللفظ وغياب الضمير. وفي هذا التوقيت الذي صدر فيه ما يسمى بوعد بلفور لم تكن إنجلترا تملك شيئاً في المنطقة، ولم تكن جيوشها قد دخلت فلسطين بعد، ومع ذلك وعدوا اليهود بها، وهكذا صدق عليهم قول القائل: أعطى بلفور ما لا يملك لمن لا يستحق. وافقت فرنسا على وعد بلفور مباشرة في سنة 1918م بعد الوعد بثلاثة شهور، ووافقت أمريكا عليه رسمياً في سنة 1922م بعده بأربع سنوات. ومن الممكن أن يطرأ في ذهني سؤال، لماذا تعجلت بريطانيا بإعطاء وعد بلفور لليهود قبل دخول الجيوش البريطانية إلى فلسطين؟ الجيوش على الأبواب وأصبح الدخول وشيكاً جداً، والوعد ستكون له مصداقية أكبر لو كان الإنجليز يملكون البلاد، فلماذا تعجلوا في إعطائه قبل أن يدخلوا فلسطين؟ الواقع أن المصالح تحكم كل شيء في تصرفات هذه الدول الاستعمارية، فإنجلترا كانت تسابق الزمن؛ لأن أموراً أخرى سوف تحدث على الساحة قريباً، وهي تريد شراء ود اليهود إلى أقصى درجة. أولاً: في هذا التوقيت رأت إنجلترا أن ألمانيا والنمسا بدأتا تتقربان من اليهود أثناء الحرب، وبالذات من يهود روسيا التي تشترك مع الحلفاء إنجلترا وفرنسا ضدهما، فسيخسر الإنجليز اليهود في وقت حرج. ثانياً: الوضع في روسيا حرج جداً جداً، فهناك جمعيات سرية كثيرة جداً انتشرت، والأفكار الشيوعية بدأت تظهر بوضوح، وإمكانية حدوث انقلاب شيوعي في روسيا واردة في أي لحظة، والإنجليز يعلمون أن اليهود وراء ذلك كله، فإذا قامت الثورة الشيوعية فإنها ستسمع وتطيع لليهود، وبذلك قد يأمر اليهود بانسحاب روسيا من الحرب العالمية الأولى، وبذلك تضعف الجبهة الشرقية للحلفاء. ثالثاً: إنجلترا تعلم أن لليهود تأثيراً خاصاً على الأمريكان، وقد بلغ هذا التأثير مداه لما دفع اليهود الأمريكان للاشتراك في الحرب بالعالمية الأولى إلى جانب الحلفاء، ولا بد من مكافأة سريعة؛ كي تستمر أمريكا في القتال. رابعاً: إنجلترا ستدخل في فلسطين بعد أيام، ولا بد أن تضمن ولاء اليهود داخل أرض فلسطين، فقد يظن اليهود أن الإنجليز نسوا وعودهم القديمة، وأنهم سيأخذون فلسطين لهم، فأراد بلفور أن يؤكد لليهود في صراحة: أننا ما زلنا على العهد، وما زلنا على اتفاقنا القديم، والإنجليز يحتاجون إلى اليهود داخل أرض فلسطين، فهم يسهلون لهم الاحتلال، سواء بالمعلومات والتجسس أو بالقتال معهم ضد المسلمين. تبقى مشكلة واضحة بسيطة أمام الإنجليز وهي أن إصدار هذا الوعد في هذا التوقيت قد يغضب العرب الذين يضربون في ظهر الخلافة العثمانية، لكن ما لبث الإنجليز أن طردوا هذا الهاجس من أذهانهم، فإن لهم رجلاً من العرب سيتحدثون باسمهم ويقنعون شعوب العرب أن إنجلترا الدولة الصديقة لا تفعل ذلك إلا لمصلحتنا ولمصلحة البشرية جمعاء، كيف ذلك؟ لا نفهم. وقد كان ما توقعه الإنجليز، وكان لهم رجال قاموا بكل ما طلبوا منهم دون اعتراض ولا استفسار، إذاً: هذه كارثة أولى حدثت في سنة 1917م وعد بلفور. الكارثة الثانية: هي ظهور شخصية مقيتة جداً في التاريخ الإسلامي، هذه الشخصية كانت معولاً أساسياً لهدم الخلافة العثمانية، تلك هي شخصية الضابط مصطفى كمال الملقب بـ أتاتورك أو أبو الأتراك، مصطفى كمال أتاتورك كان قائد الجيش العثماني في منطقة فلسطين، وكان عضواً في جمعية الاتحاد والترقي مشبعاً بكل الأفكار العلمانية التي زرعها ال

الأسباب التي حالت دون دفاع الفلسطينيين عن فلسطين

الأسباب التي حالت دون دفاع الفلسطينيين عن فلسطين لعل رجلاً يسأل نفسه أين كان الفلسطينيون آنذاك؟ فهمنا أن الجيش التركي انسحب بعد خيانة مصطفى كمال أتاتورك، وفهمنا أن الجيش العربي يضرب في الدولة العثمانية في الشام، وقد خرجت فلسطين من بؤرة اهتمامه، لكن أين أهل البلد من الفلسطينيين؟ الواقع أن أهل البلد كانوا أحد رجلين: إما عاجز، وإما مخدوع، والعجز جاء من كون فلسطين لا تملك جيشاً ولا تملك حاكماً قائداً، فالخلافة العثمانية كانت تهتم اهتماماً كبيراً بهذه المنطقة لكونها مقدسة، فكان فيها حامية عثمانية كبيرة، وقد لاحظنا أنها أفردت لها جيشاً خاصاً كبيراً في الحرب العالمية الأولى، وكانت دائماً تعين عليها حاكماً تركياً كبيراً. والحق يا إخوة! إني أرى أن هذا كان خطأً كبيراً من الخلافة العثمانية، إذ كان من الواجب أن يكون قوام الجيش الحامي لفلسطين من أهل فلسطين أنفسهم، وأن يكون الوالي عليها من أهلها إن أمكن؛ وذلك لأنه فضلاً عن كونهم يعرفون أرضهم أكثر من غيرهم، فإن الإنسان يكون في قلبه حب فطري للمكان الذي ولد فيه، وهو أسرع الناس للدفاع عنه، لكن الوضع في فلسطين كان مختلفاً، فأهل البلد لا يملكون سلاحاً، ولم يتدربوا عليه إن وجد، ولا يملكون فكراً عسكرياً ولا تخطيطاً استراتيجياً، وهو خطأ لا بد أن يعلم، ولكن المشكلة الأكبر في فلسطين لم تكن كون الشعب عاجزاً عن الدفاع عن نفسه، إنما المشكلة الحقيقة كانت في كون الشعب مخدوعاً بأفكار عجيبة وآراء غريبة كانت سبباً مباشراً في الاحتلال الإنجليزي لفلسطين، مؤامرة فكرية كبيرة كانت تخطط في فلسطين كما كانت تخطط في كل البلاد العربية والتركية. هذه الأفكار والآراء ببساطة شديدة هي القومية العربية، فكما كانت تنتشر في البلاد العربية فكرة القومية العربية، وفكرة الاستقلال عن الخلافة العثمانية، وفكرة التمسك بالآباء والأجداد دون الدين، كانت أيضاً هذه الأفكار تنتشر في فلسطين، وكانوا يحلمون بأن يقودهم الشريف حسين بدلاً من الخليفة العثماني. إنجلترا الشيطان الأوربي المحتل لعبت على هذا الوتر، فقد دخلت الجيوش البريطانية فلسطين موهمة أهل البلد أنها ما دخلت إلا لتحرر البلاد والعباد من بطش الأتراك الظالمين، ومن جيش الأتراك المحتل، ما دخلت إلا بدافع الشفقة عليهم والحرص على مصالحهم، ما دخلت إلا لتسلم فلسطين بعد ذلك إلى الشريف حسين لتصبح جزءاً من مملكة عربية موحدة. قالت لهم إنجلترا ذلك، فصدقوها وفتحوا لها الأبواب، ونسوا ما قاله وزير خارجية بريطانيا بلفور في وعده لليهود، ولم يمر عليه أكثر من أسبوعين، صدقوا إنجلترا وأفسحوا الطريق للمدرعات والجنود الإنجليز. ودخل اللنبي الجنرال الإنجليزي القدس وقال أول ما قال: الآن انتهت الحروب الصليبية. فالقضية في منتهى الوضوح عند الإنجليز. لا شك أن الشعب الفلسطيني كان يعاني من غفلة سياسية واضحة، ولا بد كي يُمكَّن الإنجليز أو اليهود أن يكون هناك أخطاء للمسلمين، فإنهم لا ينصرون علينا بقوتهم ولكن بضعفنا. أضرب مثلاً على هذه الغفلة: كونت في فلسطين في الأيام السابقة للاحتلال الانجليزي جمعية تضم كبار السياسيين في فلسطين من أهل فلسطين، حتى إنه كان فيها مفتي القدس الشيخ أمين الحسيني، وهو رجل اشتهر بالذكاء والحمية والإخلاص، لكنه خدع في البداية كما خدع الآخرون، كونت هذه الجمعية للتفكير في وضع فلسطين وشأنها، لكنها للأسف كونت على أساس قومي تماماً لا على أساس إسلامي، لدرجة أن اسمها كان الجمعية الإسلامية المسيحية. وكدليل على غفلة هذه الجمعية وقلة فقهها للأحداث، وقصر نظرها في رؤية المستقبل أصدرت هذه الجمعية بياناً بعد عام كامل من دخول الجيش الإنجليزي إلى فلسطين بمناسبة مرور عام على دخول إنجلترا فلسطين، أصدرت هذا البيان في 16/ 11/1918م قالت فيه: في مثل هذا اليوم السعيد من السنة الماضية دخل الجيش البريطاني المظفر مدينة يافا رافعاً ألوية النصر؛ لتحريرنا نحن العرب من ظلم الأتراك، وقد أقمنا هذه الحفلة لنقدم لجلالة الملك -طبعاً ملك بريطانيا- وسعادة الجنرال اللنبي وسائر أمراء وأفراد الجيش المظفر مزيداً من التبريك، راجين من الله دوام نصره وتوفيقه لدولة بريطانيا العظمى الناصرة للأمم الضعيفة المظلومة. سبحان الله! من الغريب جداً أن يكون هذا البيان صادراً عن مجموعة من العقلاء الذين يقتنعون بأن حل القضية بيد الإنجليز، مع أن الإنجليز هم السند الرئيسي لليهود في ذلك الوقت، خاصة وأن ذلك البيان صدر بعد وعد بلفور، وإن كان يستغرب ذلك فما أشبه اليوم بالبارحة!! فكثير من العقلاء أو كل الذين يظنون أنفسهم عقلاء يعتقدون أن حل قضية فلسطين في يد أمريكا، وأنها كدولة عظمى ناصرة للأمم الضعيفة المظلومة سوف تأخذ بيد العرب والفلسطينيين إلى تسوية عادلة شاملة ولو على حساب اليهود. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. المهم أنه في فلسطين أدت الغفلة إلى سهولة د

تهويد فلسطين

سلسلة فلسطين_تهويد فلسطين إن نيران العزة في النفوس قد تكبح، لكنها لا تنطفئ ما دام الإسلام هو المربي لها، فمهما أراد اليهود تهويد أرض فلسطين فإنها ستبقى إسلامية بوجود شعبها المسلم المناضل، صحيح أن التهويد جارٍ في فلسطين، لكن الجهاد مستمر إلى قيام الساعة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

انتهاء الحرب العالمية الأولى وتقسيم الدولة العثمانية إثر ذلك

انتهاء الحرب العالمية الأولى وتقسيم الدولة العثمانية إثر ذلك أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فخذه أخذ عزيز مقتدر، واجعل تدبيره تدميره، واجعل كيده في نحره؛ إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. أما بعد: فمع المحاضرة السادسة من المحاضرات المتعلقة بقضية فلسطين. وفي الحلقتين السابقتين تحدثنا عن بزوغ فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وكان الداعي لها هو تيودور هرتزل الزعيم الصهيوني المعروف، وتحدثنا عن جهوده في هذا المجال، بدءاً من (مؤتمر بال)، ومروراً بالمباحثات التي تمت بينه وبين كل من إنجلترا وألمانيا وروسيا، والخلافة العثمانية. وتعرضنا أيضاً لموقف السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله من مطامع اليهود، وكيف تصدى لها في ذكاء وإخلاص. ثم أشرنا إلى أن اليهود قرروا إقصاء السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله عن الحكم، وتقويض أركان الخلافة، وكيف حاولوا اغتياله، وفشلت هذه المحاولات. ثم كيف سلكوا سبيل التفريق بين المسلمين على أساس العنصر، وكيف ساهموا في إنشاء الجمعية العلمانية المعروفة بجمعية الاتحاد والترقي، ثم كيف أقصي بالفعل الخليفة الجبل عبد الحميد الثاني رحمه الله. وتحدثنا أيضاً عن ظهور فكرة القومية العربية بإيعاز من اليهود والإنجليز أيضاً، وكيف ظهر الشريف حسين ينادي بمملكة للعرب، وذكرنا دخول الحرب العالمية الأولى وآثارها على المسلمين، وبالذات على فلسطين، وفصلنا في المعاهدة المشئومة معاهدة الشريف الحسين مع مكماهون الإنجليزي، وفيها يضرب الشريف حسين الخلافة العثمانية في ظهرها في مقابل وعد من إنجلترا بإقامة مملكة عربية يكون هو على رأسها. ثم ذكرنا ما فعلته إنجلترا في معاهدة (سايكس بيكو)، وكيف خانت عهودها كالمعتاد، وفصلنا بعد ذلك في الكوارث التي حلت على المسلمين في سنة 1917م، وعددنا منها أربعاً: أولاً: وعد بلفور. ثانياً: ظهور شخصية مصطفى كمال أتاتورك كقائد خائن لجيش العثمانيين في فلسطين. ثالثاً: احتلال الإنجليز لفلسطين، وغفلة أهلها عن نوايا الإنجليز. رابعاً: الثورة الشيوعية في روسيا، بما لها من آثار مدمرة. واليوم نستكمل معاً التنقيب عن الأسباب التي أدت إلى تمكين شعب خسيس مهين -كشعب اليهود- من أرض طاهرة مقدسة -كأرض فلسطين- ونستكمل معاً التقليب في صفحات التاريخ، نستخرج من بينها أنواراً تضيء لنا طريق المستقبل، فليس في الدنيا أحداث جديدة، ما حدث منذ زمن آدم وإبليس إلى ما يحدث إلى يوم القيامة واحد لا يختلف، وثابت لا يتغير، فقط تختلف الأسماء والأماكن، لكن صلب الأحداث واحد. ذلك أن لله سنناً لا تتغير ولا تتبدل، و {لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]. اليوم نبدأ في الحديث من حيث انتهينا في المرة السابقة، فقد انتهت سنة 1917م، وقد حدثت فيها مصائب كثيرة كما نوهنا، وجاءت السنة التالية 1918م، وانتهت الحرب العالمية الأولى، وبدأت الأمور تتضح في المنطقة. إنجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا انتصروا على ألمانيا والخلافة العثمانية، وبدءوا جميعاً يقتسمون -كما قالوا: تركة الرجل المريض- تركة الخلافة العثمانية، وبدأ الإنجليز والفرنسيون في تطبيق معاهدة (سايكس بيكو)، وتقسيم المملكة العربية التي وعدوا بها الشريف حسين، فأخذت إنجلترا الأردن والعراق، وأخذت فرنسا سوريا ولبنان. كما طلبت إنجلترا من فرنسا إلغاء البند الخاص بفلسطين، حيث كان من المقرر أن تكون تحت حماية دولية مشتركة باستشارة روسيا، وأن تجعل فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي فقط في مقابل أن تطلق إنجلترا يد فرنسا في الجزائر وتونس، ووافق الفرنسيون على ذلك، وأصبحت فلسطين محتلة رسمياً من الإنجليز، ولكي يستقر الوضع في فلسطين أعلنت إنجلترا أنها لا تحتل البلاد، ولكن فقط تجعل عليها انتداباً وإشرافاً إلى أجل، وهذا الأجل جعلته ثلاثين عاماً، فينتهي الانتداب الإنجليزي على فلسطين في الرابع عشر من مايو سنة 1948م. ولكي تسهل إنجلترا مهمتها في تسليم فلسطين لليهود لم تجعل على فلسطين حاكماً منها كما كان معتاداً في مثل هذه الظروف، فإنجلترا كانت تحتل مصر مثلاً، وكان هناك خديوي أو ملك في الواجهة، وكذلك في غيرها من

صناعة الزعيم مصطفى كمال أتاتورك وإسقاط دولة الخلافة

صناعة الزعيم مصطفى كمال أتاتورك وإسقاط دولة الخلافة بريطانيا لا تهدأ أبداً، دسائس ومؤامرات على كل المستويات، توجهت إلى تركيا الجريحة ترسم خطوات النهاية، وصناعة الزعيم مصطفى كمال أتاتورك الذي تريد له أن يصعد على كرسي الحكم، وماذا يفعل بالخليفة؟ ومن هو مصطفى كمال أتاتورك حتى يستبدلوا الخليفة به؟ صناعة الزعيم تبدأ! إنجلترا تدبر معركة بين تركيا واليونان، وتدخل هي في صف اليونان، ويأتي مصطفى كمال أتاتورك ويحارب اليونان، ويحارب معها إنجلترا الدولة المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، فينسحب الإنجليز أمام مصطفى كمال أتاتورك، ويهرب اليونانيون، وينتصر البطل المقدام مصطفى كمال أتاتورك في معركة هائلة كما صوروها. لكن -سبحان الله! - التاريخ يسجل هذه المعركة الهائلة لم يقتل فيها رجل واحد من الطرفين، التمثيلية لم تكن محبوكة، لكن أخبار الانتصار تنتشر في العالم بأسره، الصحافة اليهودية والإنجليزية تنشر أخبار الهزيمة الإنجليزية المرة، وأخبار البطل الجديد الذي أعاد لتركيا كرامتها، صور البطل في كل مكان، لقاءات مع كبار الساسة في العالم، ولا ينسون أن يلتقي بكبار رجال الدين الإسلامي؛ ويبدي في براعة حبه للإسلام وللمسلمين، ويضطر البطل أن يدخل المساجد ليظهر في الصورة وهو يصلي في خشوع، كما اضطر قبل ذلك تيودور هرتزل أن يدخل المعبد اليهودي تمثيلاً وتصنعاً، ويفتن به المسلمون، ويتمنون أن لو يتنازل فيتولى قيادتهم، حتى أن أحمد شوقي أمير الشعراء ظن فيه خيراً، وشبهه بـ خالد بن الوليد رضي الله عنه حيث قال: الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدد خالد العرب ثم دبرت مؤامرة أخرى: مؤتمر في الغرب، وثورات ومظاهرات وادعاءات وافتراءات، المهم صعد في النهاية البطل المغوار، حامي الإسلام والمسلمين، وهازم الإنجليز واليونانيين إلى كرسي الحكم. وأقصي السلطان عبد المجيد بن عبد العزيز السلطان العثماني في ذلك الوقت، وكان ذلك في سنة 1924م في 3 مارس، وأعلن مصطفى كمال أتاتورك استقلال تركيا، واعترفت به مباشرة إنجلترا، وتحسنت علاقاتها جداً مع الدولة التي كانت تحاربها منذ شهور معدودات، واستلم مصطفى كمال أتاتورك الحكم، وفعل ما لم يكن يستطيع الإنجليز أن يفعلوه في سنوات عديدة، انظروا ماذا فعل مصطفى كمال أتاتورك مؤيداً بحزبه العلماني الاتحاد والترقي؟! ألغى الخلافة الإسلامية، وهي أول مرة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلغى الخلافة الإسلامية، نعم. ضعفت الخلافة الإسلامية قبل ذلك كثيراً، لكنها بقيت رمزاً يلتف حوله المسلمون ليقوموا من جديد، أما الآن فقد ألغى الخلافة الإسلامية تماماً، وفصل تركيا بالكامل عن الدول الإسلامية الأخرى، وفصل الدين بالكلية عن الدولة، وحرم لبس الحجاب الإسلامي، وفرض الأزياء الأوروبية، وألغى لعدة سنوات الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى، ومنع المسلمين من أداء فريضة الحج، وأغلق عدداً كبيراً من المساجد، وحول مسجد أيا صوفيا إلى كنيسة، ثم إلى مخزن بعد ذلك، ومنع تعدد الزوجات، وأباح زواج المسلمة بغير المسلم، وألغى عطلة الجمعة وجعلها الأحد، ومنع الأذان للصلاة باللغة العربية، وأصر على أن يكون الأذان باللغة التركية، وألغى الحروف العربية من الكتابة، واستبدلها باللاتينية، وألغى من الدستور التركي المادة التي تنص على أن دين الدولة الإسلام، ونص في الدستور على أن تركيا دولة علمانية، وألغى الشريعة الإسلامية تماماً، واستبدلها بالقانون الإيطالي والسويسري، وألغى منصب شيخ الإسلام، وأجبر أئمة الدين على ارتداء القبعة بدلاً من العمامة، وألغى التقويم الهجري، وأباح الردة عن الإسلام، وساوى بين الذكر والأنثى في الميراث، وأعدم أكثر من مائة وخمسين من علماء المسلمين، وألغى من اسمه كلمة: (مصطفى)، واكتفى بـ (كمال أتاتورك)، وأوصى في وصيته قبل موته ألا يصلى عليه. ولما مات احتار مقربوه هل يصلون عليه أم لا في ظل علمانية الدولة وفي ظل وصيته؟ وفي النهاية صلى عليه أحدهم منفرداً، وذهبوا به إلى قبره ليجد أعماله في انتظاره، ويا له من لقاء! وهكذا سقطت الخلافة العثمانية، وقامت الدول العلمانية، وضاعت هيبة الدين، وتُركت فلسطين لمصيرها لا يدافع عنها إلا قومها، أما من حولها من الزعماء فلم يتركوها فقط، بل ساهموا في تضييعها إسهاماً. هذه الزعامات -التي سادت آنذاك وكانت وبالاً على الأمة- صدق فيهم قول الشاعر -يتحدث عن الأمة الإسلامية وزعمائها فيقول-: عجيب أمرها حقاً إذ الدنيا بها تشقى وما زالت لهاوية بكل غبائها ترقى وساستها أرى القطرا ن من نياتهم أنقى ضلالات تراودهم وقد هاموا بها عشقا وصاروا طوع قبضتها عبيداً أدمنوا الرقا قلوباً لا تعي شيئاً وأرشد من بهم حمقا وبات الخرق متسعاً وما اسطاعوا له رتقا وتحسبهم على علم وهم في جهلهم حمقى وفي

ملخص للمراحل التمهيدية التي سبقت قيام دولة يهود

ملخص للمراحل التمهيدية التي سبقت قيام دولة يهود إذاً: باختصار نراجع ونرتب ما سبق من أحداث تمهيداً لقيام دولة إسرائيل في فلسطين. الأمر مر بعدة مراحل: المرحلة الأولى -أسميها-: مرحلة الفكرة والخطة، وهي التي سعى فيها تيودور هرتزل إلى تحقيق فكرته، وعقد لأجلها فيها مؤتمر بال، واستقروا على اختيار فلسطين وطناً لليهود، واتفقوا على ثلاثة أشياء رئيسية: أولاً: التشجيع على الهجرة بالدين والإعلام والمال. ثانياً: تنظيم اليهود في العالم عن طريق المؤتمرات والجمعيات السرية واللغة العبرية. ثالثاً: السعي إلى اعتراف دولي، وذهبوا إلى إنجلترا وألمانيا وروسيا والخلافة العثمانية، ووجدوا تجاوباً من إنجلترا، وإعراضاً من كل من الخلافة العثمانية وروسيا. المرحلة الثانية -أسميها-: مرحلة التأسيس، وفيها برز دور إنجلترا المهم في مساعدة اليهود، وقام فيها اليهود أيضاً بمجهود وفير، وكانت الغاية في هذه المرحلة: أولاً: إسقاط السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، وصناعة زعيم عميل لليهود والإنجليز هو مصطفى كمال أتاتورك. ثانياً: احتلال إنجلترا لفلسطين ووعد بلفور. ثالثاً: تقوية فكرة القومية العربية، والقومية التركية، وفصل الشعوب الإسلامية عن بعضها البعض. رابعاً: احتلال الجزء الأكبر من الخلافة العثمانية عن طريق إنجلترا وفرنسا وإيطاليا؛ حتى يشغل كل قطر بمصائبه، وبالتالي تخرج فلسطين من بؤرة اهتمام المسلمين. خامساً: إسقاط الخلافة العثمانية المانع الرئيسي لقيام دولة يهودية في فلسطين. ساساً: إسقاط الحكم القيصري في روسيا، وقيام الحكم الشيوعي الموالي لليهود. نتيجة هذه الأمور: أصبحت فلسطين محتلة بإنجلترا صديقة اليهود، والدول الإسلامية المحيطة -بما فيها تركيا- لا تفكر بفلسطين، وخلا الطريق لليهود.

مرحلة التهويد

مرحلة التهويد يبدأ الآن بعد الاحتلال الإنجليزي لفلسطين مرحلة جديدة أسميها: مرحلة التهويد. هذه المرحلة تبدأ من سنة 1918م، وتنتهي في سنة 1948م عند إعلان دولة إسرائيل، يعني: حوالي ثلاثين سنة، مرحلة خطيرة تدخلها فلسطين في هذه الفترة. الجنرال اللنبي الحاكم البريطاني على فلسطين يستدعي رجلاً من بريطانيا؛ ليساعده في إدارة أمور فلسطين، فمن يستدعي؟ يستدعي رجلاً هو هربرت صموئيل، أول وزير يهودي في الحكومة الإنجليزية؛ ليضعا سوياً القوانين المناسبة في فلسطين، بمعنى آخر: أن اليهود قد جلسوا مع الإنجليز أمام الستار وليس خلف الستار؛ لوضع خطة تحويل فلسطين المسلمة إلى إسرائيل اليهودية، فماذا فعلوا؟ الحقيقة وضعوا قوانين كثيرة ونظماً عدة، وأنا لا أريد أن أخوض في كثرة التفريعات؛ فآثرت أن أضم هذه المخططات اليهودية الإنجليزية في أربعة محاور رئيسية تشمل معظم أركان المخطط البشع:

الهجرة اليهودية المبرمجة والانتقائية إلى فلسطين

الهجرة اليهودية المبرمجة والانتقائية إلى فلسطين المحور الأولى: الهجرة اليهودية إلى فلسطين. والحقيقة يا إخوان! أن ما فعله اليهود بتهجير شعب من أماكن متفرقة في العالم إلى مكان معين لاستعماره، وإخراج أهله منه أو قتلهم؛ يعد جريمة عظمى لم تتكرر في التاريخ إلا في حوادث معدودة، على سبيل المثال: حدثت من قبل في الأندلس، لما طرد وذبح المسلمون على يد الصليبيين الأسبان، وتحولت بذلك الأندلس من مملكة إسلامية إلى دولتين صليبيتين: أسبانيا والبرتغال، وقد أشرنا إلى ذلك في بدء المحاضرات. حدث ذلك أيضاً في أمريكا: لما طرد الأمريكان الهنود الحمر، وذبحوا منهم عشرين مليوناً، حتى تصبح أمريكا دولة متحضرة على حساب الهنود الحمر. وحدث ذلك أيضاً في أستراليا، لما فعل الإنجليز نفس الشيء مع سكان البلد الأصليين، كما فعل الأمريكان مع الهنود الحمر، جريمة كبرى، وأخلاق منحدرة، وإنسانية منعدمة. أريد أن ألفت النظر إلى بعض الحقائق الهامة الخاصة بقضية تهجير اليهود إلى فلسطين: أولاً: مجموعة من الأرقام: عدد اليهود في فلسطين في زمن الخليفة عبد الحميد الثاني رحمه الله -ذكرناه في المحاضرة الرابعة- 4500 يهودي، كان ذلك حتى عام 1909م عند عزل الخليفة عبد الحميد الثاني. في الفترة التي تولى فيها حزب الاتحاد والترقي الحكم الفعلي -وإن كانت الصورة صورة خليفة رمزي- من سنة 1909م إلى سنة 1917م عند دخول الإنجليز إلى فلسطين وصل تعداد اليهود في فلسطين إلى (50000) يهودي، تخيلوا! تضاعفوا عشر مرات، من أقل من خمسة إلى خمسين. ومن هنا نعرف قيمة الخليفة، وقيمة الخلافة، لكن لما تكون كل دولة قومية منفصلة؛ فهذه هي النتائج، هذا العدد الخمسون ألف يهودي كانوا يمثلون 8% فقط من عدد السكان في أواخر سنة 1917م يعني: مع كل هذه الزيادة من (4500) إلى (50000) كانوا يمثلون 8% من سكان فلسطين في سنة 1917م، عندما أعطى بلفور وعده كما ذكرنا من قبل. في هذه المرحلة الجديدة مرحلة التهويد من سنة 1918م إلى سنة 1948م في غضون هذه الثلاثين سنة وصل تعداد اليهود في أوائل سنة 1948م إلى (600000) يهودي، وهو رقم رهيب في بلد صغير كفلسطين، أي: يمثلون نسبة 32% من سكان فلسطين. ففي كل سنة كانوا يهجرون أفراداً من اليهود، مثلاً: في سنة 1920م هجروا (8000) يهودي، وفي سنة 1924م سنة سقوط الخلافة هجروا (13000) يهودي، وفي 1925م بعد أن أعلنوا سقوط الخلافة رسمياً هجَّروا (34000) يهودي، وهكذا إلى سنة 1948م، وبعد سنة 1948م إلى يومنا هذا ما زالوا مستمرين في نفس السياسة الإحلالية لشعب فلسطين. ثانياً: نوعية المهجرين: معظم المهاجرين من اليهود كانوا من الشبان الذين ينضمون إلى معسكرات التدريب في بولونيا أو إيطاليا أو النمسا، أو دول أوروبا الشرقية، أي: أن طليعة المهاجرين كانت عبارة عن جيش مدرب. كان اليهود يرفضون هجرة المعاقين، أو من يحتاجون إلى إعانة اجتماعية، فاليهود لم يكن لهم اهتمام بيهود العالم إلا أولئك الذين يريدون الذهاب إلى فلسطين. يقول (بن غوريون): لو عرض عليَّ إنقاذ كل أطفال ألمانيا من اليهود إلى إنجلترا أو إنقاذ نصفهم إلى فلسطين لاخترت الحل الثاني، هكذا يقول. حتى نعرف طبيعة اليهود. بل كان اليهود يشجعون على الهجرة بأبشع الطرق المتخيلة وغير المتخيلة، فكانوا يتعاونون مع هتلر الزعيم النازي الدموي المشهور، أشد الناس كراهية لليهود، كيف كانوا يتعاونون معه؟ اسمع ولا تتعجب فهم يهود! كانوا يكشفون له عن أماكن اليهود في ألمانيا وفرنسا وبولندا؛ ليقتلهم في نظير ترحيل الشخصيات اليهودية المرموقة إلى فلسطين، مع العلم أن الراغبين في الذهاب إلى فلسطين كانوا أقل من 5% في ألمانيا وفرنسا وبولندا؛ ولذلك قتل عدداً ضخماً من اليهود هناك، سبحان الله! {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]. خلاصة هذا الانتقاء في التهجير أنه جاء إلى فلسطين مجموعات خاصة من اليهود؛ لتضع الأساس الأول للكيان الصهيوني البغيض، وتأسست بذلك مجموعة من العصابات العسكرية المشهورة: (عصابة الهاجانا): وهي العصابة الرئيسة، بلغ عدد أفرادها في سنة 1948م اثنين وستين ألف جندي، وأصبحت بعد ذلك نواة لجيش الدفاع الإسرائيلي. (عصابة أرغن) ستة آلاف مسلح. (عصابة شترن) ثلاثمائة مسلح. ثالثاً: موقف إنجلترا من المهاجرين اليهود: الإمداد بالسلاح الحديث بصورة مستمرة، التدريب في معسكرات الإنجليز، الإيواء في المستوطنات التي تبنى على أرض فلسطين، إهداء قطع من أرض فلسطين لهم لإقامة المشاريع، الدفاع عنهم والوقوف بجانبهم إذا هجم عليهم الإرهابيون -طبعاً يقصدون الفلسطينيين، أطلقوا على من يدافعون عن بلادهم: إرهابيون- هذا كان موقف إنجلترا من الهجرة اليهودية؛ هذا هو وضع إنجلترا في تاريخ فلسطين. أذكر أنني كنت أحدث صديقاً في مقاطعة المنتجات اليهودية والأمريكية مساعدة للانتفاضة الفلسطينية، وذكرت له شركة من الشركات الغربية الضخمة، وقلت له: لعل هذا يهودي، ف

بذل شتى الوسائل لامتلاك الأراضي الفلسطينية

بذل شتى الوسائل لامتلاك الأراضي الفلسطينية المحور المهم في عملية التهويد: هو الأرض، وأنا هنا أريد منكم التركيز بشدة؛ لأنني سأذكر أرقاماً في غاية الأهمية، وترد على شبهات في غاية الخطورة: اليهود حرصوا من بداية الأمر على امتلاك أرض في فلسطين، وكان تيودور هرتزل كما ذكرنا يريد أن يدفع أموالاً طائلة للخليفة عبد الحميد الثاني رحمه الله نظير قطعة صغيرة من الأرض. إذاً: امتلاك الأرض كان هدفاً يهودياً هاماً لتهويد الأرض الفلسطينية، لنسمع هذه الأرقام: في عهد الخليفة والخلافة كان اليهود عددهم (4500) يهودي، وكانوا لا يملكون شيئاً في فلسطين؛ وذلك لأنه لم يكن مسموحاً لهم بالتملك هناك. بعد سقوط الخليفة عبد الحميد الثاني رحمه الله في سنة 1909م إلى سنة 1917م، وفي ظل حكومة الاتحاد والترقي، وعن طريق الرشوة للحكام العلمانيين تملك اليهود 2% من مساحة أرض فلسطين، ومساحة فلسطين كاملة: (26. 000) كيلو متر مربع، يعني: أن مساحتها أقل من مساحة سيناء، انظر إلى هذه الأرقام. من سنة 1918م إلى سنة 1948م في ثلاثين سنة كم النسبة المئوية للأرض التي امتلكها اليهود. في هذه الثلاثين سنة زادوا في العدد من 8% إلى 32%، واسمعوا إلى هذه الحقيقة الغريبة: مع هذه الزيادة الضخمة في أعداد اليهود، إلا أن ممتلكاتهم من الأرض لم تصل إلا إلى 5. 7% فقط من أرض فلسطين، يعني: في ثلاثين سنة لم يقدروا على ضم شيء إلى أملاكهم إلا 3. 7% في المائة فقط من أرض فلسطين؛ لأنه كان هناك 2% منها مملوكة عن طريق حزب الاتحاد والترقي كما ذكرنا قبل دخول الإنجليز. وعند تحليل هذه النسبة 3. 7% التي امتلكها اليهود في ثلاثين سنة تجد الآتي: 1. 2% إهداء من حكومة الانتداب البريطاني بدون ثمن. 1. 5% بيع من عائلات نصرانية لبنانية وسورية، مثل عائلات سرسك، والمطران، وتيان، هذه العائلات كانت تمتلك أرضاً في فلسطين على سبيل الاستثمار، فلما رأت أن الدائرة تدور على الأرض الفلسطينية، وأن اليهود والإنجليز يتسلحون ويتمكنون، وأن ما لم تبعه اليوم سيؤخذ منك عنوة في الغد، باعوا أرضهم، ورجعوا إلى بلادهم. يتبقى 1% فقط من الأرض، وهو الذي باعه الفلسطينيون أصحاب البلد، ولا شك أن من الخطأ أن يبيع الفلسطينيون أرضهم، واعتبر فقهاء فلسطين ذلك خيانة، وصدرت فتاوى كثيرة بتحريم بيع الأرض لليهود، ابتداء بفتوى سنة 1922م للحاج أمين الحسيني مفتي القدس، ومروراً بعدد كبير من الفتاوى في السنوات التالية. ومن هذا الشعب الذي ليس فيه خائنون؟ من هذا الشعب الذي ليس فيه مفرطون وأصحاب مصالح؟ ومع ذلك كانوا قليلين جداً في فلسطين، 1% فقط من الأرض بيعت على غير رغبة العموم، ومع ذلك انتشرت بين العالمين -بما فيهم المسلمين- فرية عظيمة وشبهة منكرة تقول: لقد باع الفلسطينيون أرضهم لليهود، وكان لهذه الفرية كان ترويج صهيوني وعربي. أما الصهاينة فقد روجوا لها حتى يثبتوا أنهم اشتروا الأرض فهي حقهم، ومن أخذ هذا الحق منهم فهو ظالم أو معتد أو إرهابي، وليس مستغرباً أن يشيع اليهود هذه الفرية، ولكن لماذا روج العرب لهذه الفرية سواء عن قصد أو عن جهل؟ لماذا أعجبت الناس حتى رددوها جميعاً في مجالسهم فلا تسأل أحداً إلا ووجدته يعلم عن يقين أنهم باعوا أرضهم؟ ذلك لأمر واضح، وهو إسكات الضمير، وتسكين النفس، وإراحة البال، وتطمين القلب، وتهدئة الجوارح، وتفريغ الوقت والجهد والمال والعرق في مشاكل أخرى كثيرة تملأ على الناس حياتهم. نعم يا إخوة! نحن نضحك على أنفسنا لأجل أن نستريح، العمل لفلسطين يحتاج إلى مجهود وطاقة وعمل، فالأيسر علي أن أقول: إنهم باعوا أرضهم بأنفسهم؛ فيستحقون ما يحل بهم. لكن الحق أن 1% فقط من الأرض هو الذي باعه الفلسطينيون، وذكرنا تحليل ذلك على لسان أهل فلسطين. ولو فرضنا أنهم باعوا أكثر من ذلك فهل يبيح ذلك ترك البلاد؟ وهل يملك الفلسطينيون حق حكم الله للأرض حتى يبيعوه؟ حتى لو باعوا أكثر من ذلك على المسلمين أن يحرروا هذه الأرض، فيقروا اليهود على ما أخذوه بيعاً وشراء ما داموا معاهدين دافعين للجزية، ويأخذون عنوة ما أخذه اليهود عنوة، ويحكمون البلاد بشرع الله بدلاً من شرع اليهود المحرف، حكم الله، ومن أحسن من الله حكماً؟ لا أحد، كلام الله، ومن أصدق من الله حديثاً؟ لا أحد. إذاً: تحدثنا عن محورين أساسيين في قضية تهويد فلسطين وهما: المحور الأول: الاهتمام بالتهجير. المحور الثاني: الاهتمام بشراء الأرض، وإن كانوا لم يفلحوا كثيراً في هذا المجال.

السيطرة على الاقتصاد في فلسطين

السيطرة على الاقتصاد في فلسطين أما المحور الثالث في الخطة اليهودية الإنجليزية فهو: السيطرة على الاقتصاد في فلسطين. طبعاً الأموال اليهودية لا حصر لها كما هو معلوم، فحدث استقطاب عالمي لرءوس الأموال اليهودية؛ لتأتي وتقيم المشاريع في فلسطين، وهذه المشاريع الاقتصادية أجنبية، وإعطاء تسهيلات لإنعاش الاقتصاد -كما يقولون- كانت أحد الأسباب المباشرة لتمكين اليهود من احتلال فلسطين، فلنحذر أن يتكرر ذلك في قطر آخر، فقد حدث هذا النوع من الاحتلال الاقتصادي في فلسطين، بالإضافة إلى الاحتلال العسكري. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم خطورة هذا الاحتلال الاقتصادي؛ لأجل هذا عندما دخل المدينة المنورة وآخى بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، وعلم أنه قد أصبحت له دولة، بدأ يؤمن وضع الدولة الاقتصادي، سبحان الله! دين متكامل شامل: اقتصاد سياسة اجتماع جهاد صلاة رياضة سياحة قضاء، كل نواحي الحياة وفروعها. دين عجيب: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، دين محكم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، دين قيم عظيم، نعتز ونفتخر ونسعد بالانتماء إليه. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل أيامه في المدينة يسعى إلى تأمين الوضع الاقتصادي، أمن الماء أولاً، فأمر بشراء بئر رومة، وكان يملكه يهودي. واضح أن الصراع قديم جداً مع اليهود. ثانياً: أمر ببناء سوق خاص بالمسلمين؛ حتى يستغني به عن أسواق اليهود، فقد كان اليهود يسيطرون على تجارة المدينة من خلال سوق بني قينقاع، فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أمر بالبحث عن مكان لسوق المسلمين، وجرت أكثر من محاولة للبحث، ولم يصلوا إلى مكان مناسب إلا بعد جهد جهيد، روى الطبراني وابن ماجه عن أبي أسيد رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي! إني قد رأيت موضعاً للسوق، أفلا تنظر إليه؟ قال: بلى! فقام معه حتى جاء موضع السوق، فلما رآه أعجبه وركضه برجله ثم قال: نعم، هذا سوقكم، فلا ينتقصن، ولا يضربن عليه خراج)، وشجع المسلمين على التجارة فظهر التجار، وشجع على الزراعة فظهر الزراع، وشجع على الصناعة فظهر الصناع، وشجع الناس جميعاً على العمل مهما كان العمل بسيطاً ما دام شريفاً، روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه). وبذلك تحولت المدينة المنورة إلى خلية نحل، الكل يعمل لتقوية الاقتصاد الإسلامي، ولتحريره من سيطرة اليهود في المدينة، وهم في ذلك كله يبتغون وجه الله تعالى. سبحان الله! ما أسعدهم. أما الوضع في فلسطين فهو مختلف تماماً، اليهود سيطروا على معظم الاقتصاد في فلسطين، ولم تكن إنجلترا سلبية، بل ساعدت اليهود بسن قوانين تمكن لهم ذلك، من هذه القوانين: أولاً: رفع الضرائب والجمارك على المنتجات المستوردة شبيهة المنتجات اليهودية؛ حتى تسوق المنتجات اليهودية. ثانياً: تخفيض الضرائب جداً على المواد الخام المستوردة التي يحتاجها اليهود في صناعتهم. ثالثاً: تسليم اليهود المشاريع الضخمة المؤثرة -والمفروض أن هذه المشاريع تكون ملكاً للدولة- مثل شركات الكهرباء، واستغلال أملاح ومعادن البحر الميت. أضرب لذلك مثالاً سريعاً يوضح وضع مدينة القدس الاقتصادي؛ حتى نتخيل السيطرة اليهودية على فلسطين: القدس كان فيها تسعة عشر مصرفاً، لليهود من هذه المصارف أربعة عشر مصرفاً. القدس كان فيها اثنان وأربعون شركة لبيع أدوات البناء، لليهود منها ثلاثون شركة. القدس كان فيها اثنان وستون شركة لشراء الأرض، اليهود لهم في هذه الشركات ستون شركة. القدس كان فيها ست شركات آلات زراعية، لليهود خمس منها. القدس كان فيها خمس وخمسون شركة للمقاولات الهندسية، لليهود منها أربعة وخمسون. القدس كان فيها خمس وستون شركة طباعة، كلها لليهود. ست عشرة شركة أدوية وأملاح ومعادن كلها لليهود. طبعاً الوضع الاقتصادي المتردي للفلسطينيين والمتفوق لليهود كان من الدعامات الأساسية لتمكين اليهود من الاحتلال لفلسطين. إذاً: تحدثنا إلى الآن عن ثلاثة محاور رئيسية استخدمها اليهود للسيطرة على فلسطين وتهويدها: محور التهجير، ومحور الأرض، ومحور السيطرة على الاقتصاد في فلسطين.

سيطرة اليهود على التعليم والإعلام في فلسطين

سيطرة اليهود على التعليم والإعلام في فلسطين بقي لنا المحور الرابع والخطير جداً، ألا وهو: التعليم والإعلام، وهما من أنجح الوسائل لتربية شعب أو لهدمه، فالتعليم والإعلام هما السلاحان الرئيسان للمؤامرة الفكرية، والتي ذكرنا خطورتها في أول محاضرة في هذه المجموعة. فاليهود لم يكونوا يسيطرون على الإعلام في فلسطين فقط، بل كانوا يسيطرون على الإعلام في العالم، وكم من المرات يستخدمونه لإثبات حقوق باطلة، ولإلغاء حقوق صحيحة، وأنا سأتحدث عن إعلام اليهود في محاضرة لاحقة إن شاء الله في نفس المجموعة، لكن أود هنا أن أشير بسرعة إلى بعض النقاط في قضية التعليم اليهودي في فلسطين: أولاً: الاهتمام بالتعليم كان مبكراً جداً، لدرجة أنه في سنة 1921م -يعني: بعد أقل من أربع سنوات من دخول الإنجليز إلى فلسطين- جاء ونستون تشرشل بنفسه -وكان آنذاك وزير المستعمرات البريطاني- من إنجلترا ليضع حجر الأساس للجامعة العبرية فوق جبل الزيتون. ثانياً: أنشأ اليهود دائرة تعليم خاصة بهم دون الفلسطينيين يكون التدريس فيها بالعبرية، فمن أيام تيودور هرتزل واليهود يحرصون على تعليم الناس العبرية كلغة أولى وأساسية، ليس فقط لتجميع الناس حول لغة واحدة، ولكن أيضاً لإدخال الاعتزاز بهذه اللغة وهذا الدين وهذه الأرض التي تتكلم بلغة موحدة. فإن قيل: يا يهود! يمكن أن تكون لغة الطفل الإنجليزية ليست جيدة. يقولون: ليس بمهم، المهم العبرية. وإن قيل: يا يهود! هذا الولد قد لا يقدر أن يسافر للخارج لبعثة أو خلافه، يقولون: ليس بمهم، سيتعلم ذلك عندما يسافر. وإن قيل: يا يهود! هذا الولد قد لا يجد عملاً عندما يكبر، وكل الفرص موجودة للذي يعرف كيف يتحدث الإنجليزية. يقولون: ليس بمهم، خوفاً من أن يضعف الولد في العبرية أو يحب اللغة الإنجليزية أكثر من العبرية، أو لا يعرف كيف يقرأ التوراة. لن أزيد في التكلم عن هذا واللبيب بالإشارة يفهم. ثالثاً: اليهود في مدارسهم بدءوا يزرعون في قلوب أبنائهم الكراهية للفلسطينيين، ويثبتون في عقيدتهم أن الفلسطينيين معتدون إرهابيون، يريدون أن يخرجوكم من أرضكم بإرهابهم، فماذا تأمرون؟ يذكر لي أحد الإخوة من فلسطين أن اليهود كانوا يوزعون على الأطفال في المدارس شوكولاتة مرة جداً، ويقولون لهم: هذه جاءتكم من جاركم الفلسطيني، فيأكلها الأطفال فيجدونها مرة، فيعلمون أنه لا يأتيهم من أهل فلسطين إلا المرارة، مع أن بعض البلاد الإسلامية حذفت من مناهجها للأطفال الآيات والأحاديث التي تحض على قتال اليهود، وحذفت الغزوات النبوية ضد اليهود؛ حتى ترسخ في اليهود أنهم أصدقاء، وأبى الله ذلك والمؤمنون: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]. المهم أن هذه هي المحاور الأربعة الرئيسية التي استخدمها اليهود كي يقوموا بتهويد فلسطين، من سنة 1918م إلى سنة 1948م.

موقف الفلسطينيين في أرض فلسطين من عملية التهويد

موقف الفلسطينيين في أرض فلسطين من عملية التهويد سؤال في غاية الأهمية: ما هو موقف الفلسطينيين في أرض فلسطين من عملية التهويد البشعة التي قام بها اليهود بمساعدة إنجلترا؟ كما ذكرنا أنه في بادئ الأمر في أول سنة أو سنتين كانت هناك غفلة كبيرة جداً في الشعب، ولعلكم تذكرون البيان المضحك الذي ألقته الجمعية الإسلامية المسيحية بمناسبة مرور عام على احتلال فلسطين، لكن ما لبثت بحمد الله أن أدركت طائفة كبيرة من الشعب أن القوة هي الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وأن الإنجليز ما هم إلا أصحاب مصالح، وأن اليهود إن تركوا بلا رادع فسيأكلون الأرض ومن عليها، وأن النصر لا يستورد من خارج البلاد، وأن البلاد المحيطة بهم في سبات عميق، وأن الحق لا بد له من قوة تحميه، وأن الله ينصر من ينصره، ويخذل من يبعد عنه ويناوئه، لما أدركوا هذه الحقائق الواضحة كالشمس في كبد السماء؛ قاموا ولم يقعدوا، وبدأت الثورات في كل أرض فلسطين، وظهرت أمثلة عظيمة من الرجال.

الثورات الفلسطينية التي قادها مفتي القدس الحسيني

الثورات الفلسطينية التي قادها مفتي القدس الحسيني كانت الثورات تحدث بصورة منتظمة، سنة 1919م وسنة 1920م وسنة 1921م، وثورة البراق المشهورة سنة 1929م وقاد هذه الثورات الشيخ أمين الحسيني مفتي القدس، والذي غير كلية من أفكاره القومية بعد أن رأى واقع الإنجليز واليهود، وما حدث للخلافة في تركيا، وبعد ظهور أوراق المؤامرة للجميع، وأصبح الرجل - أمين الحسيني - من رموز فلسطين الثائرة. وهو الذي ظل ينظم المسيرات، ويعقد المؤتمرات خارج وداخل فلسطين، ولكن مع كل هذا النشاط إلا أن طابع الثورات كان سلمياً إلى حد كبير، ولفترة طويلة، من سنة 1919م إلى سنة 1931م عندما هرب المفتي من البلاد؛ لمطاردة الإنجليز له، واستقر في لبنان. بل إن الأمر كان لا يخلو أحياناً من مجاملات للإنجليز في الكلام والمؤتمرات؛ على أمل أن يستيقظ عدلهم، وهيهات! فعدل الإنجليز لم يكن نائماً، بل كان ميتاً، والموتى لا يعودون إلى يوم القيامة.

شخصية عز الدين القسام وجهاده على أرض فلسطين

شخصية عز الدين القسام وجهاده على أرض فلسطين لكن طابع الثورات تغير كثيراً، وبدأت تأخذ مأخذ الجد، وتطبع بطابع الجهاد الأصيل؛ لما ظهرت شخصية عظيمة في أرض فلسطين جددت للأمة أمر دينها، وهو عز الدين القسام رحمه الله. بطل مسلم، وعالم جليل، ومجاهد في سبيل الله، ورائد من رواد الكفاح ضد الاستعمار، رجل عجيب رحمه الله. ولد في سوريا -وليس في فلسطين- سنة 1871م، ودرس في منارة مصر في الأزهر الشريف، وعاد إلى سوريا فوجد الاحتلال الفرنسي قد بدأ، فقاومه ببسالة حتى حكم عليه بالإعدام، وهرب إلى فلسطين، وهناك قام بالمقاومة ضد الإنجليز واليهود، سبحان الله! كل أرض المسلمين أرضه، وكل أعداء المسلمين أعداؤه. نشأ عز الدين القسام رحمه الله في بيت بسيط جداً في سوريا، يعيش هو وأبوه وأمه وإخوته الكثر في غرفة واحدة، بل في ركن من أركانها، وتعيش في الركن الآخر من ذات الحجرة بقرة يمتلكونها، ومع ذلك فمن هذا المكان المتواضع خرجت شخصية عظيمة جليلة كشخصية عز الدين القسام رحمه الله. وصل إلى أرض فلسطين في سنة 1922م؛ هرباً من حكم الإعدام الفرنسي، وهنا في فلسطين بدأ في أناة وصبر يكون جيلاً جديداً يؤمن بالجهاد طريقاً للتحرير، وظل ثلاث سنوات يعلم ويربي، وينظم ويرتب، وعمل خلال هذه السنوات الثلاث مدرساً وخطيباً، واتصل بكل طوائف الشعب الفلسطيني، وأعطى انطباعاً مختلفاً تماماً عن العلماء، فلم يكن يهتم بتزيين المساجد، والاحتفال بالموالد والأعياد، والحديث في الفرعيات، بل كان يدعوهم إلى التمسك بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى الحب في الله والبغض في الله، وإلى الجهاد في سبيل الله، وكان يعلمهم أن الحقوق تؤخذ ولا تمنح. ثم في سنة 1925م كون جماعة سرية مسلحة لتحرير فلسطين، وجعل فيها اختصاصات متعددة، ما بين فدائية عسكرية، وتعليمية إرشادية، وتمويلية اقتصادية، وسياسية تفاوضية، وجماهيرية تفاعلية، واجتماعية تعاونية؛ جماعة متكاملة شاملة. ووصل عدد المنضمين إلى جماعة القسام في سنة 1930م إلى أكثر من ألف رجل، قسمهم عز الدين القسام إلى مجموعات صغيرة، كل مجموعة مكونة من خمسة أفراد عليهم رجل، وذلك على نسق مجموعات الأرقم بن أبي الأرقم، أو مجموعات بيعة العقبة الثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ أعوان القسام يتزايدون، ورغب البعض في إعلان الثورة المسلحة مبكراً، لكن عز الدين القسام كان قد استفاد من تجربة التسرع في سوريا، فلم يسمح بذلك، بل صبر حتى يأتي المناخ المناسب لإعلان الثورة المسلحة، وتطوير الجهاد في فلسطين، من مجرد مظاهرات ومؤتمرات، إلى سلاح ودماء وشهداء. وقد هيأ الله المناخ المناسب بين سنتي (1933) م و (1935) م، وذلك لما تزايدت الهجرة اليهودية في سنة (1933) م، فقد هاجر 30000 يهودي إلى فلسطين، وفي سنة (1935) م هاجر ستون ألف يهودي إلى فلسطين. لما تزايدت الهجرة اليهودية، وشعر عموم أهل فلسطين بالخطر، وأيقن الشيخ عز الدين القسام أنه لو قام الآن لقام معه كثير من أهل فلسطين من غير جماعته، وهنا أعلن الثورة المسلحة في أكتوبر سنة (1935) م، وبدأ القتال بالسلاح في أماكن مختلفة من شمال فلسطين، وبالذات في حيفا، حيث كان يسكن الشيخ القسام رحمه الله، وكان الهدف استعادة دوائر الحكومة، ومراكز الشرطة والميناء، وإعلان حكومة وطنية، وبدأ الشعب يعيش حلاوة الجهاد، واشترك الشيخ عز الدين القسام بنفسه في القتال، وكان يبلغ من العمر أربعة وستين عاماً، وسبحان الله! بعد أقل من شهر، وفي عشرين نوفمبر سنة 1935م لقي الشيخ المجاهد عز الدين القسام ما كان يتمنى، وما عاش لأجله، لقي الشهادة في سبيل الله صابراً محتسباً، حاملاً لسلاحه، رافعاً لرأسه، معلماً لأمته، استشهد في موقعة قرب جنين بأيدي الإنجليز، فاضت روحه الطاهرة رحمه الله، فظن الإنجليز واليهود أن الثورة قد أخمدت بموت قائدها، وظنوا أن هذه كانت النهاية لكتائب عز الدين القسام رحمه الله، لكن خاب ظنهم، وبار مكرهم، وجعل كيدهم في نحورهم. يخطئ من يظن أنه جاهد أياماً فقط ثم مات، بل جاهد سنوات وسنوات، كان يربي الشعب، ويعدل من مساره، والتربية جهاد وأي جهاد. كان استشهاد البطل المجاهد عز الدين القسام شرارة أشعلت الجهاد في قلوب الفلسطينيين، لم تكن النهاية أبداً، بل كانت البداية التي أيقظت الشعب المسلم، نقل القسام رحمه الله القضية من دور الكلام إلى دور العمل، وفتح بالقضية باب الجد، ودق بيده المضرجة بالدماء باب المجد، مات ولكن لم تمت كلماته: ليبع أحدكم كل شيء يملكه وليشتر السلاح، ومن ساعتها والشيخ القسام رمز لم ينس، ولن ينسى في تاريخ فلسطين والمسلمين. وحمل الراية من بعده الشيخ فرحان السعدي، ودعا إلى الجهاد المسلح ضد الإنجليز واليهود، وتمكن الإنجليز من ا

جريمة التقسيم

سلسلة فلسطين_جريمة التقسيم من حكمة الله سبحانه وتعالى في عباده أن يبتليهم؛ ليمحص المؤمنين ويمحق الكافرين، ومن ذلك ما ظهر جلياً في الحرب العالمية الثانية وبعد انتهائها من أحزان على المسلمين في قضيتهم الكبرى فلسطين، فقد تآمر المتآمرون في هذا العقد على بيعها أو تقسيمها، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ملخص مراحل إقامة دولة يهود في فلسطين

ملخص مراحل إقامة دولة يهود في فلسطين أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، ربنا اجعلنا لك شكّارين، لك ذكّارين، لك رهّابين، لك مطواعين، إليك مخبتين أوّاهين منيبين، ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم قلوبنا. آمين آمين. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين. أما بعد: فمع المحاضرة السابعة من المحاضرات الخاصة بقضية فلسطين. وتحدثنا في المحاضرات الثلاث السابقة عن المراحل التي قام اليهود بتنفيذها لإقامة دولتهم في فلسطين، وذكرنا منها ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: مرحلة الفكرة والخطة، وبدأت منذ مؤتمر بال أو قبله بقليل، واستمرت حتى وضعوا أيديهم في يد بريطانيا. المرحلة الثانية: وهي مرحلة التأسيس، وفيها تعاونت بريطانيا مع اليهود في إسقاط الخلافة العثمانية عن طريق خلع السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، وعن طريق حزب الاتحاد والترقي العلماني، ومصطفى كمال أتاتورك والشريف حسين وغير ذلك من الأمور، إلى أن دخلت إنجلترا إلى أرض فلسطين محتلة لها، وفارضة سيطرتها على كل أرجائها. المرحلة الثالثة: هي مرحلة التهويد، وفيها سعى اليهود يعاونهم أصدقاؤهم من الإنجليز في تحويل فلسطين من دولة إسلامية إلى دولة يهودية، وذلك عن طريق أربعة محاور كما ذكرنا في المحاضرة السابقة: أولاً: زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين وحققوها بنجاح كبير. ثانياً: محاولة شراء الأراضي الفلسطينية، وكان نجاحهم في ذلك نجاحاً طفيفاً محدوداً. ثالثاً: السيطرة على الاقتصاد في فلسطين، وبرعوا في هذا المجال تحت رعاية الإنجليز. رابعاً: الاهتمام بالتعليم اليهودي والعبري والإعلام الصهيوني، ونشر أفكار التمسك باليهودية والاعتزاز بها مع زرع الكراهية في قلوب الأطفال اليهود لأهل فلسطين. لم يسكت الفلسطينيون على هذه العملية التهويدية الإحلالية البشعة، ولكن قاموا جميعاً يقاومون الطغاة من الإنجليز واليهود ابتداءً من سنة 1919م وإلى سنة 1948م حيث قامت دولة إسرائيل.

مراحل المقاومة الفلسطينية

مراحل المقاومة الفلسطينية نستطيع أن نقسم مراحل المقاومة الفلسطينية إلى مرحلتين رئيسيتين: المرحلة الأولى: وهي مرحلة المظاهرات والمسيرات والمؤتمرات. واستمرت من سنة 1919م وإلى سنة 1935م أي: حوالي 16 سنة، قاد المقاومة في هذه الفترة المفتي الشيخ أمين الحسيني رحمه الله، وتلاه آخرون حتى سنة 1935م كانت هذه المرحلة الأولى. وفي سنة 1935م انتقلت المقاومة الفلسطينية من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، من مرحلة المظاهرات والخطابة إلى مرحلة الجهاد والشهادة. المرحلة الثانية: مرحلة الجهاد والشهادة، وذلك تحت قيادة البطل الفذ الشيخ عز الدين القسام رحمه الله الذي كان فعلاً عزّاً للدين ونصراً له، والذي ربى جيلاً عظيماً من المجاهدين الواعين الفاهمين لقضيتهم والمتحركين لها، والمضحين في سبيلها بالغالي والثمين. استشهد رحمه الله بعد قيامه بأيام، لكن أبداً ما ماتت الثورة بل زادت وتوهجت، وحمل الراية من بعده شيخ كبير طاعن في السن، لكنه يتحرك بعزيمة الشباب، الشيخ المجاهد فرحان السعدي والذي ما لبث أن أُعدم وهو في الثمانين من عمره، ثم تسلم الراية من بعدهم بطل جليل من أبطال فلسطين -وما أكثرهم- ذلك هو البطل عبد القادر الحسيني رحمه الله، والذي قاد حركة الجهاد المسلح في فلسطين ضد احتلال الإنجليز واليهود، وذلك بدءاً من سنة 1936م إلى سنة 1948م، أي: أنه ظل 12 عاماً رافعاً سلاحه معتزاً بجهاده، مضحياً بنفسه وماله وجهده ووقته، ما لانت له قناة، وما فترت له عزيمة، وما انحنى له رأس، وما انكسرت له شوكة، حتى لقي شهادة كريمة عظيمة في عام 1948م. صدق فيه وفيمن سبقه من رواد وفيمن تبعه من مجاهدين قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، على من يغزوهم قاهرين، لا يضرهم من ناوأهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك. قيل: يا رسول الله! وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس). وأعطيكم في هذه المحاضرة مثالاً واحداً لجهاد عبد القادر الحسيني رحمه الله ومن معه من أبطال فلسطين: ثورة عام 1937م و1938م و1939م ثلاث سنوات متصلة لم تنقطع فيها الثورة، واسمعوا معي هذه الأرقام: في سنة 1937م قام المجاهدون من أهل فلسطين بـ (506) عملية فدائية، وفي سنة 1938م قام المجاهدون من أهل فلسطين بـ (5708) عملية فدائية، وفي سنة 1939م قام المجاهدون من أهل فلسطين بـ (3315) عملية فدائية. سبحان الله! أرقام ضخمة جداً، فالعمليات الفدائية التي تمت في الانتفاضة الأخيرة في سنة 2000م على عظمها لم تبلغ بعد معشار ذلك، ما زال أمامنا الكثير، تاريخ طويل وجهاد عظيم، وكفاح مرير، وعيون ساهرة، وشعوب صابرة، ودماء طاهرة. بلغت خسائر بريطانيا في هذه العمليات عشرة آلاف قتيل، ومن اليهود مثلهم، فبلغ عدد الشهداء اثنا عشر ألف شهيد، واعتقل خمسون ألف معتقل، وحكم بالإعدام على 146 رجلاً، ودمر 5000 منزل. ومع ذلك يا إخوة! ما زلنا في بداية الطريق، لا علم بغير عمل، ولا جهاد بغير تضحية، ولا نصر بغير صبر، ولا ليل بغير نهار. هل سكتت إنجلترا عن هذه الصولات والجولات؟ ماذا تفعل إنجلترا أمام الصدور المفتوحة للرصاص المتمنية للموت المشتاقة إلى الجنة. ماذا تفعل؟ سبحان الله!! ما زال في جعبتها أسلحة. تلك الماكرة: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] استخدمت إنجلترا أسلوباً تقليدياً، لكنه فعّال، أسلوباً قديماً حديثاً، أسلوباً بسيطاً معقّداً، ما أسهل استخدامه وما أصعب مقاومته، أسلوب فرّق تسد، ماذا فعلت؟ انتبه واسمع واعتبر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3]، شجّعت بريطانيا بعض الفصائل الفلسطينية الموالية لها على تكوين ما يُعرف بفصائل السلام، بزعامة رجل اسمه فخري النشاشيبي. نتيجة الانتفاضة الكبيرة ونتيجة فشل الإنجليز واليهود في قمعها، فكّروا في إنشاء فصائل السلام، مهمتها تسكين الشعب بوعده بالسلام مع بريطانيا واليهود، مهمتها وقف نزيف الدماء اليهودية والإنجليزية قبل الفلسطينية، مهمتها تمثيل الشعب في المحافل والمؤتمرات، مهمتها تعقب المجاهدين ودل البريطانيين عليهم، مهمتها جر المجاهدين إلى معارك جانبية، مهمتها وقف الانتفاضة والوعد بحكم تحت رعاية إنجليزية. هكذا قامت فصائل السلام تدعو للسلام، وسبحان الله! نتحدث عن التاريخ وكأنا نراه رأي العين، ترى ماذا كانت حجتهم أولئك الذين حملوا السلاح باسم السلام، وضربوه في صدور إخوانهم، أو وضعوا أيديهم في يد عدوهم يدلونهم على المجاهدين؟ أتراهم يعتقدون أن خير فلسطين في موالاة عدوها؟ أم تراهم يعلمون الحق ويتبعون غيره؟ إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم تسارعوا إلى نصرة أعدائهم ظناً

الحرب العالمية الثانية وتعامل اليهود معها

الحرب العالمية الثانية وتعامل اليهود معها في أواخر هذه المرحلة التي نحن بصدد الحديث عنها أعني مرحلة التهويد ابتلي العالم بأزمة مروعة عمت الأرض كلها، تلك هي الحرب العالمية الثانية، والتي بدأت في سنة 1939م واستمرت إلى سنة 1945م ست سنوات كاملة من الصراع بين معسكرين كبيرين في العالم: المعسكر الأول: هو معسكر الحلفاء، ويضم إنجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا. المعسكر الثاني: هو معسكر دول المحور، ويضم ألمانيا وإيطاليا ثم اليابان. وكانت حرباً دامية حقاً، فقد العالم فيها خمسين مليوناً من البشر في واحدة من أشد حروب العالم ضراوة، كانت للحرب تداعيات خطيرة على كل بلاد العالم، ليس المجال هنا أن نذكرها بالتفصيل، ولكن ما يهمنا هو انعكاسات هذه الحرب الضروس على الموقف في فلسطين، ترى كيف كان موقف اليهود؟ وكيف كان موقف العرب؟ وما أثر ذلك على قيام دولة إسرائيل داخل فلسطين الحبيبة؟ والحق أقول: إن اليهود أداروا أزمة الحرب العالمية الثانية كأحسن ما تدار الأزمات، حتى المصائب التي نزلت على اليهود أثناء الحرب استطاعوا أن يوظفوها لصالحهم، بينما لم يكن العرب على المستوى المطلوب في إدارة هذه الأزمة الطاغية، وأنا أقول: العرب ولا أقول: المسلمين؛ لأنه بانتهاء الخلافة العثمانية سقطت كل صبغة إسلامية للقضية على مستوى العالم الإسلامي أجمع، ولم يبق من ينادي بإسلامية القضية إلا أفراد معدودون وجماعات قليلة داخل وخارج فلسطين. ترى كيف تعامل اليهود مع الحدث؟ أولاً: أعلنوا الانضمام فوراً إلى المعسكر البريطاني، وتبعاً لذلك بدءوا التدريب بشدة في معسكرات الإنجليز سواء في فلسطين أو خارج فلسطين، بل وطالبوا بإنشاء مصانع للسلاح داخل فلسطين؛ ليكونوا درعاً للإنجليز في المنطقة، وفعلاً أنشأت مصانع السلاح الحديثة داخل فلسطين، وكانت بعد ذلك نواة لتسليح إسرائيل بعد القيام في سنة 1948م، فقد طلبوا جلب كميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة وتحولت العصابات اليهودية إلى جيش مدرب يعلم كيف يتعامل مع الدبابات والمدرعات والصواريخ والطائرات، وهذا كله ولاشك أفاد في حرب 1948م القادمة. ثانياً: زيادة التهجير إلى فلسطين، فنظراً لواقع أوروبا المر، ولكثرة المشردين والمهددين بالقتل؛ فُتح باب الهجرة إلى فلسطين، وتزايد اليهود القادمون من كل مكان في أوروبا، وبالذات من ألمانيا وأوروبا الشرقية. ثالثاً: قضية النازية، عندما أعلن اليهود انضمامهم إلى معسكر الحلفاء قام هتلر بمطاردة اليهود في فرنسا وألمانيا، وكما ذكرنا من قبل فإن اليهود في هذا الوقت الحرج لم يضيعوا الفرصة، بل إنهم كانوا يرشدون هتلر إلى أماكن اليهود المختبئين في نظير ترحيل اليهود المرموقين إلى فلسطين، غير أن اليهود استفادوا من قصة النازية وهتلر أكثر من ذلك، فضخموا في العالم جداً أرقام المذبوحين في سجون هتلر، وفي معسكرات الاعتقال الألمانية المشهورة، والحق أن هتلر قتل عدداً ضخماً جداً من اليهود يصل إلى مليون يهودي، لكن اليهود لم يكتفوا بهذا الرقم فرفعوه كذباً وزوراً إلى ستة ملايين قتيل يهودي، وهم بذلك يلفتون أنظار العالم إلى المأساة الضخمة، فيتحدث العالم عنهم، ولا يتحدث عن غيرهم، فكثير من الدول فقد مليوناً، لكن ليس كل الدول يفقد ستة ملايين، ليس هذا فقط، بل أطلقوا على عملية إبادة اليهود اسماً معاني أخرى ذات مغزى، فسموها الهولوكست، يعني: التضحية الدينية أو المقدسة، والتي تتمثل في تقديم قربان للآلهة، وكأنها لحظة مقدسة قُدّم فيها اليهود قرباناً للآلهة افتداء لأهل الأرض، وبذلك يجذبون مشاعر الخلق ناحيتهم، ويحركون قلوبهم إلى جانب عقولهم، واليهود من أكثر الناس استغلالاً للأحداث وتزويراً للتاريخ، كيف لا وهم لم يترددوا في تزوير التوراة كتاب الله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75]. زرت في واشنطن متحفاً ضخماً هائلاً اسمه متحف الهولوكست، أقامه اليهود في العاصمة الأمريكية، يصورون فيه القصة المأساوية التي عاشها اليهود أيام النازية في ألمانيا وأوروبا الشرقية وفرنسا، ويمدونه بالصور والتماثيل والكتيبات والأفلام والوثائق، وكان دخول المتحف هذا مجاناً، مع كل ما أُنفق عليه من أموال، ومع أنه في أغلى وأرقى منطقة في واشنطن، إلا أنهم لا يريدون من الداخلين مالاً، بل يريدون أن يشجعوا العالمين على دخوله، وعندما يتعاطفون معهم بعد ذلك سيأتي الربح آنذاك وفيراً، وأسفت جداً أني لم أشاهد متحفاً ولو بسيطاً يصور ما يحدث في فلسطين من حقائق ولا أريد أكاذيب، أو يصور ما يحدث في البوسنة أو في كوسوفا أو في الشيشان أو في أي بقعة إسلامية تنزف. وما أكثرها! إذاً: اليهود في الحرب العالمية الثانية استفادوا من الأزمة الأشياء التالية: أولاً: بأنهم زودوا أنفسهم بالسلاح بعد انضمامهم إلى بريطانيا. ثانياً: زادوا من التهجير اليهودي إلى فلسطين. ثالثاً: استغلوا قصة تعذيب الألمان لهم في كسب ود العالم وعطفه. ر

تعامل اليهود مع أمريكا وتحالفهم معها

تعامل اليهود مع أمريكا وتحالفهم معها إن اليهود ينظرون إلى كل هذه الأحداث المتلاحقة والمتسارعة، والتاريخ لا يجد وقتاً للتسجيل، فجلسوا مع إبليس يفكرون، مع من نعمل وإلى أي المعسكرات ننضم؟ الاتحاد السوفييتي وإن كان قوياً وله مستقبل على الساحة العالمية إلا أن اليهود يعلمون نظمه وقوانينه، فهم الذين ابتدعوها على يد إبليسهم كارل ماركس، وهم يعلمون أيضاً أن الشيوعية منهج، ولا تستقيم الحياة مع منهج يتعارض مع الفطرة، سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية العقائدية، فاليهود يتوقعون له سقوطاً بعد حين، وقد يكون الحين قريباً، واليهود لا يريدون أن يسندوا ظهورهم إلى بناء قد يتهالك، ثم ماذا يريد اليهود من الاتحاد السوفييتي أكثر من ذلك؟ فهم بالفعل يديرونه من وراء الستار. أمريكا دولة واعدة على الساحة العالمية تتميز عن الاتحاد السوفييتي بأنها مفتوحة ومتحررة ورأسمالية، والمال اليهودي الغزير سيجد هناك أرضاً خصبة، هذه البلاد الرأسمالية تعبد المال، والمال مع اليهود، فستعبد أمريكا اليهود، وستكون أمريكا تابعاً لا متبوعاً، وستكون أمريكا أيضاً في حسابات اليهود أطول عمراً من الاتحاد السوفييتي؛ لأن فيها ديمقراطية والديمقراطية أكثر عدلاً من الشيوعية، وإن كان في كليهما أخطاء جسيمة. إذاً: أمريكا اختيار مناسب، لكن تبقى مشكلة كبيرة، وهي إنجلترا ماذا يفعل اليهود معها، وهم يعلمون أنه لولا إنجلترا ما كان اليهود؟ إنجلترا هي التي ساعدت وأيدت ودبرت، هي التي زرعت اليهود في فلسطين، هي التي أسقطت الخلافة العثمانية، هي التي أمدت بالسلاح، هي التي درّبت في المعسكرات، اليهود يسبحون في عطايا إنجلترا، واذكروا كيف كان تيودور هرتزل وحيداً يطلب مستعمرة في القدس، والآن هم ستمائة ألف بعد أن وضعوا أيديهم في أيدي الإنجليز، ماذا يفعل اليهود مع إنجلترا؟ أتظنون أن اليهود يحفظون الجميل لإنجلترا؟ ما عهدنا ذلك في اليهود، اليهود لا يعرفون إلا المصلحة، اليهود باعوا اليهود إخوانهم وأبناءهم وعشيرتهم في أوروبا، باعوهم لـ هتلر في نظير مصلحتهم أفلا يبيعون إنجلترا؟ فلتذهب إنجلترا كما يقولون إلى الجحيم، ثم إن أمريكا هي وريثة إنجلترا وهي الامتداد الطبيعي لها، وبينهما روابط العرق والدين واللغة والفكر، ويبدو أن إنجلترا ستكون في المستقبل التابعة الذليلة لأمريكا، فلن تغضب إنجلترا كثيراً إذا استبدلت بسيدتها أمريكا. أسرع اليهود وأداروا دفتهم إلى أمريكا، لقاءات ومفاوضات وتحالفات وقسم بالأيمان المغلظة بالوفاء المطلق والتعاون المستديم، وفي سرعة وخفة نقلوا مؤتمرهم السنوي الذي يُعقد في أوروبا -منذ سنة 1897م- وللمرة الأولى في تاريخهم إلى نيويورك في سنة 1942م يتزلّفون إلى الزعيم الجديد ومستقبلاً سيقودونه، أمريكا وجدتها فرصة جيدة جداً، فاليهود سيكونون الذراع الطولى لها في الشرق الأوسط، والدرع البشري الواقي في هذه المنطقة الملتهبة، وسيكون اليهود قاعدة متقدمة لأمريكا، ويبدو أنهم ولحداثتهم في القيادة لا يدركون أن من يربي الثعابين لا بد وأن يُلدغ منها، وستدور الأيام وسيركب اليهود على أكتاف أمريكا، يدلدلون أقدامهم، ويضعون أيديهم على أعين الأمريكان، ويسيرونهم أينما شاءوا وكيفما شاءوا، والأمريكان لا يعترضون، فهم قد فقدوا نعمة الإبصار، المهم أن المصالح تلاقت، وأُبرم العقد بين الطرفين وتصالحا على اغتيال فلسطين، وتصالحا أيضاً تصالحاً غير مُعلن على إلقاء بريطانيا جانباً، أو توضع في دار للمسنين فليس هناك متسع لها. لاحظت هذا إنجلترا، لكنها غضت الطرف فالأيام دول، ومن الحكمة أن تتصرف بحجمها الجديد؛ لئلا تفقد سيداً من الأسياد قد لا يعوض. اليهود ما اعتادوا على الرحمة وبدءوا يعاملون إنجلترا بصلف وغرور، فقد أسندوا ظهورهم إلى حائط جديد، واعترضت إنجلترا باستحياء، إذ قام اليهود بما لم يتخيله الإنجليز، قاموا بعدة اغتيالات للقيادات الإنجليزية في فلسطين، يعجّلون خروجهم بقتلهم سبحان الله!! أي خلق هؤلاء؟ طراز قبيح ما مر في التاريخ مثله، ولن يتكرر في التاريخ مثله، هؤلاء هم اليهود مع أصدقائهم، فكيف بهم مع أعدائهم؟ كان هذا هو موقف اليهود أيام الحرب العالمية الثانية، استفادوا أكبر استفادة ممكنة مع أن الناظر نظرة سطحية قد يشعر أنهم قد خسروا الضحايا في ألمانيا وأوروبا، لكنهم خرجوا من الحرب العالمية الثانية بكل ما سبق ذكره وألخصه فيما يلي: 1 - سلاح ضخم جداً ليس فقط سلاح العصابات، ولكن سلاح الدول. 2 - أعداد كبيرة من المهاجرين. 3 - تعاطف عالمي بعد تفخيم الهولوكست في ألمانيا. 4 - فيلق في الأمم المتحدة تمهيداً للاعتراف بدولة إسرائيل. 5 - خرجوا بأمريكا وأداروا ظهرهم لإنجلترا.

موقف العرب من الأحداث في الحرب العالمية الثانية

موقف العرب من الأحداث في الحرب العالمية الثانية ماذا كان موقف العرب في الحرب العالمية الثانية؟ اتجهوا إلى الدولة الصديقة إنجلترا، وساعدوها بمدها بالأفراد المتطوعين في حرب لا ناقة للمسلمين فيها ولا جمل، بل إنهم ضاعفوا من إنتاجهم الزراعي لكفاية جيوش الحلفاء، بل إن هؤلاء الحكام أتوا بعلماء أفتوا بأن الحرب مع الإنجليز ضد ألمانيا هو نوع من الجهاد في سبيل الله. وأما الشعوب فقد اتجه هواها إلى ألمانيا على اعتقاد أن عدو عدو الأمة هو صديق للأمة، حتى إن بعض القيادات في فلسطين ذهبوا يطلبون مساعدة من ألمانيا لتحرير فلسطين، والواقع يا إخوة! أنه ليس من سنة الله أن ينصر المسلمون بالكافرين، ولو حدث نصر للمسلمين بجيش الكافرين فإنه يكون نصراً بلا شرف وفوزاً بلا عز، ولا بد أن الكافرين سيحصلون على ثمن، وقد يكون الثمن أغلى من النصر. كان من المفروض ألا يضع العرب أيديهم في أيدي الإنجليز، فقد كانت فرصة طيبة لفرض الشروط ولتحرير البلاد ولجني أفضل الثمار في فلسطين، فإنجلترا مشغولة في الحرب مع الكبار، ولا تريد مشاكل في مناطق متعددة، لكن العرب كانوا قصيري النظر لا ينظرون إلا تحت أقدامهم لو كانوا ينظرون. هذا ليس خللاً في الإسلام ولا في التشريع، فالعرب في هذا الوقت لم يكونوا يعرفون قرآناً ولا سنة، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان دائم الاطلاع على أحوال العالم في زمانه، كان القرآن يتنزّل في مكة أيام التعذيب والتشريد والاضطهاد، يحكي عن حرب الفرس مع الروم، عمالقة الزمان وقتئذ، يلفت أنظار المسلمين إلى ما يدور هناك، والمسلمون لا يستطيعون الصلاة إلا سراً، لكن لا بد أن يتابع المسلمون الأحداث العالمية وإن كانت في ظاهرها بعيدة، فقد تؤثر بشكل أو بآخر على المسلمين. ولما زاد الاضطهاد بمكة كان صلى الله عليه وسلم يعلم ملوك الأرض وطبيعة الدول، أمر بالهجرة إلى الحبشة؛ لأنه يعلم أن هناك ملكاً لا يُظلم عنده أحد، ولم يرسلهم إلى فارس أو إلى الروم أو إلى الهند أو إلى السند؛ وذلك لأنه يعلم أن نظام الحكم ونوعية الحكام في هذه البلاد لا تصلح لإيواء المهاجرين، بينما في الحبشة تصلح. اطّلاع كامل على أحوال العصر وتحرك مديّ على دراسة. وفي غزوة الأحزاب والرجل لا يأمن على قضاء حاجته، والأحزاب جاءت من فوق المسلمين ومن أسفل منهم، ومع ذلك يبشرهم في هذا الوقت العصيب بفتح فارس والشام واليمن، يطلق أبصارهم نحو المستقبل بدلاً من أن ينظروا تحت أقدامهم، فيصطدموا بواقع لا يعلمونه ولا يتوقعونه. وبعد فتح مكة يرسل رسائل إلى كل ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، قائد مطّلع على الأحداث، إيجابي في الأداء، عزيز في الطلب، يعلّم أمته أنها وجدت لا لتتبع الآخرين، بل لتُتّبع بالآخرين، لا لتنقاد للآخرين، بل لتقود الآخرين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. أما من سار على غير الطريق المستقيم ومن انحرف ولو درجة فلا يُرجى له وصول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. لكن الخلاصة على العموم: أن هذه الفترة العصيبة من تاريخ البشرية شهدت إعداداً مدروساً وعملاً حثيثاً، وجهداً مرتباً وممنهجاً من قِبل اليهود، بينما كان العرب يتخبطون في اتجاهات مختلفة دون هدف معروف أو غاية مطموحة، وانتهت الحرب العالمية الثانية، وبقيت سنوات معدودات؛ وتقام دولة إسرائيل في فلسطين، وفي كل عام من الأعوام المتبقية كانت هناك للمسلمين أحزان.

أهم الأحداث التي مرت بالعالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية

أهم الأحداث التي مرت بالعالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية

إنشاء الجامعة العربية برعاية بريطانية

إنشاء الجامعة العربية برعاية بريطانية في سنة 1945م وهي أول سنة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تم إنشاء الجامعة العربية، أُنشئت بإيعاز من إنجلترا لـ مصطفى النحاس باشا، ولماذا تؤيد إنجلترا مثل هذا العمل التجميعي للعرب؟ إنجلترا تريد أن تترك لليهود دولة قبل أن ترحل من المنطقة وهي لا بد راحلة، فاليهود لن يقبلوا بوجودها، وأمريكا لن تقبل بوجودها، ومع ذلك فهي تريد أن تبقي على علاقاتها مع اليهود وأمريكا؛ لأن المصلحة تقتضي ذلك، لكن ما علاقة إنشاء الجامعة العربية بإقامة دولة اليهود؟ كان من المفروض أن يتبادر إلى الذهن أن الجامعة العربية ستكون معوّقة لدولة اليهود، فماذا كانت تريد إنجلترا؟ أولاً: كانت تريد جمع كل دول المنطقة في بوتقة واحدة تؤثر عليها من خلال أصدقائها المقربين، وبالذات ملك الأردن وملك مصر، فإذا نظرت إلى الدول المؤسسة للجامعة العربية تجدها جميعاً محيطة بفلسطين، بل إن هذه الدول المجموعة في الجامعة العربية هي الدول الداخلة في مخطط إسرائيل الكبرى باستثناء اليمن، كانت الدول المؤسسة للجامعة العربية مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق والسعودية بالإضافة إلى اليمن، سبع دول محيطة بالدولة التي يرجى إنشاؤها بعد ذلك. ثانياً: تريد إنجلترا قبل أن تغادر المنطقة أن تلغي من أذهان المسلمين تماماً فكرة التجمع على أساس الإسلام كما كان يفكر السلطان عبد الحميد الثاني في إنشاء الجامعة الإسلامية، فأرادت تجميعهم على هدف ورباط قومي هو العروبة في مقابل الدولة اليهودية، التي ستُعلن كما أشرنا من قبل اسماً قومياً هو إسرائيل، بدلاً من اسم ديني كدولة اليهود، وبذلك يظل الصراع صراع قوميات لا صراع ديانات. وشتان! ثالثاً: تريد إنجلترا أيضاً أن يقوم كيان في المنطقة تكون من مهمته التنفيس عن الشعوب، وتفريغ الشحنات الغاضبة عن طريق أخذ بعض القرارات العنترية التي لا يتبعها عادة عمل، وبذلك تهدأ عاصفة الشعوب الثائرة. رابعاً: وهذه من أخطر النقاط، إذ إن إنجلترا أيضاً أوعزت إلى أصدقائها بأن يجعلوا من ميثاق هذه الجامعة ألا ينضم إليها إلا الدول المستقلة فقط، ولست أدري ما هو تعريف الاستقلال في نظرهم، لكنهم اعتبروا مصر دولة مستقلة مع وجود الإنجليز فيها، واعتبروا الأردن والعراق واليمن دولاً مستقلة مع وجود الإنجليز فيها، واعتبروا سوريا ولبنان دولاً مستقلة مع وجود فرنسا فيها، أما الدول غير المستقلة التي لا يجوز أن تنضم إلى الجامعة العربية فهي فلسطين، وبذلك بتروا فلسطين من الكيان العربي باعتراف الجامعة العربية؛ تمهيداً لإقامة الدولة اليهودية على أرضها. وإذا اعتقد أحد أن هذه الأفكار لم تكن واردة بكاملها في أذهان إنجلترا والمؤسسين لهذه الجامعة فإن الأيام القريبة جداً قد أثبتت صدق هذا التحليل.

بروز مشروع روزفلت لمنح اليهود وطنا قوميا على أرض فلسطين

بروز مشروع روزفلت لمنح اليهود وطناً قومياً على أرض فلسطين حدث آخر حدث في سنة 1945م بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهو ما يسمى في التاريخ بمشروع روزفلت، وروزفلت هو الرئيس الأمريكي المنتصر، قدّم مشروعاً للملك عبد العزيز ملك السعودية آنذاك، يضع له في هذا المشروع حلاً لقضية فلسطين، هذا المشروع وإن لم ير النور إلا أنه يثبت ما حللناه سابقاً من أن أمريكا بدأت تتسلم ميراث إنجلترا في المنطقة، وبدأت تحمل على أكتافها مهمة إنشاء الدولة اليهودية، ماذا قدّم الرئيس الأمريكي روزفلت للملك عبد العزيز؟ عرض عليه أن يجعله زعيماً للعرب، يريد أن يكرر ما فعله الإنجليز مع الشريف حسين، وليست الزعامة فقط، بل ويعطيه عشرين مليون جنيه إسترليني على أن يساعد في ترحيل كل عربي فلسطيني، وإعلان فلسطين بكاملها وطناً لليهود، وقال روزفلت: إن القضية إنسانية في المقام الأول، حيث تتعلق بإنقاذ اليهود الذين لاقوا أهوالاً لا توصف على يد الألمان. ومن الواضح طبعاً أن الرئيس روزفلت يتصرف بحماقة وسذاجة لا تتفق مع منصبه، ولكن يبدو أنه كان حديث عهد بسيادة، فلا يُدرك حكمة القول والفعل، المهم ماذا كان رد الملك عبد العزيز على هذا العرض الوقح من روزفلت؟ الحق أنه رد رداً قصيراً لطيفاً حكيماً مفحماً قال له: أعطوهم أملاك الألمان الذين اضطهدوهم. وهذا في منتهى الذكاء إذا كانت فعلاً القضية إنسانية، وإذا كان فعلاً الألمان قد عذّبوا اليهود، وإذا كانت ألمانيا قد هُزمت وأُخذت كل أرضها لتوزع على الحلفاء، فلماذا لا تقتطعون قطعة من هذه الأرض الواسعة وتعطوها لليهود، أم أن وراء الأمور أمور، وانتهى مشروع روزفلت بذلك والحمد لله، لكنه أثبت أن أمريكا من سنة 1945م وهي تسعى إلى تحقيق دولة لليهود في فلسطين.

تكوين لجنة أمريكية إنجليزية مشتركة أقرت مسألة البدء في تهجير اليهود إلى فلسطين

تكوين لجنة أمريكية إنجليزية مشتركة أقرت مسألة البدء في تهجير اليهود إلى فلسطين في سنة 1946م قامت أمريكا بالاشتراك مع إنجلترا بتكوين لجنة لبحث مشكلة فلسطين، وللتوفيق بين الأفكار المتعارضة والمتضاربة للفلسطينيين واليهود، على غرار لجنة ميتشل سنة 2001م وقامت هذه اللجنة الأنجلو أمريكية كما يسمونها بزيارة معسكرات اليهود الناجين من النازية في ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا، ثم زارت بعد ذلك فلسطين وشاهدت الوضع هناك وسمعت من هذا ومن ذاك، ثم أخذت قرارات أطلقوا عليها أنها قرارات عادلة وهي: 1 - تهجير مائة ألف يهودي على الفور من أوروبا إلى فلسطين، وإلا ستحدث كارثة إنسانية، وأهم شيء هو حقوق الإنسان. 2 - طرح كل أرض فلسطين للبيع. 3 - أن يكون حكم فلسطين دولياً يعني: للأمم المتحدة، أي: لأمريكا بمعنى: أنها لليهود، طبعاً كلام لا يستقيم ولا يُعقل ولا يقبل به أحد حتى اليهود، فقد اعترض اليهود وقالوا: لا نريد حكماً دولياً، بل نريد حكماً يهودياً سبحان الله! وهكذا لم تنسق قرارات هذه اللجنة إلا في جزئية تهجير اليهود، فقد بدأوا في تهجيرهم بالفعل إلى فلسطين تحت حماية الجيش الإنجليزي الذي ما زال مستقراً في فلسطين يسمع ويطيع لأوامر الأمريكان. هذه اللجنة أثبتت بوضوح نوايا الأمريكان في قضية فلسطين، وسوف تحمل الأيام ظلماً أكبر وجوراً أعم من رائدة العدل والحرية في العالم أمريكا.

صدور مشروع الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين

صدور مشروع الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين وتأتي سنة 1947م تحمل معها في أواخرها ظلماً جديداً خرج تحت عباءة الأمم المتحدة، ففي نوفمبر سنة 1947م مشروع تقدمت به أمريكا وإنجلترا للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين، حلاً للمشكلة، إذ يُعطى اليهود جزءاً من الأرض يقيمون عليه دولة، ويُعطى الفلسطينيون جزءاً آخر، ولا أدري هل لو طالب المسلمون في أمريكا -وهم الآن حوالي ثمانية مليون- بأنه يُقطع لهم جزءاً من أمريكا ليُقام عليه دولة لهم، هل يسمع لهم أحد؟ هل لو حدث في أي مكان في العالم أن قمت بتهجير عدد كبير من البشر إلى مكان ما -تهجير الماليزيين مثلاً إلى أستراليا- أيحق لهم بعد فترة من الزمان 30 أو 40 سنة مثلاً أن يطلبوا قطعة من الأرض يقيمون عليها دولة؟ هذا ما حدث في فلسطين، هاجر إليها مجموعة من اليهود من شتات الأرض، وبعد سنوات معدودات طالبوا بدولة في هذا المكان، أيجوز في عرف المتحضرين هذا؟ هذا ما حدث في الأمم المتحدة، مشروع لتقسيم فلسطين بين اليهود وبين أهل فلسطين. وليس هذا فقط، بل قد تجاوز الظلم الحدود، حيث جعل المشروع لليهود 56. 5% من أرض فلسطين، وجعل للفلسطينيين أصحاب البلد 43% فقط من الأرض، وأُخرجت القدس من لعبة التقسيم، جُعل حكمها دولياً، وهي تمثل حوالي 00. 5% من أرض فلسطين، أي أن المشروع الظالم جعل لليهود أكثر مما جعل لأهل البلد. وليس هذا فقط، ما زال للظلم ألوان أخرى، فلو نظرت إلى خريطة التقسيم لوجدت فيها أموراً عجيبة، تقسيم الدولتين في منتهى الغرابة، لم يقسّموها مثلاً إلى شمال وجنوب أو إلى شرق وغرب، كل دولة قطعة واحدة، ولكنهم فعلوا شيئاً غريباً جداً، وهو أنهم جعلوا الجزء الفلسطيني عبارة عن منطقتين منفصلتين: منطقة في الشرق هي الضفة الغربية لنهر الأردن، وجزءاً في الغرب وهو قطاع غزة وما حوله من مناطق، أما الجزء اليهودي فهو كالحلقة يحيط بكل جزء من أجزاء الفلسطينيين، وذلك كما هو واضح تمهيداً لإحكام القبضة على أهل البلد، حتى يكمل اليهود احتلال البلد في مرحلة لاحقة. وليس هذا فقط، لا يزال في جعبة أمريكا خطايا أخرى، وهي أن أمريكا عرضت المشروع الظالم وبدأت عملية التصويت، وكان لا بد أن يحصل المشروع على ثلثي أصوات المجلس حتى تتم الموافقة عليه، وتم التصويت، ولم يحصل المشروع على ثلثي الأصوات وبالتالي لم يُقبل، واعترضت أمريكا وطالبت أن يُعاد التصويت بعد أيام قليلة، ووافقت الأمم المتحدة على إعادة التصويت، وقرروا أن يُعاد بعد أيام قلائل، وفي هذه الأيام بحثت أمريكا في أسماء الدول المعترضة كانت تحتاج إلى ثلاث دول حتى تصل إلى نسبة الثلثين، ووجدت ضالتها في الفلبين وهاييتي وليبيريا، فقامت بالضغط عليهم عن طريق رجال السياسة ورجال الاقتصاد، فعلى سبيل المثال: الذي ضغط على ليبيريا هو المليونير الأمريكي المشهور هاردي فايرستون صاحب مزارع المطاط في ليبيريا، وصاحب مصانع الإطارات المشهورة فايرستون، وتم التصويت للمرة الثانية بعد أيام، ورضخت الدول الثلاث للتهديد وتحققت النسبة المطلوبة، ووافقت الأمم المتحدة على مشروع السرقة المعروف بقرار رقم 181 لسنة 1947م، ويعلق وزير الدفاع الأمريكي آنذاك جيمس فورستل في مذكراته على هذا الموضوع فيقول: إن الطرق المستخدمة للضغط ولإكراه الأمم الأخرى في نطاق الأمم المتحدة كانت فضيحة. وشهد شاهد من أهلها، وفوجئ العالم أجمع بما فيه العالم الإسلامي بالوجه القبيح لأمريكا، أما إنجلترا فيعرفون وجهها منذ زمن، واليهود معروفون بخسّتهم منذ أيام موسى عليه السلام، وأنا أرى أنه إن كان العالم قد فوجئ فإن العجب أن يفاجأ المسلمون، فإن الله قد نبّهنا إلى ذلك منذ مئات السنين فقال: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10].

الموقف العربي والفلسطيني من قرار التقسيم

الموقف العربي والفلسطيني من قرار التقسيم ترى ما هو الموقف في فلسطين بعد قرار التقسيم؟ تعالوا نحلل الأحداث ونستقي العبرة: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]. الشعوب العربية تغلي، والقرار ظالم، والحكم جائر، ولا بد من حركة أو رد فعل، ماذا نفعل؟ قامت الجامعة العربية الناشئة وأخذت قرارات توافقت مع رغبات الشعوب، قلنا: حمداً لله فقد تجمع المسلمون أخيراً، أو قل: تجمع العرب فالرابطة كانت قومية، أخذت الجامعة العربية القرارات الآتية: أولاً: أصدروا مذكرات شديدة اللهجة إلى أمريكا وإنجلترا. ثانياً: إقامة معسكرات لتدريب المتطوعين في قطن بالقرب من دمشق بسوريا يدربون الفلسطينيين فيه على القتال. ثالثاً: تكوين جيش عربي أُطلق عليه جيش الإنقاذ، وضعوا عليه رجلاً اسمه فوزي القوقجي. رابعاً: رصد مليون جنيه لأغراض الدفاع عن فلسطين. وقد كانت قرارات قوية بحق، وبدءوا بالفعل في تدريب الفلسطينيين في قطن بسوريا، وبدءوا في تكوين جيش الإنقاذ، ولكن جاءت رسالة من بريطانيا إلى الجامعة العربية قالت فيها: إن بريطانيا تعتبر تسليح الفلسطينيين وتدريبهم في قطن عملاً غير ودي، فاجتمعت الجامعة العربية وتشاورت وتحاورت، ولعلها استخارت، ثم صدر قرار غلق معسكر قطن، وتسريح المتطوعين هناك، وسحب أسلحة المعسكر، والاكتفاء بتزويد جيش الإنقاذ، ولكن تحديد العدد، فاتفقوا على أن يكون قوامه (7700) جندي مع مده ببعض الأسلحة الرديئة، أما الأموال فقد جُمع شيء قليل منها، أو قل: وصل إلى فلسطين شيء قليل منها. إذاً: الجامعة العربية نفّست عن الشعوب المتحمسة بقرارات عنترية، ثم جاءت الأوامر الإنجليزية لتهدئ من روع المتحمسين، ولتلقي جالوناً من الماء البارد على الجامعة العربية؛ لتسكّن من حرارة الخطباء والمتكلمين. ماذا كان الموقف في فلسطين؟ عاد المفتي أمين الحسيني رحمه الله من لبنان، وذكرنا من قبل أنه هرب إليها بعد مطاردة الإنجليز له، عاد إلى فلسطين وبدأ يقود الشعب إلى جهاد مسلح ضد اليهود، ومعه البطل عبد القادر الحسيني رحمه الله، واجتمع الناس على قيادة المفتي، وأراد المفتي أن يسعى إلى تأييد عربي، فأسرع إلى الكيان الجديد الجامعة العربية يعلن رغبته في تكوين حكومة فلسطينية وطنية تدعمها الجامعة العربية، ويكون المفتي على رأسها كما يريد الشعب هناك، وكان طلباً وجيهاً فلن تُحمى البلاد إلا بأهلها أساساً، لكن الجامعة العربية رفضت الطلب، ورفضت رئاسته دون تبرير واضح، بل إن الملك عبد الله ملك الأردن قال في لقاء مع ممثلة الوكالة اليهودية جولد مائير: إنه يعزم على أن يضم إلى مملكة الأردن الجزء المخصص للعرب في مشروع التقسيم، يعني: منطقة الضفة الغربية، ويعزم أيضاً على إقامة علاقات سلام وصداقة مع الدولة اليهودية، وختم كلامه بقوله: كلانا يواجه خصماً مشتركاً يقف عقبة في طريق خططنا، ذلك هو المفتي أمين الحسيني، وهذا كلام في منتهى الخطورة. إذاً: النية كانت مبيتة على الموافقة على قرار التقسيم، والنية كانت مبيتة على الاعتراف بدولة اليهود، والنية كانت مبيتة لهضم الضفة الغربية داخل الأردن، والنية كانت مبيتة على تحجيم قوة المفتي والفلسطينيين، ولا أجد في الواقع في ألفاظ اللغة ما يناسب ذلك الموقف. اليهود كعادتهم لن يضيعوا وقتاً، استغاثات ونداءات لأمريكا وإنجلترا ودول أخرى كثيرة، وانهمرت سفن الأسلحة من أمريكا وإنجلترا وأوروبا الشرقية، وتسارع الضباط من أمريكا وروسيا وتشيكوسلوفاكيا لتدريب اليهود على الأسلحة الجديدة، واستعدت العصابات اليهودية للقتال، وهي في مجموعها تبلغ كما ذكرنا (70000) جندي مسلح مدرب. ما هو موقف الشعب الفلسطيني؟ سار الشعب بقيادة المفتي أمين الحسيني ومعه عبد القادر الحسيني رحمهما الله، وحمل السلاح وظهرت دعوة الجهاد بوضوح وجلاء، أما جيش الإنقاذ العربي بقيادة فوزي القوقجي كان جيشاً ضعيفاً جداً، وسلاحه ضعيف، وعدده قليل، ورفض التعاون مع المفتي ورجاله، حتى إن الدكتور عبد الله عزام رحمه الله كان يقول في تاريخه لهذه الفترة: إن فوزي القوقجي هذا كان رجلاً تحوم حوله الشبهات. إذاً: الشعب الفلسطيني تحرك للجهاد بسلاح بدائي لكن بروح عالية، وهذه الروح العالية دفعته لتحقيق انتصارات مبدئية، فانتصر في بعض المواقع مثل ظهر الحجة وعين باهل وشعفاص والدهيشة، وذلك بقيادة عبد القادر الحسيني غالباً، لكن فارق التسليح كان مهولاً بين اليهود والفلسطينيين، وكادت الكفة تميل في صف اليهود، لولا أن من الله على فلسطين بحدث جديد، فقد حرك الجهاد مشاعر كثيرة في قلوب أعداد عظيمة من المسلمين، في بلاد إسلامية محيطة بفلسطين، وبالذات في مصر وسوريا فسارع الشباب والشيوخ على حد سواء إلى طلب حمل السلاح، والعبور إلى أرض الشرف والكرامة والمجد أرض فلسطين، وظهرت

أمة لن تموت

سلسلة فلسطين_أمة لن تموت مهما تعالت صرخات الثكالى وأنات الجرحى من المسلمين، ومهما تكالب أعداء الأمة على مقدساتها وحرماتها، وسيطروا على فلسطين وغيرها فإن العقبى للمسلمين والنصر للمجاهدين الصادقين، والتاريخ حافل بانتصارات المسلمين في مواقع كثيرة، وحافل بالعذاب النازل من الله على أعدائه في الدنيا والآخرة.

أهمية قتل الانهزامية والإحباط في حل قضية فلسطين

أهمية قتل الانهزامية والإحباط في حل قضية فلسطين أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا أعداءً ولا حاسدين، اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك، اللهم اغفر لنا خطيئتنا وجهلنا وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. آمين آمين. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين. أما بعد: فمع المحاضرة التاسعة من المحاضرات الخاصة بقضية فلسطين، وكنا قد ذكرنا في المحاضرة الأولى بعضاً من الوسائل الإيجابية والتي من الممكن أن نساعد بها إخواننا في فلسطين، ونسهم بها في رد كيد اليهود ومن عاونهم، تذكرون أن الوسيلة الأولى التي ذكرناها في هذا المضمار كانت: تحريك قضية فلسطين بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة، وأفردنا لذلك ثمان محاضرات تحدثنا فيها عن بعض هذه المفاهيم. واليوم نتحدث عن وسيلة أخرى من الوسائل الهامة جداً في حل قضية فلسطين وما شابهها، بل وفي حل قضية المسلمين في العالم أجمع، الناظر إلى بلاد المسلمين يجد أن كثيراً من أبناء المسلمين قد أصابهم الإحباط من واقع المسلمين، ويئسوا من أن تقوم لأمة الإسلام قائمة من جديد، وقنطوا من أن يواجهوا عدواً صارخ العداء مثل اليهود ومن معهم. كثير من أبناء المسلمين يعتقدون أن سيادة المسلمين للعالم كانت تاريخاً، وأن المستقبل قد يكون للشرق أو للغرب، ولكن حتماً أو غالباً ليس للمسلمين، وأكثر هذه الطائفة تفاؤلاً يعتقد أنه لو كان الإسلام سيعود من جديد لصدارة الأمم فإن هذا سيكون بعد عمر مديد وأجل بعيد لا نراه نحن ولا أبناؤنا ولا حتى أحفادنا. في هذا الجو من الإحباط واليأس يستحيل على المسلمين أن يفكروا في قضية فلسطين فضلاً عن أن يسهموا في حلها، ومن ثم فإن حديثنا اليوم يتناول الوسيلة الثانية من وسائل حل قضية فلسطين ألا وهي: قتل الانهزامية والإحباط في نفوس المسلمين. وإنه لمن العجب حقاً أن تحبط أمة تملك كتاباً مثل القرآن! وسنة مثل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وإنه لمن العجب حقاً أن ييأس شعب له تاريخ مثل تاريخ المسلمين! وله رجال أمثال رجال المسلمين! وإنه لمن العجب حقاً أن قوماً يمتلكون مقدرات كمقدرات المسلمين! وكنوزاً مثل كنوز المسلمين! عجيب حقاً أن تقنط هذه الأمة، وقد قال ربها في كتابه: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56]، لكنها حقيقة مشاهدة وواقع لا ينكر، والواقع أن غياب الأمل وضياع الحلم وانحطاط الهدف كارثة مروّعة حلّت على المسلمين، ومصيبة مهولة لا يرجى في وجودها نجاة، لا بد أن الذي زرع اليأس في قلوب بعض المسلمين هو أمر تعاظم في النفوس الواهنة، وحدث أكبرته القلوب الضعيفة فخضعت حصول خضوعاً مذلاً، وركعت حين كان يرجى لها القيام.

أسباب الانهزامية في نفوس المسلمين

أسباب الانهزامية في نفوس المسلمين لا بد أن نقف وقفات ووقفات لنحلل وندرس ونفقه لماذا صرنا إلى ما صرنا إليه؟ وكيف السبيل لقيام وسيادة وصدارة ومجد، أما لماذا صرنا إلى هذا الوضع؟ فهذا يرجع إلى عوامل عديدة وتراكمات مختلفة:

الواقع الذي يعيشه المسلمون من هزائم متكررة

الواقع الذي يعيشه المسلمون من هزائم متكررة الواقع الذي يعيشه المسلمون من هزائم متكررة بدءاً من سقوط الخلافة العثمانية، ومن سقوط فلسطين وإعلان إسرائيل في (1948م)، ومن هزيمة مرة في عام (1956م) لولا أيزنهاور الأمريكي الذي جعل المسلمين يصورون الحدث وكأنه نصر، بل ويحتفلون به بعد ذلك. ومروراً بعام (1967م) وتدمير الجيش المصري والسوري، وضرب كل المطارات حتى المطارات الداخلية جداً: المنيا الأقصر الغردقة كانت هزيمة كبيرة، حتى نصر أكتوبر عام (1973م) والذي كان نصراً مجيداً حقاً أتبع بثغرة مرة وبوقف لإطلاق النار، وبخسارة سريعة لمكاسب هائلة. أما الواقع الذي يعيشه المسلمون من خيانات مستمرة شاهدنا طرفاً منها في تاريخ فلسطين، ونشاهد أطرافاً أخرى في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي. الواقع الذي يعيشه المسلمون من إباحية في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، ومن سرقات واحتيالات، ومن هروب بمليارات من أموال المسلمين بينما يتضور بعضهم جوعاً، ومن انهيار للاقتصاد وديون متراكمة وإفلاسات مشهورة. الواقع الذي يعيشه المسلمون من فرقة وتناحر وتشاحن، بين المسلمين وأحياناً بين الملتزمين من المسلمين، هذا الواقع يورث في نفوس كثير من المسلمين إحباطاً ويأساً، يشعرون معه أن القيام من جديد إن لم يكن صعباً فهو من دروب المستحيل. هؤلاء الذين قنطوا لم يدركوا طبيعة هذا الدين، ولم يدركوا طبيعة هذه الأمة، ولم يدركوا طبيعة سنن الله في الأرض، فالله سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يجعل الأيام دولاً بين الناس: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فكما تعاني أمة المسلمين من القرح اليوم فقد كان هناك أيام عانى فيها الآخرون من القرح، بينما كانت أمة المسلمين في سلامة وعافية، كل الأمم تسود فترة وتتبع غيرها فترات، كل الأمم تقود زمناً وتنقاد لغيرها أزماناً، بل إن كل الأمم تعيش مرة وتموت وتندثر وتختفي مرات، إلا أمة واحدة قد تنقاد فترة من الفترات، وقد تتبع غيرها زماناً من الأزمان، لكنها لا تموت أبداً، تلك هي أمة الإسلام. أين حضارة الرومان؟ لم يبق منها إلا أطلال وأبنية، أين حضارة الإغريق؟ لم يبق منها إلا فلسفة فارغة ومعابد وثنية، أين حضارة الفرس؟ ماتت ولم تترك ميراثاً، أين حضارة الفراعنة؟ بقيت منها جمادات وديار كديار عاد وثمود، وبقيت جثث محنطة وأوراق بالية، لكن أين الفراعنة؟ إما في بطون القبور، أو في جوف البحر حيث ينتظر جنود فرعون الساعة، أين التتار وجيوشهم؟ أين الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس؟ إنجلترا الآن تابع ذليل، أين الإمبراطورية الروسية القيصرية ثم الشيوعية؟ سقوط مروع وسيأخذ غيرهم دورات ثم يسقطون، وسيعلو نجمهم فترة ثم يحبطون: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]. إلا أمة واحدة ما سقطت إلا وكان بعد السقوط قيام، وما ضعفت إلا وكان بعد الضعف قوة، وما ذلت إلا وكان بعد الذل عزاً، تلك هي أمة الإسلام. طبيعة هذه الأمة أنها أمة شاهدة على غيرها من الأمم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، حتى الأمم الغابرة قبل أمة الإسلام نشهد عليها بما جاء في كتابنا القرآن، والأمم المعاصرة نشهد عليها بما رأيناه بأعيننا، وقومناه بمنهجنا وأحكامنا وشرعنا، وسنظل نشهد على الأمم إلى يوم القيامة، فنحن باقون ما دامت الحياة، وغيرنا لا شك مندثر وذاهب. طبيعة هذه الأمة أنها تحمل الرسالة الخاتمة والكلمة الأخيرة من الله إلى خلقه، وليس هناك رسول بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم، وليست هناك رسالة بعد الإسلام، فلا بد أن يحفظ الله المسلمين لأجل أهل الأرض جميعاً. طبيعة هذه الأمة أنها الأمة الوحيدة التي كان من همها أن تعلم غيرها دون ثمن ولا أجر، بل قد يدفع المعلمون المسلمون مالاً ويبذلون جهداً وعرقاً ووقتاً بل ونفساً حتى يعلموا غيرهم، هل من الأمم من يفعل ذلك غير أمة الإسلام؟ ألم تكن الشعوب تغير على الشعوب لتأخذ خيرها، وتنهب أرضها وتقتل أهلها؟ بينما كان المسلمون يضحون بأرواحهم؛ ليستنقذوا الناس من جحيم الكفر والضلال إلى جنة الإيمان والهدى. ألم يقل ربعي بن عامر قولاً ما تكرر في التاريخ على ألسنة المتحضرين من الأمم غير أمة الإسلام يوضح فيه الرسالة الإسلامية بإيجاز فيقول: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة؟ {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9] هذه طبيعة الأمة الإسلامية، بقاؤها هو خير الأرض، وذهابها فناء الأرض: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْ

دراسة الأعداء علوم الإسلام للتلبيس على المسلمين في دينهم

دراسة الأعداء علوم الإسلام للتلبيس على المسلمين في دينهم إذا كانت هذه هي طبيعة الأمة الإسلامية فلماذا الإحباط واليأس؟! يبدو لي أنه ليس الواقع فقط هو المسئول عن هذه الحالة من الإحباط، ولكن يبدو أن وراء الأمور أمور، يبدو أن هناك من يدبّر ويخطط ويكيد، حتى يزرع بذور اليأس في قلوب المسلمين، جزء من المؤامرة الفكرية التي تحدثنا عنها في أول محاضرة، من هم المتآمرون؟ وما هي وسائلهم؟ الحق أن هذه المؤامرة اشترك فيها الكثيرون، اشترك فيها المستشرقون: وهم طائفة من العلماء الأوربيين، أكل الغل قلوب معظمهم، وحرق الحقد صدور غالبيتهم، وأعمى الحسد بصائر جلهم، فجاءوا يتعلمون الإسلام ويدرسون تاريخه ورجاله ومناهجه لا ليهتدوا بهداه؛ ولكن ليطعنوا فيه وليلبسوا على المسلمين دينهم، انتشرت كتبهم وعمت أفكارهم وطغى تحليلهم، وباتوا شوكة حامية في حلق المسلمين.

افتتان المسلمين بالغرب وتتبعهم سننه

افتتان المسلمين بالغرب وتتبعهم سننه تبع هؤلاء المستشرقين طائفة أخرى يحلو لي أن أسميها طائفة المستغربين: وهم من أبناء المسلمين الذين فتنوا بالغرب وتاقت نفوسهم إليهم، واستغل الغرب الفرصة، ومدوا إليهم أيديهم وصنعوهم على أعينهم، ودسوا في عقولهم أفكارهم، ثم أعادوهم إلى أوطانهم يحبطون أبناءهم ويشككونهم في دينهم، ويقنطونهم من القيام إلا باتباع الغرب، حتى إن بعضهم كان يقول: إن بلادنا لن تتقدم إلا إذا نقلت ما في لندن وباريس بحلوه ومره، وبحسنه وسيئه وبمعروفه ومنكره، هكذا هو، عالم ويلبس لباس العلماء، ثم يطعن في الدين طعناً. ألم يذهب أحدهم -وهو من أبناء الأزهر الحافظين للقرآن- إلى فرنسا فتعلم هناك، ثم عاد إلى بلاد المسلمين يعلم تلامذته أن ينقدوا القرآن الكريم، فهذه آية قوية وهذه آية ضعيفة؟! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]، وكان يقول لتلامذته: ليس معنى أن القرآن ذكر وجود إبراهيم وإسماعيل أن هذا أمراً حقيقياً، لا بد من برهان مادي. وكان يقول لتلامذته: إن الآيات المدنية أكثر نضجاً من المكية، وكأن هذا من تراكم الخبرة تعالى الله عما يصفون، وكان يكتب كتباً عن الصحابة وبالذات في زمن الفتنة، فيطعن في كل من استطاع بلا خجل ولا تورع، ثم إذا به يترقى في المناصب حتى يصبح وزيراً للتعليم يربي ويعلم ملايين التلاميذ، وهكذا أصبح الشيخ الأزهري من دعاة العلمانية والإحباط، والأزهر منه براء.

دور المستعمرين وبعض حكام المسلمين في إشاعة الإحباط في نفوس المسلمين

دور المستعمرين وبعض حكام المسلمين في إشاعة الإحباط في نفوس المسلمين اشترك أيضاً في مؤامرة الإحباط المستعمرون الذين جثموا على صدر الأمة عشرات السنين، أذاقوها من العذاب ألواناً، في مصر وفلسطين وسوريا ولبنان وليبيا والجزائر وتونس والمغرب واليمن والسودان والعراق والكويت. واشترك في المؤامرة أيضاً بعض الحكام الذين أقنعوا شعوبهم أنهم لا طاقة لهم اليوم بجالوت وجنوده. ماذا فعلت هذه الطوائف المختلفة من المتآمرين؟ فعلوا جرائم عدة: أولاً: جريمة تزوير التاريخ، وهي جريمة بشعة لا يتسع المجال للخوض في تفصيلاتها، وسأفرد لها إن شاء الله محاضرة خاصة، كذبوا وزوروا والتقطوا الضعيف والموضوع، وأعرضوا عن الصحيح والحسن، ونقبوا عن المصائب، ولا بد أن في تاريخ كل أمة مصائب، وتركوا الأمجاد والفضائل، وركزوا على الجوانب السياسية لمشكلاتها، وأغفلوا الجوانب الأخلاقية والعلمية والمعمارية والعسكرية والاقتصادية والفكرية والأدبية، أساءوا التأويل عن عمد، وطعنوا في الشرفاء عن قصد، فخرج التاريخ إلينا ممسوحاً مشوهاً يستحي منه الكثير، ويتناساه الأكثر، واقتنع معظم المسلمين بأنه إذا كان السابقون الأولون على هذه الشاكلة فكيف يرجى خير ممن لحق؟! إن جريمة تزوير التاريخ جريمة كبرى، وهناك جريمة أخرى ألا وهي تشويه الواقع، فكما طمسوا تاريخ المسلمين المشرق فليطمسوا واقعهم وحاضرهم، فليشترك المربون والإعلاميون من المستغربين في تغييب الأمة، وتحبيط الشعب، وليساعد الإعلام الغربي في هذه المهمة، فيسمي الأشياء بغير أسمائها، فليكن الالتزام بالإسلام مرادفاً للإرهاب، وليكن الحجاب مرادفاً للتزمت، وليكن تطبيق الشرع مرادفاً للرجعية والجمود والتخلف. إذا أجرم مسلم في الغرب قالوا: أجرم مسلم، وإذا أجرم نصراني ذكروه باسمه لا بدينه، كما في حادث تفجير أوكلاهوما المشهور في أمريكا قالوا: فعلها المسلمون، فلما تبيّن أن الذي فعلها نصراني قالوا: فعلها فلان باسمه. إذا أساء مسلم قالوا: أساء مسلم، وإذا نبغ مسلم في علمه قالوا: نبغ مصري أو سوري أو باكستاني ووصفوه بقوميته. وآه من تصوير الملتزمين بالإسلام في وسائل الإعلام، كم من المرات يأتون بالشيخ أو (المأذون) في صورة هزلية مضحكة، كم من المرات يأتون بالمسلمين في الأفلام التي يطلقون عليها إسلامية في صورة عجيبة، ينظرون نظرات حالمة وأبصارهم معلقة في السماء، ويبتسمون في بلاهة ويتحركون ببطء شديد، سبحان الله! وكأن الإنسان إذا أسلم لا بد أن يتخلف عقلياً بهذه الصورة، كم من المرات يأتون بمن التزم طريق الإسلام ينقلب من الحديث بالعامية إلى الحديث بالعربية الفصحى ولكن في تنطع وتقعر شديدين، ومن حوله من الناس لا يفهمونه وينظرون إليه مستنكرين، سبحان الله! مع أن اللغة العربية هي أرقى لغات العالم أجمع. جريمة كبرى إلى جانب جريمة تزوير التاريخ، تلك هي جريمة تشويه الواقع. جريمة ثالثة: تعظيم الغرب، فبعد أن كسر رموزك الإسلامية في التاريخ والواقع؛ رفع لك من قيمة الغرب حتى لا يبقى أمامك خيار إلا الاتباع الذليل والتقليد الأعمى، عظموا سلاح الغرب، ومدنية الغرب، وأخلاق الغرب، وعقل الغرب، وأدب الغرب، وفن الغرب، بل وعظّموا لغة الغرب حتى افتتن المسلمون، وأصبح الرجل يحرص على تعليم الإنجليزية لابنه أكثر من حرصه على العربية، وحتى ابتلينا بما أطلقوا عليه مدارس إسلامية للغات بحجة أننا يجب أن نعلم أبناءنا لغة الغرب لندعوهم إلى الإسلام، أتتعلمها على حساب لغتك؟ وبحجة أن الأعمال المرموقة لا بد لها من لغة أجنبيه جيدة، هل على حساب لغة القرآن؟! وحتى لو أتيت لابنك بمعلم للعربية في البيت سيظل الطفل معظماً للغة الأولى في مدرسته. ففي فرنسا لو خاطبت رجلاً بالإنجليزية ما رد عليك إلا متأسفاً لاعتزازه بلغته، في ألمانيا كذلك إذا أردت أن تعيش هناك فلا حديث إلا بالألمانية، ولقد ذهبت إلى المركز الثقافي الأسباني أبحث عن بعض الصور الخاصة بتاريخ المسلمين في الأندلس فما وجدت عندهم كتاباً واحداً بالإنجليزية فضلاً عن العربية، وعندما قلت لهم: إن اللغة الأسبانية محدودة جداً في مصر فعليهم أن يأتوا بكتب مترجمة حتى نفهمها، قالوا: من أراد أن يعرف عنا شيئاً فليتعلم لغتنا، هكذا يعتزون بلغتهم المحدودة، جريمة تعظيم الغرب أدت إلى صد الطموح عند الشباب، وضعف الهمم وهوان العزم، فيصبح أمل الشاب المسلم في الحياة أن يلقي بوطنه وأهله وراء ظهره، وينطلق إلى بلاد الغرب إلى أمريكا وأوروبا؛ ليعيش في جنة الله في أرضه.

وسائل معينة على تجاوز الإحباط والتخلص من الانهزامية

وسائل معينة على تجاوز الإحباط والتخلص من الانهزامية

الإيمان الصادق بموعود الله عز وجل لعباده المؤمنين

الإيمان الصادق بموعود الله عز وجل لعباده المؤمنين نتيجة هذه الجرائم والمؤامرات أحبط كثير من المسلمين إحباطاً شديداً ورضخوا للواقع، وقنعوا بالسير في ذيل الحضارة الغربية. مع ضخامة المؤامرة وبشاعة الكيد فإني أعود من جديد وأتعجب: كيف يمكن أن تحبط أمة تمسك في يديها بكتاب القرآن؟! ألم تسمعوا إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، يا إخوتي وأحبابي! كل ما ذكرناه من جرائم ومكائد ومؤامرات وتزوير وتشويه وخيانات وعمالات ونفاق وكذب، كل هذا يدخل تحت كلمة: ((ويمكرون))، خذ الجانب الآخر من المقابلة: {وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، فالله يا إخوة! يقابل مكرهم بمكره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. أيها المسلمون! إن كان أصابكم شيء من الإحباط؛ فلكونكم لم تفهموا المعركة على حقيقتها، ولم تدركوا الصدام بكامل أبعاده، هي ليست حرباً بين المسلمين والكافرين وإن كان ظاهرها كذلك، إنما هي في حقيقتها حرب بين الله وبين من مرق عن طريقه وكفر بعبادته، وارتضى غيره حكماً وقبل غير كتابه شرعاً، هي حرب بين الله وبين طرف صغير حقير من مخلوقاته سبحانه، لكن الله من رحمته بالمؤمنين ومن كرمه عليهم منّ عليهم بأن جعلهم جنده وحزبه وأولياءه، فالمؤمنون يقفون أمام الكافرين ملتزمين بمنهج ربهم في وقوفهم، وكما أمرهم يفعلون لا يترددون ولا يفرون، واثقين بوعده راغبين في جنته، راهبين لناره، مخلصين له، معتمدين عليه، لاجئين إليه، إن فعلوا ذلك كان هو سبحانه جلت قدرته وتعاظمت أسماؤه المدافع عنهم، الحامي لهم المؤيد لقوتهم، الناصر لجيشهم، الناشر لفكرتهم، المنتقم من عدوهم. واسمعوا وأنصتوا لقوله سبحانه وتعالى حتى تفهموا حقيقة المعركة: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16]، سبحانه وتعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:50 - 51]. أيها المسلمون المعتزون بإسلامهم! هل تعلمون لمن تعملون؟ وإلى أي ركن تأوون؟ إنكم تعملون لله، وتأوون إلى ركن شديد سبحانه، إذا جلس المتآمرون في جنح الظلام يدبرون ويخططون هل هم بعيدون عن عينه سبحانه؟ {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]، أو إذا أطلق المتآمرون صاروخاً أو رصاصة أتسقط بغير علمه سبحانه؟! إذا كان يعلم بسقوط أوراق الشجر عبر الزمان والمكان فكيف بسقوط الصواريخ؟! {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:59 - 67]. أ

التصديق بما جاء عن النبي من المبشرات لهذه الأمة

التصديق بما جاء عن النبي من المبشرات لهذه الأمة انظروا إلى هذه الصورة الرائعة الجلية في غزوة بني النضير، يقول سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر:2]، أنتم أيها المؤمنون المقاتلون المجاهدون! لما رأيتم مناعة الحصون وبأسها ظننتم أن اليهود لن يهزموا: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا} [الحشر:2]، أي: اليهود، {أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:2]، ماذا حدث؟ {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر:2]، ثم ما هي الغاية؟ {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، الغاية من القصة أن نعتبر، القرآن ليس تأريخاً لما سبق، القرآن كتاب عظيم ينبض بالحياة ويهدي إلى صراط مستقيم. أيها المسلمون المعتزون برسولهم صلى الله عليه وسلم! ألم تسمعوا إلى قول رسولكم وحبيبكم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول في الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله: عن ثوبان رضي الله عنه: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)؟ نعم يا إخوة! سيبلغ ملك المسلمين مشارق الأرض ومغاربها بكل ما تحمله الكلمة من معاني. ألم تسمعوا إلى قول مرشدكم وقدوتكم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني وابن حبان وصححه الألباني: عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر - يعني: الإسلام - ما بلغ الليل والنهار)، أي: كل الأرض؟ وأي جزء في الأرض لا يبلغه الليل والنهار؟ (ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين)، والمدر: الحجر أي: بيوت المدن، والوبر: هو الشعر أي: بيوت البادية، فكل بيوت الأرض مدناً وباديةً سيدخلها الإسلام: (إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)، وعود من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. بل اسمع وتأمل: روى الإمام أحمد وصححه الألباني: عن أبي قبيل رحمه الله قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق. قال: فأخرج منه كتاباً. قال: فقال عبد الله: (بينما نحن حول رسول الله نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أو رومية؟ فقال: مدينة هرقل)، أي: قسطنطينية تفتح أولاً، والقسطنطينية: هي عاصمة الدولة الرومانية الشرقية آنذاك وهي اسطنبول الآن، ورومية هي روما، وكانت عاصمة الدولة الرومانية الغربية، وكانت هاتان المدينتان معاقل النصرانية في العالم. ويفهم من الحديث: أن الصحابة كانوا يعلمون منه صلى الله عليه وسلم أن كلتا المدينتين ستفتحان، لكن يسألون أي المدينتين تفتح أولاً، فبشر صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية أولاً وقد كان، وتحققت البشارة النبوية بعد أكثر من 800 سنة، وبالضبط في 20 جمادى الأولى سنة (857هـ) على يد الفتى العثماني المجاهد: محمد الفاتح رحمه الله، وستحدث البشارة الثانية لا محالة، وسيدخل الإسلام روما عاصمة إيطاليا. ولي على هذا الأمر تعليقان: التعليق الأول: إن بعض العلماء يعتقد أن فتح رومية -أو روما- سيكون بالدعوة إلى الإسلام وبإنشاء المراكز الإسلامية والمساجد فقط، والحق أن الحديث لم يشر إلى ذلك، وأرى أن قصر تفسير فتح رومية على الدعوة دون الجهاد هو نوع من الهزيمة النفسية، إذ هو لا يتخيل أنه بالإمكان أن يحرك المسلمون جيشاً لإيطاليا، فلتكن الدعوة إذاً هي التفسير للحديث، لكن سياق الحديث يوحي بأن الفتح سيكون جهاداً، وسياق الواقع كذلك يوحي بذلك، فقد فتحت القسطنطينية بعد حلقات متتالية من الجهاد المضني المستمر، وقد تفتح رومية بطريقة مشابهة؛ ولذلك جمعت مع القسطنطينية في حديث واحد: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]. التعليق الثاني: إن محمد الفاتح رحمه الله كان يعد العدة ويجهز الجيوش فعلاً لفتح رومية؛ وذلك لاستكمال تحقيق البشارة النبوية، لكنه لم يوفق لذلك، وقد تعجبون مني حين أقول: إنني قد سعدت وحمدت الله

قراءة التاريخ تبعث الأمل في قلوب المسلمين

قراءة التاريخ تبعث الأمل في قلوب المسلمين وتعالوا نقلب صفحات قلائل، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ارتد الجزيرة العربية بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية: المدينة ومكة والطائف وقرية هجر بالبحرين، ولم تكن الردة كما يعتقد البعض بمنع الزكاة فقط، بل ارتد كثيرون عن الإسلام بالكلية، ومنهم من فتن المسلمين في دينهم، ومنهم من قتل المسلمين، بل إن منهم من ادعى النبوة وليسوا بالقليلين، وعم الكفر جزيرة العرب، وأيس بعض الصحابة، فكان الموقف أشد مما نحن فيه الآن ألف مرة، حتى قال بعضهم: يا خليفة رسول الله! لا طاقة لنا بحرب العرب جميعاً. الزم بيتك وأغلق بابك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين. ظنوا أنه لا أمل في القيام، لكن الله منّ على المسلمين بـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي قام كالأسد الهصور يردد قولة لو قالها المسلمون لسادوا الدنيا جميعاً، قال: أينقص الدين وأنا حي؟! أينقص الدين وأنا حي؟! أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي، وقام وقام معه المسلمون. فما هو إلا عام من الجهاد والقتال والنزال، حتى أشرقت الأرض من جديد بنور ربها، وأسلمت الجزيرة العربية بكاملها، بل وأخذ أبو بكر الصديق قرارً أحسب أنه أعجب القرارات في التاريخ وهو: إخراج جيشين من جزيرة العرب جيش لفتح بلاد فارس، وجيش لفتح بلاد الروم، عجباً عجباً لك أيها الجبل! دولتان تقتسمان العالم ودولة صغيرة خارجة من حرب أهلية مدمرة! لكنه يا إخوة! موعود صادق: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، ويفتح الله له الدولتين، وتكون انتصارات بلا هزائم، وتمكين بلا ضعف، وأمن بلا خوف. أسمعتم يا إخوتي! عن ملوك الطوائف؟ أرأيتم كيف قسمت بلاد الأندلس إلى أكثر من عشرين دويلة صغيرة متناحرة مع أختها؟ أرأيتم العمالة والخيانة والخزي والعار؟ أرأيتم السفه والمجون؟ ثم أرأيتم ما شابه ذلك في بلاد المغرب والجزائر والسنغال وموريتانيا في قبائل البربر؟ أرأيتم الزنا كيف فشا؟ والخمور كيف انتشرت؟ أرأيتم السلب والنهب كيف طغى على الأرض؟ ثم جاء رجل واحد يدعى الشيخ: عبد الله بن ياسين يدعو إلى الله على بصيرة، ويربي ويعلم ويجاهد ويصابر، فإذا الرجل رجلان، والرجلان أربعة، والأربعة ألف وألفان وعشرة آلاف، وإذا البلاد تفتح والإسلام ينتشر ودولة المرابطين تقوم، وإذا رجلين وكأنهما ملكان يوسف بن تاشفين وأبو بكر بن عمر يعلمان ويربيان ويجاهدان ويصابران، فإذا بالدولة تتسع، والخير يعم، ويدخل في الإسلام ثلث أفريقيا، ويصبح الجيش 100. 000 فارس في الشمال، و 500. 000 جندي في الجنوب، وإذا بالجيوش تعبر إلى الأندلس فتعيد البسمة إلى شفاه المسلمين، وتشفي صدور قوم مؤمنين وتذهب غيظ قلوبهم، وتذل الشرك وأهله، وتعز الإسلام وحزبه، وتنصر في الزلاّقة بـ 30. 000، يهلكون 60. 000 من القوط الأسبان، أرأيتم كيف تكون طاقة الإسلام؟ أرأيتم كيف يكون رجال الإسلام؟ أرأيتم كيف يكون شرع الإسلام؟ ولماذا نذهب بعيداً؟ هل أتاكم نبأ فلسطين؟ لماذا الجزع من احتلال دام 50 سنة؟ ألم تسمعوا عن حملات الصليبيين التسع البشعة؟ ألم تعلموا أنهم مكثوا في أرض فلسطين محتلين لها مائتين من السنين، وفي بيت المقدس 92 سنة، ألم تقرءوا أنهم قتلوا في بيت المقدس 70. 000 من المسلمين؟ وكانوا يسيرون في دماء المسلمين إلى ركبهم، ثم ألم تر كيف فعل ربك بالصليبيين؟ دارت دورتهم في التاريخ وانتهت دولتهم البشعة القذرة، وقام رجال متوضئون متطهرون، قارئون لكتابهم، خاشعون في صلاتهم، حاملون لسيوفهم معتمدون على ربهم، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، قام رجال أمثال: عماد الدين زنكي ونور الدين محمود الشهيد وصلاح الدين الأيوبي، قاموا يحرصون على الموت فوهبت لهم الحياة، قاموا يتزينون للجنة، فتزينت الجنة لهم، قاموا مع الله فكان الله معهم، صدقهم الله وعده، ونصر عباده، وأعز جنوده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا هو سبحانه فكانت حطين وكان ما بعد حطين، وكانت أياماً تشرف التاريخ بتدوينها.

الصحوة الإسلامية المعاصرة وانتشار الإسلام في ربوع الأرض ودورهما في إزالة الإحباط

الصحوة الإسلامية المعاصرة وانتشار الإسلام في ربوع الأرض ودورهما في إزالة الإحباط ولماذا نقلب في التاريخ فقط؟ أليس في واقعنا ما يشهد لوعد ربنا بالتحقيق؟ نعم. والله1 رأينا وسمعنا ونحن على ذلك من الشاهدين، واعقدوا معي مقارنة بين واقعنا الآن وواقعنا منذ أربعين سنة، وهي ليست في عمر الأمم بشيء، أرأيتم الصلاة في المساجد؟ أرأيتم زوّار المساجد وعمارها من هم؟ وكيف أعدادهم؟ كنا في القديم لا نشاهد إلا أرباب المعاشات وقليل ما هم، أما الآن فالمساجد أكثر من أن تحصى، وعمارها كذلك جلهم من الشباب والأطفال، ألا ينبئ ذلك بمستقبل لهذا الدين؟ أرأيتم الحج والعمرة؟ ملايين! من المسلمين في كل عام من كل حدب وصوب؟ أعلمتم أنه أصبح من المستحيل أن تجد الكعبة خالية من الزوار والطوّاف، أرأيتم اشتياق الرجال والنساء والشيوخ والشباب إلى الحج والعمرة؟ أرأيتم الحجاب وانتشاره؟ في الستينات في الجامعة المصرية لم يكن هناك إلا فتاة واحدة محجبة فقط، ثم دارت الأيام فإذا دخلتم الجامعة الآن ونظرتم إلى النصف المملوء من الكوب بروح التفاؤل وجدتم الآلاف من الفتيات مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات، أما إذا نظرتم إلى نصف الكوب الفارغ فسيدخل في روعكم ما نحن بصدد دفعه، أرأيتم إلى الانتخابات في النقابات والاتحادات وغيرها؟ ألم تلمسوا تعاطفاً وحباً وتضامناً مع من رفع الإسلام شعاراً واتخذه منهجاً وإماماً؟ ألم تشاهدوا بأعينكم كيف يختار المسلمون المسلمين دون أن يعرفوا أشخاصهم لا لشيء إلا لأنهم فقط يعتزون بإسلامهم؟ أرأيتم معارض الكتاب؟ ألم تلحظوا أن أكثر الكتب مبيعاً هي الكتب الإسلامية؟ وأن أشد الأجنحة زحاماً هي الأجنحة الإسلامية؟ وأن أكبر الدور إنتاجاً هي الدور الإسلامية؟ بل أرأيتم كيف أن كل الفئات على اختلاف توجهاتها تحاول الآن أن تلعب بورقة الإسلام حتى وإن كانوا لا يرغبونه؟ وذلك لعلمهم بأن هوى الناس وميلهم أصبح للشرع والإسلام. نعم. والله! رأينا رأينا أحزاباً علمانية تعلن في برامجها أطروحات إسلامية، رأينا بنوكاً ربوية تفتح فروعاً للمعاملات الإسلامية، رأينا محلات لتصفيف الشعر للنساء تفتح أقساماً للمحجبات، رأينا برامج تلفزيونية ما كانت تحادث إلا فنانين وفنانات، وراقصين وراقصات، بدأت تروّج لبرامجها باستضافة علماء المسلمين، رأينا كل ذلك وغيره، وسوف تحمل الأيام المزيد. ثم تعال يا أخي! ندقق النظرة ونوسع المدارك ونخرج للساحة العالمية! ألم تسمع إلى نصر الأفغان على الروس: {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:4 - 6]؟ إياك إياك أن تظن أن الروس هزموا لجبال أفغانستان الوعرة، بل هزموا لأن الله هزمهم، وردوا لأن الله ردهم عندما رأى من أهلها رجالاً أمثال الجبال أو أقوى من الجبال. ألم تشاهدوا جنود إسرائيل يرقصون طرباً ويهللون فرحاً؛ لأنهم فروا كالجرذان وهربوا كالقطيع بمقاومة شعبية قادها حزب الله في بلد صغير كلبنان خرج من حروب أهلية إلى أزمات اقتصادية؟ ألم تشاهدوا كيف احتلت جمهوريات إسلامية بقيصرية روسية ثم بشيوعية بلشفية ما يزيد على 300 عام، قهر وتعذيب وتشريد وتذبيح، حمل المصحف جريمة يعاقب عليها القانون، الإيمان بالله ينكرونه، والإيمان برسوله يجحدونه، ثم تمر السنوات ويولي الليل وتشرق الشمس، فإذا بشعوب ما زالت مسلمة، وبقلوب ما زالت مؤمنة، وبأيد ما زالت متوضئة، وجباه ما زالت ساجدة، فعل من هذا؟ إنه فعل الله الذي وعد: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. ثم تعال معي يا أخي! أبعد من ذلك. أرأيت أمريكا كيف كان بها بضعة آلاف مسلم في الستينات، ثم هم الآن 8. 000. 000 مسلم؟! والله يا إخوة! رأيت في مدينة شقة كانت تستخدم مسجداً في السبعينات فإذا بالأيام تمر فرأيت في المدينة عشرة مساجد، أرأيت الجاليات الإسلامية في الغرب؟ أسمعت عن مدارسها؟ عن مساجدها؟ عن مراكزها؟ عن جرائدها؟ عن مؤتمراتها؟ عن شركاتها؟ أعلمت يا أخي! أن دين الإسلام هو أسرع الأديان نمواً في العالم الآن؟ أعلمت أن موقعاً إسلامياً على الإنترنت يدخله يومياً مليونان من الزائرين، منهم مليون في أمريكا وحدها؟ أليس هذا فتحاً ونصراً وعزاً وأملاً؟

النظر في مصير أهل الكفر وما يصيبهم من عذاب الله الدنيوي

النظر في مصير أهل الكفر وما يصيبهم من عذاب الله الدنيوي يا إخواني ويا أحبابي! من تقاتلون وأي الأقوام تحاربون؟ أليسوا اليهود ومن عاونهم؟ أليسوا الذين قال عنهم ربنا: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران:112]؟ أليسوا الذين قال عنهم ربنا: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14]؟ أليسوا الذين قال عنهم ربنا: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة:96]؟ هؤلاء هم اليهود: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:13 - 15]، إن كان اليهود أو كانت الأرض جميعاً معهم أتخشونهم؟ أتخشون كثرتهم وأحزابهم وتجمعهم؟ ألم يخاطبهم الله وأمثالهم بقوله: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]؟ أتخشون عدتهم؟ ألم يقل ربنا: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:12]؟ أتخشون أموالهم؟ ألم يقل ربنا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]؟ أتخشون عقولهم وجوارحهم؟ ألم يصفهم ربنا بقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. هل تظنون أيها الإخوة المسلمون! أن حياة هؤلاء نصر بلا هزيمة وعز بلا ذل؟ شاهدنا أمريكا المتكبرة تخرج مهرولة ومولولة من فيتنام التي لا ترى على الخارطة بـ 59. 000 ألف قتيل. وشاهدناها مرة ثانية ومرة ثالثة تخرج بنفس الهرولة والولولة من الصومال ولبنان، شاهدنا مفاعل تشرنوبل المحكم ينفجر ويلوث الآلاف من الأفدنة، شاهدنا صاروخاً أسموه تشالنجر أو المتحدي قالوا عنه: إنهم بلغوا فيه حد الكمال، تعالى الله عما يشركون: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، انفجر الصاروخ الكامل بعد ثوان معدودات من إطلاقه وأمام أعينهم؛ ليزيد من حسرتهم. شاهدنا فيضاناً يغرق مدينة في ساعتين، مدينة نيوأورليانز في أمريكا في مايو سنة (1995م): {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12]، شاهدنا عاصفة ثلجية تدفن السيارات تماماً وتغلق الشوارع وتوقف الحياة ثلاثة أيام متصلة في نيويورك المدينة العصرية الحديثة. شاهدنا إعصاراً يحمل سيارات النقل الضخمة ويقذف بها فوق المنازل، شاهدنا ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر تقلع الشجر في الغابات، وتمحو الحياة في لحظات، شاهدنا ذلك ولكن يا للحسرة! لم نشاهد هناك مدّكراً، شاهدنا مجتمعاً مهلهلاً مفككاً منحطاً يعيش على الرذيلة ولا يهتم بالفضيحة، أهواؤه تسيره ورغباته تحركه وشهواته تسيطر عليه وتدمره. انظروا معي إلى هذه الأرقام تصف حال المراهقين الأمريكان الذين لم يبلغوا بعد ثمانية عشر عاماً من العمر والذين سيحكمون بلادهم بعد عشر سنوات: 55% من هؤلاء الشباب ارتكبوا جريمة الزنا، ترتفع النسبة إلى 80% في المدن الكبرى، وتنخفض إلى 33% في المناطق الريفية، أي: أن أشرف مناطق أمريكا يرتكب فيها الزنا بنسبة 33%، هذا تحت الثامنة عشرة من العمر. فإذا صعدنا فوق ذلك قاربت النسبة 90%، 350. 000 حالة حمل بدون زواج كل عام لبنات أصغر من ثمانية عشر عاماً، وهذا عدد أقل بكثير من الحقيقي، وذلك لكثرة الإجهاض. 24% من العائلات الأمريكية ليس فيها أب؛ إما لأن الأم لا تعرف الأب؛ لأنها ارتكبت الزنا مع أكثر من رجل؛ وإما بسبب الطلاق، و40% من الشباب المراهق يجربون المخدرات، أما الخمور فحدث ولا حرج، الرقم أكبر من أن يحصى، الجرائم زادت في مدينة دالاس الأمريكية بنسبة 70% في عام واحد. السبب الثالث للوفاة في المراهقين هو الانتحار، الانتحار هو السبب الثالث للوفاة في المراهقين الذين سيحكمون أمريكا بعد ذلك، أمريكا وحدها تسجل 32. 000 حالة انتحار كل عام. المرض بالقمار

استنشاق رياح النصر بصبر المسلمين وثباتهم

استنشاق رياح النصر بصبر المسلمين وثباتهم أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله! أتشك في نصر على قوم كهؤلاء؟! أتشك في نصر على جيش غالبيته من الزناة والشواذ؟! أتشك في نصر على جيش أشرب في قلبه حب الخمور والمنكرات؟! أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله! {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196 - 197]، {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} [الأنفال:59]. أخي! يا من تظن أن النصر قد تأخر. اعلم أن النصر لا يأتي إلا بعد أشد لحظات المجاهدة، ألم تسمع إلى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110]، أي: ظن أقوامهم الكفار أن الرسل قد كذبوا: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، في هذه اللحظة التي ظن فيها الجميع الرسول وقومه أن الأمر قد وصل إلى نهايته في التكذيب والظلم والإعراض والشك، في هذه اللحظة التي وصل فيها الأذى للدعاة مداه، وقد ثبت الدعاة على مبادئهم، هنا في هذه اللحظة فقط جاءهم نصرنا، اسمع أيضاً إلى قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214]، ماذا حدث للذين من قبلكم؟ {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]، في هذه اللحظة التي بلغ فيها السيل الزبى، وبلغ الصبر نهايته، في هذه اللحظة المجيدة يقول سبحانه: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. نعم. {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، ألم تلاحظ في السيرة النبوية أن أشد لحظات الابتلاء للمؤمنين كانت في غزوة الأحزاب حيث وصفها ربنا بقوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11]، ألم تلحظ أنه بعد غزوة الأحزاب دخل المسلمون في فتح يتلوه فتح؟ بعد أشد لحظات المجاهدة جاءت الحديبية ثم مكة ثم الطائف ثم جزيرة العرب بكاملها، أمجاد تعقبها أمجاد، وأيام نصر وفرح وتمكين. أخي! يا من تظن أن النصر قد تأخر. اعلم أن الأدب مع الله يقتضي عدم استعجاله، وأن حكمة الله البالغة اقتضت أن يختبر أحبابه وأصفياءه، وأن النصر يأتي في وقت يعلم الله فيه أن خير المؤمنين أصبح في النصر وليس في انتظار النصر. يروي البخاري: عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟) ألم شديد وإيذاء عظيم، جلد وحرق وخنق وشنق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، سبحان الله! تستعجلون بعد كل هذا التعذيب في مكة، كان خباب بن الأرت يستعجل؟ نعم. ما زال هناك أشياء أخرى، ما زال هناك ترك للمال وترك للأهل وترك للديار، ما زال هناك صراع ونزال، ما زال هناك جهاد وشهادة. أخي! يا من تظن أن النصر قد تأخر. اعلم أن النصر لا يأتي إلا بيقين لا يساوره شك ولا تخالطه ريبة: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15]، أرأيت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانوا في الأحزاب لا يأمنون على شيء؟ كيف كانوا محاصرين ومهددين؟ ثم هم يستمعون إلى بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور تفوق الخيال، فإذا هم مصدقون وبالبشرى موقنون، انظروا كيف يحكي البراء رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضرب الحجر ويقول: بسم الله، ثم ضرب ضربة وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر فقال: الله أكبر! أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر! أعطيت

الجهاد بالمال

سلسلة فلسطين_الجهاد بالمال حث الله سبحانه على الإنفاق في سبيله، وجعل ذلك من أبواب الجهاد فيه، فإن للمنفق عند الله أجراً عظيماً؛ وما ذلك إلا لأن الإنسان جبل على حبه للمال، فهو بإنفاقه يثبت حبه لله ولرسوله، والإنفاق نتيجته المباشرة هي الجنة، وقد سطر الصحابة رضي الله عنهم أروع النماذج في الإنفاق في سبيل الله لنصرة دينه، ولنا فيهم أسوة حسنة.

المال بين فطرة الإنسان بالشح فيه ووجوب إنفاقه في وجوهه

المال بين فطرة الإنسان بالشح فيه ووجوب إنفاقه في وجوهه أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم والقسوة، والغفلة والعيلة، والذلة والمسكنة، ونعوذ بك يا ربنا! من الفقر والكفر والفسوق، والشقاق والنفاق، والسمعة والرياء، اللهم إنا نعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين. أما بعد: فمع المحاضرة العاشرة من المحاضرات المتعلقة بقضية فلسطين، وذكرنا في المحاضرات السابقة وسيلتين هامتين في نصرة القضية الفلسطينية، ذكرنا وسيلة تصحيح المفاهيم، وذكرنا وسيلة قتل الهزيمة النفسية والإحباط عند المسلمين، وكلامنا السابق وإن كان ظاهره كلاماً إلا أنه ينطوي عليه عمل كبير، فالمخطئ في فهم القضية لا يعمل لها، أو قد يعمل بطريقة تؤخّرها وتعطّلها، أو على أكثر تقدير فإنه قد يعالج جزئيات ويترك جزئيات أهم، ثم هو إن فهمها بطريقة صحيحة سليمة، لكن أصيب بداء الإحباط وهو داء قاتل ومرض عضال فإنه لن يتحرك، ويصبح كالفلاسفة في كل وادٍ يهيمون، يقولون ما لا يفعلون، يقبلون بالتنظير والتفكير، فإذا جاءوا إلى ميدان العمل ظهر فشلهم وبطلت نظرياتهم، والمسلم ليس كذلك، فهم القضية لا بد أن يتبع بتحريك لها، ستسألون عن علمكم والله، ستسألون عن علمكم. روى الترمذي والطبراني رحمهما الله: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه). ففهم قضية فلسطين لا بد كما ذكرنا أن يتبع بتحريك لها وبتفهيم لمن حولك، وبحركة دءوبة لا سكون فيها، وبتعب وكد لا راحة فيهما، وكذلك قتل الهزيمة النفسية، إن كنت قد تشبعت بالأمل، وتمكن اليقين بالنصر من قلبك، وسرت روح العزيمة في كل أوصالك؛ فانقل هذا إلى غيرك، وابعث الأمل في نفوس اليائسين، ومد يدك إليهم، وحرك عزائمهم، وكن لهم شعلة لا تنطفئ، وشجرة لا تذبل، ونهراً عذباً سلسبيلاً لا يتوقف عن السريان، بذاك يتحول الفهم والأمل إلى حركة وعمل. إن كلماتنا تظل صوراً باهتة وأجساداً هامدة لا حراك فيها، حتى إذا عملنا من أجلها ومتنا في سبيلها دبت فيها الحياة، فصارت كياناً هائلاً متحركاً يصلح ما أفسده الناس، ويبني ما هدمه الناس، ويعمّر ما دمّره الناس؛ بذاك يصبح الفهم والأمل سلاحين ماضيين نافذين يحملهما المؤمن في حياته وإلى أن يموت، بل إنه والله لا يموت، فإذا كان الجسد قد كتبت عليه الوفاة فإن الفكرة قد تعيش إلى يوم القيامة، يجني المؤمن من ثوابها وفضلها وخيرها وهو هناك راقد في قبره. روى الإمام مسلم رحمه الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، فإذا أدركت أن الفهم والأمل وسيلتان ناجحتان ناجعتان في حل قضية فلسطين، وحل قضايا المسلمين قاطبة، فهاك وسيلة ثالثة ناجعة ناجحة أيضاً ستصلح حالهم، وتصلح حالك قبلهم، وستسعد قلوبهم، وتسعد قلبك معهم، تعالوا ندخل الأرض المقدسة التي كتب الله لنا، نأخذ لقطات من هناك، وأترك لفطنتكم وحصافتكم تحديد اسم الوسيلة الثالثة. اللقطة الأولى: رجل يعول عشرة يعمل خارج مدينته، يخرج كل يوم إلى عمله فإذا بالمعابر مغلقة، والمدينة محاصرة، فيعود إلى أهله خالي الوفاض. اللقطة الثانية: شيخ يملك متجراً لا يستطيع أن يفتحه إلا قليلاً، فالحالة الأمنية حرجة جداً، أبناء يهود يعيثون في الأرض فساداً، وإن فتحه يوماً ما اشترى منه إلا القليل، فالمال قد قل في الأيدي، والفقر قد عم الأرض. اللقطة الثالثة: خمس عائلات بالأمس قصف منزلهم وبدد متاعهم وضاعت أملاكهم، وهم يبحثون عن مأوى، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. اللقطة الرابعة: عائلة مكونة من أب يتجاوز الستين، وتسعة أبناء أكبرهم في السادسة والعشرين، الأب لا يعمل، والابن يعول، خرج الابن في مسيرة غاضبة يحمل حجراً يواجه يهود، فإذا به يتلقى رصاصة في صدره فيلقى ربه، وتفقد العائلة عائلها. وهاك لقطة خامسة: رجال من أمتنا مجاهدون صابرون، باعوا أرواحهم لله واشتروا الجنة، يريدون سلاحاً أقوى من الحجر، لكن في هذه الظروف ارتفع ثمن السلاح وقلت مصادره، وقد لا يشتري إلا من يهودي بأضعاف أضعاف ثمنه

الحكمة في كون حب المال فطرة في الإنسان

الحكمة في كون حب المال فطرة في الإنسان حب المال متغلغل تماماً في النفس البشرية، مسيطر تماماً على جنباتها، لماذا يا إخوة؟! لماذا يخلق الله جلت قدرته وتعاظمت حكمته الإنسان على هذه الجبلة؟ لماذا يفطره على هذه الفطرة؟ ما الحكمة الربانية الجليلة وراء ذلك؟ هذا ما أسميه بفلسفة الابتلاء، الله سبحانه وتعالى بقدرته وحكمته ذرأ في النفس أموراً متأصلة فيها، وعظم جداً في حبها، وهنا لما علم سبحانه وتعالى أنك أصبحت تحبها حباً جمّاً ولا تطيق لها فراقاً، طلب منك أن تعطيها في سبيله وتنفقها من أجله؛ حتى تثبت أنك تقدم حب الله على حب شيء مؤصّل عميق في الفطرة، وهذا دليل الصدق في حب الله، فلو طلب الله من الخلق دفع شيء بسيط زهيد لنجح في الاختبار الصادقون والكاذبون، والأمر ليس تمثيلية هزلية، الاختبار حقيقي وجاد، بل هو عسير وشاق؛ ولكونه عسيراً وشاقاً فإن المكافأة سخية، والجائزة عظيمة، بل هي أعظم من أن يتخيلها البشر أو تخطر على أذهانهم، إنها الجنة التي لو أدركتم حقيقتها لذبتم اشتياقاً إليها، ولما طابت لكم حياة على الأرض، لو أدركتم حقيقتها ما خاطرتم بها ولو كان الثمن خزائن الأرض وكنوز الدنيا بأسرها. ترجمة هذا: أنك تجد في نفسك حباً فطرياً وميلاً غريزياً للمال، ثم يطلب الله منك أن تنفقه في سبيله، هنا لا بد أن تعقد مقارنة سريعة حتمية في داخلك: أيهما تحب أكثر المال أم الله؟ نعم يا إخوة! هذه هي الحقيقة بكاملها: المال أم الله؟ كل إنسان يقول بلسانه: أختار الله على ما سواه، لكن لا بد أن يصدق العمل قول اللسان، وإلا فما معنى الاختبار؟ ترجمة هذا أيضاً: أنك تجد في نفسك حباً فطرياً للآباء والأبناء والأزواج والعشيرة، ثم يأتي موقف إما أن ترضي فيه الأحباب، وإما أن ترضي فيه الله، وعليك أن تعقد مقارنة سريعة: الأحباب أم الله؟ وتذكر أن الإجابة ستكون بالفعل لا بالقول، الأمر جد خطير والقضية مصيرية في حياة الإنسان: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} [التوبة:24]، انتبهنا إلى المقارنة، {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:24]. فالجهاد جزء من حب الله ورسوله لكن ماذا يذكر في هذا المقام؛ حتى يلفت النظر إلى قضية الفعل لا القول؟ لا يكفي أن تقول: أحب الله أكثر، لا بد من الجهاد في سبيله وبذل هذه الأشياء الثمانية المذكورة في الآية، وماذا يحدث لو لم تفعل؟ {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].

وسائل التحفيز على الإنفاق

وسائل التحفيز على الإنفاق أنا في هذه المحاضرة أريد أن أحفزكم إلى معاكسة فطرتكم، ومخالفة ميلكم، ومقاومة غريزتكم، وهو أمر كما ترون من الصعوبة بمكان؛ ولكوني أعلم أني أضعف من أن أحفزكم بقولي فقد آثرت أن أحفزكم بقول العليم ببواطنكم الخبير بخفايا نفوسكم، القدير على تصريف قلوبكم. أذكر لكم طريقة الله عز وجل في التحفيز على الإنفاق، وهي طريقة عجيبة فريدة معجزة جديرة بأن تدرس بعمق وتفقه وعناية، طريقة تختلف كثيراً عن طريقته سبحانه وتعالى في التحفيز على أمور الخير الأخرى، طريقة تشعرك فعلاً أن قضية إنفاق المال قضية محورية في مسألة الابتلاء والاختبار، بل هي قضية محورية في إثبات صدق إيمان العبد؛ ولكونه يعلم سبحانه أن إخراج المال شاق وعسير، نوَّع سبحانه وتعالى في طريقته، وعلم رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وسائل فريدة لهذا الأمر.

القناعة بأن الجنة نتيجة مباشرة لإنفاق المال

القناعة بأن الجنة نتيجة مباشرة لإنفاق المال تعالوا نشرب حتى نرتوي من آيات الله عز وجل ومن حديث حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم. أولاً: جعل سبحانه وتعالى الجنة نتيجة مباشرة لإنفاق المال، فعلى سبيل المثال يقول سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133 - 134]، أول صفة تذكر للمتقين: (الذين ينفقون في السراء والضراء)، يقول ابن كثير رحمه الله: أي: في الشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال. ويبدو فعلاً يا إخوة! أننا نعاني من قصور شديد في فهم كنه الجنة، فالجنة كلمة كان لها فعل عجيب في نفوس الصحابة، فكانوا يستعذبون العذاب في سبيلها، ويستمتعون بالموت من أجلها، الجنة كثيراً ما تتردد على أسماعنا فلا تحدث في قلوبنا ما كانت تحدثه في قلوبهم، ولا بد أن نقف مع أنفسنا لحظات فنسألها: لماذا لا تحدث كلمة الجنة في قلوبنا ما كانت تحدث في قلوب السابقين؟ هذه الآية نفسها سمعها -كما سمعناها الآن- عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه في غزوة بدر، فماذا فعلت فيه؟ روى الإمام مسلم رحمه الله: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟! -الكلمة أصابت قلبه يا إخوة لا أذنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها)، صلى الله عليه وسلم. فهذه بشرى من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، (فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن -ليتقوى على المعركة- ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة)، حياة طويلة جداً، وما هي إلا دقائق تفصله عن الجنة. قال أنس بن مالك: (فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل)، موعده الجنة يا إخوة! فكيف يصبر على الحياة؟! بل تعالوا إلى ما هو في رأيي أشد موقفاً. بيعة العقبة الثانية موقف هائل. روى الإمام أحمد رحمه الله: عن جابر رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله! علام نبايعك؟)، فتعالوا لنرى بنود بيعة العقبة الثانية ونرى كم هي صعبة وعسيرة وشاقة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم)، شروط قاسية وخطيرة، وعهد غليظ ومؤكد، وهنا قبل أن يبايعوا كما في رواية ابن إسحاق: يقول العباس بن عبادة بن نضلة رضي الله عنه وأرضاه لقومه ينبههم إلى خطورة البيعة: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. انتبه إلى نهكة الأموال وقتل الأشراف، انظروا إلى المال والنفس وكونهما ركيزتين أساسيتين لابتلاء المؤمن. قالوا: فما لنا بذلك يا سول الله! إن نحن وفينا بذلك؟! يا ترى ما هو الثمن لكل هذه التضحيات النادرة والأحمال الثقيلة، والتبعات العظيمة؟ واسمعوا وانتبهوا يا إخوة! لما قاله صلى الله عليه وسلم، قال كلمة واحدة، قال: (الجنة)، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه. يا إخوة! اقرءوا تاريخ الإسلام هل في الدنيا مثل هذا الموقف، باعوا كل شيء باعوا كل شيء يملكونه من نفس ومال وراحة وأمن وأهل وديار، واشتروا شيئاً واحداً ألا وهو الجنة، نزلت الكلمة برداً وسلاماً على الأنصار، فاطمأنت القلوب وخشعت الأبصار وسكنت الجوارح، الجنة وما أدراك ما الجنة! روى الإمام مسلم رحمه الله: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سأل موسى عليه السلام ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس من

الجمع بين الإنفاق في سبيل الله وبين الصلاة

الجمع بين الإنفاق في سبيل الله وبين الصلاة غير ذلك: الوسيلة الثانية من التحفيز: الجمع بين الإنفاق في سبيل الله وبين الصلاة، كثيراً ما جمع الله بينهما في قرآنه سبحانه وتعالى، ومن المعروف أن الصلاة عماد الدين، فيأخذ الإنفاق في سبيل الله من القلب حيزاً يقترب من حيز الصلاة، مثل قوله: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:19 - 21]، صفات أساسية مجبول عليها الإنسان: الهلع، والجزع، والمنع أي: البخل، ثم ما هو الاستثناء؟ {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:22 - 23]، إذاً الصلاة أول شيء ثم قال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]. وانظر إلى فقه أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ذاك الرجل الذي لا تنقضي عجائبه، لما حدثت الردة وكان من المرتدين من ارتد فقط بمنع الزكاة، وكان بعض الصحابة يرى أنهم ما داموا قد شهدوا أنه لا إلا الله وأن محمداً رسول الله فلا يقاتلون، ولفقه الصديق رضي الله عنه -وهو يعلم أن الجميع متفقون على أن منكر الصلاة كافر- لاحظ أن الله قد جمع بين الزكاة أو الإنفاق وبين الصلاة في مواضع كثيرة جداً في القرآن الكريم، فقال قولته الحكيمة: لا أفرّق بين شيئين جمعهما الله. ومن هنا نعلم أنه إذا كان حكم إنكار الصلاة كفر والله قد جمع بين الصلاة والزكاة كثيراً. إذاً: إنكار الزكاة كفر. المهم عندنا أن نفهم أن هذا الجمع بين الصلاة والإنفاق لم يتكرر بين الصلاة وشيء آخر؛ مما يحفز المؤمن على الاهتمام والتدريب على عملية الإنفاق.

التحذير من التسويف والتأجيل

التحذير من التسويف والتأجيل الوسيلة الثالثة من وسائل التحفيز: التحذير من التسويف والتأجيل. وهذه آفة خطيرة، فالشيطان لا يأتي الصالحين ويقول لهم: لا تدفعوا أموالكم لفلسطين، ولكن يأتي ويقول: فلتدفع غداً أو بعد غد، أو فلتدفع بعد أن تشتري كذا وكذا، أو فلتدفع بعد أن يأتي لك مبلغ كذا وكذا. إذاً: الشيطان يستعمل وسيلة التسويف ولا شك أنها فعّالة، استمع إلى قوله تعالى يحفزك على الإنفاق: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون:10]، سبحان الله! المال مال الله ثم نحن نسوف، قال: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:10 - 11]. إذاً: لو خطر على ذهنك الآن أن تدفع شيئاً لأهلك في فلسطين فأخرجه الساعة ولو قبل أن تنتهي المحاضرة، حدد الآن بينك وبين نفسك أو بينك وبين الله رقماً ستدفعه اليوم، إن لم تكن تحتفظ به في جيبك الآن لا تسوف، وإن جاءك الموت قبل أن تصل إلى بيتك ومالك فستؤجر بنيتك. تصدق فقد تكون هذه الصدقة هي المرجّحة لكفة الحسنات، فتسعد سعادة لا شقاء بعدها.

مضاعفة الحسنات للمتصدقين

مضاعفة الحسنات للمتصدقين الوسيلة الرابعة من وسائل التحفيز: مضاعفة الحسنات بشكل فريد، فإننا في كل أمور الخير قد اعتدنا أن تضاعف الحسنات إلى عشر أمثالها كما في قوله سبحانه وتعالى مثلاً: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160]، أما في الإنفاق فالأمر مختلف؛ ذلك لأن الإنسان جبل كما ذكرنا على حب المال، ويحتاج إلى دوافع كبيرة ومحفزات عظيمة؛ ولذلك يزيد الله في أجر الإنفاق أكثر من أمور الخير الأخرى، فقد ضاعف الله أجر الصدقة إلى سبعمائة، انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]، فهذا والله يا إخوة! مشروع اقتصادي هائل، فلو أنفقت ألف جنيه لأهل فلسطين كان المردود عليك ما يوازي سبعمائة ألف جنيه، فقد توافق على أن تضع ألف جنيه في مشروع دنيوي يعود عليك بألفين مثلاً، ولا تضعها في مشروع رباني يعود عليك بسبعمائة ألف؟ مع أن المشروع الأول الدنيوي غير مضمون، والمشروع الثاني الرباني مضمون لا شك فيه، إذاً: فكر واحمد الله أنك ما زلت حياً وما زالت أمامك الفرصة للاستثمار. روى الإمام أحمد والترمذي وصححه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقبل الصدقات ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه أو فصيله، حتى إن اللقمة لتصير مثل جبل أحد)، سبحان الله!

الإخلاف على المنفق في ماله وزيادته

الإخلاف على المنفق في ماله وزيادته الوسيلة الخامسة من وسائل التحفيز: قد يقول شخص: الحسنات الأخروية شيء عظيم، لكن إذا أنفقت على أهل فلسطين فسأحتاج أنا إلى من ينفق علي، فهذه وجهة نظر منه، إذ يعتقد أن ماله سينتهي بإنفاقه في سبيل الله، لكن الله يطمئنه بالتعويض في الدنيا قبل الآخرة: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]، نعم. هو يخلفه في الدنيا قبل الآخرة. بل اسمع إلى الحديث العجيب الذي يدل على التحفيز الرباني بالتعويض. روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال تعالى: أَنفق يا ابن آدم أُنفق عليك)، سبحان الله! إذا أنفقت على أهل فلسطين أنفق الله علي! والله رضيت بك يا ربي! منفقاً علي.

الصدقة لا تنقص من مال العبد

الصدقة لا تنقص من مال العبد الوسيلة السادسة من وسائل التحفيز: بعض الناس ما زال متشككاً ويقول: في جيبي الآن عشرة جنيه مثلاً، وسأعطي فلسطين خمسة، فكيف تصبح العشرة كما هي عشرة؟! سبحان الله! ألم يعدك ربك بأنه يخلفه في الدنيا؟ فإن كان ما زال في القلب شيء، تأتي الوسيلة السادسة العجيبة: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين الذي لم يكذب في حياته قط، والذي لم يجرؤ أعداؤه فضلاً عن أحبابه أن يتهموه بالكذب يقسم لك أن الصدقة لن تنقص من مالك، بمعنى: أنه لا بد وحتماً أن يتم التعويض في الدنيا قبل الآخرة، والتعويض إما بمال قادم أو برفع أمر كنت ستنفق فيه حتماً، والمسلمون لا يحتاجون لقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يقسم صلى الله عليه وسلم على أشياء يكون في قلوب بعض المسلمين منها شك؛ وذلك تأكيداً وتحفيزاً لمن تزعزع قلبه واهتز يقينه. روى الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً الإمام أحمد: عن أبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقه)، الثانية: (ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)، فهي جميعاً أمور تحتاج إلى كثير يقين وعظيم عقيدة. إخواني في الله! هل ما زال في قلوب بعضكم شك؟ هل ما زلت متشبثاً بالمال؟ إن كان كذلك فهاك وسيلة سابعة من وسائل التحفيز الرباني: نجد أن الله عز وجل في موضوع الحث على الإنفاق يستعمل ألفاظاً عجيبة لا يتخيلها الناس ولا يتوقعونها، وانظر إليه يا عبد الله! كيف ينادي عليك وعلى عباد الله الآخرين متلطفاً متحبباً: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245]. سبحانك يا رب! كم أنت كريم! المال مالك، والعبيد عبيدك، ثم أنت سبحانك تستقرضنا من مالك! ماذا تعطينا إذا أقرضناك أموالنا؟ ضاعفت لنا أضعافاً كثيرة. سبحان الله! إن إلهاً بهذه الصفات لجدير أن يعبد وأن يحب وأن يعظم وأن يبجل، والآية فعلاً عجيبة وسياقها مبهر، وكما تعجبنا لها فقد تعجب لها الصحابة، لكن انظر إلى التعجب الإيجابي من الصحابة. روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إنه لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله! وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح! قال: أرني يدك يا رسول الله!)، فانظروا الإيجابية والحسم، لم يتردد ولم يتأخر ولم يسوّف، قال عبد الله بن مسعود: (فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي -أي: حديقتي وأرضي-)، قال عبد الله بن مسعود: وهو حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح وناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك، قال: اخرجي فإني قد أقرضته ربي عز وجل، فهذا عطاء في كرم وقرار في حسم، لقد كان أبو الدحداح الأنصاري رضي الله عنه معطاءً بشكل عجيب. روى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة أبي الدحداح رضي الله عنه قال: كم من عذق معلق في الجنة لـ أبي الدحداح)، أي: كم من نخيل لـ أبي الدحداح رضي الله عنه في الجنة. يذكر الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم سبب ذلك فيقول: إن يتيماً خاصم أبا لبابة رضي الله عنه في نخلة فبكى الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي لبابة: (أعطه إياها ولك بها عذق في الجنة)، فقال: لا، فسمع أبو الدحداح فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له، ثم قال: يا رسول الله ألي بها عذق إن أعطيتها اليتيم؟ قال: (نعم)، ثم قال: (كم من عذق معلق في الجنة لـ أبي الدحداح)، وهاقد مضت الأيام وذهب أبو الدحداح والغلام والحائط وذهبت النخلة، ولكن ماذا بقي؟ بقي عذق أبي الدحداح في الجنة، {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]. وانظروا إلى الفارق الكبير بين رد فعل أبي الدحداح عند نزول الآية الكريمة: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245]، وبين رد فعل اليهود؛ وهذا إنما لتفرقوا طبيعة اليهود الذين نحن نتعامل معهم. لما نزلت الآية نفسها قال اليهود: يا محمد! افتقر ربك ف

الإنفاق اختبار لصاحبه في اختياره ربه أو الشيطان

الإنفاق اختبار لصاحبه في اختياره ربه أو الشيطان أخي! هل ما زال في القلب شك؟ إن كان هناك شك فهاك وسيلة ثامنة لطيفة، لكن مخوفة، فالله عز وجل يجعل الإنفاق اختباراً تختار فيه الله أو الشيطان، يقول الله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268]، فانظر أيهما تصدق؟ سألتك مالاً لفلسطين فجاء الشيطان فقال: لا تنفق كثيراً لئلا تفتقر، ما زلت تحتاج إلى كذا وكذا وكذا، ما زال هناك طعام وشراب، ما زال هناك بيت وسيارة، ما زال هناك سفر ومشاريع، ما زالت هناك زوجة وأولاد، ويعظم المسألة في ذهنك تماماً، حتى تثاقل إلى الأرض، وترضى بالحياة الدنيا من الآخرة. ثم من الناحية الأخرى فإن الله يعدك أن يخلفك خيراً مما أنفقت في الدنيا والآخرة، ويبارك لك في مالك وأهلك، ويضاعف لك أضعافاً كثيرة، وفوق ذلك رحمة وتوبة ومغفرة، وفوق ذلك جنة ونعيم، فعليك أن تعرض المقارنة على ذهنك بسرعة كسرعة أبي الدحداح، فستمر الأيام وتذهب أنت ويذهب المال، ويذهب أهل فلسطين، ولا يبقى شيء إلا ما عند الله، فآثروا ما يبقى ويدوم على ما يفنى وينعدم. كانت هذه بعض أساليب القرآن المعجزة في التحفيز على مسألة شاقة على النفس، وهي مسألة إخراج المال في سبيل الله، وأنا في اعتقادي أن إنفاق المال بعد هذا التحفيز هي مرحلة من مراحل الإيمان، ودرجة من درجات الرقي إلى الله عز وجل، فالدرجة قد تعلوها درجات، فالرجل إذا حفز أنفق، وإذا استنفر نفر، وإذا دعي أجاب، فتكون الزيادة بعد هذا أنه يرتقي من مرحلة من يحفز على الإنفاق إلى مرحلة من يرغب في الإنفاق ويبحث عنه، ويتمنى أن لو يجد له سبيلاً يجود فيه بما في يده طمعاً لما في يد الله عز وجل.

نماذج من إنفاق الصحابة في غزواتهم مع رسول الله وصدقهم في ذلك

نماذج من إنفاق الصحابة في غزواتهم مع رسول الله وصدقهم في ذلك حتى نفهم الصورة تعالوا نغوص في أعماق التاريخ، نذهب إلى المعسكر الدائم للإيمان، نذهب إلى المدينة المنورة، نذهب إلى ساحة واسعة يجلس فيها خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وعن يمينه ويساره وأمامه مجموعات ومجموعات من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، يحفزهم صلى الله عليه وسلم على الإنفاق تجهيزاً لجيش عظيم في وقت عصيب، اشتد فيه الحر، وعظم فيه الخطب طال فيه السفر، وقلت فيه المادة، وحان وقت القطاف، لكن لا بد من المغادرة، هذا التجهيز تجهيز جيش العسرة، ترى ماذا فعلوا حتى ينزل الله في حقهم: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117]؟ لكن قبل أن نرى فعلهم، ونستمتع بصحبتهم تعالوا نعقد مقارنة عجيبة وقياساً غريباً، وأعطوني أذهانكم. مقارنة بين تبوك وفلسطين: تخيل معي بهدوء لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً بين أظهرنا وحدث أمران في وقت متزامن: أمر فلسطين على ما هي عليه الآن من وضع، وأمر تبوك على ما كانت عليه من وضع، وطاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكفي إلا لإخراج جيش واحد، ترى ماذا سيكون موقفه؟ أتراه يختار تبوك؟ أم تراه يختار فلسطين؟ أتراه يحفز على تبوك أم تراه يحفز على فلسطين؟ إن تبوك كانت لمقتل رسولين من المسلمين في أرض الشام في طريقهم إلى قيصر، وفلسطين قتل فيها في سنة واحدة 800 شخص. تبوك كان الجيش الروماني يتجهز لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل الجزيرة العربية بعد، بل كان جيش الروم في أرض الشام ولم تكن أرضاً إسلامية آنذاك. فلسطين يعيث فيها الجيش اليهودي القذر فساداً، والجيش اليهودي في أرض إسلامية لا يحتل فقط، بل يستبدل أهل فلسطين بأهله! تبوك لم يخرج فيها مسلم من داره، فلسطين أخرج نصف أهل البلد من ديارهم، وربنا يأمر وعلينا الطاعة فيقول: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191]. تبوك كانت تهديداً ولم يحدث بعد قتال، وفلسطين تعاني من حرب ضارية قائمة بالفعل، وربنا يأمر وعلينا الطاعة، فيقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190]. تبوك لم تكن بها مقدسات إسلامية، بل كان بها ديار الظالمين ديار ثمود، أما فلسطين ففيها الأقصى ثالث الحرمين وأولى القبلتين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فشتان في اعتقادي بين الموقفين، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً بين أظهرنا لاختار فلسطين على تبوك إن كان لا بد من الاختيار، فقضية فلسطين أشد خطورة، وكلتا القضيتين خطير. رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه كان مشغولاً بإنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى الرومان؛ لكون الرومان بدءوا في قتل من أسلم من أهل الشام، وهذه قضية خطيرة وتجاوزات كبيرة، وفي نفس الوقت قتل مسيلمة الكذاب مدعي النبوة رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيب بن زيد رضي الله عنه، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن كان عليه أن يختار هل يرسل جيشاً إلى الرومان الذين بدءوا يعيثون في الأرض فساداً، ويقتلون المسلمين، ويغيرون على قبائلهم وأرضهم، أم يرسل جيشاً للثأر لقتل رجل؟ فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل جيشاً للرومان، هكذا فقه الموازنات وفقه الأولويات. وانظروا ماذا فعل الصحابة الكرام في تبوك، وتخيلوا كيف كانوا سيفعلون لفلسطين. فتح الرسول صلى الله عليه وسلم باب التبرع علانية حتى يحفز المسلمون بعضهم بعضاً، وكان أول القائمين عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذ قام فقال: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك سروراً عظيماً، فهذا عطاء كثير، ثم فتح باب التبرع من جديد، فقام عثمان بن عفان ثانية يزيد الأجر لنفسه قال: علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، وسعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم سعادة عظيمة حتى إنه قال: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)، ولم يسكن عثمان ولم يطمئن، بل أخذ يدفع من جديد حتى وصل ما تبرع به إلى ثلاثمائة بعير، وفي رواية: تسعمائة بعير ومائة فرس، ثم ذهب إلى بيته، وأتى بألف دينار نثرها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها متعجباً. أبو بكر الصديق رضي الله عنه الرجل العجيب أتى بأربعة آلاف درهم، قد يقول قائل: إنها أقل بكثير مما جاء به عثمان. لكنها سبحان الله! تعتبر أكثر نسبياً من عطاء عثمان؛ لأنها كل مال أبي بكر الصديق، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: (وماذا أبقيت لأهلك؟ قال له في يقين: أبقيت لهم الله ورسوله). أما عمر بن الخطاب

همسات في أذن كل من يتبرع لفلسطين

همسات في أذن كل من يتبرع لفلسطين والآن همسات في أذنك أيها المتبرع لفلسطين! المشتاق إلى الجهاد والجنة! أخي المنفق في سبيل الله! اجعل التبرع لفلسطين قضية ثابتة في حياتك وعملاً رئيساً تعيشه كل يوم، اقتطع نسبة ثابتة من دخلك الشهري أو اليومي أو الموسمي، لا تنتظر حتى تتراكم الأموال فيصعب عليك الأمر، أولاً بأول تهدم نفسك والشيطان. أخي المنفق في سبيل الله! لا تكتفي بتبرعك وحدك. حفز الآخرين على التبرع، فإنه من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، اكفل أسرة فلسطينية كل شهر، وإن لم تكن لك طاقة بمفردك اجمع من الآخرين، وحفزهم والأجر بينكم. أخي المنفق في سبيل الله! رب أولادك على الاهتمام بفلسطين وبقضايا العالم الإسلامي أجمع، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، إذا جاءك ولدك الصغير بدرهم لفلسطين فلا ترده، ودرب نفوسهم على العطاء واشرح لهم بأسلوب مبسط حال أطفال فلسطين. أخي المنفق في سبيل الله! اجعل يوماً في الأسبوع لفلسطين، كل فيه طعاماً بسيطاً، وألفت أنظار الزوجة والأولاد إلى أن طعام هذا اليوم سيذهب إلى فلسطين، وليست الفكرة يا إخوة! في ثمن الأكلة الواحدة، ولكنها تربية على أن يشعر المؤمن بهموم إخوانه. أخي المنفق في سبيل الله! إذا مرضت أو مرض أحد أحبابك فتصدق لفلسطين، فقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة). أخي المنفق في سبيل الله! زكاتك جائزة على أهل فلسطين، بل هي محمودة، ففيهم الفقير والمسكين، وفيهم الغارم، وفيهم المجاهد في سبيل الله، اجمع زكاتك وزكاة من تعرف، وساهم في فلسطين. أخي المنفق في سبيل الله! لا تمن بعطيتك ولا تتكبر بها، ولا تعتقد أن هذا فضل منك عليهم، بل اعلم أن عطاءك فضل من الله عليك، وكرم من الله إليك، ورحمة من الله بك. سألت رجلاً من الأثرياء أن يتذكر أهل فلسطين بشيء من ماله، فشمخ بأنفه ورفع هامته وأخرج محفظته، وعبث فيها قليلاً بأصابعه، ثم أخرج في النهاية من ثناياها مبلغاً زهيداً، ثم قال بشك وريبة: أتمنى أن تصل لفلسطين. يا أخي! اعلم أن الله إن لم يرزقهم عن طريقك فسيرزقهم عن طريق غيرك، وتضيع عليك أنت الفرصة، واعلم أنك إن أخرجت المال في سبيل الله فهو لك أجر وصدقة، وإن لم تخرجه ولم يكن من نصيبك سوف يخرج في شيء آخر؛ ويضيع عليك الأجر والصدقة. يا ابن آدم! لا تظن أن رزقك سيزيد باكتنازك، رزقك مكتوب بتمامه وأنت في بطن أمك. أخي المنفق في سبيل الله! لا ترائي فإن الأعمال بالنيات، أخلص النية لله وجددها دائماً، فلا تجعل مع الله شريكاً فيها، يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. أخي المنفق في سبيل الله! لا تسوف، فإن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، بادر فور دخول الفكرة إلى قلبك، فالأنفاس معدودة والساعة آتية لا ريب فيها، واحذر من سنة الاستبدال، فإن لله أعمالاً لا بد أن تقضى بك أو بغيرك. {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. وختاماً: أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله! يا من يباهي بك الله ملائكته لعملك وقلبك لا لصورتك وجسمك! يا من رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيناً ورسولاً! يا من تثق في وعد الله! ووعد الله لا يتبدل ولا يتغير، ألا تشتاق إلى جهاد وشهادة؟ إن كنت لا تستطيعه ألا تريد أن تجهز غازياً أو تخلفه في أهله؟ ألا تشتاق إلى أن تكفل يتيماً، فترسم على وجهه بسمة، وتحشر إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتصقاً به التصاق السبابة بالوسطى؟ ألا تشتاق إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء؟ أخي وحبيبي! إن كنت غنياً فهذا شكر النعمة، وإن كنت فقيراً فرب درهم سبق ألف درهم، واعلم يا أخي! أن الله قسم الأعمال بين عباده، وكان نصيبك النصيب الأيسر، عليهم في فلسطين أن يدفعوا أرواحهم، وعليك أنت في بيتك الآمن أن تدفع مالك. فارض بما قسم الله لك من العمل يرفع عنك من البلاء ما لا تطيق. أخي وحبيبي! كم هو قصير هذا العمر، فأخشى عليك من ليلة ليس لها صباح، يجيء فيها الموت بغتة كعادته فتقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين، أخشى عليك من لحظة تقول فيها: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، ها أنت وكأنك رجعت فاعمل ليوم لا رجعة فيه. أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله! أتركك الآن وموعدنا الجنة إن شاء الله. {فَسَتَذْ

الدعاء

سلسلة فلسطين_الدعاء مهما تغلقت الأبواب أمام العبد، وانقطعت الأسباب، فهناك باب لا يغلق أبداً وسبب لا ينقطع أبداً، هذا الباب هو اللجوء إلى الله ودعاؤه، وقضية فلسطين تحتاج إلى هذا السلاح الذي يمتلكه كل مسلم، فالدعاء أقوى سلاح، والدعاء هو العبادة، فالتزم بآدابه واعرف صوره.

فضل الدعاء وأهميته

فضل الدعاء وأهميته أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. واجعلنا شاكرين لنعمك مثنين بها عليك قابلين لها، وأتممها علينا. اللهم إنا نسألك خير المسألة وخير الدعاء وخير النجاح، وخير العمل وخير الثواب، وخير الحياة وخير الممات، وثبّتنا وثقل موازيننا، وحقق إيماننا وارفع درجاتنا وتقبل صلاتنا واغفر خطايانا، ونسألك الدرجات العلى من الجنة، اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه، وجوامعه وأوله، وظاهره وباطنه، والدرجات العلى من الجنة. آمين. اللهم إنا نسألك خير ما نأتي وخير ما نفعل، وخير ما نعمل، وخير ما بطن وخير ما ظهر، والدرجات العلى من الجنة. آمين. اللهم إنا نسألك أن ترفع ذكرنا وتضع أوزارنا، وتصلح أمورنا، وتطهر قلوبنا، وتحصن فروجنا، وتنور قلوبنا، وتغفر لنا ذنوبنا، ونسألك الدرجات العلى من الجنة. آمين. اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا في نفوسنا وفي أسماعنا وفي أبصارنا، وفي أرواحنا، وفي خلقنا، وفي خُلُقنا، وفي أهلنا، وفي محيانا وفي مماتنا، وفي عملنا، فتقبل حسناتنا، ونسألك الدرجات العلى من الجنة. آمين آمين. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين. أما بعد: فمع المحاضرة الثانية عشرة والأخيرة في مجموعة المحاضرات الخاصة بقضية فلسطين. وتحدثنا في المحاضرات السابقة عن بعض الوسائل الإيجابية في حل قضية فلسطين وذكرنا منها أربعاً: الفهم، والأمل، والبذل، والمقاطعة. واليوم نتحدث عن وسيلة خامسة مهمة جداً في هذه القضية، بل هي مهمة في كل قضايا المسلمين، سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي، أعني: أنها وسيلة مهمة جداً في قضايانا الشخصية، وكذلك هي مهمة في قضايا الأمة بأسرها. هذه الوسيلة العظيمة ما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دقيقة واحدة من دقائق حياته الكريمة، كان يستخدمها دوماً، ويعلم أصحابه أن يستخدموها دوماً، لم يتركها صلى الله عليه وسلم مع تبدل أحواله وظروفه، لا في صحته ولا في مرضه، لا في حله ولا ترحاله، لا في حربه ولا في سلمه، لم يتركها في لحظات الشدة ولا في أوقات الرخاء، داوم عليها في السعادة والحزن، داوم عليها في الغنى والفقر، داوم عليها في النهار والليل، هذه الوسيلة هي منة من الله على عباده، وفضل من الخالق على مخلوقاته، هذه الوسيلة هي عطاء فيّاض من الله عز وجل، وراحة قلب دائمة للمؤمنين؛ ولكونها عظيمة ولفهمه صلى الله عليه وسلم لقيمتها ودرجتها وفضلها فقد أطلق عليها أنها هي العبادة. تلك الوسيلة هي الدعاء لله عز وجل، وطلب العون منه سبحانه وتعالى.

الدعاء نوع من أنواع العبادة ليس سلبيا ولا مجرد اختيار

الدعاء نوع من أنواع العبادة ليس سلبياً ولا مجرد اختيار الدعاء ليس شيئاً سلبياً، فكثير من الناس يظنون أن الدعاء أمر مقابل للأخذ بالأسباب، يظنون أنه إما أن تأخذ بالأسباب وإما أن تدعو، وهذا خطأ كبير وسوء فهم عظيم، فالأعمال بصفة عامة لا يُبارك فيها إلا إذا كنت متوكلاً على الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] والتوكل على الله يقتضي الاعتقاد الجازم بقدرته وقوته وسلطانه سبحانه وتعالى، وأن الأمور لا تتم إلا بإرادته سبحانه، وذلك مع الأخذ بكامل الأسباب دون الاعتقاد في قدرة الأسباب بذاتها، قال بعض الناس لـ أنس بن مالك رضي الله عنه: ادع الله لنا، قال: الدعاء يرفعه العمل الصالح، أي: لا بد من عمل مع الدعاء وإلا يصبح تواكلاً منبوذاً. نعطي مثالاً حتى نقرب الصورة: المريض مثلاً لا بد أن يأخذ الدواء؛ لأنه يأخذ بالأسباب، ولا بد أيضاً أن يسأل الله الشفاء، ولا بد مع هذا أن يعتقد أن الدواء لن يفيد إلا إذا أراد الله سبحانه وتعالى. إذاً: الدعاء لم يمنع من أخذ الدواء، والدواء لم يمنع من الاستعانة بالدعاء. إذاً: الدعاء ليس أمراً جانبياً في قضية فلسطين أو في غيرها من القضايا، ليس أمراً اختياراً إن شئت فعلته وإن شئت تركته أبداً، الدعاء ركن أساس من أركان النص، وسبب أكيد من أسباب رفعة المسلمين. أيضاً يخطئ كثير من الناس بأن يلجئوا في الدعاء إذا فشلت الأسباب، ولا يطرقون باب الله سبحانه وتعالى إلا بعد طرق كل أبواب البشر، ورأينا في تاريخ فلسطين أن بعض المسلمين يطرقون أبواب من لا يجوز لهم أن يطرقوا أبوابهم، وذلك قبل أن يتّجهوا إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض، وهذا جهل عظيم وفساد كبير، ولو طرقوا بابه سبحانه وتعالى لاستجاب لهم، وما أيسر الدعاء كي تصل به إلى السماء. سُئل زين العابدين رحمه الله: كم بين عرش الرحمن وتراب الأرض؟ قال: دعوة مستجابة سبحان الله!! أسرع الوسائل إلى عرش الرحمن دعوة مستجابة. فالدعاء يا إخوة! ليس شيئاً اختيارياً، انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. يقول ابن كثير رحمه الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] أي: عن دعائي وتوحيدي، فترك الدعاء استكبار، وسماه الله عبادة، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً عبادة. روى الإمام أحمد وأصحاب السنن -وقال الترمذي: حسن صحيح- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]). والرجل العظيم والسلطان الكبير والمتمكن من صنعته والبارع في مهنته قد يشعر أنه قد امتلك الأسباب، فلا حاجة له في الدعاء، وهنا تكون الهزيمة تلو الهزيمة، والانتكاسة تلو الانتكاسة، ناهيك عن حساب الآخرة. روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]).

أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ربه

أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ربه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحواله ما ترك الدعاء أبداً، وما يئس منه قط مهما تأخرت الإجابة، ومهما طال الطريق، وكان أشد ما يكون دعاءً ورجاءً وخشوعاً وابتهالاً عند مواقف الضيق والشدة، يفزع إلى ربه ويحتمي بحماه، ويطلب عونه، ويرجو مدده وتأييده، كما هو حالنا اليوم على أرض فلسطين وغيرها من أراضي المسلمين التي تحتاج إلى دعاء لا يتوقف. انظر إليه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وقد اشتد الضيق بالمسلمين. يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد) وبالغ في الابتهال صلى الله عليه وسلم حتى سقط رداءه عن منكبيه، وأشفق عليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فأتى إليه يقول: حسبك يا رسول الله! ألححت على ربك. وفي غزوة الخندق والصحابة منهمكون في حفر الخندق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهم ويقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة). ونحن ندعو لأهل فلسطين أن يغفر الله لهم وهم منهمكون في حرب عدوهم وعدونا: اللهم اغفر لنا ولأهل فلسطين. وفي الأحزاب أيضاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين؛ لأنهم أضاعوا عليهم صلاة العصر؛ وذلك لانشغال المسلمين بالدفاع عن الخندق، فقال صلى الله عليه وسلم: (ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)، ونحن أيضاً ندعو على اليهود أن يملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما فعلوا في أبنائنا وإخواننا وأمهاتنا وبناتنا في فلسطين ما فعلوا، فقد أحالوا بيوتهم وشوارعهم إلى نار موقدة لعنهم الله. بل انظر إليه صلى الله عليه وسلم كيف كان يدعو الله في كل أحواله حتى بعد فجيعة أحد، انظر إليه كيف كان شاكراً حامداً راضياً مطمئناً حتى بعد كارثة استشهاد 70 من أجلاء الصحابة، اسمع وتدبر جيداً وهو يبدأ دعاءه صلى الله عليه وسلم بشيء عجيب. يقول: (اللهم لك الحمد كله) يبدأ بالحمد، وذلك حتى لا يظن ظان أنه ساخط، أو أنه معترض على قضاء الله، (اللهم لك الحمد كله) ويعلم الله كم من النعم والأفضال في أرض فلسطين الآن، مع كل ما نراه من آلام، والتي يجب أن يُحمد عليها سبحانه وتعالى، يكفي قوله سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141] فضائل عظيمة، فتمييز المؤمنين من المنافقين الذين لا يريدون جهاداً هذه فضيلة، واتخاذ شهداء هذه فضيلة، وتمحيص المؤمنين -أي: تطهيرهم من الذنوب- هذه فضيلة، محق الكافرين -أي: إهلاكهم واستئصالهم- هذه فضيلة، هذه كلها نعم تستوجب حمد الله سبحانه وتعالى. جاء في مسند الإمام أحمد والطبراني، ورواه أيضاً البخاري في الأدب المفرد: (إنه لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولما مبعّد لما قرّبت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق!)، لا يفتر عن دعاء صلى الله عليه وسلم في بدر كان أو في أحد، في نصر كان أو في هزيمة، في فرح كان أو في هم صلى الله عليه وسلم.

نماذج من عبادة الصحابة والتابعين لربهم بالدعاء

نماذج من عبادة الصحابة والتابعين لربهم بالدعاء على نفس الدرب سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان من التابعين والصالحين والمجاهدين، دعاء طويل، وابتهال عميق، وتضرع في خشوع، ونداء في خضوع. هذا سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه يوم الأحزاب يناجي ربه، وكان سعد رضي الله عنه قد أصيب إصابة كبيرة يقول: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم. كان سعد بن معاذ رضي الله عنه يظن أن الحرب قد انتهت، وأن المسلمين قد انتصروا وكفى، فيقول رضي الله عنه: اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، أي: أنه لا يريد أن يموت في هذا الوقت، ولكنه يريد أن يستمر في الجهاد في سبيل الله إن كان للحرب بقية، ثم يُكمل فيقول: وإن كنت وضعت الحرب فافجرها -أي: افجر الإصابة حتى أموت- واجعل موتتي فيها، وذلك حتى يموت شهيداً رضي الله عنه وأرضاه، ثم يُكمل: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. وانظر كيف فعل الله سبحانه وتعالى بدعائه وكيف استجاب له؟ كانت الإصابة سبباً لشهادته في سبيل الله؛ لأن الحرب كانت قد وضعت فعلاً في الأحزاب، وأقر الله عينه من بني قريظة قبل أن يموت سبحان الله! اتصال مباشر مع رب العالمين، واستجابة كاملة منه سبحانه وتعالى لدعاء العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه. دعاء البراء بن مالك يوم تُستر، تذكرون عندما تحدثنا عن موقعة تستر في فتوح فارس، تلك الموقعة العجيبة التي استمر حصار المسلمين فيها للفرس مدة سنة كاملة ونصف، وفي آخر هذه المدة الطويلة جداً يدعو البراء بن مالك رضي الله عنه دعاء قصيراً لكنه عجيب، يقول: اللهم امنحنا أكتافهم وألحقني بنبيك، يطلب النصر ويطلب الشهادة، فإذا بالجيش ينتصر، وإذا بحصن تُستر يُفتح، وإذا بـ البراء يفوز بالشهادة ويلحق بنبي الله صلى الله عليه وسلم كما أراد، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (رُب أشعث أغبر ذي طمرين) والطمر: هو الثوب البالي الرث، يعني: رجل بسيط الهيئة (رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك). ويروي الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (رُب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره). فالاستجابة ليست بعظم المركز أو بقوة السلطان، ولكن الاستجابة تكون بطهارة القلب، ونقاء القصد، وجمال الطلب، وإلحاح الطالب. وهذا النعمان بن مقرن رضي الله عنه وأرضاه، يدعو في نهاوند فيقول: اللهم إني أسألك أن تُقر عيني بفتح يكون فيه عز للإسلام وذُل يُذل به الكفار، ثم اقبضني بعد ذلك على الشهادة، واجعل النعمان أول شهيد. الموت عندهم كان غاية وهدفاً ومطمحاً، فهذا النعمان بن مقرن يدعو أن يكون أول شهداء المسلمين، وانتهى من دعائه رضي الله عنه فكان النصر للمسلمين، وكان النعمان أول مُصاب، ثم لا يستشهد إلا بعد أن يقر الله عينه بالنصر، وذلك كما فصّلنا لكم من قبل في فتح نهاوند. استجابات عجيبة، وكرامات من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين. وهذا موقف عجيب من حروب الردة، إذ نزل العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه قائد الجيش السابع من جيوش حروب الردة منزلاً ليلاً، وكانوا في صحراء قاحلة، وما إن استقر الناس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش والخيام والشراب، ولم يقدروا منها على بعير واحد، فكانت كارثة وقعت في صحراء قاحلة ويفقدون الزاد والماء!! وركب الناس من الهم والغم ما لا يوصف، فنادى العلاء عليهم، ثم قال في ثبات عجيب: أيها الناس! ألستم المسلمين؟ ألستم في سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى، قال: فأبشروا، فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم. انظروا إلى اليقين وإلى أسباب عدم الخذلان في سبيل الله، فهم أنصار الله فكيف يخذلهم الله؟ وبعد صلاة الفجر جثا العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه وأرضاه على ركبتيه وجثا الناس، ونصب في الدعاء ورفع يديه، وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس وهم مجتهدون في الدعاء، حتى إذا فرغوا من دعائهم وجدوا بجوارهم شيئاً عجباً، وجدوا في عمق الصحراء غديراً عظيماً -جدول مياه- جعل الله فيه ماء عذباً فراتاً، فمشى الناس إليه وشربوا واغتسلوا، ثم ما هي إلا لحظات، حتى أقبلت الإبل من كل فج بما عليها لم يفقد الناس من أمتعتهم شيئاً، آية من آيات الله، وما هي من المؤمنين ببعيد. وليس هذا والله يا إخوة! في زمان الصحابة فقط، بل تعال وتدبر في دعاء يوسف بن تاشفين

تعليقات على تأخر النصر وتأخر استجابة الدعاء

تعليقات على تأخر النصر وتأخر استجابة الدعاء إخواني في الله! تأخُّر النصر قد يورث في قلوب البعض يأساً، ويتبع ذلك اليأس فتور في الدعاء، قد يقول قائل أو يعلق معلق أو يزعم زاعم أنه كثيراً ما دعونا الله أن ينصر أهل فلسطين، ومع ذلك ما زال الفلسطينيون يقتلون ويشردون ويُظلمون، إن لم يقل ذلك بلسانه فقد ينطق به حاله، وهذا أمر خطير، يحتاج منا إلى وقفة ونظر، ولي عليه ثلاث تعليقات:

تحري الحلال وتحري الأوقات الفاضلة عند الدعاء

تحري الحلال وتحري الأوقات الفاضلة عند الدعاء التعليق الأول: لعل الداعي الذي يدعو الله لم يراع أموراً كانت سبباً في تعطيل الإجابة وتأخير النصر. بمعنى: أن هناك أشياء إن فعلتها كانت إجابة دعائك أقرب، وتلبية ندائك أرجى، ومن أخطر هذه الأشياء الحرص على الحلال في المطعم والمشرب والملبس، وغير ذلك من الأمور. روى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن سعد بن أبي وقاص قام يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال صلى الله عليه وسلم: يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به) والسحت: أي الحرام. ومن المعلوم طبعاً أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه طيب المطعم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحمته يريد أن يعلم أمته جميعاً طريقة يستجاب بها دعاؤهم وينقذون بها من النار، يعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نحرص على الحلال في كل أمورنا، هذا الحديث وإن كان البعض قد ضعّفه إلا أن معناه يشهد له الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! فأنى يستجاب لذلك) فالرجل قد استكمل كثيراً من الأمور التي يستجاب لأجلها الدعاء، فهو مسافر وليس مسافراً فقط بل يطيل السفر، ثم هو يرفع يديه تضرعاً إلى الله، ثم هو يلح في الدعاء: يا رب! يا رب! ولكنه يعاني من مرض خطير، مرض أكل الحرام. إذاً: من أهم موجبات إجابة الدعاء تحري الحلال، فإن كنت للحلال متحرياً فهناك أمور أخرى لو فعلتها كنت إلى الإجابة أقرب، منها مثلاً: تحري الأوقات الفاضلة كيوم عرفة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وغير ذلك من الأوقات الفاضلة. أيضاً تحري الأحوال الشريفة وهي أحوال شريفة متاحة طوال العام، أثناء السجود، ودبر الصلوات، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الجيوش، وعند الخوف والوجل، وعند رقة القلب، وفي السفر، أشياء كثيرة جداً ومهمة جداً، فلا بد أن يتحراها المؤمن حتى يستجاب لدعائه كاملاً. أيضاً من موجبات إجابة الدعاء: أن يكون القلب حاضراً غير لاه ولا غافل، فإنه ليس من المعقول أن تكون أنت المحتاج وترفع طلبك إلى الخالق، وذهنك منشغل عنه مصروف إلى غيره. أيضاً من موجبات إجابة الدعاء: أن تلح في الدعاء وتصر عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر الدعاء في المرة الواحدة ثلاث مرات، ويكرره كثيراً في كل يوم، وطوال الشهر والسنة، بل وطوال العمر، وقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله بتغيير القبلة ولم يستجب الله له، إلا بعد 17 شهراً كاملة. وتحري رقة القلب، فإذا لاحظت في قلبك رقة فادع الله سبحانه وتعالى، سيستجيب إن شاء الله. يقول ثابت بن أسلم البناني رحمه الله: وإني أعلم حين يستجيب لي. فعجبوا من قوله وقالوا: تعلم حين يستجيب لك ربك؟ قال: نعم. قالوا: كيف تعلم ذلك؟ قال: إذا وجل قلبي، واقشعر جلدي، وفاضت عيناي، وفُتح لي الدعاء فثم هناك أعلم أن قد استُجيب لي. إذاً: هذا هو التعليق الأول على سؤال من قال: إنه كثيراً ما دعونا ولا يستجاب لنا.

عدم الاستعجال في الإجابة

عدم الاستعجال في الإجابة التعليق الثاني: أنه حتى لو استكملت صفات الدعاء المستجاب لا يجب أبداً أن يتعجل الإنسان الإجابة؛ لأن الله بحكمته يختار الوقت الأنسب للإجابة. روى الإمام مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي) أمر خطير، أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف دعا دعاء مستفيضاً، وهو شديد الحزن بعد خروجه من الطائف، وقد آذاه أهلها وسفهاؤها، وانظر إليه في دعائه يسطّر قاعدة مهمة للمسلمين يقول: (إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي). فميعاد النصر تختاره أنت يا ربنا! لكن الذي يهمنا هو ألا نرتكب ما يغضبك، ثم استجاب الله لدعائه بعدها بأيام عندما أسلم ستة من الخزرج، ثم بعد أكثر من عامين تأتي الهجرة والنصرة المتدرجة المتأنية، ثم بعد الهجرة بسنتين تأتي بدر ويتم النصر الكبير، من الذي كان يدعو بعد الطائف؟ كان الذي يدعو هو أحب الخلق إلى الله عز وجل محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فلكل حدث ميعاد لن يتبدل هذا الميعاد ولن يتغير، يختاره الله سبحانه وتعالى بحكمته وقدرته وهو دائماً في صالح المؤمنين: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. ثم إنك يا أخي الحبيب! مستفيد على كل الأحوال، سواء عُجّل بالإجابة أم لم يُعجَّل، واستمع إلى حبيبنا ومعلمنا صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه: (ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها). يقول ابن الجوزي رحمه الله: اعلم أن دعاء المؤمن لا يُرد، غير أنه قد يكون الأولى تأخير الإجابة، أو يعوض بما هو أولى عاجلاً أو آجلاً، فينبغي للمؤمن ألا يترك الطلب من ربه، فإنه متعبّد بالدعاء كما هو متعبّد بالتسليم والتفويض.

الأخذ بالأسباب مقرون بالاجتهاد في الدعاء

الأخذ بالأسباب مقرون بالاجتهاد في الدعاء التعليق الثالث: هو ما ذكرناه في أول المحاضرة من أنه إذا اجتهدت في الدعاء ولم تأخذ بالأسباب الصحيحة فإنك لا تكون أهلاً للإجابة، فالتوكل هو حسن العمل مع شدة التعلق بالله عز وجل، والاعتقاد في قدرته وطلب المعونة منه سبحانه وتعالى. أما إذا دعا الإنسان ربه دون عمل صحيح موافق للسنة فإن هذا يسمى تواكلاً، وهو ليس من الإسلام في شيء. ولذلك فلعل العاملين لقضية فلسطين قد ضلوا الطريق سنوات وسنوات؛ ولذلك لم يستجب الله دعاءهم، ولو استجاب لهم لكان في ذلك هلكتهم، كالذي يدعو الله أن يوفق المفاوضين للضغط على اليهود حتى يأخذ المسلمون خمس الأرض يقيمون عليها دولة بلا سيادة، هذا لا يستجيب الله سبحانه وتعالى له؛ لأنه خالف الشرع وخالف ما يريده الله سبحانه وتعالى. ثم يا أخي! ما أدراك قد تتحقق الإجابة وأنت لا تعلم. ما أدراك أن طائرة تقصف فيُصد قصفها بدعاء رجل بسيط في غرفة منعزلة في قرية صغيرة في طرف من أطراف العالم! ما أدراك أن مخططاً يهودياً شيطانياً يدبر في الظلام، فإذا به يُحبط بدعاء امرأة عجوز أو طفل صغير في بلد قريب أو بعيد من فلسطين! ما أدراك أن حجارة تطلق من يد شاب مجاهد فتُحمل إلى رأس يهودي مسلح فتقتله كما قتل داود جالوت! وذلك بدعاء جماعة من المسلمين في قنوتهم، يدعون للمسلمين المجاهدين بالتوفيق، ويدعون على اليهود بالهلكة والزلزلة والتدمير!

الدعاء من أقوى الأسلحة على الأعداء

الدعاء من أقوى الأسلحة على الأعداء لا تستهينوا أبداً يا إخوة! بالدعاء، فإنه والله من أمضى الأسلحة. روى البزار والطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن السيدة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يُغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء إلى يوم القيامة) أي: يتصارعان إلى يوم القيامة. ثم إنه بدعائك لأهل فلسطين يتحقق لك ما دعوت به لهم، فإن دعوت لهم بالتوفيق وفقك الله، وإن دعوت لهم بالمغفرة غفر الله لك، وإن دعوت لهم بالسلامة سلّمك الله، وإن دعوت لهم بالثبات ثبّتك الله، وإن دعوت على عدوهم بالهلكة أهلك الله عدوك. فكما جاء في صحيح مسلم عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين. ولك بمثل)، فهكذا كلما دعوت لأخيك هناك في فلسطين تحقق لك ما تدعو له به. ولا تنسوا يا إخواني في دعائكم لأهل فلسطين أن تدعوا على من ظلمهم من اليهود، ومن عاونهم وساندهم ورضي بأفعالهم وكان على شاكلتهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت أربعين يوماً يدعو على من قتل قراء المسلمين في مأساة بئر معونة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً يقول في بعض أيامه التي لقي فيها العدو كما جاء في البخاري ومسلم عن عبد الله بن أوفى رضي الله عنه: (اللهم منزل الكتاب! ومجري السحاب! وهازم الأحزاب! اهزمهم وانصرنا عليهم)، وفي راوية: (اللهم اهزمهم وزلزلهم). وروى أبو داود والنسائي بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: (اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم). اللهم إنا نجعلك في نحور اليهود، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحور من ساعد اليهود ورضي بأفعالهم، ونعوذ بك من شرورهم جميعاً.

آداب الدعاء وصوره

آداب الدعاء وصوره إليك يا أخي! صورة الدعاء: يفضّل أن تبدأ الدعاء بحمد الله والثناء عليه وتمجيده، ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الدعاء لنا ولأهل فلسطين ولعامة المجاهدين ولعامة المسلمين بالثبات والسلامة والمغفرة والرحمة، ثم تدعو على من ظلم المسلمين من اليهود وغيرهم، ثم تختم بعد ذلك بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحمده سبحانه وتعالى على فضيلة تمكيننا من الدعاء، تفعل ذلك وأنت موقن بالإجابة، وإن كنت قد لاحظت أن الكرب قد اشتد بنا فعليك بدعاء الكرب. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم) هذا هو دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكرب. أخي الحبيب! اعلم أن الله إذا أطلق لسانك بالدعاء فهو يريد أن يعطيك فأكثر، وإذا ألهمك أن تُعطي في سبيله فهو يريد أن يكافئك فأكثر، وإذا يسّر لك طاعة فهو يريد أن يجتبيك ويقربك فأكثر. أخي الحبيب! لو تريد فعلاً أن تسهم بشيء إيجابي حاسم لفلسطين استيقظ الليلة قبل الفجر بساعة أو بساعة ونصف، وادع الله لهم بالثبات، وادع على عدوهم بالهلكة. روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) يا رب! تعاظم كرمك وتسامى جودك وتعالى فضلك. يا أخي الحبيب! أليست لك دعوة لهذا الإله الكريم تشتاق إلى إجابتها؟ أليست لك حاجة لهذا الإله الجواد تتمنى أن يعطيها لك؟ أليس لك ذنب في حق هذا الإله الغفّار تتمنى أن يغفره لك؟ إن كانت لك دعوة أو حاجة أو ذنب فاستيقظ الليلة والحذر الحذر، فلو مرت الليلة فإنها لن تعود إلى يوم القيامة. في هذه المجموعة من المحاضرات تحدثنا عن خمسة من الوسائل الإيجابية لنصرة فلسطين، هذه الوسائل يجمعها أنها في مقدور عموم الأمة الإسلامية، في مقدور العامل والزارع والطبيب والمهندس، في مقدور رجل الأعمال، وفي مقدور الطالب والتلميذ، وفي مقدور الشيخ الكبير والشاب الصغير، وفي مقدور الرجل والمرأة، ليس لأحد منا عذر، ولا يستثنى أحد. هذه الوسائل الخمسة هي: 1 - فهم القضية فهماً صحيحاً، وتحريكها بسرعة. 2 - قتل الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين، وبث الأمل في عودة اليقظة للأمة الإسلامية. 3 - بذل المال قدر المستطاع، وتحفيز الناس عليه. 4 - المقاطعة الاقتصادية الشاملة والكاملة لكل ما هو يهودي أو من دولة تساعد اليهود بسفور. 5 - وأخيراً الدعاء المستفيض اللحوح لله عز وجل ليثبت المؤمنين في فلسطين وغيرها، ويزلزل الكافرين في فلسطين وأيضاً في غيرها. كانت هذه وسائل خمسة، ولا شك أن في أذهان بعضكم وسائل أخرى، والأمر على إطلاقه بين المسلمين كل يدلي بدلوه، وكل يبدع في مساعدته لأهلنا هناك.

فوائد إيمانية من حديث: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم)

فوائد إيمانية من حديث: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم) يبقى سؤال لا شك أنه يداعب أذهانكم ويتردد في نفوسكم، هذا السؤال هو: لماذا هذه المشكلة من الأساس؟ لماذا هذا الوضع المتدهور لأمة تعودت أن تسود؟ لماذا هذا الاحتلال البغيض لحفنة من اليهود الخبثاء لا يتجاوزون بضعة ملايين في وجود أمة كثيرة تعدادها مليار وثلث مليار من المسلمين؟ لماذا هذا الاجتماع والتوافق بين أمم الأرض على أمة المسلمين؟ لماذا عدم الاكتراث في تعليقات وتصرفات اليهود ومن معهم عند الحديث عن المسلمين، فتجد هذا يصرّح بأن حضارة الغرب كانت دائماً أعلى من حضارة المسلمين وكذب، وتجد هذا يُعلن أنها حرب صليبية على المسلمين وصدق، وتجد آخر يصرّح بالتهديد بقتل زعماء المسلمين، وذاك يهدد بضرب منشآت حيوية كالسد العالي وغيره، لماذا هذه الجرأة على المسلمين؟ ولماذا هذا التفاعل المتراخي من قبل المسلمين لأشياء ما كان السابقون يسكتون على معشارها؟ هذه أمور أدت في النهاية إلى احتلال فلسطين وتبجّح اليهود وتسلط الغرب، باتت هناك مشكلة وأصبحنا نبحث عن حل. إذا ادلهمت بك الخطوب، وتعددت أمامك السبل، وشعرت أنك تائه حيران فعليك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لقد وجدت حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصف الأحداث وكأنه صلى الله عليه وسلم يراها رأي العين. وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود رحمهما الله عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللفظ هنا لـ أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تُداعي عليكم) تُداعي: بضم التاء وكسر العين، تعني كما جاء في عون المعبود لشرح سنن أبي داود: أن يدعو بعضهم بعضاً على أمة المسلمين (يوشك الأمم أن تُداعي عليكم كما تُداعي الأكلة إلى قصعتها) أي: كما يدعو بعضكم بعضاً إلى الطعام، فإن الأمم تدعو بعضها البعض كي يأتوا ويأكلوا طرفاً من أمة المسلمين، والتصوير عجيب! وفيه إيحاءات عميقة: فأولاً: الأكلة كبيرة جداً، فهي أمة بمفردها تكفي لإشباع الأمم، فيدعون بعضهم البعض على أمة المسلمين. ثانياً: يعتبرها الآخرون ملكاً خاصاً لهم، لا يأكلون فقط، بل ويدعون أيضاً أصحابهم إليها، شيء عجيب جداً!! ثالثاً: مع ضخامة الأكلة إلا أن الأكل لا يقاوم آكله. الأمة أصبحت في حالة سلبية تماماً، تؤكل دون حراك وتُنهش دون اعتراض، حتى جاء في شرح ذلك في عون المعبد أن المعنى: أنهم يأخذون ما في أيديكم بلا تعب ينالهم، أو ضرر يلحقهم، أو بأس يمنعهم، والتصوير مُرعب ومخوف وهائل لدرجة أرعبت الصحابة، فتسارع أحدهم يسأل فقال: (ومن قلة نحن يومئذ؟) أي: أن العدد سيكون قليلاً؟ هذا هو التفسير المنطقي الذي قد يخطر على الذهن، أننا قلة بسيطة مستضعفة، أما هم فأعداد لا تُحصى وأرقام لا تقدر؛ ولذلك تمكنوا منا، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفاجئ سامعيه بقوله: (بل أنتم يومئذ كثير) إذاً: ما هي المشكلة؟ فنحن لسنا قليل بل كثير، تعدادنا مليار وثلث مليار، ثم يكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرعة فيقول: (ولكنكم غثاء كغثاء السيل) ما هو الغثاء؟ جاء في عون المعبود: أن الغثاء: هو ما يحمله السيل من زبد ووسخ. سبحان الله! هكذا أصبح المسلمون غثاء كغثاء السيل؟ ومع تداعيات ذلك انظر إلى بقية كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ليس فقط غثاء كغثاء السيل، ولكنه يُكمل فيقول: (ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم). عدوك الذي وصف بالجبن في كتاب الله أكثر من مرة، هؤلاء الذين لا يقاتلون إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، هؤلاء الذين يحرصون على الحياة تُنزع من صدورهم المهابة منكم فلا يأبهون بكم، من الذي نزع المهابة لنا من صدور عدونا؟ إنه الله عز وجل، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم) فالله هو الذي ينزع المهابة، وذلك لما خالف المسلمون المنهج سلّط عليهم من هو شر منهم حتى يعودوا إلى ربهم. هل هذا وكفى؟ بل انظر إلى ما بقي من الحديث: (ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن) هل الله هو الذي يقذف الوهن في قلوب المسلمين؟ نعم. أيضاً هو الله الذي يقذف الوهن، والضعف، والخور، والجبن، وقلة الحيلة في قلوب المسلمين، لماذا؟ عقاباً لهم على أمر خطير وشيء عظيم، فقد تسارع الصحابة يسألون عن هذا الوهن أو يسألون عن سببه فقال قائل: (يا رسول الله! وما الوهن؟ قال صلى الله عليه وسلم: حب الدنيا، وكراهية الموت) وهما كما جاء في عون المعبود: أمران متلازمان فكأنهما شيء واحد، يدعوهم إلى إعطاء الدنية في الدين، ونسأل الله العافية. إذاً: يا إخوة الأمر واضح وجلي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، موطن الداء هو حب الدنيا وكراهية ا

النظرة الحقيقية للدنيا في الكتاب والسنة

النظرة الحقيقية للدنيا في الكتاب والسنة مصيبة الأمة الآن هي تعاظم حب الدنيا في قلوب المسلمين، ومن أجل الدنيا يرضى المسلمون بالدنية في دينهم، ولو هانت عليهم الدنيا لقويت شوكتهم وعز سلطانهم، ولأُلقيت المهابة للمسلمين في قلوب الأعداء بدلاً من أن تنزع من صدورهم، فالدنيا كلما تعاظمت في النفوس قلّت قيمة الآخرة عند الإنسان، فالدنيا وتعاظمها في النفوس كانت سبباً مباشراً لاحتلال فلسطين، ولاحتلال غيرها من بلاد المسلمين؛ ولهذا فإن الله عز وجل كثيراً ما حقّر من شأن الدنيا في كتابه سبحانه وتعالى؛ ولهذا السبب أيضاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم التقليل من قدر الدنيا، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]، ويقول: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، ويضرب للدنيا مثلاً عجيباً، وهو ما جاء في قوله سبحانه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]. إخوتي في الله! مهما عملتم في حياتكم ومهما اكتسبتم في معاشكم، ومهما تمتعتم في دنياكم فالحياة في النهاية قصيرة وعابرة، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112 - 114]. روى الإمام مسلم رحمه الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية -والعالية أرض في أعالي المدينة- والناس كنفيه، وفي رواية: كنفتيه -أي على جانبيه - فمر صلى الله عليه وسلم بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال) والأسك: هو قصير الأذن، وهو عيب في الجدي يقلل من قيمته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمسك بأذنه ليلفت الأنظار إلى عيبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟) من يشتري هذا الجدي الميت الأسك بدرهم، فقالوا: (ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟). فالجدي ميت، ومن طبيعة الناس أن ينفروا من الحيوان الميت لرائحته ومنظره، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم شراءه، رد الصحابة الرد المنطقي وقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتركهم، بل قال: (أتحبون أنه لكم؟) هنا ظن الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى عيوبه، فقالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرى عيوبه بوضوح، لكنه يريد أن يرسّخ معنى مهماً في عقول الصحابة وفي عقول أمته من بعدهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) كل الدنيا أهون على الله من الجدي الأسك المعيوب الميت. فوالله يا إخوة! من أجل ما هو أقل وأهون من الجدي المعيوب الميت يتصارع الناس ويتقاتلون، ومن أجل ما هو أقل وأهون من الجدي المعيوب الميت يرتكب الناس الذنوب ويخالفون المنهج، ومن أجل ما هو أقل وأهون من الجدي المعيوب الميت يزهد الناس في جنة عرضها السماوات والأرض سبحان لله!! أمر عجيب، وفهم قاصر، وحقائق مغيبة، إن وجدت صراعاً بين الإخوة وتنافساً على أشياء كان من الواجب أن يتعاونوا عليها، إن وجدت موالاة لكافر على حساب مؤمن، إن وجدت خيانة لأمانة ونقضاً لعهد وحرباً لفضيلة، وإنكاراً لمعروف، إن وجدت الحبيب يترك حبيبه، والولد يهمل والديه، والحاكم يظلم شعبه، والرجل يكره وطنه، إن وجدت الأجساد هامدة والعقول خاملة والعزائم فاترة، والغايات تافهة منحطة منحدرة إن وجدت كل هذا فاعلم أنها الدنيا، واعلم أن ذلك متبوع بهلكة، والهلكة متبوعة باستبدال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. روى البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا جزء من حديث-: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم ك

المفهوم الصحيح للزهد في الدنيا

المفهوم الصحيح للزهد في الدنيا ولا شك أنه ليس المقصود من تقليل قيمة الدنيا أن نتركها بالكلية، وأن نعتكف في بيوتنا أو في مساجدنا تاركين أسباب القوة للكافرين، ليس هذا هو المقصود أبداً، إنما الزهد في الدنيا الذي نريده هو ألا نفرح بما في أيدينا فيلهينا عن شكر النعمة، ولا نحزن على فوات شيء يخرجنا عن الرضا بقضاء ربنا، الزهد الذي نريده هو ألا نخالف المنهج الرباني من أجل الدنيا ولو تعاظمت، الزهد الذي نريده هو ألا يتصارع الأخوان على شيء من حطام الدنيا، وألا تكون المنافسة بينهم إلا في أمور الآخرة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. الزهد الذي نريده هو أن نفرغ للآخرة أوقات كما فرغنا للدنيا أو يزيد، الزهد الذي نريده هو أن ننتصر على الشيطان فلا يوسوس لنا بأن الطريق الأمثل للجنة هو أعمال الدنيا فقط وأن العمل عبادة، فتجد الرجل يقضي معظم يومه منهمكاً في جمع الدنيا بحجة أنه في عبادة ولا يجد وقتاً لربه، ولا لنفسه، ولا لأبنائه وزوجته، ولا لوالديه، ولا لرحمه، ولا لمجتمعه، ولا لأمته. الزهد الذي نريده أن نحصل على القوة فلا تطغينا، وأن نحصل على المال فلا يلهينا، الزهد الذي نريده أن نعطي الدنيا حجمها الصحيح ونُعطي الآخرة كذلك حجمها الصحيح. روى الإمام مسلم رحمه الله عن المستورد بن شداد رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار راو الحديث إلى السبابة- في اليم فلينظر أحدكم بم يرجع؟) هذا هو حجم الدنيا في الآخرة، ما يرجع أحدكم بأصبعه من اليم فقط. فهذا الزهد الذي تحدثنا عنه لا يحرمنا من عمارة الأرض ومن سياستها، ولا يحرمنا من أموالنا وأملاكنا ومتاعنا، ولكن فقط يقننها وفق قانون الله، ويحدها بحدود الله، ويصرفها فيما يرضي الله، ويمنعها عما يُغضب الله، هذا ما نريده، ولا نريد اعتكافاً عن المجتمع ولا انعزالاً عن الحياة. من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نعيد ترتيب أوراقنا وتنظيم حياتنا وتعديل أهدافنا، من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نصلح أنفسنا ونعدّل من سلوكنا، من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نبني مجتمعنا وأوطاننا، من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نصطلح مع ربنا. نعم يا إخوة! يطول الفراق أحياناً بيننا وبين ربنا، وهو سبحانه وتعالى لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة، أما نحن فيا ويلنا! إن عصيناه فيما زجر، ويا خسارتنا إن لم نطعه فيما أمر.

واجبنا تجاه قضايا الأمة وبالأخص قضية فلسطين

واجبنا تجاه قضايا الأمة وبالأخص قضية فلسطين إن القضية ليست قضية فلسطين فقط، بل هي قضية الأمة بأسرها، لن يتغير حالنا من ذل إلى عزة ومن ضعف إلى قوة، ومن هوان إلى تمكين إلا إذا أصلحنا أنفسنا ومجتمعنا، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فالله لن يغير حالة الأمن والتمكين والسيادة التي كنا عليها إلا عندما غيّرنا حالنا معه سبحانه، ولن تعود الأمور إلى طبيعتها إلا إذا أصلحنا ما بيننا وبين الله، وما بيننا وبين أنفسنا، وما بيننا وبين مجتمعنا. يقول سبحانه وتعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] في منتهى الوضوح، ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، وانظر إلى قوم سبأ في كتاب الله، وكما ذكرنا من قبل فكتاب الله ليس كتاباً للتاريخ يصف أحوال الأمم السابقة لمجرد العلم، بل هي للعبرة، انظر إلى قوم سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] * ((فَأَعْرَضُوا)) ماذا حدث بعد الإعراض؟ {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:16 - 17]. من هذا المنظور يا إخوة! ستصبح حياتنا بأسرها منظمة متناغمة متناسقة، تهدف إلى شيء واحد وهو رضا الله سبحانه وتعالى، وتتخذ طريقاً واحداً هو الذي بينه الله عز وجل، وسار فيه الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، يصل الطريق إلى جائزة واحدة هي الجنة. من هذا المنظور تصبح كل حركاتنا وكل سكناتنا، أو قل: تُصبح كل حياتنا حلاً لقضية فلسطين، وعوناً لأهلنا هناك ودعماً لجهود المجاهدين، من هذا المنظور سنعيش فترة بناء حقيقة، من هذا المنظور تصبح صلاتنا في جماعة دعماً لقضية فلسطين، وتُصبح قراءتنا للقرآن دعماً لقضية فلسطين، ويُصبح تسبيحنا، وتحميدنا، وتكبيرنا، وتهليلنا وجميع ذكرنا دعماً لقضية فلسطين، وكذلك يصبح بر الوالدين، وصلة الرحم، ورعاية الجار، وحفظ الطريق، وعون الملهوف، وإعانة المحتاج، وستر المسلم كل ذلك دعماً لفلسطين، وكذلك يصبح غض البصر، وحفظ الفرج، وصيانة اللسان، ووقاية السماع، وطاعة الجوارح دعماً لفلسطين، وكذلك يصبح الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الناس الخير، ودعوة الآخرين إلى الفضيلة، يصبح كل ذلك دعماً لفلسطين، وكذلك يُصبح التواضع والكرم، والإخاء والمودة، والتسامح والتهادي، والاعتدال والإيثار دعماً لقضية فلسطين، وكذلك تصبح محاربة الربا، ومقاطعة الرشوة، ونبذ الفرقة، وترك المحرمات، والبعد عن الشبهات دعماً لقضية فلسطين، وكذلك يُصبح علمك ودراستك، وجدك وتفوقك دعماً لقضية فلسطين، وكذلك تُصبح أمانتك في مصنعك، وفي متجرك، وفي حقلك، وفي عيادتك، وفي شركتك كل هذا يُصبح دعماً لقضية فلسطين. تتحول كل حياتنا يا إخوة! إلى دعم قضية فلسطين وقضية الشيشان وكشمير وأفغانستان والبوسنة وغيرها، بل تتحول حياتنا لدعم حياتنا. فنحن أول من يستفيد من طاعتنا لربنا، يرفع الله عنا البلاء ويكشف الضراء، وتُشرق الأرض بنور ربها، كفانا صراعات بيننا وبين فطرتنا السليمة، كفانا بُعداً عن طريق قويم لا عوج له، كفانا سعياً وراء أناس ما عرفوا الله كما عرفناه. بذلك نُدرك أن حل قضية فلسطين بأيدينا وليست بأيدي غيرنا، وبذلك نُدرك أن قضية فلسطين ليست قضية هامشية في حياتنا؛ بل هي محور كل حياتنا، بذلك نُدرك أن عدونا ما هزمنا لقوته ولكن لضعفنا. فقوتنا في أيدينا، وأفكارنا في عقولنا، وإيماننا في قلوبنا لا يتسلط علينا أحد مهما بلغت قوته، ولو كان الشيطان نفسه، يقول سبحانه وتعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64] كل هذا الاستفزاز والجلب بالخيل والرجال في الزمان الأول، والاستفزاز في هذا الزمان بالدبابات، والطائرات، والقاذفات، والغواصات، والبوارج، والتحالفات والعلاقات، والمشاركات في المال والأولاد، والوعود برفع الديون وإنعاش الاقتصاد، وإعطاء المنح والهدايا، وتمكين الحكم والسلطان، كل هذا

ملخص الوسائل الإيجابية لعموم الأمة في حل قضية فلسطين

ملخص الوسائل الإيجابية لعموم الأمة في حل قضية فلسطين إخواني في الله! إجمال لما سبق تفصيله، واختصار لما سبق الإسهاب فيه. قضية فلسطين قضية من أخطر قضايا الأمة، بل لعلها الأخطر على الإطلاق، هي قضية أمة تُذبح، وشعب يُباد وأرض تُغتصب وحرمات تُنتهك، وكرامات تهان، ودين يُضيع. قضية فلسطين لا تُحل إلا بمنهج سليم يخلو من الشوائب والمكدرات، هذا المنهج هو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قضية فلسطين ليست قضية أهل فلسطين، ولكنها قضية الأمة الإسلامية بأسرها، قضية كل مسلم عاش على وجه الأرض، عاش في فلسطين أو في مصر أو في أندونيسيا أو في المغرب، أو عاش في أمريكا أو أوروبا أو أستراليا. قضية فلسطين قضية سنُسأل عنها فرادى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30]. لأجل كل ما سبق طرحنا في مجموعتنا هذه عدداً من الوسائل الإيجابية لعموم الأمة؛ كي يساهموا في حل القضية من جانب، ويرفعوا من على كاهلهم اسم الترك والتخلي من جانب آخر. الوسيلة الأولى: كانت الفهم الصحيح للقضية، وتحريك القضية بهذا الفهم وبسرعة. وتحت هذا العنوان ناقشنا بعض القضايا والمفاهيم، ذكرنا سؤالاً مهماً: لماذا نحرر فلسطين؟ ما هي الغاية وما هو الهدف؟ وانتهينا إلى أن نحرر فلسطين لكونها أرضاً إسلامية، فُتحت بالإسلام وحُكمت بالإسلام منذ زمان الخليفتين الراشدين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي بكاملها من هذا المنطلق واجبة التحرير والتطهير، ولا يتم هذا التحرير إلا بقوة، فلا بد للحق من قوة تحميه، ونحن لا نحرر فلسطين فقط لأن بها القدس أو المسجد الأقصى، مع شرف وقدر هذه الأماكن، بمعنى: أننا لا نرضى أن نُعطى هذه المقدسات ونترك بقية الأرض، وبمعنى أن حميتنا للبلاد الإسلامية التي لا يوجد بها بناء مقدس موجودة أيضاً، فنحن نتحرك للشيشان ولكشمير كما نتحرك لفلسطين، كل ما في الأمر أن الأقصى يزيد من حمية المسلمين، لكن لا ينشئ هذه الحمية ابتداءً. ونحن لا نحرر فلسطين لكونها عربية، فنحن لا نعتز بقوميتنا على حساب ديننا، نحن أمة تربطها عقيدة ولا يربطها جنس ولا لون ولا عائلة، ومع ذلك فنحن نعتز ونفخر بلغتنا العربية؛ لأنها لغة مختارة من إله قدير حكيم، اختارها على سواها من اللغات لتكون لغة كتابه الأخير إلى خلقه. ونحن لا نحرر فلسطين لحل مشكلة اللاجئين، فاستعادة أرضنا واجب لا يقبل التعويض بمال أو بأرض غيرها، كما أننا لا نقبل بعودة اللاجئين تحت حكم يهودي: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]. ونحن لا نحرر فلسطين لوقف نزيف الدماء؛ لأننا نعلم أنه من سنن الله في الأرض أن البلاد لا تُحرر إلا بتضحية وبذل ودماء، وأن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، ونعلم أيضاً أن الذين قُتلوا في سبيل ربهم أحياء لا يموتون، وأنهم نالوا أرفع المنازل وأعلى الدرجات، كما أنهم إن لم يُقتلوا ماتوا: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف:34]. وناقشنا أيضاً في هذه المجموعة فكرة إسرائيل الكبرى، وانتهينا إلى أنها حقيقة يسعى اليهود لتطبيقها، وكتدليل على إمكانية حدوثها استفضنا في شرح تاريخ نشأة الدولة الكريهة إسرائيل داخل فلسطين الحبيبة، وذكرنا أنهم إن كانوا أنشئوا دولة قوية من لا شيء، فهم على التوسع أقدر، وعلى المسلمين أن يحذروا ذلك. وذكرنا في تاريخ نشأة إسرائيل كيف نشأت؟ وأن هذا كانت نتيجة تفاعل عوامل كثيرة من خيانات وعمالات عربية إلى تغييب وجهل للشعوب، إلى جهد وإعداد من اليهود. لاحظنا خطوات اليهود المرتبة من فكرة وتأسيس وتهويد ثم إعلان للدولة، لاحظنا تأييداً مطلقاً من إنجلترا ثم من أمريكا، شاهدنا بوضوح نتائج الفرقة بين المسلمين كما شاهدنا نتائج التربية الجيدة والجهاد، فكما كان الضياع مصاحباً للفرقة كانت الثورة والعزة مصاحبة للتربية والجهاد. ناقشنا أيضاً في هذه المجموعة مفهوم وجوب استمرار الانتفاضة، وأنها الطريق الشرعي الوحيد في هذه الظروف، وعددنا فوائدها وآثارها الإيجابية على أهل فلسطين وعلى عامة المسلمين، وذكرنا على الجانب الآخر آثارها السلبية على اليهود ومن عاونهم. ناقشنا أيضاً في هذه المجموعة علاقة أمريكا بإسرائيل، وكيف أنها علاقة ذات ثلاثة أبعاد: بُعد المصالح المشتركة بين الطرفين، وبُعد الدين والارتباط بوعود في التوراة والإنجيل، وبُعد الضغط اليهودي على أمريكا؛ لتنفيذ رغبات اليهود، حتى على حساب مصلحة أمريكا، وهذا الضغط لو تذكرون كان عن طريق المال والإعلام والفضائح الأخلاقية، والانتخابات والتهديد بالموت وغيره. ثم انتقلنا بعد ذلك للحديث عن الوسيلة الثانية لمساعدة قضية فلسطين، وكانت هذه الوسيلة هي: قتل الهزيمة النفسية، وبث الأمل في نفوس أبناء الأمة. وذكرنا فيها أن الأيام دول بين الناس، وأن الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، وأن أمة الإسلام أمة ل

ضرورة إصلاح النفس والمجتمع لحل قضية فلسطين

ضرورة إصلاح النفس والمجتمع لحل قضية فلسطين إخواني في الله! إن كان الوضع الطارئ في فلسطين يحتاج إلى هذه الوسائل اليوم فإن هذا لا يعني أبداً أن هذا هو نهاية المطاف، فعلاج القضية علاجاً جذرياً يقتضي إصلاحاً شاملاً وكاملاً للنفس والمجتمع، كل بحسب طاقته وقدراته. إصلاح النفس والمجتمع وإن اعتبرناها وسيلة سادسة لحل قضية فلسطين إلا أنها ليست أمراً مؤقتاً ينتهي بحل القضية. إصلاح النفس والمجتمع هي قضية المسلم في حياته كلها، في كل دقيقة من دقائق عمره: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] هكذا بهذا المفهوم الشامل للإسلام، دين يحكم الدنيا، ليصل بنا إلى جنة الآخرة.

همسات في أذن كل مسلم

همسات في أذن كل مسلم أخي في الله! بعد هذه الرحلة السريعة في ربوع فلسطين تاريخاً وواقعاً ومستقبلاً أقدم كلمة أخيرة أهمسها في أذنك. دينك دينك لحمك دمك. الله الله في إسلامك وشرعك الله الله في أهلك وأرضك، اغضب لدينك أشد من غضبك لنفسك، اذكر الله أشد من ذكرك لأبيك وقومك، احرص على أمتك أشد من حرصك على مالك وبيتك. لا عُذر لك لا عُذر لك إن خَلُص لفلسطين وفيك قلب ينبض أو عين تطرف أو نفس يتردد، جهّز مجاهداً فإن هذا جهاد، اخلف مناضلاً في أهله فإن هذا نضال. فلسطين ليست عبئاً على كاهلك. فلسطين هدية من الله إليك فلا تردها. فلسطين نعمة من الله عليك فلا تجحدها. فلسطين وعد من الله لك فجهّز نفسك ليوم يتحقق فيه الوعد. أخي في الله! أظهر لله من نفسك قوة وكن حيث أرادك، إياك إياك أن يطلبك في مكان فلا يجدك، أطع ربك بغير مجادلة، فإنما تطيع من تعاظمت حكمته وتناهت قدرته واستحالت معارضته، لا تعمل بمعصية الله وأنت في سبيله. أخي المؤمن! جدد النية، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، نق السريرة، فإن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، عظّم الغاية، فإنما هي حياة واحدة قبل أن تموت. أخي المؤمن! لا تقولن: ليس لمثلي أن يعمل في سبيل الله، فقد خُضت رحلة طويلة في عالم المعاصي والآثام! إياك وهذا الظن، لا تهولنك كثرة الذنوب، فإن دمعة واحدة في جوف الليل تمحو الخطايا وتحرِّم الجسد على النار. فلنبدأ اليوم من جديد وصفحتنا بيضاء إن شاء الله. أخي المؤمن! ارفع الرأس فالمؤمن لا ينحني إلا لخالقه، واحمل الراية فإنما أُخرج المؤمن ليُقتدى به، وأسرع في الخطى، فلم يبق يا أخي! إلى الجنة إلا خطوات. أخي في سبيل الله! لا تغرنك قوة جسدك، ولا كثرة مالك، ولا وفرة علمك، ولا طلاقة لسانك، ولا بأس ملك أو عز سلطان، لا يغرنك كل هذا، فهذا كله إلى فناء، ولا يبقى بعد ذلك إلا قلب وعمل. أخي في سبيل الله! إن كثرت أمامك العوائق، وآثرت تعلّقاً بدنيا وظننت أن الطريق مستحيل، وأنه كما يقول بعضهم: لا فائدة! فلا تغفل عن قوله سبحانه: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46]، فاعلم أن المؤمن لا يُثبَّط، وأن الله إن وجد إعراضاً متكرراً من الرجل أعرض هو عنه وكرهه وثبّطه وعطّله، فاعلم أن صفة الكسل الدائم لا تكون إلا في المنافقين، فلا تكونن منهم وتحرك. أخي في سبيل الله! طريقنا طويل، فلا بد لك من صبر فلا تعجل، فإن العجلة من الشيطان، ولا تفتر فرب فتور لا يُتبع بقيام، ولا تركن فإن الماء الراكد يأسن ويتعفّن. أخي المؤمن! طريقنا طويل فلا تسيرن فيه بغير صحبة، وانتق من الناس من إذا رأيته ذكّرك بالله، واعلم أن الحسابات عند الله مختلفة، فواحد وواحد قد لا يساويان اثنين، فالمرء وأخوه قد يساويان عشرة، والمرء بدون أخيه قد لا يساوي شيئاً. أخي في سبيل الله! لا تضيع وقتاً فهذا أثمن ما تمتلك، عمرك محدود ليس فيه زيادة ولا إمهال، ولحظات النهاية تقترب، لا تضيع وقتاً، اعمل حثيثاً قبل أن يأتي يوم لا عمل فيه، ابدأ الساعة فرُب نفس خرج ولا يعود، ورُب دقة قلب لا تُتبع بأخرى. بهذه البداية لن تكون نهاية فلسطين. بهذه البداية لن تُصبح فلسطين أندلساً أخرى. اللهم ارحم عبداً أرشد العباد إليك، وطهّر قلباً حبب القلوب فيك، وزك نفساً شوّقت النفوس إلى الاعتماد عليك، آمين آمين. وإلى مجموعة تاريخية قادمة إن شاء الله. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وجزاكم الله خيراً كثيراً.

§1/1